بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحج

مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة ، وهي قوله : (هذانِ خَصْمانِ) إلى قوله : (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(١). وهي ثمان وتسعون آية ، وعدد كلماتها ألفان ومائتان وإحدى وتسعون كلمة ، وعدد حروفها خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(٢)

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي : احذروا عقابه. والأمر بالتقوى يتناول اجتناب المحرمات ، واجتناب ترك الواجبات.

قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) الزلزلة : شدة حركة الشيء ، ويجوز في هذا المصدر وجهان :

أحدهما : أن يكون مضافا لفاعله ، وذلك على تقديرين :

أحدهما : أن يكون من (زلزل) اللازم بمعنى : يزلزل ، فالتقدير : أن تزلزل السّاعة (٢).

والثاني : أن يكون من (زلزل) المتعدي ، ويكون المفعول محذوفا تقديره : إن زلزال الساعة(٢).

والثاني : أن يكون من (زلزل) المتعدي ، ويكون المفعول محذوفا تقديره : إن زلزال الساعة الناس ، كذا قدره أبو البقاء (٣). والأحسن أن يقدر : إن زلزال الساعة الأرض ، يدل عليه (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)(٤) ، ونسبة التزلزل أو الزلزال إلى الساعة على سبيل المجاز (٥).

الوجه الثاني : أن يكون المصدر مضافا إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف (٦) كقوله:

__________________

(١) من الآية (١٩) إلى الآية (٢٤).

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣١.

(٣) المرجع السابق.

(٤) من قوله تعالى :«إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها»[الزلزلة : ١]. وانظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٩.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٩.

(٦) التوسع في الظرف جعله مفعولا به على طريق الاتساع ، فيسوغ حينئذ إضماره غير مقرون ب (في) نحو ـ


٣٧٤٣ ـ طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل (١)

وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : ولا تخلو «السّاعة» من أن تكون على تقدير الفاعل لها ، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي ، فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله ، وعلى تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف ، وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى : (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(٢)(٣).

فصل

اختلفوا في وقت هذه الزلزلة ، فقال علقمة (٤) والشعبي : هي من أشراط الساعة قبل قيام الساعة(٥) ، ويكون بعدها طلوع الشمس من مغربها. وقال ابن عباس : زلزلة الساعة قيامها ،

__________________

ـ اليوم سرته ، ولا يجوز ذلك في المنصوب على الظرف ، بل إذا أضمر وجب التصريح ب (في) لأن الضمير يرد الأشياء إلى أصولها فيقال : اليوم سرت فيه ، وسواء في التوسع ظرف الزمان والمكان ، فالأول نحو :

ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطعن النهال نوافله

والثاني نحو : ومشرب أشربه وشيل.

ويجوز حينئذ الإضافة إليه على طريق الفاعلية نحو : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] والمفعولية نحو (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) [البقرة : ٢٢٦] ، ولا تصح الإضافة عند إرادة الظرف ؛ لأن تقدير (في) يحول بين المضاف والمضاف إليه وللتوسع شروط الأول : أن يكون الظرف متصرفا ، فما لزم الظرفية لا يتوسع فيه ؛ لأن التوسع مناف لعدم التصرف ؛ إذ يلزم منه أن يسند إليه ويضاف إليه.

الثاني والثالث : أن لا يكون العامل حرفا ولا اسما جامدا ؛ لأنهما يعملان في الظرف لا في المفعول به ، والمتوسع فيه مشبه بالمفعول به فلا يعملان فيه.

الرابع : أن لا يكون فعلا متعديا إلى ثلاثة ؛ لأن الاتساع في اللازم له ما يشبه به وهو المتعدي إلى واحد ، والاتساع في المتعدي إلى واحد له ما يشبه به وهو المتعدي إلى اثنين والاتساع في المتعدي إلى اثنين له ما يشبه به وهو المتعدي إلى ثلاثة ، فيجوز فيها وأما ما يتعدى إلى ثلاثة فليس له ما يشبه به ؛ إذ ليس لنا فعل يتعدى إلى أربعة.

الخامس : أن لا يكون العامل كان وأخواتها إن قلنا إنها تعمل في الظرف حذرا من كثرة المجاز ، لأنها إذا رفعت ونصبت تشبيها بالفعل المتعدي ، والعمل بالشبه مجاز ، فإذا نصبت الظرف على الاتساع وهو مجاز أيضا كثر المجاز فيمنع منه.

انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، الهمع ١ / ٢٠٣.

(١) رجز قاله جبار بن جزء بن ضرار وهو في ديوان الشماخ (٣٨٩ ـ ٣٩٠) مع نسبته لجبار ، الكتاب ١ / ١٧٧ ، الكامل ١ / ٢٥٨ ، مجالس ثعلب ١ / ١٢٦ ، المخصص ٣ / ٣٧ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ٢٥٠ ، الخزانة ٤ / ٢٣٣. الكرى : النعاس. الكسل : ـ بفتح الكاف وكسر السين ـ الكسلان. والشاهد فيه : إضافة (طباخ) إلى (ساعات) على تشبيهه بالمفعول به ، لا على أنه ظرف وعلى ذلك يعد (زاد الكسل) مفعولا ثانيا.

(٢) [سبأ : ٣٣].

(٣) الكشاف ٣ / ٢٤.

(٤) تقدم.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٤٦.


فتكون فعلها (١) روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حديث الصور : «إنّه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصّعق ، ونفخة القيامة ، وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال ، و (تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) وتكون الأرض كالسفينة حصرتها الأمواج أو كالقنديل المعلق تموجها الرياح» (٢). قال مقاتل وابن زيد : هذا في أول يوم من أيام الآخرة (٣) وليس في الآية دلالة على هذه الأقوال ، لأن هذه الإضافة [تصح](٤) وإن كانت فيها ومعها كقولنا : آيات الساعة وأمارات الساعة (٥).

قوله : «يوم» ، فيه أوجه :

أحدها : أن ينتصب ب «تذهل» ، ولم يذكر الزمخشري غيره (٦).

الثاني : أنه منصوب ب «عظيم».

الثالث : أنه منصوب بإضمار «اذكر».

الرابع : أنه بدل من «السّاعة» (٧) ، وإنما فتح لأنه مبني ، لإضافته إلى الفعل وهذا إنما يتمشى على قول الكوفيين (٨) ، وتقدم تحقيقها آخر المائدة (٩).

الخامس : أنه بدل من «زلزلة» بدل اشتمال ، لأن كلّا من الحدث والزمان يصدق أنه مشتمل على الآخر. ولا يجوز أن ينتصب ب «زلزلة» لما يلزم من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر(١٠).

قوله : «ترونها» في هذا الضمير قولان :

أظهرهما : أنه ضمير الزلزلة ؛ لأنها المحدث عنها (١١) ، ويؤيده أيضا قوله (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ).

والثاني : أنه ضمير الساعة (١٢).

فعلى الأول : يكون الذهول والوضع حقيقة ؛ لأنه في الدنيا.

وعلى الثاني : يكون على سبيل التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثية ، إذ المراد

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) أخرجه الطبري. انظر جامع البيان ١٧ / ٨٥.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(٤) تصح : تكملة ليست بالمخطوط.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(٦) الكشاف ٣ / ٢٤.

(٧) هذه الأوجه ذكرها أبو البقاء في التبيان ٢ / ٩٣١.

(٨) وذلك لأن ظرف الزمان المحمول على «إذ» و «إذا» إن وليه فعل مضارع معرب ، فالإعراب أرجح من البناء عند الكوفيين والأخفش ، وواجب عند جمهور البصريين لعدم التناسب. شرح التصريح ٢ / ٤٢.

(٩) عند قوله تعالى : «قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ»[المائدة : ١١٩]. انظر اللباب ٣ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(١٠) وذلك لأن المصدر مع معموله كالموصول مع صلته ، فكما لا يفصل بين الموصول وصلته لا يفصل بين المصدر ومعموله بتابع وغيره. انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، الهمع ٢ / ٩٣.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٩.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.


بالساعة القيامة ، وهو كقوله : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً)(١).

قوله : «تذهل» في محل نصب على الحال من الهاء في «ترونها» ، فإن الرؤية هنا بصريّة ، وهذا إنما يجيء على غير الوجه الأول (٢) ، وأما الوجه الأول وهو أنّ «تذهل» ناصب ل (يَوْمَ تَرَوْنَها) فلا محل للجملة من الإعراب ؛ لأنها مستأنفة ، أو يكون محلها النصب على الحال من الزلزلة ، أو من الضمير في «عظيم» وإن كان مذكرا ، لأنه هو الزلزلة في المعنى ، أو من «الساعة» وإن كانت مضافا إليها ، لأنه إما فاعل أو مفعول كما تقدم. وإذا جعلناها حالا فلا بد من ضمير محذوف تقديره : تذهل فيها (٣). وقرأ العامة : «تذهل» بفتح التاء والهاء من : ذهل عن كذا يذهل(٤). وقرأ ابن أبي عبلة واليماني : بضم التاء وكسر الهاء ، ونصب «كل» على المفعول به (٥) من أذهله عن كذا يذهله ، عدّاه بالهمزة. والذهول : الاشتغال عن الشيء (٦) ، وقيل : إذا كان مع دهشته وقيل : إذا كان ذلك لطرآن شاغل من همّ أو مرض ونحوهما (٧) ، وذهل بن شيبان (٨) أصله من هذا. والمرضعة : من تلبست بالفعل ، والمرضع من شأنها أن ترضع كحائض فإذا أراد التلبس قيل : حائضة (٩). قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل «مرضعة» دون مرضع؟ قلت : المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي (١٠) ، والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها (به (١١)) (١٢). والمعنى : أن من شدة الهول تذهل هذه عن ولدها فكيف بغيرها. وقال بعض الكوفيين : المرضعة يقال للأم ،

__________________

(١) من قوله تعالى : «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» [المزمل : ١٧].

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣١.

(٣) المرجع السابق.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٥) المرجع السابق.

(٦) قاله قطرب. البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(٨) هو ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة ، جد جاهلي ، بنوه بطن من بكر بن وائل ، منهم الأمير ابن الهيثم خالد بن أحمد ، وكثيرون. الأعلام ٣ / ٢٧.

(٩) اختلف النحويون في دخول الهاء في المرضعة ، فقال الفراء : المرضعة والمرضع : التي معها صبي ترضعه ، قال : ولو قيل في الأم : مرضع ، لأن الرضاع لا يكون إلا من الإناث ، كما قالوا امرأة حائض وطامث ، كان وجها ، قال : ولو قيل في التي معها صبي : مرضعة كان صوابا. معاني القرآن ٢ / ٢١٤. وقال الأخفش : أدخل الهاء في المرضعة لأنه أراد ـ والله أعلم ـ الفعل ، ولو أراد الصفة فيما نرى لقال: مرضع ـ معاني القرآن ٢ / ٦٣٥. وقال أبو زيد : المرضعة التي ترضع وثديها في في ولدها ، وعليه قوله تعالى : (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ). قال : وكل مرضعة كل أم. قال : والمرضع التي دنا لها أن ترضع ولم ترضع بعد. والمرضع التي معها الصبي الرضيع. وقال الخليل : امرأة مرضع ذات رضيع ، كما يقال امرأة مطفل ذات طفل بلا هاء لأنك تصفها بفعل منها واقع أو لازم ، فإذا وصفتها بفعل هي تفعله قلت : مفعلة كقوله تعالى : (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) وصفها بالفعل فأدخل الهاء في نعتها ، ولو وصفها بأن معها رضيعا ، قال : كل مرضع. اللسان (رضع).

(١٠) في ب : للصبي.

(١١) الكشاف ٣ / ٢٤.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.


والمرضع (١) يقال للمستأجرة غير الأم ، وهذا مردود بقول الشاعر :

٣٧٤٤ ـ كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت

بني بطنها هذا الضّلال عن القصد (٢)

فأطلق المرضعة بالتاء على غير الأم. وقول العرب مرضعة يرد أيضا قول الكوفيين : إن الصفات المختصة بالمؤنث لا يلحقها تاء التأنيث نحو : حائض وطالق (٣). فالذي (٤) يقال : إن قصد النسب فالأمر على ما ذكروا (٥) ، وإن قصد الدلالة على التلبس بالفعل وجبت التاء ، فيقال (٦) : حائضة وطالقة وطامثة (٧).

قوله : (عَمَّا أَرْضَعَتْ) يجوز في «ما» أن تكون مصدرية ، أي : عن إرضاعها ، ولا حاجة إلى تقدير حذف على هذا (٨). ويجوز أن تكون بمعنى (الذي) ، فلا بد من حذف عائد ، أي : أرضعته ، ويقويه تعدي «تضع» إلى مفعول (٩) دون مصدر (١٠). والحمل ـ بالفتح ـ ما كان في بطن أو على رأس شجر ، وبالكسر ما كان (١١) على ظهر (١٢).

قوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى). العامة على فتح التاء من «ترى» على خطاب الواحد(١٣).

وقرأ زيد بن عليّ بضم التاء وكسر الراء على أن الفاعل ضمير الزلزلة ، أو الساعة (١٤) وعلى هذه القراءة فلا بد من مفعول أول محذوف ليتمّ المعنى (١٥) به ، أي (١٦) : وتري (١٧) الزلزلة أو الساعة الخلق الناس سكارى. ويؤيد هذا قراءة أبي هريرة

__________________

(١) في ب : والمرضعة. وهو تحريف.

(٢) البيت من بحر الطويل قاله ابن جذل الطعان ، وروي الشطر الثاني : بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا.

والشاهد أن الشاعر أطلق المرضعة ـ بالتاء ـ على غير الأم ، ولذلك يرد بهذا البيت على بعض الكوفيين الذين يخصون المرضعة بالأم والمرضع بالمستأجرة وقد تقدم.

(٣) لأنهم لم يحتاجوا في هذه الصفات الخاصة بالمؤنث إلى هاء تفصل بين فعل المذكر والمؤنث ، لأن المذكر لا حظ له في هذا الوصف. وهو قول الفراء ، انظر المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ١٧٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٤) في ب : والذي.

(٥) في ب : ما ذكر.

(٦) في ب : يقال.

(٧) وهو قول الأخفش وغيره من البصريين. المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ١٨٩.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٩) وهو قوله : «حَمْلَها».

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠. واستظهره أبو حيان.

(١١) ما كان : سقط من ب.

(١٢) انظر اللسان (حمل).

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٣٩١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(١٤) المرجعان السابقان.

(١٥) في ب : به المعنى.

(١٦) في ب : أو. وهو تحريف.

(١٧) في ب : ترى.


وأبي زرعة وأبي نهيك (تَرَى النَّاسَ سُكارى) بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ونصب «النّاس» (١) ، بنوه من المتعدي لثلاثة ، فالأول قام مقام الفاعل وهو ضمير المخاطب ، و (النَّاسَ سُكارى) هما الثاني والثالث (٢).

ويجوز أن يكون متعديا لاثنين فقط على معنى وتري الزلزلة أو الساعة الناس قوما سكارى ، ف «النّاس» هو الأول و «سكارى» هو الثاني وقرأ الزعفراني وعباس (٣) في اختياره (وَتَرَى) كقراءة أبي هريرة إلا أنهما رفعا «النّاس» على أنه مفعول لم يسم (٤) فاعله ، والتأنيث في الفعل على تأويلهم بالجماعة (٥). وقرأ الأخوان (٦)(سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) على وزن وصفه المؤنثة بذلك(٧) واختلف في ذلك هل هذه صيغة جمع على فعلى (٨) كمرضى وقتلى (٩) ، أو صفة مفردة استغني بها في وصف الجماعة خلاف مشهور تقدم في قوله «أسرى» (١٠). وظاهر كلام سيبويه أنه جمع تكسير فإنه قال : وقوم يقولون : «سكرى» جعلوه مثل مرضى. لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ثم جعلوا روبى مثل سكرى ، وهم المستثقلون نوما لا من شرب الرائب (١١).

وقال الفارسي : ويجوز أن يكون جمع سكر كزمن وزمنى ، وقد حكي : رجل سكر بمعنى (١٢) سكران ، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع (١٣). قال شهاب الدين : ومن ورود سكر بمعنى سكران قوله :

__________________

(١) المختصر : (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٢) في النسختين : هما الأول والثاني. والصواب ما أثبته.

انظر التبيان ٢ / ٩٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٣) عباس بن عبد الله بن معبد بن عباس بن عبد المطلب العباسي المدني ، عن أخيه إبراهيم وعكرمة ، وعنه ابن جريح وابن إسحاق وابن عيينة. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٣٥.

(٤) في ب : علم ما لم يسم.

(٥) التبيان ٢ / ٩٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٦) حمزة والكسائي.

(٧) السبعة (٤٣٤) ، الكشف ٢ / ١١٦ ، النشر ٢ / ٣٢٥ ، الإتحاف (٣١٣).

(٨) في ب : فعل. وهو تحريف.

(٩) في ب : وقتل. وهو تحريف.

(١٠) من قوله تعالى : «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» [الأنفال : ٦٧]. انظر اللباب ٤ / ١٧٩.

(١١) الكتاب ٣ / ٦٤٩. بتصرف. والنص بلفظه في البحر المحيط ٦ / ٣٥٠. ونص الكتاب : وقد قالوا : رجل سكران وقوم سكرى ، وذلك لأنهم جعلوه كالمرضى. وقالوا رجال روبى ، جعلوه بمنزلة سكرى ، والروبى : الذين قد استثقلوا نوما ، فشبهوه بالكسران ، وقالوا للذين قد أثخنهم السفر والوجع روبى أيضا والواحد : رائب.

(١٢) في ب : يعني.

(١٣) البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.


٣٧٤٥ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني

ثوبي فأنهض نهض الشّارب السّكر

وكنت أمشي على رجلين معتدلا

فصرت أمشي على أخرى من الشّجر (١)

ويروى البيت الأول : الشارب الثمل. وبالراء (٢) أصح لدلالة البيت الثاني عليه (٣).

وقرأ الباقون «سكارى» بضم السين (٤) ، وقد تقدم في البقرة خلاف ، هل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع (٥). وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما (٦) ، وهو جمع تكسير واحده سكران (٧). قال أبو حاتم : وهي لغة تميم (٨). وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة والأعمش «سكرى» (وَما هُمْ بِسُكارى) بضم السين فيهما (٩). فقال ابن جني : هي اسم مفرد كالبشرى بهذا أفتاني أبو علي (١٠). وقال أبو الفضل : فعلى بضم الفاء صفة الواحد من الإناث ، لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد (١١).

__________________

(١) البيتان من بحر البيسط قالهما أبو حية النميري أو عمرو بن أحمر الباهلي وروي (الثمل) مكان (السكر) في البيت الأول ، وهو في المقرب ١١٠ ، والمغني ٢ / ٥٧٩ ، شذور الذهب ١٩٠ ، ٢٧٥ ، المقاصد النحوية ٢ / ١٧٣ وشرح التصريح ١ / ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، الهمع ١ / ١٢٨ ، ١٣١ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٩١١ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٦٣ ، الخزانة ٩ / ٣٥٥ ، ٣٥٩ ، الدرر ١ / ١٠٢ ، ١٠٩ ، والبيت الثاني في سمط اللآلي ٧٨٥ ، الخصائص ١ / ٢٠٧ ، شذور الذهب ١٩٠ ، وشرح شواهد الشافية ٣٦٠. يثقلني : يتعبني ويعييني. الثمل : السكر.

والشاهد فيهما أن قوله السكر بمعنى السكران. وفيه شاهد آخر وهو أن قوله (ثوبي) بدل من اسم (جعل) لا فاعل (يثقلني) لأنه يشترط في فعل جملة الخبر لأفعال المقاربة أن يكون رافعا لضمير الاسم.

(٢) في النسختين : والثاني. والتصويب من الدر المصون.

(٣) الدر المصون ٥ / ٦٣.

(٤) السبعة (٤٣٤) ، الكشف ٢ / ١١٦ ، النشر ٢ / ٣٢٥ ، الاتحاف (٣١٣).

(٥) عند قوله تعالى : «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» [البقرة : ٨٥]. وذكر هناك : وقرأ الجماعة غير حمزة والكسائي «أسارى» وقرأ هو «أسرى» وقرأ «أسارى» بفتح الهمزة ، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه : أحدها : أنها جمع أسرى ، ك (كسلان وكسلى) ، (وسكران وسكرى). والثاني : أنها جمع أسير. الثالث : أنها جمع أسير ، وإنما ضموا الهمزة من أسارى وكان أصلها الفتح كنديم وندامى. والرابع : أنها جمع أسرى الذي هو جمع أسير فيكون جمع الجمع. وأما قراءة حمزة فواضحة لأن فعلى ينقاس في فعيل نحو جريح وجرحى ، وأما «أسارى» بالفتح ، فهي أصل «أسارى» بالضم عن بعضهم. انظر اللباب ١ / ٢٠٢.

(٦) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٧) فعالى من أمثلة جمع الكثرة ، ومما يطرد فيه ما كان وصفا على فعلان نحو سكران وغضبان ، وعلى فعلى نحو سكرى وغضبى. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٠ ، شرح الأشموني ٤ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٩) المحتسب ٢ / ٧٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(١٠) المحتسب ٢ / ٧٤.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.


وقال الزمخشري : وهو (١) غريب (٢). قال شهاب الدين : ولا غرابة فإن فعلى بضم الفاء كثير مجيئها في أوصاف المؤنثة نحو الرّبّى (٣) والحبلى. وجوّز أبو البقاء فيه أن يكون محذوفا من سكارى (٤) وكان من حق هذا القارىء أن يحرك الكاف بالفتح إبقاء لها على ما كانت عليه وقد رواها بعضهم كذلك عن الحسن (٥). وقرىء «ويرى الناس» بالياء من تحت ، ورفع «النّاس» (٦).

وقرأ أبو زرعة في رواية «سكرى» بالفتح (وَما هُمْ بِسُكارى) بالضم (٧). وعن ابن جبير كذلك إلا أنه حذف الألف من الأول دون الثاني (٨). وإثبات السكر وعدمه بمعنى الحقيقة والمجاز ، أي: (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى)(٩) على التشبيه (وَما هُمْ بِسُكارى)(٩) على التحقيق (١٠). قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل أولا : ترون ، ثم قيل : ترى على الإفراد؟ قلت : لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة ، فجعل الناس جميعا رائين لها ، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر ، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم (١١).

فصل

روي أن هاتين (١٢) الآيتين نزلتا بالليل (١٣) في غزوة بني المصطلق ، والناس يسيرون ، فنادى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاجتمعوا حوله ، فقرأهما عليهم ، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج على (١٤) الدواب ولم يضربوا الخيام (١٥) ولم يطبخوا القدور ، والناس بين باك وجالس حزين متفكر. فقال عليه‌السلام (١٦) : «أتدرون أيّ ذلك اليوم»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم : قم فابعث بعث النّار (١٧) من ولدك ، فيقول آدم : وما بعث النّار؟ فيقول الله تعالى من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النّار وواحد إلى الجنّة ، فعند ذلك يشيب الصّغير ،

__________________

(١) في الأصل : هو.

(٢) الكشاف ٣ / ٢٥.

(٣) الربّى على فعلى بالضم : الشاة التي وضعت حديثا. وقيل : الرّبى : الحاجة ، العقدة المحكمة ، النعمة والإحسان ، اللسان (ربب).

(٤) التبيان ٢ / ٩٣٢.

(٥) الدر المصون ٥ / ٣٦ ـ ٦٤.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٣١.

(٧) البحر المحيط ٦ / ٣٥٠.

(٨) المرجع السابق.

(٩) في الأصل : سكرى.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٢٤.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(١٣) في ب : في الليل.

(١٤) في ب : عن.

(١٥) في ب : القيام. وهو تحريف.

(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٧) في الأصل : الناس. وهو تحريف.


وتضع كلّ ذات حمل حملها ، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» قال : فيقولون : وأيّنا ذلك الواحد فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد» (١).

وفي رواية فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يسّروا وسدّدوا وقاربوا فإنّ معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثروا يأجوج ومأجوج» ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة» فكبّروا وحمّدوا الله ، ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» فكبّروا وحمدوا الله ، ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة ، إنّ أهل الجنّة مائة وعشرون صفّا ، ثمانون من (٢) أمتّي وما المسلمون في الكفّار إلا كالشّامة في جنب البعير ، أو كالشّعرة البيضاء في الثور الأسود» ثم قال : «ويدخل من أمّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب» فقال عمر : سبعون ألفا. فقال (٣) : «نعم ومع كلّ واحد سبعون ألفا» فقام عكاشة بن محصن وقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال : «أنت منهم» فقام رجل من الأنصار وقال مثل قوله (٤) ، فقال (٥) : «سبقك بها عكاشة» (٦). فخاض الناس في السبعين ألفا ، فأخبروا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بما قالوا ، فقال عليه‌السلام (٧) : «هم الذين لا يكذبون ولا يزنون ولا يسرقون ولا (٨) ينظرون وعلى ربهم يتوكلون» (٩).

فصل

معنى الآية قال ابن عباس : «تذهل» تشغل ، وقيل : تتنسى (١٠)(كُلُّ مُرْضِعَةٍ) إذا شاهدت ذلك الهول وقد ألقمت المرضع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة (عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي تسقط ولدها التمام وغير التمام. قال الحسن : وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا ؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل (١١). قال القفال : ويحتمل أن يقال : إن من ماتت حاملا أو مرضعة بعثت حاملا ومرضعة تضع حملها من الفزع ، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحامل على جهة المثل كما تأولوا قوله : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً)(١٢)(١٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦٠.

(٢) من : سقط من الأصل.

(٣) في ب : قال.

(٤) في ب : مثل قوله تعالى. وهو تحريف.

(٥) فقال : سقط من ب.

(٦) أخرجه البخاري (طب) ٤ / ١٩ ، مسلم (إيمان) ١ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ، الترمذي (قيامة) ٤ / ٣٦١ ، الدارمي (رقاق) ٧ / ٣٢٨ ، أحمد ١ / ٢٧١ ، ٤٠١ ، ٢ / ٣٠٢ ، ٣٥١ ، ٤٠٠ ، ٤٠١ ، ٤٥٦ ، ٥٠٢ ، ٤ / ٤٣٦.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : وعلى. وهو تحريف.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٥٤٧.

(١١) انظر البغوى ٥ / ٥٤٧.

(١٢) [المزمل : ١٧].

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥.


و (تَرَى النَّاسَ سُكارى) من الخوف (وَما هُمْ بِسُكارى) من الشراب (١). وقيل : معناه كأنهم سكارى (٥) ، ولكن ما أرهقهم (٢) من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم (٣).

فإن قيل : هل يحصل ذلك الخوف لكل أحد أو لأهل النار خاصة؟

فالجواب : قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار ، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون ، لقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)(٤) وقيل : بل يحصل للكل ؛ لأنه سبحانه لا اعتراض (٥) عليه في شيء من أفعاله (٦).

فصل

احتجت المعتزلة (٧) بقوله (إِنَّ زَلْزَلَةَ (٨) السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة. وبقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٩) فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجودا أو معدوما ، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادرا على إيجاد الموجود ، وإذا بطل هذا (١٠) ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم ، فالمعدوم شيء (واحتجوا أيضا بقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(١١) أطلق اسم الشيء على المعدوم في الحال ، فالمعدوم شيء) (١٢). وأجيب عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة. وهي جواهر قامت بها أعراض ، وتحقق ذلك في العدم محال ، فالزلزلة (١٣) يستحيل أن تكون شيئا حال عدمها ، فلا بد من التأويل ، ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئا وهذا هو الجواب عن الباقي (١٤).

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٤)

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ)(١٥) الآية. في النظم وجهان :

الأول : أنه أخبر فيما تقدم عن أهل القيامة وشدتها ، ودعا الناس إلى تقوى الله ، ثم

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٥٤٨.

(٥) في ب : لا إعراض. وهو تحريف.

(٢) في ب : ما رهقهم.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥.

(٤) [الأنبياء : ١٠٣].

(٥) في ب : لا إعراض. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤ ـ ٥.

(٨) في ب : لزلزلة. وهو تحريف.

(٩) [البقرة : ٢٠] ، وغير ذلك في مواطن كثيرة من القرآن الكريم.

(١٠) هذا : سقط من ب.

(١١) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤].

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) في الأصل : في الزلزلة. وهو تحريف.

(١٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤ ـ ٥.

(١٥) في الله : سقط من الأصل.


ميز في هذه الآية قوما من الناس الذين ذكروا في الأولى وأخبر عن مجادلتهم.

الثاني : أنه تعالى بيّن أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها ، قال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(١).

قوله : (مَنْ يُجادِلُ) يجوز أن تكون «من» نكرة موصوفة (٢) ، وأن تكون موصولة ، و (فِي اللهِ) أي : في صفاته (٣) ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مفعول أو حال من فاعل «يجادل» (٤) وقرأ زيد بن عليّ (وَيَتَّبِعُ) مخففا (٥).

فصل

قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث ، كان كثير الجدل ، وكان يقول : الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث ، وإحياء من صار ترابا ، ويتبع في جداله في الله بغير علم كل شيطان مريد. والمريد : المتمرد المستمر في الشر (٦). يريد شياطين الإنس ، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر (٧).

وقيل : أراد إبليس وجنوده ، قال الزجاج : المريد والمارد : المرتفع الأملس. يقال : صخرة مرداء ، أي : ملساء (٨). ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز [حد](٩) مثله (١٠).

قوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ) قرأ العامة «كتب» مبنيا للمفعول ، وفتح «أنّ» في الموضعين(١١). وفي ذلك وجهان :

أحدهما : أن (١٢) «أنّه» وما في حيزه في محل نصب لقيامه مقام الفاعل (١٣) ، فالهاء في «عليه» ، وفي «أنّه» تعودان على «من» المتقدمة (١٤). و «من» الثانية يجوز أن تكون شرطية ، والفاء جوابها ، وأن تكون موصولة والفاء زائدة في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط (١٥) ، وفتحت

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٢.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٥١ ـ ٥٥٢.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦.

(٨) النص بلفظه من الفخر الرازي ٢٣ / ٦ ، وبالمعنى من معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١١.

(٩) حد : تكملة تقتضيها السياق.

(١٠) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١١ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٦.

(١١) البحر المحيط ٦ / ٣٥١ ، الإتحاف (٣١٣).

(١٢) أن : سقط من ب.

(١٣) انظر البيان ٢ / ١٦٨ ، التبيان ٢ / ٩٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٥) انظر البيان ٢ / ١٦٨ ، التبيان ٢ / ٩٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.


«أن» الثانية ، لأنها وما في حيزها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فشأنه وحاله أنه يضله ، أو يقدر «فأنّه» مبتدأ والخبر محذوف أي : فله أنه يضله (١).

الثاني : قال الزمخشري : ومن فتح (٢) فلأن الأول فاعل كتب ، والثاي عطف عليه (٣).

قال أبو حيان : وهذا لا يجوز ؛ لأنك إذا جعلت «فأنّه» عطفا على «أنه» بقيت «أنه» بلا استيفاء خبر ، لأن (مَنْ تَوَلَّاهُ) «من» فيه مبتدأة فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى تستقل (٤) خبرا ل «أنّه» ، وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها ، إذ جعلت «فأنه» عطفا على «أنه» (٥). قال شهاب الدين : وقد ذهب ابن عطية إلى مثل قول الزمخشري فإنه قال : و «أنه» في موضع رفع (على المفعول الذي لم يسم فاعله. و «أنه» الثانية عطف على الأولى مؤكد (٦) وهذا رد واضح (٧). وقرىء «كتب» مبنيا للفاعل ، أي : كتب الله (٨) ، ف (أن) وما في حيزها في محل نصب) (٩) على المفعول به ، وباقي الآية على ما تقدم.

وقرأ الأعمش والجعفي (١٠) عن أبي عمرو «إنه ، فإنه» (١١) بكسر الهمزتين (١٢).

وقال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو «إنه ، فإنه» بالكسر فيهما (١٣) وهذا يوهم أنه مشهور

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩١ ـ ٩٢ ، البيان ٢ / ١٦٨ ، التبيان ٢ / ٩٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٢) في ب : يفتح. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٥. وقد سبقه الزجاج حيث ذكر هذا الوجه في معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١١ فإنه قال : ((فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) عطف عليه ، وموضعه رفع أيضا) ورد عليه مكي في مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩١ بأنه لا يجوز العطف على «أن» الأولى إلا بعد تمامها ، لأن ما بعدها من صلتها ، إذ أن «من» في قوله (مَنْ تَوَلَّاهُ) شرط والفاء جواب الشرط ، والشرط وجوابه في هذه الآية هما خبر «أن» الأولى.

(٤) في ب : يشتغل.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٦) تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢٧ وقد سبقه الزجاج فإنه ذكر في معاني القرآن وإعرابه (وحقيقة «أن» الثانية أنها مكررة مع الأولى على جهة التوكيد ، لأن المعنى كتب عليه أنّه من تولّاه أضله) ٣ / ٤١١ ، وقول الزجاج هذا جاء بعد قوله :(«فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ» عطف عليه). ورد عليه مكي هذا الوجه بقوله : (كيف تكون للتأكيد والمؤكد لم يتم؟ وإنما يصلح التأكيد بعد تمام المؤكد ، وتمام «أن» الأولى عند قوله : «السعير»). مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩١. وذكر هذا الوجه أيضا ابن الأنباري وضعفه من وجهين الأول : كما ذكر مكي بأن التوكيد لا يكون إلا بعد تمام الموصول بصلته كالعطف. والثاني : أن الفاء قد دخلت بين «أن» الأولى والثانية ، والفاء لا تدخل بين المؤكد والمؤكد ، وقد وجد هنا ، فينبغي ألا يكون توكيدا. انظر البيان ٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٧) الدر المصون ٥ / ٦٤.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) تقدم.

(١١) في ب : وإنه ، وهو تحريف.

(١٢) المختصر (٩٤) ، البحير المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٣) تفسير ابن عطية : ١ / ٢٢٧.


عنه ، وليس كذلك (١). وفي تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه ، ذكرها (٢) الزمخشري :

الأول : أن يكون على حكاية المكتوب كما هو ، كأنه قيل : كتب عليه هذا اللفظ ، كما تقول: كتب عليه إن الله هو الغني الحميد.

الثاني : أن يكون على إضمار قيل.

الثالث : أن «كتب» فيه معنى قيل (٣).

قال أبو حيان : أما تقدير قيل يعني فيكون «عليه» في موضع مفعول ما لم يسأم فاعله ، و (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) الجملة مفعول لم يسأم لقيل المضمر ، وهذا ليس مذهب البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلا فلا تكون مفعول ما لم يسأم فاعله (٤). وكان أبو حيان قد اختار ما بدأ به الزمخشري أولا(٥) ، وفيه ما فر منه وهو أنه أسند الفعل إلى الجملة ، فاللازم مشترك ، وقد تقدم تقرير مثل هذا في أول البقرة (٦). ثم قال : وأما الثاني يعني أنه ضمن «كتب» معنى القول ـ ، فليس مذهب البصريين ، لأنه لا تكسر «أن» عندهم إلا بعد القول الصريح ، لا ما هو بمعناه (٧). والضميران في «عليه» و «أنه» عائدان على «من» الأولى كما تقدم ، وكذلك الضمائر في «تولاه» و «فأنه» والمرفوع في (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) لأن من الأولى هو (٨) المحدث عنه (٩) والضمير المرفوع في «تولاه» والمنصوب في (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) عائد على «من» الثانية (١٠).

وقيل : الضمير في «عليه» ل (كُلَّ شَيْطانٍ)(١١) ، والضمير في «فأنه» للشأن (١٢).

__________________

(١) أي : أنه ليس مشهورا عن أبي عمرو ، والظاهر أن ذلك من إسناد «كتب» إلى الجملة إسنادا لفظيا ، أي : كتب عليه هذا الكلام ، كما تقول : كتب : إن الله يأمر بالعدل.

البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٢) في الأصل : ذكر. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٥. ولم يذكر أبو البقاء في توجيه هذه القراءة غير الوجه الثاني قال : (وقرى بالكسر فيها حملا على معنى قيل له) التبيان ٢ / ٩٣٢.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٥١. بتصرف يسير. وقد سبق أن ذكرت الاختلاف في الفاعل ونائبه هل يكونان جملة أم لا؟

(٥) حيث قال : (والظاهر أن ذلك من إسناد «كتب» إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتب إن الله يأمر بالعدل) البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(٦) عند قوله تعالى : «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ» الآية (١١) ، انظر اللباب ١ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥١. بتصرف يسير.

(٨) في ب : وهو.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢١٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.

(١٢) انظر البيان ٢ / ١٦٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥١.


وقال ابن عطية : الذي يظهر لي أن الضمير الأول في «أنه» يعود على (كُلَّ شَيْطانٍ) وفي «فأنه» يعود على «من» الذي هو المتولى (١).

فصل (٢)

قيل : معنى (كُتِبَ عَلَيْهِ) مثل ، أي : كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه لظهور ذلك في حاله. وقيل : كتب (٣) عليه في أم الكتاب. واعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون راجعا إلى (مَنْ يُجادِلُ) ، وأن يرجع إلى الشياطين. فإن رجع إلى (مَنْ يُجادِلُ) فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد فكأنه قال : كتب : من يتبع الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار ، وذلك زجر منه ، فكأنه قال : كتب على من هذا حاله أن يصير أهلا لهذا الوعد. وإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يتولاه فهو ضال. وعلى هذا الوجه أيضا يكون زجرا عن اتباعه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور)(٧)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) الآية. لما حكى عنهم الجدال بغير علم في إثبات الحشر والنشر ، وذمهم عليه ، ألزمهم الحجة ، وأورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين :

أحدهما : الاستدلال بخلقة الحيوان أولا ، ثم بخلقة النبات ثانيا ، وهذا موافق لما أجمله في قوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٤) وقوله : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٥). فكأنه تعالى قال : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي شك من البعث ففكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولا قادر على خلقكم ثانيا (٦).

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٢٧.

(٢) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦ ـ ٧. بتصرف يسير.

(٣) كتب : سقط من الأصل.

(٤) [يس : ٧٩].

(٥) [الإسراء : ٥١].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨.


قوله : (مِنَ الْبَعْثِ). يجوز أن يتعلق ب (رَيْبَ) ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل (رَيْبَ)(١). وقرأ الحسن «البعث» بفتح العين (٢) ، وهي لغة كالطرد والحلب في الطرد والحلب(٣) بالسكون. قال أبو حيان : والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر ، والشعر والشعر ، والبصريون لا يقيمونه ، وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان (٤)(٥). وهذا يوهم ظاهره أن الأصل : البعث ـ بالفتح ـ وإنما خفف ، وليس الأمر كذلك وإنما محل النزاع إذا سمع الحلقي مفتوح العين هل يجوز تسكينه أم لا؟ لا أنه كلما جاء ساكن العين من ألحقها يدعي أن أصلها بالفتح كما هو ظاهر عبارته.

قوله : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : خلقنا أصلكم وهو آدم من تراب نظيره قوله : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(٦) وقوله : (مِنْها خَلَقْناكُمْ)(٧)(٨). ويحتمل أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية ، والأغذية إما حيوان أو نبات ، وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعا للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء فصح قوله : «إنا خلقناكم من تراب» (٩).

فصل

قال النووي (١٠) في التهذيب : التراب معروف ؛ والمشهور الصحيح الذي قاله الفراء والمحققون أنه جنس لا يثنى ولا يجمع (١١). ونقل أبو عمر الزاهد (١٢) في شرح الفصيح

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٢) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٣) والحلب : سقط من الأصل.

(٤) ذهب الكوفيون إلى أن ما كان على (فعل) بفتح الفاء وسكون العين وكانت عينه حرفا حلقيا جاز تحريكه بالفتح نحو الشعر والشعر والبحر والبحر لمناسبة حرف الحلق للفتح ، فجعلوا المفتوح العين فرعا لساكنها ، ورأوا هذا قياسا في كل فعل شأنه ما ذكرناه.

وذهب البصريون إلى أن ما جاء من هذا فيه اللغتان تكلم به على ما جاء وما كان لم يسمع لم يجز فيه التحريك نحو وعد ، لأنك لا تقول : لك علي وعد أي : علي وعدة.

معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١١ ، شرح الشافية ١ / ٤٧.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٦) من قوله تعالى : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [آل عمران : ٥٩].

(٧) من قوله تعالى : «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» [طه : ٥٥]. الفخر الرازي ٢٣ / ٨.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨.

(١٠) تقدم.

(١١) قال الرضي : (وعند الفراء كل ما له واحد من تركيبه سواء كان اسم جمع كباقر وركب أو اسم جنس كتمر وروم ، فهو جمع وإلا فلا. وأما اسم الجمع واسم الجنس اللذان ليسا لهما واحد من لفظهما فليسا بجمع اتفاقا نحو إبل وتراب وإنما لم يجىء لمثل تراب وخل مفرد بالتاء إذ ليس له فرد متميز عن غيره كالتفاح والتمر والجوز) شرح الكافية ٢ / ١٧٨.

(١٢) هو محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمر الزاهد المطرز اللغوي غلام ثعلب ، ومن مصنفاته ـ


عن المبرد أنه قال : هو جمع واحدته ترابة ، والنسبة إلى التراب ترابي (١). وذكر النحاس في كتابه صناعة الكتاب : في التراب خمس عشرة (٢) لغة فقال (٣) يقال : تراب وتورب على وزن جعفر ، وتوراب ، وتيرب ـ بفتح أولهما ـ والإثلب والأثلب الأول بكسر الهمزة واللام ، والثاني بفتحهما (٤) ، والثاء مثلاثة فيهما (٥) ومنه قولهم : بفيه الأثلب ، وهو الكثكث ـ بفتح الكافين وبالثاء المثلاثة المكررة ، والكثكث ـ بكسر الكافين ـ والدقعم ـ بكسر الدال والعين ـ والدقعاء بفتح الدال والمد ، والرغام ـ بفتح الراء والغين المعجمة ـ ومنه : أرغم الله أنفه ، أي : ألصقه بالرغام وهو البرا (٦) مقصور مفتوح الباء الموحدة كالعصا ، والكلخم (٧) بكسر الكاف والخاء المعجمة وإسكان اللام بينهما (٨) ، والكلخ بكسر الكاف واللام وإسكان الميم بينهما والخاأ أيضا معجمة ، والعثير بكسر العين المهملة وإسكان الثاء المثلاثة وبعدها مثناة من تحت مفتوحة (٩).

قوله : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) والنطفة اسم للماء القليل ، أي ماء كان ، وهوهنا ماء الفحل ، وجمعها نطاف (١٠) ، فكأنه سبحانه يقول : أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس ماء لطيفا مع أنه لا مناسبة بينهما (١١). والمراد من الخلق من النطفة الذرية.

قوله : (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) والعلقة قطعة الدم الجامدة ، وجمعها علق ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة (١٢). وعن بعضهم وقد سئل عن أصعب الأشياء فقال : وقع الزلق على العلق ، أي : على دم القتلى في المعركة (١٣).

قوله : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) المضغة : القطعة من اللحم قدر ما يمضغ (١٤) نحو الغرفة ، والأكلة بمعنى المغروفة والمأكولة.

__________________

ـ اليواقيت ، شرح الفصيح ، غريب مسند أحمد وغير ذلك ، مات سنة ٣٤٥ ه‍ ببغداد. بغية الوعاة ١ / ١٦٤ ـ ١٦٦.

(١) لأنك إذا نسبت إلى ما يدل على الجمع فإن كان اللفظ جنسا كتمر وضرب أو اسم جمع كنفر ورهط وإبل نسبت إلى لفظه نحو تمري وإبلي سواء كان اسم الجمع مما جاء من لفظه ما يطابق على واحده كراكب في ركب أولم يجىء كغنم وإبل. شرح الشافية ٢ / ٧٨.

(٢) في النسختين : اثني عشر. والصواب ما أثبته.

(٣) فقال : تكملة من التهذيب.

(٤) في ب : الأول بكسر الهمزة والثاني بفتحها.

(٥) فيهما : سقط من ب.

(٦) في النسختين : التراب. والصواب ما أثبته.

(٧) في ب : الكلخ. وهو تحريف.

(٨) في ب : هاهنا. وهو تحريف.

(٩) تهذيب الأسماء واللغات القسم الثاني ١ / ٤٠ ـ ٤١.

(١٠) قياس جمع نطفة نطف ، لأن ما كان اسما على فعلة يجمع على فعل ، وقد يجمع على فعال ، وهو مما يحفظ كبرمة وبرام. انظر شرح الأشموني ٤ / ١٣٠ ، ١٣٥.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(١٢) الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(١٤) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.


قوله : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) العامة على الجر في (مُخَلَّقَةٍ) وفي (غَيْرِ) على النعت. وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما (١) على الحال من النكرة ، وهو قليل جدا ، وإن كان سيبويه قاسه (٢).

والمخلقة : الملساء التي لا عيب فيها من قولهم : صخرة خلقاء ، أي : ملساء (٣) وخلقت السواك: سويته وملسته. وقيل : التضعيف في (مُخَلَّقَةٍ) دلالة على تكثير الخلق ؛ لأن الإنسان ذو أعضاء متباينة وخلق متفاوتة. قاله الشعبي وقتادة وأبو العالية (٤) وقال ابن عباس وقتادة : (مُخَلَّقَةٍ) تامة الخلق ، و (غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي ناقصة الخلق (٥). وأبو مجاهد : مصورة وغير مصورة ، وهو السقط(٦). وقيل : المخلقة من تمت فيه أحوال الخلق ، وغير المخلقة من لم يتم فيه أحوال الخلق قاله قتادة والضحاك(٧). وقيل : المخلقة (٨) الولد الذي تأتي به المرأة لوقته ، وغير المخلقة السقط. وروى علقمة عن ابن مسعود قال : «إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه ، وقال : أي رب (٩) مخلقة أو غير مخلقة ، فإن قال : غير مخلقة قذفها في الرحم دما ولم يكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر (١٠) أم أنثى أشقي (١١) أم سعيد ، ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها (١٢) فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته». قوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي : لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم لتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة (١٣) وقيل : لنبين لكم أن تغيير الصفة والخلقة هو اختيار

__________________

(١) لما كان الحال خبرا في المعنى ، وصاحبها مخبرا عنه أشبه المبتدأ فلم يجز مجيء الحال من النكرة غالبا إلا بمسوغ من مسوغات الابتداء بها ، ومن النادر قولهم : عليه مائة بيضا ، وفيها رجل قائما ، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن سيبويه ، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة : (... وقد يجوز نصبه على نصب هذا رجل منطلقا ، وهو قول عيسى. وزعم الخليل أن هذا جائز ، ونصبه كنصبه في المعرفة ، جعله حالا ولم يجعله صفة. ومثل ذلك مررت برجل قائما ، إذا جعلت المرور به في حال قيام. وقد يجوز على هذا : فيها رجل قائما ، وهو قول الخليل رحمه‌الله. ومثل ذلك : عليه مائة بيضا ، وعليه مائة عينا ، والرفع الوجه) الكتاب ٢ / ١١٢ ، انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٢ ، الهمع ١ / ٢٤٠.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(٣) الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٥٣.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٥٣.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

(٩) في الأصل : رب أي. وهو تحريف.

(١٠) في ب : ذكر. وهو تحريف.

(١١) في ب : شقي. وهو تحريف.

(١٢) في الأصل : فنسخها. وهو تحريف.

(١٣) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٥٣ ـ ٥٥٤.


من الفاعل المختار ، ولو لا ه لما صار بعضه (١) مخلقا وبعضه غير مخلق (٢) وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة (٣).

قوله : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) العامة على رفع (وَنُقِرُّ) ، لأنه مستأنف ، وليس علة(٤) لما قبله فينصب نسقا على ما تقدم (٥). وقرأ يعقوب ، وعاصم في روآية بنصبه (٦).

قال أبو البقاء : على أن يكون معطوفا في اللفظ والمعنى مختلف ، لأن اللام في (لِنُبَيِّنَ) للتعليل واللام المقدرة مع (٧)(نُقِرُّ) للصيرورة (٨). وفيه نظر ، لأن قوله : معطوفا في اللفظ. يدفعه قوله : واللام المقدرة. فإن تقدير اللام يقتضي النصب بإضمار (أن) بعدها لا (٩) بالعطف على ما قبله. وعن عاصم أيضا : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) بنصب الجيم (١٠). وقرأ ابن أبي عبلة «ليبين» و «يقر» بالياء من تحت فيهما (١١) ، والفاعل هو الله تعالى كما في قراءة النون.

وقرأ يعقوب في روآية «ونقر» بفتح النون وضم القاف ورفع الراء من قر الماء يقره أي : صبه(١٢). وقرأ أبو زيد النحوي «ويقر» بفتح الياء من تحت وكسر القاف ونصب الراء (١٣) أي : ويقر الله وهو من قر الماء إذا صبه. وفي الكامل (١٤) لابن جبارة (١٥)(لِنُبَيِّنَ ، وَنُقِرُّ ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) بالنصب فيهن يعني بالنون في الجميع ، المفضل بالياء فيهما مع النصب أبو حاتم ، وبالياء والرفع عن عمر بن شبة(١٦). انتهى (١٧).

وقال الزمخشري : والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى : يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره. ثم قال : والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل ومعناه : جعلناكم مدرجين هذا التدريج لغرضين :

__________________

(١) في الأصل : بعده. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٥٤.

(٤) في ب : علمه. وهو تحريف.

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١٢ ، البيان ٢ / ١٦٩ ، التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٧) في ب : في.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٩) في ب : إلا. وهو تحريف.

(١٠) عطفا على «وَنُقِرُّ» إذا نصب. البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(١١) الكشاف ٣ / ٢٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(١٢) المرجعان السابقان.

(١٣) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(١٤) في ب : وفي الكاف. وهو تحريف.

(١٥) هو يوسف بن علي بن جبارة أبو القاسم الهذلي اليشكري ، طاف البلاد في طلب القراءات ومن شيوخه إبراهيم بن أحمد الأربلي وإبراهيم بن الخطيب وأحمد بن الصقر وغيرهم ، ومن مؤلفاته كتاب الكامل ، مات سنة ٤٦٥ ه‍. طبقات القراء ٢ / ٣٩٧ ـ ٤٠١.

(١٦) هو عمر بن شبة بن عبيدة النميري أبو زيد البصري ، الحافظ الأخباري الأديب ، عن عمر بن علي المقدمي والقطان وأبي نعيم وغيرهم. مات سنة ٢٦٢ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٢٧١.

(١٧) البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.


أحدهما : أن نبين قدرتنا.

والثاني : أن نقر في الأرحام من نقر حتى يولدوا وينشئوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم ، ويعضد هذه القراءة قوله : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ)(١). قال شهاب الدين : تسميته مثل هذه الأفعال المسندة إلى الله تعالى غرضا لا يجوز (٢). وقرأ ابن وثاب «نشاء» بكسر النون وهو كسر حرف المضارعة (٣) كما تقدم في قوله : (نَسْتَعِينُ)(٤).

والمراد بالأجل المسمى يعني نقر في الأرحام ما نشاء فلا نمحه ولا نسقطه إلى أجل مسمى وهو حد الولادة ، وهو آخر ستة أشهر أو تسعة أشهر أو أربع سنين كما شاء وقدر تام الخلق والمدة.

قوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي : تخرجون من بطون أمهاتكم ، «طفلا» حال من مفعول «نخرجكم» (٥) ، وإنما وحّد ، لأنه في الأصل مصدر كالرضا والعدل ، فيلزم الإفراد والتذكير ، قاله المبرد(٦) ، وإما لأنه مراد به الجنس (٧) ، ولأنه العرب تذكر الجمع باسم الواحد قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)(٨) وإما لأن المعنى نخرج كل واحد منكم ، نحو (٩) : القوم يشبعهم رغيف ، أي : كل واحد منهم (١٠). وقد يطابق به ما يراد به فيقال : طفلان وأطفال (١١) ، وفي الحديث : «سئل عن أطفال المشركين» (١٢). والطفل يطلق على الولد من حين الانفصال إلى البلوغ (١٣). وأما الطفل ـ بالفتح ـ فهو الناعم ، والمرأة طفلة (١٤) ، قال :

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٦.

(٢) الدر المصون ٥ / ٦٥.

(٣) تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢٩ ، القرطبي ١٢ / ١١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٤) من قوله تعالى : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» [الفاتحة : ٥]. وذكر هناك وقرىء «نستعين» بكسر حرف المضارعة ، وهي لغة مطردة في حروف المضارعة ، وذلك بشرط أن لا يكون ما بعد حرف المضارعة مضموما ، فإن ضم ك (نقوم) ولم يكسر حرف المضارعة لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم ، وبشرط أن يكون المضارع من ماض مكسور العين نحو نعلم من علم ، أو في أوله همزة وصل نحو «نستعين» من استعان ، أو تاء مطاوعة ، نحو نتعلم من تعلم ، فلا يجوز في يضرب ويقتل كسر حرف المضارعة لعدم الشروط المذكورة. انظر اللباب ١ / ٢٨.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٤٦ ، ٣٥٢.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣ ، القرطبي ١٢ / ١١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(٨) [التحريم : ٤] والاستدلال بهذه الآية أن (ظهير) خبر عن الجمع ، وهو واحد في معنى الجمع. البيان ٢ / ٤٤٧ ، التبيان ٢ / ١٢٣٠ ، انظر القرطبي ١٢ / ١١.

(٩) في ب : عن. وهو تحريف.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٢.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(١٢) أخرجه أحمد ١ / ٢٩٤.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(١٤) القرطبي ١٢ / ١٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.


٣٧٤٦ ـ ولقد لهوت بطفلة ميّالة

بلهاء تطلعني على أسرارها (١)

وقال :

٣٧٤٧ ـ أحببت في الطّفلة القبلا

لا كثيرا يشبه الحولا (٢)

أما الطّفل : بفتح الفاء والطاء ـ فوقت (ما بعد العصر ، من قولهم : طفلت (٣) الشمس : إذا مالت للغروب (٤) ، وأطفلت المرأة أي صارت ذات طفل) (١٤).

قوله (٥) : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) الأشدّ : كمال القوة والعقل ، وهو من ألفاظ الجموع التي لا واحد لها ، فبنيت لذلك على لفظ الجمع (٦) ، والمعنى : أنه سهل في تربيتكم وأغذيتكم أمورا كثيرا (٧) إلى بلوغ أشدكم ، فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ، لأن بين الحالتين وسائط (٨).

قوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) العامة على ضم الياء من «يتوفّى» وقرأت فرقة «يتوفّى» بفتح الياء (٩) ، وفيه تخريجان :

أحدهما : أن الفاعل ضمير الباري تعالى ، أي (١٠) : يتوفاه الله تعالى (١١). كذا قدره الزمخشري(١٢).

الثاني : أن الفاعل ضمير «من» أي : يتوفى أجله (١٣) وهذه القراءة كالتي في البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ)(١٤) أي : مدتهم. ومعنى الآية : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) على قوته وكماله ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الهرم والخوف فيصير كما كان في أوان الطفولية ضعيف البنية سخيف (١٥) العقل قليل الفهم (١٦). وروي عن أبي عمرو ونافع

__________________

(١) البيت من بحر الكامل ، لم يعزه أحد لقائل وهو في التهذيب ٦ / ٣١٢ ، واللسان (بله) ، الطّفلة ، بفتح الطاء : لمرأة ، وهو موطن الشاهد هنا. البله حسن الخلق وقلة الفطنة لمذاق الأمور ، والمرأة بلهاء أراد أنها غر لا دهاء لها فهي تخبرني بسرها ولا تفطن لما في ذلك عليها.

(٢) رجز لم أهتد إلى قائله ، ولم أجده فيما رجعت إليه من مراجع والشاهد فيه أن الطّفلة بفتح الطاء : المرأة.

(٣) في النسختين : طلعت. والصواب ما أثبته.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(١٤) [البقرة : ٢٣٤ ، ٢٤٠]. «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ» بفتح الياء قراءة علي بن أبي طالب ، والمفضل عن عاصم.

ومعنى هذه القراءة أنهم يستوفون آجالهم. المختصر : ١٥ ، البحر المحيط ٢ / ٢٢٢.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٢٦.

(٧) كثيرا : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠.

(٩) حكاه أبو حاتم. انظر المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٣.

(١٠) في الأصل : أن. وهو تحريف.

(١١) تعالى : سقط من ب.

(١٢) الكشاف ٣ / ٢٦.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٣.

(١٤) [البقرة : ٢٣٤ ، ٢٤٠]. «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ» بفتح الياء قراءة علي بن أبي طالب ، والمفضل عن عاصم.

ومعنى هذه القراءة أنهم يستوفون آجالهم. المختصر : ١٥ ، البحر المحيط ٢ / ٢٢٢.

(١٥) سخف بالضم سخافة فهو سخيف ، ورجل سخيف العقل بيّن السخف والسخف ضعف العقل اللسان (سخف).

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠.


أنهما قرآ «العمر» بسكون الميم (١) وهو تخفيف قياسي نحو عنق في عنق (٢).

قوله : (لِكَيْلا يَعْلَمَ) هذا الجار يتعلق ب «يرد» (٣) وتقدم نظيره في النحل (٤) والمعنى يبلغ من السن ما يتغير (٥) عقله فلا يعقل شيئا. فإن قيل : إنه يعلم بعض الأشياء كالطفل فالجواب : المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئا (٦). لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي مبالغة. ومن الناس من قال هذه الحال لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(٧) وهو (٨) ضعيف ، لأن معنى قوله (ثُمَّ رَدَدْناهُ) دلالة على الذم ، فالمراد ما يجري مجرى العقوبة ، ولذلك قال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٩) وهذا تمام الاستدلال بخلقة الحيوان (١٠). وأما الاستدلال بخلقة النبات فهو قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) فنصب «هامدة» على الحال ، لأن الرؤية بصرية. والهمود : الخشوع والسكون ، وهمدت الأرض : يبست ودرست ، وهمد الثوب: بلي (١١) ، قال الأعشى :

٣٧٤٨ ـ فالت قتيلة ما لجسمك شاحبا

وأرى ثيابك باليات همّدا (١٢)

والاهتزاز التحرك (١٣) ، وتجوز به هنا عن إنبات الأرض نباتها بالماء. والجمهور على «ربت» أي: زادت من ربا يربو (١٤). وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر (١٥) وأبو

__________________

(١) في النسختين : العين. والصواب ما أثبته. المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٣.

(٢) التخفيف بسكون الحرف الثاني في (عمر) و (عنق) كراهة توالي الثقلين في الثلاثي المبني على الخفة ، فسكن الثاني لامتناع تسكين الأول ، ولأن الثقل من الثاني حصل. وهذا من التفريعات في لغة تميم.

انظر شرح الشافية ١ / ٤٤.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٣.

(٤) وهو قوله تعالى : «وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» [النحل : ٧٠]. وذكر هناك : في هذه اللام وجهان : أحدهما : أنها لام التعليّل ، وكي بعدها مصدرية لا إشعار لها بالتعليل والحالة هذه وأيضا فعملها مختلف. والثاني أنها لام الصيرورة.

انظر اللباب ٥ / ٢١٢.

(٥) في ب : يتعين. وهو تحريف.

(٦) في ب : كأنه لا يعلم شيئا فإن قيل إنه يعلم بعض الأشياء.

(٧) [التين : ٥ ، ٦].

(٨) وهو : سقط من الأصل.

(٩) [التين : ٦].

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠.

(١١) البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(١٢) البيت من بحر الكامل قاله الأعشى ، وهو في ديوانه (٥٤) وتفسير ابن عطية ١١ / ٢٣١ ، القرطبي ١٢ / ١٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٦. ورواية الديوان : سايئا مكان شاحبا ، الشاحب : المتغير اللون لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما. والثوب الهامد : المتقطع من طول طيه ، ينظر إليه الناظر فيحسبه سليما ، فإذا لمسه تناثر قطعا من البلى.

(١٣) في الأصل : التحريك.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣.

(١٥) تقدم.


عمرو في (١) رواية «وربأت» بالهمز (٢) أي ارتفعت. يقال : ربأ بنفسه عن كذا ، أي : ارتفع عنه ، ومنه الربيئة ، وهو من يطلع على موضع عال لينظر للقوم ما يأتيهم ، وهو عين القوم ، ويقال له : ربيء أيضا (٣) قال الشاعر :

٣٧٤٩ ـ بعثنا ربيئا قبل ذلك مخملا

كذئب الغضا يمشي الضّراء ويتّقي (٤)

قوله : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ). فيه وجهان :

أحدهما : أنه صفة للمفعول المحذوف ، تقديره : وأنبتت ألوانا أو (٥) أزواجا من كل زوج (٦).

والثاني : أن (من) زائدة ، أي أنبتت كل زوج ، وهذا ماش عند الكوفيين والأخفش (٧) والبهيج: الحسن الذي يسر (٨) ناظره ، وقد بهج بالضم بهاجة (٩) وبهجة أي حسن وأبهجني كذا أي : سرني بحسنه (١٠).

فصل

المعنى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) يابسة لا نبات فيها ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) المطر «اهتزّت» تحركت بالنبات ، والاهتزاز الحركة على سرور ، وربت أي : ارتفعت وزادت (١١) ، وذلك أن الأرض ترتفع وتنتفخ ، فذلك (١٢) تحركها. وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت (١٣). قال المبرد : أراد اهتزت وربا نباتها فحذف المضاف. والاهتزاز في النبات أظهر يقال : اهتز النبات ، أي : طال ، وإنما أنث لذكر الأرض (١٤).

(وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وهذا مجاز (١٥) لأن الأرض لا تنبت وإنما المنبت هو الله تعالى ، لكنه يضاف إليها توسعا. ومعنى من كل نوع من أنواع النبات والبهجة : حسن

__________________

(١) في ب : من.

(٢) المختصر (٩٤). المحتسب ٢ / ٧٤ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٥٣.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٤) البيت من بحر الطويل قاله امرؤ القيس. وهو في ديوانه (١٧٢) والقرطبي ١٢ / ١٤ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٥٣. المخمل : الذي يخمل نفسه ، أي يسترها ويخفيها. الغضا : شجر ، والعرب تقول : أخبث الذئاب ذئب الغضا ، أي : ما كان منشأه ومأواه الغضا ، الضراء : الشجر الملتف في الوادي : يستر من دخل فيه ، وفلان يمشي الضراء : إذا مشى مستخفيا فيما يواري من الشجر.

(٥) في ب : و.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣.

(٧) في جواز زيادة «من» مطلقا ، أي : أنهم لا يشترطون في زيادتها كونها في سياق النفي ومجرورها نكرة.

انظر التبيان ٢ / ٩٣٣ ، شرح الكافية ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٨) في ب : يس. وهو تحريف.

(٩) في ب : بهاجاة. وهو تحريف.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٥٥.

(١٢) في الأصل : وذلك.

(١٣) في الأصل : معناه وربت أي ارتفعت وزادت.

(١٤) البغوي ٥ / ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(١٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠.


الشيء ونضارته ، ثم إنه تعالى لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما (١) ما هو المطلوب وذلك قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) الآية (٢).

«ذلك» (٣) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ والخبر الجار بعده (٤) ، والمشار إليه ما تقدم من خلق بني آدم وتطويرهم ، والتقدير : ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطويرهم حاصل بأن الله هو الحق وأنه إلى آخره.

الثاني : أن «ذلك» خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك (٥).

الثالث : أن «ذلك» منصوب بفعل مقدر ، أي : فعلنا ذلك بسبب أن الله تعالى هو الحق (٦) فالباء على الأول مرفوعة (٧) المحل ، وعلى الثاني والثالث منصوبة.

قوله : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على المجرور بالباء ، أي : ذلك بأن الساعة.

والثاني : أنه ليس معطوفا عليه ، ولا داخلا في حيز السببية ، وإنما هو خبر (٨) والمبتدأ محذوف لفهم المعنى ، والتقدير (٩) : والأمر أن الساعة آتية (١٠) و (١١)(لا رَيْبَ فِيها) يحتمل أن تكون هذه الجملة خبرا ثانيا ، وأن تكون حالا.

فصل (١٢)

المعنى : ذلك لتعلموا أن الله هو الحق ، والحق هو الموجود الثابت فكأنه تعالى بيّن أن هذه الوجوه المتنافية وتواردها على الأجسام يدل (١٣) على وجود الصانع. (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) وهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء ، فكيف يستبعد منه إعادة الأموات. (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : وأن (١٤) الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يجب اتصافه بهذه (١٥) القدرة لذاته ، ومن كان كذلك كان قادرا على الإعادة. (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) والمعنى : أنه تعالى

__________________

(١) في الأصل : عليها.

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠.

(٣) في ب : ذكر. وهو تحريف.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٣.

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١٣ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٢ ، البيان ٢ / ١٦٩ ، التبيان ٢ / ٩٣٤.

(٦) المراجع السابقة والبحر المحيط ٦ / ٣٥٣.

(٧) في الأصل : مرفوع.

(٨) في ب : الخبر.

(٩) في الأصل : والتقدير أن ذلك.

(١٠) آتية : سقط من ب.

(١١) و : سقط من ب.

(١٢) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠ ـ ١١.

(١٣) يدل : سقط من ب.

(١٤) في الأصل : أن.

(١٥) هذه : سقط من ب.


لما أقام الدلائل على أن الإعادة في نفسها ممكنة ، وأنه سبحانه قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادرا على الإعادة وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه ، فلا بد من القطع بوقوعه.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٠)

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية ، جعل ابن عطية هذه الواو للحال ، فقال : وكأنه (١) يقول هذه الأمثال في غاية الوضوح ، ومن الناس مع ذلك من يجادل (فكان الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف (٢).

قال أبو حيان : ولا يتخيل أن الواو في (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ)) (٣) واو حال ، وعلى تقدير الجملة التي قدرها قبله لو كان مصرحا بها فلا تتقدر ب (إذ) ، فلا تكون للحال ، وإنما هي للعطف (٤). قال شهاب الدين : ومنعه من تقديرها ب (إذ) فيه نظر ، إذ لو قدر لم يلزم منه محذور(٥).

قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يجوز أن يتعلق ب «يجادل» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «يجادل» (٦) أي : يجادل ملتبسا بغير علم ، أي : جاهلا.

قوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) : حال من فاعل «يجادل» أي : معرضا ، وهي إضافة لفظية (٧) نحو «ممطرنا» (٨). والعامة على كسر العين ، وهو الجانب (٩) كني به عن التكبر.

__________________

(١) في ب : وكأن.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٤.

(٣) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٥٤. الواو الداخلة على جملة الحال تسمى واو الحال ، والابتداء ، وليست عاطفة ولا أصلها العطف. وقدرها سيبويه والأقدمون ب «إذ» ، ولا يريدون أنها بمعنى (إذ) إذ لا يرادف الحرف الاسم بل إنها وما بعدها قيد للعامل السابق كما أن (إذ) كذلك. وزعم بعض المتأخرين أنها عاطفة كواو (ربّ) ، قال : وإلا لدخل العاطف عليها ، الهمع ١ / ٢٤٧ ، شرح الأشموني ٢ / ١٨٩.

(٥) الدر المصون : ٥ / ٦٥.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٣٤.

(٧) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢١٦ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١٤ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٢ ، البيان ٢ / ١٧٠ ، التبيان ٢ / ٩٣٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٤.

(٨) من قوله تعالى : «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» [الأحقاف : ٢٤].

والاستشهاد بالآية على أن الإضافة في «ممطرنا» إضافة لفظية ، فهي في تقدير الانفصال أي : ممطر إيانا ، فهو نكرة. التبيان ٢ / ١١٥٧.

(٩) في ب : الحال. وهو تحريف. وذلك أن العطف : المنكب ، وعطفا كل شيء : جانباه. اللسان (عطف).


والحسن بفتح العين (١) ، وهو مصدر بمعنى التعطف ، وصفه بالقسوة.

قوله : «ليضلّ» متعلق إما ب (يُجادِلُ) ، وإما ب (ثانِيَ عِطْفِهِ)(٢) وقرأ العامة بضم الياء في «يضل» والمفعول محذوف أي : ليضل غيره (٣). وقرأ مجاهد وأبو عمرو في رواية بفتحها (٤) ، أي : ليضل هو في نفسه.

قوله : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالا (٥) مقارنة (٦) أي : مستحقا ذلك ، وأن تكون حالا مقدرة (٧) ، وأن تكون مستأنفة (٨). وقرأ زيد بن علي «وأذيقه» بهمزة المتكلم(٩) ، و (عَذابَ الْحَرِيقِ) يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته إذ (١٠) الأصل العذاب الحريق أي : المحرق كالسميع بمعنى المسمع (١١).

فصل

قال أبو مسلم (١٢) : الآية (١٣) الأولى (١٤) واردة في الأتباع المقلدين ، وهذه الآية واردة في المتبعة عن المقلدين ، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعا والآخر متبوع ، وبين ذلك قوله : (وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد وإنما يقال فيمن يخاصم (١٥) بناء على شبهة. فإن قيل : كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلا؟ قلنا : يجادل تصويبا لتقليده ، وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد (١٦). وقيل : إن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحارث ، وهو قول ابن عباس وفائدة التكرير المبالغة في (١٧) الذم ، وأيضا : قد ذكر (١٨)

__________________

(١) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٤ ، الإتحاف (٣١٣).

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣٤.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥. الإتحاف (٣١٣).

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٥٤ ، الإتحاف (٣١٣).

(٥) في الأصل : حال.

(٦) الحال المقارنة : هي المقارنة لعاملها في الزمن. نحو قوله تعالى : «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً»[هود : ٧٢].

المغني ٢ / ٤٦٥.

(٧) الحال المقدرة : هي المستقبلة نحو : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا ذلك ، المغني ٢ / ٤٦٥.

(٨) ذكر هذه الأوجه أبو البقاء. التبيان ٢ / ٩٣٤.

(٩) البحر المحيط ٦ / ٣٥٥.

(١٠) في الأصل : إذا.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٥.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢.

(١٣) في ب : إن الآية.

(١٤) وهي قوله تعالى : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ»[الآية ٣].

(١٥) في الأصل : لا يخاصم. وهو تحريف.

(١٦) في ب : الأصل التقليد.

(١٧) في : سقط من الأصل.

(١٨) في النسختين : قد كرر. والصواب ما أثبته.


في الآية الأولى اتباعه تقليدا بغير حجة ، (وفي الثانية مجادلته في الدين ، وإضلاله غيره بغير حجة) (١).

والأول أقرب لما تقدم. ودلت الآية على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب (٢) حق حسن.

والمراد بالعلم العلم الضروري ، وبالهدى الاستدلال والنظر ؛ لأنه يهدي إلى المعرفة ، وبالكتاب المنير الوحي. والمعنى يجادل من غير مقدمة ضرورية ، ولا نظريّة ولا سمعيّة فهو كقوله تعالى (٣) : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ)(٤) ثم قال (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ثني العطف عبارة عن التكبر والخيلاء (٥) قال مجاهد وقتادة : لاوي عنقه (٦). وقال عطية وابن زيد : معرضا عما يدعى إليه تكبرا (٧). والعطف الجانب وعطفا (٨) الرجل : جانباه عن يمين وشمال ، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي (٩) : يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً)(١٠) وقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ)(١١)(١٢). (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فمن ضم الياء فمعناه : ليضل غيره عن طريق الحق ، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير. ومن فتح الياء فالمعنى : ليضل هو عن دين الله (١٣). (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ)(١٤) عذاب وهوان ، وهو القتل ببدر ، فقتل النضر ، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) ويقال له : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(١٥) والكلام في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ)(١٦) كالكلام في قوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ) وكذا قوله (وَأَنَّ اللهَ) يجوز عطفه على السبب ، ويجوز أن يكون التقدير والأمر أن الله ، فيكون منقطعا عما قبله (١٧).

قوله : «ظلّام» مثال مبالغة. فإن قيل : إذا قلت : إن زيدا ليس بظلام ، لا يلزم منه نفي أصل الظلم ، فإن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.

فالجواب : أن المبالغة إنما جيء بها لتكثير (١٨) محلها فإن العبيد جمع ، وأحسن من

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) في ب : وفي الكتاب.

(٣) تعالى : سقط من الأصل.

(٤) [الحج : ٧١].

(٥) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٥٦.

(٧) المرجع السابق.

(٨) في الأصل : والعطف. وهو تحريف.

(٩) في الأصل : أن. وهو تحريف.

(١٠) [لقمان : ٧].

(١١) [المنافقون : ٥].

(١٢) انظر البغوي ٥ / ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٤ ، ٣٥٥.

(١٤) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٥٧.

(١٥) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٥٧.

(١٦) من الآية (٦) من السورة نفسها.

(١٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٢.

(١٨) في ب : لتكثر.


هذا أن فعّالا هنا للنسب (١) أي : بذي ظلم لا (٢) للمبالغة (٣).

فصل

قالت المعتزلة (٤) : هذه الآية تدل على مطالب :

الأول : دلت على أن العبد إنما وقع في ذلك العذاب بسبب عمله فلو كان فعله خلقا لله تعالى(٥) لكان حين خلقه استحال منه أن لا يتصف به فلا يكون ذلك العقاب (٦) بسبب فعله ، فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك خلاف النص.

الثاني : أن قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يدل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالما بفعل ذلك العذاب ، وهذا يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالما ، وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال لكفر آبائهم.

الثالث : أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادرا عليه خلاف ما يقوله النّظّام ، وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة.

الرابع : أنه لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم ، لأن عندهم صحة نبوة النبي ـ عليه‌السلام (٧) ـ موقوفة على نفي الظلم ، فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم (٨) الدور. وأجاب ابن الخطيب عن الكلّ بالمعارضة بالعلم والداعي (٩).

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)(١٣)

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ)(١٠) الآية.

قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة : نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصحّ بها جسمه ، ونتجت فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما ، وكثر ماله قال : هذا دين حسن ، وقد أصبت فيه خيرا واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه (١١) ، وقلّ ماله قال ما أصبت منذ دخلت هذا الدين إلا شرا فينقلب عن

__________________

(١) في الأصل : للنسبة.

(٢) لا : سقط من ب.

(٣) انظر البحر المحيط ٣ / ١٣١.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢.

(٥) تعالى : سقط من ب.

(٦) في ب : العذاب.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : لزوم. وهو تحريف.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٣.

(١٠) حرف : سقط من ب.

(١١) الرّماك : جمع رمكة ، وهي الفرس والبرذونة التي تتخذ للنسل. اللسان (رمك).


دينه ، وذلك الفتنة ، فأنزل الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ)(١). قال أكثر المفسرين : أي : على شك ، وأصله من حرف الشيء ، وهو طرفه (٢). وقيل : على انحراف ، أو على طرف الدين لا في وسطه كالذي يكون في طرف العسكر إن رأى خيرا ثبت وإلا فرّ (٣). و (عَلى حَرْفٍ) حال من فاعل «يعبد» أي : متزلزلا (٤).

ومعنى (عَلى حَرْفٍ) أي على شك أو على انحراف أو على طرف الدين لا في وسطه.

فصل

لما بين (٥) حال المظهرين للشرك المجادلين فيه أعقبه بذكر المنافقين فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة ، كالذي يكون على طرف العسكر ، فإن أحسن بغنيمة قرّ وإلا فرّ ، وهذا هو المراد بقوله (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ(٦) اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ)(٧).

قال الحسن : هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه ، (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) صحة في جسمه وسعة في معيشته (اطْمَأَنَّ بِهِ) وسكن إليه ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) بلاء في جسده وضيق في معيشته (٨)(انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) ارتد ورجع إلى ما كان عليه من الكفر (٩).

فصل

ذكروا في السبب وجوها :

الأول : ما تقدم (١٠).

والثاني : قال الضحاك : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس ، قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصابنا خير (١١) عرفنا أنه حق ، وإن كان غير ذلك عرفنا أنه باطل (١٢).

الثالث : قال أبو سعيد الخدري : أسلم رجل من اليهود ، فذهب بصره وماله وولده (١٣) ، فقال: يا رسول الله أقلني فإني ما أصبت من ديني هذا خيرا ذهب بصري

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٥٥٧ ـ ٥٥٨ ، أسباب النزول للواحدي (٢٢٧ ـ ٢٢٨) ، الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٥٨.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٤.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٤.

(٦) في ب : خيرا. وهو تحريف.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٤.

(٨) في ب : معيشة.

(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٥٨.

(١٠) هو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة.

(١١) في الأصل : خيرا.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤.

(١٣) في ب : ولده.


ومالي وولدي. فقال عليه‌السلام (١) : «إن الإسلام لا يقال ، إن الإسلام يسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة» ونزلت هذه الآية (٢). وهاهنا إشكال ، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن هذه السور مكيّة إلا ست آيات ذكروها أولها (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) إلى قوله (صِراطِ الْحَمِيدِ)(٣) ولم يعدوا هذه الوقائع (التي ذكروها في سبب نزول هذه الآية مع أنهم يقولون (٤) إن هذه الوقائع) (٥) إنما كانت بالمدينة كما تقدم النقل عنهم. فإن قيل : كيف قال : (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ) والخير أيضا فتنة ، لأنه امتحان. قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(٦).

فالجواب : مثل هذا كثير في اللغة ، لأن النعمة بلاء وابتلاء قال تعالى (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ)(٧) ولكن إنما يطابق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع ، والمنافق ليس عنده الخير إلا (٨) الخير الدنيوي ، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي ، لأنه لا دين له ؛ فلذلك وردت الآية على ما يعتقده (٩). فإن قيل : إذا كانت الآية في المنافق فما معنى (١٠) قوله (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب.

فالجواب (١١) أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره ، فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب على الحقيقة (١٢). فإن قيل : مقابل الخير هو الشر فلما قال (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) كان يجب أن يقول : وإن أصابه شرّ انقلب على وجهه (١٣).

فالجواب : لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى : وإن أصابه شرّ بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح (١٤).

قوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) قرأ العامة «خسر» فعلا ماضيا ، وهو يحتمل ثلاثة أوجه :

الاستئناف (١٥) ، والحالية من فاعل «انقلب» (١٦) ، ولا حاجة إلى إضمار (قد) على الصحيح (١٧).

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه ابن مردويه من طريق عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه. انظر أسباب النزول للواحدي (٢٢٨) ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٤ ، الدر المنثور ٤ / ٣٤٦ ، والكافي الشافي (١١٢).

(٣) من الآية (١٩) إلى الآية (٢٤).

(٤) في ب : يقولوا. وهو تحريف.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) من قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ»[الأنبياء : ٣٥].

(٧) [الفجر : ١٥].

(٨) في الأصل : لأن. وهو تحريف.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤ ـ ١٥.

(١٠) معنى : تكملة من الفخر الرازي.

(١١) في ب : والجواب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥.

(١٣) في ب : عانيه. وهو تحريف.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥.

(١٥) انظر التبيان ٢ / ٩٣٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٥.

(١٦) المرجعان السابقان.

(١٧) وذلك أن جملة الحال إذا كانت مصدرة بفعل ماض مثبت متصرف غير تال ل (إلا) ، أو متلو بأو ، ـ


والبدلية من قوله «انقلب» كما أبدل المضارع من مثله في قوله (يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ)(١).

وقرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن والجحدري في آخرين «خاسر» بصيغة اسم الفاعل منصوب على الحال (٢) ، وهو توكيد كون الماضي في قراءة العامة حالا وقرىء برفعه ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون فاعلا ب «انقلب» ، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر ، أي : انقلب خاسر الدنيا والآخرة ، والأصل : انقلب هو (٣).

الثاني : أنه (٤) خبر مبتدأ محذوف ، أي هو خاسر (٥).

وهذه القراءة تؤيد الاستئناف في قراءة المضي على التخريج الثاني. وحق من قرأ «خاسر» رفعا ونصبا أن يجر «الآخرة» لعطفها على «الدنيا» المجرورة بالإضافة. ويجوز أن يبقى النصب فيها ، إذ يجوز أن تكون الدنيا منصوبة ، وإنما حذف التنوين من «خاسر» لالتقاء الساكنين نحو قوله :

٣٧٥٠ ـ ولا ذاكر الله إلّا قليلا (٦)

فصل

معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ، ولا (٧) يبقى ماله ودمه مصونا ، وأما خسران الآخرة فيفوته الثواب

__________________

ـ فمذهب البصريين غير الأخفش لزوم (قد) مطلقا ظاهرة أو مقدرة فإن كان جامدا أو منفيا فلا ، نحو جاء زيد وما طلعت الشمس بالواو فقط ومذهب الكوفيين والأخفش لزومها مع المرتبط بالواو فقط. وجواز إثباتها وحذفها في المرتبط بالضمير وحده أو بهما معا.

وهو المختار تمسكا بظاهر قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] ، وقوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا) [يوسف : ١٦ ، ١٧]. واختار أبو حيان مذهب الكوفيين والأخفش فإنه قال : والصحيح جواز وقوع الماضي حالا بدون قد ، ولا يحتاج إلى تقديرها للكثرة وورود ذلك ، وتأويل الكثير ضعيف جدا لأنا إنما نبني المقاييس العربية على وجود الكثرة.

انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٥ ، الهمع ١ / ٢٤٧ ، شرح الأشموني ٢ / ١٩١.

(١) [الفرقان : ٦٨ ، ٦٩]. وممن قال بهذا الوجه ابن جني وأبو الفضل الرازي لأنه يجوز بدل الفعل من الفعل. المحتسب ٢ / ٧٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٥.

(٢) المختصر (٦٤) المحتسب ٢ / ٧٥ ، التبيان ٢ / ٩٣٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٥.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٢٧.

(٤) أنه : سقط من الأصل.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٢٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٥.

(٦) عجز بيت من بحر المتقارب قاله أبو الأسود الدؤلي ، وصدره :

فألفيته غير مستعتب

والشاهد فيه حذف التنوين من (ذاكر) ، لالتقاء الساكنين.

(٧) ولا : مكرر في الأصل.


الدائم ، ويحصل له العقاب الدائم ، و (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ)(١).

قوله : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ) إن عصاه ولم يعبده ، (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن أطاعه وعبده ، و (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن الحق والرشد (٢) وهذه الآية تدل على أن الآية الأولى لم ترد في اليهود ؛ لأنهم ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام. والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى الرسول على وجه النفاق (٣).

قوله : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ). فيه عشرة أوجه ، وذلك أنه إما أن يجعل «يدعو» متسلطا على (٤) الجملة من قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) أو لا ، فإن (٥) جعلناه متسلطا عليها كان فيه سبعة أوجه :

الأول : أنّ «يدعو» بمعنى يقول ، واللام للابتداء و «من» موصولة في محل رفع بالابتداء ، و «ضره» (٦) مبتدأ ثان ، و «أقرب» خبره ، وهذه الجملة صلة للموصول ، وخبر الموصول محذوف تقديره : يقول (٧) للذي ضره أقرب من نفعه : إله ، أو إلهي ، ونحو ذلك ، والجملة كلها في محل نصب ب «يدعو» لأنه بمعنى يقول ، فهي محكية به. وهذا قول أبي الحسن (٨) وعلى (هذا فيكون قوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) مستأنفا ليس داخلا في المحكي قبله ، لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك (٩)) (١٠). (ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى) (١١) إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنّ ضرّها أقرب من نفعها البتة (١٢).

الثاني : أنّ «يدعو» مشبه بأفعال القلوب ، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاد وأفعال القلوب تعلق ف «يدعو» معلق أيضا باللام ، و (لَمَنْ) مبتدأ موصول ، والجملة بعدة صلة ، وخبره (١٣) محذوف على ما مر في الوجه قبله ، والجملة في محل نصب كما يكون كذلك بعد أفعال القلوب (١٤).

الثالث : أن يضم ن «يدعو» معنى يزعم ، فتعلق كما تعلق ، والمعنى (١٥). والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله (١٦).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٥٨.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥.

(٤) على : مكرر في الأصل.

(٥) في ب : وإن.

(٦) في ب : وضر.

(٧) في الأصل : ويقول.

(٨) انظر معاني القرآن للأخفش ٢ / ٦٣٥ ـ ٦٣٦ ، وانظر أيضا معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١٦ مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٣ ، البيان ٢ / ١٧٠ ، التبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(١٠) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(١٣) في ب : وجره. وهو تحريف.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(١٥) والمعنى : سقط من ب.

(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.


الرابع : أنّ الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها ، فاللام معلقة ل «يدعو» وهو مذهب يونس (١) ، فالجملة بعده والكلام (٢) فيها كما تقدم.

الخامس : أن «يدعو» بمعنى يسمي ، فتكون اللام مزيدة في (٣) المفعول (٤) الأول ، وهو الموصول وصلته ، ويكون المفعول الثاني محذوفا تقديره : يسمي (٥) الذي ضره أقرب من نفعه إلها ومعبودا ونحو ذلك (٦).

السادس : أن اللام مزالة (٧) من موضعها ، والأصل : يدعو من لضره أقرب ، فقدمت من تأخر. وهذا قول الفراء (٨). ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول (٩).

السابع : أن اللازم زائدة في المفعول به (١٠) وهو «من» التقدير : يدعو من ضره أقرب ، ف «من» موصولة (١١) والجملة بعدها صلتها ، والموصول هو المفعول (١٢) ب «يدعو» زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله : (رَدِفَ لَكُمْ)(١٣) في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العاملفرعا أو تقدم المفعول. وقرأ عبد الله «يدعو من ضره» بغير لام الابتداء ، وهي مؤيدة (١٤) لهذا الوجه (١٥). وإن لم نجعله متسلطا على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أن «يدعو» الثاني توكيد ل «يدعو» الأول (١٦) فلا معمول له ، كأنه قيل : (يدعو يدعو) (١٧) من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه ، فعلى هذا تكون (١٨) الجملة من قوله (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ) معترضة بين المؤكد والمؤكد ، لأن فيها تشديدا وتأكيدا ، ويكون

__________________

(١) سبق أن ذكرنا مذهب يونس في أن التعليق غير مختص بأفعال القلوب ، بل يكون فيها وفي غيرها.

(٢) في ب : الكلام.

(٣) في ب : و.

(٤) في الأصل : الأفعال.

(٥) في ب : ويسمى.

(٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(٧) في ب : من آلة. وهو تحريف.

(٨) معاني القرآن ٢ / ٢١٧ ، ونسب مكي هذا الوجه في مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٣ إلى الكسائي وانظر أيضا البيان ٢ / ١٧٠ ، والتبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٧.

(١٠) به : سقط من الأصل.

(١١) في الأصل : موصول.

(١٢) هو المفعول : سقط من الأصل.

(١٣) من قوله تعالى : «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» [النمل : ٧٢]. والاستدلال بالآية على أن اللام في قوله «لكم» زائدة في المفعول به ، ويجوز أن لا تكون اللام زائدة ويجعل الفعل على معنى دنا لكم ، أو قرب من أجلكم والفاعل بعض. المغني ١ / ٢١٥ ، التبيان ٢ / ١٠١٣.

(١٤) في الأصل : وهو مئيد. وهو تحريف.

(١٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٧.

(١٦) [الحج : ١٢] «يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ».

(١٧) ما بين القوسين في ب : يدعو.

(١٨) في ب : وعلى هذا فتكون.


قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) كلاما مستأنفا ، فتكون اللام للابتداء ، و «من» موصولة ، و «ضره» مبتدأ ، و «أقرب» خبره ، والجملة صلة ، و «لبئس» جواب قسم مقدر ، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو الموصول (١).

الثاني : أن يجعل «ذلك» موصولا بمعنى (٢) الذي ، و «هو» مبتدأ ، و «الضلال» خبره ، والجملة صلة له (٣) ، وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولا ب «يدعو» ، أي : يدعو الذي هو الضلال (٤) وهذا منقول عن أبي علي الفارسي (٥).

وليس هذا ماش على رأي البصريين إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا «ذا» بشروط تقدم ذكرها. (وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقا) (٦) أن تكون موصولة (٧) ، وعلى هذا فيكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ) مستأنفا على ما تقدم.

الثالث : أن يجعل «ذلك» مبتدأ و «هو» جوزوا فيه أن يكون بدلا أو فصلا أو مبتدأ ، و «الضلال» خبر «ذلك» أو خبر «هو» (٨) على حسب الخلاف في «هو» و «يدعو» حال ، والعائد منه محذوف تقديره : يدعوه وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال ب (مدعوّا) (٩)(١٠).

قال أبو البقاء : وهو ضعيف (١١) ، ولم يبين وجه ضعفه.

وكأن وجهه أن «يدعو» مبني للفاعل فلا يناسب أن يقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول بل المناسب أن يقدر اسم فاعل ، فكان ينبغي أن يقدروه داعيا ، ولو كان التركيب يدعى مبنيا للمفعول لحسن تقديرهم : مدعو (١٢) ، ألا ترى أنك إذا قلت : جاء زيد

__________________

(١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢١٨. الكشاف ٣ / ٢٧ ، البيان ٢ / ١٧٠ ، التبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(٢) في ب : يعني.

(٣) في الأصل بعد قوله : والجملة صلة له : و «لَبِئْسَ» جواب قسم مقدر وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ «الذي» ، يبدو أن هذا سهو من الناسخ فهذا الكلام موجود في الوجه الأول.

(٤) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١٦ ، التبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(٦) ما بين القوسين مكرر في ب مع زيادة تقدم ذكرها.

(٧) تقدم الحديث عن مذهب البصريين والكوفيين في استعمال أسماء الإشارة موصولة عند الحديث عن قوله تعالى : «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» [طه : ١٧].

(٨) في ب : هن. وهو تحريف.

(٩) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤١٥ ـ ٤١٦ ، التبيان ٢ / ٩٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(١٠) ما بين القوسين في ب : بيدعو. وهو تحريف.

(١١) التبيان ٢ / ٩٣٥.

(١٢) في ب : يدعو. وهو تحريف.


يضرب ، كيف يقدرونه بضارب لا بمضروب (١).

فصل (٢)

اختلفوا في المراد بقوله : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.) فقيل : المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم ، لأنه يصح منهم أن يضروا ، ويؤيد (٣) هذا أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم ، وهذه الآية تقتضي (٤) كون المذكور (٥) فيها ضارا نافعا ، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض.

وقيل المراد الأوثان ، ثم أجابوا عن التناقض بوجوه :

أحدها : أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ، ولكن عبادتها سبب (٦) الضرر ، وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله (٧) تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ (٨) النَّاسِ)(٩) فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سببا للضلال ، فكذلك هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى ، بمعنى كونها فاعلة ، وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر.

وثانيها : كأنه سبحانه بيّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية : ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكن ضرها أكثر من نفعها.

وثالثها : أن الكفار إذ أنصفوا (١٠) علموا أنه لا يحصل منها لا نفع ولا ضرر في الدنيا ، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها ، فكأنهم (١١) يقولون لها في الآخرة إن ضركم أعظم من نفعكم.

قوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) المولى هو الناصر ، والعشير الصاحب والمعاشر.

والمخصوص بالذم محذوف تقديره : لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو. واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق ، لأنه لا يكاد يستعمل في الأوثان (١٢) ، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله الذي هو خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء بقوله تعالى (١٣) : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) والمراد ذم ما انتصروا بهم (١٤).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٦.

(٢) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٧.

(٣) في ب : ويؤيدوا. وهو تحريف.

(٤) في ب : مقتضى. وهو تحريف.

(٥) في ب : المذكورين.

(٦) في ب : بب. وهو تحريف.

(٧) في ب : لقوله.

(٨) في ب : ومن. وهو تحريف.

(٩) [إبراهيم : ٣٦].

(١٠) أنصفوا : سقط من ب.

(١١) في ب : وكأنهم.

(١٢) في ب : يستعمل الأوثان. وهو تحريف.

(١٣) تعالى : سقط من الأصل.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨.


قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)(١٦)

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. لما بين في الآية السالفة حال عباده المنافقين وحال معبودهم ، وأن معبودهم لا ينفع ولا يضر بين هاهنا صفة عباده المؤمنين وصفة معبودهم ، وأن عبادتهم حقيقة ، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة ، التي من كمالها جمعها بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار ، وبين أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ) (٢). واحتج أهل السنة في خلق الأفعال بقوله : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) قالوا : أجمعنا على أنه تعالى يريد الإيمان ، ولفظة «ما» للعموم فوجب أن يكون فاعلا للإيمان لقوله : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

وأجاب عنه الكعبي بأن الله تعالى يفعل ما يريد أن يفعله (لا ما يريد أن يفعله) (٣) غيره.

وأجيب : بأن هذا تقييد للعموم وهو خلاف النص (٤).

قوله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ). «من» يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر (٥) ، وأن تكون موصولة ، والضمير في «ينصره» الظاهر عوده على «من» ، وفسر النصر بالرزق (٦) ، وقيل (٧) يعود على الدين والإسلام فالنصر على بابه (٨).

قال ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء (٩) والزجاج(١٠): أن الضمير في «ينصره» يرجع إلى محمد ـ عليه‌السلام (١١) ـ يريد أن من ظن أن لن ينصر (١٢) الله محمدا في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته ، والانتقام ممن كذبه ، والرسول ـ عليه‌السلام (١١) ـ وإن لم يجر له ذكر في هذه

__________________

(١) من قوله تعالى : «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» [النساء : ١٧٣].

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦. بتصرف يسير.

(٣) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦.

(٥) وجواب الشرط قوله : «فَلْيَمْدُدْ» التبيان ٢ / ٩٣٥.

(٦) وكان الظاهر عود الضمير على «من» لأنه المذكور ، وحق الضمير أن يعود على المذكور. الفخر الرازي ٢٣ / ١٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٧.

(٧) في ب : فصل.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٨.

(٩) معاني القرآن ٢ / ٢١٨.

(١٠) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١٧.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في ب : ينصره. وهو تحريف.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.


الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله (١) : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)، والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله (٢).

قوله : (فَلْيَمْدُدْ) إما جزاء للشرط ، أو خبر للموصول ، والفاء للتشبيه بالشرط. والجمهور على كسر اللام من (لْيَقْطَعْ) ، وسكنها بعضهم كما يسكنها بعد الفاء والواو لكونهن عواطف (٣) ، ولذلك أجروا (ثُمَّ) مجراهما في تسكين هاء (هو) و (هي) بعدها (٤) ، وهي قراءة الكسائي ونافع في رواية قالون عنه (٥).

قوله : (هَلْ يُذْهِبَنَ) الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافض ، لأن النظر تعلق بالاستفهام ، وإذا كان بمعنى الفكر تعدى ب (فِي)(٦).

وقوله : (ما يَغِيظُ) «ما» موصولة بمعنى الذي ، والعائد هو الضمير المستتر ، و «ما» وصلتها مفعول بقوله : «يذهبن» أي : هل يذهبن كيده الشيء الذي يغيظه ، فالمرفوع في «يغيظه» عائد على الذي والمنصوب على (مَنْ كانَ يَظُنُّ). وقال أبو حيان : و «ما» في (ما يَغِيظُ) بمعنى الذي والعائد محذوف أو مصدرية (٧). قال شهاب الدين : كلا هذين القولين لا يصح ، أما قوله : العائد محذوف فليس كذلك بل هو مضمر مستتر في حكم الموجود كما تقدم تقريره قبل ذلك ، وإنما يقال: محذوف فيما كان منصوب المحل أو مجروره (٨) ، وأما قوله : أو مصدرية فليس كذلك أيضا ، إذ لو كانت مصدرية لكانت حرفا على الصحيح ، وإذا كانت حرفا لم يعد عليها ضمير وإذا لم يعد عليها ضمير بقي الفعل بلا فاعل ، فإن قلت : أضمر (٩) في (يَغِيظُ) ضميرا فاعلا يعود على (مَنْ كانَ يَظُنُّ).

__________________

(١) في قوله : سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦ ـ ١٧.

(٣) في الأصل : عواطفا.

(٤) انظر السبعة (١٥١ ـ ١٥٢) ، الكشف ١ / ٢٣٤.

(٥) السبعة (٤٣٤ ـ ٤٣٥) ، الكشف ٢ / ١١٦ ـ ١١٧ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٤ ، وحركة لام الطلب الكسرة ، وسليم تفتحها طلبا للخفة ، ويجوز تسكينها بعد الفاء والواو وثم ، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها نحو قوله تعالى : «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي» [البقرة : ١٨٦] وإسكانها بعد «ثُمَّ» قليل ، وإسكان اللام بعد هذه الحروف يجري مجرى إسكان الهاء من (هو) ، و (هي) بعدها فإسكانها أكثر من تحريكها بعد الفاء والواو ، وقليل بعد «ثُمَّ» انظر شرح المفصل ٣ / ٩٨ ، الهمع ٢ / ٥٥ ، وشرح الأشموني ٤١٤.

(٦) وقال أبو البقاء : (و «هَلْ يُذْهِبَنَّ» في موضع نصب ب «ينظر» التبيان ٢ / ٩٣٧.

(٧) البحر المحيط ٦ / ٣٥٨.

(٨) وذلك أن العائد المرفوع لا يجوز حذفه إلا بشرطين أحدهما : أن يكون مبتدأ غير منسوخ ، وثانيهما : أن يكون خبره مفردا. والعائد هنا فاعل فلا يجوز أن يطلق عليه بأنه محذوف وإنما هو مضمر. واشترط البصريون أيضا في حذف العائد المرفوع في غير صلة (أي) استطالة الصلة ، والكوفيون لا يشترطون ذلك. شرح التصريح ١ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٩) في ب : الضمير. وهو تحريف.


فالجواب : أن من كان يظن في المعنى مغيظ (١) لا غائظ. وهذا بحث حسن (٢).

فصل (٣)

المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ، والسبب الحبل ، والسماء سقف البيت هذا قول الأكثرين ، أي : ليشدد حبلا في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ، ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق.

وقيل : سمي الاختناق قطعا. وقيل : ليقطع ، أي : ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) صنيعه وحيلته ، أي : هل يذهبن كيده وحيلته غيظه. والمعنى : فليختنق غيظا حتى يموت ، وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعل لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت ، ولكنه كما يقال للحاسد إذا لم ترض بهذا فاختنق ومت غيظا. وقا ابن زيد : المراد من السماء : السماء المعروفة. ومعنى الآية : من كان يظن أن لا ينصر الله نبيه ، ويكيد في أمره ليقطعه عنه ، فليقطعه من أصله ، فإن أصله من السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل.

فصل

روي أن هذه (٤) الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الإسلام ، وكان بينهم وبين اليهود حلف ، وقالوا : لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود فلا يميروننا ولا يؤووننا (٥) فنزلت هذه الآية وقال مجاهد : النصر يعني الرزق ، والهاء راجعة إلى «من» ومعناه من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة. نزلت فيمن أساء الظن بالله ـ عزوجل (٦) ـ وخاف أن لا يرزقه (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي : سماء البيت ، (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ) فعله ذلك ما يغيظ وهو خيفة (٧) أن لا يرزق. وقد يأتي النصر بمعنى الرزق تقول العرب : من ينصرني نصره الله ، أي من يعطيني أعطاه الله (٨). قال أبو عبيدة (٩) : تقول العرب : أرض منصورة ، أي : ممطورة (١٠) وعلى (١١) كل الوجوه فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه.

__________________

(١) في ب : يغيظ. وهو تحريف.

(٢) الدر المصون : ٥ / ٦٧.

(٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٦٠ بتصرف يسير.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٦٠ ـ ٥٦١.

(٥) في ب : ولا يؤذننا. وهو تحريف.

(٦) في ب : تعالى.

(٧) في الأصل : خنقه. وفي ب : صفة. والتصويب من البغوي.

(٨) اللسان (نصر).

(٩) في ب : أبو عبيد.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٦٠ ـ ٥٦١.

(١١) في الأصل : على.


قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) الكاف إما حال من ضمير المصدر المقدر ، وإما نعت لمصدر محذوف على حسب ما تقدم من الخلاف ، أي : ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ)(١) ف (آياتٍ) حال.

قوله : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي) يجوز في «أن» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها منصوبة المحل ، عطفا على مفعول (أَنْزَلْناهُ) ، أي (٢) : وأنزلنا أن الله يهدي من يريد ، أي : أنزلنا هداية الله لمن يريد هدايته (٣).

الثاني : أنها على حذف حرف الجر ، وذلك الحرف متعلق بمحذوف والتقدير (٤) : ولأن الله يهدي من يريد أنزلناه ، فيجيء في موضعها القولان المشهوران أفي محل نصب هي أم جر؟ وإلى هذا ذهب الزمخشري ، وقال في تقديره : ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون أنزله كذلك مبينا (٥).

الثالث : أنها في محل رفع خبرا لمبتدأ مضمر تقديره : والأمر أن الله يهدي من يريد (٦).

فصل (٧)

قال أهل السنة : المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة ، أما الأول فغير جائز ؛ لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ، ولأن قوله : (يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي متعلقة بمشيئته سبحانه ، ووضع الأدلة عند الخصم واجب ، فيبقى أن المراد منه خلق المعرفة. قال القاضي عبد الجبار في الاعتذار : هذا (٨) يحتمل وجوها :

أحدها : يكلف من يريد لأن من كلف أحدا شيئا فقد وصفه له وبينه.

وثانيها : أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإنابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا.

وثالثها : أن يكون المراد أن الله يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا هدي ثبت على إيمانه كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً)(٩). وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله : إن الله يهدي من قبل لا من لم (١٠) يقبل ، والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي.

وأجيب عن الأول بأن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة ، وعن الثاني ، من الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف ، وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان ،

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٨.

(٢) أي : سقط من ب.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٤٦.

(٤) والتقدير : سقط من ب.

(٥) الكشاف ٣ / ٢٨ ، وانظر أيضا التبيان ٢ / ٩٣٦. (١٠) لم : تكملة من الفخر الرازي.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٥٨.

(٧) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٨.

(٨) في ب : هل. وهو تحريف.

(٩) [محمد : ١٧].

(١٠) لم : تكلمة من الفخر الرازي.


لأنهما عند الخصم واجبان على الله ، وقوله : (يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) يقتضي عدم الوجوب.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)(١٨)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. لما قال : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه. واعلم أن (إن) الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبرا ل «أن» الأولى (١) قال الزمخشري (٢) : وأدخلت «إنّ» على كل واحد من جزأي الجملة لزيادة التأكيد ونحوه قول جرير :

٣٧٥١ ـ إنّ الخليفة إنّ الله سربله

سربال ملك به ترجى الخواتيم (٣)

قال أبو حيان : وظاهر هذا أنه شبه (٤) البيت بالآية ، وكذلك قرنه الزجاج (٥) بالآية ، ولا يتعين أن يكون البيت كالآية ، لأن البيت يحتمل أن يكون (إن الخليفة) (٦) خبره (به ترجى الخواتيم) ويكون (إنّ (٧) الله سربله) جملة اعتراض بين اسم (إنّ) وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ)(٨) وحسن دخول «إن» على الجملة الواقعة خبرا لطول الفصل بينهما بالمعاطيف (٩). قال شهاب الدين : قوله : فإنه يتعين قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ)(١٠) يعني أن يكون خبرا. ليس كذلك ، لأن الآية محتملة لوجهين آخرين ذكرهما الناس :

__________________

(١) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ١٧١ ، التبيان ٢ / ٩٣٦.

(٢) الكشاف ٣ / ٢٨.

(٣) البيت من بحر البسيط قاله جرير ، اللسان (ختم) ، وقد تقدم.

(٤) في ب : أشبه.

(٥) قال الزجاج : (وخبر «إن» الأولى جملة الكلام مع «إن» الثانية. وقد زعم قوم أن قولك : إن زيدا إنه قائم. رديء. وأن هذه الآية إنما صلحت في الذي. ولا فرق بين الذي وغيره في باب (إن) ، إن قلت : إن زيدا إنه قائم كان جيدا ، ومثله قول الشاعر :

إنّ الخليفة إنّ الله سربله .. البيت

وليس بين البصريين خلاف في أن «إن» تدخل على كل ابتداء وخبر ، تقول : إن زيدا هو قائم ، وإن زيدا إنه قائم) معاني للقرآن وإعرابه ٣ / ٤١٧ ـ ٤١٨.

(٦) في ب : أن يكون كالخليفة. وهو تحريف.

(٧) إنّ سقط من ب.

(٨) أي : يتعين أن يكون خبرا.

(٩) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٠) في ب : «إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ».


الأول : أن يكون الخبر محذوفا تقديره : يفترقون (١) يوم القيامة ونحوه ، والمذكور تفسير (٢) له كذا ذكره أبو البقاء (٣).

والثاني : أن «إن» الثانية تكرير (٤) للأولى على سبيل التوكيد (٥) ، وهذا ماش على القاعدة وهو أن الحرف إذا كرر توكيدا أعيد معه ما اتصل به أو ضمير ما اتصل به (٦) ، وهذا قد أعيد معه ما اتصل به أولا ، وهي الجلالة المعظمة فلم يتعين أن يكون قوله (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) خبرا ل «إنّ» الأولى(٧) كما ذكر (٨). واختلف العلماء في المجوس ، فقيل : قوم يعبدون النار ، وقيل : الشمس والقمر وقيل : اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح (٩) ، وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود (١٠) شيئا ، وهم القائلون بأن للعالم أصلان ، نور وظلمة ، وقيل هم قوم يستعملون النجاسات ، والأصل : نجوس ـ بالنون ـ فأبدلت ميما (١١).

ومعنى (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يحكم بينهم ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : عالم (١٢) بما يستحقه كل منهم ، فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف (١٣).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ) الآية. قيل المراد بهذه الرؤية العلم ، أي : ألم تعلم (١٤) ، وقيل : ألم تر بقلبك (١٥). والمراد بالسجود : قال الزجاج (١٦) : أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والأرض (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(١٧) ، (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١٨)(وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(١٩) ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ

__________________

(١) في ب : يعترفون. وهو تحريف.

(٢) في ب : يفسر. وهو تحريف.

(٣) التبيان ٢ / ٩٣٦. وانظر أيضا البيان ٢ / ١٧١.

(٤) في ب : تكرار.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٣٦.

(٦) إذا كان المؤكد حرفا غير جواب عاملا أو غيره لم يعد اختبارا إلا مع ما دخل عليه إن كان مضمرا نحو قوله تعالى : «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ»[المؤمنون : ٣٥]. وإن كان ظاهرا يعاد هو أو ضميره نحو إن زيدا إن زيدا فاضل أو إن زيدا إنه فاضل ، ولا بد من الفصل بين الحرفين كما سبق ، وشذ اتصالهما كقوله :

إنّ إنّ الكريم يحلم ما لم

يرين من أجاره قد ضيما

الهمع ٢ / ١٢٥ ، شرح الأشموني ٣ / ٨٢ ـ ٨٣.

(٧) في ب : الأول.

(٨) أي : كما ذكر أبو حيان.

(٩) في ب : المنسوخ. وهو تحريف. والمسوح : جمع المسح ، وهو الكساء من الشعر. اللسان (مسح).

(١٠) في ب : من اليهود.

(١١) الدر المصون : ٥ / ٦٧.

(١٢) عالم : سقط من ب.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.

(١٥) انظر القرطبي ١٢ / ٢٤.

(١٦) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١٨ ـ ٤١٩. بتصرف ، والنص بلفظه من الفخر الرازي.

(١٧) [فصلت : ١١].

(١٨) من قوله تعالى : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [يس : ٨٢].

(١٩) من قوله تعالى : «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ»[البقرة : ٧٤].


بحمده» (١) ، (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ)(٢). والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود (٣).

فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله تعالى (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير فائدة.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر ، فهذا الشخص ، وإن كان ساجدا بذاته لا يكون ساجدا بظاهره ، وأما المؤمن فإن ساجد (٤) بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.

وثانيها : أن نقطع قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) عما قبله ، ثم فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أن تقدير الآية : ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد ، والثاني بمعنى العبادة ، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعا.

الثاني : أن يكون قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب ، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ).

والثالث : أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب ، فيعطف «كثير» على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب.

وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة ، وفي حق الجمادات الانقياد (ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد (٥)) (٦) فإن قيل : قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عام فيدخل فيه الناس ، فلم قال (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مرة أخرى؟

فالجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيرا منهم يسجد طوعا دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك ، وهم الذين حق عليهم العذاب (٧) وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل ،

__________________

(١) [الإسراء : ٤٤].

(٢) من قوله تعالى : «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ» [الأنبياء : ٧٩].

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.

(٤) في ب : ساجدا. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠ ـ ٢١.


بمعنى كونها معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه ، وعلى هذا تأولوا قوله : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١) (٢).

وقال مجاهد : إنّ سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى : (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ) (٤). وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه (٥).

قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). فيه (٦) أوجه :

أحدها (٧) : أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره : ويسجد له كثير من الناس (٨) ، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه ، و (٩) الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما (١٠) في المعنى ، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية والإذعان لأمره ، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة.

الثاني : أنه معطوف على (ما تقدمه (١١)) (١٢) وفي ذلك ثلاث تأويلات (١٣) :

أحدها : أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل (١٤) العقلاء وغيرهم ، وهو الخضوع والطواعية ، وهو من باب الاشتراك المعنوي.

والتأويل الثاني : أنه مشترك اشتراكا لفظيا ، ويجوز استعمال المشترك في معنييه.

والتأويل الثالث : أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز ، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول.

الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون «كثير» مرفوعا (١٥) بالابتداء ، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) كذا قدره الزمخشري (١٦) ، وقدره أبو البقاء مطيعون أو (١٧) مثابون أو نحو ذلك (١٨).

__________________

(١) [الإسراء : ٤٤].

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١.

(٣) [النحل : ٤٨].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٦٢ ، القرطبي ١٢ / ٢٤.

(٦) في ب : وفيه.

(٧) في ب : أحدهما. وهو تحريف.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(٩) في ب : أو.

(١٠) في ب : إليها.

(١١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٢) في ب : على مقدمه.

(١٣) في ب : أوجه تأويلات.

(١٤) في ب : كل.

(١٥) في ب : كثيرا مرفوعا. وهو تحريف.

(١٦) الكشاف ٣ / ٢٨.

(١٧) أو : سقط من ب.

(١٨) التبيان ٢ / ٩٣٧. وانظر هذا الوجه أيضا في البيان ٢ / ١٧١ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٥٩.


الرابع : أن يرتفع «كثير» على الابتداء أيضا ويكون خبره (مِنَ النَّاسِ) أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة ، وهم الصالحون والمتقون (١).

الخامس : أن يرتفع بالابتداء أيضا ويبالغ في تكثير المحقوقين (٢) بالعذاب فيعطف «كثير» على «كثير» ثم يخبر عنهم ب (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم (٣).

قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال (٤) : وهذان التخريجان ضعيفان (٥). (ولم يبين وجه ضعفهما) (٦). قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك ، وأما الثاني فقد يظهر ، وذلك أن التكرير (٧) يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف ، وقوله :

٣٧٥٢ ـ لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم (٨)(٩)

وقرأ الزّهري «والدواب» مخفف الباء (١٠) ، قال أبو البقاء : ووجهها أنّه حذف الباء الأولى كراهية التّضعيف والجمع بين ساكنين (١١). وقرأ جناح بن حبيش : «وكبير» بالباء الموحدة (١٢).

وقرىء «وكثير حقا» بالنصب (١٣) ، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب حقا ، و «العذاب» مرفوع بالفاعلية. وقرىء «حقّ» مبنيا للمفعول (١٤). وقال ابن عطية : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم أي : وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره (١٥). فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا (١٦) أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره مبتدأ وخبره قوله : يسجد.

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٨.

(٢) في ب : المحققين. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٨.

(٤) في ب : وقال.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(٦) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٧) في ب : التكرار.

(٨) صدر بيت من بحر بسيط ، وعجزه :

ميتا وأبعدهم عن منزل الذّام

قاله عصام بن عبيد الزماني ، وهو شاعر جاهلي ، ونسبه الجاحظ إلى همام الرقاشي ، وهو في البيان والتبيين ٢ / ٣١٦ ، ٣ / ٣٠٢ ، ٤ / ٨٥ ، المقرب (٣٩٤) الخزانة ٧ / ٤٧٣.

الذّام : لغة في الذم ـ بتشديد الميم ـ وهو العيب. والشاهد فيه أن التكرير يفيد التكثير ، إذ المراد : لو عدت القبور قبرا قبرا.

(٩) الدر المصون ٥ / ٦٨.

(١٠) المحتسب ٢ / ٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١١) التبيان ٢ / ٣٩٦.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٣) المختصر (٩٤) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٤٦.

(١٦) في ب : إلا.


فصل (١)

قال ابن عباس في رواية عطاء : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) يوحده ، (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ممن لا يوحده ، وروي عنه أنه قال : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) في الجنة. وهذه الرواية تؤكد أن قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مبتدأ وخبره محذوف. وقال آخرون الوقف على قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم استأنف بواو الاستئناف فقال : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ).

(وأما قوله تعالى (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب) (٢) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم (٣) مكرما لهم. ثم بين بقوله (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.

قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(٢٤)

قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) الآية. لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ، ومنهم من حق عليه العذاب ذكر هاهنا كيفية اختصامهم. والخصم : في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبا ، وعليه قوله تعالى (نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا)(٤).

ويجوز أن يثنى ويجمع ويؤنث ، وعليه هذه الآية. ولما كان كل خصم فريقا يجمع طائفة قال (اخْتَصَمُوا) بصيغة الجمع كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)(٥) فالجمع مراعاة للمعنى(٦) وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما» (٧) مراعاة للفظ وهي مخالفة للسواد. وقال أبو البقاء : وأكثر الاستعمال توحيده فيمن ثناه (٨) وجمعه حمله على الصفات والأسماء. و (اخْتَصَمُوا) إنما جمع حملا على المعنى لأن كل خصم (٩) تحته أشخاص (١٠).

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢١.

(٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٣) في ب : عليهم. وهو تحريف.

(٤) في ب : تور. وهو تحريف. من قوله تعالى : «وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ» [ص : ٢١].

(٥) [الحجرات : ٩].

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٧) المرجع السابق.

(٨) في ب : ثنى. وهو تحريف.

(٩) في الأصل : شخص. وهو تحريف.

(١٠) التبيان ٢ / ٩٣٧.


وقال الزمخشري : الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق ، فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان يختصمان ، وقوله : «هذان» للفظ ، و (اخْتَصَمُوا) للمعنى ، كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا)(١) ، ولو قيل : هؤلاء خصمان أو (٢) اختصما جاز أن يراد المؤمنون والكافرون (٣). قال شهاب الدين : إن عنى بقوله : أن (٤) خصما صفة بطريق الاستعمال المجازي فمسلم ، لأن المصدر يكثر الوصف به ، وإن أراد أنه صفة حقيقية فخطأه ظاهر لتصريحهم بأن نحو رجل خصم مثل رجل عدل(٥) ، وقوله : «هذان» للفظ (٦). أي : إنما أشير إليهم إشارة المثنى ، وإن كان في الحقيقة المراد الجمع باعتبار لفظ الفوجين والفريقين ونحوهما. وقوله : كقوله (٧) : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ) إلى آخره فيه نظر ، لأن في تيك الآية تقدم شيء له لفظ ومعنى وهو «من» ، وهنا لم يتقدم شيء له لفظ ومعنى(٨).

وقوله تعالى : (فِي رَبِّهِمْ) أي : في دين ربهم (٩) ، ، فلا بد من حذف مضاف أي جادلوا في دينه وأمره. وقرأ الكسائي في رواية عنه «خصمان» بكسر الخاء (١٠). واحتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله (١١) : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا.) وأجيب بأن المعنى جمع كما تقدم (١٢).

فصل (١٣)

اختلفوا في تفسير الخصمين ، فقيل : المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم ، وطائفة الكفار وجماعتهم ، وأن كل الكفار يدخلون في ذلك ، قال ابن عاس : رجع أهل الأديان الستة (فِي رَبِّهِمْ) أي في ذاته وصفاته. وقيل : إنّ أهل الكتاب قالوا : نحن أحق بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تكتمونه ، وكفرتم به حسدا ، فهذه خصومتهم فى ربهم. وقيل : هو ما روى قيس بن عباد (١٤) عن أبي ذر الغفاري (١٥)

__________________

(١) [محمد : ١٦].

(٢) في ب : و.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٩.

(٤) أن : سقط من ب.

(٥) في ب : عد. وهو تحريف.

(٦) في ب : اللفظ. وهو تحريف.

(٧) في النسختين : كقولهم. والصواب ما أثبته.

(٨) الدر المصون : ٥ / ٦٨.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٢٩ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٠) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١١) بقوله : سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢.

(١٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢.

(١٤) هو قيس بن عباد ، القيسي الضبعي أبو عبد الله البصري ، مخضرم ، عن عمر وعلي وعمار ، وعنه ابنه عبد الله ، والحسن البصري وابن سيرين. مات سنة ٨٠ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٣٥٧.

(١٥) هو جندب بن جنادة ، أبو ذر الغفاري ، أحد النجباء ، عنه ابن عباس ، وأنس والأحنف وأبو عثمان ـ


أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن المغيرة. وقال علي ـ رضي الله عنه ـ أنا أول من يجثو (١) للخصومة بين يدي الله (٢). وقال عكرمة : هما الجنة والنار.

قالت النار : خلقني الله لعقوبته ، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله على محمد خبرهما. والأقرب هو الأول ؛ لأن السبب وإن كان خاصا فالواجب حمل الكلام على ظاهره.

وقوله : «هذان» (٣) كالإشارة إلى ما تقدم ذكره ، وهم الأديان الستة المذكورون في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٤).

وأيضا ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب ، فوجب رجوع ذلك إليهما ، فمن خص به مشركي العرب واليهود من حيث قالوا في نبيهم وكتابهم (٥) ما حكينا فقد أخطأ ، وهذا هو الذي يدل على أن قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ)(٦) أراد به الحكم ، لأن ذلك التخاصم يقتضي أن الواقع بعده حكما (٧). فبين تعالى حكمه في الكفار ، وذكر من أحوالهم ثلاثة أمور :

أحدها : قوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) ، وهذه الجملة تفصيل (٨) وبيان لفصل الخصومة المعني (٩) بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ)(١٠) قاله الزمخشري (١١).

وعلى هذا فيكون (هذانِ خَصْمانِ) معترضا ، والجملة من (اخْتَصَمُوا) حالية وليست مؤكدة لأنها أخص من مطلق الخصومة المفهومة من (خَصْمانِ) وقرأ الزعفراني في اختياره «قطعت» مخفف الطاء (١٢) ، والقراءة المشهورة تفيد التكثير وهذه تحتمله. والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) (١٤) ، وقال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب (١٥). وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار.

__________________

ـ النهدي وغيرهم. مات سنة ٣٢ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣ / ٣١٥.

(١) جثا يجثو ويجثي جثوا وجثيا ، على فعول فيهما : جلس على ركبتيه للخصومة ونحوها ، اللسان (جثا).

(٢) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦١ ، وانظر الدر المنثور ٤ / ٣٤٨.

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(٤) [الحج : ١٧].

(٥) في ب : وكتابنا. وهو تحريف.

(٦) [الحجّ : ١٧].

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(٨) في ب : تفصل. وهو تحريف.

(٩) في ب : لمعنى. وهو تحريف.

(١٠) [الحجّ : ١٧].

(١١) الكشاف ٣ / ٢٩.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٣) [الأعراف : ٤١].

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(١٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.


قوله : (يُصَبُّ) هذه الجملة تحتمل أن تكون خبرا ثانيا للموصول ، وأن تكون حالا من الضمير في «لهم» ، وأن تكون مستأنفة (١). والحميم الماء الحار الذي انتهت حرارته ، قال ابن عباس : لو قطرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها (٢).

قوله : (يُصْهَرُ)(٣) جملة حالية من الحميم (٤) ، والصهر (٥) الإذابة ، يقال : صهرت الشحم ، أي : أذبته ، والصهارة الألية المذابة (٦) ، وصهرته الشمس : أذابته بحرارتها ، قال :

٣٧٥٣ ـ تصهره الشّمس ولا ينصهر (٧)

وسمي الصّهر صهرا لامتزاجه بأصهاره تخيلا لشدة المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين «يصهر» بفتح الصاد وتشديد الهاء (٨) مبالغة وتكثيرا لذلك ، والمعنى : أن الحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم يذيب ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء (٩).

قوله : (وَالْجُلُودُ) فيه وجهان :

أظهرهما : عطفه على «ما» الموصولة ، أي : يذيب الذي في بطونهم من الأمعاء ، ويذاب أيضا الجلود ، أي يذاب ظاهرهم وباطنهم (١٠).

والثاني : أنه مرفوع بفعل مقدر أي : يحرق الجلود (١١).

قالوا : لأن الجلد لا يذاب إنما ينقبض وينكمش إذا صلي (١٢) بالنار ، وهو في التقدير كقوله :

٣٧٥٤ ـ علفتها تبنا (وماء باردا) (١٣) (١٤)

__________________

(١) هذه الأوجه الثلاثة ذكرها أبو البقاء. التبيان ٢ / ٩٣٧.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٣) في ب : يصهر به.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٧.

(٥) في ب : والضمير. وهو تحريف.

(٦) اللسان (صهر) البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(٧) عجز بيت من بحر السريع قاله ابن أحمر يصف فرخ قطاة ، وصدره :

تروي لقى ألقي في صفصف

وهو في مجاز القرآن ٢ / ٤٨ ، المنصف ٣ / ٩٢ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٢٤٩ ، القرطبي ١٢ / ٢٧ اللسان (صهر ـ لقى) ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(٨) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠ ، الإتحاف (٣١٤).

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(١٠) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٤ ، البيان ٢ / ١٧١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٢) في ب : صل.

(١٣) صدر بيت من الرجز قاله ذو الرمة وعجزه :

حتّى شتت همّالة عيناها

وقد تقدم.

(١٤) ما بين القوسين في ب : وما ردا.


٣٧٥٥ ـ وزجّجن الحواجب والعيونا (١)

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ)(٢) فإنه على تقدير : وسقيتها ماء ، وكحلن العيون ، واعتقدوا الإيمان. قوله : (وَلَهُمْ مَقامِعُ)(٣) يجوز في هذا الضمير وجهان :

أظهرهما : أنه يعود على (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وفي اللام حينئذ قولان :

أحدهما : أنها للاستحقاق. والثاني : أنها بمعنى (على) كقوله : (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ)(٤) وليس بشيء.

والوجه (٥) الثاني : أن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم (٦) ، ودل عليهم سياق الكلام ، وفيه بعد. (مِنْ حَدِيدٍ) صفة ل (مَقامِعُ) ، وهي مقمعة بكسر الميم ، لأنها آلة القمع (٧) ، يقال: قمعه يقمعه : إذا ضربه بشيء يزجره به ، ويذله ، والمقمعة : المطرقة ، وقيل : السوط ، أي : سياط من حديد ، وفي الحديث «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان (ما أقلوها» (٨))(٩).

قوله : (كُلَّما أَرادُوا). «كلّ» نصب على الظرف ، وتقدم الكلام في تحقيقها في البقرة (١٠) ، والعامل فيها هنا قوله : (أُعِيدُوا)(١١). و (مِنْ غَمٍّ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه بدل من الضمير في «منها» (١٢) بإعادة العامل بدل اشتمال (١٣) كقوله :

__________________

(١) عجز بيت من بحر الوافر قاله الراعي النميري ، وصدره :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وهو في الخصائص ٢ / ٤٣٢ ، الإنصاف ٢ / ٦١٠ ، المغني ٢ / ٣٥٧ ، شذور الذهب ٢٤٢ ، المقاصد النحوية ٣ / ٩١ ، ٤ / ١٩٣ ، شرح التصريح ١ / ٣٤٦ ، الهمع ٢ / ١٣٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٥ ، الأشموني ٢ / ١٤٠ ، حاشية يس على التصريح ١ / ٣٤٢ ، الدرر ٢ / ١٦٩.

(٢) [الحشر : ٩].

(٣) في ب : ولهم مقامع من حديد.

(٤) من قوله تعالى : «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» [غافر : ٥٢].

(٥) في الأصل : الوجه.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٧) وذلك أن (مفاعل) وزن يشبه (فعالل) وهو جمع لكل ما بدىء بميم زائدة كأسماء المكان والزمان والآلة ، وأمثلة المبالغة التي يستوي فيها المذكر والمؤنث ، نحو مهذار ، ومعطير ومطعن ، ومنشار ، ومسجد ، ومجلس. التبيان في تصريف الأسماء : (١٦١).

(٨) أخرجه ابن مردويه والحاكم وصححه البيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري. الدر المنثور ٤ / ٣٥٠.

(٩) ما بين القوسين في ب : ما أقاموها.

(١٠) عند قوله تعالى : «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» [البقرة : ٢٠].

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٣٧.

(١٢) في النسختين : فيها. والصواب ما أثبته.

(١٣) انظر البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.


(لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ)(١) ، ولكن لا بد في بدل الاشتمال من رابط ، فقالوا : هو مقدر تقديره : من غمها (٢).

والثاني : أنه مفعول له (٣) ، ولما نقص شرط من شروط النصب جر بحرف السبب (٤). وذلك الشرط هو عدم اتحاد الفاعل ، فإن فاعل الخروج غير فاعل الغم ، فإن الغم من النار والخروج من الكفار(٥). واعلم (٦) أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، والمعنى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها. ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن : أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا (٧).

قوله : (وَذُوقُوا) منصوب بقول مقدر معطوف على (أُعِيدُوا) أي : وقيل لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)(٨) ، أي : المحرق مثل الأليم والوجيع. قال الزجاج : هو لأحد الخصمين ، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)(٩).

قوله : (يُحَلَّوْنَ) العامة على ضم الياء وفتح اللام مشددة من حلاه يحلّيه إذا ألبسه الحليّ (١٠). وقرىء بسكون الحاء وفتح اللام مخففة (١١) ، وهو بمعنى الأول كأنهم عدوه تارة بالتضعيف وتارة بالهمزة. قال أبو البقاء : من قولك : أحلي أي : ألبس الحلي (١٢) هو بمعنى المشدد.

وقرأ ابن عباس بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة (١٣) ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه من حليت المرأة تحلى فهي حال ، وكذلك حلي الرجل فهو حال ، إذا لبسا الحلي (أو صارا ذوي حلي (١٤)) (١٥).

__________________

(١) [الزخرف : ٣٣]. والاستدلال بالآية على أن قوله : «لِبُيُوتِهِمْ» * بدل من «لمن» بإعادة الجار ، وهو بدل اشتمال. البيان ٢ / ٣٥٣.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٤) في ب : النسب. وهو تحريف.

(٥) ذكرنا شروط المفعول له عند قوله تعالى :«إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى» [طه : ٣].

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٣٧.

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١٩.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١١) المرجعان السابقان.

(١٢) التبيان ٢ / ٩٣٨.

(١٣) المختصر ٩٤ ـ ٩٥ ، المحتسب ٢ / ٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٥) ما بين القوسين في ب : وصار ذوا حليّ.


الثاني : أنه من حلي بعيني كذا يحلى إذا استحسنه ، و «من» مزيدة في قوله (مِنْ أَساوِرَ) قال (١) : فيكون المعنى : يستحسنون فيها الأساور الملبوسة (٢) ولما نقل أبو حيان هذا الوجه عن أبي الفضل الرازي قال : وهذا ليس بجيد ، لأنه جعل حلي (٣) فعلا متعديا ، ولذلك حكم بزيادة (من) في الواجب وليس مذهب البصريين (٤) ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز ، لأنه لا يحفظ بهذا المعنى إلا لازما ، فإن كان بهذا المعنى كانت «من» للسبب ، أي بلباس أساور الذهب يحلّون بعين من رآهم أي يحلى بعضهم بعين بعض (٥).

وهذا الذي نقله عن أبي الفضل قاله أبو البقاء ، وجوز في مفعول الفعل وجها آخر فقال : ويجوز أن يكون من حلي بعيني كذا إذا حسن ، وتكون «من» مزيدة ، أو يكون المفعول محذوفا و (مِنْ أَساوِرَ) نعت له (٦). فقد حكم عليه بالتعدي ليس إلا ، وجوز في المفعول الوجهين المذكورين (٧).

والثالث : أنه من حلي بكذا إذا ظفر به ، فيكون التقدير : يحلّون بأساور ، و «من» بمعنى الباء (٨) ، ومن مجيء حلي بمعنى ظفر قولهم : لم يحل فلان بطائل أي : لم يظفر به (٩).

واعلم أن حلي بمعنى لبس الحلي (١٠) أو بمعنى ظفر من مادة الياء لأنها من الحلية وأما (١١) حلي بعيني كذا ، فإنه من مادة الواو ؛ لأنه من الحلاوة ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (١٢).

قوله : (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ). في من الأولى ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها زائدة كما تقدم تقريره عن الرازي وأبي البقاء ، وإن لم يكن من أصول البصريين(١٣).

الثاني : أنها للتبعيض أي : بعض أساور.

الثالث : أنها لبيان الجنس قاله ابن عطية ، وبه بدأ (١٤) وفيه نظر ، إذ لم يتقدم شيء

__________________

(١) أي أبو الفضل الرازي. البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٢) في الأصل : ملبوسة.

(٣) حلي : سقط من ب.

(٤) والأخفش والكوفيون يجوزون زيادة (من) في الواجب.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٦) التبيان ٢ / ٩٣٨.

(٧) وهما كون «من» مزيدة في المفعول ، وهذا الوجه غير جائز على مذهب البصريين ، لأن «من» لا تكون مزيدة عندهم في الواجب ، وكون المفعول محذوفا.

(٨) قاله أبو الفضل الرازي البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٩) اللسان (حلا).

(١٠) في ب : الحلية.

(١١) في الأصل : وما.

(١٢) انظر المحتسب ٢ / ٧٧ ، اللسان (حلا).

(١٣) عند توجيه قراءة ابن عباس لقوله تعالى : «يُحَلَّوْنَ» بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة.

(١٤) فإنه قال : (و «من» في قوله تعالى : «مِنْ أَساوِرَ» هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥١.


مبهم (١) وفي (مِنْ ذَهَبٍ) لابتداء الغاية ، وهي نعت لأساور (٢). كما تقدم.

وقرأ ابن عباس «من أسور» دون ألف ولا هاء (٣) ، وهو محذوف من (أَساوِرَ) كما قالوا : جندل والأصل جنادل. قال أبو حيان : وكان قياسه صرفه ، لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنعه الصرف (٤). قال شهاب الدين : فقد جعل التنوين في جندل المقصور من جنادل تنوين صرف (٥) ، وقد نصّ بعض النحاة على أنه تنوين عوض (٦) ، كهو في جوار وغواش وبابهما (٧) والأساور جمع سوار.

قوله : (وَلُؤْلُؤاً)(٨) قرأ نافع وعاصم بالنصب ، والباقون بالخفض (٩). فأما النصب ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل تقديره : ويؤتون لؤلؤا ، ولم يذكر الزمخشري غيره (١٠) ، وكذا أبو الفتح حمله على إضمار فعل (١١).

الثاني : أنه منصوب نسقا على موضع (مِنْ أَساوِرَ) وهذا كتخريجهم (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب عطفا على محل (بِرُؤُسِكُمْ)(١٢) ، ولأن (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) في قوة : يلبسون أساور ، فحمل هذا عليه (١٣).

الثالث : أنه عطف على (أَساوِرَ) ، لأن «من» مزيدة فيها كما تقدم.

الرابع : أنه معطوف على ذلك المفعول المحذوف ، التقدير يحلون فيها الملبوس من أساور ولؤلؤا ف (لُؤْلُؤاً)(١٤) عطف على الملبوس.

__________________

(١) في ب : منهم. وهو تحريف.

(٢) في الأصل : ومن نعت الأساور. وهو تحريف.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : تنوين من الصرف. وهو تحريف.

(٦) قال سيبويه : (ويقول بعضهم : جندل وذلذل ، يحذف ألف جنادل وذلاذل ، وينونون يجعلونه عوضا من هذا المحذوف) الكتاب ٣ / ٢٢٨.

(٧) الدر المصون ٥ / ٦٩.

(٨) في الأصل : لؤلؤ.

(٩) السبعة (٤٣٥) ، الكشف ٢ / ١١٧ ـ ١١٨ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٤.

(١٠) قال الزمخشري :(«وَلُؤْلُؤاً» بالنصب على ويؤتون لؤلؤا) الكشاف ٣ / ٢٩.

(١١) قال ابن جني : (هو محمول على فعل يدل عليه قوله : «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ» أي : يؤتون لؤلؤا ، ويلبسون لؤلؤا) المحتسب ٢ / ٧٨ ، وانظر أيضا البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٣٨.

(١٢) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»[المائدة : ٦]. وقرأ بنصب «وأرجلكم» نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم. السبعة (٢٤٢ ـ ٢٤٣).

(١٣) انظر البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١ ، الإتحاف (٣١٤).

(١٤) في ب : ف «لؤلؤ».


وأما الجر فعلى وجهين :

أحدهما : عطفه على (أَساوِرَ)(١).

والثاني : عطفه على (مِنْ ذَهَبٍ) ، (لأنّ السوار يتخذ من اللؤلؤ أيضا بنظم بعضه إلى بعض(٢). فقد منع أبو البقاء أن يعطف على (ذَهَبٍ)) (٣). قال : لأنّ السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة (٤). قال شهاب الدين : بل قد يتخذ منه في العادة السوار (٥).

واختلف الناس في رسم هذه اللفظة في الإمام فنقل الأصمعي أنها في الإمام «لؤلؤ» بغير ألف بعد الواو (٦). ونقل الجحدري أنها ثابتة في الإمام بعد الواو (٧) وهذا الخلاف بعينه قراءة وتوجيها جار (٨) في حرف فاطر أيضا (٩). وقرأ أبو بكر في رواية المعلى (١٠) بن منصور (١١) عنه «لؤلوا» بهمزة أولا وواو آخرا وفي رواية يحيى عنه عكس ذلك (١٢).

وقرأ الفياض (١٣) «ولوليا» بواو أولا وياء آخرا (١٤) ، والأصل (لُؤْلُؤاً) أبدل الهمزتين واوين ، فبقي في آخر الاسم واو بعد ضمة ، ففعل فيها ما فعل بأدل جمع دلو بأن قلبت الواو ياء والضمة كسرة(١٥).

__________________

(١) انظر الكشف ٢ / ١١٨ ، التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١ ، الإتحاف (٣١٤).

(٢) انظر البيان ٢ / ١٧٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) التبيان ٢ / ٩٣٨.

(٥) الدر المصون : ٥ / ٦٩.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٧) المرجعان السابقان.

(٨) في ب : جاز.

(٩) وهو قوله تعالى : «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ»

[فاطر : ٣٣]. السبعة (٥٣٤ ـ ٥٣٥.

(١٠) وفي ب بعد قوله : في رواية المعلى : قال البغوي : واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه ، فقال أبو عمرو : أثبتوها كما أثبتوا في قالوا وكانوا ، وقال الكسائي : أثبتوها للهمزة لأن الهمزة حرف من الحروف.

(١١) هو معلى بن منصور الحنفي الرازي ، أبو يعلى الحافظ الفقيه ، عن مالك والليث وغيرهما ، وعنه عبد الله بن أبي شيبة وابن المديني وغيرهما ، مات سنة ٢٢٣ ه‍ خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣ / ٤٦.

(١٢) السبعة (٤٣٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(١٣) لعله فياض بن غزوان الضبي الكوفي. وقد تقدم.

(١٤) المختصر (٩٥) البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(١٥) وذلك أن أصل : لوليا «لُؤْلُؤاً» فقلبت الهمزة الأولى والثانية واوا ، لأنّ الهمزة إذا كانت ساكنة أو مفتوحة وقبلها مضموم فأردت أن تخفف أبدلت مكانها واوا ، كقولك في الجؤنة ، والبوس : الجونة والبوس ، وفي الجؤن جون. ثم قلبت الواو الثانية ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة ؛ لأنه ليس في العربية اسم معرب آخره واو قبلها ضمة أصلية ، ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء وذلك كما قلبت الواو في (أدل) جمع (دلو) ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة فإن أصل (أدل) أدلو ، ثم قلبت الضمة كسرة ، ثم أعلّ (أدلي) إعلال قاض ، فصار (أدل). الكتاب ٣ / ٥٤٣ ، شرح الملوكي ٤٦٧ ـ ٤٧١.


وقرأ ابن عباس «وليليا» بياءين فعل ما فعل الفياض ثم أتبع الواو الأولى للثانية (١) في القلب (٢) وقرأ طلحة «ولول» (٣) بالجر عطفا على المجرور قبله (٤) ، وقد تقدم (٥) ، والأصل ولولو (٦) بواوين ثم أعل إعلال أدل (٧). واللؤلؤ قيل : كبار الجوهر ، وقيل : صغاره (٨).

قوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم والمعنى أنه تعالى يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم (٩) في الدنيا. قال عليه‌السلام (١٠) «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» (١١).

قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ.) يجوز أن يكون (مِنَ الْقَوْلِ) حالا من (الطَّيِّبِ) ، وأن يكون حالا من الضمير المستكن فيه (١٢). و «من» للتبعيض أو للبيان.

قال ابن عباس (١٣) : الطيب من القول : شهادة أن لا إله إلا الله ، ويؤيد هذا قوله : (مَثَلاً (١٤) كَلِمَةً طَيِّبَةً)(١٥) وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)(١٦). وهو صراط الحميد ، لقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٧) وقال ابن زيد : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله. وقال السدي : هو القرآن. وقال ابن عباس في رواية عطاء : هو قول أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ)(١٨). (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) إلى

__________________

(١) في ب : الثانية.

(٢) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٣) في ب : ولو. وهو تحريف.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٥) عند توجيه قراءة من قرأ من الجمهور بالخفض.

(٦) في ب : ولولوا. وهو تحريف.

(٧) أي : أن أصل (ولول) «لؤلؤ» فقلبت الهمزتان واوا ، لما تقدم عند توجيهه قراءة الفياض ، ثم قلبت الواو الثانية ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة ، ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء ، فاستثقل اجتماع التنوين مع الياء فحذفت الياء ، فصار (ولول) ، كما في أدل جمه دلو.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٢.

(٩) عليهم : سقط من ب.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه البخاري (لباس) ٤ / ٣١ ، مسلم (لباس) ٣ / ١٦٤١ ـ ١٦٤٢ ، ١٦٤٥ ، الترمذي (أدب) ٥ / ١٢٢ ، ابن ماجه (لباس) ٢ / ١١٨٧ ، أحمد ١ / ٢٠ ، ٢٦ ، ٣٧ ، ٣٩ ، ٢ / ١٦٦ ، ٣ / ٢٣ ، ١٠١ ، ٢٨١ ، ٤ / ٥ ، ١٥٦.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣٨.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٦٨.

(١٤) في النسختين : مثل. وهو تحريف.

(١٥) من قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ»[إبراهيم : ٢٤].

(١٦) من قوله تعالى : «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»[فاطر : ١٠].

(١٧) [الشورى : ٥٢].

(١٨) [الزمر : ٧٤].


دين الله وهو الإسلام ، و (الْحَمِيدِ) هو الله المحمود في أفعاله (١).

قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية. لما فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد (٢).

قال ابن عباس : نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عام (٣) الحديبية عن المسجد الحرام وعن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي ، فكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قتالهم وهو محرم ، ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل (٤).

قوله : (وَيَصُدُّونَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه معطوف على ما قبله ، وحينئذ ففي عطفه على الماضي ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنّ المضارع قد لا يقصد به الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يراد به مجرد الاستمرار ، فكأنه قيل : إنّ الذين كفروا ومن شأنهم الصدّ عن سبيل الله ، ومثله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) (٥)(٦).

الثاني : أنه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي (٧).

الثالث : أنه على بابه فإن الماضي قبله مؤول بالمستقبل (٨).

الوجه الثاني : أنه حال من فاعل «كفروا» ، وبه (٩) بدأ أبو البقاء (١٠). وهو فاسد ظاهرا ، لأنه (١١) مضارع مثبت وما (١٢) كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول ، فلا يحمل عليه القرآن (١٣). وعلى هذين القولين فالخبر محذوف ، واختلفوا

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٦٨.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٣) في الأصل : سنة.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٥) من قوله تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» [الرعد : ٢٨].

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٧) انظر البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٨.

(٩) في ب : به.

(١٠) فإنه قال : (قوله تعالى : «وَيَصُدُّونَ»حال من الفاعل في «كفروا» التبيان ٢ / ٩٣٨.

(١١) لأنه : سقط من الأصل.

(١٢) في ب : ما.

(١٣) ذكرت في سورة مريم الصور التي يمتنع اقتران واو الحال بها.


في موضع تقديره ، فقدره ابن عطية بعد قوله : (وَالْبادِ) أي : إن الذين كفروا خسروا أو أهلكوا ، ونحو ذلك (١).

وقدره الزمخشري بعد قوله : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم ، وإنما قدره (٢) كذلك ؛ لأن قوله : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) يدل عليه (٣). إلا أن أبا حيان في تقدير الزمخشري بعد (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : لا يصح ، قال : لأن «الذي» صفة للمسجد الحرام ، فموضع التقدير هو بعد (وَالْبادِ)(٤). يعني أنه يلزم (٥) من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو خبر «إن» فيصير التركيب : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم الذي جعلناه للناس.

وللزمخشري أن ينفصل عن هذا الاعتراض بأن (الَّذِي جَعَلْناهُ) لا نسلم أنه نعت للمسجد (٦) حتى يلزم ما ذكر بل نجعله مقطوعا عنه نصبا أو رفعا (٧). ثم قال أبو حيان : لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية ، لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك (٨).

الوجه الثالث : أن الواو في (وَيَصُدُّونَ) مزيدة في خبر «إن» تقديره : إن الذين كفروا (يصدون) (٩)(١٠). وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه (١١). وقال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود (١٢). قال شهاب الدين : ولا أدري فساد المعنى من أي جهة ألا ترى لو صرح بقولنا : (إن الذين كفروا يصدون) لم يكن فيه فساد معنى ، فالمانع إنما هو أمر صناعي عند أهل البصرة لا معنوي ، اللهم إلا أن يريد معنى خاصا يفسد بهذا التقدير فيحتاج إلى بيانه (١٣).

قوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ) يجوز جره على النعت والبيان ، والنصب بإضمار فعل ،

__________________

(١) قال ابن عطية : (وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله : «وَالْبادِ» ، تقديره : خسروا أو هلكوا) ١٠ / ٢٥٤.

(٢) في ب : قدر.

(٣) قال الزمخشري : (وخبر «إن» محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم) الكشاف ٣ / ٣٠.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٥) في الأصل : لم يلزم. وهو تحريف.

(٦) في ب : المسجد.

(٧) ويكون بالنصب مفعولا به لفعل محذوف ، وبالرفع خبرا لمبتدأ محذوف.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٥ ، البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(١٠) ما بين القوسين في النسختين : ويصدون. والصواب ما أثبته.

(١١) انظر الإنصاف ٢ / ٤٥٦ ـ ٤٦٢ شرح المفصل ٨ / ٩٣ ـ ٩٤ ، شرح الكافية ٢ / ٣٦٨ ، والمغني ٢ / ٣٦٢.

(١٢) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٤.

(١٣) الدر المصون ٥ / ٦٧.


والرفع بإضمار مبتدأ. والجعل يجوز أن يتعدى لا ثنين بمعنى صير ، وأن يتعدى لواحد. والعامة على رفع «سواء». وقرأ حفص عن عاصم بالنصب هنا (١) ، وفي الجاثية (سَواءً (٢) مَحْياهُمْ)(٢) وافقه على الذي في الجاثية الأخوان (٣) وسيأتي توجيهه. فأما على قراءة الرفع ، فإن قلنا : إن «جعل» بمعنى (صير) كان في المفعول الثاني ثلاثة أوجه :

أظهرها (٤) : أن الجملة من قوله : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ) هي المفعول الثاني (٥) ، ثم الأحسن في رفع «سواء» أن يكون خبرا مقدما ، و (الْعاكِفُ) ، والبادي مبتدأ مؤخر ، وإنما وحد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين ، لأن «سواء» في الأصل مصدر (٦) وصف به ، وقد تقدم أول البقرة (٧). وأجاز بعضهم أن يكون «سواء» مبتدأ ، وما بعده الخبر (٨) ، وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوغ ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة (٩) جعلت المعرفة المبتدأ. وعلى هذا الوجه أعني كون الجملة مفعولا ثانيا فقوله : «للناس» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق بالجعل ، أي : جعلناه لأجل الناس كذا.

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «جعلناه» ، ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجه غير ذلك (١٠) ، وليس معناه متضحا.

الوجه الثاني : أن «للناس» هو المفعول الثاني ، والجملة من قوله : (سَواءً الْعاكِفُ) في محل نصب على الحال ، إما من الموصول وإما من عائده وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء (١١) ، وفيه نظر ؛ لأنه جعل هذه الجملة التي هي محط الفائدة فضلة.

__________________

(١) السبعة : (٤٣٥) ، الكشف ٣ / ١١٨ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٨٣١٤

(٢) من قوله تعالى : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» [الجاثية : ٢١].

(٣) حمزة والكسائي. السبعة (٥٩٥) ، الكشف ٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، النشر ٢ / ٣٧٢.

(٤) في ب : أظهرهما. وهو تحريف.

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٠ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٥ ، الكشاف ٣ / ٣٠ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٦) في ب : مقدر. وهو تحريف.

(٧) عند قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» [البقرة : ٦].

(٨) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٤.

(٩) في ب : نكرة ومعرفة.

(١٠) فإنه قال : (والوجه الثاني : أن يكون «للناس» حالا ، والجملة بعده في موضع المفعول الثاني) التبيان ٢ / ٩٣٩.

(١١) فإنه قال : (و «جعلناه» : يتعدى إلى مفعولين ، فالضمير هو الأول ، وفي الثاني ثلاثة أوجه : أحدهما : «للناس» ، وقوله تعالى «سواء» خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ ، والجملة حال إما من الضمير الذي هو الهاأ أو من الضمير في الجار) التبيان ٢ / ٩٣٩.


الوجه الثالث : أن المفعول الثاني محذوف. قال ابن عطية : المعنى الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبدا(١). فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه. إلا أن أبا حيان قال : ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان (٢) أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ ؛ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير (٣) وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله : «للناس» متعلقا بالجعل على الغلبة وجوز فيه أبو البقاء وجهين آخرين :

أحدهما : أنه حال من مفعول «جعلناه».

والثاني : أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر (٤).

وهذا الثاني لا يتعقل كيف يكون «للناس» مفعولا عدي إليه الفعل بالحرف هذا ما لا يعقل ، فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة. وأما على قراءة حفص فإن قلنا : «جعل» يتعدى لا ثنين كان «سواء» مفعولا ثانيا (٥). وإن قلنا : يتعدى لواحد كان حالا من هاء «جعلناه» (٦) وعلى التقديرين ف «العاكف» مرفوع به على الفاعلية ؛ لأنه مصدر وصف به ، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق ، تقديره : جعلناه مستويا فيه العاكف ، ويدل عليه قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، فهو (٧) تأكيد للضمير المستتر فيه ، والعدم نسق على الضمير المستتر ؛ ولذلك ارتفع (٨) ، ويروى : سواء والعدم ؛ بدون تأكيد وهو شاذ (٩) وقرأ الأعمش وجماعة «سواء» نصبا «العاكف» جرا (١٠) ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من الناس بدل تفصيل (١١).

__________________

(١) ابن عطية ١٠ / ٢٥٤. وفيه : أو متعبدا.

(٢) في ب : قال. وهو تحريف.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٩.

(٥) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٩٣ ، الكشاف ٣ / ٣٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٤ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٦) انظر الكشف ٢ / ١١٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٤ ، البيان ٢ / ١٧٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٧) في الأصل : وهو.

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٥ ـ ٩٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٩) من جهة أنه لا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المرفوع المتصل إلا بعد تأكيده بالضمير المنفصل ، أو أي فاصل آخر ، خلافا للكوفيين في إجازتهم العطف عليه بلا فاصل. قال سيبويه : (وأما قوله : مررت برجل سواء والعدم ، فهو قبيح حتى تقول : هو والعدم ؛ لأن في سواء اسما مضمرا مرفوعا ، كما تقول : مررت بقوم عرب أجمعون فارتفع أجمعون على مضمر في عرب بالنية ، فهي هنا معطوفة على المضمر وليست بمنزلة أبي عشرة ، فإن تكلمت به على قبحه رفعت (العدم) ، وإن جعلته مبتدأ رفعت سواء) الكتاب ٢ / ٣١. وانظر الهمع ٢ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(١١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٦ ، البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.


والثاني : أنه عطف بيان ، فهذا (١) أراد ابن عطية بقوله (٢) : عطفا على الناس (٣).

ويمتنع في هذه القراءة رفع «سواء» لفساده صناعة (٤) ومعنى (٥) ، ولذلك قال أبو البقاء : و «سواء» على هذا نصب لا غير (٦). وأثبت ابن كثير ياء «والبادي» وقفا وو صلا (٧). وأثبتها أبو عمرو وو رش وصلا وحذفاها وقفا. وحذفها الباقون وصلا وو قفا ، وهي محذوفة في الإمام (٨).

فصل

معنى الكلام : ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال : (وُضِعَ لِلنَّاسِ)(٩) وتقدم الكلام على معنى «سواء» باختلاف القراءة.

وأراد ب (الْعاكِفُ)(١٠) المقيم فيه ، و «البادي» الطارى من البدو ، وهو النازع (١١) إليه من غربته (١٢). وقال بعضهم : يدخل في «العاكف» الغريب إذا جاور ولزمه كالبعيد وإن لم يكن من أهله. واختلفوا في معنى «سواء» فقال ابن عباس في بعض الروآيات : إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها ، فليس أحدهما أحق بالنزول الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون أحدهما سبق إلى المنزل ، وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ، ومن مذهب هؤلاء تحريم كراء (١٣) دور مكة وبيعها ، واستدلوا بالآية والخبر أما الآية فهذه ، قالوا : إن أرض مكة لا تملك ، فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والباد ، فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد. وأما الخبر فقوله عليه‌السلام (١٤) : «مكة مناخ لمن سبق إليه» (١٥)

__________________

(١) في ب : وهذا.

(٢) في ب : لقوله.

(٣) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٥.

(٤) في الأصل : وصناعة. وهو تحريف.

(٥) أي : أنه يلزم نصب «سواء» على قراءة خفص «الْعاكِفُ» ؛ لأنه لو رفع «سواء» مع خفض «الْعاكِفُ» فأعرب «سواء» مبتدأ لا يوجد له خبر وإذا أعرب خبرا فأين المبتدأ.

(٦) التبيان ٢ / ٩٣٩.

(٧) في ب : وصلا وو قفا.

(٨) السبعة (٤٣٦) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٥. الإتحاف ٣١٤.

(٩) من قوله تعالى : «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» [آل عمران : ٩٦].

البغوي ٥ / ٥٦٩.

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(١١) في ب : الفارغ. وهو تحريف.

(١٢) في ب : غربة.

(١٣) الكراء : أجر المستأجر ، والكراء ممدود ، لأنه مصدر كاريت ، والدليل على ذلك أنك تقول رجل هكار ، ومفاعل إنما هو من فاعلت ، وهو من ذوات الواو لأنك تقول أعطيت الكري كروته بالكسر.

اللسان (كرا).

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) أخرجه الترمذي (حج) ٣ / ٢١٩ ، ابن ماجه (مناسك) ٢ / ٧٣ ، أحمد ٦ / ١٨٧ ، ٢٠٧. بروآية (منى).


وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبي حنفية وإسحاق الحنظلي (١)(٢).

وقال عبد الرحمن بن سابط (٣) : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة أحق بمنزله منهم (٤). وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم (١٦) وعلى هذا فالمراد ب (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الحرم كله ؛ لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام وإرادة البلد (٥) الحرام جائز لقوله (٦) تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(٧). وأيضا فقوله: (الْعاكِفُ) المراد منه المقيم ، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل (٨). وقيل : «سواء العاكف فيه والبادي» في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، أي ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ، قال عليه‌السلام (٩) : «يا بني عبد المطلب من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طائف بهذا البيت أو صلى أية ساعة من ليل أو نهار» (١٠) وهذا قول من أجاز بيع دور مكة(١١).

وقد جرت مناظرة (١٢) بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة وكان إسحاق لا يرخص في كراء بيوت مكة ، فاحتج الشافعي بقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)(١٣).

فأضاف الديار إلى مالكيها (١٤) أو إلى غير مالكيها (١٠). وقال عليه‌السلام (١٥) يوم فتح مكة : «من أغلق بابه فهو آمن» (١٦) ، وقوله عليه‌السلام (١١) : «هل ترك لنا عقيل من رباع» (١٧). وقد اشترى عمر بن الخطاب دار السجن ، أترى أنه اشتراها من مالكيها (١٨) أو من غير مالكيها (١٨).

__________________

(١) إسحاق الحنظلي. هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن مطر الحنظلي أبو محمد بن راهويه ، الإمام الفقيه الحافظ ، عن معتمر بن سليمان والدراوردي وابن عيينة وابن علية وغيرهم مات سنة ٢٣٨ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٦٩.

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(٣) تقدم.

(٤) انظر البغوي ٥ / ٥٧٠.

(٥) في الأصل : المسجد. وهو تحريف.

(٦) في الأصل : بقوله.

(٧) [الإسراء : ١].

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) أخرجه أحمد في مسنده ٤ / ٨٠ ، بروآية : (يا بني عبد مناف).

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(١٣) من قوله تعالى : «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ»[الحج : ٤٠].

(١٤) في ب : مالكها.

(١٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٦) أخرجه مسلم (جهاد) ٣ / ١٤٠٨ ، أحمد ٢ / ٢٩٢ ، ٥٣٨.

(١٧) روي عن أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة فقال : «وهل ترك لنا عقيل من رباع». انظر تفسير ابن كثير ٣ / ٢١٤.

(١٨) في ب : مالكها.


قال إسحاق : فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي (١). والقول بجواز بيع دور مكة وإجارتها قول طاوس (٢) وعمرو بن دينار وبه قال الشافعي.

قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن (٣) مفعول «يرد» محذوف ، وقوله : (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفان ، والتقدير: ومن يرد فيه مرادا ما (٤) عادلا عن القصد ظالما نذقه من عذاب إليم. وإنما حذف ليتناول كل متناول ، قال معناه الزمخشري (٥).

والثاني : أن المفعول أيضا محذوف تقديره : ومن يرد فيه تعديا (٦) ، و (٧)(بِإِلْحادٍ) حال ، أي: ملتبسا بإلحاد ، و «بظلم» بدل بإعادة الجار (٨).

الثالث : أن يكون «بظلم» متعلقا ب «يرد» والباء للسببية (٩) ، أي : بسبب الظلم و (بِإِلْحادٍ) مفعول به ، والباء مزيدة فيه كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ)(١٠).

٣٧٥٦ ـ لا يقرأن بالسور (١١)

وإليه ذهب أبو عبيدة (١٢) ، وأنشد للأعشى :

٣٧٥٧ ـ ضمنت برزق عيالنا أرماحنا (١٣)

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(٢) هو طاوس بن كيسان اليماني الجندي ، قيل اسمه ذكوان ، عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وغيرهم ، وعنه مجاهد وعمرو بن شعيب وحبيب بن أبي ثابت وغيرهم. مات سنة ١٠٦ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ١٥.

(٣) في ب : أنه. وهو تحريف.

(٤) ما : سقط من ب.

(٥) فإنه قال : (وقوله : «بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ» حالان مترادفان ، ومفعول «يرد» متروك ليتناول كل متناول كأنه قال : ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما نذقه من عذاب أليم) الكشاف ٣ / ٣٠.

(٦) في ب : متعديا. التبيان ٢ / ٩٣٩. وقال ابن عطية : (ويجوز أن يكون التقدير ومن يرد فيه الناس بإلحاد) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٨.

(٧) و : سقط من ب.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٣٩.

(٩) في ب : والباء بإلحاد والباء للسببية.

(١٠) من قوله تعالى : «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»[البقرة : ١٩٥]. والاستدلال بها على زيادة الباء في المفعول به.

(١١) جزء بيت من بحر البسيط يروى لشاعرين متعاصرين أحدهما الراعي النميري ، والآخر القتال الكلابي ، وتمامه :

تلك الحرائر لا ربّات أحمرة

سود المحاجر لا يقرأن بالسور

(١٢) مجاز القرآن ٢ / ٤٨ ـ ٤٩. وانظر التبيان ٢ / ٩٣٩.

(١٣) صدر بيت من بحر الكامل قاله الأعشى ، وهو في الديوان (٥٧) برواية : ـ


أي : ضمنت رزق. ويؤيده قراءة الحسن : «ومن يرد إلحاده بظلم» (١).

قال الزمخشري : أراد إلحاده فيه ، فأضافه على الاتساع (٢) في الظرف ك (مَكْرُ اللَّيْلِ)(٣) ومعناه : ومن يرد أن يلحد فيه ظالما (٤).

الرابع : أن تضمن «يرد» معنى يلتبس (٥) فذلك تعدى بالباء ، أي : ومن يلتبس بإلحاد مريدا له (٦). والعامة على «يرد» بضم الياء من الإرادة (٧). وحكى الكسائي والفراء (٨) أنه قرىء «يرد» بفتح الياء (٩) ، قال الزمخشري : من الورود ومعناه : من أتى فيه بإلحاد ظالما (١٠).

فصل

الإلحاد : العدول عن القصد ، وأصله إلحاد الحافر. واختلف المفسرون فيه ، فقيل : إنه الشرك ، أي من لجأ إلى الحرم ليشرك به عذّبه الله ، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد وقتادة(١١). وروي عن ابن عباس هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم من لا يظلمك (١٢). وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سعد (١٣) حيث استسلمه (١٤) النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فارتد مشركا ، وفي قيس بن (ضبابة) (١٥)(١٦). وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن خطل حيث قتل الأنصاريّ وهرب إلى مكة كافرا ، فأمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقتله يوم الفتح (١٧). وقال مجاهد : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات (١٨).

__________________

 ـ ضمنت لنا أعجازهن قدورنا

وضروعهنّ لنا الصّريح الأجردا

وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه. وفي مجاز القرآن ٢ / ٤٩ ، الطبري ١٧ / ٩٤ ، واللسان (جرد) وهو فيه برواية : ضمنت لنا أعجازه أرماحنا. وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه. تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣. الصريح الأجرد : اللبن الصافي. والشاهد فيه زيادة الباء في المفعول به في قوله :

ضمنت برزق عيالنا ، والتقدير : ضمنت رزق عيالنا.

(١) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٢) في الأصل : إلى اتساع. وهو تحريف.

(٣) من قوله تعالى : «وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً»[سبأ : ٣٣]. حيث توسع في الظرف المتصرف فجعل مفعولا به.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٠.

(٥) في ب : يتلبس.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٣. وهو الأولى عند أبي حيان.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٣٩.

(٨) معاني القرآن ٢ / ٢٢٣.

(٩) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣٠.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٧١. والفخر الرازي ٢٣ / ٢٦.

(١٢) انظر البغوي ٥ / ٥٧٢.

(١٣) في النسختين : سعيد. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٤) في النسختين : اسنلبه. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٦.

(١٦) ما بين القوسين في ب : صناعة ، وهو تحريف.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٦.

(١٨) انظر البغوي ٥ / ٥٧٢ ، الدر المنثور ٤ / ٣٥٢.


وعن سعيد بن جبير وحبيب بن أبي ثابت (١) : هو احتكار الطعام بمكة (٢). وعن عطاء هو قول الرجل في المبايعة : لا والله وبلى والله (٣). وعن عبد الله بن عمر : أنه كان له فسطاطان (٤) أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، فقيل (٥) له في ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله ، وبلى والله (٦).

وعن عطاء : هو دخول الحرم غير محرم وارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر (٧). ولما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بيّن تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلا إلى الظلم فلهذا قرن الظلم بالإلحاد ؛ لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم ، ولذلك قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٨).

وقوله : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) بيان للوعيد.

قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٢٩)

قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) الآية. أي ؛ اذكر حين ، واللام في «لإبراهيم» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها للعلة ، ويكون مفعول «بوّأنا» محذوفا ، أي : بوأنا الناس لأجل (٩) إبراهيم مكان البيت (١٠) ، و «بوّأ» جاء متعديا صريحا قال تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي

__________________

(١) هو حبيب بن أبي ثابت الكاهلي مولاهم أبو يحيى الكوفى أخذ عن زيد بن أرقم وابن عباس وابن عمر وخلق من الصحابة والتابعين وأخذ عنه مسعر والثوري وشعبة وغيرهم. مات سنة ١٢٢ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ١٩١.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٧٢ الدر المنثور ٤ / ٣٥١.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٦.

(٤) في ب : فسطاطا.

(٥) في ب : فقتل. وهو تحريف.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٧٢. الفخر الرازي ٢٣ / ٢٦ ، الدر المنثور ٤ / ٣٥٢.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٥٧١ ـ ٥٧٢.

(٨) من قوله تعالى : «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» [لقمان : ١٣].

(٩) أجل : سقط من ب.

(١٠) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.


إسرائيل» (١)(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً)(٢) ، وقال الشاعر :

٣٧٥٨ ـ كم صاحب لي صالح

بوّأته بيديّ لحدا (٣)

والثاني : أنها مزيدة في المفعول به (٤) ، وهو ضعيف لما تقرر أنها لا تزاد إلا بعد تقدم معمول أو كان العامل فرعا.

الثالث : أن تكون معدية للفعل على أنه مضمن معنى فعل يتعدى بها ، أي ؛ هيأنا له مكان البيت ، كقولك : هيأت له بيتا ، فتكون اللام معدية (٥) قال معناه أبو البقاء (٦).

وقال الزمخشري : واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة (٧) ففسر المعنى بأنه ضمن «بوأنا» معنى (جعلنا) ، ولا يريد تفسير الإعراب. وفي (مَكانَ الْبَيْتِ) وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول به (٨).

والثاني : قال أبو البقاء : أن يكون ظرفا (٩). وهو ممتنع من حيث إنه ظرف مختص فحقه أن يتعدى إليه ب (في).

فصل

روي أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات :

أحدها (١٠)(١١) : بناء الملائكة قبل آدم ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم رفعت إلى السماء أيام الطوفان.

والثانية : بناء إبراهيم ـ عليه‌السلام (١٢) ـ.

والثالثة : بناء قريش في الجاهلية ، وقد حضر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٣) ـ هذا البناء.

__________________

(١) من قوله تعالى : «وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ» [يونس : ٩٣].

(٢) من قوله تعالى : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» [العنكبوت : ٥٨].

(٣) البيت من مجزوء الكامل ، قاله عمرو بن معديكرب الزبيدى ، فارس العرب المشهور ، ويروى : كم من أخ لي ماجد. بوأته : هيأت له. اللحد ـ بفتح اللام المشددة وبضمها : الشق الذي يكون في جانب القبر موضع الميت ، لأنه قد أميل عن وسطه إلى جانبه. والشاهد فيه قوله (بوأته) حيث جاء (بوأ) متعديا وقد تقدم.

(٤) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٢٣ ، إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٩٤ ، ابن عطية ١٠ / ٢٦٠ البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٥) انظر تفسير ابن عطيه ١٠ / ٢٦١ ، البيان ٢ / ١٧٣.

(٦) فإنه قال : (وقيل : اللام غير زائدة ، والمعنى هيئنا) التبيان ٢ / ١٧٣.

(٧) الكشاف ٣ / ٣٠.

(٨) انظر التبيان ٢ / ١٧٣.

(٩) التبيان ٢ / ٩٣٩ ، ونص أبي البقاء :(«مَكانَ الْبَيْتِ» ظرف).

(١٠) في الأصل : أحدهما. وهو تحريف.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سقط من ب.

(١٣) «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : سقط من ب.


والرابعة : بناء ابن الزبير (١).

والخامسة : بناء الحجاج (٢) وهو البناء الموجود اليوم.

وروى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : «المسجد الحرام».

قال : ثم قلت : أي؟ قال : «المسجد الأقصى». قلت : كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة» (٣) والمسجد الأقصى أسسه يعقوب ـ عليه‌السلام (٤) ـ وروى عبد الله بن عمرو بن العاص (٥) قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «بعث الله جبريل عليه‌السلام (٦) إلى آدم وحواء فقال لهما : ابنيا لي بيتا ، فخطّ لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته : حسبك يا آدم. فلما بنياه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به ، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت ، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح ، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه». روي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام (٧) ـ أن ابن لي بيتا في الأرض ، فضاق به زرعا ، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج (٨) لها رأس ، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ، ثم تطوقت في موضع البيت تطوّق الحية ، فبنى إبراهيم حتى إذا بلغ مكان الحجر ، قال لابنه : ابغني حجرا ، فالتمس حجرا حتى أتاه به ، فوجد الحجر الأسود قد ركب ، فقال لأبيه (٩) : من أين لك هذا؟ قال : جاء به من لا يتكل على بنائك ، جاء به جبريل من السماء فأتمه ، قال : فمرّ عليه الدهر فانهدم ، فبنته العمالقة ، ثم انهدم فبنته جرهم ، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يومئذ رجل شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا : نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة ، فكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أول من خرج ، فقضى بينهم أن يجعلوه في مربط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم ، فرفعوه ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فوضعه ، وكانوا يدعونه الأمين (١٠). قال موسى بن عقبة (١١) : كان بناء

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه مسلم (مساجد) ١ / ٣٧٠ ، النسائي (مساجد) ٢ / ٣٢ ، ابن ماجه (مساجد) ١ / ٢٤٨ ، أحمد ٥ / ١٥٠ ، ١٥٦ ، ١٥٧ ، ١٦٠ ، ١٦٦ ، ١٦٧.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) هو عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي ، أخذ عنه ابن المسيب وعروة وطاوس وغيرهم وكان يلوم أباه على القتال في الفتنة بأدب وتؤدة. مات سنة ٦٥ ه‍. خلاصة تذهب تهذيب الكمال ٢ / ٨٣.

(٦) عليه‌السلام : سقط من ب.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) الخجوج : الريح الشديدة المرّ ، وريح خجوج : تخج في هبوبها ، أي تلتوي. اللسان (خجج).

(٩) في ب : لابنه. وهو تحريف.

(١٠) انظر تفسير ابن كثير ١ / ٣٢٨ ـ ٣٢٩.

(١١) تقدم.


الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة. قال ابن إسحاق : كانت الكعبة على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثماني عشرة ذراعا ، وكانت تكسى القباطي (١) ، ثم كسيت البرود (٢) ، وأول من كساها الديباج (٣) الحجاج بن يوسف (٤).

وأما المسجد الحرام فأول من أخر بنيان البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب اشتراها من أهلها وهدمها ، فلما كان عثمان اشترى دورا وزادها فيه ، فلما ولّي ابن الزبير أحكم بنيانه وأكثر أبوابه وحسن جدرانه ، ولم يوسعه شيئا آخر ، فلما استوى الأمر إلى عبد الملك بن مروان (٥) زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج ، وتولى ذلك بأمره الحجاج.

وروي أن الله تعالى (٦) لما أمر إبراهيم ـ عليه‌السلام (٧) ـ ببناء (٨) البيت لم يدر أين يبني فبعث الله تعالى ريحا خجوجا فكشفت ما حول البيت عن الأساس. وقال الكلبي : بعث الله سحابة (٩) بقدر البيت ، فقامت بحيال البيت فيها رأس يتكلم وله لسان وعينان يا إبراهيم ابن على قدري وحيالي ، فبنى عليه(١٠).

قوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ) في «أن» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها هي المفسرة (١١). قال الزمخشري بعد أن ذكر هذا الوجه : فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك ، والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة. قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، وكأنه قيل تعبدنا (١٢) إبراهيم قلنا لا تشرك (١٣). يعني الزمخشري (١٤) أن «أن» المفسرة لا بد أن يتقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ولم يتقدم

__________________

(١) القباطيّ : ثياب من كتاب بيض رقاق ، كانت تنسج بمصر ، وهي منسوبة إلى القبط (على غير قياس).

المعجم الوسيط (قبط) ٢ / ٧٣٨.

(٢) البرود : جمع البرد وهو ثوب فيه خطوط. اللسان (برد).

(٣) الديباج : ضرب من الثياب. اللسان (دبج).

(٤) انظر تفسير ابن كثير ١ / ٣٢٩.

(٥) هو عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي أبو الوليد المدني ثم الدمشقي أخذ عن أبيه وأبي هريرة وأم سلمة ، وأخذ عنه ابنه محمد وعروة والزهيري ، مات سنة ٣٦ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٧٣ ـ ٥٧٣.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في الأصل : بناء.

(٩) في ب : سبحانه. وهو تحريف.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٧٢ ـ ٥٧٣.

(١١) ذكرت شروط «أن» المفسرة في سورة طه عند قوله تعالى :«أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ» من الآية (٣٩).

وانظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٩٤ ، ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٧ ، الكشاف ٣ / ٣٠ ، ابن عطية ١٠ / ٢٦٢ ، والبيان ٢ / ١٧٤ ، التبيان ٢ / ٩٤٠.

(١٢) في الأصل : بعديا. وهو تحريف.

(١٣) الكشاف ٣ / ٣٠.

(١٤) الزمخشري : سقط من ب.


إلا لتبوئة وليست بمعنى (١) القول فضمنها معنى القول ، ولا يريد بقوله : قلنا : لا تشرك. تفسير الإعراب بل تفسير المعنى ، لأن المفسرة لا تفسر القول الصريح (٢).

الثاني : أنها المخففة من الثقيلة. قاله ابن عطية (٣). وفيه نظر من حيث إن (أن) المخففة لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها (٤) إذا كانت مشددة (٥).

الثالث : أنها المصدرية التي تنصب المضارع ، وهي توصل بالماضي والمضارع والأمر ، والنهي كالأمر (٦) ، وعلى هذا ف «أن» مجرورة بلام العلة مقدرة أي : بوأناه لئلا تشرك ، وكان من حق اللفظ على هذا الوجه أن يكون «أن لا يشرك» بياء الغيبة ، وقد قرىء بذلك ، قال أبو البقاء : وقوى ذلك قراءة من قرأة (٧) بالياء (٨). يعني من تحت. ووجه قراءة العامة على هذا التخريج (٩) أن يكون من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

الرابع : أنها الناصبة ومجرورة بلام أيضا ، إلا أن اللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك ، فجعل النهي صلة لها ، وقوّى ذلك قراءة الياء قاله أبو البقاء (١٠). والأصل عدم التقدير مع عدم الاحتياج إليه. وقرأ عكرمة وأبو نهيك «أن لا يشرك» بالياء (١١).

قال أبو حيان : على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له (١٢). وقال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى : لئلا يشرك (١٣). قال شهاب الدين : كأنه لم يظهر له صلة (أن) المصدرية بجملة النهي ؛ فجعل (لا) نافية ، وسلّط (أن) على

__________________

(١) في ب : معنى.

(٢) خلافا لابن عصفور فإنه جوز أن يفسر بها صريح القول ، فإنه ذكر من أقسام (أن) أن تكون حرف عبارة وتفسير ، فقال : (والتي هي حرف عبارة وتفسير ، وهي الواقعة بعد القول أو ما يرجع معناه إلى معنى القول ، وتكون ما بعدها تفسيرا لما قبلها ، ولا موضع لها من الإعراب) ، شرح جمل الزجاجي ٢ / ١٧٣ ، وانظر أيضا المغني ١ / ٣٢.

(٣) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦٢. وانظر أيضا البيان ٢ / ١٧٤.

(٤) في النسختين : كمالها. والصواب ما أثبته.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٤ ، المغني ١ / ٢٨ ، الهمع ١ / ٢.

(٧) في ب : قرأ.

(٨) التبيان ٢ / ٩٤٠ ، وقرأ «يشرك» بالياء عكرمة وابن محيصن كما سيأتي.

(٩) في الأصل : الترجيح.

(١٠) فإنه قال : (وقيل : هي مصدرية ، أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك ، وجعل النهي صلة ، وقوى ذلك قراءة من قرأ بالياء) التبيان ٢ / ٩٤٠.

(١١) المختصر (٩٥). تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.


المضارع بعدها حتى صار علة للفعل قبله ، وهذا غير لازم لما تقدم من وضوح المعنى مع جعلها ناهية (١).

فصل (٢)

وههنا سؤالات :

الأول : إذا قلنا : أنّ (أن) هي المفسرة : فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة؟

والجواب : أنه سبحانه (٣) لما قال : جعلنا البيت مرجعا لإبراهيم ، فكأنه قيل : ما معنى كون البيت مرجعا له ، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه (٤) موحدا لرب البيت عن الشريك والنظير مشتغلا بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام.

السؤال الثاني : أن إبراهيم ـ عليه‌السلام (٥) ـ لما لم يشرك بالله فيكف قيل : (لا تُشْرِكْ بِي)؟

والجواب : المعنى : لا تجعل في العبادة لي شريكا ، ولا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت.

السؤال الثالث : أنّ البيت ما كان معمورا قبل ذلك فكيف قال : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ).

والجواب : لعل ذلك المكان كان صحراء فكانوا (٦) يرمون إليها الأقذار ، فأمر إبراهيم ببناء ذلك (٧) البيت في ذلك المكان وتطهيره عن الأقذار ، أو كانت معمورة وكانوا وضعوا فيها أصناما ، فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء (٨) ووضع بناء جديد ، فذلك هو التطهير عن الأوثان ، أو يكون المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا (٩) ينبغي من الشرك.

وقوله : «للطّائفين» قال ابن عباس : للطائفين بالبيت من غير أهل مكة (وَالْقائِمِينَ) أي : المقيمين فيها ، (وَالرُّكَّعِ (١٠) السُّجُودِ) أي : المصلين من الكل ، وقيل : القائمون هم المصلون (١١).

قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ). قرأ العامة بتشديد الذال بمعنى (ناد) (١٢)(١٣).

__________________

(١) الدر المصون : ٥ / ٧١.

(٢) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٧ ـ ٢٨.

(٣) في ب : سبحانه وتعالى.

(٤) في الأصل : به أن يكون تقلبه. وهو تحريف.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : وكانوا.

(٧) ذلك : سقط من ب.

(٨) في ب : البيت.

(٩) في ب : عين ما لا. وهو تحريف.

(١٠) في الأصل : وركع. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٨.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(١٣) في ب : باذ. وهو تحريف.


وقرأ الحسن وابن محيصن «آذن» بالمد والتخفيف بمعنى أعلم (١). ويبعده قوله : (فِي النَّاسِ) إذ (٢) كان ينبغي أن يتعدى بنفسه. ونقل أبو الفتح عنهما أنهما قرءا بالقصر وتخفيف الذال (٣) ، وخرجها أبو الفتح وصاحب اللوامح على أنها عطف على «بوّأنا» أي : واذكر إذ بوأنا وإذ أذن في الناس ، وهي تخريج واضح (٤). وزاد صاحب اللوامح فقال : فيصير في الكلام تقديم وتأخير ويصير «يأتوك» جزما على جواب الأمر في «وطهّر» (٥). ونسب ابن عطية أبا الفتح في هذه القراءة إلى التصحيف فقال بعد أن حكى قراءة الحسن وابن محيصن «وآذن» بالمد : وتصحف هذا على ابن جنيّ فإنه حكى عنهما (وَأَذِّنْ) على أنه (٦) فعل ماض وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على «بوّأنا» (٧). قال شهاب الدين : ولم يتصحف عليه بل حكى هذه القراءة أبو الفضل الرازي في اللوامح له عنهما ، وذكرها أيضا ابن خالويه (٨) ، ولكنه لم يطلع عليها ، فنسب من اطّلع عليها للتصحيف ، ولو تأنّى أصاب أو كاد (٩).

وقرأ ابن أبي إسحاق «بالحجّ» بكسر الحاء حيث وقع (١٠) كما تقدم.

فصل

قال أكثر المفسرين (١١) : لما فرغ إبراهيم (١٢) من بناء البيت قال الله له : (أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) ، قال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال : عليك الأذان وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا ، وفي رواية أبا قبيس ، وفي رواية على المقام. فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه ، وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا وقال : يا

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(٢) في ب : إذا. وهو تحريف.

(٣) المحتسب ٢ / ٧٨.

(٤) قال أبو الفتح :(«أذن» معطوف على «بوأنا» ، فكأنه قال : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت وأذن ، فأما قوله على هذا : «يَأْتُوكَ رِجالاً» فإنه انجزم لأنه جواب قوله : وطهّر بيتي للطائفين وهو على قراءة الجماعة جواب قوله : وأذّن في الناس بالحجّ) المحتسب ٢ / ٧٨.

(٥) ونص كلام صاحب اللوامح كما في البحر المحيط : (وهو عطف على «وَإِذْ بَوَّأْنا» فيصير في الكلام تقديم وتأخير ، ويصير «يأتوك» جزما على جواب الأمر الذي هو «وطهر») ٦ / ٣٦٤.

(٦) أنه : تكملة من تفسير ابن عطية.

(٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣. وقال أبو حيان معلقا على كلام ابن عطية بعد نقله إياه : (وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وابن محيصن) البحر المحيط ٦ / ٤٦٤ ، وانظر أيضا المختصر (٩٥).

(٨) المختصر (٩٥).

(٩) الدر المصون : ٥ / ٧٢.

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٧٣ ـ ٥٧٤.

(١٢) في ب : إبراهيم عليه الصلاة والسلام.


أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتا ، وقد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم (١) ، فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهم لبيك. قال ابن عباس (٢) : فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا (٣). وقال مجاهد : من أجاب مرّة حجّ مرّة ومن (٤) أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار (٥). قال ابن عباس : لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى (٦). وقال الحسن وأكثر المعتزلة : إنّ المأمور بالأذان هو محمد ـ عليه‌السلام (٧) ـ واحتجوا بأن ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أن محمدا هو المخاطب فهو أولى وقد بينا أن قوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا) ، أي : واذكر يا محمد إذ بوأنا ، فهو في حكم المذكور ، فلما قال : (وَأَذِّنْ) فإليه يرجع الخطاب (٨). قال الجبائي : أمر محمدا ـ صلّى الله عليه وسلّم (٩) ـ أن يفعل ذلك في حجة الوداع. قالوا : إنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول ، وفي قوله : «يأتوك» دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدى به (١٠).

وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنّ الله قد فرض عليكم (١١) الحجّ فحجّوا»(١٢).

قوله : «رجالا» نصب على الحال (١٣) ، وهو جمع راجل نحو : صاحب وصحاب ، وتاجر وتجار ، وقائم وقيام (١٤). وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز «رجّالا» بضم الراء وتشديد الجيم.

وروي عنهم تخفيفها ، وافقهم ابن أبي إسحاق على التخفيف ، وجعفر بن محمد ومجاهد على التشديد ، ورويت (١٥) عن ابن عباس أيضا (١٦). فالمخفف اسم جمع كظؤار (١٧) ، والمشدد جمع تكسير كصائم وصوام (١٨). وروي عن عكرمة أيضا «رجالى»

__________________

(١) في ب : إلى ربكم.

(٢) في النسختين : ابن سعيد. والصواب ما أثبته.

(٣) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٧٣ ـ ٥٧٤.

(٤) في ب : من.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٨.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٨.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٩.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٩.

(١١) في ب : لكم.

(١٢) أخرجه مسلم (حج) ٢ / ٥٠٨ ، أحمد ٢ / ٥٠٨.

(١٣) من الواو في «يأتوك». البيان ٢ / ١٧٤ ، التبيان ٢ / ٩٤٠.

(١٤) وذلك أن (فعال) من أمثلة جمع الكثرة ، ويحفظ في وصف على (فاعل) كصائم وصيام ، أو (فاعلة) كصائمة وصيام. شرح التصريح ٢ / ٣٠٩ ، شرح الأشموني ٤ / ١٣٥.

(١٥) في ب : وروي.

(١٦) المختصر (٩٥) ، المحتسب ٢ / ٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(١٧) انظر الكتاب ٣ / ٦٠٩. وانظر المحتسب ٢ / ٧٣.

(١٨) (فعّال) من أمثلة جمع الكثرة ، ويطرد في كل وصف لمذكر على (فاعل) صحيح اللام ، نحو ضارب وقائم وقارىء تقول في جمعها ضرّاب وقوّام وقرّاء وندر فعال في المعتل اللام ، كغاز وغزاء. شرح التصريح ٢ / ٣٠٨. شرح الأشموني ٤ / ١٣٣ ـ ١٣٤.


كنعامى بألف التأنيث (١). وكذلك عن ابن عباس وعطاء إلا أنهما شددا الجيم (٢). قوله : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) نسق على «رجالا» ، فيكون حالا (٣) أي : مشاة وركبانا (٤). والضمور : الهزال ، ضمر يضمر ضمورا ، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها (٥).

قوله : «يأتين». النون ضمير (كُلِّ ضامِرٍ) حملا على المعنى ، إذ المعنى : على ضوامر ، ف «يأتين» صفة ل «ضامر» ، وأتى بضمير الجمع حملا على المعنى (٦) ، أي جماعة الإبل ، وقد تقدم في أول الكتاب أن «كل» إذا أضيفت إلى نكرة لم يراع (٧) معناها إلا في قليل (٨) ، كقوله :

٣٧٥٩ ـ جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركت كلّ (٩) حديقة كالدّرهم (١٠)

وهذه الآية ترده ، فإن «كلّ» فيها مضافة لنكرة وقد روعي معناها ، وكان بعضهم أجاب عن بيت زهير بأنه (١١) إنما جاز ذلك ؛ لأنه في جملتين ، قيل له : فهذه الآية جملة واحدة ، لأن «يأتين» صفة ل «ضامر». وجوّز أبو حيان أن يكون الضمير يشمل «رجالا» و (كُلِّ ضامِرٍ) قال : على معنى الجماعات والرفاق (١٢). قال شهاب الدين : فعلى هذا

__________________

(١) المحتسب ٢ / ٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(٢) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(٣) في ب : رجالا. وهو تحريف.

(٤) انظر البيان ٢ / ١٧٤ ، التبيان ٢ / ٩٤٠.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٩.

(٦) انظر البيان ٢ / ١٧٤ ، التبيان ٢ / ٩٤٠.

(٧) في الأصل : لم يراعى.

(٨) اعلم أن لفظ (كل) حكمه الإفراد والتذكير ومعناها بحسب ما تضاف إليه فإن كانت مضافة إلى منكر وجب مراعاة معناها ، وهو قول ابن مالك ، فلذلك جاء الضمير مفردا مذكرا في قوله تعالى :«وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» [القمر : ٥٢]. ومفردا مؤنثا في قوله تعالى :«كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»[المدثر : ٣٨]. ومثنى في قول الفرزدق :

وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما

تعاطى القنا قوماهما أخوان

ومجموعا مذكرا في قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : ٥٣] ، ومؤنثا في قول الشاعر :

وكلّ مصيبات الزّمان وجدتها

سوى فرقة الأحباب هينة الخطب

وقول أبي حيان جواز الأمرين مطلقا ، كقوله :

جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

فقال : (تركن) ولم يقل تركت ، فدلّ على جواز : كل رجل قائم ، وقائمون. وقول ابن هشام : إن المضاف إلى المفرد إن أريد نسبة الحكم إلى كل واحد وجب الإفراد نحو كل رجل يشبعه رغيف ، أو إلى المجموع وجب الجمع كبيت عنترة ، فإن المراد أن كل فرد من الأعين جاد ، وأن مجموع الأعين تركن. المغني ١ / ١٩٦ ـ ١٩٨ ، الهمع ٢ / ٧٤.

(٩) في الأصل : على كل. وهو تحريف.

(١٠) البيت من بحر الكامل ، قاله عنترة ، وهو من معلقته وهو في شرح القصائد السبع الطوال (٣١٢) المنصف ٢ / ١٩٩ ، المغني ١ / ١٩٨ ، المقاصد النحوية ٣ / ٣٠٨ ، الهمع ٢ / ٧٤ ، الأشموني ٢ / ٢٤٨ ، الدرر ٢ / ٩١.

(١١) في ب : أنه.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.


يجوز أن يقال عنده : الرجال يأتين ، ولا ينفعه كونه اجتمع مع الرجال هنا «كل ضامر» ، فيقال جاز ذلك لما اجتمع معه ما يجوز فيه ذلك إذ يلزم منه تغليب غير العاقل على العاقل وهو ممنوع (١). وقال البغوي : وإنما جمع «يأتين» لمكان (٢) «كلّ» وأراد النوق (٣). وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن أبي عبلة «يأتون» تغليبا للعقلاء الذكور (٤). وعلى هذا فيحتمل أن يكون قوله : (عَلى كُلِّ ضامِرٍ) حالا أيضا ، ويكون «يأتون» مستأنفا متعلق به من كل فج أي يأتونك رجالا وركبانا ثم قال : «يأتون من كل فج» وأن يتعلق بقوله «يأتون» أي يأتون على كل ضامر من كل فجّ ، و «يأتون» مستأنف أيضا (٥) ، فلا يجوز أن يكون صفة ل «رجالا» ول «ضامر» لاختلاف الموصوف في الإعراب ؛ لأن أحدهما منصوب والآخر مجرور ، ولو قلت : رأيت زيدا ومررت بعمرو العاقلين. على النعت لم يجز بل على القطع. وقد جوّز ذلك الزمخشري فقال : وقرىء «يأتون» صفة للرجال والركبان (٦) وهو مردود بما ذكرنا. والفج : الطريق بين الجبلين ، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعا (٧). والعميق : البعيد سفلا ، يقال : بئر عميقة معيقة (٨) ، فيجوز أن يكون مقلوبا إلا أنه أقل (٩) من الأول ، قال :

٣٧٦٠ ـ إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة

يمدّ بها في السّير أشعث شاحب (١٠)

وقرأ ابن مسعود : «معيق» (١١) ويقال : عمق وعمق بكسر العين وضمها عمقا بفتح الفاء قال الليث : عميق (ومعيق ، والعميق في الطريق أكثر (١٢). وقال الفراء : عميق لغة الحجاز) (١٣) ومعيق لغة تميم (١٤) وأعمقت البئر وأمعقتها وعمقت ومعقت عماقة ومعاقة وإعماقا وإمعاقا قال رؤبة :

__________________

(١) الدر المصون : ٥ / ٧٢.

(٢) في ب : لمحار. وهو تحريف.

(٣) البغوي : ٥ / ٥٧٤.

(٤) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٤٠.

(٦) الكشاف ٣ / ٣٠.

(٧) اللسان (فجج).

(٨) في النسختين : بئر عميق ومعيق. والصواب ما أثبته ، ففي اللسان (عمق) وتقول العرب : بئر عميقة ومعيقة بعيدة القعر. وقال ابن الأنباري: (والبئر : أنثى ، يقال في تصغيرها : بؤيرة ، ويقال في جمع القلة : أبآر ، وآبار على نقل الهمزة ومثله : رأي وأرآء وآراء ، ويقال في جمعها أيضا في القلة : أبؤر  .... ويقال في جمع الكثرة : بآر. على مثال قولك : جمال وجبال) المذكر والمؤنث ١ / ٥١٧ ـ ٥١٨.

(٩) أقل : سقط من الأصل.

(١٠) البيت من بحر الطويل لم أهتد إلى قائله وهو في تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٦٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧ ، الفجاج : جمع فجّ وهو الطريق الواسع بين جبلين. العميق : البعيد وأصله البعد سفلا ، وهو موضع الشاهد. تشعّث شعره : تلبّد واغبرّ ، والشّعث : المغبرّ الرأس المنتتف الشعر. الشاحب : المتغير من هزال أو جوع أو سفر أو عمل ، ولم يقيّد في الصحاح بل قال شحب جسمه إذا تغيّر.

(١١) الكشاف ٣ / ٣٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٤.

(١٢) اللسان (عمق).

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) السان (عمق ، معق).


٣٧٦١ ـ وقاتم الأعماق خاوي المخترق (١)

الأعماق هنا بفتح الهمزة جمع عمق وعلى هذا فلا قلب في معيق ، لأنها لغة مستقلة ، وهو ظاهر قول الليث أيضا ، ويؤيده قراءة ابن مسعود بتقديم الميم ، ويقال : غميق بالغين المعجمة أيضا (٢).

فصل(٣)

بدأ الله بذكر المشاة تشريفا لهم ، وروى (٤) سعيد بن جبير بإسناده عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «إن (٥) الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم ، قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال : الحسنة بمائة ألف حسنة»(٦).

وإنما قال تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً) ؛ لأنه هو المنادي فمن أتى مكة حاجّا فكأنه أتى إبراهيم ـ عليه‌السلام (٧) ـ ، لأنه يجيب نداءه.

قوله : «ليشهدوا» يجوز في هذه اللام (٨) وجهان :

أحدهما : أن تتعلق ب «أذّن» ، أي : أذن ليشهدوا.

والثاني : أنها متعلقة ب «يأتوك». وهو الأظهر (٩).

قال الزمخشري : ونكر «منافع» لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات (١٠). قل سعيد بن المسيب (١١) ومحمد بن علي الباقر (١٢) :

__________________

(١) رجز لرؤبة ، وبعده :

مشتبه الأعلام لمّاع الخفق

وهو في ديوانه (١٠٤) والكتاب ٤ / ٢١٠ ، الخصائص ١ / ٢٢٨ ، ٢٦٠ ، ٣٦٤ ، ٣٢٠ ، ٣٣٣ ، المنصف ٢ / ٣ ، ٣٠٨ ، المحتسب ١ / ٨٦ ، ابن يعيش ٢ / ١١٨ ، ٩ / ٢٩ ، ٣٤ ، اللسان (عمق) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦ ، ٨٠ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٧٦٤ ، ٧٨٢ ، الخزانة ١ / ٧٨ ، ١٠ / ٢٥ ، الدرر ٢ / ٣٨ ، ١٤٠ القاتم : المغبر ، القتام : الغبار ، والواو في قوله (والقاتم) واو ربّ وهي عاطفة لا جارّة ، وقاتم مجرور برب لا بالواو على الصحيح.

الأعماق جمع عمق ـ بضم العين وفتحها ـ ما بعد من أطراف المفاوز ، وهو موضع الشاهد هنا.

الخاوي : الخالي. المخترق : المتسع يعني جوف الفلاة.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٩.

(٤) في الأصل : روى.

(٥) إن : سقط من ب.

(٦) الدر المنثور ٤ / ٣٥٥.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في الأصل : الآية. وهو تحريف.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٤٠.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣٠.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٧٤.

(١٢) هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو جعفر المدني الإمام المعروف بالباقر ، أخذ عن أبيه وأبي سعيد وجابر وابن عمر وغيرهم ، وأخذ عنه ابنه جعفر والزهري وغيرهما.

مات سنة ١١٤ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٤٤٠.


المنافع : هي العفو والمغفرة وقال سعيد بن جبير : التجارة ، وهي رواية ابن زيد.

وعن ابن عباس قال : الأسواق. وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة(١). (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) قال الأكثرون : هي عشر ذي الحجة قيل لها «معلومات» للحرص على علمها (٢) بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها (٣).

والمعدودات : أيام التشريق (٤). وروي عن علي : أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده (٥) ، وهو اختيار الزجاج (٦). لأن الذكر على (بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يدل على التسمية على نحرها. والنحر للهدايا إنما يكون في هذه الأيام. وروى عطاء عن ابن عباس : أنها يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق (٧). وقيل : عبر عن الذبح والنحر بذكر اسم الله ؛ لأن المسلمين لا ينفكون عن ذكر اسم الله إذا نحروا (٨). ثم قال : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني الهدايا والضحايا تكون من النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم(٩). قال الزمخشري : البهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، فبينت بالأنعام وهي : الإبل والبقر والغنم (١٠).

قوله : (فَكُلُوا مِنْها). قيل : هذا أمر وجوب ، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا ترفّقا على الفقراء. وقيل : هذا أمر إباحة (١١). واتفق العلماء (١٢) على أن الهدي إذا كان تطوعا كان للمهدي أن يأكل منه ، وكذلك أضحية التطوع ؛ لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمر أن يؤخذ من كل جزور بضعه ، فطبخت ، وأكل لحمها ، وحسي من مرقها ، وكان هذا تطوعا. واختلفوا في الهدي الواجب في النذور والكفارات والجبرانات للنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودم التقليم والحلق ، والواجب (١٣) بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد (١٤). فقال الشافعي وأحمد : لا يأكل منه(١٥). وقال ابن عمر : لا

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٧٤.

(٢) في ب : عملها. وهو تحريف.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٧٥.

(٤) وهو قول مقاتل. البغوي ٥ / ٥٧٥.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٧٥.

(٦) فإنه قال :(«وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» يعني به يوم النحر والأيام التي بعده ينحر فيها لأن الذكر ههنا يدل على التسمية على ما ينحر لقوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٢٣.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٥٧٥.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٣٠.

(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٧٥.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣٠.

(١١) انظر البغوي ٢٣ / ٣٠.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٧٥. بتصرف.

(١٣) في ب : والحج. وهو تحريف.

(١٤) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٧٥ بتصرف.

(١٥) انظر البغوي ٥ / ٥٧٦.


يأكل من جزاء الصيد والنذور (١) ، ويأكل مما سواهما (٢). وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ، ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور (٣). وعند أصحاب الرأي : يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما (٤).

قوله : (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ). يعني الزمن الفقير الذي لا شيء له (٥).

قال ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي (٦) وجهه ، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني (٧). والبؤس شدة الفقر.

قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ). العامة على كسر اللام ، وهي لام الأمر. وقرأ نافع والكوفيون والبزي بسكونها (٨) ، إجراء للمنفصل مجرى المتصل نحو كتف ، وهو نظير تسكين هاء (هو) بعد (ثمّ) في قراءة الكسائي وقالون حيث أجريت (ثمّ) مجرى الواو والفاء (٩) والتّفث : قيل أصله من التف (١٠) ، وهو وسخ (١١) الأظفار قلبت الفاء ثاء (١٢) كمعثور في معفور (١٣). وقيل : هو الوسخ (١٤) والقذر يقال: ما تفثك. وحكى قطرب : تفث الرجل ، أي : كثر وسخه في سفره (١٥). قال الزجاج (١٦) : إن أهل اللغة لا يعرفون التّفث إلا من التفسير (١٧). وقال المبرد : أصل (١٨) التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وقال القفال : قال نفطويه (١٩) : سألت أعرابيا فصيحا ما

__________________

(١) في ب : والنذو. وهو تحريف.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٧٦.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٧٦.

(٤) انظر البغوي ٥ / ٥٧٦.

(٥) المرجع السابق.

(٦) في الأصل : لا في. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٠.

(٨) وفي السبعة : قرأ أبو عمرو وابن عامر «ثم ليقضوا» يكسر لام الأمر واختلف عن نافع ففي رواية بكسر اللام ، وفي رواية أخرى ساكنة اللام ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «ثم ليقضوا» ساكنة اللام (٤٣٤ ـ ٤٣٥) الكشف ٢ / ١١٦ ـ ١١٧ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٤).

(٩) سبق أن تحدثت عن حركة لام الأمر بعد واو العطف وفائه وثم عند قوله تعالى :«فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ» [الحج : ١٥].

(١٠) في ب : التفث. وهو تحريف.

(١١) في النسختين : مسح والصواب ما أثبته.

(١٢) في ب : باء. وهو تحريف.

(١٣) في ب : كمعفور في يعفور. والصواب ما أثبته ، وهو قول أبي محمد البصري. البحر المحيط ٦ / ٣٤٧ وتبدل الثاء من الفاء كقولهم في أثاف : أثاث. انظر سر صناعة الإعراب ١ / ١٧٣.

(١٤) وقيل هو الوسخ : مكرر في ب.

(١٥) البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(١٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣١.

(١٧) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٢٤ ـ ٤٢٤. والبغوي ٥ / ٥٧٣.

(١٨) في الأصل : أهل. وهو تحريف.

(١٩) هو إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكي الأزدي الواسطي أبو عبد الله الملقب نفطويه ، كان عالما ـ


معنى قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ، فقال : ما أفسر القرآن ، ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك ، أي : أوسخك وما أدرنك (١). ثم قال القفال (٢) : وهذا أولى من قول الزجاح لأن القول قول المثبت لا قول النافي (٣). والمراد بالتفث هنا (٤) : الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث والحاج أشعث أغبر ، والمراد قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. والمراد بالقضاء إزالة ذلك ، والمراد به الخروج من الإحرام بالحلق وقص الشارب والتنظيف ولبس الثياب (٥). وقال ابن عمر (٦) وابن عباس (٧) : قضاء التفث مناسك الحج كلها. وقال مجاهد : هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار. وقيل : التفث هنا رمي الجمار (٨). وقيل : معنى (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ليصنعوا (٩) ما يصنعه المحرم من إزالة شعر وشعث ونحوهما عند حله ، وفي ضمن هذا قضاء جميع المناسك إذ لا يفعل هذا إلا بعد فعل المناسك كلها (١٠).

قوله : (وَلْيُوفُوا). قرأ أبو بكر «وليوفوا» بالتشديد ، والباقون بالتخفيف (١١). وتقدّم في البقرة أن فيه ثلاث لغات وفّى ، ووفى ، وأوفى (١٢). وقرأ ابن ذكوان : «وليوفوا» بكسر اللام ، والباقون بسكونها. وهذا الخلاف جار في قوله (وَلْيَطَّوَّفُوا)(١٣). والمراد بالوفاء ما أوجبه بالنذر ، وقيل : ما أوجبه الدخول في الحج من المناسك (١٤). قال مجاهد : أراد نذر الحج والهدي ، وما ينذره الإنسان من شيء يكون في الحج (١٥). وقيل : المراد الوفاء بالنذر مطلقا (١٦) وقوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا) المراد الطواف الواجب ، وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق (١٧) وسمي البيت العتيق قال الحسن : القديم لأنه أول بيت وضع للناس (١٨). وقال ابن عباس وابن الزبير : لأنه أعتق من الجبابرة (١٩) ، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله ، ولما قصده أبرهة فعل به ما فعل. فإن قيل : قد تسلّط الحجاج عليه؟

__________________

ـ بالعربية واللغة والحديث ، أخذ عن ثعلب والمبرد ، ومن مصنفاته : إعراب القرآن ، المقنع في النحو ، الأمثال ، المصادر ، أمثال القرآن ، وغير ذلك ، مات سنة ٣٢٣ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٣٣٨ ـ ٤٤٠.

(١) في النسختين : وما أدراك. والصواب ما أثبته.

(٢) القفال : سقط من ب.

(٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٠.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٧٦.

(٥) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٧٦.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٧٦.

(٧) في الأصل : وابن العباس. وهو تحريف.

(٨) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٧٧.

(٩) في الأصل : يصنعوا.

(١٠) كلها : سقط من ب.

(١١) السبعة (٤٣٦) ، الكشف ٢ / ١١٦ ـ ١١٧ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٤.

(١٢) عند قوله تعالى : «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» [البقرة : ٤٠].

(١٣) السبعة (٤٣٤ ـ ٤٣٥) ، الكشف ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٤.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣١.

(١٥) انظر البغوي ٥ / ٥٧٧.

(١٦) المرجع السابق.

(١٧) انظر البغوي ٥ / ٥٧٨.

(١٨) المرجع السابق.

(١٩) المرجع السابق والدر المنثور ٤ / ٣٥٧.


فالجواب : أنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصّن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه (١) وقال ابن عيينة : لم يملك قط (٢). وقال مجاهد : أعتق من الغرق (٣).

وقيل : لأنه بيت كريم من قولهم : عتاق الخيل والطير (٤).

فصل(٥)

والطواف ثلاثة (٦) أطواف :

الأول : طواف القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا ، يرمل ثلاثا من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ، ويمشي أربعا وهذا الطواف سنة لا شيء على تاركه.

والثاني : طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق ، ويسمى أيضا طواف الزيارة وطواف الصدر ، وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به.

والثالث : طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعا ، فمن تركه فعليه دم إلا الحائض والنفساء ، فلا وداع عليهما لما روى ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه أرخص للمرأة الحائض. والرمل يختص بطواف القدوم ، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع.

قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(٣٢)

قوله (٧) تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) الآية. «ذلك» خبر مبتدأ مضمر ، أي : الأمر والشأن ذلك (٨) ، قال الزمخشري : كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني ، فإذا أراد الخوض في (٩) معنى آخر قال هذا ، وقد كان كذا (١٠). وقدره ابن عطية : فرضكم ذلك أو الواجب ذلك (١١). وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، أي ذلك

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣١.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٧٨.

(٣) المرجع السابق.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣١.

(٥) هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٧٨ ـ ٥٧٩.

(٦) في ب : ثلاث.

(٧) قوله : سقط من الأصل.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٣١ ، البيان ٣ / ١٧٤ ، التبيان ٢ / ٩٤٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٥.

(٩) في الأصل : من.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣١.

(١١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٢.


الأمر الذي ذكرته (١). وقيل : في محل نصب أي : امتثلوا ذلك (٢). ونظير هذه الإشارة قول زهير بعد تقدم جمل في وصف هرم بن سنان :

٣٧٦٢ ـ هذا وليس كمن يعيا(٣)بخطّته

وسط النّديّ إذا ناطق نطقا (٤)

والحرمة (٥) ما لا يحلّ هتكه ، وجمييع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل (٦) أن يكون عاما في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج.

وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمشعر الحرام (٧). وقال ابن زيد : الحرمات ههنا : البيت الحرام (٨) ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، (والإحرام) (٩)(١٠).

وقال الليث : حرمات (١١) الله ما لا يحل انتهاكها (١٢).

وقال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به ، وحرم التفريط فيه (١٣).

قوله : «فهو» «هو» ضمير المصدر المفهوم من قوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ) ، أي ؛ فتعظيم حرمات الله خير له (١٤) ، كقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(١٥) و «خير» هنا ظاهرها التفضيل (١٦) بالتأويل المعروف (١٧) ومعنى التعظيم : العلم بوجوب (١٨) القيام بها وحفظها.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٥.

(٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٥.

(٣) في ب : يعني. وهو تحريف.

(٤) البيت من بحر البسيط قاله زهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح فيها هرم بن سنان وهو في شرح الديوان (٧٧) ، وتفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٢ ، والقرطبي ١٢ / ٥٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٦٦ ، والبيت يصف هرم بن سنان بالبلاغة والفصاحة ، وبأنه لا يعيا بخطته في مجلس القوم ، وذلك بعد أن وصفه في الأبيات السابقة بالكرم والشجاعة. والشاهد فيه الإشارة البليغة بقوله في أول البيت : هذا.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الكشاف ٣ / ٣١ ، والفخر الرازي ٢٣ / ٣٢.

(٦) في الأصل : يحتمل.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الكشاف ٣ / ٣١ ، والفخر الرازي ٢٣ / ٣٢.

(٨) في ب : الحرمات. وهو تحريف.

(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٨٠.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) في ب : الحرمات. وهو تحريف.

(١٢) انظر البغوي ٥ / ٥٨٠.

(١٣) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٢. البغوي ٥ / ٥٨٠.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(١٥) للتقوى : سقط من الأصل. [المائدة : ٨].

(١٦) في ب : التفضل.

(١٧) أي أن (خير) حذفت منه الهمزة في الدلالة على التفضيل لكثرة الاستعمال أي : فالتعظيم خير له عند ربه ، أي قربة وزيادة في طاعته. وأبو حيان يرى أن الظاهر في خير هنا أنها ليست أفعل تفضيل. البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(١٨) في ب : موجب. وهو تحريف.


وقوله : «عند ربّه» أي : عند الله في الآخرة. وقال الأصم : فهو خير له من التهاون (١).

قوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ووجه النظم أنه كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضا تحرم ، فبيّن تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها ، ثم استثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم في سورة المائدة في قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)(٢) ، وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)(٣)(٤).

قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يجوز أن يكون استثناء متصلا ، ويصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام لسبب عارض كالموت ونحوه. وأن يكون استثناء منقطعا ، إذ ليس فيها محرم (٥) وقد تقدم تقرير هذا أول المائدة (٦).

قوله : (مِنَ الْأَوْثانِ). في «من» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها لبيان الجنس (٧) ، وهو مشهور قول المعربين ، ويقدر (٨) بقولك الرجس الذي هو الأوثان. وقد تقدم أن شرط كونها بيانية ذلك (٩) ويجيء مواضع كثيرة لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضه.

والثاني : أنها لابتداء الغاية (١٠).

قال شهاب الدين : وقد خلط أبو البقاء القولين فجعلهما قولا واحدا. فقال : و «من» لبيان الجنس ، أي : اجتنبوا الرجس من هذا القبيل وهو معنى ابتداء الغاية

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢.

(٢) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ»[الآية : ١].

(٣) [الأنعام : ١٢١].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٤١.

(٦) عند قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة : ١].

(٧) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٥ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٧ ، الكشاف ٣ / ٣١ تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٣ ، البيان ٢ / ١٧٤ ، التبيان ٢ / ٩٤١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(٨) في الأصل : ويتقدر.

(٩) أي أن شرط كون (من) لبيان الجنس صحة وقوع الموصول مع ضمير يعود على ما قبلها إن كان ما قبلها معرفة كما هنا ، أما إن كان ما قبلها نكرة فشرطها صحة وقوع الضمير فقط كقوله تعالى :«مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ»[الحج : ٢٣] أي : هي ذهب. شرح التصريح ٢ / ٨ / ، وشرح الأشموني ٢ / ٢١١.

(١٠) فكأنه نهاهم عن الرجس عامّا ثم عيّن لهم مبدأه الذي منه يلحقهم ؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس. تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.


ههنا (١) يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة (٢).

الثالث : أنها للتبعيض (٣). وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال : ومن قال إن «من» للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده (٤). وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس (٥) عبادة الأوثان ، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه (٦) قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع (٧) استعماله ، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها. قاله أبو حيان (٨). والأوثان جمع وثن ، والوثن يطلق على ما صوّر من نحاس وحديد وخشب (٩) ويطلق أيضا على الصليب ، قال عليه‌السلام (١٠) لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليبا : «ألق هذا الوثن عنك» (١١). وقال الأعشى :

٣٧٦٣ ـ يطوف العفاة بأبوابه

كطوف النّصارى ببيت الوثن (١٢)

واشتقاقه من وثن الشيء ، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن ، وأنشد لرؤبة :

٣٧٦٤ ـ على أخلّاء الصّفاء الوثّن (١٣)

أي : المقيمين على العهد ، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصّنم (١٤).

فصل

قال المفسرون : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي ؛ عبادتها ، أي : كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي سبب الرجس وهو العذاب ، والرجس بمعنى الرجز (١٥).

__________________

(١) التبيان ٣ / ٩٤١.

(٢) الدر المصون ٥ / ٧٣.

(٣) والقائل بأنها للتبعيض الأخفش فإنه قال في معاني القرآن : (وقال : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» وكلها رجس ، والمعنى : فاجتنبوا الرجس الذي يكون منها ، أي عبادتها) ٢ / ٦٣٧.

(٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٣.

(٥) في الأصل : بالرجس. وهو تحريف.

(٦) في الأصل : كأنه.

(٧) في ب : السرع. وهو تحريف.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(٩) اللسان (وثن).

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه الترمذي (تفسير) ٥ / ٢٧٨ ، وانظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ٥ / ١٥١.

(١٢) البيت من بحر المتقارب ، قاله الأعشى ، وهو في ديوانه (٢٠٩) واللسان (وثن) ، والبحر المحيط ٦ / ٢٤٧. العفاة : السائلون. والشاهد فيه أنه أراد بالوثن الصليب.

(١٣) وجز لرؤبة وهو في ديوانه (١٦٣) ، اللسان (وثن) ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧. أخلاء : جمع خليل ، وهو المحب الدي ليس في محبته خلل.

الصفاء : ضد الكدر ، وهو مصدر الشيء الصافي.

الوثّن : المقيمون على العهد. وهو موطن الشاهد هنا.

(١٤) عند قوله تعالى :«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» [الأنعام : ٧٤].

(١٥) انظر البغوي ٥ / ٥٨٠. وفي اللسان (رجس) : والرجس : العذاب كالرجز. التهذيب : وأما الرجز فالعذاب والعمل الذي يؤدي إلى العذاب. والرجس في القرآن : العذاب كالرجز.


وقال الزجاج : «من» ههنا للتجنيس (١) ، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). واعلم أنه تعالى (٢) لما حثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور ، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات ، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد ، لأن الشرك من باب الزور ، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله ، ولا تقربوا (٣) شيئا منه ، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان (٤). وسمى الأوثان رجسا لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. قال الأصمّ : إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها. وهذا بعيد ، وإنما وصفها بذلك استحقارا واستخفافا (٥).

والزور (٦) من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك (٧) (من أفكه إذا صرفه) (٨) وذكر المفسرون في قول الزور وجوها :

الأول : قولهم : هذا حلال وهذا حرام ، وما أشبه ذلك.

والثاني : شهادة الزور ؛ لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صلى الصبح فلما سلم قام قائما ، واستقبل الناس بوجهه ، وقال : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» وتلا هذه الآية (٩).

الثالث : الكذب والبهتان.

الرابع : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك(١٠).

قوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) حال من فاعل «اجتنبوا» (١١) ، وكذلك (غَيْرَ مُشْرِكِينَ)(١٢)

__________________

(١) قال الزجاج :(«من» ههنا لتخليص جنس من أجناس المعنى فأجتنبوا الرجس الذي هو الوثن) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٢٥.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢.

(٣) في ب : ولا تقولوا. وهو تحريف.

(٤) في الأصل بعد قوله : (عبادة الأوثان) كرر قوله : التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله.

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢ ـ ٣٣.

(٧) في النسختين : الإبل. والصواب ما أثبته.

(٨) ما بين القوسين بياض في الأصل ، وسقط من ب. والتكملة من الفخر الرازي.

(٩) أخرجه الترمذي (شهادات) ٤ / ٥٤٧ ، أبو داود (أقضية) ٤ / ٥٢٤ ابن ماجه (أحكام) ٢ / ٩٧٤ ، أحمد ٤ / ١٧٨ ، ٢٣٣ ، ٣٢١ ، ٣٢٢.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٢ ـ ٣٣.

(١١) في ب : اختلفوا. وهو تحريف.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٤ ، وجوز ابن عطية أن يكون قوله : «غَيْرَ مُشْرِكِينَ» صفة لقوله «حنفاء».


وهي (١) حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم «حنفاء» عدم الإشراك أي مخلصين له ، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله (٢) وحده لا على وجه إشراك غير الله به ، فلذلك قال (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). ثم قال : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي : سقط من السماء إلى الأرض.

قوله : «فتخطفه». قرأ نافع بفتح الخاء والطاء مشددة (٣) ، وأصلها تختطفه (٤) فأدغم (٥). وباقي السبعة «فتخطفه» بسكون الخاء وتخفيف الطاء (٦). وقرأ الحسن (٧) والأعمش وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد (٨). وروي عن الحسن أيضا (٩) بفتح الطاء مشددة مع كسر التاء والخاء (٧). وروي عن الأعمش كقراءة العامة إلا أنه بغير فاء «تخطفه» (٧) وتوجيه هذه القراءات قد تقدم في أوائل البقرة عند قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ)(١٠). وقرأ أبو جعفر «الرياح» جمعا (١١).

وقوله : «خرّ» في معنى (تخر) ، ولذلك عطف عليه المستقبل وهو «فتخطفه» (١٢).

ويجوز أن يكون على بابه ولا يكون «فتخطفه» عطفا عليه بل هو خبر مبتدأ مضمر أي : فهو تخطفه (١٣). قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من (١٤) المركب (١٥) والمفرق (١٦) فإن كان تشبيها مركبا ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته

__________________

(١) في الأصل : وهو.

(٢) لله : سقط من الأصل.

(٣) السبعة (٤٣٦) ، الكشف ٢ / ١١٩ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٥).

(٤) في الأصل : تخطفه. وهو تحريف.

(٥) أي أن أصل (تخطّفه) بتشديد الطاء (تختطفه) نقلت حركة التاء إلى الخاء وقلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء فصارت (تخطفه). الممتع ٢ / ٧٢ ـ ٧١٣ ، شرح الشافية ٣ / ٢٨٥.

(٦) أي أنه مضارع (خطف). السبعة (٤٣٦) ، الكشف ٢ / ١١٩ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٥.

(٧) الحسن : سقط من ب.

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(٩) أيضا : سقط من ب.

(٧) الحسن : سقط من ب.

(٧) الحسن : سقط من ب.

(١٠) «يخطف» : سقط من ب. [البقرة : ٢٠].

(١١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٦.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٤١.

(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٥.

(١٤) من : مكرر في الأصل.

(١٥) التشبيه المركب : ما كان وجه الشبه منتزعا من عدة أمور يجمع بعضها إلى بعض ثم يستخرج من مجموعها الشبه. انظر أسرار البلاغة (٧٣).

(١٦) التشبيه المفرق أو المفروق : هو أن يؤتى بمشبه ومشبه به ثم بمشبه ومشبه به أو بأكثر من ذلك كقول الشاعر :

النشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكف عنم

بغية الإيضاح ٣ / ٥٥.


الطير فتفرق مزعا (١) في حواصلها ، أو عصفت به الرياح حتى هوت به في بعض المطاوح (٢) البعيدة.

وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة (٣). والسحيق البعيد ، ومنه : سحقه الله ، أي : أبعده ، ومنه قول عليه‌السلام (٤) : «سحقا سحقا» (٥) أي بعدا بعدا. والنخلة السحوق الممتدة في (٦) السماء من ذلك (٧).

قوله تعالى (٨) : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) الآية. إعراب «ذلك» كإعراب «ذلك» المتقدم (٩) وتقدم تفسير الشعيرة واشتقاقها في المائدة (١٠). والمعنى : ذلك الذي ذكرت من اجتناب الرجس ، وقول الزور (١١) ، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.

قال ابن عباس (١٢) : شعائر الله البدن والهدايا. وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي ، وتعظيمها استحسانها واستسمانها. وقيل : شعائر الله أعلام دينه (١٣).

وقيل : مناسك الحج.

__________________

(١) مزعا : هو جمع مزعة ، وهو القطعة من اللحم ، أي تفرق قطعا من اللحم في حواصلها. انظر اللسان (مزع).

(٢) المطاوح : المقاذف. وطوحته الطوائح : قذفته القذائف. اللسان (طوح).

(٣) الكشاف ٣ / ٣١ ـ ٣٢.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) أخرجه البخاري (فتن) ٤ / ٢٢١ ، مسلم (طهارة) ١ / ٢١٨ ، فضائل ٤ / ١٧٩٣ ، ابن ماجه (زهد) ٢ / ١٤٤٠ ، الموطأ (طهارة) ١ / ٣٠ ، أحمد ٢ / ٣٠٠ ، ٤٠٨ ، ٣ / ٢٨ ، ٥ / ٣٣٣ ، ٣٣٩.

(٦) في الأصل : من. وهو تحريف.

(٧) اللسان (سحق).

(٨) تعالى : سقط من الأصل.

(٩) في قوله تعالى : «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ» من الآية (٣٠) من السورة نفسها.

(١٠) عند قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ» [المائدة : ٢]. وذكر هناك : قال ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج ، وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا ، ثم عطف عليه الهدايا ، والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه ، والشعائر جمع ، والأكثرون على أنه جمع شعيرة ، وقال ابن فارس : واحدها شعارة ، والشعيرة. فعيلة بمعنى مفعولة ، والشعيرة المعلمة ، والإشعار الإعلام ، وكل شيء علم فقد شعر ، وهو هنا أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون ذلك علامة أنها هدي  ..... انظر اللباب ٣ / ٢٠٧.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٨١.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٨١ ـ ٥٨٢.

(١٣) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٨١ ـ ٥٨٢.


قوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). أي : فإن تعظيمها (١) من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى (من) ليرتبط به (٢) ، وإنما ذكرت القلوب (٣) ، لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه وقلبه خال عنها ، فلهذا لا يكون مجدّا في الطاعات ، وأما المخلص الذي تمكنت التقوى من قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص (٤).

واعلم أن الضمير في قوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه ضمير الشعائر على حذف مضافه ، أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب.

والثاني : أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل قبله (٥) ، أي : فإن التعظيم من تقوى القلوب والعائد على اسم الشرط من هذه الجملة الجزائية مقدر تقديره : فإنها من تقوى القلوب منهم. ومن جوّز إقامة (أل) (٦) مقام الضمير ـ وهم الكوفيون ـ ، أجاز ذلك هنا ، والتقدير : من تقوى قلوبهم (٧) كقوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)(٨). والعامة على خفض «القلوب» ، وقرىء برفعها ، فاعلة للمصدر قبلها وهو «تقوى» (٩).

قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣٥)

قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : في الشعائر بمعنى الشرائع ، أي : لكم في التمسك

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) في الأصل بعد قوله : ليرتبط به : إلى من. وفي ب : قال الزمخشري. قال أبو حيان : وما قدره عامر من راجع من الضمير من الجزاء إلى (من) ، ألا ترى أن قوله : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. ليس في شيء منه ضمير يرجع من الجزاء إلى (من) يربطه ، وإصلاحه أن يقول : فإن تعظيمها منه ، فالضمير في منه عائد على (من). البحر المحيط ٦ / ٣٦٨.

(٣) في ب : المقلوب. وهو تحريف.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) في الأصل : قلبه. وهو تحريف.

(٦) في الأصل : إلى. وهو تحريف.

(٧) مذهب الكوفيين وجماعة من البصريين إقامة (ال) مقام الضمير ، وجعلوا منه قوله تعالى : «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» [النازعات : ٤١ ، ٤٢) الأصل : مأواه ، ومنع ذلك بعض البصريين ، وقالوا : التقدير : هي المأوى له. انظر التبيان ٢ / ٩٤١ ، المغني ٢ / ٥٠١ ـ ٥٠٢ ، الأشموني ١ / ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٨) [النازعات : ٤١].

(٩) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٨.


بها. وقيل : في بهيمة الأنعام ، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك. ورواه مقسم عن ابن عباس. وعلى هذا فالمنافع درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهرها إلى أجل مسمى ، وهو أن يسميها ويوجبها هديا ؛ فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها (١).

وروي عن ابن عباس أن في البدن منافع مع تسميتها هديا بأن تركبوها إن احتجتم (٢) إليها ، وتشربوا لبنها إن احتجتم (٧) إليه ، إلى أجل مسمّى إلى أن تنحروها (٣). وهذا اختيار الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق ، وهو أولى ؛ لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد ، فقال عليه‌السلام (٤) : «اركبها». فقال يا رسول الله إنها هدي. فقال : «اركبها ويلك» (٥). قال عليه‌السلام (٩) : «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» (٦). واحتج أبو (٧) حنيفة (٨) على أنه لا يملك من منافعها بأنه لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات. وأجيب بأن هذا قياس في معارضة النص فلا عبرة به ، وأيضا فإن أم الولد لا يملك بيعها ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا (٩). ومن حمل المنافع على سائر الواجبات يقول : (لَكُمْ فِيها) أي : في التمسك (١٠) بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده.

والأول قول جمهور (١١) المفسرين (١٢) لقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق ، أي : وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)(١٣)(١٤).

وقوله : «محلّها» يعني حيث يحل نحرها ، وأما (الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فالمراد به الحرم كله لقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)(١٥) أي : الحرم كله ، فالمنحر على هذا القول مكة ، ولكنها نزهت عن الدماء إلى منى ، ومنى من مكة قال عليه‌السلام (١٦) :

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٥٨٢.

(٢) في ب : احتجم. وهو تحريف.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٨٢.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) أخرجه البخاري (حج) ١ / ٢٩٣ ، مسلم (حج) ٢ / ١٩٦٠ ، ابن ماجه (مناسك) ٢ / ١٠٣٦ ، الدارمي (مناسك) ٢ / ٦٦ ، أحمد ٢ / ٢٤٥ ، ٢٥٤ ، ٢٧٨ ، ٣١٢ ، ٤٦٤ ، ٤٧٣ ، ٤٧٤ ، ٤٨٧ ، ٥٠٥.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٦) أخرجه مسلم (حج) ٢ / ٩٦١ ، أبو داود (مناسك) ٢ / ٣٦٧ ، أحمد ٣ / ٣١٧ ، ٣٢٤ ، ٣٢٥ ، ٣٤٨.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٨) في ب : أبو حنيفة رضي الله عنه.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(١٠) في ب : المتمسك.

(١١) جمهور : سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(١٣) [المائدة : ٩٥].

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(١٥) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا»[التوبة : ٢٨].

(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.


«كل فجاج مكة منحر ، (وكل فجاج منى منحر») (١)(٢). قال القفال : هذا إنما يختص بالهدايا التي تبلغ منى ، فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محلها موضعه (٣).

ومن قال : الشعائر المناسك فإن (٤) معنى قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة (يوم النحر) (٥)(٦).

قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) الآية (٧). قرأ الأخوان (٨) هذا وما بعده (٩) «منسكا» بالكسر. والباقون بالفتح (١٠).

فقيل : هما بمعنى واحد ، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر (١١). وقيل : المكسور مكان(١٢) ، والمفتوح مصدر (١٣).

قال ابن عطية : والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس ، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب (١٤). قال شهاب الدين : وهذا الكلام منه غير مرضي ، كيف يقول : ويشبه أن يكون الكسائي سمعه. والكسائي يقول : قرأت به. فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات ، وهو روايته لذلك قرأنا متواترا. وقوله : من الشاذ : يعني قياسا لا استعمالا فإنه فصيح في الاستعمال ، وذلك أن فعل يفعل بضم العين في المضارع قياس الفعل منه أن يفتح عينه مطلقا ، أي : سواء أريد به الزمان أم المكان أم

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (مناسك) ٢ / ١٠١٣ ، الدارمي (مناسك) ٢ / ٥٧ ومالك (حج) ١ / ٣٩٣ ، ٨٢٤.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(٤) في ب : قال.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٨٣ ـ ٥٨٤.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) الآية : سقط من ب.

(٨) الكسائي وحمزة.

(٩) وهو قوله تعالى.«لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ» من الآية (٦٧) من السورة نفسها.

(١٠) السبعة (٤٣٦) ، الكشف ٢ / ١١٩ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٥).

(١١) وذلك أن المصدر الميمي من الثلاثي يكون على مفعل بفتح العين إلا إذا كان مثالا واويّا صحيح اللام وقد حذفت فاؤه في المضارع نحو وضع أو كان المثال الواوي من باب فعل يفعل نحو وجل ووجل فالمصدر على مفعل الموحل وموضع واسم المكان من الثلاثي الذي يكون مضارعه على يفعل يكون على مفعل ، فاسم المكان من خرج وكتب مخرج ومكتب. انظر شرح الشافية ١ / ١٦٨ ـ ١٧٠ ، ١٨١.

(١٢) اسم المكان الذي على مفعل من الثلاثي الذي مضارعه يفعل خارج عن القياس إلا أنه قد جاء منه كلمات سمع في عينها الفتح والكسر ، وهي المفرق والمحشر ، والمسجد والمنسك. ولا يخفى أن الكسر وإن كان خارجا عن القياس إلا أنه فصيح الاستعمال. انظر شرح الشافية ١ / ١٨١.

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٩٤١.

(١٤) يبدو أن ابن عادل نقل نص ابن عطية من البحر المحيط ٦ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، والنص كما في تفسير ابن عطية : (والكسر في هذا من الشاذ في اسم المكان أن يكون (مفعل) من فعل يفعل ، مثل مسجد من ـ


المصدر (١) ، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم (٢) مذكورة في هذا الكتاب (٣).

فصل

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ)(٤) (أي : جماعة مؤمنة سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليه‌السلام (جَعَلْنا مَنْسَكاً)) (٥) أي ضربا من القربان ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند ذبحها ونحرها فقال : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي : عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم (٦). وقال : (بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) قيد (٧) بالنعم ، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين (٨) ، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصّنم العتر والعتيرة (٩) كالذبح والذبيحة.

قوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) في كيفية النظم (١٠) وجهان :

الأول : أن الإله واحد ، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح.

والثاني : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه. (فَلَهُ أَسْلِمُوا) انقادوا(١١) وأطيعوا ، فمن انقاد لله كان مخبتا فلذلك قال بعده (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)(١٢).

قال ابن عباس وقتادة : المخبت المتواضع الخاشع (١٣) وقال مجاهد : المطمئن إلى الله. والخبت المكان المطمئن من الأرض (١٤). قال أبو مسلم : حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول : أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال : أنجد وأتهم وأشأم (١٤).

__________________

ـ سجد يسجد ، ولا يسوغ فيه القياس ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب) ١٠ / ٢٧٨.

(١) انظر شرح الشافية ١ / ١٦٨ ، ١٨١.

(٢) وهذه الألفاظ هي : المنسك ، والمجزر ، والمنبت ، والمطلع ، والمشرق ، والمغرب ، والمفرق ، والمسقط ، والمسكن ، والمسجد ، والمنخر ، والقياس في هذه الألفاظ فتح العين لأن مضارع أفعالها يفعل بضم العين. انظر شرح الشافية ١ / ١٨١.

(٣) الدر المصون : ٥ / ٧٤.

(٤) في ب : ولكلّ أمّة جعلنا منسكا.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(٧) في ب : قد. وهو تحريف.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٥٨٤.

(٩) العتر : العتيرة ، وهي شاة كانوا يذبحونها في رجب لآلهتهم ، مثل ذبح وذبيحة والعتيرة : أول ما ينتج ، كانوا يذبحونها لآلهتهم. اللسان (عتر).

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(١١) في ب : وانقادوا.

(١٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(١٣) البغوي ٥ / ٥٨٥.

(١٤) الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.


وقال الكلبي : هم (١) الرقيقة قلوبهم (٢). وقال عمرو بن أوس (٣) : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا (٤).

قوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). يجوز أن يكون هذا الموصول في موضع جر أو نصب أو رفع ، فالجر من ثلاثة أوجه : النعت للمخبتين ، أو البدل منهم ، أو البيان لهم. والنصب على المدح. والرفع على إضمارهم (٥) وهو مدح أيضا ، ويسميه النحويون قطعا.

والمعنى : إذا ذكر الله ظهر عليهم الخوف من عقاب الله والخشوع والتواضع لله ، والصابرين على ما أصابهم من البلايا والمصائب من قبل الله ، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن ، فأما (٦) ما يصيبهم من قبل الظّلمة فالصبر عليه غير واجب بل لو أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة (٧).

قوله : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها. والعامة على خفض «الصّلاة» بإضافة المقيمين إليها(٨).

وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بنصبها على حذف النون تخفيفا كما تحذف النون لالتقاء الساكنين (٩). وقرأ ابن مسعود والأعمش بهذا الأصل «والمقيمين الصلاة» بإثبات النون ونصب الصلاة(١٠). وقرأ الضحاك : «والمقيم (١١) الصلاة» بميم (١٢) ليس بعدها

__________________

(١) في الأصل : هو.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٨٥.

(٣) هو عمرو بن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي أخذ عن أبيه وعبد الله بن عمرو بن العاص وأخذ عنه النعمان بن سالم وعمرو بن دينار. مات سنة ٧٥ ه‍.

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٢٨٠.

(٤) انظر البغوي ٥ / ٥٨٥ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥ ، الدر المنثور ٤ / ٣٦٠.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢ ، غير أن أبا البقاء لم يذكر في وجه الجر البيان.

(٦) في ب : وأما.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٥.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٩ ، التبيان ٢ / ٩٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٩) المراجع السابقة. أي أن أصل هذه القراءة : والمقيمين الصلاة حذفت النون كما حذفت من اللذين والذين حيث طال الكلام ، أي أنها حذفت للتخفيف ، ومثل هذا الحذف قول الشاعر :

الحافظو عورة العشيرة لا

يأتيهم من ورائنا نطف

وحذف نون اللذين قول الأخطل :

أبني كليب إنّ عميّ اللذا

سلبا الملوك وفكّكا الأغلالا

انظر الكتاب ١ / ١٤٦.

(١٠) المختصر (٩٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١١) في الأصل : والمقيمين. وهو تحريف.

(١٢) بميم : سقط من الأصل.


شيء (١). وهذه لا تخالف قراءة العامة لفظا وإنما يظهر مخالفتها لها وقفا وخطا. ثم قال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : يتصدقون فهم خائفون خاشعون متواضعون لله مشتغلون بخدمة ربهم بالبدن والنفس والمال.

قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(٣٧)

قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية. العامة على نصب «البدن» على الاشتغال (٢) ، ورجح النصب وإن كان محوجا للإضمار على الرفع الذي لم يحوج إليه ، لتقدم جملة فعلية على جملة الاشتغال وقرىء (٣) برفعها على الابتداء والجملة بعدها الخبر (٤) والعامة أيضا (٥) على تسكين الدال (٦). وقرأ الحسن ويروى عن نافع وشيخه أبي جعفر بضمها (٧) ، وهما جمعان لبدنة نحو ثمرة (٨) وثمر وثمر (٩) ، فالتسكين يحتمل (١٠) أن يكون تخفيفا من المضموم وأن يكون أصلا وقيل : البدن والبدن جمع بدن ، والبدن جمع بدنة نحو خشبة وخشب ثم يجمع خشبا على خشب وخشب (١١). وقيل : البدن اسم مفرد لا جمع يعنون اسم الجنس (١٢). وقرأ ابن أبي إسحاق : «البدنّ» بضم الباء والدال وتشديد النون (١٣) وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أنه قرأ كالحسن فوقف على الكلمة وضعف لامها (١٤) ، كقولهم : هذا فرج ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك (١٥) ويحتمل أن يكون اسما على فعل كعتل (١٦).

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٢) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٧ ، البيان ٢ / ١٧٦ ، التبيان ٢ / ٩٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٣) في ب : وقرأ. وهو تحريف.

(٤) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٧ ، التبيان ٢ / ٩٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٥) في الأصل : بعدها أيضا.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٧) المختصر (٩٥) ، وتفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٨) ثمرة سقط من ب.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢ ، القرطبي ١٢ / ٦٠.

(١٠) في ب : على.

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٠.

(١٣) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١٤) في ب : لأنها. وهو تحريف.

(١٥) أي : أنه وقف على المنصوب غير المنون بالتضعيف ، ثم وصل ، فأجرى الوصل مجرى الوقف.

انظر ابن يعيش ٩ / ٦٧ ـ ٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١٦) لأن (فعلّ) من أوزان الثلاثي المزيد فيه حرف واحد ، ويكون في الاسم نحو جبنّ والصفة نحو قمدّ ، عتلّ. الممتع ١ / ٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.


وسميت البدنة بدنة ، لأنها تبدن أي تسمن (١). وهل تختص بالإبل؟ الجمهور على ذلك ، قال الزمخشري : والبدن جمع بدنة سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة لأن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ألحق البقر بالإبل حين قال : «البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة» (٢) فجعل البقر في حكم الإبل ، فصارت البدنة متناولة في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه ، وإلا فالبدن هي الإبل ، وعليه تدل الآية(٣).

وقيل : لا تختص بالإبل ، فقال الليث : البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير ، وما يجوز في الهدي والأضاحي ، ولا تقع على الشاة (٤). وقال عطاء وغيره : ما أشعر من ناقة أو بقرة (٥) ، لقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين سئل عن البقر فقال : «وهل هي إلا من البدن» (وقيل : البدن يراد به العظيم السن من الإبل والبقر) (٦).

ونقل النووي في تحرير ألفاظ التنبيه (٧) عن الأزهري (٨) أنه قال : البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم (٩). ويقال للسمين من الرجال ، وهو اسم جنس مفرد (١٠).

قوله : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) هو (١١) المفعول الثاني للجعل بمعنى التصيير (١٢).

وقوله : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) الجملة حال (١٣) من هاء «جعلناها» ، وإما من (شَعائِرِ اللهِ) وهذان مبنيان على أن الضمير في «فيها» هل هو عائد على «البدن» أو على (شَعائِرِ اللهِ) ، والأول قول الجمهور.

قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ). نصب «صوافّ» على الحال ، أي مصطفة جنب بعضها إلى بعض (١٤). وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صوافي» جمع صافية ، أي : خالصة لوجه الله تعالى (١٥). وقرأ عمرو بن عبيد كذلك إلا أنه نون (١٦) الياء فقرأ «صوافيا» (١٧). واستشكلت من حيث إنه جمع متناه ، وخرجت على وجهين :

أحدهما : ذكره الزمخشري : وهو أن يكون التنوين عوضا من حرف الإطلاق عند

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٠.

(٢) أخرجه مسلم (حج) ٢ / ٩٥٥ ، وانظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٣).

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٣٣.

(٤) التهذيب ١٤ / ١٤٤ (بدن) ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) التنبيه : سقط من ب.

(٨) تقدم.

(٩) انظر التهذيب (بدن).

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(١١) في ب : وهو.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٩٤٢.

(١٤) انظر البيان ٢ / ١٧٦ ، التبيان ٢ / ٩٤٢.

(١٥) المختصر (٩٥) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(١٦) في ب : ترك. وهو تحريف.

(١٧) في ب : صواف. وهو تحريف. المختصر (٩٥). البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.


الوقف (١) ، يعني أنه وقف على «صوافي» بإشباع فتحة (٢) الياء فتولد (٣) منها ألف ، يسمى (٤) حرف الإطلاق ، ثم عوض عنه هذا التنوين ، وهو الذي يسميه النحويون تنوين الترنم (٥).

والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف ما لا ينصرف (٦). وقرأ الحسن «صواف» بالكسر والتنوين (٧) ، وجهها أنه نصبها بفتحة مقدرة فصار حكم هذه الكلمة كحكمها حالة الرفع والجر في حذف الياء وتعويض التنوين نحو هؤلاء جوار ، ومررت بجوار وتقدير الفتحة في الياء كثير (٨) كقولهم :

٣٧٦٥ ـ أعط (٩) القوس باريها (١٠)

وقوله :

٣٧٦٦ ـ كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق (١١)

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٣٣.

(٢) في الأصل : فتجر. وهو تحريف.

(٣) في ب : يتولد.

(٤) في الأصل : ثم.

(٥) تنوين الترنم : هو اللاحق للقوافي المطلقة التي آخرها حرف مد ، وهي الألف والواو والياء المولدات من إشباع الحركة وتسمى أحرف الإطلاق وهذا في لغة تميم وكثير من قيس ، كقول جرير :

أقلّي اللّوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن

وقد يبدل التنوين من حرف الإطلاق في غير القوافي كقراءة أبي الدينار الأعرابي : والليل إذا يسر [الفجر : ٤] بالتنوين في «يسر» المختصر (١٧٣). انظر شرح التصريح ١ / ٣٥ ـ ٣٦.

(٦) وذلك أن صرف ما لا ينصرف مطلقا لغة لبعض العرب حكاها الأخفش ، قال : وكانت هذه لغة الشعراء لأنهم قد اضطروا إليه في الشعر فجرت ألسنتهم على ذلك في الكلام. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٩ ، شرح التصريح ٢ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، الهمع ١ / ٣٧.

(٧) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٨) وذلك أن من العرب من يسكن ياء المنقوص في النصب قال الشاعر :

ولو أن واش باليمامة داره

وداري بأعلى حضر موت اهتدى ليا

قال المبرد : وهو من أحسن ضرورات الشعر ، لأنه حمل حالة النصب على حالتي الرفع والجر.

والأصح جوازه في السعة بدليل قراءة أبي جعفر الصادق «من أوسط ما تطعمون أهاليكم» [المائدة : ٨٩] بسكون الياء.

انظر شرح الأشموني وحاشية الصبان ١ / ١٠٠ ـ ١٠١.

(٩) في الأصل : أعطى.

(١٠) أي : استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه وينشد :

يا باري القوس بريا لست تحسنها

لا تفسدنها وأعط القوس باريها

مجمع الأمثال ٢ / ٣٤٥.

(١١) رجز لرؤبة وهو في ملحقات ديوانه (١٧٩) ، الخصائص ١ / ٣٠٦ ، ٢ / ٢٩١ ، المحتسب ١ / ١٤٦ ، ٢٨٩ ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٠٥ ، اللسان (قرق) ، الخزانة ٨ / ٢٤٧ ، شواهد الشافية ٤ / ٤٠٥ ، القاع : المكان المستوي. القرق : الأملس. جوار : جمع جارية. يتعاطين: يناول بعضهن بعضا. الورق : ـ


وقول الآخر :

٣٧٦٧ ـ وكسوت عار لحمه (١)

ويدل على هذه قراءة بعضهم «صوافي» بياء ساكنة من غير تنوين نحو رأيت القاضي يا فتى. بسكون الياء. ويجوز أن يكون سكن الياء في هذه القراءة للوقف ثم أجرى الوصل مجراه (٢).

وقرأ العبادلة (٣) ومجاهد والأعمش «صوافن» (٤) بالنون جمع صافنة (٥) ، وهي التي تقوم على ثلاثة وطرف الرابعة أي : على طرف سنبكه (٦) ، لأن البدنة تعلق (٧) إحدى يديها ، فتقوم على ثلاثة إلا أن الصوافن إنما يستعمل في الخيل كقوله : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ)(٨) كما سيأتي ، فيكون استعماله في الإبل استعارة.

فصل

سميت البدنة بدنة لعظمها يريد الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال : بدن الرجل بدنا وبدانة: إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال : بدّن تبدينا (٩).

(جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي : من أعلام دينه ، سميت شعائر ، لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) النفع في الدنيا والأجر في العقبى (١٠). (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) عند نحرها «صوافّ» أي قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك لما روى زياد بن جبير (١١)

__________________

ـ الدراهم. والشاهد فيه تسكين الياء من (أيديهن) في حالة النصب لأنها اسم (كأن) حملا على المرفوع والمجرور. وهي لغة لبعض العرب.

(١) شطر بيت من الكامل لم أجد له سابقا ولا لاحقا فيما رجعت إليه من مراجع وهو في البحر المحيط ٦ / ٣٦٩ ، والشاهد فيه إجراء (عار) في حالة النصب مجراه في حالة الجر من حذف الياء وتعويض التنوين.

(٢) وذلك أن المنقوص في حالة النصب عند الوقف عليه تثبت الياء لأنها قد قويت بالحركة في حال الوصل وجرت مجرى الصحيح فلم تحذف عند الوقف. شرح المفصل ٩ / ٧٥.

(٣) هم عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس.

(٤) في الأصل : صواف. وهو تحريف.

(٥) المختصر (٩٥) ، المحتسب ٢ / ٨١ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٩.

(٦) السنبك : طرف الحافر وجانباه من قدام ، وجمعه سنابك. اللسان (سنبك) وصفنت الدابة تصفن صفونا : قامت على ثلاث وثنت سنبك يدها الرابع.

(٧) في ب : تعقل.

(٨) من قوله تعالى : «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ»[ص : ٣١].

(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٨٥ ـ ٥٨٦.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٥٨٦.

(١١) هو زياد بن جبير بن حية الثقفي ، أخذ عن أبيه وسعد ، وأخذ عنه يونس بن عون وابن عبيد. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٣٤٢.


قال : رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ. وقال مجاهد : الصواف إذا علقت (٢) رجلها اليسرى وقامت على ثلاث (٣). قال المفسرون: قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) فيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها ، وهو أن يقال عند النحر: باسم الله والله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك (٤). والحكمة في اصطفافها ظهور كثرتها للناظر (٥) فتقوى نفوس المحتاجين ، ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجرا ، وإعلاء اسم الله وشعائر دينه (٦).

فصل (٧)

إذ قال : لله عليّ بدنة ، هل يجوز نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بمكة. واتفقوا في من نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة. ومن قال : لله عليّ جزور أنه يذبحه حيث شاء. وقال أبو حنيفة : البدنة بمنزلة الجزور ، فوحب أن يجوز له نحرها حيث يشاء ، بخلاف الهدي فإنه قال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)(٨) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي. واحتج أبو يوسف بقوله : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(٩) فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي.

وأجاب أبو حنيفة بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم ، فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن.

قوله : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت بعد النحر فوقعت (١٠) جنوبها على الأرض. وأصل الوجوب السقوط ، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب (١١) ، ووجب الجدار : أي سقط ، ومنه الواجب الشرعي كأنه وقع علينا ولزمنا. قال أوس بن حجر (١٢) :

٣٧٦٨ ـ ألم تكسف الشّمس شمس النّها

ر والبدر للجبل الواجب (١٣)

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٣٨٦.

(٢) في ب : عقلت.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٣٨٦.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٧.

(٥) في ب : للناظرين.

(٦) الفخر الرازي ٢٣ / ٣٧.

(٧) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٨) [المائدة : ٩٥].

(٩) لفظ الجلالة سقط من الأصل.

(١٠) في الأصل : وقعت.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٨٧.

(١٢) أوس بن حجر شاعر جاهلي من شعراء تميم ، كان عاقلا في شعره كثير الوصف لمكارم الأخلاق وهو من أوصفهم للحمير والسلاح ولا سيما القوس. الخزانة ٤ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(١٣) البيت من بحر المتقارب قاله أوس بن حجر وهو في ديوانه (١٠) ورواية الديوان :

ألم تكسف الشمس والبدر وال

كواكب للجبل الواجب

ومجاز القرآن ٢ / ٥١ ، الطبري ١٧ / ١٠٨ ، سمط اللآلي ٤٦٦ ، وتفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٢ ، والقرطبي ـ


قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أمر إباحة (وأطعموا القانع والمعترّ) (١) اختلفوا في معناهما ، فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر الذي يسأل (٢). قال الأزهري : قال ابن الأعرابي : يقال : عروت فلانا وأعتريته وعررته (٣) واعتررته (٤) : إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه (٥).

قال أبو عبيدة : روى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل (٦). فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة ، يقال : قنع قناعة : إذا رضي بما قسم له (٦). وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع الذي يسأل ، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل (٧). وقيل : القانع الراضي بالشيء اليسير من قنع يقنع قناعة فهو قانع. والقنع بغير ألف هو السائل. ذكره أبو البقاء (٨). وقال الزمخشري القانع السائل من قنعت وكنعت (٩) إذا خضعت له وسألته قنوعا ، والمعترّ : المتعرض بغير سؤال أو (١٠) القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال من قنعت قنعا وقناعة ، والمعتر المتعرض للسؤال (١١). انتهى.

وفرق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال : «قنع يقنع قنوعا» أي : سأل ، وقناعة أي : تعفف ببلغته واستغنى به ، وأنشد للشماخ (١٢) :

٣٧٦٩ ـ لمال المرء يصلحه فيغني

مفاقره أعفّ من القنوع (١٣)

وقال ابن قتيبة : المعتر المتعرض من غير سؤال ، يقال : عره واعترّه وعراه واعتراه أي : أتاه طالبا معروفه (١٤) ، قال :

__________________

ـ ١٢ / ٦٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧. يقول : إن الشمس والبدر والكواكب كسفت لموت فضالة بن كلدة ، وهو المقصود من قوله: للجبل. لأن البيت من قصيدة يرثيه بها. والشاهد فيه أن وجب بمعنى سقط على جنبه.

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٨٧ ـ ٥٨٨.

(٣) وعروته : سقط من ب.

(٤) في ب : واعتريت.

(٥) التهذيب : ١ / ٩٩ (عرر).

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٨٨.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٥٨٩.

(٨) فإنه قال :(«القانع» بالألف من قولك : قنع به إذا رضي بالشيء اليسير ويقرأ بغير الألف ، من قولك : قنع قنوعا ، إذا سأل) التبيان ٢ / ٩٤٣.

(٩) في الأصل : وكقنعت. وهو تحريف. وكنع يكنع كنوعا وأكنع : خضع ، وقيل : دنا من الذلة ، وقيل : سأل ، وأكنع الرجل للشيء إذا ذل له وخضع. اللسان (كنع).

(١٠) في ب : و.

(١١) الكشاف ٣ / ٣٤.

(١٢) الشماخ هو معقل بن ضرار الغطفاني ، مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وجعله الجمحيّ في الطبقة الثالثة من شعراء الإسلام. الخزانة ٣ / ١٩٦ ـ ١٩٧.

(١٣) البيت من بحر الوافر قاله الشماخ ، وقد تقدم.

(١٤) بالمعنى من تفسير غريب القرآن (٢٩٣) وبالنص من البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.


٣٧٧٠ ـ لعمرك ما المعترّ يغشى(١)بلادنا

لنمنعه بالضّائع المتهضّم (٢)

وقول الآخر.

٣٧٧١ ـ سلي الطّارق المعترّ يا أمّ مالك

إذا ما اعتراني بين قدري ومجزري (٣)

وقرأ أبو رجاء : «القنع» دون ألف (٤) ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن أصلها القانع فحذف الألف كما قالوا : مقول ، ومخيط وجندل وعلبط في مقوال ، ومخياط ، وجنادل ، وعلابط (٥).

والثاني : أن القانع هو الراضي باليسير ، والقنع السائل كما تقدم تقريره. قال الزمخشري : والقنع الراضي لا غير (٦). وقرأ الحسن : «والمعتري» اسم فاعل من اعترى يعتري (٧) وقرأ إسماعيل ويروى عن أبي رجاء والحسن أيضا «والمعتر» بكسر الراء اجتزاء بالكسر عن لام الكلمة (٨). وقرىء «المعتري» بفتح التاء (٩) ، قال أبو البقاء : وهو في معناه (١٠) أي : في معنى «المعتر» في قراءة العامة (١١). قال بعضهم (١٢) : والأقرب أن

__________________

(١) في ب : نعيش. وهو تحريف.

(٢) البيت من بحر الطويل قاله حسان بن ثابت ، وهو في ديوانه (٤٥١) ومجاز القرآن ٢ / ٥٢ ، وتفسير ابن عطيه ١٠ / ٢٨٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧ ، المعتر : المتعرض للمعروف من غير أن يسأل. وهو موطن الشاهد هنا. يغش : يأتي. الضائع : المهمل ضاع الشيء يضيع ضيعة وضياعا بالفتح : هلك ، المتهضم : المظلوم المغضوب المقهور.

(٣) البيت من بحر الطويل ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في البحر المحيط ٦ / ٣٤٧ ، والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق.

(٤) المحتسب ٢ / ٨٢ ، تفسير ابن عطية ١١٠ / ٢٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٠.

(٥) أي أن حذف الألف للتخفيف ، وقد استشهد ابن جني على حذف الألف تخفيفا بقول الشاعر :

أصبح قلبي صردا

لا يشتهي أن يردا

إلا عرادا عردا

وصلّيانا بردا

يريد عاردا وباردا. انظر المحتسب ٢ / ٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٠ ورجل علبط وعلابط : ضخم عظيم ، وناقة علبطة : عظيمة ، وصدر علبط : عريض ، ولبن علبط : رائب متكبد خاثر جدا ، وقيل كل غليظ علبط ، وكل ذلك محذوف من فعالل ، وليس بأصل ، لأنه لا تتوالى أربع حركات في كلمة واحدة. والعلبط والعلابط : القطيع من الغنم.

انظر اللسان (علبط).

(٦) الكشاف ٣ / ٣٤.

(٧) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٠.

(٨) المرجعان السابقان.

(٩) وهي قراءة أبي رجاء ، وعمرو بن عبيد. المحتسب ٢ / ٨٢. تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٤ ، البحر البحر المحيط ٦ / ٣٧٠.

(١٠) في الأصل : معنى. وهو تحريف. التبيان ٢ / ٩٤٣.

(١١) قال أبو البقاء : (يقال : عرّهم واعترّهم وعراهم واعتراهم إذا تعرض لهم للطلب) التبيان ٢ / ٩٤٣.

(١٢) وهو أبو عبيد. الفخر الرازي ٢٣ / ٣٧.


القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح ، والمعتر : هو الذي يعترض ويطالب ويعتريهم حالا بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا (١) يقنع بما يدفع إليه أبدا (٢).

وقال ابن زيد : القانع المسكين ، والمعتر الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة ، ويجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم (٣).

قوله : (كَذلِكَ سَخَّرْناها). الكاف نعت مصدر (٤) أو حال من ذلك المصدر ، أي مثل وصفنا ما وصفنا من نحرها قياما سخرناها لكم نعمة منا لتتمكنوا من نحرها. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا إنعام الله عليكم.

قوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) العامة على القراءة بياء الغيبة في الفعلين ، لأن التأنيث مجازي ، وقد وجد الفصل بينهما (٥). وقرأ يعقوب بالتاء فيهما اعتبارا باللفظ (٦).

وقرأ زيد بن عليّ «لحومها ولا دماءها» بالنصب والجلالة بالرفع ، (وَلكِنْ يَنالُهُ) بضم الياء(٧) على أن القائم مقام الفاعل «التّقوى». و «منكم» حال من التقوى ، ويجوز أن يتعلق بنفس «يناله».

فصل

لما كانت عادة الجاهلية إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله عزوجل (٨) فأنزل الله هذه الآية (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها)(٩). قال مقاتل : لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها. (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي ولكن يرفع إليه منكم الأعمال الصالحة ، وهي التقوى والإخلاص وما أريد به وجه الله (١٠).

فصل (١١)

قالت المعتزلة : دلّت هذه الآية على أمور :

أحدها : أن الذي ينتفع به فعله دون الجسم الذي ينحره.

وثانيها : أنه سبحانه غني عن كل ذلك وإنما (١٢) المراد أن يجتهد العبد في امتثال أمره.

__________________

(١) لا : سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٧.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٨٩.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٤٣.

(٥) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٢٧ ، البيان ٢ / ١٧٦ ، التبيان ٢ / ٩٤٣ ، الإتحاف (٣١٥).

(٦) انظر البيان ٢ / ١٧٦ ، التبيان ٢ / ٩٤٣ ، الإتحاف (٣١٥).

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٠.

(٨) في ب : الله تعالى.

(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٩٠.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٥٩٠.

(١١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٣٨.

(١٢) إنما : سقط من ب.


وثالثها : أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه ، وجب أن يكون تقواه فعلا له ، وإلا كان تقواه بمنزلة اللحوم.

ورابعها : أنه لما شرط القبول بالتقوى ، وصاحب الكبيرة غير متّق ، فوجب أن لا يكون عمله مقبولا وأنه لا ثواب له.

والجواب : أما الأولان فحقان ، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم.

وأما الرابع : فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقيا مطلقا ، ولكنه متّق فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص ، فوجب أن تكون طاعته مقبولة ، وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.

قوله : (كَذلِكَ سَخَّرَها) الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر (وَلِتُكَبِّرُوا) متعلق به أي إنما سخرها كذلك (١) لتكبروا الله ، وهو التعظيم بما يفعله عند النحر وقبله وبعده. و (عَلى ما هَداكُمْ) متعلق بالتكبير ، عدّي بعلى لتضمنه معنى الشكر على ما هداكم أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه ، وهو أن يقول : الله (٢) أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا ، ثم قال بعده على سبيل الوعد لمن امتثل أمره (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) كما قال من قبل (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال ابن عباس : المحسنين الموحدين (٣). والمحسن (٤) الذي يفعل الحسن من الأعمال فيصير محسنا إلى نفسه بتوفير الثواب عليه (٥).

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٤١)

قوله تعالى (٦) : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يدفع» ، والباقون «يدافع» (٧). وفيه وجهان :

أحدهما : أن (فاعل) بمعنى (فعل) المجرد نحو جاوزته وجزته وسافرت وطارقت (٨).

__________________

(١) في ب : لذلك.

(٢) في النسختين : اللهم.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٩١.

(٤) في الأصل : والمحسنين. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٨.

(٦) تعالى : سقط من ب.

(٧) السبعة : (٤٣٧). الكشف ٢ / ١١٩ ـ ١٢٠ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٥.

(٨) وذلك لأن المفاعلة قد تكون من واحد نحو : عاقبت اللص ، وداويت العليل وقد تكون فاعل للتكرير ، يدفع عنهم مرة بعد مرة ، وقد يأتي فاعل من واحد ، قالوا : سافر زيد. الكشف ٢ / ١٢٠ ، التبيان ٢ / ٩٤٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٣.


والثاني : أنه أخرج على زنة المفاعلة مبالغة فيه لأن فعل المبالغة أبلغ من غيره (١).

وقال ابن عطية : يحسن «يدافع» (٢) لأنه قد عن (٣) للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ودفعه عنهم مدافعة (٤). يعني فتختلط فيها المفاعلة.

فصل

لما بيّن الحج ومناسكه ، وما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، وذكر قبل ذلك صد الكفار عن المسجد الحرام ، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)(٥) قال مقاتل : إنّ الله يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة ، وهذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم ، فاستأذنوا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قتلهم سرا فنهاهم (٦).

والمعنى : أن الله يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين (٧) ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم ، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين (٨) ، فلذلك قال بعده (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته (٩) وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار ، وهو كقوله (١٠)(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً)(١١) وقوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا)(١٢) وقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(١٣)(١٤).

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانة الله «كفور» لنعمته. قال ابن عباس : خافوا الله فجعلوا معه شركاء وكفروا نعمه (١٥). قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام (١٦) بذبيحته وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور (١٧). قال مقاتل : أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه (١٨).

قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ). قرأ «أذن» مبنيا للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم ،

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٣٤ ، التبيان ٢ / ٩٤٣.

(٢) في النسختين دفاع. والصواب ما أثبته.

(٣) في النسختين : عز. وما أثبته من تفسير ابن عطية.

(٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٧ ، وفيه (معارضته) مكان (مقاومته).

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٩.

(٦) المرجع السابق.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٥٩١.

(٨) في النسختين : أنه يدافع بين المشركين. وما أثبته من الفخر الرازي.

(٩) انظر الفخر الرازي : ٢٣ / ٣٩.

(١٠) في الأصل : قوله.

(١١) من قوله تعالى :«لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» [آل عمران : ١١١].

(١٢) من قوله تعالى : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» [غافر : ٥١].

(١٣) [الصافات : ١٧٢].

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٩.

(١٥) انظر البغوي ٥ / ٥٩١ ـ ٥٩٢.

(١٦) في ب : الله. وهو تحريف.

(١٧) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٢٩ بتصرف يسير والبغوي ٥ / ٥٩٢.

(١٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠.


والباقون قرأوه مبنيا للفاعل (١). قال الفراء والزجاج : يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل (٢). وأما «يقاتلون» فقرأه مبنيا للمفعول نافع وابن عامر وحفص ، والباقون مبنيا للفاعل (٣). وحصل من مجموع الفعلين أن نافعا وحفصا بنياهما (٤) للمفعول. وأن ابن كثير وحمزة والكسائي بنوهما للفاعل ، (وأن أبا عمرو) (٥) وأبا بكر بنيا الأول للمفعول والثاني للفاعل ، وأن ابن عامر عكس هذا. فهذه أربع رتب والمأذون فيه محذوف للعلم به أي للذين يقاتلون في القتال (٦). و (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) متعلق ب «أذن» ، والباء سببية ، أي بسبب أنهم مظلومون.

فصل (٧)

قال المفسرون (٨) : كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج يشكون ذلك إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيقول لهم : «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال ، ونزلت هذه الآية بالمدينة. وقال مقاتل (٩) : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا يمنعون ، فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء (١٠). (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وهذا وعد منه تعالى بنصرهم ، كما يقول المرء لغيره : إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك ، لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك(١١).

قوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) يجوز أن يكون «الذين» في محل جر نعتا للموصول الأول (١٢) ، أو بيانا له ، أو بدلا منه وأن يكون في محل نصب على المدح ، وأن يكون في محل رفع على إضمار مبتدأ (١٣).

__________________

(١) فعلى قراءة البناء للمفعول القائم مقام الفاعل «للذين» ، والله هو الفاعل. ومن قرأ بالبناء للفاعل فعلى أنهم بنوا الفعل للفاعل المتقدم الذكر ، وهو الله جل ذكره.

السبعة (٤٣٧) الكشف ٢ / ١٢٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٣ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٥).

(٢) معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٢٧ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٣٠. بتصرف يسير.

والنص بلفظه من الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠.

(٣) السبعة (٤٣٧) ، الكشف ٢ / ١٢١ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف (٣١٥).

(٤) في ب : بناهما.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٣.

(٧) فصل : سقط من الأصل.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٩٢ ـ ٥٩٣.

(٩) في النسختين : مجاهد.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٩٢ ـ ٥٩٣.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠.

(١٢) من قوله تعالى : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» من الآية السابقة واقتصر ابن الأنباري على هذا الوجه. البيان ٢ / ١٧٦.

(١٣) انظر هذه الأوجه في التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٤ ، إلا أن أبا البقاء وأبا حيان لم يذكرا في وجر الجر البيان.


فصل

لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا ، فسر ذلك الظلم بقوله (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) ، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين :

الأول : أنهم أخرجوا من ديارهم.

والثاني : أخرجوهم بسبب قولهم : (رَبُّنَا اللهُ). وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم (١).

قوله : (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا). فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع (٢) ، وهذا مما يجمع العرب على نصبه ، لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه ، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا ما ضر. فلو توجه العامل جاز فيه لغتان : النصب وهو لغة الحجاز ، وأن يكون كالمتصل في النصب والبدل (٣) نحو ما فيها أحد إلا حمار (٤). وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل (٥) ، لأنك لو قلت : الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح (٦).

الثاني : أنه في محل جر بدلا من «حقّ».

قال الزمخشري : أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ، ومثله (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ)(٧)(٨) انتهى.

وممن جعله في موضع جر بدلا مما قبله الزجاج (٩). إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال : ما أجازاه من البدل لا يجوز ، لأن البدل لا يجوز إلا (١٠) حيث سبقه نفي أو نهي

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠.

(٢) وهو الراجح. تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، البيان ٢ / ١٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٤.

(٣) وهو لغة تميم.

(٤) انظر هذه القضية في البحر المحيط ٦ / ٣٧٤ ، وشرح التصريح ١ / ٣٤٨ ـ ٣٥٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ١٤١ ـ ١٤٨.

(٥) العامل : سقط من ب.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٣٧٤.

(٧) من قوله تعالى : «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» [المائدة : ٥٩].

(٨) الكشاف ٣ / ٢٤.

(٩) فإنه قال :(«أن» في موضع جر ، المعنى أخرجوا بلاحق إلا بقولهم : ربنا الله أي لم يخرجوا إلا بأن وحدوا الله ، فأخرجتهم عبدة الأوثان لتوحيدهم) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٠.

(١٠) في ب : إلا من.


أو استفهام في معنى النفي (نحو : ما قام أحد إلا زيد ، ولا يضرب أحد إلا زيد ، وهل يضرب أحد إلا زيد) (١) وأما إذا كان الكلام موجبا أو أمرا فلا يجوز البدل (لا يقال : قام القوم إلا زيد ، على البدل ، ولا يضرب القوم إلا زيد ، على البدل) (٧) لأن (٢) البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت : قام إلا زيد ، و (٣) ليضرب إلا عمرو لم يجز. ولو قلت في غير القرآن : أخرج الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاما ، هذا إذا تخيل أن يكون (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا) في موضع جر بدلا من «غير» المضاف إلى «حقّ» ، وأما إذا كان بدلا من «حق» كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد ، لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي (٤) غيرا فيصير التركيب : بغير إلا أن يقولوا ؛ وهذا لا يصح ، ولو قدرنا (إلا) (٥) بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد ، فنجعله بدلا لم يصح ، لأنه يصير التركيب : بغير قولهم ربنا الله ، فيكون قد أضيف غير إلى غير ، وهي هي ، فيصير بغير غير ، ويصح في (٦) ما مررت بأحد إلا زيد ، أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حين (٧) مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة جعل (إلا) (١١) بمعنى سوى ، ويصح على الصفة ، فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ، ويجوز أن تقول : ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل (٨).

قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين (٩).

وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت» بالتخفيف ، والباقون بتثقيل الدال (١٠) على التكثير ، لأن المواضع كثيرة متعددة ، والقراءة الأولى صالحة لهذا المعنى أيضا (١١).

قوله : (صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) العامة على «صلوات» بفتح الصاد واللام جمع صلاة (١٢) وقرأ جعفر بن محمد «وصلوات» بضمّهما (١٣). وروي عنه أيضا بكسر الصاد وسكون اللام (١٤). وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام (١٥). وأبو العالية بفتح

__________________

(١) ما بين القوسين تكملة من البحر المحيط.

(٧) في ب : عين. وهو تحريف.

(٢) في ب : إلا أن.

(٣) في ب : أو.

(٤) في ب : يل.

(٥) إلا : تكملة من البحر المحيط.

(٦) في ب : سقط من الأصل.

(٧) في ب : عين. وهو تحريف.

(١١) في ب : صالحة له والمعنى أيضا.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٧٤.

(٩) عند قوله تعالى : «وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» [البقرة : ٢٥١].

(١٠) السبعة (٤٣٨) ، الكشف ٢ / ١٢١ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف (٣١٦).

(١١) في ب : صالحة له والمعنى أيضا.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩١ ، التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٣) في النسختين : بضمها. والصواب ما أثبته. المحتسب ٢ / ٨٣ ، والتبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥ ، وحكاها ابن خالويه عنه بضم الصاد وسكون اللام. المختصر (٩٦).

(١٤) «صلوات». البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٥) «صلوات» المحتسب ٢ / ٨٣ ، التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.


الصاد وسكون اللام (١) ، والجحدري أيضا «وصلوت» بضمهما (٢) وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صلب وصلوب (٣) والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من فوقها (٤). والجحدري أيضا وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء المثلثة ألفا فقرءوا «صلوثا»(٥) ، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضا (٦) ، وروي عن الجحدري أيضا «صلواث» بضم الصاد وسكون اللام وألف بعد الواو والثاء مثلثة (٧). وقرأ عكرمة «صلويثا» بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف (٨) وحكى ابن مجاهد (٩) أنه قرىء «صلواث» بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة(١٠). وقرأ الجحدري «وصلوب» مثل كعوب بالباء الموحدة (١١) وهو جمع صليب وفعول جمع فعيل شاذ نحو ظريف وظروف وأسينة وأسون (١٢). وروي عن أبي عمرو (١٣) «صلوات» كالعامة إلا أنه لم ينون ، منعه الصرف للعلمية والعجمة ، كأنه جعله اسم موضع (١٤) فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات (١٥) المعهودة. ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع صلوات ، أو تضمن «هدّمت» معنى عطلت ، فيكون قدرا مشتركا بين المواضع والأفعال فإن تعطيل كل شيء بحسبه ، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف (١٦). والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل

__________________

(١) «صلوات» المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(٢) في الأصل : بضمها.

(٣) المختصر (٩٦) ، المحتسب ٢ / ٨٣ ، التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥. قال الكلبي : «صلوت» : مساجد اليهود. وقال الجحدري : «صلوت» مساجد النصارى. المحتسب ٢ / ٨٤.

(٤) «صلوث». البحر المحيط ٦ / ٣٧٥. قال قطرب : صلوث بالثاء : بعض بيوت النصارى. قال : والصلوث : الصوامع الصغار لم يسمع لها بواحد. المحتسب ٢ / ٨٥.

(٥) في الأصل : صلوة ، وهو تحريف. المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(٦) «صلوتا». المحتسب ٢ / ٨٣.

(٧) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(٨) المختصر (٩٦) ، المحتسب ٢ / ٤٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(٩) أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي الحافظ أبو بكر بن مجاهد البغدادي ، أول من سبع السبعة ، قرأ على عبد الرحمن بن عبدوس وقنبل المكي وعبد الله بن كثير وغيرهم وروى عنه إبراهيم بن أحمد الحطاب وإبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد وغيرهما. مات سنة ٣٢٤ ه‍. طبقات القراء ١ / ١٣٩ ـ ١٤٢.

(١٠) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١١) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٢) الأسينة : سير واحد من سيور تضفر جميعها فتجعل نسعا أو عنانا ، وكلّ قوة من قوى الوتر أسينة.

والجمع أسائن. اللسان (أسن) البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٣) أي : وروى هارون عن أبي عمرو.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.

(١٥) في ب : الصلوة. وهو تحريف.

(١٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٥.


ملة (١) بحسبها. وظاهر كلام الزمخشري أنها بنفسها اسم مكان فإنه قال : وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ، وقيل : هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا انتهى (٢).

وأما غيرها من القراءات ، فقيل : هي سريانية أو عبرانية دخلت في لسان العرب ولذلك كثر فيها اللغات (٣) والصوامع : جمع صومعة ، وهي البناء المرتفع الحديد الأعلى من قولهم رجل أصمع ، وهو الحديد القول ، ووزنها فوعلة كدوخلة (٤) ، وهي متعبد الرهبان لأنهم ينفردون. وقال قتادة : للصابئين (٥). والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى قاله قتادة والزجاج (٦).

وقال أبو العالية هي كنائس اليهود (٧). وقال الزجاج : الصوامع للنصارى ، وهي التي بنوها في الصحارى ، والبيع لهم أيضا وهي التي بنوها في البلد ، والصلوات لليهود (٨).

وقال الزجاج : وهي بالعبرانية صلوثا (٩). والمساجد للمسلمين. وهذا هو الأشهر.

وقال أبو العالية : الصلوات للصابئين (١٠). وقال الحسن : إنها بأسرها أسماء المساجد ، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع ، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه ، وأما الصلوات فالمعنى أنه لو لا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد (١١).

فصل

معنى (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي بالجهاد وإقامة الحدود كأنه قال : ولو لا دفع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الإيمان وعطلوا ما يبنونه (١٢) من مواضع العبادة (١٣).

وقال الكلبي : يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن (١٤) القاعدين عن الجهاد (١٥).

__________________

(١) في ب : مكة.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) انظر المحتسب ٢ / ٨٤.

(٤) الدّوخلة : البطنة ، والبطنة امتلاء البطن من الطعام. اللسان (دخل ـ بطن).

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٩٤. وتفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩١.

(٦) انظر معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٠ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٨) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٠ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٠.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) في الأصل : ما يبنوه.

(١٣) النظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٠ ـ ٤١.

(١٤) في الأصل : على.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.


وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس : يدفع الله بالمحسن (١) عن المسيء ، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي (٢) ، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق ، وبالذي يحج عن الذي لا يحج (٣).

وعن ابن عمر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ الله يدفع بالمسلم الصّالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه» ثم تلا هذه الآية (٤). وقال الضحاك : يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة (٥). وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود ، وعن النفوس بالقصاص (٦). فإن قيل : لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟ فالجواب أما على قول الحسن : فالمراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها. وأما على قول غيره فقال الزجاج : المعنى ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يتعبد فيه ، فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن نبينا المساجد(٧). فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ (٨). فإن قيل : كيف تهدم الصلوات على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين؟ فالجواب من وجوه :

الأول : المراد من هدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان ، إذا قابله بالكفر دون الشكر (٩).

الثاني : ما تقدم من باب حذف المضاف كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١٠) أي أهلها ، فالمراد مكان الصلاة.

الثالث : لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم : متقلدا سيفا ورمحا. وإن كان الرمح لا يتقلد (١١). فإن قيل : لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟

فالجواب لأنها أقدم في الوجود. وقيل أخر المساجد في الذكر كما في قوله : (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ)(١٢). قال عليه‌السلام (١٣) : «نحن الآخرون السّابقون» (١٤).

__________________

(١) في ب : المحسن.

(٢) في الأصل : لم يصل.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٤) المرجع السابق.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٦) المرجع السابق.

(٧) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣١.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١.

(٩) في الأصل : الشرك. وهو تحريف.

(١٠) من قوله تعالى : «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» [يوسف : ٨٢].

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤١ ـ ٤٢.

(١٢) من قوله تعالى : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» [فاطر : ٣٢].

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) أخرجه البخاري (جمعة) ١ / ١٥٧ ، ١٦٠ ، مسلم (جمعة) ٢ / ٥٨٦ ، وانظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.


قوله : (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ) يجوز أن يكون صفة للمواضع المتقدمة كلها إن أعدنا الضمير من «فيها» عليها (١). قال الكلبي ومقاتل : يعود إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كلها(٢). ويجوز أن يكون صفة للمساجد فقط إن خصصنا الضمير في «فيها» بها (٣) تشريفا لها (٤). ثم قال (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي : ينصر دينه ونبيه (٥).

وقيل : يتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ)(٦) أي : على هذه النصرة التي وعدها (٧) المؤمنين. «عزيز» وهو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده (٨).

قوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) يجوز في هذا الموصول ما جاز في الموصول قبله (٩) ويزيد هذا عليه بأنه يجوز أن يكون بدلا من (مَنْ يَنْصُرُهُ) ذكره الزجاج (١٠) أي : ولينصرن الله الذين إن مكناهم ، و (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) شرط و «أقاموا» جوابه ، والجملة الشرطية بأسرها صلة الموصول (١١).

فصل

لما ذكر الذين أذن لهم في القتال وصفهم في هذه الآية فقال : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق (١٢) أي : نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد. قال قتادة (١٣) : هم أصحاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المهاجرون لأن الأنصار لم يخرجوا من ديارهم فوصفهم بأنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ثم قال (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي : آخر أمور الخلق ومصيرهم أي : يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور له بلا منازع (١٤).

قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٣ ، التبيان ٩٤٤.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

(٣) بها : سقط من ب.

(٤) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٠١. والفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٩٥.

(٦) في ب : لقوي عزيز.

(٧) في ب : وعد.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

(٩) في قوله تعالى : «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ» [الحج : ٤٠] التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(١٠) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣١ ، وانظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٠ ، الكشاف ٣ / ٣٥ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٥ ، البيان ٢ / ١٧٧.

(١١) انظر البيان ٢ / ١٧٧.

(١٢) الفخر الرازي ٢٣ / ٤٢.

(١٣) من هنا نقله عن البغوي ٥ / ٥٩٥.

(١٤) آخر ما نقله عن البغوي ٥ / ٥٩٥.


وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٤٦)

قوله تعالى (١) : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) الآية. لما بيّن (٢) إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق ، وأذن في مقاتلتهم ، وضمن للرسول النصرة ، وبين أن لله عاقبة الأمور ، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول بالصبر (٣) على أذيته بالتكذيب وغيره ، فقال : وإن يكذبوك قومك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم ، وذكر الله تعالى سبعة منهم. فإن قيل : فلم قال : وكذب موسى. ولم يقل : وقوم موسى؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط.

الثاني : كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم ، وكذّب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي : أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) عاقبتهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ، وهذا استفهام تقرير ، أي ؛ أليس كان واقعا قطعا ، أبدلتهم بالنعمة نقمة ، وبالكثرة قلة ، وبالحياة موتا ، وبالعمارة خرابا؟ وأعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصر على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض ، فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم ، فإنه تعالى إنما يمهل لمصلحة ، فلا بد من الرضا والتسليم ، وإن شق ذلك على القلب (٤).

والنكير : مصدر بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار (٥). وأثبت ياء نكيري حيث وقعت ورش في الوصل وحذفها في الوقف ، والباقون بحذفها (٦) وصلا ووقفا (٧).

قوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) يجوز أن تكون «كأين» منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره (أهلكتها) وأن تكون في محل رفع بالابتداء ، والخبر (أهلكتها) (٨). وتقدم تحقيق القول فيها (٩). قال بعضهم : المراد من قوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وكم ، على وجه التكثير.

__________________

(١) تعالى : سقط من الأصل.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) في ب : بالنصر. وهو تحريف.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٥) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٩٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٦) في ب : بحد فهما. وهو تحريف.

(٧) السبعة (٤٤١) ، الكشف ٢ / ١٢٤ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف ٦ / ٣.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٩) عند قوله تعالى : «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» [آل عمران : ١٤٦].


وقيل : معناه : ورب قرية. والأول أولى ، لأنه أوكد في الزجر.

وقوله : «أهلكتها» قرأ أبو عمرو ويعقوب «أهلكتها» بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد لقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة «أهلكناها» (١).

قوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) جملة حالية من هاء «أهلكناها» (٢).

وقوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ) عطف على «أهلكتها» ، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني ، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول. وهذا عنى الزمخشري بقوله : والثانية ـ يعني قوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ) ـ لا محل لها ، لأنها معطوفة على «أهلكناها» وهذا الفعل ليس له محل (٣). تفريعا (٤) على القول بالاشتغال ، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة.

فصل (٥)

المعنى : وكم من قرية أهلكتها (أي أهلها) (٦) لقوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) ، أي : وأهلها ظالمون ، (فَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) على سقوفها. قال الزمخشري : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش ، والخاوي : الساقط من خوى النجم : إذا سقط ، أو من خوى المنزل : إذا خلا من أهله (٧). فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها ، فسقطت فوق السقوف. وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبرا بعد خبر ، أي : هي (٨) خالية وهي على عروشها ، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان قائمة ، فهي مشرفة على السقوف الساقطة (٩). قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على «قرية» ، وكذلك «قصر» أي : وكأيّ من بئر وقصر أهلكناهما (١٠). وقيل : يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على «عروشها» أي : خاوية على بئر وقصر أيضا ، وليس بشيء (١١).

__________________

(١) السبعة (٤٣٨). الكشف ٢ / ١٢١ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف (٣١٦).

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٥.

(٤) في ب : تعريفا.

(٥) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) الكشاف ٣ / ٣٥.

(٨) هي : سقط من الأصل.

(٩) انظر الكشاف أيضا ٣ / ٣٥.

(١٠) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٧ ، البيان ٢ / ١٧٨ ، التبيان ٢ / ٩٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(١١) قال الفراء : (البئر والقصر يخفضان على العروش ، وإذا نظرت في معناها وجدتها ليست تحسن فيها (على) ، لأن العروش أعالي البيوت ، والبئر في الأرض ، وكذلك القصر ، لأن القرية لم تخو على القصر ، ولكنه أتبع بعضه بعضا) معاني القرآن ٢ / ٢٢٨ ، وهذا يوضح سبب الضعف في هذا الوجه ، ـ


والبئر : من بأرت الأرض ، أي : حفرتها ومنه التأبير ، وهو شق كيزان الطلع ، والبئر : فعل بمعنى مفعول كالذّبح بمعنى المذبوح ، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب (١).

وقوله :

٣٧٧٢ ـ وبئري ذو حفرت وذو طويت (٢)

يحتمل التذكير والتأنيث. والمعطّلة : المهملة ، والتعطيل : الإهمال.

وقرأ الحسن : «معطلة» بالتخفيف (٣) ، يقال : أعطلت (٤) البئر وعطلتها فعطلت بفتح الطاء ، وأما عطلت المرأة من الحليّ فبكسر الطاء (٥). والمعنى : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها. والمشيد : المرتفع ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل (٦). وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد : المجصص من الشّيد (٧) وهو الجص (٨). وإنما بني هنا من شاده ، وفي النساء (٩) من شيّده ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير ، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف ، ولأنه رأس آية وفاصلة (١٠).

فصل

المعنى أنه تعالى بيّن أن (١١) القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك (١٢) البئر التي (١٣) تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ، ولا وارد ، والقصر الذي أحكموه بالجصّ وطولوه صار خاليا بلا

__________________

ـ ولهذا قال أبو حيان : (وجعل «وبئر معطّلة وقصر مشيد» معطوفين على «عروشها» جهل بالفصاحة) البحر المحيط ٦ / ٣٧٧ ولا يخفى أن الفراء قد عاد في نهاية كلامه إلى تفضيل هذا الوجه وهو العطف على العروش حيث قال : (والأول أحبّ إليّ) معاني القرآن ٢ / ٢٢٨ ، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٧ ، البيان ٢ / ١٧٨.

(١) في الأصل : القليل. وهو تحريف.

(٢) عجز بيت من بحر الوافر قاله سنان بن الفحل الطائي ، وصدره :

فإنّ الماء ماء أبي وجدّي

وهو في أمالي ابن الشجري ٢ / ٣٠٦ ، الإنصاف ١ / ٣٨٤ ، ابن يعيش ٣ / ١٧٤ ، ٨ / ٤٥ ، شرح التصريح ١ / ١٣٧ ، الهمع ١ / ٨٤ ، الأشموني ١ / ١٥٨ ، الخزانة ٦ / ٣٤ ، الدرر ١ / ٥٩ شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٥٩١.

(٣) البحر الحيط ٦ / ٣٧٦.

(٤) في ب : عطلت.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٦) انظر القرطبي ١٢ / ٧٤.

(٧) في ب : المشد. وهو تحريف. الشّيد : بالكسر كل ما طلي به الحائط من جصّ أو ملاط وبالفتح المصدر ، تقول : شاده يشيده شيدا : جصّصه. اللسان (شيد).

(٨) انظر القرطبي ١٢ / ٧٤.

(٩) وهو قوله تعالى : «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» [النساء : ٧٨].

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧.

(١١) في الأصل : أهل. وفي ب : أن أهل.

(١٢) في الأصل : هذا.

(١٣) في الأصل : الذي.


ساكن ، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر ، وهذا يدل على أن تفسير «على» ب «مع» أولى ، لأن التقدير: وهي خاوية مع عروشها (١). قيل : إنّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر على قلّة٠(٢) جبل والبئر في سفحه (٣) ، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين (٤). وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر بحضر موت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحا مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت ، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات ، فبنوا قوم صالح حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم جلهس بن (٥) جلاس ، وجعلوا وزيره سنحاريب ، فأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما ، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان ، وكان حمّالا فيهم ، فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم(٦).

قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : وهذا عجيب ، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها(٧): عكا ، فكيف يقال : إنه بحضر موت (٨).

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الآية. يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٩).

قوله : «فتكون» منصوب على جواب الاستفهام (١٠) ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير(١١). وقيل : على جواب النفي (١٢) وقرأ مبشر بن عبيد (١٣) : «فيكون» بالياء (١٤) من

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٥.

(٢) قلة كل شيء : رأسه. والقلّة : أعلى الجبل. وقلّة كلّ شيء أعلاه. اللسان (قلل).

(٣) السّفح : عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء ، وهو عرضه المضطجع ، وقيل : أسفل الجبل. وقيل : هو الحضيض الأسفل ، والجمع سفوح. اللسان (سفح).

(٤) انظر البغوي ٥ / ٥٩٦.

(٥) في ب : حلبس ابن.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٩٦ ـ ٥٩٧ ، والفخر الرازي ٢٣ / ٤٥.

(٧) لها : سقط من الأصل.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٥.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٥ ـ ٤٦.

(١٠) قاله ابن عطية. تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٨.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٧.

(١٣) مبشر بن عبيد القرشي الحمصي ، كوفي الأصل ، روى عن زيد بن أسلم ، وقتادة ، وأبي الزبير ، والزهري ، وغيرهم ، روى عنه محمد بن شعيب والخليل بن مرة ، وغيرهما. تهذيب التهذيب ١٠ / ٣٢ ـ ٣٣.

(١٤) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٧.


تحت لأن التأنيث مجازي. ومتعلق العقل (١) محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة (٢). ثم قال : (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل (٣) العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل ، فيكون القلب محلا للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه متحيرا يشبه الأعمى (٤). ثم قال (٥) : (أَوْ (٦) آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها.

قوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى) الضمير للقصة ، و (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) مفسرة له ، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث ، ولو ذكر في الكلام فقيل : «فإنه» لجاز ، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود (٧) ، والتذكير باعتبار الأمر والشأن. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره «الأبصار» وفي «تعمى» ضمير راجع إليه (٨).

قال أبو حيان : وما ذكره لا يجوز ، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحدا منه وهو في باب (ربّ) ، وفي باب نعم وبئس ، وفي باب الإعمال ، (وفي باب البدل) (٩) ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها ، وفي باب ضمير الشأن ، والخمسة الأول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة (١٠) ، وهذا ليس واحدا من الستة (١١).

قال شهاب الدين : بل (١٢) هذا من المواضع المذكورة ، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو «إنّ» فهو نظير قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، و :

٣٧٧٣ ـ هي النّفس تحمل ما حمّلت (١٣)

وقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)(١٤) وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده ، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ ، ولا أثر له ، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك (١٥).

قوله : (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) صفة أو بدل أو بيان ، وهل هو توكيد كقوله : (يَطِيرُ

__________________

(١) في ب : الفعل. أي : متعلق «يعقلون».

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.

(٣) في ب : القعل. وهو تحريف.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٦.

(٥) ثم : سقط من ب.

(٦) في النسختين : و. وهو تحريف.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٦.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) انظر المغني ٣ / ٤٨٩ ـ ٤٩٣ ، الهمع ١ / ٦٥ ـ ٦٧.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.

(١٢) في ب : بلى.

(١٣) في المغني : تحمل. والشاهد في هذين القولين أن الضمير مبتدأ مفسر بالخبر وهو من المواضع التي يكون مفسر الضمير فيها مؤخرا. انظر المغني ٢ / ٤٨٩ ، الهمع ١ / ٦٦.

(١٤) الدنيا : سقط من ب. [الأنعام : ٢٩] ومن [المؤمنون : ٣٧].

(١٥) الدر المصون : ٥ / ٧٧.


بِجَناحَيْهِ)(١) لأن القلوب لا تكون في غير الصدور ، أولها معنى زائد كما قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى في الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى (٢) هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك. (فقولك : الذي بين فكيك)(٣) تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهوا ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا (٤). وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه ، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير ، وليس من مواضع فصله ، وكان صوابه أن يقول تعمدته به. كما تقول : السيف ضربتك به ، لا ضربت به إياك(٥).

وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)(٦)(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ)(٧) وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله. قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل (٨) هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئا في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده (٩).

وقال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر (١٠) ، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)(١١) ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر (١٢). وفي محل العقل خلاف مشهور ، وإلى الأول مال ابن عطية قال : هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني ، وكقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(١٣)(١٤). وقد تقدم أن في قوله : «بأفواههم» فائدة زيادة على التأكيد.

__________________

(١) من قوله تعالى : «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» [الأنعام : ٣٨].

(٢) العمى : سقط من ب.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٦.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.

(٦) [الممتحنة : ١].

(٧) [النساء : ٣١].

(٨) في : سقط من الأصل.

(٩) الدر المصون ٥ / ٧٧.

(١٠) آخر : سقط من ب.

(١١) [ق : ٣٧].

(١٢) الفخر الرازي ٢٣ / ٤٦.

(١٣) من قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) [آل عمران : ١٦٧].

(١٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٩ ، وفيه الآية مقدمة على المثال. والآية فيه(بِأَفْواهِكُمْ)من قوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور : ١٥] ، ومن قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) [الأحزاب : ٤].


قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٥١)

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) الآية. نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : (إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ) (١) (٢).

وهذا يدل على أنه ـ عليه‌السلام (٣) ـ كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ، ولهذا قال : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، فأنجز ذلك يوم بدر. ثم بين أن العاقل لا ينبغي له أن يستعجل عذاب الآخرة فقال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) أي فيما ينالهم من العذاب وشدته (كَأَلْفِ سَنَةٍ) ، فبين تعالى أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه. قاله أبو مسلم (٤) وقيل : المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة (٥). وقيل : إن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء ، لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال (٦) يوم فلا يستبعدوا إمهال ألف سنة (٧)(مِمَّا تَعُدُّونَ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يعدّون» بياء الغيبة ، لقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) وقرأ الباقون بالتاء (٨) ، لأنه أعمّ ، ولأنه خطاب للمسلمين. واتفقوا (٩) في «تنزيل» السجدة بالتاء (١٠). قال ابن عباس : يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض (١١) وقال مجاهد وعكرمة: يوما من أيام الآخرة ، لما روى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالفوز التّام يوم القيامة تدخلون الجنّة قبل أغنياء النّاس بنصف يوم ، وذلك قدر خمسمائة سنة» (١٢).

__________________

(١) [الأنفال : ٣٢].

(٢) انظر البغوي ٥ / ٥٩٧.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.

(٥) المرجع السابق.

(٦) في ب : إلهام. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.

(٨) السبعة (٤٣٩) ، الكشف ٢ / ١٢٢ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف (٣١٦).

(٩) في الأصل : واختلفوا. وهو تحريف.

(١٠) وهو قوله تعالى : «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ»[السجدة : ٥].

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٩٨ ، الدر المنثور ٤ / ٣٦٥.

(١٢) أخرجه أبو داود (علم) ٤ / ٧٣ ، أحمد ٣ / ٦٣ ، ٩٦ ، وانظر البغوي ٥ / ٥٩٨.


قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي : أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم ، فاغتروا بذلك التأخير ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر ، وهو معنى قوله (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ). فإن قيل : ما الفائدة في قوله أولا «فكأين» بالفاء ، وهاهنا قال «وكأين» بالواو؟

فالجواب : أن الأولى وقعت بدلا من قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو ، أعني قوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ)(١).

قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أمر رسوله بأن يديهم لهم التخويف والإنذار ، وأن لا يصده استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار ، وأن يقول لهم: إنما بعثت للإنذار (٢) فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه (٣).

قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). لما أمر الرسول بأن يقول لهم : إني نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم ، لأن هذه صفة المنذر (٤) ، فقال (٥) : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فجمع بين الوصفين ، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان ، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان ، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور (٦) ، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم ، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر ، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة ، أو عن غفرانها قبل التوبة ، والأولان واجبان عند الخصم ، وأداء الواجب لا يسمى غفرانا فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة. وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب (٧) ، والكريم : هو الذي لا ينقطع أبدا وقيل : هو الجنة (٨).

قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي : اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحرا وشعرا وأساطير الأولين ، يقال لمن بذل جهده في أمر : إنه سعى فيه توسعا ، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال : إنه سعى ، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازا (٩) ، قال الزمخشري : يقال : سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه (١٠).

قوله : «معجّزين» قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ (١١).

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٣٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.

(٢) في ب : الإنذار. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.

(٤) في الأصل : المنعمد.

(٥) فقال : سقط من ب :.

(٦) في ب : محظور.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧ ـ ٤٨.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٥٩٩.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٨.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣٦.

(١١) وهما قوله تعالى : «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ»[سبأ : ٥] وقوله ـ


والباقون : «معاجزين» في الأماكن الثلاثة (١). والجحدري كقراءة (٢) ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن (٣). وابن الزبير «معجزين» بسكون العين (٤) فأما الأولى ففيها وجهان :

أحدهما : قال الفارسي : معناه ناسبين أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى العجز نحو : فسقته ، أي : نسبته إلى الفسق (٥).

والثاني : أنها للتكثير ومعناها مثبطين الناس عن الإيمان (٦).

وأما الثانية فمعناها ظانين أنهم يعجزوننا ، وقيل : معاندين (٧).

وقال الزمخشري : عاجزه : سابقه ، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل : أعجزه وعجّزه. فالمعنى : سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم (٨) والمعنى : سعوا في معناها بالفساد. وقال أبو البقاء : إن «معاجزين» في معنى المشدّد مثل : عاهد : عهّد ، وقيل : عاجز سابق ، وعجّز : سبق (٩).

فصل

اختلفوا في المراد هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين ، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه ، وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يعجزونه ويغلبونه ، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد (١٠).

فأما (١١) القائلون بالأول فقال قتادة : ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم وأن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، أو يعجزوننا : يفوتوننا فلا نقدر عليهم كقوله تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا)(١٢) ، أو يعجزون الله بإدخال الشّبه في قلوب الناس (١٣).

__________________

ـ تعالى : «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» [سبأ : ٣٧].

(١) السبعة (٤٣٩) ، الكشف ٢ / ١٢٢ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف ٣١٦.

(٢) في ب : لقراءة. وهو تحريف.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٧٩.

(٤) من أعجزني : إذا سبقك ففاتك. البحر المحيط ٦ / ٣٧٩.

(٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٠٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٠.

(٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٣٣. البحر المحيط ٦ / ٣٨٠.

(٧) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٣٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٩) التبيان ٢ / ٩٤٥.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٨.

(١١) في ب : وأما.

(١٢) [العنكبوت : ٤].

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٨.


وأما معاجزين فالمغالبة (١) في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى (٢).

ثم قال : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : أنهم يدومون فيها.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٥٧)

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم (٣) عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه (٤) على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش ، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفّر عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى)(٥) ، فقرأها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)(٦) ، ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدثه (٧) به نفسه ويتمنّاه: تلك الغرانيق (٨) العلى منها الشفاعة ترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ، ومضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قراءته ، وقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة (٩) ، فسجد المسلمون لسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من

__________________

(١) في ب : فالغالب وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ ـ ٤٨.

(٣) في ب : ما عد هو. وهو تحريف.

(٤) في ب : لحرضه. وهو تصحيف.

(٥) [النجم : ١].

(٦) [النجم : ١٩ ، ٢٠].

(٧) في ب : يحدث.

(٨) الغرانيق : هي الأصنام ، وهي في الأصل الذكور من طير الماء. ابن الأنباري : الغرانيق الذكور من الطير واحدها غرنوق ، وغرنيق سمي به لبياضه. وقيل هو الكركي. كانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله عزوجل ، وتشفع لهم إليه فشبهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء. قال ويجوز أن تكون الغرانيق في الحديث جمع الغرانق وهو الحسن. يقال : غرانق وغرانق وغرانيق. اللسان (غرنق).

(٩) عند قوله تعالى : «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا»[النجم : ٦٢].


البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين ، فلم يستطيعا السجود ، وتفرقت قريش ، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذّكر ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمد نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أتاه جبريل ، فقال : يا محمد ماذا صنعت تلوت على النّاس ما لم أنزل به عن الله عزوجل (١) ، وقلت ما لم أقل لك؟ فحزن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حزنا شديدا ، وخاف من الله خوفا عظيما فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيما (٢).

قال ابن الخطيب : وأما أهل التحقيق فقالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول : أما القرآن فقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(٣) ، وقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ)(٤) ، وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٥). فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله : تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال ، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)(٦) وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب (٧) أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل ، وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)(٨) وكلمة «لو لا» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فذلك دل (٩) على أن الركون (١٠) القليل لم يحصل ، وقوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ)(١١) ، وقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)(١٢) وأما السنة : فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة (١٣) فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتابا.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (١٤) هذه (١٥) القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال : رواة هذه القصة مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه ـ عليه‌السلام (١٦) ـ قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق (١٧).

__________________

(١) في ب : عن الله تعالى.

(٢) انظر تفسير البغوي ٥ / ٦٠٠ ـ ٦٠١ ، أسباب النزول للواحدي ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٥٠ ـ ٥١.

(٣) [الحاقة : ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦].

(٤) [يونس : ١٥].

(٥) [النجم : ٣ ، ٤].

(٦) [الإسراء : ٧٣].

(٧) في ب : قرب.

(٨) [الإسراء : ٧٤].

(٩) في ب : فدل ذلك.

(١٠) في ب : الركوب. وهو تحريف.

(١١) من قوله تعالى : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً»[الفرقان : ٣٢].

(١٢) [الأعلى : ٦].

(١٣) في الأصل : الصفة. وهو تحريف.

(١٤) تقدم.

(١٥) في ب : في هذه. وهو تحريف.

(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٧) عن ابن عباس ـ رضي الله عنه قال : سجد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. أخرجه البخاري (التفسير) ٣ / ١٩٤.


وروي هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه :

أحدها : أن من جوّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر (١) ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

وثانيها : أنه ـ عليه‌السلام (٢) ـ ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمنا لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروا ليلا أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم.

وثالثها : أن معاداتهم للرسول (٣) كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجّدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.

ورابعها : قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.

وخامسها : أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه ، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(٤) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان (٥) عن الوحي وبين الزيادة فيه.

فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة. وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين :

أحدهما : تمني القلب.

والثاني : القراءة ، قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ)(٦) أي : إلا قراءة ، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف ، وإنما يعلمه من القراءة.

وقال حسان (٧) :

٣٧٧٤ ـ تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر (٨)

__________________

(١) فقد كفر : سقط من ب.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : الرسول.

(٤) [المائدة : ٦٧].

(٥) في ب : فإنه لا فرق بين العقل والنقصان وهو تحريف.

(٦) [البقرة : ٧٨].

(٧) تقدم.

(٨) في المخطوط : المغالب. والبيت من بحر الطويل وقد تقدم ويروى : «أول ليله ـ وآخره». ـ


وقيل : إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها.

وقال أبو مسلم : التّمنّي هو التقدير ، وتمنّى هو تفعّل من منيت ، والمنيّة وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله (١) ، ومنّى الله لك أي : قدّر لك ، وإذا (٢) تقرر ذلك فإن التالي مقدر للحروف يذكرها شيئا فشيئا. فالحاصل أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر ، فإن فسرناها بالقراءة ففيه قولان :

الأول : أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه (٣) من قوله : تلك (٤) الغرانيق العلى.

والثاني : المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ، ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه :

الأول : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) ـ لم (٦) يتكلم بقوله : تلك الغرانيق العلى ، ولا الشيطان تكلم به ، ولا أحد تكلم به لكنه ـ عليه‌السلام (٧) ـ لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه (٨) من قولهم : تلك الغرانيق العلى. وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير (٩) ما يقال ، قاله جماعة وهو ضعيف لوجوه :

أحدها : أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما جرت العادة بسماعه ، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه.

وثانيها : أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم في بعض هذا لتوهم (١٠) بعض السامعين (١١) دون البعض فإن (١٢) العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة (١٣) على خيال (١٤) واحد فاسد في المحسوسات.

وثالثها : لو كان كذلك لم يكن مضافا إلى الشيطان.

الوجه الثاني : قالوا : إن ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء

__________________

ـ تمنى : قرأ وتلا ، وهو موطن الشاهد. الحمام بالكسر : قضاء الموت وقدره ، من قولهم : حمّ كذا ، أي قدّر.

(١) لفظ الجلالة سقط من ب.

(٢) في ب : إذا.

(٣) في ب : ما ورده. وهو تحريف.

(٤) في النسختين : إن.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في الأصل : لا.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : ما رواه. وهو تحريف.

(٩) في ب : عر وهو تحريف.

(١٠) في الأصل : يتوهم.

(١١) في الأصل : المسامعين. وهو تحريف.

(١٢) في ب : وإن.

(١٣) في ب : العادة. وهو تحريف.

(١٤) في ب : حال. وهو تحريف.


نفسه يوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن (١) أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول ، قالوا : ويؤيد ذلك أنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول ، فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول ، وعند سكوته ، فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول ، وما رأوا شخصا آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحا في النبوة لما لم يكن فعلا له. وهذا أيضا ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاما للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول (٢) فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع. فإن قيل : هذا الاحتمال قائم في الكل ، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله أن يبين الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس.

فالجواب لا يجب على الله تعالى إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات ، وإذا لم يجب على الله ذلك أمكن الاحتمال في الكل.

الوجه الثالث : أن يقال : المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس ، وهم الكفرة فإنه عليه‌السلام (٣) لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع ذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها ، فقال بعضهم : تلك الغرانيق العلا ، فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط (٤) القوم وكثرة مباحثهم ، وطلبهم تغليطه ، وإخفاء قراءته ، ولعل ذلك في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ، ويسمعون قراءته ، ويلغون فيها. وقيل : إنه عليه‌السلام (٢) كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات ، فألقى بعض الحاضرين ذلك (٥) الكلام في تلك الوقفات ، فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول ، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان ، لأنه بوسوسته يحصل أولا ، أو لأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم نفسه شيطانا.

وهذا أيضا ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول إزالة الشبهة وتصريح الحق ، وتبكيت ذلك القائل ، وإظهار أن هذه الكلمة صدرت منه ، ولو فعل ذلك لنقل ، فإن قيل : إنما لم يفعل الرسول ذلك ، لأنه كان (٦) قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة دون هذه الزيادة (٧) ، فلم يكن ذلك مؤديا إلى اللبس كما لم يؤد سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس.

__________________

(١) في ب : فيظن.

(٢) الرسول : سقط من ب.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : لفظ. وهو تحريف.

(٥) في ب : ملك. وهو تحريف.

(٦) كان : سقط من الأصل.

(٧) في الأصل : الروايات.


قلنا : لأن القرآن لم يكن مستقرا على حالة واحدة في زمان حياته ، لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور ، فلم تكن تأدية تلك (١) السورة بدون الزيادة سببا (٢) لزوال اللبس.

وثانيهما : لو كان كذلك لاستحق العتاب على فعل الغير ، وذلك لا يليق بالحكيم.

الوجه الرابع : أن المتكلم بهذا هو الرسول ـ عليه‌السلام (٣) ـ ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه :

إما أن يكون قال هذه الكلمة سهوا أو قسرا أو اختيارا. فإن قالها سهوا (٤) كما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا : إنه عليه‌السلام (٩) كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ، فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد ، وفرح المشركون بما سمعوا ، وأتاه جبريل واستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال : لم آتك بهذا ، فحزن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى أن أنزلت هذه الآية. وهذا ضعيف لوجوه :

أحدها : أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع ، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع.

وثانيها : أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ، وطريقتها ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحدا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.

وثالثها : هب أنه تكلم بذلك سهوا فكيف لا يتنبه لذلك حين قرأها على جبريل وذلك ظاهر. وأما إن تكلم بذلك قسرا ، كما قال قوم إن الشيطان أجبر (٥) النبي على التكلم به وهذا أيضا فاسد لوجوه :

أحدها : أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي لكان اقتداره علينا أكثر ، فوجب أن يزيل الشيطان الناس (٦) عن الدين ، ولجاز في أكثر ما يتكلم به أحدنا أن يكون ذلك بإجبار الشيطان.

وثانيها (٧) : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار (٨) لارتفع الأمان عن (٩) الوحي لقيام هذا الاحتمال.

وثالثها : أنه باطل لقوله تعالى حاكيا عن الشيطان (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)(١٠) ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا)(١١)

__________________

(١) في ب : هذه.

(٢) سببا : سقط من الأصل.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) سهوا : سقط من ب.

(٥) في النسختين أجرى. والصواب ما أثبته.

(٦) في ب : والناس. وهو تحريف.

(٧) في ب : وثانيهما. وهو تحريف.

(٨) في ب : الإخبار. وهو تحريف.

(٩) في الأصل : على.

(١٠) [إبراهيم : ٢٢].

(١١) [النحل : ٩٩].


وقال : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(١) ولا شك أنه ـ عليه‌السلام (٢) ـ كان سيد المرسلين.

وأما إن كان تكلمه بذلك اختيارا وهاهنا وجهان :

أحدهما : أن يقول إن هذه الكلمة باطلة.

والثاني : أن يقول إنها ليست كلمة باطلة.

أما على الأول فذكروا فيه طريقين :

الأول : قال ابن عباس في رواية عطاء : إن شيطانا يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم ، فجاءه جبريل فاستعرضه ، فقرأ السورة ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة. قال جبريل : أنا ما جئتك بهذا ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «أتاني آت على صورتك فألقاه على لساني».

الطريق الثاني : قال بعض الجهال : إنه ـ عليه‌السلام (٩) ـ لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ، ثم رجع عنها. وهذان القولان لا يرغب فيهما (٣) مسلم ألبتة ، لأن الأول يقتضي أنه ـ عليه‌السلام (٤) ـ ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث. والثاني (٥) يقتضي أنه كان خائنا في الوحي ، وكل واحد منهما خروج عن الدين.

وأما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضا طرق :

الأول : أن يقال : الغرانيق هم الملائكة ، وقد كان ذلك قرآنا منزلا في وصف الملائكة ، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله ذلك.

الثاني : أن يقال : المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، فكأنه قال : أشفاعتهن (٦) ترتجى؟

الثالث : أن يقال : ذكر تعالى الإثبات وأراد النفي كقوله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(٧) أي : لا تضلوا ، كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(٨) والمعنى أن تشركوا. وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا (٩) يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن ، أو في الصلاة بناء على هذا التأويل ، ولكن الأصل في الدين

__________________

(١) [الحجر : ٤٠] و [ص : ٨٣].

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : فيها. وهو تحريف.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) في ب : الثالث. وهو تحريف.

(٦) في ب : شفاعتهن.

(٧) [النساء : ١٧٦].

(٨) [الأنعام : ١٥١].

(٩) لا : سقط من الأصل.


أن لا يجوز عليهم شيئا من ذلك ، لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر ، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى (١) على تركها نحو الفظاظة وقول الشعر ، فقد ظهر القطع بكذب هذه الوجوه المذكورة في قوله : الغرانيق العلا هذا إذا فسرنا التمني بالتلاوة. فأما إن فسرنا التمني بالخاطر وتمني القلب ، فالمعنى أنه ـ عليه‌السلام (٢) ـ إذا تمنى بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته. ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه :

أحدها : أنه تمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا : إنه ـ عليه‌السلام (٧) ـ كان (٣) يحب أن يتألفهم (٤) ، فكان يتردد ذلك في نفسه ، فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه ، وهذا أيضا خروج عن الدين لما تقدم (٥).

وثانيها (٦) : قال مجاهد إنه ـ عليه‌السلام (٧) ـ كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير ، فنسخ الله ذلك بأن عرفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها.

وثالثها : يحتمل أنه ـ عليه‌السلام (٧) ـ عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إذا كان مجملا ، فيلقي الشيطان في جملته ما لم ينزل (٧) ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده بأدلته وآياته.

ورابعها : معنى (إِذا تَمَنَّى) إذا أراد فعلا مقربا (٨) إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه ، فرجع إلى الله في ذلك ، وهو كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(٩) ، وكقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ)(١٠). ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب ، لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتنة للكفار ، وذلك يبطله قوله : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ).

والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار (١١).

__________________

(١) تعالى : سقط من الأصل.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في الأصل : يرده.

(٣) في ب : كانوا وهو تحريف.

(٤) في الأصل : يتفالهم. وهو تحريف.

(٥) عند حديثه عن ضعف الوجه الرابع.

(٦) في ب : وثالثها. وهو تحريف.

(٧) في الأصل : يرده.

(٨) في ب : تقربا.

(٩) [الأعراف : ٢٠]. و «طيف» قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي وقرأ الباقون «طائف». انظر السبعة (٣٠١) ، الكشف ١ / ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

(١٠) [الأعراف : ٢٠٠].

(١١) الفخر الرازي ٢٣ / ٥١ ـ ٥٥.


فصل (١)

يرجع (٢) حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو (٣) ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر ، فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم ، وذلك هو المحكم. وقال أبو مسلم : معنى الآية أنه لم يرسل نبيا إلا إذا تمنى كأنه قيل : وما أرسلنا إلى البشر ملكا (٤) (وما أرسلنا إليهم نبيا إلا منهم) (٥) ، وما أرسلنا من نبي خلا عند (٦) تلاوته من وسوسة الشيطان ، وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك ، وبطلان ما يكون من الشيطان ، قال : وفيما تقدم من قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٨) تقوية لهذا التأويل ، كأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين : أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ، ولم يرسل الله قبلي ملكا ، وإنما أرسل رجالا فقد يوسوس الشيطان إليهم.

فإن قيل : هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة. قلنا : إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلائهم بالوسوسة على الملائكة. واعلم أنه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين :

الأول : كيفية إزالتها ، وهو قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) والمراد إزالته وإزالة تأثيره ، وهو النسخ اللغوي ، لا (٧) النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.

وأما قوله : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن ، وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا تجوز فيها الغلط.

البحث الثاني : أنه تعالى بين (٨) أثر تلك الوسوسة شرح أثرها في حق الكفار أولا ثم في حقالمؤمنين ثانيا ، أما في حق الكفار فهو قوله : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) ، وذلك أنهم افتتنوا (٩) لما سمعوا ذلك ، والمراد به تشديد التبعد ، لأن ما يظهر من الرسول ـ عليه‌السلام (١٠) ـ من الاشتباه في القراءة سهوا يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد ، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صوابا.

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) في ب : رجع. وهو تحريف.

(٣) في ب : الشهوة. وهو تحريف.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في ب : عن.

(٦) الآية (٤٩) من السورة نفسها.

(٧) في ب : لأن. وهو تحريف.

(٨) بين : سقط من ب.

(٩) في ب : فتنوا.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.


ثم قال : (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق ، وخصهم بذلك ، لأنهم مع كفرهم محتاجون إلى التدبر. (وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر) (١) وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم باطنا وظاهرا. ثم قال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين. والمعنى : وإنهم. فوضع الظاهر موضع المضمر ، قضى عليهم بالظلم وأبرزهم ظاهرين للشهادة عليهم بهذه الصفة الذميمة. والشقاق الخلاف الشديد والمعاداة والمباعدة سواء. وأما في حق المؤمنين فهو قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ولنرجع إلى الإعراب فنقول :

قوله : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ) في هذه الجملة بعد «إلّا» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها في محل نصب على الحال من «رسول» والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلا حاله هذه ، والحال محصورة (٢).

والثاني : أنها في محل الصفة (٣) لرسول ، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجر باعتبار لفظ الموصوف ، وبالنصب باعتبار محله ، فإن «من» مزيدة فيه (٤).

الثالث : أنها في موضع استثناء من غير الجنس. قاله أبو البقاء (٥) ، يعني : أنه استثناء منقطع و «إذا» هذه يجوز أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وإليه ذهب الحوفي (٦) ، وأن تكون لمجرد الظرفية. قال أبو حيان : ونصوا على أنه يليها ـ يعني «إلا» (٧) ـ في النفي المضارع بلا شرط نحو ما زيد إلا يفعل ، وما رأيت زيدا إلا يفعل ، والماضي بشرط تقدم فعل نحو (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا)(٨) ، أو مصاحبة (قد) نحو : ما زيد إلا قد فعل (٩) ، وما جاء بعد (إلا) في الآية جملة شرطية ولم يلها ماض مصحوب ب (قد) ، ولا

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٢) وهو صحيح لقبولها واو الحال ، أي : وما أرسلناه إلا وحاله هذه ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٢.

(٣) هذا قول الزمخشري في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه ، ورد عليه بأنه مذهب لا يعرف لبصري ولا كوفي ، لأنه يفصل بين الموصوف وصفته ب (إلا) فلا يقال : جاءني رجل إلا راكب لأنهما كشيء واحد فلا يفصل بينهما بها ، كما لا يفصل بها بين الصلة والموصول ولا بين المضاف والمضاف إليه ، ولأن «إلا» وما بعدها في حكم جملة مستأنفة والصفة لا تستأنف ولا تكون في حكم المستأنف ، كذا ذكره ابن مالك تبعا للأخفش والفارسي وذكره أيضا صاحب البسيط فالصواب أن الجملة في الآية والمثال حالية ، وإنما لم تقس الصفة على الحال لوضوح الفرق بينهما بجواز تقديم الحال على صاحبه ويخالفه في الإعراب والتنكير ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٢ ، الهمع ١ / ٢٣٠.

(٤) لأنها مسبوقة بنفي ومجرورها نكرة.

(٥) التبيان ٢ / ٩٤٥.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٣٨٢.

(٧) في ب : الراء. وهو تحريف.

(٨) من قوله تعالى : «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»[الحجر : ١١].

(٩) واقتران الماضي ب (قد) يغني عن تقديم فعل قاله ابن مالك كقول الشاعر :

ما المجد إلا قد تبيّن أنه

بندى وحلم لا يزال مؤثلا ـ


عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه يؤول على أن «إذا» جردت للظرفية ، ولا شرط فيها ، وفصل بها بين (إلا) والفعل الذي هو «ألقى» (١) ، وهو فصل جائز ، فتكون «إلا» قد وليها ماض في التقدير ، ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل (إلا) وهو (وَما أَرْسَلْنا)(٢). قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى هذا التكليف المخرج للآية عن معناها بل هي جملة شرطية إما حال أو صفة أو استثناء كقوله: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ)(٣) وكيف يدعي الفصل بها وبالفعل بعدها بين «إلا» وبين «ألقى» من غير ضرورة تدعو إليه ، ومع عدم صحة المعنى (٤).

وقوله تعالى : (إِذا تَمَنَّى) إنما أفرد الضمير ، وإن تقدمه سببان معطوف أحدهما على الآخر بالواو ، لأن في الكلام حذفا تقديره : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا تمنى ، ولا نبي إلا إذا تمنى كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٥) ، والحذف إما من الأول أو الثاني (٦). والضمير في «أمنيّته» فيه قولان : أظهرهما أنه ضمير الشيطان والثاني : أنه ضمير الرسول.

قوله : «ليجعل» في متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه :

أظهرها (٧) : أنها متعلقة ب «يحكم» ، أي : ثم يحكم الله آياته ليجعل ، وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) جملة اعتراض ، وإليه نحا الحوفي (٨).

والثاني : أنها متعلقة ب «ينسخ» وإليه نحا ابن عطية (٩) ، وهو ظاهر أيضا.

الثالث : أنها متعلقة ب «ألقى» (١٠) ، وليس بظاهر. وفي اللام (١١) قولان :

__________________

ـ لأن (قد) تقرب الفعل الماضي إلى الحال فأشبه المضارع ، والمضارع لا يشترط فيه تقدم لشبهه بالاسم ، والاسم بإلا أولى ، لأن المستثنى لا يكون إلا اسما ومؤولا به وإنما ساغ وقوع الماضي بتقديم الفعل ، لأنه مع النفي يجعل الكلام بمعنى : كلما كان كذا كان كذا فكان فيه فعلان كما كان مع (كلما) وقال ابن طاهر : أجاز المبرد وقوع الماضي مع (قد) بدون تقدم فعل ، ولم يذكره من تقدم من النحاة. وفي البديع لو قلت : ما زيد إلا قام. لم يجز ؛ فإن دخلت قد أجازها قوم. الهمع ١ / ٢٣٠.

(١) في ب : النفي. وهو تحريف.

(٢) البحر المحيط ٦ / ٣٨٢.

(٣) [الغاشية : ٢٣ ، ٢٤].

(٤) الدر المصون ٥ / ٧٨.

(٥) من قوله تعالى : «يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ» [التوبة : ٦٢].

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٢.

(٧) في ب : أظهرهما. وهو تحريف.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٨٢.

(٩) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٠٨.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٢.

(١١) في ب : الكلام. وهو تحريف.


أحدهما : أنها للعلة (١). والثاني : أنها للعاقبة (٢). و «ما» في قوله : (ما يُلْقِي) الظاهر أنها بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية (٣).

قوله : (وَالْقاسِيَةِ) أل في «القاسية» موصولة ، والصفة (٤) صلتها ، و «قلوبهم» فاعل بها ، والضمير المضاف إليه هو عائد الموصول ، وأنّثت (٥) الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي ، ولو وضع فعل(٦) موضعها لجاز تأنيثه (٧). و «القاسية» عطف على «الذين» (٨) ، أي : فتنة للذين في قلوبهم مرض وفتنة للقاسية قلوبهم.

قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ) عطف على «ليجعل» عطف علة على مثلها والضمير في «أنّه» قال الزمخشري : إنه (٩) يعود على تمكين الشيطان ، أي : ليعلم المؤمنون أن تمكين الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق (١٠). أما على قول أهل السنة فلأنه تعالى يتصرف كيف شاء في ملكه وملكه فكان حقا وأما على قول المعتزلة فلأنه تعالى حكيم فتكون كل أفعاله صوابا فيؤمنوا به (١١) وقال ابن عطية : إنه يعود على القرآن (١٢) ، وهو وإن لم يجر له ذكر فهو في قوة المنطوق ، وهو قول مقاتل (١٣). وقال الكلبي: إنه يعود إلى نسخ الله ما ألقاه الشيطان (٣).

قوله : «فيؤمنوا» عطف على «وليعلم» ، و «فتخبت» عطف عليه وما أحسن ما وقعت هذه الفاءان (١٤). ومعنى «فتخبت» أي تخضع وتسكن له قلوبهم لعلمهم بأن المقضي كائن وكلّ ميسّر لما خلق له (١٥).

فصل

ومعنى (أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : التوحيد والقرآن. وقال السّدّي : التصديق. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي: يعتقدوا أنه من الله (١٦).

قوله : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ)(١٧) قرأ العامة «لهاد (٧) الذين» بالإضافة تخفيفا (١٨). وابن أبي

__________________

(١) واستظهره أبو حيان.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٢.

(٣) المرجع السابق.

(٤) في الأصل : وصفة. وهو تحريف.

(٥) في ب : وأثبتت. وهو تحريف.

(٦) في ب : فعلى. وهو تحريف.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٢.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٤٥.

(٩) في ب : وإنه.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٣٧.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٦.

(١٢) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٠٨.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٦.

(١٤) لدلالة الفاء على الترتيب والتعقيب ، أي أن المعطوف متصل بالمعطوف عليه بلا مهلة ، فالخشوع متصل بالإيمان ، والإيمان متصل بالعلم بلا مهلة.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٦.

(١٦) انظر البغوي ٥ / ٦٠٤.

(١٧) في النسختين : لهادي.

(١٨) التبيان ٢ / ٩٤٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٣.


عبلة وأبو حيوة بتنوين الصفة وإعمالها في الموصول (١). والمعنى : أن الله يهدي الذين آمنوا إلى طريق قويم وهو الإسلام.

قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) الآية. لما بين حال الكافرين أولا ثم حال المؤمنين ثانيا عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى ، فقال : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) شك ونفاق «منه» أي : من القرآن ، أو من الرسول ، أو مما ألقاه الشيطان (٢).

والمرية والمرية بالكسر والضم لغتان مشهورتان (٣) ، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان (٤).

قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) وهذا يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه. «بغتة» أي : فجأة من دون أن يشعروا ، ثم جعل الساعة لكفرهم ، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء (٥). وقيل : أراد بالساعة الموت. (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). قال الأكثرون : هو يوم بدر. وقال عكرمة والضحاك : هو يوم القيامة (٦). والعقيم من العقم ، وفيه قولان :

أحدهما : أنه السد ، يقال : امرأة معقومة الرّحم أو مسدودته عن الولادة. وهو قول أبي عبيد.

والثاني : أن (٧) أصله القطع ، ومنه (الملك عقيم) أي (٨) : لأنه يقطع صلة الرحم بالتراحم عليه ، ومنه العقيم لانقطاع ولادتها (٩). والعقم انقطاع الخبر ، ومنه يوم عقيم ، قيل : لأنه لا ليلة بعده ، ولا يوم فشبه بمن انقطع نسله ، وقيل : لأنهم لا يرون فيه خيرا. وقيل (١٠) : لأن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم ، فكيف يحصل الحمل فيه. هذا إن أريد به يوم القيامة.

وإن أريد به يوم بدر فقيل : لأن أبناء الحرب تقتل فيه ، فكأن النساء لم يلدنهم فيكنّ عقما ، يقال : رجل عقيم وامرأة عقيم ، أي : لا يولد لهما. والجمع عقم.

وقيل : لأنه الذي لا خير فيه ، يقال : ريح عقيم إذا لم تنشىء مطرا ، ولم تلقح (١١) شجرا.

__________________

(١) المختصر (٩٦) ، التبيان ٢ / ٩٤٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٣.

(٢) أي أن الضمير في «منه» قيل : عائد على القرآن ، وقيل : على الرسول. وقيل : ما ألقى الشيطان. البحر المحيط ٦ / ٣٨٣.

(٣) والمرية والمرية : الشك والجدل. بالكسر والضم. اللسان (مرا).

(٤) قال أبو البقاء :(«في مرية» بالكسر والضم ، وهما لغتان) التبيان ٢ / ٩٤٦.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٦.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٦٠٥.

(٧) أن : سقط من ب.

(٨) في ب : أو.

(٩) اللسان (عقم).

(١٠) وقيل : سقط من ب.

(١١) في ب : ولم تنتج.


وقيل : إنه (١) لا مثل له في عظم أمره ، وذلك لقتال الملائكة فيه.

والقول الأول أولى لأنه لا يجوز أن يقال : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويكون المراد إلى يوم بدر ، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر (٢).

فإن قيل : لمّا ذكر الساعة ، فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار.

قلنا : ليس كذلك لأن الساعة مقدمات القيامة ، واليوم العقيم كما مر (٣) نفس ذلك اليوم على أن الأمر لو كان كما قال لم يكن تكرارا ، لأن في الأول ذكر الساعة ، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم(٤).

وإن أريد بالساعة وقت الموت ، وبعذاب يوم عقيم القيامة فالسؤال زائل (٥).

قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ، وهذا من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو هذا اليوم ، وأراد أنه لا مالك (٦) في ذلك اليوم سواه. و «يومئذ» منصوب بما تضمنه «لله» من الاستقرار ، لوقوعه خبرا (٧). و «يحكم» يجوز أن يكون حالا من اسم الله ، وأن يكون مستأنفا (٨) ، والتنوين في «يومئذ» عوض من جملة ، فقدرها الزمخشري : يوم يؤمنون. وهو لازم لزوال المرية ، وقدره أيضا : يوم نزول مريتهم (٩).

ثم بيّن تعالى كيف يحكم بينهم وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم والكافرين إلى عذاب مهين.

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، وقوله : «فأولئك» وما بعده خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط بالشرط المذكور (١٠) ، و «لهم» يحتمل أن يكون خبرا عن «أولئك» و «عذاب» فاعل به لاعتماده على المخبر عنه. وأن يكون خبرا مقدما وما بعده مبتدأ ، والجملة خبر «أولئك»(١١).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ

__________________

(١) في ب : إنه الذي.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٧.

(٣) كما مر : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٧.

(٥) في ب : أوائل. وهو تحريف.

(٦) في ب : لا ملك. وهو تحريف.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٤٦.

(٨) المرجع السابق.

(٩) الكشاف ٢ / ٣٨ ، والتقدير الثاني أولى.

(١٠) يجوز دخول الفاء في الخبر إذا كان المبتدأ اسما موصولا بشرط أن يكون عاما ، وأن تكون صلته جملة من فعل وفاعل أو ظرف أو جار ومجرور نحو الذي يأتيني فله درهم ، والذي عندي فمكرم. وقد تقدم الحديث عن اقتران الخبر بالفاء في سورة مريم عند الآية (٦٥). وانظر التبيان ٢ / ٩٤٦.

(١١) إذا وقع بعد الظرف أو الجار والمجرور مرفوع فإن تقدمها نفي نحو ما في الدار أحد ، أو استفهام نحو أفي الدار زيد ، أو موصوف نحو مررت برجل معه صقر ، أو موصول نحو جاء الذي في الدار أبوه ، أو صاحب كالآية التي معنا ، ونحو زيد عندك أخوه ، أو حال نحو مررت بزيد عليه جبة ففي المرفوع ثلاثة مذاهب : ـ


اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٦٢)

قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) مبتدأ ، وقوله : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ)(١) جواب قسم مقدر ، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا). وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ. ومن يمنع يضمر قولا هو الخبر يحكي به هذه الجملة القسمية. وهو قول مرجوح (٢).

قوله : «رزقا» يجوز أن تكون مفعولا ثانيا على أنه من باب الرعي والذبح أي : مرزوقا (٣) حسنا. وأن يكون مصدرا مؤكدا (٤).

__________________

ـ أحدها : أن الأرجح كونه مبتدأ مخبرا عنه بالظرف أو المجرور ، ويجوز كونه فاعلا.

الثاني : أن الأرجح كونه فاعلا ، واختاره ابن مالك ، وتوجيهه أن الأصل عدم التقديم والتأخير.

والثالث : أنه يجب كونه فاعلا ، ونقله ابن هشام عن الأكثرين.

وحيث أعرب فاعلا ففي العمل فيه خلاف هل هو الفعل المحذوف أو الظرف أو المجرور لنيابتهما عن استقر وقربهما من الفعل لاعتمادهما ، والمذهب المختار الثاني.

وشرط الاعتماد : مذهب البصريين ، ومذهب الكوفيين والأخفش لا يشترطون ذلك ولذا يجوز عندهم الوجهان في نحو في الدار أو عندك زيد ، وعند البصريين يوجبون الابتداء. انظر المغني ١ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

(١) في ب : «ليرزقنهم».

(٢) والذي منع وقوع جملة القسم خبرا ثعلب فلا يجوز عنده ما زيد والله لأضربنه ، ولعل المانع عنده إما كون جملة القسم لا ضمير فيها فلا تكون ، لأن الجملتين ههنا ليستا كجملتي الشرط والجزاء ، لأن الجملة الثانية ليست معمولة لشيء من الجملة الأولى ، ولهذا منع بعضهم وقوعها صلة. وإما كون جملة القسم إنشائية ، والجملة الواقعة خبرا لا بد من احتمالها للصدق والكذب ولهذا منع ابن الأنباري أن يقال : زيدا ضربه ، وزيد هل جاءك.

وهذا التعليل ليس بشيء والراجح وقوع جملة القسم خبرا لأن الجملتين (جملة القسم والجواب) مرتبطتان ارتباطا صارتا به كالجملة الواحدة وإن لم يكن بينهما عمل. ولأن الخبر الذي شرطه احتمال الصدق والكذب الخبر الذي هو قسيم الإنسان لا خبر المبتدأ للاتفاق على أن أصله الإفراد ، واحتمال الصدق والكذب إنما هو من صفات الكلام. ولأن السماع قد ورد بما منعه ثعلب كالآية التي معنا وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [العنكبوت : ٩].

شرح الكافية ١ / ١٩ ، المغني ٢ / ٤٠٥ ـ ٤٠٧ ، الهمع ١ / ٩٦.

(٣) في ب : يرزوقا. وهو تحريف.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٤٦.


وقوله : (ثُمَّ قُتِلُوا) وقوله : «مدخلا» تقدم الخلاف في القراءة بهما في آل عمران (١) وفي النساء (٢).

فصل

لما ذكر أن الملك له يوم القيامة ، وأنه يحكم بينهم ، ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد الكريم للمهاجرين ، وأفردهم بالذكر تفخيما لشأنهم فقال : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا)(٣) فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله ، وطلب رضاه (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) وهم كذلك قال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الآية العموم (٤). ثم قال : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) والرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبدا وهو نعيم الجنة. وقال الأصم : إنه العلم والفهم لقول شعيب ـ عليه‌السلام (٥) ـ (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً)(٦). (وقال الكلبي : (رِزْقاً حَسَناً)) (٧) أي حلالا وهو الغنيمة.

وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت ، وبعدهما لا يكون إلا نعيم الآخرة (٨). ثم قال : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) معلوم (٩) بأن كل الرزق من عنده. فقيل : إن (١٠) التفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره. وقيل : المراد أنه الأصل في الرزق ، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله (١١). وقيل : إن غيره ينقل من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق.

وقيل : إن غيره إذا رزق فإنما (١٢) يرزق لانتفاعه به ، إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق به حمدا أو ثناء ، أو لأجل الرقّة الجنسية ، أما (١٣) الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالا زائدا ، فالرزق الصادر منه لمحض الإحسان. وقيل : إن غيره إنما يرزق إذا حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل ، وتلك الإرادة من الله ، فالرازق في الحقيقة هو الله (١٤).

__________________

(١) من قوله تعالى : «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» [آل عمران : ١٦٩].

(٢) عند قوله تعالى : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً» [النساء : ٣١].

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٨.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) [هود : ٨٨].

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٨ ـ ٥٩.

(٩) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٥٨ ـ ٥٩.

(١٠) إن : سقط من ب.

(١١) في ب : الله تعالى.

(١٢) في ب : إنما.

(١٣) في ب : وأما.

(١٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٥٨ ـ ٥٩.


فصل (١)

قالت المعتزلة : الآية تدل على أمور ثلاثة :

الأول : أن غير الله (٢) قادر.

الثاني : أن غير الله يصح أن يرزق ويملك ، ولو لا كونه قادرا فاعلا لما صح ذلك.

الثالث : أن الرزق لا يكون إلا حلالا ، لأن قوله : (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يدل على كونهم ممدوحين.

والجواب : لا نزاع في كون العبد قادرا ، فإن القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام.

والثالث بحث لفظي تقدم الكلام فيه.

فصل

دل قوله : (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء ، لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد ، ويؤيده ما روى أنس أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «المقتول في سبيل الله والمتوفّى في سبيل الله بغير قتل هما في الأجر شريكان» ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها بالذكر فائدة (٣).

قوله : «ليدخلنّهم» هذه الجملة يجوز أن تكون بدلا من «ليرزقنّهم» وأن تكون مستأنفة (٤). وقوله : (مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) قال ابن عباس : إنما قال : «يرضونه» لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ف «يرضونه» وقوله : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)(٥) وقوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً)(٦)(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)(٧)(٨).

ثم قال : (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم ، أو عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة ، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على المعصية ، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة (٩).

قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ) «ذلك» خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك وما بعده مستأنف (١٠). والباء في قوله : (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء (١١)

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٥٩.

(٢) في ب : أن الله غير. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٩.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٤٦.

(٥) من قوله تعالى : «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ»[الحاقة : ٢١] ، [القارعة : ٧].

(٦) [الفجر : ٢٨].

(٧) [التوبة : ٧٢].

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٥٩ ـ ٦٠.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٤٦.

(١١) المرجع السابق.


والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة. (وَمَنْ عاقَبَ) مبتدأ خبره (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)(١).

فصل

المعنى : الأمر ذلك الذي قصصنا عليك (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي قاتل من كان يقاتله ، ثم كان المقاتل مبغيا عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتدىء بالقتال (٢).

قال مقاتل : نزلت في قوم من قريش أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من (٣) المحرم ، وكره المسلمون قتالهم ، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام ، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصروا ، فوقع في أنفس (٤) المسلمين من القتال في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية ، وعفا عنهم وغفر لهم (٥).

والعقاب الأول بمعنى الجزاء ، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٦)(يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ)(٧)(٨).

وهذه النّصرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك. وقال الضحاك : هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية (٩).

قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه : من حرّق حرّقناه ، ومن غرّق غرّقناه لهذا الآية ، فإن الله تعالى جوّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر. وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى : بل يقتل بالسيف. فإن قيل : كيف تعلق الآية بما قبلها؟

فالجواب : كأنه تعالى قال : مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم (١٠).

ثم قال : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)(١١)(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(١٢)(وَلَمَنْ صَبَرَ

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠.

(٣) في الأصل : بقين في. وهو تحريف.

(٤) في ب : أنفسهم. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠.

(٦) [الشورى : ٤٠].

(٧) [النساء : ١٤٢]. وذلك على سبيل المشاكلة ، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا. انظر الإيضاح ٣٦٠.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠ ـ ٦١.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٠.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) [سورة الشورى : ٤٠].

(١٢) [البقرة : ٢٣٧].


وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(١) فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه تعالى قال : إني عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها. وقيل : إنه تعالى وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما هو أولى وهو العفو والمغفرة ، فلوّح بذكر هاتين الصفتين.

وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده (٢).

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) وفيه وجهان :

الأول : أي : ذلك النصر بسبب أنه قادر ، ومن قدرته كونه خالقا لليل والنهار ومتصرفا فيهما ، فوجب أن يكون قادرا عالما بما يجري فيهما ، وإذا كان كذلك كان قادرا على النصر.

الثاني : المراد أنه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر (٣). ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر أنه يحصل ظلمة هذا في ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده.

وقيل هو أن يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات (٤). و «ذلك» مبتدأ و (بِأَنَّ اللهَ) خبره ، ثم قال : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي : أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، فكذلك يدرك المسموع والمبصر ، ولا يجوز المنع عليه ، وذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر (٥).

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) الآية. قرأ العامة «وأن ما» عطفا على الأول (٦). والحسن بكسرها استئنافا (٧). وقوله : (هُوَ الْحَقُّ) يجوز أن يكون فصلا ومبتدأ.

وجوّز أبو البقاء أن يكون توكيدا (٨). وهو غلط لأن المضمر لا يؤكد المظهر (٩) ، ولكان صيغة النصب أولى به من الرفع فيقال : إياه ، لأن المتبوع منصوب. وقرأ الأخوان

__________________

(١) [الشورى : ٤٣].

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦١.

(٣) المرجع السابق.

(٤) المرجع السابق.

(٥) المرجع السابق.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٤.

(٧) المرجع السابق.

(٨) التبيان ٢ / ٩٤٧.

(٩) وذلك لأن المظهر لا يؤكد إلا بظاهر ، ولا يؤكد بمضمر فلا تقول : جاءني زيد هو ، ولا مررت بزيد هو ، لأنه يشترط في المؤكد أن لا يكون أعرف من المؤكد ، والمضمر أعرف من المظهر فلم يجز أن يكون توكيدا له. وأيضا فإن الغرض من التوكيد الإيضاح والبيان وإزالة اللبس ، والمضمر أخفى من الظاهر فلا يصلح أن يكون مبينا له. ابن يعيش ٣ / ٤٢.


وحفص وأبو عمرو هنا وفي لقمان (١) «يدعون» بالياء من تحت. والباقون بالتاء من فوق ، والفعل مبني للفاعل (٢) وقرأ مجاهد واليماني بالياء من تحت مبنيا للمفعول (٣). والواو التي هي ضمير تعود على معنى «ما» (٤) والمراد بها الأصنام أو الشياطين (٥) ، ومعنى الآية : أن ذلك الوصف الذي تقدم من القدرة على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق ، أي (٦) : هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير والزوال وأن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كقوله : (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ)(٧)(٨).

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) العلي (٩) القاهر (١٠) المقتدر نبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغبا بذلك في عبادته زاجرا عن عبادة غيره ، وأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه ، وذلك يفيد كمال القدرة (١١).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)(٦٦)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) الآية لما دل على قدرته بما تقدم أتبعه بأنواع أخر من الدلائل على قدرته ونعمته فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ) وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن المراد الرؤية الحقيقية ، لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين ،

__________________

(١) وهو قوله تعالى : «ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» [لقمان : ٣٠].

(٢) السبعة (٤٤٠) الكشف ٢ / ١٢٣ ، النشر ٢ / ٣٢٧ ، الإتحاف (٣٩٦).

(٣) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٤.

(٤) ما : سقط من ب.

(٥) والأولى العموم في كل مدعو دون الله تعالى. تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٤.

(٦) أي : سقط من ب.

(٧) من قوله تعالى : «لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ»[غافر : ٤٣].

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦١.

(٩) العلي : سقط من ب.

(١٠) في ب : الفاعل. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦١.


واخضرار النبات على الأرض مرئي ، فحمل الكلام على حقيقته أولى.

والثاني : المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام.

الثالث : المراد ألم تعلم (١).

قال ابن الخطيب : والأول ضعيف ، لأن الماء وإن كان مرئيا إلا أن كون الله منزلا له من السماء غير مرئي ، وإذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم ، لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل (٢).

قوله : «فتصبح» فيه قولان :

أحدهما : أنه مضارع لفظا ماض معنى تقديره : فأصبحت ، قاله أبو البقاء (٣) ، ثم قال بعد أن عطفه على «أنزل» : فلا موضع له إذا (٣). وهو كلام ضعيف ، لأن عطفه على «أنزل» يقتضي أن يكون له محل من الإعراب وهو الرفع خبرا ل «أن». لكنه لا يجوز لعدم الربط.

الثاني : أنه على بابه ، ورفعه على الاستئناف. قال أبو البقاء : فهي ، أي : القصة ، و (تصبح) الخبر (٤). قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ ، بل هذه جملة فعلية مستأنفة لا سيما وقدّر(٥) المبتدأ ضمير القصة ثم حذفه ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يؤتى بضمير القصة إلا للتأكيد والتعظيم والحذف ينافيه (٦). قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت ، ولم صرف إلى لفظ المضارع. قلت : لنكتة (٧) فيه ، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم عليّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو (٨) شاكرا له ، ولو قلت : فرحت (٩) وغدوت لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جوابا بالاستفهام. قلت : لو نصب لأعطى عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار ، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر ، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله (١٠). وقال ابن عطية : قوله : «فتصبح» بمنزلة قوله : فتضحى أو تصير ، عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ، ووقع (١١) قوله : «فتصبح» من حيث

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) الفخر الرازي ٢٣ / ٦٣.

(٣) التبيان ٢ / ٩٤٧.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : قدر.

(٦) الدر المصون.

(٧) في الأصل : لكنه. وهو تحريف.

(٨) في ب : فأغدو وأروح.

(٩) في الأصل : رحت.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣٨ ـ ٣٩.

(١١) في النسختين : ورفع. والصواب ما أثبته.


الآية خبر ، والفاء عاطفة وليست بجواب ، لأن كونها جوابا (١) لقوله : (أَلَمْ تَرَ) فاسد المعنى (٢). قال أبو حيان : ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصب نافيا للاخضرار ، ولا (٣) كون المعنى فاسدا. قال سيبويه : وسألته ـ يعني الخليل ـ عن (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال : هذا واجب وتنبيه ، كأنك قلت : أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا (٤).

قال ابن خروف : وقوله : هذا واجب. وقوله : فكان كذا. يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام ب «أتسمع». (ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام) (٥) لضعف حكم الاستفهام فيه (٦).

وقال بعض شراح الكتاب : «فتصبح» لا يمكن نصبة ، لأن الكلام واجب ، ألا ترى أن المعنى أن الله أنزل فالأرض هذه حالها (٧). وقال الفراء : «الم تر» خبر ، كما تقول في الكلام : اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا (٨). ويقول (٩) : إنما امتنع النصب جوابا للاستفهام هنا ، لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام ، وإن كان يقتضي تقريرا في بعض الكلام ، هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)(١٠) وكذلك الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب. فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا. بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا محدثا ، وإنما تأتينا ولا تحدّث ، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتي فكيف تحدث ، فالحديث منتف في الحالتين(١١) ، والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة وينفي الجواب (١٢) ، فيلزم من هذا التقدير إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار ، وهو خلاف المقصود.

__________________

(١) في ب : لأنها جوابا. وهو تحريف.

(٢) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٣) في النسختين : إلا.

(٤) أي : أن هذا الكلام عند سيبويه والخليل خبر ، وليست الفاء بجواب لقوله «أَلَمْ تَرَ» وإنما خالف الواجب النفي لأنك تنقض النفي إذا نصبت وتغير المعنى. الكتاب ٣ / ٤٠.

(٥) ما بين القوسين مكرر في ب.

(٦) لأن الاستفهام تقريري. البحر المحيط ٦ / ٣٧٦.

(٧) البحر المحيط ٦ / ٣٨٦.

(٨) النص بلفظه من البحر المحيط ، وبتصرف من معاني القرآن ، وهو فيه (وقوله : فتصبح الأرض مخضرة ، رفعت فتصبح لأن المعنى في «أَلَمْ تَرَ» معناه خبر كأنك قلت : اعلم أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض) ٢ / ٢٢٩.

(٩) في الأصل : فيقول.

(١٠) [الأعراف : ١٧٢].

(١١) انظر شرح المفصل ٧ / ٢٧ ـ ٢٨.

(١٢) في ب : الجزم. وهو تحريف. وانظر شرح التصريح ٢ / ٣٣٩ ـ ٢٤٠.


وأيضا فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء كقوله :

٣٧٧٥ ـ ألم تسأل فتخبرك الرّسوم (١)

يتقدر : إن تسأل تخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر : إن تر إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة ، لأن اخضرارها ليس مترتبا على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال.

وإنما عبر بالمضارع ، لأن فيه تصوير الهيئة (٢) التي (٣) الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض ، والماضي يفيد انقطاع الشيء ، وهذا كقول جحدر بن معاوية يصف حاله مع أسد نازله في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف الثقفي ، وهي أبيات فمنها :

٣٧٧٦ ـ يسمو بناظرتين تحسب فيهما

لما أجالهما شعاع سراج

لما نزلت بحصن أزبر مهصر

للقرن أرواح العدا محّاج

فأكرّ أحمل وهو يقعي باسته

فإذا يعود فراجع أدراج

وعلمت أنّي إن أبيت نزاله

أنّي من الحجّاج لست بناج (٤)

فقوله : فأكرّ تصوير للحالة التي لابسها (٥). قال شهاب الدين : أما قوله : وأيضا فإن جواب الاستفهام ينعقد مع الاستفهام. إلى قوله : إنما هو مترتب على الإنزال. منتزع من كلام أبي البقاء. قال أبو البقاء : إنما رفع الفعل هنا وإن كان قبله استفهام لأمرين :

أحدهما : أنه استفهام بمعنى الخبر ، أي قدر رأيت فلا يكون له جواب.

والثاني : أن ما بعد الفاء ينصب إذا كان المستفهم عنه سببا له ، ورؤيته لإنزال الماء لا يوجب اخضرار الأرض ، وإنما يجب على الماء (٦). وأما قوله : وإنما عبر بالمضارع. فهو معنى كلام الزمخشري بعينه ، وإنما غير عبارته وأوسعها (٧).

__________________

(١) صدر بيت من بحر الوافر ، ولم يعز إلى قائل ، وعجزه :

على فرتاج والطّلل القديم

والبيت من شواهد سيبويه وهو في الكتاب ٣ / ٣٤ ، وشرح أبيات سيبويه للنحاس (٢٩٢) ، اللسان (فرتج) ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٦ ورواية اللسان : ألم تسألي فتخبرك. الفرتاج : موضع في بلاد طيىء.

والشاهد فيه نصب الفعل المضارع بعد الفاء لأنه جواب الاستفهام ، ولأن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء.

(٢) في ب : الهية ، وهو تحريف.

(٣) في ب : التي هي.

(٤) هذه الأبيات من بحر الكامل ، قالها جحدر بن مالك ، في الخزانة ٧ / ٤٦٥ البيت الأول رواية عجزه : من ظن خالهما شعاع سواج. والشاهد فيها كما بينه ابن عادل أن قوله (فأكر) تصوير للحالة التي لابسها.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٨٦.

(٦) التبيان ٢ / ٩٤٧.

(٧) الدر المصون : ٥ / ٨٠.


وقوله : «فتصبح» استدل به بعضهم على أن الفاء لا تقتضي التعقيب ، قال : لأن اخضرارها متراخ عن إنزال الماء ، هذا بالمشاهدة.

وأجيب عن ذلك بما نقله عكرمة من أن أرض مكة وتهامة على ما ذكروا أنها تمطر الليلة فتصبح الأرض غدوة خضرة ، فالفاء على بابها (١). قال ابن عطية : شاهدت هذا في السوس (٢) الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف (٣). وقيل : تراها (٤) كل شيء بحسبه (٥) ، وقيل : ثم جمل محذوفة قبل الفاء تقديره : فتهتز وتربو وتنبت ، بيّن ذلك قوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ)(٦) وهذا من الحذف الذي يدل عليه فحوى الكلام كقوله تعالى : (فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا (٧) الصِّدِّيقُ أَفْتِنا)(٨) إلى آخر القصة. و «تصبح» يجوز أن تكون الناقصة وأن تكون التامة «مخضرّة» حال قاله أبو البقاء (٩). وفيه بعد عن المعنى إذ يصير التقدير فتدخل الأرض في وقت الصباح على هذه الحال. ويجوز فيها أيضا أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بهذا الزمن الخاص ، وإنما خص هذا الوقت لأن الخضرة والبساتين أبهج ما ترى فيه ويجوز أن تكون بمعنى تصير. وقرأ العامة «مخضرّة» بضم الميم وتشديد الراء اسم فاعل من اخضرّت فهي مخضرّة ، والأصل مخضررة بكسر الراء الأولى فأدغمت في مثلها. وقرأ بعضهم «مخضرة» بفتح الميم وتخفيف الراء (١٠) بزنة مبقلة ومسبعة.

والمعنى : ذات خضروات وذات سباع وذات بقل.

ثم قال : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي : أنه (١١) رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به ، لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة ، والسماء إذا أمطرت كان ذلك سببا لعيش الحيوان أجمع. ومعنى «خبير» أي ؛ عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٤.

(٢) السّوس : واد في جنوب المغرب ١٨٠ كم ، ينبع في سفح طوبقال بالأطلس الأعلى. المنجد في الأعلام (٣١٤).

(٣) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٤) في الأصل : تراخى. وهو تحريف.

(٥) وذلك أن الفاء تدل على الترتيب والتعقيب في كل شيء بحسبه ، نحو جاء زيد فعمرو ، أي عقبه بلا مهلة ، ويقال : تزوج فلان فولد له. إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل. ودخلت البصرة فبغداد ، إذ لم تقم في البصرة ولا بين البلدين. ومنه قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» المغني ١ / ١٦ ـ ١٦٢ ، الهمع ٢ / ١٣١.

(٦) [الحج : ٥].

(٧) أيها : سقط من ب.

(٨) [يوسف : ٤٥ ، ٤٦].

(٩) التبيان : ٢ / ٩٤٧.

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٣.


من غير زيادة ولا نقصان. وقال ابن عباس : «لطيف» بأرزاق عباده «خبير» بما في قلوبهم من القنوط. وقال الكلبي : «لطيف» في أفعاله «خبير» بأعمال خلقه.

وقال مقاتل : «لطيف» باستخراج النبت «خبير» بكيفية خلقه (١).

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) عبيدا وملكا ، وهو غني عن كل شيء لأنه كامل لذاته ، ولكنه لما خلق (٢) الحيوان فلا بد في الحكمة من مطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاما عليهم لا لحاجة به (٣) إلى ذلك ، وإذا كان كذلك كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه ، فكان مستحقا للحمد ، فكأنه قال : إنه لكونه غنيا لم يفعل ما فعله إلا للإحسان ، ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا ، فلهذا قال : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٤).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ، ولا أشد من الحديد ، ولا أكثر هيبة من النار ، وقد سخرها لكم ، وسخر الحيوانات أيضا حتى ينتفع بها للأكل والركوب والحمل (٥).

قوله : (وَالْفُلْكَ) العامة على نصب «الفلك» وفيه وجهان :

أحدهما : أنها عطف على (ما فِي الْأَرْضِ) أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك ، وأفردها بالذكر وإن اندرجت بطريق العموم تحت «ما» في قوله (ما فِي (٦) الْأَرْضِ) لظهور الامتنان بها ، ولعجيب تسخيرها دون سائر المسخرات ، و «تجري» على هذا حال (٧).

والثاني : أنها عطف على الجلالة ، وتقديره : ألم تر أنّ (٨) الفلك تجري في البحر ، ف «تجري» خبر على هذا (٩). وضم لام «الفلك» هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن ، وهي قراءة ابن مقسم (١٠) ، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني برفع (وَالْفُلْكَ)(١١) على الابتداء ، و «تجري» بعده الخبر (١٢). ويجوز أن يكون ارتفاعه

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٣.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٣.

(٣) في ب : بهم. وهو تحريف.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٣.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٣.

(٦) ما : سقط من ب.

(٧) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٣٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٥ ، التبيان ٢ / ٩٤٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(٨) في ب : إلى. وهو تحريف.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ١٣٥ ، التبيان ٢ / ٩٤٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(١٠) البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٥ ، التبيان ٢ / ٩٤٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.


عطفا على محل اسم «إن» عند من يجيز ذلك (١) نحو إن زيدا وعمرو قائمان ، وعلى هذا ف «تجري» حال أيضا (٢) والباء في «بأمره» للسببية.

فصل (٣)

وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح تجريها ، فلو لا صفتها على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص (٤) أو تقف فنبه تعالى على نعمته بذلك ، وبأن خلق ما تعمل منه السفن ، وبأن بين كيف تعمل ، وقال : «بأمره» لما كان تعالى هو المجري لها (٥) بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعا ، لأن ذلك يفيد (تعظيمه بأكثر مما يفيد) (٦) لو أضافه إلى فعله على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة (٧).

قوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ) (في «أن تقع») (٨) ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها في محل نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر تقديره من أن تقع (٩).

الثاني : أنها في محل نصب فقط لأنها بدل من «السماء» بدل اشتمال أي ويمسك وقوعها بمنعه(١٠).

الثالث : أنها في محل نصب على المفعول من أجله ، فالبصريون يقدرون كراهة أن تقع ، والكوفيون لئلا تقع (١١).

قوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) في هذا الجار وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «تقع» أي : إلا بإذنه فتقع (١٢).

والثاني : أنه متعلق ب «يمسك».

قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود قوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) على الإمساك ، لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، كأنه أراد إلا بإذنه فيه نمسكها (١٣). قال أبو حيان : ولو كان

__________________

(١) وهم الكوفيون ، فهم يجوزون العطف على محل اسم (إن) لأنهم لا يشترطون في العطف على المحل وجود المحرز أي الطالب لذلك المحل ، ولأن (إن) لم تعمل عندهم في الخبر شيئا ، بل هو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها. والبصريون يمنعون العطف على محل اسم (إن) لأن بعضهم يشترط في العطف على المحل وجود المحرز ، ومن لم يشترط منهم ذلك يمنع إنّ زيدا وعمرو قائمان لتوارد عاملين إن والابتداء على معمول واحد وهو الخبر ، ويجيز إن زيدا قائم وعمرو. المغني ٢ / ٤٧٤ ، الهمع ٢ / ١٤١.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(٣) في الأصل : قوله. وهو تحريف.

(٤) في ب : لعوض. وهو تحريف.

(٥) في ب : لهما. وهو تحريف.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٤.

(٨) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٤٨.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٤٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(١٣) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٥.


على ما قال لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء ويكون التقدير : ويمسك السماء بإذنه (١).

قال شهاب الدين : فهذا الاستثناء مفرغ ، ولا يقع في موجب ، لكنه لما كان الكلام قبله في قوة النفي ساغ ذلك إذ التقدير : لا يتركها تقع إلا بإذنه ، والذي يظهر أن هذه الباء حالية ، أي : إلا ملتبسة بأمره (٢). ثم قال : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام ، فهو إذا رؤوف رحيم (٣) قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) أنشأكم ولم تكونوا شيئا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة للثواب والعقاب (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) لنعم الله عزوجل (٤) ، وهذا كما يعدد (٥) المرء نعمه على ولده ثم يقول: إن الولد لكفور لنعم الوالد زجرا له عن الكفران ، وبعثا له على الشكر ، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار ، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله (٦) : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(٧).

قال ابن عباس : الإنسان هنا هو الكافر ، وقال في رواية : هو الأسود بن عبد الأسد (٨) وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف. والأولى أنه في كل المنكرين (٩).

قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٦٩)

قوله تعالى (١٠) : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) لما عدد نعمه وأنه لرؤوف (١١) رحيم بعباده ، وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر ، أتبعه بذكر نعمه بما كلّف ، فقال : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً). وحذف الواو من قوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ) لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فحذف العاطف(١٢).

قال الزمخشري : لأن تلك (١٣) وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٧.

(٢) الدر المصون : ٥ / ٨٠.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٤.

(٤) في ب : الله تعالى. انظر البغوي ٥ / ٦٠٩.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٤.

(٦) قوله : سقط من ب.

(٧) [سبأ : ١٣].

(٨) في الأصل : الأسود. وهو تحريف.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٤.

(١٠) تعالى : سقط من ب.

(١١) في ب : رؤوف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٥.

(١٣) يريد قوله تعالى : «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ»[٣٤ من السورة نفسها].


أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن (١) معناها فلم تجد معطفا (٢).

قوله : (هُمْ ناسِكُوهُ) هذه الجملة صفة ل «منسكا». وقد تقدم أنه يقرأ بالفتح والكسر ، وتقدم الخلاف فيه هل هو مصدر أو مكان (٣). وقال ابن عطية : «ناسكوه» يعطي أن المنسك المصدر ، ولو كان مكانا لقال : ناسكون فيه (٤). يعني أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير الظرف إلا بواسطة (في). وما قاله غير لازم ، لأنه قد يتسع في الظرف فيجري مجرى المفعول فيصل الفعل إلى ضميره بنفسه ، وكذا ما عمل عمل الفعل (٥).

ومن الاتساع في ظرف الزمان قوله :

٣٧٧٧ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (٦)

ومن الاتساع في ظرف المكان قوله :

٣٧٧٨ ـ ومشرب أشربه وشيل(٧)

لا آجن الماء ولا وبيل (٨)

يريد أشرب فيه.

فصل

روي عن ابن عباس : المنسك شريعة عاملون بها (٩) ، ويؤيده قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)(١٠). وروي عنه (١١) أنه قال : عيدا يذبحون فيه. وقال مجاهد وقتادة : قربان يذبحون. وقيل : موضع عبادة. وقيل : مألفا يألفونه (١٢) والأول أولى لأن المنسك

__________________

(١) في ب : من.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٩.

(٣) عند قوله تعالى : «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً»[٣٤ من السورة نفسها].

(٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٦.

(٥) وفائدة هذا الاتساع تظهر في موضعين : أحدهما : أنك إذا كنيت عنه وهو ظرف لم يكن بد من ظهور (في) مع مضمره تقول اليوم قمت فيه ، لأن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها ، وإن اعتقدت أنه مفعول به على السعة لم تظهر (في) معه ، لأنها لم تكن منوية مع الظاهر فتقول اليوم قمته.

والثاني : أنك إذا جعلته مفعولا به على السعة جازت الإضافة إليه من ذلك قولهم يا سارق الليلة أهل الدار. أضافوا اسم الفاعل إلى الليلة كما تقول : يا ضارب زيد فإذا أضفت لا يكون إلا مفعولا على السعة. ابن يعيش ٢ / ٤٦.

(٦) البيت من بحر الطويل قاله رجل من بني عامر ، وهو في الكتاب ١ / ١٧٨ ، المقتضب ٣ / ١٠٥ ، والكامل ١ / ٤٩ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٦ ، ١٨٦ ، ابن يعيش ٢١ / ٤٥ ، ٤٦ ، المقرب ١٦٤ ، المغني ٢ / ٥٠٣ ، الهمع ١ / ٢٠٣ ، الدرر ١ / ١٧٢.

(٧) في المخطوط : ذميل. وفي البحر المحيط : رسيل.

(٨) البيت من الرجز وهو في البحر المحيط ٦ / ٣٨٧ الهمع ١ / ٢٠٣.

(٩) انظر البغوي ٥ / ٦٠٩.

(١٠) [المائدة : ٤٨].

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٦٠٩.

(١٢) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٦٠٩.


مأخوذ من النسك وهو العبادة ، وإذا وقع الاسم على عبادة فلا وجه للتخصيص (١).

فإن قيل : هلا حملتموه على الذبح ، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على موضع العبادة وعلى وقتها؟

فالجواب عن الأول : لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح ، لأن سائر أفعال الحج تسمى مناسك قال عليه‌السلام (٢) : «خذوا عنّي مناسككم» (٣).

وعن الثاني : أن قوله : (هُمْ ناسِكُوهُ) أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان (٤). (فَلا يُنازِعُنَّكَ) قرأ الجمهور بتشديد النون ، وقرىء بالنون الخفيفة (٥) وقرأ أبو مجلز «فلا ينزعنك» (٦) من نزعته من كذا أي قلعته منه. وقال الزجاج : هو من نازعته فنزعته أنزعه أي : غلبته في المنازعة (٧). ومجيء هذه الآية كقوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها)(٨) وقولهم : لا أرينّك ههنا (٩).

فصل

معنى الكلام على قراءة أبي مجلز : أي اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه(١٠) وعلى قراءة : «ينازعنّك» فيه قولان :

الأول : قال الزجاج : إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربك فلان أي (١١) : لا تضاربه (١٢). قال بعض المفسرين : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) في أمر الذبائح ، نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن حبيش قالوا لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما قتل الله (١٣)(١٤).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٥.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أخرجه مسلم (حج) ٢ / ٩٤٣ ، برواية : (لتأخذوا مناسككم) ، أحمد ٣ / ٣١٨ ، ٣٣٧ ، ٣٧٨.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٥.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٨٧.

(٦) المختصر (٩٦) ، المحتسب ٢ / ٨٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٨.

(٧) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٧.

(٨) [طه : ١٦].

(٩) فلفظ النهي لهم ومعناه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فاثبت على يقينك في صحة دينك ولا تلتفت إلى فساد أقوالهم ، حتى إذا رأوك كذلك أمسكوا عنك ولم ينازعوك فالنهي إنما يراد به معنى من غير اللفظ ، كما يراد في قولهم : لا أرينك ههنا ، أي : لا تكن هنا فأراك ، فالنهي في اللفظ لنفسه ومحصول معناه للمخاطب. المحتسب ٢ / ٨٦.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٥.

(١١) في ب : و.

(١٢) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٧. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا من اثنين ، لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين ، فإذا قلت : لا يجادلنّك فلان فهو بمنزلة لا تجادلنه ، ولا يجوز هذا في قوله : لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه ، ولكن لو قلت : لا يضاربنّك فلان لكان كقولك : لا تضاربنّ فلانا.

(١٣) في ب : ما قتله.

(١٤) انظر البغوي ٥ / ٦١٠.


والثاني (١) : أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك ، وقد استقر الآن الأمر على شرعك ، وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه ، فكأنه قال : كل (٢) أمة بقيت منها بقية يلزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول ـ عليه‌السلام (٣) ـ فلذلك قال : «وادع إلى ربّك» أي : لا تخص بالدعاء أمة دون أمة (٤) ، فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك ، فإنك على هدى مستقيم والهدى (٥) يحتمل أن يكون نفس الدين ، وأن يكون أدلة الدين ، وهو أولى. كأنه قال : ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ، ولهذا قال : (وَإِنْ (٦) جادَلُوكَ) أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى المراء والتمسك بعادتهم (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي أنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب لمن ردّ وأنكر. فقال : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فتعرفون حينئذ الحق من الباطل (٧).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧٢)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الآية. لما قال : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أتبعه (٨) بما به يعلم أنه تعالى عالم بما (٩) يستحقه كل أحد ، ويقع الحكم بينهم بالعدل لا بالجور فقال لرسوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، وهذا استفهام معناه تقوية قلب الرسول ـ عليه‌السلام (١٠) ـ والوعد له وإبعاد الكافرين بأن أفعالهم كلها محفوظة عند الله لا يضل عنه ولا ينسى. والخطاب مع الرسول والمراد سائر العباد لأن الرسالة لا تثبت إلا بعد العلم بكونه تعالى عالما بكل المعلومات ، إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن يشتبه عليه الكاذب بالصادق ، فحينئذ لا يكون إظهار المعجزة دليلا على الصدق ، وإذا كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالما بذلك ، فثبت أن المراد

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) في ب : لكل.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) أمة : سقط من ب.

(٥) في ب : أو لهدى.

(٦) في النسختين : فإن. وهو تحريف.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٥ ـ ٦٦.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٦ ـ ٦٧.

(٩) في ب : مما.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.


أن يكون خطابا مع الغير ثم قال : (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) أي : كله في كتاب يعني اللوح المحفوظ (١).

وقال أبو مسلم : معنى الكتاب الحفظ (٢) والضّبط والشّد (٣) ، يقال : كتبت المزادة (٤) أكتبها إذا خرزتها ، فحفظت بذلك ما فيها ، ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به ، فالمراد بالآية أنه محفوظ عنده. وأيضا فالقول الأول يوهم أن علمه مستفاد من الكتاب.

وأجيب بأن هذا القول وإن كان صحيحا نظرا إلى الاشتقاق لكن حمل اللفظ على المتعارف أولى ، ومعلوم أن الكتاب هو (٥) ما كتب فيه الأمور (٦).

فإن قيل : أي فائدة في ذلك الكتاب إذا كان محفوظا؟

فالجواب أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات دليل على أنه تعالى غني في علمه عن ذلك الكتاب. وفائدة أن الملائكة ينظرون فيه ، ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فيصير ذلك دليلا لهم زائدا على كونه تعالى عالما بكل المعلومات (٧) وقوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي العلم بجميع ذلك على الله يسير. والمعنى : إن ذلك مما يتعذر على الخلق لكنه متى أراده الله تعالى كان ، فعبر عن ذلك بأنه يسير ، وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور ، وتعالى (٨) الله عن ذلك (٩). ثم إنه تعالى بين ما يقدم الكفار عليه مع عظم نعمه ووضوح دلائله فقال :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجة (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي : عن جهل ، وليس لهم به دليل عقلي فهو تقليد وجهل ، والقول الذي هذا شأنه يكون باطلا.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي وما للمشركين من نصير مانع يمنعهم من عذاب الله.

قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) يعني القرآن «بيّنات» لأنه متضمن للدلائل العقلية وبيان الأحكام. وقوله : «تعرف» العامة على «تعرف» خطابا مبنيا للفاعل ، «المنكر» مفعول به. وعيسى بن عمر «يعرف» بالياء من تحت مبنيا للمفعول ، «المنكر» مرفوع قائم مقامل الفاعل (١٠) ، والمنكر اسم مصدر بمعنى الإنكار.

وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) من إقامة الظاهر مقام المضمر للشهادة عليهم بذلك ، قال

__________________

(١) وهو قول الجمهور.

(٢) في ب : والحفظ.

(٣) في ب : والسد. وهو تصحيف.

(٤) المزادة : الراوية ، قال أبو عبيد : لا تكون إلا من جلدين تفأم بجلد ثالث بينهما لتتسع. اللسان (زيد).

(٥) هو : سقط من ب.

(٦) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٦ ـ ٦٧.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٧.

(٨) في النسختين : ويتعالى.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٧.

(١٠) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٨.


الكلبي : تعرف في وجوههم الكراهية للقرآن. وقال ابن عباس : التجبر والترفع. وقال مقاتل : أنكروا أن يكون من الله (١).

قوله : (يَكادُونَ يَسْطُونَ) هذه حال إما من الموصول ، وإن كان مضافا إليه لأن المضاف جزؤه (٢) وإما من الوجوه لأنها يعبّر بها عن أصحابها كقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ)(٣) ثم قال : (أُولئِكَ هُمُ)(٣). و «يسطون» ضمن معنى يبطشون فتعدى تعديته (٤) ، وإلا فهو متعدّ ب (على). يقال : سطا عليه ، وأصله القهر والغلبة (٥) ، وقيل : إظهار ما يهول للإخافة ، ولفلان سطوة أي تسلط وقهر. وقال الخليل (٦) والفراء (٧) والزجاج (٨) : السطو شدة البطش والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيما لإنكار ما خوطبوا به (٩). أي : يكادون يبطشون (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه من شدة الغيظ ، يقال : سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش والعنف (١٠) ثم أمر رسوله بأن يقابلهم (١١) بالوعيد فقال : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون. أو من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم (١٢). قوله : «النار» تقرأ بالحركات الثلاث ، فالرفع (١٣) من وجهين :

أحدهما : الرفع على الابتداء والخبر الجملة من (وَعَدَهَا اللهُ)(١٤) ، والجملة لا محل لها فإنها مفسرة للشر المتقدم كأنه قيل : ما شر من ذلك؟ (فقيل : النار وعدها الله.

والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل : ما شر من ذلك) (١٥) فقيل : النار أي : هو النار(١٦) وحينئذ يجوز في (وَعَدَهَا اللهُ) الرفع على كونها خبرا بعد خبر (١٧) ، وأجيز أن يكون بدلا من النار. وفيه نظر من حيث إن المبدل منه مفرد ، وقد يجاب عنه بأن الجملة في تأويل مفرد (١٨) ، ويكون بدل اشتمال ، كأنه قيل : النار وعدها الله الكفار.

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٧.

(٢) تقدم الكلام في مجيء الحال.

(٣) من قوله تعالى : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ»[عبس : ٤٠ ، ٤١ ، ٤٢] ، انظر التبيان ٢ / ٩٤٨.

(٤) أي : تعدى بالباء.

(٥) اللسان (سطا).

(٦) العين (سطو) ٧ / ٢٧٧.

(٧) معاني القرآن ٢ / ٢٣٠.

(٨) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٣٨.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٨.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٦١٢.

(١١) في ب : يعاملهم. وهو تحريف.

(١٢) انظر الكشاف ٣ / ٤٠.

(١٣) وهو قراءة الجمهور. البحر المحيط ٦ / ٣٨٩.

(١٤) انظر البيان ٢ / ١٧٩ ، الكشاف ٣ / ٤٠.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٣٨ ، الكشاف ٣ / ٤٠ ، البيان ٢ / ١٧٩ ، التبيان ٢ / ٩٤٨.

(١٧) انظر الكشاف ٣ / ٤٠.

(١٨) تقدم الكلام على بدل الجملة من المفرد ، وقد أجازه ابن جني والزمخشري وابن مالك.


وأجيز أن تكون مستأنفة لا محل لها (١). ولا يجوز أن تكون حالا ، قال أبو البقاء لأنه ليس في الجملة ما يصلح أن يعمل في الحال (٢).

وظاهر نقل أبي حيان عن الزمخشري أنه يجيز كونها حالا فقال : وأجاز الزمخشري أن تكون «النّار» مبتدأ و «وعدها» خبر ، وأن تكون حالا على الإعراب الأول (٣) انتهى.

والإعراب الأول هو كون «النار» خبر مبتدأ مضمر. والزمخشري لم يجعلها حالا إلا إذا نصبت النار» أو جررتها بإضمار قد (٤). هذا نصه وإنما منع ذلك لما تقدم من قول أبي البقاء ، وهو عدم العامل. وأما النصب فهو قراءة زيد بن علي وابن أبي عبلة (٥). وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الفعل الظاهر ، والمسألة من الاشتغال (٦).

الثاني : قال الزمخشري : إنها منصوبة على الاختصاص (٧).

الثالث : أن ينتصب بإضمار أعني (٨) ، وهو قريب مما قبله أو هو هو. وأما الجر فهو قراءة ابن إبي إسحاق وإبراهيم بن نوح (٩) ، على البدل من «شرّ» (١٠) والضمير في «وعدها» قال أبو حيان : الظاهر أنه هو المفعول الأول ، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)(١١) ، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول الأول ، كما قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ)(١٢)(١٣). قال شهاب الدين : وينبغي أن يتعين هذا الثاني ، لأنه متى اجتمع بعد ما يتعدى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول ، فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول ، ونعني بالفاعل المعنوي من يتأتى منه فعل ، فإذا قلت : وعدت زيدا دينارا. فالدينار هو المفعول ، لأنه لا يتأتى منه فعل ، وهو

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٤٠ ، التبيان ٢ / ٩٤٨.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٤٨.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٨٩.

(٤) قال الزمخشري : (وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار قد) الكشاف ٣ / ٤٠.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٨٩.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٤٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٩.

(٧) الكشاف ٣ / ٤٠.

(٨) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٢ / ٤٣٨ ، التبيان ٢ / ٩٤٨.

(٩) البحر المحيط ٦ / ٣٨٩.

(١٠) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٢ / ٤٣٨ ، الكشاف ٣ / ٤٠ ، التبيان ٢ / ٩٤٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٨٩.

(١١) من قوله تعالى : «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ»[ق : ٣٠].

(١٢) [التوبة : ٦٨].

(١٣) البحر المحيط ٦ / ٣٨٩.


نظير أعطيت زيدا درهما. فزيد هو الفاعل ، لأنه آخذ للدرهم (١).

وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف تقديره : وبئس المصير هي النار.

فصل

والمعنى : أن الذي ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب والغم ، وهي النار وعدها الله الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وبئس المصير هي.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٧٤)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) الآية لما بين أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به ولا علم ذكر (٢) هاهنا ما يدل على إبطال قولهم (٣).

قوله : (ضُرِبَ مَثَلٌ) قال الأخفش : ليس هذا (٤) مثل وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلا (٥). قال الزمخشري (٦) : فإن قلت : الذي جاء به ليس مثلا ، فكيف سماه مثلا؟ قلت قد سميت الصفة والقصة الرائعة المتلقاة بالامتحان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستغربة مستحسنة (٧). وقيل : معنى «ضرب» جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث ، وضرب الجزية على أهل الذمة. ومعنى الآية : فجعل لي شبه وشبّه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها. وقيل : هو مثل من حيث المعنى ، لأنه ضرب مثل من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق (٨) ذبابا (٩). (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي : فتدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع ، وإنما ينفع بالتدبر(١٠)(١١).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) قرأ العامة «تدعون» بتاء الخطاب والحسن ويعقوب وهارون ومحبوب (١٢) عن أبي عمرو بالياء من تحت (١٣) وهو في كلتيهما مبني للفاعل (١٤).

__________________

(١) الدر المصون ٥ / ٨١.

(٢) في ب : وذكر.

(٣) الفخر الرازي ٢٣ / ٦٨.

(٤) في ب : هنا. وهو تحريف.

(٥) النص بلفظه من البحر المحيط ٦ / ٣٩٠ ، وهو ملخص ما قاله الأخفش في معاني القرآن ٢ / ٦٣٧.

(٦) في ب : وقال.

(٧) الكشاف ٣ / ٤٠.

(٨) في الأصل : يلحق. وهو تحريف.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٠.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٠.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٩.

(١٢) هو محمد بن الحسن بن هلال بن محبوب ، أبو بكر محبوب وهو لقبه ، البصري.

روى القراءة عن شبل بن عباد ، ومسلم بن خالد ، وأبي عمرو بن العلاء ، روى القراءة عنه محمد بن يحيى القطعي ، وخلف بن هشام ، وغيرهما. طبقات القراء ٢ / ١٢٣.

(١٣) البحر المحيط ٦ / ٣٩٠ ، والإتحاف ٣١٧.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٣٩٠. والضمير للكفار.


وموسى الأسواري (١) واليماني «يدعون» بالياء من أسفل مبنيا للمفعول (٢). والمراد الأصنام. فإن قيل : قول «ضرب» يفيد فيما مضى ، والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء فالجواب : إذا كان ما يورد من الوصف معلوما من قبل جاز ذلك فيه ، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر تقدم (٣).

قوله : (لَنْ يَخْلُقُوا). جعل الزمخشري نفي «لن» للتأبيد (٤) وتقدم البحث معه في ذلك(٥). والذباب معروف ، وهو واحد ، وجمعه القليل : أذبّه ، وفيه الكسرة ، ويجمع على ذبّان وذبّان (٦) بكسر الذال وضمها وعلى (٧) ذبّ (٨). والمذبّة ما يطرد بها الذباب (٩). وهو اسم جنس واحدته ذبابة تقع للمذكر والمؤنث فتفرد بالوصف.

قوله : (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال يستحيل خلقهم الذباب حال اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه فكيف حال انفرادهم (١٠). وقد تقدم أن هذه الواو عاطفة هذه (١١) الجملة الحالية على حال محذوفة ، أي : انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحالة المقتضية (١٢) لخلقهم ، فكأنه تعالى قال : إن هذه الأصنام لو اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا (١٣).

__________________

(١) لم أجد له ترجمة فيما رجعت إليه من مراجع.

(٢) المختصر (٩٦) ، البحر المحيط ٦ / ٣١٧. والضمير للأصنام.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٩.

(٤) اتفق النحويون على أن (لن) تفيد النفي والاستقبال ، بمعنى أنها تنفي الفعل المضارع وتخلصه للاستقبال ، فينفى بها ما أثبت مع حرف التنفيس ، فيقال (لن يقوم) في نفي : (سيقوم) أو (سوف يقوم) ، قال سيبويه : و (لن) وهي نفي لقوله سيفعل ، الكتاب ٤ / ٢٢٠ ، وقال المبرد : (ومن هذه الحروف (لن) وهي نفي قولك : سيفعل) المقتضب ٢ / ٦ وهنا ابن عادل تابع غيره في أن (لن) تفيد التأبيد فقد نسب ابن مالك للزمخشري في الأنموذج بأنها تفيد التأبيد (شرح الكافية الشافية ٤ / ١٥٣١) وكذلك ابن هشام في المغني ١ / ٢٨٤ وقد رد ذلك أستاذنا الدكتور عبد الله الحسيني هلال في كتابه الفعل المضارع في ضوء أساليب القرآن (١٢٩) فإنه قال : (وقد قرأت كتاب (الأنموذج) المطبوع ولم أجد فيه شيئا عن (لن) غير قول الزمخشري : و «لن» نظيرة «لا» في نفي المستقبل ولكن على التأكيد.

وهذا نص على إفادة (لن) التأكيد ، ولا إشارة فيه إلى إفادتها التأبيد ، وبذلك تكون أقوالهم غير مطابقة لما قاله الزمخشري).

(٥) عند قوله تعالى : «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي» [الأعراف : ١٤٣] ، انظر اللباب ٤ / ٩٥.

(٦) في ب : ذباب وذباب. وهو تحريف.

(٧) في الأصل : على.

(٨) حكى سيبويه عن العرب (ذب) في جمع ذباب فهو مع هذا الإدغام على اللغة التميمية. انظر اللسان (ذبب).

(٩) المذبّة : هنة تسوى من هلب الفرس ، يذب بها الذباب. اللسان (ذبب).

(١٠) الكشاف ٣ / ٤٠. بتصرف.

(١١) في الأصل وهذه.

(١٢) في ب : المقضية.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٠.


قوله : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) السلب اختطاف الشيء بسرعة ، يقال : سلبه نعمته.

والسلب : ما على القتيل ، وفي الحديث : «من قتل قتيلا فله سلبه» (١).

وقوله : (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) الاستنقاذ : استفعال بمعنى الإفعال ، يقال : أنقذه من كربته ، أي : أنجاه منه وخلصه ، ومثله : أبلّ المريض واستبلّ (٢).

فصل (٣)

كأنه تعالى قال : أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم (٤) فيما هو أسهل منه ، فإن الذباب إذا سلب منها شيئا فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب. واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة ، وأما الثانية فلا.

فإن (٥) قيل هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة ، وإما لنفي (٦) كونها مستحقة للتعظيم ، والأول (٧) فاسد ، لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة ، فلا فائدة في إقامة الدلالة عليه. وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده ، لأنه لا يلزم من نفي كونها حيّة أن لا (٨) تكون معظمة ، فإن جهات التعظيم مختلفة ، فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات (٩) موضوعة على صور الكواكب ، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء (١٠) المتقدمين.

فالجواب : أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الضر والنفع ، فهو يبطل بهذه الدلالة ، فإنها لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى. وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين ، فقد تقرر في العقل أنّ تعظيم (١١) غير الله ينبغي أن يكون أقل من تعظيم (٤) الله ، والقوم كانوا

__________________

(١) أخرجه مسلم (حج) ٣ / ١٣٧١ ، أحمد ٥ / ١٢ ، ٢٩٥ ، ٣٠٦.

(٢) أي : برأ وصح.

(٣) هذا لفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٦٩.

(٤) في النسختين : وتكلم. وما أثبته من الفخر الرازي.

(٥) في الأصل : ن. وهو تحريف.

(٦) في ب : وأما النفي. وهو تحريف.

(٧) في ب : فالأول.

(٨) في ب : إلا أن. وهو تحريف.

(٩) الطلسم (في علم السحرة) : خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية لجلب محبوب أو دفع أذى ، وهو لفظ يوناني لكل ما هو غامض مبهم كالألغاز والأحاجي ، والشائع على الألسنة طلسم كجعفر ، ويقال فك طلسما وطلاسمة وطخمه وفسره. المعجم الوسيط (طلسم).

(١٠) والأنبياء : سقط من ب.

(١١) في ب : تعظم.


يعظمونها نهاية التعظيم ، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم ، فمن هاهنا استوجبوا الذم (١).

فصل

قال ابن عباس (٢) : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران (٣) ، فإذا جفّ جاءت الذباب فاستلبته وقال السدي : كانوا يضعون (٤) الطعام بين يدي الأصنام فيقع الذباب عليه فيأكلن منه (٥).

وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلىء وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بأنواع الطيب ، فربما يسقط منها واحدة فأخذها طائر وذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها (٦)(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قيل : هو إخبار. وقيل : تعجب. والأول أظهر (٧).

قال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم ، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب (٨). وقيل : العكس الطالب الصنم والمطلوب الذباب ، فالصنم كالطالب لأنه لو طلب أن يخلقه (٩) ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه ، والذباب بمنزلة المطلوب (١٠). وقال الضحاك : الطالب العابد والمطلوب المعبود ، لأن كون الصنم طالبا ليس حقيقة بل على سبيل التقدير (١١). وقيل : المعنى ضعف أي ظهر قبح هذا المذهب كما يقال عند المناظرة : ما أضعف هذا المذهب ، وما أضعف هذا الوجه (١٢).

قوله : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظموه حق تعظيمه ، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شركاء له في المعبودية (١١). (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) : «قويّ» لا يتعذر عليه فعل شيء «عزيز» لا يقدر أحد على مغالبته ، فأي حاجة إلى القول بالشريك (١٢).

قال الكلبي : في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام (١٣) : أنها نزلت في مالك

__________________

(١) في الأصل : الذنب. وهو تحريف.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٦١٣.

(٣) في ب : للزعفران. وهو تحريف.

(٤) في الأصل : يصنعون. وفي ب : يصفون. والصواب ما أثبته.

(٥) منه : سقط من ب.

(٦) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٦١٣.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٠.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٦١٣.

(٩) في النسختين : يلحقه. وهو تحريف.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٦٩ ـ ٧٠.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٦١٣ والفخر الرازي ٢٣ / ٧٠.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٠.

(١٣) وهو قوله تعالى : «وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ» [الأنعام : ٩١].


ابن الصيف (١) وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وغيرهم من اليهود ، حيث قالوا : إن الله تعالى (٢) لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها ، فاستلقى واستراح ، ووضع إحدى رجليه على الأخرى ، فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم ، ونزل قوله : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ)(٣)» (٤).

قوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٧٦)

قوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) الآية لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر هاهنا ما يتعلق بالنبوات. قال بعضهم : [تقدير الكلام : ومن الناس رسلا. ولا حاجة لذلك ، بل قوله (وَمِنَ النَّاسِ) مقدّر التقديم ، أي : يصطفي من الملائكة ومن الناس رسلا](٥). قال مقاتل (٦) : قال الوليد بن المغيرة (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا)(٧)؟ فأنزل الله هذه الآية (٨) فإن قيل : كلمة «من» للتبعيض ، فقوله (مِنَ الْمَلائِكَةِ) يقتضي أن يكون الرسل بعضهم لا كلهم ، وقوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً)(٩) يقتضي كون كلهم رسلا ، فكيف الجمع؟

فالجواب : يجوز (١٠) أن يكون المذكور ههنا من كان رسلا إلى بني آدم ، وهم (١١) أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، والحفظة صلوات الله عليهم ، وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض(١٢). فإن قيل (١٣) : قوله في سورة الزمر (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ)(١٤) فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى ، وهذه الآية تدل على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين ، فلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد.

فالجواب : أن قوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى)(١٤) يدل على أن كل ولد

__________________

(١) في ب : الضيف. وهو تحريف.

(٢) في ب : سبحانه.

(٣) من قوله تعالى : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ» [ق : ٣٨].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٠.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) قال مقاتل : سقط من الأصل.

(٧) [ص : ٨].

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٠.

(٩) من قوله تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً»[فاطر : ١].

(١٠) يجوز : سقط من الأصل.

(١١) في النسختين : وهو. وما أثبته من الفخر الرازي.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٠ ـ ٧١. وفي ب زيادة قوله : قال بعضهم : تقدير الكلام ومن الناس رسلا.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٠.

(١٤) [الزمر : ٤].


مصطفى ولا يدل (١) على أن كل مصطفى ولد ، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولدا. وأيضا فالمراد من هذه الآية تبكيت من عبد غير الله من الملائكة ، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان ، وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة ، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة لأن الله اصطفاهم لمكان عبادتهم ، فكأنه تعالى بيّن أنهم (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إذ جعلوا الملائكة معبودة مع الله.

ثم بين تعالى (٢) : بقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أنه يسمع ما يقولون ، ويرى ما يفعلون (٣) ولذلك أتبعه بقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ)(٤). قال ابن عباس : ما قدموا وما خلفوا (٥) وقال الحسن : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما عملوا ، (وَما خَلْفَهُمْ) ما هم عاملون من بعد (٦). ثم قال : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) إشارة إلى القدرة التامة ، والتفرد بالإلهية والحكم (٧) ، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية (٨).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) إلى آخر السورة. لما ذكر الإلهيات (٩) ثم النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع ، وهو من أربعة أوجه :

الأول : تعيين المأمور.

والثاني : أقسام المأمور به.

والثالث : ذكر ما يوجب تلك الأوامر.

والرابع : تأكيد ذلك التكليف.

فأما تعيين المأمور به فهو قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا خطاب للمؤمنين ؛ لأنه

__________________

(١) في ب : كولاية. وهو تحريف.

(٢) تعالى : سقط من ب.

(٣) في ب : يعفلون. وهو تحريف.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧١.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٦١٤.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في النسختين : والحكمة. وما أثبته من الفخر الرازي.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧١.

(٩) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٢ ـ ٧٣ ـ بتصرف يسير.


صرح (١) بهم ، ولقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) ، ولقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) ، وقوله (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). وقيل : خطاب لكل المكلفين مؤمنا كان أو كافرا ؛ لأن التكليف بهذه الإشارة عامّ في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمن بذلك. وأما فائدة التخصيص ، فلأنه لما لم يقبله إلا المؤمنون خصهم بالذكر ليحرضهم على المواظبة على ما قبلوه ، وكالتشريف لهم في ذلك الإفراد. وأما المأمور به (٢) فأربعة أمور :

الأول : الصلاة وهو المراد بقوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود ، والصلاة هي المختصة بهذين الركنين ، فجرى ذكرهما مجرى ذكر الصلاة ، وذكر ابن عباس : أن الناس كانوا في أول إسلامهم يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية.

والثاني : قوله : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) قيل : وحدوه. وقيل : اعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات. وقيل : افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات بنية العبادة.

الثالث : قوله : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) قال ابن عباس : هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفوزوا بالجنة. وقيل : كلمة «لعلّ» للترجي (٣) ، فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة (٤) من تقصير ، فليس هو على يقين من أن الذي أتى به هل هو مقبول عند الله والعواقب مستورة «وكل ميسر لما خلق له» (٥)

فصل

اختلفوا في سجود التلاوة (٦) عند قراءة هذه الآية ، فذهب عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس : إلى أنه يسجد ، وبه قال ابن المبارك (٧) والشافعي وأحمد وإسحاق لما روى عقبة بن عامر(٨) قال : قلت : يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال : «نعم ، من لم يسجدهما فلا يقرأهما» (٩). وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : لا يسجد هاهنا. وعدد سجود القرآن أربع عشرة سجدة عند أكثر أهل العلم منها ثلاث في المفصل ، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس : ليس (١٠) في المفصل سجود ، وبه قال مالك.

__________________

(١) في ب : صريح.

(٢) به : سقط من ب.

(٣) وهو قول الإمام أبي القاسم الأنصاري.

(٤) في الأصل : فريضة.

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٢ ـ ٧٣. بتصرف يسير.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٦١٤.

(٧) تقدم.

(٨) هو عقبة بن عامر الجهني ، أخذ عنه جابر ، وابن عباس ، وقيس بن أبي حازم ، كان فصيحا شاعرا ، مفوها ، كاتبا ، قارئا لكتاب الله عالما ، مات سنة ٥٨ ه‍. تهذيب التهذيب ٧ / ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٩) أخرجه أحمد في مسنده ٤ / ١٥١.

(١٠) ليس : سقط من ب.


وقد صح عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في «اقرأ» (١)» و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)(٢). وأبو هريرة متأخر الإسلام. واختلفوا في سجدة ص (٣) فروي عن ابن عباس أنها سجدة شكر وهو مذهب الشافعي وعن عمر أنه يسجد فيها ، وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق (٤).

الرابع : قوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) يجوز أن يكون (حَقَّ جِهادِهِ) منصوبا على المصدر ، وهو واضح. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي جهادا حق جهاده(٥). وفيه نظر من حيث إن هذا معرفة فكيف يجعل صفة لنكرة.

قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة ، وكان القياس : حقّ الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال (وَجاهِدُوا فِي اللهِ). قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول من أجله ولوجهه صحت إضافته إليه ، ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :

٣٧٧٩ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا (٦)

يعني بالظرف الجار والمجرور كأنه كان الأصل : حق (٧) جهاد فيه. فحذف حرف الجر وأضيف المصدر للضمير ، وهو من باب هو حقّ عالم وجد ، أي : عالم حقا وعالم جدا (٨).

فصل

المعنى (٩) : (جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) «أعداء الله حق جهاده» هو استفراغ الطاقة فيه.

قاله ابن عباس ، وعنه قال : لا تخافون لومة لائم. وقال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته. وقال مقاتل بن سليمان (١٠) : نسخها قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(١١)(١٢) وهذا بعيد لأن التكليف شرطه القدرة لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً

__________________

(١) عند قوله تعالى : «كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» [العلق : ١٩].

(٢) [الانشقاق : ١]. أي عند قوله تعالى : «وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ» [الانشقاق : ٢١].

والحديث أخرجه ابن ماجه (إقامة) ١ / ٣٣٦.

(٣) عند قوله تعالى : فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص : ٢٤].

(٤) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٦١٤.

(٥) التبيان ٢ / ٩٤٩.

(٦) الكشاف ٣ / ٤١. صدر بيت من بحر الطويل لرجل من بني عامر ، وعجزه :

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله

(٧) في ب : نحو. وهو تحريف.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩١.

(٩) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٦١٥.

(١٠) هو مقاتل بن سليمان الأزدي ، أبو الحسن الخراساني ، المفسر ، أخذ عن الضحاك ، ومجاهد ، وأخذ عنه ابن عيينة ، وعلي بن الجعد مات سنة ١٥٠ ه‍. تهذيب التهذيب ١٠ / ٢٧٩ ـ ٢٨٥.

(١١) [التغابن : ١٦].

(١٢) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٦١٥.


(إِلَّا وُسْعَها)(١)(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٣). فكيف يقول : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) على وجه لا يقدرون عليه (٤)؟ وقال أكثر المفسرين: حق الجهاد أن يكون بنية صادقة (٥). وقيل : يفعله عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم والغنيمة (٦). وقيل : يجاهدوا (٧) آخرا كما جاهدوا أولا ، فقد كان جهادهم في الأول أقوى ، وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر ، روي عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف (٨) : أما علمت أنا كنا نقرأ «وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله» قال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء ، وبنو المغيرة الوزراء. واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن ، وإلا لنقل كنقل نظائره ، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية.

وروي عن ابن عباس أنه قرأ : «وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة» فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال : صدقت. وقيل : معنى الآية : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله ، وإقامة حقوقه بالحرب واليد واللسان ، وجميع ما يمكن ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل وقال ابن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر [وهو حق الجهاد وقد روي أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما رجع من غزوة تبوك قال : «رجعنا من الجهاد والأصغر إلى الجهاد الأكبر» (٩)](١٠) وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس. وأما بيان (١١) ما يوجب قبول هذه الأوامر ، فهو ثلاثة :

الأول : قوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ، وهذه من أعظم التشريفات ، فأي رتبة أعلى من هذا ، وأي سعادة فوق هذا. ثم قال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وهو كالجواب عن سؤال ، وهو أن التكليف وإن كان تشريفا لكنه شاق على النفس؟ أجاب بعضهم بقوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، [روي أن أبا هريرة ـ رضي

__________________

(١) [البقرة : ٢٨٦].

(٢) [٧٨ من السورة نفسها].

(٣) [البقرة : ١٨٥].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٣.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٦١٥.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٣.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٣.

(٨) هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة ، أبو محمد المدني ، شهد بدرا ، والمشاهد ، وهو أحد العشرة ، وهاجر الهجرتين ، وأحد الستة ، أخذ عنه إبراهيم ، وحميد ، وأبو سلمة ، وغيرهم ، ومات سنة ٣٢ ه‍. تهذيب التهذيب ٦ / ٢٤٤ ـ ٢٤٦.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٣.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٤.


الله عنه قال : كيف قال الله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) مع أنه منعنا عن الزنا؟ فقال ابن عباس : بلى ، ولكن الإصر (٢) الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا (٣).

وهذا قول الكلبي. قال المفسرون : معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجا بعضها بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب إلا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العذاب منه (٤). وقال ابن عباس (٥) ومقاتل : هو الإتيان بالرخص ، فمن لم يستطع أن يصلي قائما فليصل (٦) جالسا ، ومن لم يستطع ذلك فليوم ، وإباحة الفطر في السفر للصائم ، والقصر فيه والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة (٧).

فصل

استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج ، وذلك منفي بصريح هذا النص.

والجواب أنه لما أمره بترك الكفر ، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلا ، فقد أمر المكلف بقلب علم الله جهلا ، وذلك من أعظم الحرج ، ولما استوى العدمان زال السؤال (٨).

الموجب الثاني : قوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) فيه أوجه :

أحدها : أنها منصوبة باتبعوا مضمرا. قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء (٩).

الثاني : أنها منصوبة على الاختصاص ، أي (١٠) : أعني بالدين ملة أبيكم (١١).

الثالث (١٢) : أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها ، كأنه قال : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه (١٣) مقامه. قاله الزمخشري (١٤). وهذا أظهرها (١٥).

الرابع : أنها (١٦) منصوبة (١٧) بجعلها مقدرا. قاله ابن عطية (١٨).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) في الأصل : الأصل. وهو تحريف.

(٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٤.

(٤) انظر البغوي ٥ / ٦١٥.

(٥) ابن عباس : سقط من ب.

(٦) في ب : فليصلي. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٤.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٤.

(٩) التبيان ٢ / ٩٤٩. وانظر البيان ٢ / ١٧٩.

(١٠) أي : سقط من ب.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٤١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩١.

(١٢) في ب : الثالث : أنها منصوبة بالاختصاص أعني بالدين ملة أبيكم. الرابع.

(١٣) إليه : سقط من ب.

(١٤) الكشاف ٣ / ٤١.

(١٥) في ب : أظهرهما. وهو تحريف.

(١٦) في الأصل : أنه.

(١٧) في النسختين : منصوب.

(١٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٢٦. والبيان ٢ / ١٧٩.


الخامس : أنها منصوبة على حذف كاف الجر ، أي : كملة أبيكم. قاله الفراء (١) ، وقال أبو البقاء قريبا منه ، فإنه قال : وقيل تقديره : مثل ملة ، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (٢).

وقوله : «إبراهيم» بدل أو بيان أو منصوب بأعني.

فصل

والمقصود من ذكر «إبراهيم» التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين لإبراهيم ـ عليه‌السلام (٣) ـ لأنهم من أولاده ، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول (٤) هذا الدين (٥). فإن قيل : ليس كل المسلمين يرجع نسبه إلى إبراهيم. فالجواب : أن هذا خطاب مع العرب ، وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب إكرامه(٦) وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، فهو كقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)(٧) ، وقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنما أنا لكم مثل الوالد» (٨). فإن قيل : هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم سواء ، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ، ويؤكده قوله : (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)(٩).

فالجواب : إنما وقع هذا الكلام مع عبدة الأوثان ، فكأنه قال : عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم ، وأما تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع (١٠).

قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ) في هذا الضمير قولان :

أحدهما : أنه يعود على «إبراهيم» ، لأنه أقرب مذكور (١١) إلا أن ابن عطية قال : وفي هذه اللفظة يعني قوله : (وَفِي هذا) ضعف قول من قال : الضمير ل «إبراهيم» ولا يتوجه إلا بتقدير محذوف من الكلام مستأنف (١٢). انتهى.

ومعنى ضعف من قال بذلك أن قوله : (وَفِي هذا) عطف على «من قبل» و «هذا» إشارة إلى القرآن ، فيلزم أن «إبراهيم» سمّاهم المسلمين في القرآن ، وهو غير واضح ؛ لأن

__________________

(١) معاني القرآن ٢ / ٢٣١.

(٢) التبيان ٢ / ٩٤٩. وانظر البيان ٢ / ١٧٩.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : بقبول.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٤.

(٦) في ب : الكرامة.

(٧) [الأحزاب : ٦].

(٨) أخرجه أبو داود (طهارة) ١ / ١٨ ، ابن ماجه (طهارة) ١ / ١١٤ ، أحمد ٢ / ٢٤٧ ، ٢٥٠ ، وانظر البغوي ٥ / ٦١٦.

(٩) من قوله تعالى : «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»[النحل : ١٢٣].

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٥.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٤١ ، التبيان ٢ / ٩٤٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩١.

(١٢) تفسير ابن عطية : ١٠ / ٣٢٧.


القرآن المشار إليه إنما أنزل بعد إبراهيم بمدد طوال ، فلذلك (١) ضعف قوله.

وقوله : إلا بتقدير محذوف الذي ينبغي أن يقدر : وسميتهم في هذا القرآن المسلمين وقال أبو البقاء : قيل : الضمير ل «إبراهيم» فعلى هذا الوجه يكون قوله «وفي هذا» أي : وفي هذا القرآن (٢) سبب تسميتهم وهو قول إبراهيم : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)(٣) ، فاستجاب الله له ، وجعلها أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

والثاني : أن الضمير يعود على الله تعالى (٤) ، ويدلّ له قراءة أبي «الله سماكم» (٥) بصريح الجلالة ، أي سماكم في الكتب السالفة وفي هذا القرآن الكريم أيضا. وهو مرويّ عن ابن عباس ويؤيده قوله: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). فبيّن أنه سمّاهم بذلك لهذا الغرض ، وهذا لا يليق إلا بالله (٦).

فقوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) متعلق ب «سمّاكم» (٧) فبيّن فضلكم على سائر الأمم ، وسماكم بهذا الاسم لأجل الشهادة المذكورة ، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو الموجب الثالث لقبول التكليف ، وتقدم الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيدا علينا وكيف تكون أمته شهداء على الناس في سورة البقرة (٨). وأما ما يجري مجرى المؤكد لما مضى فهو قوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فهي المفروضات ، لأنها المعهودة. واعتصموا بحبل الله أي بدلائله العقلية والسمعية. قال ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كل المحرمات (٩). وقيل : ثقوا بالله وتوكلوا عليه (١٠). وقال الحسن : تمسكوا بدين الله (١١)(هُوَ مَوْلاكُمْ) سيدكم والمتصرف فيكم وناصركم وحافظكم. (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) فكأنه تعالى قال : أنا مولاكم بل أنا ناصركم. وحسن حذف (١٢) المخصوص بالمدح وقوع الثاني رأس آية وفاصلة.

فصل

احتجت المعتزلة بهذه الآية من وجوه (١٣) :

__________________

(١) في ب : فكذلك. وهو تحريف.

(٢) التبيان ٢ / ٩٤٩.

(٣) [البقرة : ١٢٨].

(٤) وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد. الكشاف ٣ / ٤١ ، تفسير ابن عطية ٣٢٧١٠ ، التبيان ٢ / ٩٤٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩١.

(٥) المختصر (٩٧) ، البحر المحيط ٦ / ٣٩١.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٥.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٤٩.

(٨) عند قوله تعالى : «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»[البقرة : ١٤٣]. انظر اللباب ١ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، والفخر الرازي ٢٣ / ٧٥.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٥.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٦١٧.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) في ب : هذا. وهو تحريف.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٥ ـ ٧٦.


أحدها : أن قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) يدلّ على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل ؛ لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلا مرضيا ، فإذا أراد أن يكونوا شهداء على الناس فقد أراد أن يكونوا جميعا صالحين عدولا ، وقد علمنا أن منهم فسّاقا (١) ، فدل ذلك على أن الله ـ تعالى ـ أراد من الفاسق كونه عدلا.

وثانيها : قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه.

وثالثها : قوله : (فَنِعْمَ الْمَوْلى) فإنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى ، بل كان لا يوجد من شر المولى أحد إلا وهو شرّ منه ، فكان يجب أن يوصف بأنه بئس المولى. وذلك باطل فدل على أنه ـ سبحانه ـ ما أراد من جميعهم إلا الصلاح. فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟ قلنا : إنه ـ تعالى ـ مولى الكافرين والمؤمنين جميعا ، فيجب أن يقال : نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين ، فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله ـ تعالى ـ تعالى الله عند ذلك.

ورابعها : أن قوله : (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله ـ تعالى (٢) ـ لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص.

والجواب عن الأول : وهو قولهم إن كونه ـ تعالى ـ مريدا لكونه شاهدا يستلزم كونه مريدا لكونه عدلا. فنقول : إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر يوجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله ، ويلزم كونه ـ تعالى ـ مريدا لجهل نفسه ، وإن لم يكن ذلك واجبا فقد سقط الكلام.

وأما قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) فيقال : هذا أيضا وارد عليكم ، فإنه ـ سبحانه ـ خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهى وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه شياطين الإنس والجن ، وعلم لا محالة أنه يقع في الفجور والضلال ، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى. فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازم عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية والله أعلم (٣).

روى الثعلبي بإسناده (٤) عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» (٥).

__________________

(١) في النسختين : فاسق. والصواب ما أثبته.

(٢) تعالى : سقط من ب.

(٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٧٥ ـ ٧٦.

(٤) في ب : بإسناده عن أبي أمامة.

(٥) أخرجه ابن حجر العسقلاني في الكافي الشاف عن الثعلبي وابن مردويه من حديث أبيّ بن كعب ١١٤ ـ ١١٥.


سورة المؤمنون

مكية (١) وهي مائة وثمان عشرة آية ، وألف ومائتان وأربعون كلمة ، وعدد حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١)

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) الآيات العشر ، روى ابن شهاب (٢) عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري (٣) قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : كان إذا نزل على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الوحي يسمع عند وجهه كدويّ النحل فمكثنا ساعة ، وفي رواية : فنزل عليه يوما فمكثنا ساعة ، فاستقبل (٤) القبلة فرفع يديه ، وقال : «اللهمّ زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنّا» ثم قال : «لقد أنزل علينا عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة» ثم قرأ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) عشر آيات (٥). ورواه الإمام أحمد ، وعلي بن المديني(٦) ، وجماعة عن عبد

__________________

(١) البحر المحيط ٦ / ٣٩٢.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٣.

(٣) في النسختين : القادري. هو عبد الرحمن بن عبد القاري ، أخذ عن عمر ، وأبي طلحة ، وأخذ عنه السائب بن يزيد من أقرانه ، وعروة ، مات بالمدينة سنة ٨٠ ه‍.

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ١٤٣.

(٤) في ب : واستقبل.

(٥) أخرجه الترمذي (التفسير) ٥ / ٨ ، والإمام أحمد ١ / ٣٤ ، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٢.

(٦) هو علي بن عبد الله بن جعفر السعدي مولاهم أبو الحسن البصري ، أحد الأئمة الأعلام ، وحفاظ الإسلام ، روى عن أبيه ، وحماد بن زيد ، وابن عيينة ، وغيرهم ، وعنه أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، وغيرهم ، مات سنة ٢٣٤ ه‍. طبقات الحافظ (١٨٤).


الرزاق (١) وقالوا : «وأعطنا ولا تحرمنا وارض عنّا» (٢).

قوله : «قد» هنا للتوقع ، قال الزمخشري : «قد» نقيضة «لمّا» قد تثبت (٣) المتوقع (٤) ولما تنفيه ، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لهذه البشارة ، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دلّ على ثبات (٥) ما توقعوه (٦). وقال البغوي : قد حرف تأكيد. وقال المحققون : قد يقرب الماضي من الحال (٧) يدل على أن الفلاح قد

__________________

(١) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع مولى لحمير ، ويكنى أبا بكر ، وكان أبوه همام يروي عن سالم بن عبد الله وغيره ، مات سنة ٢٢١ ه‍. المعارف ٥١٩.

(٢) مسند الإمام أحمد ١ / ٣٤. آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ٣.

(٣) في ب : ثبت.

(٤) «قد» حرف يختص بالفعل المتصرف الخبري المثبت المجرد من جازم وناصب وحرف تنفيس ، وهي معه كالجزء ، فلا تفصل منه بشيء ، إلا بالقسم كقوله :

أخالد قد والله أوطأت عشوة

وما قائل المعروف فينا يعنف

ومن معانيها التوقع وذلك مع المضارع واضح كقولك : قد يقدم الغائب اليوم ، إذا كنت تتوقع قدومه.

أما مع الماضي فأثبته الأكثرون ، قال الخليل : يقال : قد فعل. لقوم ينتظرون الخبر ، ومنه قول المؤذن : قد قامت الصلاة ، لأن الجماعة منتظرون لذلك وأنكر بعضهم كونها للتوقع مع الماضي ، وقال : التوقع انتظار الوقوع والماضي قد وقع.

وأنكره ابن هشام مطلقا حيث قال : والذي يظهر لي قول ثالث ، وهو أنها لا تفيد التوقع أصلا ، أما في المضارع فلأن قولك : يقدم الغائب ، يفيد التوقع دون (قد) ، إذ الظاهر من حال المخبر عن مستقبل أنه متوقع له. وأما في الماضي فلأنه لو صح إثبات التوقع لها ، بمعنى أنها تدخل على ما هو متوقع ، لصح أن يقال في : لا رجل ، بالفتح : إن «لا» للاستفهام لأنها لا تدخل إلا جوابا لمن قال : هل من رجل ، ونحوه فالذي بعد (لا) مستفهم عنه من جهة شخص آخر ، كما أن الماضي بعد «قد» متوقع كذلك ، وعبارة ابن مالك في ذلك حسنة فإنه قال : إنها تدخل على ماض متوقع ، ولم يقل إنها تفيد التوقع ، ولم يتعرض للتوقع في الداخلة على المضارع البتة.

انظر المغني ١ / ١٧١ ـ ١٧٢ ، الهمع ٢ / ٧٢ ـ ٧٣.

(٥) في الأصل : إثبات.

(٦) الكشاف ٣ / ٤٢.

(٧) أي : أن «قد» يكون لتقريب الماضي من الحال تقول : قام زيد ، فيحتمل الماضي القريب والماضي البعيد فإذا قلت : قد قام. اختص بالقريب.

وانبنى على إفادتها ذلك أحكام :

أ ـ أنها لا تدخل على ليس ، وعسى ، ونعم ، وبئس ، لأنهن للحال ، فلا معنى لذكر ما يقرب ما هو حاصل.

ب ـ وجوب دخول «قد» عند البصريين إلا الأخفش على الماضي الواقع حالا إما ظاهرة نحو : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) [البقرة : ٢٤٦] ، أو مقدرة نحو (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) [يوسف : ٦٥]. وخالفهم الكوفيون والأخفش ، فقالوا : لا تحتاج لذلك ، لكثرة وقوعها حالا بدون «قد» ، والأصل عدم التقدير ، لا سيما فيما كثر استعماله.

ج ـ هذا الحكم ذكره ابن عصفور ، وهو أن القسم إذا أجيب بماض متصرف مثبت فإن كان قريبا من الحال جيء باللام وقد جميعا نحو (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) [يوسف : ٩١] ، وإن كان بعيدا جيء باللام وحدها كقوله : ـ


حصل لهم وأنهم (١) عليه في الحال. وهو أبلغ من تجريد ذلك الفعل (٢).

والعامة على «أفلح» مفتوح الهمزة والحاء (٣) فعلا ماضيا مبنيا للفاعل ، وورش على قاعدته من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها (٤). وعن حمزة في الوقف خلاف ، فروي عنه كورش وكالجماعة (٥). وقال أبو البقاء : من ألقى حركة الهمزة على الدال وحذفها فعلّته أنّ الهمزة بعد حذف حركتها صيّرت ألفا ، ثم حذفت لسكونها (وسكون الدال قبلها في الأصل ولا يعتدّ بحركة الدال لأنها عارضة (٦). وفي كلامه نظر من وجهين :

أحدهما : أنّ اللغة الفصيحة في النقل حذف الهمزة من الأصل فيقولون : المرة والكمة في المرأة والكمأة ، واللغة الضعيفة فيه إبقاؤها وتدبيرها بحركة ما قبلها ، فيقولون : المراة والكماة بمدة بدل الهمزة ك (راس وفاس) فيمن خففها ، فقوله : صيّرت ألفا. ارتكاب لأضعف اللغتين (٧).

الثاني : أنه وإن سلم أنها صيّرت ألفا فلا نسلّم أنّ حذفها) (٨) لسكونها وسكون الدال في الأصل بعد حذفها لساكن محقق في اللفظ ، وهو الفاء من «أفلح» ، ومتى وجد سبب ظاهر أحيل (٩) الحكم عليه دون السبب المقدر. وقرأ طلحة بن مصرّف وعمرو بن عبيد «أفلح» مبنيا للمفعول (١٠) ، أي : دخلوا في الفلاح فيحتمل أن يكون من أفلح متعديا ، يقال : أفلحه ،

__________________

 ـ حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا ، فما إن من حديث ولا صالي

والظاهر في الآية والبيت عكس ما قال ، إذا المراد في الآية : لقد فضلك الله علينا بالصبر وسيرة المحسنين ، وذلك محكوم له به في الأزل ، وهو متصف به مذ عقل ، والمراد في البيت أنهم ناموا قبل مجيئه.

د ـ دخول لام الابتداء في نحو : إن زيدا لقد قام ، وذلك لأن الأصل دخولها على الاسم وإنما دخلت على المضارع لشبهه بالاسم ، فإذا قرب الماضي من الحال أشبه المضارع الذي هو شبيه بالاسم فجاز دخولها عليه. معاني الحروف (٩٨) ، شرح المفصل ٨ / ١٤٧ ، المغني ١ / ١٧٢ ـ ١٧٤ ، الهمع ٢ / ٧٣.

(١) في الأصل : وإنه.

(٢) البغوي : ٦ / ٣.

(٣) في الأصل : الهاء. وهو تحريف.

(٤) الإتحاف ٥٩ ، ٣١٧. وذلك أن ورشا اختص بنقل حركة همزة القطع إلى الحرف الساكن الملاصق لها من آخر الكلمة التي قبلها ، فيتحرك الساكن بحركة الهمزة وتسقط الهمزة بشرط أن يكون الساكن غير حرف مد سواء كان تنوينا ، أو لام تعريف أو غير ذلك أصليا أو زائدا.

(٥) الإتحاف ٦١ ، ٣١٧.

(٦) التبيان ٢ / ٩٥٠ ، وانظر في ذلك أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٢ والبيان ٢ / ١٨٠.

(٧) قال سيبويه : (واعلم أن كل همزة متحركة كان قبلها حرف ساكن فأردت أن تخفف حذفتها وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها. وذلك قولك : من بوك ، ومن مك وكم بلك ، إذا أردت أن تخفف الهمزة في الأب والأم والإبل. ومثل ذلك قولك : الحمر إذا أردت أن تخفف ألف الأحمر. ومثله قولك في المرأة : المرة والكماة : الكمة. وقد قالوا : الكماة المراة ومثله قليل) الكتاب ٣ / ٥٤٥.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في ب : اختل.

(١٠) المختصر (٩٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٥.


أي : أصاره إلى الفلاح ، فيكون «أفلح» مستعملا لازما ومتعديا (١).

وقرأ طلحة أيضا : «أفلح» بفتح الهمزة واللام وضم الحاء (٢) ، وتخريجها على أنّ الأصل أفلحوا المؤمنون ، بإلحاق علامة جمع قبل الفاعل كلغة : أكلوني البراغيث ، فيجيء فيها ما تقدم في قوله : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)(٣)(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٤).

قال عيسى : سمعت طلحة يقرؤها فقلت له : أتلحن؟ قال : نعم كما لحن أصحابي (٥) ، يعني أني اتّبعتهم فيما قرأت به ، فإن لحنوا على سبيل فرض المحال ، فأنا لاحن تبعا لهم. وهذا يدل على شدة اعتناء القدماء بالنقل وضبطه خلافا لمن يغلّط الرواة.

وقال ابن عطية : وهي قراءة مردودة (٦). قال شهاب الدين : ولا أدري كيف يردّونها مع ثبوت مثلها في القرآن بإجماع (٧) ، وهما الآيتان المتقدمتان (٨). وقال الزمخشري : وعنه أي : عن طلحة ـ «أفلح» بضمة بغير واو اجتزاء (٩) بها عنها كقوله :

٣٧٨٠ ـ فلو أنّ الأطّبّا كان حولي (١٠)

وفيه نظر من حيث إن الواو لا تثبت في مثل هذا درجا ، لئلا يلتقي ساكنان فالحذف هنا لا بدّ منه ، فكيف يقول اجتزأ بها عنها (١١). وأما تنظيره بالبيت فليس بمطابق ، لأنّ حذفها من الآية ضروري ومن البيت ضرورة (١٢) ، وهذه الواو لا يظهر لفظها في الدرج بل يظهر في الوقف وفي الخط.

وقد اختلف النقلة لقراءة طلحة هل يثبت للواو صورة؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوبا بواو بعد الحاء (١٣) ، وفي اللوامح (١٤) : وحذفت الواو بعد الحاء لالتقائهما في الدرج ، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل (وَيَمْحُ (١٥) اللهُ الْباطِلَ)(١٦). قال شهاب الدين : ومثله

__________________

(١) البحر المحيط ٦ / ٣٩٥.

(٢) المختصر (٩٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٥.

(٣) [المائدة : ٧١].

(٤) [الأنبياء : ٣].

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٩٥. وقال أبو حيان تعقيبا على ذلك : يعني أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي ، وليس بلحن على لغة : أكلوني البراغيث. وقال الزمخشري : أو على الإبهام والتفسير. الكشاف ٣ / ٤٢.

(٦) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٠.

(٧) بإجماع : سقط من الأصل.

(٨) الدر المصون ٥ / ٨٢.

(٩) في الأصل : واجتزاء.

(١٠) الكشاف ٣ / ٤٢. صدر بيت من بحر الوافر وعجزه : وكان مع الأطباء الأساة. ولم يعزه أحد إلى قائل.

وقد تقدم.

(١١) في ب : عنها بها.

(١٢) عند من يعتبر ذلك الحذف ضرورة.

(١٣) المختصر (٩٧).

(١٤) هو كتاب أبي الفضل الرازي.

(١٥) في الأصل : فيمح. وهو تحريف.

(١٦) من قوله تعالى : «وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» [الشورى : ٢٤].

البحر المحيط ٦ / ٣٩٥. وسقطت الواو من «يمحو» لالتقاء الساكنين التبيان ٢ / ١١٣٢.


(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ)(١) «لصال الجحيم» (٢)(٣). قال المفسرون : والفلاح النجاة والبقاء. قال ابن عباس : قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة (٤). وتقدم الكلام في الإيمان في البقرة. قوله : (فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الجار متعلق بما بعده ، وقدّم للاهتمام به ، وحسنه كون (٥) متعلقه فاصلة ، وكذا (٦) فيما بعده من أخواته ، وأضيف الصلاة إليهم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، والمصلى له غنيّ عنها ، فلذلك أضيفت إليهم دونه (٧).

فصل

اختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين ، وهو الأولى (٨).

قال ابن عباس (٩) : مخبتون أذلاء. وقال الحسن وقتادة : خائفون. وقال مقاتل : متواضعون. وقال مجاهد : هو غض البصر وخفض الصوت ، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ الخضوع في البدن ، والخشوع في القلب (١٠) والبصر والصوت قال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ)(١١). وعن عليّ: هو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا. وقال سعيد بن جبير : هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره (١٢). وقال عطاء : هو أن تعبث بشيء من جسدك ، لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» (١٣). وقال (١٤) ابن الخطيب : وهو (١٥) عندنا واجب ، ويدل عليه أمور :

أحدها : قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(١٦). والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى ، وقوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(١٧) أي : قفوا على عجائبه ومعانيه.

__________________

(١) [العلق : ١٨].

(٢) من قوله تعالى : «ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ»[المطففين : ١٦].

(٣) الدر المصون ٥ / ٨٢ ـ ٨٣.

(٤) البغوي ٦ / ٣ ـ ٤.

(٥) في ب : كونه. وهو تحريف.

(٦) في ب : وكذلك.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٤٢.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٧٨.

(٩) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٤

(١٠) في النسختين : البدن. والتصويب من البغوي.

(١١) من قوله تعالى :«وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» [طه : ١٠٨].

(١٢) آخر ما نقله هنا عن الغبوي ٦ / ٤.

(١٣) أخرجه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة. البغوي ٦ / ٥ ـ ٦ ، الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥) والدر المنثور ٥ / ٧ ـ ٤.

(١٤) في الأصل : قال.

(١٥) في ب : فهو.

(١٦) [محمد : ٢٤].

(١٧) [المزمل : ٤].


وثانيها : قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١) وظاهر (٢) الأمر للوجوب ، والغفلة تضاد الذكر (٣) ، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة لذكره.

وثالثها : قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ)(٤) وظاهره (٥) للتحريم ، وقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)(٦) تعليل لنهي السكران ، وهو مطرد في الغافل المستغرق في الدنيا.

ورابعها : قوله ـ عليه‌السلام (٧) ـ «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا» (٨) وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء ، قال عليه‌السلام (٩) : «كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب» (١٠) وما أراد به إلا الغافل ، وقال أيضا : «ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل» ، وقالت عائشة ـ رضي الله عنها (١١) ـ سألت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الالتفات في الصلاة ، فقال : «هو اختلاس (١٢) يختلسه الشّيطان من صلاة العبد» (١٣) وعن أبي ذر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «لا يزال الله ـ عزوجل (١٤) ـ مقبلا على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه» (١٥). وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه.

وأجيب بأن هذا الإجماع ممنوع ، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بدّ من الخضوع والخشوع ، واحتجوا بأن السجود لله تعالى (١٦) طاعة ، وللصنم كفر ، وكل واحد منهما

__________________

(١) من قوله تعالى : «إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» [طه : ١٤].

(٢) في الأصل : وظاهرها.

(٣) في النسختين : الفكر.

(٤) من قوله تعالى :«وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» [الأعراف : ٢٠٥].

(٥) في ب : وظاهر.

(٦) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» [النساء : ٤٣].

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.»

(٨) ذكره ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس. تفسير ابن كثير ٣ / ٤١٤.

(٩) في ب : وقال عليه الصلاة والسلام.

(١٠) أخرجه ابن ماجه (صيام) ١ / ٥٣٩ ، والدارمي (رقاق) ٢ / ٣٠١ ، أحمد بن حنبل ٢ / ٣٧٣ ، ٤٤١.

(١١) رضي الله عنها : سقط من الأصل.

(١٢) في الأصل : الاختلاس.

(١٣) أخرجه البخاري (أذان) ١ / ١٣٧ ، (وبدء الخلق) ٢ / ٢٢٣ ، وأبو داود (صلاة) ١ / ٥٦٠ ، والنسائي (سهو) ٣ / ٨ ، والترمذي (جمعة) ٢ / ٥١ ، والإمام أحمد ٦ / ٧٠ ، ١٠٦.

(١٤) في ب : تعالى.

(١٥) أخرجه النسائي (سهو) ٣ / ٨ ، وأبو داود (صلاة) ١ / ٣٣١ ، والإمام أحمد ٥ / ١٧٢ ، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٤.

(١٦) تعالى : سقط من الأصل.


يماثل الآخر في ذاته ولوازمه ، فلا بدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة ، وفي الأخرى معصية ، قالوا : وما ذاك إلا القصد والإرادة ، والمراد من القصد : إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال ، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور (١).

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) قال عطاء (٢) عن ابن عباس : عن الشرك (٣).

وقال الحسن : عن المعاصي (٤). وقال الزجاج : كل باطل ، ولهو (٥) وما لا يجمل (٦) من القول والفعل (٧). وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب ، قال الله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)(٨) أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه (٩).

واعلم أن اللغو قد يكون كفرا كقوله تعالى : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)(١٠) ، وقد يكون كذبا لقوله (١١) تعالى : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً)(١٢) ، وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً)(١٣). ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك (١٤).

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) اللام في قوله : «للزّكاة» مزيدة في المفعول لتقدمه على عامله (١٥) ، ولكونه فرعا (١٦). والزكاة في الأصل مصدر ، ويطلق على القدر المخرج من الأعيان ، وقال الزمخشري : اسم مشترك بين عين ومعنى ، فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب ، والمعنى فعل المزكي ، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له ، ولا يسوغ فيه غيره ، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عنه بالفعل ، ويقال لمحدثه فاعل ، تقول للضارب : فاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل ، وللمزكي : فاعل التزكية ، وعلى هذا الكلام كله ، والتحقيق في هذا أنك تقول في جميع الحوادث : (من فعل هذا) فيقال لك : فاعله الله أو بعض الخلق ، ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها (فاعلون) (١٧) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل ، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها ، وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت :

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٣ / ٧٨ ـ ٨٠.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٦.

(٣) في الأصل : عن الشعبي. وهو تحريف.

(٤) في الأصل : عن ابن العاصي. وهو تحريف.

(٥) في ب : وهو. وهو تحريف.

(٦) في ب : يحل. وهو تحريف.

(٧) قال الزجاج : (اللغو كل لعب وهزل ، وكل معصية فمطرحة ملغاة ، وهم الذين قد شغلهم الجد فيما أمرهم الله به عن اللغو) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦.

(٨) من قوله تعالى : «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» [الفرقان : ٧٢].

(٩) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ٦.

(١٠) من قوله تعالى : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» [فصلت : ٢٦].

(١١) في الأصل : كقوله. وهو تحريف.

(١٢) [الغاشية : ١١].

(١٣) [الواقعة : ٢٥]. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٠.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٠.

(١٥) في الأصل : حاله. وهو تحريف.

(١٦) البحر المحيط ٦ / ٣٩٥.

(١٧) ما بين القوسين تكملة من الكشاف.


٣٧٨١ ـ المطعمون الطّعام في السنة ال

أزمة والفاعلون للزكوات (١)

ويجوز أن يراد بالزكاة العين ، ويقدر مضاف محذوف ، وهو الأداء ، وحمل البيت على هذا أصح(٢) ، لأنها فيه مجموعة (٣). قال شهاب الدين : إنما أحوج أبا القاسم إلى هذا أن بعضهم زعم أنه يتعين أن يكون الزكاة هنا المصدر ؛ لأنه لو أراد العين لقال : مؤدون ولم يقل : فاعلون ، فقال الزمخشري : لم يمتنع ذلك لعدم صحة تناول فاعلون (٤) لها بل لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها ، وإنما جعل الزكوات في بيت أمية أعيانا لجمعها ، لأنّ المصدر لا يجمع (٥) ، وناقشه أبو حيان وقال : يجوز أن يكون مصدرا وإنما جمع لاختلاف أنواعه (٦). وقال أبو مسلم : إنّ فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي ، كقوله : (قَدْ (٧) أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)(٨) ، وقوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ)(٩) ومن جملتهم ما يخرج من حق المال ، وإنما سمي بذلك ؛ لأنها تطهر من الذنوب ، لقوله تعالى : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها)(١٠). وقال الأكثرون : المراد بها هنا : الحق الواجب في الأموال خاصة ؛ لأنّ هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى (١١). فإنّ قيل : إن الله تعالى لم يفصل بين الصلاة والزكاة فلم (١٢) فصل هنا بينهما بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)؟ فالجواب : لأنّ ترك اللغو من متمات (١٣) الصلاة (١٤). قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة ، وحفظ الفرج التعفف عن الحرام (١٥). قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) فيه أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب «حافظون» على التضمين (١٦) معنى ممسكين (١٧) أو قاصرين وكلاهما يتعدى بعلى قال تعالى : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)(١٨).

الثاني : أنّ «على» بمعنى «من» أي : إلا من أزواجهم كما جاءت «من» بمعنى

__________________

(١) البيت من بحر المنسرح قاله أمية بن أبي الصلت ، وهو في ديوانه (٢٠) ، القرطبي ١٢ / ١٠٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٦ ، شرح شواهد الكشاف (٢٠).

(٢) في ب : لا يصح ، وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٣.

(٤) في الأصل : فاعل.

(٥) انظر نص الزمخشري السابق.

(٦) الدر المصون ٥ / ٨٣.

(٧) في ب : وقد. وهو تحريف.

(٨) [الأعلى : ١٤].

(٩) من قوله تعالى : «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» [النجم : ٣٢].

(١٠) من قوله تعالى : «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ»[التوبة : ١٠٣]. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٠ ـ ٨١.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨١.

(١٢) في الأصل : فلا. وهو تحريف.

(١٣) في ب : مهمات.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨١.

(١٥) البغوي ٦ / ٧.

(١٦) في ب : التضمن.

(١٧) في ب : ممتسكين.

(١٨) [الأحزاب : ٣٧]. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٦.


«على» في قوله : (وَنَصَرْناهُ (١) مِنَ الْقَوْمِ)(٢) وإليه ذهب الفراء (٣).

الثالث : أن يكون في موضع نصب على الحال ، قال الزمخشري : إلّا والين على أزواجهم أو قوّامين عليهنّ من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان ، ونظيره : كان زياد على البصرة أي : واليا عليها ، ومنه قولهم : فلانة تحت (٤) فلان ، ومن ثمّ سميت المرأة فراشا (٥).

الرابع : أن يتعلق بمحذوف يدل عليه (غَيْرُ مَلُومِينَ) قال الزمخشري : كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه (٦). قال شهاب الدين : وإنما لم يجعله متعلقا ب «ملومين» لوجهين :

أحدهما : أن ما بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها.

الثاني : أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف (٧).

الخامس : أن يجعل صلة (٨) لحافظين ، قال الزمخشري : من قولك : احفظ عليّ عنان فرسي ، على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت معنى : ما طلبت منك إلا فعلك (٩) يعني أنّ صورته إثبات ومعناه نفي. قال أبو حيان بعدما ذكر ذلك عن الزمخشري : وهذه وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة (١٠). قال شهاب الدين : وأي عجمة في ذلك على أنّ الشيخ (١١) جعلها متعلقة ب «حافظون» على ما ذكره من التضمين ، وهذا لا يصح له إلا بأن يرتكب وجها منها وهو (١٢) التأويل بالنفي

__________________

(١) في ب : ونصرناهم. وهو تحريف.

(٢) من قوله تعالى : «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ»[الأنبياء : ٧٧].

(٣) قال الفراء : قوله : «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ» المعنى : إلا من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم من الأربع لا تجاوز. معاني القرآن ٢ / ٢٣١ ، وانظر أيضا البحر المحيط ٦ / ٣٩٦.

(٤) في ب : فلان يجب. وهو تحريف.

(٥) الكشاف ٣ / ٤٣. وقال أبو البقاء : (وقيل هو حال أي : حافظوها في كل حال إلا في هذه الحال).

التبيان ٢ / ٩٥٠.

(٦) الكشاف ٣ / ٤٣ وانظر التبيان ٢ / ٩٥٠.

(٧) الدر المصون : ٥ / ٨٣ ، وانظر أيضا التبيان ٢ / ٩٥٠.

(٨) في ب : صفة. وهو تحريف.

(٩) الكشاف ٣ / ٤٣. وقال أبو حيان تعقيبا على ذلك : (يعني : أن يكون «حافظون» صورته صورة المثبت وهو منفي من حيث المعنى ، أي: والذين هم لم يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم ، فيكون استثناء مفرغا متعلقا فيه «على» بما قبله ، كما مثل بنشدتك الذي صورته صورة مثبت ومعناه النفي ، أي : ما طلبت منك) البحر المحيط ٦ / ٣٩٦.

(١٠) البحر المحيط ٦ / ٣٩٦.

(١١) في ب : النسخ. وهو تحريف.

(١٢) في الأصل : فهو.


كنشدتك (١) الله ، لأنه استثناء مفرغ ولا يكون إلا بعد نفي أو ما في معناه (٢).

السادس : قال أبو البقاء : في موضع نصب ب «حافظون» على المعنى ؛ لأنّ (٣) المعنى صانوها عن كل (٤) فرج إلا عن فروج أزواجهم (٥). قال شهاب الدين : وفيه سببان :

أحدهما تضمين «حافظون» معنى صانوا ، وتضمين «على» معنى «عن» (٦).

قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ) «ما» بمعنى : اللاتي ، و «ما» في محل الخفض يعني : أو على ما ملكت أيمانهم (٧). وفي وقوعها على العقلاء وجهان :

أحدهما : أنها واقعة على الأنواع كقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ)(٨) أي : أنواع (٩).

والثاني : قال الزمخشري : أريد من (١٠) جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث(١١).

قال أبو حيان : وقوله : وهم. ليس بجيد ، لأنّ لفظ هم مختص بالذكور فكان ينبغي أن يقول : «وهو» على لفظ «ما» أو «هنّ» على معنى (ما) (١٢).

وأجيب بأن الضمير عائد على العقلاء فقوله : «وهم» أي : العقلاء الإناث. وقال ابن الخطيب هلا قيل : من ملكت؟ فالجواب : لأنه اجتمع في السّرّيّة (١٣) وصفان :

أحدهما : الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل.

__________________

(١) في الأصل : فنشدتك.

(٢) الدر المصون ٥ / ٨٣.

(٣) في ب : إذ.

(٤) في ب : محل. وهو تحريف.

(٥) التبيان : ٢ / ٩٥٠.

(٦) الدر المصون ٥ / ٨٣.

(٧) معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣١ ، والبغوي ٦ / ٧.

(٨) من قوله تعالى : «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» [النساء : ٣].

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٦.

(١٠) من : سقط من الأصل.

(١١) الكشاف ٣ / ٤٣. و «ما» من الأسماء الموصولة المشتركة ، والأصل فيها أن تكون لغير العاقل نحو قوله تعالى «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ»[النحل : ٩٦]. وتستعمل للعاقل في أمور منها : أن يختلط العاقل مع غير العاقل نحو «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ»[الحشر : ١][الصف : ١]. وفي أنواع من يعقل نحو «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» [النساء : ٣]. وفي المبهم أمره كقولك وقد رأيت شبحا من بعد : انظر إلى ما ظهر. شرح التصريح ١ / ١٣٤ ـ ١٣٥ ، الهمع ١ / ٩١ ـ ٩٢ ، شرح الأشموني ٢ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٩٦.

(١٣) السرية : الجارية المتخذة للملك والجماع ، فعلية منه على تغيير النسب وقيل : هي فعولة من السرو ، وقلبت الواو الأخيرة ياء طلب الخفّة ، ثم أدغمت الواو فيها فصارت ياء مثلها ، ثم حولت الضمة كسرة لمجاورة الياء ، وقد تسررت وتسريت على تحويل التضعيف. اللسان (سرر).


والآخر : كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع.

فلهذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء (١).

فصل

هذه الآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها (٢).

فإن قيل : أليست الزوجه والمملوكة لا تحل له الاستمتاع بها في أحوال كحال (٣) الحيض ، وحال العدة ، والصيام ، والإحرام ، وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها ، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ)؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ الاستثناء من النفي لا يكون إثباتا ، لقوله عليه‌السلام (٤) : «لا صلاة إلا بطهور ، ولا نكاح إلّا بوليّ» (٥) فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور ، وحصول النكاح بمجرد حصول الولي. وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) معناه أنه يجب حفظ الفرج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما (٦) لا بالنفي ولا بالإثبات.

الثاني : (أنّا إن) (٧) سلمنا أنّ الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص (٨) بالدليل فيبقى حجة فيما عداه (٩).

وقوله : (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) يعني : يحفظ فرجه إلا من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك إذا كان على وجه أذن الشرع فيه دون الإتيان في غير المأتى ، وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور ويلام(١٠) على فعله (١١).

قوله (١٢) : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي : التمس وطلب سوى الأزواج والمملوكات (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام ، وفيه دليل أنّ الاستمناء باليد حرام(١٣) قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : مكروه ، سمعت أنّ قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء (١٤). وعن سعيد بن جبير قال : عذّب الله أمة كانوا يعبثون

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٣ / ٨١.

(٢) في النسختين : مملوكتها. والصواب ما أثبته.

(٣) كحال : سقط من ب.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) قوله : «لا نكاح إلا بولي» أخرجه أبو داود (نكاح) ٢ / ٥٦٨ ، والترمذي (نكاح) ٢ / ٢٨٠ ، ٢٨٧ وابن ماجة (نكاح) ١ / ٦٠٥ ، والدارمي ٢ / ١٣٧ والإمام أحمد ١ / ٢٥٠ ، ٤ / ٣٩٤ ، ٤١٣ ، ٦ / ٢٦٠.

(٦) في ب : حكمها. وهو تحريف.

(٧) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي يقتضيها السياق.

(٨) في الأصل : التخصص.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨١ ـ ٨٢.

(١٠) في ب : يلام.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٧.

(١٢) قوله : سقط من الأصل.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٧.

(١٤) المرجع السابق.


بمذاكيرهم (١). قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) قرأ ابن كثير هنا وفي سأل (٢) «لأمانتهم» (٣) بالتوحيد ، والباقون بالجمع (٤). وهما في المعنى واحد إذ المراد العموم (٥) والجمع أوفق.

والأمانة في الأصل مصدر ، ويطلق على الشيء المؤتمن عليه لقوله (٦) : (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)(٧).

(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ)(٨) ، وإنما يؤدّى ويخان الأعيان لا المعاني ، كذا قال الزمخشري (٩).

أما ما ذكره من الآيتين فمسلم ، وأما هذه الآية فيحتمل المصدر ويحتمل العين ، والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى الله ، ويقع أيضا على ما (١٠) أمر الله به كقوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا)(١١) ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. فالأمانات تكون بين الله وبين العبد كالصلاة ، والصيام ، والعبادات الواجبة وتكون بين العبيد كالودائع والبضائع (١٢) ، فعلى (١٣) العبد الوفاء بجميعها (١٤).

وقوله : «راعون» الراعي القائم (١٥) على الشيء يحفظه ويصلحه كراعي الغنم ، ومنه يقال : من راعي هذا الشيء؟ أي متوليه (١٦).

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ (١٧) يُحافِظُونَ) قرأ الأخوان (عَلى صَلاتِهِمْ) بالتوحيد ، والباقون «صلواتهم» بالجمع (١٨) ، وليس في المعارج (١٩) خلاف (٢٠).

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) من قوله تعالى : «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ»[المعارج : ٣٢].

(٣) في النسختين : لأماناتهم.

(٤) السبعة (٤٤٤ ، ٦٥١) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٥) ، الكشف ٢ / ١٢٥ ، النشر ٢ / ٣٢٨ ، الإتحاف (٣١٧).

(٥) فمن وحد فلأن المصدر يدل على القليل والكثير من جنسه ، ومن جمع فلأن المصدر إذا اختلفت أجناسه وأنواعه جمع ، والأمانة هنا مختلفة لأنها تشتمل على سائر العبادات وغيرها من المأمورات.

مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣ ، الكشف ٢ / ١٢٥ ، البيان ٢ / ١٨١ التبيان ٢ / ٩٥٠ ـ ٩٥١.

(٦) في ب : لقوله. وهو تحريف.

(٧) من قوله تعالى : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» [النساء : ٥٨].

(٨) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» [الأنفال : ٢٧].

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٤٣.

(١٠) ما : سقط من ب.

(١١) من قوله تعالى : «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ»[آل عمران : ١٨٣]. وانظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٢.

(١٢) في النسختين البضائع ، والصواب ما أثبته.

(١٣) في الأصل : وعلى.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٧ ـ ٨.

(١٥) القائم : سقط من ب.

(١٦) الفخر الرازي ٢٣ / ٨٢.

(١٧) في الأصل : صلاتهم.

(١٨) السبعة (٤٤٤) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٥) ، النشر ٢ / ٣٢٨ ، الاتحاف ٣١٧.

(١٩) في قوله تعالى : «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» [المعارج : ٣٤].

(٢٠) أي في القراءة بالإفراد.


والإفراد (١) والجمع كما تقدم في (أمانتهم) و (أماناتهم) (٢). قال الزمخشري : فإن قلت : كيف كرر ذكر الصلاة أولا وآخرا؟ قلت : هما ذكران مختلفان وليس بتكرير ، وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم ، وآخرا بالمحافظة عليها (٣). ثم قال : وأيضا فقد وحدت (٤) أولا ليفاد (٥) الخشوع في جنس الصلاة ، أي صلاة كانت (٦) ، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات (٧) الخمس والوتر والسنن الراتبة (٨) ، وهذا إنما يتجه في قراءة غير الأخوين وأما (٩) الأخوان فإنهما أفردا أولا وآخرا على أنّ الزمخشري قد حكى الخلاف في جمع الصلاة الثانية وإفرادها بالنسبة إلى القراءة. وقيل : كرر ذكر الصلاة ليبين أنّ المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب (١٠).

ثم قال : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) «أولئك» أي : أهل هذه الصفة (هُمُ الْوارِثُونَ) فإن قيل (١١) : كيف سمى ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث؟ مع أنه سبحانه حكم بأنّ الجنة حقهم في قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(١٢). فالجواب من وجوه :

الأول : روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما منكم من أحد إلّا وله منزلان منزل في الجنّة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ، وذلك قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ)(١٣). وأيضا : فقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه ، كذلك قالوا في الدية التي إنما تجب بالقتل إنها تورث مع أنه مالكها على التحقيق وهذا يؤيد ما (١٤) ذكر فإن قيل : إنه تعالى وصف كل الذي (١٥) يستحقونه إرثا ، وعلى ما قلتم إنما يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم (١٦) لو أطاع.

فالجواب : لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو (منزلة) (١٧) لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك كان يزيد في المنازل فإذا أمن هذا عدل بذلك إليه.

__________________

(١) في الأصل : «الإفراد» بدون واو العطف.

(٢) في الآية السابقة.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٣.

(٤) في الأصل : وقد وحد أيضا.

(٥) في النسختين : ليعاد. والصواب ما أثبته.

(٦) في ب : أي كانت صلاة كانت. وهو تحريف.

(٧) في الأصل : الصلاة.

(٨) الكشاف ٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٩) في ب : فأما.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٨.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٢ ـ ٨٣.

(١٢) [التوبة : ١١١].

(١٣) أخرجه ابن ماجه (زهد) ٢ / ١٤٥٣ ، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٦.

(١٤) في ب : مما.

(١٥) في الأصل : الذين.

(١٦) في الأصل : غيره. وهو تحريف.

(١٧) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.


الثاني : أنّ انتقال الجنة إليهم من دون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث.

الثالث : أنّ الجنة كانت مسكن أبينا آدم ـ عليه‌السلام ـ فإذا انتقلت إلى أولاده كان ذلك شبيها بالميراث. فإن قيل : كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج؟

فالجواب : أنّ قوله : (لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما تقدم والطهارات (١) دخلت في جملة المحافظة على الصلوات (٢) لكونها من شرائطها (٣). واعلم أنّ قوله : (هُمُ الْوارِثُونَ) يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به ، لأنه ثبت أنّ الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور ، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(٤) ، وتقدم الكلام في الفردوس في سورة الكهف (٥). قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالا مقدرة إما من الفاعل ب «يرثون» وإما من مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما (٦) ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون ، وقد جاء في الحديث : «أن الله خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده (٧) ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» (٨).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(١٦)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الآيات لما أمر (٩) بالعبادات في

__________________

(١) في ب : فالطهارات.

(٢) في الأصل : الصلاة.

(٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٢ ـ ٨٣.

(٤) من قول تعالى : «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً» [النساء: ٤٨]. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٣.

(٥) عند قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً» [الكهف : ١٠٧]. وذكر ابن عادل هناك : والفردوس الجنة من الكرم خاصة. وقيل : ما كان غالبها كرما. وقيل : كل ما حوّط فهو فردوس ، والجمع فراديس ، قال المبرد : والفردوس فيما سمعت من العرب الشجر الملتف ، والأغلب عليه أن يكون من العنب ، وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبا من النبت ، واختلف فيه فقيل : هو عربيّ ، وقيل : أعجميّ ، وقيل هو روميّ ، وقيل : فارسي ، وقيل : سرياني.

انظر اللباب ٥ / ٣٩٤.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٥.

(٧) بيده : سقط من ب.

(٨) الديوث من الرجال : القواد على أهله والذي لا يغار على أهله ولا يخجل المعجم الوسيط (ديث) ١ / ٣٠٧.

(٩) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٤ ـ ٨٥.


الآيات المتقدمة بطريق الحث عليها والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله ، لا جرم عقّبها بذكر ما يدل على وجوده ، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية ، فذكر أنواعا من الدلائل : منها تقلب الإنسان في أدوار خلقته وهي تسعة :

أولها : قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد بالإنسان آدم ـ عليه‌السلام (١) ـ سلّ من كلّ تربة ، وخلقت ذريته من ماء مهين.

وقيل : الإنسان اسم جنس يقع على الواحد والجميع (٢) ، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منيا ، وهذا مطابق لقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)(٣)(٤).

قال ابن الخطيب : وفيه وجه آخر : وهو أنّ الإنسان إنما يتولد من النطفة ، وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك (٥) إنما يتولد من الأغذية ، وهي إما حيوانية أو نباتية ، والحيوانية تنتهي إلى النباتية ، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء ، فالإنسان في الحقيقة يكون متولدا من سلالة من طين ، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت عليها أطوار الخلقة وأدوار (٦) الفطرة صارت منيا (٧).

(قوله) (٨) : (مِنْ سُلالَةٍ) فيه وجهان :

أظهرهما : أن يتعلق ب «خلقنا» (٩) ، و «من» لابتداء الغاية (١٠).

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الإنسان».

والسّلالة (فعالة) ، وهو بناء يدل على القلة كالقلامة (١١) ، وهي من سللت الشيء من الشيء أي استخرجته منه ، ومنه قولهم : هو سلالة أبيه كأنه انسلّ (١٢) من ظهره (١٣) ، وأنشد :

٣٧٨٢ ـ فجاءت به عضب الأديم غضنفرا

سلالة فرج كان غير حصين (١٤)

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : والجمع.

(٣) [السجدة : ٧ ـ ٨].

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٤ ـ ٨٥.

(٥) في ب : وذاك.

(٦) في ب : أطوار.

(٧) الفخر الرازي ٢٣ / ٨٥.

(٨) ما بين القوسين بياض في الأصل.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٥١.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٤٤.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٤٤ ، القلامة : ما قطع من طرف الظفر أو الحافر أو العود اللسان (قلم) ، المعجم الوسيط (قلم).

(١٢) في ب : النسل.

(١٣) انظر اللسان (سلل) ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٣.

(١٤) البيت من بحر الطويل قاله حسان بن ثابت ، وهو في ديوانه (٣٩٦) مجاز القرآن ٢ / ٥٦ ، الطبري ١٨ / ١٦ ، تفسير ابن عطية ١ / ٣٣٦ ، واللسان (سلل) ، القرطبي ١٢ / ١٠٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٣ ، عضب ـ


وقال أمية بن أبي الصلت :

٣٧٨٣ ـ خلق البرية من سلالة منتن

وإلى السلالة كلها ستعود (١)

وقال عكرمة : هو الماء يسيل من الظهر. والعرب يسمون (٢) النطفة سلالة ، والولد سليلا وسلالة ، لأنهما مسلولان منه (٣). وقال الزمخشري : السلالة الخلاصة ، لأنها تسل من بين الكدر (٤). وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، أي : والله لقد خلقنا ، وعطفت على الجملة قبلها لما بينهما من المناسبة ، وهو أنه لما ذكر أنّ المتصفين بتلك الأوصاف (٥) يرثون الفردوس فتضمن (٦) ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل (٧) بها على المعاد (٨) ، فإنّ الابتداء في العادة أصعب من الإعادة ، لقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(٩).

وهذا أحسن من قول ابن عطية : هذا ابتداء كلام ، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، وإن تباينتا في المعنى (١٠). وقد تقدم بيان وجه المناسبة.

قوله : «من طين» في «من» وجهان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية.

والثاني : أنها لبيان الجنس.

قال الزمخشري (١١) : فإن قلت : ما الفرق بين «من» و «من»؟ قلت : الأولى للابتداء ، والثانية للبيان كقوله : (مِنَ الْأَوْثانِ)(١٢)(١٣). قال أبو حيان : ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا : إن السلالة هي الطين أما إذا قلنا : إنه من انسل (١٤) من الطين ف «من» (١٥) لابتداء الغاية (١٦) وفيما تتعلق به «من» هذه ثلاثة أوجه :

__________________

ـ الأديم : غليظ الجلد ، يعني أنه شديد قوي الجلد. الغضنفر : الغليظ من كل شيء ، والأسد سمي غضنفرا لكثافته وعظم هامته وأذنيه.

(١) البيت من بحر الكامل قاله أمية بن أبي الصلت وليس في ديوانه وهو في البحر المحيط ٦ / ٣٩٣.

(٢) في ب : تسمى.

(٣) البغوي ٦ / ٩.

(٤) الكشاف ٣ / ٤٤.

(٥) في ب : الصفات.

(٦) في ب : فضمن.

(٧) في ب : يستدل.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٧.

(٩) من قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»[الروم : ٢٧].

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٤.

(١١) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٢) من قوله تعالى : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» [الحج : ٣٠].

(١٣) الكشاف ٣ / ٤٤.

(١٤) في ب : النسل.

(١٥) في ب : من.

(١٦) البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.


أحدها : أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل «سلالة» (١).

الثاني : أنها تتعلق بنفس (٢) «سلالة» لأنها بمعنى مسلولة (٣).

الثالث : أنها تتعلق ب «خلقنا» ، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا : إنّ السلالة هي نفس الطين(٤). قوله : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) في هذا الضمير قولان :

أحدهما : أنه يعود للإنسان ، فإن أريد غير آدم فواضح ، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله ، وهو آدم (فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم ، فيكون الضمير عائدا على نسله ، أي : جعلنا نسله) (٥) ، فهو على حذف مضاف أيضا ، ويؤيده قوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)(٦)(٧).

أو عاد الضمير على الإنسان اللائق به ذلك ، وهو نسل آدم ، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع ، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري (٨).

قوله : (فِي قَرارٍ) يجوز أن يتعلق بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «نطفة».

والقرار : المستقر ، وهو موضع الاستقرار ، والمراد بها الرحم ، وصفت (٩) بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين (١٠) : إمّا على المجاز كطريق سائر ، وإنما السائر من فيه ، وإمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت (١١). ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولا طينا ، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة ، فصار(١٢) الرحم قرارا مكينا لهذه النطفة (١٣) تتخلق فيه إلى أن تصير إنسانا. قوله : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) وما بعدها ضمن «خلق» (١٤) معنى «جعل» التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن «جعل» معنى «خلق» فيتعدى (١٥) لواحد نحو (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)(١٦). والمعنى : حولنا النطفة عن صفاتها

__________________

(١) التبيان ٢ / ٩٥١.

(٢) في ب : به من. وهو تحريف.

(٣) التبيان ٢ / ٩٥١.

(٤) وعلى هذا الوجه تكون «من» لبيان الجنس.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) [السجدة : ٧ ـ ٨].

(٧) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٨) قال الزمخشري : (فإن قلت : ما معنى «جعلنا» الإنسان «نطفة»؟ قلت : معناه أنه خلق جوهر الإنسان أولا طينا ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة) الكشاف ٣ / ٤٤.

(٩) في الأصل : فوصفت.

(١٠) في ب : المعنيين.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٤٤ ، أحرزت : يقال : أحرزت الشيء أحرزه إحرازا إذا حفظته وضممته إليك وصنته عن الأخذ. اللسان (حرز).

(١٢) في الأصل : وصار.

(١٣) الفخر الرازي ٢٣ / ٨٥.

(١٤) في ب : يخلق.

(١٥) في ب : فيعدى.

(١٦) من قوله تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» [الأنعام : ١].

انظر البيان ٢ / ١٨١ ، التبيان ٢ / ٩٥١.


إلى صفات العلقة ، وهي الدم الجامد (١)(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي : جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة ، أي : قطعة لحم ، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة ، وهو ما يغترف.

وسمى التحويل خلقا ، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها ، ويخلق أعراضا غيرها ، فسمى خلق الأعراض خلقا لها ، كأنه (٢) سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة (٣).

قوله : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي : صيرناها كذلك. وقرأ العامة : «عظاما» و «العظام» بالجمع فيهما ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «عظما» و «العظم» (٤) بالإفراد فيهما(٥) ، والسلمي والأعرج ، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني (٦) ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وإبراهيم بن أبي بكر (٧) بجمع الأول وإفراد الثاني عكس (٨) ما قبله (٩). فالجمع (١٠) على الأصل ، لأنه مطابق لما يراد به ، والإفراد للجنس كقوله : (وَالْمَلَكُ صَفًّا)(١١) ، وكقوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)(١٢).

وقال (١٣) الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس ، لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة (١٤). قال أبو حيان : وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا (لضرورة) (١٥)(١٦) وأنشدوا :

٣٧٨٤ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا (١٧)

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٥.

(٢) في الأصل : كافانه. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٥.

(٤) في ب : والعظام. وهو تحريف.

(٥) السبعة (٤٤٤) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٦) ، الكشف ٢ / ١٢٦ ، النشر ٢ / ٣٢٨ ، الإتحاف ٣١٨.

(٦) المحتسب ٢ / ٨٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٧) إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الرحمن الأنصاري ، مدني ، يروي عن أسامة بن سهل ، وروى عنه ابن جريج ، تهذيب التهذيب ١ / ١١١.

(٨) في الأصل : كعكس. وهو تحريف.

(٩) المحتسب ٢ / ٨٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(١٠) في الأصل : فجمع.

(١١) من قوله تعالى : «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» [الفجر : ٢٢].

(١٢) من قوله تعالى : «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي» [مريم : ٤]. انظر التبيان ٢ / ٩٥١.

(١٣) في ب : قال.

(١٤) الكشاف ٣ / ٤٤. وقد وجه ابن جني لقراءة من قدم الإفراد ثم عقّب بالجمع أنه أشبه لفظا ، لأنه جاور بالواحد لفظ الواحد الذي هو «إنسان» و «سلالة» ونطفة و «علقة» و «مضغة» ثم عقب بالجماعة لأنها هي الغرض. ومن قدّم الجماعة بادر إليها إذ كانت هي المقصود ، ثم عاد فعامل اللفظ المفرد بمثله.

المحتسب ٢ / ٨٧.

(١٥) انظر الكتاب ١ / ٢٠٩.

(١٦) ما بين القوسين في ب : في ضرورة.

(١٧) صدر بيت من بحر الوافر ، وعجزه : فإن زمانكم زمن خميص.

وهو من الخمسين التي لم يعرف لها قائل ، الخميص : الجائع ، أي : زمان جدب ومخمصة.

والشاهد فيه وضع الواحد وهو (بطن) موضع الجمع وهو (بطون) لزوال اللبس وقد تقدم.


وإن كان معلوما أن كل واحد له بطن (١). قال شهاب الدين : ومثله :

٣٧٨٥ ـ لا تنكروا القتل وقد سبينا

في حلقكم عظم وقد شجينا (٢)

يريد في حلوقكم ومثله قول الآخر :

٣٧٨٦ ـ بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب (٣)

يريد جلودها ، ومنه (وَعَلى (٤) سَمْعِهِمْ)(٥)(٦).

قوله : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي : ألبسنا ، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة (لها) (٧)(٨) قيل (٩) : بين كل خلقين أربعون يوما. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي (١٠) : خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا ، وكان جمادا ، وناطقا وكان أبكم وسميعا وكان أصم وبصيرا وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة ، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين (١١). قال ابن عباس (١٢) ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية : المراد بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه. وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر ، وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب. وعن الحسن قال : ذكر أو أنثى.

وروى العوفي عن ابن عباس : أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ، وخلق الفهم والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها (١٣) إلى أن يموت.

قالوا : وفي هذه الآية (١٤) دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن ، فإنه سبحانه بيّن أنّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء (١٥). وفيها دلالة أيضا

__________________

(١) البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٢) رجز قاله المسيب بن زيد مناة الغنوي. يقول : لا تنكروا قتلنا لكم وقد سبيتم منا خلقا ، فقد شجيتم بقتلنا لكم ، كما شجينا نحن من قبل بمن سبيتم منا. وقد تقدم.

والشاهد فيه وضع الواحد وهو (حلق) موضع الجمع وهو (حلوق) لزوال اللبس.

(٣) البيت من بحر الطويل قاله علقمة بن عبدة. تقدم تخريجه والشاهد فيه كسابقيه.

(٤) في الأصل : على.

(٥) من قوله تعالى : «خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ» [البقرة : ٧]. واستشهد بها على وضع الواحد موضع الجمع. انظر البيان ١ / ٥٢ ، التبيان ١ / ٢٣.

(٦) الدر المصون : ٥ / ٨٤.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٥.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في ب : وقيل.

(١٠) أي : سقط من ب.

(١١) الفخر الرازي ٢٣ / ٨٥ ـ ٨٦.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ١٠ ـ ١١.

(١٣) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ١٠ ـ ١١.

(١٤) الآية : سقط من ب.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٦.


على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون : الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم (١).

وقال (٢) : (فَتَبارَكَ اللهُ) أي : فتعالى الله (٣) ، لأنّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله.

وقيل : أصله من البروك وهو الثبات ، فكأنه قال : البقاء والدوام والبركات كلها منه ، فهو المستحق للتعظيم والثناء (٤) بأنه لم يزل ولا يزال (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة: التقدير ، قال زهير :

٣٧٨٧ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري (٥)

قوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من الجلالة (٦).

الثاني : أنه نعت للجلالة (٧) ، وهو أولى مما قبله ، لأنّ البدل بالمشتق يقل.

الثالث : أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هو أحسن (٨) ، والأصل عدم الإضمار.

وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفا ، قال : لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن (٩) «من» ، وهكذا (١٠) جميع أفعل منك (١١).

قال شهاب الدين : وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا ، والصحيح الأول (١٢). والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) في ب : ثم قال.

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٦.

(٥) البيت من بحر الكامل قاله زهير ، وهو في ديوانه (١١٩) والكتاب ٤ / ١٨٥ ، ٢٠٩ المنصف ٢ / ٧٤ ، ٢٣٢ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٩ ، ابن يعيش ٩ / ٧٩ ، اللسان (فرا) البحر المحيط ٦ / ٣٩٨ ، الهمع ٢ / ٢٠٦ ، شرح شواهد الكافية ٤ / ٢٢٩ ، الدرر ٢ / ٢٣٣ ، الفري : القطع. الخلق : التقدير قبل القطع ، يقال : خلقت الأديم إذا قدرته لتقطعه. وهو الشاهد هنا.

(٦) هذا على أنّ إضافة أفعل التفضيل إضافة غير محضة. البيان ٢ / ١٨١ ، التبيان ٢ / ٩٥١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٧) على أن إضافة أفعل التفضيل إضافة محضة. البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٩) في النسختين : من. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٠) في الأصل : وهذا.

(١١) التبيان ٢ / ٩٥١ وذلك لأنّ أبا البقاء ممن قال : إن إضافة أفعل التفضيل إضافة غير محضة. شرح التصريح ٢ / ٢٧.

(١٢) الدر المصون : ٥ / ٨٤.


عليه ، أي : أحسن الخالقين خلقا المقدرين تقديرا كقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ)(١) أي : في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه (٢).

فصل(٣)

قالت المعتزلة : لو لا أن يكون (٤) غير الله قد يكون خالقا لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين ، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه : (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ)(٥) و (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٦). والخلق في اللغة : هو كل فعل وجد من فاعله مقدّرا لا على سهو وغفلة ، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه. قال الكعبي (٧) : هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد ، كما أنه (٨) يجوز أن يقال : ربّ الدار ، ولا يجوز أن يقول : رب ، ولا يقول العبد لسيده : هذا ربّي ، ولا يقال : إنما قال الله سبحانه (٩) ذلك (١٠) لأنه وصف عيسى ـ عليه‌السلام (١١) ـ بأنه يخلق من الطّين كهيئة الطّير (١٢). لأنا نجيب من وجهين :

أحدهما : أن (١٣) ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.

الثاني (١٤) : أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ (١٥) أيضا وصف غيره من المصورين بأنه يخلق.

وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله (١٦) : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(١٧) فوجب حمل

__________________

(١) من قوله تعالى : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» [الحج : ٣٩].

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٤٤.

(٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٦ ـ ٨٧.

(٤) يكون : سقط من ب.

(٥) من قوله تعالى : «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ» [هود : ٤٥].

(٦) [الأعراف : ١٥١] ، [يوسف : ٦٤ ـ ٩٢] ، [الأنبياء : ٨٣].

(٧) في ب : قال الكلبي.

(٨) في الأصل : كأنه.

(٩) في ب : قال تعالى.

(١٠) ذلك : سقط من ب.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في قوله تعالى : «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ» [آل عمران : ٤٩]. وقوله تعالى : «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي» [المائدة : ١١٠].

(١٣) في ب : أنه. وهو تحريف.

(١٤) في ب : والثاني.

(١٥) في ب : ويصح.

(١٦) في الأصل : بقو. وفي ب يقولو. والصواب ما أثبته.

(١٧) من قوله تعالى : «قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» [الرعد : ١٦]. وقوله تعالى : «اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» [الزمر : ٦٢].


هذه الآية على أنه (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) في اعتقادكم وظنكم كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(١).

وجواب ثان ، وهو أنّ الخالق هو المقدر ، لأن الخلق هو التقدير ، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين ، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فتكون الآية من المتشابه.

وجواب ثالث : أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقا بمعنى كونه مقدرا لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحدا.

فصل

قالت المعتزلة : الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين ، وإذا كان كذلك وجب أن لا (٢) يكون خالقا للكفر والمعصية ، فوجب أن يكون العبد هو الموجد (٣) لهما (٤).

وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في (٥) التركيب والتأليف ، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء ، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعا له عن فعل شيء (٦).

فصل

روى الكلبي عن ابن عباس (٧) أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما انتهى إلى قوله : (خَلْقاً آخَرَ) عجب من ذلك فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب فهكذا نزلت» فشك عبد الله وقال : إن كان محمد صادقا فيما يقول ، فإنه يوحى إليّ كما يوحى إليه ، وإن كان كاذبا فلا خير في دينه ، فهرب إلى مكة ، فقيل : إنه مات على الكفر ، وقيل : إنه أسلم يوم الفتح (٨) وروى سعيد (٩) بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله : «هكذا أنزل يا عمر».

وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام ، وضرب الحجاب على النسوة ، وقولي لهنّ : أو ليبدله الله خيرا منكنّ ، فنزل قوله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)(١٠) ، والرابع قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(١١) قال العارفون : هذه الواقعة

__________________

(١) من قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» [الروم : ٢٧].

(٢) لا : سقط من ب.

(٣) في ب : الموجب. وهو تحريف.

(٤) في النسختين : لها. والصواب ما أثبته.

(٥) في ب : و.

(٦) الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧.

(٨) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥).

(٩) في الأصل : سعد. وهو تحريف.

(١٠) من قوله تعالى : «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ» [التحريم : ٥].

(١١) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥) الدر المنثور ٥ / ٧.


كانت من أسباب السعادة لعمر ، وسبب الشقاوة لعبد الله ، كما قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً)(١).

فإن قيل : فعلى كل الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن ، وذلك يقدح في كونه معجزا كما ظنّه عبد الله.

فالجواب : هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز ، فسقطت شبهة عبد الله (٢).

قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي : بعد ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة ، وقرأ العامة «لميّتون» ، وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن «لمائتون» (٣) والفرق بينهما : أن الميّت يدل على الثبوت والاستقرار ، والمائت على الحدوث كضيق وضائق وفرح وفارح ، فيقال لمن سيموت : ميّت ومائت ، ولمن مات : ميّت فقط دون مائت ، لاستقرار الصفة وثبوتها ، وسيأتي مثله في الزمر (٤) إن شاء الله تعالى. فإن قيل : الموت لم يختلف فيه اثنان وكم من مخالف في البعث ، فلم أكّد المجمع عليه أبلغ تأكيد (٥) وترك المختلف فيه من تلك المبالغة في التأكيد (٦)؟ فالجواب : أنّ البعث لما تظاهرت أدلته وتظافرت ، أبرز في صورة المجمع عليه المستغني عن ذلك ، وأنهم لمّا لم يعملوا (٧) للموت ، ولم يهتموا بأموره ، نزّلوا منزلة من ينكره ، فأبرز لهم في صورة المنكر الذي استبعدوه كل استبعاد (٨). وكان أبو (٩) حيان سئل عن ذلك (١٠) ، فأجاب بأنّ اللام غالبا تخلص المضارع للحال (١١) ، ولا يمكن دخولها في «تبعثون» ، لأنه مخلص للاستقبال لعمله في الظرف المستقبل ، واعترض على نفسه بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١٢) فإن (١٣) اللام دخلت على المضارع العامل في ظرف مستقبل وهو (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فأجاب بأنه خرج هذا بقوله : غالبا ، وبأن (١٤) العامل في (يَوْمَ الْقِيامَةِ) مقدر (١٥) ، وفيه نظر إذ فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه. و (بَعْدَ ذلِكَ) متعلق ب «ميّتون» ، ولا تمنع لام الابتداء من ذلك (١٦).

__________________

(١) من قوله تعالى : «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» [البقرة : ٢٦].

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٩٩.

(٤) وهو قوله تعالى : «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» [الزمر : ٣٠].

(٥) حيث أكد ب «إن» ، و «اللام».

(٦) حيث أكد ب «إن» فقط.

(٧) في ب : يعلموا. وهو تحريف.

(٨) في ب : استبعاده. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٩.

(٩) أبو : سقط من ب.

(١٠) أي لم دخلت اللام في قوله «لميتون» ولم تدخل في تبعثون؟.

(١١) تقدم الخلاف بين البصريين والكوفيين في لام الابتداء الداخلة على المضارع هل تخلصه للحال؟

(١٢) [النحل : ١٢٤].

(١٣) فإن : سقط من ب.

(١٤) في الأصل : لأن.

(١٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٩.

(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٥. ولام الابتداء لا تمنع هنا في أن يعمل ما بعدها فيما قبلها لأنها مزحلقة عن مكانها وهو الصدر.


قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) جعل (١) الإماتة التي هي إعدام (٢) الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع (٢).

فإن قيل : ما الحكمة في الموت ، وهلا وصل (٣) نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام أبلغ؟

فالجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله بدليل أنه لو قيل لمن يصوم : إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة ، فلا جرم أخره وبعده بالإماتة ، وهو الإعادة ، ليكون (٤) العبد عابدا لطاعته لا لطلب الانتفاع.

فإن قيل : هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر ، لأنه قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة.

فالجواب من وجهين :

الأول : أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة.

والثاني : أنّ الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإحياء والإماتة والإعادة والذي ترك ذكره فهو من جنس الإعادة (٥).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ)(١٧)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) الآية ، أي : سبع (٦) سموات سميت طرائق لتطارقها ، وهو أن بعضها فوق بعض ، يقال : طارقت النعل : إذا أطبق نعلا على نعل ، وطارق (٧) بين الثوبين : إذا لبس ثوبا على ثوب قاله الخليل (٨) والزجاج (٩) والفراء (١٠) قال الزجاج : هو كقوله : (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)(١١) وقال عليّ بن عيسى : سميت بذلك ، لأنها طرائق الملائكة في العروج (١٢) والهبوط ، وقيل : لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) في الأصل : عدم.

(٢) في الأصل : عدم.

(٣) في ب : أوصل.

(٤) في ب : فيكون.

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧ ـ ٨٨.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(٧) في ب : وطارقت.

(٨) العين (طرق).

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٩.

(١٠) معاني القرآن ٢ / ٢٣٢.

(١١) من قوله تعالى : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً»[الملك : ٣].

(١٢) في الأصل : بالعروج.


والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه جعلها موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها ، وجعلها مقرا للملائكة ، ولأنها موضع الثواب ، ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي (١).

قوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي : بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم ، وهذا قول سفيان بن عيينة ، وهو كقوله تعالى (٢) : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا)(٣) ، وقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ)(٤)(٥) ، وقال الحسن : إنا خلقناها فوقهم (٦) ليدل عليهم بالأرزاق والبركات منها (٧).

وقيل : خلقنا هذه الأشياء دلالة (٨) على كمال قدرتنا ، ثم بيّن كمال العلم بقوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) يعني : عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر (٩).

وقيل : وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظين لئلا تخرج عن التقدير الذي أردناها عليه كقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ)(١٠)(١١).

واعلم أن هذه الآيات (١٢) دالة على مسائل :

منها : أنها تدل على وجود الصانع ، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على الصفة الأولى يدل على أنه لا بد من مغير.

ومنها : أنها تدل على فساد القول بالطبيعة ، فإن شيئا من تلك الصفات لو حصلت بالطبيعة لوجب بقاؤها ، وعدم تغيرها ، ولو قيل : إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد.

ومنها : أنها تدل على أنّ المدبر قادر عالم ، لأنّ الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.

ومنها : أنها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات.

ومنها : أنها تدل على جواز الحشر والنشر بصريح الآية ، ولأنّ الفاعل لما كان قادرا على كل الممكنات وعالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت.

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(٢) تعالى : سقط من ب.

(٣) [فاطر : ٤١].

(٤) [الحج : ٦٥].

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(٦) في الأصل : خلقكم.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(٨) في ب : دليلا.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(١٠) من قوله تعالى : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» [الملك : ٣].

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨ ـ ٨٩.


ومنها : أنّ معرفة الله يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية ، وإلّا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا(١).

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ(١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)(٢٠)

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) الآية ، لما استدل أولا على كمال القدرة بخلق الإنسان ، ثم استدل ثانيا بخلق السموات ، استدلّ ثالثا بنزول الأمطار ، وكيفية تأثيرها في النبات. واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة ، وهو مع ذلك سبب لحصول (٢) النعم ، فلا جرم ذكره الله أولا ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانيا (٣).

قال أكثر المفسرين (٤) : إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية ، ولقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(٥). وقال بعضهم : المراد بالسماء السحاب ، وسماه سماء لعلوه ، والمعنى: أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض ، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه ، ولو لا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في (٦) قعر الأرض ، ولا بماء البحر لملوحته ، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض ، لأنّ البحار هي الغاية في العمق ، وهذه الوجوه التي (٧) يتحملها من ينكر الفاعل المختار ، فأمّا من أقرّ به فلا حاجة به إلى شيء منها (٨).

وقوله : «بقدر» قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة (٩) من الزرع والغرس والشرب ، ويسلمون معه من المضرة.

وقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) قيل : جعلناه ثابتا في الأرض ، قال ابن عباس : أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون (١٠) وجيحون (١١) ودجلة والفرات (١٢) والنيل (١٣) أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل ـ

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) في ب : في حصول.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٩.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٩.

(٥) [الذاريات : ٢٢].

(٦) في الأصل : من. وهو تحريف.

(٧) في ب : السماء. وهو تحريف.

(٨) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٩.

(٩) البغوي ٦ / ١٣.

(١٠) سيحون : نهر بالهند. اللسان (سيح).

(١١) جيحون : نهر بلخ ، وهو فيعول ، قال ابن بري : يحتمل أن يكون وزن (جيحون) فعلون مثل زيتون وحمدون. اللسان (جحن).

(١٢) هما نهرا العراق.

(١٣) وهو نهر مصر.


عليه‌السلام (١) ـ ، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ (٢) فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) ، ثم يرفعها عند خروج (٣) يأجوج ومأجوج ، ويرفع أيضا القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والدين (٤). وقيل : معنى : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر.

وقيل : فأسكناه في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء.

قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (عَلى ذَهابٍ) متعلق ب «لقادرون» (٥) واللام كما تقدم (٦) غير مانعة من ذلك ، و «به» متعلق ب «ذهاب» (٧) ، وهي مرادفة للهمزة (٨) كهي في «لذهب بسمعهم» (٩) أي : على إذهابه (١٠) والمعنى : كما قدرنا على إنزاله كذلك (١١) نقدر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشا ، وتهلك مواشيكم وتخرب أرضكم (١٢).

قال الزمخشري : قوله : (عَلى ذَهابٍ بِهِ) من أوقع (١٣) النكرات وأحزها للمفصل (١٤) ، والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان (١٥) بكمال (١٦) اقتدار المذهب وأنه (١٧) لا يتعايا عليه شيء ، وهو أبلغ في (١٨) الإيعاد من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(١٩)(٢٠) واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم (٢١) نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال (٢٢)(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) ، أي : بالماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفاكهة رطبا ويابسا ، وقوله :

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) بقدر : سقط من الأصل.

(٣) في الأصل : نزول. وهو تحريف.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٣ ـ ١٤ ، الدر المنثور ٥ / ٨ ، وفيه قال السيوطي (أخرج ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٥١.

(٦) تقدم قريبا.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٥١.

(٨) في كونها للتعدية.

(٩) من قوله تعالى : «وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [البقرة : ٢٠].

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٠.

(١١) في ب : فكذلك.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٠.

(١٣) في ب : أرفع. وهو تحريف.

(١٤) في ب : للفصلى.

(١٥) في النسختين إنذار.

(١٦) في ب : لكمال.

(١٧) في الأصل : فإنه.

(١٨) في الأصل : من. وهو تحريف.

(١٩) [الملك : ٣٠].

(٢٠) الكشاف ٣ / ٤٥.

(٢١) في ب : عظم.

(٢٢) فقال : سقط من ب.


(لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي : في الجنات فكما (١) أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) شتاء وصيفا (٢).

قال الزمخشري : يجوز أن يكون هذا من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يعملها ، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه ، كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم(٣).

قوله : (وَشَجَرَةً) عطف على «جنّات» ، أي : ومما أنشأنا لكم شجرة (٤) ، وقرئت مرفوعة على الابتداء (٥). وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سيناء» (٦) بكسر السين ، والباقون بفتحها (٧) والأعمش كذلك إلا أنه قصرها (٨). فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام (فعلاء) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق (٩) بسرداح (١٠) وقرطاس (١١) ، فهي كعلباء (١٢) ، فتكون الهمزة منقلبة (١٣) عن ياء أو واو ، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفا (١٤) بعد ألف زائدة قلب همزة كرداء وكساء (١٥) قال الفارسي : وهي الياء التي ظهرت في درحاية (١٦) ، والدرحاية الرجل القصير السمين (١٧). وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلا مثل : حملاق (١٨) ، إذ

__________________

(١) في ب : كما.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٠.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٥.

(٤) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٣ ، الكشاف ٣ / ٤٥ ، البيان ٢ / ١٨١ ، التبيان ٢ / ٩٥٢ البحر المحيط ٦ / ٤٠٠.

(٥) أي : ومما أنشىء لكم شجرة ، وهي قراءة نافع وعاصم في رواية. معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٣ ، المختصر (٩٧) الكشاف ٣ / ٤٥.

(٦) في ب : وسيناء.

(٧) السبعة (٤٤٤ ، ٤٤٥) الحجة لابن خالويه (٢٥٦ ، الكشف ٢ / ١٢٦ ، الاتحاف (٣١٨).

(٨) المختصر (٩٧) ، الكشاف ٣ / ٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(٩) الإلحاق : أن تبني مثلا من ذوات الثلاثة كلمة على بناء يكون رباعي الأصل ، فتجعل كل حرف مقابل حرف ، فتفنى أصول الثلاثة فتأتي بحرف زائد مقابل للحرف الرابع من الرباعي الأصول ، فيسمى ذلك الحرف حرف الإلحاق ، الهمع ١ / ٣٢.

(١٠) السرداح والسرداحة : الناقة الطويلة ، وقيل : الكثيرة اللحم. اللسان (سردح).

(١١) القرطاس : معروف يتخذ من برديّ يكون بمصر. القرطاس : الصحيفة الثابتة التي يكتب فيها ، اللسان (قرطس).

(١٢) العلباء ـ بكسر فسكون ـ عصب عنق البعير. ويقال : الغليظ منه خاصة. والجمع العلابيّ. اللسان (علب).

(١٣) في ب : متعلقة. وهو تحريف.

(١٤) في ب : متطرف. وهو تحريف.

(١٥) وذلك لأن كل واو وياء متطرفتين ، أصليتين كانت كما في (كساء ورداء) ، أو لا كما في (علباء) واقعتين بعد ألف زائدة ، فتقلبان ألفين، ثم تقلب الألف همزة. شرح الكافية ٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(١٦) في ب : الدرحاية.

(١٧) وهي فعلاية. انظر اللسان (درح).

(١٨) الحملاق : ما غطت الجفون من بياض المقلة ، وقيل : ما لزق بالعين من موضع الكحل من باطن. ـ


ليس في الكلام مثل (١) : سيناء (٢). يعني : مادة (سين ونون وهمزة). وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلا من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم ، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها اسم بقعة بعينها ، وقيل : للتعريف والعجمة (٣). قال بعضهم : والصحيح أن(٤) سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت (٥) فيه لغاتها ، فقالوا : (سيناء) كحمراء وصفراء ، و (سيناء) كعلباء وحرباء وسينين كخنذيد ، وزحليل ، والخنذيد (٦) الفحل والخصي أيضا ، فهو من الأضداد ، وهو أيضا رأس الجبل المرتفع (٧). والزحليل (٨) : المتنحي من زحل إذ (٩) انتحى (١٠) وقال الزمخشري : (طُورِ سَيْناءَ) وطور سينين (١١) لا يخلو إمّا أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس وكبعلبك ، فيمن أضاف ، فمن كسر (١٢) سين «سيناء» فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث ، لأنها بقعة ، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء (١٣).

قال شهاب الدين : وكون ألف (١٤) (فعلاء) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة ، وأمّا الكوفيون فعندهم أنّ ألفها يكون للتأنيث ، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحمراء وبابها. وكسر السين من (سيناء) لغة كنانة (١٥) وأمّا القراءة الثانية : فألفها للتأنيث ، فمنع الصرف واضح. قال أبو البقاء : وهمزته للتأنيث ، إذ ليس في الكلام (فعلال) بالفتح ، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خزعال (١٦) لا يثبت ، وإن ثبت فهو

__________________

ـ وقيل : باطن الجفن الأحمر الذي إذا قلب للكحل بدت حمرته ، وحملق الرجل إذا فتح عينه. وقيل : ما ولي المقلة من جلد الجفن. اللسان (حملق).

(١) كذا في التبيان. وفي الأصل : إذ ليس في الكلام حمراء والياء في الأصل إذ ليس في الكلام وفي ب : إذ ليس في الكلام مثل حمراء والباء إذ ليس في الكلام.

(٢) التبيان ٢ / ٩٥٢.

(٣) انظر البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٢.

(٤) في الأصل : أنها.

(٥) في ب : فاختلف.

(٦) في ب : والخنذيل. وهو تحريف.

(٧) انظر اللسان (خنذ).

(٨) الزحليل : السريع ، قال ابن جني : قال أبو علي : زحليل من الزحل كسحتيت من السحت والزحليل : المكان الضيق الزلق من الصفا وغيره. اللسان (زحل).

(٩) في ب : إذا.

(١٠) انظر اللسان (زحل).

(١١) [التين : ٢].

(١٢) في الأصل : فمن أضاف وكسر.

(١٣) الكشاف : ٣ / ٤٥.

(١٤) ألف : سقط من ب.

(١٥) الدر المصون ٥ / ٨٥.

(١٦) ناقة فيها خزعال : أي ظلع. أي : أن (فعلال) مفتوح الفاء ليس في كلام العرب من غير ذوات التضعيف إلا حرف واحد ، يقال : ناقة بها خزعال ، إذا كان بها ظلع. كذا حكاه الفراء. وزاد ثعلب : قهقار ، وخالفه الناس وقالوا : قهقر وزاد أبو مالك : قسطال. وهو الغبار. وأما في المضاعف ف (فعلال) فيها كثير نحو : الزلزال ، والقلقال. اللسان (خزعل).


شاذ لا (١) يحمل عليه (٢). وقد وهم بعضهم فجعل (سيناء) مشتقة من (السنا) وهو الضوء ، ولا يصح ذلك لوجهين :

أحدهما : أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم.

الثاني : أنّا وإن سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين (السنا) نون وعين (سيناء) ياء (٣). كذا قال بعضهم. وفيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم أن عين (سيناء) (ياء) بل عينها (نون) ، وياؤها مزيدة ، وهمزتها منقلبة عن واو ، كما قلبت (السنا) ، ووزنها حينئذ (فيعال) و (فيعال) موجود في كلامهم ، كميلاع (٤) وقيتال (٥) مصدر قاتل (٦).

قوله : (تَنْبُتُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء (٧). فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن أنبت بمعنى (نبت) فهو مما اتفق فيه (فعل) و (أفعل) (٨) وأنشدوا لزهير :

٣٧٨٨ ـ رأيت ذوي الحاجات عند بيوتهم

قطينا بها حتّى إذا أنبت البقل (٩)

وأنكره الأصمعي ، أي : نبت (١٠).

الثاني : أنّ الهمزة للتعدية ، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي : تنبت ثمرها ، أو جناها ، و «بالدّهن» حال ، أي : ملتبسا بالدهن (١١).

الثالث : أن الباء مزيدة في المفعول به (١٢) كهي في قوله تعالى (١٣) : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ)(١٤) ، وقول الآخر :

__________________

(١) في ب : ولا.

(٢) التبيان ٢ / ٩٥٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(٤) جمل ملوع وميلع : سريع ، والأنثى ملوع وميلع ، وميلاع نادر فيمن جعله فيعال ، وذلك لاختصاص المصدر بهذا البناء. اللسان (ملع).

(٥) في ب : وفيعال. وهو تحريف.

(٦) انظر شرح الشافية ١ / ١٦٣ ، ١٦٦.

(٧) السبعة : (٤٤٥) ، الكشف ٢ / ١٣٧ ، الحجة لابن خالويه (٢٥٦) الإتحاف ٣١٨.

(٨) يقال : نبت البقل نباتا ، وأنبت إنباتا. انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٢ ، فعلت وأفعلت (٩١) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٠ ، البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٢.

(٩) البيت من بحر الطويل ، قاله زهير بن أبي سلمى.

والشاهد فيه أن (نبت) ، و (أنبت) بمعنى واحد ، قال الفراء : هما لغتان وقد تقدم.

(١٠) أي : أنكر الأصمعي أن تكون (أنبت) بمعنى (نبت) ورواية الديوان (نبت).

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٤٥ ، البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٢) ويجوز في الباء أن تكون للتعدية ، وأن تكون للحال ، والمفعول محذوف كما تقدم. انظر البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٣) تعالى : سقط من ب.

(١٤) من قوله تعالى : «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»[البقرة : ٩٥].


٣٧٨٩ ـ سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (١)

وقول الآخر :

٣٧٩٠ ـ نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج (٢)

وأمّا القراءة الأخرى فواضحة ، والباء للحال من الفاعل ، أي ملتبسة بالدهن يعني وفيها الدهن(٣) ، كما يقال : ركب الأمير بجنده (٤). وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز (٥) «تنبت» مبنيّا للمفعول (٦) من أنبتها الله و «بالدّهن» حال من المفعول القائم (٧) مقام الفاعل أي : ملتبسة بالدّهن (٨). وقرأ زرّ بن حبيش «تنبت الدهن» (٩) من أنبت ، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها. والأشهب(١٠) وسليمان بن عبد الملك (١١) «بالدّهان» (١٢) وهو جمع دهن كرمح ورماح وأمّا قراءة أبّي : «تتمر» (١٣) ، وعبد الله : «تخرج» (١٤) فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد ، والدّهن : عصارة ما فيه دسم ، والدّهن ـ بالفتح ـ المسح بالدّهن (١٥) مصدر دهن يدهن ، والمداهنة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره (١٦).

فصل

اختلفوا في (طُورِ سَيْناءَ)(١٧) وفي (طُورِ سِينِينَ)(١٨). فقال مجاهد (١٩) : معناه البركة

__________________

(١) عجز بيت من بحر البسيط ، وصدره :

هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة

والشاهد فيه زيادة الباء في المفعول به. وتقدم تخريجه.

(٢) رجز للنابغة الجعدي ، وقبله :

نحن بنو ضبّة أصحاب الفلج

وهو في أدب الكاتب (٥٢٢) ، والإنصاف ١ / ٢٨٤ ، المغني ١ / ١٠٨ ، شرح شواهده ١ / ٣٣٢ ، الخزانة ٩ / ٥٢٠ الفلج : في اللغة : الماء الجاري ، ويقال : عين فلج ، وماء فلج.

(٣) يعني وفيها الدهن : سقط من ب.

(٤) أي : ومعه جنده.

(٥) في ب : وابن هرمز من.

(٦) المختصر (٩٧) ، المحتسب ٢ / ٨٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(٧) في الأصل : وقائم.

(٨) انظر المحتسب ٢ / ٨٨.

(٩) بضم التاء وكسر الباء من (تنبت) ، «الدّهن» بالنصب. تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٠) تقدم.

(١١) لعله سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي ، أسس مدينة الرملة في فلسطين ، حاصر القسطنطينية ، ولم يقو على فتحها توفي في دابق سنة ٩٩ ه‍. المنجد في الأعلام (٣٠٧).

(١٢) المختصر (٨٧) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٣) المختصر (٨٧) ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٤) المرجعان السابقان.

(١٥) في ب : والدهن. وهو تحريف.

(١٦) انظر اللسان (دهن).

(١٧) [المؤمنون : ٢٠].

(١٨) [التين : ٢].

(١٩) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ١٤.


أي : من جبل مبارك. وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن. وقال الضحاك : معناه بالنبطية : الحسن.

وقال عكرمة : بالحبشية. وقال الكلبي : معناه : المشجر أي : جبل وشجر (١). وقيل : هو (٢) بالسريانية : الملتف بالأشجار. وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة ، فهو سيناء (٣) ، وسينين بلغة النبط. وقال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة (٤).

وقال مجاهد (٥) : سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده (٦). والمراد بالشجرة التي تنبت بالدّهن أي : تثمر الدهن وهو الزيتون. قال المفسرون : وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل ، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ، ولأن معظمها (٧) هناك (٨). قوله : «وصبغ» العامة على الجر عطفا على الدّهن (٩).

والأعمش : «وصبغا» بالنصب (١٠) نسقا على موضع «بالدّهن» (١١) ، كقراءة (وَأَرْجُلَكُمْ)(١٢) في أحد محتملاته (١٣). وعامر بن عبد الله (١٤) : «وصباغ» بالألف (١٥) ، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ (١٦) «بالدّهان» (١٧). والصبغ والصباغ كالدبغ والدباغ ، وهو اسم ما يفعل به. قال الزمخشري : هو (١٨) ما يصطبغ به (١٩) أي : ما يصبغ به الخبز.

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ١٤.

(٢) هو : سقط من ب.

(٣) انظر القرطبي ١٢ / ١١٥.

(٤) (أيلة) تعرف اليوم باسم العقبة. القرطبي ١٢ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٥) في ب : ابن مجاهد. وهو تحريف.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٤.

(٧) في الأصل : مطعمها.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٠.

(٩) التبيان ٢ / ٩٥٢ ، الإتحاف ٣١٨.

(١٠) المختصر (٩٧) ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١١) التبيان ٢ / ٩٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٢) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» المائدة : ٦]. و «أرجلكم» بالنصب قراءة نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم. وبالخفض قراءة الباقين. السبعة ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، الكشف ١ / ٤٠٦.

(١٣) قوله تعالى : «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب فيه وجهان : أحدهما : هو معطوف على الوجوه والأيدي أي : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. والثاني : أنه معطوف على موضع ب «رؤوسكم» والأول أقوى ، لأن العطف على اللفظ أقوى من العطف على الموضع. التبيان ١ / ٤٢٢.

(١٤) هو عامر بن عبد الله مقرىء ، ذكر أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الديبلي أنه قرأ عليه عن قراءته على حسنون.

انظر طبقات القراء ١ / ٣٥٠.

(١٥) المختصر (٩٧) ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٦) وهو الأشهب ، وسليمان بن عبد الملك.

(١٧) في ب : بالدهن. وهو تحريف.

(١٨) في ب : وهو.

(١٩) قال الزمخشري : (صبغ الثوب بصباغ حسن ، وصبغ وهو ما يصبغ به) أساس البلاغة (صبغ).


و «للآكلين» صفة ، والمعنى : إدام للآكلين. فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة ، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها ، وهي طرية ومدخرة ، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ، ويعظم وجوه الانتفاعبه (١).

قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)(٢٥)

قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) الآية ، لما ذكر النعم الحاصلة من الماء والنبات ، ذكر بعده النعم الحاصلة من الحيوان ، فذكر أنّ فيها عبرة مجملا ثم فصله من أربعة أوجه :

أحدها : قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) المراد منه جميع وجوه الانتفاع ، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع ، وتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله ـ تعالى ـ فتستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ، وتصير غذاء ، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته ، فهو من النعم الدينية ، ومن انتفع به فهو من النعم الدنيوية. وأيضا : فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إذا ذبحت لم تجد لها أثرا ، وذلك دليل على عظم قدرة الله. وتقدم الكلام في «نسقيكم» في النحل (٢) وقرىء «تسقيكم» بالتاء من فوق مفتوحة (٣) ، أي : تسقيكم الأنعام.

وثانيها : قوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : بالبيع ، والانتفاع بأثمانها.

وثالثها : قوله ـ تعالى (٤) ـ : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : كما تنتفعون بها وهي حيّة تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.

ورابعها : قوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي : على الإبل في البر وعلى الفلك في البحر (٥) ، ولمّا بيّن دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) الآيات. قيل : كان نوح (٦) اسمه يشكر ،

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩١.

(٢) عند قوله تعالى : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» [النحل : ٦٦].

(٣) وهي قراءة أبي جعفر. المحتسب ٢ / ٩٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٤٦ ، الإتحاف ٣١٨.

(٤) تعالى : سقط من الأصل.

(٥) انظر هذه الأوجه في الفخر الرازي ٢٣ / ٩١.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.


ثم (١) سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم الله بالطوفان فندم على ذلك.

وقيل : لمراجعة ربه في شأن ابنه. وقيل : لأنه مر بكلب مجذوم ، فقال له : اخسأ يا قبيح ، فعوتب على ذلك ، وقال الله تعالى : أعبتني إذ خلقته ، أم عبت الكلب ، وهذه وجوه متكلفة ، لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى (٢).

قوله : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) : وحّدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي : أنّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. وقرىء «غيره» (٣) بالرفع على المحل ، وبالجر على اللفظ (٤).

ثم إنه لمّا لم ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه (٥) ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح ـ عليه‌السلام (٦) ـ : وهي قولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وهذه الشبهة تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يقال : إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض سواء امتنع كونه رسولا لله ، لأنّ الرسول لا بدّ وأن يكون معظما عند الله وحبيبا (٧) له ، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والعزة ، فلما انتفت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.

والثاني : أن يقال : إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور ، ولكنه أحب الرياسة (٨) والمتبوعية فلم يجد إليهما (٩) سبيلا إلا بادعاء النبوة ، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته ، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : يطلب الفضل (١٠) عليكم ويرأسكم (١١).

الشبهة الثانية : قولهم : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي : ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي ، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر ، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم ، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا (١٢).

__________________

(١) في ب : و.

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.

(٣) «غيره» : سقط من الأصل.

(٤) والقراءة بالجر قراءة الكسائي وأبي جعفر ، والباقون بالرفع ف «غيره» بالجر صفة ل «إله» على اللفظ ، وبالرفع على محل «إله» السبعة (٢٨٤) ، الكشف ١ / ٤٦٧ ، الكشاف ٣ / ٤٥ ، الإتحاف ٣١٨.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : حبيبا.

(٨) في ب : الرسالة. وهو تحريف.

(٩) في الأصل : لها. وفي ب : إليها. والصواب ما أثبته.

(١٠) في ب : الفصلى. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢ ـ ٩٣.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.


الشبهة الثالثة : قولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) فقولهم : «بهذا» إشارة إلى نوح ـ عليه‌السلام (١) ـ أي : بإرسال (٢) بشر رسولا ، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله وحده ، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان ، وذلك أنهم كانوا لا يعوّلون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول (٣) الآباء ، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح ـ عليه‌السلام (٤) ـ هذه الطريقة حكموا (٥) بفسادها (٦).

الشبهة الرابعة : قولهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام (٧) ، لأنه ـ عليه‌السلام (٨) ـ كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم ، فكان الرؤساء يقولون للعوام إنه مجنون ، فكيف يجوز أن يكون رسولا؟ (٩)

الشبهة الخامسة : قولهم : (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) ، وهذا يحتمل أن يكون متعلقا بما قبله ، أي : أنه مجنون فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه.

ويحتمل أن يكون كلاما مستأنفا ، وهو أن يقولوا لقومهم : اصبروا فإنه إنه كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوي (١٠) أمره فنتبعه حينئذ ، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه (١١). واعلم أنه تعالى لم يذكر (١٢) الجواب على (١٣) هذه الشبه (١٤) لركاكتها ووضوح فسادها لأنّ كل عاقل يعلم أنّ الرسول لا يصير رسولا لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولا بتميزه عن غيره بالمعجزات ، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند (١٥) ظهور (١٦) المعجز عليه يجب أن يكون رسولا ، بل جعل الرسول من البشر أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) فإن أرادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب في الرسول ، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون عن ذلك. وأما قولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا) فهو استدلال بعدم التقليد (على عدم وجود الشيء ، وهو في غاية السقوط ، لأنّ وجود التقليد) (١٧) لا يدل على وجود الشيء ، فعدمه من أين يدل على عدمه. وأما قولهم : (بِهِ جِنَّةٌ) فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم : «فتربّصوا» فضعيف ، لأنه إن ظهرت (١٨) الدلالة على نبوته ، وهي المعجزة ،

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : إرسال.

(٣) قول : سقط من الأصل.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) في ب : حكموها. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣.

(٧) في ب : العام. وهو تحريف.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣.

(١٠) في ب : وقوى. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣ ـ ٩٤.

(١٣) في ب : عن.

(١٤) في ب : الشبهة. وهو تحريف.

(١٥) في ب : فقد. وهو تحريف.

(١٦) في النسختين : ظهر. والصواب ما أثبته.

(١٧) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٨) في ب : ظهر.


وجب عليهم قبول قوله في الحال ، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته ، لأنّ الدولة لا تدل على الحقيقة ، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر (١).

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(٣٠)

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي : أعنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي (كأنه قال : أهلكهم بسبب تكذيبهم) (٢)(٣). وقيل : انصرني بدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك ، أي بدل ذاك ومكانه (٤). وقيل : انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(٥).

ولمّا أجاب الله دعاءه قال : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بحفظنا وكلائنا ، كان معه من الله حفّاظا يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله (٦).

قيل : كان نوح نجارا ، وكان عالما بكيفية اتخاذ الفلك (٧).

وقيل : إن جبريل ـ عليه‌السلام (٨) ـ علّمه عمل السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله : (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(٩). (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا). واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم ، لأن قولك : هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما (١٠). وقيل : إنما سماه أمرا تعظيما وتفخيما كقوله : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)(١١)(١٢).

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) أي : أن الباء للسببية. انظر الكشاف ٣ / ٤٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) أي أن الباء للبدل. انظر الكشاف ٣ / ٦٤ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٤٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(٦) المرجعان السابقان.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

(١١) من قوله تعالى : «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» [فصلت : ١١].

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.


قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) تقدم الكلام في التنور في سورة هود (١). (فَاسْلُكْ فِيها) أي : ادخل فيها. يقال : سلك فيه دخله ، وسلك غيره وأسلكه (٢)(مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : من كل زوجين من الحيوان (الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان) (٣) وكل واحد منهما زوج ، لا كما تقوله العامة : إنّ الزوج هو الاثنان (٤). روي أنه لم يحمل إلّا ما يلد ويبيض (٥). وقرىء : «من كلّ» بالتنوين و «اثنين» تأكيد وزيادة بيان (٦) «وأهلك» أي : وأدخل أهلك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ولفظ (على) إنما يستعمل في (٧) المضارّ قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٨)(٩). وهذه الآية تدل على أمرين :

__________________

(١) عند قوله تعالى : «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» [هود : ٤٠].

وذكر ابن عادل هناك : والتنور قيل وزنه (تفعول) ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ، ثم حذفت تخفيفا ، ثم شددت النون للعوض عن المحذوف ويعزى هذا لثعلب. وقيل وزنه (فعول) ويعزى لأبي علي الفارسي.

وقيل : هو أعجمي وعلى هذا فلا اشتقاق له ، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون.

انظر اللباب ٤ / ٣٤٥.

(٢) في اللسان (سلك) : سلك المكان يسلكه سلكا وسلوكا ، وسلكه غيره ، وفيه ، وأسلكه إيّاه ، وفيه ، وعليه. قال عبد مناف بن ربع الهذلي:

حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا

وقال ساعدة بن العجلاني :

وهم منعوا الطريق وأسلكوهم

على شمّاء مهواها بعيد

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) الزوج : خلاف الفرد ، ويقال : زوج وفرد ، فالزّوج الفرد الذي له قرين. قال أبو بكر : العامة تخطىء فتظنّ أن الزوج اثنان ، وليس ذلك من مذاهب العرب ، إذ كانوا لا يتكلمون بالزوج موحدا في مثل قولهم : زوج حمام ، ولكنهم يثنونه فيقولون : عندي زوجان من الحمام يعنون ذكرا وأنثى. اللسان (زوج).

(٥) الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

(٦) والقراءة بالتنوين قراءة حفص عن عاصم. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بلا تنوين. فمن نون عدّى الفعل ، وهو «اسلك» إلى «زوجين» فنصبهما بالفعل وجعل «اثنين» نعتا ل «زوجين» وفيه معنى التأكيد ، و «من» على هذا يجوز أن تتعلق ب «اسلك» ، وأن تكون حالا ، والتقدير : اسلك فيها زوجين اثنين من كل شيء أو صنف ، ثم حذف ما أضيف إليه «كل» فنوّن. ومن أضاف عدّى الفعل إلى «اثنين» ، وخفض «زوجين» لإضافة «كل» إليهما والتقدير : اسلك فيها اثنين من كل زوجين أي : من كل صنفين. ف «من» على هذا حال ، لأنها صفة للنكرة قدمت عليها ويجوز أن تكون «من» زائدة ، والمفعول «كل» و «اثنين» توكيد ، وهذا على قول الأخفش. السبعة (٤٤٥) ، الكشف ١ / ٥٢٨ ، الحجة لابن خالويه (١٨٦) ، التبيان ٢ / ٦٩٧ ـ ٦٩٨.

(٧) في : سقط من ب.

(٨) [البقرة : ٢٨٦].

(٩) الكشاف ٣ / ٤٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.


أحدهما : أنه تعالى أمره بإدخال سائر من آمن به ، وإن لم يكن من أهله. وقيل :المراد بأهله من آمن دون من يتعمل به نسبا أو (١) حسبا. وهذا ضعيف ، وإلّا لما جاز الاستثناء بقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).

والثاني : قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني : كنعان ، فإنه ـ سبحانه ـ لمّا أخبر بإهلاكهم ، وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم. لأنه إن أجابه إليه ، فقد صيّر خبره الصادق كذبا ، وإن لم يجبه إليه ، كان (٢) ذلك تحقيرا لشأن نوح ـ عليه‌السلام (٣) ـ ، فلذلك (٤) قال : (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي : الغرق نازل بهم لا محالة (٥). قوله : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) اعتدلت أنت ومن معك على الفلك ، قال ابن عباس : كان في السفينة ثمانون إنسانا ، نوح وامرأته سوى التي غرقت ، وثلاثة (٦) بنين ، سام ، وحام ، ويافث ، وثلاث نسوة لهم ، واثنان وسبعون إنسانا ، فكل الخلائق نسل (٧) من كان في السفينة (٨).

روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ولد لنوح ثلاثة أولاد سام ، وحام ، ويافث ، فأمّا سام فأبو العرب وفارس والروم ، وأما يافث فأبو يأجوج ومأجوج والبربر ، وأما حام فأبو هذه الجلدة السوداء (٩) ويأجوج ومأجوج بنو عم الترك» (١٠).

قال ابن الجوزي (١١) : ولد لحام كوش ، ونبرش ، وموغع ، وبوان ، وولد لكوش نمرود ، وهو أول النماردة ، ملك بعد الطوفان ثلاثمائة سنة ، وعلى عهده (١٢) قسمت الأرض ، وتفرّق الناس واختلفت الألسن ، ونمرود إبراهيم الخليل ، ومن ولد نبرش الحرير ، ومن ولد موغع يأجوج ومأجوج ، ومن ولد بوان الصقالبة ، والنوبة ، والحبشة ، والهند ، والسند.

ولما اقتسم أولاد نوح الأرض ، نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور ، فجعل الله فيهم الأدمة ، وبياضا قليلا ، ولهم أكثر الأرض ، وروي أن فالغ أبو (١٣) غابر قسم الأرض بين أولاد نوح بعد موت نوح ، فنزل سام (١٤) سرة الأرض فكانت فيهم الأدمة والبياض ، ونزل بنو يافث مجرى الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة والشقرة ، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور فتغيرت ألوانهم.

__________________

(١) في ب : و.

(٢) في ب : وكان.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : فكذلك. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

(٦) في النسختين : ثلاث.

(٧) في ب : نسلي. وهو تحريف.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

(٩) السوداء : سقط من ب.

(١٠) انظر تاريخ الطبري ١ / ٢١٠ ، والبداية والنهاية لابن كثير ١ / ١٣٢ ـ ١٣٣.

(١١) تقدم.

(١٢) في الأصل : هذه. ثم صوب بالهامش.

(١٣) في الأصل : ابن.

(١٤) في الأصل : بنو سام.


روى ابن شهاب قال : قيل لعيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام (١) ـ أحي حام بن نوح ـ فقال : أروني قبره. فأروه ، فقام ، فقال : يا حام بن نوح احي بإذن الله ـ عزوجل ـ فلم يخرج ، ثم قالها الثانية (٢) ، فخرج ، وإذا (٣) شقّ رأسه ولحيته أبيض ، فقال : ما هذا ، قال : سمعت الدعاء الأول فظننت أنه من الله ـ تعالى ـ فشاب له شقي ، ثم سمعت الدعاء الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجت ، قال : مذ كم متّ؟ قال : منذ أربعة آلاف سنة ، ما ذهبت عنّي سكرة الموت حتى الآن. وروي أن الذي أحياه عيسى ابن مريم سام بن نوح ، والله أعلم. وروي عن النمر بن هلال قال : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ فاثنا عشر ألف للسودان ، وثمانية للروم ، وثلاثة للفرس وألف للعرب قال (٤) مجاهد : ربع من لا يلبس الثياب من السودان مثل جميع الناس.

قوله : (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، وإنما قال : «فقل» ولم يقل : فقولوا ، لأنّ نوحا كان نبيا لهم وإمامهم ، فكان قوله قولا لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية ، وأن رتبة ذلك المخاطب لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي (٥).

قال قتادة : علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(٦) ، وعند ركوب الدابة : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا)(٧) ، وعند النزول : «وقل رب أدخلني منزلا مباركا» (٨)(٩). قال الأنصاري : وقال لنبينا : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)(١٠) ، وقال : (فَإِذا (١١) قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ)(١٢) فكأنه ـ تعالى ـ أمرهم أن لا يغفلوا عن ذكره في جميع أحوالهم (١٣).

قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) قرأ أبو بكر بفتح ميم (منزلا) وكسر الزاي ، والباقون بضم الميم وفتح الزاي (١٤) و (المنزل) (١٥) و (المنزل) كل منهما يحتمل أن

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : ثانيا.

(٣) في ب : فإذا.

(٤) في ب : وقال.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٤٧ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(٦) من قوله تعالى : «وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» [هود : ٤١].

(٧) من قوله تعالى : «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» [الزخرف : ١٣].

(٨) [المؤمنون : ٢٩].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(١٠) [الإسراء : ٨٠].

(١١) في ب : وإذا. وهو تحريف.

(١٢) من قوله تعالى : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» [النحل : ٩٨].

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(١٤) السبعة (٤٤٥) الكشف ٢ / ١٢٨ ، الحجة لابن خالويه (٢٥٦).

(١٥) والمنزل : سقط من ب.


يكون اسم مصدر ، وهو الإنزال أو النزول ، وأن يكون اسم (١) مكان النزول أو الإنزال ، إلا أن القياس «منزلا» بالضم والفتح لقوله : «أنزلني» (٢). وأما الفتح والكسر فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر الرباعي (٣) كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً)(٤) ، وتقدم نظيره في «مدخل» و «مدخل» في سورة النساء (٥) واختلفوا في المنزل ، فقيل : نفس السفينة ، وقيل : بعد خروجه من السفينة منزلا من الأرض مباركا. والأول أقرب ، لأنه أمر بهذا الدعاء حال استقراره ، فيكون هو المنزل دون غيره (٦).

ثم قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ، وذلك أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله ، لأنه يحفظ من أنزله (٧) في سائر أحواله (٨). ثم بين تعالى أن فيما ذكر من قصة نوح وقومه «آيات» دلالات وعبر في الدعاء إلى الإيمان ، والزجر عن الكفر ، فإن إظهار تلك المياه العظيمة ، ثم إذهابها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات ، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح ـ عليه‌السلام (٩) ـ يدل على المعجز العظيم ، وإفناء الكفار ، وبقاء الأرض لأهل الطاعة من أعظم أنواع العبر (١٠). قوله : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) «إن» مخففة ، و «اللام» فارقة. وقيل : «إن» نافية و «اللام» بمعنى «إلا» (١١) وتقدم ذلك مرارا فعلى الأول معناه : وقد كنا ، وعلى الثاني : ما كنا إلا مبتلين ، فيجب على كل مكلف أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه (١٢). وقيل : المراد لمعاقبين من كذب الأنبياء ، وسئلك مثل طريقة قوم نوح (١٣). وقيل : المراد كما عاقب بالغرق من كذب فقد نمتحن من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب (١٤) ، لكيلا (١٥) يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد(١٦).

__________________

(١) في ب : اسم مصدر.

(٢) لأن الفعل المتقدم رباعي.

(٣) انظر الكشف ٢ / ١٢٨ ، البيان ٢ / ١٨٢ ـ ١٨٣ ، التبيان ٢ / ٩٥٣.

(٤) من قوله تعالى :«وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» [نوح : ١٧] واستشهد بالآية على أن (نباتا) اسم مصدر وقع موقع مصدر «أنبت» التبيان ٢ / ١٢٤٢.

(٥) عند قوله تعالى : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً»[النساء : ٣١].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(٧) في ب : إنزاله. وهو تحريف.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(١١) انظر البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٣ ، المغني ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٢ ، شرح التصريح ١ / ٢٣٠ ـ ٢٣٢ ، الهمع ١ / ١٤١ ـ ١٤٢ ، شرح الأشموني ١ / ٢٨٨ ـ ٢٩٠.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٧.

(١٣) المرجع السابق.

(١٤) في ب : التكذيب. وهو تحريف.

(١٥) في ب : لكن لا. وهو تحريف.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٧.


قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤١)

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) الآيات. قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هذه قصة هود لقوله تعالى (١) حكاية عن هود (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)(٢) ، ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف ، وهود ، والشعراء (٣).

وقال بعضهم : هي قصة صالح (٤) لأن قومه الذين كذبوه (٥) هم الذين هلكوا بالصيحة (٦) وتقدم كيفية الدعوى في قصة نوح.

قوله : (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ) قال الزمخشري : فإن قلت : حق «أرسل» أن يتعدى ب «إلى» كأخواته التي هي : وجه ، وأنفذ وبعث ، فما له عدي في القرآن ب (إلى) (٧) تارة وب (في) أخرى كقوله : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ)(٨) (ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) (٩) (١٠). قلت : لم يعد ب (في) كما عدي ب (إلى) ، ولم يجعله صلة مثله ، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعا للإرسال ، كقول رؤبة(١١) :

٣٧٩١ ـ أرسلت فيها مصعبا ذا أقحام (١٢)

__________________

(١) تعالى : سقط من ب.

(٢) [الأعراف : ٦٩].

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٤٧ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٨.

(٤) في ب : نوح. وهو تحريف.

(٥) في ب : الذين كفروا وكذبوه.

(٦) وقال بهذا أبو سليمان الدمشقي والطبري. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٣.

(٧) بإلى : سقط من ب.

(٨) [الرعد : ٣٠].

(٩) من قوله تعالى : «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» [سبأ : ٣٤].

(١٠) ما بين القوسين تكملة من الكشاف.

(١١) تقدم.

(١٢) رجز نسبه الزمخشري إلى رؤبة ، ولم أجده في ديوانه ، وهو في شرح شواهد الكشاف لعطاء السندي ، وبعده : طبا فقيها بذوات الأبلام. وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٠٣ ، وشرح شواهد الكشاف ١١٩ وفي النسختين : (ذا لحام) مكان (ذا إقحام) يقال : أصعب الجمل فهو مصعب إذا صار صعبا لا يركب.

الإقحام : الدخول في الشيء بلا مهلة ولا روية. فالمعنى : أرسلت في تلك القضية رجلا كالجمل الشديد ذا إقدام على الأمر بجراءة.


وقد (١) جاء (بعث) على ذلك ، كقوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)(٢)(٣).

قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) يجوز أن تكون المصدرية (٤) أي : أرسلناه بأن اعبدوا الله. أي : بقوله اعبدوا ، وأن تكون مفسرة (٥). «ا فلا تتقون» قال بعضهم : هذا الكلام غير موصول بالأول ، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه ، وردوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك خوفهم بقوله : «ا فلا تتقون» هذه الطريقة مخافة العذاب الذي أنذركم به. ويجوز أن يكون موصولا بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان ، فدعاهم إلى عبادة الله ، وحذرهم من العقاب بسبب إقبالهم (٦) على عبادة الأوثان (٧).

قوله : (وَقالَ الْمَلَأُ) قال الزمخشري : فإن قلت : ذكر مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف ، وسورة هود بغير واو ، (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ)(٨)(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ)(٩)(١٠). وهاهنا مع الواو ، فأي فرق بينهما؟ قلت : الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال : فما ذا قيل له؟ فقيل له : قالوا : كيت وكيت ، وأما الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله (١١) ، ومعناه أنه (١٢) اجتمع في الحصول ، (أي : في هذه الواقعة في) (١٣) هذا الكلام (١٣) الحق وهذا (الكلام) (١٣) الباطل وشتان (١٤) ما بينهما (١٥) قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : هذا جواب بنفس الواقع ، والسؤال باق ، إذ يحسن أن يقال : لم لا جعل (١٦) هنا قولهم أيضا جوابا لسؤال سائل كما في نظيرتها أو عكس الأمر (١٧).

قوله (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي : بالمصير إلى الآخرة (وَأَتْرَفْناهُمْ) نعمناهم وو سعنا عليهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) وقد تقدم شرح هذه الشبهة في القصة الأولى (١٨)(وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي : منه ، فحذف العائد لا ستكمال شروطه ، وهو ا تحاد (١٩) الحرف ، والمتعلق ، وعدم قيامه مقام مرفوع ، وعدم ضمير

__________________

(١) في ب : وبعد. وهو تحريف.

(٢) [الفرقان : ٥١].

(٣) الكشاف ٣ / ٤٧.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٣.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٤٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٣.

(٦) اقبالهم : سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٨.

(٨) [الأعراف : ٦٦].

(٩) [هود : ٥٢].

(١٠) ما بين القوسين تصويب من الكشاف ، هو في النسختين : ما نراك إلا بشرا مثلنا.

(١١) في ب : ما قاله الرسول.

(١٢) أنه : سقط من ب.

(١٣) ما بين القوسين ليس في نص الزمخشري ، وإنما هو من كلام ابن عادل.

(١٤) وشتان : سقط من ب.

(١٥) الكشاف ٣ / ٤٧.

(١٦) في ب : يجعل.

(١٧) الدر المصون : ٥ / ٨٦.

(١٨) وهي قصة نوح.

(١٩) في ب : اتخاذ. وهو تصحيف.


آخر (١) ، هذا إذا جعلناها بمعنى الذي ، فإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد ، فيكون (٢) المصدر واقعا موقع المفعول. أي : من مشروبكم (٣).

وقال في التحرير (٤) : وزعم الفراأ أن معنى (مِمَّا تَشْرَبُونَ) على حذف أي : تشربون منه (٥). وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولا يحتاج إلى حذف ألبتة ، لأن (ما) إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت العائد ، ولم تحتج إلى إضمار (من) (٦) يعني : أنه يقدر تشربونه من غير حرف (٧) جر ، وحينئذ تكون شروط الحذف أيضا موجودة (٨) ولكن تفوت المقابلة إذ قوله : (تَأْكُلُونَ مِنْهُ) فيه تبعيض ، فلو قدرت هنا تشربونه من غير (من) فاتت المقابلة. ثم إن قوله : وهو لا يجوز عند البصريين ممنوع ، بل هو جائز لوجود شرط الحذف.

قوله : (لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لمغبونون ، جعلوا اتباع الرسول خسرانا ولم يجعلوا عبادة الصنم خسرانا (٩) ، قال الزمخشري و «إذا» وقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قولهم (١٠) قال أبو حيان : وليس واقعا في جزاء الشرط ، بل واقعا بين «إنكم» و (الخبر) ، و «إنكم» و (الخبر) ليس جزاء للشرط بل ذلك جواب للقسم المحذوف قبل «إن» الشرطية (ولو كانت «إنكم» والخبر جوابا للشرط) (١١) لزمت (الفاء) في (إنكم) بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ (١٢) قال شهاب الدين : يعني أنه إذ توالى شرط وقسم أجيب سابقهما ، والقسم هنا متقدم فينبغي أن يجاب ولا يجاب الشرط ، ولو أجيب الشرط لا ختلت (١٣) القاعدة إلا عند بعض

__________________

(١) انظر شروط حذف العائد المجرور بحرف في شرح الكافية ٢ / ٤٢ ـ ٤٣ ، شرح التصريح ١ / ١٤٧ ، الهمع ١ / ٦٠.

(٢) في ب : ويكون.

(٣) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٧ ، البيان ٢ / ١٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(٤) كتاب التحرير هو أحد مصادر أبي حيان في كتابه البحر المحيط ، فإنه قال (واعتمدت في أكثر نقول كتابي هذا على كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير من جمع شيخنا الصالح القدوة الأديب ، جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن حسين المقدسي ، عرف بابن النقيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ إذ هو أكبر كتاب رأيناه صنف في علم التفسير ، يبلغ في العدد مائة سفر أو يكاد) البحر المحيط ١ / ١١.

(٥) معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٤.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(٧) حرف : سقط من ب.

(٨) وهي كون العائد المنصوب متصلا ، وناصبه فعل تام ، أو وصف غير صلة (أل) ، وأن يكون متعينا للربط. انظر شرح التصريح ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٩) خسرانا : سقط من ب.

(١٠) الكشاف ٣ / ٤٧.

(١١) ما بين القوسين كما في البحر المحيط ، وفي النسختين : ولو كان التركيب الخبر جوابا.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(١٣) في الأصل : لاختلف.


الكوفيين ، فإنه يجيب الشرط وإن تأخر ، وهو موجود في الشعر (١)(٢).

قوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ») الآية. في إعرابها ستة أوجه :

أحدها : أن اسم أن الأولى مضاف لضمير الخطاب ، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والخبر قوله : (إِذا مِتُّمْ) ، و (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) تكرير ، لأن الأولى للتأكيد ، والدلالة على المحذوف والمعنى: أن إخراجكم إذا متم وكنتم (٣).

الثاني : أن خبر (أن) الأولى هو «مخرجون» ، وهو العامل في «إذا» وكررت الثانية توكيدا لما طال الفصل (٤) وإليه ذهب الجرمي (٥) والمبرد (٦) والفراء (٧) ، ويدل على كون الثانية توكيدا قراءة عبد الله: «أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون» (٨).

الثالث : أن (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مؤل بمصدر مرفوع بفعل محذوف ذلك الفعل المحذوف جواب(٩) (إذا) الشرطية ، و (إذا) الشرطية وجوابها المقدر خبر ل (أنكم) الأولى تقديره : يحدث أنكم مخرجون(١٠).

__________________

(١) أي : أنه إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للمتقدم منهما ، لشدة الاعتناء بالمتقدم ، فتقديم القسم كقولك : والله إن أتيتني لأكرمنك ، وتقديم الشرط نحو : إن تأتني ـ والله ـ أكرمك ولا يجوز جعل الجواب للشرط مع تقدم القسم خلافا لا بن مالك حيث قال :

وربما رجح بعد قسم

شرط بلا ذي خبر مقدم

خلافا للفراء في إجازته ذلك ، وما استدل به قول الشاعر :

لئن منيت بنا عن غب معركة

لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل

وقوله :

لئن كان ما حدثته اليوم صادقا

أصم في نهار القيظ للشمس باديا

ومنع الجمهور ذلك ، وتأولوا ما ورد على جعل اللام زائدة. هذا إن لم يتقدمهما ذو خبر ، فإن تقدمهما ذو خبر جاز جعل الجواب للشرط مع تأخره نحو : زيد والله إن يقم أقم ، وجاز جعل الجواب للقسم لتقدمه نحو : زيد والله إن يقم لأقومن. والأرجح مراعاة الشرط تقدم أو تأخر ، لأن سقوط الشرط يخل بمعنى الجملة التي هو منها بخلاف القسم فإنه مسوق لمجرد التوكيد.

شرح الكافية الشافية ٣ / ١٦١٥ ـ ١٦١٧ ، شرح التصريح ٢ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤ شرح الأشموني ٤ / ٢٧ ـ ٣٠.

(٢) الدر المصون : ٥ / ٨٦.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٥٣.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٤٧ ، البيان ٢ / ١٨٤ ، التبيان ٢ / ٩٥٤.

(٥) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(٦) انظر المقتضب ٢ / ٣٥٤.

(٧) قال الفراء : (وقوله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ، أعيدت «أنكم» مرتين ومعناهما واحد ؛ إلا أن ذلك حسن لما فرقت بين «أنكم» وبين خبرها ب «إذا»). معاني القرآن ٢ / ٢٣٤.

(٨) كذا في معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤ ، وفي النسختين : وكنتم ترابا وعظاما مخرجون.

(٩) في ب : هو جواب.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٤٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٣ ـ ٩٥٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.


الرابع : كالثالث في كونه مرفوعا بفعل مقدر إلا أن هذا الفعل المقدر (١) خبر ل (أن) الأولى وهو العامل في (إذا) (٢).

الخامس : أن خبر الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه ، فتقديره (٣) : أنكم تبعثون ، وهو العامل في الظرف ، و (أن) الثانية وما في حيزها بدل من الأولى ، وهذا مذهب سيبويه (٤).

السادس : أن يكون (أَنَّكُمْ (٥) مُخْرَجُونَ) مبتدأ وخبره الظرف مقدما عليه ، والجملة خبر عن (أنكم) الأولى ، والتقدير : أيعدكم أنكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم (٦). ولا يجوز أن يكون العامل في «إذا» «مخرجون» على كل قول لأن ما في حيز (أن) لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم» ، لأنه مضاف إليه ، و «أنكم» (٧) وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف الحرف إذ الأصل : أيعدكم بأنكم ويجوز أن لا يقدر حرف جر ، فيكون في محل نصب فقط نحو : وعدت زيدا خيرا.

قوله : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ). «هيهات» اسم فعل (٨) معناه : بعد ، وكرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع ، قال جرير :

٣٧٩٢ ـ فهيهات هيهات العقيق وأهله

وهيهات خل بالعقيق نواصله (٩)

__________________

(١) المقدر : سقط من ب.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(٣) في ب : تقديره.

(٤) قال سيبويه : (ومما جاء مبدلا من هذا الباب : «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» فكأنه على : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم ، وذلك أريد بها ولكنه إنما قدمت أنّ الأولى ليعلم بعد أي شيء الإخراج) الكتاب ٣ / ١٣٢ ـ ١٣٣ ، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(٥) أنكم : سقط من الأصل.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٤٧.

(٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٠٨ ، البيان ٢ / ١٨٣ ، التبيان ٢ / ٩٠٤.

(٨) اسم الفعل : ما ناب عن الفعل معنى واستعمالا ك «شتّان» فإنه اسم ناب عن فعل ماض وهو افترق ، و «صه» فإنه اسم ناب عن فعل أمر وهو اسكت ، و «أوه» فإنه اسم ناب عن فعل مضارع وهو أتوجع ، والمراد بالمعنى كونه يفيد ما يفيده الفعل الذي هو نائب عنه من الحدث والزمان والمراد بالاستعمال كونه عاملا لا معمولا. وأسماء الأفعال أسماء حقيقية ، ونابت عن الفعل في لفظه فهي بمعناه هذا مذهب البصريين.

ومذهب الكوفيين أنها أفعال حقيقية وهذه الأفعال لا موضع لها من الإعراب.

شرح التصريح ٢ / ١٩٦ ، الهمع ٢ / ١٠٥.

(٩) البيت من بحر الطويل قاله جرير ، وهو في ديوانه ٢ / ٩٦٥ برواية :

فأيهات أيهات العقيق ومن به

وأيهات وصل بالعقيق نواصله

وانظر أيضا المقتصد ١ / ٥٧٤ ، الخصائص ٣ / ٤٢ ، ابن يعيش ٤ / ٣٥ ، المقرب ١٤٨ ، اللسان (هيه) شذور الذهب ٢ / ٤ ، المقاصد النحوية ٣ / ٧ ، ٤ / ٣١١ ، شرح التصريح ١ / ٣١٨ ، ٢ / ١٩٩ ، الهمع ٢ / ١١١ ، الدرر ٢ / ١٤٥. العقيق : أصله : كل ما شقه ماء السيل في الأرض فأنهره ووسعه : عقيق والجمع ـ


وفسره الزجاج في عبارته بالمصدر ، فقال : البعد لما توعدون (١) ، أو بعد لما توعدون (٢) فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه ، ويمكن أن يكون فسّر المعنى فقط.

و «هيهات» اسم لفعل قاصر (٣) برفع الفاعل (٤) ، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجرورا باللام فمنهم من جعله على ظاهره وقال : (ما تُوعَدُونَ) فاعل به ، وزيدت فيه اللام التقدير : بعد بعد ما توعدون (٥) ، ، وهو ضعيف : إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل. ومنهم من جعل الفاعل مضمرا لدلالة (٦) الكلام عليه ، فقدره أبو البقاء : هيهات التصديق ، أو : الصحة لما توعدون (٧). وقدّره غيره : بعد إخراجكم (٨). و (لما توعدون) للبيان ، قال الزمخشري : لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في (هَيْتَ لَكَ)(٩) لبيان المهيت به (١٠). وقال الزجاج : «البعد لما توعدون» (١١) فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر. قال (١٢) الزمخشري : فإن قلت : (ما توعدون) هو المستبعد ، فمن حقه أن يرتفع ب «هيهات» كما ارتفع بقوله :

٣٧٩٣ ـ هيهات هيهات العقيق وأهله (١٣)

فما هذه اللام؟ قلت : قال الزجاج في تفسيره : البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن (١٤) نون ، فنزّله منزلة المصدر (١٥). قال أبو حيان : وقول (١٦) الزمخشري (فمن نوّنه نزّله منزلة المصدر) ليس بواضح ، لأنهم قد نوّنوا أسماء الأفعال ولا نقول : إنها إذا نوّنت تنزلت منزلة المصادر (١٧). قال شهاب الدين : الزمخشري لم يقل كذا ، إنما

__________________

ـ أعقّة وعقائق ، وفي بلاد العرب مواضع كثيرة تسمى العقيق. والمراد به هنا : واد بالحجاز. والشاهد فيه مجيء «هيهات» بمعنى بعد ورفع العقيق بعده على الفاعلية ، و «هيهات» الثانية للتوكيد.

(١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٢.

(٢) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٣.

(٣) في ب : فاخبر. وهو تحريف.

(٤) انظر شرح التصريح ٢ / ١٩٩ ، والهمع ٢ / ١٠٥.

(٥) قال الفراء : (وقوله : «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ» لو لم تكن في (ما) اللام كان صوابا) معاني القرآن ٢ / ٢٣٥. وانظر أيضا التبيان ٢ / ٩٥٤.

(٦) في الأصل : في دلالة.

(٧) التبيان ٢ / ٩٥٤.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٨٤.

(٩) من قوله تعالى : «وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» [يوسف : ٢٣]. والشاهد فيها أن (هيت) اسم فعل ، واللام للتبيين. التبيان ٢ / ٧٢٨.

(١٠) الكشاف ٣ / ٤٧.

(١١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٢.

(١٢) في الأصل : قاله.

(١٣) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله جرير ، وعجزه :

وهيهات خلّ بالعقيق نواصله

تقدم تخريجه.

(١٤) في الأصل : فمن.

(١٥) الكشاف ٣ / ٤٧.

(١٦) في الأصل : قال.

(١٧) البحر المحيط ٦ / ٤٠٥.


قال : فيمن نوّن نزله منزلة المصدر لأجل قوله : أو بعد ، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلا منزلة المصدر ، فإنّ أسماء الأفعال ما نوّن منها نكرة ، وما لم ينوّن معرفة نحو : صه وصه يقدر الأول بالسكوت ، والثاني بسكوت ما (١). وقال ابن عطية : طورا تلي الفاعل دون لام ، تقول : هيهات مجيء زيد أي : بعد ، وأحيانا يكون الفاعل محذوفا عند اللام ، كهذه الآية ، والتقدير : بعد الوجود لما توعدون (٢). ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله : حذف الفاعل ، والفاعل لا يحذف ، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر ، وهو الموجود ، وإبقاء معموله وهو (لِما تُوعَدُونَ)(٣) و «هيهات» الثاني تأكيد للأول تأكيدا لفظيا ، وقد جاء غير مؤكد كقوله (٤) :

٣٧٩٤ ـ هيهات منزلنا بنعف سويقة

كانت مباركة على الأيّام (٥)

وقال آخر :

٣٧٩٥ ـ هيهات ناس من أناس ديارهم

دقاق ودار الآخرين الأوائن (٦)

وقال رؤبة :

٣٧٩٦ ـ هيهات من منخرق هيهاؤه (٧)

قال القيسي (٨) شارح أبيات الإيضاح : وهذا مثل قولك : «بعد بعده» وذلك أنّه بنى من هذه اللفظة (فعلالا) فجاء به مجيء القلقال (٩) والزلزال. والألف في «هيهات» غير الألف في (هيهاؤه) ، وهي في «هيهات» لام الفعل الثانية كقاف الحقحقة (١٠) الثانية ، وهي في (هيهاؤه) ألف الفعلال الزائدة (١١). وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ،

__________________

(١) الدر المصون ٥ / ٨٧.

(٢) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٤.

(٣) قال أبو حيان : (وهذا ليس بجيد. لأن فيه حذف الفاعل ، وفيه أنه مصدر حذف وأبقي معموله ، ولا يجيز البصريون شيئا من هذا) البحر المحيط ٦ / ٤٠٥.

(٤) في ب : بقوله.

(٥) البيت من بحر الكامل ، نسبه سيبويه لجرير وليس في ديوانه ، وهو في الكتاب ٤ / ٢٠٦ ، الخصائص ٣ / ٤٣ ، ابن يعيش ٤ / ٣٦ ، ٦٧ مع نسبته لجرير ، اللسان (سوق).

(٦) البيت من بحر الطويل ، قاله مالك بن خالد الهذلي ، وهو في شرح أشعار الهذليين (٤٤٤) ومعجم البلدان ١ / ١٧٥ ، ومعجم ما استعجم ١٢٦٨ ، وإيضاح شواهد الإيضاح للقيسي ١ / ١٩٣.

(٧) رجز قاله رؤبة ، وقد تقدم.

(٨) هو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عيسى بن عبد المؤمن القيسي الشريشي ، نحوي ، لغوي ، أديب ، له : شرح الإيضاح للفارسي ، شرح الجمل للزجاجي ، ومختصر نوادر أبي علي القالي ، مات سنة ٦١٩ ه‍. معجم المؤلفين ١ / ٣٠٤.

(٩) قلقل الشيء قلقلة وقلقالا فتقلقل وقلقالا ، أي : حركه فتحرك واضطرب ، فإذا كسرته فهو مصدر ، وإذا فتحته فهو اسم مثل الزلزال والزلزال والاسم القلقال. اللسان (قلل).

(١٠) الحقحقة : شدة السير ، حقحق القوم إذا اشتدوا في السير. اللسان (حقق).

(١١) إيضاح شواهد الإيضاح ١ / ١٩٤.


ذكر منها الصّاغاني (١) ستة وثلاثين لغة ، وهي : (هيهات) ، وأيهات ، وهيهان ، وأيهان وهيهاه (٢) ، وأيهاه (٣) كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخر ومفتوحة ، ومكسورته ، وكل واحدة منها منوّنة وغير منوّنة ، فتكون ستّا وثلاثين (٤). وحكى غيره : هيهاك (٥) ، وأيهاك ـ بكاف الخطاب ـ ، وأيهاء ، وأيها ، وهيهاء (٦) ، فأمّا المشهور ما قرىء به. فالمشهور «هيهات» بفتح التاء من غير تنوين بني لوقوعه موقع المبني ، أو لشبهه بالحرف (٧) ، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة (٨) وهي لغة أهل الحجاز (٩). و «هيهاتا» بالفتح والتنوين ، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه ونسبها ابن عطية (١٠) لخالد بن إلياس(١١).

و «هيهات» بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر (١٢) وأبو حيوة (١٣). وبالضم من غير تنوين ،

__________________

(١) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي العدوي أبو الفضائل الصّغاني ، ويقال : الصّاغاني الحنفي ، حامل لواء اللغة في زمانه ومن مصنفاته : مجمع البحرين في اللغة ، التكملة على الصحاح ، العباب ، العروض ، شرح أبيات المفصل ، وغير ذلك ، مات سنة ٦٠٥ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٥١٩ ـ ٥٢١.

(٢) في النسختين : وهايهات.

(٣) في النسختين : وأيهات.

(٤) انظر شرح التصريح ٢ / ١٩٦ ـ ١٩٧ ، الهمع ٢ / ١٠٥ ـ ١٠٦ ، شرح الأشموني ٣ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٥) في النسختين : هيهاتا.

(٦) انظر شرح التصريح ٢ / ١٩٧ ، الهمع ٢ / ١٠٦ ، شرح الأشموني ٣ / ٢٠٠.

(٧) أسماء الأفعال بنيت لمشابهتها مبني الأصل ، وهو فعل الماضي والأمر ، ويجوز أن يقال : إنها بنيت لكونها أسماء لما أصله البناء ، وهو مطلق الفعل سواء بقي على ذلك الأصل كالماضي والأمر ، أو خرج عنه كالمضارع. وقيل : إنها بنيت لمشابهتها الحروف في الاستعمال في لزومها طريقة من طرائق الحروف الدالة على المعاني في نيابتها عن الأفعال في معناها وعملها ، ولا يدخل عليها عامل من العوامل فيؤثر فيها لفظا أو محلا ، كهيهات نائبة عن فعل ماض ، وهو بعد. وصه نائبة عن فعل أمر وهو اسكت ، وأوه نائبة عن فعل مضارع وهو أتوجع. ولا يصح أن يدخل عليها شيء من العوامل اللفظية والمعنوية. شرح الكافية ٢ / ٦٥ ـ ٦٦ ، شرح التصريح ١ / ٥٠ ـ ٥٢.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٤ ، الإتحاف ٣١٨.

(٩) وهو اسم واحد عندهم ، سمي به الفعل في الخبر ، وهو اسم بمعنى بعد ، وهو عندهم رباعي من مضاعف الهاء والياء ووزنه فعللة وأصله هيهية فهو من باب الزلزلة والقلقلة ، فألف (هيهات) بدل من الياء الثانية ، لأن أصلها هيهية ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، فصارت (هيهات) ، وتاؤه للتأنيث لحقه علم التأنيث ، وإن كان مبنيا كما لحق كية ، وذية ، فعلى هذا تبدل من تائه هاء في الوقف. المحتسب ٢ / ٩١ ، شرح المفصل ٤ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٦ ، وانظر أيضا البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(١١) هو خالد بن إلياس العدوي ، أبو الهيثم المدني الإمام أخذ عن عامر بن سعيد وصالح مولى التوأمة ، وأخذ عنه القعنبي وأبو نعيم. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٢٧٤.

(١٢) هو عنبة بن النضر الأحمر ، أبو عبد الرحمن اليشكري المقرىء النحوي عرض على سليم بن عيسى ، ومحمد بن زكريا النشابي ، وغيرهما ، روى القراءة عنه عبد الله بن جعفر السّواق.

طبقات القراء ١ / ٦٠٥.

(١٣) المختصر (٩٧) ، المحتسب ٢ / ٩٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.


ويروى عن أبي حيوة أيضا (١) ، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية (٢).

و «هيهات» بالكسر والتنوين ، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس (٣). وبالكسر من غير تنوين ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة ، وتروى عن عيسى أيضا (٤) وهي لغة تميم وأسد (٥).

و «هيهات» بإسكان التاء ، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني (٦) أيضا وخارجة (٧) عن أبي عمرو والأعرج (٨) و «هيهاه» بالهاء آخرا وصلا ووقفا. و «أيهات» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء ، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء (٩). فهذه تسع لغات قد قرىء بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى. ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى (١٠) في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة. و «أيهان» بالنون آخرا. و «أيها» بألف آخرا.

فمن فتح التاء قالوا : فهي عنده اسم مفرد ، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزينبات وهندات. ويعزى هذا لسيبويه ، لأنه قال : هي مثل بيضات (١١) ، فنسب إليه أنه جمع من ذلك ، حتى قال بعض النحويين : مفردها (هيهة) (١٢) مثل بيضة.

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(٢) البحر المحيط ٦ / ٤٠٤.

(٣) المختصر (٩٧) ، المحتسب ٢ / ٩٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

(٤) المختصر (٩٧) ، المحتسب ٢ / ٩٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٤ ، النشر ٢ / ٣٢٨ ، الإتحاف ٣١٨.

(٥) انظر الكتاب ٣ / ٢٩١ ، وابن يعيش ٤ / ٦٦.

(٦) هو عيسى بن عمر أبو عمر الهمداني الكوفي القارىء الأعمى مقرىء الكوفة بعد حمزة ، عرض على عاصم بن أبي النجود ، وطلحة بن مصرف والأعمش ، عرض عليه الكسائي ، وبشر بن نصر ، وخارجة بن مصعب ، وغيرهما مات سنة ١٥٦ ه‍. طبقات القراء ١ / ٦١٢ ـ ٦١٣.

(٧) هو خارجة بن مصعب ، أبو الحجاج الضبعي السرخسي ، أخذ القراءة عن نافع ، وأبي عمرو ، وله شذوذ كثير عنهما لم يتابع عليه ، وروى أيضا عن حمزة حروفا ، روى القراءة عنه العباس بن الفضل ، وأبو معاذ النحوي ، ومغيث بن بديل ، مات سنة ١٦٨ ه‍. طبقات القراء ١ / ٢٦٨.

(٨) المحتسب ٢ / ٩٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٥.

(٩) قال أبو البقاء : (ويقرأ «هيهاه» ـ بالهاء ـ وقفا ووصلا ، ويقرأ «أيهاة» بإبدال الهمزة من الهاء الأولى) التبيان ٢ / ٩٥٥.

(١٠) الهمزة تبدل من الهاء كما في : (ماء) فأصله (موه) لقولهم : (أمواه) ، فقلبت الواو ألفا ، والهاء همزة وأبدلت الهاء أيضا همزة في جمع ماء فقالوا : (أمواء) قال :

وبلدة قالصة أمواؤها

تستنّ في رأد الضحى أفياؤها

وأبدلت أيضا منها في آل أصله (أهل) ، فأبدلت الهاء همزة ، فقيل : (أأل) ، هم أبدلت الهمزة ألفا ، فقيل : (آل). وأبدلت أيضا من الهاء في (هل) ، فقالوا : (أل) فعلت كذا؟ يريدون : هل فعلت كذا؟ حكى ذلك قطرب عن أبي عبيدة وأبدلت أيضا من الهاء في (هذا) ، فقالوا : (آذا).

سر صناعة الإعراب ١ / ١٠٠ ـ ١٠٧ ، الممتع ١ / ٣٤٨ ـ ٣٥١.

(١١) انظر الكتاب ٣ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(١٢) قال الزجاج : (وواحد (هيهات) على هذا اللفظ إن لم يكن حاله واحدا (هيهة). فإن هذا تقديره وإن لم ننطق به) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٣.


وليس بشيء بل مفردها (هيهات).

قالوا (١) : وكان ينبغي على أصله أن يقال فيها : (هيهيات) بقلب ألف (هيهات) ياء ، لزيادتها على الأربعة نحو : ملهيات ، ومغزيات ، ومرميات (٢) ، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حاحيت وصيصية (٣) ، وأصلها بوزن القلقلة والحقحقة فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت : هيهاة كالسلقاة والجعباة. وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف سلقاة وجعباة زائدة ، وياء هيهية أصلا ، فلما جمعت كان قياسها على قولهم : أرطيات وعلقيات (٤) أن يقولوا فيها : (هيهيات) ، إلّا أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفوها في (ذان) ، و (اللّتان) و (تان) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية ، والألفات في أواخر المتمكنة ، وعلى هذا حذفوها في أولات وذوات ، لتخالف ياء حصيات ونويات (٥). وقالوا : من فتح تاء (هيهات) فحقه أن يكتبها هاء ، لأنها في مفرد كتمرة ونواة ، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء (٦) ، لأنها (٧) في جمع كهندات (٨) ، وكذلك حكم الوقف سواء ، ولا التفات إلى لغة : كيف الإخوه والأخواه ، ولا هذه ثمرت ، لقلتها (٩) ، وقد رسمت في المصحف بالهاء.

واختلف القراء في الوقف عليها ، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ (١٠) عن ابن كثير. ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون (١١). وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين :

أحدهما : موافقة الرسم.

والثاني (١٢) : أنهم قالوا : المفتوح اسم مفرد أصله هيهية كولولة وقلقلة في (١٣) مضاعف الرباعي ، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء. وأمّا التنوين (١٤) فهو

__________________

(١) وهو القيسي صاحب إيضاح شواهد الإيضاح ١ / ١٩٣.

(٢) لأن ألف المقصور إذا كانت رابعة فصاعدا تقلب ياء عند جمعه جمع مؤنث سالم.

انظر شرح التصريح ٢ / ٢٩١.

(٣) الصيصية : شوكة الحائك التي يسوي بها السّداة واللحمة. وصيصية البقرة قرنها ، وهي أيضا : الوتد الذي يقلع به التمر. اللسان (صيص).

(٤) في ب : عقليات. وهو تحريف.

(٥) إيضاح شواهد الإيضاح ١ / ١٩٣.

(٦) في ب : للها. وهو تحريف.

(٧) لأنها : سقط من ب.

(٨) انظر المحتسب ٢ / ٩١ ، إيضاح شواهد الإيضاح ١ / ١٩٢.

(٩) شرح المفصل ٩ / ٨٠ ـ ٨١ ، شرح الكافية ٢ / ٧٣ ، شرح الشافية ٢ / ٢٨٨ ـ ٢٩٢.

(١٠) تقدم.

(١١) الكشف ١ / ١٣٠ ـ ١٣٣ ، النشر ٢ / ١٣١ ـ ١٣٢ ، الإتحاف ٣١٩.

(١٢) في ب : وثانيهما.

(١٣) في ب : من.

(١٤) في الأصل : النون.


على قاعدة تنوين أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير ، وخروجه دال على التعريف (١).

قال القيسي : من نوّن اعتقد تنكيرها ، وتصوّر معنى المصدر النكرة ، كأنه قال : بعدا بعدا. ومن لم ينوّن اعتقد تعريفها ، وتصوّر معنى المصدر المعرفة ، كأنه قال : البعد البعد فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف (٢) انتهى.

ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين : أسماء الأفعال وأسماء الأصوات (نحو صه وصه ، وبخ وبخ ، والعلم المختوم ب (ويه)) (٣) نحو سيبويه وسيبويه ، وليس بقياس بمعنى : أنه ليس لك أن (٤) تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره (٥). والذي يقال في القراءات المتقدمة : إنّ من نوّن جعله للتنكير كما تقدم. ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف. ومن فتح فللخفة وللاتباع. ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضم فتشبيها بقبل وبعد. ومن سكّن فلأنّ أصل البناء السكون. ومن وقف بالهاء فاتباعا للرسم ، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كسرت التاء أو فتحت ، لأنّ الظاهر أنهما سواء ، وإنما ذلك من تغيير اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه (٦) ما تقدم. هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة. وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن (٧) : إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء ، وخبره (لِما تُوعَدُونَ) أي : البعد لوعدكم (٨) ، كما تقول : النجح لسعيك (٩).

وقال الرازي في اللوامح : فأمّا من رفع ونوّن احتمل أن يكونا (١٠) اسمين (١١) متمكنين مرفوعين ، خبرهما من حروف الجر بمعنى : البعد لما توعدون ، والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسما للفعل ، والضم للبناء مثل : حوب (١٢) في زجر الإبل لكنه نوّنه (لكونه) (١٣) نكرة (١٤).

قال شهاب الدين : وكان ينبغي لابن عطية وأبي (١٥) الفضل أن يجعلاه اسما أيضا في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل (١٦) وقرأ ابن أبي عبلة : «هيهات هيهات ما توعدون» من غير لام جر (١٧). وهي واضحة ، مؤيدة لمدعي زيادتها

__________________

(١) انظر شرح المفصل ٤ / ٧٠ ـ ٧٢ ، شرح الكافية ٢ / ٦٩ ، شرح التصريح ٢ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، الهمع ٢ / ١٠٥.

(٢) إيضاح شواهد الإيضاح ١ / ١٩٣.

(٣) ما بين القوسين تكملة لاستيفاء الكلام.

(٤) في ب : إن لم. وهو تحريف.

(٥) تقدم قريبا.

(٦) انظر مذهب سيبويه فيما تقدم قريبا.

(٧) وهي قراءة الأحمر وأبي حيوة.

(٨) في ب : لو عدتم. وهو تحريف.

(٩) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(١٠) في النسختين : أن يكون.

(١١) في ب : الاسمين.

(١٢) أصل الحوب : الجمل ، ثم كثر حتى صار زجرا له. اللسان (حوب).

(١٣) لكونه : تكملة من البحر المحيط.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٤٠٥.

(١٥) في ب : ولأبي.

(١٦) الدر المصون : ٥ / ٨٨.

(١٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٥ وتكون (ما) فاعلة ب (هيهات).


في قراءة العامة (١). و «ما» في (لِما تُوعَدُونَ) تحتمل المصدرية ، أي : لوعدكم ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : توعدونه.

قوله : (إِنْ هِيَ) «هي» ضمير يفسره سياق الكلام ، أي : إن الحياة (٢) إلا حياتنا (٣).

وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يراد به إلّا بما يتلوه من بيانه ، وأصله : إن الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، فوضع «هي» موضع «الحياة» (٤) لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه : هي النّفس تتحمل ما حمّلت ، وهي العرب تقول ما شاءت (٥). وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظا ورتبة ، ونسبه إلى الزمخشري متعلقا بما نقلناه عنه. قال شهاب الدين : ولا تعلق له في ذلك(٦).

قوله : (نَمُوتُ وَنَحْيا) جملة مفسرة لما ادّعوه من أنّ حياتهم ما هي إلا كذا. وزعم بعضهم أنّ فيها دليلا على عدم الترتيب في الواو (٧) ، إذ المعنى : نحيا ونموت إذ هو الواقع.

ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه. وقيل : نموت نحن ويحيا أبناؤنا.

وقيل : القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي : نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت.

فصل

اعلم أنّ القوم طعنوا (٨) في نبوّته بكونه بشرا يأكل ويشرب ، ثم جعلوا طاعته خسرانا : أي إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع ، فذلك هو الخسران ، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر ، فقالوا : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) معادون أحياء للمجازاة ، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى

__________________

(١) تقدم قريبا.

(٢) في النسختين : حالتكم.

(٣) في الأصل : كحياتنا.

(٤) في النسختين : حياتنا.

(٥) الشاهد في هذين القولين أن الضمير مبتدأ يفسر بالخبر ، وهو من المواضع التي يكون مفسر الضمير فيها مؤخرا ، وتقدم الحديث عن المواضع التي يعود فيها الضمير على متأخر لفظا ورتبة.

(٦) لأن الزمخشري أراد أن المثالين يمكن حملهما على ذلك ، لأنه متعين فيهما.

الدر المصون ٥ / ٨٨.

(٧) الواو العاطفة لمطلق الجمع ، أي : الاجتماع في الفعل من غير تقييد بحصوله من كليهما في زمان أو سبق أحدهما فقولك جاء زيد وعمرو. يحتمل على السواء أنهما جاءا معا ، أو زيد جاء أولا أو آخرا ، ومن ورودها في المصاحب قوله تعالى : «فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ»[العنكبوت : ١٥] وفي السابق قوله تعالى : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ» [الحديد : ٢٦] وفي المتأخر قوله تعالى : «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» [الشورى : ٣]. وقول السيرافي : إن النحويين واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب. مردود ، بل قال بإفادتها إياه قطرب والربعي والفراء وثعلب وأبو عمر الزاهد وهشام والشافعي.

المغني ٢ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥ ، الهمع ٢ / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٩.


قرنوا به الاستبعاد العظيم ، فقالوا : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) ثم أكدوا (١) ذلك بقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) ولم يريدوا بقولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا) الشخص الواحد ، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا ، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا : (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ).

واعلم أنّ الله ـ تعالى ـ ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى : فتقدم الجواب عنها (٢). وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه ، أنّه لمّا كان قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا (٣) على الحشر والنشر ، وأيضا : فلولا الإعادة لكان تسليط القويّ على الضعيف في الدنيا ظلما ، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ)(٤)(٥).

واعلم أنّ الرسول لمّا يئس (٦) من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) وقد تقدّم تفسيره. فأجاب الله سؤاله وقال : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ)(٧).

قوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) في (ما) هذه وجهان :

أحدهما : أنّها مزيدة بين الجار والمجرور (٨) للتوكيد (٩) كما زيدت الباء نحو : (فَبِما رَحْمَةٍ)(١٠) ، وفي من (١١) نحو «مما خطاياهم» (١٢).

و «قليل» صفة لزمن محذوف ، أي : عن زمن قليل (١٣).

والثاني : أنّها غير زائدة ، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن ، و «قليل» صفتها (١٤) ، أو بدل منها (١٥)(١٦) ، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه متعلق بقوله : «ليصبحنّ» ، أي : ليصبحن عن زمن قليل نادمين (١٧).

__________________

(١) في ب : ثم أكد.

(٢) تقدم قريبا.

(٣) في الأصل : قادا. وهو تحريف.

(٤) [طه : ١٥].

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٨ ـ ٩٩.

(٦) في ب : اليس. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٩.

(٨) البيان ٢ / ١٨٥ ، التبيان ٢ / ٩٥٥.

(٩) في الأصل : بالتوكيد.

(١٠) من قوله تعالى :«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ»[آل عمران : ١٥٩].

(١١) انظر شرح الكافية الشافية ٢ / ٨١٦ شرح التصريح ٢ / ٢٠ ، الهمع ٢ / ٣٧ ـ ٣٨ ، شرح الأشموني ٢ / ٢٣٠.

(١٢) من قوله تعالى : «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً»[نوح : ٢٥].

و «خطاياهم» قراءة أبي عمرو ، وقراءة الباقين «خطيئاتهم» انظر السبعة (٦٥٣) ، الكشف ٢ / ٢٣٧.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٥.

(١٤) في الأصل : صفتهما.

(١٥) في ب : منهما.

(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٥٥.

(١٧) انظر التبيان ٢ / ٩٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٦.


الثاني : أنه متعلق ب «نادمين» (١) ، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم ، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال :

جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقا ، وهو قول الفراء وأبي عبيدة.

والثاني : المنع مطلقا ، وهو قول جمهور البصريين.

والثالث : التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما ، فيجوز فيهما للاتساع (٢) ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في : والله لأضربن زيدا ، زيدا لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله (٣).

والثالث من الأوجه المتقدمة : أنّه متعلق بمحذوف تقديره : عمّا قليل تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه ، وهو قوله : (رَبِّ انْصُرْنِي)(٤). وقرىء : «لتصبحنّ» بتاء الخطاب (٥) على الالتفات ، أو على أنّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك.

قوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلاك فعند ذلك يحصل لهم الحسرة (٦) والندامة على ترك القبول (٧). ثمّ بيّن تعالى (٨) الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ) قيل : إن جبريل ـ عليه‌السلام (٩) ـ صاح بهم صيحة عظيمة فهلكوا. وقال ابن عباس : الصيحة الرجفة (١٠). وعن الحسن : الصيحة نفس العذاب والموت. كما يقال فيمن يموت : دعي فأجاب.

وقيل : هي العذاب المصطلم (١١) ، قال الشاعر :

٣٧٩٧ ـ صاح الزمان بآل برمك صيحة

خروا لشدتها على الأذقان (١٢)

والأول أولى لأنه الحقيقة (١٣).

قوله : «بالحقّ» أي : دمرناهم بالعدل ، من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضائه (١٤). وقال المفضل : «بالحقّ» بما لا مدفع له كقوله (١٥) : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)(١٦)(١٧).

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٥٥ ، الحر المحيط ٦ / ٤٠٦.

(٢) في ب : الاتساع.

(٣) وهو رأي ابن مالك. وانظر هذه الأقوال في الهمع ٢ / ٤٤.

(٤) انظر البيان ٢ / ١٨٥.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٤٠٦.

(٦) في ب : الخسران.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٠.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٠.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) الرّجفة : الزلزلة. ورجفت الأرض ترجف رجفا : اضطربت. اللسان (رجف).

(١١) الاصطلام : الاستئصال ، وهو افتعال من الصّلم ، وهو القطع. اللسان (صلم).

(١٢) البيت من بحر الكامل ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٦.

(١٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٠.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٠.

(١٥) في ب : كقولك. وهو تحريف.

(١٦) [ق : ١٩].

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٦.


قوله : (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) الجعل بمعنى : التصيير ، و «غثاء» مفعول ثان ، والغثاء : قيل : هو الجفاء ، وتقدم في الرعد (١) ، قاله الأخفش (٢) وقال الزجاج : هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود (٣) ، ومنه قوله : (غُثاءً أَحْوى)(٤) وقيل : كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به (٥) ، وبه يضرب المثل في ذلك ولامه واو ، لأنه من غثا الوادي يغثو غثوا ، وكذلك غثت القدر ، وأمّا غثيت نفسه تغثي غثيانا ، أي : خبثت. فهو قريب من معناه ، ولكنه من مادة الياء (٦).

وتشدد (ثاء) الغثاء ، وتخفّف ، وقد جمع على أغثاء ، وهو شاذ ، بل كان قياسه أن يجمع على أغثية ، كأغرية ، وعلى غيثان ، كغربان ، وغلمان (٧) وأنشدوا لامرىء القيس :

٣٧٩٨ ـ من السّيل والغثّاء فلكة مغزل (٨)

بتشديد الثاء ، وتخفيفها ، والجمع ، أي : والأغثاء.

قوله : (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) «بعدا» مصدر يذكر بدلا من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم ، والأصل : بعد (٩) بعدا وبعدا نحو رشد رشدا ورشدا (١٠) وفي هذه اللام قولان :

__________________

(١) عند قوله تعالى : «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً»[الرعد : ١٧]. وذكر ابن عادل هناك : والجفاء : قال ابن الأنباري المتفرق ، يقال : جفأت الريح السحاب ، أي : قطعته وفرقته ، وقيل : الجفاء ما يرمي به السيل يقال : جفأت القدر بزبدها تجفأ من باب قطع ، وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل باللام. انظر اللباب ٥ / ١٠٠.

(٢) قال الأخفش : الغثاء والجفاء واحد. وهو ما احتمله السيل من القذر والزبد. انظر قول الأخفش في البحر المحيط ٦ / ٣٩٣ ، وهو غير موجود في معاني القرآن.

(٣) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٣.

(٤) من قوله تعالى : «فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» [الأعلى : ٥].

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٣.

(٦) انظر اللسان (غثا).

(٧) لأن (فعال) لا يجمع على (أفعال) ، وإنما يجمع جمع قلة على أفعلة لأنه رباعي قبل آخره مد ، فهو يساوي في القلة فعال ـ بالفتح ـ وفعال ـ بالكسر ـ ك (زمان) أزمنة ، و (مكان) أمكنة ، و (حمار) أحمرة ، و (خلال) أخلّة. وبابه في الكثير (فعلان) كغلمان ، وغربان ، وخرجان وذبّان.

شرح الشافية ٢ / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٨) عجز بيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، وهو من معلقته ، وهو في الديوان (٢٥) ، والكشاف ٣ / ٤٨ ، وشرح شواهده (٩٩).

(٩) في ب : بعدا. وهو تحريف.

(١٠) «بعدا» من جملة المصادر التي قال سيبويه إنها نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها ، ومنها : سقيا ، ورعيا ، وخيبة. حيث قال: (إنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه ، على إضمار الفعل ، كأنك قلت : سقاك الله سقيا ، ورعاك الله رعيا ، وخيّبك الله خيبة ، فكل هذا وأشباهه على هذا ينتصب. وإنما اختزل الفعل ههنا ، لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل ، كما جعل الحذر بدلا من احذر. وكذلك هذا كأنه بدل من سقاك الله ، ورعاك الله ، ومن خيّبك الله) الكتاب ١ / ٣١١ ـ ٣١٢. وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٤٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٥٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٦.


أظهرهما : أنها متعلقة بمحذوف للبيان ، كهي في سقيا له ، وجدعا له. قاله الزمخشري (١).

والثاني : أنّها متعلقة ب «بعدا» قاله الحوفي (٢). وهذا مردود ، لأنه لا يحفظ حذف هذه اللام ، ووصول المصدر إلى مجروها ألبتة ، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ)(٣) لأن اللام لا تتعلق ب «تعسا» بل بمحذوف ، وإن كان الزمخشري جوّز ذلك (٤) ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى (٥).

فصل

(فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) صيرناهم (٦) هلكى فيبسوا يبس الغثاء من نبات الأرض ، «فبعدا» بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم (٧).

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(٤٤)

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) أي : أقواما آخرين. قيل : المراد قصة لوط ، وشعيب ، وأيوب ، ويوسف (٨) ـ صلوات الله عليهم أجمعين (٩) ـ ، والمعنى : أنه ما أخلى الديار من المكلفين (١٠). (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) (من) صلة كأيّ : ما تسبق أمة أجلها وقت هلاكها (١١). وقيل : آجال حياتها وتكليفها (١٢). قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله ، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر ، وذلك ينافيه هذا النص (١٣).

قوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) في «تترى» وجهان :

__________________

(١) انظر الكشاف ص ٣ / ٤٨.

(٢) البرهان ٦ / ١٥٠.

(٣) من قوله تعالى : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» [محمد : ٨] ف «الَّذِينَ كَفَرُوا» مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره تعسوا ، أو أتعسوا ، ودل عليهما «تعسا» ودخلت الفاء تنبيها على الخبر. التبيان ٢ / ١١٦٠.

(٤) قال الزمخشري :(«وَالَّذِينَ كَفَرُوا» يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسره «فَتَعْساً لَهُمْ» كأنه قال : أتعس الذين كفروا) الكشاف ٣ / ٤٥٤.

(٥) [محمد : ٨].

(٦) في ب : فصيرناهم.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٠.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٧.

(٩) أجمعين : سقط من ب.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠١.

(١١) انظر القرطبي ١٢ / ١٢٥.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠١.

(١٣) المرجع السابق.


أظهرهما : أنه منصوب على الحال من «رسلنا» ، يعني : متواترين أي : واحدا بعد واحد ، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه. وحقيقته : أنه مصدر واقع موقع الحال (١).

والثاني : أنه نعت مصدر محذوف ، تقديره : إرسالا تترى ، أي : متتابعا أو إرسالا إثر إرسال (٢) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ، وهي قراءة الشافعي «تترى» بالتنوين ، ويقفون بالألف ، وباقي السبعة «تترى» بألف صريحة دون تنوين ، والوقف عندهم يكون بالياء ، ويميله حمزة والكسائي ، وهو مثل غضبى وسكرى ، ولا يميله أبو عمرو في الوقف (٣) ، وهذه هي اللغة المشهورة. فمن نوّن فله وجهان:

أحدهما : أنّ وزن الكلمة فعل كفلس فقوله : «تترى» كقولك : نصرته نصرا ؛ ووزنه في قراءتهم «فعلا» (٤). وقد ردّ هذا الوجه ، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه ، فيقال : هذا تتر ، ورأيت تترا ، ومررت بتتر ، نحو : هذا نصر ، ورأيت نصرا ، ومررت بنصر ، فلمّا لم يحفظ ذلك بطل أن يكون وزنه (فعلا) (٥).

الثاني : أنّ ألفه للإلحاق بجعفر ، كهي في أرطى (٦) وعلقى (٧) ، فلما نوّن ذهبت لالتقاء الساكنين (٨) وهذا أقرب مما قبله ، ولكنه يلزم منه وجود ألف (٩) الإلحاق في المصادر ، وهو نادر (١٠) (ومن لم ينوّن ، فله فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف.

والثاني : أنها للإلحاق كأرطى وعلقى) (١١).

الثالث : أنها للتأنيث كدعوى ، وهي واضحة (١٢).

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٠ ، البيان ٢ / ١٨٥ ، التبيان ٢ / ٩٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٧.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٥٥.

(٣) السبعة (٤٤٦). الحجة لابن خالويه (٢٥٧) الكشف ١ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، ٢ / ١٢٨ ، ١٢٩ النشر ٢ / ٣٢٨ ، الإتحاف ٣١٩.

(٤) انظر الكشف ٢ / ١٢٨ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٠.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٤.

(٦) الأرطى : ـ بفتح فسكون ـ شجر ينبت في الرمل ، واحدته أرطاة. اللسان (أرط).

(٧) العلقى : شجر تدوم خضرته في القيظ ، ولها أفنان طوال دقاق ، وورق لطاف ، واختلف في ألفها ، فبعضهم يجعلها للتأنيث فلا ينوّنها ، وبعضهم يجعلها للإلحاق بجعفر ، وينوّنها. اللسان (علق).

(٨) انظر الكشف ٢ / ١٢٨ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٠ ، البيان ٢ / ١٨٥.

(٩) في الأصل : الألف.

(١٠) قال ابن الأنباري : (فمن قرأ بالتنوين جعل ألفها للإلحاق بجعفر وشرحب ، وألف الإلحاق قليلة في المصادر ، ولهذا جعلها بعضهم بدلا من التنوين) البيان ٢ / ١٨٥.

(١١) ما بين القوسين تكملة من الدر المصون.

(١٢) لأن المصادر كثيرا ما يلحقها ألف التأنيث كالدعوى من دعا ، والذكرى من ذكر ، فلم ينصرف (تترى) للتأنيث وللزومه. الكشف ٢ / ١٢٩ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٠ ، البيان ٢ / ١٨٥.


فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها بدل من التنوين في الوقف.

الثاني : أنها للإلحاق.

الثالث : أنها للتأنيث (١).

واختلفوا فيها هل هي مصدر كدعوى و «ذكرى» (٢) ، أو اسم جمع ك «أسرى» (٣) و «شتى» (٤)؟ كذا قاله أبو حيان (٥). وفيه نظر : إذ المشهور أن «أسرى» و «شتّى» جمعا تكسير (٦) لا اسما جمع (٧). وتاؤها في الأصل واو (٨) لأنها من المواترة (٩) ، والوتر (١٠) ، فقلبت تاء كما قلبت تاء في «تورية» (١١) ، وتولج (١٢) ، وتيقور (١٣) ، وتخمة (١٤) وتراث (١٥) ، وتجاه (١٦) فإنه من الوري والولوج ، والوقار ، والوخامة ، والوراثة ، والوجه (١٧). واختلفوا في مدلولها ، فعن الأصمعي : واحدا بعد واحد وبينهما هنيهة (١٨) وقال غيره : هو من المواترة ، وهي التتابع بغير مهلة (١٩). وقال الراغب : والتواتر تتابع

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٥٥.

(٢) من قوله تعالى : «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» [الأنعام : ٦٨].

(٣) من قوله تعالى : «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» [الأنفال : ٦٧].

(٤) من قوله تعالى : «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» [طه : ٥٣].

(٥) قال أبو حيان : (وقيل «تترى» اسم جمع ك «أسرى» و «شتّى»). البحر المحيط ٦ / ٣٩٤.

(٦) في ب : تكسيرا. وهو تحريف.

(٧) تقدّم.

(٨) في الأصل : أو. وهو تحريف.

(٩) في ب : المتواترة.

(١٠) انظر الكشف ٢ / ١٢٩ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٠ ، البيان ٢ / ١٨٥ ، التبيان ٢ / ٩٥٥ ، القرطبي ١٢ / ١٢٥.

(١١) هي أصل : توراة ، فهي مصدر «ورّى» ـ بالتضعيف ـ قلبت حركة الياء إلى ما قبلها ثم قلبت الياء ألفا على لغة طيىء الذين يقولون : باداة وجاراة ، في بادية وجارية فصارت توراة. وتوراة : أصلها ووراة على وزن فوعلة من ورى الزند يري ، فأبدل الواو الأولى تاء ، لأنه لو لم تبدل الواو الأولى تاء لأبدلت همزة هروبا من اجتماع واوين في أول الكلمة.

(١٢) التولج : كناس الظبي أو الوحش الذي يلج فيه ، وأصله : وولج ، أبدلت الواو الأولى تاء. اللسان (ولج).

(١٣) التيقور : الوقار ، فيعول ، وأصله : ويقور ، قلبت الواو تاء ، قال العجاج :

فإن يكن أمسى البلى تيقوري

اللسان (وقر).

(١٤) التخمة : الثقل الذي يصيبك من الطعام. وأصلها : وخمة ، قلبت الواو تاء. اللسان (وخم).

(١٥) التراث : المال الموروث ، أصله : وراث ، قلبت الواو تاء. اللسان (ورث).

(١٦) تقول : قعد فلان تجاه فلان ، أي : تلقاءه ، وأصله : وجاه قلبت الواو تاء ، اللسان (وجه).

(١٧) انظر سر صناعة الإعراب ١ / ١٤٥ ـ ١٤٨ ، الممتع ١ / ٣٨٣ ـ ٣٨٧ ، شرح الشافية ٣ / ٨٠ ـ ٨٣ ، ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(١٨) اللسان (وتر) ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٣.

(١٩) المرجعان السابقان.


الشيء وترا وفرادى ، قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا)(١). والوتيرة : السّجية والطريقة ، يقال : هم على وتيرة واحدة (٢). والتّرة : الذّحل (٣) والوتيرة (٤) : الحاجز بن المنخرين (٥).

قوله : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) أي : أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة ، ولذلك قال : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) بالإهلاك (٦).

قوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) قيل : هو جمع حديث ، ولكنه شاذ (٧). والمعنى : سمرا وقصصا يحدث من بعدهم بأمرهم ، ولم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به (٨).

وقيل : بل هو جمع أحدوثة ، كأضحوكة وأعجوبة ، وهو ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجّبا (٩).

وقال الأخفش : لا يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير (١٠) وقد شذت العرب في ألفاظ ، فجمعوها على صيغة (أفاعيل) كأباطيل وأقاطيع (١١). وقال الزمخشري : الأحاديث يكون اسم جمع للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢).

وقال أبو حيان : و (أفاعيل) ليس من أبنية اسم الجمع ، فإنما ذكره النحاة (١٣) فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع ، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد(١٤) ، فأحرى (١٥) أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا(١٦). ثم قال تعالى : (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا دعاء ، وذم ، وتوبيخ ، وذلك وعيد شديد(١٧).

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن (٥١١).

(٢) اللسان (وتر).

(٣) الذحل : الثأر ، وقيل : طلب مكافأة بجناية جنيت عليك ، أو عداوة أتيت إليك ، وقيل : هو العداوة والحقد ، وجمعة أذحال وذحول ، وهو التّرة ، يقال طلب بذحله ، أي : بثأره. اللسان (ذحل ، وتر).

(٤) في الأصل : والوتير.

(٥) المنخران : ثقبا الأنف. اللسان (نخر ، وتر).

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠١.

(٧) انظر شرح الأشموني ٤ / ١٢٩ ، ١٣٨.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٧.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٤٨.

(١٠) لم أجده في معاني القرآن للأخفش. وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٠٧.

(١١) انظر شرح الشافية ٢ / ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

(١٢) الكشاف ٣ / ٤٨.

(١٣) في الأصل : البخاري. وهو تحريف.

(١٤) ف (عباديد) جمع ليس له واحد من لفظه ، وقد قدّروا له واحدا وإن لم يستعمل وهو عبدود ، شرح الكافية ٢ / ١٧٨.

(١٥) في ب : وأجرى. وهو تحريف.

(١٦) البحر المحيط ٦ / ٤٠٧. وقال الرضيّ : (وكذا أحاديث النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ في جمع الحديث ، فليس جمع الأحدوثة المستعملة ، لأنها الشيء الطفيف الرذل ، حوشي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مثله). شرح الكافية ٢ / ١٧٩.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠١.


قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)(٤٩)

قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ) الآية. يجوز أن يكون «هارون» بدلا (١) ، وأن يكون بيانا ، وأن يكون منصوبا بإضمار أعني. واختلفوا في الآيات (٢) ، فقال ابن عباس : هي الآيات التسع وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، والسنين ، ونقص الثمرات. وقال الحسن : «بآياتنا» أي : بديننا. واحتج بأن المراد لو كان الآيات وهي المعجزات ، والسلطان المبين : هو أيضا المعجز ، لزم منه عطف الشيء على نفسه.

والأول أقرب ، لأنّ لفظ الآيات إذا ذكر مع الرسول فالمراد به المعجزات.

وأما احتجاجه فالجواب عنه من وجوه :

الأول : أنّ المراد بالسلطان المبين : يجوز أن يكون أشرف معجزاته ، وهي العصا ، لأن فيها معجزات شتّى من انقلابها حيّة وتلقّفها (٣) ما (٤) صنع السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها ، وكونها حارسا ، وشمعة ، وشجرة مثمرة ، ودلوا ، ورشاء ، فلاجتماع هذه الفضائل فيها أفردت بالذكر كقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)(٥).

والثاني : يجوز أن يكون المراد (٦) بالآيات نفس تلك (٧) المعجزات ، وبالسلطان المبين كيفيّة دلالتها على الصدق ، فلأنها (٨) وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها في قوة دلالتها على قبول قول موسى ـ عليه‌السلام (٩) ـ.

الثالث : أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى ـ عليه‌السلام ـ عليهم في الاستدلال على وجود الصانع ، وإثبات النبوّة ، وأنه ما كان يقيم لهم قدرا ولا وزنا.

واعلم أنّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضا وأنّ النبوة مشتركة بينهما ، فكذلك (١٠) المعجزات (١١). ثم قال : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) وتعظموا عن الإيمان (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) متكبرين قاهرين غيرهم (١٢) بالظلم.

قوله : «لبشرين» بشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع ، والمذكر والمؤنث (١٣)

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٥٥.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٢.

(٣) في ب : تلفقها.

(٤) في الأصل : مع ما.

(٥) من قوله تعالى : «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» [البقرة : ٩٨].

(٦) في ب : يجوز أن يراد.

(٧) تلك : سقط من ب.

(٨) في ب : لأنها.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) في ب : وكذلك.

(١١) آخر ما نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٢.

(١٢) في ب : غرهم. وهو تحريف.

(١٣) اللسان (بشر).


قال تعالى : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ)(١) ، وقد يطابق ، ومنه هذه الآية وأما إفراد «مثلنا» ، فلأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد والتذكير ، ولا يؤنث أصلا ، وقد يطابق ما هو له تثنية لقوله : (مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ)(٢) وجمعا كقوله : (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)(٣)(٤).

وقيل : أريد المماثلة في البشريّة لا الكمية (٥). وقيل : اكتفي بالواحد عن الاثنين (٦). (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ)(٧) جملة حالية.

فصل

«فقالوا» يعني لفرعون وقومه (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) يعنون موسى وهارون (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) مطيعون متذللون (٨). قال أبو عبيدة : والعرب تسمي كل من دان لملك (٩) عابدا له (١٠) ويحتمل أن يقال (١١) : إنه كان يدعي الإلهية ، وإن طاعة الناس له عبادة ، ولمّا خطر ببالهم هذه الشبهة صرحوا بالتكذيب ، ولمّا كان التكذيب كالعلّة لهلاكهم لا جرم رتّبه عليه بفاء التعقيب ، فقال : (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي : بالغرق (أي : فيمن حكم عليهم بالغرق) (١٢) فإن الغرق لم يحصل عقيب التكذيب ، (إنما حصل عقيب التكذيب) (١٢) حكم الله ـ تعالى ـ عليهم بالغرق في الوقت اللائق (١٣) به.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) قيل : أراد قوم موسى ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ولذلك أعاد الضمير من قوله : «لعلّهم» عليهم (١٤).

وفيه نظر ، إذ يجوز عود الضمير على القوم من غير تقدير إضافتهم إلى موسى ، ويكون هدايتهم مترتبة على إيتاء التوراة لموسى. قال الزمخشري : لا يجوز أن يرجع الضمير في «لعلّهم» إلى فرعون وملئه لأن التوراة إنما أوتيت بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون ، بدليل قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ) (١٥)(١٦).

__________________

(١) من قوله تعالى : «قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» [يس : ١٥].

(٢) من قوله تعالى : «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» [آل عمران : ١٣].

(٣) من قوله تعالى : «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» [محمد : ٣٨].

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٥٦.

(٥) المرجع السابق.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في ب : عابدين. وهو تحريف.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٢٠.

(٩) في ب : الملك.

(١٠) مجاز القرآن ٢ / ٥٩.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٢.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٣.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٧.

(١٥) [القصص : ٤٣].

(١٦) الكشاف ٣ / ٤٩.


بل المعنى الصحيح ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم (١) يعملون بشرائعها ، ومواعظها ، فذكر موسى والمراد آل موسى كما يقال : هاشم وثقيف. والمراد قومهم (٢).

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(٥٠)

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) والمراد عيسى ـ عليه‌السلام (٣) ـ وأمه «آية» دلالة على قدرتنا. ولم يقل آيتين قيل : معناه جعلنا شأنهما آية. وقيل المعنى كل واحد آية كقوله : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا)(٤) (٥). قال المفسرون : معنى كون عيسى وأمه آية أنه خلق من غير ذكر ، وأنطقه في المهد في الصغر ، وأجرى على يده إبراء الأكمه (٦) والأبرص (٧) ، وإحياء الموتى وأمّا مريم فلأنها حملت من غير ذكر (٨). وقال الحسن : تكلّمت مريم في صغرها كما تكلّم عيسى وهو قولها : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٩) ، ولم تلقم ثديا قط (١٠). قال ابن الخطيب : والأقرب أن جعلهما آية هو نفس الولادة ، لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعا في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة ، ويدل على هذا وجهان :

الأول : قوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) لأن نفس المعجز ظهر منهما ، لا أنّه ظهر على يديهما ، لأنّ الولادة فيه وفيها (١١) بخلاف الآيات التي ظهرت على يده.

الثاني : قوله : (آيَةً) ولم يقل آيتين ، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتمّ إلا بمجموعهما أولى ، وذلك هو الولادة لا المعجزات التي كانت لعيسى (١٢).

قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) «الرّبوة» و «الرّباوة» في رائهما (١٣) الحركات الثلاثة (١٤)(١٥) ، وهي الأرض المرتفعة.

__________________

(١) لعلهم : سقط من ب.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٤٩. بتصرف ، والفخر الرازي ٢٣ / ١٠٣.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) [الكهف : ٣٣].

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٤ ، الكشاف ٣ / ٤٩.

(٦) الأكمه : الكمه في التفسير : العمى الذي يولد به الإنسان. كمه بصره ـ بالكسر ـ كمها وهو أكمه إذا اعترته ظلمة تطمس عليه. والأكمه: الذي يولد أعمى. اللسان (كمه.

(٧) البرص : داء معروف ، وهو بياض يقع في الجسد ، برص برصا ، والأنثى برصاء. ورجل أبرص ، وحيّة برصا : في جلدها لمع بياض ، وجمع الأبرص برص. اللسان (برص.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٣.

(٩) [آل عمران : ٣٧].

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٣.

(١١) في ب : فيها.

(١٢) الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(١٣) في النسختين : رائها.

(١٤) في ب : الثلاث.

(١٥) كلها لغات قرىء بها ، فقرأ عاصم وابن عامر «إِلى رَبْوَةٍ» فتحا وباقي السبعة «ربوة» ضما وقرأ ابن عباس ونصر عن عاصم بكسرها. وقرأ محمد بن إسحاق «رباوة» بضم الراء وبالألف ، وقرأ زيد بن ـ


قال عطاء عن ابن عباس : هي (١) بيت المقدس ، وهو قول قتادة وأبي العالية وكعب (٢) قال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا (٣).

وقال أبو هريرة : إنها الرّملة (٤). وقال السدي : أرض فلسطين (٥). وقال عبد الله بن سلام : هي دمشق ، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل والضحاك (٦). وقال الكلبي وابن زيد : هي مصر (٧). والقرار : المستقر من أرض مستوية منبسطة (٨). وقال قتادة : ذات ثمار وماء ، أي : لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها (٩). قوله : «ومعين» صفة لموصوف محذوف ، أي : وماء معين. وفيه قولان :

أحدهما : أن ميمه زائدة ، وأصله معيون (١٠). أي : مبصر بالعين فأعلّ إعلال مبيع (١١) وبابه وهو مثل قولهم : كبدته ، أي ضربت كبده ، ورأسته أي : أصبت رأسه ، وعنته أي : أدركته بعيني ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن (١٢).

والثاني : أن الميم أصلية ، ووزنه (فعيل) مشتق من المعن (١٣).

واختلف في المعين ، فقيل : هو الشيء القليل ، ومنه : الماعون (١٤). وقيل : هو من معن الشيء معانة أي : كثر (١٥) ، قال جرير (١٦) :

٣٧٩٩ ـ إنّ الّذين غدوا بلبّك غادروا

وشلا بعينك لا يزال معينا (١٧)

وقال الراغب : هو من معن الماء جرى ، وسمي مجاري الماء معنان ، وأمعن الفرس تباعد في عدوه ، وأمعن بحقّي : ذهب به ، وفلان معن في حاجته (١٨) يعني : سريعا فكلّه راجع إلى معنى الجري والسرعة.

__________________

ـ علي والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي بفتحها وبالألف. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها وبالألف.

السبعة (٤٤٦) المختصر (٩٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٦١ اللسان (ربا) البحر المحيط ٦ / ٤٠٨.

(١) في ب : هو.

(٢) انظر القرطبي ١٢ / ١٢٦.

(٣) المرجع السابق.

(٤) الرملة : مدينة بالشام. اللسان (رمل) ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٤.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٢١ ـ ٢٢.

(٦) انظر القرطبي ١٢ / ١٢٦.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢١ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٤.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٤٩.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٦.

(١١) انظر الممتع ٢ / ٤٥٤ ـ ٤٦٠ ، شرح الشافية ٣ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٩٤.

(١٣) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٦.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٥٦.

(١٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٤.

(١٦) في ب : قال الشاعر.

(١٧) البيت من بحر الكامل قاله جرير ، وهو في ديوانه ١ / ٣٨٦ والكامل ٢ / ٨١٧ ، ومجالس ثعلب ٢ / ٥٩٧ ، اللسان (وشل) والبحر المحيط ٦ / ٣٩٤.

الوشل : الماء القليل ، وقيل : الكثير ، فهو على ذلك من الأضداد ، والوشل من الدمع يكون القليل والكثير ، وبالكثير فسر بعضهم هذا البيت.

(١٨) المفردات في غريب القرآن (٤٧٠).


وفي المعين قولان (١) :

أحدهما : أنّه مفعول ، لأنه لظهوره مدرك بالعين من عانه : إذا أدركه بعينه.

وقال الفراء (٢) والزجاج (٣) : إن شئت جعلته (فعيلا) من الماعون ، ويكون أصله من المعن (٤) والماعون فاعول منه. قال أبو علي : والمعين : السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى ، والماعون ما سهل على معطيه. قالوا : وسبب الإيواء أنها فرّت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة (٥) سنة ، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم (٦).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)(٥٦)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) الآية.

اعلم أنّ هذا خطاب مع (٧) كل الرسل ، وذلك غير ممكن ، لأنّ الرّسل إنّما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة ، فلهذا تأوّلوه على وجوه :

فقيل : معناه الإعلام بأن كلّ رسول نودي في زمانه بهذا المعنى ، ووصي به ، ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ، ووصوا به ، حقيق أن يؤخذ ويعمل عليه.

وقال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة : أراد به محمدا ـ عليه‌السلام (٨) ـ وحّده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة كقولك للواحد : أيّها القوم كفّوا عنّا أذاكم ولأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. وقال ابن جرير (٩) : المراد عيسى ـ عليه‌السلام (١٠) ـ لأنه إنما ذكر بعد ذكره مكانه الجامع للطعام والشراب ، ولأنه روي «أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام كان يأكل من غزل أمه»(١١).

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٤.

(٢) قال الفراء : (وقوله : «ومعين» : الماء الجاري. ولك أن تجعل المعين مفعولا من العيون ، وأن تجعله فعيلا من الماعون ويكون أصله المعن) معاني القرآن ٢ / ٢٣٧.

(٣) قال الزجاج : (و «معين» ماء جار من العيون. وقال بعضهم : يجوز أن يكون فعيلا من المعن مشتقا من الماعون. وهذا بعيد ، لأن المعن في اللغة الشيء القليل ، والماعون هو الزكاة ، وهو فاعل من المعن) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٥.

(٤) في النسختين : المعين.

(٥) في النسختين : اثني عشر.

(٦) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٤.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٥.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) جامع البيان ١٨ / ٢٢.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) انظر جامع البيان ١٨ / ٢٢ ، الدر المنثور ٥ / ١٠.


والأول أقرب ، لأنه أوفق للفظ ، ولأنه روي عن أم عبد الله أخت شدّاد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدح لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم فردّه الرسول إليها وقال : «من أين لك هذا؟» ، فقالت : من شاة لي ، فقال : «من أين هذه الشاة؟» ، فقالت : اشتريتها بمالي ، فأخذه ، ثم إنها جاءته فقالت : يا رسول الله لم رددته؟ فقال ـ عليه‌السلام (١) ـ : «بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلّا طيبا ولا تعمل إلّا صالحا (٢)» (٣).

واختلفوا في الطيّب ، فقيل : هو الحلال. وقيل : هو المستطاب المستلذ من المأكل (٤).

قوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) يجوز أن يكون «صالحا» نعتا لمصدر محذوف أي : واعملوا عملا صالحا من غير نظر إلى ما يعملونه ، كقولهم : يعطي ويمنع. ويجوز أن يكون مفعولا به ، وهو واقع على نفس المعمول. (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وهذا تحذير من مخالفة ما أمرهم به ، وإذا كان تحذيرا للرسل مع علو شأنهم ، فبأن يكون تحذيرا لغيرهم أولى (٥).

قوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) قرأ ابن عامر وحده «وأن هذه» بفتح الهمزة وتخفيف النون. والكوفيون (٦) بكسرها والتثقيل. والباقون بفتحها والتثقيل (٧). فأمّا قراءة ابن عامر فهي المخففة من الثقيلة ، وسيأتي توجيه الفتح في الثقيلة ، فيتضح معنى قراءته.

وأمّا قراءة الكوفيين فعلى الاستئناف (٨).

وأمّا قراءة الباقين (٩) ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها على حذف اللام أي : ولأنّ هذه ، فلمّا حذف حرف الجرّ جرى الخلاف المشهور(١٠) ، وهذه اللام تتعلق ب «اتّقون» (١١). والكلام في الفاء كالكلام في قوله : (إِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(١٢).

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٦ / ٣٤٠ ، وأورده السيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٠.

(٣) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٥.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٥.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٥.

(٦) وهم : عاصم ، وحمزة ، والكسائي.

(٧) السبعة (٤٤٦) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٧) ، الكشف ٢ / ١٢٩ النشر ٢ / ٣٢٨ ، الإتحاف (٣١٩).

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١١ ، البيان ٢ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ٩٥٧.

(٩) وهي بفتح «أنّ» والتثقيل.

(١٠) انظر الكتاب ٣ / ١٢٦ ـ ١٢٩ ، المغني ٢ / ٥٢٥ ـ ٥٢٧ ، الهمع ٢ / ٨١ ، الأشموني ٣ / ٩٢.

(١١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١١ ، البيان ٢ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ٩٥٦.

(١٢) من قوله تعالى : «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» [البقرة : ٤٠].


الثاني : أنها منسوقة على (بِما تَعْمَلُونَ) أي : إنّي عليم بما تعملون وبأنّ هذه ، فهذه (١) داخلة في حيز المعلوم (٢).

الثالث : أنّ في الكلام حذفا تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم (٣).

وتقدّم (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) وما قيل فيها (٤).

فصل

المعنى : وأن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمة واحدة ، أي : ملة واحدة وهي الإسلام(٥). فإن قيل : لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحدا؟

فالجواب : أنّ المراد من الدين ما لا يختلفون من أصول الدين من معرفة ذات الله وصفاته ، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يسمّى اختلافا في الدين ، فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء : إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا هنا (٦).

وقيل : المعنى : أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم ، وأمركم واحد (٧).

(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) فاحذرون ، (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي : تفرقوا فصاروا فرقا يهودا ، ونصارى ، ومجوسا. «زبرا» أي : فرقا وقطعا مختلفة ، واحدها (زبور) ، وهو الفرقة والطائفة ، ومثلها «الزّبرة» وجمعها «زبر» (٨) ومنه (زُبَرَ الْحَدِيدِ)(٩).

وقرأ بعض أهل الشام : «زبرا» بفتح الباء (١٠). وقال مجاهد (١١) وقتادة «زبرا» أي : كتبا ، أي : دان كلّ فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر.

وقيل : جعلوا كتبهم قطعا آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض وحرّفوا البعض (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) بما عندهم من الدين معجبون مسرورون (١٢).

ولما ذكر تفرقهم في دينهم أتبعه بالوعيد وقال : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) وهذا خطاب

__________________

(١) فهذه : سقط من ب.

(٢) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٧ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١١ ، البيان ٢ / ١٨٦ ، التبيان ٢ / ٩٥٦.

(٣) وهو قول الفراء. معاني القرآن ٢ / ٢٣٧ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١١ ، البيان ٢ / ١٨٦ ، التبيان ٢ / ٩٥٦.

(٤) عند قوله تعالى : «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» [الأنبياء : ١٠٥].

(٥) انظر البغوي ٦ / ٢٣.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٦.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢٣.

(٨) زبرة الحديد : القطعة الضخمة منه ، والجمع زبر. اللسان (زبر).

(٩) من قوله تعالى : «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» [الكهف : ٩٦]. انظر البغوي ٦ / ٢٣.

(١٠) وهي قراء الأعمش ، وأبي عمرو بخلاف. تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٦٧ فمن قرأ «زبرا» فتأويله جعلوا دينهم كتبا مختلفة ، جمع زبور. ومن قرأ «زبرا» أراد قطعا. جمع زبرة. معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٦ ، التبيان ٢ / ٩٥٧ ، اللسان (زبر).

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٢٣.

(١٢) آخر ما نقله عن البغوي ٦ / ٢٣.


لنبينا ـ عليه‌السلام (١) ـ ، أي : دع (٢) هؤلاء الكفار في جهلهم (٣).

قوله : (فِي غَمْرَتِهِمْ) مفعول ثان ل «ذرهم» أي : اتركهم مستقرين (فِي غَمْرَتِهِمْ) ويجوز أن يكون ظرفا للترك ، والمفعول الثاني محذوف. والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة ، والمغمر (٤) الماء الذي يغمر الأرض ثم استعير ذلك للجهالة ، فقيل : فلان في غمرة والمادة تدل على الغطاء (٥) والاستتار ومنه الغمر ـ بالضم ـ لمن لم يجرب الأمور ، وغمار الناس وخمارهم زحامهم ، والغمر ـ بالكسر ـ الحقد ، لأنه يغطي القلب ، فالغمرات الشدائد ، والغامر : الذي يلقي نفسه في المهالك (٦). وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة ، فضربت لهم مثلا لما هم فيه من جهلهم وعمايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم (٧) عليه من الباطل كقوله :

٣٨٠٠ ـ كأنّني ضارب في غمرة لعب (٨)(٩)

وقرأ أمير المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن «غمراتهم» بالجمع (١٠) ، لأنّ لكل منهم غمرة تخصه. وقراءة العامة لا تأبى هذا المعنى ، فإنه اسم جنس مضاف (١١).

قوله : (حَتَّى حِينٍ) أي إلى أن يموتوا. وقيل : إلى حين المعاينة. وقيل : إلى حين العذاب (١٢). ولمّا كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أنّ تلك النعم كالثواب المعجل لهم إلى أديانهم ، فبيّن سبحانه أنّ الأمر بخلاف ذلك فقال : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ)(١٣) أي : أن ما نعطيهم ونجعله مددا لهم من المال والبنين في الدنيا ل (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أي : نعجل لهم في الخيرات ، ونقدّمها ثوابا بأعمالهم لمرضاتنا عنهم (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنّ ذلك استدراج لهم (١٤).

قوله : (أَنَّما نُمِدُّهُمْ) في «ما» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها بمعنى الذي ، وهي اسم (أنّ) و (نمدّهم به) صلتها وعائدها محذوف ،

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : ادع. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٦.

(٤) في ب : والغمر.

(٥) في ب : لفظا. وهو تحريف.

(٦) انظر اللسان (غمر).

(٧) هم : تكملة من الكشاف.

(٨) عجز بيت من بحر البسيط قاله ذو الرمة وصدره :

ليالي اللهو يطبيني فأتبعه

وهو في الديوان ١ / ٣٨ ، اللسان (غمر ، طبى) وشرح شواهد الكشاف : (١٣).

طباه يطبوه ويطبيه : إذا دعاه. أي : يدعوني اللهو في ليال كثيرة فأتبعه كأني سابح في لجة من الماء تغمر القامة.

(٩) الكشاف ٣ / ٤٩ ـ ٥٠.

(١٠) البحر المحيط ٦ / ٤٠٩.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٦.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٦.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٢٥.


و (من مال) حال من الموصول أو بيان له ، فيتعلق بمحذوف ، و (نسارع) خبر (أنّ) والعائد من هذه الجملة إلى اسم (أنّ) محذوف تقديره : نسارع لهم به أو فيه (١) إلا أنّ حذف مثله قليل (٢). وقيل : الرابط بين هذه الجملة باسم «أنّ» هو الظاهر الذي قام مقام المضمر من قوله : (فِي الْخَيْراتِ) ، إذ الأصل نسارع لهم فيه ، فأوقع الخيرات موقعه تعظيما وتنبيها على كونه من الخيرات ، وهذا يتمشّى على مذهب الأخفش ، إذ يرى الربط بالأسماء الظاهرة وإن لم يكن بلفظ الأوّل ، فيجيز زيد الذي قام أبو عبد الله ، إذا كان أبو عبد الله كنية زيد (٣) ، وتقدّمت منه أمثلة. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون الخبر (من مال) ، لأنه (إذا) (٤) كان من مال فلا (٥) (يعاب عليهم ذلك ، وإنّما) (٦) يعاب عليهم اعتقادهم أن تلك الأموال خير لهم (٧).

الثاني : أن تكون (ما) مصدرية فينسبك منها ومما بعدها مصدر ، هو اسم (أنّ) ، و «نسارع» هو الخبر ، وعلى هذا فلا بدّ من حذف (أن) (٨) المصدرية قبل «نسارع» ، ليصح الإخبار ، تقديره : أن نسارع. فلمّا حذفت (أن) ارتفع المضارع بعدها ، والتقدير : أيحسبون أن إمدادنا لهم من كذا مسارعة منّا لهم في الخيرات (٩).

الثالث : أنها مهيئة كافة ، وبه قال الكسائي (١٠) في هذه الآية ، وحينئذ (١١) يوقف على (وبنين) ، لأنّه قد حصل بعد فعل الحسبان نسبة من مسند ومسند إليه نحو : حسبت إنّما ينطلق عمرو وإنّما تقوم أنت (١٢). وقرأ يحيى بن وثاب : «إنّما» بكسر الهمزة (١٣) على الاستئناف ، ويكون حذف مفعول الحسبان اقتصارا واختصارا. وابن كثير في رواية «يمدّهم» بالياء (١٤) ، وهو الله تعالى ، وقياسه أن يقرأ «يسارع» أيضا. وقرأ السلمي وابن أبي بكرة (١٥) «يسارع» بالياء وكسر الراء (١٦) ، وفي فاعله وجهان:

أحدهما : الباري تعالى.

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٢ ، البيان ٢ / ١٨٦ ، التبيان ٢ / ٩٥٧.

(٢) لأن حذف العائد من الجملة إذا كانت خبرا للمبتدأ يجوز في الشعر بلا وصف ضعف ، وهو في غيره ضعيف. انظر شرح الكافية ١ / ٩٢.

(٣) انظر شرح الكافية ١ / ٩٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٩.

(٤) إذا : تكملة من التبيان.

(٥) في ب : فلان. وهو تحريف.

(٦) ما بين القوسين تكملة من التبيان.

(٧) التبيان ٢ / ٩٥٧.

(٨) أن : سقط من الأصل.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٩.

(١٠) انظر القرطبي ١٢ / ١٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٩.

(١١) في ب : وح.

(١٢) انظر القرطبي ١٢ / ١٣١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠٩ ـ ٤١٠.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٩.

(١٤) المرجع السابق.

(١٥) هو عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي ، أول مولود بالبصرة ، روى عن أبيه ، وروى عنه ابن سيرين وابن عون وجماعة ، توفي بعد الثمانين. خلاصة تهذيب تذهيب الكمال ٢ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(١٦) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٠.


والثاني : ضمير (ما) الموصولة إن جعلناها بمعنى (الذي) ، أو على المصدر إن جعلناها مصدرية ، وحينئذ يكو ن «يسارع لهم» الخبر. فعلى الأوّل يحتاج إلى تقدير عائد أي : يسارع الله لهم به أو فيه وعلى الثاني لا يحتاج إذ الفاعل ضمير (ما) الموصولة (١).

وعن (ابن) (٢) أبي بكرة المتقدم أيضا «يسارع» بالياء مبنيا للمفعول (٣) و (فِي الْخَيْراتِ) هو القائم مقام الفاعل ، والجملة خبر (أنّ) والعائد محذوف على ما تقدّم (٤).

وقرأ الحسن : «نسرع» بالنون (٥) من أسرع ، وهي ك «نسارع» فيما تقدم. و (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) إضراب عن الحسبان المستفهم عنه استفهام تقريع ، وهو إضراب انتقال (٦) ، والمعنى : أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكروا في ذلك الإمداد ، أهو (٧) استدراج أم مسارعة في الخير (٨) روى(٩) يزيد (١٠) بن ميسرة (١١) قال : أوحى الله ـ تعالى ـ إلى نبيّ من الأنبياء : «أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا وهو أبعد له منّي ، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهي أقرب له منّي» ثم تلا (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ)(١٢).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ)(٦١)

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) الآيات لمّا ذمّ من تقدّم (١٣) بقوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ) ثم (١٤) قال : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ، بيّن بعده صفات من يسارع في الخيرات ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) ، والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف. وقيل : جمع بينهما للتأكيد. ومنهم من حمل الخشية على العذاب ،

__________________

(١) انظر المحتسب ٢ / ٩٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٠.

(٢) ابن : تكملة من البحر المحيط.

(٣) المحتسب ٢ / ٩٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٠.

(٤) انظر المحتسب ٢ / ٩٥.

(٥) المحتسب ٢ / ٩٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٠.

(٦) ذلك أن (بل) حرف إضراب ، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إمّا الإبطال نحو «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ»[الأنبياء : ٢٦]. أي : بل هم عباد. وإما الانتقال من غرض إلى آخر ، كما هنا. المغني ١ / ١١٢.

(٧) في ب : هو. وهو تحريف.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٥٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٠.

(٩) في ب : وروى.

(١٠) في ب : زيد.

(١١) لم أقف له على ترجمة فيما رجعت إليه من مراجع.

(١٢) أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن ميسرة قال : أجد فيما أنزل الله على موسى ... الدر المنثور ٥ / ١١.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٧.

(١٤) ثم : سقط من الأصل.


والمعنى : إن الذين هم من عذاب ربهم مشفقون أي : خائفون من عقابه (١).

قوله : (مِنْ خَشْيَةِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنها لبيان الجنس. قال ابن عطية : هي لبيان جنس الإشفاق (٢).

قال شهاب الدين : وهي عبارة (٣) قلقة (٤).

والثاني : أنها متعلقة ب «مشفقون». قاله الحوفي (٥) ، وهو واضح.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون ، وآيات الله هي المخلوقات الدالة على وجوده (٦). (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله ـ تعالى ـ ، لأن ذلك داخل في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ ، وهو أن يكون مخلصا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه (٧).

قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) العامة على أنه من الإيتاء ، أي : يعطون ما أعطوا (٨).

وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعمش : «يأتون ما أتوا» (٩) من الإتيان ، أي : يفعلون ما فعلوا من الطاعات (١٠). واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على «أتوا» فقط (١١) ، وليس بجيّد ، لأنّه يوهم أن من قرأ «أتوا» بالقصر قرأ «يؤتون» من الرباعي وليس كذلك.

قوله : (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هذه الجملة حال من فاعل «يؤتون» ، فالواو للحال ، والمعنى : يعطون ما أعطوه ، ويدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان من حقوق الله كالزكوات ، والكفارات وغيرها (١٢). أو من حقوق الآدميين ، كالودائع ، والديون وأصناف الإنصاف والعدل. وبيّن أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) ، أي : إنهم يقدمون على العبادة على وجل (١٣) من تقصير وإخلال بنقصان (١٤).

روي أن عائشة سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)

__________________

(١) وهو قول الكلبي ومقاتل. آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٧.

(٢) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٦٩.

(٣) في ب : عبادة. وهو تحريف.

(٤) الدر المصون : ٥ / ٩٠.

(٥) البرهان ٦ / ١٥٧.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٧.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٨.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٠.

(٩) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٥ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧١ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٠.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤١٠.

(١١) قال أبو البقاء : (ويقرأ : «أتوا» بالقصر ، أي : ما جاؤوه) التبيان ٢ / ٩٥٧.

(١٢) في ب : أو غيرها.

(١٣) في ب : وجه. وهو تحريف.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٨.


أهو الذي يزني ، ويشرب الخمر ، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله؟ فقال عليه‌السلام (١) : «لا يا بنت الصديق ، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو على ذلك يخاف الله» (٢) قوله : «أنّهم» يجوز أن يكون التقدير : وجلة من أنّهم (٣) أي : خائفة من رجوعهم إلى ربّهم. ويجوز أن يكون : لأنهم (٤) أي : سبب الوجل الرجوع إلى ربهم.

قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ) هذه الجملة خبر (إِنَّ الَّذِينَ)(٥) ، وقرأ الأعمش : «إنّهم» بالكسر (٦) ، على الاستئناف ، فالوقف على «وجلة» تام أو كاف (٧).

وقرأ الحسن : «يسرعون» (٨) من أسرع. قال الزجاج : يسارعون أبلغ (٩). يعني : من حيث إن المفاعلة تدل على قوة الفعل لأجل المبالغة (١٠).

قوله : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) في الضمير في «لها» أوجه :

أظهرها : أنه يعود على الخيرات لتقدمها في اللفظ (١١).

وقيل : يعود على الجنة (١٢). وقال ابن عباس : إلى السعادة (١٣). وقال الكلبي : سبقوا الأمم إلى (١٤) الخيرات (١٥). والظاهر أن «سابقون» هو الخبر ، و «لها» متعلق به

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه الترمذي (التفسير) ٥ / ٩ ، والإمام أحمد في مسنده ٦ / ١٥٩ ، ٢٠٥ ، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥ / ١١.

(٣) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٤ ، التبيان ٢ / ٩٥٨.

(٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٠.

(٥) من قوله : «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ». انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٢ ، البيان ٢ / ١٨٦ ـ ١٨٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(٦) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(٧) الوقف : هو السكوت على آخر الكلمة اختيارا لتمام الكلام ، فإن تمّ الكلام ولم يكن له تعلق بما بعده لا من جهة اللفظ ، ولا من جهة المعنى ، فهو الوقف التام لتمامه المطلق ، فيوقف عليه ، ويبدأ بما بعده ، وأكثر ما يكون التام في الرؤوس الآي وانقضاء القصص وقد يكون في وسط الآية. وإن كان له تعلق بما بعده من جهة المعنى فقط فهو الوقف الكافي ، للاكتفاء به عما بعده ، واستغناء ما بعده عنه ، وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده ، وهو يكثر في الفواصل وغيرها. انظر النشر ١ / ٢٢٤.

(٨) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(٩) قال الزجاج : (وجائز يسرعون في الخيرات ، ومعناه معنى يسارعون. يقال : أسرعت وسارعت في معنى واحد إلا أن سارعت أبلغ من أسرعت) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٧.

(١٠) ذلك أن المفاعلة تكون من اثنين ، فتقتضي حث النفس على السبق ؛ لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه. البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٢٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٤.

(١٤) في ب : في.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ٢٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤١١.


قدّم للفاصلة وللاختصاص. واللام ، قيل : بمعنى (إلى) ، يقال : سبقت له ، وإليه ، بمعنى ومفعول «سابقون» محذوف ، تقديره : سابقون الناس إليها (١). وقيل : اللام للتعليل ، أي : سابقون الناس لأجلها (٢). وتكون هذه الجملة مؤكدة للجملة قبلها ، وهي (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ، ولأنها تفيد معنى آخر وهو الثبوت والاستقرار بعدما دلّت الأولى على التجدد (٣).

وقال الزمخشري : أي : فاعلون السّبق لأجلها ، أو سابقون الناس لأجلها (٤) قال أبو حيان : وهذان القولان عندي واحد (٥). قال شهاب الدين : ليسا بواحد (٦) إذ مراده بالتقدير الأول : أن لا يقدر السبق مفعول ألبتة ، وإنّما الغرض الإعلام بوقوع السبق منهم من غير نظر إلى من سبقوه كقوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ)(٧) ، و (كُلُوا وَاشْرَبُوا)(٨) ، و «يعطي ويمنع» وغرضه في الثاني تقدير مفعول حذف للدلالة ، واللام للعلة في التقديرين (٩) وقال الزمخشري أيضا : أو (١٠) : إيّاها سابقون. أي : ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا (١١). قال شهاب الدين : يعني أن «لها» هو المفعول ب (١٢) «سابقون» ، وتكون اللام قد زيدت في المفعول ، وحسن زيادتها شيئان كل منهما لو انفرد لاقتضى الجواز ، كون العامل فرعا ، وكونه مقدّما عليه معموله (١٣). قال أبو حيان : ولا يدل لفظ (لَها سابِقُونَ) على هذا التفسير ، لأنّ سبق الشيء الشيء يدل على تقديم السابق على المسبوق ، فكيف يقول : وهم يسبقون الخيرات ، هذا لا يصح (١٤). قال شهاب الدين : ولا أدري عدم الصحة من أي جهة ، وكأنّه تخيّل أنّ السابق يتقدم على المسبوق (١٥) فكيف يتلاقيان؟ لكنّه كان ينبغي أن يقول : فكيف يقول : وهم ينالون الخيرات ، وهم لا يجامعونها ، لتقدمهم عليها إلّا أن يكون قد سبقه القلم فكتب بدل (١٦) (وهم ينالون) (وهم يسبقون) وعلى كل

__________________

(١) معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٨ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٧ البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(٢) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٨ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٧ التبيان ٢ / ٩٥٨ البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٠.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(٦) في ب : يسابق أحد. وهو تحريف.

(٧) [البقرة : ٢٥٨] ، وغير ذلك في مواطن كثيرة من القرآن الكريم. انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ص (٢٢٣).

(٨) [البقرة : ١٨٧] ، [الأعراف : ٣١].

(٩) الدر المصون : ٥ / ٩١.

(١٠) في الأصل : و.

(١١) الكشاف ٣ / ٥٠.

(١٢) ب : سقط من ب.

(١٣) الدر المصون ٥ / ٩١.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٤١١.

(١٥) في الأصل بعد قوله : المسبوق. تكرير لكلام سابق وهو : فكيف يقول وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح. قال شهاب الدين : ولا أدري عدم الصحة من أي جهة وكأنه تخيل أن السابق يتقدم على المسبوق.

(١٦) بدل : سقط من ب.


تقدير فأين عدم الصحة (١)؟ وقال الزمخشري أيضا : ويجوز أن يكون (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) خبرا بعد خبر ومعنى (وَهُمْ لَها) كمعنى قوله :

٣٨٠١ ـ أنت لها أحمد من بين البشر (٢)

يعني : أن هذا الوصف الذي وصف به الصالحين غير خارج من حد الوسع والطاقة (٣).

فتحصل في اللام ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها بمعنى (إلى).

الثاني : أنها للتعليل على بابها.

والثالث : أنها مزيدة. وفي خبر المبتدأ قولان :

أحدهما : أنه «سابقون» وهو الظاهر.

والثاني : أنه الجار كقوله.

٣٨٠٢ ـ أنت لها أحمد من بين البشر (٤)

وهذا قد رجّحه الطبري (٥) ، وهو مروي عن ابن عباس (٦).

قوله تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ)(٦٥)

قوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الآية ، لمّا ذكر كيفيّة (٧) أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين (٨) من أحكام أعمال العبادة :

الأوّل : قوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قال المفضّل (٩) : الوسع الطاقة.

وقال مقاتل ، والضحّاك ، والكلبي ، والمعتزلة : هو دون الطاقة ، لأن الوسع إنما

__________________

(١) الدر المصون : ٥ / ٩١.

(٢) عجز بيت من بحر المتقارب لم أهتد إلى قائله وصدره : قصيد رائقة صوغتها. وهو في الكشاف ٣ / ٥٠ ، شرح شواهده (٥٨) رائقة : خالية من الحشو والتعقيد. صوغتها : بالتشديد للمبالغة ، أنت لها : أي : أهل لها وكفؤ. و (أنت) مبتدأ و (لها) خبر ، وأحمد : منادى ، ومن بين البشر : متعلق بمحذوف حال ، أي : منتخبا من بينهم ويجوز أن يكون أحمد أفعل تفضيل.

(٣) الكشاف ٣ / ٥٠.

(٤) تقدم الحديث عنه قريبا.

(٥) جامع البيان ١٨ / ٢٧.

(٦) أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله «أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» قال : سبقت لهم السعادة من الله. الدر المنثور ٥ / ١٢.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٩.

(٨) في ب : حكمهن. وهو تحريف.

(٩) في ب : الفضل.


سمي وسعا ، لأنه يتسع عليه فعله ، ولا يصعب ولا يضيق ، فبيّن أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا. قال مقاتل : من لم يستطع القيام فليصلّ قاعدا ، ومن لم يستطع الجلوس فليومىء إيماء ، ومن لم يستطع الصوم فليفطر (١).

قوله : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) «ينطق» صفة ل «كتاب» و «بالحقّ» يجوز أن يتعلق ب «ينطق» ، وأن يتعلق بمحذوف حالا من فاعله. أي : ينطق ملتبسا بالحق ، ونطيره (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ)(٢). فشبّه الكتاب (٣) بمن يصدر عنه البيان ، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان محقّا. فإن قيل : هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب ، إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله ، أو مجوزين ذلك عليه ، فإن أحالوه عليه ، فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد ، وإن جوزوه عليه لم يحصل لهم بذلك الكتاب يقين ، لتجويزهم أنه ـ سبحانه ـ كتب فيه خلاف ما حصل ، وعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب. فالجواب : يفعل الله ما يشاء ، وعلى أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة (٤).

قوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقص من حسناتهم ، ولا يزاد على سيئاتهم ونظيره : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(٥).

قالت المعتزلة (٦) : الظلم إمّا أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب ، أو بأن يعذب على ما لم يعمل أو بأن يكلفهم (ما لا يطيقون) (٧) فتكون الآية دالة على كون العبد موجدا لفعله ، وإلا لكان تعذيبه عليه ظلما ، ويدلّ على أنه ـ سبحانه ـ لا يكلف ما لا يطاق.

وأجيب بأنه لمّا كلف أبا لهب أن يؤمن (والإيمان يقتضي تصديق الله في كل ما أخبر به ، ومما أخبر أنّ أبا لهب لا يؤمن) (٨) فقد كلّفه (بأن يؤمن) (٩) بأن لا يؤمن فيلزمكم (كل ما ذكرتموه (١٠))(١١).

قوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي : في غفلة وجهالة ، يعني الكفار (١٢) في غفلة. (مِنْ هذا) أي : القرآن ، أي (١٣) من هذا الذي بيّناه في القرآن ، أو من الكتاب الذي ينطق بالحق

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٩.

(٢) [الجاثية : ٢٩].

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٥) [الكهف : ٤٩].

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٠.

(٧) ما لا يطيقون : تكملة من الفخر الرازي.

(٨) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٠.

(١١) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٠.

(١٣) في ب : أو.


أو من هذا الذي هو وصف المشفقين. «ولهم» أي : ولهؤلاء الكفار (أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي : أعمال خبيثة من المعاصي «دون (١) ذلك» أي : سوى جهلهم وكفرهم.

وقيل : «دون ذلك» يعني : من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله ـ عزوجل (٢) ـ قال بعضهم: أراد أعمالهم في الحال. وقيل : بل أراد المستقبل لقوله : (هُمْ لَها عامِلُونَ).

وإنما قال : (هُمْ لَها عامِلُونَ) ، لأنها مثبتة في علم الله ـ تعالى ـ وفي اللوح المحفوظ ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة. وقال (٣) أبو مسلم : هذه الآيات من صفات المشفين كأنه قال بعد وصفهم : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يحفظ أعمالهم (يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) (فَلاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) هو أيضا وصف لهم بالحيرة كأنه قال : وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أن أعمالهم مقبولة أو مردودة (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي : لهم أيضا من النوافل ووجوه البرّ سوى ما هم عليه إمّا أعمالا قد عملوها في الماضي ، أو سيعملوها في المستقبل ، ثم إنه تعالى رجع بقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) إلى وصف الكفار (٤) وهذا قول قتادة.

قال ابن الخطيب : وقول أبي مسلم أولى ، لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به كان أولى من ردّه إلى ما بعد خصوصا ، وقد يرغب المرء في فعل الخير (٥) بأن يذكر أنّ أعمالهم محفوظة ، كما يحذر بذلك من الشر ، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ، ويراد أنّه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو ردّه ، وفي أنه هل أدّى عمله كما يجب أو قصّر؟

فإن قيل : فما المراد بقوله : «من هذا» وهو إشارة إلى ماذا؟

قلنا : إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بيّن أنهما مستوليان على قلوبهم (٦).

قوله : (هُمْ لَها عامِلُونَ) كقوله : (هُمْ لَها سابِقُونَ).

قوله : (حَتَّى إِذا) «حتّى» (٧) هذه إمّا حرف ابتداء (٨) والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها ، وإذا الثانية (٩) فجائية ، وهي جواب الشرط ، وإمّا حرف جر عند بعضهم (١٠) ، وتقدّم تحقيقه. وقال الحوفي : «حتّى» غاية ، وهي عاطفة ، و «إذا» ظرف مضاف لما بعده فيه معنى الشرط ، و «إذا» الثانية في موضع جواب الأولى ، ومعنى الكلام عامل في

__________________

(١) في ب : من دون.

(٢) في ب : تعالى.

(٣) في الأصل : قال.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٠.

(٥) في الأصل : الغير. وهو تحريف.

(٦) الفخر الرازي ٢٣ / ١١٠.

(٧) حتى : سقط من ب.

(٨) وهو رأي الجمهور. المغني ١ / ١٢٩.

(٩) في ب : التامة. وهو تحريف.

(١٠) وهو رأي الأخفش وابن مالك. المغني ١ / ١٢٩.


«إذا» ، والمعنى : جأروا ، والعامل في الثانية «أخذنا» (١). وهو كلام لا يظهر (٢).

وقال ابن عطية : و «حتى» حرف ابتداء لا غير ، و «إذا» (٣) الثانية ـ (التي هي جواب) (٤) ـ تمنعان من أن تكون «حتى» غاية ل «عاملون» (٥). قال شهاب الدين : يعني أن الجملة الشرطية وجوابها لا يظهر أن تكون غاية ل «عاملون» (٦).

وظاهر كلام مكي أنها غاية ل «عاملون» ، فإنه قال : أي : لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر (هُمْ لَها عامِلُونَ) إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم إذا هم يضجون (٧). والجؤار : الصراخ مطلقا (٨) ، وأنشد الجوهري (٩) :

٣٨٠٣ ـ يراوح(١٠)من صلوات الملي

ك طورا (١١) سجودا وطورا جؤارا (١٢)

وتقدم مستوفى في النحل (١٣).

فصل

قال الزمخشري : «حتى» هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام الجملة الشرطية (١٤).

واعلم أن الضمير في «مترفيهم» راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار ، لأن العذاب لا يليق إلا بهم (١٥). والمراد بالمترفين : رؤساؤهم. قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر (١٦).

وقال الضحاك : يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (١٧) فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف (١٨). وقيل : أراد عذاب الآخرة (١٩). ثم بين تعالى أنهم إذا نزل

__________________

(١) البرهان ٦ / ١٦١.

(٢) وبمثل هذا رده أبو حيان. انظر البحر المحيط ٦ / ٤١٢.

(٣) في ب : وإذ. وهو تحريف.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٧.

(٦) الدر المصون ٥ / ٩١.

(٧) البحر المحيط ٦ / ٤١٢.

(٨) انظر اللسان (جأر).

(٩) الصحاح (جأر).

(١٠) في النسختين : يرواح.

(١١) في النسختين : وطورا.

(١٢) البيت من بحر المتقارب ، من قصيدة للأعشى يمدح فيها قيس بن معديكرب. وقد تقدم.

(١٣) عند قوله تعالى : «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ» [النحل : ٥٣].

(١٤) الكشاف ٣ / ٥٠.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١١.

(١٦) انظر البغوي ٦ / ٢٧ ، القرطبي ١٢ / ١٣٥.

(١٧) أخرجه البخاري (الأذان) ١ / ١٤٥ ومسلم (مساجد) ١ / ٤٦٦ ـ ٤٦٧ ، أبو داود (الوتر) ٢ / ١٤٢ ، النسائي (الافتتاح) ٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(١٨) انظر البغوي ٦ / ٢٧ ، القرطبي ١٢ / ١٣٥.

(١٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١١ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٢.


بهم هذا «يجأرون» أي : ترتفع أصواتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة ما نالهم.

ويقال لهم على وجه التبكيت : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ).

لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم (١).

قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٧٢)

قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) وهذا مثل يضرب لمن يتباعد عن الحق كل التباعد فهو قوله (٢) : (فَكُنْتُمْ (٣) عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي : ترجعون قهقرى وتتأخرون عن الإيمان ، وينفرون عن تلك الآيات ، وعن من يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه (٤).

قوله : (عَلى أَعْقابِكُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «تنكصون» كقولك نكص على عقبيه.

والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، لأنه حال من فاعل (تنكصون) قاله أبو البقاء (٥) وقرأ أمير المؤمنين «تنكصون» بضم العين (٦) ، وهي لغة (٧).

قوله : «مستكبرين» حال من فاعل «تنكصون» (٨) ، و «به» فيه قولان :

أحدهما : أنه متعلق ب «مستكبرين» (٩).

والثاني : أنه متعلق ب «سامرا» (١٠).

وعلى الأول فالضمير للقرآن (١١) ، لأنهم كانوا يجتمعون (١٢) حول البيت بالليل

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١١.

(٢) في النسختين : كقوله.

(٣) في النسختين : وكنتم.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١١.

(٥) قال أبو البقاء : (قوله تعالى : «عَلى أَعْقابِكُمْ» هو حال من الفاعل في «تنكصون») التبيان ٢ / ٩٥٨.

(٦) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٢.

(٧) في اللسان (نكص) : قال أبو منصور : نكص ينكص وينكص.

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٢ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٧٩ ، البيان ٢ / ١٨٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٨.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٥١ ، التبيان ٢ / ٩٥٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(١٠) المراجع السابقة ، والبيان ٢ / ١٨٧.

(١١) في ب : القرآن.

(١٢) في ب : يجمعون.


يسمرون (١) ، وكان عامة سمرهم (٢) ذكر القرآن ، وتسميته سحرا وشعائرا. أو للبيت شرفه الله ـ تعالى ـ كانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم ، كانوا يفتخرون به ، لأنهم ولا ته ، والقائمون به. قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل الضمير في «به» للرسول ـ عليه‌السلام (٣) ـ. أو للنكوص المدلول عليه ب «تنكصون» كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٤). والباء في هذا كله للسببية ، لأنهم استكبروا بسبب القرآن لما تلي عليهم وبسبب البيت لأنهم كانوا يقولون نحن ولا ته ، وبالرسول لأنهم كانوا يقولون هو منا دون غيرنا وبالنكوص لأنه سبب الاستكبار (٥). وقيل : ضمن الاستكبار معنى التكذيب فلذلك عدي بالباء (٦) ، وهذا (٧) يتأتى على أن يكون الضمير للقرآن وللرسول.

وأما على الثاني وهو تعلقه ب «سامرا» فيجوز أن يكون الضمير عائدا على ما عاد عليه فيما تقدم إلا النكوص ، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وبالرسول يجعلونهما حديثا لهم يخوضون في ذلك كما يسمر بالأحاديث وكانوا يسمرون في البيت فالباء ظرفية على هذا (٨) و «سامرا» نصب على الحال (٩) إما من فاعل «تنكصون» وإما من الضمير في (مستكبرين).

وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حياة ويروى عن أبي عمرو : «سامرا» بضم الفاء وفتح العين مشددة (١٠). وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضا «سمارا» كذلك إلا أنه بزيادة ألف بين الميم والراء (١١) ، وكلاهما جمع لسامر ، وهما جمعان مقيسان لفاعل الصفة (١٢) نحو ضرب وضراب في ضارب ، والأفصح الإفراد ، لأنه يقع على ما فوق الواحد بلفظ الإفراد يقال : قوم سامر (١٣) ونظيره : (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً)(١٤).

__________________

(١) في الأصل : يسمروا ، وفي ب : يسحرون.

(٢) في ب : سحرهم.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) للتقوى : سقط من الأصل. [المائدة : ٨].

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٥٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٢ ـ ٤١٣.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٥١ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٢.

(٧) في الأصل : ولهذا.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٥٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٢ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣١٨ ، البيان ٢ / ١٨٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٨.

(١٠) المحتسب ٢ / ٩٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(١١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(١٢) وذلك أن (فعل) و (فعال) من أمثلة جموع الكثرة ، ويطردان في كل وصف على (فاعل) صحيح اللام نحو ضارب وصائم ، تقول في جمعهما ضرب وضراب ، وصوم وصوام. شرح الأشموني ٤ / ١٣٣.

(١٣) قال ابن جني عند توجيهه قراءة (سامرا) : السمر : جمع سامر ، والسامر : القوم يسمرون ، أي : يتحدثون ليلا ، وروينا عن قطرب أن السامر قد يكون واحدا وجماعة. المحتسب ٢ / ٩٦ ، وفي اللسان (سمر) : والسامر اسم للجمع كالجامل ، قال الأزهري : وقد جاءت حروف على لفظ فاعل ، وهي جمع عن العرب ، فمنها الجامل والسامر والباقر والحاضر والجامل للإبل ، ويكون فيها الذكور والإناث ، والسامر : الجماعة من الحي يسمرون ليلا ، والحاضر : الحمي النزول على الماء والباقر : البقر فيها الفحول والإناث.

(١٤) [الحج : ٥]. والتنظير بالآية على أن «طفلا» واحد في معنى الجمع التبيان ٢ / ٩٣٣.


والسامر مأخوذ من السمر ، وهو سهر (١) الليل أو مأخوذ من السمر : وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر ، فيجلسون إليه يتحدثون مستأنسين (٢) به قال :

٣٨٠٤ ـ كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر (٣)

وقال الراغب : السامر : الليل المظلم (٤) يقال (٥) : ولا آتيك ما سمر ابنا سمير (٦) يعنون الليل والنهار. وقال الراغب : ويقال : سامر ، وسمار ، وسمرة ، وسامرون. وسمرت الشيء ، وإبل (٧) مسمرة ، أي : مهملة ، والسامري : منسوب إلى رجل (٨) انتهى.

والسمرة أحد الألوان (٩) ، والسامراء يكنى بها عن الحنطة (١٠).

قوله : «تهجرون» قرأ العامة بفتح التاء وضم الجيم (١١) ، وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أنها من الهجر بسكون الجيم (١٢) ، وهو القطع والصد. أي تهجرون آيات الله ورسوله ، وتزهدون فيهما فلا تصلونهما (١٣).

والثاني : أنها من الهجر ـ بفتحها ـ وهو الهذيان ، يقال : هجر المريض هجرا أي : هذى فلا مفعول له (١٤). ونافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم (١٥) من أهجر إهجارا ، أي : أفحش في منطقه (١٦) قال ابن عباس : يعني كانوا يسبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) في ب : سمر.

(٢) في ب : مستأنين. وهو تحريف.

(٣) البيت من بحر الطويل قاله عمرو بن الحارث بن المضاض بن عمرو يتأسف على البيت ، وقيل : هو للحارث الجرهمي ، كما في اللسان. وهو في اللسان (حجن). الحجون : موضع بمكة ، ناحية من البيت ، وقيل : جبل بمكة وهي مقبرة. والاستشهاد بالبيت أن (سامر) يطلق على غير الواحد بلفظ المفرد فالسامر : الجماعة الذين يتحدثون بالليل.

(٤) المفردات في غريب القرآن (٢٤٢).

(٥) في الأصل : قال.

(٦) السمير : الدهر ، وابنا سمير : الليل والنهار. المفردات في غريب القرآن (٢٤٢).

(٧) في الأصل : وابله.

(٨) المفردات في غريب القرآن (٢٤٢).

(٩) السمرة : منزلة بين البياض والسواد ، يكون ذلك في ألوان الناس والإبل ، وغير ذلك مما يقبلها إلا أن الأدمة في الإبل أكثر. اللسان (سمر).

(١٠) اللسان (سمر).

(١١) وهي غير قراءة نافع. السبعة (٤٤٦). الحجة لا بن خالويه (٢٥٨) الكشف ٢ / ١٢٩ ، النشر ٢ / ٣٢٩.

الإتحاف ٣١٩.

(١٢) في ب : الميم. وهو تحريف.

(١٣) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٣ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨١ ، البيان ٢ / ١٨٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٨.

(١٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨١ ، البيان ٢ / ١٨٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٨.

(١٥) السبعة (٤٤٦) ، الحجة لا بن خالويه (٢٥٨) ، المحتسب ٢ / ٩٦ ، الكشف ٢ / ١٢٩ ، النشر ٢ / ٣٢٩ ، الإتحاف ٣١٩.

(١٦) الكشف ٢ / ١٢٩ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٣ ، البيان ٢ / ١٨٧ ، التبيان ٢ / ٩٥٩.


وأصحابه (١) وقرأ زيد بن علي ، وابن محيصن ، وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة (٢) مضارع هجر بالتشديد ، وهو محتمل لأن يكون تضعيفا للهجر أو للهجر (أو للهجر (٣)) (٤) وقرأ ابن أبي عاصم كالعامة إلا أنه بالياء من تحت ، وهو التفات (٥).

قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي : يتدبروا القول ، يعني ما جاءهم من القول وهو القرآن من حيث إنه كان مباينا لكلام العرب في الفصاحة ، ومبرأ من التناقض مع طوله ، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعرفة الصانع ، والوحدانية ، فيتركوا الباطل (٦) ، ويرجعوا إلى الحق (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) واعلم أن إقدامهم (٧) على كفرهم وجهلهم لا بد وأن يكون لأحد أمور أربعة :

الأول : أن لا يتأملوا دليل ثبوته ، وهو المراد من قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) وهو القرآن يعني : أنه كان معروفا لهم.

والثاني : أن يعتقدوا أن مجيء الرسول على خلاف العادة ، وهو المراد من قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ) وذلك أنهم عرفوا بالتواتر مجيء الرسول إلى الأمم السالفة ، وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك ، أفما دعائهم (٨) ذلك إلى تصديق الرسل.

وقال بعضهم : «أم» هاهنا بمعنى «بل» والمعنى بل جاءهم ما لم يأت آباءهم (٩).

والثالث : أن لا يكونوا عالمين بديانته ، وحسن خصاله قبله ادعائه النبوة ، وهو المراد من قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) والمعنى : أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يدعي الرسالة ، وكونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار عن الكذب والأخلاق الذميمة ، وكانوا يسمونه الأمين ، فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين.

والرابع : أن يعتقدوا فيه الجنون ، فيقولوا إنما حمله على ادعاء الرسالة جنونه ، وهو المراد بقوله (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ). وهذا أيضا ظاهر الفساد ، لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعقل الناس ، فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة ، والشرائع الكاملة.

وفي كونهم سموه بذلك وجهان :

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨١.

(٢) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨١ ـ ٣٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(٣) المحتسب ٢ / ٩٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٤١٣.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.

(٨) في ب : دعاوهم.

(٩) انظر القرطبي ١٢ / ١٣٩.


أحدهما : أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له ، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم ، فنسبوه إلى الجنون لذلك.

والثاني : أنهم قالوا ذلك إيهاما لعوامهم لئلا ينقادوا له ، فذكروا ذلك استحقارا له (١).

ثم إنه ـ تعالى ـ بعد أن عد هذه الوجوه ، ونبه على فسادها قال : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أي: بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنهم تمسكوا بالتقليد ، وعلموا أنهم لو أقروا بمحمد لزالت رياستهم ومناصبهم ، فلذلك كرهواه (٢).

فإن قيل (٣) قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) يدل على أن أقلهم لا يكرهون الحق.

فالجواب : أنه كان منهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه ، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق (٤).

قوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الجمهور على كسر الوا ولا لتقاء الساكنين وابن وثاب بضمها (٥) تشبيها بواو الضمير كما كسرت واو الضمير تشبيها بها (٦).

فصل

قال ابن جريج ومقاتل والسدي وجماعة : الحق هو الله. أي : لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل (٧) وقيل : لو اتبع مرادهم ، فيسمي لنفسه شريكا وولدا كما يقولون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)(٨).

وقال الفراء (٩) والزجاج (١٠) : المراد بالحق : القرآن. أي : نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) وهو كقوله : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (١١) (١٢).

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.

(٣) في ب : قول. وهو تحريف.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٥) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٦) في قوله تعالى : «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ» [البقرة : ١٦] على أن بعضهم قد شبه واو الجمع في «اشتروا» بواو «لَوِ اتَّبَعَ» هذه وحركها بالكسر ، فقرأ يحيى بن يعمر «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ» * بكسر الواو. انظر المختصر (٢) ، المحتسب ٢ / ٩٧.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٣٠.

(٨) المرجع السابق.

(٩) قال الفراء : (وقوله : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» يقال : إن «الحق» هو الله. ويقال : إنه التنزيل ، لو نزل بما يريدون «لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ») معاني القرآن ٢ / ٢٣٩.

(١٠) قال الزجاج : (وقوله : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» جاء في التفسير أن «الحق» هو الله ـ عزوجل ـ ويجوز أن يكون «الحق» الأول في قوله : «بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» التنزيل ، أي : بالتنزيل الذي هو الحق ، ويكون تأويل : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» أي : لو كان التنزيل بما يحبون لفسدت السموات والأرض) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٩.

(١١) [الأنبياء : ٢٢].

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٣٠ ـ ٣١.


قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) العامة على إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه ، والمراد أتتهم رسلنا (١). وقرأ أبو عمرو في روآية «آتيناهم» بالمد أي أعطيناهم (٢) ، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني غير مذكور ، ويحتمل أن يكون «بذكرهم» والباء مزيدة فيه وابن أبي إسحاق وعيسى ابن عمر وأبو عمرو أيضا «أتيتهم» بتاء المتكلم وحده (٣).

وأبو البرهثم وأبو حياة والجحدري وأبو رجاء «أتيتهم» بتاء الخطاب (٤) ، وهو الرسول ـ عليه‌السلام (٥) ـ.

وعيسى : «بذكراهم» بألف التأنيث (٦). وقتادة «نذكرهم» بنون المتكلم المعظم نفسه مكان باء الجر مضارع (ذكر) المشدد (٧) ، ويكون (نذكرهم) جملة حالية.

وتقدم الكلام في «خرجا» و «خراجا» في : الكهف (٨).

فصل

قال ابن عباس : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني : القرآن ، فهو كقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ)(٩) أي : شرفكم ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(١٠) أي : شرف لك ولقومك (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) شرفهم «معرضون» (١١).

وقيل : الذكر هو الوعظ والتذكير (١٢) التحذير (١٣). (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على ما جئتم به «خرجا» أجرا وجعلا (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١٤) وتقدم الكلام على نظيره.

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٧٥)

قوله : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الإسلام. (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

__________________

(١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.

(٨) عند قوله تعالى : «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا»[الكهف : ٩٤].

(٩) [الأنبياء : ١٠].

(١٠) [الزخرف : ٤٤].

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣١.

(١٢) التذكير : سقط من ب.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٣.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٣١.


بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ) عن دين الحق «لناكبون» لعادون عن هذا الطريق ، لأن طريق الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير (١).

قوله : (عَنِ الصِّراطِ) متعلق ب «ناكبون» ولا تمنع لائم الابتداء من ذلك (٢) على رأي تقدم تحقيقه. والنكوب والنكب : العدول والميل ، ومنه : النكباء للريح بين ريحين ، سميت بذلك لعدولها عن المهاب (٣) ، ونكبت حوادث الدهر ، أي : هبت هبوب النكباء.

والمنكب : مجتمع ما بين العضد والكتف ، والأنكب : المائل المنكب ، ولفلان (٤) نكابة في قومه أي : نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلا من القاف ، ويقال : نكب ونكب مخففا ومثقلا (٥).

قوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) قحط وجدب (٦) وقيل : ضرر القتال والسبي. وقيل : مضار الآخرة وعذابها (٧).

قوله : «للجوا» جواب «لو» ، وقد توالى فيه لا مان ، وفيه تضعيف لقول من قال : جوابها إذا نفي ب (لم) ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت : لو قام للم يقم عمرو ، لم يجز ، قال : لئلا يتوالى لا مان ، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية ، ولم يمتنع ، وإلا فما الفرق بين النفي والإثبات في ذلك (٨) واللجاج : التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور (٩) عنه ، ومنه اللجة : بالفتح : لتردد الصوت ، كقوله :

٣٨٠٥ ـ في لجة أمسك فلانا عن فل (١٠)

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٤.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٥٩.

(٣) في ب : المهيئات. وهو تحريف.

(٤) في ب : والعلان. وهو تحريف.

(٥) انظر اللسان (نكب).

(٦) انظر البغوي ٦ / ٣٢.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٤.

(٨) لم يمنع النحاة دخول اللام في الإيجاب ، وإنما منعوا دخولها في النفي لئلا يجمع بين متماثلين في نحو لم ، ولن ، ولما ، ولا ، وحمل الباقي عليه. وعلل الرضي منع ذلك بالتنافي في الظاهر ، وذلك لأن اللام للثبوت ، والثبوت ينافي النفي في الظاهر. وجواب (لو) في الآية التي معنا مثبت ، فاللام داخلة على (لجوا) ولا مه فاء الفعل ، وليست نافية حتى يمتنع دخولها عليه وإن أدى إلى توالي لا مين ـ فقد علل الرضي المنع بالتنافي بين اللام وبين النفي ؛ وجواب (لو) إذا كان فعلا ماضيا مثبتا يغلب اقترانه باللام المفتوحة. شرح الكافية ٢ / ٣٣٨ ، شرح التصريح ١ / ٢٢٢ ، الهمع ١ / ١٤٠ ، ٢ / ٦٦.

(٩) في ب : الموجود. وهو تحريف.

(١٠) رجز قاله أبو النجم ، وهو في الكتاب ٢ / ٢٤٨ ، ٣ / ٤٥٢ ، المقتضب ٤ / ٢٣٨ ، أما لي ابن الشجري ٢ / ١٠١ ، المقرب ٢٠٠ ـ اللسان (لجج ـ فلن) المقاصد النحوية ٤ / ٢٢٨ ، شرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، الهمع ١ / ١٧٧ ، شرح الأشموني ٣ / ١٦١ ، الخزانة ٢ / ٣٨٩ ، الدرر ١ / ١٥٤. اللجة ـ بالفتح ـ اختلاط الأصوات في الحرب ، وهو محل الشاهد هنا واستشهد به النحاة على أن استعمال (فل) موضع فلان في غير النداء ضرورة ، وأن (فل) أصله (فلان) فإذا صغر رد إلى أصله ، فقيل : فلين.


ولجة البحر لتردد (١) أمواجه ، ولجة الليل لتردد ظلامه. واللجلجة تردد الكلام ، وهو تكرير لج ، ويقال : لج والتج (٢). ومعنى الآية : لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم ينزعوا عنه (٣).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٨٠)

قوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قال المفسرون : لما أسلم (٤) ثمامة بن أثال الحنفي ، ولحق باليمامة ، ومنع الميرة (٥) عن أهل مكة ، ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط حتى أكلوا العلهز (٦) ، جاء أبو سفيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : «بلى». فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فادع الله يكشف عنا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية (٧). والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا. وقال الأصم : العذاب هو ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر (٨) يعني أن ذلك مع شدة ما دعائهم إلى الإيمان.

وقيل : المراد من عذب من الأمم الخالية. (فَمَا اسْتَكانُوا) أي : مشركو العرب (٩).

قوله : (فَمَا اسْتَكانُوا) تقدم وزن (استكان) في آل عمران (١٠).

وجاء الأول ماضيا والثاني مضارعا ، ولم يجيئا ماضيين ، ولا مضارعين ولا جاء الأول مضارعا والثاني ماضيا ، لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه ، وهو بالاستكانة أليق ، بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبائل وأما الاستكانة فقد توجد منهم.

__________________

(١) في ب : لترد.

(٢) فاللجلجة والتلجلج : التردد في الكلام. اللسان (لجج).

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٤.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٥) الميرة : الطعام يمتاره الإنسان. وقيل : جلب الطعام للبيع. اللسان (مير).

(٦) العلهز : وبر يخلط بدماء الحلم كانت العرب في الجاهلية تأكله في الجدب. اللسان (علهز).

(٧) انظر أسباب النزول للواحدي (٢٣٢).

(٨) في ب : والأسرا.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الرازي ٢٣ / ١١٤ ـ ١١٥.

(١٠) عند قوله تعالى : «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» [آل عمران : ١٤٦].


وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : وما تضرعوا (أو) (١) فما يستكينون.

قلت : لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد (٢).

فظاهر هذا أن (حتى) غاية لنفي الاستكانة والتضرع (٣). ومعنى الاستكانة طلب السكون ، أي : ما خضعوا وما ذلوا إلى ربهم ، وما تضرعوا بل مضوا على تمردهم.

قوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ.) قرى «فتحنا» بالتشديد (٤).

قال ابن عباس ومجاهد : يعني القتل يوم بدر. وقيل : الموت وقيل : قيام الساعة (٥). وقيل : الجوع. (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) آيسون من كل خير. وقرأ السلمي : «مبلسون» ـ بفتح اللام (٦) ـ من أبلسه ، أي : أدخله في الإبلاس.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) الآية.

العطف لا يحسن إلا مع المجانسة ، فأي مناسبة بين قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) وبين ما قبله؟

والجواب : كأنه تعالى لما بين مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار ، وتأمل الحقائق قال للمؤمنين : هو الذي أعطاكم هذه الأشياء وو فقكم لها تنبيها على أن من لم يعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها (٧) ، لقوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ)(٨)» (٩) وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

قال أبو مسلم : وليس المراد أن لهم شكرا وإن قل ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة : ما أقل شكر فلان (١٠).

ثم قال : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : خلقكم ، قال أبو مسلم : ويحتمل بسطكم (١١) فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله (١٢) : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ)(١٣) أي : هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين ، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه ، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه لا بمعنى المكان (١٤). ثم قال : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة

__________________

(١) أو : تكملة من الكشف.

(٢) الكشاف ٣ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٣) والتضرع : سقط من ب.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٤.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٣٣.

(٦) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٦.

(٧) في ب : دمها. وهو تحريف.

(٨) [الأحقاف : ٢٦].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٥.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في ب : منشئكم.

(١٢) في ب : لقوله.

(١٣) [الإسراء : ٣].

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٥.


وأنه سبحانه ـ وإن أنعم بها ، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب (١). ثم قال : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، ووجه النعمة بذلك معلوم. قال الفراء : جعلهما مختلفين (٢) يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض (٣). ثم قال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قرأ أبو عمرو في روآية يعقوب : بياء الغيبة على الالتفات (٤) والمعنى : ا فلا تعقلون ما ترون صنعه فتعتبرون.

قوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٨٣)

قوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي : كذبوا كما كذب الأولون (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) لمحشورون ، قالوا ذلك منكرين متعجبين.

واعلم أنه ـ سبحانه ـ لما أوضح دلائل التوحيد عقبه بذكر المعاد ، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته ، وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين ، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد (٥) ثم حكى قولهم : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) كأنهم قالوا إن هذا الوعد كما وقع منه ـ عليه‌السلام (٦) ـ فقد وقع قديما من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد ، وظنوا أن الإعادة تكون في الدنيا ، ثم قالوا : لما لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين. والأساطير جمع أسطار ، وهي جمع سطر (٧) ، أي : ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له ، أو جمع أسطورة (٨).

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٨٨)

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٩٠)

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) الآية. اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) معاني القرآن ٢ / ٢٤٠.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣٣.

(٤) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٨.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٦.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) أي : أن «أساطير» جمع الجمع. وجمع الجمع ـ سواء أكان جمع قلة أم كثرة ـ ليس قياسا على مذهب سيبويه ، ولا يجمع منها إلا ما جمع العرب ، وأيده السيرافي والجرمي وابن عصفور واختاره الرضي. ويرى كثير من النحاة أن جموع القلة يجوز جمعها قياسا لأنه قد ورد عن العرب منه قدر صالح للقياس عليه كالأيدي ، والأيادي ، والأسلحة والأسالح ، والأقاول والأقاويل.

الكتاب ٣ / ٦١٨ ـ ٦٢١ ، شرح الشافية ٢ / ٢٠٨ ـ ٢١٠ ، الهمع ٢ / ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٦.


من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة ، وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان ، لأن القوم كانوا مقرين بالله ، وقالوا : نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى (١) ، فقال تعالى : قل يا محمد مجيبا لهم يعني يا أهل مكة (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من الخلق (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) خالقها ومالكها (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فلا بد لهم من ذلك ، لأنهم يقرون أنها مخلوقة ، فقل لهم إذا أقروا بذلك : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت. وفي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سؤال يأتي في قوله : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢) ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة من خلقهم ، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع.

وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه (٣).

قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ووجه الاستدلال بها على الأمرين (٤) كما تقدم (٥). وإنما قال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : تحذرون ، تنبيها على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان ، والاعتراف (٦) بجواز الإعادة (٧).

قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) في الأخيرتين (٨) من غير لا م جر ، ورفع الجلالة (٩) جوابا على اللفظ لقوله «من» قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ، لأن المسؤل به مرفوع المحل وهو «من» فجاء جوابه مرفوعا مطابقا له لفظا ، وكذلك رسم الموضعان (١٠) في مصاحف البصرة بالألف (١١).

والباقون : «لله» في الموضعين باللام (١٢) وهو جواب على المعنى (١٣) ؛ لأنه لا فرق بين قوله : (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ) وبين قوله : لمن (١٤) السماوات ، ولا (١٥) بين قوله : (مَنْ بِيَدِهِ) ولا لمن له الإحسان ، وهذا كقولك : من رب هذه الدار؟ فيقال : زيد ، وإن شئت

__________________

(١) قال تعالى : «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى» [الزمر : ٣]. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) من الآية (٨٨) من السورة نفسها.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٧.

(٤) في ب : الاستدلالين بها.

(٥) أي : الاستدلال على الإعادة ، وعلى نفي عبادة الأوثان انظر ذلك في الآية المتقدمة.

(٦) في ب : والإعراف. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٧.

(٨) في ب : الأخيرين.

(٩) السبعة (٤٤٧) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣٠ ، النشر ٢ / ٣٢٩ ، الإتحاف (٣٢١).

(١٠) في ب : الموضعين.

(١١) انظر الكشف ٢ / ١٣٠ ، البيان ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٢) السبعة (٤٤٧) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣٠ ، النشر ٢ / ٣٢٩ ، الإتحاف (٣٢٠).

(١٣) انظر الكشف ٢ / ١٣٠ ، البيان ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٤) في ب : لمن في.

(١٥) لا : سقط من ب.


لزيد ، لأنّ قولك : من ربّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد ، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال : لمن هذه الدار؟ ومن ربّها؟ واللام (١) مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه.

ولم يختلف في الأول أنه «لله» ، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال (٢) ولو حذفت من الجواب لجاز ، لأنه لا فرق بين : (لِمَنِ الْأَرْضُ) ومن ربّ الأرض ، إلا أنه لم يقرأ به أحد.

قوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (لمّا ذكر الأرض أولا والسماء ثانيا ، عمّم الحكم هاهنا بقوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)) (٣) ويدخل في الملكوت الملك والملك والتاء فيه على سبيل المبالغة. (وَهُوَ يُجِيرُ) أي : يؤمن من يشاء ، (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي : لا يؤمن من أخافه الله ، يقال : أجرت فلانا على فلان إذا منعته منه (٤).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فيه سؤال : وهو كيف قال : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ثم حكى عنهم (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وفيه تناقض؟ والجواب : لا تناقض ، لأنّ قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لا ينفي علمهم بذلك وقد يقال مثل ذلك في الحجاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم (٥) بما يورد من ذلك (٦).

وقوله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي : تصرفون عن توحيده وطاعته ، والمعنى كيف يحتمل لكم الحق باطلا. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ) بالصدق ، (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يدعون من الشرك والولد ، وقرىء هنا ببعض ما قرىء به في نظيره. فقرأ ابن إسحاق : «أتيتهم» بتاء الخطاب (٧) ، وغيره بتاء المتكلم(٨).

قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ)(٩٦)

قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) الآية. وهذه الآية كالتنبيه على الردّ على الكفار الذين يقولون : الملائكة بنات الله. وقوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) ردّ

__________________

(١) في ب : واللام من.

(٢) والجواب مطابق للسؤال في اللفظ والمعنى. التبيان ٢ / ٩٥٩.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٧.

(٥) في ب : اعرافهم.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٧.

(٧) تفسير ابن عطية : ١٠ / ٣٩٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٨.

(٨) الكشاف ٣ / ٥٤.


على اتخاذهم الأصنام آلهة ، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية (١).

ثم إنه تعالى ذكر الدليل بقوله : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه ، ولم يرض أن يضاف خلقه إلى غيره ، ومنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم ، وحين لم تروا ذلك فاعلموا أنه إله واحد (٢).

قوله : «إذا» جواب وجزاء ، قال الزمخشري : فإن قلت : «إذا» لا تدخل إلّا على كلام هو جواب وجزاء ، فكيف وقع قوله : «لذهب» جوابا وجزاء ولم يتقدّم شرط ولا سؤال سائل قلت : الشرط محذوف تقديره : لو كان معه آلهة ، حذف لدلالة (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ)(٣).

وهذا رأي الفراء (٤) ، وقد تقدّم في الإسراء في قوله : (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)(٥) ثم إنه تعالى نزّه نفسه فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من إثبات الولد والشريك (٦).

قرىء : «تصفون» بتاء الخطاب (٧) وهو التفات.

قوله : (عالِمِ الْغَيْبِ). قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : بالجر (٨) على البدل من الجلالة (٩). وقال الزمخشري : صفة لله (١٠). كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف (١١).

والباقون : بالرفع (١٢) على القطع خبر مبتدأ محذوف (١٣).

ومعنى الآية : أنه مختص بعلم الغيب والشهادة ، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٨ ، الثنوية : هم أصحاب الاثنين الأزليين ، يزعمون أنّ النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس ، فإنهم قالوا بحدوث الظلام ، وذكروا سبب حدوثه ، وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز والمكان والأجناس والأبدان والأرواح. الملل والنحل ١ / ٢٤٤.

(٢) انظر الفخر الرازي ٣٣ / ١١٨.

(٣) الكشاف ٣ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٤) انظر معاني القرآن ٢ / ٢٤١.

(٥) [الإسراء : ٧٣].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨.

(٧) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٩.

(٨) السبعة (٤٤٧) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣١ ، النشر ٢ / ٣٢٩ الإتحاف ٣٢٠.

(٩) البيان ٢ / ١٩٩ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٠) الكشاف ٣ / ٥٥ ، وانظر أيضا الكشف ٢ / ١٣١ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١١) المعروف أن إضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال إضافة غير محضة (إضافة لفظية) ، أما إذا كان بمعنى الماضي فإضافته محضة لأنها ليست في تقدير الانفصال خلافا للكسائي.

فالزمخشري جعل إضافة (عالم) إضافة محضة.

شرح التصريح ٢ / ٢٨ ، الهمع ٢ / ٤٧ ـ ٤٨.

(١٢) السبعة (٤٤٧) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣١ ، النشر ٢ / ٣٢٩ الإتحاف (٣٢٠).

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ٥٥ ، البيان ٢ / ١٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.


يعلم الغيب ، لأن الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال (١) : ((فَتَعالَى اللهُ) (٢) عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٣).

قوله : «فتعالى» عطف على معنى (٤) ما تقدم ، كأنّه قال علم الغيب فتعالى كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته أي : شجع فعظمت. أو يكون على إضمار القول ، أي : أقول فتعالى الله (٥). قوله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي : ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة «ترينّي» بصريح الياء. والضحاك : «ترئنّي» بالهمز عوض الياء (٦) ، وهذا كقراءة : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ)(٧) «لترؤنّ» (٨) بالهمز (٩) ، وهو بدل شاذ (١٠).

قوله : (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي) جواب الشرط ، و «ربّ» نداء معترض بين الشرط وجزائه (١١) ، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط (١٢) ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع (١٣).

فإن قيل : كيف يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟

فالجواب : يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية وتواضعا لربه (١٤).

قوله : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ) هذا الجار متعلق ب «لقادرون» (١٥) أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها. والمعنى : أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ، فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا. وقيل : المراد عذاب الآخرة (١٦).

__________________

(١) في ب : قال تعالى.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٨.

(٤) معنى : سقط من ب.

(٥) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٩٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٩.

(٦) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤١٩.

(٧) من قوله تعالى : «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا»[مريم : ٦].

(٨) من قوله تعالى : «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» [التكاثر : ٦].

(٩) ابن الرومي عن أبي عمرو ، المختصر (٨٤ ، ١٧٩) ، المحتسب ٢ / ٤٢.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٠.

(١١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٤١ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٠ ـ ٢١ ، البيان ٢ / ٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٢) في ب : الشروط. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٩.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ٥٥ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١١٨.

(١٥) انظر التبيان ٢ / ٩٦٠.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٩.


قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم.

قال الزمخشري : قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أبلغ من أن يقال : بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل ، (كأنه قال ادفع بالحسنى السيئة) (١) والمعنى الصفح عن إساءتهم ، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان ، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان ، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة ...

قيل : هذه الآية نسخت بآية السيف ، وقيل : محكمة ، لأن المداراة (٢) محثوث (٣) عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة (٤). ثم قال : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي : يقولون من الشرك.

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(١٠٠)

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الآية لما أدّب رسوله بقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين :

أحدهما : من همزات الشياطين (٥). والهمزات جمع همزة ، وهي النخسة (٦) والدفع بيد وغيرها (٧) ، وهي كالهزّ (٨) والأزّ (٩) ، ومنه مهماز الرائض (١٠) ، والمهماز مفعال من ذلك كالمحراث من الحرث والهمّاز (١١) الذي يصيب الناس ، كأنه يدفع بلسانه وينخس به.

فصل

معنى (أَعُوذُ بِكَ) أمتنع وأعتصم بك (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) نزعاتهم وقال الحسن :

__________________

(١) ما بين القوسين تكلمة من الكشاف.

(٢) المداراة : المطاوعة والملاينة ، ومنه الحديث : «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس» أي : ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك. وداريت الرجل : لا ينته ورفقت به ، وأصله من دريت الظبي ، أي : احتلت له وختلته حتى أصيده. اللسان (دري).

(٣) في النسختين : محثوثة. والتصويب من الكشاف.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٥.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٩.

(٦) نخس الدابة وغيرها ينخسها وينخسها وينخسها نخسا : غرز جنبها أو مؤخرها بعود أو نحوه. اللسان (نخس).

(٧) اللسان (همز).

(٨) الهزّ : تحريك الشيء كما تهزّ القناة فتضطرب وتهتز ، وهزّه يهزّه هزّا وهزّ به وهززه. اللسان (هزز).

(٩) انظر اللسان (أزز).

(١٠) المهمز والمهماز : حديدة تكون في مؤخر خف الرائض. اللسان (همز).

(١١) الهمّاز والهمزة : الذي يخلف الناس من ورائهم ويأكل لحومهم. الليث : الهمّاز والهمزة : الذي يهمز أخاه من خلفه ، واللمز في الاستقبال. اللسان (همز).


وساوسهم. وقال مجاهد : نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي (١). قال الحسن : كان عليه‌السلام (٢) يقول بعد استفتاح الصلاة : «لا إله إلّا الله ثلاثا ، الله أكبر ثلاثا ، اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه».

فقيل : يا رسول الله ما همزه؟ قال : «الموتة التي تأخذ ابن آدم» أي (٣) : الجنون. قيل : فما نفثه؟ قال : «الشعر» قيل : فما نفخه؟ قيل : «الكبر» (٤).

والثاني : قوله : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي : في شيء من أموري ، وإنما ذكر الحضور ، لأن الشيطان إذا حضر وسوس.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) الآية في (حتّى) هذه أوجه :

أحدها : أنها غاية لقوله : (بِما يَصِفُونَ)(٥).

والثاني : أنها غاية «لكاذبون» (٦).

ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري : «حتّى» يتعلق ب «يصفون» أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد. ثم قال : أو على قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٧). قال شهاب الدين : قوله : (أو على قوله كذا) كلام محمول على المعنى ، إذ التقدير : «حتّى» معلقة على «يصفون» أو على قوله : «لكاذبون» وفي الجملة فعبارته مشكلة(٨).

الثالث : قال ابن عطية : «حتّى» في هذا الموضع (٩) حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف ، والأوّل أبين ، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود (ذكره (١٠)) (١١).

قال أبو حيان : فتوهم ابن عطية أن «حتّى» إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية ، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها ، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر (١٢).

وقال أبو البقاء : (حتّى) غاية في معنى العطف (١٣). قال أبو حيّان : والذي يظهر لي (١٤) أن قبلها جملة محذوفة تكون «حتّى» غاية لها يدل عليها ما قبلها ، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جاء ، ونظير حذفها قول الشاعر :

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٣٨.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أي : سقط من ب.

(٤) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٥٠ ، ٥ / ٢٥٣ وذكر في اللسان (همز).

(٥) من الآية (٩٦) السابقة.

(٦) من الآية (٩٠) السابقة.

(٧) الكشاف ٣ / ٥٦.

(٨) الدر المصون ٥ / ٩٣.

(٩) في النسختين : هذه المواضع.

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٩٩.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٤٢٠.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٠ ، ما حكاه أبو حيان عن أبي البقاء غير موجود في التبيان.

(١٤) لي : سقط من ب.


٣٨٠٦ ـ فيا عجبا حتّى كليب تسبّني (١)

أي : يسبني الناس كلهم حتى كليب إلّا أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة(٢).

قوله (٣) : (رَبِّ ارْجِعُونِ.) في قوله : «ارجعون» بخطاب الجمع ثلاثة أوجه :

أجودها : أنه على سبيل التعظيم (٤) كقوله :

٣٨٠٧ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (٥)

وقال الآخر :

٣٨٠٨ ـ ألا فارحموني يا إله محمّد (٦)

وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال : إنه لم نعلم أحدا أجاز للداعي أن يقول : يا رحيمون قال : لئّلا يوهم خلاف التوحيد ، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٧).

الثاني : أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله : «ارجعون» (٨). ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف ، أي : ملائكة ربي ، فحذف المضاف ثم التفت إليه في عود الضمير كقوله(٩): (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها)(١٠). ثم قال : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ)(١٠) التفاتا ل «أهل» المحذوف.

الثالث : أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال : ارجعني ارجعني (١١) نقله أبو

__________________

(١) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله الفرزدق ، وعجزه :

كأنّ أباها نهشلّ أو مجاشع

(٢) أي : أن ما بعد (حتّى) في البيت دلّ على الجملة المحذوفة ، وفي الآية دلّ ما قبل (حتّى) على الجملة المحذوفة. البحر المحيط ٦ / ٤٢٠ ـ ٤٢١.

(٣) مكان : (قوله) : بياض في الأصل.

(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٣ ، الكشاف ٣ / ٥٥ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٠٠ ، البيان ٢ / ١٨٩ ، التبيان ٢ / ٩٦٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢١.

(٥) البيت من بحر الطويل ، قاله العرجي. والشاهد فيه مخاطبة الواحدة بلفظ جمع المذكر تعظيما. وقد تقدّم تخريجه.

(٦) صدر بيت من بحر الطويل ، لم أهتد إلى قائله وعجزه :

فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل

وهو في الكشاف ٣ / ٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢١ ، شرح شواهد الكشاف (٩٩).

(٧) [الحجر : ٦].

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٠٠ ، التبيان ٢ / ٩٦٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢١.

(٩) في ب : في قوله.

(١٠) من قوله تعالى : «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» [الأعراف : ٤].

(١١) في الأصل : ارجعون ارجعون.


البقاء (١) وهو يشبه ما قالوه في قوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ)(٢) أنه بمعنى : ألق ألق ثنّى الفعل للدلالة (٣) على ذلك ، وأنشدوا :

٣٨٠٩ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (٤)

أي : قف قف.

فصل

اعلم أنّه تعالى أخبر أنّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)) (٥) ولم يقل : ارجعني ، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب (٦). وقال الضحّاك (٧) : كنت جالسا عند ابن عباس فقال: من لم يزكّ ولم يحج سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : إنما يسأل (٨) ذلك الكفار. فقال ابن عباس : أنا أقرأ عليك به قرآنا (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ)(٩).

وقال عليه‌السلام (١٠) : إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (١١) (١٢).

واختلفوا في وقت مسألة الرجعة ، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل : بل عند معاينة النار في الآخرة ، وهذا القائل إنّما ترك ظاهر هذه الآية لمّا أخبر الله ـ تعالى ـ عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة (١٣).

قوله : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي : ضيّعت. أي : أقول (١٤) لا إله إلّا الله (١٥).

__________________

(١) قال أبو البقاء : (والثالث : أنه دلّ بلفظ الجمع على تكرير القول ، فكأنّه قال ارجعني ارجعني) التبيان ٢ / ٩٦٠ ، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٣ ـ ١١٤ ، والبيان ٢ / ١٨٨.

(٢) من قوله تعالى : «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ» [ق : ٢٤].

(٣) في ب : الدلالة. وهو تحريف.

(٤) صدر من بيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس وعجزه :

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

وهو مطلع معلقته ، وقد تقدم.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) تقدم قريبا.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٠.

(٨) في ب : سأل.

(٩) [المنافقون : ١٠].

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه الديلمي عن جابر. انظر الدر المنثور ٥ / ١٥.

(١٢) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٠.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٠ ـ ١٢١.

(١٤) في ب : قول.

(١٥) أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قول : لعلّي أعمل صالحا فيما تركت «قال : لعلي أقول : لا إله إلا الله». وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً» قال : أقول : لا إله إلّا الله ، الدر المنثور ٥ / ١٥.


وقيل : أعمل بطاعة الله تعالى. وقيل : أعمل صالحا فيما قصّرت ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية ، وهذا أقرب ، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه (١). فإن قيل : قوله تعالى : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.

فالجواب : ليس المراد ب «لعلّ» الشك فإنّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما (٢) سأل ، فهو مثل من قصّر في حق نفسه ، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير ، فيقول : مكنوني من (٣) التدارك (٤) لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازما بأنه سيتدارك.

ويحتمل أيضا أنّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)(٥)(٦).

قوله : «كلّا» (٧) كلمة ردع وزجر أي : لا ترجع. معناه المنع طلبوا (٨) ، كما يقال لطالب الأمر المستبعد : هيهات. ويحتمل أن يكون ذلك إخبارا بأنهم يقولون ذلك ، وأنّ هذا الخبر حق ، فكأنّه تعالى قال : حقا إنّها كلمة هو قائلها. والأول أقرب (٩).

قوله : (إِنَّها كَلِمَةٌ) من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله : «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد» (١٠) يعني قوله :

٣٨١٠ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل (١١)

وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران (١٢). و (هُوَ قائِلُها) صفة ل «كلمة».

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢١.

(٢) في ب : ما من. وهو تحريف.

(٣) من : سقط من ب.

(٤) الدرك : اللحاق ، وقد أدركه ، وتدارك القوم : تلاحقوا ، أي : لحق آخرهم أولهم. اللسان (درك).

(٥) [الأنعام : ٢٨].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢١.

(٧) انظر مذاهب النحويين في هذه اللفظة في سورة مريم عند قوله تعالى : «كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا»الآية (٧٩).

(٨) في ب : فاطلبوا. وهو تحريف.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢١.

(١٠) أخرجه البخاري (مناقب الأنصار) ٢ / ٣١٩ ، ومسلم (شعر) ٤ / ١٧٦٨ ـ ١٧٦٩ ، ابن ماجة (أدب) ٢ / ١٢٣٦.

(١١) صدر بيت من بحر الطويل قاله لبيد بن ربيعة ، وعجزه :

وكلّ نعيم لا محالة زائل

وقد تقدم.

(١٢) عند قوله تعالى : «أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ» [آل عمران : ٣٩] ، وقوله تعالى : «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» من الآية (٦٤) من السورة نفسها.

انظر اللباب ٢ / ٢٢٨ ، ٢٦٢ ـ ٢٦٣.


والمراد بالكلمة : سؤاله الرجعة : كلمة هو قائلها ولا ينالها ، وقيل : معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه (١).

قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمامهم وبين أيديهم (٢). «برزخ» البرزخ : الحاجز بين المسافتين(٣) وقيل : الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر (٤) ، وهو بمعنى الأوّل.

وقال الراغب : أصلة برزه بالهاء فعرّب ، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة (٥) والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.

قال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. (وقال قتادة : بقيّة الدنيا) (٦).

قال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل : القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون (٧).

قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(١٠٥)

قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) الآية لمّا قال : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ذكر أحوال ذلك اليوم فقال : (فَإِذا (٨) نُفِخَ فِي الصُّورِ)(٩) وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو ، وهو آلة إذا نفخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات ، قال عليه‌السلام (١٠) : «إنّه قرن ينفخ فيه» (١١)(١٢). وقرأ ابن عباس والحسن : بفتح الواو (١٣) جمع صورة. والمعنى : فإذا نفخ في الصور أرواحها (١٤) وقرأ أبو رزين (١٥) : بكسر الصاد وفتح الواو (١٦) ، وهو (١٧) شاذ (١٨). وهذا عكس (لحى) بضم اللام جمع (لحية) بكسرها (١٩). وقيل : إنّ النفخ في الصور استعارة ، والمراد منه البعث والحشر.

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٥٥ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢.

(٢) انظر القرطبي ١٢ / ١٥٠.

(٣) في النسختين : المتنافيين.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤١٦ ـ ٤١٧.

(٥) المفردات في غريب القرآن (٤٣).

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٤٠.

(٨) في ب : وإذا. وهو تحريف.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه الترمذي (قيامة) ٤ / ٤١ ، الدارمي (رقاق) ٢ / ٣٢٥ ، أحمد ٢ / ١٦٢ ، ١٩٢.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢.

(١٣) المختصر (٩٨) البحر المحيط ٦ / ٤٢١.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢.

(١٥) هو مسعود بن مالك ، أبو رزين الكوفي ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، روى عن ابن مسعود ، وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ روى عنه الأعمش ، طبقات القراء ٢ / ٢٩٦.

(١٦) المختصر (٩٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢١.

(١٧) في ب : وهذا.

(١٨) لأن جمع (فعلة) بضم الفاء على (فعل) بكسر الفاء شاذ.

(١٩) لأن جمع (فعلة) بكسر الفاء على (فعل) بكسر الفاء شاذ. وقياس جمع (فعلة) بضم الفاء على (فعل) ـ


قوله : «فلا أنساب» الأنساب جمع نسب ، وهو القرابة من جهة الولادة ، ويعبّر به عن التواصل ، وهو في الأصل مصدر قال :

٣٨١١ ـ لا نسب اليوم ولا خلّة

اتسع الخرق على الرّاقع (١)

قوله : «بينهم» يجوز تعلقه بنفس «أنساب» ، وكذلك «يومئذ» ، أي : فلا قربة بينهم في ذلك اليوم (٢). ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة (٣) ل «أنساب» ، والتنوين في «يومئذ» عوض عن (٤) جملة تقديره : يومئذ نفخ في الصور.

فصل

من المعلوم (٥) أنّه تعالى إذا أعادهم فالأنساب ثابتة ، لأنّ المعاد هو الولد والوالد ، فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه :

أحدها : أنّ من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا : أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا ، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولا بنفسه ، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده.

وثانيها : أنّ من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا ، وأن يسأل البعض عن أحوال البعض ، وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك.

وثالثها : أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد ، فكل امرىء مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه. قال ابن مسعود : يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي مناد ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه ، فيفرح المرء يومئذ

__________________

ـ بضم الفاء مثل صورة وصور وقياس جمع (فعلة) بكسر الفاء على (فعل) بكسر الفاء مثل لحية ولحى إلّا أنه قد ينوب (فعل) بضم الفاء عن (فعل) بكسر الفاء مثل لحية ولحى و (فعل) بكسر الفاء عن (فعل) بضم الفاء مثل صورة وصور. شرح الأشموني ٤ / ١٤٠ ـ ١٣٢.

(١) البيت من بحر السريع ، قاله أنس بن العباس ، وقيل : أبو عامر جد العباس وهو في الكتاب ٢ / ٢٨٥ ، ابن يعيش ٢ / ١٠١ ، ١١٣ ، ٩ / ١٣٨ ، اللسان (قمر) ، شذور الذهب ٨٧ ، المغني ١ / ٢٢٦ ، ٢ / ٦٠٠ ، المقاصد النحوية ٢ / ٣٥١ ، ٤ / ٦٧ ، شرح التصريح ١ / ٢٤١ ، الهمع ٢ / ١٤٤ ، ٢١١ ، شرح الأشموني ٢ / ٩ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٦٠١ ، ٩٢٤ ، وروي : اتسع الفتق على الراتق. الراتق : الذي يلحم الفتق. يقول : إنّه لا ينفع فيما جرى بيننا من أسباب القطيعة نسب ولا صداقة ، لأنّ الخطب قد تفاقم حتى صعب رتقه. النسب : نسب القرابات ، وهو واحد الأنساب ، وهو في الآباء خاصة. وهو مصدر نسب ينسب وينسب نسبا. وهو محل الشاهد هنا.

(٢) ذكر أبو البقاء أن العامل في «بينهم» و «يومئذ» محذوف ، ولا يجوز أن يعمل فيه «أنساب» لأنّ اسم «لا» إذا بني لم يعمل ، التبيان ٢ / ٩٦٠.

(٣) في الأصل : ضفة. وهو تحريف.

(٤) في الأصل : من.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢ ـ ١٢٣.


أن يثبت له الحق على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)(١) وروى عطاء عن ابن عباس : أنّها النفخة الثانية (٢).

(فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) أي : لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت؟ ومن أي قبيلة أنت (٣)؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع.

فإن قيل : أليس قد جاء في الحديث : «كل سبب (٤) ونسب ينقطع إلا سببي (٥) ونسبي» (٦) قيل معناه : لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلّا سببه ونسبه ، وهو الإيمان والقرآن (٧).

فإن قيل : قد قال ههنا (٨)(وَلا يَتَساءَلُونَ) وقال : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً)(٩). وقال (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)(١٠).

فالجواب : روي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالا ومواطن ، ففي موطن يشتد (١١) عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون ، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون. وقيل : إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل ، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(١٢). وقيل : المراد لا يتساءلون بحقوق النسب. وقيل : (لا يَتَساءَلُونَ) صفة للكفار لشدة خوفهم ، وأمّا قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها (١٣). وعن الشعبي قالت عائشة : يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) فقال عليه‌السلام (١٤) «ثلاثة مواطن تذهل فيها كلّ مرضعة عما أرضعت عند رؤية القيامة (١٥) وعند الموازين وعلى جسر جهنم» (١٦).

قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لمّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أتي بما له قدر وخطر فهو الفائز

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٤١.

(٣) انظر القرطبي ١٢ / ١٥١.

(٤) في ب : نسب. وهو تحريف.

(٥) في ب : نسبي. وهو تحريف.

(٦) أخرجه البزار والطبراني والحاكم والضياء عن عمر بن الخطاب. الدر المنثور ٥ / ١٥.

(٧) في ب : والقراءة. وهو تحريف. انظر البغوي ٦ / ٤٢.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٣.

(٩) [المعارج : ١٠].

(١٠) [الصافات : ٢٧] ، [الطور : ٢٥].

(١١) في ب : ينشد. وهو تحريف.

(١٢) [يس : ٥٢].

(١٣) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٣.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) في النسختين ثلاثة مواطن عند رؤية القيامة تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٣.


المفلح ، ومن أتي بما لا وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس : الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)(١) أي : قدرا (٢) وقيل : ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة ، والسيّئات في أقبح صورة (٣). وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء (٤).

قوله : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قال ابن عباس : غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين (٥). وقيل : امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب (٦).

قوله : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) يجوز أن يكون «خالدون» خبرا ثانيا ل (أولئك) ، وأن يكون خبر (٧) مبتدأ مضمر ، أي : هم خالدون (٨). وقال الزمخشري : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ، ولا محل للبدل والمبدل منه ، لأنّ الصلة لا محل لها (٩).

قال أبو حيان : جعل (فِي جَهَنَّمَ) بدلا من (خسروا) ، وهذا بدل (١٠) غريب ، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به (فِي جَهَنَّمَ) أي : استقروا في جهنم وهو بدل شيء (١١) من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم (١٢). قال شهاب الدين : فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل (١٣) دون «خالدون» ، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلا ، بدليل قوله بعد ذلك : أو خبرا بعد خبر ، ل «أولئك» أو خبر مبتدأ محذوف (١٤). وهذان إنّما (١٥) يليقان ب «خالدون» ، وأما (فِي جَهَنَّمَ) فمتعلق به ، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب ، وأيضا فيصير «خالدون» معلقا. وجوّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتا لاسم الإشارة (١٦) ، وفيه نظر ، إذ الظاهر كونه خبرا له (١٧).

قوله : «تلفح» يجوز استئنافه ، ويجوز حاليته ، ويجوز كونه خبرا ل «أولئك».

__________________

(١) [الكهف : ١٠٥].

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٤.

(٤) عند قوله تعالى : «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ»[الأنبياء : ٤٧].

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٤.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في ب : خبرا. وهو تحريف.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٥٧.

(٩) الكشاف ٣ / ٥٧.

(١٠) في ب : بدل من.

(١١) في البحر المحيط : وكأنه بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٤٢١ ـ ٤٢٢.

(١٣) في الأصل : والبدل.

(١٤) الكشاف ٣ / ٥٧.

(١٥) في ب : لا. وهو تحريف.

(١٦) وخبر اسم الإشارة «فِي جَهَنَّمَ». وما حكاه عن أبي البقاء غير موجود في التبيان ، وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٢٢.

(١٧) الدر المصون ٥ / ٩٤.


واللفح إصابة النار الشيء بوهجها وإحراقها له ، وهو أشد من النفح (١) ، وقد تقدم النفح (٢) في الأنبياء(٣). قوله : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) الكلوح تشمير الشفة العليا ، واسترخاء السفلى (٤).

قال عليه‌السلام (٥) في قوله : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال : «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» (٦). وقال أبو هريرة : يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد ، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون (٧). ومنه كلوح الأسد أي : تكشيره عن أنيابه ، ودهر كالح (وبرد كالح) (٨) أي : شديد وقيل الكلوح : تقطيب الوجه وتسوره ، وكلح الرجل يكلح كلوحا (وكلاحا) (٩)(١٠).

قوله : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن تخوفون بها (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) قالت المعتزلة دلت الآية على أنهم إنما عذبوا بسوأ أفعالهم ، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صح ذلك.

والجواب : أن القادر على الطاعة والمعصية إن صدرت المعصية عنه لا لمرجح ألبتة كان صدورها(١١) عنه اتفاقيا لا اختياريا فوجب أن لا يستحق العقاب ، وإن كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلا لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطراريا لا اختياريا فوجب أن لا يستحق الثواب (١٢).

قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا

__________________

(١) في النسختين : النفخ. والصواب ما أثبته. قال الزجاج : (يلفح وينفح في معنى واحد إلا أن اللفح أعظم تأثيرا) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٣.

(٢) في النسختين : النفخ. والصواب ما أثبته.

(٣) عند قوله تعالى : «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» [الأنبياء : ٤٦].

(٤) قال الزجاج : (والكالح الذي قد تشمرت شفته عن أسنانه ، نحو ما ترى من رؤس الغنم إذا مستها النار ، فبرزت الأسنان وتشمرت الشفاه) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٣.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) أخرجه الترمذي (جهنم) ٤ / ١٠٩ ، (التفسير) ٥ / ١٠ ، أحمد ٣ / ٧٧. وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٦.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٤٣.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) انظر اللسان (كلح).

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) في ب : صدور رفعا. وهو تحريف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٤.


حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)

قوله تعالى (١) : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) الآية. لما قال سبحانه (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم (٢) : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) قرأ الأخوان (٣) : «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف. والباقون بكسر الشين وسكون القاف (٤). وهما مصدران بمعنى واحد (٥) فالشقاوة كالقساوة ، وهي لغة فاشية ، والشقوة كالفطنة والنعمة ، وأنشد الفراء (٦) :

٣٨١٢ ـ كلف من عنائه وشقوته

بنت ثماني عشرة من حجته (٧)

وهي لغة الحجاز.

قال أبو مسلم : «الشقوة من الشقاء كجرية الماء ، والمصدر الجري ، وقد يجيء لفظ فعلة ، والمراد به الهيئة والحال فيقول : جلسة حسنة وركبة وقعدة ، وذلك من الهيئة ، وتقول : عاش فلان عيشة طيبة ، ومات ميتة كريمة ، وهذا هو الحال والهيئة ، فعلى هذا المراد من الشقوة حال الشقاء (٨). وقرأ قتادة والحسن في روآية كالأخوين إلا أنهما كسرا الشين (٩) ، وشبل (١٠) في اختياره كالباقين إلا أنه فتح الشين (١١).

__________________

(١) تعالى : سقط من الأصل.

(٢) في ب : قوله.

(٣) الأخوان : حمزة والكسائي.

(٤) السبعة (٤٤٨) ، الحجة لا بن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣١ ، النشر ٢ / ٣٢٩ ، الإتحاف ٣٢٠.

(٥) شقي يشقى شقا وشقاء وشقاوة وشقوة وشقوة فهذه كلها مصادر للفعل شقي ، الكشف ٢ / ١٣١ التبيان ٢ / ٩٦١ ، اللسان (شقى).

(٦) قال الفراء : أنشدني أبو ثروان. معاني القرآن ٢ / ٢٤٢.

(٧) رجز قاله نفيع ين طارق ، وهو في المخصص ١٤ / ٧٢ ، ١٧ / ١٠٢ ، الإنصاف ١ / ٣٠٩ ، المقرب ٣٣٧ ، اللسان (شقا) المقاصد النحوية ٤ / ٤٨٨ ، شرح التصريح ٢ / ٢٧٥ ، الهمع ٢ / ١٤٩ ، شرح الأشموني ٤ / ٧٢ ، الخزانة ٦ / ٤٣٠ ، الدرر ٢ / ٢٠٥ العناء : التعب والنصب الشقوة ـ بكسر الشين وسكون القاف ـ مصدر شقي ، وهو ضد السعادة ، ومثله الشقاوة وهو محل الشاهد هنا. الحجة ـ بكسر الحاء وتشديد الجيم مفتوحة ـ السنة.

واستدل الكوفيون بهذا البيت على جواز إضافة النيف إلى العشرة بدون إضافة عشرة إلى شيء.

والبصريون يردونه إلى الضرورة ، إذ لا معنى لهذه الإضافة ، لأنها إما بمعنى اللام أو من ، والنيف ليس للعشرة ولا منها بل هو زيادة عليها.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٥.

(٩) البحر المحيط ٦ / ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

(١٠) هو شبل بن عباد ، أبو داود المكي ، مقرى ثقة ضابط ، هو أجل أصحاب ابن كثير ، عرض على ابن كثير ، وعبد الله بن كثير ، وروى القراءة عنه عرضا إسماعيل القسط ، وابنه داود بن شبل ، وعكرمة بن سليمان ، وغيرهم ، مات سنة ١٤٨ ه‍. طبقات القراء ١ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

(١١) البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.


قال الزمخشري : (غَلَبَتْ عَلَيْنا) ملكتنا من قولك غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك (وامتلكه) (١) والشقاوة سوء العاقبة (٢).

فصل

قال الجبائي (٣) : المراد أن (٤) طلبنا اللذات المحرمة ، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المسبب على السبب ، وليس هذا باعتذار فيه ، لأن علمهم بأن لا عذر لهم فيه ثابت عندهم ، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم.

وأجيب : بأنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة ، وطلب تلك اللذات حاصل باختيارهم أولا باختيارهم ، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر ، فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك؟ وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع ، وإن افتقر إلى محدث فمحدثه إما العبد أو الله ، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه :

أحدها : أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك ، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر ، عاد الكلام فيه ، ولزم التسلسل ، وإن لم يتوقف على المرجح ، فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وذلك يسد باب إثبات الصانع.

وثانيها : أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ، ولا كيفيتها ، والجاهل بالشيء لا يكون محدثا له ، وإلا لبطلت دلالة الأحكام ، ولا يقال علم العلم.

وثالثها : أن أحدا في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل ، بل لا يقصد إلا (ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلا) (٥) تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله ، ثم إن الداعية إذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة ، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة.

وقال القاضي : قولهم (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) دليل على أنه لا عذر لهم لا عترأ فهم ، فلو كان كفرهم من خلقه وإرادته ، وعلموا ذلك ، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر.

والجواب : قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ، ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل : (اخْسَؤُا فِيها)(٦).

والوجه (٧) الثاني لهم (٨) في الجواب : قولهم : (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي : عن الهدى ،

__________________

(١) وامتلكه : تكملة من الكشاف.

(٢) الكشاف ٣ / ٥٧.

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٤) أن : سقط من ب.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) من الآية (١٠٨) من السورة نفسها.

(٧) في ب : والجواب. وهو تحريف.

(٨) لهم : سقط من ب.


وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ، وهو باطل ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال (عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم ، وما ذلك إلا خلق الداعي إلى الضلال) (١). ثم إن القوم لما اعتذروا بهذين العذرين ، قالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي : من النار (فَإِنْ عُدْنا) لما أنكرنا (فَإِنَّا ظالِمُونَ) فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)

فإن قيل : كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أن عقابهم دائم؟ قلنا : يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح (٢).

قوله : (اخْسَؤُا فِيها) أقيموا فيها ، كما يقال للكلب إذا طرد اخسأ ؛ أي : انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زجرت ، يقال : خسأ الكلب وخسأ بنفسه (٣). (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم ، وليس هذا نهيا ، لأنه لا تكليف في الآخرة (٤).

قال (٥) الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ، ثم لا يتكلمون بعده إلا الشهيق والزفير. ويصير لهم عواء كعواء الكلب (٦) لا يفهمون ولا يفهمون (٧).

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) الآية. العامة على كسر همزة (إنه) استئنافا (٨). وأبي والعتكي : بفتحها أي : لأنه (٩) والهاء ضمير الشأن. قال البغوي : الهاء في إنه عماد ، وتسمى المجهولة أيضا (١٠).

قوله : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص (١١) بكسر السين. والباقون : بضمها في الموضعين (١٢).

و (سخريا) مفعول ثان للاتخاذ (١٣). واختلف في معناها فقال الخليل (١٤)

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٣) أي : أنه يتعدى ولا يتعدى. اللسان (خسأ).

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٦.

(٥) في ب : وقال.

(٦) عوى الكلب والذئب يعوي عيا وعواء وعوة وعوية : لوى خطمه ، ثم صوت ، وقيل : مد صوته ولم يفصح. اللسان (عوى).

(٧) انظر البغوي ٦ / ٤٤.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.

(٩) المختصر (٩٩) ، المحتسب ٢ / ٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.

(١٠) البغوي ٦ / ٤٤.

(١١) وهو قوله تعالى : «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» [ص : ٦٣].

(١٢) السبعة (٤٤٨) ، الحجة لا بن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣١ ، النشر ٢ / ٣٢٩. الإتحاف (٣٢١).

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٩٦١.

(١٤) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٤ ، إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٢٤ حجة أبي زرعة (٤٩٢) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.


وسيبويه (١) والكسائي (٢) وأبو زيد (٣) : هما بمعنى واحد (٤) نحو دري (٥) ودري ، وبحر لجي ولجي بضم اللام وكسرها. وقال يونس : إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير ، وإن أريد الهزء فالضم والكسر (٦) ورجح أبو علي (٧) وتبعه مكي (٨) قراءة الكسر ، قالا (٩) : لأن ما بعدها أليق لها لقوله : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ). ولا حجة فيه ، لأنهم جمعوا بين الأمرين سخروهم في العمل ، وسخروا منهم استهزاء. والسخرة بالتاء الاستخدام (١٠).

وسخريا بالضم منها ، والسخر بدونها الهزء والمكسور منه ، قال الأعشى :

٣٨١٣ ـ إني أتاني حديث لا أسر به

من علو (١١) لا كذب فيه ولا سخر (١٢)

ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف (١٣) ، لأن المراد الاستخدام ، وهو يقوي قول من فرق بينهما ، إلا أن ابن محيصن وابن مسلم (١٤) وأصحاب عبد الله كسروه أيضا (١٥) ، وهي مقوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سخريا وسخريا للنسب زيدت

__________________

(١) المراجع السابقة.

(٢) قال الفراء : (قال الكسائي : سمعت العرب تقول : بحر لجي ولجي ، ودري ودري منسوب إلى الدر ، والكرسي والكرسي. وهو كثير. وهو في مذهبه بمنزلة قولهم العصي والعصي ، والأسوة والإسوة) معاني القرآن ٢ / ٢٤٣ ، وقال النحاس : (قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد كما يقال: عصي وعصي) إعراب القرآن ٣ / ١٢٤.

(٣) لم أجده في النوادر ، وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.

(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٤ ، البيان ٢ / ١٨٩ ، التبيان ١ / ٩٦١١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.

(٥) في ب : ودري.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٠٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.

(٧) المرجعان السابقان.

(٨) قال مكي : (والكسر الاختيار : لصحة معناه ، ولشبهه بما بعده ، ولأن الأكثر عليه) الكشف ٢ / ١٣١.

(٩) في ب : قال.

(١٠) السخرة : ما تسخرت من دابة أو خادم بلا أجر ولا ثمن ، ويقال : سخرته بمعنى سخرته ، أي : قهرته وذللته. اللسان (سخر).

(١١) في ب : علوي.

(١٢) البيت من بحر البسيط ، قاله أعشى باهلة ، وهو مطلع قصيدته التي رثى بها أخاه المنشر بن وهب الباهلي وروي :

إني أتتني لسان لا أسر بها

من علو لا عجب منها ولا سخر

وهو في النوادر (٧٣) ، ابن يعيش ٤ / ٩٠. اللسان (سخر ، علا ، لسن) ، الخزانة ١ / ١٩١ ، ٦ / ٥١١.

من علو : أي أتاني خبر من أعلى.

واستشهد به على أن السخر والسخر ، بمعنى الهزء ، والبيت يروى بضم السين وسكون الخاء ، ويروى بفتحها.

(١٣) وهو قوله تعالى : «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا»[الزخرف : ٣٢].

السبعة (٤٤٨) ، الحجة لا بن خالويه (٢٥٩) ، الكشف ٢ / ١٣١ ، النشر ٢ / ٣٢٩ ، الإتحاف ٣٢١.

(١٤) لعله عبد الله بن مسلم بن جندب الهلالي المدني ، أخذ عن أبيه ، وعنه ابن أبي فديك ، قال أبوزرعة : لا بأس به. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (٢١٤).

(١٥) المختصر (١٣٥) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.


للدلالة على قوة الفعل ، فالسخري أقوى من السخر ، كما قيل (١) في الخصوص خصوصية دلالة على قوة ذلك. قال معناه الزمخشري (٢).

فصل

اعلم أنه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل (٣) : إن رؤس قريش مثل أبي جهل ، وعاقبة وأبي بن خلف ، كانوا يستهزؤن بأصحاب محمد ، ويضحكون بالفقراء منهم ، كبلال ، وخباب ، وعمار ، وصهيب ، والمعنى : اتخذتموهم هزوا (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذكري وكنتم منهم تضحكون) (٤) ونظيره : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ)(٥) ثم إنه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأن وصف ما جازى به أولئك فقال : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي : جزيتهم اليوم الجزاء الوافر.

قوله : (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) قرأ الأخوان بكسر الهمزة (٦) ، استئنافا (٧).

والباقون بالفتح (٨) ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنّه تعليل فيكون نصبا بإضمار الخافض أي : لأنهم هم الفائزون ، وهي موافقة للأولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضا (٩).

والثاني : قاله الزمخشري ، ولم يذكر غيره ، أنه مفعول ثان ل «جزيتهم» أي : بأنهم أي : فوزهم(١٠) وعلى الأوّل يكون المفعول الثاني محذوفا (١١).

قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ

__________________

(١) قيل : سقط من الأصل.

(٢) قال الزمخشري : (السّخريّ بالضم والكسر مصدر سخر كالسخر إلّا أنّ في ياء النسب زيادة قوة في الفعل كما قيل الخصوصية في الخصوص) الكشاف ٣ / ٥٧.

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٦.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٦.

(٥) [المطففين : ٢٩].

(٦) السبعة (٤٤٨ ـ ٤٤٩) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٩) ، الكشف ٢ / ١٣١ ـ ١٣٢ ، النشر ٢ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ، الإتحاف ٣٢١.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٥٧ ، التبيان ٢ / ٩٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٨٩ ، التبيان ٢ / ٩٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(٩) فهي موافقة للأولى من جهة المعنى لا من جهة الإعراب ، لاضطرار المفتوحة إلى عامل.

(١٠) قال الزمخشري : (والفتح على أنّه مفعول «جزيتهم» كقولك : جزيتهم فوزهم) الكشاف ٣ / ٥٧. وانظر أيضا : التبيان ٢ / ٩٦١.

(١١) تقديره : الجنة والرضوان. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.


فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(١١٨)

قوله تعالى (١) : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) قرأ الأخوان : «قل كم لبثتم» «قل إن لبثتم» بالأمر في الموضعين وابن كثير كالأخوين في الأوّل فقط. والباقون : «قال» في الموضعين (٢) على الإخبار عن الله أو الملك. والفعلان مرسومان بغير ألف في مصاحف الكوفة ، وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة (٣). فحمزة والكسائي وافقا مصاحف الكوفة ، وخالفها عاصم أو وافقها على تقدير حذف الألف من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحف مكة ، وفي الأوّل غيرها ، أو إيّاها على تقدير حذف الألف وإرادتها. وأمّا الباقون فوافقوا مصاحفهم في الأوّل والثاني. فعلى الأمر معنى الآية : قولوا أيّها الكافرون ، فأخرج الكلام مخرج الواحد ، والمراد منه الجماعة إذ كان معناه مفهوما. ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم ، أي : قل (٤) أيها الكافرون (٥). وأمّا على الخبر أي قال الله ـ عزوجل (٦) ـ للكفار يوم البعث (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ)(٧) أي : في الدنيا أو في القبور. و (كم) في موضع نصب على ظرف الزمان ، أي : كم سنة ، و «عدد» بدل من «كم» قاله أبو البقاء (٨) ، وقال غيره: «عدد سنين» تمييز ل «كم» (٩) وهذا هو الصحيح. وقرأ الأعمش والمفضّل عن عاصم : «عددا» منونا (١٠) ، وفيه أوجه (١١) :

أحدها : أن يكون عددا مصدرا أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدّم على المنعوت قاله صاحب اللوامح (١٢). يعني : أنّ الأصل سنين عددا. أي : معدودة ، لكنّه يلزم تقديم

__________________

(١) تعالى : سقط من ب.

(٢) السبعة (٤٤٩) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٩) ، الكشف ٢ / ١٣٢ ، النشر ٢ / ٣٣٠ ، الإتحاف ٣٢١.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٥٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٠٩.

(٤) في ب : قل يا.

(٥) الكشاف ٣ / ٥٧ ، التبيان ٢ / ٩٦١.

(٦) في ب : تعالى.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٥٧ ، التبيان ٢ / ٩٦١.

(٨) قال أبو البقاء : (و «كم» : ظرف ل «لبثتم» ، أي : كم سنة أو نحوها ، و «عدد» بدل من «كم») التبيان ٢ / ٩٦١.

(٩) قال ابن عطية : (و «عدد» نصب ب «كم» على التمييز) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٠٩ ، وقال ابن الأنباري : «كم» منصوبة الموضع ب «لبثتم» و «عدد سنين» منصوب على التمييز. البيان ٢ / ١٨٩. وانظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(١٠) البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(١١) في ب : وجه. وهو تحريف.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.


النعت على المنعوت ، فصوابه أن يقول فانتصب حالا (١) هذا مذهب البصريين.

والثاني : أن «لبثتم» بمعنى : عددتم ، فيكون نصب «عددا» على المصدر و «سنين» بدل منه. قاله (٢) صاحب اللوامح (٣) أيضا. وفيه بعد لعدم دلالة اللبث على العدد.

والثالث : أنّ «عددا» تمييز ل «كم» و «سنين» بدل منه (٤).

فصل

الغرض (٥) من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ ، لأنّهم كانوا ينكرون لبثا في الآخرة أصلا ، ولا يعدون اللبث إلّا في دار الدنيا ، ويظنون أنّ بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة. فلمّا حصلوا في النار ، وأيقنوا دوامها ، وخلودهم فيها سألهم (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) منبّها لهم على ما ظنّوه دائما طويلا ، وهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه ، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا ، حيث تيقّنوا خلافه ، وهذا هو الغرض من السؤال فإن قيل : فكيف (٦) يصح أن يقولوا في جوابهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ولا يقع الكذب من أهل النار؟ فالجواب : لعلّهم نسوا لكثرة ما هم فيه من الأهوال ، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ). قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.

وقيل : مرادهم بقولهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب (٧). وقيل : أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوما أو بعض يوم من أيام الآخرة ، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة.

فصل

اختلفوا في أنّ (٨) السؤال عن أيّ لبث؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا ، فأجابوا بأنّ قدر لبثهم كان يسيرا بناء على أنّ الله أعلمهم أنّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار.

وقيل : المراد اللبث في حال الموت ، لأنّ قوله : (فِي الْأَرْضِ) يفيد الكون في الأرض أي : في القبر ، والحيّ إنّما يقال فيه أنّه على الأرض. وهذا ضعيف لقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ)(٩) ، واستدلوا أيضا بقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ)(١٠)(١١) ثم قالوا : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي : الملائكة الذين يحفظون أعمال

__________________

(١) وذلك لامتناع جواز تقديم الصفة على الموصوف. لأنّ الصفة تجري مجرى الصلة في الإيضاح فلا يجوز تقديمها على الموصوف كما لا يجوز تقديم الصلة على الموصول ، وإذا لم يجز تقديمها صفة عدل إلى الحال. شرح المفصل ٢ / ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) في النسختين : قال. والصواب ما أثبته.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ١٤٢٤.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٦١ ـ ٩٦٢.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٧.

(٦) في ب : كيف.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٧.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٧ ـ ١٢٧.

(٩) [الأعراف : ٥٦ ، ٨٥].

(١٠) [الروم : ٥٥].

(١١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٧ ـ ١٢٨.


بني آدم ويحصونها عليهم ، وهذا قول عكرمة. وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا. وقيل : المعنى سل من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه (١). وقرىء «العادين» بالتخفيف ، وهي قراءة الحسن والكسائي في رواية (٢) جمع (عادي) اسم فاعل من (عدا) أي : الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا (٣).

وقيل : العادين : القدماء المعمرين ، فإنّهم سيقصرونها. قال (٤) أبو البقاء : كقولك : هذا بئر عادية (٥) ، أي ؛ سل من تقدّمنا ، وحذف إحدى ياءي النسب كما قالوا : الأشعرون ، وحذفت الأخرى لالتقاء الساكنين (٦). قال شهاب الدين : المحذوف أوّلا الياء الثانية ، لأنّها المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان (٧). ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال : وقرىء (العاديين (٨) أي : القدماء المعمرين ، فإنهم يستقصرونها ، فكيف بمن دونهم (٩)؟ قال ابن خالويه : ولغة أخرى العاديّين (١٠) يعني : بياء مشددة جمع عاديّة بمعنى القدماء) (١١)(١٢).

فصل

احتجّ من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال : قوله : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض ، وزمان كونهم أمواتا في بطن الأرض ، فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أنّ مدة مكثهم في الأرض طويلة ، فلم يقولوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

والجواب من وجهين :

الأول : أنّ الجواب لا بدّ وأن يكون بحسب السؤال ، وإنّما سألوا عن موت لا حياة (١٣) بعده إلّا في الآخرة ، وذلك لا يكون إلّا بعد عذاب القبر.

والثاني : يحتمل أن يكونوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه ، فلا مدخل في (١٤) تقدّم (١٥) موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) عند أنفسنا (١٦).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٨.

(٢) المختصر (٩٩) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٥٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(٤) في ب : قاله.

(٥) شجرة عادية أي قديمة ، كأنها نسبت إلى عاد ، وهم قوم هود النبي ـ صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم ـ وكل قديم ينسبونه إلى عاد وإن لم يدركهم. اللسان (عدا).

(٦) التبيان ٢ / ٩٦٢ ، البيان ٢ / ١٩٠.

(٧) الدر المصون : ٥ / ٩٥.

(٨) في ب : العادين.

(٩) الكشاف ٣ / ٥٨.

(١٠) المختصر (٩٩).

(١١) البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(١٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٣) في ب : إلا حياة.

(١٤) في : سقط من ب.

(١٥) في ب : وتقدم.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٨.


قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي (١) : ما لبثتم (إِلَّا قَلِيلاً) ، وكأنه قيل لهم : صدقتم (٢) ما لبثتم فيها إلّا قليلا ، لأنها في مقابلة أيام الآخرة (٣).

قوله : (لَوْ أَنَّكُمْ) جوابها محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لما أجبتم بهذه المدة. وانتصب «قليلا» (على النعت) (٤) لزمن (٥) محذوف (أو لمصدر محذوف) (٦) أي : إلّا زمنا قليلا ، أو إلّا لبثا قليلا (٧).

قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) الآية في نصب (عبثا) وجهان :

أحدهما : أنّه مصدر واقع موقع الحال أي : عابثين.

والثاني : أنه مفعول من أجله أي : لأجل العبث (٨). والعبث : اللعب ، وما لا فائدة فيه ، أي : لتعبثوا (٩) وتلعبوا ، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وكل ما ليس له غرض صحيح. يقال : عبث يعبث عبثا إذا خلط عليه بلعب ، وأصله من قولهم عبثت (١٠) الأقط (١١) ، أي : خلطته (١٢) ، والعبيث : طعام مخلوط بشيء ، ومنه العوبثاني لتمر وسويق وسمن مختلط. قوله : (وَأَنَّكُمْ) يجوز أن يكون معطوفا على (أنّما خلقناكم) لكون الحسبان منسحبا عليه (١٣) وأن يكون معطوفا على (عبثا) إذا كان مفعولا من أجله.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون معطوفا على (عبثا) أي : للعبث ولترككم غير مرجوعين (١٤) وقدّم «إلينا» على (تُرْجَعُونَ) لأجل الفواصل.

قوله : (لا تُرْجَعُونَ) هو خبر «أنّكم» (١٥) ، وقرأ الأخوان (١٦) «ترجعون» مبنيا للفاعل ، والباقون مبنيا للمفعول (١٧). وقد تقدّم أن (رجع) يكون لازما ومتعديا (١٨). وقيل : لا يكون إلا متعدّيا ، والمفعول محذوف.

__________________

(١) أي : سقط من ب.

(٢) في ب : صدقهم. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٨.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في ب : بزمن.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٦٢.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٥٨ ، التبيان ٢ / ٩٦٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(٨) في ب : لعبثوا. وهو تحريف.

(٩) في ب : عبث.

(١٠) الأقط : شيء يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل. اللسان (أقط).

(١١) في ب : خلطه.

(١٢) اللسان (عبث).

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ٥٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(١٤) الكشاف ٣ / ٥٨.

(١٥) في ب : لكم. وهو تحريف.

(١٦) حمزة والكسائي.

(١٧) السبعة (٤٤٩ ـ ٤٥٠) الحجة لابن خالويه (٢٥٩) الكشف ٢ / ١٣٨ ، النشر ٢ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، الإتحاف ٣٢١.

(١٨) عند قوله تعالى : «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ» [البقرة : ٢٨١] انظر اللباب ٢ / ١٤٢.


فصل

لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لو لا القيامة لما تميّز المطيع عن العاصي ، والصديق عن الزنديق ، وحينئذ يكون هذا العالم عبثا (١) ، وهو كقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً)(٢). والمعنى : أنّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزوجل (٣).

روي أن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه (٤) في أذنيه (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) حتى ختمها ، فبرأ ، (فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بماذا رقيته في أذنه فأخبره) (٥) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو أنّ رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» (٦) ثم نزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) ، والملك : هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته ، والحقّ : هو الذي يحق له الملك ، لأنّ كل شيء منه وإليه ، والثابت الذي لا يزول ملكه (٧).

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) قرأ العامة «الكريم» مجرورا نعتا للعرش ، وصف بذلك لتنزّل الخيرات منه والبركات والرحمة. أو لنسبته (٨) إلى أكرم الأكرمين ، كما يقال : بيت كريم إذا كان ساكنوه كراما (٩). وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن (١٠) ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع (١١) وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه نعت للعرش أيضا ، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى.

والثاني : أنه نعت ل (ربّ) (١٢).

فصل

قال المفسرون : العرش السرير الحسن. وقيل : المرتفع (١٣). وقال أبو مسلم : العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة ، ويجوز أن يراد به

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٩.

(٢) [القيامة : ٣٦].

(٣) في ب : تعالى.

(٤) في ب : فرواه. وهو تحريف.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) أخرجه الترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن مسعود. الدر المنثور ٥ / ١٧.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٩.

(٨) في ب : أو نسبة. وهو تحريف.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٥٨ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(١٠) في ب : وعن.

(١١) المختصر (٩٩) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤ ، الإتحاف ٣٢١.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤١١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٤٨.


الملك العظيم (١). والأكثرون : على أنّه العرش حقيقة (٢).

قوله : (وَمَنْ يَدْعُ) شرط ، وفي جوابه وجهان :

أحدهما (٣) : أنه (٤) قوله : (فَإِنَّما (٥) حِسابُهُ) ، وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) وجهان :

أحدهما : أنها صفة ، ل «إلها» (٦) وهي صفة لازمة (٧) ، أي : لا يكون الإله المدعو من دون الله إلّا كذا ، فليس لها مفهوم لفساد المعنى. ومثله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٨) لا يفهم أنّ ثمّ إلها آخر مدعوّا من دون الله له برهان ، وأن ثمّ طائرا (٩) يطير بغير جناحيه.

والثاني : أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه ، وإلى (١٠) الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(١١) جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان ، ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقولك : من أحسن إلى زيد لا أحد أحقّ بالإحسان منه فالله مثيبه (١٢).

والثاني من الوجهين الأولين : أن جواب الشرط قوله : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) كأنه فرّ من مفهوم الصفة لما يلزم من فساده ، فوقع في شيء لا يجوز إلّا في ضرورة شعر ، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية (١٣) كقوله :

٣٨١٤ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّر عند الله سيّان (١٤)

وقد تقدّم تخريج كون (لا بُرْهانَ لَهُ) على الصفة ، ولا إشكال ، لأنها صفة لازمة ، أو على أنها جملة اعتراض (١٥).

فصل

لمّا بيّن أنّه (الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ) أتبعه بأن من ادّعى إلها آخر فقد ادّعى

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٩.

(٢) المرجع السابق.

(٣) في ب : أصحهما.

(٤) في الأصل : صفه أنه.

(٥) في ب : فإنه. وهو تحريف.

(٦) في ب : لأنها. وهو تحريف.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٥٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤١١ ، التبيان ٢ / ٩٦٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٨) [الأنعام : ٣٨].

(٩) في ب : طائر.

(١٠) في ب : وال. وهو تحريف.

(١١) [الأنعام : ٣٨].

(١٢) الكشاف ٣ / ٤٢٥.

(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤١١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٥.

(١٤) البيت من بحر البسيط ، قاله حسان بن ثابت ، وليس في ديوانه ، وقيل : عبد الرحمن بن حسان ، وقيل : كعب بن مالك.

وقد تقدم.

(١٥) انظر الوجه الأول ، وقد تقدم قريبا.


باطلا ، لأنه (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) لا حجّة ولا بيّنة ، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك ، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد. ثم قال : (فَإِنَّما حِسابُهُ) أي : جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال : (إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(١) كأنّه قال : إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلّا الله (٢).

قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها. قرأ الجمهور بكسر همزة (إنّه) على الاستئناف المفيد للعلة (٣). وقرأ الحسن وقتادة «أنّه» بالفتح (٤) ، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر «حسابه» قال : ومعناه حسابه عدم الفلاح ، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو ، فوضع الكافرون في موضع الضمير ، لأن «من يدع» في موضع الجمع ، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون (٥). انتهى.

ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي : لأنّه لا يفلح (٦). وقرأ الحسن : (لا يُفْلِحُ)(٧) مضارع (فلح) بمعنى (أفلح) (فعل) و (أفعل) فيه بمعنى ، والله أعلم.

فصل

المعنى لا يسعد من جحد وكذّب ، وأمر الرسول بأن يقول : (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) ويثني عليه بأن (خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ، وقد تقدّم بيان كونه (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٨).

فإن قيل : كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها؟

فالجواب : أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته ، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات (٩).

روي أنّ أوّل سورة (قد أفلح) وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها ، واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح (١٠). وروى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرّوح والرّيحان ، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» (١١).

__________________

(١) [الغاشية : ٢٦].

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٩.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٦٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٥.

(٤) المختصر (٩٩) ، المحتسب ٢ / ٩٨ ، الكشاف ٣ / ٥٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٥.

(٥) الكشاف ٣ / ٥٨.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٦٢.

(٧) المختصر (٩٩) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٥.

(٨) عند قوله تعالى : «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» [الأنبياء : ٣٨].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٩.

(١٠) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٦) ، وفيه قال ابن حجر لم أجده.

(١١) انظر الكافي الشاف (١١٦).


سورة النور

مدنية (١) وهي أربع وستون آية ، وألف وثلاثمائة (٢) وست عشرة كلمة ، وخمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم (٣)

قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢)

(قوله تعالى) (٤) : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) الآية.

قرأ العامة «سورة» بالرفع ، وفيه (٥) وجهان :

أحدهما : أن تكون مبتدأ ، والجملة بعدها صفة لها ، وذلك هو المسوّغ للابتداء بالنكرة ، وفي الخبر وجهان :

أحدهما : أنه الجملة من قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي).

(وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال : ويجوز أن تكون مبتدأ ، والخبر (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)) (٦) وما بعد ذلك. والمعنى : السورة المنزّلة والمفروضة كذا وكذا ، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم(٧).

والثاني : أن الخبر محذوف ، أي : فيما يتلى عليكم سورة ، أو فيما أنزلنا سورة (٨).

والوجه الثاني من الوجهين الأولين : أن تكون خبرا لمبتدأ مضمر ، أي : هذه (سورة (٩)) (١٠).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) وثلاثمائة : سقط من ب.

(٣) في ب : تفسير سورة النور بسم الله الرحمن الرحيم.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في ب : وفيها.

(٦) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤١٤.

(٨) الكشاف ٣ / ٥٩.

(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٥ ، الكشاف ٣ / ٥٩ ، البيان ٢ / ٩١٣.

(١٠) ما بين القوسين في ب : السورة.


وقال أبو البقاء : (سورة) بالرفع على تقدير : هذه سورة ، أو فيما يتلى عليك (١) سورة ، فلا تكون (سورة) مبتدأ ، لأنها نكرة (٢).

وهذه عبارة مشكلة على ظاهرها ، كيف يقول : «لا تكون مبتدأ» مع تقديره : فيما يتلى عليك سورة؟ وكيف يعلّل المنع بأنها نكرة مع تقديره لخبرها جارا مقدما عليها ، وهو مسوغ للابتداء بالنكرة؟ وقرأ عمر (٣) بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف «سورة» بالنصب (٤) ، وفيها (٥) أوجه :

أحدها : أنها منصوبة بفعل مقدّر غير مفسّر بما بعده ، تقديره : «اتل سورة» أو «اقرأ سورة»(٦).

والثاني : أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده ، والمسألة من الاشتغال ، تقديره : «أنزلنا سورة (أنزلناها (٧)») (٨).

والفرق بين الوجهين : أنّ الجملة بعد «سورة» في محل نصب على الأول ، ولا محل لها على الثاني (٩).

الثالث : أنها منصوبة على الإغراء ، أي : دونك سورة ، قاله الزمخشري (١٠). ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء (١١). واستشكل أبو حيان أيضا على وجه الاشتغال جواز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ (١٢) ، ومعنى ذلك أنه ما من موضع يجوز (فيه) (١٢) النصب على الاشتغال إلّا ويجوز أن يرفع على الابتداء ، وهنا لو رفعت «سورة» بالابتداء لم يجز ، إذ لا مسوغ ، فلا يقال : «رجلا (١٣) ضربته» لامتناع «رجل ضربته» ، ثم أجاب بأنه إن اعتقد حذف وصف جاز ، أي : «سورة معظّمة (١٤) أو موضّحة أنزلناها» فيجوز ذلك (١٥).

الرابع : أنها منصوبة على الحال من «ها» في «أنزلناها» ، والحال من المكنيّ يجوز أن يتقدم عليه ، قاله الفراء (١٦).

__________________

(١) في ب : عليكم.

(٢) التبيان ٢ / ٩١٣.

(٣) في النسختين : الحسن. والصواب ما أثبته.

(٤) المختصر (١٠٠) ، والمحتسب ٢ / ٩٩.

(٥) في ب : وفيه.

(٦) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٦ ، المحتسب ٢ / ٩٩ ـ ١٠٠ ، الكشاف ٣ / ٥٩ ، التبيان ٢ / ٩٦٣.

(٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٥ ، المحتسب ٢ / ٩٩ ، الكشاف ٣ / ٥٩ ، البيان ٢ / ١٩١ ، التبيان ٢ / ٩٦٣.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) لأن الجملة في الوجه الأول صفة ل «سورة» تابعة لها في إعرابها ، وفي الوجه الثاني مفسرة ، والجملة المفسرة لا محل لها من الإعراب. انظر المحتسب ٢ / ١٠٠.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٥٩.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٧.

(١٢) فيه : تكملة ليست في المخطوط.

(١٢) فيه : تكملة ليست في المخطوط.

(١٣) في ب : رجل. وهو تحريف.

(١٤) في ب : عظيمة.

(١٥) البحر المحيط ٦ / ٤٢٧.

(١٦) معاني القرآن ٢٤٤.


وعلى هذا فالضمير في «أنزلناها» ليس عائدا على «سورة» بل على الأحكام ، كأنه قيل : أنزلنا الأحكام سورة من سور القرآن ، فهذه الأحكام ثابتة بالقرآن بخلاف غيرها فإنه قد ثبت بالسّنّة (١) ، وتقدم معنى الإنزال.

قوله (٢) : (وَفَرَضْناها) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد (٣). والباقون بالتخفيف (٤).

فالتشديد إمّا للمبالغة في الإيجاب وتوكيد ، وإمّا لتكثير المفروض عليهم ، وإمّا لتكثير الشيء المفروض. والتخفيف بمعنى : أوجبناها وجعلناها مقطوعا بها. وقيل : ألزمناكم العمل بها وقيل : قدرنا ما فيها من الحدود.

والفرض : التقدير ، قال الله (تعالى) (٥) : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ)(٦) أي : قدرتم ، (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ)(٧). ثم إنّ السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود ، وتحصيل الحاصل محال ، فوجب أن يكون المراد : فرضنا ما بيّن فيها من الأحكام (٨) ، ثم قال : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ (٩) بَيِّناتٍ) واضحات. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تتعظون ، وأراد ب «الآيات» ما ذكر في السورة من الأحكام والحدود ودلائل التوحيد.

وقرىء «تذكّرون» بتشديد الذال وتخفيفها (١٠). وتقدم معنى «لعلّ» في سورة البقرة (١١).

قال القاضي : «لعلّ» بمعنى «كي» (١٢).

فإن قيل : الإنزال يكون من صعود إلى نزول ، وهذا يدل على أنه تعالى في جهة؟

فالجواب : أن جبريل كان يحفظها من اللوح ثم ينزلها (١٣) على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقيل : «أنزلناها» توسعا.

وقيل : إن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب إلى السماء الدنيا دفعة واحدة ، ثم أنزلها بعد ذلك على لسان جبريل ـ عليه‌السلام (١٤) ـ.

__________________

(١) في ب : بالنسبة. وهو تحريف.

(٢) قوله : سقط من ب.

(٣) في ب : بالتشد.

(٤) السبعة (٤٥٢) ، الحجة لابن خالويه (٢٥٩) ، الكشف ٢ / ١٣٣ ، النشر ٢ / ٣٣٠ ، الإتحاف ٣٢٢.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) من قوله تعالى : «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» [البقرة : ٢٣٧].

(٧) [القصص : ٨٥].

(٨) الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٠.

(٩) آيات : سقط من ب.

(١٠) الكشاف ٣ / ٥٩.

(١١) عند قوله تعالى : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» [البقرة : ٢١].

(١٢) انظر الفخر الرازي ١٣ / ١٣١.

(١٣) في ب : ينزل بها.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.


وقيل : معنى «أنزلناها» : أعطيناها الرسول ، كما يقول العبد إذا كلم (١) سيّده : رفعت إليه حاجتي ، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال ، قال الله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٢) (٣).

قوله تعالى (٤) : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) في رفعهما (٥) وجهان :

مذهب سيبويه : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : فيما يتلى عليكم حكم الزّانية ، ثم بيّن ذلك بقوله : «فاجلدوا» ... إلى آخره (٦).

والثاني وهو مذهب الأخفش وغيره : أنه مبتدأ ، والخبر جملة الأمر (٧) ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط ، ولكون (٨) الألف واللام بمعنى الذي (٩) ، تقديره : من زنا فاجلده ، أو التي (١٠) زنت والذي زنا فاجلدوهما (١١) ، وتقدم الكلام على هذه المسألة في قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما)(١٢) وعند قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(١٣) فأغنى عن إعادته (١٤).

وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وأبو شيبة ورويس (١٥)

__________________

(١) في ب : كلمة. وهو تحريف.

(٢) [فاطر : ١٠].

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٠.

(٤) تعالى : سقط من ب.

(٥) في ب : رفعها.

(٦) قال سيبويه : (وكذلك «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» كأنه لما قال جل ثناؤه : «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها» قال : في الفرائض الزانية والزاني ، أو الزانية والزاني في الفرائض ، ثم قال : «فاجلدوا» فجاء بالفعل بعد أن قضى فيهما الرفع) الكتاب ١ / ١٤٣.

وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٦ ، الكشاف ٣ / ٥٩ ، البيان ٢ / ١٩١ ، التبيان ٢ / ٩٦٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٧.

(٧) قال الأخفش : (وقد قرأها قوم نصبا إذ كان الفعل يقع على ما هو من سبب الأول ، وهو في الأمر والنهي) معاني القرآن ١ / ٢٤٧. وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٦ ، الكشاف ٣ / ٥٩ ، البيان ٢ / ١٩١ ، التبيان ٢ / ٩٦٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٧.

(٨) في ب : هو أن. وهو تحريف.

(٩) في ب : بمعنى الألف الذي. وهو تحريف.

(١٠) في النسختين : الذي. والصواب ما أثبته.

(١١) تقدم الكلام على زيادة الفاء في خبر المبتدأ عند قوله تعالى : «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ» [مريم : ٦٥].

(١٢) [النساء : ١٦].

(١٣) [المائدة : ٣٨].

(١٤) ذكر هناك ما ذكره هنا وترتب على ذلك أنه على قول سيبويه ومن وافقه يكون الكلام جملتين الأولى خبرية والثانية أمرية ، والفاء للربط بينهما ، وعلى قول الأخفش الكلام جملة واحدة خبرية من مبتدأ وخبر. انظر اللباب ٣ / ٣٤ ، ٣٧ ، ٢٤٩.

(١٥) هو محمد بن المتوكل أبو عبد الله اللؤلؤي البصري المعروف برويس مقرىء حاذق ضابط مشهور ، أخذ القراءة عن يعقوب الحضرمي ، وروى القراءة عنه محمد بن هارون التمار ، وغيره. مات سنة ٢٣٨ ه‍. طبقات القراء ٢ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥.


بالنصب (١) على الاشتغال (٢).

قال الزمخشري : «وهو أحسن (٣) من (سورة أنزلناها) لأجل الأمر» (٤).

وقرىء : «والزّان» (٥) بلا ياء (٦).

ومعنى «فاجلدوا» : فاضربوا (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، يقال : جلده : إذا ضرب جلده ، كما يقال : رأسه وبطنه : إذا ضرب رأسه وبطنه ، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح ، ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم.

قوله (تعالى) (٧) : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) : رحمة ورقة.

قرأ العامة هنا وفي الحديد (٨) بسكون همزة «رأفة». وابن كثير بفتحها (٩).

وقرأ ابن جريج وتروى أيضا عن ابن كثير وعاصم «رآفة» بألف بعد الهمزة (١٠) بزنة «سحابة». وكلها مصادر ل «رأف به يرؤف» ، وتقدم معناه ، وأشهر المصادر الأول ، ونقل أبو البقاء فيها لغة رابعة ، وهي إبدال الهمزة ألفا (١١) ، وهذا ظاهر.

وقرأ العامة «تأخذكم» بتاء التأنيث مراعاة للفظ.

وعليّ بن أبي طالب والسّلميّ ومجاهد بالياء من تحت (١٢) ، لأنّ التأنيث مجازيّ ، وللفصل (١٣) بالمفعول والجار (١٤).

__________________

(١) المختصر (١٠٠) ، المحتسب ٢ / ١٠٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٧.

(٢) قال ابن جني عند توجيهه لهذه القراءة : (وهذا منصوب بفعل مضمر أيضا ، أي : اجلدوا الزانية والزاني ، فلما أضمر الفعل فسره بقوله : «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»وجاز دخول الفاء في هذا الوجه لأنه موضع أمر ، ولا يجوز زيدا فضربته لأنه خبر) المحتسب ٢ / ١٠٠.

(٣) يريد أن نصب الزانية والزاني أحسن من نصب سورة لأجل الأمر.

(٤) الكشاف ٣ / ٥٩.

(٥) في ب : والزاني. وهو تحريف.

(٦) قال الفراء : (وهي في قراءة عبد الله محذوفه الياء (الزّان) مثل ما جرى في كتاب الله كثيرا من حذف الياء من : الداع ، والمناد ، والمهتد ، وما أشبه ذلك) معاني القرآن ٢ / ٢٤٥ وانظر المختصر (١٠٠).

وهي قراءة شاذة غير متواترة كما أنها ضعيفة إذ حذفت لام الكلمة دون موجب للحذف لأنه لم يقع بعدها ساكن.

(٧) تعالى : سقط من الأصل.

(٨) يشير إلى قوله تعالى : «وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» [الحديد : ٢٣].

(٩) أي بفتح الهمزة هنا ، وإسكانها في الحديد. السبعة (٤٥٢) ، الكشف ٢ / ١٣٣ ، النشر ٢ / ٢٣٠ الإتحاف (٣٢٢).

(١٠) المختصر (١٠٠) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٩.

(١١) قال أبو البقاء : (والرأفة فيها أربعة أوجه : إسكان الهمزة ، وفتحها ، وإبدالها ألفا وزيادة ألف بعدها ، وكلّ ذلك لغات قد قرىء بها) التبيان ٢ / ٩٦٤.

(١٢) معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٤٥ ، المختصر (١٠٠) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٩.

(١٣) في ب : والفصل.

(١٤) في ب : والحال. وهو تحريف.


و «بهما» يتعلق ب «تأخذكم» ، أو بمحذوف على سبيل البيان ، ولا يتعلق ب «رأفة» لأن المصدر لا يتقدم (١) عليه معمولا ، و «دين الله» متعلّق بالفعل قبله أيضا (٢).

وهذه الجملة (٣) دالة على جواب (٤) الشرط بعدها (٥) ، أو (٦) هي الجواب عند بعضهم (٧).

فصل

الزنا حرام ، وهو من الكبائر ، لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله : (وَلا يَزْنُونَ)(٨) ، وقال (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى)(٩) ، وقال عليه‌السلام (١٠) : «يا معشر الناس اتقوا الزّنا فإنّ فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أما التي في الدنيا : فيذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر. وأما اللاتي (١١) في الآخرة : فسخط الله ، وسوء الحساب ، وعذاب (النار (١٢)»)(١٣).

قال بعض العلماء في حدّ الزنا : إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم قطعا (١٤).

واختلف العلماء في اللواط ، هل يسمى زنا أم لا؟

فقيل : نعم لقوله ـ عليه‌السلام (١٥) ـ : «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» (١٦) ، ولدخوله في حدّ الزنا المتقدم. وقيل : لا يسمى زنا ، لأنه في العرف لا يسمى زانيا ، ولو حلف لا يزني فلاط لم يحنث ، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة. وأما الحديث فمحمول على الإثم (بدليل قوله ـ عليه‌السلام ـ) (١٧) : «إذا أتت

__________________

(١) في : ولا يتعلق. وهو تحريف.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٦٤.

(٣) وهي قوله تعالى : «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ» [النور : ٢].

(٤) في ب : وجوب. وهو تحريف.

(٥) وهو قوله : «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ» [النور : ٢]. أي : فتعطلوا الحدود ولا تقيموها. وهو قول مجاهد والشعبي وابن زيد ، والنهي في الظاهر للرأفة والمراد ما تدعو إليه الرأفة وهو تعطيل الحدود أو نقصها. معاني القرآن ٢ / ٢٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٩.

(٦) في ب : و.

(٧) هو ظاهر كلام الزمخشري ، فإنه قال : (وقوله : «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه) الكشاف ٣ / ٦٠.

(٨) من قوله تعالى : «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً» [الفرقان : ٦٨].

(٩) من قوله تعالى : «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً» [الإسراء : ٣٢].

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : التي.

(١٢) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٦).

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٢.

(١٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٦) ذكره الفخر الرازي. انظر تفسيره ٢٣ / ١٣٢.

(١٧) ما بين القوسين سقط من ب.


المرأة المرأة فهما زانيتان» (١) ، وقوله عليه‌السلام (٢) : «اليدان تزنيان ، والعينان تزنيان» (٣). وأما دخوله في مسمى الفرج لما فيه من الانفراج فبعيد ، لأن العين والفم منفرجان ولا يسميان فرجا ، وسمي النجم نجما لظهوره ، وما سموا كل ظاهر نجما ، وسموا الجنين جنينا لاستتاره ، وما سمّوا كل مستتر جنينا (٤).

واختلفوا (٥) في حدّ اللوطي :

فقيل : حدّ الزنا ، إن كان محصنا رجم ، وإن كان غير محصن جلد وغرب (٦).

وقيل : يقتل الفاعل والمفعول مطلقا (٧).

واختلفوا في كيفية قتله :

فقيل : تضرب رقبته كالمرتد لقوله عليه‌السلام (٨) : «من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه» (٩).

وقيل : يرجم بالحجارة (١٠).

وقيل : يهدم عليه جدار (١١).

وقيل : يرمى من شاهق ، لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك (١٢).

وقيل : يعزّر الفاعل (١٣) ، وأما المفعول فعليه القتل إن (١٤) قلنا يقتل الفاعل ، وإن قلنا على الفاعل حدّ الزنا فعلى المفعول جلد مائة وتغريب عام محصنا كان أو غير محصن.

وقيل : إن كانت امرأة (١٥) محصنة فعليها الرجم (١٦).

فصل

وأجمعت الأمة على حرمة إتيان البهيمة ، واختلفوا في حدّه :

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي. انظر تفسيره ٢٣ / ١٣٣.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢ / ٣٤٣ ، ٣٤٤ ، ٣٧٢ ، ٤١١ ، ٥٢٨ ، ٥٣٥ ، ٥٣٦.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٥) في ب : واختلف.

(٦) في ب : رجم وعذب. وهو تحريف.

(٧) القولان للإمام الشافعي ، وأصحهما الأول. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٣.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) أخرجه أبو داود (حدود) ٤ / ٦٠٧ ـ ٦٠٨ ، الترمذي (حدود) ٣ / ٨ ، ابن ماجه (حدود) ٢ / ٨٥٦.

(١٠) وهو قول مالك وأحمد وإسحاق. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٣.

(١١) يروى ذلك عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ.

(١٢) قال تعالى : «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» [الحجر : ٧٤].

(١٣) ذلك عند أبي حنيفة. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٣.

(١٤) في ب : وإن.

(١٥) امرأة : سقط من ب.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٣.


فقيل : حدّ الزنا.

وقيل : يقتل مطلقا (١) لقوله عليه‌السلام (٢) : «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» (٣).

وقيل : التعزير (٤) ، وهو الصحيح (٥).

وأما السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه إلا التعزير (٦).

فصل

تقدم الكلام في حدّ الزنا في سورة النساء (٧) ، وأما إثباته فلا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة. أما الإقرار ، فقال الشافعي : يثبت (٨) بالإقرار مرة واحدة لقصة العسيف (٩).

وقال أبو حنيفة وأحمد : لا بد من الإقرار أربع مرات لقصة ما عز (١٠) ، ولقوله عليه‌السلام (١١) : «إنّك شهدت على نفسك أربع مرات» ولو كانت المرة الواحدة مثل الأربع في إيجاب الحدّ لكان هذا الكلام لغوا ، ولقول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لما عز بعد إقراره الثالثة : لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) وهما للإمام الشافعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٣.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أخرجه أبو داود (حدود) ٤ / ٦٠٩ ـ ٦١٠ ، الترمذي (حدود) ٣ / ٨ ، وابن ماجه (حدود) ٢ / ٨٥٦ ، وأحمد ١ / ٢٦٩.

(٤) في ب : التعزيز. وهو تحريف.

(٥) وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأحمد رحمهم‌الله. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٤.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٣٥.

(٧) عند قوله تعالى : «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ» [النساء : ١٥].

انظر اللباب ٣ / ٣٤.

(٨) في ب : ثبت.

(٩) وهو ما روي في الصحيحين أن أعرابيين أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما يا رسول الله كان ابني عسيفا يعني أجيرا على هذا فزنا بامرأته ، فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأنّ على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام ، واغد يا أنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها.

البخاري (صلح) ٢ / ١١٢ ، (شروط) ٢ / ١١٨ ، (الإيمان) ٤ / ١٤٩ ، (حدود) ٤ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، ١٨١ ، ١٨٢ ـ ١٨٣ ومسلم (حدود) ٣ / ١٣٢٤ ـ ١٣٢٥.

(١٠) هو ماعز بن مالك أحد الذين زنوا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذهب إليه ليطهره فراجعه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرة واثنتين وثلاثة حتى يرجع عن إقراره بالزنا ، فلم يملك ما عز تجاه إصرار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا أن يعترف بالزنا صراحة. انظر صحيح مسلم ٣ / ١٣١٩ ـ ١٣٢٤.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.


وقال بريدة الأسلمي (١) : كنا معشر أصحاب محمد نقول : لو لم يقر ما عز (أربع مرات) (٢) ما رجمه رسول الله.

وأيضا فكما لا يقبل في الشهادة على الزنا إلّا أربع شهادات ، فكذا في الإقرار.

وكما أن الزنا لا ينتفي إلّا بأربع شهادات في اللعان ، فلا يثبت إلا بالإقرار (٣) أربع مرات.

وأما البينة فأجمعوا على أنه لا بدّ من أربع شهادات لقوله تعالى (٤) : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ) (٥) (٦).

فصل

قال بعض العلماء (٧) : لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه ، كما إذا ادعى رجل على آخر (٨) حقا وأقام عليه بينة ، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه ، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حيّا بعد ذلك ، أو ادعى نكاح امرأة وقد (٩) سمعه القاضي طلقها ، لا يجوز أن يقضي به ولو أقام عليه شهودا (١٠) وهل يجوز له أن يقضي بعلم نفسه مثل إن ادعى عليه ألفا وقد رآه القاضي أقرضه ، أو سمع المدعى عليه يقرّ به؟

فقال أبو يوسف ومحمد والمزني : يجوز له أن يقضي بعلمه ، لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود ، وهي إنما تفيد الظن ، فلأن يجوز (له) (١١) بما هو منه على علم أولى.

قال الشافعي : «أقضي بعلمي (١٢) ، وهو أقوى من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، وهو أقوى من شاهد ويمين ، (وبشاهد ويمين) (١٣) وهو أقوى من (النكول (١٤)) (١٥) وردّ اليمين» (١٦) وقيل : لا يحكم بعلمه (١٧) لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ، ولم يوجد هذا في الأموال فأما العقوبات ، فإن كانت العقوبة من حقوق العباد كالقصاص وحدّ القذف فهو مثل المال ، إن قلنا لا يقضي فهاهنا أولى ، وإلا فقولان.

والفرق بينهما أن حقوق الله تعالى مبنية (١٨) على المساهلة والمسامحة ، ولا فرق

__________________

(١) هو بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي. روى عنه ابنه عبد الله مات سنة ٦٣ ه‍ ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ١٢١.

(٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٣) في ب : إقرار.

(٤) تعالى : سقط من ب.

(٥) [النساء : ١٥].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٧) وهو الإمام محيي السنة في كتاب التهذيب. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(٨) في ب : الآخر.

(٩) في ب : قد.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(١١) له : سقط من الأصل.

(١٢) في ب : بعلمه.

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) النكول في اليمين : هو الامتناع منها وترك الإقدام عليها.

(١٥) ما بين القوسين في ب : المشكوك. وهو تحريف.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(١٧) وهو قول ابن أبي ليلى.

(١٨) في الأصل : مبنى.


على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته (وزمان ولايته) (١) أو في غيره (٢). وقال أبو حنيفة: إن حصل له العلم في بلد ولايته (وفي زمان ولايته) (٣) له أن يقضي بعلمه وإلا فلا (٤).

فصل

لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه لقوله عليه‌السلام (٥) : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» (٦). وقيل : بل يرفعه إلى الإمام.

ويجلد المحصن مع ثيابه ولا يجرد ، ولكن ينبغي أن تكون بحيث يصل ألم الضرب إليه ، وأما المرأة فلا يجوز تجريدها ، بل تربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ، ويلي ذلك منها (٧) امرأة (٨). ويضرب بسوط لا جديد يجرح ولا خلق لا يؤلم ، ولا يمد ، ولا يربط ، بل يترك حتى يتقي بيديه (٩) ويضرب الرجل قائما والمرأة جالسة ، وتفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ويتقى المهالك كالوجه والبطن والفرج.

قال الشافعي : يضرب على الرأس.

وقال أبو حنيفة : لا يضرب على الرأس (١٠).

فصل

ولا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها ، ويستغنى عنها لحديث الجهنية (١١) ، وأما المريض فإن كان يرجى زوال مرضه أخّر حتى يبرأ (إن كان الحد جلدا ، وإن كان رجما أقيم عليه الحدّ ، لأن المقصود قتله) (١٢) ، وإن كان مرضه لا يرجى زواله لم يضرب بالسياط ، بل يضرب بضغث (١٣) فيه عيدان بعدد ما يجب عليه لقصة أيوب (١٤) (ـ عليه

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٣.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) أخرجه البخاري (بيوع) ٢ / ١٨ ، ٢٨ ، (عتق) ٢ / ٨٤ ، (حدود) ٤ / ١٨٢ ، ومسلم (حدود) ٣ / ١٣٢٩ ، أبو داود (حدود) ٤ / ٦١٤ ، الترمذي (حدود) ٢ / ٤٤٤ ، ابن ماجه (حدود) ٢ / ٨٠٧ وأحمد ٤ / ٣٤٣.

(٧) منها : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٦.

(٩) في ب : بيده.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٦ ـ ١٤٢.

(١١) روى عمران بن الحصين : أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي حبلى من الزنا ، فقالت : يا نبي الله أصبت حدا فأقمه عليّ ، فدعا نبي الله وليّها فقال : أحسن إليها ، فإذا وضعت فائتني بها. ففعل ، فأمر بها نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشدت عليها ثيابها ، ثم أمر بها فرجمت ، ثم صلى عليها.

انظر صحيح مسلم (حدود) ١٣٢٤ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٧.

(١٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٣) الضغث : قبضة من قبضات مختلفة يجمعها أصل واحد مثل الأصل. اللسان (ضغث).

(١٤) قال تعالى : «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ» [ص : ٤٤].


السلام (١) ـ) (٢) وأدلة جميع ما تقدم مذكورة في كتب الفقه.

فصل

لو فرق السياط تفريقا لا يحصل به التنكيل مثل أن ضرب كل يوم سوطا (٣) أو سوطين لم يحسب ، وإن ضرب كل يوم عشرين وأكثر حسب (٤).

فصل

ويقام الحد في وقت اعتدال الهواء ، فإن كان في وقت شدة حرّ أو برد نظرنا : إن كان الحدّ رجما أقيم عليه كما يقام في المرض ، لأن المقصود قتله.

وقيل : إن كان الرجم ثبت بإقراره أخّر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض (إن كان يرجى زوال ، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم) (٥) وقد أثر الرجم في جسمه فيعين شدة الحر والبرد والمرض على إهلاكه.

وإن ثبت بالبينة لا يؤخر ، لأنه لا يسقط.

وإن كان الحد جلدا لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض (٦).

فصل

معنى قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ).

قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي : لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها (٧).

وقيل : ولا تأخذكم رأفة فتخففوا ، ولكن أوجعوهما ضربا. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن(٨).

قال الزهري : يجتهد في حدّ الزنا والغربة ، ويخفف في حدّ الشرب (٩).

وقال قتادة : يخفف في الشرب والغربة ، ويجتهد في الزنا (١٠).

ومعنى (فِي دِينِ اللهِ) : أي : في حكم الله ، روي (١١) أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد : «اضرب ظهرها ورجليها» فقال له ابنه : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) فقال : «يا بنيّ إن الله لم يأمرني بقتلها ، وقد ضربت فأوجعت» (١٢).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٧.

(٢) ما بين القوسين في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : سوط.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٧.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٩.

(٨) المرجع السابق.

(٩) البغوي ٦ / ٥٢.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في ب : وروي.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٥١.


فصل

إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك ، وقع به بعض الحد أو لم يقع (به (١)) (٢) ، لأنّ ماعزا لما مسته الحجارة هرب ، فقال عليه‌السلام (٣) : «هلّا تركتموه» (٤).

وقيل : لا يقبل رجوعه (٥).

ويحفر للمرأة إلى صدرها ، ولا يحفر للرجل (٦) ، وإذا مات في الحدّ غسل وكفّن وصلّي عليه ودفن في مقابر المسلمين (٧).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معناه : أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله.

قوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي : وليحضر «عذابهما» : حدهما إذا أقيم عليهما «طائفة» نفر من المؤمنين. قال النخعي ومجاهد : أقله رجل واحد ، لقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)(٨). وقال عطاء وعكرمة : اثنان ، لقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ)(٩) وكل ثلاثة فرقة ، والخارج عن الثلاثة واحد أو (١٠) اثنان ، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر. وقال الزهري وقتادة : ثلاثة فصاعدا ، لأن الطائفة هي الفرقة التي تكون حافة حول الشيء ، وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها الثلاثة.

وقال ابن عباس : «إنّها أربعة ، عدد شهود الزنا» ، وهو قول مالك وابن زيد.

وقال الحسن البصري : عشرة ، لأنها العدد الكامل (١١).

واعلم أن قوله : «وليشهد» أمر ، وظاهره (١٢) للوجوب ، لكن الفقهاء قالوا : يستحب حضور الجمع ، والمقصود منه (١٣) : إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة.

وقيل : أراد بالطائفة : الشهود يجب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة (١٤).

وقال الشافعي ومالك : يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر ، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور. وقال أبو حنيفة : «إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي ، ثم الإمام ، ثم الناس ، وإن ثبت بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس».

__________________

(١) وبه قال أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق. الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) أخرجه الترمذي (حدود) ٢ / ٤٥٠.

(٥) وهو قول الحسن ، وابن أبي ليلى ، وداود. الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٧) المرجع السابق.

(٨) [الحجرات : ٩].

(٩) [التوبة : ١٢٢].

(١٠) في ب : و.

(١١) انظر هذه الأقوال في الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠.

(١٢) في ب : وظاهر.

(١٣) في الأصل : من.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠.


واحتج الشافعي بأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رجم ماعزا والغامدية ولم يحضر رجمهما (١) وأما تسميته عذابا فإنه يدل على أنه عقوبة ، ويجوز أن يسمى عذابا لأنه يمنع المعاودة ، كما يسمى نكالا لذلك (٢).

قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٣)

قرأ أبو البرهسيم (٣) «وحرّم» مبنيا للفاعل مشددا (٤). وزيد بن علي (٥) «حرم» بزنة كرم (٦). واختلفوا في معنى الآية وحكمها :

فقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس : «قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهنّ يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم ، فاستأذنوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزلت هذه الآية» وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا ، لأنهنّ كنّ مشركات (٧).

وقال عكرمة : نزلت في نساء بمكة (٨) والمدينة ، منهن تسع لهن رايات البيطار (٩) يعرفن بها منزلهن : أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي (١٠) ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ، فأراد (١١) ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في نكاح «أمّ مهزول» واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله (١٢) هذه الآية (١٣).

فإن قيل : قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ظاهره خبر وليس الأمر كذلك ، لأن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة ، والزانية (١٤)

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٤٨.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠.

(٣) هو عمران بن عثمان أبو البرهسيم الزبيدي الشامي صاحب القراءة الشاذة ، روى الحروف عنه شريح بن يزيد. طبقات القراء ١ / ٦٠٤ ـ ٦٠٥.

(٤) الكشاف ٣ / ٦٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣١.

(٥) تقدم.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٤٣١.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥١.

(٨) في ب : مكة.

(٩) أي : كرايات معالج الدواب.

(١٠) هو السائب بن صفيّ بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، القرشي المخزومي ، قال ابن عباس : إنّ السائب بن أبي السائب ممن هاجر مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأعطاه من غنائم حنين ، وهو من المؤلفة قلوبهم ، وممن حسن إسلامهم منهم.

أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ١ / ٩٣.

(١١) في ب : وأراد.

(١٢) في ب : الله تعالى.

(١٣) انظر أسباب النزول للواحدي (٣٣٣).

(١٤) في ب : فالزانية.


قد ينكحها المؤمن العفيف ، وأيضا فقوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ليس كذلك ، فإن المؤمن يحل له التزويج بالمرأة الزانية.

فالجواب من وجوه :

أحدها ـ وهو أحسنها ـ : ما قاله القفال : إن اللفظ وإن كان عاما لكن المراد منه الأعم الأغلب ، لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة ، وإنما يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة ، والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح ، بل تنفر عنه ، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين ، فهذا على الأعم الأغلب ، كما يقال «لا يفعل الخير إلّا الرجل التقيّ» وقد يفعل الخير من ليس بتقي ، فكذا هاهنا.

وأما قوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فالجواب من وجهين :

الأول : أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها فحرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور موقع التهمة ، والتسبب لسوء المقالة فيه ، والغيبة ، ومجالسة الخطائين (١) فيها التعرض لاقتراف الآثام (٢) ، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار.

وثانيها : أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني (٣) وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين ، لأن قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) معناه : أنّ الزاني لا يرغب إلا في زانية ، فهذا محرم على المؤمنين ، ولا يلزم (٤) من حرمة هذا الحصر حرمة التزويج بالزانية ، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية.

الوجه الثاني : أن الألف واللام في قوله : «الزّاني» وفي قوله : «المؤمنين» وإن كان للعموم ظاهرا لكنه مخصوص بالأقوام الذين نزلت فيهم كما قدمناه آنفا.

الوجه الثالث : أن قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) وإن كان خبرا في الظاهر لكن المراد منه النهي ، والمعنى : كل من كان زانيا فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية ، «وحرّم ذلك على المؤمنين» هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام.

وعلى هذا الوجه ذكروا قولين :

أحدهما : أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود.

ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها.

ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة.

__________________

(١) في ب : الخطابين. وهو تحريف.

(٢) في ب : الأيام. وهو تحريف.

(٣) في ب : أو.

(٤) في الأصل : ويلزم.


والقول الثاني : أن هذا الحكم صار منسوخا. واختلفوا في ناسخه : فقال الجبائي : إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) ، (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)(٢).

قال المحققون : هذان الوجهان ضعيفان ، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وأيضا فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة ، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي ، فكيف يصح؟

وأما قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فلا يصلح أن يكون ناسخا ، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما (٣).

ولقائل أن يقول : لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين ، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ ، وأن للزنا تأثيرا في الفرقة ما ليس لغيره (٤) ، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ، ولأن الزنا يورث العار ، ويؤثر في الفراش ، ففارق غيره.

واحتج من ادعى النسخ بأن رجلا سأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس» ، قال : «طلّقها». قال : «إني أحبها ، وهي جميلة» ، قال : «استمتع بها». وفي رواية : «فأمسكها إذن» (٥).

وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام. وبأن ابن عباس سئل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس ، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.

وعن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه سئل عن ذلك فقال : «أوّله سفاح وآخره نكاح ، والحرام لا يحرّم الحلال».

الوجه الرابع : أن يحمل النكاح على الوطء ، والمعنى : أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة ، وكذا الزانية «وحرّم ذلك على المؤمنين» أي : وحرم الزنا على المؤمنين ، وهذا تأويل أبي مسلم ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، ورواية الوالبي (٦) عن ابن عباس (٧).

__________________

(١) [النساء : ٣].

(٢) [النور : ٣٢].

(٣) في ب : أو غيرها. وهو تحريف.

(٤) في ب : في غيره.

(٥). أخرجه أبو داود (نكاح) ٢ / ٥٤١ ـ ٥٤٢ ، النسائي (نكاح) ٦ / ٦٧ ، (طلاق) ٦ / ١٧.

(٦) هو علي بن ربيعة بن نضلة الوالبي ، أبو المغيرة الكوفي ، أخذ عن علي وسلمان وأخذ عنه الحكم وأبو إسحاق.

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٢٤٨.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٠ ـ ١٥٢.


قال الزجاج : «وهذا التأويل فاسد من وجهين :

الأول : أنه ما ورد النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج ، ولم يرد البتة بمعنى الوطء.

الثاني : أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة ، لأنا لو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد ، لأنا نرى الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ، ولو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا ، فهذا كلام لا فائدة فيه» (١).

فإن قيل : أي فرق بين قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) وبين قوله : «الزّانية لا ينكحها إلّا زان»؟

فالجواب أن الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية ، بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني ، فلا جرم بيّن ذلك بالكلام الثاني (٢).

فإن قيل : لم قدم الزانية على الزاني في أول السورة وهاهنا (٣) بالعكس؟

فالجواب : سبقت تلك الآية على عقوبتها لخيانتها ، فالمرأة هي المادة في الزنا ، وأما هاهنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجال أصل فيه ، لأنه هو الراغب الطالب (٤).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ..) الآية هي كقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) فيعود فيه ما تقدم بحاله (٥) ، وقوله : «المحصنات» فيه وجهان :

أحدهما : أن المراد به النساء فقط ، وإنما خصّهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع.

والثاني : أن المراد بهن النساء والرجال ، وعلى هذا فيقال : كيف غلّب المؤنث على المذكر؟

والجواب أنه صفة لشيء محذوف يعمّ الرجال والنساء ، أي : الأنفس المحصنات ، وهو بعيد (٦) أو تقول : ثمّ معطوف محذوف لفهم المعنى ، وللإجماع على أن حكمهم حكمهنّ أي : والمحصنين.

قوله : (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) العامة على إضافة اسم العدد للمعدود ، وقرأ أبو زرعة

__________________

(١) انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٢.

(٣) في ب : وهنا.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٢.

(٥) تقدم قبل صفحات.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣١.


وعبد الله بن مسلم (١) بالتنوين في العدد (٢) ، واستفصح الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة ، قال : لأنّ المعدود متى كان صفة فالأجود الإتباع دون الإضافة ، تقول : «عندي ثلاثة ضاربون» ، ويضعف «ثلاثة ضاربين» (٣) وهذا غلط ، لأن الصفة التي جرت مجرى الأسماء تعطى حكمها ، فيضاف (٤) إليها العدد ، و «شهداء» من ذلك ، فإنه كثر حذف موصوفه ، قال تعالى : (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)(٥). و (اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ)(٦) ، وتقول : عندي ثلاثة أعبد ، وكل ذلك صفة في الأصل.

ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يجيز تنوين (٧) العدد إلّا في شعر (٨).

وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو «ثلاثة رجال» (٩) وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم.

وفي «شهداء» على هذه القراءة ثلاثة أوجه :

__________________

(١) هو عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح ، أبو أحمد العجلي ، الكوفي ، نزيل بغداد ، مقرىء مشهور ثقة أخذ القراءة عن حمزة الزيات ، وعن سليم ، وروى الحروف عن أبي بكر بن عياش وحفص بن سليمان ، روى عنه الحروف ابنه أبو الحسن أحمد ، وأحمد بن يزيد الحلواني ، مات سنة ٢٢٠ ه‍.

طبقات القراء ١ / ٤٢٣.

(٢) المختصر (١٠٠) ، المحتسب ٢ / ١٠١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣١.

(٣) ذكر ابن عادل ما قاله ابن جني بالمعنى قال ابن جني : (هذا حسن في معناه وذلك أن أسماء العدد من الثلاثة إلى العشرة لا تضاف إلى الأوصاف ، لا يقال : عندي ثلاثة ظريفين ، إلا في ضرورة إلى إقامة الصفة مقام الموصوف ، وليس ذلك في حسن وضع الاسم هناك ، والوجه عند ثلاثة ظريفون ، وكذلك قوله : «بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» لتجري «شهداء» على «أربعة» وصفا فهذا هذا) المحتسب ٢ / ١٠١ فابن جني يذكر أصل القاعدة في حكم إضافة العدد من ثلاثة إلى عشرة إلى المعدود ، وأنه لا بد أن يكون المعدود اسما لا وصفا ، فإذا كان وصفا فالأصل التنوين للعدد ثم مجيء المعدود وصفا لهذا العدد.

(٤) في ب : فينضاف.

(٥) من قوله تعالى : «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً»[النساء : ٤١].

(٦) [البقرة : ٢٨٢].

والاستشهاد بالآيتين الكريمتين على أن لفظ (شهيد) يستعمل استعمال الأسماء فلا يحتاج إلى موصوف قبله ولذلك ساغ إضافة العدد إليه.

(٧) تنوين : سقط من ب.

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٣٣.

(٩) قال سيبويه : (هذا باب ما لا يحسن أن تضيف إليه الأسماء التي تبين بها العدد إذا جاوزت الاثنين إلى العشرة وذلك الوصف تقول : هؤلاء ثلاثة قرشيون ، وثلاثة مسلمون ، وثلاثة صالحون ، فهذا وجه الكلام ، كراهة أن تجعل الصفة كالاسم ، إلا أن يضطر شاعر) الكتاب ٣ / ٦٦ ، فسيبويه يجيز تنوين العدد إذا كان المعدود صفة ، وذلك في النثر ، ولم ينصّ عليه إذا كان المعدود اسما. ويمكن حمل قول سيبويه : (إلا أن يضطر شاعر) إلى اضطرار الشاعر إلى التنوين في العدد إذا كان المعدود اسما ، أو إضافة الصفة.


أحدها : أنه تمييز ، وهذا فاسد (١) ، لأنّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمميّزه ليس إلا ، وغير ذلك ضرورة.

الثاني : أنه حال ، وهو ضعيف (٢) أيضا لمجيئها من النكرة من غير مخصّص.

الثالث (٣) : أنها مجرورة نعتا ل «أربعة» (٤) ، ولم تنصرف لألف التأنيث.

فصل

ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات ، وذكر الرمي لا يدل على الزنا ، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر ، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين.

واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا ، وفي دلالة الآية عليه وجوه :

الأول : تقدم ذكر الزنا.

الثاني : أنه تعالى ذكر المحصنات (٥) وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم (٦) العفاف.

الثالث : قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يعني : على صحة ما رموا به ، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا.

الرابع : الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا ، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا(٧).

فصل

شروط الإحصان خمسة :

الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنا ، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره ، فقذفه قاذف لا حدّ عليه ، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا ، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ، لأن الحد وجب للفرية ، وقد ثبت صدقه(٨).

فصل

وألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض.

فالصريح : أن يقول : يا زانية ، أو زنيت ، أو زنا قبلك أو دبرك ، فإن قال : زنا

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٣٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٢.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) في ب : الثاني.

(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٣٢ ، الكشاف ٣ / ٦٢ البحر المحيط ٦ / ٤٣٢ ، وجوز ابن عطية وأبو حيان أن تكون بدلا.

(٥) في ب : الصفات. وهو تحريف.

(٦) في ب : بعد. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٣.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٧.


يدك ، فقيل : كناية ، لأن حقيقة الزنا من الفرج ، والصحيح أنه صريح ، لأن الفعل يصدر بكل البدن ، والفرج آلة.

والكناية : أن يقول : يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، يا مؤاجرة ، يا ابنة الحرام ، أو لا ترد يد لامس ، فلا يكون قذفا إلا بالنية ، وكذا لو قال لعربي : يا نبطي ، أو بالعكس ، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له ، وإلا فلا.

فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان ، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف وإن نواه ، كقوله : يا ابن الحلال أما أنا فما (١) زنيت وليست أمي بزانية (٢) ، لأن الأصل براءة الذمة ، فلا يجب بالشك ، والحد يدرأ بالشبهات.

وقال مالك : يجب فيه الحد.

وقال أحمد وإسحاق : هو قذف في حال الغضب دون الرضا (٣).

فصل

إذا قذف شخصا واحدا مرارا ، فإن (٤) أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد (٥) ، (فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني.

وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله : زنيت بزيد ، ثم قال : زنيت بعمرو ، فقيل : يتعدد اعتبارا باللفظ ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون.

والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد ، فتداخل كحدود الزنا.

ولو قذف زوجته مرارا فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا.

وإن قذف جماعة بكلمة واحدة ، فقيل : حدّ واحد) (٦) ، لأن هلال بن أمية (٧) قذف امرأته بشريك بن سحماء (٨) ، فقال عليه‌السلام (٩) : «البينة أو حدّ في ظهرك» (١٠) ، فلم

__________________

(١) في ب : ما.

(٢) وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة والثوري ، والحسن بن صالح ـ رحمهم‌الله. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٣.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٣.

(٤) في ب : وإن.

(٥) في ب : حدا واحدا. وهو تحريف.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) هو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم الأنصاري ، الواقفي ، شهد بدرا وأحدا ، وكان قديم الإسلام ، كان يكسر أصنام بني واقف ، وكانت معه رايتهم يوم الفتح ، وهو الذي لا عن امرأته بشريك بن سحماء. أسد الغابة ٥ / ٤٠٦.

(٨) في ب : سمحاء. وهو تحريف. وهو شريك بن سحماء وهي أمه ، وأبو عبدة بن معتب بن الجد بن العجلان وهو ابن معن وعاصم ابني عدي بن الجد ، وهو حليف الأنصار ، وهو صاحب اللعان. أسد الغابة ٢ / ٢٢.

(٩) في ب : فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٠) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦٣ ، أبو داود (طلاق) ٢ / ٦٨٦ ، الترمذي (تفسير) ١٧٥ ـ ١٣ ابن ماجه (طلاق) ١ / ٦٦٨.


يوجب على هلال إلا حدا واحدا مع أنه قذف زوجته بشريك.

وقيل : لكل واحد حدّ.

وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ (١).

فصل

إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، لقول عليه‌السلام (٢) : «رفع القلم عن ثلاث» (٣) ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز (٤).

والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد ، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة (٥).

وأما العبد إذا قذف الحر ، فقيل : يلزمه نصف الحد (٦). وقيل : الحد كله (٧).

وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية (٨).

وإن كان المقذوف (٩) غير محصن لم يجب الحد ، بل يوجب (١٠) التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفا (١١) بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير (١٢).

قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي : يشهدون على زناهن (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة (١٣) ، وهو الأظهر. وجوّز أبو البقاء فيها أن تكون حالا (١٤).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أخرجه البخاري (حدود) ٤ / ١٧٦ ، (طلاق) ٣ / ٢٧٢ ، أبو داود (حدود) ٤ / ٥٥٩ ـ ٥٥٦ الترمذي (حدود) ٢ / ٤٣٨ ، ابن ماجه (طلاق) ١ / ٦٥٨ ـ ٦٥٩ ، الدارمي (حدود) ٢ / ١٧١ ، أحمد ٦ / ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٤٤.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٦.

(٥) وهو قول الإمام الشافعي ، وعند الإمام أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٦.

(٦) وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف ومحمد وزفر وعثمان القن.

انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٦.

(٧) وهو قول الأوزاعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٦.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٧.

(٩) في ب : المحذوف. وهو تحريف.

(١٠) في ب : يجب.

(١١) في الأصل : معرفا.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٧.

(١٣) الكشاف ٣ / ٦٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٢.

(١٤) التبيان ٢ / ٩٦٤.


وقوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اعلم أن في هذا الاستثناء خلافا ، هل يعود لما تقدّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟

وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمهاباذيّ (١) ، فاختار ابن مالك عوده إلى الجمل (٢) المتقدمة(٣) والمهاباذي إلى الأخيرة (٤).

وقال الزمخشري : رد شهادة القاذف معلّق عند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ باستيفاء الحدّ ، فإذا شهد قبل الحدّ أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته ، فإذا استوفي لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء.

وعند الشافعي ـ رحمه‌الله ـ يتعلّق ردّ شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع (٥) عنه عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما متمسّك بالآية ، فأبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأبيد ، وكانوا مردودي الشهادة عنده في أبدهم ، وهو مدّة حياتهم ، وجعل قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء من «الفاسقين» ، ويدلّ عليه قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). والشافعيّ ـ رحمه‌الله ـ جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا

__________________

(١) هو أحمد بن عبد الله المهاباذي الضرير ، من تلاميذ عبد القاهر الجرجائي ، له شرح اللمع. بغية الوعاة ١ / ٣٢٠.

(٢) في النسختين : الجملة.

(٣) يفهم ذلك من كلام ابن مالك في التسهيل ، فإنه قال : (وإذا أمكن أن يشرك في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يقتصر عليه إن كان العامل واحدا ، وكذا إن كان غير واحد والمعمول واحد في المعنى) التسهيل (١٠٣).

(٤) واختار المهاباذي ذلك لاختلاف العوامل ، إذ لا يمكن حمل العوامل المختلفة في مستثنى واحد ، بناء على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون (إلا) انظر الهمع ١ / ٢٢٧ وهذه المسألة وهي : إذا ورد الاستثناء بعد جمل عطف بعضها على بعض ، فهل يعود للكل ، فيها مذاهب : الأول وعليه ابن مالك : يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض ، وسواء اختلف العامل في الجمل أم لا بناء على أن العامل في المستثنى إنما هو (إلا) لا الأفعال السابقة.

الثاني : أنه يعود للكل إن سبق الكل لغرض واحد ، نحو : حبست داري على أعمامي ، ووقفت بستاني على أخوالي ، وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا ، وإلا فللأخيرة فقط ، نحو : أكرم العلماء ، وحبس ديارك على أقاربك.

الثالث : إن عطف بالواو عاد للكل ، أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة فقط ، وعليه ابن الحاجب.

الرابع : أنه خاص بالجملة الأخيرة واختاره أبو حيان.

الخامس : إن اتحد العامل فللكل ، أو اختلف فللأخيرة خاصة إذ لا يمكن حمل العوامل المختلفة في مستثنى واحد ، وعليها المهاباذي ، بناء على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون (إلا). الهمع ١ / ٢٢٧.

(٥) في النسختين : يرجع.


غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا ، وهي تنتهي بالتوبة (والرجوع) (١) عن القذف ، وجعل الاستثناء متعلّقا بالجملة الثانية (٢). انتهى.

واعلم أن الإعراب متوقف على ذكر الحكم ، ومحلّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على أصل الاستثناء (٣).

والثاني : أنه مجرور بدلا من الضمير في «لهم» (٤).

وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : وحق المستثنى عنده ـ أي : الشافعي ـ أن يكون مجرورا بدلا من «هم» (٥) في «لهم» ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوبا ، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم ، وردّوا شهادتهم ، وفسّقوهم ، أي : فاجمعوا لهم الجلد والردّ والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسّقين (٦).

قال أبو حيان : وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب ، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها (٧).

والوجه الثالث : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨).

واعترض بخلوّها من رابط.

وأجيب بأنه محذوف ، أي : غفور لهم (٩).

واختلفوا أيضا في هذا الاستثناء ، هل هو متّصل أم منقطع؟ والثاني ضعيف جدا (١٠).

__________________

(١) والرجوع : تكملة من الكشاف.

(٢) الكشاف ٣ / ٦٢.

(٣) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٦ ، البيان ٢ / ١٩١ ، التبيان ٢ / ٩٦٤.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) في النسختين : منهم.

(٦) الكشاف ٣ / ٦٢.

(٧) وهو اختياره في أن المستثنى يعود إلى الجملة الأخيرة فإنه قال : (والذي يقتضيه النظر أنّ الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخلص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصا في الجملة الأخيرة ، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه ، وفيه خلاف وتفصيل ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك ، فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط ، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة ، وهو الذي نختاره) البحر المحيط ٦ / ٤٣٣.

(٨) البيان ٢ / ١٩١ ، التبيان ٢ / ٩٦٤.

(٩) التبيان ٢ / ٩٦٤.

(١٠) قال أبو حيان : (والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلا عند الحاجة) البحر المحيط ٦ / ٤٣٣.


فصل

الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا ، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل : لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا (١).

فصل

إذا شهدوا على فعل الزنا يجب (٢) أن يذكروا الزاني والمزني به ، لأنه قد يراه على جارية ابنه فيظن أنه زنا.

ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة ، فلو شهدوا مطلقا أنه زنا لم يثبت ، بخلاف ما لو قذف إنسانا وقال : «زنيت» يجب الحد ولا يستفسر ، ولو أقر على نفسه بالزنا ، فقيل : يجب أن يستفسر كالشهود ، وقيل : لا يجب كما في القذف (٣).

فصل

لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين (٤).

وقال أبو حنيفة : إذا شهدوا متفرقين لا يثبت ، وعليهم حد القذف.

وحجة الأول (٥) : أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين ومتفرقين. وأيضا فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام ، بل هذا أولى ، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة وعن تلقن بعضهم من بعض ، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ، وأيضا فإنه لا يشترط أن يشهدوا معا في حالة واحدة ، بل إذا اجتمعوا عند القاضي قدّم واحدا بعد واحد ويشهد ، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد (٦) بعد واحد.

واحتج أبو حنيفة بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد للآية (٧) ، أقصى ما في الباب أنهم (٨) عبروا عن القذف بلفظ الشهادة ، وذلك لا عبرة به ، لأنه يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأسا ، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده.

وأيضا فإن المغيرة بن شعبة (٩) شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب : أبو

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٩.

(٢) في ب : ويجب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٩.

(٤) وهو قول الشافعي ـ رحمه‌الله ـ انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٩.

(٥) وهو الشافعي.

(٦) في ب : واحدا. وهو تحريف.

(٧) وهي قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً» [النور : ٤].

(٨) في الأصل : أنه.

(٩) هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي ، أبو محمد ، شهد الحديبية ، وأسلم زمن الخندق أخذ عنه ـ


بكرة (١) ، وشبل بن معبد (٢) ، ونافع (٣) ، ونفيع (٤) ، قال زياد (٥) : وقال رابعهم : رأيت استا تنبو ، ونفسا يعلو ، ورجلاها على عاتقه كأذني حمار ، ولا أدري ما وراء ذلك ، فجلد عمر الثلاثة ، ولم يسأل : هل معهم شاهد آخر؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه (٦).

فصل

لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت ، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فقيل : يجب عليهم حد القذف لما تقدم آنفا (٧).

وقيل : لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ، ولأنا (٨) لو حددنا لانسد باب الشهادة على الزنا ، لأن كل واحد لا يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد (٩).

فصل

لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا :

قال أبو حنيفة : يسقط الحد عن القاذف ، ولا يجب الحد على الشهود.

وقال الشافعي في أحد قوليه : يحدّون.

واحتج أبو حنيفة بأنه أتى بأربعة شهداء ، فلا يلزمه الحد ، والفاسق من أهل الشهادة ، فقد وجدت شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة.

واحتج الشافعي بأنهم ليسوا من أهل الشهادة (١٠).

قوله : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) وهذا خطاب للإمام ، أو للمالك (١١) ، أو لرجل

__________________

ـ ابناه حمزة وعروة والشعبي وغيرهم ، شهد اليمامة واليرموك والقادسية مات سنة ٥٠ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣ / ٥٠.

(١) في ب : أبو بكر. وهو تحريف. وهو نفيع بن الحارث بن كلدة صحابي ، كان مولى لثقيف في الطائف ، سمى نفسه بعد اعتناقه الإسلام بعتيق النبي ، لقب بأبي بكرة ، لأنه تدلى بواسطة بكرة من أسوار الطائف لما حاصرها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات سنة ٥١ ه‍.

(٢) تقدم.

(٣) هو نافع بن الحارث بن كلدة ، أخو أبي بكرة ، كان بالطائف ، أعتقه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سكن نافع البصرة ، وابتنى بها دارا ، وهو أول من اقتنى الخيل بالبصرة.

أسد الغابة ٥ / ٣٠١ ، الأعلام ٧ / ٣٥٢.

(٤) ونفيع هو أبو بكرة ، ذكره الناسخ أولا بكنيته ثم ذكره باسمه.

(٥) زياد بن جبير بن حية الثقفي ، أخذ عن أبيه وسعد ، وأخذ عنه يونس بن عون وابن عبيد الخلاصة ١ / ٣٤٢.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٧) وهو قول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(٨) في ب : لأنا.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(١١) على مذهب الشافعي انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.


صالح إذا فقد الإمام (١). ويخص من هذا العموم صور :

الأولى : الوالد إذا قذف ولده (أو ولد ولده) (٢) وإن سفل لا يجب عليه الحد ، كما لا يجب عليه القصاص بقتله.

الثانية : القاذف إذا كان عبدا فالواجب جلده أربعين ، وكذا المكاتب ، وأم الولد ، ومن بعضه حر ، فقيل : كالرقيق. وقيل : بالحساب.

الثالثة : من قذف رقيقه ، أو من زنت قديما ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها (٣)

فصل (٤)

قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب حد الزنا ، ثم ضرب حدّ الخمر ، ثم ضرب القاذف ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض (٥).

فصل

قال مالك والشافعي : حدّ القذف يورث ، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه.

وقيل : لا يورث إلا أن يطالب المقذوف قبل موته ، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد. وعند أبي حنيفة : الحد لا يورث ، ويسقط بالموت.

حجة الشافعي : أنه حق آدمي يسقط بعفوه ، ولا يستوفى إلا بطلبه ، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر ، وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليه‌السلام (٦) : «من مات عن حقّ فلورثته» (٧).

وحجة أبي حنيفة : لو كان (٨) موروثا لورثة الزوج والزوجة ، ولأنه حق ليس فيه معنى المال فلا يورث كالوكالة والمضاربة.

وأجيب بأنا لا نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان ، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت ، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب ، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة (٩).

فصل

إذا قذف إنسانا بين يدي الحاكم ، أو قذف امرأته برجل بعينه ، والرجل غائب ،

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٠.

(٤) في الأصل : قوله.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦١.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) أخرجه البخاري (فرائض) ٤ / ١٦٧. بالمعنى.

(٨) في ب : لكان.

(٩) انظر الفخر الرازي ٧٣ / ١٦١.


فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلانا قذفك ، وثبت لك حدّ القذف عليه ، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلم ، يجب عليه إعلامه ، ولهذا بعث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنيسا ليخبرها أن فلانا قذفها بابنه ، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك(١).

قوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً).

قال أكثر الصحابة والتابعين : إذا تاب قبلت شهادته وهو قول الشافعي.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح (٢) : لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب (٣). وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه ، وهاهنا مبنية على أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة (٤)؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي حكم هذا الاستثناء : فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا).

وقالوا : الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق ، يروى ذلك عن عمر وابن عباس ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار (٥) والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وبه قال مالك والشافعي. وذهب قوم إلى أن شهادة (٦) المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله: (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) وهو قول النخعي وشريح (٧) وأصحاب الرأي.

وقالوا : بنفس القذف ترد شهادته ما لم يحد.

قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين يحد ، لأن الحدود كفارات ، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته وتقبلونها في شر حالته.

وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة.

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) هو الحسن بن صالح أبو محمد الواسطي ، عرض على مردويه أبي عبد الرحمن الجمال ، وعلى أبي عون صاحب قالون ، روى القراءة عنه عبد الله بن الحسين. طبقات القراء ١ / ٢١٦.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦١.

(٤) تقدم قريبا قبل صفحات.

(٥) هو سليمان بن يسار أبو أيوب الهلالي المدني مولى ميمونة أم المؤمنين ، وهو أخو عطاء وعبد الملك وعبد الله تابعي جليل ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن. مات سنة ١٠٧ ه‍. طبقات القراء ١ / ٣١٨.

(٦) في الأصل : الشهادة.

(٧) هو شريح بن الحارث الكندي. كان يكنى أبا أمية استقضاه عمر ـ رضي الله عنه ـ على الكوفة. ولم يزل بعد ذلك قاضيا خمسا وسبعين سنة ولذا يعرف بالقاضي. مات سنة ٨٠ ه‍. المعارف ٤٣٣ ـ ٤٣٤.


وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الكل.

وعامة العلماء (١) على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة.

فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله : «أبدا» (٢)؟

قيل : معناه : لا تقبل شهادته أبدا ما دام مصرّا على قذفه ، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله ، كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا ، يراد : ما دام كافرا (٣).

فصل

اختلفوا في كيفية التوبة بعد القذف :

فقيل : التوبة منه إكذابه نفسه بأن يقول : كذبت فلا أعود إلى مثله.

وقيل : لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقا ، فيكون قوله : «كذبت» كذبا ، والكذب معصية ، وإتيان المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه (٤). ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى تقبل شهادته ، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع كأجل العنّين(٥) ، وقد علق الشرع أحكاما بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما (٦) ، وهذا معنى قوله : «وأصلحوا»(٧) ، ثم قال : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يقبل التوبة.

لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(١٠)

قال ابن عباس (٨) : لما نزل قوله (٩) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ

__________________

(١) العلماء : سقط من ب.

(٢) قال الراغب : (الأبد : عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ؛ وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقال أبد كذا .. ويعبر به عما يبقى مدة طويلة) مفردات غريب القرآن (٨).

(٣) انظر البغوي ٦ / ٥٧ ـ ٥٨.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٤.

(٥) العنين : الذي لا يأتي النساء ، ولا يريدهنّ بيّن العنانة والعنينة والعنينيّة ، وعنّن عن امرأته إذا حكم القاضي عليه بذلك ، أو منع عنها بالسحر والاسم منه العنة ، كأنه اعترضه ما يحبسه عن النساء ، وامرأة عنينة كذلك ، لا تريد الرجال ولا تشتهيهم ، وهو فعيل بمعنى مفعول مثل خريج. اللسان (عنن).

(٦) في ب : وغير ذلك.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٤.

(٨) في ب : قال ابن عباس رضي الله عنهما.

(٩) في ب : قوله تعالى.


شهداء» قال عاصم بن عدي الأنصاري (١) : إن دخل رجل منا بيته فرأى رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال : وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت عن غيظ ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له: عويمر (٢) ، وله امرأة يقال لها : خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء (٣) على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله ، ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «وما ذاك»؟ فقال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة ، فدعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهم جميعا ، فقال لعويمر : «اتق الله في زوجتك وابنة عمك ، ولا (٤) تقذفها» فقال : يا رسول الله ، تالله (٥) لقد رأيت شريكا على بطنها ، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غيري. فقال لها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «اتّقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت» فقالت : يا رسول الله ، إن عويمر رجل غيور ، وإنه رأى شريكا يطيل النظر ويتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٦) بأن يؤذّن : الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم وقل : أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية : أشهد أني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة : أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الرابعة قل(٧) أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر (يعني : نفسه) إن كان من الكاذبين. ثم قال : اقعد ، وقال لخولة : قومي ، فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين ، وقالت في الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الثالثة : أشهد بالله ما أنا حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الرابعة : أشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه من الكاذبين ، وقالت (٨) في الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله ، ففرق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينهما (٩).

وفي رواية عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

__________________

(١) هو عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان الأوسي الأنصاري ، يكنى أبا عبد الله ، كان سيد بني العجلان ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات سنة ٤٥ ه‍. تهذيب التهذيب ٥ / ٤٩ ، أسد الغابة ٣ / ١١٤.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : سمحاء. وهو تحريف.

(٤) في ب : لا.

(٥) تالله : سقط من ب.

(٦) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٧) قل : سقط من ب.

(٨) في ب : وقال. وهو تحريف.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٦٣ ـ ٦٤ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٥ ـ ١٦٦.


بشريك بن سحماء (١) ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «البينة وإلا حدّ في ظهرك». فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «البينة وإلّا حدّ في ظهرك». فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد ، فنزيل جبريل ـ عليه‌السلام (٢) ـ وأنزل عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) فقرأ حتى بلغ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فانصرف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب»؟. ثم قامت فشهدت ، فلما كانت (٣) عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة (٤).

قال ابن عباس : فتلكأت (٥) ونكصت (٦) حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت ، وقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، حدلج الساقين (٧) فهو لشريك بن سحماء. فجاءت به كذلك ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لو لا ما مضى من كتاب الله ـ عزوجل ـ لكان لي ولها شأن» (٨).

وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) الآية قال سعد بن عبادة (٩) : لو أتيت لكاع (١٠) وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة ـ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا معشر الأنصار ، ألا تسمعون ما يقول سيّدكم».

قالوا : لا تلمه فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها. قال سعد : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ، ولكن عجبت من ذلك ، فقال عليه‌السلام (١١) : «فإنّ الله يأبى إلّا ذلك». فقال : صدق (١٢) الله ورسوله ، قال : فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له : هلال بن أمية (من حديقة له) (١٣) ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فرأى

__________________

(١) في ب : سيحاء. وهو تحريف.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في الأصل : كان.

(٤) أي : الشهادة الخامسة موجبة للعذاب الأليم إن كانت كاذبة. انظر البخاري (تفسير) ٢ / ١٦٢ ، جامع البيان ١٨ / ٦٦ ، وابن كثير ٣ / ٢٦٦ ، الدر المنثور ٥ / ٢٢.

(٥) تلكأت : توقفت وتبطأت.

(٦) نكص عن الأمر ينكص وينكص نكصا ونكوصا : أحجم. اللسان (نكص).

(٧) خدلج الساقين : عظيمهما ، وقيل : الضخمة الساقين. اللسان (خدلج).

(٨) انظر البغوي ٦ / ٦٠ ـ ٦١ ، الدر المنثور ٥ / ٢٢.

(٩) تقدم.

(١٠) لكاع : المرأة اللئيمة الخبيثة اللسان (لكع).

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) صدق : سقط من ب.

(١٣) ما بين القوسين في ب : بن حذيفة. وهو تحريف.


رجلا مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما جاء به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق ، وما قلت إلا حقا ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا ، فهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضربه ، قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، يجلد هلال وتبطل شهادته ، فإنهم لكذلك ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ...) إلى آخر الآيات». فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أبشر يا هلال ، فإنّ الله قد جعل لك فرجا». فقال : كنت أرجو ذلك من الله ـ عزوجل ـ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أرسلوا إليها» فجاءت فكذبت هلال. فقال عليه‌السلام (١) : «الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب»؟ وأمر بالملاعنة ، وشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال عليه‌السلام (٢) له عند الخامسة : «اتّق الله يا هلال ، فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة». فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله ، وشهد الخامسة : أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أتشهدين»؟ فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم قال لها عند الخامسة ووقفها (٣) : «اتقي الله فإنها الخامسة الموجبة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس». فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصّادقين. ففرق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينهما ، وقضى أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها ، وإن جاءت به كذا وكذا فهو للّذي قيل فيه». فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق (٤) ، على التشبيه المكروه ، وكان بعد أميرا بمصر ولا يدرى من أبوه (٥).

فصل

إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة ، والتعزير إن لم تكن محصنة ، كما في رمي الأجنبي ، إلا أن قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف ، أو ببينة أربعة شهداء على الزنا.

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) ووقفها : سقط من ب.

(٤) الأورق من كل شيء : ما كان لونه لون الرماد ، ومن الناس : الأسمر ومن الإبل : ما في لونه بياض إلى سواد. المعجم الوسيط (ورق).

(٥) أخرجه الطبري ١٨ / ٦٥ وانظر البغوي ٦ / ٦١ ـ ٦٣ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٦ ـ ١٦٧ والدر المنثور ٥ / ٢١ ـ ٢٢.


وفي قذف الزوجة يسقط الحد عنه بأحد هذين الأمرين وباللعان.

وإنما اعتبر الشارع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات ، لأنه لا معيرة عليه في زنا الأجنبية ، والأولى له سترة. وأما في الزوجة فيلحقه (١) العار والنسب الفاسد ، فلا يمكنه الصبر عليه (٢).

فصل

إذا قذف زوجته ونكل (٣) عن اللعان لزمه (٤) حد القذف ، فإذا لاعن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا (٥). وقال أبو حنيفة : يجلس الناكل منهما حتى يلاعن.

حجة القول الأول : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً)(٦) ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ...) الآية ؛ فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد ، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد.

وأيضا قوله : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ)(٧) والألف واللام في «العذاب» للمعهود السابق وهو الحدّ ، وليسا للعموم ، لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب. ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقا فحدّوني ، وإن كان كاذبا فخلوني. وليس حبس في كتاب الله وسنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس. واحتج أبو حنيفة بأن المرأة ما فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك (٨) ليس بينة على الزنا ولا إقرارا منها به ، فوجب ألا يجوز رجمها لقوله عليه‌السلام(٩) : «لا يحلّ دم امرىء مسلم» (١٠) الحديث. وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصّن ، لأن لا قائل بالفرق. وأيضا فالنكول بصريح الإقرار ، فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره (١١).

__________________

(١) في ب : فيحلقه. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٧.

(٣) نكل الرجل عن الأمر ينكل نكولا إذا جبن عنه. اللسان (نكل).

(٤) في ب : لزم.

(٥) وهو قول الشافعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٧.

(٦) من الآية (٤) من السورة نفسها.

(٧) من الآية (٨) من السورة نفسها.

(٨) في ب : القول. وهو تحريف.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) قال عليه‌السلام : «لا يحلّ دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني ، والمارق من الدين التارك للجماعة».

أخرجه البخاري (ديات) ٤ / ١٨٨ ، مسلم (قسامة) ٣ / ١٣٠٢ ـ ١٣٠٣ ، أبو داود (حدود) ٤ / ٥٢٢ ، الترمذي (حدود) ٢ / ٤٥٠ ، النسائي (قسامة) ٧ / ١٣ ، ابن ماجه (حدود) ٢ / ٨٤٧ ، أحمد ١ / ٦١ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٧٠ ، ١٦٣ ، ٣٨٢ ، ٤٢٨ ، ٤٤٤ ، ٤٦٥ ، ٦ / ١٨١.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٧ ـ ١٦٨.


فصل

من صح يمينه صح لعانه ، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين ، وكذا إذا كان أحدهما رقيقا ، أو كان الزوج مسلما والمرأة ذمية (١).

فإن قيل : اللعان شهادة ، فوجب ألا يصح إلا من أهل الشهادة. وإنما قلنا : اللعان شهادة ، لقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) فسمى (٢) اللعان شهادة كقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ)(٣) ، ولأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على (٤) لفظ اليمين ، وإذا ثبت أن اللعان شهادة وجب ألا تقبل من المحدودين في القذف لقوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)(٥) ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر ، إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة ، أو لأنه لا قائل بالفرق.

فالجواب : أن اللعان ليس شهادة في الحقيقة ، بل هو يمين مخصوصة ، لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت (٦) المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ، ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا تجوز شهادتهما فإن قيل : الفاسق والفاسقة قد يتوبان. قلنا : وكذلك (٧) العبد قد يعتق فتجوز شهادته (٨).

فصل

قال عثمان البتي (٩) : إذا تلاعن الزوجان لم تقع الفرقة ، لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ، فلا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة ، ولأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قوله ، وهذا لا يوجب تحريما ، (ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريما) (١٠) ، فإذا كان كاذبا والمرأة صادقة فأولى ألا يوجب تحريما. وأيضا لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة ، فكذا عند الحاكم. وأيضا فاللعان قائم مقام الشهود في قذف الأجنبيات ، فكما أنه لا فائدة في إحضار الشهود هناك إلا إسقاط الحد (فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد) (١١).

__________________

(١) وهو قول الشافعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٨.

(٢) في ب : سمى.

(٣) [البقرة : ٢٨٢].

(٤) على : سقط من ب.

(٥) من الآية (٤) من السورة نفسها.

(٦) في ب : فكانت.

(٧) في ب : وكذلك قلنا.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٩.

(٩) هو عثمان بن سليمان بن جرموز ، كان من أهل الكوفة ، فانتقل إلى البصرة ، وهو مولى لبني زهرة ، وكان يبيع البتوت فنسب إليها. المعارف (٥٩٦).

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.


وأيضا فلو أكذب الزوج نفسه في قذفة إياها ثم حدّ لم يوجب ذلك فرقة ، فكذا إذا لاعن ، لأن اللعان قائم مقام درء الحد.

وأما تفريق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قصة العجلاني (١) ، وكان قد طلقها ثلاثا بعد اللعان فلذلك فرق بينهما (٢).

وقال أصحاب الرأي : لا تقع الفرقة بفراغهما (٣) من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما ، لما روى سهل بن سعد (٤) في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ولأن في قصة عويمر أنهما لما فرغا قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثا ، (فطلقها ثلاثا) (٥) قبل أن يأمرهما ، ولو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله : كذبت عليها إن أمسكتها ، لأن إمساكها غير ممكن ، ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم ، فوجب (٦) ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم ، كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم وقال مالك والليث (٧) وزفر (٨) : (إذا فرغا) (٩) من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم بينهما ، لأنه لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا ، بل فرق بينهما ، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة.

وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته ، ولا يحل له أبدا لقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ)(١٠) ... الآية» ، فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج ، ولأن لعان الزوج مستقلّ بنفي الولد ، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها (١١).

فصل

في كيفية اللعان

وهو مذكور في الآية صريحا. قال العلماء : يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ،

__________________

(١) هو عويمر بن الحارث ، الذي لاعن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينه وبين امرأته. المعارف (٣٣٦).

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٠.

(٣) في ب : بفراقهما. وهو تحريف.

(٤) تقدم.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) في ب : موجب. وهو تحريف.

(٧) هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم ، الإمام عالم مصر وفقيهها ورئيسها ، أخذ عن سعيد المقبري وعطاء ونافع وغيرهم ، وأخذ عنه ابن عجلان ، وابن لهيعة وغيرهما. مات سنة ١٧٥ ه‍ ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٣٣٦.

(٨) هو زفر بن صعصعة بن مالك ، أخذ عن أبيه ، وأبي هريرة ، وأخذ عنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٣٣٦.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) من الآية (٨) من السورة نفسها.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٠ ـ ١٧١.


وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء (١) إلى اللعنة والغضب ويقول له : إني أخاف إن لم تكن صادقا. ويكون اللعان عند الحاكم ، فإن كان بمكة كان بين المقام والركن ، وإن كان بالمدينة عند المنبر ، وبيت المقدس في مسجده ، وفي المواضع المعظمة. ولعان المشرك في الكنيسة وأما في الزمان فيوم الجمعة بعد العصر ، ولا بد من حضور جماعة ، وأقلهم أربعة (٢). وهذا التغليظ (٣) قيل : واجب. وقيل : مستحب.

فصل

معنى الآية : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أي : يقذفون نساءهم (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون على صحة ما قالوا (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أي : غير أنفسهم (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٤).

قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ). في رفع «أنفسهم» وجهان :

أحدهما : أنه بدل من «شهداء» ، ولم يذكر الزمخشري في غضون كلامه (غيره) (٥)(٦).

والثاني : أنه نعت له على أن «إلا» بمعنى : غير.

قال أبو البقاء : ولو قرىء بالنصب لجاز على أن يكون خبر «كان» ، أو منصوبا على الاستثناء ، وإنما كان الرفع هنا أقوى لأن «إلا» هنا صفة للنكرة (٧) كما ذكرنا في سورة الأنبياء (٨).

قال شهاب الدين : وعلى قراءة الرفع يحتمل أن تكون «كان» ناقصة ، وخبرها الجار ، وأن تكون تامة ، أي : ولم يوجد لهم شهداء (٩).

وقرأ العامة «يكن» بالياء من تحت ، وهو الفصيح ، لأنه إذا أسند الفعل لما بعد «إلا» (١٠) على سبيل التفريغ وجب عند بعضهم التذكير في الفعل (١١) نحو «ما قام إلا هند» ولا يجوز «ما (١٢) قامت» إلا في ضرورة كقوله :

__________________

(١) في ب : حتى عند الابتهال. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧١.

(٣) في الأصل : التلفظ. وهو تحريف.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٥٨ ـ ٥٩.

(٥) الكشاف ٣ / ٦٤. وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٧ ، البيان ٢ / ١٩٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٥.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) التبيان ٢ / ٩٦٥.

(٨) عند قوله تعالى : «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا»[من الآية (٢٢)].

وذكر هناك شروط إعراب (إلا) صفة للنكرة قبلها.

(٩) الدر المصون ٥ / ٩٨.

(١٠) في ب : لما بعد الأجل إلا. وهو تحريف.

(١١) نسب ذلك إلى الأخفش ، لأنه أوجب التذكير في نحو ما قام إلا هند ، لأن ما بعد (إلا) ليس هو الفاعل في الحقيقة ، وإنما هو بدل من فاعل مقدر قبل (إلا) وذلك المقدر هو المستثنى منه وهو مذكر ، ولذلك ذكر الفعل ، والتقدير : ما قام أحد إلا هند ، ولا يجوز التأنيث إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد :

ما برئت من ريبة وذمّ

في حربنا إلّا بنات العمّ

شرح التصريح ١ / ٢٧٩.

(١٢) ما : سقط من ب.


٣٨١٥ ـ وما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع (١)

أو في شذوذ ، كقراءة الحسن : «لا ترى إلا مساكنهم» (٢).

وقرىء (٣) : «ولم تكن» بالتاء من فوق (٤) ، وقد عرف ما فيه.

قوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) في رفعها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره مقدر (٥) التقديم ، أي : فعليهم شهادة ، أو (٦) مؤخر أي : فشهادة أحدهم كافية أو واجبة (٧).

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب شهادة أحدهم (٨).

الثالث : أن يكون فاعلا بفعل مقدر ، أي : فيكفي (٩) ، والمصدر هنا مضاف للفاعل (١٠).

وقرأ العامة (١١) : «أربع شهادات» بالنصب على المصدر ، والعامل فيه «شهادة» (١٢).

فالناصب للمصدر مصدر مثله كما تقدم في قوله : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً)(١٣).

وقرأ الأخوان وحفص برفع «أربع» (١٤) على أنها خبر المبتدأ ، وهو قوله : «فشهادة».

ويتخرج على القراءتين تعلق الجار في قوله : «بالله».

__________________

(١) عجز بيت من بحر الطويل ، قاله ذو الرمة ، وصدره :

طوى النّحز والأجراز ما في غروضها

وهو في ديوانه ٢ / ١٢٩٦ ، مجاز القرآن ١ / ٣٩٤ ، المحتسب ٢ / ٢٠٧ ، المقاصد النحوية ٢ / ٤٧٧ ، شرح الأشموني ٢ / ٥٢. النحز : النخس والدفع. والأجراز : جمع جرز ، وهي أرض لا نبات بها الغروض جمع غرض : حزام الرجل. الجراشع جمع جرشع : المنتفخة الغليظة.

والشاهد فيه تأنيث الفعل المسند إلى ما بعد (إلا) على سبيل التفريغ للضرورة.

(٢) [الأحقاف : ٢٥] ، المختصر (١٣٩).

(٣) في ب : وقرأ.

(٤) المختصر (١٠٠) ، الكشاف ٣ / ٦٤.

(٥) في ب : بقدر. وهو تحريف.

(٦) في ب : أي. وهو تحريف.

(٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢٢ / ١١٢ ، البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(٨) المراجع السابقة والكشاف ٣ / ٦٤.

(٩) قال الفراء : (وسائر القراء يرفعون الشهادة وينصبون الأربع ، لأنهم يضمرون للشهادة ما يرفعها ، ويوقعونها على الأربع) معاني القرآن ٢ / ٢٤٦.

(١٠) التبيان ٢ / ٩٦٥.

(١١) ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر.

(١٢) انظر البيان ٢ / ١٩٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٥.

(١٣) [الإسراء : ٦٣]. وذكر هناك أوجها لنصبه قال : أحدها : أنه منصوب على المصدر الناصب له المصدر قبله ، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأول. انظر اللباب ٥ / ٢٩٤.

(١٤) السبعة (٤٥٢ ـ ٤٥٣). الحجة لابن خالويه (٢٦٠) ، الكشف ٢ / ١٣٤ ، النشر ٢ / ٣٣٠ ، الإتحاف (٣٢٢).


فعلى قراءة النصب يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «شهادات» لأنه أقرب إليه.

والثاني : أنه متعلق بقوله : «فشهادة» أي : فشهادة أحدهم بالله ، ولا يضر الفصل ب «أربع» لأنها معمولة للمصدر فليست أجنبية (١).

الثالث : أن المسألة من باب التنازع ، فإن كلّا من «شهادة» أو «شهادات» يطلبه من حيث المعنى ، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول ، وهو مختار البصريين (٢) وعلى قراءة الرفع يتعين تعلقه ب «شهادات» إذ لو علقت ب «شهادة» لزم الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، ولا يجوز لأنه أجنبي (٣).

ولم يختلف في «أربع» الثانية ، وهي قوله : (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ)(٤) أنها منصوبة ، للتصريح بالعامل (٥) فيها وهو الفعل.

قوله : «والخامسة» اتفق السبعة على رفع «الخامسة» الأولى (٦) ، واختلفوا في الثانية (٧) : فنصبها حفص (٨). ونصبهما معا الحسن والسلمي وطلحة والأعمش (٩).

فالرفع على الابتداء ، وما بعده من «أنّ» وما في حيزها الخبر (١٠).

وأما نصب الأولى فعلى قراءة من نصب (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) يكون النصب للعطف على المنصوب قبلها (١١). وعلى قراءة من رفع يكون النصب بفعل مقدر ، أي : وتشهد الخامسة (١٢).

وأما نصب الثانية فعطف على ما قبلها من المنصوب وهو (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) ، والنصب هنا أقوى منه في الأولى لقوة النصب فيما قبلها كما تقدم تقريره ، ولذلك لم يختلف فيه.

وأما «أنّ» وما في حيزها فعلى قراءة الرفع يكون في محل رفع خبرا للمبتدأ كما تقدم ، وعلى قراءة النصب يكون على إسقاط الخافض ويتعلق الخافض بذلك الناصب

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٣٩.

(٢) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٨ ، البرهان للحوفي ٦ / ٢٠١ ، البيان ٢ / ١٩٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٥.

(٣) انظر البرهان للحوفي ٦ / ٢٠١ ، الكشف ٢ / ١٣٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٠ ، البيان ٢ / ١٩٢.

(٤) من الآية (٨).

(٥) في ب : للعامل.

(٦) من قوله تعالى : «وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ» الآية (٧).

(٧) من قوله تعالى : «وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ» الآية (٩).

(٨) السبعة (٤٥٣) ، الكشف ٢ / ١٣٥ ، النشر ٢ / ٣٣١ ، الإتحاف (٣٢٣).

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(١٠) أو يكون مرفوعا بالعطف على «أربع» على قراءة من قرأه بالرفع. انظر البيان ٢ / ١٩٣ ، التبيان ٢ / ٩٦٥.

(١١) انظر البيان ٢ / ١٩٣.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٠ ـ ٤٤١.


ل «الخامسة» أي : ويشهد الخامسة بأنّ لعنة الله ، وبأن غضب الله (١) وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلا من «الخامسة» (٢).

قوله : (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ).

قرأ العامة بتشديد «أنّ» في الموضعين.

وقرأ نافع بتخفيفها في الموضعين ، إلا أنه يقرأ «غضب الله» يجعل «غضب» فعلا ماضيا ، والجلالة فاعله (٣) ، كذا نقل أبو حيان عنه التخفيف في الأولى أيضا (٤) ، ولم ينقله غيره (٥). فعلى قراءته يكون اسم «أن» ضمير الشأن في الموضعين ، و «لعنة الله» مبتدأ و «عليه» خبرها ، والجملة خبر «أن» ، وفي الثانية يكون «غضب الله» جملة فعلية في محل خبر «أن» أيضا. ولكنه يقال : يلزمكم أحد أمرين : وهو إمّا عدم الفصل بين المخففة والفعل الواقع خبرا ، وإما وقوع الطلب خبرا في هذا الباب ، وهو ممتنع.

تقرير ذلك : أن خبر (أن) (٦) المخففة متى كان فعلا متصرفا غير مقرون ب «قد» وجب الفصل بينهما (٧) بما تقدم في سورة المائدة.

فإن أجيب بأنه دعاء ، اعترض بأن الدعاء طلب ، وقد نصوا على أن الجمل الطلبية لا تقع خبرا ل «أنّ» ، حتى تأولوا قوله :

٣٨١٦ ـ إنّ الرّياضة لا تنصبك للشّيب (٨)

وقوله :

٣٨١٧ ـ إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما (٩)

على إضمار القول.

ومثله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ)(١٠).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(٢) التبيان ٢ / ٩٦٦.

(٣) السبعة (٤٥٣) ، الكشف ٢ / ١٣٤ ـ ١٣٥ ، النشر ٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٢).

(٤) البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(٥) ممن نقل ذلك أيضا مكي في الكشف ٢ / ١٣٤ ، وابن عطية في تفسيره ١٠ / ٤٤٢.

(٦) أن : زيادة يقتضيها السياق.

(٧) انظر شرح الأشموني ، وحاشية الصّبان ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٨) عجز بيت من بحر البسيط قاله الجميع الأسدي ، وصدره :

ولو أرادت لقالت وهي صادقة

وقد تقدم.

(٩) البيت من بحر الطويل ، قاله أبو مكعت من بني سعد بن مالك. وقد تقدم.

(١٠) [النمل : ٨].


وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسّلمي وعيسى بتخفيف «أن» و «غضب الله» بالرفع (١) على الابتداء ، والجار بعده خبره ، والجملة خبر «أن» (٢).

وقال ابن عطية : و (أن) الخفيفة على قراءة (نافع) (٣) في قوله : (أن غضب) قد وليها الفعل (٤). قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل ، إلّا أن يفصل بينها وبينه بشيء ، نحو قوله : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ)(٥) ، (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ)(٦) ، فأما قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ)(٧)(٨) فذلك لقلة تمكن (ليس) في الأفعال ، وأما قوله : (أن بورك من في النّار) (٩) و (بورك) في معنى الدعاء ، فلم يجىء دخول الفاعل لئلا يفسد المعنى (١٠) ، فظاهر هذا أن (غضب) ليس دعاء ، بل هو خبر عن (غضب الله عليها). والظاهر أنه دعاء كما أن (بورك) كذلك ، وليس المعنى على الإخبار فيهما فاعتراض أبي علي وأبي محمد (١١) ليس بمرضي (١٢).

قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ).

جواب : «لو لا» محذوف أي : لهلكتم أو لعاجلكم بالعقوبة (١٣) ، ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان ، (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة «حكيم» فيما فرض من الحدود.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآية.

في خبر «إنّ» وجهان :

أحدهما : أنه عصبة و «منكم» صفته. قال أبو البقاء : «وبه أفاد الخبر» (١٤).

والثاني : أن الخبر الجملة من قوله : «لا تحسبوه» ، ويكون «عصبة» ، بدلا من فاعل «جاءوا». قال ابن عطية : التقدير : إنّ فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون «عصبة» خبر (إنّ) (١٥). كذا أورده عنه أبو حيان (١٦) غير معترض عليه ؛

__________________

(١) المحتسب ٢ / ١٠٢ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) في النسختين : الرفع. والتصويب من تفسير ابن عطية.

(٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ١٤٤.

(٥) [المزمل : ٢٠].

(٦) [طه : ٨٩].

(٧) [النجم : ٣٩].

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) [النمل : ٨].

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٤.

(١١) أي : ابن عطية.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٩ ، التبيان ٢ / ٩٦٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٥.

(١٤) التبيان ٢ / ٩٦٦.

(١٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٥٢.

(١٦) البحر المحيط ٦ / ٤٣٦.


والاعتراض (١) عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر «إنّ» جملة طلبية ، وقد تقدم أنه لا يجوز وإن ورد (٢) منه شيء في الشعر أوّل (٣) كالبيتين المتقدمين (٤). وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب الكلامي ، إذ لو لم يقدر لكان التركيب «لا تحسبوهم» (٥).

ولا يعود الضمير في «لا تحسبوه» على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها بالمبتدأ (٦).

وفي قول غيره يجوز أن يعود على الإفك ، أو على القذف ، أو على المصدر المفهوم من «جاءوا» ، أو على ما نال المسلمين من الغم (٧).

فصل

سبب نزول هذه الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص (٨) وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (٩) كلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد نزول آية الحجاب ، فحملت في هودج (١٠) فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من غزوته تلك وقفل (١١) دنونا من المدينة قافلين نزل منزلا ثم آذن (١٢) بالرحيل ، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني

__________________

(١) في ب : والأعراض.

(٢) ورد : سقط من ب.

(٣) أول : سقط من ب.

(٤) وهما قول الشاعر :

إنّ الرّياضة لا تنصبك للشّيب

وقول الآخر :

وإنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما

(٥) في ب : لا تحسبونهم. وهو تحريف.

(٦) وإنما يعود على ذلك المحذوف الذي قدره اسم (إنّ) البحر المحيط ٦ / ٤٣٦.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٦.

(٨) هو علقمة بن وقاص بن محيصن بن كلدة ، الليثي المدني ، روى عن عمرو بن العاص ، وعائشة ، وروى عنه ابناه عبد الله وعمرو ، والزهري ، وكان قليل الحديث ، توفي في خلافة عبد الملك بن مروان. تهذيب التهذيب ٧ / ٢٨٠.

(٩) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، كان عالما ، وهو الذي يروي عنه الزهري ، مات سنة ٩٨ ه‍. المعارف (١١٠).

(١٠) الهودج : مركب من مراكب النساء مقبب ، وقيل : وغير مقبب. اللسان (هدج).

(١١) قفل : أي رجع من غزوته.

(١٢) روي بالمد وتخفيف الذال وبالقصر وتشديدها ، أي : أعلم. شرح النووي ١٧ / ١٠٤.


أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي (١) من جزع (٢) ظفار (٣) وقد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط (٤) الذين كانوا يرحلون بي (٥) فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبّلن (٦) ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة (٧) من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة (٨) السن فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعد ما استمرّت (٩) الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي (١٠) الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني (١١) من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه (١٢) حين عرفني ، فخمرت وجهي (١٣) بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين (١٤) في نحر الظهيرة (١٥) وهم نزول ، وافتقدني

__________________

(١) العقد : القلادة تعلق في العنق للتزين بها. القاموس المحيط (عقد).

(٢) الجزع : الخرز اليماني ، وهو الذي فيه سواد وبياض تشبه به الأعين. القاموس المحيط ، اللسان (جزع).

(٣) ظفار : مدينة باليمن ، وهي مبنية على الكسر بدون تنوين في الأحوال كلها.

اللسان (ظفر) ، شرح النووي ١٧ / ١٠٤.

(٤) في النسختين : الرحل. الرهط : ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وقيل : من سبعة إلى عشرة ، وما دون السبعة إلى الثلاث : نفر ، وقيل غير ذلك. اللسان (رهط).

(٥) يرحلون بي : أي يجعلون الرحل على البعير.

(٦) قال النووي : (قولها : «يهبّلن» ضبطوه على أوجه ، أشهرها : ضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة ، أي : يثقلن بالشحم واللحم ، والثاني : يهبلن ، بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينهما ، والثالث : بفتح الياء وضم الباء الموحدة ، ويجوز بضم أوله وإسكان الهاء وكسر الموحدة) صحيح مسلم بشرح النووي ٧ / ١٠٤ ، وفي اللسان (هبل) : والمهبّل : الكثير اللحم المورم الوجه ، وقد هبّله اللحم : إذا كثر عليه وركب بعضه بعضا.

(٧) العلقة : أي القليل.

(٨) في الأصل : حدثة.

(٩) في ب : استمر.

(١٠) أي : قصدته.

(١١) صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني ، أبو عمرو ، وكان صحابيا فاضلا ، شهد الخندق والمشاهد كلها ، وهو الذي قال فيه أهل الإفك ما قالوا ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثين ، استشهد بأرمينية في خلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سنة ١٩ ه‍ ـ الأعلام ٣ / ٢٠٦.

(١٢) أي : بقوله : «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ». شرح النووي ١٧ / ١٠٥.

(١٣) أي : غطيته.

(١٤) الموغر : النازل وقت الوغرة ـ بفتح الواو وإسكان الغين ـ وهي شدة الحر. شرح النووي ١٧ / ١٠٥.

(١٥) نحر الظهيرة : وقت القائلة وشدة الحرّ حتى تبلغ الشمس منتهاها من الارتفاع. شرح النووي ١٧ / ١٠٥ ، اللسان (نحر).


الناس حين نزلوا ، وماج الناس (١) في ذكري ، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم ، فتكلم القوم وخاضوا في حديثي. قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبيّ ابن سلول (٢). قال عروة : لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة (٣) ، وحمنة بنت جحش (٤). في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عزوجل. قال عروة : وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول : إنه هو الذي قال :

٣٨١٨ ـ فإنّ أبي ووالده وعرضي

لعرض محمّد منكم وقاء (٥)

قالت عائشة : وقدم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٦) المدينة ، ولم أر فيه ـ عليه‌السلام (٧) ـ ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، وهو يريبني (٨) في وجعي أنّي لا أرى من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اللطف (٩) الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم» (١٠)؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت (١١) ، فخرجت مع أم مسطح (١٢) قبل المناصع (١٣) وكان

__________________

(١) ماج الناس : دخل بعضهم في بعض. اللسان (موج).

(٢) هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، من أهل المدينة ، كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم ، وهو كبير المنافقين في الإسلام ، مات سنة ٩ ه‍. المنجد ٤٥١.

(٣) هو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف ، ومسطح لقب ، واسمه عوف وقيل : عامر ، شهد المشاهد كلها ، وكان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يجري عليه ، وهو الذي قذف عائشة ـ رضي الله عنها ـ مات سنة ٣٧ ه‍. المعارف ٣٢٨.

(٤) هي حمنة بنت جحش الأسدية ، أخت زينب زوج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت تحت مصعب بن عمير ، فقتل عنها يوم أحد ، وخلف عليها طلحة بن عبيد الله. تهذيب التهذيب ١٢ / ٤١١.

(٥) البيت من بحر الوافر قاله حسان بن ثابت ، وهو من قصيدته التي يهجو فيها أبا سفيان بن الحارث قبل فتح مكة ، ومطلعها :

عفت ذات الأصابع فالجواء

إلى عذراء منزلها خلاء

وهو في ديوانه (٧٦) والاقتضاب في شرح أدب الكتاب ٣ / ٣٦ ، الخزانة ٩ / ٢٣٢ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٥١.

(٦) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) رابني : علمت منه الريبة ، وأرابني : أوهمني الريبة وظننت ذلك به. اللسان (ريب).

(٩) اللطف : البر والرفق.

(١٠) إشارة إلى المؤنث مثل ذاكم للمذكر ، شرح الأشموني ١ / ١٤٣.

(١١) نقهت : بفتح القاف وكسرها ، والفتح أشهر ، والناقه : الذي برأ من مرضه ولا يزال به ضعف. اللسان (نقه).

(١٢) هي أم مسطح القرشية التيمية ، قيل : اسمها سلمى ، أسلمت فحسن إسلامها ، وكانت من المهاجرين الأولين ، ثبت ذكرها في الصحيحين في قصة الإفك ، وكانت من أشد الناس على مسطح حين تكلم مع أهل الإفك. الإصابة ٨ / ٣٠٢.

(١٣) المناصع : المواضع التي يتخلّى فيها لبول أو غائط أو لحاجة ، الواحد : منصع وقيل : هي مواضع ـ


متبرّزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى الليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف (١) قريبا من بيوتنا قالت : فانطلقت أنا وأم مسطح ، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف. وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها (٢) ، فقالت : تعس (٣) مسطح. فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبّين رجلا شهد بدرا؟ فقالت : أي هنتاه (٤) ، أو لم تسمعي ما قال؟ فقلت : وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، وقالت : أشهد بالله إنك من المؤمنات الغافلات. فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم قال : «كيف تيكم»؟ فقلت له أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت : وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقلت لأمي : يا أماه ، ما ذا يتحدث الناس؟ قالت : يا بنية ، هوّني عليك ، فو الله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة (٥) عند رجل يحبها ولها ضراء (٦) إلا كثّرن عليها (٧). فقلت : سبحان الله ، أو لقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي (٨) دمع ، ولا أكتحل بنوم(٩) ، فدخل عليّ أبي وأنا أبكي ، فقال لأمي : ما يبكيها؟ قالت : لم (١٠) تكن علمت ما قيل فيها ، فأقبل يبكي. قالت : ودعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد (١١) حين استلبث(١٢) الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق

__________________

ـ بعينها خارج المدينة. صحيح مسلم بشرح النووي ١٧ / ١٠٦ ، اللسان (نصع).

(١) الكنف : جمع كنيف. وهو الساتر. اللسان (كنف).

(٢) المرط : كساء من خز أو صوف أو كتان يؤتزر به وتتلفع به المرأة والجمع مروط. اللسان (مرط).

(٣) بفتح العين وكسرها ، لغتان ، ومعناه : عثر ، وقيل : هلك ، وقيل : لزمه الشر ، وقيل : بعد وقيل : أكب على وجهه ، وتعسه الله وأتعسه بمعنى واحد ، وإذا خاطب بالدعاء قال : تعست ، بفتح العين ، وإن دعا على غائب كسرها فقال : تعس. اللسان (تعس).

(٤) أي : حرف نداء للبعيد ، وقيل : للقريب ، وقيل : للمتوسط. المغني ١ / ٧٦ و «هنتاه» : من الألفاظ الخاصة بالنداء ، وهي لنداء الأنثى. قال أبو الحسن الأشموني : (يقال في نداء المجهول والمجهولة : يا هن ويا هنة وفي التثنية والجمع يا هنان ويا هنتان ويا هنون ويا هنات وقد يلي أواخرهن ما يلي آخر المندوب نحو يا هناه ويا هنتاه بضم الهاء وكسرها ، وفي التثنية والجمع يا هنانية ويا هنتانية ويا هنوناه ويا هناوه ، والله أعلم) شرح الأشموني ٣ / ١٦٢.

(٥) الوضاءة : الحسن والنظافة. يقال وضؤت فهي وضيئة. اللسان (وضأ).

(٦) الضّرائر : جمع ضرّة ، وهن زوجات الرجل ، لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة وغيرها. شرح النووي ١٧ / ١٠٨.

(٧) أي : أكثرن القول في عيبها ونقصها.

(٨) أي : لا ينقطع.

(٩) أي : لا أنام.

(١٠) في النسختين : ألم.

(١١) أسامة بن زيد بن حارثة ، صحابي ، من موالي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دخل مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الكعبة يوم الفتح لكسر أصنام المشركين ، قاتل في أحد ، مات سنة ٥٤ ه‍. المنجد ٣٩.

(١٢) أي : أبطأ وتأخر.


أهله ، فقال أسامة : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليّ فقال : لم يضيّق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، فدعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بريرة ، فقال : «هل رأيت من شيء يريبك»؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق نبيا ما رأيت عليها أمرا قط أغضه (١) أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن (٢) فتأكله. قالت : فقام نبي الله خطيبا على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني (٣) من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ـ يعني : عبد الله بن أبيّ ـ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ (٤) أخو بني الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن أخذته الحمية ، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله لا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير (٥) ، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتله ، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا. قالت : فبكيت يومي ذلك كله وليلتي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما (٦) حتى أني لأظنّ أن البكاء فالق (٧) كبدي ، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك إذ دخل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين جلس ثم قال : أمّا بعد يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن

__________________

(١) أي : أعيبها به. اللسان (غمص).

(٢) الداجن : الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى ، وقيل هي كل ما يألف البيوت مطلقا شاة أو طيرا ، والجمع : دواجن. اللسان (دجن).

(٣) أي : من يقوم بعذري أن كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني؟ وقيل معناه : من ينصرني؟ والعذير : الناصر ، وقيل المراد من ينتقم لي منه؟ اللسان (عذر) شرح النووي ١٧ / ١٠٩.

(٤) هو سعد بن معاذ الأنصاري الأوسي ، من أعاظم الصحابة ، قاتل في بدر وأحد ، رمي بسهم يوم الخندق فمات من أثر جرحه ، وعمره ٣٧ سنة ، وذلك في السنة الخامسة من الهجرة على الراجح بكاه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتولى الصلاة عليه. المنجد ٣٥٥ ، الأعلام ٣ / ٨٨.

(٥) هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك الأوسي ، أبو يحيى ، صحابي ، كان شريفا في الجاهلية والإسلام ، وكان من السابقين إلى الإسلام ، وكان إسلامه على يد مصعب بن عمير بالمدينة مات سنة ٢٠ ه‍. الإصابة ١ / ٨٣ ـ ٨٤ ، الأعلام ١ / ٣٣٠.

(٦) في ب : ويومين.

(٧) الفلق : الشق ، والفلق مصدر فلقه يفلقه فلقا شقه. اللسان (فلق).


كنت ألممت بذنب (١) فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه قالت : فلمّا قضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مقالته قلص دمعي (٢) حتى ما أحسّ منه قطرة ، (فقلت) (٣) لأبي : أجب عني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما قال. فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقلت وأنا جارية حديثة السّن لا أقرأ من القرآن كثيرا : إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني ، فو الله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال : «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» (٤) ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر ، ولكني كنت أرجو أن يرى (٥) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رؤيا يبرئني الله بها ، فو الله ما قام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (٦) عند الوحي حتى إنه ليتحدر (٧) فيه العرق مثل الجمان (٨) في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت : فسري (٩) عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يضحك ، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : «يا عائشة ، أما الله قد برأك» قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : فو الله لا أقوم إليه ، فإني لا أحمد إلا الله. قالت : وأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ..) العشر آيات. فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مسطح بعدها ، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره ، فأنزل الله : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ...)(١٠) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ). فلما سمع أبو بكر قوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)(١٠) قال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى النفقة على مسطح وقال : والله لا أنزعها منه أبدا. قال : فلما نزل عذري قام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذكر

__________________

(١) أي : إن كنت فعلت ذنبا وليس ذلك لك بعادة ، وقيل معناه : قاربت. شرح النووي ١٧ / ١١١ ، اللسان (لمم).

(٢) أي : ارتفع وذهب لاستعظام ما يعيبني من الكلام. شرح النووي ١٧ / ١١١ ، اللسان (قلص).

(٣) ما بين القوسين مكرر في الأصل.

(٤) [يوسف : ١٨].

(٥) في الأصل : يرى الله.

(٦) البرحاء : الشدة والمشقة ، وقيل : شدة الحمى ، وقيل شدة الكرب من ثقل الوحي. اللسان (برح).

(٧) أي : ليتصبب.

(٨) الجمان : اللؤلؤ ، وحب يصاغ من الفضة على شكل اللؤلؤ ، شبهت حبات عرقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ باللؤلؤ في الصفاء والحسن. اللسان (جمن) شرح النووي ١٧ / ١١٢.

(٩) أي : كشف وأزيل.

(١٠) من الآية (٢٢) من السورة نفسها.


ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل ضرب عبد الله بن أبيّ ومسطح وحسّان وحمنة الحد (١).

فصل

الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وهو أسوأ الكذب. وسمي (٢) إفكا لكونه مصروفا عن الحق من قولهم (٣) : أفك الشيء : إذا قلبه عن وجهه. قيل : هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد : ما أفك به على عائشة (٤).

وإنما وصف الله ذلك الكذب بكونه إفكا لكون المعروف من حال عائشة خلافه ، وذلك من وجوه :

الأوّل : أن كونها زوجة المعصوم يمنع من ذلك ، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم ، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم ، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات.

فإن قيل : كيف جاز أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ وأيضا فلو لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة؟

فالجواب عن الأول : أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجور فإنه من المنفرات.

والجواب عن الثاني : أنه عليه‌السلام (٥) كثيرا ما يكون (٦) يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ)(٧) فهذا من ذاك الباب.

الثاني : أن المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور ، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به.

الثالث : أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم ، وكلام المفتري ضرب من الهذيان (٨). فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي (٩).

__________________

(١) أخرجه الإمام البخاري (الشهادات حديث الإفك) ٢ / ١٠٣ ـ ١٠٦ ، (المغازي) ٣ / ٣٧ ـ ٤١ ، (التفسير) ٣ / ١٦٣ ـ ١٦٦ ، والإمام مسلم في صحيحه بشرح النووي (التوبة) ١٧ / ١٠٢ ـ ١١٦ ، والطبري ١٨ / ٧١ ـ ٧٤ ، وأسباب النزول للسيوطي ٢٣٥ ـ ٢٤٠ وهو في الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥ ـ ١٧٧ ، وابن كثير ٣ / ٢٦٨ ـ ٢٧١. أسباب النزول للسيوطي ١٤٠ ـ ١٤٢ ، الدر المنثور ٥ / ٢٥ وما بعدها.

(٢) وسمي : سقط من ب.

(٣) في ب : تقول.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٣.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) يكون : سقط من ب.

(٧) [الحجر : ٩٧].

(٨) الهذيان : كلام غير معقول مثل كلام المبرسم والمعتوه. هذى يهذي هذيا وهذيانا : تكلم بكلام غير معقول في مرض أو غيره. اللسان (هذى).

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٣ ـ ١٧٤.


فصل

العصبة : قيل : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وكذلك العصابة (١) ، وهم عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم(٢).

قوله : «كبره» العامة على كسر الكاف.

وضمّها في قراءته الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن (٣). ورويت أيضا عن أبي (٤) عمرو والكسائي (٥).

فقيل : هما لغتان في مصدر : كبر الشيء ، أي : عظم ، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم(٦) في السن والمكانة (٧) ، يقال : هو كبر القوم بالضم ، أي : أكبرهم سنا أو مكانة (٨) ، وفي الحديث في قصة محيصة وحويصة : «الكبر الكبر» (٩).

وقيل : بالضم : معظم الإفك. وبالكسر : البداءة. وقيل : بالكسر : الإثم (١٠).

قوله : «منكم» معناه : إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون ، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا (١١).

قوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) هذا شرح حال المقذوف وليس خطاب مع القاذفين.

فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :

أحدهما : أنه لم يتقدم ذكرهم.

والثاني : أن المقذوفين هم عائشة وصفوان ، فكيف يحمل عليهما صيغة الجمع في قوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ)؟

فالجواب عن الأول : أنه تقدم ذكرهم في قوله : «منكم».

__________________

(١) اللسان (عصب).

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٤.

(٣) هي عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصارية النجّارية محدثة عالمة فقيهة ، كانت في حجر أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حفظت عنها الكثير. مات سنة ٩٨ ه‍. أعلام النساء ٣ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٤) أبي : سقط من ب.

(٥) المختصر (١٠١) ، المحتسب ٢ / ١٠٣ ـ ١٠٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٧ ، النشر ٢ / ٣٣١ ، الإتحاف (٣٢٣).

(٦) في ب : الضموم. وهو تحريف.

(٧) في النسختين : المكان. والصواب ما أثبته.

(٨) اللسان (كبر).

(٩) أخرجه البخاري (أدب) ٤ / ٧٢ ، مسلم (قسامة) ٣ / ١٢٩١ ـ ١٢٩٢ الترمذي (ديات) ٢ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧ ، أبو داود (ديات) ٤ / ٦٥٥ ، النسائي (قسامة) ٧ / ٧ ـ ١٢ ، أحمد ٤ / ٣٥٢.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٧.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٤.


وعن الثاني : أن المراد من لفظ الجمع : كل من تأذّى بذلك الكذب ، ومعلوم أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به (١).

فإن قيل : فمن أي جهة يصير خيرا لهم مع أنه مضرّة؟

فالجواب : لوجوه :

أحدها : أنهم صبروا على ذلك الغم طلبا لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين.

وثانيها : لو لا إظهارهم الإفك كان يجوز أن يبقى الهمّ كامن في صدور البعض ، وعند الإظهار انكشف كذب القوم.

وثالثها : صار خيرا لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة ، وشهد الله بكذب القاذفين ، ونسبهم إلى الإفك ، وأوجب عليهم اللعن والذم ، وهذا غاية الشرف والفضل.

ورابعها : صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها ، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكا وبالغ في شرحه ، فكل من شك فيه كان كافرا قطعا ، وهذه درجة عالية (٢).

وقال بعضهم : قوله تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) خطاب مع القاذفين وجعل الله خيرا لهم من (٣) حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، ومن حيث تاب بعضهم عنده. وهذا القول ضعيف ، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف ، ولما وصف أهل الإفك خاطبهم بالهاء بقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة ، فالمراد : لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا ، والمعنى : أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض (٤).

قوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ). أي : الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن (أبيّ ابن) (٥) سلول. والعذاب العظيم هو النار في الآخرة.

روي عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم : من هذه؟ قالوا : عائشة. قال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقودها. وشرع في ذلك أيضا حسان بن ثابت ، ومسطح ، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله ، فهم الذين تولوا (٦) كبره. والأقرب أنه عبد الله بن أبيّ ، فإنه كان منافقا يطلب ما يقدح في (الرسول) (٧)(٨).

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٣) من : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) في الأصل : توا.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥.

(٨) ما بين القوسين في ب : رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.


قال مسروق (١) : دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعرا يشبب بأبيات له وقال :

٣٨١٩ ـ حصان(٢)رزان ما تزنّ(٣)بريبة

وتصبح غرثى من لحوم (الغوافل (٤)) (٥)

فقالت له عائشة : «لكنك لست كذلك».

قال مسروق : فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)؟ قالت : «وأيّ عذاب أشد من العمى» (٦).

وروي أن عائشة ذكرت حسان وقالت : «أرجو له الجنّة». فقيل : أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت : «إذا سمعت شعره في مدح الرسول رجوت له الجنّة» (٧) وقال عليه‌السلام (٨) : «إنّ الله يؤيد حسان بروح القدس في شعره» (٩).

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعا (١٠).

فصل

المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئا بذلك القول ، فلا جرم حصل له من العقاب ما حصل لكل من قال ذلك ، لقوله عليه‌السلام (١١) : «من سنّ سنّة سيئة فعليه (١٢) وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (١٣).

وقال أبو مسلم : «سبب تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة» (١٤).

__________________

(١) هو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمذاني الكوفي ، روى عن الخلفاء الأربعة وابن مسعود وغيرهم ، كان إماما في التفسير ، وثقة عند أهل الحديث ، وقد أخرج له الستة ، مات سنة ٦٣ ه‍.

المعارف (٤٣٢) ، التفسير والمفسرون ١ / ١١٩ ـ ١٢٠.

(٢) في الأصل : حسان. وهو تحريف.

(٣) في ب : يرون. وهو تحريف.

(٤) من الطويل ، وهو في ديوانه (٢٢٨) ، والإنصاف ٢ / ٧٥٩ ، القرطبي ١٢ / ٢٠٠ ، اللسان : (حصن ، زنن ، غرث) ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٧.

(٥) ما بين القوسين في ب : الحوافل. وهو تحريف.

(٦) أخرجه الطبري ١٨ / ٧٠ ، وأورده ابن عطية في تفسيره ١٠ / ٤٥٤ ـ ٤٤٥ وابن كثير ٣ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

والسيوطي في الدر ٥ / ٣٣.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) أخرجه البخاري (صلاة) ١ / ٩٠ ، (بدء الخلق) ٢ / ٢١٢ ، ومسلم (فضائل الصحابة) ٤ / ١٩٣٢ ـ ١٩٣٦ النسائي (مساجد) ٢ / ٤٨ ، أحمد ٥ / ٢٢٢.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٧٩.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في الأصل : فله.

(١٣) أخرجه مسلم (زكاة) ٢ / ٧٠٥ ، (علم) ٤ / ٢٠٥٩ ـ ٢٠٦٠ ، النسائي (زكاة) ٥ / ٧٥ ـ ٧٧ الدارمي (مقدمة) ١ / ١٣٠ ، أحمد ٥ / ٣٨٧.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥.


قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ)(١٢)

قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) «لو لا» هذه تحضيضية ، أي : هلّا ، وذلك كثير في اللغة إذا كانت تلي الفعل كقوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي)(١) وقوله : (فَلَوْ لا (٢) كانَتْ)(٣).

فأما إذا ولي الاسم فليس كذلك كقوله : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)(٤) ، (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)(٥). و «إذ» منصوب ب «ظنّ» والتقدير : لو لا ظنّ المؤمنون بأنفسهم إذ سمعتموه. وفي هذا الكلام التفات. قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : لو لا إذ سمعتموه ، ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم ، ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق (أحد قالة في أخيه ، وألا يظن بالمسلمين إلا خيرا) (٦).

وقوله (٧) : «ولم عدل عن الخطاب»؟ يعني في قوله : «وقالوا» فإنه كان الأصل : «وقلتم» ، فعدل عن هذا الخطاب إلى الغيبة في «وقالوا».

وقوله (٧) : «وعن الضمير» يعني أن الأصل كان «ظننتم» فعدل عن ضمير الخطاب إلى لفظ المؤمنين.

فصل

المعنى : هلّا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ) بإخوانهم «خيرا».

وقال الحسن : بأهل دينهم ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(٨)(فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ)(٩) المعنى : بأمثالكم المؤمنين.

وقيل : جعل المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور ، فإذا جرى

__________________

(١) من قوله تعالى : «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» [المنافقون : ١٠].

(٢) في ب : فلو. وهو تحريف.

(٣) من قوله تعالى : «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» [يونس : ٩٨].

(٤) [سبأ : ٣١].

(٥) [النساء : ٨٣] ، [النور : ١٠ ، ١٤ ، ٢٠ ، ٢١]. وانظر ذلك في حروف المعاني للزجاجي (٣ ـ ٥) ، ومعاني الحروف للرماني (١٢٣ ـ ١٢٤) ، المغني (١ / ٢٧٢ ـ ٢٧٦).

(٦) ما بين القوسين فيه اختلاف في ألفاظ الكشاف. انظر الكشاف ٣ / ٦٥.

(٧) الضمير في : وقوله ، للزمخشري.

(٧) الضمير في : وقوله ، للزمخشري.

(٨) [النساء : ٢٩].

(٩) من قوله تعالى : «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً» [النور : ٦١].

وانظر البغوي ٦ / ٧٩ ـ ٨٠.


على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم ، كما قال عليه‌السلام (١) «مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسّهر والحمّى» (٢) ، وقال عليه‌السلام (٣) : «المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضه بعضا (٤)» (٥).

وقوله : (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي : كذب بين (٦).

قوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٤)

قوله : «لو لا (٧) جاءوا» : هلّا جاءوا (عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي : على ما زعموا ، يشهدون على معاينتهم ما رموها به (فَإِذْ (٨) لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) ولم يقيموا بينة على ما قالوه (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ) أي : في حكمه (هُمُ الْكاذِبُونَ).

فإن قيل : كيف يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت؟

فالجواب : معناه : كذبوهم بأمر الله.

وقيل : هذا (٩) في حق عائشة خاصة ، فإنهم كانوا عند الله كاذبين (١٠).

وقيل : المعنى : في حكم الكاذبين ، فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب ، والقاذف إذا لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره ، فلما (كان) شأنه (شأن) (١١) الكاذب في الزجر أطلق عليه أنه كاذب مجازا(١٢).

قوله : «فإذ لم يأتوا». «إذ» منصوب ب «الكاذبون» في قوله : (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، وهذا كلام في قوة شرط وجزاء.

قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) من

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه البخاري (أدب) ٣ / ٥٣ ، مسلم (بر) ٤ / ١٩٩٩ ـ ٢٠٠٠.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) أخرجه البخاري (صلاة) ١ / ٩٥ ، (مظالم) ٣ / ٦٧ ، (أدب) ٤ / ٥٥ ، مسلم (بر) ٤ / ١٩٩٩ الترمذي (بر) ٣ / ٢١٨ ، النسائي (زكاة) ٥ / ٧٩ ، أحمد ٤ / ٤٠٤ ، ٤٠٥ ، ٤٠٩.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٨.

(٦) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٦.

(٧) في الأصل : لو. وهو تحريف.

(٨) في ب : فإذا. وهو تحريف.

(٩) هذا : سقط من ب.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٨٠.

(١١) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٩.


الإفك (عَذابٌ عَظِيمٌ.) (وهذا زجر) (١) و «لو لا» هاهنا لامتناع الشيء لوجود غيره (٢) ويقال: أفاض في الحديث : اندفع وخاض. والمعنى : ولو أني قضيت أن أتفضل (٣) عليكم في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال ، وأترحّم عليكم في الآخرة بالعفو ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك.

وقيل : المعنى : ولو لا فضل الله عليكم لمسّكم العذاب في الدّنيا والآخرة معا ، فيكون فيه تقديم وتأخير (٤). وهذا الفضل هو حكم الله لمن تاب.

وقال ابن عباس : المراد بالعذاب العظيم أي : عذاب لا انقطاع له. أي : في الآخرة لأنه ذكر عذاب الدنيا من قبل (٥) فقال : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٦) وقد أصابه ، فإنه جلد وحدّ (٧).

قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)(١٥)

قوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ). «إذ» منصوب ب «مسّكم» أو ب (أَفَضْتُمْ)(٨).

وقرأ العامة : «تلقّونه» (٩) والأصل : تتلقّونه ، فحذف إحدى التاءين ك «تنزل» (١٠) ونحوه ، ومعناه : يتلقّاه بعضكم من بعض.

قال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول : بلغني كذا وكذا ، يتلقونه تلقيا (١١).

قال الزجاج : يلقيه بعضهم إلى بعض (١٢).

والبزّي (١٣) على أصله في أنه يشدّد التّاء وصلا (١٤) ، وتقدم تحقيقه في البقرة نحو (وَلا تَيَمَّمُوا)(١٥) وهو هناك سهل ، لأن ما قبله حرف لين بخلافه هنا (١٦).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) لأن (لو لا) إذا وليها جملة اسمية كانت لامتناع الشيء لوجود غيره.

(٣) في الأصل : الفضل.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٠.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٨٠.

(٦) من الآية (١١) من السورة نفسها.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٨٠.

(٨) من الآية السابقة. انظر الكشاف ٣ / ٦٥ ، التبيان ٢ / ٩٦٧.

(٩) السبعة (٤٥٤).

(١٠) من قوله تعالى : «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها» [القدر : ٤].

(١١) انظر البغوي ٦ / ٨١.

(١٢) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٨.

(١٣) هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن نافع بن أبي بزّة المكّي ، مقرىء مكة ، ومؤذن المسجد الحرام ، أستاذ محقق ضابط ، مات سنة ٢٥٠ ه‍. طبقات القراء ١ / ١١٩ ـ ١٢٠.

(١٤) السبعة ٤٥٤ ، الكشف ١ / ٣١٤ ـ ٣١٥ ، الإتحاف ٣٢٣.

(١٥) من قوله تعالى : «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ»[البقرة : ٢٦٧].

(١٦) فقيل التاء في البقرة ألف (لا) ، وهنا قبلها ذال (إذ).


وأبو عمرو والكسائي وحمزة على أصولهم في إدغام الذال في التاء (١).

وقرأ أبيّ : «تتلقّونه» بتاءين (٢) ، وتقدم أنها الأصل. وقرأ ابن السميفع في رواية عنه : «تلقونه» بضم التاء وسكون اللام وضم القاف (٣) مضارع : ألقى إلقاء.

وقرأ هو في رواية أخرى : «تلقونه» بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف (٤) مضارع : لقي. وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف (٥) من ولق الرجل : إذا كذب. قال ابن سيدة (٦) : جاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي ، وعندي (٧) أنه أراد : تلقون فيه ، فحذف الحرف ، ووصل الفعل للضمير (٨) ، يعني (٩) : أنهم جاءوا ب «تلقّونه» وهو متعد مفسرا ب «تكذبون» وهو غير متعد ، ثم حمله على ما ذكر. وقال الطبري (١٠) وغيره (١١) : إن هذه اللفظة مأخوذة من الولق وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء ، كعدو (١٢) في إثر عدو ، وكلام في إثر كلام ، يقال : ولق في سيره أي : أسرع ، وأنشد :

٣٨٢٠ ـ جاءت به عيس من الشّام تلق (١٣)

وقال أبو البقاء : أي : يسرعون فيه ، وأصله من «الولق» وهو الجنون (١٤).

وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر : «تألقونه» بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة(١٥) من «الألق» وهو الكذب (١٦). وقرأ يعقوب (١٧) : «تيلقونه» بكسر التاء من فوق ،

__________________

(١) السبعة (٤٥٣ ـ ٤٥٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٦١ ، الإتحاف (٣٢٣).

(٢) المختصر (١٠٠) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٦١.

(٣) المحتسب ٢ / ١٠٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٨.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٤٣٨.

(٥) «تلقونه». المختصر (١٠٠) ، المحتسب ٢ / ١٠٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٨.

(٦) تقدم.

(٧) في ب : فصل وعند.

(٨) المحكم ٦ / ٣٥٠.

(٩) في ب : معنى.

(١٠) جامع البيان ١٨ / ٧٨.

(١١) منهم ابن جني انظر المحتسب ٢ / ١٠٤.

(١٢) في ب : لعدو.

(١٣) رجز قاله القلاخ بن حزن المنقري ، وهو في ملحقات ديوان الشماخ (٤٥٣) ومعاني القرآن للفراء ٢ / ١٠٤ ، المحتسب ٢ / ١٠٤ ، الخصائص ١ / ٩٠ ، ٣ / ٢٩١ ، المخصص ٣ / ٥٤ ، ٧ / ١٠٩ ، المحكم ٦ / ٣٥٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٦٢ ، ابن يعيش ٩ / ١٤٥ ، اللسان (أنق ، زلق ، ولق). العيس : الإبل البيض ، وروي : (عنس) وهي الناقة القوية. والشاهد فيه قوله : (تلق) فإنه بمعنى تسرع ، وهو لازم ، ويتعدى بحرف جر محذوف ، أي : تلق به.

(١٤) التبيان ٢ / ٩٦٧.

(١٥) المختصر (١٠٠) ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٨.

(١٦) قال الفراء : (ويقال في الولق من الكذب : هو الألق والإلق ، وفعلت منه : ألقت ، وأنتم تألقونه) معاني القرآن ٢ / ٢٤٨.

(١٧) في رواية المازني.


بعدها ياء ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة (١) ، وهو مضارع «ولق» بكسر اللام ، كما قالوا : «تيجل» مضارع «وجل». وقوله : «بأفواهكم» كقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(٢) وقد تقدم.

فصل

اعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام ، وعلق مس العذاب العظيم بها.

أحدها : تلقي الإفك (٣) بألسنتهم ، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل يقول له : ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر ، ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة ، وذلك من العظائم (٤).

وثانيها : أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به ، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم ، ونظيره : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٥).

وثالثها : أنهم كانوا يستصغرون ذلك ، وهو عظيمة من العظائم (٦).

وتدل الآية على أن القذف من الكبائر لقوله : (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) ، وتدل على أن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه.

ونبه بقوله : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) على أن عمل المعصية لا يختلف بظن فاعله وحسبانه ، بل ربما كان ذلك مؤكدا لعظمه (٧).

فإن قيل : ما معنى قوله : «بأفواهكم» والقول لا يكون إلّا بالفم؟

فالجواب : معناه : أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه باللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به كقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ (٨) ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)(٩)» (١٠).

قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ)(١٦)

قوله : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) كقوله : (لَوْ لا (١١) إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ) ولكن الالتفات فيه قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز الفصل بين (لو لا) و (قلتم) بالظرف؟ قلت :

__________________

(١) المختصر (١٠٠) ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٨.

(٢) [آل عمران : ١٦٧]. وذلك أن (الأفواه) جمع (فم) وأصله : (فوه) فلامه هاء بدليل جمعه على أفواه ، وتصغيره على فويه ، واختلف في وزنه فعند الخليل وسيبويه (فعل) بفتح الفاء وسكون العين ، وعند الفراء (فعل) بضم الفاء ، حذفوا لامه تخفيفا فصار آخره حرف علة فأبدلوه ميما فصار فم. شرح الأشموني ٤ / ٧٢.

(٣) في ب : الأول. وهو تحريف.

(٤) في ب : القطاعة. وهو تحريف.

(٥) [الإسراء : ٣٦].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٠.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٨) في الأصل : بأفواههم. وهو تحريف.

(٩) [آل عمران : ١٦٧].

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٠.

(١١) في النسختين : ولو لا. والصواب ما أثبته.


للظروف شأن ليس لغيرها ، لأنها لا ينفك عنها ما يقع فيها ، فلذلك اتسع (١) فيها (٢).

قال أبو حيان : «وهذا يوهم اختصاص ذلك بالظروف ، وهو جائز في المفعول به ، تقول : لو لا زيدا ضربت ، ولو لا عمرا (٣) قتلت» (٤).

وقال الزمخشري أيضا : فإن قلت : أي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت : الفائدة فيه : بيان أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب تقديمه. فإن قلت : ما معنى «يكون» والكلام (٥) بدون متلئب (٦) لو قيل : ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت : معناه : ينبغي ويصح ، أي : ما ينبغي وما يصح كقوله : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ)(٧)(٨).

فصل (٩)

قوله : (وَلَوْ لا (١٠) إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ) هذا اللفظ هنا معناه التعجب (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي : كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته.

روي أن أم أيوب (١١) قالت لأبي أيوب الأنصاري (١٢) : أما بلغك ما يقول الناس في عائشة؟ فقال أبو أيوب : «سبحانك هذا بهتان عظيم» فنزلت الآية على وفق قوله (١٣).

قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٨)

قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ ...)(١٤) الآية وهذا من باب الزواجر ،

__________________

(١) في النسختين : امتنع ، والصواب ما أثبته.

(٢) وقع تغيير في عبارة الزمخشري من قوله : (قلت : للظروف شأن) ، ونص العبارة : (قلت : للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها ، وأنها لا تنفك عنها ، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها) الكشاف ٣ / ٦٦.

(٣) في ب : عمروا. وهو تحريف.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٨.

(٥) في ب : الكلام.

(٦) المتلئبّ : المستقيم. اللسان (تلأب).

(٧) في ب : «ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ». [المائدة : ١١٦].

(٨) الكشاف ٣ / ٦٦.

(٩) فصل : سقط من ب.

(١٠) في النسختين : لو لا. وهو تحريف.

(١١) هي أم أيوب الأنصارية الخزرجية ، زوج أبي أيوب ، وهي بنت مقيس بن سعد بن امرىء القيس ، روت عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. تهذيب التهذيب ١٢ / ٤٦٠.

(١٢) هو أبو أيوب الأنصاري خالد بن يزيد ، من أكابر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ نزل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في بيته في المدينة يوم الهجرة إلى أن تم بناء مسجد له. كان من رواة الحديث ، قاتل في أكثر الغزوات ، مات سنة ٥٢ ه‍. المعارف ٢٧٤ ، المنجد ١٤.

(١٣) انظر جامع البيان ١٨ / ٧٧ ، أسباب النزول للواحدي (٢٤٠) والفخر الرازي ٢٣ / ١٨٧ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٢٧٣ ، الدر المنثور ٥ / ٣٤.

(١٤) «لمثله» : سقط من ب.


أي : يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب ، ولأن فيه الحد والنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لكي لا تعودوا إلى مثل هذا الفعل أبدا (١).

قوله : (أَنْ تَعُودُوا) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله ، أي : يعظكم كراهة أن تعودوا (٢).

الثاني : أنه على حذف «في» أي : في أن تعودوا ، نحو (٣) : وعطف فلانا في كذا ، فتركه(٤).

الثالث : أنه ضمن معنى فعل (٥) يتعدى ب «عن» ثم حذفت ، أي : يزجركم بالوعظ عن العود (٦).

وعلى هذين القولين يجيء القولان في محل «أن» بعد نزع الخافض.

قال ابن عباس : «يحرم الله عليكم» (٧).

وقال مجاهد : «ينهاكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبيّن الله لكم الآيات» في الأمر والنهي (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأمر عائشة وصفوان «حكيم» (٨) ببراءتهما (٩).

واعلم أن العليم الحكيم هو الذي لا يأمر إلا بما ينبغي ، ولا يهمل جزاء المستحقين فلهذا ذكر هاتين الصفتين وخصهما بالذكر (١٠).

فصل

استدلت المعتزلة بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) على أن ترك القذف من الإيمان ، لأن المعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط.

وأجيبوا بأن هذا معارض بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)(١١) أي : منكم أيها المؤمنون ، فدل ذلك على أن القذف لا يوجب الخروج عن الإيمان ، وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على التهيج في الاتعاظ والانزجار (١٢).

فصل

قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد من جميع من وعظه مجانبة ذلك في المستقبل وإن كان فيهم من لا يطيع ، فمن هذا الوجه يدل على أنه يريد منهم كلهم

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٢.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٦٦ ، التبيان ٢ / ٩٦٧.

(٣) في ب : بحر. وهو تحريف.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٦٦.

(٥) فعل : كرر في الأصل.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٦٧.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٨٢.

(٨) في الأصل : حليم. وهو تحريف.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٨٢.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٢.

(١١) من الآية (١١) من السورة نفسها.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٢.


الطاعة وإن عصوا ، ولأن قوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا) ، أي : لكي لا تعودوا لمثله ، وذلك يدل على الإرادة ، وتقدم الجواب عنه (١) مرارا (٢).

فإن قيل : هل يجوز أن يسمى الله واعظا لقوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ)؟ فالأظهر أنه لا يجوز ، كما لا يجوز أن يسمى الله معلما لقوله : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ)(٣)» (٤).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١٩)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) الآية.

لمّا بين ما على الإفك وعلى من سمع منه وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا كما شارك فيه من فعله (٥).

والإشاعة : الانتشار ، يقال : في هذا العقار سهم شائع : إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلا. وشاع الحديث : إذا ظهر في الجميع ولم يكن منفصلا. وشاع الحديث : إذا ظهر في العامة (٦). والمعنى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) أن يظهر ويذيع الزنا (فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين والعذاب في الدنيا : الحد. وفي الآخرة : النار.

وظاهر الآية يتناول كل من كان بهذه الصفة.

والآية إنما نزلت في قذفة عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (٧) ثم قال : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وهذا حسن الموقع في هذا الموضع ، لأن محبة القلب كافية ونحن لا نعلمها إلا بالإبانة ، وأما الله ـ سبحانه ـ فإنه لا يخفى عليه ، وهذا نهاية في الزجر ، لأن من أحبّ إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله يعلم ذلك منه ، ويعلم قدر الجزاء عليه(٨).

وهذه الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم ذنب ، وأن إرادة الفسق فسق ، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبّة إشاعة الفاحشة.

فصل

قالت المعتزلة : إن الله بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة ، فلو كان تعالى هو

__________________

(١) في ب : فيه.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٢.

(٣) [الرحمن : ١ ، ٢].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٢.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٣.

(٦) المرجع السابق.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٤.

(٨) المرجع السابق.


الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو ، فكان يجب ألا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة إلا هو ، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة ، وغيره لم يفعل شيئا ، وتقدم الكلام على (نظيره (١)) (٢).

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢١)

قوله تعالى (٣) : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) جواب «لو لا» (٤) محذوف ، أي : لعاجلكم بالعقوبة.

قال ابن عباس : يريد مسطحا وحسان وحمنة. ويجوز أن يكون الخطاب عاما.

وقيل : جوابه في قوله : «ما زكى منكم من أحد» (٥).

وقيل : جوابه : لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة ، وهو قول أبي مسلم. والأقرب أن جوابه محذوف ، لأن قوله من بعد : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ)(٦) كالمنفصل من الأول ، فلا يكون جوابا للأول خصوصا (وقد) (٧) وقع (٨) بين الكلامين كلام آخر (٩).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الآية قرىء (١٠) «خطوات» بضم الطاء وسكونها (١١). والخطوات : جمع خطوة وهو من خطا الرجل يخطو خطوا (١٢) فإذا أردت الواحدة قلت : خطوة مفتوحة الأول ، والمراد بذلك : السيرة (١٣).

والمعنى : لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة ، والله

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٥.

(٢) ما بين القوسين في ب : ونظيره.

(٣) في ب : فصل.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٥.

(٥) من الآية التي بعدها.

(٦) الآية التي بعدها.

(٧) وقد : تكملة من الفخر الرازي.

(٨) وقع : سقط من ب.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٥.

(١٠) في ب : قرأ.

(١١) قرأ بضم الطاء ابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم وابن كثير إلا أنه روى ابن فليح عن أصحابه عن ابن كثير «خطوات» خفيفة ، أي: ساكنة الطاء. وقرأ الباقون بإسكان الطاء تخفيفا. فمن قرأ بضم الطاء حمل ذلك على أصل الأسماء ، لأن الأسماء يلزمها في الجمع الضم وهي لغة أهل الحجاز ، ومن قرأ بإسكان الطاء تخفيفا ، لاجتماع ضمتين وواو ، لأنه جمع ، ولأنه مؤنث ، فاجتمع فيه ثقل الجمع وثقل التأنيث ، وثقل الضمتين والواو ، فحسن فيه التخفيف وقوي ، السبعة (١٧٤) ، الكشف ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، الإتحاف (٣٢٣).

(١٢) انظر اللسان (خطا).

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٦.


تعالى وإن خص بذلك المؤمنين ، فهو نهي لكل المكلفين ، لأن قوله : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) منع لكل المكلفين من ذلك والفحشاء : ما أفرط قبحه. والمنكر (١) : ما تنكره النفوس ، فتنفر عنه ولا ترتضيه (٢).

قوله : «فإنه يأمر» في هذه الهاء ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها ضمير الشأن ، وبه بدأ أبو البقاء (٣).

والثاني : أنها ضمير الشيطان.

وهذان الوجهان إنما يجوزان على رأي من لا يشترط (٤) عود الضمير (٥) على اسم الشرط من جملة الجزاء.

والثالث : أنه عائد على «من» الشرطية (٦).

قوله : «ما زكى». العامة على تخفيف الكاف ، يقال : زكا يزكو ، وفي ألفه الإمالة (٧) وعدمها. وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بتشديدها (٨). وكتبت ألفه ياء ، وهو شاذ ، لأنه من ذوات الواو كغزا (٩) ، وإنما حمل على لغة من أمال ، أو (١٠) على كتابة المشدد (١١).

فعلى قراءة التخفيف يكون «من أحد» فاعلا. وعلى قراءة التشديد يكون مفعولا ، و «من» مزيدة على كلا التقديرين ، والفاعل هو الله تعالى.

فصل

قال مقاتل : ما زكا : ما صلح (١٢).

وقال ابن قتيبة : ما (ظهر (١٣)) (١٤).

وقيل : من بلغ في الطاعة لله مبلغ الرضا ، (يقال : زكا الزرع) (١٥) ، فإذا بلغ المؤمن

__________________

(١) في ب : والمنكرة.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٦.

(٣) الذي قاله أبو البقاء في التبيان : (قوله تعالى : «فَإِنَّهُ يَأْمُرُ» الهاء ضمير الشيطان أو ضمير من) ٢ / ٩٦٧.

(٤) في ب : لا يرى.

(٥) في الأصل : ضمير.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٦٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٩.

(٧) قال ابن جني (من ذلك قراءة أبي جعفر ، وشيبة ، وعيسى الهمداني ، وعيسى الثقفي ، ورويت عن عاصم ، والأعمش أيضا «ما زكا» بالإمالة. قال أبو الفتح : من الواو ، لقولهم فيه : زكوت تزكو فأميلت ألفه ، فإن كانت من الواو من حيث كان فعلا ، والأفعال أقعد في الاعتلال من الأسماء من حيث كانت كثيرة التصرف ، وله وضعت ، والإمالة ضرب من التصرف ولو كانت اسما لم تحسن إمالته حسنها في الفعل ، وذلك نحو العفا : ولد الحمار الوحشي ، والسّنا : الذي يأتي من مكة) المحتسب ٢ / ١٠٥.

(٨) قال ابن خالويه :(«ما زكى» بالإمالة شيبة والأعمش ، «ما زكى» بالتشديد والإمالة الحسن ، «ما زكى» بالفتح والتشديد الحسن وأبو حيوة) المختصر (١٠١) وانظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٩.

(٩) في ب : لعزا. وهو تحريف.

(١٠) في ب : و. وهو تحريف.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٩.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٨٣.

(١٣) تفسير غريب القرآن (٣٠٢).

(١٤) ما بين القوسين في النسختين : ظهر. والصواب ما أثبته.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.


في الصلاح في الدين ما يرضاه (تعالى) (١) سمي (٢) زكيا ، فلا يقال : زكى إلا إذا وجد زاكيا ، كما لا يقال لمن ترك الهدى : هداه الله مطلقا ، بل يقال : هداه الله فلم يهتد (٣). ودلت الآية على أن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، لأن التزكية كالتسويد والتحمير ، فكما أن التسويد يحصل السواد ، فكذا التزكية تحصل (٤) الزكاء في المحل (٥).

والمعتزلة حملوه هنا (٦) على فعل الإلطاف ، أو على الحكم بكون العبد زكيا ، وهو خلاف الظاهر ، ولأن الله تعالى قال : (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) علق التزكية على الفضل والرحمة ، وخلق الإلطاف واجبا فلا يكون معلقا بالفضل والرحمة ، وأما (٧) الحكم بكونه زكيا فذلك واجب ، لأنه لو لا الحكم له لكان كذبا (و) (٨) الكذب على الله محال ، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة؟ (٩).

فصل

قال ابن عباس في رواية عطاء : هذا خطاب للذين خاضوا في الإفك ، ومعناه : ما ظهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل (١٠) ، أي : ما قبل منكم توبة أحد أبدا ، (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) يطهر (١١) «من يشاء» من الذنب بالرحمة والمغفرة (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : يسمع أقوالكم في القذف ، وأقوالكم في البراءة و «عليم» بما في قلوبهم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهتها ، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته (١٢).

قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٢)

قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) الآية.

يجوز أن يكون «يأتل» : «يفتعل» ، من الألية ، وهي الحلف (١٣) ، كقوله :

٣٨٢١ ـ وآلت حلفة لم تحلّل (١٤)

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) في ب : يقال. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٦.

(٤) في ب : تحصيل.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٦.

(٦) هنا : سقط من الأصل.

(٧) في ب : فأما.

(٨) و : سقط من الأصل.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٦ ـ ١٨٧.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٨٣.

(١١) في ب : يظهر. وهو تصحيف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٧.

(١٣) أي أن «يأتل» مضارع «ائتلى» من الألية وهو الحلف مجاز القرآن ٢ / ٦٥ ، التبيان ٢ / ١٦٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٠.

(١٤) جزء بيت من بحر الطويل قاله امرؤ القيس ، وهو من معلقته ، وتمامه :

ويوما على ظهر الكثيب تعذّرت

عليّ وآلت حلفة لم تحلّل

وهو في ديوانه (١٢) ، وشرح المعلقات السبع للزوزني (٩) ، السبع الطوال لابن الأنباري (٤٢) ، اللسان (حلل) ١ / ١٨٧ ، الدرر ١ / ١٦١.


ونصر الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يتألّ» (١) من الأليّة ، كقوله : «من يتألّ على الله يكذّبه» (٢).

ويجوز أن يكون «يفتعل» من ألوت (٣) ، أي : قصّرت ، كقوله تعالى : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً)(٤) قال :

٣٨٢٢ ـ وما المرء ما دامت حشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا آل (٥)

وقال أبو البقاء : وقرىء : «ولا يتألّ» على «يتفعل» (٦) وهو من الألية (٧) أيضا ، ومنه :

٣٨٢٣ ـ تألّى ابن أوس حلفة ليردّني

إلى نسوة كأنّهنّ مفائد (٨)

قوله : «أن يؤتوا» هو على إسقاط الجار ، وتقديره على القول الأول : ولا يأتل أولو الفضل على أن لا يحسنوا. وعلى الثاني : ولا يقصر أولو الفضل في أن يحسنوا (٩).

وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسيم وابن قطيب (١٠) : «تؤتوا» بتاء الخطاب (١١) ، وهو التفات موافق لقوله : (أَلا تُحِبُّونَ). وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين (١٢) «ولتعفوا ولتصفحوا» بالخطاب (١٣) وهو موافق لما بعده.

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٦٧ ، وهي قراءة عباس بن عياش بن أبي ربيعة وأبي جعفر وزيد بن أسلم.

معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٤٨ ، المختصر (١٠٢) ، المحتسب ٢ / ١٠٦.

(٢) أي من حكم عليه وحلف كقولك : والله ليدخلنّ الله فلانا الجنة ، وينجحنّ لمسعى فلان. والحديث في اللسان (ألا).

(٣) انظر مجاز القرآن ٢ / ٦٥.

(٤) [آل عمران : ١١٨].

(٥) من بحر الطويل قاله امرؤ القيس ، الحشاشة : روح القلب ورفق حياة النفس ، وكل بقية حشاشة.

والخطوب جمع خطب : وهو الشأن أو الأمر صغر أو عظم. آل : أصله (آلي) اسم فاعل من (ألوت) بمعنى قصرت ، ثم أعلّ إعلال قاض وهو موطن الشاهد وقد تقدم.

(٦) في ب : تنفعل. وهو تحريف.

(٧) التبيان ٢ / ٩٦٨.

(٨) من بحر الطويل قاله زيد الفوارس بن حصين ، وهو شاعر جاهلي ، وهو في المقرب (٢٢٧) ، الضرائر (١٥٧) ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٠ ، شرح قطر الندى (٣١٢) ، الهمع ٢ / ٤٢ ، الخزانة ١٠ / ٦٥ ، شرح ديوان الحماسة للزوزني ٢ / ٥٥٧ ، والدرر ٢ / ٤٦.

تألى بمعنى حلف وأقسم وهو موضع الشاهد هنا. مفائد جمع مفأد : وهي الخشبة التي تحرك بها النار في التنور. شبه النساء في اسودادها ويبسها بها كأنهن مهزولات سود.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٤٠.

(١٠) هو يزيد بن قطيب السكوني الشامي ، ثقة له اختيار في القراءة ينسب إليه ، روى القراءة عن عبد الله بن قيس صاحب معاذ بن جبل ، روى القراءة عنه أبو البرهسيم ، وحدث عنه صفوان بن عمرو وغيره.

طبقات القراء ٢ / ٣٨٢.

(١١) المختصر (١٠١) ، الكشاف ٣ / ٦٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٠.

(١٢) هو سفيان بن حسين بن حسن السلمي روى عن ابن سيرين وغيره ، مات في خلافة المهدي خلاصة تذهيب تهذيب الكمال.

(١٣) المختصر (١٠٢) ، المحتسب ٢ / ١٠٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٠.


فصل (١)

المشهور أن معنى الآية : لا يحلف أولو الفضل ، فيكون «افتعال» من الألية.

قال أبو مسلم : وهذا ضعيف لوجهين :

أحدهما : أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع عن الحلف على الإعطاء ، وهم أرادوا المنع على ترك الإعطاء ، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب ، وجعل المنهي عنه مأمورا به.

الثاني : أنه قلما يوجد في الكلام «أفتعلت» مكان «أفعلت» (وإنما وجد مكان «فعلت»)(٢) وهنا (٣) آليت من الأليّة : «افتعلت» فلا يقال : أفعلت ، كما لا يقال من ألزمت التزمت ، ومن أعطيت اعتطيت. ثم قال في «يأتل» : إن أصله «يأتلي» (٤) ذهبت الياء للجزم لأنه نهي ، وهو من قولك : ما ألوت فلانا نصحا ، ولم آل في أمري جهدا ، أي : ما قصرت. ولا يأل ولا يأتل ولم يأل والمراد : لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ، ويوجد كثيرا «افتعلت» مكان «فعلت» (٥) ، تقول : كسبت واكتسبت ، وصنعت واصطنعت ، وهذا التأويل مروي عن أبي عبيدة. قال ابن الخطيب : «وهذا هو الصحيح دون الأول» (٦).

وأجاب الزجاج عن الأول بأن «لا» تحذف في اليمين كثيرا ، قال الله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا)(٧) يعني : أن لا تبروا ، وقال امرؤ القيس :

٣٨٢٤ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا (٨)

أي : لا أبرح.

وأجابوا عن السؤال الثاني أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظ باليمين ، وقول واحد منهم حجة في اللغة ، فكيف الكل؟ ويعضده قراءة الحسن : «ولا يتألّ» (٩).

فصل

قال المفسرون معناه : ولا يحلف (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) أي : أولوا الغنى ،

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في ب : وهذا.

(٤) في ب : يأتل.

(٥) في ب : فعلت مكان فعلت. وهو تحريف ، وفي الأصل : فعلت مكان افتعلت.

(٦) الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٨.

(٧) [البقرة : ٢٢٤].

(٨) من بحر الطويل قاله امرؤ القيس ، وعجزه :

ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي

وقد تقدم.

(٩) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٧ ـ ١٨٨.


يعني : أبا بكر الصديق (١)(أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني : مسطحا ، وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر حلف أبو بكر لا ينفق عليه (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) عنهم خوضهم في أمر عائشة «ألا تحبّون» يخاطب أبا بكر (أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ (٢) وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فلما قرأها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أبي بكر قال : «بلى إنما أحب أن يغفر الله لي» ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : «والله لا أنزعها منه أبدا» (٣).

وقال ابن عباس والصحابة (٤) أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية (٥).

فصل (٦)

أجمع المفسرون على أن المراد من قوله : «أولو الفضل» أبو بكر ، وهذا يدل على أنه كان أفضل الناس بعد الرسول ، لأن الفضل المذكور في الآية إما في الدنيا وإما في الدين ، والأول باطل ، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له ، والمدح من الله بالدنيا غير جائز ، ولأنه لو جاز ذلك لكان قوله : «والسّعة» تكريرا ، فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين ، فلو كان غيره مساويا له في الدرجة في الدين لم يكن هو صاحب الفضل ، لأن المساوي لا يكون فاضلا ، فلما أثبت الله له الفضل غير مقيد بشخص (٧) دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق ترك العمل به في حق الرسول ـ عليه‌السلام (٨) ـ فيبقى معمولا به في حق الغير.

وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو عليّ ، فإذا تبين أنه ليس المراد عليّا (٩) تعينت الآية في أبي بكر.

وإنما قلنا : ليس المراد عليّا ، لأن ما قبل الآية وما بعدها يتعلق (١٠) بابنة (١١) أبي بكر ، ولأنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة ، وأن عليّا ـ رضي الله عنه ـ لم يكن من أولي السّعة في الدنيا في ذلك الوقت ، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعا.

فصل

أجمعوا على أن مسطحا كان من البدريين ، وصح عنه عليه‌السلام (١٢) أنه قال :

__________________

(١) في ب : أبا الصديق رضي الله عنه.

(٢) لكم : سقط من الأصل.

(٣) أخرجه البخاري (الشهادات) ٢ / ١٠٦ (المغازي) ٣ / ٤٠ ، (تفسير) ٣ / ١٦٦ ومسلم (التوبة) ٤ / ٢١٣٦.

والطبري ١٨ / ٨١ ، ٨٢ ، أسباب النزول للواحدي ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٤) في ب : والضحاك.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٨٤.

(٦) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٨٨.

(٧) في الأصل : لشخص.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) عليّا : سقط من ب.

(١٠) في ب : متعلق.

(١١) بابنة : سقط من ب.

(١٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.


«لعلّ الله نظر إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم» (١) فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريّا؟

والجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد منه : افعلوا ما شئتم من المعاصي ، فيأمر بها ، لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقيا عليهم ، ولو حملناه على ذلك لأفضى إلى زوال التكليف عنهم ، ولو كان كذلك لما جاز أن يحدّ مسطح على ما فعل ، فوجب حمله على أحد أمرين :

الأول : أنه تعالى علم توبة أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير ، فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة.

والثاني : أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة ، فكأنه تعالى قال : قد (٢) غفرت لكم لعلمي بأنّكم تموتون على التوبة والإنابة ، فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة (٣).

فصل

دلت الآية على أن (الأيمان على) (٤) الامتناع من الخير غير جائز ، وإنما يجوز إذا حصلت داعية صارفة عنه (٥).

فصل

مذهب الجمهور أنّ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه.

وقال بعضهم : إنه يأتي بالذي هو خير ، وذلك هو كفارته ، لأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. ولقوله عليه‌السلام (٦) : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وذلك كفارته».

واحتج الجمهور بقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ)(٧) ، وقوله : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ)(٧) ، وقوله لأيوب ـ عليه‌السلام (٨) ـ : «وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث» (٩) وقد علمنا أن الحنث كان خيرا من تركه ، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها ، بل كان يحنث بلا كفارة ، وقال عليه‌السلام (١٠) :

__________________

(١) أخرجه البخاري (مغازي) ٣ / ٧ ، ٦٠ ، (تفسير) ٣ / ٢٠٠ ، مسلم (فضائل الصحابة) ٤ / ١٩٤١ ـ ١٩٤٢ ، الترمذي (تفسير) ٥ / ٨٣ ، الدارمي (رقاق) ٢ / ٣١٣ ، أحمد ١ / ٨٠ ، ٢ / ٢٩٦.

(٢) في ب : لقد.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩١ ـ ١٩٢.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في الفخر الرازي : لا صارفة عنه. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٢.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) [المائدة : ٨٩].

(٧) [المائدة : ٨٩].

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) [ص : ٤٤].

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.


«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير وليكفّر عن يمينه» (١).

وأما قولهم : إنّ الله تعالى لم يذكر الكفارة في قصة أبي بكر ، فإن حكمها كان معلوما عندهم. وأما قوله عليه‌السلام (٢) : «وليأت الذي هو خير ، وذلك كفارته» فمعناه : تكفير الذنب لا أنه الكفارة المذكورة في الكتاب (٣).

فصل

روي عن عائشة أنها قالت : «فضلت على أزواج النبي (٤) بعشر خصال :

تزوج رسول الله بي (٥) بكرا دون غيري ، وأبواي مهاجران (٦) ، وجاء جبريل بصورتي وأمره أن يتزوج بي ، وكنت أغتسل معه في إنائه ، وجبريل ينزل عليه وأنا معه في لحاف ، وتزوج في شوال ، وبنى بي في ذلك الشهر وقبض بين (٧) سحري ونحري (٨) ، وأنزل الله عذري من السماء ، ودفن في بيتي ، وكل ذلك لم يساوني فيه غيري» (٩).

وقال (١٠) بعضهم : «لقد برّأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف (وَشَهِدَ شاهِدٌ (١١) مِنْ أَهْلِها)(١٢) ، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها (١٣) ، وبرأ عائشة بهذه الآيات في كتابه المتلو على وجه الدهر» (١٤).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)(٢٥)

قوله (١٥) : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) العفائف «الغافلات» عن الفواحش «المؤمنات» والغافلة عن الفاحشة أي : لا تقع في مثلها ، وكانت عائشة كذلك ، فقال

__________________

(١) أخرجه البخاري (الأيمان والنذور) ٤ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، مسلم (الأيمان) ٣ / ١٢٦٨ ـ ١٢٦٩ ، ١٢٧٢ ، الترمذي (نذور) ٣ / ٤٣٤٢ ، الموطأ (نذور) ٢ / ٤٧٨.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٤) في ب : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) بي : سقط من ب.

(٦) في ب : مهاجرات. وهو تحريف.

(٧) في الأصل : وقضى وقبض من.

(٨) السّحر : الرئة. والنّحر : الصدر. أي مات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو مسند إلى صدرها وما يحاذي سحرها منه. اللسان (سحر ، نحر).

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٣ ، الدر المنثور ٥ / ٣٢.

(١٠) في الأصل : قال.

(١١) في ب : شاهدين. وهو تحريف.

(١٢) [يوسف : ٢٦].

(١٣) قال الله تعالى : «قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» [مريم : ٣٠].

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ٦٨ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٣.

(١٥) في ب : قوله تعالى.


بعضهم : الصيغة عامة ، فيدخل فيه قذفة عائشة وغيرها (١).

وقيل : المراد قذفة عائشة.

قالت عائشة : رميت وأنا غافلة ، وإنما بلغني بعد ذلك ، فبينا رسول الله (٢) عندي إذ أوحى إليه ، قال : «أبشري» وقرأ : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ).

وقيل : المراد جملة أزواج رسول الله ، وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحق به. واحتج هؤلاء بأمور :

الأول : أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أول السورة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ...)(٣).

وأما القاذف في هذه الآية فإنه لا تقبل توبته لقوله تعالى : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ولم يذكر استثناء.

وأيضا فهذه صفة المنافقين في قوله : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا)(٤).

الثاني : أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر ، والقاذف في هذه الآية كافر ، لقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ ...)(٥) وذلك صفة الكفار والمنافقين لقوله (٦) : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ ...)(٧) الآيات (٨).

الثالث : أنه قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) والعذاب العظيم هو عذاب (٩) الكفر ، (فدلّ على أن عذاب هذا القاذف عقاب الكفر) (١٠). وعقاب قذف سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر.

وروي أن ابن عياش (١١) كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يسأل عن تفسير هذه الآية ، فقال : «من أذنب ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة».

وأجاب الأولون بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطا بعدم التوبة ، لأن الذنب سواء كان كفرا أو فسقا (١٢) ، فإذا تاب عنه صار مغفورا.

__________________

(١) وهو قول الأصوليين.

(٢) في ب : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) [النور : ٤ ، ٥].

(٤) من قوله تعالى : «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً» [الأحزاب : ٦١].

(٥) [النور : ٢٤].

(٦) في ب : لقوله تعالى.

(٧) [فصلت : ١٩].

(٨) قال تعالى : «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» [فصّلت : ١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢].

(٩) في ب : عقاب.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) في ب : وروى ابن عباس أنه.

(١٢) في الأصل : أو كفرا. وهو تحريف.


وقيل : هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد ، فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا : «إنها خرجت لتفجر» فنزلت فيهم(١).

قوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ) ، ناصبه الاستقرار الذي تعلق به «لهم» (٢).

وقيل (٣) : بل ناصبه «عذاب» (٤). ورد بأنه مصدر موصوف (٥).

وأجيب بأن الظرف يتّسع فيه ما لا يتّسع في غيره.

وقرأ الأخوان : «يشهد» بالياء من تحت ، لأن التأنيث مجازي ، وقد وقع الفصل والباقون : بالتاء مراعاة للفظ (٦).

قوله : «يومئذ» : التنوين في «إذ» عوض من الجملة تقديره : يومئذ تشهد ، وقد تقدم خلاف الأخفش فيه (٧).

وقرأ زيد بن علي «يوفيهم» مخففا (٨) من «أوفى».

وقرأ العامة بنصب «الحقّ» نعتا ل «دينهم» (٩).

وأبو حيوة وأبو روق (١٠) ومجاهد ـ وهي قراءة ابن مسعود ـ برفعه نعتا لله تعالى (١١).

فصل

قوله (١٢)(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ).

قال المفسرون : هذا قبل أن يختم على أفواههم وأيديهم وأرجلهم.

يروى أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا.

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) جزاءهم الواجب. وقيل : حسابهم العدل ،

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٤.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٦٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٠.

(٣) وقيل : سقط من الأصل.

(٤) قاله الحوفي. البرهان في علوم القرآن ٦ / ٢٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٠.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٦٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٠.

(٦) السبعة (٤٥٤) ، الحجة لابن خالويه (٢٦٠ ـ ٢٦١) ، الكشف ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، النشر ٢ / ٣٣١ ، الإتحاف (٣٢٤).

(٧) انظر شرح التصريح ١ / ٣٤ ـ ٣٥.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٤٤١.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٦٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤١.

(١٠) في النسختين : ورق. وهو تحريف.

(١١) ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته ، وجاز وصفه تعالى ب «الحقّ» لما في ذلك من المبالغة ، حتى كأنه يجعله هو هو على المبالغة.

انظر المختصر (١٠١) ، المحتسب ٢ / ١٠٧ ، تفسير ابن عطية ١ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤ التبيان ٢ / ٩٦٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤١.

(١٢) قوله : سقط من الأصل.


(وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا (١).

وإنما سمّي الله ب «الحق» لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره (٢).

وقيل : سمّي ب «الحق» ومعناه : الموجود ، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم ، ومعنى «المبين»: المظهر (٣).

قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٢٦)

قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) الآية.

قال أكثر المفسرين : «الخبيثات» من القول والكلام «للخبيثين» من الناس ، «والخبيثون» من الناس «للخبيثات» من القول ، «والطيبات» من القول «للطّيّبين» من الناس ، «والطّيّبون» من الناس «للطّيّبات» من القول.

والمعنى : أنّ الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس ، والطيّب لا يليق إلا بالطيّب فعائشة ـ رضي الله عنها ـ لا يليق بها الخبيثات من القول ، لأنها طيبة ، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها (٤).

وقال الزجاج : معناه (٥) : لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء ، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء (٦) وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ، ومدح للذين برّأوها بالطهار.

قال ابن زيد : معناه : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، أمثال عبد الله بن أبيّ والشاكين في الدين ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء (٧) ، يريد : عائشة طيبها الله لرسوله الطيب ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «مبرءون» (٨) يعني : عائشة وصفوان ، ذكرهما بلفظ الجمع كقوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ)(٩) أي : أخوان(١٠).

وقيل : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ) يعني : الطيبين والطيبات منزهون مما يقولون (١١).

وقيل : الرّمي تعلق بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبعائشة وصفوان ، فبرأ (١٢) الله كل واحد منهم (١٣).

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٨٦ ـ ٨٧.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٥.

(٣) المرجع السابق.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٨٧ ـ ٨٨.

(٥) في ب : ومعناه.

(٦) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٧.

(٧) انظر القرطبي ١٢ / ٢١١.

(٨) في ب : «أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ».

(٩) [النساء : ١١].

(١٠) قاله الفراء. معاني القرآن ٢ / ٢٤٩.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٤١.

(١٢) في ب : مبرأ.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٦.


وقيل : المراد كل أزواج الرسول برأهن (١) الله تعالى من هذا الإفك (٢) ، ثم قال : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يعني : براءة من الله. وقيل : العفو عن الذنوب. والرزق الكريم : الجنة.

قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، وأن تكون في محل رفع خبرا ثانيا (٣).

ويجوز أن يكون «لهم» خبر «أولئك» (و) (٤) «مغفرة» فاعله.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٢٩)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) الآية.

لما ذكر حكم الرمي والقذف ذكر ما يليق به ، لأن أهل الإفك (إنما توصلوا) (٥) إلى بهتانهم لوجود الخلوة ، فصارت كأنها طريق التهمة ، فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام ، لأن الدخول على غير هذا الوجه يوقع التهمة ، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاءبه(٦).

قوله : «تستأنسوا» يجوز أن يكون من الاستئناس ، لأنّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا (٧)؟ فزال استيحاشه ، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه.

وقيل : من الإيناس ، وهو الإبصار ، أي : حتى تستكشفوا الحال (٨).

وفسره ابن عباس : «حتى تستأذنوا» وليست قراءة ، وما ينقل عنه أنه قال : «تستأنسوا» خطأ من الكاتب ، إنما هو (تستأذنوا فشيء مفترى عليه (٩).

وضعفه بعضهم (١٠) بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي

__________________

(١) في ب : براء من.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٦.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٦٨.

(٤) في ب : لهم.

(٥) ما بين القوسين مكرر في ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٧.

(٧) في ب : أم لا.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٦٩.

(٩) قال أبو حيان : (ومن روى عن ابن عباس أن قوله : «تستأنسوا» خطأ أو وهم من الكاتب ، وأنه قرأ «حتّى تستأذنوا» فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول) البحر المحيط ٦ / ٤٤٥. وانظر المحتسب ٢ / ١٠٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٧٨ ـ ٤٨٠ ، الكشاف ١٠ / ٧٠ ، القرطبي ١٢ / ٢١٤.

(١٠) وهو ابن الخطيب في تفسيره. الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٧.


صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح (١) هذين البابين (٢) يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه (٣) باطل(٤).

وروي عن الحسن البصري أنه قال : «إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، فالمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا». وهذا أيضا خلاف الظاهر (٥).

وفي قراءة عبد الله : «حتى تسلموا وتستأذنوا» (٦) وهو أيضا خلاف الظاهر (٧).

واعلم أن هذا نظير ما تقدم في الرعد : (في) (٨)(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا)(٩) وتقدم القول فيه (١٠). والاستئناس : الاستعلام (والاستكشاف ، من أنس الشيء : إذا أبصره ، كقوله : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً)(١١) ، والمعنى : حتى تستعلموا الحال ، هل يراد دخولكم (١٢)؟) (١٣) قال :

٣٨٢٥ ـ كأنّ رحلي وقد زال النّهار بنا

يوم الجليل على مستأنس وحد (١٤)

وقيل : هو من «الإنس» بكسر الهمزة ، أي : يتعرّف هل فيها إنس (١٥) أم لا؟

وحكى الطبري أنه بمعنى : «وتؤنسوا أنفسكم» (١٦).

قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من «أنس» (١٧).

__________________

(١) في ب : وصح. وهو تحريف.

(٢) في ب : الناس. وهو تحريف.

(٣) في ب : فإنه.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٧.

(٥) الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٧.

(٦) في المختصر (١٠١) ، الكشاف ٣ / ٧٠ : «حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا».

(٧) الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٧.

(٨) في : زيادة يتطلبها السياق.

(٩) من قوله تعالى : «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً»[الرعد : ٣١].

(١٠) ذكر هنا آراء العلماء كالزمخشري وابن عطية وغيرهما في معنى «ييأس» ثم قال : وقال بعضهم بل هو بمعنى علم وتبين ، وقال أبو القاسم بن معين وهو من نحاة الكوفيين هي لغة هوازن ، وقال الكلبي : هي لغة حي من النخع وذكر هناك شواهد لهذا المعنى.

انظر اللباب ٥ / ١٠٥ ـ ١٠٦.

(١١) [طه : ١٠].

(١٢) انظر اللسان (أنس).

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) من بحر البسيط قاله النابغة الذبياني وهو في ديوانه (١٧) ، تفسير غريب القرآن (٣٠٣) ، الخصائص ٣ / ٣٦٢ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ٢٧١ ، شرح المفصل ٦ / ١٦ ، اللسان (أنس) البحر المحيط ٦ / ٤٤٦ ، الخزانة ٣ / ١٨٧.

(١٥) في الأصل : أنس.

(١٦) انظر جامع البيان ١٨ / ٨٨ ، وعبارته : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الاستئناس الاستفعال من الأنس.

(١٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٧٨.


فصل

قال الخليل : الاستئناس : الاستبصار من (أنس الشيء إذا أبصره) (١) كقوله (٢) : (آنَسْتُ ناراً)(٣) أي : أبصرت.

وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت. وجملة (٤) حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان (٥).

واختلفوا : هل يقدم الاستئذان أو السلام؟

فقيل : يقدم الاستئذان ، فيقول : أأدخل (٦)؟ سلام عليكم ، لقوله : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي: تستأذنوا (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها). والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم ، أأدخل؟ (لما روي أن رجلا دخل على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يسلم ولم يستأذن ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ارجع فقل : السلام عليكم ، أأدخل» (٧)) (٨) وروى ابن عمر أن رجلا استأذن عليه فقال : أأدخل(٩)؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم ، فسلّم ، فأذن له. وقيل : إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلّا قدم الاستئذان ثم يسلم (١٠). والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألّا يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة ، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال (١١).

فصل

عدد الاستئذان ثلاثا لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «الاستئذان ثلاث ، الأولى (١٢) يستضيئون ، والثانية يستصلحون ، والثالثة يأذنون (١٣) أو يردون» وعن أبي سعيد الخدري قال : «كنت جالسا في مجلس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعا ، فقلنا له : ما أفزعك؟ فقال : أخبرني عمر أن آتيه فأتيته ، فاستأذنت ثلاثا ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، فقال : ما منعك أن تأتيني؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي ، وقد قال عليه‌السلام (١٤) ـ : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع». فقال : لتأتيني (على هذا) (١٥) بالبينة ، أو لأعاقبنك (١٦) ، فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) في الأصل : قوله.

(٣) [طه : ١٠].

(٤) في ب : حكمة. وهو تحريف.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٨٩.

(٦) في ب : أدخل؟.

(٧) أخرجه الترمذي (الاستئذان) ٥ / ٦٤ ـ ٦٥ ، وأورده ابن كثير في تفسيره ٣ / ٢٨٠ ، والسيوطي في الدر ٥ / ٣٨.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) فقال : أأدخل : مكر في الأصل. وفي ب : أدخل.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٨٩ ـ ٩٠.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٨.

(١٢) في ب : الأول.

(١٣) في الأصل : يستأذنون.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) ما بين القوسين في ب : غدا.

(١٦) في ب : وإلا عاقبتك.


صغير القوم ، قال : فقام أبو سعيد ، فشهد له» (١).

وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى : لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله (٢).

وعن قتادة : «الاستئذان ثلاثة : الأول ليسمع الحي ، والثاني ليتهيأ ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ».

وهذا من محاسن الآداب ، لأنه في أول كرّة (٣) ربما منعهم بعض الأشغال (٤) من الإذن ، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع ، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع. ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما.

فأما قرع الباب بعنف ، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام ، لأنه إيذاء ، وكذا قصة بني أسد وما نزل فيها من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (٥) (٦).

فصل

في كيفية الوقوف على الباب

روى أبو سعيد قال : استأذن رجل على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو مستقبل الباب ، فقالعليه‌السلام(٧): «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب» (٨).

وروي أنه عليه‌السلام (٩) كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : «السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور (١٠).

فصل

كلمة «حتّى» للغاية ، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها ، فقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن.

__________________

(١) أخرجه البخاري (الاستئذان) ٤ / ٨٨ ، ومسلم (الآداب) ٣ / ١٦٩٤ ـ ١٦٩٦ وابن ماجه (أدب) ٢ / ١١١٢ ، وأبو داود (أدب) ٥ / ٣٧٠ ـ ٣٧٢ ، الترمذي (استئذان) ٤ / ١٥٧ ، الدارمي (استئذان) ٢ / ٢٧٤ ، الموطأ (استئذان) ٢ / ٩٦٣ ـ ٩٦٤.

(٢) في ب : رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

(٣) الكرة : المرة.

(٤) في ب : الاشتغال.

(٥) [الحجرات : ٤].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) انظر الفخر الرازي.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) أخرجه أبو داود (أدب) ٥ / ٣٧٤ ، وانظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٩ الدر المنثور ٥ / ٣٩.


والجواب أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس (١) ، ولا يحصل إلا بعد الإذن.

وأيضا فإنّا علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه ، فإنّ ذلك مما يسوؤه ، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن.

وأيضا قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)(٢)) (٣) فمنع الدخول إلا مع الإذن ، فدل على أن الإذن شرط في إباحة الدخول في الآية الأولى.

وإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من الإذن أو ما يقوم مقامه ، لقوله عليه‌السلام (٤) «إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإنّ ذلك له إذن» (٥).

وقال بعضهم : إن من جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان (٦). واعلم أن ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقا سواء كان الآذن (٧) صبيا أو امرأة أو عبدا أو ذميا ، فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة ، وكذلك قبول إحضار (٨) هؤلاء في الهدايا ونحوها.

فصل

ويستأذن على المحارم ، لما روي أن رجلا سأل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «أأستأذن على أختي؟» فقال عليه‌السلام (٩) : «نعم ، أتحب أن تراها عريانة؟» (١٠) وسأل رجل حذيفة : «أأستأذن على أختي؟» فقال : «إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك». ولعموم قوله : «وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا» (١١) إلا أنّ ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوه (١٢).

فصل

إذا اطلع (١٣) إنسان في دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر ، لقوله عليه‌السلام (١٤) : «من اطّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه» (١٥).

__________________

(١) في ب : الاستئذان. وهو تحريف.

(٢) [النور : ٢٨].

(٣) ما بين القوسين في ب : في الآية الأولى «حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ».

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) أخرجه أبو داود (أدب) ٥ / ٣٧٦.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٩.

(٧) الآذن : سقط من ب.

(٨) في الأصل : إخبار.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (استئذان) ٢ / ٩٦٣ ، وفيه (أستأذن على أمّي).

(١١) [النور : ٥٩].

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٠.

(١٣) في ب : طلع.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) أخرجه مسلم (الآداب) ٣ / ١٦٩٩ ، الترمذي (استئذان) ٤ / ١٦٤ ، النسائي (قسامة) ٨ / ٦١ ، أبو داود ٥ / ٣٦٦ ، أحمد ٥ / ٢٦٦ ، ٣٨٥ ، ٤١٤.


وقال أبو بكر الرازي (١) : هذا الخبر ورد على خلاف قياس الأصول ، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامنا ، وكان عليه القصاص إن كان عامدا ، والأرش (٢) إن كان مخطئا ، والداخل قد اطّلع وزاد على الاطلاع ، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق ، فإن صحّ فمعناه : من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم فمنع فلم يمتنع فذهب عينه في حال الممانعة فهي هدر ، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان (٣) يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى : (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلى قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)(٤).

وأجيب بأن التمسك بقوله : «العين بالعين» ضعيف ، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة ، فإنه لو كانت مستحقة القصاص ، فلم قلت : إن من اطّلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة؟

وأما قوله : إنه لو دخل لم يجز فقء عينه ، فكذا إذا نظر.

والفرق بينهما أنه إذا دخل ، علم القوم بدخوله عليهم ، فاحترزوا عنه وتستروا ، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين (٥) بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه ، فلا يبعد في حكم الشرع أن يبالغ هنا في الزجر حسما لهذه المفسدة.

وأيضا فردّ حديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهذا القدر من الكلام ليس جائزا (٦).

فصل

إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق ، أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟ فقيل : كل ذلك مستثنى بالدليل (٧).

فأما السلام فهو من سنة (٨) المسلمين التي أمروا بها ، وهو تحية أهل الجنة ، ومجلبة للمودة ، وناف للحقد والضغائن.

قال عليه‌السلام (٩) : «لمّا خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له الله : يرحمك ربك يا آدم ، اذهب إلى هؤلاء الملائكة

__________________

(١) هو الحافظ محدث نيسابور أحمد بن علي بن الحسين بن شهريار ، صاحب التصانيف ، روى عنه رفيقه أبو عبد الله بن الأخرم ، وأبو علي الحافظ ، وغيرهما ، مات سنة ٣١٥ ه‍. تذكره الحفاظ ٣ / ٧٨٨ ـ ٧٨٩.

(٢) الأرش : هو دية الجراحات.

(٣) في النسختين : جاني.

(٤) من قوله تعالى : «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» [المائدة : ٤٥].

(٥) عالمين : سقط من ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠١.

(٨) في ب : نه. وهو تحريف.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.


(وهم) (١) ملأ منهم جلوس فقل : السلام عليكم ، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه قال : هذه تحيتك وتحية ذريتك» (٢) وعن عليّ بن أبي طالب (٣) قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «حق المسلم على المسلم ست : يسلّم عليه إذا لقيه ، ويجيبه إذا دعاه ، وينصح له بالغيب ، ويشمّته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويشهد (٤) جنازته إذا مات» (٥).

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن سرّكم أن يسل (٦) الغل من صدوركم فأفشوا السلام بينكم» (٧).

قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).

أي : إن فعل ذلك خير لكم وأولى بكم من الهجوم بغير إذن (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : لتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها) أي : فإن لم تجدوا في البيوت «أحدا» يأذن لكم في دخولها (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) لجواز أن يكون هناك أحوال مكتومة ، (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) وذلك أنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار ، فكذلك الوقوف على الباب قد يكرهه ، فلا جرم كان الأولى له أن يرجع (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي : الرجوع هو أطهر وأصلح لكم(٨).

قال قتادة : إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب ، فإنّ للناس حاجات ، وإذا حضر فلم يستأذن وقعد على الباب منتظرا جاز.

كان ابن عباس يأتي الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب (حتى يخرج) (٩) ولا (١٠) يستأذن ، فيخرج الرجل ويقول : «يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني» فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم. وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردودا لما روي أن رجلا اطلع على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من ستر الحجرة ، وفي يد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مدراء ، فقال (١١) : «لو علمت أن هذا ينظرني حتى آتيه لطعنت بالمدراء في عينه ، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر»؟ (١٢).

قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي : من الدخول بالإذن وغير الإذن.

ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير

__________________

(١) وهم : تكملة.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠١.

(٣) في ب : علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

(٤) في ب : ويشيع.

(٥) أخرجه مسلم (سلام) ٤ / ١٧٠٥ ، الترمذي (الآداب) ٤ / ١٧٦ ـ ١٧٧ ابن ماجه (جنائز) ١ / ٤٦١.

(٦) السّلّ : انتزاع الشيء وإخراجه في رفق.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠١.

(٨) المرجع السابق.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) في ب : فلا.

(١١) في ب : فقالوا.

(١٢) أخرجه البخاري (استئذان) ٤ / ٨٨ ، مسلم (أدب) ٣ / ١٦٩٨ الترمذي (استئذان) ٤ / ١٦٥ ، الدارمي (ديات) ٢ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ، النسائي (قسامة) ٨ / ٦٠ ـ ٦١.


مسكونة فقال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ).

قال المفسرون : لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله عزوجل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ). أي : بغير استئذان (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي : منفعة لكم (١).

قال محمد ابن الحنفية (٢) : إنها الخانات (٣) والرباطات (٤) وحوانيت (٥) البياعين (٦).

وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء ، وهو المنفعة (٧) قال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن (٨).

وكان ابن سيرين (٩) إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم ، أأدخل؟ ثم يلج (١٠).

وقال عطاء : هي البيوت الخربة ، و «المتاع» هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط (١١). وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها (١٢).

وقيل : هي الحمامات (١٣).

وروي أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان ، وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات ، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية (١٤).

والأصح أنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية ، لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة ، فإن لم يخف ذلك فله الدخول ، لأنه مأذون فيها عرفا.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وهذا وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة (١٥).

قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٩٤.

(٢) تقدم.

(٣) الخانات جمع خان ، وهو الحانوت ، وقيل الخان الذي للتجار. فارسي معرب. اللسان (خون).

(٤) الرباطات جمع رباط ، وهي المبنية. اللسان (ربط).

(٥) حوانيت : جمع حانوت ، هي البيوت. اللسان (حنت).

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠١.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٩٤.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٩٥.

(٩) تقدم.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٩٥.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠١.

(١٤) المرجع السابق.

(١٥) المرجع السابق.


أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣١)

قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) الآية. الغض : إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية. قال :

٣٨٢٦ ـ فغضّ الطّرف إنّك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا (١)

وفي «من» أربعة أوجه :

أحدها : أنها للتبعيض ، لأنه يعفى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد (٢).

والثاني : لبيان الجنس (٣) ، قاله أبو البقاء (٤). وفيه نظر من حيث إنّه لم يتقدّم مبهم يكون مفسّرا ب «من».

الثالث : أنها لابتداء الغاية ، قاله ابن عطية (٥).

الرابع : قال الأخفش : إنها مزيدة (٦).

فصل

قال الأكثرون : المراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل (٧).

فإن قيل : كيف دخلت «من» في غض البصر دون حفظ الفرج؟

فالجواب : أن ذلك دليل على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر (٨) إلى شعورهن وصدورهن ، وكذا الجواري المستعرضات ، وأما أمر الفروج فمضيق.

وقيل : معنى (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي : ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو مغضوض.

وعلى هذا «من» ليست زائدة ، ولا هي للتبعيض ، بل هي صلة للغض ، يقال : غضضت من فلان : إذا نقصت منه (٩).

فصل

العورات تنقسم أربعة أقسام :

__________________

(١) البيت من بحر الوافر قاله جرير. وقد تقدم.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٧٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٨٥ ، التبيان ٢ / ٩٦٨.

(٣) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٨٦ ، البيان ٢ / ١٩٤.

(٤) التبيان ٢ / ٩٦٨.

(٥) قال ابن عطية : (ويصح أن تكون (من) لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية) تفسيره ١٠ / ٤٨٦.

(٦) انظر البيان ٢ / ١٩٤ ، التبيان ٢ / ٩٦٨.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٣.

(٨) في ب : ينظر.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣٠٢.


عورة الرجل مع الرجل.

وعورة المرأة مع المرأة.

وعورة المرأة مع الرجل.

وعورة الرجل مع المرأة.

أما الرجل مع الرجل ، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة ، وهي ما بين السرة والركبة ، والسرة والركبة ليسا بعورة.

وعند (١) أبي حنيفة : الركبة عورة.

وقال مالك : «الفخذ ليس بعورة».

وهو مردود بقوله عليه‌السلام (٢) : «غطّ فخذك فإنّها من العورة» (٣).

وقوله لعلي : «لا تبرز فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميّت» (٤).

فإن كان أمر ولم يحل النظر إلى وجهه ، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة ، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليه‌السلام (٥)

(٥) : «لا يفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد ، ولا تفضي إلى المرأة إلى المرأة في ثوب واحد»(٦). وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة (٧) لما روي عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال : لا. قال : أيلزمه ويقبله؟ قال : لا. قال : أفيأخذ يده فيصافحه؟ قال : نعم (٨)(٩).

ونهى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن المكاعمة (١٠) والمكامعة (١١) ، وهي : معانقة الرجل للرجل وتقبيله.

وأما عورة المرأة مع المرأة ، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء.

والذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة؟ فقيل : هي كالمسلمة مع المسلمين.

__________________

(١) في ب : عند.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) أخرجه الترمذي (الآداب) ٤ / ١٩٨ ، أحمد ١ / ٢٧٥ ، ٣ / ٤٧٩.

(٤) أخرجه أبو داود (جنائز) ٣ / ٥٠١ ـ ٥٠٢ ، ابن ماجه (جنائز) ١ / ٤٦٩ ، أحمد ١ / ١٤٦.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) أخرجه مسلم (حيض) ١ / ٢٦٦ ، أبو داود (حمام) ٤ / ٣٠٥.

(٧) في ب : وشفقة.

(٨) أخرجه الترمذي (استئذان) ٤ / ١٧٢ ، ابن ماجه (أدب) ٢ / ١٢٢٠ ، أحمد ٣ / ١٩٨.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٣.

(١٠) في النسختين : المعامكة. المكاعمة : هو أن يلثم الرجل صاحبه ويضع فمه على فمه كالتقبيل ، أخذ من كعم البعير ، فجعل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لثمه إياه بمنزلة الكعام ، والمكاعمة مفاعلة منه. اللسان (كعم).

(١١) المكامعة : أن ينام الرجل مع الرجل ، والمرأة مع المرأة في إزار واحد ، تماسّ جلودهما لا حاجز بينهما ، والمكامع : القريب منك الذي لا يخفى عليه شيء من أمرك. اللسان (كعم).


والصحيح أنه لا يجوز لها (النظر) (١) لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى : (أَوْ نِسائِهِنَّ)(٢) وليست الذمية من نسائنا (٣).

وأما عورة المرأة مع الرجل ، فإما أن تكون (أجنبية ، أو ذات محرم ، أو مستمتعة. فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة. فإن كانت) (٤) حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين ، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء ، والمراد : الكف إلى الكوع (٥). واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام :

إما ألّا يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون فيه غرض ولا (٦) فتنة ، وإما أن يكون لشهوة. فإن كان لغير غرض فلا يجوز النظر إلى وجهها ، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ). وقيل : يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة ، وبه قال أبو حنيفة. ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليه‌السلام (٧) : «لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» (٨).

وقال جابر : سألت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن نظر الفجاءة ، فأمرني أن أصرف بصري (٩). فإن كان فيه غرض ولا فتنة ، وهو أمور :

أحدها : أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيها لقول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للرجل الذي سأله أن يتزوج امرأة من الأنصار : «انظر إليها ، فإنّ في أعين الأنصار شيئا» (١٠) وقال عليه‌السلام (١١) : «إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان ينظر إليها للخطبة» (١٢).

وقال المغيرة بن شعبة : خطبت امرأة ، فقال عليه‌السلام (١٣) : نظرت (١٤) إليها؟ فقلت (١٥) :

__________________

(١) ما بين القوسين في ب : الرجل لنظر إلى بدن المسلمة. وهو تحريف.

(٢) [النور : ٣١].

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٣.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٦) لا : سقط من ب.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) أخرجه أبو داود (نكاح) ٦١٠ ، الترمذي (أدب) ٤ / ١٩١ ، الدارمي (رقاق) ٢ / ٢٩٨ ، أحمد ٥ / ٣٥١ ، ٣٥٣ ، ٣٥٧.

(٩) أخرجه مسلم (أدب) ٣ / ١٦٩٩ ، أبو داود (نكاح) ٢ / ٦٠٩ ـ ٦١٠ الترمذي (أدب) ٤ / ١٨١ ، (استئذان) ٢ / ٢٧٨ ، أحمد ٤ / ٣٥٨ ، ٣٦١.

(١٠) أخرجه مسلم (نكاح) ٢ / ١٠٤٠ ، النسائي (نكاح) ٦ / ٧٩ أحمد ٢ / ٢٨٦ ، ٢٩٩.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) أخرجه أبو داود (نكاح) ٢ / ٥٦٥ ـ ٥٦٦ ، أحمد ٥ / ٤٢٤.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) في ب : انظر.

(١٥) في ب : فقال. وهو تحريف.


لا. قال (١) : فانظر فإنه أحرى أن يؤدم (٢) (بينكما) (٣)(٤).

وذلك يدل على جواز النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ)(٥) ولا يعجبه حسنهن(٦) إلا بعد رؤية وجوههن (٧).

وثانيها : أنه (٨) إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة.

وثالثها : عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملا حتى يعرفها عند الحاجة.

ورابعها : ينظر إليها عند تحمل الشهادة ، ولا ينظر إلى غير الوجه. فإن كان النظر لشهوة (٩) فهو محرم لقوله عليه‌السلام (١٠) : «العينان تزنيان» (١١)(١٢).

وأما النظر إلى بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور :

أحدها (١٣) : يجوز للطيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان ، ينظر إلى فرج المختون للضرورة.

وثانيها : أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا ، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على الولادة ، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع.

وقال بعض العلماء لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع ، لأن الزنا مندوب إلى ستره ، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء ، فلا حاجة إلى نظر الرجال.

وثالثها : لو وقعت في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها (١٤). فإن كانت الأجنبية أمة فقيل : عورتها ما بين السرة والركبة.

وقيل : عورتها ما لا يبين في المهنة ، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال إلا لحاجة ، لأن اللمس أقوى من النظر ، لإن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره (١٥).

__________________

(١) قال : سقط من الأصل واستدرك بالهامش.

(٢) في النسختين : يدوم. يؤدم بينكما : يعني أن تكون بينهما المحبة والاتفاق.

(٣) أخرجه ابن ماجه (نكاح) ١ / ٥٩٩ ـ ٦٠٠ ، الترمذي (نكاح) ٢ / ٢٧٥ ، النسائي (نكاح) ٦ / ٦٩ ـ ٧٠ ، الدارمي (نكاح) ٢ / ١٣٤.

(٤) في الأصل : بينهما.

(٥) [الأحزاب : ٥٢].

(٦) في ب : حسن.

(٧) في ب : وجهها.

(٨) أنه : سقط من ب.

(٩) في ب : بشهوة.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) تقدم تخريجه.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٤.

(١٣) في ب : أحدهما. وهو تحريف.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٥.


فصل

فإن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل. وقيل: عورتها ما لا يبدو عند المهنة ، وهو قول أبي حنيفة. وستأتي بقية التفاصيل ـ إن شاء الله تعالى ـ في تفسير الآية (١).

فصل

فإن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج ، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه ، لأنه يروى أنه يورث الطمس (٢).

وقيل : لا يجوز (النظر) (٣) إلى فرجها ، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قنّ (٤) أو مدبرة (٥) أو أم ولد أو مرهونة.

فإن كانت مجوسية ، أو مرتدة ، أو وثنية ، أو مشتركة بينه وبين غيره ، أو مزوجة ، أو مكاتبة فهي كالأجنبية لقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إذا زوّج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فعورته معها ما بين السرة والركبة» (٦)(٧).

فصل

(٨) فأما (٩) عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ، ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روت أم سلمة (١٠) أنّها كانت عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وميمونة (١١) ، إذ أقبل ابن أم مكتوم ، فقال : «احتجبا عنه» فقالت : يا رسول الله ، أليس هو

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٥.

(٢) طمسته فطمس طموسا إذا ذهب بصره ، وطموس القلب فساده ، وقال الزجاج : المطموس الأعمش الذي لا يبين حرف جفن عينه فلا يرى شعر عينيه. اللسان (طمس).

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) في النسختين : قنه. والصواب ما أثبته. القن : العبد الذي ملك هو وأبواه ، وكذلك الاثنان والجمع والمؤنث ، والأنثى قن بغير هاء. اللسان (قنن).

(٥) التدبير : أن يعتق الرجل عبده عن دبر وهو أن يعتق بعد موته ، فيقول : أنت حر بعد موتي. اللسان (دبر).

(٦) أخرجه أبو داود (لباس) ٤ / ٣٦٢.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٥.

(٨) فصل : سقط من ب.

(٩) في ب : وأما.

(١٠) هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية ، أم المؤمنين أخذ عنها نافع ، وابن المسيب ، وأبو عثمان النهدي ، وغيرهم ، توفيت سنة ٥٩ ه‍.

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣ / ٣٩٤.

(١١) هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير العامرية الهلالية ، أم المؤمنين ، أخذ عنها ابن عباس ، ويزيد بن الأصم وجماعة توفيت سنة ٥٢ ه‍. خلاصة تذهيب التهذيب الكمال ٣ / ٣٩٢.


أعمى لا يبصرنا؟ فقال عليه‌السلام (١) : «أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه»؟ (٢). وإن كان محرما لها فعورته ما بين السرة والركبة.

وإن كان زوجها أو سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه ، غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها (٣).

فصل

ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته ، لأنه عليه‌السلام (٤) سئل عنه فقال : «الله أحق أن يستحيى منه» (٥) وقال عليه‌السلام (٦) : «إيّاكم والتّعرّي ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله (٧)» (٨).

قوله : (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي : عما لا يحل.

وقال أبو العالية : كلّ ما في القرآن من حفظ الفرج (٩) فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.

وهذا ضعيف ، لأنه تخصيص من غير دليل ، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من الزنا واللمس والنظر (١٠).

قوله : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ).

أي : غض البصر وحفظ الفرج (١١) أزكى لهم ، أي : خير لهم وأطهر (١٢)(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) عليم بما يفعلون.

قوله (١٣) : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) الكلام (١٤) فيه كما تقدم وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ، والبلوى فيه أشد وأكثر ، ولا يكاد يقدر على الاحتراز منه (١٥).

قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، والمراد بالزينة : الخفية ، وهما زينتان : خفية وظاهرة. فالخفية : مثل الخلخال والخضاب في الرّجل ،

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه أبو داود (لباس) ٤ / ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، أحمد ٦ / ٢٩٦.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٥.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) أخرجه الترمذي (أدب) ٤ / ١٨٩ ، ١٩٧ ، وابن ماجه (نكاح) ١ / ٦١٨.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) أخرجه الترمذي (أدب) ٤ / ١٩٩.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٥.

(٩) في ب : الرجل. وهو تحريف.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٦.

(١١) في الأصل : البصر. وهو تحريف.

(١٢) في ب : وأظهر. وهو تصحيف.

(١٣) في ب : قوله تعالى.

(١٤) في ب : والكلام.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٦.


والسوار (١) في المعصم ، والقرط (٢) والقلائد (٣) ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها. والمراد بالزينة (٤) : موضع الزينة.

وقيل : المراد بالزينة : محاسن الخلق التي خلقها الله ، وما تزين به الإنسان من فضل لباس (٥) ، لأن كثيرا من النساء ينفردن بخلقهنّ من سائر ما يعدّ زينة ، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقه ، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه ، ولأنّ قوله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) يدل على أن المراد من الزينة ما يعم الخلقة وغيرها ، فكأنها تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن ، موجبا سترها بالخمار (٦).

قوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها). أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال : معنى الآية : إلا ما يظهره الإنسان في العادة ، وذلك من النساء : الوجه والكفان ، ومن الرجال : الوجه واليدان والرجلان ، فرخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه ، وأدت الضرورة إلى إظهاره ، وأمرهم بستر ما لا ضرورة في كشفه. ولما كان ظهور الوجه والكفين ضرورة لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة.

وأما القدم (٧) فليس ظهوره ضروريا فلا جرم اختلفوا فيه هل هو من العورة أم لا؟ والصحيح أنه عورة. وفي صوتها وجهان :

أصحهما ليس بعورة ، لأن نساء النبي ـ عليه‌السلام (٨) ـ كن يروين الأخبار للرجال.

وأما الذين حملوا الزينة على ما عد الخلقة ، قالوا : إنه تعالى إنما (٩) ذكر الزينة لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال (انفصالها عن أعضاء المرأة ، فلما حرم الله النظر إليها حال) (١٠) اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة. وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوشمة (١١) والغمرة (١٢) ، وزينة بدنها من

__________________

(١) في الأصل : والسواد.

(٢) القرط : الذي يعلّق في شحمة الأذن ، والجمع أقراط وقيراط وقروط وقرطة ، فالقرط نوع من حلى الأذن ، اللسان (قرط).

(٣) القلائد جمع قلادة ، وهي ما جعل في العنق. اللسان (قلد).

(٤) في ب : من الزينة.

(٥) في ب : اللباس.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٦.

(٧) في ب : التقدير. وهو تحريف.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) إنما : سقط من ب.

(١٠) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١١) الوشم : ما تجعله المرأة على ذراعها بالإبرة ثم تحشوه بالنّئور ، وهو دخان الشّحم والجمع وشوم ووشام ، وهي العلامات. اللسان (وشم).

(١٢) الغمرة تطلى به العروس ، يتخذ من الورس ، الغمرة والغمنة واحد ، قال أبو سعيد : هو تمر ولبن يطلى به وجه المرأة ويداها حتى ترق بشرتها وجمعها الغمر والغمن. اللسان (غمر).


الخضاب والخواتيم والثياب ، لأن سترها فيه حرج (١) ، لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها ، والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة والمحاكمة والنكاح (٢).

قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي (٣) : «الزينة الظاهرة التي استثنى الله الوجه والكفان»(٤).

وقال ابن مسعود : هي الثياب ، لقوله تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(٥)(٦).

وقال الحسن : الوجه والثياب (٧).

وقال ابن عباس : الكحل والخاتم والخضاب في الكف (٨). فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئا منها غض البصر (٩).

فصل (١٠)

واتفقوا على تخصيص قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر ، لأن الأمة مال ، فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها ، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء (١١).

قوله : «وليضربن». ضمن «يضربن» معنى «يلقين» فلذلك عداه ب «على» (١٢). وقرأ أبو عمرو في رواية بكسر لام الأمر (١٣).

وقرأ طلحة : «بخمرهنّ» بسكون الميم (١٤). وتسكين «فعل» في الجمع أولى من تسكين المفرد. وكسر الجيم من «جيوبهنّ» ابن كثير والأخوان وابن ذكوان (١٥).

والخمر : جمع خمار ، وفي القلة يجمع على أخمرة. قال امرؤ القيس :

__________________

(١) في ب : خرج. وهو تصحيف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٣) تقدم.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٩٨.

(٥) [الأعراف : ٣١].

(٦) انظر البغوي ٦ / ٩٨.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٩٨.

(٨) المرجع السابق.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) في الأصل : قوله.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٧.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٤٨.

(١٣) قال ابن مجاهد : (روى عباس بن المفضل عن أبي عمرو : «وليضربن» على معنى كي. قال أبو بكر : ولا أدري ما هذا) السبعة (٤٥٤). يريد ابن مجاهد أنه لا وجه لأن تقرأ الآية بلام كي التعليلية الناصبة للمضارع ، لأن ما قبلها أوامر ونواه فهي لام أمر. وقال ابن عطية عند توجيهه لهذه القراءة أنها (بكسر اللام على الأصل ، لأن أصل الأمر الكسر في «ليذهب وليضرب» وإنما تسكينها كتسكين عضد وفخذ) تفسير ابن عطية ١٠٠ / ٤٨٩ ، وانظر المختصر (١٠١).

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٤٨.

(١٥) البحر المحيط ٦ / ٤٤٨ ، الإتحاف ٣٢٤.


٣٨٢٧ ـ وترى الشّجراء(١)في ريّقه

كرؤوس قطعت فيها الخمر (٢)

والجيب : ما في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد.

فصل(٣)

قال المفسرون : إنّ نساء الجاهلية كنّ يسدلن (٤) خمرهن من خلفهن ، وإن جيوبهن كانت من قدام ، وكانت (٥) تنكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمرن (٥) أن يضربن مقانعهن على (٦) الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن.

قالت عائشة (٧) : رحم الله نساء المهاجرات الأوّل ، لما أنزل الله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن (٨) فاختمرن بها (٩).

قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يعني الزينة الخفية التي لم يبح لهنّ كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عد الوجه والكفين (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهنّ (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ(١٠) أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) فيجوز لهؤلاء أن (١١) ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة إلا الزوج فإنه يجوز له أن ينظر على ما تقدم ، وهؤلاء محارم.

فإن قيل : أيحل لذي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل في المؤمنة؟

فالجواب : إذا ملك المرأة من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة (١٢) فإن قيل : فما القول في العم والخال؟

فالجواب : أن الظاهر أنهما (١٣) كسائر المحارم في جواز النظر ، وهو قول الحسن البصري قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع ، وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب (١٤)(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ)(١٥) الآية» ولم يذكر فيها البعولة ، وقد ذكره هنا.

__________________

(١) في ب : السحراء. وهو تصحيف.

(٢) البيت من بحر الرمل قاله امرؤ القيس ، وهو في ديوانه (١٤٥) ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٣.

(٣) في ب : قوله.

(٤) يسدلن : يرخين ويشددن.

(٥) في الأصل : وكان.

(٥) في الأصل : وكان.

(٦) في ب : فأمر.

(٧) في ب : عائشة رضي الله عنها.

(٨) مروط : جمع مرط : كساء من خز أو صوف أو كتان ، وقيل هو الثوب الأخضر والمرط : كل ثوب غير مخيط. اللسان (مرط).

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٧.

(١٠) في ب : بعولهن. وهو تحريف.

(١١) أن : سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(١٣) أنهما : سقط من ب.

(١٤) في الأصل : الأعراف. وهو تحريف.

(١٥) من قوله تعالى : «لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ» ـ


وقال الشعبي : إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفها العم عند ابنه ، والخال كذلك.

والمعنى : أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وابناهما ، وإذا رآها الأب وصفها لابنه وليس بمحرم ، وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب (١).

فصل

والسبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو (٢) الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في (٣) النزول والركوب (٤).

قوله : (أَوْ نِسائِهِنَّ).

قال أكثر المفسرين : المراد اللّائي على دينهن.

قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة (٥) ، ولا تبدي للكافرة (٦) إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها.

وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن تمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقيل : المراد ب «نسائهنّ» جميع النساء.

وهذا هو الأولى ، وقول السلف محمول على الاستحباب (٧).

قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ). وهذا يشمل العبيد والإماء ، واختلفوا في ذلك : فقال قوم : عبد المرأة محرم لها يجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم ، وهو ظاهر القرآن ، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة. وروي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما تلقى قال : «إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغلامك» (٨). وعن مجاهد : «كنّ أمهات المؤمنين لا (٩) يحتجبن عن مكاتبهن (١٠) ما بقي عليه درهم». وكانت عائشة تمتشط والعبد ينظر إليها.

وقال ابن مسعود والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته. وهو قول أبي حنيفة (١١).

__________________

ـ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» [الأحزاب : ٥٥].

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٨.

(٢) في ب : وهو.

(٣) في ب : و.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٨.

(٥) في ب : المذمة. وهو تحريف.

(٦) في النسختين : للكافر.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٨.

(٨) أخرجه أبو داود (لباس) ٤ / ٣٥٩.

(٩) لا : سقط من ب.

(١٠) المكاتب : العبد يكاتب على نفسه بثمنه ، فإذا سعى وعمل وأدى هذا الثمن عتق. اللسان (كتب).

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٨.


وقال ابن جريج : المراد من الآية : الإماء دون العبيد ، وأن قوله : (أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المشركة أمة لها (١).

قوله : (أَوِ (٢) التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ).

قرأ ابن عامر وأبو بكر (٣) : «غير» نصبا (٤) ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه استثناء.

وقيل (٥) : على القطع ، لأن «التّابعين» معرفة و «غير» نكرة.

والثاني : أنه حال (٦). والباقون : «غير» بالجر (٧) نعتا ، أو بدلا (٨) ، أو بيانا.

والإربة : الحاجة. وتقدم اشتقاقها في «طه» (٩).

(قوله : «من الرّجال» حال من «أولي» (١٠)) (١١).

فصل

المراد ب (التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ).

قال مجاهد وعكرمة والشعبي : هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم ، لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء.

وعن ابن عباس : أنه الأحمق العنين.

وقال الحسن : «هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان (١٢) النساء ولا يشتهيهن».

وقال سعيد بن جبير : المعتوه (١٣). وقال عكرمة : المجبوب (١٤). وقيل : هو

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١٠١.

(٢) في الأصل : و.

(٣) في ب : أبو بكر وابن عامر.

(٤) السبعة (٤٥٥) ، الحجة لابن خالويه (٢٦١) ، الكشف ٢ / ١٣٦ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٤٢٤).

(٥) في ب : قيل.

(٦) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٠ ، الكشاف ٣ / ٧٢ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٩٣ ، البيان ٢ / ١٩٥ ، التبيان ٢ / ٩٦٩.

(٧) السبعة (٤٥٤) ، الحجة لابن خالويه (٢٦١) ، الكشف ٢ / ١٣٦ ، النشر ٢ / ٣٣٢ الإتحاف (٣٢٤).

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٠ ـ ١٢١ ، الكشاف ٣ / ٧٢ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٩٣ البيان ٢ / ١٩٥ ، التبيان ٢ / ٩٦٩.

(٩) عند قوله تعالى : «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» [طه : ١٨].

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٦٩.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) في ب : حسان. وهو تحريف. الغشيان : إتيان الرجل المرأة ، والفعل غشي يغشى ، وغشي المرأة غشيانا : جامعها. اللسان (غشا).

(١٣) المعتوه : المدهوش من غير مسّ جنون ، وقيل هو المجنون المصاب بعقله. اللسان (عته).

(١٤) المجبوب : الخصيّ الذي قد استؤصل ذكره وخصياه. اللسان (جبب).


المخنّث (١). وقال مقاتل : هو الشيخ الهم والعنّين والخصيّ والمجبوب ونحوه (٢).

واعلم أن الخصيّ والمجبوب ومن يشاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ، ويكون له إربة فيما عداه من التمتع ، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد ، فيجب أن يحمل المراد على من لا إربة له في سائر وجوه التمتع لما روت عائشة قالت : كان رجل مخنّث يدخل على أزواج النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوما وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان (٣). فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ألا أرى هذا يعلم ما ههنا ، لا يدخلنّ هذا» فحجبوه (٤).

وفي رواية عن زينب بنت أم سلمة أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دخل عليها وعندها مخنّث ، فأقبل على أخي أم سلمة ، فقال : «يا عبد الله ، إن فتح الله غدا لكم الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان». فقال عليه‌السلام (٥) : «لا يدخلنّ عليكم هذا» فأباح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دخول المخنث عليهن ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهنّ علم أنه من أولي الإربة ، فحجبه (٦).

وفي الخصيّ والمجبوب ثلاثة أوجه :

أحدها : استباحة الزينة الباطنة.

والثاني : تحريمها.

(والثالث : تحريمها) (٧) على المخصيّ دون المجبوب (٨).

قوله (٩) : أو الطّفل الّذين لم يظهروا».

تقدم (١٠) في الحج (١١) أن الطفل يطلق على المثنى والمجموع ، فلذلك وصف بالجمع.

وقيل : لما قصد به الجنس روعي فيه الجمع كقولهم : «أهلك النّاس الدّينار الحمر والدّرهم البيض» (١٢). و «عورات» جمع عورة ، وهو ما يريد الإنسان ستره من بدنه ، وغلب في السّوأتين. والعامة على «عورات» بسكون الواو ، وهي لغة عامة العرب ،

__________________

(١) الخنثى : الذي لا يخلص لذكر ولا أنثى ، وهو الذي له ما للرجال والنساء جميعا. اللسان (خنث).

(٢) انظر هذه الأقوال في البغوي ٦ / ١٠٢.

(٣) معنى (تقبل بأربع وتدبر بثمان) : تقبل بأربع طيّات من لحم جسمها وتدبر بثمان منها.

(٤) أخرجه مسلم (سلام) ٤ / ١٧١٦.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) أخرجه البخاري (نكاح) ٣ / ٢٦٦ ، ومسلم (سلام) ٤ / ١٧١٥.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠٩.

(٩) قوله : سقط من الأصل.

(١٠) في ب : مقدم.

(١١) عند قوله تعالى : «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً» [الحج : ٥].

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٤٩.


سكنوها تخفيفا لحرف العلة. وقرأ ابن عامر في رواية «عورات» بفتح الواو (١).

ونقل ابن خالويه أنها قراءة ابن أبي إسحاق والأعمش ، وهي لغة هذيل بن مدركة (٢). قال الفراء(٣) : وأنشد في بعضهم :

٣٨٢٨ ـ أخو بيضات رائح متأوّب(٤)

رفيق بمسح المنكبين سبوح (٥)

وجعلها ابن مجاهد لحنا وخطأ ، يعني : من طريق الرواة ، وإلا فهي لغة ثانية (٦).

فصل (٧)

الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به ، كقوله (٨) تعالى : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)(٩) أي : يشعروا بكم. ويكون بمعنى الغلبة عليه ، كقوله : (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٠).

فلهذا قال مجاهد وابن قتيبة : معناه : لم يطلعوا على عورات النساء ، ولم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر (١١).

وقال الفراء (١٢) والزجاج (١٣) : لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء (١٤).

وقيل : لم يبلغوا حدّ الشهوة.

__________________

(١) في النسختين : بفتح العين ، والصواب ما أثبته ، لأنه لا خلاف في فتح العين ، وإنما الخلاف في فتح الواو ، إلا إذا كان يريد بفتح العين فتح عين الكلمة. تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٩٣ ، والقراءة بالفتح على الأصل ، لأن فعلة يجمع على فعلات بفتح العين نحو قولك جفنة وجفنات ، وصحفة وصحفات ، فإذا كان نحو قولك لوزة وحوزة وعورة ، فالأكثر أن تسكن ، وكذلك قوله بيضات لثقل الحركة مع الواو والياء ومن العرب من يلزم الأصل والقياس في هذا فيقول جوزات وبيضات. وعلى هذا قرىء «عورات».

انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٤٢.

(٢) المختصر (١٠٣).

(٣) لم أجد ما قاله الفراء في معاني القرآن للفراء وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٤٩.

(٤) في ب : متأدب. وهو تحريف.

(٥) البيت من بحر الطويل قاله أحد الهذليين وهو في الخصائص ٣ / ١٨٤ ، المنصف ١ / ٣٤٣ ، ابن يعيش ٥ / ٣٠ ، اللسان (بيض) البحر المحيط ٦ / ٤٤٩ ، المقاصد النحوية ٤ / ٥١٧ ، التصريح ٢ / ٢٩٩ ، الهمع ١ / ٢٣ ، الأشموني ٤ / ١١٨ ، الخزانة ٨ / ١٠٢ ، شرح شواهد الشافية ٤ / ١٣٢ ، الدرر ٦١.

(٦) قال ابن خالويه : (وسمعت ابن مجاهد يقول هو لحن. فإن جعله لحنا وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية بنو تميم تقول : روضات وجوزات وعورات وسائر العرب بالإسكان وهو الاختيار ، لئلا تنقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها) المختصر (١٠٣).

(٧) ما بين القوسين بياض في الأصل.

(٨) في ب : لقوله.

(٩) [الكهف : ٢٠].

(١٠) [الصف : ١٤].

(١١) انظر تفسير غريب القرآن (٣٠٤).

(١٢) معاني القرآن ٢ / ٢٥٠.

(١٣) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٢.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٠.


فصل

فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستر منه ما بين سرتها وركبتها ، وفي لزوم ستر ما عداه وجهان :

الأول : لا يلزم ، لأن القلم غير جار عليه.

والثاني : يلزم كالرجل ، لأنه مشتهى ، والمرأة قد تشتهيه ، واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم (١) وأما الشيخ فإن بقيت له شهوة فهو كالشاب ، وإن لم تبق له شهوة ففيه وجهان :

أحدهما : أن الزينة الباطنة معه مباحة ، والعورة معه (٢) ما بين السرة والركبة.

والثاني : أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة.

وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى ، (والرضاع كالنسب) (٣)(٤).

قوله : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).

قال ابن عباس وقتادة : كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجليها ليسمع (٥) قعقعة خلخالها ، فنهين عن ذلك ؛ لأن الذي تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة إلى مشاهدتهن ، وعلل تعالى ذلك بقوله : (لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)(٦) وفي الآية فوائد :

الأولى : لما نهي عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة ، فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى.

الثانية : أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب ، إذ (٧) كان صوتها أقرب إلى الفتنة (من صوت خلخالها ، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت ، والمرأة منهية عنه.

الثالثة : تدل على تحريم النظر إلى وجهها بشهوة ، لأن ذلك أقرب إلى الفتنة) (٨)(٩).

قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ). قال ابن عباس : توبوا (١٠) مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة (١١). وقيل : توبوا من

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٠.

(٢) في النسختين : منه.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٠.

(٤) ما بين القوسين في ب : كالرضاع. وهو تحريف.

(٥) ليسمع : سقط من ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٠.

(٧) في ب : إذا.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١١.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) في ب : عما.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٧٣ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٢١١.


التقصير الواقع منكم في أمره ونهيه. وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة.

قوله : (أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ). العامة على فتح الهاء وإثبات ألف بعد الهاء ، وهي «ها» (١) التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف «يأيه (٢) الساحر» (٣) وفي الرحمن (أَيُّهَ الثَّقَلانِ)(٤) بضم الهاء وصلا ، فإذا وقف سكن (٥).

ووجهها (٦) : أنه لما حذفت الألف لالتقاء الساكنين استحقت الفتحة على حرف خفي ، فضمت الهاء (٧) إتباعا. وقد رسمت هذه المواضع الثلاثة دون ألف ، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف والباقون بدونها اتباعا للرسم ، ولموافقة الخط للفظ (٨). وثبتت في غير هذه المواضع حملا لها على الأصل نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ)(٩) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)(١٠) وبالجملة فالرسم سنة متبعة.

قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٣٢)

قوله تعالى (١١) : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ).

لما أمر تعالى بغض الأبصار وحفظ الفروج بيّن (١٢) بعده أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل ، ثم ذكر بعد ذلك طريق (١٣) الحلّ فقال : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)(١٤). الأيامى (١٥) : جمع أيّم ب(١٦) «زنة» : «فيعل» ، يقال منه : آم يئيم كباع يبيع ، قال الشاعر :

٣٨٢٩ ـ كلّ امرىء ستئيم من

ه العرس أو منها يئيم (١٧)

وقياس جمعه : أيائم ، كسيّد وسيائد. و «أيامى» فيه وجهان :

__________________

(١) في ب : الهاء.

(٢) في النسختين : يا أيها.

(٣) [الزخرف : ٤٩].

(٤) [الرحمن : ٣١].

(٥) السبعة (٤٥٥ ، ٥٨٦ ، ٥٨٧ ، ٦٤٠) ، الكشف ٢ / ١٣٦ ـ ١٣٧ ، الإتحاف (٣٢٤).

(٦) في ب : وتوجيهها.

(٧) في الأصل : إليها.

(٨) السبعة (٤٥٥ ، ٥٨٦ ، ٥٨٧ ، ٦٤٠) ، الكشف ٢ / ١٣٧ ، الإتحاف (٣٢٤).

(٩) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» [الحج : ١].

(١٠) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً» [النساء : ٧١].

(١١) تعالى : سقط من ب.

(١٢) في ب : وبين.

(١٣) في ب : بطريق.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١١.

(١٥) الأيامى : سقط من ب.

(١٦) ب : زيادة يتطلبها السياق.

(١٧) البيت من مجزوء الكامل قاله يزيد بن الحكم الثقفي ، وهو في اللسان (أيم) والبحر المحيط ٦ / ٤٤٣. عرس الرجل : امرأته ، وهو أيضا عرسها ، لأنهما اشتركا في الاسم لمواصلة كل واحد منهما صاحبه وإلفه إياه. يقول إن كل إنسان لا بد أن يفترق عن زوجته أو تفترق زوجته منه فيصير أحدهما أيما أي لا زوج له.


أظهرهما من كلام سيبويه أنه جمع على «فعالى» غير مقلوب ، وكذلك «يتامى» (١).

وقيل : إن الأصل «أيايم» و «يتايم» و «يتيم» (فقلبا) (٢)(٣).

والأيّم : (من لا زوج له) (٤) ذكرا كان أو أنثى (٥). قال النضر بن شميل : الأيّم (٦) في كلام العرب : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها. وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك ، يقول : زوجوا أياماكم بعضكم من بعض (٧). وخصّه أبو بكر الخفّاف (٨) بمن فقدت زوجها ، فإطلاقه على البكر مجاز (٩). وقال الزمخشري : «تأيّما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيّبين» ، وأنشد :

٣٨٣٠ ـ فإنّ تنكحي أنكح وإن تتأيّمي

وإن كنت أفتى منكم أتأيّم (١٠)

وعن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «اللهم إني أعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكرم والقرم» (١١). العيمة ـ بالمهملة : شدة شهوة اللبن (١٢). وبالمعجمة : شدة العطش (١٣). والأيمة : طول العزبة (١٤). والكرم : شدة شهوة الأكل (١٥) والقرم : شدة شهوة

__________________

(١) قال سيبويه في باب تكسيرك ما كان من الصفات عدد حروفه أربعة أخرى : (وقالوا : وج ووجيا كما قالوا زمن وزمنى ، فأجروا ذلك على المعنى كما قالوا : يتيم ويتامى ، وأيم وأيامى فأجروه مجرى وجاعى) الكتاب ٣ / ٦٥٠.

(٢) قال أبو عمرو بن العلاء والزمخشري : إن أصل (أيامى) (أيايم) على وزن فياعل ، ثم قدمت اللام على العين فصار (أيامى) ثم قلبت الكسرة فتحة فصار (أيامى) ، أي أن (أيامى) مقلوب (أيايم). وكذلك (يتامى) مقلوب (يتايم) عند الزمخشري. الكشاف ٣ / ٧٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥١.

(٣) ما بين القوسين في ب : فقلبنا.

(٤) ما بين القوسين في ب : من الأزواج.

(٥) اللسان (أيم) ، البحر المحيط ٦ / ٤٥١.

(٦) في ب : لايم. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١١.

(٨) هو أبو بكر بن يحيى بن عبد الله الجذامي المالقيّ النحويّ المعروف بالخفّاف ، قرأ النحو على الشلوبين ، وكان نحويا بارعا ، ورجلا صالحا مباركا ، صنف شرح سيبويه ، شرح إيضاح الفارسي ، شرح ابن جني وغير ذلك مات بالقاهرة سنة ٦٥٧ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٤٧٣.

(٩) قال أبو حيان : (وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف الأيم التي لا زوج لها ، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزء طرأ عليها فهو من البلايا ، ثم قيل في البكر مجازا ، لأنها لا زوج لها. انتهى) البحر المحيط ٦ / ٤٥١.

(١٠) البيت من بحر الطويل لم أقف على قائله ، وهو في مجاز القرآن ٢ / ٦٥ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٢١١ ، القرطبي ١٢ / ٢٤٠ ، اللسان (أيم) شرح شواهد الكشاف (١١٩). ورواية الشطر الثاني : يدا الدهر ما لم تنكحي أتأيم. آم الرجل ـ بالمد ـ والمرأة ، وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين ، يقول لمحبوبته إن تتزوجي أتزوج ، وإن لم تتزوجي لم أتزوج.

والشاهد فيه أن معنى قوله : (أتأيم) : أصير بلا زوج ، وقوله : (تتأيمي) تصيرين بلا زوج.

(١١) الكشاف ٣ / ٧٣ ، والحديث في كتابه الفائق ٣ / ٤٢ ـ ٤٣.

(١٢) اللسان (عيم).

(١٣) اللسان (غيم).

(١٤) في النسختين : العطش. والصواب ما أثبتناه. اللسان (أيم).

(١٥) اللسان (كزم).


اللحم (١) و «منكم» حال. وكذا «من عبادكم».

فصل(٢)

قوله : «وأنكحوا» أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فدلّ على أن الولي يجب عليه تزويج موليته ، (وإذا ثبت هذا وجب ألا يكون النكاح إلا بولي ، لأن كل ما وجب على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية) (٣) ، ولأن المولية لو فعلت ذلك لفوّتت على الولي تمكنه من أداء هذا الواجب ، وأنه غير جائز ، ولم تطابق قوله عليه‌السلام (٤) : «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه ، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض» (٥). قال أبو بكر الرازي : هذه الآية وإن اقتضت الإيجاب ، إلا أنه أجمع السلف على أنه لا يراد (٦) الإيجاب ، ويدل عليه أمور :

أحدها : أنه لو كان ذلك واجبا لنقل عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن السلف مستفيضا ، لعموم الحاجة إليه ، فلما علمنا أن سائر الأعصار كانت فيهم أيامى من الرجال والنساء ولم ينكروا ذلك ، ثبت أنه لم يرد (٧) الإيجاب.

وثانيها : أجمعنا على أن الأيّم الثيّب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه.

وثالثها : اتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده ، وهو معطوف على الأيامى ، فدل على أنه غير واجب في الجميع ، بل ندب في الجميع (٨).

ورابعها : أن اسم الأيامى يشمل الرجال والنساء ، وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم ، كذلك في النساء.

والجواب : أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية ، والعام بعد التخصيص حجة ، فوجب (٩) إذا التمست المرأة (١٠) الأيم من الولي التزويج وجب ، وحينئذ ينتظم الكلام.

فصل

قال الشافعي : الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها ، لأن الآية والحديث يدلّان على أمر الولي بتزويجها. ولو لا قيام (١١) الدلالة على أنه تزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها أيضا لعموم الآية (١٢).

__________________

(١) اللسان (قرم) ، شرح ابن عادل للحديث مأخوذ من شرح الزمخشري في الفائق ٣ / ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٢.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) أخرجه ابن ماجة (نكاح) ١ / ٦٣٣ ، الترمذي (نكاح) ٢ / ٢٧٤.

(٦) في ب : لم يرد به.

(٧) يرد : سقط من ب.

(٨) في الجميع : سقط من ب.

(٩) في ب : يوجب.

(١٠) المرأة : سقط من ب.

(١١) في ب : أقام.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٢.


فصل

الناس في النكاح قسمان (١) :

الأول : من تتوق نفسه للنكاح ، فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبته سواء كان مقبلا على العبادة أو لم يكن ، ولكن (٢) لا يجب ، وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم لقوله عليه‌السلام (٣) : «يا معشر الشّباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فليصم فإنّه (٤) له وجاء» (٥).

الثاني : من لا تتوق نفسه للنكاح (٦) ، فإن كان لعلة من كبر أو مرض أو عجز فيكره له ، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام به ، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة.

وإن لم يكن به عجز وكان قادرا على القيام بحقه لم يكره له النكاح ، لكن الأفضل أن يتخلّى للعبادة ، لأن الله تعالى مدح يحيى بكونه (حَصُوراً)(٧) ، والحصور : الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ ، ولا يقال : هو الذي لا يأتي النساء مع العجز ؛ لأن مدح الإنسان بما يكون عيبا غير جائز ، وإذا كان مدحا في حق يحيى وجب أن يشرع في حقنا ، لقوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)(٨) ، ولا يحمل الهدى على الأصول ، لأن التقليد فيها غير جائز ، فوجب حمله على الفروع. وقال عليه‌السلام (٩) : «اعلموا أن خير أعمالكم الصّلاة» (١٠) وقال عليه‌السلام (١١) : «أفضل أعمال أمّتي قراءة القرآن» (١٢). وقال أبو حنيفة : النكاح أفضل لقوله عليه‌السلام (١٣) : «أحبّ المباحات إلى الله النكاح» (١٤) لأن (١٥) النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا ، فيكون دفعا للضرر عن النفس. والنافلة :

__________________

(١) وهو قول الشافعي ـ رحمه‌الله ـ انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٣.

(٢) ولكن : سقط من ب.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : فإن الصوم.

(٥) أخرجه البخاري (صوم) ١ / ٣٢٦ ، (نكاح) ٣ / ٢٣٨ ، ومسلم (نكاح) ٢ / ١٠١٨ ـ ١٠١٩ ، أبو داود (نكاح) ٢ / ٥٣٨ ـ ٥٣٩ ، ابن ماجه (نكاح) ١ / ٥٩٢ ، النسائي (صيام) ٤ / ١٦٨ ـ ١٧١ ، الدارمي (نكاح) ٢ / ١٣٢ ، الترمذي (نكاح) ٢ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ، أحمد ١ / ٣٧٨ ، ٤٢٤ ، ٤٢٥ ، ٤٣٢ ، ٤٤٧.

(٦) في ب : إلى النكاح.

(٧) من قوله تعالى : «وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» [آل عمران : ٣٩].

(٨) من قوله تعالى : «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» [الأنعام : ٩٠].

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) أخرجه ابن ماجه (طهارة) ١ / ١٠١ ـ ١٠٢ ، الدارمي (وضوء) ١ / ١٦٨ الموطأ (طهارة) ١ / ٣٤ ، أحمد ٥ / ٢٧٧ ، ٢٨٠ ، ٢٨٢.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٣.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣١٣.

(١٥) في ب : ولأن.


جلب نفع. ودفع الضرر أولى من جلب النفع. وأجيب بأن يحمل الأحب على الأصلح في الدنيا ، لئلا يقع التناقض بين كونه أحبّ وبين كونه مباحا. والمباح : ما يستوي طرفاه في الثواب والعقاب.

والمندوب : ما ترجّح وجوده على عدمه ، فتكون العبادة أفضل. وبقية المباحث مذكورة في كتب الفقه (١).

قوله : «منكم» أي : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم.

وقيل : أراد الحرية والإسلام (٢).

وقوله : (وَالصَّالِحِينَ (٣) مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) ظاهره يقتضي الأمر بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين. وخصّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم (٤) منزلة الأولاد في المودّة ، فكانوا مظنة للتوصية والاهتمام بهم. ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك.

وقيل : أراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها ، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج. وقيل : أراد بالصلاح ألا تكون صغيرة (٥) لا تحتاج إلى النكاح (٦).

فصل

ظاهر الآية يدل على أنّ العبد لا يتزوج بنفسه ، وإنما يتولى تزويجه مولاه ، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه ، فيكون توليه بإذنه بمنزلة تولي السيد. فأما (٧) الإماء فإنّ المولى يتولى تزويجهنّ خصوصا على قول من لا يجوّز (٨) النكاح إلا بوليّ (٩).

فصل

الولي شرط في صحة النكاح لقوله عليه‌السلام (١٠) : «لا نكاح إلّا بوليّ» (١١).

وقال عليه‌السلام (١٢) : «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل» ثلاثا ، فإن

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٤.

(٣) في ب : الصالحين.

(٤) في النسختين : وينزلوهم. والصواب ما أثبته.

(٥) في ب : صغره.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٧) في ب : وأما.

(٨) في الأصل : يزوج.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٥.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه أبو داود (نكاح) ٢ / ٥٦٨ ابن ماجه (نكاح) ١ / ٦٠٥ ، الدارمي ٢ / ١٣٧ ، الترمذي (نكاح) ٢ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(١٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.


أصابها فلها المهر بما استحلّ من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان (١) وليّ (من لا وليّ له) (٢)(٣). قوله : «إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله» الأصح (٤) أن هذا ليس وعدا بإغناء من يتزوج ، بل المعنى : لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ، أو فقر من تريدون تزويجها ، ففي فضل الله ما يغنيهم ، والمال غاد ورائح ، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح ، فهذا معنى صحيح ، وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف (٥). وروي عن قدماء الصحابة ما يدلّ على أن ذلك وعد ، فروي عن أبي بكر قال : «أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى». وعن عمر وابن عباس مثله. وشكى رجل إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الحاجة ، فقال : «عليك بالباءة» (٦) وقال طلحة بن مصرّف : تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم ، وأوسع في أخلاقكم (٧) ، ويزيد الله في (٨) مروءتكم. فإن قيل : فنحن نرى من كان غنيا فتزوج فيصير فقيرا؟ فالجواب من وجوه :

أحدها : أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ)(٩) والمطلق يحمل على المقيد.

وثانيها : أن اللفظ وإن كان عامّا إلا أنه يخصّ بعض (١٠) المذكورين دون البعض ، وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون (١١) بما يملكون.

وثالثها : المراد بالغنى : العفاف ، فيكون الغنى هنا معناه : الاستغناء بالنكاح عن الوقوع في الزنا(١٢).

فصل

استدل بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان ، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم ، فاقتضى أن العبد قد يكون فقيرا وغنيا ، وذلك يدل على الملك ، فثبت أنهما يملكان. والمفسرون تأولوه على الأحرار خاصة ، فقالوا : هو راجع إلى الأيامى ، وإن فسرنا الغنى بالعفاف (١٣) سقط استدلالهم (١٤).

__________________

(١) في ب : فالشيطان. وهو تحريف.

(٢) أخرجه أبو داود (نكاح) ٢ / ٥٦٦ ـ ٥٦٧ ، الترمذي (نكاح) ٢ / ٢٨١ الدارمي (نكاح) ٢ / ١٣٧ ، أحمد ٦ / ١٦٦.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٥.

(٥) في الأصل : خلاف.

(٦) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٩).

(٧) في النسختين : أحلامكم. وهو تصحيف.

(٨) في : سقط من ب.

(٩) [التوبة : ٢٨].

(١٠) في الأصل : ببعض.

(١١) في ب : فيسغنون. وهو تحريف.

(١٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٥.

(١٣) في ب : بالاستعفاف.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٥.


وقوله : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي يوسع عليهم من إفضاله ، «عليم» بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق (١).

قوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٣)

قوله (٢) : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) الآية (٣).

لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال : (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي : وليجتهد في العفة ، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف.

وقوله : «لا يجدون نكاحا» أي : لا يتمكنون من الوصول إليه ، يقال : لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه ، قال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ)(٤) ويقال : هو غير واجد للماء (٥) وإن كان موجودا ، إذا لم يمكنه أن يشتريه. ويجوز أن يراد بالنكاح : ما ينكح به من المال ، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح. فإن قيل : أفليس (٦) ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح؟

قلنا : لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى (٧).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ ...) الآية» لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحرارا فيتصرفون في أنفسهم كالأحرار ، فقال : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ)(٨). يجوز في الذين الرفع على الابتداء ، والخبر الجملة المقترنة بالفاء لما (٩) تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.

ويجوز نصبه بفعل مقدر على الاشتغال ، كقولك : «زيدا فاضربه» (١٠) وهو أرجح لمكان الأمر. والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة ، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه :

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) في ب : قوله تعالى.

(٣) الآية : سقط من الأصل.

(٤) [النساء : ٩٢] ، [المجادلة : ٤].

(٥) في الأصل : الماء.

(٦) في ب : فليس. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٦.

(٨) المرجع السابق.

(٩) لما : سقط من ب.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٧٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥١ ، وجوز ابن قتيبة وابن الأنباري الرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم الذين يبتغون الكتاب.

مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢١ ، البيان ٢ / ١٩٥.


أحدها : أن أصل الكلمة من الكتب ، وهو الضم والجمع ، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم(١) بعضها إلى بعض ، وتضم ماله إلى ماله.

وثانيها : مأخوذ من الكتاب (٢) ، ومعناه : كتبت لك على نفسي (أن تعتق إذا وفيت بمالي وكتبت لي على نفسي) (٣) أن تفي (٤) لي بذلك ، أو (٥) كتبت عليك الوفاء بالمال ، وكتبت عليّ العتق(٦) ، قاله الأزهري (٧).

وثالثها : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه ، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب ، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه ، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالا ، بل يقع مؤجلا ، ليكون متمكنا من الاكتساب. ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب ، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتابا لما فيه من الأجل ، قال تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ)(٨)(٩).

فصل

قال بعض العلماء : الكتابة أن يقول لمملوكه (١٠) : كاتبتك على كذا ، ويسمي مالا معلوما ، يؤديه في نجمين أو أكثر ، ويبين عدد النجوم ، وما يؤدي في كل نجم ، ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر ، أو (١١) ينوي ذلك بقلبه ، ويقول العبد : قبلت (١٢).

فإذا لم يقل بلسانه ، أو لم ينو بقلبه : إذا أديت ذلك فأنت حر ، لم يعتق (١٣).

وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه : لا حاجة إلى ذلك ، لأن قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ)(١٤) ليس فيه شرط ، فتصح الكتابة بدون (١٥) هذا الشرط ، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع. واحتج الأولون (١٦) بأن الكتابة ليست عقد معاوضة

__________________

(١) النجم : الوقت المضروب ، وبه سمّي المنجم ، ونجمت المال إذا أديته نجوما ، تنجيم الدين : هو أن يقدر عطاؤه في أوقات معلومة متتابعة مشاهرة أو مساناة ، ومنه تنجيم المكاتب ونجوم الكتابة ، وأصله أن العرب كانت تجمل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيت حلول ديونها وغيرها ، فتقول : إذا طلع النجم حل عليك مالي ، فلما جاء الإسلام جعل الله تعالى الأهلة مواقيت لما يحتاجون إليه من معرفة أوقات الحج والصوم ومحل الديون. اللسان (نجم).

(٢) في ب : الكتابة.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) في ب : بغي. وهو تحريف.

(٥) في ب : و.

(٦) في ب : بالعتق.

(٧) انظر التهذيب (كتب).

(٨) [الرعد : ٣٨].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٦ ـ ٢١٧.

(١٠) في ب : المملوكة. وهو تحريف.

(١١) في ب : و.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٣١٧.

(١٣) وهو قول الشافعي رحمه‌الله انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٧.

(١٤) في ب : وكاتبوهم. وهو تحريف.

(١٥) في ب : دون.

(١٦) وهو الإمام الشافعي رحمه‌الله. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٧.


محضة ، لأن ما في يد العبد ملك للسيّد ، والإنسان لا يبيع ملكه بملكه ، بل قوله : «كاتبتك» كناية في العتق ، فلا بد من لفظ التعليق أو نيته (١).

فصل

لا تجوز الكتابة (٢) الحالّة ، لأن العبد ليس له ملك يؤديه في الحال ، وإذا عقدت حالّة توجهت المطالبة عليه في الحال ، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل العقد ، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح ، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن ، فالعجز (٣) لا يتحقق. وقال أبو حنيفة : تجوز لقوله تعالى (فَكاتِبُوهُمْ) ، وهو مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة. وأيضا فمال الكتابة بدل عن (٤) الرقبة ، فهو بمنزلة أثمان السلع المبيعة ، فتجوز حالة. وأيضا فأجمعوا على جواز العتق مطلقا على مال حال ، فالكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين ، إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط العبادة وفي الآخر معجل ، فوجب أن لا يختلف حكمهما (٥).

فصل

لا تجوز الكتابة (٦) على أقل من نجمين ، لأنه يروى عن عليّ وعثمان وابن عمر ، روي أن عثمان غضب على عبده فقال : «لأضيقن عليك ، ولأكاتبنك (٧) على نجمين» ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل ، لأن التضييق فيه أشد ، وإنما شرطنا التنجيم ، لأنه عقد إرفاق ، ومن شرط الإرفاق : التنجيم ليتيسر عليهم الأداء.

وقال أبو حنيفة : تجوز الكتابة على نجم واحد ، لأن ظاهر قوله : «كاتبوهم» ليس فيه تقييد(٨).

فصل

يشترط أن يكون المكاتب بالغا عاقلا. فإن كان صبيا أو مجنونا لم تصح كتابته (٩) لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) والابتغاء لا يتصور من الصبي والمجنون.

وقال أبو حنيفة : تجوز كتابة الصبي ، ويقبل عنه (المولى) (١٠)(١١).

فصل

ويشترط أن يكون السيد مكلفا مطلقا. فإن كان صبيا أو محجورا عليه لسفه لم

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٧.

(٢) عند الشافعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٧.

(٣) في ب : والعجز.

(٤) في ب : من.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٧.

(٦) عند الشافعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٧.

(٧) في ب : وإلا كاتبتك.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٧.

(٩) عند الإمام الشافعي.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(١١) ما بين القوسين في ب : الولي.


تصح كتابته ، كما لا يصح بيعه ، لأن قوله : (فَكاتِبُوهُمْ) خطاب ، فلا يتناول غير المكلف.

وقال أبو حنيفة : تصحّ كتابة الصبيّ بإذن الوليّ (١).

فصل

اختلفوا في قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) هل هو أمر إيجاب أو ندب؟ فقيل : أمر إيجاب ، فيجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيرا ، فإن سأله بدون قيمته لم يلزمه ، وهذا قول ابن دينار (٢) وعطاء ، وإليه ذهب داود بن عليّ (٣) ومحمد بن جرير لظاهر الآية ، وأيضا فلأن سبب نزولها إنما (٤) نزلت في غلام لحويطب (٥) بن عبد العزى يقال له : «صبيح» سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه ، فنزلت الآية ، فكاتبه على مائة دينار ووهب (٦) له منها عشرين دينارا وروي أن عمر أمر أنسا بأن يكاتب سيرين (أبا محمد بن سيرين) فأبى ، فرفع عليه الدّرّة (٧) وضربه ، وقال : «فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا» وحلف عليه ليكاتبنه ، ولو لم يكن واجبا لكان ضربه بالدرة ظلما ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، فجرى ذلك مجرى الإجماع. وقال أكثر الفقهاء : إنه أمر استحباب ، وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد لقوله عليه‌السلام (٨) : «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه» (٩)(١٠). ولأنه لا فرق بين أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة ، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة (١١) فإن قيل : كيف يصح أن يبيع ماله بماله؟

فالجواب : إذا ورد الشرع به جاز ، كما إذا علق عتقه على مال يكسبه فيؤديه أو يؤدى عنه صار سببا لعتقه (١٢).

فإن قيل : هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لو لا الكتابة؟

فالجواب : نعم ، لأنه لو دفع إليه الزكاة قبل الكتابة لم يحل له أخذها ، وإذا صار

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٨.

(٢) هو عبد الله بن دينار العدوي ، أبو عبد الرحمن المدني مولى ابن عمر ، روى عن ابن عمر ، وأنس ، وسليمان بن يسار وغيرهم ، وروى عنه ابنه عبد الرحمن ، ومالك ، وسليمان بن بلال ، وغيرهم ، مات سنة ١٢٧ ه‍. تهذيب التهذيب ٥ / ٢٠١ ـ ٢٠٣.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : أنها.

(٥) في ب : الحويطب.

(٦) في الأصل : وهب.

(٧) الدرّة : بالكسر التي يضرب بها عربية معروفة. اللسان (درر).

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) منه : سقط من ب.

(١٠) أخرجه أحمد في مسنده ٥ / ٧٢.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٨.

(١٢) المرجع السابق.


مكاتبا حل له أخذها سواء أدى فعتق ، أو عجز فعاد إلى الرق. واستفاد أيضا أن الكتابة تبعثه على الاجتهاد في الكسب ، ولولاها لم يكن ليفعل ذلك. ويستفيد المولى الثواب ، لأنه إذا باعه فلا ثواب ، وإذا كاتبه فالولاء له ، فورد الشرع بجواز الكتابة لهذه الفوائد (١).

قوله : «إن علمتم فيهم خيرا» قال عليه‌السلام (٢) : «إن علمتم لهم حرفة ، ولا تدعوهم كلّا على الناس» (٣). وقال ابن عمر : قوة على الكسب ، وهو قول مالك والثوري (٤).

قال عطاء والحسن ومجاهد والضحاك : الخير : المال ، لقوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً)(٥) أي : مالا. قال عطاء : بلغني ذلك عن ابن عباس (٦). ويروى أن عبدا لسلمان الفارسي قال له : كاتبني. قال: لك مال؟ قال : لا. قال (٧) : تريد أن تطعمني أوساخ الناس ولم يكاتبه (٨). قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إن علمتم لهم خيرا (٩).

وأيضا فلأن العبد لا مال له ، بل المال لسيده (١٠). وقال إبراهيم النخعي وابن زيد وعبيدة : صدقا وأمانة (١١). وقال طاوس وعمرو بن دينار : مالا وأمانة (١٢).

وقال الحسن : صلاحا في الدين (١٣). قال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبيد : الاكتساب مع الأمانة ، وأجاب ألا يمتنع من الكتابة إذا كان هكذا (١٤) ، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما ، فإنه ينبغي أن يكون كسوبا يحصل المال ، ويكون أمينا يصرفه في نجومه ولا يضيعه (١٥).

قوله : «وآتوهم من مال الله الّذي آتاكم». قيل : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى (١٦) أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئا ، وهو قول عثمان وعليّ والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي وهؤلاء اختلفوا في قدره : فقيل : يحط عنه (١٧) ربع مال الكتابة ، وهو قول عليّ ، ورواه بعضهم عن عليّ مرفوعا. وعن ابن عباس : يحط الثلث. وقيل : ليس له (١٨) حد ، بل يختلف بكثرة المال وقلته ، وهو قول الشافعي ، لأن ابن عمر

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٨.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١١٠.

(٥) من قوله تعالى : «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» [البقرة : ١٨٠].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٨ ـ ٧١٩.

(٧) قال : سقط من ب.

(٨) انظر البغوي ٦ / ١١٠ ، الكشاف ٣ / ٧٥.

(٩) لم أعثر على ما قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ، وهو في تفسير البغوي ٦ / ١١٠.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٩.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١١٠.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) المرجع السابق.

(١٤) المرجع السابق.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٩.

(١٦) في ب : الولي.

(١٧) عنه : سقط من ب.

(١٨) له : سقط من الأصل.


كاتب غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم.

وقيل : يحط عنه قدرا يحصل الاستغناء به. قال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب (١). وكاتب عمر عبدا ، فجاءه بنجمه ، فقال : اذهب فاستغن على أداء مال الكتابة ، فقال المكاتب : لو تركته إلى آخر نجم فقال : إني أخاف ألا أدرك ذلك (٢).

وقيل (٣) : هو أمر استحباب ، لقوله عليه‌السلام (٤) : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» (٥) وقولهعليه‌السلام (٦) : أيما عبد كاتب على مائة فأداها إلا عشرة فهو عبد (٧). ولو كان الحط واجبا سقط عنه بقدره ، وأيضا فلو كان الإيتاء واجبا لكان وجوبه معلقا بالعقد ، فيكون (٨) العقد موجبا له ومسقطا له ، وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب.

وأيضا فلو كان الحط واجبا لما احتاج أن يضع عنه ، بل كان يسقط القدر المستحق ، كمن له على إنسان دين ، ثم لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قابضا له. وأيضا فلو كان واجبا لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوما أو مجهولا ، فإن كان معلوما وجب ألا تكون الكتابة بثلاثة أرباع المال على قول من يجعله الربع ، فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف إذا كان العقد على أربعة آلاف ، وذلك باطل ، لأن أداء جميعها شرط ، فلا يعتق بأداء البعض لقوله عليه‌السلام (٩) : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» (١٠). وإن كان مجهولا صارت الكتابة مجهولة ، لأن الباقي بعد الحط مجهول ، فلا يصح ، كما لو كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء (١١).

وقال قوم : المراد بقوله : «وآتوهم» أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله : (وَفِي الرِّقابِ)(١٢) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم ، ورواية عطاء عن

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١١٠ ـ ١١١.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٩.

(٣) وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢٠.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) أخرجه أبو داود (عتاق) ٤ / ٢٤٢ ، وفي الترمذي (بيوع) ٣ / ٣٦٦ : هو قول أكثر أهل العلم ، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، وفي الموطأ (مكاتب) ٢ / ٧٨٧ ، أنه قول عبد الله بن عمر ، وعروة بن الزبير ، وسليمان بن يسار ، وابن ماجه (عتق) ٢ / ٨٤٢.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) أخرجه أبو داود (عتاق) ٤ / ٢٤٤ ، ابن ماجه (عتق) ٢ / ٤٨٢ ، الترمذي (بيوع) ٢ / ٣٦٦ ، أحمد ٢ / ١٧٨ ، ١٨٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٩.

(٨) في ب : ليكون.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) سبق تخريجه آنفا.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(١٢) [التوبة : ٦٠] وهي الآية التي بينت مصارف الزكاة.


ابن عباس. وعلى هذا الخطاب لغير السادة ، لأنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع زكاته إلى مكاتبه (١). وقال الكلبي وعكرمة وإبراهيم : هو خطاب لجميع الناس ، وحث على معونة المكاتب ، لقوله عليه‌السلام : «من أعان مكاتبا في فك رقبته أطلقه الله في ظل عرشه» (٢)(٣).

فصل

إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم. فقيل : يموت رقيقا ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع. وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد (٤). وقيل : إن ترك وفاء لما بقي عليه من الكتابة كان حرا ، وإن كان فيه فضل فالزيادة (٥) لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء (٦) وطاوس والنخعي والحسن ، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي (٧).

فصل (٨)

ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال ، لأن عتقه معلق (٩) بالأداء ، وقد وجد ، ويتبعه الأولاد والأكساب كما في الكتابة الصحيحة. ويفترقان في بعض الأحكام ، وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء من النجوم. والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ، وتبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء من النجوم. وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع (١٠) المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالا.

قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ...) الآية» لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء (١١) على الفجور (١٢).

واعلم أن العرب تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ)(١٣) وقال : (تُراوِدُ فَتاها)(١٤) وقال : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ)(١٥).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٩.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٣ / ٤٨٧.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٩.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١١١.

(٥) في ب : والزيادة.

(٦) عطاء : سقط من ب.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١١١ ـ ١١٢.

(٨) هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ١١٢.

(٩) في ب : يعلق.

(١٠) في ب : مرجع.

(١١) في ب : الماء. وهو تحريف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢١.

(١٣) [الكهف : ٦٢].

(١٤) [يوسف : ٣٠].

(١٥) [النساء : ٢٥].


وقال عليه‌السلام (١) : «ليقل أحدكم : فتاي وفتاتي ، ولا يقل : عبدي وأمتي» (٢)(٣).

والبغاء : الزنا ، مصدر (٤) : بغت المرأة تبغي بغاء (٥) ، أي : زنت ، وهو مختص بزنا النساء (٦).

فصل

قال المفسرون : نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق ، كان له ست جوار (٧) معاذة ، ومسيكة ، وأميمة ، وعمرة ، وأروى ، وقتيلة ، يكرههن (٨) على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب يأخذها ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون (٩) إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين : فإن يكن خيرا فقد استكثرنا منه ، وإن كان شرا (١٠) فقد آن لنا أن ندعه فشكيا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزلت الآية (١١). وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوما ببرد ، وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : «ارجعا فازنيا» فقالتا : «والله لا نفعل وقد جاء الإسلام وحرم الزنا» فأتيا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وشكيا إليه ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ هذه الآية (١٢). وروي أن عبد الله بن أبيّ أسر رجلا ، فأراد الأسير جارية عبد الله ، وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت الجارية لإسلامها ، فأكرهها سيدها على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده ، فنزلت الآية (١٣). وروى أبو صالح (١٤) عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومعه جارية من أجمل النساء تسمى : معاذة ، وقال : يا رسول الله ، هذه لأيتام فلان ، أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها. فقال عليه‌السلام (١٥) : لا. فأعاد الكلام ، فنزلت الآية (١٦).

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه البخاري (عتق) ٢ / ٨٤ ، مسلم (ألفاظ) ٤ / ١٧٦٤ ـ ١٧٦٥ ، أبو داود (آداب) ٥ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ، أحمد ٢ / ٣١٦ ، ٤٢٣ ، ٤٨٤ ، ٤٩١ ، ٥٠٨.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٤) مصدر : سقط من ب وفيه : و.

(٥) في ب : بغيا.

(٦) اللسان (بغا).

(٧) جوار : سقط من ب ، وفي الأصل : جواري.

(٨) في الأصل : يكرهن.

(٩) في ب : مواجرون.

(١٠) في ب : وإن يكن سرا.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢١.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ١١٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٢. الدر المنثور ٥ / ٤٦٠.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢١ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٢٨٩.

(١٤) هو أبو صالح صاحب التفسير مولى أم هانىء بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ واسمه باذام ، ـ ويقال : باذان ـ كان لا يحسن أن يقرأ القرآن ، وكان الشعبي يراه فيقعد ، ويقول له تفسير القرآن ولا تحسن أن تقرأه نظرا. المعارف (٤٧٩).

(١٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢١.


فصل

الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس.

ومعنى قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي : إذ أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصنا ، كقوله عزوجل : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١) أي : إذ (٢) كنتم مؤمنين (٣). وقيل : إنما شرط إرادة التحصن ، لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإن لم ترد التحصن بغت طوعا ، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن لم تكن كارهة للزنا ، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها ، فامتنع الإكراه لامتناعه في نفسه (٤). وقيل : هذا الشرط لا مفهوم له ، لأنه خرج مخرج الغالب ، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن ، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ، ولكن (٥) لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)(٦) (مفهوم) (٧) ومنه قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ (٨) فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٩) والقصر(١٠) لا يختص بحال الخوف ، ولكنه أخرجه على الغالب ، فكذا ههنا (١١). وقال بعض العلماء: في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء(١٢) لتبتغوا عرض الحياة الدّنيا (١٣) ، أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد : من كسبهن وبيع أولادهن. والتحصن : التعفف.

قوله : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي : غفور رحيم للمكرهات ، والوزر على المكره ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : (لهنّ والله) (١٤).

وقال ابن الخطيب : فيه وجهان :

أحدهما : غفورا (١٥) لهنّ ، لأنّ الإكراه (يزيل الإثم) (١٦) والعقوبة عن المكره فيما فعل.

__________________

(١) [آل عمران : ١٣٩].

(٢) في ب : إذ.

(٣) انظر البغوي ٦ / ١١٣.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢٢.

(٥) في ب : ويمكن.

(٦) [البقرة : ٢٢٩].

(٧) مفهوم : تكملة من الفخر الرازي.

(٨) في الأصل : في سبيل الله. وهو تحريف.

(٩) [النساء : ١٠١].

(١٠) في ب : فالقصر.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢٢.

(١٢) في الأصل : على البغاء إن أردن تحصنا.

(١٣) قال الزجاج : (والمعنى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن أردن تحصنا ، ومعنى : «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» أي لا تكرهوهن على البغاء البتة ، وليس المعنى : لا تكرهوهن إن أردن تحصنا وإن لم يردن فليس لنا أن نكرههن) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٠.

(١٤) ما بين القوسين مكرر في الأصل.

(١٥) في ب : لغفور.

(١٦) ما بين القوسين سقط من ب.


والثاني : (فإنّ الله غفور رحيم) (١) بالمكره بشرط التوبة. وهذا ضعيف لأنه يحتاج إلى الإضمار ، والأول لا يحتاج إليه (٢). وفي هذا نظر ، لأنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط عند الجمهور كما تقدم تحقيقه (في البقرة) (٣)(٤).

قوله : (فَإِنَّ اللهَ) جملة وقعت جوابا للشرط ، والعائد على اسم الشرط محذوف ، تقديره : غفور لهم (٥). وقدره الزمخشري في أحد تقديراته (٦) وابن عطية (٧) وأبو البقاء (٨) : فإن الله غفور لهنّ ، أي : للمكرهات ، فعريت جملة الجزاء عن (٩) رابط يربطها باسم الشرط ، ولا يقال : إن الرابط هو الضمير المقدر الذي هو فاعل المصدر ؛ إذ التقدير : من بعد إكراههم (١٠) لهنّ ، فليكتف (١١) بهذا الرابط المقدر ، لأنهم لم يعدوا ذلك من الروابط ، تقول : هند عجبت من ضربها زيدا (١٢) فهذا جائز ، ولو قلت : هند عجبت من ضرب زيد : أي : من ضربها ، لم يجز ، لخلوها من الرابط وإن كان مقدرا(١٣). ولما

__________________

(١) ما بين القوسين في ب : غفور رحيم حسن.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٣) عند قوله تعالى : «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» [البقرة : ٩٧]. وذكر هناك ما ملخصه أنه لا يجوز أن يكون «فإنه نزله» جوابا للشرط ، لأنه لا بد في جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، فلا يجوز من يقم فزيد منطلق ، ولا ضمير في قوله : «فإنه نزله» يعود على «من» فلا يكون جوابا للشرط. انظر اللباب ١ / ٢٢٢.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٣.

(٦) الكشاف ٣ / ٧٦.

(٧) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٣.

(٨) التبيان ٢ / ٩٦٩.

(٩) في ب : على.

(١٠) في ب : إكراههنّ.

(١١) في ب : فليكبت. وهو تحريف.

(١٢) زيدا : سقط من الأصل.

(١٣) لأن الفاعل المحذوف لا يعد من الروابط ، أي أن الرابط إذا كان ضميرا وهو فاعل لم يجز حذفه ، ولذا قال بعضهم لا يجوز حذف الضمير (الرابط) إلا بخمسة شروط : أن لا يكون فاعلا ولا نائبا عنه ، ولا مؤديا إلى لبس نحو زيد ضربته في داره ، ولا إلى إخلال نحو زيد قام غلامه ، لأن حذفه يخل بالتعريف الذي استفاده الغلام منه ، ولا إلى التهيئة والقطع وذكر النحاة أن الخبر إذا كان جملة فإن كانت نفس المبتدأ في المعنى فلا تحتاج إلى رابط نحو أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله. وإن لم تكن نفس المبتدأ في المعنى ، فلا بد من وجود رابط يربطها بالمبتدأ يعود من جملة الخبر عليه ، وهو أحد هذه الأشياء :

أ ـ الضمير نحو زيد أبوه قائم ، ويحذف عند أمن اللبس نحو السمن منوان بدرهم أي منه.

ب ـ اسم الإشارة نحو قوله تعالى (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦].

ج ـ تكرار المبتدأ بلفظه نحو قوله تعالى (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١].

د ـ العموم نحو زيد نعم الرجل. وقول الشاعر : فأما القتال لا قتال لديكم.

ه ـ أو وقع بعدها جملة مشتملة على ضميره بشرط كونها إما معطوفة بالفاء نحو زيد مات عمرو فورثه ، وقوله :

وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو وتارات يجمّ فيغرق ـ


قدر الزمخشري «لهن» أورد سؤالا فقال : فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ، لأن المكرهة على الزنا بخلاف المكره (١) غير آثمة. قلت : لعلّ الإكراه غير ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل (٢) ، أو بما يخاف منه التلف ، أو فوات عضو حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة (٣).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٣٤)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) الآية.

لما ذكر الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث :

أحدها : قوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي : مفصلات. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر : «مبيّنات» بكسر الياء (٤) ، أي : أنها تبين للناس الحلال والحرام ، كقوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(٥) وتقدم الكلام في «مبيّنات» كسرا وفتحا (٦).

وثانيها : قوله : (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ). قال الضحاك : «يريد بالمثل (٧) ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن مثله» وقال مقاتل : «قوله : «ومثلا» أي : شبها من حالهم بحالكم في تكذيب الرسل» يعني : بينا لكم ما أحللنا بهم من العقاب لتمردهم على الله ، فجعلنا ذلك مثلا لكم ، وهذا تخويف لهم ، فقوله : «ومثلا» عطف على «آيات» أي : وأنزلنا مثلا من أمثال الذين من قبلكم (٨).

وثالثها : قوله : (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي : الوعيد والتحذير ، ولا شك أنه موعظة للكل ، وخصّ المتقين بالذكر لما تقدم في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٩)(١٠).

قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا

__________________

ـ قال هشام : أو الواو نحو زيد ماتت هند وورثها. وإما شرطا مدلولا على جوابه بالخبر نحو زيد يقوم عمرو إن قام. الهمع ١ / ٩٦ ـ ٩٨ ، الأشموني ١ / ١٩٥ ـ ١٩٧.

(١) في ب : المكرهة. وهو تحريف.

(٢) في ب : يقبل. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ٧٦.

(٤) في ب : الراء. وهو تحريف.

وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر وأبو جعفر ويعقوب.

السبعة ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، الكشف ١ / ٣٨٣ ، النشر ٢ / ٢٤٨ ـ الاتحاف ٣٢٤.

(٥) [الشعراء : ١٩٥].

(٦) عند قوله تعالى : «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» [النساء : ١٩].

(٧) في ب : المثل.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٣.

(٩) [البقرة : ٢].

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢٣.


غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٣٥)

قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. هذه جملة من مبتدأ وخبر ، إما على حذف مضاف ، أي : ذو نور السموات والمراد بالنور : عدله ، ويؤيد هذا قوله : «مثل نوره» (١) وأضاف (٢) النور لهذين الظرفين إما دلالة على سعة إشراقه ، وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض ، وإمّا لإرادة (٣) أهل السموات والأرض ، وأنهم يستضيئون به (٤). ويجوز أن يبالغ في العبادة على سبيل المدح كقولهم : فلان شمس البلاد وقمرها (٥) قال النابغة :

٣٨٣١ ـ فإنّك شمس والملوك كواكب

إذا ظهرت لم يبد (٦) منهنّ كوكب (٧)

وقال (آخر) (٨) :

٣٨٣٢ ـ قمر القبائل خالد بن يزيد (٩)

ويجوز أن يكون المصدر واقعا اسم الفاعل (١٠) ، أي : منوّر السّموات. ويؤيد هذا الوجه قراءة أمير المؤمنين (١١) وزيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي : «نوّر» فعلا ماضيا ، وفاعله ضمير الباري تعالى ، «السموات» مفعوله ، وكسره نصب ، و «الأرض» بالنصب نسق عليه (١٢). وفسّره الحسن فقال : «الله منوّر السّموات» (١٣).

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٧٧ ، التبيان ٢ / ٩٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(٢) في ب : فأضاف.

(٣) في ب : الإرادة. وهو تحريف.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(٦) في ب : يبدو.

(٧) البيت من بحر الطويل ، قاله النابغة الذبياني يمدح النعمان بن المنذر ، وهو في ديوانه (٧٤) ، المصون (٢١) ، أسرار البلاغة (١٦٠) ، القرطبي ١٢ / ٢٥٦ والبحر المحيط ٦ / ٤٥٥ ، والبيت أتى به شاهدا على أن إسناد نور السموات والأرض إلى الله تعالى على سنن العرب في تعبيرهم وأن القصد من ذلك هو المبالغة.

(٨) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٩) عجز بيت من بحر الكامل وصدره :

هلا خصصت من البلاد بمقصد

وهو في القرطبي ١٢ / ٢٥٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥ ، ولم يعز إلى قائل. والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(١١) المراد به : علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

(١٢) المختصر (١٠١) ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.


فصل(١)

قال ابن عباس : هادي أهل (٢) السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون. وقال الضحاك : منوّر السموات والأرض ، يقال : نوّر الله السماء بالملائكة ونوّر الأرض بالأنبياء. وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض.

وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزيّن السموات والأرض ، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقيل : بالنبات والأشجار. وقيل : معناه : الأنوار كلها منه ، كما يقال : فلان رحمة ، أي : منه الرحمة. وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح ، كقول القائل :

٣٨٣٣ ـ إذا سار عبد الله من مرو ليلة

فقد سار منها نورها وجمالها (٣)

قوله : «مثل نوره كمشكاة» مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة إيضاح وتفسير لما قبلها ، فلا محلّ لها ، وثمّ (٤) مضاف محذوف ، أي : كمثل مشكاة. قال الزمخشري : أي : صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة «كمشكاة» أي : كصفة (مشكاة) (٥)(٦). واختلفوا في الضمير في «نوره» : فقيل : هو الله تعالى (٧) ، أي : مثل نور الله ـ عزوجل ـ في قلب المؤمن ، وهو النور الذي يهتدى به ، كما قال : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)(٨). وكان ابن مسعود يقرأ «مثل نوره في قلب المؤمن» وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : «مثل نوره الذي أعطى المؤمن» وعلى هذا المراد بالنور : الإيمان ، والآيات البيّنات(٩).

وقيل : يعود على المؤمنين أو المؤمن ، أو من آمن به (١٠) ، أي مثل نور قلب المؤمن. وكان أبيّ يقرأ بهذه الألفاظ كلها (١١) ، وأعاد الضمير على ما قرأ به. والمراد بالنور : الإيمان

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ١١٤.

(٢) أهل : سقط من ب.

(٣) البيت من بحر الطويل ، وهو في القرطبي ١٢ / ٢٥٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥ ولم يعز إلى قائل.

المرو : شجر طيب الرائحة. ومرو : مدينة بفارس. والشاهد فيه أن الشاعر مدح ممدوحه بذلك على سبيل المبالغة.

(٤) في ب : أو ثم.

(٥) الكشاف ٣ / ٧٧.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢١ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٧ ، البيان ٢ / ١٩٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(٨) من قوله تعالى : «أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» [الزمر : ٢٢].

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٦ ، البيان ٢ / ١٩٥ والبحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(١٠) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢١ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٦ ، البيان ٢ / ١٩٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(١١) قال ابن قتيبة : (وكان أبيّ يقرأ «الله نور السموات والأرض مثل نور المؤمن» روى ذلك عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية) تأويل مشكل القرآن (٣٢٨). وقال ـ


والقرآن لقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ)(١) يعني : القرآن.

وقال سعيد بن جبير والضحاك : الضمير يعود على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ـ ولم يتقدم لهذه الأشياء ذكر. وأما عوده على المؤمنين في قراءة أبيّ ، ففيه إشكال من حيث الإفراد (٣). قال مكّيّ : يوقف على الأرض في هذه الأقوال الثلاثة (٤).

وقيل : أراد ب «النور» الطاعة ، سمى طاعة الله نورا ، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلا(٥).

فصل

واختلفوا في هذا التشبيه :

(هل هو) (٦) تشبيه مركب ، أي : أنه قصد تشبيه (٧) جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء ، بل قصد تشبيه هداه وإتقانه صنعته في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي يتخذونه ، وهو أبلغ صفات النور عندكم أو تشبيه غير مركب ، أي : قصد مقابلة جزء بجزء. ويترتب الكلام فيه بحسب الأقوال في الضمير في «نوره» (٨). و «المشكاة» : الكوّة غير النّافذة. وهل هي عربية أم حبشيّة معرّبة؟ خلاف (٩).

قال مجاهد : «هي القنديل» (١٠). وقيل : هي الحديدة أو الرّصاصة التي يوضع فيها الذّبال ، وهو الفتيل ، ويكون في جوف الزجاجة (١١).

وقيل : هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح (١٢). وقيل : ما يعلق منه القنديل من الحديدة (١٣). وأمال «المشكاة» الدّوري (١٤) عن الكسائي لتقدّم الكسر وإن

__________________

ـ ابن خالويه (مثل نور من «أنر به» أبيّ بن كعب) المختصر (١٠١) وانظر قراءة أبيّ بهذه الألفاظ كلها في تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(١) [المائدة : ١٥].

(٢) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢١ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(٣) لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(٤) لم أجد قول مكي في الكشف ، ولا في مشكل إعراب القرآن. انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(٥) في ب : تفضلا.

(٦) ما بين القوسين في ب : قيل.

(٧) في ب : للتنبيه.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٥.

(٩) قال الزجاج : (وقال : «كمشكاة» وهي الكوة ، وقيل : إنها بلغة الحبش ، والمشكاة من كلام العرب) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٣.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ١١٥.

(١١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٠٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(١٣) المرجعان السابقان.

(١٤) هو حفص بن عمر بن عبد العزيز ، أبو عمر الدوري الأزدي البغدادي شيخ الناس في زمانه ، وأول من ـ


وجد فاصل ورسمت بالواو ك «الزكوة» و «الصلواة» (١). والمصباح : السّراج الضّخم ، وأصله من الضوء ومنه الصبح. والزّجاجة : واحدة الزّجاج ، وهو جوهر معروف ، وفيه ثلاث لغات (٢) : فالضم : لغة الحجاز ، وبها قرأ العامة. والكسر والفتح : لغة قيس (٣). وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد (٤). وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في رواية عنه ، وأبو رجاء (٥). وكذلك الخلاف في قوله : «الزّجاجة». والجملة من قوله : «فيها مصباح» صفة ل «مشكاة» (٦) ، ويجوز أن يكون الجار وحده هو الوصف ، و «مصباح» مرتفع به فاعلا (٧).

قوله : «درّي». قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال ، وياء بعدها همزة. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياء بعدها همزة. والباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز (٨). وهذه الثلاثة في السبع. وقرأ زيد بن عليّ والضحاك وقتادة بفتح الدال وتشديد الياء (٩). وقرأ الزهري بكسرها وتشديد الياء (١٠).

وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وقتادة أيضا «درّيء» فتح الدال وياء بعدها همزة(١١) فأما الأولى فقراءة واضحة ، لأنه بناء كثير ، يوجد في الأسماء نحو : «سكّين» وفي الصفات نحو «سكّير». وأما القراءة الثانية فهي من «الدرء» بمعنى : الدفع ، أي : يدفع بعضها بعضا ، أو يدفع ضوؤها خفاءها.

__________________

ـ جمع القراءات قرأ بالقراءات بالسبع والشواذ مات سنة ٢٤٦ ه‍. طبقات القراء ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٧.

(١) السبعة (٤٥٥) الحجة لابن خالويه (٢٦٢) الاتحاف (٣٢٤).

(٢) قال ابن خالويه : (فيها ثلاث لغات : زجاجة وزجاجة وزجاجة) المختصر (١٠٢) وقال ابن جني : «فيها ثلاث لغات زجاجة وزجاجة وزجاجة بالفتح والضم والكسر وفي الجمع زجاج وزجاج وزجاج ، كنعامة ونعام ، ورقاقة ورقاق وعمامة وعمام) المحتسب ٢ / ١٠٩.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(٤) نسبها ابن خالويه (المختصر ١٠٢) وابن جني (المحتسب ٢ / ١٠٩) إلى نصر بن عاصم فقط ، ونسبها أبو حيان لهما. البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(٥) المختصر (١٠٢) ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(٦) التبيان ٢ / ٩٦٩.

(٧) هذا الوجه ماش على أن الجار والمجرور يعملان عمل الفعل فيكون المرفوع بعدهما فاعلا لمتعلق الجار والمجرور وهو استقر أو مستقر ، ولكن هذا الوجه ضعيف من جهة المعنى ، لأن الصفة لا بد من أن تفيد الموصوف تخصيصا ، أو مدحا أو ذما ، وهنا الجار إذا كان وحده هو الصفة لم يفد الموصوف شيئا فكان الأولى أن يقول : والجملة من الجار والمجرور وفاعله صفة ل «مشكاة».

(٨) السبعة (٤٥٥ ـ ٤٥٦) ، الحجة لابن خالويه (٢٦٢) ، الكشف ٢ / ١٣٧ ـ ١٣٨ النشر ٢ / ٣٣٢ ، الاتحاف (٣٢٤).

(٩) المختصر (١٠٢) ، المحتسب ٢ / ١١٠.

(١٠) أي دريّ. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(١١) المحتسب ٢ / ١١٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.


قيل : ولم يوجد شيء وزنه «فعّيل» (١) إلا «مرّيقا» للعصفر (٢) ، و «سرّيّة» على قولنا : إنها من السّرور ، وأنه أبدل من إحدى المضعّفات ياء ، وأدغمت فيها ياء «فعّيل» (٣) ، و «مرّيخا» للذي في داخل القرن (٤) اليابس ، ويقال بكسر الميم أيضا (٥) ، و «علّيّة» (٦) و «درّيء» في هذه القراءة ، و «درّيّة» أيضا في قول ، وقال (٧) بعضهم : وزن «دريء» في هذه القراءة «فعّول» كسبّوح قدّوس فاستثقل توالي الضم فنقل إلى الكسر (٨) ، وهذا منقول أيضا في «سرّيّة» و «درّيّة». وأما القراءة الثالثة فتحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون أصلها الهمز كقراءة حمزة إلا أنه أبدل من الهمز ياء ، وأدغم ، فيتحد معنى القراءتين. ويحتمل أن تكون نسبة إلى الدّرّ لصفائها ، وظهور (إشراقها) (٩)(١٠).

وأما قراءة تشديد الياء مع فتح الدال وكسرها ، فالذي يظهر أنه منسوب إلى الدّرّ. والفتح والكسر في الدال من باب تغييرات النسب. وأما فتح الدال مع المد والهمز (١١) ففيها إشكال.

قال أبو الفتح : وهو بناء عزيز لم يحفظ منه إلّا السّكّينة بفتح الفاء وتشديد العين (١٢).

__________________

(١) جاء في اللسان (درأ) : وكوكب دريّ على (فعيل) مندفع في مضيه من المشرق إلى المغرب من ذلك ، والجمع دراريء على وزن دراريع ، وقد درأ الكوكب دروءا ونقل ابن منظور عن ابن بري : في هذا المكان قد حكى سيبويه أنه يدخل في الكلام فعيل ، وهو قولهم للعصفر مريق ، وكوكب درّيء. وفي الكتاب قال سيبويه (ولا يكون (فعيل) ، ويكون على (فعيل) وهو قليل في الكلام ، قالوا المرّيق حدثنا أبو الخطاب عن العرب. وقالوا : كوكب درّيء وهو صفة) ٤ / ٢٦٨. وقال الفراء : (ولا تعرف جهة ضم أوله وهمزه لا يكون في الكلام فعّيل إلا عجميا) معاني القرآن ٢ / ٢٥٢. وقال الزجاج : (ولا يجوز أن يضم الدال ويهمز ، لأنه ليس في الكلام فعيل) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤.

(٢) المرّيق : حبّ العصفر ، وفي التهذيب : شحم العصفر. اللسان (مرق).

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(٤) في الأصل : القدر ، وفي ب : القراز. والصواب ما أثبته.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٦ ، وفي اللسان (مرخ) : المرّيخ سهم طويل له أربع قذذ يقتدر به الغلاء ، والمريخ الرجل الأحمق ، وقيل : كوكب من الخنس في السماء الخامسة وهو بهرام ، ولم يحك ابن منظور فيه في اللسان غير الكسر.

(٦) انظر اللسان (علا).

(٧) وقال : سقط من ب.

(٨) انظر اللسان (درأ) والبحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(٩) انظر الكشف ٢ / ١٣٨ ، البيان ٢ / ١٩٥ ، التبيان ٢ / ٩٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(١٠) ما بين القوسين في ب : إسراقها وإن كان الكوكب أكبر عنوا من الدر لكنه نفضل الكواكب بضيائه كما يفضل الدر سائر الحب.

(١١) في ب : والضمير. وهو تحريف.

(١٢) قال أبو الفتح : (الغريب من هذا «درّيء» بفتح الدال وتشديد الراء والهمز ، وذلك لأن «فعّيلا» (بالفتح وتشديد العين عزيز ، إنما حكي منه السكينة بفتح السين وتشديد الكاف ، حكاها أبو زيد) المحتسب ٢ / ١١٠.


قال شهاب الدين : وقد حكى الأخفش (١) فعلية السّكّينة والوقار ، وكوكب درّيء من (درأته)(٢). قوله : «توقد» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «توقّد» بزنة «تفعّل» فعلا ماضيا فيه ضمير فاعله يعود على «المصباح» ، ولا يعود على «كوكب» لفساد المعنى. والأخوان وأبو بكر : «توقد» بضم التاء من فوق وفتح القاف مضارع «أوقد» ، وهو مبني للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير يعود على «زجاجة» فاستتر في الفعل. وباقي السبعة كذلك إلا أنه بالياء من تحت (٣) ، والضمير (٤) المستتر يعود على «المصباح». وقرأ الحسن (٥) والسّلمي وابن محيصن ورويت عن عاصم من طريق المفضّل كذلك إلا أنه ضمّ الدّال ، جعله مضارع «توقّد» (٦) ، والأصل «تتوقّد» بتاءين فحذف إحداهما ك «تتذكّر» ، والضمير أيضا للزجاجة.

وقرأ عبد الله «وقّد» فعلا ماضيا بزنة «قتّل» مشددا (٧) ، أي : «المصباح» وقرأ الحسن وسلام (٨) أيضا «يوقّد» بالياء من تحت وضم الدال مضارع «توقد» (٩) ، والأصل «يتوقد» بياء من تحت وتاء من فوق ، فحذف التاء من فوق (و) (١٠) هذا شاذ ، إذ لم يتوال مثلان ، ولم يبق في اللفظ ما يدل على المحذوف ، بخلاف «تنزّل» و «تذكّر» وبابه ، فإن فيه تاءين ، والباقي يدل على ما فقد. وقد يتمحّل لصحته وجه من القياس ، وهو أنهم قد حملوا «أعد» و «تعد» و «نعد» على «يعد» في حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، فكذلك حملوا «يتوقّد» بالياء والتاء على «تتوقّد» بتاءين وإن لم يكن الاستثقال موجودا في الياء والتاء (١١).

__________________

(١) قال الأخفش : وقال : «فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ»[البقرة : ٢٤٨] و «السكينة» هي الوقار ، وأما الحديد فهو السكين ، مشدّد الكاف ، وقال بعضهم : هي السكين مثلها في التشديد إلا أنها مؤنثة فأنث ، والتأنيث ليس بمعروف ، وبنو قشير يقولون : سخين للسكين ، وقال : «وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً» [يوسف : ٣١] معاني القرآن ٢ / ٣٧٨.

(٢) الدر المصون ٥ / ١٠٦.

(٣) السبعة (٤٥٥ ـ ٤٥٦) ، الحجة لابن خالويه (٢٦٢) ٧ الكشف ٢ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الاتحاف (٣٢٥).

(٤) في ب : فالضمير.

(٥) الحسن : سقط من ب.

(٦) المختصر (١٠٢) ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦ ، الاتحاف (٣٢٥).

(٧) البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(٨) هو سلام بن سليمان الطويل أبو المنذر المزني مولاهم البصري ، ثقة جليل ومقرىء كبير ، أخذ القراءة عرضا عن عاصم بن أبي النجود ، وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما ، قرأ عليه يعقوب الحضرمي ، وهارون بن موسى الأخفش ، مات سنة ١٧١ ه‍. طبقات القراء ١ / ٣٠٩.

(٩) المحتسب ٢ / ١٠٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(١٠) ما بين القوسين تكملة ليست في المخطوط.

(١١) انظر المحتسب ٢ / ١١١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.


قوله : «من شجرة» من لابتداء الغاية ، وثمّ مضاف محذوف ، أي : من زيت (شجرة) (١)(٢). و «زيتونة» فيها قولان : أشهرهما : أنها بدل من «شجرة» (٣).

الثاني : أنها عطف بيان ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم أبو علي (٤). وتقدم هذا. في قوله : «من ماء صديد» (٥).

قوله : «لا شرقيّة» صفة ل «شجرة» (٦) ودخلت «لا» لتفيد النفي. وقرأ الضّحّاك بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي : لا هي شرقية ، والجملة أيضا في محل جر نعتا ل «شجرة» (٧). (قوله : «يكاد» هذه الجملة أيضا نعت ل «شجرة» (٨)) (٩).

قوله : (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) جوابها محذوف ، أي : لأضاءت ، لدلالة ما تقدم عليه ، والجملة حالية. وتقدم تحرير هذا في قولهم : أعطوا السائل ولو جاء على فرس. وأنها لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحالة (١٠). وقرأ ابن عباس والحسن : «يمسسه» بالياء (١١) ، لأن التأنيث مجازي ، ولأنه قد فصل بالمفعول أيضا (١٢).

فصل في كيفية هذا التمثيل

قال جمهور المتكلمين : معناه : أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء (١٣) إلى أقصى الغايات ، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي يكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح (يتّقد بزيت) (١٤) بلغ النهاية في الصفاء. فإن قيل : لم شبهه بذلك مع أن ضوء الشمس أعظم منه؟

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٦.

(٢) ما بين القوسين في ب : الشجرة.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٧٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(٤) ذهب الكوفيون والفارسي وابن جني والزمخشري إلى أن عطف البيان يجري في النكرات ، ومثلوا بقوله تعالى مِنْ «ماءٍ صَدِيدٍ»[إبراهيم : ١٦] وذهب البصريون إلى أنه لا يجري إلا في المعارف كذا نقله عنهم الشلوبين وقال ابن مالك : ولم أجد هذا النقل عنهم إلا من جهته. واحتجوا بأن الغرض في عطف البيان تبيين الاسم المتبوع وإيضاحه والنكرة لا يصح أن يبين بها غيرها ، لأنها مجهولة ولا يبين مجهول بمجهول وأجيب المجيزون بأن بعض النكرات أخص من بعض والأخص يبين الأعم ، وجوز الزمخشري تخالفهما ، وقد بينت ذلك عند الحديث عن قوله تعالى : «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي» [طه : ٢٩ ، ٣٠] البحر المحيط ٦ / ٤٥٧ ، الهمع ٢ / ١٢١ الأشموني ٣ / ٨٦.

(٥) من قوله تعالى : «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ» [إبراهيم : ١٦].

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٧٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٧٠.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(١١) المختصر (١٠٢) ، المحتسب ٢ / ١١١.

(١٢) انظر المحتسب ٢ / ١١١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(١٣) في الأصل : والجلال.

(١٤) ما بين القوسين في ب : بتقدير زيت. وهو تحريف.


فالجواب : أنه تعالى أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة ، لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات (وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات) (١) وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس ، لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص ، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة ، فلا (٢) جرم كان هذا المثل أليق وأوفق (٣).

فصل

اعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء.

فأولها : أن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته ، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أشد إنارة ، ويحقق ذلك أن المصباح ينعكس شعاعه من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض ، لما في الزجاجة من الصفاء والشفافة ، فيزداد بسبب ذلك الضوء والنور ، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف النور الظاهر ، حتى إنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء ، فإذا انعكست تلك الأشعة من كل جانب من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء (٤) وبلغت النهاية.

وثانيها : أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد فيه ، فإذا كان الدهن صافيا خالصا كانت حاله بخلاف حاله إذا كان كدرا ، وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت ، فربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه.

وثالثها : أن الزيت يختلف باختلاف شجرته ، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس (في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجا ، فكان زيته أكثر صفاء ، لأن زيادة تأثير الشمس) (٥) تؤثر في ذلك ، فإذا اجتمعت هذه الأمور وتعاونت صار ذلك الضوء خالصا كاملا ، فيصلح أن يجعل مثلا لهداية الله تعالى (٦).

فصل

قال بعضهم : «هذه الآية من المقلوب والتقدير : مثل نوره كمصباح في مشكاة ، لأن المشبه به هو الذي يكون معدنا للنور ومنبعا له ، وذلك هو المصباح لا المشكاة» (٧).

فصل

قال مجاهد : «المشكاة» : القنديل ، والمعنى : كمصباح في مشكاة. المصباح في

__________________

(١) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٢) في ب : ولا.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٤) في ب : الأضواء والأنوار.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٣.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٦.


زجاجة ، يعني : «القنديل» (١) قال الزجاج : إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار (٢) فيها أبين في (٣) كل شيء ، وضوؤه يزيد في الزجاج. ثم وصف الزجاجة فقال : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)(٤). والدّرّ : الدفع ، لأن الكواكب تدفع الشياطين من السماء. وشبيه حالة الدفع ، لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور. وقيل : «دري» أي : طالع ، يقال : درى (٥) النجم : إذا طلع وارتفع ، ويقال : هو من درأ الكوكب : إذا اندفع منقضا فيضاعف ضوؤه في ذلك الوقت (٦)) (٧) (ويقال : درأ علينا فلان ، أي : طلع وظهر (٨). وقيل : الدري أي ضخم مضى ، ودراري النجوم : عظامها. وقيل : الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام ، وهي : زحل ، والمريخ والمشتري ، والزهرة وعطارد (٩). وقيل : الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في المعظم الأول (١٠). فإن قيل : لم شبهه بالكوكب ولم يشبهه بالشمس والقمر؟.

فالجواب لأن الشمس والقمر يلحقها الخسوف ، والكواكب (١١) لا يلحقها الخسوف. «توقّد» يعني : المصباح ، أي : اتّقد. ويقال : توقدت النار ، أي : اتقدت ، يعني : نار الزجاجة ، لأن الزجاجة لا توقد. هذا على قراءة من ضم التاء وفتح القاف (١٢).

وأما على قراءة الآخرين ف «توقد» يعني المصباح (١٣)(مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) أي : من زيت شجرة مباركة ، فحذف المضاف بدليل قوله : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ). وأراد بالشجرة المباركة : الزيتون وهي كثيرة البركة والنفع : لأن الزيت يسرج به وهو أضوأ وأصفى الأدهان ، وهو إدام وفاكهة ، ولا يحتاج في استخراجه إلى عصار ، بل كل أحد يستخرجه. وقيل : أول شجرة نبتت بعد الطوفان ، وبارك فيها سبعون نبيا منهم الخليل. وجاء في الحديث أنه مصحة (١٤) من الباسور (١٥) ، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها (١٦). وقال عليه‌السلام (١٧) : «كلوا الزّيت وادهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» (١٨).

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١١٥.

(٢) في النسختين : النهار. والتصويب من معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤.

(٣) في الأصل : من.

(٤) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤.

(٥) في الأصل : درأ.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١١٥ واللسان (درأ).

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) انظر البغوي ٦ / ١١٦ ، اللسان (درأ).

(٩) المرجع السابق.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٧.

(١١) في ب : فالكواكب.

(١٢) وهي قراءة الأخوين وأبي بكر.

(١٣) تقدم قريبا.

(١٤) في ب : مضحة.

(١٥) الباسور : داء معروف ويجمع البواسير ، قال الجوهريّ : هي علة تحدث في المقعدة وفي داخل الأنف أيضا ، نسأل الله العافية منها ومن كل داء. اللسان (بسر).

(١٦) انظر البغوي ٦ / ١١٦ ـ ١١٧.

(١٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٨) أخرجه الترمذي (أطعمة) ٣ / ١٨٦ ـ ١٨٧.


وقيل : المراد زيتون الشام ، لأنه في الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه الشجرة بأنها «لا شرقية ولا غربية» واستدلوا على ذلك بوجوه :

أحدها : أن الشام وسط الدنيا ، فلا توصف شجرتها بأنها شرقية أو غربية. وهذا ضعيف ، لأن من قال : «الأرض كرة» لم يثبت للمشرق والمغرب موضعين معينين ، بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة ، لأن المثل مضروب لكل من (يعرف ، الزيت) (١) وقد) (٢) يوجد في (٣) غير الشام كوجوده فيه.

وثانيها : قال الحسن : «لأنها من شجر الجنة ، إذ (٤) لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية». وهذا أيضا ضعيف ، لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه ، وهم ما شاهدوا شجر الجنة.

وثالثها : أنها شجرة يلتف بها ورقها التفافا شديدا ، ولا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية ، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان. وهذا أيضا ضعيف ، لأن الغرض صفاء الزيت ، وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون ، وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله.

ورابعها : قال ابن عباس : «المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال (٥) ، أو صحراء واسعة (٦) ، فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب». وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة.

وقال الفراء (٧) والزجاج (٨) : «لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ، ولكنها (٩) شرقية غربية (١٠) ، كما يقال : فلان لا مسافر ولا مقيم (١١) ، إذا كان يسافر ويقيم (١٢) ، أي : تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها ، فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين ، فيكون زيتها أضوأ ، كما يقال : فلان ليس بأسود ولا أبيض ، يريد : ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص ، بل اجتمع فيه الأمران ، وهذا الرمان ليس بحلو (١٣) ولا حامض ، أي : اجتمع فيه الحلاوة والحموضة».

وهذا هو المختار ، لأن الشجرة إذا كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء ، وحينئذ يكون مقصود التمثيل أتم (١٤). وقيل : المراد ب «المشكاة» صدر محمد ، (و «الزجاجة» قلب محمد) (١٥) و «المصباح» ما في قلب محمد من الدين ، (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ)(١٦) يعني :

__________________

(١) الزيت : تكملة من الفخر الرازي.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في ب : ب.

(٤) إذ : سقط من ب.

(٥) في الأصل : عالي.

(٦) في الأصل : وسعة.

(٧) معاني القرآن ٢ / ٢٥٣.

(٨) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٥.

(٩) في الأصل : ولكن.

(١٠) في ب : وغربية.

(١١) في النسختين : لا يسافر ولا يقيم.

(١٢) في الأصل : لا يسافر ولا يقيم. وفي ب : لا يسافر ويقيم.

(١٣) في ب : بحلوا.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٦) في ب : توقد من شجرة مباركة.


(وَ (١) اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)(٢)» والشجرة : إبراهيم ، ثم وصف إبراهيم بقوله : «لا شرقيّة ولا غربيّة» أي : لا يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى ، بل كان عليه‌السلام (٣) يصلي إلى الكعبة (٤) ، ثم قال : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) لأن الزيت إذا كان خالصا ثم رئي (٥) من بعيد يرى كأن له شعاعا ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه كذلك.

قال ابن عباس : «يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد نورا على نور ، وهدى على هدى». وقال الضحاك : «يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي» (٦). قال عبد الله بن رواحة :

٣٨٣٤ ـ لو لم تكن فيه آيات مبينة

كانت بديهته تنبيك بالخبر (٧)

وقال محمد بن كعب القرظي : المشكاة : إبراهيم ، والزجاجة : إسماعيل والمصباح محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سماه الله مصباحا كما سماه سراجا فقال (وَسِراجاً مُنِيراً)(٨)(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) وهي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وسماه مباركا ، لأن أكثر الأنبياء من صلبه (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لم يكن إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ، ولكن كان حنيفا ، لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) يكاد محاسن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تظهر للناس من قبل أن يوحى إليه ، (نُورٌ عَلى نُورٍ) نبي من نسل نبي (نور محمد على نور إبراهيم (٩)) (١٠).

قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) خبر (١١) مبتدأ مضمر أي : ذلك نور (١٢) ، و (١٣) «على نور» صفة ل «نور». والمعنى : أن القرآن نور من الله ـ عزوجل ـ لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن ، فازدادوا بذلك نورا (١٤) على نور (١٥). (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

قال ابن عباس : «لدين الإسلام ، وهو نور البصيرة». وقيل : القرآن. (قال إن

__________________

(١) و : سقط من ب.

(٢) [النساء : ١٢٥].

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٨.

(٥) في الأصل : ثم رأى. في ب : ثم إذا رأى. والصواب ما أثبته.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٨.

(٧) البيت من بحر البسيط قاله عبد الله بن رواحة وهو في الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٨.

(٨) من قوله تعالى : «وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» [الأحزاب : ٤٦].

(٩) انظر البغوي ٦ / ١١٨ ـ ١١٩.

(١٠) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١١) في ب : خبرا. وهو تحريف.

(١٢) انظر الكشاف ٣ / ٧٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٠.

(١٣) و : سقط من ب.

(١٤) في ب : نور. وهو تحريف.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ١٢٠.


المؤمن يتقلب في خمسة أنوار : قوله نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصير إلى نور) (١). واستدل أهل السنة بهذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا : «إنه تعالى بعد أن بين أن هذه الدلائل التي بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه ، قال : (يَهْدِي اللهُ) بإيضاح هذه الأدلة «لنوره من يشاء» أي : وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان»(٢).

قوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) يبين الله الأشباه للناس ، أي : للمكلفين ، تقريبا لأفهامهم ، وتسهيلا لنيل الإدراك.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذا كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ، ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات (٣). قالت المعتزلة : قوله تعالى (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) ذكره في معرض النعمة ، وإنما يكون نعمة عظيمة لو أمكنكم الانتفاع به وتقدم جوابه (٤).

قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٨)

قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) الآية (٥).

واعلم أن قوله : «في بيوت» يقتضي محذوفا يكون فيها ، وذكروا فيه ستّة أوجه :

أحدها : أن قوله : «في بيوت» صفة ل «مشكاة» أي كمشكاة في بيوت ، أي : في بيت من بيوت الله (٦).

(الثاني : أنه صفة ل «مصباح» (٧)) (٨) وهذا اختيار أكثر المحققين.

واعترض عليه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين :

الأول : أن (٩) المقصود من ذكر «المصباح» المثل ، وكون المصباح في بيت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود ، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١٨ ـ ٢٣٩.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣٩.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : الآية الثاني أنه صفة للمصباح. الباء في «بيوت» تضم وتكسر لغة.

(٦) قاله الحوفي وتبعه الزمخشري. انظر البرهان ٦ / ٢٤٩ ، الكشاف ٣ / ٧٧ ، البيان ٢ / ١٩٦ البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(٧) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٣ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(٨) ما بين القوسين ذكر في ب بعد قوله : آية. ويبدو أنه سهو من الناسخ.

(٩) أن : سقط من ب.


والثاني : أن الذي تقدم ذكره فيه وجوه يقتضي كونه واحدا ، كقوله : (كَمِشْكاةٍ)(١) وقوله : (فِيها مِصْباحٌ)(١) وقوله : (فِي زُجاجَةٍ)(١) وقوله : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)(١) ، ولفظ «البيوت» جمع ، ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت.

وأجيب عن الأول : أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم ، فكان أضوأ ، فكان التمثيل به أتم وأكمل.

وعن الثاني : أنه لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في زجاجة يتوقد من الزيت ، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه (٢) يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى ، كقولك : «الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته» لكان وإن ذكر بلفظ الواحد ، فالمراد النوع ، فكذا ههنا (٣).

الثالث : أنه (٤) صفة ل «زجاجة» (٥) ..

الرابع : أنه يتعلق ب «يوقد» (٦) أي : يوقد في بيوت ، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض (٧). وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على «عليم» (٨).

الوجه الخامس : أنه متعلق بمحذوف كقوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ)(٩) أي : سبحوه في بيوت(١٠).

السادس : أنه متعلق ب «يسبّح» أي : يسبح رجال في بيوت ، و «فيها» تكرير للتوكيد كقوله : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها)(١١)(١٢) وعلى هذين القولين فيوقف على «عليم» (١٣).

قوله : (أَذِنَ اللهُ) في محل جر صفة ل «بيوت» ، و «أن ترفع» على حذف الجار ، أي : في أن ترفع. ولا يجوز تعلق «في بيوت» بقوله : «ويذكر» لأنه عطف

__________________

(١) من الآية السابقة.

(٢) في ب : يضؤه.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢.

(٤) أنه : سقط من ب.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٧٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(٦) نقله ابن عطية وأبو حيان عن الرماني. تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٠.

(٧) انظر القرطبي ١٢ / ٢٦٥.

(٨) انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (٢٦٨) ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(٩) من قوله تعالى : «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» [النمل : ١٢].

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٧٧.

(١١) من قوله تعالى : «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها» [هود : ١٠٨].

(١٢) انظر الكشاف ٣ / ٧٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٣ ، البيان ٢ / ١٩٦ ، التبيان ٢ / ٩٧١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٧.

(١٣) انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (٢٦٧) ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.


على ما في حيز «أن» وما بعد «أن» لا يتقدم عليها (١).

فصل

قال أكثر المفسرين : المراد ب «البيوت» ههنا : المساجد.

وقال عكرمة : هي البيوت كلها. والأول أولى ، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع، وأيضا فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة ، وذلك لا يليق إلا بالمساجد. ثم القائلون بأنها المساجد قال بعضهم : بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة. وبيت المقدس بناه داود وسليمان ـ عليهما‌السلام (٢) ـ ومسجد المدينة بناه النبي ـ عليه‌السلام (٣) ـ ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قاله ابن بريدة. وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل. وهذا تخصيص بغير دليل.

وقال ابن عباس : المراد جميع المساجد كما تقدم (٤).

قوله : «أن ترفع». قال مجاهد : تبنى (٥) كقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)(٦) ، وهو مرويّ عن ابن عباس. وقال الحسن والزجاج (٧) : تعظّم وتطهّر عن الأنجاس ولغو الأفعال. وقيل : مجموع الأمرين (٨)(وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).

قال ابن عباس : يتلى فيها كتابه. وقيل : عام في كل ذكر (٩)(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها).

قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء مبنيا للمفعول (١٠) ، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثّلاث(١١) ، والأولى منها بذلك الأوّل ، لاحتياج العامل إلى مرفوعه ، فالذي يليه أولى (١٢) ، و «رجال» على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين : إمّا بفعل مقدّر لتعذّر إسناد الفعل إليه ، وكأنّه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : «من يسبّحه»؟ فقيل : «يسبّحه رجال» (١٣) ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر :

٣٨٣٥ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح (١٤)

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٧١.

(٢) في ب : عليهما الصلاة والسلام.

(٣) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣.

(٥) في ب : يعني. وهو تحريف.

(٦) [البقرة : ١٢٧].

(٧) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٥.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤.

(١٠) السبعة (٤٥٦) ، الحجة لابن خالويه (٢٦٢) ، الكشف ٢ / ١٣٩ ، النشر ٢ / ٣٣٢ الإتحاف (٣٢٥).

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٧٨ ، التبيان ٢ / ٩٧١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.

(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٥ ، البيان ٢ / ١٩٦ ، التبيان ٢ / ٩٧١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.

(١٤) البيت من بحر الطويل ، قاله نهشل بن حري كما في الخزانة ، ونسب أيضا إلى لبيد ، والحارث بن ضرار النهشلي. وقد تقدم.


كأنه قيل : من يبكيه؟ فقيل : يبكيه ضارع ، إلّا أنّ في اقتباس هذا خلافا : منهم من (جوّزه وقاس) (١) عليه : «ضربت هند زيد» أي : ضربها زيد. ومنهم من منعه (٢).

والوجه الثاني في البيت أن «يزيد» منادى حذف منه حرف النّداء ، أي : ما يزيد وهو ضعيف جدا.

الثاني : أن «رجال» خبر مبتدأ محذوف ، أي : المسبّحة رجال (٣).

وعلى هذه القراءة يوقف على «الآصال» (٤). وباقي السبعة بكسر الباء مبنيا للفاعل (٥) ، والفاعل «رجال» فلا يوقف على «الآصال» (٦). وقرأ ابن وثّاب وأبو حيوة «تسبّح» بالتاء من فوق ، وكسر الباء (٧) ، لأن جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحكام ، وهذا منها (٨). وقرأ أبو جعفر كذلك إلّا أنه فتح (الباء) (٩)(١٠). وخرّجها الزمخشري على إسناد الفعل إلى (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) على زيادة الباء ، كقولهم : «صيد عليه يومان» (والمراد : وحشهما) (١١)(١٢). وخرّجها غيره (١٣) على أن القائم مقام الفاعل ضمير

__________________

(١) ما بين القوسين في ب : جوزواس. وهو تحريف.

(٢) أي أنه اختلف في القياس على ذلك ، فذهب الجمهور أنه لا ينقاس ، والمرفوع في الآية والبيت خبر مبتدأ محذوف والتقدير : المسبح له رجال ، والباكي ضارع.

وجوزه الجرمي ، وابن جني حيث لم يلتبس النائب بالفاعل فجوزا : أكل الطعام زيد ، وشرب الماء عمرو ، بالبناء للمفعول فيهما.

وعلى ذلك فلو قيل : يوعظ في المسجد رجال. لا يجوز رفع (رجال) بفعل محذوف لاحتماله المفعوليه والرفع بالنيابة عن الفاعل فيقع اللبس ، فيجب أن يكون مرفوعا على النيابة عن الفاعل بخلاف : يوعظ في المسجد رجال زيد. فإنه يجوز أن يجعل (زيد) فاعل فعل محذوف لعدم احتماله للمفعولية ، لأن الفعل المبني للمفعول رفع (رجال) على النيابة عن الفاعل ، ونائب الفاعل لا يكون إلا واحدا كالفاعل.

شرح التصريح ١ / ٢٧٤ ، الهمع ١ / ١٦٠.

(٣) التبيان ٢ / ٩٧١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.

(٤) انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (٢٦٨).

(٥) السبعة (٤٥٦) الحجة لابن خالويه (٢٦٢) ، الكشف ٢ / ١٣٩ ، النشر ٣٣٢ الإتحاف (٣٣٥).

(٦) للفصل بين الفعل وفاعله. انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (٢٦٧).

(٧) المختصر (١٠٢) ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.

(٨) أي أن جمع التكسير إذا كان فاعلا يجوز أن يؤنث له الفعل ، على تقدير الجماعة وهو تأنيث مجازي.

(٩) المختصر (١٠٢) ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.

(١٠) ما بين القوسين في ب : التاء. وهو تحريف.

(١١) قال الزمخشري : (ووجهها أن يسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء وتجعل الأوقات مسبّحة والمراد ربها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما) الكشاف ٣ / ٧٨.

(١٢) ما بين القوسين في ب : أي وحشها.

(١٣) وهو أبو حيان.


التّسبيحة ، أي : تسبّح التّسبيحة على المجاز المسوّغ لإسناده إلى الوقتين ، كما خرجوا قراءة أبي جعفر أيضا : (لِيَجْزِيَ قَوْماً)(١) أي : «ليجزى الجزاء قوما» (٢) ، بل هذا أولى من آية الجاثية ، إذ ليس هنا مفعول صريح.

فصل

اختلفوا في هذا التسبيح. فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة الصبح والعصر ، فقال : كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما (٣) ، وقال عليه‌السلام (٤) : «من صلى صلاة البردين دخل الجنة» (٥). وقيل : أراد الصلوات المفروضة ، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الفجر ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الأصيل يجمعهما (٦) ، و «الآصال» جمع أصيل ، وهو العشي.

وإنما وحد «الغدو» لأنه مصدر في الأصل لا يجمع ، و «الأصيل» اسم فجمع.

قال الزمخشري : «بالغدو ، أي بأوقات الغد ، أي بالغدوات» (٧).

وقيل : صلاة الضحى ، قال عليه‌السلام (٨) : «من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهّر ، فأجره كأجر الحاجّ المحرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر ، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في علّيّين» (٩). وقال ابن عباس : «إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله (مذكورة) (١٠) (وتلا هذه) (١١) الآية (١٢). وقيل : المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله ؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ)(١٣). وهذا الوجه أظهر (١٤).

وقرىء : «بالغدو والإيصال» (١٥) وهو الدخول في الأصل (١٦).

قوله : «لا تلهيهم» في محل رفع صفة ل (١٧) «رجال». (و) (١٨) خص الرجال

__________________

(١) [الجاثية : ١٤]. وهي بضم الياء وفتح الزاي مبنيّا للمفعول. النشر ٢ / ٣٧٢.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤.

(٤) في ب : عليه الصلاة السلام.

(٥) أخرجه البخاري (مواقيت الصلاة) ١ / ١٠٩ ، مسلم (مساجد) ١ / ٤٤٠ الدارمي (صلاة) ١ / ٣٣٢ ، أحمد ٤ / ٨٠.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٢٢.

(٧) الكشاف ٣ / ٧٨.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) أخرجه أبو داود (صلاة) ١ / ٣٧٨.

(١٠) مذكورة : تكلمة من الفخر الرازي.

(١١) في النسختين : وتوريهده. والصواب ما أثبته.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤.

(١٣) من الآية (٣٧) من سورة نفسها.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤.

(١٥) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٨.

(١٦) انظر الكشاف ٣ / ٨٧.

(١٧) ل : سقط من ب.

(١٨) و : تكملة ليست بالمخطوط.


بالذكر في هذه المساجد ، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد (١). «لا (٢) تلهيهم» : تشغلهم ، «تجارة» قيل : خص التجارة بالذكر ، لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات.

قال الحسن : أما والله إنهم كانوا يتجرون ، ولكن إذا جاءتهم فرائض الله لم يلههم عنها شيء ، فقاموا بالصلاة والزكاة (٣). فإن قيل : البيع داخل في التجارة ، فلم أعاد البيع؟ فالجواب من وجوه (٤) :

الأول : أن التجارة جنس يدخل تحته أنواع الشراء والبيع ، وإنما خص البيع بالذكر لأن الالتهاء به أعظم ، لكون (٥) الربح الحاصل من البيع معين ناجز ، والربح الحاصل من الشراء مشكوك مستقبل.

الثاني : أن البيع تبديل العرض بالنقدين (٦) ، والشراء بالعكس ، والرغبة في تبديل النقد أكثر من العكس.

الثالث : قال الفراء : التجارة لأهل الجلب ، يقال : تجر فلان في كذا : إذا جلبه من غير بلده ، والبيع ما باعه على يديه (٧).

الرابع : أراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعا ، لأنه ذكر البيع بعده كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً)(٨) يعني : الشراء (٩).

قوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) عن حضور المساجد لإقامة الصلاة. فإن قيل : فما معنى قوله : «وإقام الصّلاة؟» فالجواب قال ابن عباس : المراد بإقامة الصلاة : إقامتها لمواقيتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة.

ويجوز أن يكون قوله : «الصّلاة» تفسيرا لذكر الله ، فهم يذكرون قبل الصلاة (١٠).

قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء ، لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل : إقواما ، ولكن قلبت الواو ألفا ، فاجتمعت ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي : أقمت الصلاة إقاما ، فأدخلت الهاء عوضا من المحذوف ، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة ، وهذا إجماع من النحويين (١١).

__________________

(١) انظر القرطبي ١٢ / ٢٧٩.

(٢) لا : سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤.

(٤) في ب : وجهين. وهو تحريف.

(٥) في ب : لأن.

(٦) في ب : بالتعديل.

(٧) معاني القرآن ٢ / ٢٥٣.

(٨) [الجمعة : ١١].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤ ـ ٥.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥.

(١١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٦.


فصل

المراد : الصلوات المفروضة لما روى سالم (١) (عن) (٢) ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة ، فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم ، فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت هذه الآية : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ)(٣).

وقوله : (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) يريد : المفروضة. قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها (٤). وروي عن ابن عباس أيضا : المراد من الزكاة : طاعة الله والإخلاص. وهذا ضعيف لأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء (٥) ، وهذا لا يحتمل إلا ما يعطى من حقوق المال (٦). قوله : (يَخافُونَ يَوْماً) يجوز أن يكون نعتا ثانيا ل «رجال» ، وأن يكون حالا من مفعول «تلهيهم» (٧) و «يوما» مفعول به لا ظرف على الأظهر (٨) ، و «تتقلّب» صفة ل «يوما».

قوله : «تتقلّب فيه القلوب والأبصار» : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتنفتح الأبصار من الأغطية بعد أن كانت مطبوعة عليها لا تبصر ، وكلهم انقلبوا من الشك إلى اليقين ، كقوله : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(٩) وقوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(١٠). وقيل : تتقلب القلوب تطمع في النجاة وتخشى الهلاك ، وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤخذ أمن (١١) ناحية اليمين أم (١٢) من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم ، أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟

والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل ، لأنهم قالوا : إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة ، وأهل العقاب لا يرجون العفو. وقيل : إن القلوب تزول من أماكنها فتبلغ الحناجر ، والأبصار تصير زرقا (١٣). وقيل : تقلب البصر : شخوصه من هول الأمر وشدته (١٤).

__________________

(١) هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، العدوي ، أبو عمر ، أحد الفقهاء السبعة ، وردت الرواية عنه في حروف القرآن. مات سنة ١٠٦ ه‍. طبقات القراء ١ / ٣٠١.

(٢) عن : سقط من الأصل.

(٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٦ ـ ٥١٧ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٤.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٢٦.

(٥) في ب : علق الإيتاء بالزكاة.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٧١.

(٨) وذلك على حذف مضاف أي : يخافون حساب يوم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، لأن الزمان والمكان محلان للحدث ، ولا يقع الحدث عليهما.

(٩) [الزمر : ٤٧].

(١٠) [ق : ٢٢].

(١١) في النسختين : من.

(١٢) في ب : أو.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥ ـ ٦.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ١٢٦ ـ ١٢٧.


(وقال الجبائي : تقلب القلوب والأبصار) (١) : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب. قال : ويجوز أن يريد به تقليبها على جمر (٢) جهنم كقوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٣) (٤).

قوله : «ليجزيهم». يجوز تعلقه ب «يسبّح» أي : يسبّحون لأجل الجزاء (٥).

ويجوز تعلقه بمحذوف ، أي : فعلوا ذلك ليجزيهم (٦). وظاهر كلام الزمخشري أنه من باب الإعمال ، فإنه قال : والمعنى : يسبّحون ويخافون (ليجزيهم» (٧)) (٨). ويكون على إعمال الثاني للحذف (٩) من الأول (١٠). وقوله : (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي : ثواب أحسن (١١) ، أو أحسن جزاء ما عملوا ، و «ما» مصدرية (١٢) ، أو بمعنى الذي ، أو نكرة.

فصل

المراد بالأحسن : الحسنات أجمع ، وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن لأنه لا يجازيهم على مساوىء أعمالهم ، بل يغفرها لهم.

وقيل : يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشر إلى سبعمائة (١٣). ثم قال : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي : ما لم يستحقوه بأعمالهم. فإن قيل : هذا يدل على أن لفعل (١٤) الطاعة أثر في استحقاق الثواب ، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل ، وأنتم لا تقولون بذلك ، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئا؟ قلنا : نحن نثبت الاستحقاق بالوعد ، فذلك (١٥) القدر هو الذي يستحق ، والزائد عليه هو الفضل (١٦). ثم قال : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) وذلك تنبيه على كمال قدرته ، وكمال جوده ، وسعة إحسانه ، فكأنه تعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة ، وهم مع ذلك في نهاية الخوف ، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم (١٧).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) في النسختين : جسر.

(٣) [الأنعام : ١١٠].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦.

(٥) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٩ ، التبيان ٢ / ٩٧١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٩.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٥٩.

(٧) الكشاف ٣ / ٧٨.

(٨) ما بين القوسين في ب : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا.

(٩) في النسختين : المحذوف ، والصواب ما أثبته.

(١٠) هذا مذهب البصريين في أولى العاملين في التنازع وهو إعمال الثاني لقربه من العامل ، ومذهب الكوفيين إعمال الأول. انظر الإنصاف ١ / ٦٨٣.

(١١) أي على حذف مضاف. تفسير ابن عطية ١٠ / ٥١٩ ، والبحر المحيط ٦ / ٤٥٩.

(١٢) الكشاف ٣ / ٧٨.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦.

(١٤) في ب : الفعل.

(١٥) في ب : بذلك.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦.

(١٧) المرجع السابق.


قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ)(٤٠)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) الآية.

لما بيّن حال المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور ، وبسببه يكون متمسكا بالعمل الصالح ، ثم بين أنه يكون في الآخرة فائزا بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، أتبع ذلك ببيان أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران ، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات ، وضرب لكل واحد منهما مثلا ، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ)(١).

قال الأزهري : «السّراب : ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيها بالماء الجاري وليس بماء ، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جاريا ، يقال : سرب الماء يسرب سروبا : إذا جرى ، فهو سارب» (٢). وقيل : السّراب : ما يتراءى للإنسان في القفر في شدّة الحرّ ممّا يشبه الماء (٣). وقيل : ما يتكاثف من قعور القيعان (٤). قال الشاعر :

٣٨٣٦ ـ فلمّا كففت (٥) الحرب كانت عهودهم

كلمع سراب في الفلا متألّق (٦)

يضرب به المثل لمن يظنّ بشيء خيرا فيخلف (٧) ظنّه. وقيل : هو الشّعاع الذي يرى نصف النّهار في شدة الحرّ في البراري (٨) ، يخيّل للناظر أنه الماء السّارب ، أي : الجاري ، فإذا قرب منه لم ير شيئا (٩). والآل (١٠) : ما ارتفع من الأرض ، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاة (١١) يرفع الشخوص ، يرى فيها الصغير كبيرا ، والقصير طويلا (١٢).

__________________

(١) في ب : بقيعة يحسبه الظمآن ماء. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦.

(٢) انظر تهذيب اللغة (سرب) ١٢ / ٤١٦.

(٣) الكشاف ٣ / ٧٨.

(٤) قال أبو حيان : (قال الكرماني : السراب بخار يرتفع من قعور القيعان ، فيكيف ، فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه من بعيد). البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(٥) في ب : كعفت.

(٦) البيت من بحر الطويل لم أقف على قائله ، وهو في الحماسة البصرية ١ / ٨٩ ، القرطبي ١٢ / ٢٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(٧) في ب : خير يحلف. وهو تحريف.

(٨) في ب : التواري. وهو تحريف.

(٩) انظر اللسان (سرب) ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(١٠) في ب : الأول. وهو تحريف.

(١١) الملاة : فلاة ذات حرّ ، والجمع ملا. اللسان (ملا).

(١٢) اللسان (أول).


والرّقراق : يكون بالعشايا. وهو ما ترقرق من السراب ، أي : جاء وذهب (١).

قوله : «بقيعة» فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف على أنه صفة ل «سراب» (٢).

والثاني : أنه ظرف ، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه (٣).

والقيعة : بمعنى القاع ، قاله الزمخشري ، وهو المنبسط من الأرض (٤) ، وتقدم في «طه» (٥).

وقيل : بل هي جمعه ك «جار وجيرة» قاله الفراء (٦). وقرأ مسلمة بن محارب (٧) بتاء (ممطوطة(٨)) (٩) ، وروي عنه بتاء شكل الهاء ، ويقف عليها بالهاء (١٠) ، وفيها أوجه :

أحدها : أن يكون بمعنى «قيعة» كالعامة ، وإنّما أشبع الفتحة فتولّد منها ألف كقوله : مخرنبق لينباع (١١). قاله صاحب اللوامح (١٢).

والثاني : أنه جمع : «قيعة» وإنّما وقف عليها بالهاء ذهابا به مذهب لغة طيىء في قولهم : «الإخوه والأخواه» و «دفن البناه من المكرماه» (١٣) أي : والأخوات ، والبنات ، والمكرمات (١٤). وهذه القراءة تؤيد أن «قيعة» جمع قاع.

__________________

(١) اللسان (رقق). وانظر تفسير البغوي ٦ / ٩٧١.

(٢) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، والتبيان ٢ / ٩٧١.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٧١.

(٤) الكشاف ٣ / ٧٨.

(٥) عند الحديث عن قوله تعالى : «فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفا ً» [طه : ٦٠١].

(٦) قال الفراء : (القيعة جمع القاع واحدها قاع ، كما قالوا : جار وجيرة) معاني القرآن ٢ / ٢٥٤.

(٧) هو مسلمة بن عبد الله بن محارب أبو عبد الله الفهري البصري النحوي ، له اختيار في القراءة ، لا أعلم على من قرأ عليه شهاب بن شرنفة. طبقات القراء ٢ / ٢٩٨.

(٨) قال ابن خالويه :(«كسراب بقيعات» بالمجمع مسلمة بن محارب) المختصر (١٠٢).

وانظر أيضا المحتسب ٢ / ١١٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٠ والتاء الممطوطة هي ما تسمى بالتاء المفتوحة.

(٩) ما بين القوسين في ب : مربوطة. وهو تحريف.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٠.

(١١) المخرنبق : المطرق الساكت الكاف. وقيل : هو المطرق المتربّص بالفرصة ، وقيل : هو الذي لا يجيب إذا كلم. وقوله : لينباع : أي ليثب. أمالي القالي ٢ / ٥١. وهو مثل يضرب به في الرجل يطيل الصمت حتى يحسب مغفلا ، وهو ذو نكراء. اللسان (خرنق).

وأتى بهذا المثل شاهدا على أنهم قد يشبعون الفتحة فيتولد بعدها ألف ، وقد جاء في اللسان (نبع) (ويقال : انباع الشجاع ينباع انبياعا إذا تحرك من الصف ماضيا ، فهذا ينفعل لا محالة لأجل ماضيه ومصدره). وعلى هذا فلا شاهد.

(١٢) سبقه إلى ذلك ابن جني. انظر المحتسب ٢ / ١١٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٤٦٠.

(١٣) قال ابن عصفور : (وأبدلت من تاء التأنيث في الاسم في حال الإفراد في الوقف ، نحو طلحة وفاطمة.

وحكى قطرب عن طيىء أنهم يفعلون ذلك بالتاء من جمع المؤنث السالم فيقولون : كيف الإخوة والخواه ، وكيف البنون والبناه) الممتع ١ / ٤٠٢.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٠.


قال الزمخشري : وقد جعل بعضهم (١) «بقيعاة» بتاء مدوّرة ك «رجل عزهاة» (٢).

فظاهر (٣) هذا أنه جعل هذا بناء مستقلا ليس جمعا ولا إشباعا.

قوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) جملة في محل الجر صفة ل «سراب» أيضا (٤) ، وحسن ذلك لتقدم الجار على الجملة ، هذا إن جعلنا الجارّ صفة والضمائر المرفوعة في «جاءه» ، وفي «لم يجده» وفي «وجد» ، والضمائر في «عنده» وفي «وفّاه» وفي «حسابه» كلها ترجع إلى «الظّمآن» لأن المراد به الكافر المذكور أولا ، وهذا قول الزمخشري (٥). وهو حسن.

وقيل : بل الضميران في «جاءه» و «وجد» عائدان على «الظّمآن» ، والباقية عائدة على الكافر (٦). وإنما أفرد الضمير على هذا وإن تقدمه جمع ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) حملا على المعنى ؛ إذ المعنى : كلّ واحد من الكفار (٧).

والأول أولى لاتّساق الضمائر. وقرأ أبو جعفر ، ورويت عن نافع : «الظّمان» بإلقاء حركة الهمزة على الميم (٨).

فصل

قال الزجاج : «(الظّمآن) قد تخفف همزته ، وهو الشديد العطش (٩) ، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثوابا مع أنه يعتقد أن له ثوابا عليه ، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أنه ثوابا ، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثوابا عند الله تعالى ، فإذا وافى عرصة (١٠) القيامة ولم (١١) يجد الثواب ، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه ، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الشراب ويتعلق قلبه به ، ويرجو به (١٢) النجاة ، فإذا جاءه وأيس مما

__________________

(١) وهو ابن جني قال : (وذلك أن نظير قولهم : قيعة وقيعاة في أنه فعلة وفعلاة لمعنى واحد قولهم : رجل عزه وعزهاة : الذي لا يقرب النساء واللهو ، فهذا فعلة وفعلاة ، ولا فرق بينهما غير الهاء ، وذلك ما لا بال به) المحتسب ٢ / ١١٣.

(٢) الكشاف ٣ / ٧٨.

(٣) في ب : وظاهر.

(٤) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٢.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٧٨.

(٦) وهذا معنى قول أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٠ ـ ٤٦١.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٠.

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٧.

(١٠) العرصة : كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. اللسان (عرص).

(١١) في ب : لم.

(١٢) في ب : ويرجو. وهو تحريف.


كان يرجوه عظم ذلك عليه» (١). قال مجاهد : «السراب : عمل الكافر وإتيانه إياه موته (٢) ومفارقة الدنيا» (٣).

فإن قيل : قوله : (حَتَّى إِذا جاءَهُ) يدل على كونه شيئا ، وقوله : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) مناقض له؟

فالجواب من وجوه :

الأول : معناه : لم يجد شيئا نافعا ، كما يقال : فلان ما عمل شيئا ، وإن كان قد اجتهد.

الثاني : «إذا جاءه» أي : جاء موضع السراب لم يجد السراب ، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة ، كأنه (٤) ضباب وهباء ، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء (٥).

قوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي : وجد عقاب الله عنده الذي توعد به الكافر (٦).

وقيل : وجد الله عنده ، أي : عند عمله ، أي وجد الله بالمرصاد.

وقيل : قدم على الله (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي : جزاء عمله (٧). قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام (٨).

قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلا يشق (٩) عليه الحساب(١٠).

وقال بعض المتكلمين : «معناه : لا تشغله محاسبة أحد عن آخر كنحن (١١) ، ولو كان يتكلم بآلة كما تقول المشبهة (١٢) لما صح ذلك» (١٣).

قوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ) هذا مثل آخر ضربة الله تعالى لأعمال الكفار ، وفي هذا العطف أوجه :

أحدها : أنه نسق على «كسراب» على حذف مضاف واحد ، تقديره : أو كذي ظلمات ، ودل على هذا المضاف قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. وهو قول أبي علي (١٤).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧.

(٢) موته : سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧.

(٤) في الأصل : فإنه. وفي ب : كناه. وما أثبتناه من الفخر الرازي.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧ ـ ٨.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨.

(٧) انظر القرطبي ١٢ / ٢٨٣.

(٨) الكشاف ٣ / ٧٨.

(٩) في ب : يسبق. وهو تحريف.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨.

(١١) في ب : لنحن. وهو تحريف.

(١٢) في ب : للشبه. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨.

(١٤) قال أبو علي : (معناه : أو كذي ظلمات. ويدل على المحذوف المضاف قوله : «إِذا أَخْرَجَ» والضمير الذي أضيف إليه «يد» يعود إلى المضاف المحذوف ، ومعنى ذي ظلمات : أنه في ظلمات) الحجة ٦ / ٥.


الثاني : أنه على حذف مضافين (١) ، تقديره : أو كأعمال ذي ظلمات فيقدّر «ذي» ليصح عود الضمير إليه في قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) ويقدر «أعمال» ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة ، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة (٢).

الثالث : (٣) أنه لا حاجة إلى حذف البتّة ، والمعنى (٤) : أنه شبّه أعمال الكفّار في حيلولتها بين القلب وما يهتدي به بالظلمة.

وأما الضميران في (أَخْرَجَ يَدَهُ) فيعودان على محذوف دلّ عليه المعنى ، أي : إذا أخرج يده من فيها (٥) و «أو» هنا للتنويع لا للشك (٦). وقيل : بل هي للتخيير ، أي : «شبهوا أعمالهم بهذا(٧) أو بهذا (٨). وقرأ سفيان (٩) بن حسين : «أو كظلمات» بفتح الواو (١٠) ، جعلها عاطفة (١١) دخلت عليها همزة الاستفهام التي معناها التقرير (١٢) ، وقد تقدم ذلك في (١٣) قوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى)(١٤). قوله : «في بحر لجّيّ» : «في بحر» صفة ل «ظلمات» فيتعلق بمحذوف (١٥). واللّجيّ : منسوب إلى «اللّجّ» وهو معظم (١٦) البحر قاله الزمخشري (١٧).

وقال غيره : منسوب إلى اللّجّة بالتاء ، وهي أيضا معظمه (١٨). فاللّجّيّ : هو العميق الكثير الماء ، وفيه لغتان : كسر اللام ، وضمها (١٩).

قوله : (يَغْشاهُ مَوْجٌ) صفة أخرى ل «بحر» (٢٠) هذا إذا أعدنا الضمير في «يغشاه» على «بحر» وهو الظاهر. وإن قدّرنا مضافا محذوفا ، أي : «أو كذي ظلمات» كما فعل

__________________

(١) في ب : مضاف. وهو تحريف.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٧٢.

(٣) في ب : الثاني. وهو تحريف.

(٤) في ب : فالمعنى.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٧٢.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(٧) بهذا : سقط من ب.

(٨) وهو قول الكرماني. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(٩) في ب : ابن سفيان. وهو تحريف.

(١٠) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(١١) في ب : عاطفت. وهو تحريف.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(١٣) في : سقط من ب.

(١٤) من قوله تعالى : «أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ» [الأعراف : ٩٨]. انظر اللباب ٤ / ٧٥.

(١٥) انظر التبيان ٢ / ٩٧٣.

(١٦) في ب : يعظم.

(١٧) قال الزمخشري : (اللّجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر) الكشاف ٣ / ٧٨.

(١٨) قال ابن عطية : (واللجيّ معناه ذو اللّجّة ، وهي معظم الماء وغمره) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٢ وقال أبو حيان : (اللجّيّ : الكثير الماء ولجة البحر معظمه وكأن لجيّا منسوب إلى اللّجّة) البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(١٩) في اللسان (لجج) : ولجّج القوم إذا وقعوا في اللّجّة. قال الله تعالى«فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» قال الفراء : بحر لجّي ولجّيّ كما يقال : سخريّ وسخريّ ، ويقال : هذا لجّ البحر ولجّة البحر.

(٢٠) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٣.


بعضهم (١) كان الضمير في «يغشاه» عائدا عليه ، وكانت الجملة حالا منه لتخصيصه (٢) بالإضافة ، أو صفة له (٣). قوله (٤) : «من فوقه موج» يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر (٥) صفة ل «موج» الأول (٦) ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط ، و «موج» فاعل به ، لاعتماده على الموصوف (٧) ، قوله : (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) فيه الوجهان المذكوران قبله (٨) من كون الجملة صفة ل «موج» الثاني ، أو الجار فقط.

قوله : «ظلمات». قرأ العامة بالرفع (٩) ، وفيه وجهان :

أجودهما : أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هذه أو تلك ظلمات (١٠).

الثاني : أن يكون «ظلمات» مبتدأ ، والجملة من قوله : (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) خبره ، ذكره الحوفي (١١) وفيه نظر ، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ، اللهم إلا أن يقال : إنها موصوفة تقديرا ، أي: ظلمات كثيرة متكاثفة (١٢) ، كقولهم : «السمن منوان بدرهم» (١٣).

وقرأ ابن كثير : «ظلمات» بالجر ، إلا أنّ البزّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من «سحاب» فقرأ البزّيّ عنه : (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بإضافة «سحاب» ل «ظلمات». وقرأ قنبل عه التنوين في «سحاب» كالجماعة مع جره ل (١٤) «ظلمات» (١٥). فأما رواية البزّي فقال أبو البقاء : جعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب (١٦). وأما رواية قنبل فإنه جعل «ظلمات» بدلا من «ظلمات» الأولى(١٧).

قوله : (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين في «ظلمات» قبلها لأنها صفة لها (١٨). وجوّز الحوفي على قراءة رفع «ظلمات»

__________________

(١) وهو قول أبي علي الفارسي.

(٢) في ب : لتخصيصها. وهو تحريف.

(٣) فتكون الجملة في محل نصب إذا كانت حالا ، ومحل جر إذا كانت صفة.

(٤) قوله : سقط من ب.

(٥) في ب : وخبره.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٧٣.

(٧) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٣.

(٨) في قوله تعالى :«مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ».

(٩) عدا ابن كثير : السبعة (٤٥٧) الكشف ٢ / ١٣٩ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٥).

(١٠) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٣. وجوّز ابن الأنباري أن يكون بدلا من «سحاب».

(١١) البرهان في علوم القرآن ٦ / ٢٥١.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(١٣) المحذوف في هذا القول هو الرابط بين جملة الخبر وبين المبتدأ وتقديره : منوان منه ، وهذا المقدر صفة ل (منوان) ، وهو الذي سوّغ الابتداء بالنكرة.

(١٤) في ب : ك. وهو تحريف.

(١٥) السبعة (٤٥٧) ، الكشف ٢ / ١٣٩ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٥).

(١٦) التبيان ٢ / ٩٧٣.

(١٧) انظر التبيان ٢ / ٩٧٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(١٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.


في «بعضها» أن تكون بدلا من «ظلمات» (١) ورد عليه من حيث المعنى ، (إذ المعنى) (٢) على الإخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض وصفا لها بالتّراكم ، لا أنّ المعنى أنّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة (٣).

وفيه نظر ، إذ لا فرق بين قولك : بعض الظلمات فوق بعض ، وبين قولك : الظلمات بعضها فوق بعض ، وإن تخيّل ذلك في بادىء الرأي.

قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها). تقدم الكلام في «كاد» وأنّ بعضهم زعم أنّ نفيها إثبات وإثباتها نفي ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٤).

وقال الزمخشري هنا : (لم يكد يراها) مبالغة في (لم يرها) أي : لم يقرب أن يراها فضلا (عن) (٥) أن يراها ، ومنه قوله ذي الرمة :

٣٨٣٧ ـ إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٦)

أي : لم يقرب من البراح فما باله يبرح (٧). وقال أبو البقاء : اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ، ومنشأ الاختلاف فيه أنّ موضوع «كاد» إذا نفيت وقوع الفعل ، وأكثر المفسرين على أن المعنى : أنه لا يرى يده (٨) ، فعلى هذا في (٩) التقدير ثلاثة أوجه :

أحدها : أن التقدير : لم يرها ولم يكد ، ذكره جماعة من النحويين (١٠) ، وهذا خطأ لأن قوله : «لم يرها» جزم بنفي الرؤية ، وقوله : «لم يكد» إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير : ولم يكد يراها ، كما هو مصرّح به في الآية ، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جهد ، تناقض ، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها.

وإن كان معنى (١١)(لَمْ يَكَدْ يَراها) لم يرها البتّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدّر «لم يرها» (١٢).

__________________

(١) قال الحوفي :(«ظلمات» رفع على إضمار مبتدأ ، أي : تلك أو هي و «بعضها» بدل من «ظلمات») البرهان ٦ / ٢٥١.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(٤) [البقرة : ٧١] ، انظر اللباب ١ / ١٧٩.

(٥) عن : تكملة من الكشاف.

(٦) البيت من بحر الطويل قاله ذو الرمة وقد تقدم.

(٧) الكشاف ٣ / ٧٨ ـ ٧٩.

(٨) في ب : هذه.

(٩) في : سقط من ب.

(١٠) منهم أبو عبيدة ، انظر مجاز القرآن ٢ / ٦٧ ، والزجاج ، انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٨.

(١١) في الأصل : المعنى.

(١٢) قال الأخفش : (وقوله : «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» حمل على المعنى ، وذلك أنه لا يراها ، وذلك أنك إذا قلت : كاد يفعل : إنما تعني قارب الفعل ولم يفعل ، فإذا قلت لم يكد يفعل كان المعنى أنه لم ـ


الوجه الثاني : قال الفراء (١) : إن (كاد) زائدة (٢). وهو بعيد.

الثالث : أن «كاد» خرّجت هاهنا على معنى «قارب» والمعنى : لم (٣) يقارب رؤيتها ، وإذا لم يقاربها باعدها ، وعليه جاء قول ذي الرمة في البيت المتقدم ، أي : لم يقارب البراح ، ومن هنا حكي عن ذي الرّمة أنه لما روجع في هذا البيت قال : (لم أجد) بدل (لم يكد) (٤).

والمعنى الثاني : أنه رآها بعد جهد ، والتشبيه على هذا صحيح ، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدّ نظره إلى يده وقرّبها من عينه رآها (٥) انتهى.

أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين (إنه يكون نفيها إثباتا ، فقد تقدم أنه غير صحيح ، وليس هو قول الأكثر) (٦) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة ، وما أنشد بعضهم :

٣٨٣٨ ـ أنحويّ (٧) هذا العصر ما هي لفظة

البيتين (٨).

__________________

ـ يقارب الفعل ولم يفعل على صحة الكلام ، وهكذا معنى هذه الآية. إلا أن اللغة قد أجازت لم يكد يفعل ، في معنى : فعل بعد شدة وليس هذا صحة الكلام ، لأنه إذا قال : كاد يفعل ، فإنما يعني قارب الفعل ، وإذا قال : لم يكد يفعل ، يقول : لم يقارب الفعل ، إلا أن اللغة جاءت على ما فسر لك ، وليس هو على صحة الكلمة) معاني القرآن ٢ / ٥٢٥ ، وقال المبرد : (فأما قول الله عزوجل «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» فمعناه ـ والله أعلم ـ : لم يرها ولم يكد أي لم يدن من رؤيتها) المقتضب ٣ / ٧٥.

(١) لم ينسب أبو البقاء القول بزيادة (كاد) إلى الفراء ، وقد نسب ابن عادل القول بالزيادة إلى أبي بكر بن الأنباري وغيره ونسب الرضيّ في شرح الكافية الزيادة إلى الأخفش وأبو حيان في البحر إلى ابن الأنباري.

(٢) قال الرضي : (وعند الأخفش يجوز زيادة كاد) شرح الكافية ٢ / ٣٠٧ ، وقال أبو حيان (والزيادة قول ابن الأنباري) البحر المحيط ٦ / ٤٦٢.

(٣) لم : سقط من ب.

(٤) انظر ذلك في الخزانة ٩ / ٣١١ ـ ٣١٢.

(٥) التبيان ٢ / ٩٧٣ ـ ٩٧٤.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) في ب : وهو نحوي.

(٨) البيتان بتمامهما :

أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

وهما من الطويل لأبي العلاء العمري ، وأجاب ابن مالك على هذا اللغز بقوله :

نعم هي (كاد المرء أن يرد الحمى)

فتأتي لإثبات نفسي ورود

وفي عكسها (ما كاد أن يرد الحمى)

فخذ نظمها فالعلم غير بعيد

انظر الدرر اللوامع ١ / ١١٠ وقال ابن مالك في شرح الكافية الشافية : (قد اشتهر القول بأن (كاد) إثباتها نفي ونفيها إثبات حتى جعل هذا المعنى لغزا فقيل ، وهذا اللغز للمعري :

أنحوي هذا العصر ما هي لفظة ـ


وأما ما ذكره من زيادة «كاد» فهو قول أبي بكر (١) وغيره ، ولكنه مردود عندهم.

وأما ما ذكره من المعنى الثاني ، وهو أنه رآها بعد جهد ، فهو مذهب الفراء (٢) والمبرد (٣). والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري ، وهو المبالغة في نفي الرؤية (٤).

وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد «كاد» منفيّا دلّ على ثبوته ، نحو : «كاد زيد لا يقوم» ، أو مثبتا دلّ على نفيه ، نحو : «كاد زيد يقوم» وتقول : «كاد النّعام (٥) يطير» (٦) فهذا يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت : «كاد النعام ألا يطير» وجب الطيران له ، وإذا تقدم النفي على «كاد» احتمل أن يكون موجبا وأن يكون منفيا ، تقول : «المفلوج (٧) لا يكاد يسكن» فهذا يتضمّن نفي السكون ، وتقول : «رجل منصرف لا يكاد يسكن» فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد (٨).

فصل

اعلم أن الله تعالى بين أنّ أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب ، وإن كانت قبيحة فهي الظلمات ، وفيه وجه آخر ، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة ، وإما كظلمات في بحر (٩) وذلك في الدنيا. وقيل : إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم ، وأنهم لا يحصلون (١٠) منها على شيء ، والآية الثانية في ذكر عقائدهم ، فإنها تشبه الظلمات ، كما قال : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(١١) (١٢) أي : من الكفر إلى

__________________

ـ البيتين. ومراد هذا القول (كاد). ومن زعم هذا ليس بمصيب. بل حكم (كاد) حكم سائر الأفعال في أنّ معناها منفي إذا صحبها حرف نفي ، وثابت إذا لم يصحبها ، فإذا قال قائل (كاد زيد يبكي) قارب زيد البكاء.

المقاربة ثابتة ، ونفس البكاء منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المبالغة) ١ / ٤٦٦ ـ ٤٦٧.

وانظر بقية كلامه في ص ٤٧٨ ـ ٤٧٩ من نفس المرجع.

(١) تقدم.

(٢) قال الفراء : (وقال بعضهم : إنما هو مثل ضربه الله ، فهو يراها ولكنه لا يراها إلا بطيئا ، كما تقول : ما كدت أبلغ إليك وأنت قد بلغت ، وهو وجه العربية) معاني القرآن ٢ / ٢٥٥.

(٣) قال المبرد : (فأما قول الله ـ عزوجل ـ «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» فمعناه ـ والله أعلم ـ لم يرها ولم يكد. أي : لم يدن من رؤيتها) المقتضب ٣ / ٧٥.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٧٨.

(٥) في ب : النعيم. وهو تحريف.

(٦) في مجمع الأمثال (كاد النعام يطير) يضرب لقرب الشيء مما يتوقع منه ، لظهور بعض أماراته) ٢ / ١٦٢ ، وانظر المقتضب ٣ / ٧٤ ، الكامل ١ / ٢٥٣.

(٧) الفالج : هو داء معروف يرخّي بعض البدن ، والمفلوج صاحب الفالج. اللسان (فلج).

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤.

(٩) في ب : في بحر لجي.

(١٠) في الأصل : لا يخلصون.

(١١) من قوله تعالى : «اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» [البقرة : ٢٥٧].

(١٢) ما بين القوسين في الأصل : يخرجهم من النور إلى الظلمات. وهو تحريف.


الإيمان ، يدل عليه قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ)(١).

فصل

وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا بسبب غور الماء ، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ، فالواقع في قعر هذا البحر اللّجّيّ في نهاية شدة الظلمة. ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب (٢) ما يراها ، وأبعد ما يظن أنه لا يراها ، فقال تعالى : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات ، ثم شبه الكافر في اعتقاده ، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ)(٣) وفي قوله : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ)(٤). ولهذا قال أبي بن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة (٥) ، ومصيره إلى الظلمات إلى النار.

وفي كيفية هذا التشبيه وجوه :

الأول : قال الحسن : «إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر ، وظلمة الأمواج ، وظلمة السحاب ، كذا (٦) الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل».

الثاني : قال ابن عباس : «شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث».

الثالث : أن الكافر لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، ويعتقد أنه يدري ، فهذه المراتب الثلاث تشبه تلك الظلمات الثلاث (٧).

الرابع : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم.

الخامس : أن هذه الظلمات متراكمة ، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه (٨).

قوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

قال ابن عباس : من لم يجعل الله له دينا وإيمانا فلا دين له (٩). وقيل : من لم (١٠) يهده الله (فلا إيمان له) (١١) ولا يهديه (١٢) أحد (١٣). قال أهل السنة : إنه تعالى لما وصف

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨.

(٢) في ب : قرب.

(٣) من الآية (٢٥) من السورة نفسها.

(٤) [الحديد : ١٢].

(٥) في ب : ظلم.

(٦) في ب : كذلك.

(٧) الثلاث : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨ ـ ٩.

(٩) انظر القرطبي ١٢ / ٢٨٥.

(١٠) لم : سقط من الأصل.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) في ب : فلا.

(١٣) انظر القرطبي ١٢ / ٢٨٦.


هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ)(١) ، ولما وصف ضلالة (٢) الكافر (٣) بأنها في نهاية الظلمة عقبه بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). والمراد من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان ، وظلمة الطريق لا تمنع منه ، فإن الكل مربوط بخلق الله وهدايته وتكوينه (٤).

قال القاضي : قوله (٥) : (ومن لم يجعل الله له نورا) يعني (٦) في الدنيا بالإلطاف (فما له من نور) أي : لا يهتدي فيتحير (٧) ، وتقدم الكلام عليه.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٤٢)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية.

لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد.

والمعنى (٨) : ألم تعلم ، لأن (٩) التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب ، وهذا استفهام والمراد به: التقرير والبيان. قال ابن الخطيب : «إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزها عن النقائص ، موصوفا بنعوت الجلال ، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان.

والأول أقرب ، لأن القسم الثاني متعذر ، لأن في (١٠) الأرض من لا يكون مكلفا لا يسبح بهذا المعنى ، والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضا بهذا المعنى كالكفار.

وأما القسم الثاني (١١) وهو أن يقال : إن من (١٢) في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة ، فهذا يقتضي (١٣) استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا ، وهو غير جائز ، فلم يبق إلا

__________________

(١) من الآية (٢٥) من السورة نفسها.

(٢) في الأصل : إضلاله.

(٣) في ب : الكافرين.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩.

(٥) في ب : في قوله.

(٦) يعني : سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩.

(٨) في ب : فالمعنى.

(٩) في الأصل : أن.

(١٠) في : سقط من ب.

(١١) في النسختين : الثاني. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٢) من : سقط من ب.

(١٣) في ب : مقتضى.


القسم الأول ، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله ، فسمى ذلك تنزيها توسعا. فإن قيل : فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء؟ قلنا : لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه ، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر ، وهي العقل والنطق والفهم» (١).

قوله : «والطّير». قرأ العامة : «والطّير» رفعا ، «صافّات» نصبا. فالرفع عطف على «من» والنصب على الحال (٢). وقرأ الأعرج : «والطّير» نصبا على المفعول معه ، و «صافّات» حال أيضا (٣). وقرأ الحسن وخارجة عن نافع : والطير صافّات» برفعهما (٤) على الابتداء والخبر ، ومفعول «صافّات» محذوف ، أي : أجنحتها.

قوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ) في هذه الضمائر أقوال :

أحدها : أنّها كلّها عائدة على «كلّ» (٥) ، أي : كلّ قد علم هو صلاة نفسه وتسبيحها ، وهذا أولى لتوافق الضمائر.

الثاني : أن الضمير في «علم» عائد إلى الله تعالى ، وفي (صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) عائد على «كلّ» ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

الثالث : بالعكس ، أي : علم كلّ صلاة الله وتسبيحه ، أي : اللذين أمر بهما وبأن يفعلا ، كإضافة الخلق إلى الخالق (٦) ، وعلى هذا فقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) استئناف.

ورجّح أبو البقاء ألّا يكون الفاعل ضمير «كلّ» قال : «لأنّ القراءة برفع (كلّ) على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه ، ولو كان فيه ضمير الله (٧) لكان الأولى نصب (كلّ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك : (زيدا ضرب عمرو وغلامه) فتنصب (زيدا) بفعل دلّ عليه ما بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز» (٨). قال شهاب

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩ ـ ١٠.

(٢) أي أن «الطير» بالرفع عطف على «من» و «صافات» بالنصب على الحال. انظر التبيان ٢ / ٩٧٤ البحر المحيط ٦ / ٤٦٣.

(٣) المختصر (١٠٢) ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٣.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٣.

(٥) جوّز الزمخشري عود الضمير على «كل» أو لفظ الجلالة. قال : (والضمير في «علم» ل «كل» أو «الله» كذلك في «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ») الكشاف ٣ / ٧٩ ، وانظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٢.

(٦) قال الفراء : (وقوله : «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» ترفع كلّا بما عاد إليه من ذكره ، وهي الهاء في «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» وإن شئت جعلت العلم لكل أي كل قد علم صلاته وتسبيحه ، فإن شئت جعلت الهاء صلاة نفسه وتسبيحها ، وإن شئت تسبيح الله وصلاته التي نصليها له وتسبيحها ، وفي القول الأول : كل قد علم الله صلاته وتسبيحه) معاني القرآن ٢ / ٢٥٥. وانظر أيضا البحر المحيط ٦ / ٤٦٣.

(٧) في ب : اسم الله.

(٨) التبيان ٢ / ٩٧٤.


الدين : وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصّورة ولا في هذه السورة (١) ، بل نصّ النحويون على أنّ مثل هذه الصورة يرجّح رفعها بالابتداء على نصبها (٢) على الاشتغال ، لأنه لم يكن ثمّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحة للنصب ، والنصب (٣) يحوج إلى إضمار ، والرفع لا يحوج إليه ، فكان أرجح (٤). وقرأت فرقة : «علم صلاته وتسبيحه» بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله. ذكرها أبو (٥) حاتم (٦).

فصل

وجه اتصال هذا بما قبله (٧) أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون ، ذكر المستقرين في الهواء (٨) الذي هو بين السماء والأرض ، وهم الطير يسبحون ، وذلك أن إعطاء (٩) الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه ، وجعل طيرانها سجودا منها له سبحانه ، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه (لا النطق) (١٠) اللساني (١١). وقال (١٢) أبو ثابت : «كنت جالسا عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ (قال : لا) (١٣) قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن». واستبعد المتكلمون ذلك(١٤) فقالوا (١٥) : الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا ، لكنها ليست كذلك ، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصانا من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور ، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى ، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق ، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم (١٦). قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وإذا كان كذلك (فلم لا) (١٧) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه (١٨) وتسبيحه؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه :

__________________

(١) في ب : الصورة. وهو تحريف.

(٢) في ب : نصبهما.

(٣) في ب : فالنصب.

(٤) الدر المصون ٥ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٥) في ب : ابن. وهو تحريف.

(٦) نسب ابن خالويه هذه القراءة إلى قتادة قال :(«كل قد علم صلاته» ما لم يسم فاعله قتادة) المختصر (١٠٢) ، وانظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٦.

(٧) في ب : هذه بما قبلها.

(٨) في الأصل : الهوى.

(٩) في ب : أعضاء.

(١٠) ما بين القوسين في ب : والنطق. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠.

(١٢) في ب : قال.

(١٣) قال لا : تكملة من الفخر الرازي.

(١٤) في ب : بذلك.

(١٥) في ب : فقال.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠ ـ ١١.

(١٧) ما بين القوسين في ب : ولا.

(١٨) ودعاءه : سقط من ب.


أحدها : أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه ، وربما عاود (١) يشمه (٢) ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضا بالواحد وصدمة بالأخرى ، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به ، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة.

وثانيها : أمر النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين.

وثالثها : انتقال الكراكيّ (٣) من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلبا لما يوافقها من الأهوية ، ويقال : من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتا ما ، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق (٤) الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله ، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال له : القطقاط وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس (٥) ذلك الطائر كالشوكة ، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من تلك الشوكة ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر ، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعترا (٦) جبليا ثم تعود من ذلك (٧). وحكى بعض الثقاة (٨) المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ، ولا تزال كذلك ، وكان ذلك الشخص قاعدا في كن ، وكانت البقلة قريبة من مسكنه ، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة ، فعاد الحبارى إلى منبتها فلم يجدها ، وأخذ يدور حول منبتها دورانا متتابعا حتى خرّ ميتا ، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة ، وتلك البقلة هي الجرجير (٩) البري.

وابن عرس (١٠) يستظهر في الحية أكل السّذاب (١١) ، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى.

والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح. وإذا جرحت اللقالق (١٢) بعضها

__________________

(١) في ب : عاد.

(٢) في ب : ويشمه.

(٣) الكراكيّ : جمع الكركيّ طائر. اللسان (كرك).

(٤) في ب : بخالق. وهو تحريف.

(٥) رأس : سقط من ب.

(٦) في ب : سعترا. الصعتر : من البقول. قال ابن سيده : هو ضرب من النبات واحدته صعترة. اللسان (صعتر).

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١.

(٨) في ب : التفات.

(٩) في النسختين : الجور. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٠) ابن عرس : دوبية معروفة دون السّنور ، أشتر أصلم أصكّ له ناب ، والجمع بنات عرس ذكرا كان أو أنثى معرفة ونكرة. اللسان (عرس).

(١١) السذاب : جنس نباتات طبية من الفصيلة السذابية ، له رائحة قوية خاصة. المعجم الوسيط (سذب).

(١٢) اللقلاق : طائر من الطيور القواطع وهو كبير طويل الساقين والعنق والمنقار أحمر الساقين والرجلين والمنقار. المعجم الوسيط (لقلق).


بعضا دوات (١) الجراحة بالصعتر (٢) الجبلي. والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها ، وكان رجل بالقسطنطينية (٣) قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس بإنذاره ، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور ، فيستدل به.

والخطّاف (٤) صانع (٥) في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب لتحمل جناحاه قدرا (٦) من الطين ، وإذا فرّخ بالغ في تعهد الفراخ ، وتأخذ ذرقها (٧) بمنقارها وترميها عن العش ، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة (٨) ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب الفراخ. وناقر الخشب قلما يقع على الأرض ، بل على الشجر ينقر الموضع يعلم أن فيه دودا. والغرانيق (٩) تصعد في الجو عند الطيران ، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب (١٠) أو ضباب أحدثت (١١) عن أجنحتها حفيفا مسموعا يتبع به بعضهم بعضا ، فإذا (١٢) باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلّا القائد (١٣) فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه ، وإذا سمع جرسا صاح. وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضا أمر عجيب ، وإذا كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم ، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت.

والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب «طبائع الحيوان» (١٤). والمقصود من

__________________

(١) في الأصل : دوات.

(٢) في ب : بالصقر.

(٣) القسطنطينية : هي بيزنطية القديمة أعاد بناءها قسطنطين الكبير ودعاها القسطنطينية مقر الامبراطور ، وأصبحت عاصمة العثمانيين عندما دخلها محمد الفاتح. المنجد ٤٣٩.

(٤) الخطّاف : طائر ، ابن سيدة : والخطاف العصفور الأسود ، وهو الذي تدعوه العامة عصفور الجنة ، وجمعه خطاطيف ، قال ابن الأثير : الخطّاف : الطائر المعروف. اللسان (خطف) وفي ب : وللخطاف.

(٥) في الأصل : صناع. وفي ب : صنائع.

(٦) في الأصل : قدا. وهو تحريف.

(٧) ذرق الطائر : خرؤه ، وذرق الطائر يذرق ويذرق ذرقا وأذرق : خذق بسلحه وذرق. والخرء بالضم : العذرة. اللسان (ذرق ، خرأ).

(٨) القبج : الحجل ، والقبج : الكروان ، معرب ، والقبجة تقع على الذكر والأنثى حتى تقول يعقوب فيختص بالذكر ، لأن الهاء إنما دخلته على أنه الواحد من الجنس. اللسان (قبج).

(٩) الغرانيق جمع الغرنوق ، والغرنيق : طائر أبيض ، وقيل : هو طائر أسود من طير الماء طويل العنق.

اللسان (غرنق).

(١٠) في ب : سحابا.

(١١) في النسختين : أخذت.

(١٢) في ب : وإذا.

(١٣) في ب : العابد. وهو تحريف.

(١٤) طبائع الحيوان لابن بختيشوع الطبيب أبو عبد الله بن جبرئيل المتوفى سنة ٤٥١. كشف الظنون ٢ / ١٠٩١.


ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنها تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس (١) ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٢). ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

قرأ الجمهور بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه (٣).

وقرأ عيسى والحسن بالتاء من فوق ، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى (٤) وفي مصحف أبيّ وابن مسعود : «والله بصير بما تفعلون» (٥).

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تنبيه على أن الكل منه ، لأن كل ما سواه ممكن ومحدث ، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب ، ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض ، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم (٦).

وقوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) وهذا دليل على المعاد ، وأنه (٧) لا بدّ من مصير الكل إليه (٨).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(٤٤)

وهذه الرؤية بصرية. والإزجاء : السوق قليلا قليلا ، ومنه البضاعة المزجاة (٩) التي يزجيها كل أحد ، وإزجاء السير في الإبل : الرفق بها حتى تسير شيئا شيئا (١٠).

قوله : «بينه» إنما دخلت «بين» على مفرد ، وهي إنّما تدخل على مثنى فما فوقه ، لأنّه إما أن يراد بالسحاب : الجنس ، فعاد الضمير عليه على حكمه ، وإما أن يراد حذف مضافه أي : بين قطعه ، فإن كل قطعة سحابة (١١). قال (١٢) ابن عطية : بين مفترق السحاب ، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجا (١٣). وورش عن نافع لا يهمز

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١ ـ ١٢.

(٢) من قوله تعالى : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» [الإسراء : ٤٤].

(٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٦.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٤ ، الإتحاف (٣٢٥).

(٥) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٦.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢.

(٧) في ب : فإنه.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢.

(٩) في الأصل : المزجات.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣ ، اللسان (زجا).

(١١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٥٦ ، التبيان ٢ / ٩٧٤.

(١٢) في ب : وقال.

(١٣) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٧.


«يؤلّف». وقالون عن نافع والباقون يهمزون «يؤلّف» (١).

قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي : متراكما يركب (٢) بعضها على البعض ويتكاثف ، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما بالريح عصر (٣) بعضه بعضا فخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً)(٤) ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت :

٣٨٣٩ ـ كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة (٥) أر(٦)خاهما للمفصل (٧)

وروي : «للمفصل» بكسر الميم وفتح الصاد. فالمفصل : واحد المفاصل. والمفصل : اللسان. وروي بالقاف. أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت ، أي : من عصير العنب ، وهذه من عصير السحاب ، نقله ابن عطية (٨). وقال أهل الطبائع : إن تكوين (٩) السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار ، وفي الأقل من تكاثف الهواء.

أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلا وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء ، وإن كان البخار كثيرا ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ.

فإن بلغت فإما أن يكون البرد قويا أو لا يكون. فإن لم يكن البرد هنا قويا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر ، فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ، والديمة (١٠) والوابل (١١) إنما يكون من أمثال هذه الغيوم. وإن كان البرد شديدا فلا يخلوا إما أن يصل البرد إلى الأجزاء (١٢) البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك. فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجا. وإن كان على الوجه الثاني نزل بردا فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة.

__________________

(١) السبعة (٤٥٧) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(٢) في ب : نزلت. وهو تحريف.

(٣) في ب : يعصر.

(٤) [النبأ : ١٤].

(٥) في النسختين : زجاجة.

(٦) مكان (أر) بياض في الأصل.

(٧) البيت من بحر الطويل قاله حسان بن ثابت ، وهو في ديوانه ١٢٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٩ اللسان (فصل) العصير : ما تعصر من الشيء أو تحلب منه عند عصره ، الحلب : المحلوب وحلب العصير : الخمر ، يطلب منه أن يقدم له خمرا خالصة غير ممزوجة ، لأنها هي التي تؤثر فيه.

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٧ ـ ٥٢٨.

(٩) في ب : تكون من.

(١٠) الدّيمة : المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق ، أقله ثلث النهار أو ثلث الليل ، وأكثره ما بلغ من العدة ، والجمع ديم. اللسان (ديم).

(١١) الوبل والوابل : المطر الشديد الضّخم القطر. اللسان (وبل) وفي ب : الوابلي.

(١٢) في ب : الاجزاه.


فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحابا ماطرا ، وقد لا تنعقد. أما الأول فلأسباب خمسة :

أحدها : إذا منع (١) هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة.

وثانيها : أن تكون الرياح (ضاغطة (٢)) (٣) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام (٤) الريح.

وثالثها : أن تكون هناك رياح (٥) متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ.

ورابعها : أن يعرض للبخار المتقدم وقوف (٦) لثقله وبطء حركته يلتص (٧) به سائر الأجزاء الكثيرة المدد.

وخامسها : لشدة برد الهواء القريب من الأرض ، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتى كأنه مكبة (٨) موضوعة على وهدة (٩) ، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة ، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون ، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس.

فإن (١٠) كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة ، فإذا مر بها برد الليل وكثفها ، فإنها تصير ماء محبوسا ينزل أولا متفرقا لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به ، فإن لم يجمد كان طلّا ، وإن جمد كان صقيعا ، ونسبة الصقيع إلى الطل (١١) نسبة الثلج إلى المطر.

والجواب (أنّا دللنا على) (١٢) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادرا مختارا يمكنه إيجاد الأجسام ، ، فلا نقطع بما ذكرتموه (لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه) (١٣) وأيضا فهب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر ، ثم إنها متماثلة ، فاختصاص كل واحد منها بصفته (١٤) المعينة من الصعود والهبوط واللطافة (١٥) والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص ، فإذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبائع ، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب ، وخالق السبب خالق المسبب ، فكان سبحانه هو الذي يزجي سحابا ، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك (١٦) الأبخرة من باطن الأرض إلى جو (١٧) الهواء ، ثم تلك الأبخرة

__________________

(١) في ب : امنتع.

(٢) ما بين القوسين بياض في الأصل.

(٣) ما بين القوسين في ب : عن تصاعد تلك الأبخرة وثانيها.

(٤) في ب : حال أقدام. وهو تحريف.

(٥) في ب : أن تكون الرياح.

(٦) في ب : وفوق. وهو تحريف.

(٧) في ب : ويلتصق.

(٨) في النسختين : يليه. والتصويب من الفخر الرازي. المكبّ : ما يلف عليه الغزل ، وجمعه مكبات ، ومكاب. المنجد (كبب).

(٩) الوهد والوهدة : المطمئن من الأرض ، والمكان المنخفض كأنه حفرة. اللسان (وهد).

(١٠) في ب : وإن.

(١١) في ب : الظل. وهو تصحيف.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٤) في ب : لصفته.

(١٥) واللطافة : سقط من ب.

(١٦) في ب : لفلك.

(١٧) في ب : جوا. وهو تحريف.


ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض ، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاما ، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة (١).

قوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ). تقدم الخلاف في «خلال» هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجبال جمع «جبل» (٢)؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك ـ وتروى عن أبي عمرو أيضا ـ «من خلله» بالإفراد (٣) وقرأ عاصم والأعرج : «ينزّل» على المبالغة.

والجمهور على التخفيف (٤). والودق : قيل : هو المطر ضعيفا كان أو شديدا (٥) ، قال :

٣٨٤٠ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٦)

وقيل : هو البرق (٧) ، وأنشد :

٣٨٤١ ـ أثرن عجاجة وخرجن منها

خروج الودق من خلل السّحاب (٨)

والودق في الأصل مصدر ، يقال : «ودق السحاب يدق ودقا» (٩) و (١٠) «يخرج» حال ، لأن الرؤية بصرية.

قوله : (مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ). «من» الأولى لابتداء الغاية اتفاقا ، لأن ابتداء الإنزال من السماء. وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها (١١) : أنها لابتداء الغاية أيضا فهي ومجرورها بدل من الأولى بإعادة العامل ، والتقدير : وينزّل من جبال السماء ، أي : من جبال فيها ، فهو بدل اشتمال (١٢).

الثاني : أنها للتبعيض ، قاله الزمخشري (١٣) وابن عطية (١٤) ، لأن جنس تلك الجبال

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣ ـ ١٥.

(٢) ذكر ابن عادل في سورة التوبة عند قوله تعالى : «وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ» من الآية (٤٧) أن الخلال جمع خلل وهو الفرجة بين الشيئين ويستعار في المعاني ، فيقال : في هذا الأمر خلل. انظر اللباب ٤ / ٢١٩ ، وذكر في الإسراء عند قوله تعالى : «خِلالَ الدِّيارِ» من الآية (٥) في الخلال وجهين أحدهما : أنه اسم مفرد بمعنى وسط ، ويؤيده قراءة الحسن «خلل الديار». والثاني : أنه جمع (خلل) بفتحتين كجبل وجبال وجمل وجمال. انظر اللباب ٥ / ٢٤٨.

(٣) انظر المختصر (١٠٢) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٠.

(٥) اللسان (ودق).

(٦) البيت من بحر المتقارب قاله عامر بن جوين الطائي ، وقد تقدم.

(٧) وهو قول الأشهب العقيلي. البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(٨) البيت من بحر الوافر نسبه أبو عبيدة وابن منظور لزيد الخيل ، انظر اللسان (ودق).

(٩) اللسان (ودق).

(١٠) و : سقط من ب.

(١١) في ب : أحدها : أنها اتفاقا لأن ابتداء الانزال من السماء وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه أحدها.

(١٢) انظر الكشاف ٣ / ٧٩ ، والتبيان ٢ / ٩٧٥.

(١٣) قال الزمخشري : (الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض) الكشاف ٣ / ٧٩.

(١٤) قال ابن عطية : (و «من» في قوله تعالى : «مِنَ السَّماءِ» هي لابتداء الغاية ، وفي قوله : «من جبال» هي ـ


من جنس البرد ، فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال.

الثالث (١) : أنها زائدة ، أي : ينزل من السماء جبالا (٢).

وقال الحوفي : (من جبال) بدل من الأولى ، ثم قال : «وهي للتبعيض» (٣).

ورده أبو حيان بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى ، لو قلت : خرجت من بغداد من (٤) الكرخ (٥) ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية (٦).

وأما الثالثة ففيها أربعة أوجه :

الثلاثة المتقدمة ، والرابع : أنها لبيان الجنس ، قاله الحوفي (٧) والزمخشري (٨). فيكون التقدير على قولهما وينزّل من السماء بعض جبال التي هي البرد ، فالمنزّل برد (٩) ، لأنّ بعض البرد برد ، ومفعول «ينزّل» : هو (١٠) من جبال (١١) كما تقدم تقريره.

وقال (١٢) الزمخشري : «أو الأوليان للابتداء ، والثالثة للتبعيض» (١٣) يعني : أنّ الثانية (١٤) بدل من الأولى كما تقدم تقريره ، وحينئذ يكون مفعول «ينزّل» هو الثالثة مع مجرورها (١٥) ، التقدير : وينزّل بعض برد من السماء من جبالها. وإذا قيل بأن الثانية

__________________

ـ للتبعيض) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٠. وقال بهذا أيضا ابن الأنباري. البيان ٢ / ١٩٨.

(١) في ب : الثاني. وهو تحريف.

(٢) قال الأخفش :(«ينزّل من السّماء من جبال فيها من برد» ، وهو فيما فسر «ينزّل من السّماء جبالا فيها برد») معاني القرآن ٢ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥. فهو يرى زيادة «من» الثانية والثالثة وانظر أيضا البيان ٢ / ١٩٨ ، التبيان ٢ / ٩٧٥.

(٣) البرهان في علوم القرآن ٦ / ٢٥٧.

(٤) في ب : ومن. وهو تحريف.

(٥) الكرخ : سوق ببغداد ، نبطية. اللسان (كرخ).

(٦) قال أبو حيان : (وهذا خطأ ، لأن الأولى لابتداء الغاية فيما دخلت عليه ، وإذا كانت الثانية بدلا لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معا لابتداء الغاية) البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(٧) قال الحوفيّ : (والثالثة في موضع نصب على البيان) ثم قال : (والثالثة لبيان الجنس) البرهان في علوم القرآن ٦ / ٢٥٧.

(٨) قال الزمخشري : (والثالثة للبيان) الكشاف ٣ / ٧٩ ، وقال بهذا مكي. مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٤ ، وابن الأنباري. البيان ٢ / ١٩٨ وقد سبقهم إلى هذا الأخفش حيث ذكر رأيا لغيره قال : (وقال بعضهم : «وينزّل من السّماء من جبال فيها من برد» أي في السماء جبال من برد ، أي : يجعل الجبال من برد في السماء ، ويجعل الإنزال منها) معاني القرآن ٢ / ٤٦٥ فعلى هذا يكون (من) الثانية زائدة ، والثالثة لبيان الجنس.

(٩) في ب : يقتضي البرد.

(١٠) في النسختين : يرد. والصواب ما أثبته.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(١٢) في ب : قاله. وهو تحريف.

(١٣) الكشاف ٣ / ٧٩.

(١٤) في النسختين : الخلاف.

(١٥) في النسختين : مجروره.


والثالثة زائدتان ، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدل من الأول ، والتقدير : وينزّل من السّماء جبالا بردا ، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل ، أو الثاني في محل نصب مفعولا ل «ينزّل» ، والثالث(١) في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله؟ خلاف ، الأول قول الأخفش (٢) ، والثاني قول الفراء (٣) ، وتكون الجملة على قول الفراء صفة ل «جبال» ، فيحكم (٤) على موضعها بالجر اعتبارا باللفظ ، أو بالنصب اعتبارا بالمحل. ويجوز أن يكون «فيها» وحده هو الوصف ، ويكون «من برد» فاعلا به (٥) لاعتماده ، أي استقر فيها برد (٦). وقال الزجاج : «معناه : وينزّل من السماء من جبال برد فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي : خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية ب «من» لما فرّقت (٧) ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتم من حديد (٨) ، وخاتم حديد ، كان المعنى واحدا» (٩) انتهى.

فيكون (مِنْ بَرَدٍ) في موضع جرّ صفة ل «جبال» كما (١٠) كان (مِنْ حَدِيدٍ) صفة ل «خاتم» ، ويكون مفعول : «ينزّل» : (مِنْ جِبالٍ) ، ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزّل بردا (١١).

وقال أبو البقاء : والوجه الثاني : أن التقدير : شيئا من جبال ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة. وهذا الوجه هو الصحيح ، لأن قوله : (فِيها مِنْ بَرَدٍ) يحوجك إلى مفعول يعود (١٢) الضمير إليه ، فيكون تقديره : وينزّل من جبال السماء جبالا فيها برد ، وفي ذلك زيادة حذف وتقدير (١٣) مستغنى عنه (١٤). وفي كلامه نظر ، لأن الضمير له شيء يعود عليه وهو «السّماء» ، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر ، لأنه مستغنى عنه ، وليس ثمّ مانع يمنع من عوده على «السّماء».

وقوله آخرا : وتقدير (١٣) يستغنى عنه ينافي قوله (١٥) : وهذا الوجه هو الصحيح.

__________________

(١) في ب : والثاني. وهو تحريف.

(٢) قال الأخفش : (وهو فيما فسر : ينزل من السماء جبالا فيها برد) معاني القرآن ٢ / ٤٦٤ ، ٤٦٥.

(٣) قال الفراء : (قوله : «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» والمعنى ـ والله أعلم ـ أن الجبال في السماء من برد خلقة مخلوقة ، كما تقول في الكلام : الآدمي من لحم ودم ، ف «من» ههنا تسقط فتقول : الآدميّ لحم ودم ، والجبال برد) معاني القرآن ٢ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٤) في ب : محكم.

(٥) به : سقط من ب.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(٧) في ب : فرغت. وهو تحريف.

(٨) في ب : هذا خاتم في يدي من حديد.

(٩) انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٩ ، بتصرف ، والنص بلفظه من البحر المحيط ٦ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(١٠) في ب : كان. وهو تحريف.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(١٢) يعود : سقط من ب.

(١٣) في النسختين : وتقديره. والتصويب من التبيان.

(١٤) التبيان ٢ / ٩٧٥.

(١٣) في النسختين : وتقديره. والتصويب من التبيان.

(١٥) في ب : ينافي كونه قوله.


والضمير في «به» (١) يجوز أن يعود على البرد وهو الظاهر ، ويجوز أن يعود على الودق والبرد معا جريا بالضمير مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل : فيصيب بذلك (٢) ، وقد تقدم نظيره.

فصل

قال ابن عباس : أخبر الله أن في السماء جبالا من برد ، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين. وقيل : المراد بالسماء هو الغيم المرتفع ، سمي بذلك لسموه وارتفاعه ، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد. وأراد بقوله : «من جبال» : السحاب العظام ، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال ، كما يقال : فلان يملك جبالا من مال ، ووصف بذلك توسعا.

وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب ، ثم أنزل إلى الأرض. وقال بعضهم : إنما سمي ذلك الغيم جبالا لأنه سبحانه خلقها من البرد ، وكل جسم متحجر فهو من الجبال ، ومنه قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)(٣). قال المفسرون : والأول أولى ، لأنّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص ، فتسمية السحاب سماء (٤) بالاشتقاق مجاز ، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله بردا ، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء ، فلا وجه لترك الظاهر (٥).

قوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي : بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أي : يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه (٦).

قوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ). العامة على قصر (٧) «سنا» وهو الضوء ، وهو من ذوات الواو ، يقال : سنا يسنو سنا ، أي أيضاء يضيء (٨) ، قال امرؤ القيس :

٣٨٤٢ ـ يضيء سناه أو مصابيح راهب (٩)

__________________

(١) في ب : أنه. وهو تحريف.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(٣) من قوله تعالى : «وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» [الشعراء : ١٨٤].

(٤) في ب : السماء سحابا.

(٥) انظر هذا الفصل في الفخر الرازي ٢٤ / ١٤ ـ ١٥.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥.

(٧) في ب : قصد. وهو تحريف.

(٨) يضيء : سقط من ب.

(٩) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، وهو من معلقته المشهورة ، وعجزه :

أهان السّليط في الذّبال المفيّل

وهو في ديوانه : (٢٤) ، شرح المعلقات السبع للزوزني (٥٥) والسبع الطوال لابن الأنباري (١٠٠) والبحر المحيط ٦ / ٤٤٤ ، شرح شواهد الشافية ٤ / ٣٩ ـ ٤٠. السنا : مقصور ، ومعناه الضوء ، وهو موطن الشاهد هنا. والضمير في (سناه) يعود على البرق في البيت السابق ، وهو قوله :

أحار ترى برقا كأنّ وميضه

كلمع اليدين في حبيّ مكلّل

السليط : الزيت. الذّبال جمع ذبالة ، وهي الفتيلة.


والسناء ـ بالمد ـ : الرفعة ، قال :

٣٨٤٣ ـ (وسنّ كسنّيق سناء وسنّما (١)) (٢)

وقرأ ابن وثاب : «سناء برقه» بالمد ، وبضم الباء (٣) من «برقه» وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضا (٤). فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس (٥) من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان (٦). فأما «برقه» فجمع «برقة» ، وهي المقدار من البرق ، ك «غرفة وغرف» ، و «لقمة ولقم» (٧). وأما ضم الراء (٨) فإتباع (٩) ، ك «ظلمات» بضم اللام إتباعا لضم الظاء (١٠) ، وإن كان أصلها السكون (١١). وقرأ العامة أيضا «يذهب» بفتح الياء والهاء.

وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من «أذهب» (١٢).

وقد خطّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم ، قالا : «لأنّ الباء تعاقب (١٣) الهمزة» (١٤).

__________________

(١) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، وعجزه : ذعرت بمدلاج الهجير نهوض. وهو في ديوانه (٧٦) ، البحر المحيط ٦ / ٤٤٤ ، المغني ١ / ١٣٧ ، شرح شواهده ١ / ٤٠٣ ، الهمع ٢ / ٢٧ ، الدرر ٢ / ٢٧ ، السن : الثور الوحشي : السّنيق : الصخرة الصلبة ، وقيل : هو جبل. السناء : الارتفاع. وهو موطن الشاهد هنا. السّنم : البقرة الوحشية ، وقيل : إنه اسم جبل ، مدلاج : أي فرس كثير السير.

الهجير : القائلة. نهوض : بفتح النون أي : كثير النهوض. واستشهد به النحاة على أن (وسنّما) بالنصب عطف على محل مجرور (ربّ) المحذوفة وهو قوله (سنّ) والتقدير : وربّ سنّ ، لأن (سنّ) في موضع نصب ب (ذعرت).

(٢) ما بين القوسين في ب : وسناكق فسنا وسنما.

(٣) في ب : وبضم الباء لارتفاعه.

(٤) لم أجد هذه القراءة معزوة إلى ابن وثاب ، ففي المختصر (١٠٢):(«يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» بضمتين طلحة بن مصرف) ، وفي المحتسب (ومن ذلك قراءة طلحة بن مصرف : «سناء برقه» ٢ / ١١٤ ، وفي تفسير ابن عطية : (وقرأ طلحة بن مصرف : «سناء» بالمد والهمز ، وقرأ طلحة أيضا «برقه» بضم الباء وفتح الراء) ١٠ / ٥٣٠ وفي البحر المحيط : (وقرأ طلحة بن مصرف «سناء» ممدودا «برقه» بضم الباء وفتح الراء ... وعنه بضم الباء والراء) ٦ / ٤٦٥.

(٥) في ب : المخبوس. وهو تحريف.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(٧) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(٨) في ب : الواو. وهو تحريف.

(٩) في ب : اتباع.

(١٠) في ب : الطاء. وهو تصحيف.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(١٢) المختصر (١٠٢) ، المحتسب ٢ / ١١٤ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٥).

(١٣) في ب : معاقب.

(١٤) كذا نقله المؤلف عن أبي حيان من البحر المحيط ٦ / ٤٦٥ ، ولم يتعرض الأخفش في كتابه معاني القرآن لهذه القراءة.


وليس ردّهما بصواب ، لأنّها تتخرّج على ما خرّج ما قرىء به في المتواتر : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)(١) من أنّ الباء مزيدة (٢) ، أو أنّ المفعول محذوف والباء بمعنى «من» تقديره : يذهب النور من الأبصار(٣)، كقوله (٤) :

٣٨٤٤ ـ شرب النّزيف ببرد ماء الحشرج (٥)

فصل (٦)

المعنى : يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه. واعلم أنّ البرق الذي صفته(٧) كذلك لا بد وأن يكون نارا عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء والبرد ، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد ، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر (٨) حكيم (٩) ، ثم قال : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يصرفهما في اختلافهما ، ويعاقبهما : يأتي بالليل ويذهب بالنهار ، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليه‌السلام (١٠) : «قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسبّ (١١) الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنهار» (١٢). وقيل : المراد ولوج (١٣) أحدهما في الآخر.

وقيل : المراد تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما (١٤). (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي : إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)

__________________

(١) [المؤمنون : ٢٠]. والقراءة بضم التاء وكسر الباء قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وقرأ الباقون «تنبت» بفتح التاء وضم الباء السبعة (٤٤٥).

(٢) وقياس قوله في «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» يقتضي أن تكون الباء عنده مزيدة ، حيث قال : (لأن الباء تزاد في كثير من الكلام نحو قوله : «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» أي : تنبت الدهن) معاني القرآن للأخفش ٢ / ٦٤٦.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(٤) في ب : وقوله.

(٥) عجز بيت من بحر الكامل ، قاله عمر بن أبي ربيعة ، وقيل لجميل بن معمر ، وصدره :

فلثمت فاها آخذا بقرونها

وهو في ديوان عمر (٤٨٨) ، الكامل ١ / ٣٨٢ ، اللسان (حشرج) ، المغني ١ / ١٠٥ ، المقاصد النحوية ٣ / ٢٧٩ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٢٠ ، الهمع ٢ / ٢١ ، الدرر ٢ / ١٤ ، النزيف المحموم الذي منع من الماء. الحشرج : الكوز الصغير اللطيف ، وقيل : الماء الذي تحت الأرض لا يفطن له في أباطح الأرض ، والشاهد فيه أن الباء بمعنى (من).

(٦) فصل : سقط من ب.

(٧) في ب : وصفته.

(٨) في ب : حاكم.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : بسبب.

(١٢) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٨٧ ، مسلم (ألفاظ) ٤ / ١٧٦٢ ، أبو داود (أدب) ٥ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤ ، أحمد ٢ / ٢٣٨ ـ ٢٧٢.

(١٣) في ب : ولوح. وهو تصحيف.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥.


البصائر (١) ، أي : دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده (٢).

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٤٦)

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) الآية.

لما استدل أولا بأحوال السماء والأرض ، وثانيا بالآثار العلوية استدل ثالثا بأحوال الحيوانات. قال ابن عطية : قرأ حمزة والكسائي : «والله خالق كلّ دابّة» على الإضافة (٣) ، فإن قيل : لم قال : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) مع أن كثيرا من الحيوانات لم يخلق من الماء ، كالملائكة (٤) خلقوا من النور (٥) ، وهم أعظم الحيوانات عددا ، وكذلك الجن وهم مخلوقون من النار ، وخلق آدم من التراب لقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(٦) وخلق عيسى من الريح لقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا)(٧) ونرى كثيرا من الحيوانات يتولد لا عن نطفة؟ فالجواب من وجوه :

أحسنها : ما قال القفال : إنّ «ماء» صلة (كُلَّ دَابَّةٍ) وليس هو من صلة «خلق» والمعنى: أنّ كلّ دابّة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى.

وثانيها : أنّ أصل (٨) جميع المخلوقات الماء على ما روي : «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور». والمقصود من هذه الآية : بيان أصل الخلقة ، وكان أصل الخلقة الماء ، فلهذا ذكره الله تعالى.

وثالثها : المراد من «الدّابّة» : التي تدب (٩) على وجه الأرض ، ومسكنهم هنالك (١٠) ، فيخرج الملائكة والجن ، ولما كان الغالب من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء ، إما لأنها متولدة من النطفة ، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء ، لا جرم أطلق عليه لفظ الكل تنزيلا للغالب منزلة الكل (١١).

وقيل : الجار في قوله (١٢) : «من ماء» متعلق ب «خلق» أي : خلق من ماء كلّ دابّة ، و «من» لابتداء الغاية (١٣). ويرد على هذا السؤال المتقدم.

__________________

(١) البصائر : سقط من ب.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٣٢.

(٣) السبعة (٤٥٧) ، الكشف ٢ / ١٤٠ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٦) وانظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٢.

(٤) في ب : الملائكة.

(٥) في ب : النار. وهو تحريف.

(٦) من قوله تعالى : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [آل عمران : ٥٩].

(٧) [التحريم : ١٢].

(٨) في ب : أصله.

(٩) في ب : دبت.

(١٠) في ب : هناك.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٦.

(١٢) في ب : قوله تعالى.

(١٣) واستظهره أبو حيان ٦ / ٤٦٥.


فإن قيل : لم نكر (١) الماء في قوله : «من ماء» وعرفه في قوله : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(٢)؟

فالجواب : جاء هاهنا منكرا لأنّ المعنى : خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصا بتلك الدابة ، وعرفه في قوله : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) لأنّ المقصود هناك : كونهم (٣) مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة (٤).

قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي). إنما أطلق «من» على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصّل ب «من» وهو (كُلَّ دَابَّةٍ)(٥). وكان التعبير ب «من» أولى ليوافق اللفظ (٦).

وقيل : لمّا وصفهم بما يوصف به العقلاء وهو المشي أطلق عليها «من» (٧) وفيه نظر ، لأن هذه الصفة ليست خاصة بالعقلاء ، بخلاف قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٨) ، وقوله :

٣٨٤٥ ـ أسرب القطا هل من يعير جناحه (٩)

   .................

البيت.

وقد تقدّم خلاف القرّاء في (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) في سورة «إبراهيم» (١٠).

واستعير المشي للزّحف (١١) على البطن ، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس (١٢) ، كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ، ويقال : فلان ما يمشي له أمر (١٣). فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ، وقد تجد من يمشي على أكثر من

__________________

(١) في ب : ذكر. وهو تحريف.

(٢) من قوله تعالى : «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ» [الأنبياء : ٣٠].

(٣) كونهم : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٦.

(٥) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٥٧.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٧٥.

(٧) المرجع السابق.

(٨) [النحل : ١٧].

(٩) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله العباس بن الأحنف ، وعجزه :

لعلّي إلى من هويت أطير

السّرب : الجماعة من القطاة. والهمزة في (أسرب القطا) للنداء. القطا : طائر معروف ، واحدته قطاة والجمع قطوات وقطيات.

والشاهد فيه إطلاق (من) على غير العاقل ، لأنه لما نادى سرب القطا كما ينادى العاقل ، وطلب منها إعارة الجناح لأجل الطيران نحو محبوبته نزلها منزلة العقلاء. وقد تقدم.

(١٠) عند قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ» [إبراهيم : ١٩]. وذكر ابن عادل هناك : قرأ الأخوان هنا : «خالق السموات والأرض» خالق اسم فاعل مضافا لما بعده ، والباقون «خلق» فعلا ماضيا ، ولذلك نصب «الأرض». و «كُلَّ دَابَّةٍ» وكسر «السموات» في قراءة الأخوين خفض ، وقراءة غيرهما نصب. انظر اللباب ٥ / ١٢٦.

(١١) في ب : الزحف.

(١٢) المشفر للبعير ، والشفة للإنسان. اللسان (شفر).

(١٣) الكشاف ٣ / ٨٠.


أربع كالعناكب والعقارب والرتيلات (١) والحيوان الذي له أربعة وأربعون رجلا؟

فالجواب : هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر ، فكان ملحقا بالعدم (٢). وأيضا قال النقاش : إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر ، لأنّ جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع ، وهي قوام مشيه (٣) ، وكثرة الأرجل لبعض (٤) الحيوان زيادة في الخلقة (٥) ، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها (٦). قال ابن عطية : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا ، بل هي محتاج إليها في نقل الحيوان ، وهي كلها تتحرك في تصرفه (٧).

وجواب آخر وهو أن قوله تعالى : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) كالتنبيه على سائر الأقسام (٨).

وفي مصحف أبيّ بن كعب : «ومنهم من يمشي على أكثر» فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبت بالإجماع (٩).

قوله : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأنه هو (١٠) القادر على الكل ، والعالم بالكل ، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات ، فأي عقل يقف عليها؟ وأي خاطر يصل إلى ذرّة (١١) من أسرارها؟ بل هو الذي يخلق ما يشاء كما يشاء ، ولا يمنعه منه مانع (١٢).

قوله : (لَقَدْ (١٣) أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ). الأولى حمله (١٤) على كل الأدلة. وقيل : المراد القرآن ، لأن كالمشتمل على كل الأدلة والعبر (١٥). (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وتقدم الكلام في نظائر هذه الآية بين أهل السنة والمعتزلة (١٦).

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ

__________________

(١) في النسختين : والرتيلا. والتصويب من الفخر الرازي. والرّتيلى : ضرب من العناكب. المعجم الوسيط (رتل).

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧.

(٣) في ب : مقينه. وفي الأصل : مشيته. والتصويب من تفسير ابن عطية.

(٤) في ب : كبعض.

(٥) في ب : الخلق.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٣.

(٧) المرجع السابق.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٦.

(١٠) هو : سقط من ب.

(١١) في ب : دره. وهو تصحيف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٩.

(١٣) في ب : ولقد. وهو تحريف.

(١٤) في ب : والأول حمله. وهو تحريف.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٩.

(١٦) المرجع السابق.


(٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٥٠)

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ (١) وَأَطَعْنا) الآية.

لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالذنب بألسنتهم ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم.

قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهوديا في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال المنافق : نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمدا يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية. وقد مضت قصتها في سورة «النساء» (٢).

وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل ، كان (٣) بينه وبين علي بن أبي طالب أرض تقاسماها ، فوقع إلى عليّ ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة ، فقال المغيرة : بعني أرضك. فباعها إياه ، وتقابضا. فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي : اقبض أرضك ، فإنما اشتريتها إن رضيتها ، ولم أرضها. فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها ، لا أقبلها منك ، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال المغيرة : أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه ، فإنه يبغضني ، وأنا (٤) أخاف أن يحيف علي ، فنزلت الآية.

وقال الحسن : نزلت هذه في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر (٥).

فصل (٦)

المعنى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) يعني : المنافقين يقولونه (٧) ، (ثُمَّ يَتَوَلَّى)(٨) يعرض عن طاعة الله ورسوله (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد قولهم : آمنّا ، ويدعو إلى غير حكم الله ، ثم قال : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)(٩).

فإن قيل : إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون : «آمنّا» ثم حكى عن فريق منهم التولي ، فكيف يصح أن يقول في جميعهم : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) مع أن المتولي فريق منهم؟

فالجواب : أن قوله : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة

__________________

(١) في النسختين : والرسول. وهو تحريف.

(٢) عند قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً»[النساء : ٦٠]. انظر اللباب ٣ / ١٠٤ ، وانظر أيضا أسباب النزول للواحدي (٢٤٤).

(٣) في ب : وكان.

(٤) أنا : سقط من ب.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠.

(٦) في الأصل : قوله.

(٧) في ب : لقوله.

(٨) في ب : «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ».

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٣٣ ـ ١٣٤.


الأولى ، وأيضا فلو رجع إلى الأولى لصح (١) ، ويكون معنى قوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي : يرجع هذا الفريق إلى الباقين (٢) فيظهر بضهم لبعض الرجوع ، كما أظهروه (٣) ، ثم بين تعالى أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق (٤) منهم معرضون ، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول لقوله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) منقادين لحكمه ، أي : إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لتيقنهم أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا بالحق ، وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا. فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا (ببذل الرضا (٥)) (٦).

قوله : «ليحكم» أفرد الضمير وقد تقدّمه اسمان وهما : (اللهِ وَرَسُولِهِ) فهو كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)(٧) لأنّ حكم رسوله هو حكمه. قال الزمخشري : كقولك (٨) : أعجبني زيد وكرمه ، أي : كرم زيد ، ومنه :

٣٨٤٦ ـ ومنهل من الفيافي أوسطه

غلّسته (٩) قبل القطا وفرطه (١٠)

أي : قبل فرط (القطا (١١)) (١٢) يعني : قبل تقدّم القطا. وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس والحسن : (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) هنا ، والتي بعدها (١٣) مبنيا للمفعول (١٤) ، والظرف قائم مقام الفاعل.

__________________

(١) في ب : يصح.

(٢) في ب : المنافقين.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٠ ـ ٢١.

(٤) في الأصل : أن فريقا.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) [التوبة : ٦٢].

(٨) في ب : هو كقولك.

(٩) في ب : غلسه.

(١٠) رجز لم أهتد إلى قائله ، وهو في مجالس ثعلب ١ / ٣١٣ ، شرح شواهد الكشاف (١٤٠).

المنهل : الوادي ومسيل الماء. الفيافي : الصحارى ، جمع فيفاء. وفي ب : الفلافي ، والفلا : المفازة ، وهي الصحراء ، والفلا جمع فلاة ، ويجمع أيضا على فلوات.

غلسته : بالتشديد أي : سرته في وقت الغلس وهو ظلمة الفجر أو وردته فيه. والفرط من القطا المتقدمات السابقات لغيرها.

والشاهد فيه قوله (وفرطه) فإنه جعل فرط القطا كأنه غيره فعطف عليه.

(١١) الكشاف ٣ / ٨٠.

(١٢) ما بين القوسين في ب : القضا. وهو تحريف.

(١٣) وهو قوله تعالى : «لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ»من الآية (٥١) من السورة نفسها.

(١٤) هذه القراءة مروية فقط لأبي جعفر كما في البحر المحيط ٦ / ٤٦٧ ، الإتحاف (٣٢٦) وتروى عن يزيد بن القعقاع كما في المختصر (١٠٢). ونسبها ابن عطية وأبو حيان لهم عند حديثهما لقوله تعالى :«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» الآية (٥١). انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨ (وفي البحر المحيط لم يذكر الحسن).


قوله : (إِذا فَرِيقٌ) «إذا» هي الفجائية ، وهي جواب «إذا» الشرطية أولا ، وهذا أحد (١) الأدلة على منع أن يعمل في «إذا» الشرطية جوابها ، فإن ما بعد الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، كذا ذكره أبو حيان (٢) ، وتقدم تحرير هذا وجواب الجمهور عنه.

قوله : «إليه» يجوز تعلقه ب «يأتوا» (٣) ، لأنّ «أتى» و «جاء» قد جاءا معدّيين (٤) ب «إلى» ، ويجوز أن يتعلق ب «مذعنين» لأنه بمعنى : مسرعين في الطاعة. وصححه الزمخشري ، قال : لتقدّم صلته ، ودلالته على الاختصاص (٥) ، و «مذعنين» حال (٦). والإذعان : الانقياد ، يقال : أذعن فلان لفلان ، انقاد له (٧). وقال الزجاج : «الإذعان : الإسراع مع الطاعة» (٨).

قوله : (أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ). «أم» فيهما منقطعة ، فتقدر عند الجمهور بحرف الإضراب وهمزة الاستفهام ، تقديره : بل أرتابوا بل أيخافون ، ومعنى الاستفهام هنا : التقرير والتوقيف (٩) ، ويبالغ فيه تارة في الذم كقوله :

٣٨٤٧ ـ ألست من القوم الّذين تعاهدوا

على اللّؤم والفحشاء في سالف الدّهر (١٠)

وتارة في المدح كقوله جرير :

٣٨٤٨ ـ ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (١١)

و «أن يحيف» مفعول الخوف (١٢) والحوف : الميل والجور في القضاء ، يقال : حاف في قضائه ، أي : (مال (١٣)) (١٤).

فصل (١٥)

قوله (١٦)(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق (أَمِ ارْتابُوا) شكوا ، وهو استفهام ذم وتوبيخ ،

__________________

(١) في ب : آخر. وهو تحريف.

(٢) البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(٣) واستظهره أبو حيان. البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(٤) في ب : متعديين.

(٥) الكشاف ٣ / ٨١.

(٦) إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٤٤.

(٧) اللسان (ذعن).

(٨) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٥٠.

(٩) في ب : التوفيق. وهو تحريف.

(١٠) البيت من بحر الطويل ، لم أهتد لقائله وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٦٧. سالف الدهر : الأزمان الماضية.

والشاهد فيه أنّ الهمزة ليست للاستفهام وإنما هي لتقرير المخاطب في أن اللؤم والغدر ملازم له.

(١١) البيت من بحر الوافر ، قاله جرير. المطايا : جمع مطية ، وهي الدابة تمطو في مشيها ، أي : تسرع.

وأندى : أسخى. الراح : جمع راحة ، وهي الكف. والشاهد فيه أن البيت في مدح عبد الملك بن مروان فالهمزة فيه ليست للاستفهام وإنما هي لتقرير هذا الأمر والإخبار بثبوته. وقد تقدم.

(١٢) في الأصل : الحرف. وهو تحريف.

(١٣) اللسان (حيف).

(١٤) ما بين القوسين في ب : جار.

(١٥) فصل : سقط من ب.

(١٦) قوله : سقط من الأصل.


أي (١) هم كذلك ، (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي : يظلم (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، لأنفسهم بإعراضهم عن الحق (٢).

قال الحسن بن أبي الحسن (٣) : من دعا خصمه إلى حكم من أحكام المسلمين فلم يجب ، فهو ظالم (٤) فإن قيل : إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدين ، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض ، فالكل واحد ، فأي فائدة في التعديد (٥)؟

فالجواب : قوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إشارة إلى النفاق ، وقوله : (أَمِ ارْتابُوا) إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه (٦). فإن قيل : هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة ، فكيف أدخل عليها كلمة «أم»؟

فالجواب الأقرب أنه تعالى أنبههم (٧) على (٨) كل واحدة من هذه الأوصاف ، فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق ، وكان فيها شك وارتياب ، وكانوا يخافون الحيف من الرسول ، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق ، ثم بين تعالى بقوله : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بطلان ما هم عليه ، لأن الظلم يتناول كل معصية ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٩) (١٠).

قوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٥٤)

قوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ). العامة على نصب «قول» خبرا ل «كان» ، والاسم «أن» (١١) المصدرية وما بعدها. وقرأ أمير المؤمنين والحسن وابن أبي إسحاق برفعه (١٢) على أنه الاسم ، و «أن» وما في حيّزها الخبر ، وهي عندهم مرجوحة ، لأنه متى اجتمع معرفتان فالأولى جعل الأعرف الاسم (١٣) ، وإن كان سيبويه خيّر في ذلك بين كل

__________________

(١) في ب : أ.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٣٦.

(٣) تقدم.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٤.

(٥) في ب : التعدد.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١.

(٧) في الفخر الرازي : ذمهم.

(٨) في ب : عن.

(٩) [لقمان : ١٣].

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢١.

(١١) أن : سقط من ب.

(١٢) المختصر (١٠٣) ، المحتسب ٢ / ١١٥ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ٨١.


معرفتين ، ولم يفرّق هذه التفرقة (١) ، وتقدم تحقيق هذا في «آل عمران».

فصل

قوله (٢) : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) أي : إلى كتاب الله «ورسوله ليحكم بينهم» وهذا ليس على طريق الخبر ، ولكنه تعليم أدب الشرع ، بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا ، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : سمعنا (٣) الدعاء وأطعنا بالإجابة ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال ابن عباس : فيما ساءه وسره (يَخْشَى اللهَ) فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي «ويتّقه» فيما بقي من عمره (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الناجون.

قوله : «ويتّقه». القراء فيه بالنسبة إلى القاف على مرتبتين :

الأولى : تسكين (٤) القاف ، ولم يقرأ بها إلّا حفص. والباقون بكسرها (٥).

وأما بالنسبة إلى هاء الكناية فإنهم فيها على خمس مراتب :

الأولى : تحريكها مفصولة (٦) قولا واحدا ، وبها قرأ ورش وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائيّ(٧).

الثانية : تسكينها قولا واحدا ، وبها قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم (٨).

الثالثة : إسكان الهاء أو (٩) وصلها بياء ، وبها قرأ خلّاد (١٠).

__________________

(١) قال سيبويه : (وإذا كان معرفة فأنت بالخيار : أيّهما ما جعلته فاعلا رفعته ونصبت الآخر كما فعلت ذلك في ضرب ، وذلك قولك : كان أخوك زيدا وكان زيد صاحبك ، وكان هذا زيدا ، وكان المتكلم أخاك) الكتاب ١ / ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) قوله : سقط من الأصل.

(٣) في ب : بمعنى.

(٤) في ب : السكين. وهو تحريف.

(٥) السبعة (٤٥٧ ـ ٤٥٨) ، الكشف ٢ / ١٤٠ ، الإتحاف (٣٢٦).

(٦) أي : محركة بالكسر دون إشباع للكسر فلا يتولد منه ياء.

(٧) انظر الكشاف ٢ / ١٤١.

(٨) السبعة (٤٥٧) ، الكشف ٢ / ١٤٠ ، الإتحاف ٣٢٦. وحجة من قرأ بهذه القراءة أنه توهم أنّ الهاء لام الفعل ، بكونها آخرا ، فأسكنها للجزم ، وقيل : إنه أسكن على نية الوقف ، وقيل هي لغة لبعض العرب ، حكى سيبويه (هذه أمة الله) بالإسكان. الكتاب ٤ / ١٩٨. الكشف ٢ / ١٤١.

(٩) في ب : و.

(١٠) هو خلاد بن خالد أبو عبد الله الشيباني ، مولاهم الصير في الكوفي إمام في القراءة ، أخذ القراءة عرضا عن سليم ، وروى القراءة عن حسين بن علي الجعفي عن أبي بكر وعن أبي بكر نفسه وغيرهما ، وروى القراءة عنه عرضا أحمد بن يزيد الحلواني ، وإبراهيم بن علي القصار وغيرهما ، مات سنة ٢٢٠ ه‍. طبقات القراء ١ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥.


الرابعة (١) : تحريكها من غير صلة ، وبها قرأ قالون وحفص (٢).

الخامسة : تحريكها موصولة أو مقصورة (٣) ، وبها قرأ هشام (٤).

فأمّا إسكان الهاء وقصرها وإشباعها فقد مرّ تحقيقه مستوفى (٥). وأما تسكين القاف فإنهم حملوا المنفصل على المتّصل ، وذلك أنهم يسكّنون عين «فعل» (٦) فيقولون : كبد ، وكتف ، وصبر في كبد وكتف وصبر (٧) ، لأنها كلمة واحدة ، ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مجرى المتصل ، فإن «يتّقه» صار منه «تقه» بمنزلة «كتف» فسكن كما يسكن ، ومنه :

٣٨٤٩ ـ قالت سليمى اشتر لنا سويقا (٨)

بسكون الراء كما سكن الآخر :

٣٨٥٠ ـ فبات منتصبا وما تكردسا (٩)

وقول الآخر :

٣٨٥١ ـ عجبت لمولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان (١٠)

يريد : «منتصبا» ، و «لم يلده».

__________________

(١) في ب : الرابع.

(٢) السبعة (٤٥٧ ـ ٤٥٨) الكشف ٢ / ١٤٠ ، الإتحاف (٣٢٦).

(٣) في الأصل : أو موصولة ، وفي ب : ومكسورة.

(٤) الإتحاف (٣٢٦).

(٥) عند قوله تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً» [آل عمران : ٧٥]. انظر اللباب ٢ / ٢٧٦.

(٦) في ب : فعلى. وهو تحريف.

(٧) وهو ما يسمى بتفريعات بني تميم ، فإنهم يفرعون على بعض الأبنية لقصد التخفيف ، فإنهم إنما سكنوا العين هنا كراهة الانتقال من الأخف وهو الفتح إلى الأثقل وهو الكسر سواء كان حلقي العين أم لا ، وأهل الحجاز لا يفرعون ولا يغيرون البناء. انظر شرح الشافية ١ / ٣٩ ـ ٤٧.

(٨) رجز ، قاله العذافر الكندي ، وهو في النوادر (١٧٠) ، والحجة لأبي علي ١ / ٣١١ ، المحتسب ١ / ٣٦١ ، الخصائص ٢ / ٣٤٠ ، ٣ / ٩٦ ، المنصف ٢ / ٢٣٧ ، شرح شواهد الشافية ٤ / ٢٢٤.

(٩) من الرجز ، قاله العجاج يصف ثورا ، وهو في ديوانه ١٣٠ ، الحجة لأبي علي ١ / ٣٠٩ ، الخصائص ٢ / ٢٥٢ ، ٣٣٨ ، ابن يعيش ٩ / ١٤٠ ، اللسان (كردس) ، شرح شواهد الشافية ٤ / ٢١ ، وبعده : إذا أحسّ نبأة توجّسا. التكردس : الانقباض واجتماع بعضه إلى بعض ، النبأة : الصوت يسمع ولا يفهم.

التوجس التسمع للصوت.

والشاهد فيه قوله (منتصبا) بإسكان الصاد إجراء لبعض حروف الكلمة وهي (نصبا) مجرى الكلمة نحو (كنف) في التخفيف ، وكان حق الحركة الكسر لأنها اسم فاعل.

وروي (منتصّا) أي مرتفعا ، وعليها فلا شاهد.

(١٠) البيت من بحر الطويل ، ينسب لرجل من أزد السّراة ، وقيل : لعمرو الجنبي. وقد تقدم.


وتقدم في أول البقرة تحرير هذا الضابط في قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ)(١) و «هي» و «هو» ونحوها.

وقال مكيّ : كان يجب على من سكّن القاف أن يضمّ الهاء ، لأنّ هاء الكناية إذا سكّن ما قبلها ولم يكن الساكن ياء ضمّت نحو «منه» و «عنه» ، ولكن لما كان سكون القاف عارضا لم يعتدّ به ، وأبقى الهاء على كسرتها التي كانت عليها مع كسر القاف ، ولم يصلها بياء ، لأنّ الياء المحذوفة قبل الهاء مقدّرة منويّة ، (فبقي الحذف الذي في الياء قبل الهاء على أصله (٢)) (٣).

وقال الفارسيّ : الكسرة في الهاء لالتقاء الساكنين ، وليست الكسرة التي قبل الصلة ، وذلك أنّ هاء الكناية ساكنة في قراءته ، ولما أجرى «تقه» مجرى كتف ، وسكّن القاف التقى ساكنان ، ولمّا التقيا اضطر إلى تحريك أحدهما ، فإمّا أن يحرّك الأول أو الثاني ، (و) (٤) لا سبيل إلى تحريك الأول ، لأنه يعود إلى ما فرّ منه ، وهو ثقل «فعل» (٥) فحرّك ثانيهما (على غير) (٦) أصل التقاء الساكنين ، فلذلك كسر الهاء ، ويؤيده قوله :

٣٨٥٢ ـ   ................

 ... لم يلده أبوان(٧)

وذلك أن أصله : لم «يلده» بكسر اللام وسكون الدال للجزم ، ثم لما سكن اللام التقى ساكنان ، فلو حرك الأول لعاد إلى ما فرّ منه ، فحرك ثانيهما وهو الدال ، وحركها بالفتح وإن كان على خلاف أصل التقاء الساكنين مراعاة لفتحة الياء (٨). وقد ردّ أبو القاسم بن فيره (٩) قول الفارسي وقال : لا يصحّ قوله : إنه كسر الهاء لالتقاء الساكنين ، لأن حفصا لم يسكّن الهاء في قراءته قطّ (١٠) وقد رد أبو عبد الله (١١) شارح قصيدته (١٢) هذا الردّ ، وقال : وعجبت من نفيه الإسكان عنه مع ثبوته عنه في «أرجه» (١٣) و (فَأَلْقِهْ)(١٤) ، وإذا قرأه في «أرجه» و «فألقه» احتمل أن يكون «يتّقه» عنده قبل سكون

__________________

(١) [البقرة : ٧٤].

(٢) الكشف ٢ / ١٤٢.

(٣) ما بين القوسين في الكشف : فبقي الحذف على الياء التي بعد الهاء على أصله.

(٤) و : تكملة ليست بالمخطوط.

(٥) في ب : فعلى. وهو تحريف.

(٦) ما بين القوسين في النسختين : بأصل.

(٧) تقدم تخريجه.

(٨) انظر الحجة لأبي علي الفارسي ٦ / ٤.

(٩) تقدم.

(١٠) انظر الدر المصون ٥ / ١١٦.

(١١) في ب : أبو عبيدة. وهو تحريف. هو محمد بن حسن بن محمد بن يوسف أبو عبد الله الفاسي نزيل حلب ، إمام كبير ولد بفاس بعيد الثمانين وخمسمائة ، ثم قدم إلى مصر ، وأخذ عن علمائها في ذلك الوقت ، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بحلب ، وشرحه للشاطبية في غاية الحسن. مات سنة ٦٥٦ ه‍ بحلب. طبقات القراء ٢ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

(١٢) في ب : وصيدته. وهو تحريف.

(١٣) [الأعراف : ١١١] ، [الشعراء : ٣٦].

(١٤) من قوله تعالى : «اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ»[النمل : ٢٨].


القاف كذلك ، وربما يرجّح ذلك بما ثبت عن عاصم من قراءته إيّاه بسكون الهاء مع كسر القاف (١). قال شهاب الدين : لم يعن الشاطبيّ بأنّه لم يسكن الهاء قطّ ، الهاء من حيث هي هي (٢) ، وإنما (عنى هاء) (٣) «يتّقه» خاصة ، وكان الشاطبيّ أيضا يعترض التوجيه الذي تقدم عن مكّي ، ويقول : تعليله حذف الصلة بأن الياء المحذوفة قبل الهاء مقدّرة منويّة ، فبقي في حذف الصلة بعد الهاء على أصله غير مستقيم من قبل أنّه قرأ «يؤدهي» (٤) وشبّهه بالصلة ، ولو كان يعتبر (٥) ما قاله من تقدير الياء قبل الهاء لم يصلها (٦).

قال أبو عبد الله : هو وإن قرأ «يؤدّ هي» وشبّهه بالصلة فإنه قرأ : «يرضه» (٧) بغير صلة ، فألحق مكيّ «يتّقه» ب «يرضه» ، وجعله مما خرج فيه عن نظائره لاتّباع الأثر ، والجمع بين اللغتين ، ويرجح ذلك عنده لأنّ اللفظ عليه ، ولما كانت القاف في حكم المكسورة بدليل كسر الهاء بعدها صار كأنه «يتّقه» بكسر القاف والهاء من غير صلة ، كقراءة قالون وهشام في أحد وجهيه (٨) ، فعلّله بما يعلّل به قراءتهما (٩) ، والشاطبيّ يرجح عنده حمله على الأكثر مما قرأ به ، لا على ما قلّ وندر ، فاقتضى تعليله بما ذكر (١٠).

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المصدر بدلا من اللفظ بفعله ، إذ أصل : أقسم بالله جهد اليمين : أقسم بجهد اليمين جهدا ، فحذف الفعل وقدّم المصدر موضوعا موضعه ، مضافا إلى المفعول ك (فَضَرْبَ الرِّقابِ)(١١) ، قاله (١٢) الزمخشري (١٣).

والثاني : أنه حال ، تقديره : مجتهدين في أيمانهم ، كقولهم : افعل (١٤) ذلك جهدك وطاقتك. وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجها واحدا فقال بعد ما تقدّم عنه : وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قيل : جاهدين أيمانهم (١٥) وتقدم الكلام على (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في المائدة (١٦).

__________________

(١) انظر اللآلىء الفريدة في شرح القصيدة (٥٠).

(٢) هي : سقط من ب.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) من قوله تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» [آل عمران : ٧٥]. وهي قراء ابن كثير والكسائي بياء في اللفظ بعد الهاء صلة لها. السبعة (٢٠٨).

(٥) في ب : بغير.

(٦) انظر الدر المصون ٥ / ١١٦.

(٧) من قوله تعالى : «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» [الزمر : ٧]. وقراءة «يرضه» من غير إشباع قراءة ابن عامر ، ونافع في رواية ورش ومحمد بن إسحاق عن أبيه ، وقالون في رواية أحمد بن صالح وابن أبي مهران عن الحلواني عن قالون ، وكذلك قال يعقوب بن جعفر عن نافع. السبعة (٥٦٠).

(٨) السبعة (٤٥٦) ، الإتحاف (٣٢٦).

(٩) في ب : قراءته.

(١٠) انظر الدر المصون ٥ / ١١٦.

(١١) [محمد : ٤].

(١٢) في ب : قال. وهو تحريف.

(١٣) الكشاف ٣ / ٨١.

(١٤) في ب : فعل.

(١٥) الكشاف ٣ / ٨١.

(١٦) عند قوله تعالى :«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» [المائدة : ٥٣].


فصل

قال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد (١) في اليمين (٢) ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا». فقال الله تعالى : «قل» لهم «لا تقسموا» لا تحلفوا ، وهاهنا تم الكلام (٣).

ولو كان قسمهم لما (٤) يجب لم يجز النهي عنه ، لأنّ (٥) من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه ، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم ، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم ، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح (٦).

قوله : «طاعة معروفة». في رفعها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : «أمرنا طاعة» ، أو «المطلوب طاعة» (٧).

والثاني : أنها (٨) مبتدأ والخبر محذوف ، أي : (أمثل أو أولى (٩)) (١٠).

وقد تقدّم أنّ الخبر متى كان في الأصل مصدرا بدلا من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه (١١) ، كقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(١٢) ، ولا يبرز إلّا اضطرارا ، كقوله :

٣٨٥٣ ـ فقالت على اسم الله أمرك طاعة

وإن كنت قد كلّفت ما لم أعوّد (١٣)

على خلاف في ذلك.

والثالث : أن يكون فاعله بفعل محذوف ، أي : ولتكن طاعة ، ولتوجد طاعة.

__________________

(١) في الأصل : اجتهد.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣.

(٤) في ب : لا. وهو تحريف.

(٥) في ب : لأنه. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣.

(٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٥ ، الكشاف ٣ / ٨١ ، البيان ٢ / ١٨٩ ، التبيان ٢ / ٩٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(٨) في ب : أنه.

(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٥ ، الكشاف ٣ / ٨١ ، البيان ٢ / ١٩٨ ، التبيان ٢ / ٩٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(١٠) ما بين القوسين في ب : أمثلى أوالى. وهو تحريف.

(١١) والأصل في هذا النصب ، لأنه جيء به بدلا من اللفظ بفعله فلم يجز إظهار ناصبه ، لئلا يكون جمعا بين البدل والمبدل منه ، ثم حمل الرفع على النصب ، فالتزم إضمار المبتدأ. انظر الهمع ١ / ١٠٤.

(١٢) [يوسف : ٨٣].

(١٣) البيت من بحر الطويل قاله عمر بن أبي ربيعة. الشاهد فيه قوله : (أمرك طاعة) حيث صرح بلفظ المبتدأ مع أن الخبر مصدر بدل من الفعل بلفظه وهو ضرورة. وظاهر كلام ابن جني في الخصائص أن هذا ليس من باب الضرورة ، فإنه قال في الآية : (وإن شئت كان على : أمرنا طاعة وقول معروف ، وعليه قوله : البيت) ٢ / ٣٦٢. وقد تقدم.


واستضعف ذلك بأنّ الفعل لا يحذف إلّا (إذا) (١) تقدّم مشعر به ، كقوله : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(٢) في قراءة من بناه للمفعول (٣) ، أي : يسبّحه رجال. أو (٤) يجاب به نفي ، كقولك : بلى (٥) زيد لمن قال : «لم يقم أحد». أو استفهام (٦) كقوله :

٣٨٥٤ ـ ألا هل أتى أمّ الحويرث مرسل

بلى خالد إن لم تعقه العوائق (٧)

وقرأ زيد بن علي و (٨) اليزيديّ : «طاعة» بنصبها (٩) بفعل مضمر ، وهو الأصل. قال أبو البقاء :

ولو قرىء بالنصب لكان جائزا في العربية ، وذلك على المصدر ، أي : أطيعوا طاعة وقولوا قولا ، وقد دلّ عليه قوله (١٠) بعدها : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ)(١١) قال شهاب الدين : (قوله : (ولو قرىء بالنصب لكان جائزا) قد تقدم النقل لقراءته) (١٢). وأما قوله : (وقولوا قولا) فكأنه سبق لسانه إلى آية القتال ، وهي : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)(١٣) ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد (١٤).

فصل

المعنى : هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة (١٥) ، أي : أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ، قاله مجاهد. وقيل : طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل (١٦). وقال مقاتل بن سليمان : لتكن (١٧)

__________________

(١) إذا : سقط من الأصل.

(٢) من الآية (٣٦) من السورة نفسها.

(٣) وهي قراءة ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. السبعة (٤٥٦).

(٤) في ب : و.

(٥) في النسختين : يكن.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٨ ، الهمع ١ / ١٦٠.

(٧) البيت من بحر الطويل قاله أبو ذؤيب الهذلي ، واستشهد به على حذف الفعل إذا كان جواب الاستفهام ، وذلك أن قوله (خالد) فاعل لفعل محذوف في جواب الاستفهام والتقدير بلى أتاها خالد.

لأنّ المحذوف يفسره المذكور ، وهو قوله : (أتى). وقد تقدم.

(٨) و : سقط من ب.

(٩) المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(١٠) في التبيان : قوله تعالى.

(١١) التبيان ٢ / ٩٧٦.

(١٢) ما بين القوسين في الدر المصون : ماودة أن يقرأ به قد قرىء به كما تقدم نقله.

(١٣) [محمد : ٢٠ ، ٢١].

(١٤) وذلك أن «أولى» مبتدأ ، و «لهم» الخبر ، وقيل : «أولى» مبتدأ و «لهم» من صلته ، و «طاعة» الخبر ، فهذه جملة اسمية ، والعطف على كونها جملة اسمية أولى. وقيل : «طاعة» مبتدأ ، والخبر محذوف ، والتقدير : طاعة وقول معروف أمثل من غيره. وقيل : «طاعة» خبر لمبتدأ محذوف تقديره : أمرنا طاعة. انظر الكتاب ١ / ١٤١ ، البحر المحيط ٨ / ٨١ ، وانظر الدر المصون ٥ / ١١٧.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ١٣٦.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(١٧) في ب : ليس. وهو تحريف.


منكم طاعة معروفة. هذا على قراءة الرفع (١). وأما على قراءة النصب (٢) فالمعنى : أطيعوا الله طاعة (٣) و (اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : لا يخفى عليه شيء من سرائركم ، فإنه فاضحكم لا محالة ، ومجازيكم على نفاقكم ، ثم قال : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا (٤) الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : عن طاعة الله ورسوله (فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي : على الرسول «ما حمّل» كلّف وأمر به من تبليغ الرسالة (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الإجابة والطاعة (٥). وقرأ نافع في رواية : «فإنّما عليه ما حمل» بفتح الحاء والتخفيف أي: فعليه إثم ما حمل من المعصية (٦).

(وَإِنْ تُطِيعُوهُ (٧) تَهْتَدُوا) أي : تصيبوا الحق ، وإن عصيتموه ، ف (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). و «البلاغ» بمعنى : التبليغ. و «المبين» : الواضح (٨).

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يجوز أن يكون ماضيا ، وتكون الواو ضمير الغائبين ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحسّن الالتفات هنا كونه لم يواجههم بالتولّي والإعراض ، وأن يكون مضارعا حذفت إحدى تاءيه ، والأصل : «تتولّوا» (٩) ، ويرجّح هذا قراءة البزّيّ : بتشديد (التاء (١٠) «فإن) (١١) تّولّوا». وإن كان بعضهم يستضعفها للجمع بين ساكنين على غير حدّهما.

ويرجّحه أيضا الخطاب في قوله : (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ، ودعوى الالتفات من (١٢) الغيبة إلى الخطاب ثانيا بعيد.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٥٥)

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.

تقدير النظم : بلّغ أيها الرسول وأطيعوا أيها المؤمنون فقد (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي : الذين (١٣) جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين ، كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود

__________________

(١) وهي قراءة العامة. أي أن (طاعة) فاعل لفعل محذوف ، وقد ضعف ابن عادل هذا الوجه ، وهو الوجه الثالث.

(٢) وفي قراءة زيد بن علي واليزيدي ، كما تقدم.

(٣) أي أن (طاعة) بالنصب بفعل مضمر ، كما تقدم.

(٤) وأطيعوا : سقط من النسختين.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في ب : وأن تطيعوا. وهو تحريف.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٣.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٨.

(١٠) انظر الإتحاف (٢٣٦).

(١١) ما بين القوسين في ب : الروان. وهو تحريف.

(١٢) في ب : إلى. وهو تحريف.

(١٣) في الأصل : الذي.


وسليمان ـ عليهما‌السلام (١) ـ وغيرهما ، وأنه يمكن لهم دينهم ، وتمكينه ذلك بأن يؤيدهم بالنصر والإعزاز ، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمنا ، بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم ، ويأمنوا بذلك شرهم (٢).

قال أبو العالية : مكث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد الوحي بمكة عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على أذى الكفار ، فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ، وأمروا بالقتال ، وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه ، فقال رجل منهم : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ)(٣) أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني : والله ليستخلفنهم في الأرض ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وسكانها (٤)(كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

(قال قتادة : داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء (٥).

وقيل) (٦) : (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : بني إسرائيل ، حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام ، وأورثهم أرضهم وديارهم (٧). روى عدي بن حاتم قال : أتينا عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ أتى إليه رجل فشكى إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع النسل ، فقال : «يا عدي هل رأيت الحيرة؟» قلت : لم أرها وقد أتيت فيها : قال : «فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله» قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين قد سعوا البلاد ، «وإن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى». قلت : كسرى بن هرمز ، «ولئن طالت بك حياة لترين الرجل من مكة يخرج ملأ كفه من ذهب ، أو ذهب يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله ، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ، وليقولن : «ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أعطك مالا وأتفضل عليك» فيقول : بلى ، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا الجنة ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم». قال عدي : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد تمرا فبكلمة طيبة» (٨) ـ قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله تعالى وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يخرج (الرجل ملأ كفه (٩)) (١٠).

__________________

(١) في ب : عليهما الصلاة والسلام.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٣) في ب : ليستخلفنهم في الأرض. وانظر البغوي ٦ / ١٣٧ ، وأسباب النزول للواحدي ٢٤٤ ، القرطبي ١٢ / ٢٩٧.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٥) انظر البغوي ٦ / ١٣٨.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٣٨.

(٨) أخرجه البخاري (زكاة) ١ / ٢٤٦ ، (أدب) ٤ / ٥٤ ، ومسلم (زكاة) ٢ / ٧٠٣ ـ ٧٠٤ ، النسائي (زكاة) ٥ / ٧٤ ـ ٧٥ ، أحمد ١ / ٤٤٦ ، ٤ / ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٣٧٧.

(٩) أخرجه الإمام أحمد ٤ / ٢٥٧ ، ٣٧٨.

(١٠) ما بين القوسين سقط من الأصل.


قوله : «ليستخلفنّهم» فيه وجهان :

أحدهما : هو جواب قسم مضمر ، أي : أقسم ليستخلفنهم (١) ، ويكون مفعول الوعد محذوفا تقديره : وعدهم الاستخلاف ، لدلالة قوله : «ليستخلفنّهم» عليه (٢).

والثاني : أن يجرى «وعد» مجرى القسم لتحقّقه ، فلذلك أجيب بما يجاب به القسم (٣).

قوله : «كما استخلف» أي : استخلافا كاستخلافهم (٤). والعامة (٥) على بناء استخلف للفاعل.

وأبو بكر بناه للمفعول (٦). فالموصول منصوب على الأول ومرفوع على الثاني.

قوله : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ). قرأ ابن كثير وأبو بكر : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بسكون الباء وتخفيف الدال(٧) من أبدل وتقدم توجيهها في الكهف في قوله : (أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما)(٨).

قوله : «يعبدونني» فيه سبعة أوجه :

أحدها : أنه مستأنف ، أي : جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما بالهم يستخلفون ويؤمنون؟

فقيل : «يعبدونني» (٩).

والثاني (١٠) : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم يعبدونني ، والجملة أيضا استئنافية تقتضي المدح(١١).

الثالث : أنه حال من مفعول «وعد الله» (١٢).

الرابع : أنه حال من مفعول «ليستخلفنّهم» (١٣).

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٩.

(٢) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٥ ، البيان ٢ / ١٩٩.

(٣) قال الفراء : (وقوله : «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» العدة قول يصلح فيها أن وجواب اليمين. فتقول : وعدتك أن آتيك ، ووعدتك لآتينك) معاني القرآن ٢ / ٢٥٨.

(٤) أي : فيكون قوله : «كَمَا اسْتَخْلَفَ» نعتا لمصدر محذوف. التبيان ٢ / ٩٧٦.

(٥) غير عاصم في رواية أبي بكر.

(٦) السبعة (٤٥٨) ، الكشف ٢ / ١٤٢ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٦).

(٧) والباقون بالتشديد من (بدّل). السبعة (٤٥٨ ـ ٤٥٩) ، الكشف ٢ / ١٤٢ ، النشر ٢ / ٣٣٣ ، الإتحاف (٣٢٦).

(٨) من قوله تعالى : «فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً»[الكهف : ٨١]. انظر اللباب ٥ / ٣٧٠.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٨٢.

(١٠) في ب : الثاني.

(١١) قاله ابن عطية في تفسيره ١٠ / ٥٤٠ والحوفي. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٩.

(١٢) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٦ ، البيان ٢ / ١٩٩ ، الكشاف ٣ / ٨١.

(١٣) في ب : يستحلفنهم.


الخامس : أن يكون حالا من فاعله (١).

السادس : أن يكون حالا من مفعول «ليبدّلنّهم» (٢).

السابع : أن يكون حالا من فاعله (٣).

قوله : «لا يشركون». يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا من فاعل «يعبدونني» أي : يعبدونني موحدين ، وأن يكون بدلا من الجملة التي قبله الواقعة حالا (٤) ، وتقدم ما فيها.

فصل

دلّ قوله : (وَعَدَ اللهُ) على أنه متكلم ، لأن الوعد نوع من أنواع الكلام ، والموصوف بالنوع موصوف بالجنس ، ولأنه تعالى ملك مطاع ، والملك المطاع لا بدّ وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه ، فثبت أنه سبحانه متكلم (٥).

فصل

ودلت الآية على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافا لهشام بن الحكم ، فإنه قال : لا يعلمها قبل وقوعها. ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخبارا على التفصيل. وقد وقع المخبر مطابقا للخبر ، ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم (٦).

فصل

ودلت الآية على أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات لقوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وقد فعل كل ذلك ، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل الممكنات (٧) المقدورات (٨).

فصل

ودلت الآية على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة ، لأن قال : «يعبدونني».

وقالت المعتزلة : الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض ، لأنّ المعنى : لكي يعبدونني. وقالوا أيضا : الآية تدل على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل ، لأنّ من

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٧٦.

(٢) المرجع السابق.

(٣) الظاهر أنه يريد من فاعل «ليبدّلنّهم» ، وهذا الوجه والوجه الخامس قبله المعنى على خلافهما لأن الحال وصف لصاحبها ، وهذا الأمر إنما يتأتى من المفعول في الجملتين ، ولا يمكن حصوله على الفاعل ، وهو الله سبحانه وتعالى.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٧٦.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٦) المرجع السابق.

(٧) الممكنات : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.


فعل فعلا لغرض ، فلا بدّ وأن يكون مريدا لذلك الغرض (١).

فصل

ودلت الآية على أنه سبحانه منزه عن الشريك ، لقوله : (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) وذلك يدل على نفي الإله الثاني ، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله سبحانه (٢).

فصل

ودلت الآية على نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أخبر عن الغيب بقوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)(٣) وقد وجد هذا المخبر موافقا للخبر ، ومثل هذا الخبر معجز ، والمعجز دليل الصدق ، فدل على صدق محم عليه‌السلام(٤).

فصل

دلت الآية على أنّ العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان ، خلافا للمعتزلة ، لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان ، والمعطوف خارج عن المعطوف عليه (٥).

فصل

دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة ، لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد ـ عليه‌السلام (٦) ـ بقوله : «منكم» بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وأن يمكن لهم دينهم المرضي (٧) ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ، لأنّ استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ، ومعلوم ألا نبيّ بعده ، لأنه خاتم الأنبياء ، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ، ومعلوم أن بعد الرسول (٨) لا (٩) يحصل هذا الاستخلاف إلّا في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ، لأنّ في أيامهم كان الفتوح العظيم ، وحصل التمكن ، وظهر الدين والأمن ، ولم يحصل ذلك في أيام عليّ ـ كرم الله وجهه ـ لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار (١٠) ، لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة ، فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء (١١). فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأنها تقتضي حصول الخلافة

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٢) المرجع السابق.

(٣) أمنا : سقط من ب.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٤.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : الذي ارتضى لهم.

(٨) في ب : الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

(٩) في ب : لم.

(١٠) في ب : للجهاد.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥.


لكل من آمن وعمل صالحا ، ولم يكن الأمر كذلك ، نزلنا عنه ، ولكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله: «ليستخلفنّهم» هو أنه تعالى أسكنهم في الأرض ، ومكنهم من التصرف ، لأنّ المراد خلافة الله ، ويدل عليه قوله : (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الأمانة ، فوجب أن يكون الأمن في حقهم أيضا ، كذلك نزلنا عنه ، لكن هاهنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأن (١) من مذهبكم أنه ـ عليه‌السلام (٢) ـ لم يستخلف أحدا ، وروي عن علي ـ رضي الله عنه (٣) ـ أنه قال : «أنزلتكم كما نزلت نبي الله» (٤) فعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(٥) ، وقال في حق علي ـ رضي الله عنه (٦) ـ : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(٧) ، نزلنا عنه ، ولكن نحمله على الأئمة الاثني عشر؟

والجواب عن الأول : أن كلمة «من» للتبعيض ، فقوله : «منكم» يدل على أنّ المراد من هذا الخطاب بعضهم.

وعن الثاني : أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق ، والمذكور هاهنا في معرض البشارة ، فلا بدّ وأن يكون مغايرا له.

وأما قوله تعالى : (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فالذين كانوا قبلهم قد (٨) كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة وتارة بسبب الملك ، فالخلافة (٩) حاصلة في الصورتين.

وعن الثالث : أنه وإن كان مذهبنا أنه عليه‌السلام (١٠) لم يستخلف أحدا بالتعيين ، ولكن قد استخلف بذكر الوصف والأمر والإخبار ، فلا يمتنع في هؤلاء أنه تعالى استخلفهم ، وأن الرسول استخلفهم ، وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ خليفة رسول الله (١١) ، والذي قيل : إنه عليه‌السلام (١٢) لم يستخلف أريد به على وجه التعيين ، وإذا (١٣) قيل : استخلف ، فالمراد (١٤) على طريق الوصف والأمر.

وعن (١٥) الرابع : أن حمل لفظ (١٦) الجمع على الواحد مجاز ، وهو خلاف الأصل.

__________________

(١) في ب : لأنه.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : كرم الله وجهه.

(٤) كذا في النسختين ، وفي الفخر الرازي : (أترككم كما ترككم رسول الله) نزلنا عنه ، لكن لما لا يجوز أن يكون المراد منه عليا عليه‌السلام.

(٥) [القدر : ١].

(٦) في ب : كرم الله وجهه.

(٧) [المائدة : ٥٥].

(٨) قد : سقط من ب.

(٩) في ب : والخلافة.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٣) في ب : فإذا.

(١٤) في ب : والمراد.

(١٥) في الأصل : على.

(١٦) في ب : اللفظ.


وعن الخامس : أنه باطل لوجهين :

أحدهما : قوله تعالى : (مِنْكُمْ) يدل على أنّ الخطاب كان مع الحاضرين ، وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين.

الثاني : أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والبقاء في العالم ، ولم يوجد ذلك فيهم. فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة ، وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان ، وعلى بطلان قول الخوارج ، الطاعنين على عثمان وعلي (١).

قوله : «ومن كفر بعد ذلك» أراد كفر النعمة ، ولم يرد الكفر بالله تعالى ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) العاصون لله عزوجل. قال المفسرون : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها (٢) الذين قتلوا عثمان ، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون (٣) بعد أن (٤) كانوا إخوانا(٥). روى حميد بن هلال (٦) قال : قال عبد الله بن سلام في عثمان : إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى اليوم ، فو الله لئن قتلتموه لتذهبون ثم لا تعودون أبدا ، فو الله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له ، وإن سيف الله لم يزل مغمودا عنكم ، والله لئن قتلتموه ليسللنه الله ـ عزوجل ـ ثم لا يغمده عنكم إما قال أبدا ، وإما قال إلى يوم القيامة ، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا ، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا (٧).

وروى علي بن الجعد (٨) قال : أخبرني حماد ـ وهو (٩) ابن سلمة ـ عن ابن دينار عن سعيد بن جهمان (١٠) عن سفينة (١١) قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا ، ثم قال : أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) في ب : فقها. وهو تحريف.

(٣) في ب : مقتلون. وهو تحريف.

(٤) في ب : ما.

(٥) انظر البغوي ٦ / ١٤١.

(٦) هو حميد بن هلال العدوي أبو نصر البصري ، أخذ عن أنس ، وعبد الله بن مغفل ، وأخذ عنه أيوب ، وابن عون ، وجرير بن حازم. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٢٦١.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٤١.

(٨) هو علي بن الجعد مولى أم سلمة المخزومية امرأة أبي العباس أمير المؤمنين ولد سنة ١٣٦ ه‍ ، وتوفي سنة ٢٣٠ ه‍. المعارف (٥٢٥).

(٩) في ب : هو.

(١٠) هو سعيد بن جهمان الأسلمي أبو حفص البصري ، أخذ عن سفينة ، وابن أبي أوفى ، وأخذ عنه الأعمش ، وحماد بن سلمة ، مات سنة ١٣٦ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٣٧٥.

(١١) هو سفينة مولى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قيل : كان اسمه مهران ، ويكنى أبا عبد الرحمن ، وقيل : كان اسمه رباحا ، وسماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سفينة واختلفوا في قصته ، فقال بعضهم : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اشتراه وأعتقه. المعارف ١٤٦ ـ ١٤٧.


عشر (١) ، وعثمان اثني عشر ، وعلي ست. قال علي : «قلت لحماد : سفينة القائل لسعيد : أمسك؟ قال : نعم» (٢).

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٥٧)

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا (٣) الرَّسُولَ) وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل ، وإن طال ، لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، قاله الزمخشري (٤). قال شهاب الدين : وقوله : (لأن حقّ المعطوف ... إلى آخره) لا يظهر علّة للحكم الذي ادّعاه (٥).

والثاني : أنّ قوله : «وأقيموا» من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، وحسنه الخطاب في قوله قبل ذلك : «منكم» (٦) ثم قال : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : افعلوها على رجاء الرحمة.

قوله : «لا تحسبنّ». قرأ العامة (٧) : «لا تحسبّن» بتاء الخطاب ، والفاعل ضمير المخاطب(٨) ، أي : لا تحسبن أيّها المخاطب ، ويمتنع أو يبعد جعله للرسول ـ عليه‌السلام (٩) ـ لأنّ مثل هذا الحسبان لا يتصوّر منه حتى ينهى عنه (١٠). وقرأ حمزة وابن عامر : «لا يحسبنّ» بياء الغيبة (١١) ، وهي قراءة حسنة واضحة ، فإنّ الفاعل فيها مضمر ، يعود على ما دلّ السياق عليه ، أي : «لا يحسبّن حاسب واحد» ، وإما على الرسول لتقدّم ذكره ، ولكنه ضعيف للمعنى المتقدم (١٢) ، خلافا لمن لحّن قارىء هذه القراءة كأبي حاتم

__________________

(١) في ب : عشرة.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥ / ٢٢٠ ـ ٢٢١. وأورده البغوي في تفسيره ٦ / ١٤٠ ـ ١٤١.

(٣) وأطيعوا : سقط من النسختين.

(٤) الكشاف ٣ / ٨٢.

(٥) الدر المصون ٥ / ١١٨.

(٦) من الآية (٥٥) من السورة نفسها. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٠.

(٧) غير حمزة وابن عامر. السبعة (٣٠٧) الحجة لابن خالويه ٢٦٤ ، الكشف ٢ / ١٤٢.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٠.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٠.

(١١) السبعة (٣٠٧) ، الكشف ٢ / ١٤٢ ، النشر ٢ / ٢٧٧ ، الإتحاف (٣٢٦).

(١٢) وعلى أنّ الفاعل ضمير ويكون «الّذين» و «معجزين» مفعولي «يحسبنّ» ، ويجوز على هذه القراءة أن يكون الفاعل «الّذين» والمفعول الأول ل «يحسبنّ» محذوفا و «معجزين» هو المفعول الثاني ، والتقدير : ولا يحسبن الكافرون أنفسهم معجزين في الأرض. انظر الكشاف ٣ / ٨٢ ، البيان ٢ / ١٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٠.


وأبي جعفر (١) والفراء. قال النحاس : ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يلحّن قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن ، لأنه لم يأت إلا مفعول واحد (٢) ل «يحسبن» (٣). وقال الفراء : هو ضعيف ، وأجازه على حذف المفعول الثاني والتقدير (٤) : «لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين» (٥) قال شهاب الدين : وسبب تلحينهم هذه القراءة : أنهم اعتقدوا أنّ «الّذين» فاعل ، ولم يكن في اللفظ إلا مفعول واحد ، وهو «معجزين» فلذلك قالوا ما قالوا (٦).

والجواب عن ذلك من وجوه :

أحدها : أنّ الفاعل (٧) مضمر يعود على ما تقدم ، أو على ما يفهم من السياق ، كما سبق تحريره.

الثاني : أنّ المفعول الأول (٨) محذوف تقديره : ولا يحسبن الّذين كفروا أنفسهم معجزين ، إلّا أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين (٩) ، ومنه قول عنترة :

٣٨٥٥ ـ ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

منّي بمنزلة المحبّ المكرم (١٠)

أي : تظني غيره واقعا. ولما نحا الزمخشريّ إلى هذا الوجه قال : وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين. ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوّغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث (١١). فقدّر المفعول الأول ضميرا متصلا. قال أبو حيان : وقد رددنا هذا التخريج في أواخر «آل عمران» في قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا)(١٢) في قراءة من قرأ بالغيبة (١٣) ، وجعل (١٤) الفاعل : (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) ، وملخصه : أنّ هذا ليس من الضمائر التي يفسّرها ما بعدها ، فلا يتقدّر (١٥) «لا يحسبنهم» إذ لا يجوز ظنّه زيد

__________________

(١) هو النحاس.

(٢) في ب : واحدا. وهو تحريف.

(٣) إعراب القرآن ٣ / ١٤٦.

(٤) في الأصل : لتقدير ، وفي ب : بتقدير.

(٥) قال الفراء : (وقوله : «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» قرأها حمزة «لا يحسبنّ» ، بالياء ههنا وموضع «الّذين» رفع ، وهو قليل أن تعطل «أظن» من الوقوع على أن ، أو على اثنين سوى مرفوعها ، وكأنه جعل «معجزين» اسما وجعل «فِي الْأَرْضِ» خبرا لهم ، كما تقول : لا تحسبن الذين كفروا رجالا في بيتك وهم يريدون أنفسهم ، وهو ضعيف في العربية) معاني القرآن ٢ / ٢٥٩.

(٦) الدر المصون ٥ / ١١٨.

(٧) في ب : العامل. وهو تحريف.

(٨) الأول : سقط من الأصل.

(٩) انظر شرح التصريح ١ / ٢٥٨ ـ ٢٦٠ ، الهمع ١ / ١٥٢ ، شرح الأشموني ٢ / ٣٤ ـ ٣٥.

(١٠) البيت من بحر الكامل ، قاله عنترة. وقد تقدم.

(١١) الكشاف ٣ / ٨٢.

(١٢) من الآية (١٨٨).

(١٣) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع وابن عامر. السبعة (٢١٩ ـ ٢٢٠) الكشف ١ / ٣٦٧.

(١٤) في ب : وفعل. وهو تحريف.

(١٥) في ب : يتعذر. وهو تحريف.


قائما ، على رفع (زيد) ب (ظنه) (١). وقد تقدم هذا الرد في الموضع المذكور (٢).

الثالث : أن المفعولين هما قوله : (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) قاله الكوفيون (٣). ولما نحا إليه الزمخشري قال : والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض يطمعوهم (٤) في مثل ذلك ، وهذا معنى قويّ جيّد (٥). قال شهاب الدين : قيل : هو خطأ ، لأنّ الظاهر تعلق «في الأرض» ب «معجزين» فجعله مفعولا ثانيا كالتهيئة للعمل والقطع عنه ، وهو نظير : «ظننت قائما في الدّار» (٦).

قوله : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن هذه الجملة عطف على الجملة التي قبلها (٧) من غير تأويل ولا إضمار ، وهو مذهب سيبويه (٨) ، أعني : عطف الجمل بعضها على بعض وإن اختلفت أنواعها (٩) خبرا وطلبا وإنشاء. وقد تقدم تحقيقه في أول الكتاب (١٠).

الثاني : أنها معطوفة عليها ، ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية ، والتقدير : الذين كفروا (١١) لا يفوتون الله ومأواهم النار. قاله الزمخشري (١٢) ، كأنه (١٣) يرى تناسب الجمل شرطا في (صحة) (١٤) العطف ، هذا ظاهر حاله.

الثالث : أنها معطوفة على جملة مقدرة.

قال الجرحاني (١٥) : لا يحتمل أن يكون (وَمَأْواهُمُ) متصلا بقوله : «لا يحسبن» ذلك

__________________

(١) البحر المحيط ٦ / ٤٧٠.

(٢) في ب : المذكر. وهو تحريف. وتقدم عند [آل عمران : ١٨٨]. انظر اللباب ٣ / ٤١٤ ـ ٤١٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٠.

(٤) في ب : يطعموهم.

(٥) الكشاف ٣ / ٨٢.

(٦) الدر المصون ٥ / ١١٩ وانظر أيضا البحر المحيط ٦ / ٤٧٠.

(٧) وهي قوله تعالى : «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ» وهي جملة النهي. وفي ب : عطف على جملة النهي قبلها.

(٨) كذا قال أبو حيان في البحر المحيط ٦ / ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، وقد منع البيانيون هذا العطف لعدم التناسب بين الجملتين. انظر المغني ٢ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، الهمع ٢ / ١٤٠.

(٩) لم ينص سيبويه على ذلك ، وإنما هو المفهوم عنه. انظر الكتاب ٢ / ١٤٢ ، المغني ٢ / ٤٨٢.

(١٠) عند قوله تعالى :«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا»[البقرة : ٢٤] ، وقوله : «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا»[البقرة : ٢٥] وذكر هناك : أنه يجوز عطف الإنشاء على الخبر والعكس ، وذكر أن هذا مذهب سيبويه ، واستدل عليه بقول امرىء القيس :

وإنّ شفائي عبرة مهراقة

فهل عند رسم دارس من معول

انظر اللباب ١ / ٨٩. ولم ينص سيبويه على ذلك وإنما هو المفهوم عنه. انظر الكتاب ٢ / ١٤٢.

(١١) كفروا : سقط من ب.

(١٢) الكشاف ٣ / ٨٢.

(١٣) في ب : فإنه.

(١٤) صحة : زيادة يظهر بها المراد.

(١٥) تقدم.


نهي وهذا إيجاب ، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله ، تقديره : «لا يحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض بل هم مقهورون ومأواهم النار» (١).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٦٠)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية.

قال ابن عباس : وجّه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ غلاما من الأنصار يقال له : «مدلج بن عمرو» إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل ، فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فأنزل الله هذه الآية (٢). وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت (٣) مرثد (٤) ، كان لها غلام كبير ، فدخل عليها (٥) في وقت كرهته ، فأتت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت : إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله (يأيّها الّذين آمنوا ليستأذنكم) (٦) اللام للأمر (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني : العبيد والإماء.

قال القاضي : هذا الخطاب وإن كان ظاهره للرجال ، فالمراد به الرجال والنساء ، لأنّ التذكير يغلب على التأنيث (٧). قال ابن الخطيب : والأولى (٨) عندي أنّ الحكم ثابت في النساء بقياس جليّ ، لأنّ النساء في باب (حفظ) (٩) العورة أشد حالا من الرجال ، فهو كتحريم الضرب بالقياس على حرمة التأفيف (١٠). وقال ابن عباس : هي (١١) في الرجال

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٠.

(٢) انظر أسباب النزول للواحدي ٢٤٥ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٨ ـ ٢٩.

(٣) بنت : سقط من ب.

(٤) هي أسماء بنت مرثد من بني حارثة ذكرها أبو عمر ، وقال لا يصح حديثها انفرد به حرام بن عثمان وهو ضعيف من جميعهم ، الإصابة ١٢ / ١٢٠.

(٤) هي أسماء بنت مرثد من بني حارثة ذكرها أبو عمر ، وقال لا يصح حديثها انفرد به حرام بن عثمان وهو ضعيف من جميعهم ، الإصابة ١٢ / ١٢٠.

(٥) في ب : عمر. وهو تحرف.

(٦) انظر أسباب النزول للواحدي (٢٤٥) ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٩.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٨.

(٨) في الأصل : والأول. وهو تحريف.

(٩) حفظ : تكملة من الفخر الرازي.

(١٠) الفخر الرازي ٢٤ / ٢٨.

(١١) هي : سقط من ب.


والنساء يستأذنون على كل حال في الليل والنهار. واختلف العلماء في هذا الندب : فقيل للأمر. وقيل : للوجوب ، وهو الأظهر (١). قوله : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي : من الأحرار ، وليس المراد: الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ، ولكن لم يبلغوا.

واتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ. واختلفوا في بلوغ خمس عشرة سنة (٢) إذا لم يوجد احتلام: قال أبو حنيفة : لا يكون بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ، ويستكملها الغلام والجارية تستكمل سبع عشرة. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : في الغلام والجارية خمس (٣) عشرة سنة إذا لم يحتلم ، لما روى ابن عمر أنه عرض على النبي (٤) يوم أحد ، وهو ابن أربع عشرة سنة ، فلم يجزه ، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة ، فأجازه. قال أبو بكر الرازي : هذا الخبر مضطرب ، لأن أحدا كان في سنة ثلاث ، والخندق كان في سنة خمس ، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ ، فقد لا يؤذن للبالغ لضعفه ، ويؤذن لغير البالغ لقوته ولطاقته لحمل السلاح ، ولذلك لم يسأله النبي ـ عليه‌السلام (٥) ـ عن الاحتلام والسن (٦). واختلفوا في الإنبات (٧) : هل يكون بلوغا؟ فأصحاب الرأي لم يجعلوه بلوغا ، لقوله ـ عليه‌السلام (٨) ـ : «وعن الصبي حتى يحتلم» (٩). وقال الشافعي : هو بلوغ ، لأن النبي ـ عليه‌السلام (١٠) ـ : أمر بقتل من أنبت من بني قريظة. قال الرازي : الإنبات يدل على القوة البدنية ، فالأمر بالقتل (١١) لذلك لا للبلوغ (١٢).

فصل

قال أبو بكر الرازي (١٣) : دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع ، وينهى عن ارتكاب القبائح ، فإن الله تعالى أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات.

وقال عليه‌السلام (١٤) : «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر»(١٥).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٩.

(٢) في ب : خمسة عشر سنة.

(٣) في ب : خمسة.

(٤) في ب : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٩ ـ ٣٠.

(٧) أنبت الغلام : راهق واستبان شعائر عانته ونبت ، وفي حديث بني قريظة : فكل من أنبت منهم قتل ، أراد نبات شعائر العانة فجعله علامة للبلوغ. اللسن (نبت).

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) سبق تخريجه.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : بالقتال.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٠.

(١٣) الرازي : سقط من ب.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) أخرجه الترمذي (صلاة) ٢ / ٢٥٩.


وقال ابن عمر : يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وقال ابن مسعود : إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له حسناته ، ولا تكتب عليه سيئاته حتى يحتلم. واعلم أنه إنما يؤمر بذلك تمرينا ليعتاده ويسهل عليه بعد البلوغ (١).

فصل

قال الأخفش : الحلم : من حلم الرجل بفتح اللام ، ومن الحلم : حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام (٢).

قوله : «ثلاث مرات» فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الظرف الزماني (٣) ، أي : ثلاثة أوقات ، ثم فسر تلك الأوقات بقوله: «من قبل صلاة الفجر وحين تضعون (ثيابكم من الظهيرة) (٤) ومن بعد صلاة العشاء».

والثاني : أنه منصوب على المصدرية (٥) ، أي ثلاثة (٦) استئذانات.

ورجح أبو حيان هذا فقال : والظاهر (٧) من قوله : ثلاث مرات : ثلاثة استئذانات ، لأنك إذا قلت : ضربت ثلاث مرات ، لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ، ويؤيده قوله عليه‌السلام (٨) : «الاستئذان ثلاث» (٩). قال شهاب الدين : مسلم أن الظاهر كذا ، ولكن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة ، وهي التفسير بثلاثة الأوقات المذكورة (١٠).

وقرأ الحسن وأبو عمرو في روآية : «الحلم» بسكون العين (١١) ، وهي تميمية (١٢).

قوله : «من قبل صلاة الفجر» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من قوله : «ثلاث» فيكون في محل نصب.

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣١.

(٢) لم أعثر على ما قاله الأخفش في كتابه ولعل ابن عادل نقله من الفخر الرازي ٢٤ / ٣١.

(٣) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٦ ، البيان ٢ / ١٩٩ ، التبيان ٢ / ٩٧٧.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٦.

(٦) في ب : ثلاث.

(٧) في ب : الظاهر.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) أخرجه البخاري (الاستئذان) ٤ / ٦٠. وانظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٢.

(١٠) خالف شهاب الدين أبا حيان في نصب «ثلاث مرات» على المصدرية. ويرى أن النصب على الظرفية هو الأولى ، وهذا هو الأولى للأمر بالإذن في هذه الأوقات الثلث لا على تكرار الإذن ثلاث مرات في أحد هذه الأوقات وتنظير أبي حيان بقوله : لأنك إذا قلت : ضربت ثلاث مرات : فيه نظر ، لأن المراد منه تكرار الضرب ثلاث مرات في وقت واحد ، وأما الحديث الذي رواه أبو حيان فإنه محمول على ما إذا لم يؤذن له في المرة الأولى أو الثانية ، ولا يباح الدخول أيضا إذا لم يؤذن به في الثالثة ، أما إذا حصل الإذن بالمرة الأولى فلا داعي لتكراره ـ والله أعلم ـ انظر الدر المصون ٥ / ١٢٩.

(١١) انظر المختصر (١٠٣).

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٢.


الثاني : أنه بدل من «مرات» (١) فيكون في محل جر.

الثالث : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي من قبل ، أي : تلك المرات ، فيكون في محل رفع(٢).

وقوله : «وحين تضعون» عطف على محل «من قبل صلاة الفجر» (٣).

قوله : «من الظهيرة» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن «من» لبيان الجنس ، أي : حين ذلك الذي هو الظهيرة.

الثاني : أنها (٤) بمعنى «في» أي : تضعونها في الظهيرة.

الثالث : أنها بمعنى اللام ، (أي) (٥) : من أجل حر الظهيرة (٦).

وقوله : «ومن بعد صلاة العشاء» : عطف على ما قبله. والظهيرة شدة الحر ، وهو انتصاف النهار (٧).

قوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ). قرأ الأخوان (٨) وأبو بكر : «ثلاث» نصبا. والباقون رفعا (٩). فالأولى تحتمل ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها بدل من قوله : «ثلاث مرات».

قال ابن عطية : إنما يصح البدل بتقدير : أوقات ثلاث عورات ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (١٠). وكذا قدره الحوفي (١١) والزمخشري (١٢) وأبو البقاء (١٣) ، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث المرات (١٤) نفس ثلاث العورات مبالغة فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، وعلى هذا الوجه ـ أعني : وجه البدل ـ لا يجوز الوقف على ما قبل (ثَلاثُ عَوْراتٍ)(١٥) لأنه بدل منه وتابع له ، ولا يوقف على المتبوع دون تابعه (١٦).

__________________

(١) في النسختين «عورات» ، والصواب ما أثبته ، لأن «عورات» لم تأت بعد.

(٢) انظر الأوجه الثلاثة في التبيان ٢ / ٩٧٧.

(٣) المرجع السابق.

(٤) أنها : سقط من ب.

(٥) أي : سقط من الأصل.

(٦) انظر الأوجه الثلاثة في التبيان ٢ / ٩٧٧.

(٧) اللسان (ظهر).

(٨) حمزة والكسائي.

(٩) السبعة (٤٥٩) ، الحجة لا بن خالويه (٢٦٤) ، الكشف ٢ / ١٤٣ ، النشر ٢ / ٣٣٣ ، الإتحاف (٣٢٦).

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٤٤.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٢.

(١٢) قال الزمخشري : (وقرى «ثَلاثُ عَوْراتٍ» بالنصب بدلا عن «ثلاث مرات» أي : أوقات ثلاث عورات) الكشاف ٣ / ٨٣.

(١٣) قال أبو البقاء : (وبالنصب على البدل من الأوقات المذكورة ، أو من ثلاث الأولى) التبيان ٢ / ٩٧٧.

(١٤) في ب : ثلاثة المراتب. وهو تحريف.

(١٥) وهو قوله تعالى : (صلاة العشاء).

(١٦) انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (٢٧٠).


الثاني : أن (ثَلاثُ عَوْراتٍ) بدل من الأوقات المذكورة ، قاله أبو البقاء (١). يعني قوله : «من قبل صلاة الفجر» وما عطف عليه ، ويكون بدلا على المحل ، فلذلك نصب.

الثالث : أن ينتصب بإضمار فعل.

فقدره أبو البقاء : «أعني» (٢) وأحسن من هذا التقدير : اتقوا ، أو احذروا ثلاث (٣).

فأما الثانية (٤) : ف «ثلاث» خبر مبتدأ محذوف تقديره : «هن (٥) ثلاث عورات» (٦).

وقدره أبو البقاء مع حذف مضاف ، فقال : أي : هي أوقات ثلاث عورات ، فحذف المبتدأ والمضاف (٧). قال شهاب الدين : وقد لا يحتاج إليه على جعل العورات نفس الأوقات مبالغة ، وهو المفهوم من كلام الزمخشري ، وإن كان قد قدر مضافا ، كما تقدم عنه.

قال الزمخشري : ويسمى كل واحد من هذه الأحوال عورة ، لأن الناس يختل تسترهم (٨) وتحفظهم فيها. والعورة : الخلال ، ومنه أعور الفارس ، وأعور المكان.

والأعور : المختل العين (٩). فهذا منه يؤذن بعدم تقدير «أوقات» مضاف ل «عورات» بخلاف كلامه أولا فيؤخذ من مجموع كلاميه وجهان (١٠).

وعلى قراءة الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريج قراءة (١١) النصب يوقف على ما قبل (ثَلاثُ عَوْراتٍ) لأنها ليست تابعة لما قبلها (١٢). وقرأ الأعمش : «عورات» بفتح الواو (١٣) ، وهي لغة هذيل وبني تميم ، يفتحون عين «فعلاء» واوا أو (١٤) ياء ، وأنشد :

٣٨٥٦ ـ أخو بيضات رائح متأوب

رفيق بمسح المنكبين سبوح (١٥)

فصل

المعنى : يستأذنوا في ثلاثة أوقات : من قبل صلاة الفجر ، وو قت القيلولة ، ومن بعد

__________________

(١) في ب : قاله أبو حيان. وهو تحريف. انظر التبيان ٢ / ٩٧٧.

(٢) قال أبو البقاء : (أو على إضمار (أعني)) التبيان ٢ / ٩٧٧.

(٣) في ب : ثلاثة.

(٤) وهي القراءة بالرفع.

(٥) في ب : عن. وهو تحريف.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٨٣.

(٧) التبيان ٢ / ٩٧٧ ، وقدره مكي (هذه ثلاث عورات) مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٦ ، وكذلك ابن الأنباري البيان ٢ / ١٩٩.

(٨) في الأصل : تصترهم. وهو تحريف.

(٩) الكشاف ٣ / ٨٣.

(١٠) الدر المصون ٦ / ١٣٠.

(١١) في ب : في قراءة تخريج.

(١٢) انظر منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (٢٧٠).

(١٣) المختصر (١٠٣).

(١٤) في ب : و.

(١٥) البيت من بحر الطويل قاله أحد الهذليين ، والشاهد فيه قوله : بيضات بتحريك الياء بالفتح ، والمشهور إسكانها حتى لا تعل الياء بقلبها ألفا. والبيت جاء شاهدا على أن هذيلا وبني تميم يفتحون عين (فعلات) في الجمع إذا كانت واوا أو ياء. وتقدم تخريجه.


صلاة العشاء. وخص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب ، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد من العبيد والصبيان ، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات ، فأما غيرهم فيستأذنون في جميع الأوقات (١). وسميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته (٢).

فصل

قال بعضهم : إن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها)(٣) يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال ، فنسخ بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة (٤). قال ابن عباس : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، وكان الخدم والو لا ئد يدخلون ، فربما يرون منهم ما لا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، وقد بسط الله الرزق ، واتخذ الناس الستور ، فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان (٥).

وقال آخرون : الآية الأولى أريد بها المكلف ، لأنه خطاب لمن آمن ، والمراد بهذه الآية غير المكلف ، لا يدخل (٦) في بعض الأحوال إلا بإذن ، وفي بعضها بغير إذن ، ولا وجه للنسخ (٧). فإن قيل : قوله : (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يدخل فيه من بلغ ، فالنسخ لا زم؟

فالجواب أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا)(٨) لا يدخل تحته العبيد والإماء ، فلا يجب النسخ (٩). قال أبو عبيد (١٠) : لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ (١١). وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس (١٢) لا أرى أحدا يعمل (١٣) بهن ، قال عطاء : حفظت آيتين ونسيت واحدة ، وقرأ (١٤) هذه الآية ، وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى)(١٥) وذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى)(١٦) ... الآية» (١٧).

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١٤٣.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٤٤.

(٣) [النور : ٢٧].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٢.

(٥) انظر القرطبي ١٢ / ٣٠٣.

(٦) لا يدخل : مكرر في ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٢.

(٨) [النور : ٢٧].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٢.

(١٠) كذا في النسختين ، وفي الفخر الرازي : قال أبو حنيفة رحمه‌الله.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٢.

(١٢) في ب : للناس.

(١٣) في ب : لعمل.

(١٤) في ب : قرأ.

(١٥) [الحجرات : ١٣].

(١٦) من قوله تعالى : «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» [النساء : ٨].

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٢.


قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) هذه الجملة يجوز أن يكون لها محل من الإعراب ، وهو الرفع نعتا ل (ثَلاثُ عَوْراتٍ) في قراءة من رفعها ، كأنه قيل : هنّ ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان (١) ، وألّا يكون لها محل ، بل هي كلام مقرر للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة ، وذلك في قراءة من نصب (ثَلاثُ عَوْراتٍ)(٢).

قوله : «بعدهن». قال أبو البقاء : التقدير : بعد استئذانهم (٣) فيهن ، ثم حذف حرف الجر والفاعل فبقي «بعد استئذانهم» (٣) ثم حذف المصدر (٤).

يعني بالفاعل : الضمير المضاف إليه الاستئذان ، فإنه فاعل معنوي بالمصدر ، وهذا غير ظاهر ، بل الذي يظهر أن المعنى : ليس عليكم جناح ولا عليهم أي : العبيد والإماء والصبيان «جناح» في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة ، ولا حاجة إلى التقدير الذي ذكره.

قوله : «طوّافون» خبر مبتدأ مضمر تقديره : «هم طوّافون» (٥) ، و «عليكم» متعلق به.

قوله : (بعضكم على بعض). في «بعضكم» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، و (عَلى بَعْضٍ) الخبر (٦) ، فقدره أبو البقاء : «يطوف على بعض» وتكون هذه الجملة بدلا مما قبلها ، ويجوز أن تكون مؤكدة مبينة (٧) ، يعني : أنها أفادت إفادة الجملة التي قبلها ، فكانت بدلا أو مؤكدة. وردّ أبو حيان هذا بأنه كون مخصوص ، فلا يجوز حذفه (٨).

والجواب عنه : أن الممتنع الحذف إذا لم يدل عليه دليل ، وقصد إقامة الجار والمجرور مقامه. وهنا عليه دليل ولم يقصد إقامة الجار مقامه. ولذلك قال الزمخشري : خبره «على بعض» على معنى : طائف على بعض ، وحذف لدلالة «طوافون» (٩) عليه (١٠).

الثاني : أن يرتفع بدلا من «طوّافون» قاله ابن عطية (١١) قال أبو حيان : ولا يصحّ إن قدّر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ «هم» لأنه يصير التقدير : هم يطوف بعضكم على بعض وهو لا يصح ، فإن جعلت التقدير : أنتم يطوف بعضكم على بعض ، فيدفعه أنّ قوله : «عليكم» يدل على أنهم هم المطوف عليهم ، و «أنتم طوّافون» يدل على أنهم طائفون ، فتعارضا (١٢). قال شهاب الدين: الذي (١٣) نختار أن التقدير : أنتم ، ولا يلزم

__________________

(١) في النسختين : بعدم الاستئذان. والصواب ما أثبته.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٢.

(٣) في التبيان : استئذانهن.

(٣) في التبيان : استئذانهن.

(٤) التبيان ٢ / ٩٧٧.

(٥) انظر البيان ٢ / ١٩٩ ، التبيان ٢ / ٩٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٢.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٨٣ ، التبيان ٢ / ٩٧٨.

(٧) التبيان ٢ / ٩٧٨.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٤٧٢.

(٩) في الكشاف : وحذف لأن «طوافون» بدل.

(١٠) الكشاف ٣ / ٨٣.

(١١) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٤٤.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٤٧٢ ـ ٤٧٣.

(١٣) في ب : الذين.


محذور ، وقوله : فيدفعه (١) إلى آخره ، لا تعارض فيه ، لأن المعنى : كل (٢) منكم ومن عبيدكم طائف على صاحبه ، وإن كان طواف أحد النوعين غير طواف الآخر ، لأنّ المراد الظهور على أحوال الشخص ، ويكون «بعضكم» بدلا من «طوّافون» و «على بعض» بدلا من عليكم بإعادة العامل ، فأبدلت مرفوعا من مرفوع ومجرورا من مجرور ، ونظيره قوله :

٣٨٥٧ ـ فلمّا قرعنا النّبع بالنّبع بعضه

ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا (٣)

ف «بعضه» بدل من «النّبع» المنصوب ، و «ببعض» بدل من المجرور بالياء (٤).

الثالث : أنه مرفوع بفعل مقدر ، أي : يطوف بعضكم على بعض ، لدلالة «طوّافون» عليه ، قاله الزمخشري (٥). وقرأ ابن أبي عبلة : «طوّافين» بالنصب على الحال من ضمير «عليهم» (٦).

فصل

المعنى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ) يعني : العبيد والإماء والصبيان «جناح» في الدخول عليكم بغير استئذان «بعدهنّ» أي : بعد هذه الأوقات الثلاثة ، (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم : يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن (٧)(بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ). فإن قيل : هل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة (لهم؟ فالجواب ، لا ، وإنما أباح تعالى ذلك من حيث كانت العادة لا تكشف العورة) (٨) في غير تلك الأوقات ، فمتى كشفت المرأة (٩) عورتها مع ظن دخول الخدم فذلك يحرم (١٠) عليها. فإن كان الخادم مكلفا حرم عليه الدخول إذا ظن أن هناك كشف عورة(١١).

فإن قيل : أليس في الناس من جوّز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته؟

فالجواب : من جوّز ذلك فالشعر عنده ليس بعورة في حق المماليك (١٢) كما هو في

__________________

(١) في النسختين : فيدمغه. وما أثبته هو الصواب.

(٢) في النسختين : كلا. وما أثبته هو الصراب.

(٣) البيت من بحر الطويل ، قاله النابغة الجعدي ، وهو في تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد (٣٣٤) منسوبا إلا زفر بن الحارث الكلابي. الهمع ١ / ٢٢٦. حاشية يس ١ / ٢٤٩ الدرر ١ / ١٩٣ ، قرعنا : تقاتلنا بالسهام وغيرها. النبع : شجر ينبت في الجبال تتخذ منه القسي. والشاهد فيه إبدال اسمين من اسمين ف (بعضه) بدل من (النبع) المنصوب و (ببعض) بدل من (بالبيع) المجرور بالباء ، وهو على إعادة العامل.

(٤) الدر المصون ٦ / ١٣١.

(٥) الكشاف ٣ / ٨٣.

(٦) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٩٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٣.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٤٤.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) المرأة : تكملة من الفخر الرازي.

(١٠) في ب : محرم.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٢.

(١٢) في الأصل : الممالك.


حق الرحم ، إذ العورة تنقسم أقساما وتختلف (١) بالإضافات (٢).

فصل

هذه الإباحة (٣) مقصورة على الخدم دون غيرهم.

وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ)(٤) هذا الحكم مختص بالصغار دون البالغين ، لقوله بعد ذلك : «وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم» (٥).

قوله : «وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم» أي : الاحتلام ، يريد : الأحرار الذين بلغوا (فَلْيَسْتَأْذِنُوا)(٦) أي : يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأحرار (الكبار) (٧)(٨). وقيل يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم‌السلام) (٩)(١٠)(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) دلالاته. وقيل : أحكامه (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأمور خلقه «حكيم» بما دبر لهم (١١). قال سعيد بن المسيب : يستأذن (١٢) الرجل على أمه ، فإنما أنزلت الآية (١٣) في ذلك وسئل حذيفة : أيستأذن الرجل على والدته؟ قال : «نعم وإن لم تفعل رأيت منها ما تكره» (١٤).

قوله (١٥) : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ). القواعد : من غير تاء تأنيث ، ومعناه : القواعد عن(١٦) النكاح ، أو عن (١٦) الحيض ، أو عن (١٦) الاستمتاع ، أو عن الحبل ، أو عن الجميع (١٧) ولو لا تخصيصهنّ بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف (١٨).

__________________

(١) في ب : واختلف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٢.

(٣) في ب : الآية.

(٤) «ولا عليهم» : سقط من النسختين.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٢ ـ ٣٣.

(٦) في ب : فليستأذنوا كما.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٤٥.

(٨) ما بين القوسين في ب : الكفار. وهو تحريف.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٤٥.

(١٠) ما بين القوسين في ب : عليهم الصلاة والسلام.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٤٥.

(١٢) في ب : استأذن.

(١٣) في ب : هذه الآية.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ١٤٥.

(١٥) في ب : قوله تعالى.

(١٦) في ب : من.

(١٧) اللسان (قعد).

(١٨) قال النحاس : (وفيه ثلاثة أقوال : مذهب البصريين أنه على النسب ، ومذهب الكوفيين أنه لما كان لا يقع إلا للمؤنث لم يحتج فيه إلى الهاء ، والقول الثالث : أنه جاء بغير هاء تفريقا بينه وبين القاعدة بمعنى الجالسة) إعراب القرآن ٣ / ١٤٨. قال الرضي : (يغلب في الصفات المختصة بالإناث الكائنة على وزن اسم الفاعل ومفعل أن لا يلحقها التاء إن لم يقصد فيها معنى الحدوث كحائض وطالق ومرضع ومطفل ، فإن قصد فيها معنى الحدوث فالتاء لازمة نحو : حاضت فهي حائضة وطلقت فهي طالقة) شرح الكافية ٢ / ١٦٤. وتخصيص هذه الصفة ببيان المراد منها ألحقها بالصفات الخاصة بالمؤنث ، فلا تحتاج إلى التاء لبيان الفرق بينهما وبين المذكر.

وانظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، البيان ٢ / ٢٠٠.


وقوله : (مِنَ النِّساءِ) وما بعده بيان لهن. و «القواعد» مبتدأ ، و (مِنَ النِّساءِ) حال ، و «اللّاتي» صفة القواعد لا للنساء ، وقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ) ، الجملة خبر المبتدأ (١) ، وإنما دخلت الفاء لأن المبتدأ موصوف بموصول ، لو كان ذلك الموصول مبتدأ لجاز دخولها في خبره ، ولذلك منعت أن تكون «اللاتي» صفة للنساء ، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ (٢).

وقال أبو البقاء : ودخلت الفاء لما (٣) في المبتدأ (٤) من معنى الشرط ، لأن الألف واللام بمعنى الذي (٥) وهذا مذهب الأخفش ، وتقدم تحقيقه في المائدة (٦) ، ولكن هنا ما يغني عن ذلك ، وهو وصف المبتدأ بالموصول المذكور ، و (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ) حال من «عليهن» (٧). (والتّبرّج الظهور من البرج) (٨) وهو البناء الظاهر ، والتبرج : سعة العين يرى بياضها محيطا بسوادها كله ، لا يغيب منه شيء والتبرج : إظهار ما يجب إخفاؤه بأن تكشف المرأة للرجال (بإبداء) (٨) زينتها وإظهار محاسنها (٩). و «بزينة» متعلق به. قوله : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) مبتدأ بتأويل : «استعفافهنّ» ، و «خير» خبره.

فصل

قال المفسرون : القواعد : هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ، ولا مطمع (١٠) لهن في الأزواج.

والأولى ألا يعتبر قعودهن عن الحيض ، لأن ذلك ينقطع ، والرغبة فيهن باقية ، والمراد : قعودهن عن الأزواج ، ولا يكون ذلك إلا عند بلوغهن إلى حيث لا يرغب فيهن الرجال لكبرهن (١١) قال ابن قتيبة : سميت المرأة قاعدا إذا كبرت ، لأنها تكثر (١٢) القعود (١٣) وقال ربيعة : هنّ العجز (١٤) اللواتي إذا رآهنّ الرجل استقذرهن (١٥) ، فأما من كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الآية (١٦). «فليس

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٧٨.

(٢) انظر البيان ٢ / ٢٠٠.

(٣) لما : سقط من ب.

(٤) في الأصل : الابتداء.

(٥) التبيان ٢ / ٩٧٨.

(٦) عند قوله تعالى : «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما»[المائدة : ٣٨]. انظر اللباب ٣ / ٢٤٩.

(٧) انظر البيان ٢ / ٢٠٠.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٨٤ ، اللسان (برج).

(١٠) في الأصل : يطمع ، وفي ب : طمع. والتصويب من الفخر الرازي.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٣.

(١٢) في ب : تكبر.

(١٣) قال ابن قتيبة : (ولا أراها سميت قاعدا إلا بالقعود ، لأنها إذا أسنّت عجزت عن التصرف ، وكثرة الحركة ، وأطالت القعود ، فقيل لها قاعد بلا هاء) تفسير غريب القرآن (٣٠٨).

(١٤) في ب : من الفجر. وهو تحريف.

(١٥) انظر القرطبي ١٢ / ٣٠٩.

(١٦) انظر البغوي ٦ / ١٤٥.


عليهنّ جناح أن يضعن ثيابهنّ» عند الرجال ، يعني : يضعن بعض ثيابهن ، وهي الجلباب ، والرداء الذي فوق الثياب ، والقناع الذي فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز وضعه (١) لما فيه من كشف العورة.

وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب : «أن يضعن من ثيابهن» (٢). وروي عن ابن عباس أنه قرأ : «أن يضعن جلابيبهن» (٣). وعن السدي عن شيوخه : أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن (٣) وإنما خصهن الله بذلك لأن التهم مرتفعة عنهن ، وقد بلغن هذا المبلغ ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهنّ وضع الثياب ، ولذلك قال : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) وإنما جعل ذلك أفضل لأنه أبعد عن الظنة (٤) ، فعند الظنة يلزمهن ألا يضعن ذلك كما يلزم الشابة (٥) ، والله سميع عليم.

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٦١)

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية.

قال ابن عباس : لما أنزل الله ـ عزوجل ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(٦) تحرج (٧) المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله ـ عزوجل ـ عن أكل المال بالباطل ، والأعمى (٨) لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول ، فلا يستوفي الطعام ، فأنزل الله هذه الآية (٩). وعلى هذا التأويل تكون «على» بمعنى «في» أي : ليس في الأعمى ، أي : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج (١٠). وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : «كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٤٦.

(٣) الفخر الرازي ٢٤ / ٣٤.

(٣) الفخر الرازي ٢٤ / ٣٤.

(٤) الظنة : التهمة. اللسان (ظنن).

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٤.

(٦) [النساء : ٢٩].

(٧) في ب : تحرجت. وهو تحريف.

(٨) في ب : فالأعمى.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٤٦ ـ ١٤٧. وأسباب النزول للواحدي (٢٤٥). وأسباب النزول للسيوطي ١٤٥ ـ ١٤٦.

(١٠) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٩١.


يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى : ربما أكل أكثر ، ويقول الأعرج : ربما أخذ مكان اثنين ، فنزلت هذه الآية» (١).

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية (ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله بهذه الآية) (٢) لأن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب العلم ، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت (٣) آبائهم وأمهاتهم ، أو (٤) بعض من سمى الله ـ عزوجل (٥) ـ في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة (٦) يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره ، فأنزل الله هذه الآية (٧) وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا اختلفوا منازلهم (٨) ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيب ، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم (٩). وقال الحسن : نزلت الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد ، وقال : تم الكلام عند قوله : (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وقوله تعالى : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) كلام منقطع عما قبله (١٠).

وقيل : لما نزل قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(١١) قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ، أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم (١٢). فإن قيل : أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه في بيته؟

فالجواب : قيل : أراد من أموال عيالكم وأزواجكم ، وبيت المرأة كبيت الزوج (١٣). وقال ابن قتيبة : أراد من بيوت أولادكم ، نسب بيوت الأولاد إلى الآباء (١٤) كقوله عليه‌السلام (١٥) : «أنت ومالك لأبيك» (١٦).

فصل

دلّت هذه الآية بظاهرها على إباحة الأكل من هذه المواضع بغير استئذان ، وهو

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١٤٧. وأسباب النزول للواحدي (٢٤٥ ـ ٢٤٦) والفخر الرازي ٢٤ / ٢٥.

(٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٣) بيوت : سقط من الأصل.

(٤) في ب : و.

(٥) عزوجل : سقط من ب.

(٦) الزمانة : العاهة ، اللسان (زمن).

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٤٧ ـ ١٤٨. وأسباب النزول للواحدي (٢٤٦).

(٨) في الأصل : زمناههم. وهو تحريف.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٤٨. وأسباب النزول للواحدي (٢٤٦) ، والفخر الرازي ٢٤ / ٣٥.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ١٤٨ الفخر الرازي ٢٤ / ٣٥.

(١١) [البقرة : ١٨٨].

(١٢) انظر البغوي ٦ / ١٤٨.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٣.

(١٤) تأويل مشكل القرآن (٣٣).

(١٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٦) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٠).


منقول عن قتادة ، وأنكره الجمهور ، ثم اختلفوا : فقيل : كان ذلك في صدر الإسلام ، فنسخ بقوله عليه‌السلام (١) : «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه» (٢) ويدل على هذا النسخ قوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ)(٣) وكان في أزواج الرسول (٤) من لهنّ الآباء والأخوات ، فعم بالنهي عن دخول بيوتهن إلا بالإذن (٥) في الأكل. فإن قيل : إنما أذن الله تعالى في هذه الآية ، لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا في بيوتهم ، حضروا أو غابوا ، فجاز أن يرخص في ذلك؟

فالجواب (٦) : لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص (٧) هؤلاء الأقارب بالذكر معنى ، لأن غيرهم كهم في ذلك. وقال أبو مسلم : المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين ، لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٨) ثم إنه تعالى أباح في هذه الآية ما حظره هناك ، قال : ويدل عليه أن في هذه السورة (أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها)(٩) وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك ، بل) أمر أن يسلموا على أنفسهم ، فالمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات.

وقيل : لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم ، والعادة كالإذن ، فيجوز أن يقال : خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأصل توجد منهم ، ولذلك ضم إليهم (١٠) الصديق ، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت لأجل حصول الرضا فيها ، فلا حاجة إلى النسخ(١١).

قوله : (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ).

قال ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر ، وملك المفتاح : كونه في يده وحفظه (١٢) قال المفضل : «المفاتح» واحدها «مفتح» بفتح الميم ، وواحد

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه الإمام أحمد ٥ / ٧٢.

(٣) [الأحزاب : ٥٣].

(٤) في ب : النبي.

(٥) في ب : بإذن.

(٦) في ب : والجواب.

(٧) في ب : التخصيص.

(٨) [المجادلة : ٢٢].

(٩) [النور : ٢٧].

(١٠) في النسختين : إليها. والتصويب من الفخر الرازي.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٥ ـ ٣٦.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٦ ـ ٣٧.


المفاتيح : مفتح (بكسر الميم) (١)(٢). وقال الضحاك : يعني : من بيوت عبيدكم ومماليككم ، لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتيح : الخزائن ، لقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ)(٣) ، ويجوز أن يكون الذي يفتح به (٤). وقال عكرمة : «إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير» (٥).

وقال السّديّ : الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه ، فلا بأس أن يأكل منه (٦). وقيل : «أو ما ملكتم مفاتحه» : ما خزنتموه عندكم (٧). قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم (٨) وملكتم(٩).

قوله : «أو ما ملكتم مفاتحه» العامة على فتح الميم واللام مخففة. وابن جبير : «ملّكتم» ، بضم الميم وكسر اللام مشدّدة (١٠) ؛ أي : «ملّككم (١١) غيركم». والعامة على «مفاتحه» دون ياء ، جمع «مفتح». وابن جبير «مفاتيحه» بالياء بعد التاء (١٢) ، جمع «مفتاح». وجوّز أبو البقاء أن يكون جمع «مفتح» بالكسر ، وهو الآلة ، وأن يكون جمع «مفتح» بالفتح ، وهو المصدر بمعنى الفتح(١٣). والأول أقيس. وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه : «مفتاحه» بالإفراد ، وهي قراءة قتادة(١٤).

قوله : «أو صديقكم». العامة على فتح الصاد. وحميد الجزّار روى كسرها إتباعا لكسرة الدّال(١٥) والصديق : يقع للواحد والجمع كالخليط (١٦) والفطين (١٧) وشبههما.

فصل

الصديق : الذي صدقك في المودة. قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(٢) ما بين القوسين في ب : بالكسر.

(٣) [الأنعام : ٥٩].

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٤٩.

(٥) المرجع السابق.

(٦) المرجع السابق.

(٧) المرجع السابق.

(٨) في النسختين : اخترتم. والصواب ما أثبته.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٤٩.

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٤٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٤.

(١١) في ب : ملكتم.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٤٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٤.

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٩٧٨.

(١٤) المختصر (١٠٣) ، المحتسب ٢ / ١١٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٤٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٤.

(١٥) المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٤.

(١٦) الخليط : القوم الذين أمرهم واحد ، والجمع خلطاء وخلط. والخليط المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق ونحو ذلك. اللسان (خلط).

(١٧) القطين : السكان في الدار ، والقطين : جمع قاطن كالقطّان ، وقد يجيء القطين بمعنى القاطن للمبالغة ، والقطين كالخليط لفظ الواحد والجمع فيه سواء. اللسان (قطن).


مجهودا ، فسأله عن حاله فقال : تحرجت من أكل طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله هذه الآية (١) وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية(٢). والمعنى : ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا (٣). يحكى أن الحسن دخل داره وإذا حلقة (٤) من أصدقائه وقد أخرجوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص (٥) وأطايب الأطعمة مكبون (٦) عليها يأكلون ، فتهلل أسارير وجهه سرورا وضحك ، وقال : «هكذا وجدناهم» يعني : كبراء (٧) الصحابة (٨). وعن ابن عباس : الصديق أكبر من الوالدين ، لأن أهل جهنم لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات ، بل قالوا : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)(٩).

وحكي أن أخا الربيع بن خيثم دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل ، فلما قدم أخبرته بذلك ، فانسر لذلك وقال : إن صدقت فأنت حرة (١٠).

فصل

احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ، لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ، ودخولها بغير إذنهم ، فلا (١١) يكون ماله محرزا منهم. فإن قيل : فيلزم ألا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟

فالجواب : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقا له (١٢).

قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) قال الأكثرون : نزلت في بني ليث(١٣) بن عمرو حي من كنانة ، كان الرجل منهم لا يأكل وحده ، ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يؤاكله لم (١٤) يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح(١٥) ، وربما كانت معه الإبل الحفل (١٦) فلا

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١٤٩.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٣) انظر البغوي ٦ / ١٥٠.

(٤) في النسختين : خلفه.

(٥) الخبيص : الحلواء المخبوصة. اللسان (خبص).

(٦) في النسختين : مكتوب. والصواب ما أثبته.

(٧) كبراء : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(٩) [الشعراء : ١٠٠ ، ١٠١]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١١) في ب : ولا.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١٣) ليث : مكرر في الأصل.

(١٤) في ب : لا.

(١٥) الرواح : نقيض الصباح ، وهو اسم للوقت ، وقيل : الرواح العشي ، وقيل : الرواح من لدن زوال الشمس إلى الليل. اللسان (روح).

(١٦) حفل اللبن في الضرع يحفل حفلا وحفلا واحتفل : اجتمع ، وحفله هو وحفّله ، وضرع حافل أي : ممتلىء لبنا. اللسان (حفل).


يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل. هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج (١). وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأحتج ، أي : أتحرج أن آكل معك ، وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية (٢) وقال عكرمة وأبو صالح : «نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلّا مع ضيفهم ، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا جميعا مجتمعين ، أو اشتاتا متفرقين» (٣). وقال الكلبي : «كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى طعاما على (٤) حدة ، وكذلك (٥) المزمن والمريض ، فبيّن الله لهم أن ذلك غير واجب» (٦). قوله : «جميعا» حال من فاعل «تأكلوا» ، و «أشتاتا» (٧) عطف عليه (٨) ، وهو جمع «شتّ» و «شتّى» جمع «شتيت». و «شتّان» تثنية «شت» (٩). قال (١٠) المفضل : وقيل : الشت : مصدر بمعنى : التفرق ، ثم يوصف به ويجمع (١١).

قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ). أي : ليسلم بعضكم على بعض ، جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(١٢). قال ابن عباس : «فإن لم يكن أحد فعلى نفسه يسلم ، ليقل : السلام علينا من قبل ربنا» (١٣).

قال جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار : «إذا دخل الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته» (١٤). وقال قتادة : «إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك ، فهم أحق من سلمت عليهم ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، حدثنا أن الملائكة ترد عليه» (١٥) وعن ابن عباس في قوله : «فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم» قال : «إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» (١٦). قال القفال : «وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل : السلام على من اتبع الهدى» (١٧).

قوله : «تحيّة» منصوب على المصدر من معنى «فسلّموا» (١٨) فهو من باب : قعدت

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١٥٠ ، والفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٥٠.

(٣) انظر البغوي ٦ / ١٥٠ والفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(٤) في الأصل : عن.

(٥) في ب : ولذلك.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(٧) في ب : أو أشتاتا.

(٨) انظر البيان ٢ / ٢٠٠.

(٩) الشت : الافتراق والتفريق ، وجاء القوم أشتاتا : متفرقين ، واحدهم شت والشت : المتفرق ، وتثنيته شتان وجمعه : أشتات. اللسان (شتت).

(١٠) في الفخر الرازي : قاله.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١٢) [النساء : ٢٩].

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ١٥٠.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ١٥٠ ، والفخر الرازي ٢٤ / ٣٧.

(١٦) المرجعان السابقان.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٧ ـ ٣٨.

(١٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٨ ، الكشاف ٣ / ٨٦ ، البيان ٢ / ٢١٠ ، التبيان ٢ / ٩٧٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٥.


جلوسا ، كأنه قال : فحيوا تحية ، وتقدم وزن «التحية» (١). و (مِنْ عِنْدِ اللهِ) يجوز أن يتعلق بنفس (تَحِيَّةً) أي : التحية صادرة من جهة الله ، و «من» لابتداء الغاية مجازا إلا أنه يعكر على الوصف تأخر الصفة الصريحة عن المؤولة ، وتقدم ما فيه (٢).

فصل

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : مما (٣) أمركم الله به. قال ابن عباس : من قال : السلام عليكم ، (معناه : اسم الله عليكم (٤)(مُبارَكَةً طَيِّبَةً). قال ابن عباس) (٥) : «حسنة جميلة» (٦) وقال الضحاك : «معنى البركة فيه تضعيف الثواب» (٧)(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي : يفصل الله شرائعه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) عن الله أمره ونهيه. قال أنس : وقفت على رأس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أصب الماء على يديه ، فرفع رأسه وقال : «ألا أعلمك ثلاث (٨) خصال تنتفع بها» (٩)؟ فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، بلى. قال : «من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتا فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل الصلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين» (١٠).

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٦٤)

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي : مع رسول الله

__________________

(١) عند قوله تعالى : «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» [النساء : ٨٦].

(٢) الأصل في الوصف أن يتقدم الوصف الصريح ثم الظرف أو الجار والمجرور ثم الجملة ، وعلة هذا الترتيب أن الأصل الوصف بالاسم ، فالقياس تقديمه ، وإنما تقدم الظرف ونحوه على الجملة لأنه من قبيل المفرد ، وأوجبه ابن عصفور اختيارا ، وقال : لا يخالف في ذلك إلا في ضرورة أو ندور ، ورد بقوله تعالى : «فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ»[المائدة : ٥٤] ، حيث تقدم الوصف بالجملة «يحبهم» على الوصف بالصريح «أذلة». الهمع ٢ / ١٢٠ وانظر اللباب ٣ / ٢٧٠.

(٣) في ب : بما.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٨.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٥٠.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٨.

(٨) في ب : بثلاث.

(٩) بها : سقط من ب.

(١٠) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٠).


ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «على أمر جامع» يجمعهم من حرب حضرت (١) ، أو صلاة جمعة ، أو عيد ، أو جماعة ، أو تشاور في أمر نزل. فقوله (٢) : «أمر جامع» من الإسناد المجازي ، (لأنه لما كان سببا في جمعهم نسب الفعل) (٣) إليه مجازا (٤).

وقرأ اليماني : «على أمر جميع» (٥) فيحتمل أن يكون صيغة مبالغة بمعنى «مجمع» وألا يكون. والجملة الشرطية من قوله : (وَإِذا كانُوا) وجوابها عطف على الصلة من قوله : «آمنوا».

والأمر الجامع : هو الذي يعم ضرره أو نفعه ، والمراد به : الخطب الجليل الذي لا بدّ لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أرباب التجارب (والآراء) (٦) ليستعين بتجاربهم ، فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يشق على قلبه (٧).

فصل

قال الكلبي : كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم (٨) ، فينظر المنافقون يمينا وشمالا ، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفا ، فنزلت الآية ، فكان المؤمن بعد نزول هذه الآية لا يخرج لحاجته حتى يستأذن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان المنافقون يخرجون بغير إذن (٩).

فصل

قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلّا بإذن ، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام ، (فإن حدث سبب يمنعه من المقام) (١٠) بأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان (١١).

فصل

قال الجبائي : دلّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ، ولو لا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان.

والجواب : هذا بناء على أن كلمة «إنما» للحصر ، وأيضا فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافا ، وذلك كفر (١٢).

__________________

(١) في ب : من جزب حضره.

(٢) في ب : فقوله من.

(٣) ما بين القوسين مكرر في ب.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٨٦.

(٥) المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٦.

(٦) والآراء : سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٨) في ب : بعينهم.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٥١.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.


قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) تعظيما لك ورعاية للأدب (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه. قال الضحاك ومقاتل : المراد : عمر بن الخطاب ، وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله ، فأذن له ، وقال : «انطلق ، فو الله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام ، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد (١) إذا استأذنه أصحابه أذن لهم ، وإذا استأذناه أبى ، فو الله ما نراه يعدل (٢).

قال ابن عباس : إن عمر استأذن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في العمرة ، فأذن له ، ثم قال : «يا أبا حفص (٣) لا تنسنا في صالح دعائك» (٤).

قوله : «لبعض شأنهم» تعليل ، أي : لأجل بعض حاجتهم. وأظهر العامة الضاد عند الشين. وأدغمها أبو عمرو فيها ، لما بينهما من التقارب ، لأن الضاد من أقصى حافة اللسان والشين من وسطه(٥). وقد استضعف جماعة من النحويين (٦) هذه الرواية واستبعدوها عن أبي عمرو ـ رأس الصناعة ـ من حيث إن الضاد أقوى من الشين ، ولا يدغم الأقوى في الأضعف وأساء الزمخشري (٧) على راويها السوسيّ (٨). وقد أجاب الناس عنه ، فقيل : وجه الإدغام أن الشين أشد استطالة من الضاد ، وفيها تفشّي (٩) ليس في الضاد ، فقد صارت الضاد أنقص منها ، وإدغام الأنقص في الأزيد جائز ، قال (١٠) :

__________________

(١) في ب : محمدا.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٣) في ب : أبا جعفر.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٥) انظر النشر ١ / ٢٩٣.

(٦) منهم ابن يعيش فإنه قال : (والحق أن ذلك إخفاء واختلاس للحركة فظنها الراوي إدغاما) شرح المفصل ١٠ / ١٤٠.

(٧) فإنه قال في المفصل : (وأما ما رواه أبو شعيب السوسي عن اليزيدي أن أبا عمرو كان يدغمها في الشين في قوله تعالى : «لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ» فما برئت عن عيب) متن المفصل ـ ابن يعيش ١٠ / ١٤٠.

(٨) هو صالح بن زياد بن عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن الجارود أبو شعيب السوسي الرقي مقرىء ضابط محرر ثقة ، أخذ القراءة عرضا وسماعا عن أبي محمد اليزيدي وحفص عن عاصم ، وروى القراءة عنه ابنه أبو المعصوم محمد ، وموسى بن جرير النحوي ، وغيرهما ، مات سنة ٢٦١ ه‍.

طبقات القراء ١ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٩) في النسختين : نفس. والصواب ما أثبته.

(١٠) القائل ابن مجاهد ، ولم يجر له ذكر قبل ذلك ، والنص الذي ذكره ابن عادل ذكره ابن يعيش في شرحه على المفصل ، قال : (قال ابن مجاهد: لم يرو عنه (أي : أبي عمرو) هذا إلا أبو شعيب السوسي ، وهو خلاف قول سيبويه ، ووجهه أن الشين أشد استطالة من الضاد ، وفيه تفشّ ليس في الضاد ، فقد صارت الضاد أنقص منها ، وإدغام الأنقص في الأزيد جائز ، ويؤيد ذلك أن سيبويه حكى أن بعض العرب قال : اطجع في اضطجع ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى) ابن يعيش ١٠ / ١٤٠.


ويؤيّد هذا أن سيبويه حكى عن بعض العرب «اطّجع» في «اضطجع» (١) ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى.

والخصم لا يسلم جميع ما ذكر ، ومستند المنع واضح.

فصل (٢)

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أمرهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) بالانصراف ، أي : إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) وهذا تنبيه على أن الأولى ألا يستأذنوا وإن أذن ، لأن الاستغفار يكون عن ذنب. ويحتمل أن يكون أمره بالاستغفار لهم مقابلة على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان (٣).

فصل

قال مجاهد : قوله : فأذن لمن شئت منهم نسخت هذه الآية. وقال قتادة : نسخت هذه الآية بقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)(٤). والآية تدل على أنه تعالى فوض إلى رسول الله بعض أمر الدين ليجتهد فيه رأيه (٥).

قوله (٦) : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً). قال سعيد بن جبير وجماعة كثيرة : لا تنادونه باسمه فتقولون : يا محمد ، ولا بكنيته فتقولون : يا أبا القاسم ، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير : يا رسول الله ، يا نبي الله (٧). وعلى هذا يكون المصدر مضافا لمفعوله (٨). وقال المبرد والقفال : لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتباطؤون كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر ، بل يجب عليكم المبادرة لأمره ، ويؤيده قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(٩). وعلى هذا يكون المصدر مضافا للفاعل (١٠).

وقال ابن عباس : «احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره» (١١). وروي عنه أيضا : «لا ترفعوا أصواتكم في دعائه». وهو المراد من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ)(١٢) وقول المبرد أقرب إلى نظم الآية. وقرأ الحسن : «نبيكم» بتقديم النون على الباء المكسورة ، بعدها ياء

__________________

(١) قال سيبويه : (وذلك قولك : مضطجع ، وإن شئت قلت مضّجع ، وقد قال بعضهم : مطّجع حيث كانت مطبقة ولم تكن في السمع كالضاد ، وقربت منها وصارت في كلمة واحدة) الكتاب ٤ / ٤٧٠.

(٢) في ب : قوله.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٤) من قوله تعالى : «عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» [التوبة : ٤٣].

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩.

(٦) في ب : قوله تعالى.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٧٩.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٣٩ ـ ٤٠.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٧٩.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٥٢.

(١٢) [الحجرات : ٣].


مشددة مخفوضة (١) مكان (٢) «بينكم» الظرف في قراءة العامة ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من الرسول (٣).

الثاني : أنه عطف بيان له (٤) ، لأنّ النبيّ بإضافته إلى المخاطبين صار أشهر من الرسول.

الثالث : أنه نعت.

لا يقال : إنه لا يجوز لأن هذا كما قرّرتم أعرف ، والنعت لا يكون أعرف من المنعوت بل إمّا أقلّ أو مساو ، لأنّ الرّسول صار علما بالغلبة على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد تساويا تعريفا (٥).

قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ). «قد» تدل على التقليل مع المضارع إلّا في أفعال الله فتدل على التحقيق كهذه الآية. وقد ردّها بعضهم إلى التقليل ، لكن إلى متعلّق العلم ، يعني : أن الفاعلين لذلك قليل ، فالتقليل ليس في العلم بل في متعلّقه (٦).

قوله : لواذا فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول ، إذ التقدير : يتسلّلون منكم تسلّلا ، أو يلاوذون لواذا (٧).

والثاني (٨) : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : ملاوذين (٩).

واللّواذ : مصدر لاوذ ، وإنما صحّت (١٠) الواو وإن انكسر ما قبلها ولم تقلب ياء كما قلبت في «قيام» و «صيام» ، لأنه صحّت (١٠) في الفعل نحو «لاوذ» ، فلو أعلّت في الفعل أعلّت في المصدر نحو «القيام» و «الصّيام» لقلبها ألفا في «قام» و «صام». وأما مصدر : «لاذ بكذا(١١) يلوذ به» فمعتل نحو : «لاذ لياذا» مثل : «صام صياما ، وقام قياما» (١٢). واللّواذ والملاوذة : التّستّر ، يقال : لاوذ فلان بكذا : إذا استتر به (١٣). واللّوذ :

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٦ ، الإتحاف (٣٢٧).

(٢) مكان : سقط من ب.

(٣) حكاه أبو حيان عن صاحب اللوامح. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٦.

(٤) هذا الوجه على رأي الرضيّ الذي لم ير فرقا بين بدل الكل من الكل وبين عطف البيان قال : (أقول : وأنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جلي بين بدل الكل من الكل وبين عطف البيان إلا البدل) شرح الكافية ١ / ٣٣٧.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٨٧ ، المغني ١ / ٢٧٤.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٧٩.

(٨) في ب : الثاني.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٨٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(١٠) في ب : فتحت.

(١١) في ب : بكا.

(١٢) انظر البيان ٢ / ٢٠١ ، التبيان ٢ / ٩٧٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(١٣) في اللسان (لوذ) لاذ به يلوذ لوذا ولواذا ولواذا ولواذا ولياذا : لجأ إليه وعاذ به ، ولاوذت ملاوذة ولواذا ولياذا : استتر.


ما يطيف بالجبل (١). وقيل : اللّواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية (٢) ، ووجه المفاعلة أنّ كلّا منهم يلوذ بصاحبه ، فالمشاركة موجودة.

وقرأ يزيد (٣) بن قطيب (٤) : «لواذا» بفتح اللام (٥) ، وهي محتملة لوجهين :

أحدهما : أن يكون مصدر «لاذ» ثلاثيا (٦) ، فيكون مثل «طاف طوافا» (٧).

والثاني : أن يكون مصدر «لاوذ» إلّا أنه فتحت الفاء إتباعا لفتحة العين (٨). وهو تعليل ضعيف يصلح لمثل هذه القراءة (٩).

فصل

المعنى : قال المفسرون : إن المنافقين كانوا يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا. قال ابن عباس : كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار (١٠) وقال مجاهد : يتسللون من الصف في القتال (١١). وقيل : كان هذا في حفر الخندق ينصرفون عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مختفين(١٢). وقيل : يعرضون عن الله وعن كتابه وعن ذكره وعن نبيه (١٣).

قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ) فيه وجهان :

أشهرهما ، وهو الذي لا يعرف النحاة غيره (١٤) : أن الموصول هو الفاعل و (أَنْ تُصِيبَهُمْ)(١٥) مفعوله (١٦) ، أي : فليحذر المخالفون عن أمره إصابتهم فتنة.

والثاني : أن فاعل «فليحذر» ضمير مستتر ، والموصول مفعول به. وردّ هذا بوجوه (١٧) :

__________________

(١) اللسان (لوذ).

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(٣) في النسختين : زيد.

(٤) هو يزيد بن قطيب السكوني الشامي ، ثقه له اختيار في القراءة ينسب إليه. روى القراءة عن أبي بحرية عبد الله بن قيس صاحب معاذ بن جبل ، روى القراءة عنه أبو البرهسم عمران بن عثمان الحمصي ، وحدث عنه صفوان بن عمرو ، وغيره. طبقات القراء ٢ / ٣٨٢.

(٥) انظر المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٦) في ب : أن يكون مصدرا ثلاثيا.

(٧) فلم تقلب الواو ياء ، لعدم الكسرة قبلها. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٨) المرجع السابق.

(٩) وجه الضعف أن القياس يقتضي أن يكون الثاني تابعا للأول ، لا العكس.

(١٠) هذا القول لمقاتل كما في الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) في ب : يخرجون إلى مختفين.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠.

(١٤) في ب : عين.

(١٥) في الأصل تصيبه.

(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٧٩.

(١٧) في ب : الوجوه. وهو تحريف.


منها : أن الإضمار خلاف الأصل. وفيه نظر ، لأنّ هذا الإضمار في قوة المنطوق به ، فلا يقال : هو خلاف الأصل ، ألا ترى أن نحو : «قم» و «ليقم» فاعله مضمر ، ولا يقال في شيء منه هو خلاف الأصل ، وإنما الإضمار خلاف الأصل (١) فيما كان حذفا نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢).

ومنها : أنّ هذا الضمير لا مرجع له ، أي : ليس له شيء يعود عليه ، فبطل أن يكون الفاعل ضميرا مستترا. وأجيب بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصول الأول (٣) ، أي : فليحذر المتسلّلون المخالفين (٤) عن أمره ، فيكونون قد أمروا بالحذر منهم ، أي : أمروا باجتنابهم ، كما يؤمر باجتناب الفسّاق. وردّوا هذا بوجهين :

أحدهما : أنّ الضمير مفرد (٥) ، والذي (٦) يعود عليه جمع ، ففاتت المطابقة التي هي شرط في تفسير الضمائر.

الثاني : أن المتسلّلين هم المخالفون ، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أمروا بالحذر عن أنفسهم ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يمكن أن يؤمروا بالحذر عن أنفسهم. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الضمير وإن كان مفردا فإنما عاد على جمع باعتبار أن المعنى : فليحذر هو ، أي : من ذكر قبل ذلك ، وحكى سيبويه : «ضربني وضربت قومك» أي : ضربني من ثمّ ومن ذكر (٧) ، وهي مسألة معروفة في النحو. أو (٨) يكون التقدير : فليحذر كلّ واحد من المتسللين.

وعن الثاني : بأنه يجوز أن يؤمر الإنسان بالحذر عن نفسه مجازا ، يعني : أنه لا يطاوعها على (٩) شهواتها ، وما تسوّله له من السوء (١٠) ، وكأنه قيل : فليحذر المخالفون أنفسهم فلا يطيعوها فيما تأمرهم به ، ولهذا يقال : أمر نفسه ونهاها ، وأمرته نفسه باعتبار المجاز (١١).

__________________

(١) في ب : الأمثلة. وهو تحريف.

(٢) [يوسف : ٨٢]. يشير إلى تقدير مضاف ليصح إيقاع الفعل على المفعول ، أي : واسأل أهل القرية.

(٣) وهو قوله تعالى : «الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ».

(٤) في ب : المخالفون. وهو تحريف.

(٥) في ب : بمفدر.

(٦) والذي سقط من ب.

(٧) قال سيبويه : (وقد يجوز ضربت وضربني زيدا ، لأنّ بعضهم قد يقول متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا ، والوجه متى رأيت أو قلت زيد منطلق. ومثل ذلك في الجواز ضربني وضربت قومك والوجه أن تقول : ضربوني وضربت قومك فتحمله على الآخر. فإن قلت : ضربتي وضربت قومك ، فجائز ، وهو قبيح ، أن تجعل اللفظ كالواحد ، كما تقول : هو أحسن الفتيان وأجمله وأكرم بنيه وأنبله. ولا بدّ من هذا ، لأنه لا يخلو الفعل من مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء ، كأنك قلت إذا مثلته ضربني من ثمّ وضربت قومك ، ونزل ذلك أجود وأحسن ، للتبيان الذي يجيء بعده ، فأضمر من ذلك) الكتاب ١ / ٧٩ ـ ٨٠.

(٨) في ب : و.

(٩) في ب : في.

(١٠) السوء : سقط من ب.

(١١) في ب : مجاز.


ومنها : أنه يصير قوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مفلّتا ضائعا ، لأنّ (١) «يحذر» يتعدى لواحد ، وقد أخذه على زعمكم ، وهو الذين (٢) يخالفون ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا : إن (٣)(أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) في محل مفعوله (٤) الثاني ، فيبقى ضائعا. وفيه نظر ، لأنّا (٥) لا نسلّم ضياعه ، لأنه مفعول من أجله. واعترض على هذا بأنه لا يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل ، لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة.

وهو ضعيف ، لأن حذف حرف الجر يطرد مع «أنّ» و «أن» منقول مسلم : شروط النصب غير موجودة ، وهو مجرور باللام تقديرا ، وإنما حذفت مع (٦) أن لطولها بالصلة. و «يخالفون» يتعدى بنفسه نحو : خالفت أمر زيد ، وب «إلى» نحو : خالفت إلى كذا ، فكيف تعدّى هذا بحرف المجاورة؟ وفيه أوجه :

أحدها : أنه ضمّن معنى «صدّ» و «أعرض» أي : صدّ عن أمره ، وأعرض عنه مخالفا (٧) له.

الثاني : قال ابن عطية : معناه : يقع خلافهم بعد أمره ، كما تقول : كان المطر عن ريح كذا ، و «عن» لما عدا الشي (٨).

الثالث : أنها مزيدة ، أي : يخالفون أمره ، وإليه نحا الأخفش (٩) وأبو عبيدة (١٠). والزيادة خلاف الأصل. وقرىء : «يخلّفون» بالتشديد (١١) ، ومفعوله محذوف ، أي : يخلّفون (١٢) أنفسهم.

فصل

المعنى : «فليحذر الّذين يخالفون» أي : يعرضون «عن أمره» ، أو يخالفون أمره وينصرفون عنه(١٣) بغير إذنه (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي : لئلا تصيبهم فتنة.

قال مجاهد : بلاء في الدنيا. (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع في الآخرة. والضمير في «أمره» يرجع إلى «الرسول». وقال أبو بكر الرازي : الأظهر أنه لله تعالى (١٤) لأنه يليه.

__________________

(١) في ب : أن.

(٢) في ب : الذي.

(٣) إن : سقط من ب.

(٤) في ب : مفعول.

(٥) في النسختين : لأنه.

(٦) في ب : وإنما حذفت إلا مع. وهو تحريف.

(٧) له : سقط من ب. وانظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٢.

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٥٦.

(٩) لم أعثر على هذا في معاني القرآن للأخفش وهو في البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(١٠) قال أبو عبيدة :(«الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» مجازه يخالفون أمره سواء وعن زائدة) مجاز القرآن ٢ / ٦٩.

(١١) المختصر (١٠٣) ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(١٢) في ب : يحلقون. وهو تصحيف.

(١٣) في ب : فيه.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.


فصل

الآية تدل على أن الأمر للوجوب ، لأن تارك المأمور مخالف للأمر ، ومخالف الأمر يستحق العقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك (١).

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ملكا وعبيدا ، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى عليهما ، وعلى ما بينهما وفيهما (٢).

قوله : «قد يعلم ما أنتم عليه». قال الزمخشري (٣) : أدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، وذلك أن «قد» إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربّما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله :

٣٨٥٨ ـ فإن يمسي مهجور الفناء فربّما

أقام به بعد الوفود وفود (٤)

ونحو من ذلك قول زهير :

٣٨٥٩ ـ أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله (٥)

قال أبو حيان : وكون «قد» إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول لبعض النحاة (٦) ، وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من السياق. والصحيح أن ربّ لتقليل

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٠.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) الكشاف ٣ / ٨٧.

(٤) البيت من بحر الطويل ، قاله أبو عطاء السّندي ، من أبيات أربعة يرثي بها يزيد بن هبيرة الفزاري. وهو في المقتصد (٨٢٩) ، اللسان (عهد) والبحر المحيط ٦ / ٤٧٧ ، الخزانة ٩ / ٥٣٩ ، وشرح شواهد الكشاف (٣٥).

الفناء : بكسر الفاء والمد : ساحة الدار. الوفود : الزوار وطلاب الحاجات والشاهد فيه أن (ربما) فيه للتكثير.

(٥) البيت من بحر الطويل ، قاله زهير ، والشاهد فيه دخول قد على الفعل المضارع لإفادة التوكيد. وقد تقدم.

(٦) نسبه ابن هشام إلى سيبويه في المغني ١ / ١٧٤ ، مع أن عبارة سيبويه ليست صريحة في ذلك فإنه قال : (وتكون قد بمنزلة ربما. وقال الشاعر الهذلي : قد أترك القرن مصفرّا أنامله كأن أثوابه مجّت بفرصاد كأنه قال : ربما) الكتاب ٤ / ٢٢٤.

وصرح الرضي بإفادتها للتكثير فقال : (وتستعمل أيضا للتكثير في موضع التمدح كما ذكرنا في ربما قال تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ) [الأحزاب : ٣٣] ، وقال : قد أترك القرن مصفرا أنامله) شرح الكافية ٢ / ٣٨٨. وفي الخزانة : (قال ابن مالك : إطلاق سيبويه القول بأنها بمنزلة ربما موجب للتسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي. واعترضه أبو حيان فقال : لم يبين سيبويه الجهة التي فيها قد بمنزلة ربما ، ولا يدل على التسوية في كل الأحكام ، بل يستدلّ بكلام سيبويه على نقيض ما فهمه ابن مالك ، وهو أن قد بمنزلة ربّما في التكثير فقط ، ويدل عليه إنشاء البيت لأن الإنسان لا يفخر بما يقع منه على سبيل الندرة والقلة ، وإنما يفتخر بما يقع منه على سبيل الكثرة ، فيكون قد بمنزلة ربّما في التكثير) ١١ / ٢٥٥.


الشيء أو لتقليل نظيره ، وإن فهم تكثير فمن السياق لا منها (١).

قوله : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ) ، في «يوم» وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به لا ظرف ، لعطفه على قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، أي : يعلم الذي أنتم عليه من جميع أحوالكم ، ويعلم يوم يرجعون (٢) ، كقوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)(٣).

وقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ)(٤).

والثاني : أنه ظرف لشيء محذوف. قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقدير : والعلم الظاهر لكم أو نحو : هذا يوم ، فيكون النصب على الظرف (٥). انتهى.

وقرأ العامة «يرجعون» مبنيا للمفعول ، وأبو عمرو في آخرين مبنيّا للفاعل (٦) ، وعلى كلتا القراءتين فيجوز وجهان :

أحدهما : أن يكون في الكلام التفات من الخطاب في قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) إلى الغيبة في قوله «يرجعون».

والثاني : أنّ «ما أنتم عليه» خطاب عام لكل أحد ، والضمير في «يرجعون» للمنافقين خاصة ، فلا التفات حينئذ (٧).

فصل

المعنى : «يعلم ما أنتم عليه» من الإيمان والنفاق و «قد» صلة (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يعني يوم البعث ، (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من الخير والشر ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ (٨) عَلِيمٌ).

روي عن عائشة قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهن (٩) الكتابة ، وعلموهن الغزل وسورة النور» (١٠).

وروى الثعلبي عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال (١١) : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن فيما مضى وفيما بقي» (١٢).

__________________

(١) البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٥٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٣) [لقمان : ٣٤].

(٤) [الأعراف : ١٨٧].

(٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٥٧.

(٦) السبعة (٤٥٩) ، النشر ١ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٨٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٧.

(٨) انظر البغوي ٦ / ١٥٤.

(٩) في ب : ولا تعلموهم.

(١٠) أورده البغوي في تفسيره ٦ / ١٥٤.

(١١) قال : سقط من ب.

(١٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه بإسناديهما إلى أبيّ بن كعب رضي الله عنه. انظر الكافي الشاف في تخريح أحاديث الكشاف (١٢١).


سورة الفرقان

مكية (١) ، وهي سبع وسبعون آية ، وثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة ، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٢)

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) الآية. اعلم أنه تعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر العباد المخلصين المؤمنين. قال الزجاج : «تبارك» تفاعل من البركة (٢). والبركة كثرة الخير وزيادته ، وفيه معنيان :

أحدهما : تزايد خيره وتكاثره. قال ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤].

والثاني : قال الضحاك : تعظّم الذي نزل الفرقان ، أي : القرآن على عبده. وقيل (٣) : الكلمة تدل على البقاء ، وهو مأخوذ من بروك البعير ، ومن بروك الطير على الماء. وسميت البركة بركة ، لثبوت الماء فيها ، والمعنى : أنه سبحانه باق (٤) في ذاته أزلا وأبدا ممتنع التغير ، وباق (٤) في صفاته ممتنع التبدل(٥).

فإن قيل : كلمة «الذي» موضوعة في اللغة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه

__________________

(١) هذه السورة مكية في قول الجمهور ، وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي«وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ» إلى قوله «وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠] وقال الضحاك : مدنية إلا من أولها إلى قوله :«وَلا نُشُوراً»[الفرقان : ١ ـ ٣] تفسير ابن عطية ١١ / ١ ، القرطبي ١٣ / ١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(٢) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٥٧.

(٣) وقيل : سقط من ب.

(٤) في النسختين : باقي.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٤ ـ ٤٥.


بقضية معلومة ، وإذا كان كذلك فالقوم ما كانوا عالمين بأنه ـ سبحانه ـ الذي نزل الفرقان. فالجواب : أنه لما ظهر الدليل على كونه من عند الله ، فلقوة الدليل وظهوره أجراه مجرى المعلوم (١).

فصل

وصف القرآن بالفرقان ، لأنه فرق بين الحق والباطل في نبوة محمد ـ عليه‌السلام (٢) ـ وبين الحلال والحرام ، أو (٣) لأنه فرق في النزول كقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦] ، وهذا أقرب ، لأنه قال : (نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) ولفظة «نزل» تدل على التفريق ، ولفظة «أنزل» تدل على الجمع ، ولهذا قال في سورة آل عمران : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)) (٤)(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)(٥) [آل عمران : ٣]. والمراد بالعبد ههنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) ـ.

قوله : «ليكون». اللام متعلقة ب «نزّل» ، وفي اسم «يكون» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ضمير يعود على «الّذي نزّل» ، أي : ليكون الذي نزل الفرقان نذيرا (٧).

الثاني : أنه يعود على «الفرقان» وهو القرآن ، أي : ليكون الفرقان نذيرا (٨) (أضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) [الإسراء : ٩] وهذا بعيد ؛ لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف ، ووصف القرآن به مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى(٩))(١٠).

الثالث : أنه يعود على «عبده» ، أي : ليكون عبده محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نذيرا (١١). وهذا أحسن الوجوه معنى وصناعة ، لقربه مما يعود عليه الضمير على أقرب مذكور. و «للعالمين» متعلق ب «نذيرا» ، وإنما قدم لأجل الفواصل ، ودعوى إفادة الاختصاص بعيدة ، لعدم تأتيها هنا ، ورجح أبو حيان عوده على «الذي» ، قال : لأنه العمدة المسند إليه الفعل ، وهو من وصفه تعالى كقوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان : ٣] ، و «نذيرا» الظاهر فيه أنه بمعنى منذر ، وجوّزوا أن يكون مصدرا بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ، ومنه (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)(١٢) [القمر : ١٦] فإن قوله : «تبارك» يدل على كثرة

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٥.

(٢) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم.

(٣) أو : سقط من ب.

(٤) ما بين القوسين سقط من النسختين.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٥.

(٦) المرجع السابق.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٩ ، الكشاف ٣ / ٨٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣ ، التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٥.

(١٠) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٩ ، الكشاف ٣ / ٨٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣ ، التبيان ٢ / ٩٨٠.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.


الخير والبركة ، فالمذكور عقيبه لا بد وأن يكون سببا لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم والخوف ، فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ فالجواب : أن الإنذار يجري مجرى تأديب الولد (١) ، كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر (كان الإحسان إليه أكثر ، لما أن ذلك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة ، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيرا) (٢) كان رجوع الخلق إلى الله أكثر ، وكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة ؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه بأنه معطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر منافع الدنيا البتّة (٣).

قوله : «الّذي له ملك» يجوز في «الّذي» الرفع نعتا للذي الأول (٤) ، أو بيانا (٥) ، أو بدلا(٦) ، أو خبرا لمبتدأ محذوف (٧) ، أو النصب على المدح (٨).

وما بعد بدل من تمام الصلة فليس أجنبيا ، فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعا له (٩).

فصل

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه حال حدوثها ، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء (١٠).

«ولم يتخذ ولدا» أي : هو الفرد أبدا ، ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه ، وهذا رد على النصارى (١١). (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي : هو المنفرد بالإلهية ، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل ما سواه ، ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه ، وفيه رد على الثنوية ، والقائلين بعبادة النجوم والأوثان (١٢).

قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) الخلق هنا عبارة عن الإحداث والتهيئة لما يصلح له ، لا

__________________

(١) في النسختين الولد. والتصويب من الفخر الرازي.

(٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٥ ـ ٤٦.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(٥) وجاز ذلك لأن الموصول الثاني أخص من الموصول الأول.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٨٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٨٨ ، التبيان ٢ / ٩٨٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(٩) قال الزمخشري : (فإن قلت : كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت : ما فصل بينهما بشيء ، لأن المبدل منه صلته «نزل» و «ليكون» تعليلا له ، فكأن المبدل منه لم يتم إلا به) الكشاف ٣ / ٨٨ ، وقال أبو حيان : (وما بعد «نزل» من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلا بين النعت أو البدل ومتبوعه) البحر المحيط ٦ / ٤٨٠.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٦.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) المرجع السابق.


خلل فيه ولا تفاوت حتى (١) يجيء قوله : «فقدره تقديرا» مفيدا (٢) إذ لو حملنا (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام : وقدر كل شيء فقدره (٣).

فصل

قوله : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يدل على أنه تعالى خلق الأعمال من وجهين :

الأول : أن قوله : (كُلَّ شَيْءٍ) يتناول جميع الأشياء ، ومن جملتها أفعال العباد.

والثاني : أنه تعالى نفى الشريك ، فكأن قائلا قال : ههنا أقوام معترفون بنفي الشريك والأنداد ومع ذلك يقولون بخلق أفعال أنفسهم ، فذكر الله تعالى هذه الآية ردا عليهم. قال القاضي : الآية تدل عليه لوجوه :

أحدها : أنه تعالى صرح بكون العبد خالقا فقال : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة : ١١٠] ، وقال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] و (٤) تمدح بأنه قدره تقديرا ، ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره. فظاهر الآية لا يدل إلا على التقدير ، لأن الخلق عبارة عن التقدير ، فلا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وهو الأجسام لا الأعراض. والجواب : أن قوله : «إذ تخلق» ، وقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) معارض بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] وبقوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] وقولهم : لا يجوز التمدح بخلق الفساد ، فالجواب : لم لا يجوز أن يتمدح به من حيث نفاذ القدرة (٥).

قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٣)

قوله تعالى (٦) : (وَاتَّخَذُوا) يجوز أن يعود الضمير على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين (٧) ، وأن يعود على من ادّعى لله (٨) شريكا وولدا ، لدلالة (٩) قوله : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)(١٠) وأن يعود على المنذرين ، لدلالة «نذيرا» عليهم (١١).

__________________

(١) في ب : قد.

(٢) في ب : مفيد.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٨٨ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٤٧.

(٤) و : سقط من ب.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٦ ـ ٤٧.

(٦) تعالى : سقط من ب.

(٧) حكاه أبو حيان عن الكرماني. البحر المحيط ٦ / ٤٨١.

(٨) لله : سقط من ب.

(٩) في ب : لدلالة لأن.

(١٠) قال أبو حيان : (الضمير في «واتخذوا» عائد على ما يفهم من السياق ، لأن في قوله : «وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» دلالة على ذلك). البحر المحيط : ٦ / ٤٨١.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨١.


قوله : «لا يخلقون» صفة ل «آلهة» (١) ، وغلب العقلاء على غيرهم ؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة وغيرهم كالكواكب والأصنام. ومعنى «لا يخلقون» لا يقدرون على التقدير ، والخلق يوصف به العباد قال زهير :

٣٨٦٠ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري (٢)

ويقال : خلقت الأديم : أي : قدرته ، وهذا إذا أريد بالخلق التقدير ، فإن أريد به الإيجاد فلا يوصف به غير الباري ـ تعالى ـ وقد تقدم (٣).

وقيل : بمعنى يختلقون كقوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً)(٤).

فصل

لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب عبدة الأوثان من وجوه : منها : أنها ليست خالقة للأشياء ، والإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد ومنها : أنها مخلوقة ، والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنيا. ومنها (٥) : أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا ، ومن كان كذلك لا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا. أي : لا يقدر على الإحياء والإماتة لا في زمن التكليف ، ولا في زمن المجازاة ، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها ، وكيف يستحق العبادة (٦)؟.

فصل

احتج أهل السنة بقوله : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأنه عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئا ، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد ، فلو كان العبد خالقا لكان معبودا إلها. وأجاب الكعبي بأنا لا نطلق (٧) اسم الخالق إلا على الله تعالى ، (وقال بعض أصحابنا في الخلق : إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى.

ثم قال : قد قال الله تعالى) (٨) : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩] في وصف الأصنام ، أفيدل ذلك على أن كل من له رجل (٩) يستحق أن يعبد. فإذا قالوا : لا. قيل : فكذلك ما ذكرتم ، وقد قال الله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] هذا كله كلام الكعبي.

__________________

(١) في ب : لإله.

(٢) البيت من بحر الكامل. قاله زهير بن أبي سلمى. والشاهد فيه قوله : «خلقت» فإنه بمعنى قدرته.

(٣) في سورة المؤمنون.

(٤) من قوله تعالى : «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً»[العنكبوت : ١٧].

(٥) في ب : منها.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٨.

(٧) في ب : بأنه لا يطلق.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في ب : أرجل


والجواب : قوله : لا نطلق (١) اسم الخالق على العبد. قلنا : بل يجب (٢) ذلك ، لأن الخلق في اللغة هو التقدير ، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان ، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازا(٣) في الله ، فكيف يمكنهم منع (٤) إطلاق لفظ الخالق على العبد؟. وأما قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) فالعيب إنما وقع عليهم ، فلا جرم أن من تحقق العجز في حقه من (٥) بعض الوجوه لم يحسن عبادته. وأما قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فتقدم الكلام عليه (٦). واعلم أن في استدلال أهل السنة بالآية (٧) نظر ، لاحتمال (٨) أن الغيب (٩) إنما حصل بمجموع الأمرين ، وهو كونهم ليسوا بخالقين ، وكونهم مخلوقون ، والعبد وإن كان خالقا إلا أنه مخلوق ، فلا (١٠) يلزم أن يكون العبد إلها معبودا (١١).

فصل

دلّت الآية على البعث ، لأنه تعالى ذكر النشور ، ومعناه : أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين ، والعقاب إلى العصاة ، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا (١٢) يصلح للإلهية(١٣).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٩)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) الآية. لما تكلم أولا في التوحيد وثانيا في الرد على عبدة الأوثان ، تكلم ههنا في مسألة النبوة ، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. فالشبهة الأولى : قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).

__________________

(١) في ب : لا يطلق.

(٢) في ب : قلنا فوجب.

(٣) في ب : مجاز. وهو تحريف.

(٤) في ب : مع. وهو تحريف.

(٥) في ب : أما من.

(٦) في سورة المؤمنون.

(٧) بالآية : سقط من الأصل.

(٨) في ب : لأن احتمال.

(٩) في ب : الغيب. وهو تصحيف.

(١٠) في ب : ولا.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٨ ـ ٤٩.

(١٢) في ب : أن لا يكون.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٤٩.


قال (١) الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث هو الذي قال هذا القول «وأعانه عليه قوم آخرون» يعني : عامر مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبير مولى عامر ، هؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا يقرؤون التوراة ، فلما أسلموا ، وكان النبي يتعهدهم ، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال (٢). وقال الحسن : عبيد بن الحصر (٣) الحبشيّ الكاهن (٤). وقيل : جبر ويسار وعداس عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن محمدا يأخذ منهم (٥).

قوله : «افتراه» الهاء تعود على «إفك» وقال أبو البقاء : الهاء تعود على «عبده» في أول السورة (٦). قال شهاب الدين (٧) : ولا أظنه إلا غلطا وكأنه أراد أن يقول الضمير المرفوع في «افتراه» فغلط (٨).

قوله : «ظلما» فيه أوجه :

أحدها : أنه مفعول به ، لأن جاء يتعدى بنفسه (وكذلك أتى) (٩)(١٠).

والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، أي : جاءوا بظلم. قاله الزجاج (١١).

الثالث : أنه في موضع الحال (١٢) ، فيجيء فيه ما في قولك : جاء زيد عدلا (١٣).

قال الزمخشري : «فقد جاءوا ظلما وزورا» أي : أتوا (١٤) ظلما وكذبا كقوله (١٥) : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا)(١٦) [مريم : ٨٩] فانتصب بوقوع المجيء (١٧). أما كونه «ظلما»

__________________

(١) في ب : وقال.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٠.

(٣) كذا في البغوي ، وفي الأصل : الحضرمي ، وفي ب : الحضرمي في.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٥٧.

(٥) المرجع السابق.

(٦) التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٧) في الأصل : قاله. وهو تحريف.

(٨) الدر المصون ٥ / ١٣٦. وفي ب : فغلط افتراه اختلقه والافتراء افتعال من فريت يقال : فريت الأديم.

(٩) حكاه أبو حيان عن الكسائي. البحر المحيط ٦ / ٤٨١ ، وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٨٨ ، والتبيان ٢ / ٩٨٠.

(١٠) ما بين القوسين في ب : ولذلك أتى به.

(١١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٥٨ ، وانظر أيضا الكشاف ٣ / ١٨٨.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.

(١٣) أي أنه مصدر في موضع الحال مؤول بالمشتق والتقدير : جاؤوا ظالمين ، أو على حذف مضاف أي : ذوي ظلم ، هذا مذهب البصريين ، ومذهب الكوفيين أنه مفعول مطلق للفعل السابق عليه ، وقيل : لفعل مقدر من لفظه ، والتقدير : جاؤوا يظلمون ظلما.

(١٤) في النسختين : كفروا. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٥) في ب : لقوله.

(١٦) [مريم : ٨٩]. والاستشهاد بالآية على أن المصدر منصوب بالفعل السابق وليس حالا.

(١٧) لم أجده في الكشاف ، وهو موجود في الفخر الرازي ، وقد نسبه ابن الخطيب إلى الكسائي. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٠. وكان الأولى في هذه العبارة أن تكون بعد الوجه الأول ؛ لأنها تدل على أن الفعل تعدى إلى المصدر فنصبه.


فلأنهم نسبوا هذا الفعل (١) القبيح إلى من كان مبرأ عنه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وذلك هو الظلم. وأما كونه «زورا» فلأنهم كذبوا ، قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول (٢).

الشبهة الثانية : قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. اكْتَتَبَها) الآية. يجوز في «اكتتبها» ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون حالا من «أساطير» (٣) ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة ، فإن «أساطير» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة (٤).

الثاني : أن يكون في موضع خبر ثان ل «هذه».

الثالث : أن يكون «أساطير» مبتدأ و «اكتتبها» خبره (٥). و «اكتتبها» الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر بكتابتها كافتصد (٦) واحتجم (٧) إذا أمر بذلك (٨) ويجوز أن يكون بمعنى كتبها ، وهو من جملة افترائهم عليه ، لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ويكون كقولهم : (استكبه واصطبه ، أي: سكبه وصبه) (٩)(١٠) ، والافتعال مشعر بالتكليف (١١). ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب ، وهو الجمع (١٢) لا من الكتابة بالقلم. وقرأ طلحة «اكتتبها» مبنيا للمفعول (١٣).

قال الزمخشري : والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أميا لا يكتب بيده ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير ، فصار اكتتبها إياه كاتب ، كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إيّاه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا (١٤) ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار «اكتتبها» كما ترى (١٥). قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين ، لأن «اكتتبها» له

__________________

(١) في ب : للفعل. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٠.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٨٠.

(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٩ ، البيان ٢ / ٢٠٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٥) قالهما أبو حيان. البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٦) الفصد : شق العرق. فصده يفصده فصدا وفصادا ، فهو مفصود وفصيد ، وفصد الناقة : شق عرقها ليستخرج دمه فيشربه. اللسان (فصد).

(٧) احتجم : طلب الحجامة ، والحجم : المص ، يقال حجم الصبي ثدي أمه إذا مصّه. اللسان (حجم).

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٩) قال الزمخشري :(«اكتتبها» كتبها لنفسه وأخذها كما تقول : استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبّه لنفسه) الكشاف ٣ / ٨٨.

(١٠) ما بين القوسين في ب : استكه واصطكه أي سكه وصكه.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١٣) المختصر (١٠٣) ، المحتسب ٢ / ١١٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١٤) في ب : وزنا. وهو تحريف. وفي الكشاف : بارزا منصوبا.

(١٥) الكشاف ٣ / ٨٨ ـ ٨٩.


كاتب ، وصل الفعل فيه المفعولين : أحدهما : مسرح (١) ، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد (٢) ، وهو ضميره عليه‌السلام (٣) ـ ، ثم اتسع في الفعل ، فحذف حرف الجر ، فصار «اكتتبها إياه كاتب» ، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظا وتقديرا ، لا المسرح لفظا المقيد تقديرا ، فعلى هذا كان يكون التركيب (اكتتبه) لا (اكتتبها) ، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع ، قال الفرزدق :

٣٨٦١ ـ ومنّا الّذي اختير الرجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرياح الزّعازع (٤)

ولو جاء على ما قدره الزمخشري لجاء التركيب : ومنّا الذي اختيره الرجال. لأن (اختير) تعدى إلى الرجال بإسقاط حرف الجر ؛ إذ تقديره : اختير من الرجال (٥). وهو اعتراض حسن بالنسبة (٦) إلى مذهب الجمهور ، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه ، ويوافق الأخفش والكوفيين ، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظا وتقديرا ، ويقيمون المجرور بالحرف مع وجوده ، فهذا (٧) أولى (٨).

والظاهر أن الجملة من قوله «اكتتبها فهي تملى» من تتمة قول الكفار (٩).

وعن الحسن أنها من كلام الباري تعالى ، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ «أكتتبها» بهمزة مقطوعة مفتوحة للاستفهام (١٠) كقوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)(١١) [سبأ : ٨]. ويمكن أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢]. وقول الآخر :

__________________

(١) أي تعدى إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر.

(٢) أي تعدى إليه الفعل بحرف الجر.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) البيت من بحر الطويل ، قاله الفرزدق. سماحة وجودا : مصدران منصوبان على المفعول لأجله ، كأنه قيل : اختير من الرجال لسماحته وجوده ، ويجوز أن يكونا حالين أو تمييزين.

الزعازع : جمع زعزع ، وهي الرياح التي تهب بشدة ، عنى بذلك الشتاء والشاهد فيه أن نائب الفاعل في قوله (اختير) ضمير مستتر يعود على المفهوم من الكلام المتقدم ، وهو المفعول الأول الذي تعدى إليه الفعل بنفسه ، و (الرجال) هو المفعول الثاني ، وهو منصوب في البيت على نزع الخافض ، والتقدير : من الرجال. وفي ب : والزعازع. وهو تحريف.

(٥) في ب : ما النسبة. وهو تحريف.

(٦) البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٧) في ب : وهذا.

(٨) ذهب الكوفيون ووافقهم بعض المتأخرين إلى أن قيام المفعول به المجرور مقام الفاعل أولى لا أنه واجب ، والأخفش أجاز نيابة الظرف والمصدر مع وجود المفعول به ، بشرط تقدمهما على المفعول به ووصفهما. وجوز الفراء وابن مالك في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ثانيهما بحرف الجر عند بنائه للمفعول إقامة الثاني نحو اختير الرجال زيدا. الكافية ١ / ٨٤ ـ ٨٥ ، الهمع ١ / ١٦٢.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٨٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(١١) [سبأ : ٨]. والاستشهاد بالآية أن هذا من كلام الله ، يدل على ذلك مجيء الهمزة المفتوحة بالقطع للاستفهام ، فلو كان (اكتتبها) من كلام الله لجيء بهمزة الاستفهام قبله.


٣٨٦٢ ـ أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا (١)

يريد : أو تلك ، أو أأفرح (٢) ، فحذف لدلالة الحال ، وحقه أن يقف على «الأولين» (٣) قال الزمخشري : كيف قيل : «اكتتبها فهي تملى عليه» وإنما يقال : أمليت عليه فهو يكتبها. قلت فيه وجهان :

أحدهما : أراد اكتتابها وطلبه ، فهي تملى عليه ، أو كتبت له ، وهو أمر فهي تملى عليه ، أي : تلقى عليه من كتاب يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب (٤).

وقرأ عيسى وطلحة «تتلى» بتاءين من [فوق (٥) من التلاوة. و «بكرة وأصيلا» ظرفا زمان للإملاء ، والياء (٦) في «تملى» بدل من](٧) اللام ، كقوله : (فَلْيُمْلِلْ)(٨) وقد تقدم.

فصل

المعنى : أن هذا القرآن ليس من الله ، إنما هو مما سطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار ، جمع أسطار وأسطورة (٩) كأحدوثة استنسخها محمد من أهل الكتاب «فهي تملى عليه» أي : تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها «بكرة وأصيلا» غدوة (١٠) وعشيّا. قوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) الآية. وهذا جواب عن شبههم ، وذلك أنه ـ عليه‌السلام (١١) ـ تحداهم بالمعارضة وأظهر عجزهم عنها ، ولو كان عليه‌السلام (١١) أتى بالقرآن من عند نفسه ، أو استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضا أن يستعينوا بأحد ، فيأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه ، فلهذا قال : (قُلْ أَنْزَلَهُ) يعني: القرآن «الّذي يعلم السّرّ» أي : الغيب (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالما بكل المعلومات ظاهرها وخفيها ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ

__________________

(١) البيت من بحر المنسرح ، قاله حضرمي بن عامر الأسدي ، وقد تقدّم.

والشاهد فيه حذف همزة الاستفهام ، للعلم بها ، والتقدير : أأفرح.

(٢) في ب : أفرح. وهو تحريف.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٨٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٤) الكشاف ٣ / ٨٩.

(٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥ ـ ٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٢.

(٦) أي : باعتبار الأصل ، إذ هي في «تملى» ألف ولكن أصلها الياء ، فكان الأولى أن يعبر بالألف.

(٧) ما بين القوسين مكرر في ب.

(٨) [البقرة : ٢٨٢]. قال ابن عصفور : (وأبدلت من اللام في (أمليت الكتاب) إنما أصله أمللت ، فأبدلت اللام الأخيرة ياء ، هروبا من التضعيف ، وقد جاء القرآن باللغتين جميعا ، قال تعالى : «فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» وقال عزوجل : «وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» وإنما جعلنا اللام هي الأصل ؛ لأن أمللت أكثر من أمليت) الممتع ١ / ٣٧٣. وذكر ابن عادل هناك : ويقال : أمللته وأمليته ، فقيل : هما لغتان وقيل : الياء بدل من أحد المثلين ، وأصل المادة الإعادة مرة بعد أخرى. انظر اللباب ٢ / ١٤٥.

(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٩ ، البيان ٢ / ٢٠٢.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥١.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.


لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(١) [النساء : ٨٢] ثم قال : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ، فذكر الغفور في هذا الموضع لوجهين :

أحدهما : قال أبو مسلم : إنه لما أنزله لأجل الإنذار وجب أن يكون غفورا رحيما ، غير مستعجل بالعقوبة.

الثاني : أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العقاب صبّا ، ولكن صرف عنهم كونه غفورا رحيما ، يمهل ولا يعاجل (٢).

الشبهة الثالثة : قوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ). الآية. «ما» استفهامية مبتدأة ، والجار بعدها خبر ، و «يأكل» جملة حالية (٣) ، وبها تتم فائدة الإخبار ، كقوله : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] وقد تقدم في النساء (٤) أن لام الجر كتبت مفصولة من مجرورها ، وهو خارج عن قياس الخط (٥). والعامل في الحال الاستقرار العامل في الجر ، أو نفس الجر ذكره أبو البقاء (٦).

قوله : «فيكون». العامة على نصبه ، وفيه وجهان :

أحدهما : نصبه على جواب التحضيض (٧).

والثاني : قال أبو البقاء : «فيكون» منصوب على جواب الاستفهام (٨). وفيه نظر ، لأن ما بعد الفاء لا يترتب على هذا الاستفهام ، وشرط النصب أن ينعقد منهما شرط وجزاء. وقرىء «فيكون» بالرفع (٩) وهو معطوف على «أنزل» ، وجاز عطفه على الماضي ؛ لأن المراد بالماضي المستقبل إذ التقدير : لو لا ينزل (١٠).

قوله : «أو يلقى ... أو تكون» معطوفان على «أنزل» لما تقدم من كونه بمعنى

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥١.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٢.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٨١.

(٤) عند قوله تعالى : «فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» [النساء : ٧٨].

(٥) لأن قياس الخط اتصال لام الجر بمجرورها ، وذكر مكي أن علة الفصل أنه كتب على لفظ المملي ، كأنه كان يقطع لفظه «مال ... هذا» فكتب الكاتب على لفظه ، وذكر أن الفراء قال : أصله : ما بال هذا الرسول ، ثم حذف (با) فبقيت اللام منفصلة. وقيل : إن أصل حروف الجر أن تأتي منفصلة مما بعدها نحو (في ، عن ، على) فأتى ما هو على حرف على قياس ما هو على حرفين. مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٣٠.

(٦) قال أبو البقاء : (قوله تعالى : «يَأْكُلُ الطَّعامَ» هو في موضع الحال ، والعامل فيها العامل في «لهذا» أو نفس الظرف) التبيان ٢ / ٩٨١.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٨٩ ، البيان ٢ / ٢٠٢ ، التبيان ٢ / ٩٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٣.

(٨) التبيان ٢ / ٩٨١.

(٩) حكاه أبو معاذ. المختصر (١٠٤) ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٣.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٨٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٣ ، وجوّز أبو حيان أيضا أن يكون جواب التحضيض على إضمار (هو) ، أي فهو يكون.


ينزل ، ولا يجوز أن يعطفا على «فيكون» المنصوب في الجواب ؛ لأنهما مندرجان في التحضيض في حكم الواقع بعد «لو لا» ، وليس المعنى على أنهما جواب للتحضيض ، فيعطفا على جوابه (١). وقرأ الأعمش وقتادة «أو يكون له» بالياء من تحت (٢) ؛ لأن تأنيث الجنة مجازي (٣).

قوله : «يأكل منها» الجملة في موضع الرفع صفة ل «جنّة». وقرأ الأخوان (٤) «نأكل» بنون الجمع ، والباقون بالياء من تحت أي : الرسول (٥).

قوله : «وقال الظّالمون» وضع الظاهر موضع المضمر ؛ إذ الأصل «وقالوا».

قال الزمخشري : وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم (٦).

قال أبو حيان : وقوله ليس تركيبا سائغا بل التركيب العربي أن يقول أرادهم (٧) بأعيانهم (٨).

فصل

وهذه الشبهة التي ذكروها في نهاية الرذالة ، فقالوا : «مال هذا الرّسول يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق» يلتمس المعاش كما نلتمس فمن أين له الفضل علينا؟ وكيف يمتاز عنّا بالنبوة ، وهو مثلنا في هذه الأمور.

وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) هلّا أنزل إليه ملك (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) يصدقه ويشهد له ، ويرد على من خالفه. «أو يلقى إليه كنز» من السماء ، فينفعه ولا يحتاج إلى تردد لطلب المعاش ، وكانوا يقولون له : لست أنت بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك ؛ لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل. وما قالوه فاسد (٩) ؛ لأن أكله الطعام لكونه آدميا ، ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له. وقالوا : (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) ، والمعنى : إن لم يكن له كنز فلا أقلّ أن يكون كواحد من الدهاقين (١٠) ، فيكون له بستان يأكل منه (١١)(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) مخدوعا ، وقيل : مصروفا عن الحق. وتقدمت هذه القصة في آخر بني إسرائيل (١٢). ثم أجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ)

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ٨٩ ، البيان ٢ / ٢٠٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٣.

(٢) انظر المختصر (١٠٤) ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٣.

(٣) في ب : مجاز.

(٤) حمزة والكسائي.

(٥) السبعة (٤٦٢) ، الحجة لابن خالويه (٢٦٤) ، الكشف ٢ / ١٤٤ ، النشر ٢ / ٣٣٣ ، الإتحاف (٣٢٧).

(٦) الكشاف ٣ / ٨٩.

(٧) في ب : أراهم. وهو تحريف.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٤٨٣.

(٩) في ب : كاسد. وهو تحريف.

(١٠) الدهاقين : جمع دهقان أو دهقان : التاجر ، فارسي معرب. اللسان (دهق).

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٢.

(١٢) وهي سورة الإسراء ، انظر اللباب ٥ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.


يعني الأشباه فضلوا عن الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة.

وبيان وجه الجواب كأنه تعالى قال : انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها : لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا (١) القدح في نبوّتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلا البتّة ، إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول (٢).

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(١٤)

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الآية وهذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة (٣) ، أي : تبارك الّذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك الذي قالوا ، وأفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، أي : أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه ، ولكنه تعالى يعطي عباده بحسب المصالح ، أو على وفق المشيئة (٤) ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله (٥).

قال ابن عباس : (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي : مما عيّروك بفقد الجنة الواحدة ، وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة. وقال في رواية عكرمة : (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي : من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش (٦).

وقوله : «إن شاء» معناه : أنه تعالى قادر على ذلك لا أنه شاكّ ، لأن الشك لا يجوز على الله تعالى. وقيل : «إن» ههنا بمعنى (قد) ، أي : قد (٧) جعلنا لك في الآخرة جنات ومساكن ، وإنما أدخل (إن) تنبيها للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته ، وأنه معلق على محض مشيئته ، وليس لأحد من العباد حق على الله لا في الدنيا ولا في الآخرة (٨).

قوله : «جنّات». يجوز أن يكون بدلا من «خيرا» (٩) وأن يكون عطف بيان لذلك الخير عند من يجوزه في النكرات (١٠) ، وأن يكون منصوبا بإضمار أعني. و (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) صفة.

قوله : «ويجعل لك» قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع «يجعل» ، والباقون

__________________

(١) في ب : وأراد. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٢.

(٣) الشبهة : مكرر في الأصل.

(٤) في ب : السنة.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٣.

(٦) المرجع السابق.

(٧) قد : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٨١.

(١٠) وهو مذهب الكوفيين والفارسي والزمخشري. الهمع ٢ / ١٢١.


بإدغام لام «يجعل» في لام «لك» (١) وأما الرفع ففيه وجهان :

أحدهما : أنه مستأنف (٢).

والثاني : أنه معطوف على جواب الشرط. قال الزمخشري (٣) : لأن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع ، كقوله :

٣٨٦٣ ـ وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم (٤)

قال الزمخشري (٥) : وليس هذا مذهب سيبويه بل مذهبه أن الجواب محذوف ، وأن هذا المضارع منويّ به التقديم (٦) ، ومذهب المبرد والكوفيين أنه جواب على حذف الفاء (٧) ، ومذهب آخرين أنه جواب لا على حذفها بل لما كان الشرط ماضيا ضعف تأثير (إن) فارتفع (٨). فالزمخشري بنى قوله على هذين المذهبين. ثم قال أبو حيان : وهذا التركيب جائز فصيح ، وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجيء إلا في ضرورة (٩). وأما القراءة الثانية فتحتمل وجهين :

__________________

(١) السبعة (٤٦٢) ، الحجة لابن خالويه (٢٦٤) ، الكشف ٢ / ١٤٤ ، النشر ٢ / ٢٣٣ ، الاتحاف (٣٢٧).

(٢) انظر البيان ٢ / ٢٠٢ ، التبيان ٢ / ٩٨١.

(٣) الكشاف ٣ / ٩٠.

(٤) البيت من بحر البسيط ، قاله زهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان وهو في ديوانه (١٥٣) ، الكتاب ٣ / ٦٦ ، المقتضب ٢ / ٦٨ ، المحتسب ٢ / ٦٥ ، الانصاف ٢ / ٦٢٥ ، المغني ٢ / ٤٢٢ ، شذور الذهب ٣٤٩. المقاصد النحوية ٤ / ٤٢٩ ، التصريح ٢ / ٢٤٩ ، الهمع ٢ / ٦٠ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٨ ، الأشموني ٤ / ١٧ الخليل : الفقير. المسألة : السؤال ، ويروى مسغبة أي مجاعة حرم : ممنوع.

أورده الزمخشري شاهدا على رفع المضارع الواقع جزاء الشرط إذا كان فعل الشرط ماضيا. ومذهب سيبويه رفع (يقول) على نية التقديم ، وتقديره : يقول إن أتاه خليل ، وجاز هذا لأن (إن) غير عاملة في اللفظ ، فسيبويه يرى أن هذا المضارع ليس هو جواب الشرط ، ولكنه دليل على الجواب ومذهب المبرد أنه جواب الشرط على حذوف الفاء.

(٥) ليس القائل الزمخشري ، وإنما قائل ذلك أبو حيان ردّا على الزمخشري ولعله سهو من الناسخ.

(٦) قال سيبويه : (وقد تقول : إن أتيتني آتيك ، أي : آتيك إن أتيتني ، قال زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

ولا تحسن إن تأتني آتيك من قبل أن إن هي العاملة ، وقد جاء في الشعر قال جرير بن عبد الله البجلي :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع

أي إنك تصرع إن يصرع أخوك) الكتاب ٣ / ٦٦ ـ ٦٧.

(٧) قال المبرد : (فمن ذلك قول زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

فقوله : (يقول) على إرادة الفاء على ما ذكرت لك) المقتضب ٢ / ٦٨.

وانظر الهمع ٢ / ٦٠ ـ ٦١ ، الأشموني ٤ / ١٧ ـ ١٨.

(٨) لم ينسب هذا المذهب إلى نحاة مخصوصين. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٤ ، الهمع ٢ / ٦ ، الأشموني ٤ / ١٨.

(٩) البحر المحيط ٦ / ٤٨٤.


أحدهما : أن سكون اللام للجزم عطفا على محل (جعل) (١) ؛ لأنه جواب الشرط (٢).

والثاني : أنه مرفوع ، وإنما سكن لأجل الإدغام. قاله الزمخشري (٣) وغيره (٤). وفيه نظر من حيث إن من جملة من قرأ بذلك وهو نافع والأخوان وحفص ليس من أصولهم الإدغام حتى يدعى لهم في هذا المكان. نعم أبو عمرو أصله الإدغام وهو يقرأ هنا بسكون اللام فيحتمل ذلك على قراءته ، وهذا من محاسن علم النحو والقراءات معا (٥) وقال (٦) الواحدي (٧) : وبين القراءتين فرق في المعنى ، فمن جزم فالمعنى : إن شاء يجعل لك قصورا في الدنيا ، ولا يحسن الوقف على «الأنهار» ومن رفع حسن الوقف (على «الأنهار») (٨) واستأنف (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) في الآخرة.

وقرأ ابن سليمان (٩) وطلحة بن سليمان (١٠) «ويجعل» بالنصب (١١) ، وذلك بإضمار أن على جواب الشرط ، واستضعفها ابن جنيّ (١٢) ، ومثل هذه القراءة قوله (١٣) :

٣٨٦٤ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والبلد الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام (١٤)

بالتثليث في (نأخذ).

فصل

القصور جماعة القصر ، وهو المسكن الرفيع. قال المفسرون : القصور هي البيوت

__________________

(١) في ب : يجعل. وهو تحريف.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٤.

(٣) قال الزمخشري : (ويجوز في «وَيَجْعَلْ لَكَ» إذا أدغمت أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعا) الكشاف ٢ / ٩٠.

(٤) قال أبو البقاء : (ويجوز أن يكون من جزم سكن المرفوع تخفيفا وأدغم) التبيان ٢ / ٩٨١.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٤.

(٦) في ب : قال.

(٧) تقدم.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) صوابه : عبيد الله بن موسى كما في المحتسب ٢ / ١١٨ ، وتفسير ابن عطية ١١ / ٩ ـ ١٠ والبحر المحيط ٦ / ٤٨٤. وابن سليمان هو : عبيد الله بن سليمان أبو القاسم النحامي البغدادي مقرىء ، روى قراءة يعقوب عن محمد بن هارون التمار عن محمد بن المتوكل. طبقات القراء ١ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨.

(١٠) هو طلحة بن سليمان السمان مقرىء ، أخذ القراءة عرضا عن فياض بن غزوان عن طلحة بن مصرف ، وله شواذ تروى عنه ، روى القراءة عنه إسحاق بن سليمان أخوه ، وغيره. طبقات القراء ١ / ٣٤١.

(١١) المحتسب ٢ / ١١٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٩ ـ ١٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٤.

(١٢) قال ابن جني : (نصبه على أنه جواب الجزاء ، كقولك : إن تأتني آتك وأحسن إليك ، وجازت إجابته بالنصب لما لم يكن واجبا إلا بوقوع الشرط من قبله ، وليس قويا مع ذلك ، ألا تراه بمعنى قولك : أفعل كذا إن شاء الله) المحتسب ٢ / ١١٨.

(١٣) قوله : سقط من الأصل.

(١٤) البيتان من بحر الوافر قالهما النابغة الذبياني. وقد تقدما.


المشيدة ، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصرا. ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكنا ومنتزها ، ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة.

وقال مجاهد : «إن شاء جعل لك جنات» في الآخرة وقصورا في الدنيا (١).

روي أنه ـ عليه‌السلام (٢) ـ قال : «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : لا يا ربّ ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ـ أو (٣) قال ثلاثا ، أو نحو هذا ـ فإذا جعت تضرّعت إليك ودعوتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» (٤) وروت عائشة قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لو شئت لسارت معي جبال الذهب جاءني ملك فقال : إنّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول إن شئت كنت نبيا عبدا ، وإن شئت نبيا ملكا ، فنظرت إلى جبريل ـ عليه‌السلام ـ فأشار إليّ أن ضع نفسك ، فقلت : نبيا عبدا قالت : وكان النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد ذلك لا يأكل متكئا ، ويقول : آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد (٥) وعن ابن عباس قال : بينما رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جالس وجبريل ـ عليه‌السلام ـ معه فقال جبريل : «هذا ملك قد نزل من السّماء استأذن ربّه في زيارتك» فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال : «إنّ الله يخيرك أن يعطيك مفاتيح كلّ شيء لم يعط أحد قبلك ولا يعطيه أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئا» فقال عليه‌السلام (٦) : بل يجمعهما لي جميعا في الآخرة فنزل (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ) الآية (٧). قوله تعالى (٨) : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي : بالقيامة ، فلا يرجون ثوابا ولا عقابا فلا يتكلفون (٩) النظر والفكر ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل. (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً). قال أبو مسلم : «أعتدنا» أي : جعلناها عتيدا ومعدة (١٠) لهم ، والسعير : النار الشديدة الاستعار ، وعن الحسن : أنه اسم جهنم (١١).

فصل

احتج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية (١٢).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٤.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : و.

(٤) أخرجه الترمذي (زهد) ٤ / ٦ ، أحمد ٥ / ٢٥٤ ، وانظر البغوي ٦ / ١٦٠ والفخر الرازي ٢٤ / ٥٤.

(٥) انظر البغوي ٦ / ١٦٠ ـ ١٦١ ، والفخر الرازي ٢٤ / ٥٤.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٤ ، والدر المنثور ٥ / ٦٣ ـ ٦٤.

(٨) تعالى : سقط من ب.

(٩) في الأصل : يتكلفوا.

(١٠) في النسختين : معدا والتصويب من الفخر الرازي.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٥.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٥.


قال الجبائي : يحتمل في قوله : «وأعتدنا» أن المراد منه نار الدنيا ، وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم ، ويحتمل نار الآخرة ، ويكون المعنى : «وأعتدنا» أي : سنعدّها (١) ، كقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤]. وهذا جواب ساقط ، لأن المراد من السعير إما نار الدنيا ، أو نار الآخرة ، فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا ، أو يعذبهم في الآخرة بنار الدنيا (٢) والأول باطل ، لأنه تعالى ما عذبهم بالنار في الدنيا ، والثاني ـ أيضا ـ باطل ؛ لأنه لم يقل أحد من الأمة إنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا. فثبت أن المراد نار الآخرة وأنها معدة.

وأما حمل الآية على أن الله تعالى سيجعلها معدة فترك للظاهر من غير دليل (٣). قوله : (إِذا رَأَتْهُمْ) هذه الجملة الشرطية في موضع نصب صفة ل «سعيرا» (٤) ، لأنه مؤنث بمعنى النار.

قوله : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) فإن قيل : التّغيّظ لا يسمع. فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه على حذف مضاف ، أي : صوت تغيظها (٥).

والثاني : أنه على حذف تقديره : سمعوا ورأوا تغيظا وزفيرا ، فيرجع كل واحد إلى ما يليق به ، أي: رأوا تغيظا وسمعوا زفيرا (٦).

والثالث (٧) : أن يضمن «سمعوا» معنى يشمل الشيئين ، أي : أدركوا لها تغيظا وزفيرا (٨).

وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قوله :

٣٨٦٥ ـ ورأيت زوجك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا (٩)

ومن قوله :

٣٨٦٦ ـ علفتها تبنا وماء باردا (١٠)

أي : ومعتقلا رمحا ، وسقيتها ماء ، أو (١١) يضمّن (متقلّدا) معنى متسلحا ،

__________________

(١) في ب : سعدها.

(٢) في ب : الآخرة. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٥.

(٤) في الآية التي تسبقها : (١١). انظر التبيان ٢ / ٩٨١.

(٥) انظر البيان ٢ / ٢٠٢.

(٦) في ب : وزفيرا سمعوا.

(٧) في ب : الثاني. وهو تحريف.

(٨) انظر الوجهين في البحر المحيط ٦ / ٤٨٥.

(٩) من مجزوء الكامل ، قاله عبد الله بن الزبعرى ، شرح المفصل ٢ / ٥٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٥ ، وروي : يا ليت زوجك قد غدا. وروي أيضا : يا ليت بعلك في الوغى. وقد تقدم.

(١٠) رجز قاله ذو الرمة ، وبعده :

حتّى شتت همالة عيناها

وتقدم تخريجه في سورة الحج.

(١١) في ب : و.


و (علفتها) معنى أطعمتها (١) تبنا (٢) وماء (٣) باردا.

فصل

معنى (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). قال الكلبي والسديّ : من مسيرة عام. وقيل : من مسيرة مائة سنة (٤). روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ بين عيني جهنم مقعدا» قالوا : وهل لها من عينين؟ قال : نعم ألم تسمع قول الله ـ عزوجل ـ (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٥).

وقيل : إذا رأتهم زبانيتها (٦). قال الجبائي : إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلين بتعذيب أهل النار ، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار ، فهو كقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٧) وأراد أهلها (٨).

قوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً). «مكانا» منصوب على الظرف (٩) ، و «منها» في محل نصب على الحال من «مكانا». لأنه في الأصل صفة له (١٠). و «مقرّنين» حال من مفعول «ألقوا» (١١) ، و «ثبورا» مفعول به (١٢) ، فيقولون : واثبوراه (١٣) ، ويجوز أن يكون مصدرا من معنى «دعوا» (١٤) ، وقيل : منصوب بفعل من لفظه مقدر تقديره ثبرنا ثبورا (١٥).

وقرأ معاذ بن جبل «مقرّنون» بالواو (١٦) ، ووجهها (١٧) أن تكون بدلا من مفعول «ألقوا»(١٨) وقرأ عمرو (١٩) بن محمد (٢٠) «ثبورا» بفتح الثاء (٢١) ، والمصادر التي على

__________________

(١) في ب : وأطعمتها.

(٢) تبنا : سقط من ب.

(٣) في ب : ماء.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٦١.

(٥) أخرجه الطبري في تفسيره ١٨ / ١٤٠ وانظر البغوي ٦ / ١٦١. والدر المنثور ٥ / ٦٤.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٦١.

(٧) من قوله تعالى : «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» [يوسف : ٨٢].

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٦.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٥.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٨١.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٥.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨١.

(١٣) في ب : يا ثبوراه.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٨١.

(١٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٥.

(١٦) المختصر (١٠٤).

(١٧) في ب : وجهها.

(١٨) الذي ناب عن الفاعل وهو بدل نكرة من معرفة. البحر المحيط ٦ / ٤٨٥.

(١٩) كما في البحر المحيط وفي المختصر : عمر.

(٢٠) هو عمرو بن محمد بن برزة أبو جعفر الأصبهاني ، روى القراءة عرضا عن أبي عمرو الدوري ، روى القراءة عنه عرضا محمد بن يعقوب المعدل ، وغيره ، وذكره ابن أشتة فقال فيه عمرو. طبقات القراء ١ / ٥٩٦.

(٢١) المختصر (١٠٤) ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٥.


(فعول) بالفتح قليلة جدا (١) ، وينبغي أن يضم هذا إليها ، وهي مذكورة في البقرة عند قوله (وَقُودُهَا النَّاسُ)(٢).

فصل

قال ابن عباس : يضيق جهنم عليهم كما يضيق الزج (٣) على الرمح ، وهو منقول أيضا عن ابن عمر (٤). وسئل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ذلك فقال : «إنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» (٥).

قال الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم (٦) الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب(٧). قال الزمخشري : الكرب مع الضيق كما أن الفرج (٨) مع السعة ، ولذلك وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض (٩).

وقوله : «مقرّنين» (أي : مصفدين (١٠) قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال (١١). وقيل: مقرنين) (١٢) مع الشياطين في السلاسل ، كل كافر مع شيطان ، فعندما يشاهدون (١٣) هذا العذاب دعوا بالويل والثبور (١٤).

قال ابن عباس : يقولون : ويلا (١٥). وقال الضحاك : هلاكا (١٦). فيقولون : واثبوراه فهذا حينك وزمانك ، فيقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي : هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة (١٧).

__________________

(١) قال سيبويه : (هذا باب ما جاء من المصادر على فعول ، وذلك قولك توضأت وضوءا حسنا ، وأولعت به ولوعا. وسمعنا من العرب من يقول: وقدت النار وقودا عاليا ، وقبله قبولا ، والوقود أكثر. والوقود الحطب ، وتقول : إن على فلان لقبولا ، فهذا مفتوح) الكتاب ٣ / ٤٢.

(٢) [البقرة : ٢٤]. وذكر هناك : «وقودها» بفتح الواو ، أي ما توقد به ، وأما بضمها فهو المصدر ، هذه التفرقة على المشهور في أن المفتوح اسم للآلة والمضموم مصدر ، وبعضهم قال : كل من الفتح والضم يجري في الآلة والمصدر ، فما توقد به النار يقال له : وقود بالفتح والضم وإيقادها كذلك ، وكذا يقال في الوضوء والسحور والطهور ونحو ذلك. انظر اللباب ١ / ٨٨.

(٣) الزج : الحديدة التي تركب في أسفل الرمح ، والجمع أزجاج وأزجة وزجاج وزججة. اللسان (زجج).

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٤.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد. الدر المنثور ٥ / ٦٤.

(٦) في النسختين : يحفظهم.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٦.

(٨) في الكشاف : الروح.

(٩) الكشاف ٣ / ٩٠.

(١٠) الصفد والصفاد : الشدّ. وصفده يصفده صفدا وصفودا وصفده : أوثقه وشده وقيده في الحديد وغيره.

اللسان (صفد).

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٢٦.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) في النسختين : يشاهدوا.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٦.

(١٥) في ب : ويلاه. انظر البغوي ٦ / ١٦٢.

(١٦) المرجع السابق.

(١٧) المرجع السابق.


قال الكلبي : نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات (١).

قوله تعالى : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً(١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٦)

قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) الآية. لما وصف العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة فقال : (أَذلِكَ خَيْرٌ).

فإن قيل : كيف يقال : العذاب خير أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل : السكر أحلى أم الصبر؟ فالجواب : هذا يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فتمرد وأبى واستكبر فضربه ويقول له : أهذا (٢) خير أم ذلك (٣)؟

فصل

قال أبو مسلم : جنة الخلد : هي التي لا ينقطع نعيمها ، والخلد والخلود سواء (٤) كالشكر والشكور ، قال تعالى : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩]. فإن قيل : الجنة اسم لدار مخلدة ، فأي فائدة في قوله : (جَنَّةُ الْخُلْدِ)؟ فالجواب : الإضافة قد تكون للتبيين ، وقد تكون لبيان صفات الكمال ، كقوله تعالى : (الْخالِقُ الْبارِئُ)(٥) وهذا من هذا الباب (٦).

فصل

احتج المعتزلة بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين :

الأول : اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق ، فأما الموعود بمحض التفضيل فلا يسمى جزاء.

والثاني : لو كان المراد بالجزاء ما صرتم إليه بمجرد الوعد فلا يبقى بين قوله : «جزاء» وبين قوله: «مصيرا» تفاوت ، فيصير ذلك تكريرا من غير فائدة.

والجواب : أنه لا نزاع في كونه جزاء إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق ، وليس في الآية ما يدل على التعيين (٧).

فإن قيل : إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيرا لكنها بعد ما صارت كذلك ، فلم قال الله (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً)؟

فالجواب من وجهين :

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٧.

(٢) في الأصل : هذا.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٧.

(٤) في اللسان (خلد) : خلد يخلد خلدا وخلودا : بقي ودام.

(٥) من قوله تعالى :«هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» [الحشر : ٢٤].

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٧ ـ ٥٨.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٨.


الأول : أن ما وعده فهو في تحققه كأنه قد كان ؛ ولأنه قد كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم (ومصيرا) (١)(٢).

قوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) هو نظير قوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [فصلت: ٣١] ، (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ)(٣). فإن قيل : أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها ، فإذا سألوها ربهم ، فإن أعطاها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة ، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ، وأيضا فالأب إذا كان ولده في دركات النيران وأشد العذاب فلو اشتهى أن يخلصه الله تعالى (٤) من ذلك العذاب ، (فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه) (٥) ، فإن فعل قدح ذلك في أن عذاب الكافر مخلد ، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله: (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [فصلت : ٣١] ، وفي قوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) (٦).

والجواب أن الله تعالى يزيل (٧) هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون (٨) بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم (٩).

قوله : «خالدين» منصوب على الحال ، إما من فاعل «يشاءون» وإما من فاعل «لهم»(١٠) ، لوقوعه خبرا ، والعائد على «ما» محذوف ، أي : لهم فيها الذي يشاءونه حال كونهم خالدين.

قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ) في اسم «كان» وجهان :

أحدهما : أنه ضمير (ما يَشاؤُنَ) ذكره أبو البقاء (١١).

والثاني : أن (١٢) يعود على الوعد المفهوم من قوله (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)(١٣). و «مسؤولا» على المجاز ، يسأل هل وفى لك أم لا ، أو يسأله من وعد به.

فصل

قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما تقدم (١٤). وقوله : «مسؤولا» أي : مطلوبا ، قيل : إنّ المتقين سألوا

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٨ ـ ٥٩.

(٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٣) [الزخرف : ٧١] و «تشتهي» بغير هاء بعد الياء قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ، والباقون «تشتهيه» بهاء بعد الياء. السبعة (٥٨٨ ـ ٥٨٩).

(٤) تعالى : سقط من ب.

(٥) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٦) ما بين القوسين في ب : ما لهم ما يشاءون.

(٧) في ب : يزيد. وهو تحريف.

(٨) في ب : ويشغلون.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٥٩.

(١٠) انظر البيان ٢ / ٢٠٣. التبيان ٢ / ٩٨١.

(١١) قال أبو البقاء : (الضمير في «كان» يعود على «ما») التبيان ٢ / ٩٨٢. وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٩.

(١٢) في ب : أنه.

(١٣) من الآية السابقة (١٥). التبيان ٢ / ٩٨٢.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٠.


ربهم في الدنيا فقالوا : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ)(١) [آل عمران : ١٩٤] وقال محمد بن كعب القرظي : الملائكة سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم (٢) : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ)(٣) [غافر : ٨].

وقيل : إن المكلفين سألوه (٤) بلسان الحال ؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائما مقام السؤال ، قال المتنبي (٥) :

٣٨٦٧ ـ وفي النّفس حاجات وفيك فطانة

سكوتي كلام عندها وخطاب (٦)

وقيل : (وَعْداً مَسْؤُلاً) أي : واجبا وإن لم يسأل. قاله الفراء (٧) وقيل : «مسؤولا» أي : من حقه أن يكون مسؤولا ، لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة ، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة (٨).

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية قرأ ابن عامر «نحشرهم ... فنقول» بالنون فيهما ، وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما ، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في الثاني (٩). وهنّ واضحات.

__________________

(١) [آل عمران : ١٩٤]. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٠.

(٢) بقولهم : سقط من ب.

(٣) [غافر : ٨]. انظر القرطبي ١٣ / ٩ ـ ١٠.

(٤) في ب : سألوا.

(٥) هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الكوفي الكندي ، أبو الطيب المتنبي الشاعر الحكيم ، وأحد مفاخر الأدب العربي ، له الأمثال السائرة ، والحكم البالغة والمعاني المبتكرة مات سنة ٣٥٤ ه‍.

الأعلام ١ / ١١٠ ـ ١١١.

(٦) ينظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٠. البيت من بحر الطويل قاله المتنبي من قصيدة في مدح كافور ، وهو في ديوانه ١ / ٣٢٤ ، يقول : إن في نفسي حاجات لا ينبعث بها لساني وأنت من الفطانة بحيث تدركها دون أن أذكرها ، فسكوتي عنها يقوم مقام الإفصاح عنها.

(٧) معاني القرآن ٢ / ٢٦٣.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٠.

(٩) السبعة (٤٦٢ ـ ٤٦٣) ، الحجة لابن خالويه (٢٦٥) ، الكشف ٢ / ١٤٤ ـ ١٤٥ النشر ٢ / ٣٣٣ ، الإتحاف (٣٢٨).


وقرأ الأعرج (١) «نحشرهم» بكسر الشين (٢) في جميع القرآن.

قال ابن عطية : هي (٣) قليلة في الاستعمال قوية في القياس ، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين (٤). وقال أبو الفضل الرازي : وهو القياس في الأفعال الثلاثية المتعدية ؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي (٥). قال أبو حيان : وليس كما ذكرا (٦) بل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ، ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيرا ، فإن شهر أحد (٧) الاستعمالين اتّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيّر فيهما سمعا للكلمة أم لم يسمعا (٨).

قال شهاب الدين : الذي خيّر في ذلك ابن عصفور ، فيجيز (٩) أن يقول : زيد يفعل بكسر العين ، ويضرب بكسر الراء مع سماع الضم في الأول والكسر في الثاني (١٠) وسبقه إلى ذلك ابن درستويه(١١) (إلا أن) (١٢) النحاة على خلافه (١٣).

قوله : (وَما يَعْبُدُونَ) عطف على مفعول «يحشرهم» ، ويضعف نصبه على المعية (١٤) ، وغلب غير العاقل عليه فأتي ب «ما» دون «من».

__________________

(١) في ب : الأعمش ، وهو تحريف.

(٢) المحتسب ٢ / ١١٩ ، تفسير ابن عطية ١١ / ١٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٨.

(٣) في ب : وهي.

(٤) تفسير ابن عطية ١١ / ١٦ ، وانظر توجيه ابن جني لهذه القراءة في المحتسب ٢ / ١١٩.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٨.

(٦) في ب : ذكر.

(٧) في ب : أحدا. وهو تحريف.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٤٨٨.

(٩) في ب : فحير. وهو تحريف.

(١٠) وذلك أن فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ، ولم تكن عينه أو لامه حرفا حلقيا ، ولا مضعفا ، يكون مضارعه على (يفعل ، ويفعل) بكسر العين وضمها نحو ضرب يضرب ، وقتل يقتل ، وجلس يجلس ، وقعد يقعد إلا أن ابن عصفور جوز الجمع بينهما في الفعل الواحد ، قال : (وقد يجتمعان في الفعل الواحد ، نحو : عكف يعكف ويعكف ، وهما جائزان سمعا للكلمة أو لم يسمع إلا أحدهما) الممتع ١ / ١٧٥.

(١١) تقدم.

(١٢) ما بين القوسين في ب : لأن.

(١٣) قال الرضي : (فقالوا قياس مضارع فعل المفتوح عينه إما الضم أو الكسر ، وتعدى بعض النحاة ـ وهو أبو زيد ـ هذا ، وقال : كلاهما قياس ، وليس أحدهما أولى به من الآخر ، إلا أنه ربما يكثر أحدهما في عادة ألفاظ الناس حتى يطرح الآخر ، ويقبح استعماله ، فإن عرف الاستعمال فذاك ، وإلا استعملا معا ، وليس على المستعمل شيء ، وقال بعضهم : بل القياس الكسر ، لأنه أكثر ، وأيضا هو أخفّ من الضم) شرح الشافية ١ / ١١٧ ـ ١١٨. وانظر الدر المصون ٥ / ١٣٠.

(١٤) جوز أبو البقاء الوجهين. التبيان ٢ / ٩٨٢.


فصل

ظاهر قوله : (وَما يَعْبُدُونَ) أنها الأصنام ، لأن (ما) لما لا يعقل. وظاهر قوله : (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ) أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وعزير وغيرهم ؛ لأن الإضلال وجد بهم فلهذا اختلفوا (١).

فقال مجاهد : أراد الملائكة والجن والمسيح وعزير (٢). وقال عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام (٣). فقيل لهم : كيف يخاطب الله تعالى (٤) الجماد فأجابوا بوجهين :

أحدهما : أنه تعالى (٤) يخلق الحياة فيها ويخاطبها.

والثاني (٥) : أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات ، وكلام الأيدي والأرجل ، وكما (٦) قيل سل (٧) الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك؟ فإن لم يحصل جوابا أجابتك اعتبارا (٨).

وقال الأكثرون : المراد الملائكة وعيسى وعزير ـ عليهم‌السلام (٩) ـ قالوا : ويتأكد هذا القول بقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠] فإن قيل : لفظة «ما» لا تستعمل في العقلاء. فالجواب من وجهين :

الأول : لا نسلم أن كلمة «ما» لا تستعمل لمن لا يعقل ؛ لأنهم قالوا : «من» لمن (١٠) لا يعقل في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥].

الثاني : أنه أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبودهم.

وقال تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] وهذا لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين (١١).

فصل

قالت المعتزلة : (وفيه كسر بيّن لقول من يقول إن) (١٢) الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقول : إلهنا (١٣) ههنا قسم ثالث

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦١.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٦٣.

(٣) المرجع السابق.

(٤) تعالى : سقط من ب.

(٥) في ب : وثالثها. وهو تحريف.

(٦) في ب : كما.

(٧) في ب : الأرض سل.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦١.

(٩) في ب : عليهما الصلاة والسلام.

(١٠) لمن : سقط من ب.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦١.

(١٢) ما بين القوسين في النسختين : هذه الآية تدل على القائلين بأن. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦١.


غيرهما هو الحق ، وهو أنّك أضللتهم ، فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا ضلالهم (١) إلى أنفسهم ، علمنا أنه تعالى لا يضل أحدا من عباده ، فإن قيل : لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه ، وقالوا(٢) : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) ، وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم ، وهو أنه تعالى متّعهم وآباءهم بنعيم الدنيا. قلنا : لو كان الأمر كذلك لكان يلزم أن يصير الله محجوجا في يد (٣) أولئك المعبودين ، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجا مفحما ملوما (٤).

وأجاب أهل السنة بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من (٥) الله ، وإن صلحت له لم يترجح اقتدارها للضلال على اقتدارها على الاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى ، وعند ذلك يزول السؤال.

وأما ظاهر الآية وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا (٦).

قوله : «هؤلاء» يجوز أن يكون نعتا ل «عبادي» أو بدلا (٧) أو بيانا.

قوله : (ضَلُّوا السَّبِيلَ) على حذف حرف الجر وهو «عن» كما صرح به في قوله (يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١١٧] ثم اتّسع فيه (٨) فحذف نحو هدى ، فإنّه يتعدّى ب (إلى) وقد يحذف اتساعا (٩). و «ضلّ» مطاوع (أضلّ) (١٠). فإن قيل : إنّه تعالى كان عالما في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال؟

فالجواب : هذا سؤال تقريع للمشركين كما قيل لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)(١١) [المائدة : ١١٦]. فإن قيل : فما فائدة «أنتم» ، وهلّا قيل : أأضللتم (١٢) عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟

فالجواب : هذا سؤال عن الفاعل فلا بدّ من ذكره حتى يعلم أنه المسؤول عنه (١٣).

وقوله : (أَأَنْتُمْ (١٤) أَضْلَلْتُمْ ... أَمْ هُمْ ضَلُّوا)(١٥) (إنما قدم الاسم على الفعل) (١٦)

__________________

(١) في ب : إضلالهم.

(٢) في ب : ولكن قالوا.

(٣) في ب : بدا.

(٤) في ب : معلوما.

(٥) في النسختين : فمن.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦١ ـ ٦٢.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٨٢.

(٨) فيه : سقط من ب.

(٩) قال الزمخشري : (وكان القياس : ضل عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في (هداه الطريق) والأصل : إلى الطريق وللطريق) الكشاف ٣ / ٩١.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٩١.

(١١) [المائدة : ١١٦]. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٢.

(١٢) في الأصل : أضللتم ، وفي ب : ضللتم.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٢.

(١٤) في ب : أنتم.

(١٥) في ب : ضلوا السبيل.

(١٦) ما بين القوسين سقط من ب.


كما تقدم في قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)(١) [المائدة : ١١٦].

قوله : «ينبغي» العامة على بنائه للفاعل ، وأبو عيسى الأسود القارىء (٢) «ينبغى» مبنيّا للمفعول. قال ابن خالويه : زعم سيبويه أنّ «ينبغى» لغة (٣).

قوله : «أن نتّخذ» فاعل «ينبغي» ، أو (٤) مفعول قائم مقام الفاعل في قراءة الأسود وقرأ العامة «نتّخذ» مبنيّا للفاعل ، و (مِنْ أَوْلِياءَ) مفعوله وزيدت فيه (من) ويجوز أن يكون مفعولا أوّل (٥) على أن (اتّخذ) متعديا لاثنين (٦).

ويجوز أن لا تكون المتعدية لاثنين بل لواحد ، فعلى هذا (مِنْ دُونِكَ) متعلق بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنه حال من «أولياء».

وقرأ أبو الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وأبو رجاء ، والحسن ، وأبو جعفر في آخرين : «نتّخذ» مبنيّا للمفعول (٧). وفيه أوجه :

أحدها : أنها المتعدية لاثنين ، فالأول : «هم» ضمير الاثنين (٨) ، والثاني : قوله : (مِنْ أَوْلِياءَ) و «من» للتبعيض ، أي : ما كان ينبغي أن نتخذ بعض أولياء ، قاله الزمخشري (٩).

الثاني : أنّ (١٠)(مِنْ أَوْلِياءَ) هو المفعول الثاني ـ (أيضا ـ إلّا أن «من» مزيدة في المفعول الثاني) (١١). وهذا مردود بأن «من» لا تزاد في المفعول الثاني إنما تزاد في الأول (١٢). قال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول «من» في قوله : (مِنْ أَوْلِياءَ) اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره (١٣). قال الزجاج : أخطأ من قرأ بفتح الخاء وضم النون ، لأنّ «من» إنما تدخل في هذا الباب إذا كانت مفعولة أولا (١٤) ولا تدخل (١٥) على مفعول الحال ، تقول (١٦) : ما اتخذت من

__________________

(١) وذكر ابن عادل هناك : دخلت الهمزة على المبتدأ لفائدة ذكرها أهل البيان وهو أن الفعل إذا علم وجوده وشك في نسبته إلى شخص أولي الاسم المشكوك في نسبته إلى الفعل إليه الهمزة فيقال : أأنت ضربت زيدا ، فضرب زيد قد صدر في الوجود وإنما شك في نسبته إلى المخاطب ، وإن شك في أصل وقوع الفعل أولي الفعل للهمزة ، فيقال : أضربت زيدا ، لم تقطع بوقوع الضرب بل شككت فيه ، والحاصل أن الهمزة يليها المشكوك فيه. انظر اللباب ٣ / ٣٦٤ ، وانظر أيضا دلائل الإعجاز ١٤١ ـ ١٤٥.

(٢) لم أقف له على ترجمة.

(٣) المختصر (١٠٤) ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٨.

(٤) في ب : و.

(٥) في ب : أولا.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٨٢.

(٧) المختصر (١٠٤) ، المحتسب ٢ / ١١٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٩ ، الإتحاف (٣٢٨).

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٩٢ ، التبيان ٢ / ٩٨٢.

(٩) قال الزمخشري : (فالأول ما بني له الفعل ، والثاني «مِنْ أَوْلِياءَ» و «من» للتبعيض ، أي : لا تتخذ بعض أولياء) الكشاف ٣ / ٩٢.

(١٠) أن : سقط من الأصل.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٢.

(١٣) تفسير ابن عطية ١١ / ١٨.

(١٤) في ب : أم لا. وهو تحريف.

(١٥) في ب : ولا بدخول. وهو تحريف.

(١٦) في ب : كقولك.


أحد وليا ، ولا يجوز ما اتخذت أحدا من وليّ (١).

الثالث : أن يكون (مِنْ أَوْلِياءَ) في موضع الحال قاله ابن جني إلّا أنه قال : ودخلت «من» زيادة (٢) لمكان (٣) النفي المتقدم كقولك : ما اتخذت زيدا من وكيل (٤). فظاهر هذا أنه جعل الجار والمجرور (في موضع الحال ، وحينئذ يستحيل أن تكون «من» مزيدة ولكنه يريد أن هذا المجرور) (٥) هو الحال نفسه و «من» مزيدة فيه إلّا أنه لا يحفظ زيادة «من» في الحال وإن كانت منفية وإنما حفظ زيادة الباء فيها على خلاف في ذلك (٦). فإن قيل : هذه القراءة غير جائزة ، لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء. قلنا : المراد أنا لا نصلح لذلك ، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا (٧)؟ وقرأ الحجاج : نتّخذ من دونك [أولياء](٨) فبلغ عاصما فقال : مقّت المخدج (٩) ، أو ما علم أنّ فيها «من» (١٠).

فصل

أجابوا بقولهم : «سبحانك». وفيه وجوه :

أحدها : أنه تعجب منهم ، تعجبوا مما قيل لهم ؛ لأنهم ملائكة ، والأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختصّ بإبليس وجنوده.

وثانيها : أنهم نطقوا ب «سبحانك» ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون (١١) بذلك ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده.

__________________

(١) انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٠.

(٢) لزيادة : سقط من ب.

(٣) في ب : مكان.

(٤) قال ابن جني : (أما إذا ضمت النون فإن قوله «مِنْ أَوْلِياءَ» في موضع الحال ، أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء ، ودخلت «من» زائدة لمكان النفي ، كقولك : اتخذت زيدا وكيلا ، فإن نفيت قلت : ما اتخذت زيدا من وكيل ، وكذلك أعطيته درهما ، وما أعطيته من درهم ، وهذا في المفعول) المحتسب ٢ / ١٢٠.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) ذهب ابن مالك إلى جواز زيادة الباء في الحال المنفي عاملها ، كقوله :

فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيّب منتهاها

وقوله :

كائن دعيت إلى بأساء داهمة

فما انبعثت بمزؤود ولا وكل

وخالفه أبو حيان ، وخرج البيتين على أن التقدير بحاجة خائبة وبشخص مزؤود أي مذعور ، ويريد المزؤود نفسه. انظر شرح الكافية الشافية ٢ / ٧٢٨ ، المغني ١ / ١١٠.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٣.

(٨) زيادة يقتضيها السياق ويؤيدها نص البحر ٦ / ٤٨٩.

(٩) المقت : أشدّ الإبغاض. اللسان (مقت) دعاء عليه لنقصانه القراءة. خدجت الناقة وكل ذات ظلف وحافر ، تخدج وتخدج خداجا وهي خدوج وخادج وخدجت وخدّجت كلاهما : ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام الأيام وإن كان تام الخلق. اللسان (خدج).

(١٠) المختصر (١٠٤). البحر المحيط ٦ / ٤٨٩.

(١١) في ب : الموسون.


وثالثها : قصدوا بالتسبيح تنزيهه عن الأنداد سواء كان المسبح وثنا أو نبيا أو ملكا.

ورابعها : قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إبراء من كان بريئا من الجرم ، بل إنما سألهم تقريعا للكفار وتوبيخا لهم (١).

وقولهم : (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ).

معناه (٢) : إذا كنا (٣) لا نرى أن يتخذ من دونك وليا ، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك ، أي

ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك. وقيل : ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين. وقيل : ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء ، أي : إنا علمنا أنك لا ترضى بهذا فما فعلنا ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل : قالت الملائكة : (إنّا وهم عبيدك ، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك وليا ولا حبيبا فضلا عن أن يتخذ عبدا آخر إلها. وقيل : قالت الأصنام) (٤) : إنا لا يصلح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا من المعبودين (٥).

قوله : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ). لمّا تضمّن كلامهم أنّا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال حسن هذا الاستدراك ، وهو أن ذكروا سببه ، أي : أنعمت عليهم وتفضلت فجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم عكس القضية. والمعنى متعتهم وآباءهم في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة (٦).

(حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن (٧). وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه (٧).

قوله : (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي : هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان (٧). و «بورا» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه جمع بائر كعائذ و (٨) عوذ (٩).

والثاني : أنه مصدر في الأصل كالزور ، فيستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ، وهو من البوار وهو الهلاك (١٠).

وقيل من الفساد ، وهي (١١) لغة الأزد ، يقولون : بارت بضاعته أي : فسدت ، وأمرنا بائر ، أي: فاسد (١٢) ، وهذا معنى قولهم : كسدت البضاعة.

وقال الحسن : هو من قولهم : أرض بور ، أي : لا نبات بها (١٣). وهذا يرجع إلى معنى الهلاك والفساد.

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٢.

(٢) في ب : عبادة. وهو تحريف.

(٣) في النسختين : كان.

(٤) ما بين القوسين مكرر في الأصل.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٣.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٩.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٦٤.

(٨) و : سقط من ب.

(٩) العوذ : الحديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل ، واحدتها عائذ مثل حائل وحول. اللسان (عوذ).

(١٠) ذكر الوجهين الزمخشري. الكشاف ٣ / ٩٢.

(١١) في ب : وهو.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٨٩.

(١٣) المرجع السابق.


قوله تعالى (١) : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) هذا خطاب مع المشركين ، أي : كذّبكم المعبودون في قولكم إنهم (٢) آلهة وإنهم أضلوكم. وقيل (٣) : خطاب للمؤمنين في الدنيا ، أي : فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدّنيا ، وهو معنى قوله (بِما تَقُولُونَ)(٤). وهذه (٥) الجملة من كلام الله تعالى اتفاقا ، فهي على إضمار القول والالتفات. قال الزمخشري : هذه المفاجأة بالاحتجاج (٦) والإلزام (٧) حسنة رائعة ، وخاصة إذا انضمّ إليها الالتفات وحذف القول ، ونحوها قوله (٨) : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ)(٩) [المائدة : ١٩] ، وقول القائل :

٣٨٦٨ ـ قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثمّ القفول فقد جئنا خراسانا (١٠)

انتهى (١١).

يريد أنّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد (١٢) كذبوكم ، وفي البيت : فقلنا قد جئنا. وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت (١٣) عنه بالياء من تحت (١٤) ، أي : «فقد كذّبكم (١٥) الآلهة بما يقولون (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ) إلى آخره وقيل : المعنى : فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون) (١٦) من الافتراء عليكم (١٧).

قوله : «فما يستطيعون». قرأ حفص بتاء الخطاب (١٨) ، والمراد عبّادها ، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل : الصرف : التوبة ، وقيل : الحيلة (١٩).

__________________

(١) تعالى : سقط من ب.

(٢) في الأصل : إنه.

(٣) في ب : وهذا.

(٤) انظر القرطبي ١٣ / ١٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٩.

(٥) في ب : هذه.

(٦) في ب : والاحتجاج.

(٧) والإلزام : سقط من ب.

(٨) في ب : قوله عزوجل.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) البيت من بحر البسيط قاله العباس بن الأحنف ، وهو في ديوانه (٣١٢). دلائل الإعجاز (٩٠) ، البحر المحيط ٦ / ٤٨٩ ، شرح شواهد الكشاف (١٣١). القفول : الرجوع. والشاهد فيه قوله : (فقد جئنا) فهو على حذف القول. والتقدير : قفلنا قد جئنا.

(١١) الكشاف ٣ / ٩٢.

(١٢) في الأصل : قد.

(١٣) هو ابن أبي الصلت المحبر ممن سمع عليه محمد بن علي بن محمد بن موسى أبو بكر ابن الخياط.

طبقات القراء ٢ / ٢٠٩.

(١٤) السبعة (٤٦٣) ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٨).

(١٥) في ب : كذبوكم.

(١٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٧) عليكم : سقط من ب.

(١٨) السبعة (٤٦٣) ، الكشف ٢ / ١٤٥ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٨).

(١٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٤ ..


وقرأ (١) الباقون باء الغيبة (٢) ، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره ، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير ، والمعنى : فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم.

قوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ). قرأ العامة «نذقه» بنون العظمة ، وقرىء بالياء (٣) ، وفي الفاعل وجهان :

أظهرهما : أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك.

والثاني : أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل (٤) ، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم ، والمعنى : ومن يشرك منكم نذقه عذابا كبيرا.

فصل

تمسك المعتزلة بهذه الآية (في القطع بوعيد أهل الكبائر ، قالوا : ثبت أن كلمة «من» في معرض الشرط للعموم ، وثبت أن الكافر ظالم لقوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، والفاسق ظالم لقوله : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات : ١١] فثبت بهذه الآية) (٥) أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة.

والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة «من» في معرض الشرط للعموم ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، سلمنا أنه للعموم لكن قطعا أم ظاهرا؟ ودعوى القطع ممنوعة ، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] ثم إن كثيرا من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع (٦) أن يقال : قولنا (الَّذِينَ كَفَرُوا) كان يفيد العموم ، لكن المراد منه (٧) إمّا الغالب أو (٨) المراد منه أقوام مخصصون.

وعلى التقديرين ثبت أن استعمال (٩) ألفاظ العموم في الأغلب عرف (١٠) ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة ، وذلك لا ينفي تجويز العفو.

__________________

(١) قرأ : سقط من ب.

(٢) السبعة (٤٦٣) ، الكشف ٢ / ١٤٥ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٨).

(٣) حكاه أبو معاذ. المختصر (١٠٤). البحر المحيط ٦ / ٤٩٠.

(٤) انظر الوجهين في الكشاف ٣ / ٩٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٠.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) في ب : مانع.

(٧) منه : سقط من ب.

(٨) في ب : وإما.

(٩) استعمال : سقط من ب.

(١٠) عرف : سقط من ب.


سلمنا دلالته ، لكن أجمعنا على أن قوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم ، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله : (يَظْلِمْ مِنْكُمْ) مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول : هذا مسلم ، لكن لم قلتم : إنه لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله ، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧].

فإن قيل : آيات (١) الوعيد أولى ، لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال. قلنا : لا نسلم أنّ السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه لو تاب فإنه (لا) (٢) يقطع على سبيل التنكيل (بل على سبيل المحنة) (٢). نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) خطاب مع قوم مخصوصين معينين ، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم (٣).

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الآية هذا جواب عن قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] أي : هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن (٤).

قوله : (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ) حق الكلام أن يقال : إلّا أنّهم. بفتح الألف ، لأنه متوسط ، والمكسورة لا تليق إلّا بالابتداء ، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف ، فقدره الزجاج (٥) والزمخشري (٦) : «وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين». وإنما حذف ، لأن في قوله : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) دليلا عليه (٧) ، نظيره قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] بمعنى : ما منّا أحد (٨). وقدره ابن عطية : رجالا أو رسلا (٩). والضمير في «إنّهم» (١٠) وما بعده عائد على (١١) هذا الموصوف (١٢) المحذوف (١٣).

والثاني : قال الفراء : إنها لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول

__________________

(١) في ب : بأن.

(٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٤ ـ ٦٥.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٥.

(٥) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٢.

(٦) الكشاف ٣ / ٩٣.

(٧) أي : إنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور ، وهو «مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٩٣.

(٩) تفسير ابن عطية ١١ / ٢١.

(١٠) في ب : إنه. وهو تحريف.

(١١) في ب : في. وهو تحريف.

(١٢) في النسختين : الموصول.

(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٠.


محذوف هو المفعول (ل «أرسلنا») (١) ، تقديره : إلا من أنهم. فالضمير في «إنّهم» وما بعده عائد على معنى «من» المقدرة ، واكتفي بقوله : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عنه كقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها انَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً)(٢)) (٣) ، أي : إلّا من يردها (٤).

فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف ، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين إلّا في مواضع ، تقدّم التنبيه عليها في البقرة (٥).

الثالث : أن الجملة محلها النصب على الحال ، وإليه ذهاب ابن الأنباري (٦) قال : التقدير : إلّا وإنهم ، يعني أنها حالية (٧) ، فقدّر معها الواو بيانا للحالية ، فكسر بعد استئناف. وردّ بكون ما بعد «إلّا» صفة لما قبلها ، وقدره أبو البقاء أيضا (٨). والعامة على كسر «إنّ» ، لوجود اللام في خبرها ، ولكون الجملة حالا (٩) على الراجح. قال أبو البقاء : وقيل : لو لم تكن اللام لكسرت أيضا لأن الجملة حالية (١٠) ، إذ المعنى : إلّا وهم (١١). وقيل : المعنى : إلا قيل إنهم (١٢).

وقرىء «أنّهم» بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية ، والتقدير : إلّا لأنّهم (١٣) أي : ما جعلنا رسلا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم (١٤).

وقرأ العامة «يمشون» خفيفة ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله «يمشّون» مشددا مبنيّا للمفعول ، أي : تمشّيهم حوائجهم أو الناس (١٥).

وقرأ عبد الرحمن : «يمشّون» بالتشديد مبنيّا للفاعل ، وهي بمعنى «يمشون» (١٦) قال الشاعر :

٣٨٦٩ ـ ومشّى بأعطان المياه وابتغى

قلائص منها صعبة وركوب (١٧)

__________________

(١) ما بين القوسين في ب : إلا رسلنا. وهو تحريف.

(٢) مريم : ٧١.

(٣) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٤) انظر معاني القرآن ٢ / ٢٦٤.

(٥) عند قوله تعالى : «وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» [١٦٤].

(٦) المراد به أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد الأنباري النحوي اللغوي ، له كتب كثيرة منها غريب الحديث ، المذكر والمؤنث ، والمقصور والممدود ، وغير ذلك مات سنة ٣٢٨ ه‍ ، بغية الوعاة ١ / ١١٢ ـ ١١٤.

(٧) قال أبو حيان : (وهذا هو المختار) البحر المحيط ٦ / ٤٩٠ ، وانظر القرطبي ١٣ / ١٣.

(٨) التبيان ٢ / ٩٨٣.

(٩) في النسختين : حال. والصواب ما أثبته.

(١٠) حالية : سقط من ب.

(١١) التبيان ٢ / ٩٨٣.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٥.

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٠.

(١٥) انظر المحتسب ٢ / ١٢٠ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٢١ ـ ٢٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٠.

(١٦) أي بمعنى قراءة العامة. انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٠.

(١٧) البيت من بحر الطويل ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في تفسير ابن عطية ١١ / ٢٢ القرطبي ١٣ / ١٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٠.


قال الزمخشري : ولو قرىء «يمشّون» لكان أوجه لو لا الرواية (١). يعني بالتشديد.

قال شهاب الدين : قد قرأ بها السّلميّ ولله الحمد (٢).

فصل

روى الضحاك عن ابن عباس قال : لمّا عيّر المشركون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] أنزل الله هذه الآية (٣). يعني : ما أنا إلا رسول ، وما كنت بدعا من الرسل ، وهم كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كما قال في موضع آخر : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت : ٤٣]. (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي : بلية ، فالغني فتنة للفقير ، (ويقول الفقير) (٤) : ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع (٥). قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى (٦).

وقال الكلبي والزجاج (٧) والفراء (٨) : نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع (٩) قد أسلم قبله أنف أن يسلم ، وأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)(١٠) [الأحقاف : ١١] وقيل : هذا عام في جميع الناس ، روى أبو الدرداء عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرعية ، (وويل للرعية من السلطان) (١١) ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية (١٢).

وروي عن ابن عباس والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية (هذا يقول لم لم أجعل مثله) (١٣) في الخلق ، والخلق ، وفي العقل ، وفي العلم ، وفي الرزق ، وفي الأجل (١٤).

وقيل : هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها ، فالمرسلون يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) [آل عمران : ١٨٦] ،

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٩٣.

(٢) الدر المصون ٥ / ١٣٢.

(٣) انظر البغوي ٦ / ١٦٥.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) انظر البغوي ٦ / ١٦٥.

(٦) المرجع السابق.

(٧) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٢.

(٨) معاني القرآن ٢ / ٢٦٥.

(٩) في ب : الوضع. وهو تحريف.

(١٠) [الأحقاف : ١١]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٥.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٣) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٦.


والمرسل إليهم يتأذون أيضا (من الرسل) (١) بحسب الحسد ، وصيرورته مكلفا بالخدمة ، وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيسا مخدوما (٢).

والأولى حمل الآية على الكل ، لأن بين الجميع قدرا مشتركا (٣).

قال عليه‌السلام : «إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه في المال والجسد فلينظر إلى من دونه في المال والجسد» (٤).

قوله : (أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً). «أتصبرون» المعادل محذوف ، أي : أم لا تصبرون وهذه الجملة استفهام ، والمراد منه : التقرير بأن (٥) موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم (٦) بعد الابتلاء في قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ (٦) أَحْسَنُ عَمَلاً)(٧) بمعنى : أنها معلّقة لما فيها من معنى فعل القلب ، فتكون منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى : «أتصبرون» على البلاء ، فقد علمتم ما وعد الصابرون (٨) ، (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي : عالم بمن يصبر ، وبمن لا يصبر فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب (٩).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)(٢٤)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الآية. هذه هي الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحاصلها (١٠) : لم (١١) (لم) (١٢) تنزّل الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق في دعواه ، (أَوْ نَرى رَبَّنا) حتى يخبرنا بأنه (١٣) أرسله إلينا (١٤)؟

فصل

قال الفراء : قوله تعالى (١٥) : (وَقالَ (١٦) الَّذِينَ (١٧) لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يخافون

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٦.

(٣) المرجع السابق.

(٤) أخرجه مسلم (زهد) ٤ / ٢٢٧٥ ، الترمذي (لباس) ٣ / ١٥٦. وأحمد ٢ / ٣١٤ ، وانظر البغوي ٦ / ١٦٦.

(٥) في الأصل : فإن.

(٦) في ب : أنكم. وهو تحريف.

(٧) [هود : ٧] ، [الملك : ٢] ، وانظر الكشاف ٣ / ٩٣.

(٨) في الأصل : الصابرين.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٦.

(١٠) وحاصلها : سقط من ب.

(١١) في ب : لا.

(١٢) لم : تكملة من الفخر الرازي.

(١٣) في ب : بأن.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٧.

(١٥) تعالى : سقط من ب.

(١٦) وقال : سقط من ب.

(١٧) في الأصل : الذي. وهو تحريف.


لقاءنا ، فوضع الرجاء موضع الخوف لغة تهاميّة إذا كان معه جحد ، ومنه (١) قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] أي : لا تخافون لله (٢) عظمة (٣)

قال القاضي : لا وجه لذلك ، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ، والمعلوم من حال عبّاد الأصنام أنهم كانوا لا يخافون العقاب ، لتكذيبهم (بالمعاد) (٤) ، فكذلك لا يرجون الثواب لمثل ذلك ، فقوله : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) محمول على الحقيقة ، وهو (٥) أنهم لا يرجون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب والجنة ، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضا ، فالخوف (٦) تابع (للرجاء (٧)) (٨).

فصل

دلّ ظاهر الآية على جواز الرؤية ، لأن اللقاء جنس تحته أنواع ، أحد أنواعه الرؤية ، والآخر الاتصال والمماسّة. وهما باطلان ، فدلّ على جواز الرؤية ، لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمي الرؤية لقاء (٩). وقالت المعتزلة : تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة ، لأنه يقال في الدعاء : لقاك الله الخير. ويقول القائل : لم ألق الأمير. وإن رآه من بعد إذا حجب عنه ، ويقال في الضرير : لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب ، وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه ، بل المراد من اللقاء هنا (١٠) المصير (١١) إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [الانفطار : ١٩] لا أنه (١٢) رؤية البصر (١٣). قال ابن الخطيب : وهذا كلام ضعيف ، لأنّ اللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني ، فيصح قوله : لقاك الخير (١٤) ، ويصح قول الأعمى : لقيت الأمير ، ويصح قول البصير : لقيته (بمعنى رأيته ، وما لقيته) (١٥) بمعنى ما (١٦) وصلت إليه ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى (١٧) : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) مذكور في معرض الذم لهم ، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلا ، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني (١٨) وبين الوصول بالرؤية ، وقد بطل الأول فتعيّن الثاني.

__________________

(١) ومنه : سقط من ب.

(٢) في ب : له.

(٣) معاني القرآن ٢ / ٢٦٥.

(٤) في النسختين : العقاب. والتصويب من الفخر الرازي.

(٥) في ب : وهم.

(٦) في الأصل : فالجواب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٧ ـ ٦٨.

(٨) ما بين القوسين في ب : الرجاء.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٨.

(١٠) في ب : ههنا.

(١١) في ب : الوصول.

(١٢) أنه : سقط من ب.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٨.

(١٤) في النسختين : لقاك الله الخير. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٥) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٦) ما : سقط من ب.

(١٧) تعالى : سقط من ب.

(١٨) في ب : المكان.


وقولهم : المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه. صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل ، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل (١) على وجوبها ، بل على أنّ إنكار الرؤية ليس إلا من دين (الكفار(٢))(٣).

قوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ) : هلّا أنزل (عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فيخبرونا أن محمدا صادق (٤)(أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بذلك (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) (أي : تعظموا في أنفسهم) (٥) بهذه المقالة(٦). قال الكلبي ومقاتل : نزلت الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما المنكرين للنبوة (٧) والبعث(٨).

قوله : «عتوا» مصدر وقد صحّ هنا وهو الأكثر وأعلّ (٩) في مريم في «عتيّا» (١٠) ، لمناسبة ذكرت هناك ، وهي تواخي رؤوس الفواصل (١١).

فصل

قال مجاهد : «عتوّا» طغوا (١٢). وقال مقاتل : «عتوّا» غلوّا في القول (١٣).

والعتو : أشد الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به (١٤).

وقوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) ، لأنهم (١٥) أضمروا (١٦) الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه ، كما قال : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ)(١٧)) (١٨). وعتوا : تجاوزوا الحد في الظلم (١٩).

فصل

وهذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه :

أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد تمت نبوة محمد ـ عليه‌السلام (٢٠) ـ فبعد (٢١) ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض التعنت والاستكبار.

__________________

(١) بل : سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٨.

(٣) ما بين القوسين في ب : الكافر.

(٤) في الأصل : أن محمد صادق ، وفي ب : أن محمد صادقا.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٦٧.

(٧) في ب : النبوة.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٨.

(٩) وأعل : سقط من ب.

(١٠) مريم : ٨ ، ٦٩.

(١١) انظر اللباب ٥ / ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ١٦٧.

(١٣) المرجع السابق.

(١٤) المرجع السابق.

(١٥) في ب : لأن.

(١٦) أضمروا : سقط من ب.

(١٧) غافر : ٥٦.

(١٨) ما بين القوسين في ب : ببالغه.

(١٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٠.

(٢٠) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢١) في ب : فعند.


وثانيها : أنّ نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ، فلا يدل (١) على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك المعجز وردّ المعجز الآخر ترجيحا لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجّح ، وهو محض الاستكبار والتعنت.

وثالثها : أنهم بتقدير أن يروا الرب ، ويسألوه عن صدق محمد ـ عليه‌السلام (٢) ـ وهو سبحانه يقول: نعم هو رسولي (٣) ، فذلك (٤) لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد ـ عليه‌السلام (٥) ـ لأنّا بيّنّا أن المعجزة تقوم مقام التصديق بالقول ، إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول : اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت ، فيحييه الله تعالى ، (والعادة لم تجر بمثله) (٦) ، وبين أن يقول له : صدقت. وإذا كان التصديق بالقول والتصديق الحاصل بالمعجز (سيّين) (٧) في كونه تصديقا للمدعى ، كان (٨) تعيين أحدهما محض استكبار وتعنت.

ورابعها : يمكن أن يكون المراد أنّ الله تعالى قال : لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل (٩) الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت ، فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به ، فلا جرم لا أعطيتهم ذلك.

وخامسها : لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله لا يرى ، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل الاستهزاء (١٠).

فصل

استدل المعتزلة بهذه الآية على عدم الرؤية ، لأنّ رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتوا. قالوا : فقوله : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) ليس إلّا لأجل سؤال الرؤية ، واستعظم في آية أخرى قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) [البقرة : ٥٥]. فثبت أن الاستكبار والعتو هاهنا إنما حصل لأجل سؤال الرؤية ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة (١١). ونقول هاهنا : إنّا بينا أن قوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) يدل (١٢) على الرؤية ، وأمّا الاستكبار والعتو فلا يدل ذلك على أن الرؤية

__________________

(١) في ب : فلا بد.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في ب : رسول.

(٤) في ب : فكذلك.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) في النسختين : سببان. والتصويب من الفخر الرازي.

(٨) في ب : وأن.

(٩) في النسختين : إلا لأجل. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٨ ـ ٦٩.

(١١) انظر اللباب ١ / ١٥٤.

(١٢) يدل : سقط من ب.


مستحيلة ، لأنّ من طلب شيئا محالا لا يقال : إنه عتا واستكبر ، ألا ترى قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] لم يثبت (١) لهم بطلب هذا (٢) المحال عتوّا واستكبارا بل قال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).

ومما يدل على ذلك أن موسى ـ عليه‌السلام (٣) ـ لما قال : (رَبِ (٤) أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف: ١٤٣] ما وصفه الله بالاستكبار والعتوّ ، لأنه ـ عليه‌السلام (٥) ـ طلب الرؤية شوقا ، وهؤلاء لمّا (٦) طلبوها امتحانا وتعنتا لا جرم وصفهم بذلك (٧).

قوله : يوم يرون» فيه أوجه :

أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل يدل عليه قوله : «لا بشرى» أي : يمنعون البشرى يوم يرون(٨).

الثاني (٩) : أنه منصوب ب (اذكر) ، فيكون مفعولا به (١٠).

الثالث : أنّه منصوب ب (يعذبون) مقدرا (١١).

ولا يجوز أن يعمل فيه نفس «البشرى» لوجهين :

أحدهما : أنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله (١٢).

والثاني (١٣) : أنّها منفية ب (لا) ، (وما بعد (لا)) (١٤) لا (١٥) يعمل فيما قبلها (١٦).

قوله : «لا بشرى» هذه الجملة معمولة لقول مضمر ، أي : يرون الملائكة يقولون لا بشرى ، فالقول حال من «الملائكة» ، وهو نظير التقدير في قوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ) [الرعد : ٢٣] إلى قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤].

قال أبو حيان : واحتمل (١٧) «بشرى» أن يكون مبنيّا مع «لا» ، واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كانة مبنيّا مع «لا» احتمل (١٨) أن يكون «يومئذ» خبرا و «للمجرمين» خبرا (١٩) بعد خبر ، أو نعتا ل «بشرى» ،

__________________

(١) في ب : لم ثبت. وهو تحريف.

(٢) في ب : بهذا. وهو تحريف.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) رب : سقط من ب.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : إنما.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٦٩ ـ ٧٠.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٩٤ ، البيان ٢ / ٢٠٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(٩) في ب : والثاني.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٩٤ ، التبيان ٢ / ٩٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٣.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(١٣) في ب : والثالث.

(١٤) ما بين القوسين في ب : وما بعدها.

(١٥) لا : سقط من ب.

(١٦) انظر البيان ٢ / ٢٠٣ ، التبيان ٢ / ٩٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(١٧) في ب : فاحتمل.

(١٨) في ب : فاحتمل.

(١٩) في الأصل خبر بالرفع.


أو متعلقا بما تعلّق به الخبر ، وأن يكون «يومئذ» صفة ل «بشرى» (١) والخبر «للمجرمين» ، ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس «لا» أو (٢) الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع «لا» وما بني معها (٣).

وإن كان في نية التنوين وهو معرب ، (جاز أن يكون «يومئذ» ، و «للمجرمين» خبرين ، و) (٤) جاز أن يكون «يومئذ» خبرا و «للمجرمين» صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيا لنفس «لا» بإجماع (٥). قال شهاب الدين : قوله (٦) : واحتمل أن يكون في نية التنوين إلى آخره لا يتأتّى إلّا على قول أبي إسحاق (٧) ، وهو أنه يرى أنّ اسم (لا) النافية للجنس معرب (٨) ، ويعتذر عن حذف التنوين بكثرة الاستعمال ويستدل عليه بالرجوع إليه في الضرورة ، وينشد :

٣٨٧٠ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا (٩)

ويتأوله البصريون على إضمار : ألا ترونني رجلا ، وكان يمكن الشيخ أن يجعله معربا كما ادّعى بطريق أخرى ، وهو (١٠) : أن يجعل «بشرى» عاملة في «يومئذ» (١١) أو في «للمجرمين» ، فيصير من قبيل المطوّل (١٢) ، والمطوّل معرب ، لكنه لم يلم بذلك ، وسيأتي شيء من هذا في كلام أبي البقاءرحمه‌الله.

ويجوز أن يكون «بشرى» معربا منصوبا بطريق أخرى ، وهي أن تكون منصوبة بفعل مقدّر ، أي : لا يبشّرون بشرى ، كقوله تعالى : (لا مَرْحَباً بِهِمْ)(١٣)) (١٤) ، (و) (١٥) لا أهلا ولا سهلا ، إلّا أن كلام الشيخ لا يمكن تنزيله على هذا لقوله : جاز أن يكون «يومئذ» و «للمجرمين» خبرين (١٦) ، فقد حكم أن لها خبرا ، وإذا جعلت منصوبة بفعل مقدر لا

__________________

(١) في ب : للبشرى. وهو تحريف.

(٢) في ب : و. وهو تحريف.

(٣) انظر معاني القرآن ١ / ١٧٤ ، والهمع ١ / ١٤٦.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(٦) قوله : سقط من ب.

(٧) هو أبو إسحاق الزجاج.

(٨) فالفتحة عنده إعراب لا بناء. انظر شرح الكافية ١ / ١٥٥.

(٩) صدر بيت من الوافر ، قاله عمرو بن قعاس أو قنعاس المرادي ، وعجزه :

يدلّ على محصّلة تبيت

وقد تقدم.

(١٠) في الأصل : وهي.

(١١) على أن تكون «بشرى» غير مبنية مع (لا). انظر البيان ٢ / ٢٠٣ ، التبيان ٢ / ٩٨٣.

(١٢) المراد به الشبيه بالمضاف ، وهو ما اتصل به شيء من تمام معناه ، مثل يا طالعا جبلا. فهذا معرب لشبهه بالمضاف.

(١٣) [ص : ٥٩]. والاستشهاد بالآية على أن «مرحبا» منصوب بفعل مقدر ، والتقدير : لا يسمعون مرحبا.

(١٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٥) تكملة ليست في المخطوط.

(١٦) في ب : خبر. وانظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.


يكون [ل (لا)](١) حينئذ خبر (٢) ، لأنها داخلة على ذلك الفعل المقدر ، وهذا موضع حسن (٣).

قوله : «يومئذ للمجرمين» قد تقدّم في «يومئذ» أوجه ، وجوّز أبو البقاء أن يكون منصوبا ب «بشرى» ، قال : إذا قدّرت أنها منونة غير مبنيّة مع (لا) ، ويكون الخبر «للمجرمين» (٤). وجوّز ـ أيضا ـ هو والزمخشري أن يكون «يومئذ» تكريرا (ل «يوم) (٥) يرون» (٦) وردّه أبو حيان سواء أريد بالتكرير (٧) التوكيد اللفظيّ أم أريد به البدل قال : لأنّ «يوم» منصوب بما تقدم ذكره من (اذكر) (أو من) (٨) (يعدمون) البشرى ، وما بعد (لا) العاملة في الاسم لا يعمل فيه (٩) ما قبلها ، وعلى تقدير ما ذكراه (١٠) يكون العامل فيه ما قبل (لا) (١١). وما ردّه ليس بظاهر ، لأنّ الجملة المنفية معمولة للقول المضمر الواقع حالا من «الملائكة» ، و (١٢) «الملائكة» معمولة ل «يرون» ، و «يرون» معمول ل «يوم» خصّصا (١٣) بالإضافة ، ف (لا) (١٤) وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنها معمولة لبعض ما في حيزه ، فليست بأجنبية ولا (١٥) مانعة من أن يعمل ما قبلها فيما بعدها.

والعجب له كيف تخيل هذا وغفل عما تقدم فإنه واضح مع التأمل. و «للمجرمين» من وضع الظاهر موضع المضمر (١٦) شهادة عليهم بذلك. والضمير في «يقولون» يجوز عوده للكفار (١٧) (أو للملائكة (١٨)) (١٩). و «حجرا» من المصادر الملتزم إضمار (٢٠) ناصبها ، ولا يتصرّف فيه نحو معاذ الله ، وقعدك ، وعمرك ، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ وهجوم نازلة ، ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة ، قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل : أتفعل كذا فيقول : حجرا (٢١) وهي من حجره : إذا منعه ، لأنّ المستعيذ

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من ب.

(٢) في النسختين : خبرا. والصواب ما أثبته.

(٣) الدر المصون ٥ / ١٣٣.

(٤) التبيان ٢ / ٩٨٣ ـ ٩٨٤.

(٥) ما بين القوسين في ب : اليوم. وهو تحريف.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ٩٤ ، التبيان ٢ / ٩٨٣.

(٧) في ب : التكرار.

(٨) ما بين القوسين في ب : أمن. وهو تحريف.

(٩) في ب : فيما.

(١٠) في ب : ما ذكره. وفي البحر المحيط : وعلى تقديره يكون  ....

(١١) البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(١٢) في ب : ف.

(١٣) في ب : خصصنا.

(١٤) ما بين القوسين في ب : كلام.

(١٥) في ب : فلا.

(١٦) انظر الكشاف ٣ / ٩٤.

(١٧) واستظهره أبو حيان. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(١٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٣.

(١٩) في النسختين : وللملائكة. والصواب ما أثبته.

(٢٠) إضمار : سقط من ب.

(٢١) انظر الكتاب ١ / ٣٢٦.


طالب (١) من الله أن يمنع المكروه ولا (٢) يلحقه (٣) ، وكان المعنى : أسأل الله أن يمنعه منعا ويحجره حجرا. والعامة على كسر الحاء ، والضحاك ، والحسن ، وأبو رجاء على ضمّها (٤) وهو لغة فيه.

قال الزمخشري : ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرّف فيه لاختصاصه بموضع واحد كما كان قعدك وعمرك كذلك وأنشد لبعض الرجاز (٥) :

٣٨٧١ ـ قالت(٦)وفيها حيدة وذعر

عوذ بربّي (٧) منكم وحجر (٨)

وهذا (٩) الذي أنشده الزمخشري يقتضي (١٠) تصرّف «حجرا». وقد تقدم نص سيبويه على أنه يلتزم النصب. وحكى أبو البقاء فيه لغة ثالثة وهي الفتح ، قال : وقد قرىء بها (١١). فعلى هذا كمل فيه ثلاثة لغات مقروء بهنّ.

و «محجورا» صفة مؤكدة للمعنى كقولهم : ذيل ذائل (١٢) ، والذيل (١٣) : الهوان ، وموت مائت ، والحجر : العقل ، لأنه (١٤) يمنع صاحبه (١٥).

فصل

قوله (١٦) : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) عند الموت. قاله ابن عباس ، وقال الباقون : يريد يوم (١٧) القيامة (١٨)(لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ) للكافرين. قالت المعتزلة : الآية تدلّ على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو ، قوله : (لا بُشْرى ... لِلْمُجْرِمِينَ) نكرة في سياق النفي فتعمّ

__________________

(١) في ب : يطلب.

(٢) في الأصل : لا.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(٤) انظر المختصر (١٠٤) ، وتفسير ابن عطية ١١ / ٢٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٢ ـ ٤٩٣ الإتحاف (٣٢٨).

(٥) في ب : الزجالة.

(٦) في ب : قال.

(٧) في ب : بر. وهو تحريف.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٩٤. رجز قاله العجاج. وهو في ديوانه (٣١٧) ، الكشاف ٣ / ٩٤ ، اللسان (حجر ، عوذ) البحر المحيط ٦ / ٤٩٢ ، شرح شواهد الكشاف (٥٣) حيدة : المرّة من حاد عن الشيء يحيد حيدا وحيدانا ومحيدا وحيدودة : مال عنه وعدل. الذعر : الخوف والفزع. عوذ: مصدر ، أي : أعوذ بالله منك ، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره : أمري. الحجر : بالضم المنع ، وهو موطن الشاهد حيث جاء مصدرا مضموم الفاء.

(٩) في ب : وهو.

(١٠) في ب : فيقتضي.

(١١) التبيان ٢ / ٩٨٤.

(١٢) في ب : أذائل. وهو تحريف.

(١٣) في ب : والذائل. وهو تحريف. والذيل : الهوان من ذال الشيء يذيل : هان. اللسان (ذيل).

(١٤) في ب : لا.

(١٥) اللسان (حجر).

(١٦) قوله : سقط من الأصل.

(١٧) يوم : سقط من ب.

(١٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٠.


جميع أنواع البشر في جميع الأوقات ، بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية (١) قال : بل (٢) له بشرى في الوقت الفلاني ، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية ، علمنا أن قوله : «لا بشرى» يقتضي نفي جميع البشرى في كل الأوقات ، وشفاعة الرسول لهم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين ، والكلام على التمسك بصيغ العموم ، وقد تقدم مرارا (٣).

فصل

اختلفوا في القائلين (حِجْراً مَحْجُوراً) : فقال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شدة ، ورأوا ما يكرهون ، قالوا : «حجرا محجورا» ، فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة (٤).

قال مجاهد : يعني : عوذا معاذا ، فيستعيذون به من الملائكة (٥).

وقال ابن عباس : تقول الملائكة : حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال : لا إله إلا الله (٦). قال مقاتل : إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة (حِجْراً مَحْجُوراً)(٧) أي : حرام محرم عليكم أن تكون (٨) لكم البشرى (٩).

قوله : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) أي : وعمدنا إلى عملهم.

قوله : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً). الهباء والهبوة : التراب الدقيق. قاله ابن عرفة (١٠).

قال الجوهري : يقال فيه : هبا يهبو : إذا ارتفع ، وأهببته أنا إهباء (١١).

وقال الخليل والزجاج : هو مثل الغبار الداخل في الكوّة يتراءى مع ضوء الشمس (١٢) فلا يمس بالأيدي ولا يرى في الظل. وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد (١٣).

__________________

(١) في ب : القضية أن قوله.

(٢) بل : تكملة من الفخر الرازي.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٠ ـ ٧١.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٦٨.

(٥) المرجع السابق.

(٦) المرجع السابق.

(٧) فعلى قول ابن جريج ومجاهد الضمير في «يقولون» على الكفار ، وعلى قول ابن عباس ومقاتل يعود على الملائكة.

(٨) في ب : يكونوا.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٦٨.

(١٠) انظر القرطبي ١٣ / ٢٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٧٨. وابن عرفة هو إبراهيم بن محمد بن عرفة الملقب بنفطويه ، من أئمة اللغة ، والنحو ، أخذ عن ثعلب والمبرد ، ومن مصنفاته : إعراب القرآن ، المقنع في النحو. الأمثال ، المصادر ، وغير ذلك ، مات سنة ٣٢٣ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٣٢٨ ـ ٣٣٠.

(١١) الصحاح (هبا) ٦ / ٢٥٣٢.

(١٢) قال الخليل : (والهباء دقاق التراب ساطعة ومنثورة على وجه الأرض والهباء المنبث ما يظهر في الكوى من ضوء الشمس) العين (هبو) ٤ / ٦٧ وانظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٤.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ١٦٩.


وقيل : الهباء ما تطاير من شرر النّار إذا أضرمت (١) ، والواحدة هباءة على حد تمر وتمرة. و «منثورا» أي (٢) : مفرّقا ، نثرت الشيء فرّقته. والنّثرة (٣) لنجوم متفرقة (٤). والنّثر : الكلام غير المنظوم على المقابلة بالشعر.

قال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير : هو (٥) ما تسفيه الرياح ، وتذريه من التراب ، (وحطام الشجر (٦)) (٧).

وقال مقاتل : هو ما يسطع (٨) من حوافر الدواب عند السير (٩).

وفائدة الوصف به أنّ الهباء تراه منتظما مع الضوء ، فإذا حرّكته تفرّق ، فجيء بهذه الصفة لتفيد ذلك (١٠). وقال الزمخشري : أو مفعول ثالث (١١) ل «جعلناه» أي : فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر (١٢) ، كقوله : «كونوا» (١٣)(قِرَدَةً خاسِئِينَ) [الأعراف : ٦٦] أي : جامعين للمسخ والخسأ (١٤).

قال أبو حيان : وخالف (١٥) ابن درستويه ، فخالف النحويين في منعه أن يكون ل (كان) خبران وأزيد (١٦) ، وقياس قوله في (جعل) أن يمنع (١٧) أن يكون لها خبر ثالث (١٨).

قال شهاب الدين : مقصوده أن كلام الزمخشري مردود قياسا على ما منعه ابن درستويه من تعديد (١٩) خبر (كان) (٢٠).

قوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) أي : من هؤلاء المشركين المستكبرين. (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) موضع قائلة (٢١). وفي (أفعل) هاهنا قولان :

أحدهما : أنها على بابها من التفضيل ، والمعنى : أن المؤمنين خير في الآخرة

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٨.

(٢) في ب : و. وهو تحريف.

(٣) والنثرة : سقط من ب.

(٤) اللسان (نثر).

(٥) في ب : وهو.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٦٩.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) في ب : يستطير.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٦٩.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٢.

(١١) في ب : ثان. وهو تحريف.

(١٢) في ب : المتناثر.

(١٣) كونوا : سقط من ب.

(١٤) الكشاف ٣ / ٩٤. والخسء : الطرد والدحر. اللسان (خسأ).

(١٥) في الأصل : وخالفه.

(١٦) ذهب ابن درستويه وابن أبي الربيع إلى منع تعدد خبر (كان) وقالا : ووجهه أن هذه الأفعال شبهت بما يتعدى إلى واحد فلا يزاد على ذلك والمجوزون قالوا : هو في الأصل خبر مبتدأ ، فإذا جاز تعدده مع العامل الأضعف وهو الابتداء فمع الأقوى أولى. انظر الهمع ١ / ١١٤.

(١٧) أن يمنع : سقط من ب.

(١٨) البحر المحيط ٦ / ٤٩٣.

(١٩) في ب : تقدير. وهو تحريف.

(٢٠) الدر المصون ٥ / ١٣٤.

(٢١) انظر البغوي ٦ / ١٧٠.


مستقرا من مستقرّ الكفار (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) من مقيلهم ، لو فرض أن يكون لهم.

والثاني : أن يكون لمجرّد الوصف من غير مفاضلة (١).

فصل

قال المفسرون : يعني أن أهل الجنة لا يمرّ بهم يوم إلا قدر النهار من أوله إلى قدر القائلة حتى يسكنوا مساكنهم من الجنة (٢).

قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، وقرأ : «ثمّ إن مقيلهم لإلى الجحيم» وهكذا كان يقرأ (٣).

وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب ذلك اليوم في أوله (٤). وقال قوم : حين قالوا في منازلهم(٥).

قال الأزهري : القيلولة والمقيل (٦) : الاستراحة (٧) نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم ، لأن الله (٨) قال : (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) والجنة لا نوم فيها (٩).

وروي «أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون (١٠) كما بين العصر إلى غروب الشمس»(١١).

قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩)

قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) العامل (١٢) في «يوم» إمّا (اذكر) ، وإمّا ينفرد (١٣) الله بالملك يوم تشقق (١٤) ، لدلالة قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) عليه. وقرأ الكوفيون (١٥) وأبو عمرو [هنا وفي (ق) (١٦) «تشقّق» بالتخفيف ، والباقون بالتشديد (١٧) ، وهما واضحتان ،

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٣.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٧٠.

(٣) انظر المرجع السابق ، والفخر الرازي ٢٤ / ٧٢ ، القرطبي ١٣ / ٢٣.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٧٠.

(٥) المرجع السابق.

(٦) في ب : والقيل.

(٧) في ب : استراحة.

(٨) في ب : الله تعالى.

(٩) انظر التهذيب (قيل) ٩ / ٣٠٦.

(١٠) في ب : لا يكون. وهو تحريف.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٧٠.

(١٢) في ب : القائل. وهو تحريف.

(١٣) في ب : نوم ينفرد. وهو تحريف.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٨٤.

(١٥) وهم : عاصم ، وحمزة ، والكسائي. السبعة (٤٦٤).

(١٦) وهو قوله تعالى : «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً» [ق : ٤٤].

(١٧) السبعة (٤٦٤) ، (٦٠٧ ـ ٦٠٨) ، الحجة لابن خالويه (٢٦٥) ، الكشف ٢ / ١٤٥ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٨).


حذف الأولون](١) تاء (٢) المضارعة أو تاء التفعل على خلاف في ذلك (٣) ، والباقون أدغموا تاء التفعل في الشين لما بينهما من المقاربة ، وهما ك «تظاهرون» و «تظّاهرون» حذفا وإدغاما ، وقد مضى في البقرة (٤). قوله (٥) : «بالغمام» في هذه الباء (٦) ثلاثة أوجه :

أحدها : على السببية ، أي : بسبب الغمام ، يعني بسبب طلوعها منها (٧) ، ونحوه (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل : ١٨] كأنه الذي يتشقق به السماء (٨).

الثاني : أنها للحال ، أي : ملتبسة بالغمام (٩).

الثالث : أنها بمعنى (عن) ، أي : عن الغمام (١٠) كقوله : («يوم تشقّق الأرض عنهم (١١)) (١٢) ، [والباء وعن يتعاقبان (١٣) ، تقول : رميت عن القوس وبالقوس](١٤).

قوله : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) فيها اثنتا عشرة قراءة ثنتان في المتواتر ، وعشر (١٥) في الشاذ. فقرأ ابن كثير من السبعة «وننزل» بنون مضمومة ثم أخرى ساكنة وزاي خفيفة مكسورة مضارع (أنزل) ، و «الملائكة» بالنصب (١٦) مفعول به ، وكان من حق المصدر أن يجيء بعد هذه القراءة على (إنزال). قال أبو علي : لما كان (أنزل) و (نزّل) يجريان مجرى واحدا أجزأ (١٧) مصدر أحدهما عن مصدر الآخر ، وأنشد :

٣٨٧٢ ـ وقد تطوّيت انطواء الحضب (١٨)

__________________

(١) ق : ٤٤.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في ب : بتاء.

(٤) انظر شرح التصريح ٢ / ٤٠١ ، الهمع ٢ / ٢٢٧ ، شرح الأشموني ٤ / ٣٥١.

(٥) عند قوله تعالى : «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوان» [البقرة : ٨٥]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «تظّاهرون» مشددة الظاء بألف ، وعاصم وحمزة والكسائي وعلي بن نصر عن أبي عمرو «تظاهرون» بالتخفيف. السبعة (١٦٣). وانظر اللباب ١ / ٢٠١.

(٦) قوله : سقط من ب.

(٧) في ب : التأويلات. وهو تحريف.

(٨) في ب : فيها.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٩٥.

(١٠) البيان ٢ / ٢٠٣.

(١١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٦٧.

(١٢) ما بين القوسين في ب : عنهم سراعا.

(١٣) ذهب بعض الكوفيين إلى أن تعاقبهما خاص بالسؤال نحو قوله تعالى : «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً»[الفرقان : ٥٩] ، بدليل قوله تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الحديد : ١٢] ويرى البصريون أن الباء لا تكون بمعنى (عن) أصلا ، وتأولوا الآية الأولى على أنها للسببية. وقال ابن هشام ردا على رأي البصريين : وفيه بعد ، لأنه لا يقتضي قولك : سألت بسببه ، أن المجرور هو المسؤول عنه. المغني ١ / ١٠٤ ، الهمع ٢ / ٢٢.

(١٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٥) في النسختين : وتسع.

(١٦) السبعة (٤٦٤) ، الكشف ٢ / ١٤٥ ـ ١٤٦ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٨).

(١٧) في ب : خوأ. وهو تحريف.

(١٨) رجز قاله رؤية ، وهو في ديوانه (١٦) ، الكتاب ٤ / ٨٢ ، المخصص ٨ / ١١٠ ، ١٠ / ١٨٢ ، ١٤ / ١٨٧ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ١٤١ ابن يعيش ١ / ١١٢ ، المقرب (٤٩١) اللسان (حضب) الهمع ١ / ١٨٧. ـ


لأنّ تطوّيت وانطويت بمعنى (١) ، ومثله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] [أي : تبتّلا(٢)](٣) وقرأ الباقون من السبعة «ونزّل» بضم النون وكسر الزاي المشددة وفتح اللام ماضيا مبنيّا للمفعول ، «الملائكة» بالرفع (٤) لقيامه مقام الفاعل ، وهي موافقة لمصدرها.

وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «ونزّل» بالتشديد ماضيا مبنيّا للفاعل ، وهو الله تعالى ، «الملائكة» مفعول به. وعنه ـ أيضا ـ «وأنزل» مبنيّا للفاعل عداه بالتضعيف مرة ، و (٥) بالهمزة أخرى ، والاعتذار عن مجيء مصدره على التفعيل كالاعتذار عن ابن كثير (٦). وعنه ـ أيضا ـ «وأنزل» مبنيّا للمفعول(٧).

وقرأ هارون عن أبي عمرو (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) بالتاء من فوق وتشديد الزاي ورفع اللام مضارعا مبنيّا للفاعل ، «الملائكة» بالرفع (٨) مضارع «نزّل» بالتشديد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول محذوف ، أي : وتنزّل الملائكة ما أمرت أن تنزّله.

وقرأ الخفّاف عنه (٩)(١٠) ، وجناح بن حبيش «ونزل» مخففا مبنيّا للفاعل ، «الملائكة» بالرفع(١١). وخارحة عن أبي عمرو ـ أيضا ـ وأبو معاذ «ونزّل» بضم النون وتشديد الزاي ، ونصب «الملائكة» (١٢) ، والأصل : وننزل بنونين حذفت (إحداهما (١٣)) (١٤) وقرأ أبو عمرو

__________________

ـ الحضب : بالكسر : الذّكر الضخم من الحيات ، أو حية دقيقة. والشاهد فيه أن يكون الانطواء مصدر التطوي ، لأن المعنى واحد. قال سيبويه : (لأن معنى تطويت وانطويت واحد) الكتاب ٤ / ٨٢.

(١) قال ابن يعيش : (كل مصدرين يرجعان إلى معنى واحد ، فهذه المصادر أكثر النحويين يعمل فيها الفعل المذكور لاتفاقهما في المعنى ، وهو رأي أبي العباس المبرد ، والسيرافي ، وبعضهم يضمر لها فعلا من لفظها فيقول : التقدير : اجتوروا فتجاوروا تجاورا ، وتجاوروا فاجتوروا اجتوارا ، وكذلك قوله تعالى : «أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» [نوح : ١٧] أي : أنبتكم فنبتم نباتا ، فتكون هذه المصادر منصوبة بفعل محذوف دلّ عليه الظاهر ، وهو مذهب سيبويه) ابن يعيش ١ / ١١٢ ، وانظر المقرب (٤٩١).

(٢) الحجة لأبي علي ٦ / ١٨.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) السبعة (٤٦٤) ، الكشف ٢ / ١٤٦ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٨).

(٥) و : سقط من ب.

(٦) انظر المختصر (١٠٤).

(٧) قال أبو حيان : (وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية «وأنزل» ماضيا رباعيا مبنيّا للمفعول مضارعه ينزل) البحر المحيط ٦ / ٤٩٤.

(٨) قال أبو حيان : (وهارون عن أبي عمرو «وتنزل» بالتاء من فوق مضارع نزل مشدّدا مبنيّا للفاعل) البحر المحيط ٦ / ٤٩٤.

(٩) هو إبراهيم بن محمد أبو إسحاق المكي الخفاف ، قرأ على أحمد البزي ، قرأ عليه أبو بكر محمد بن عيسى الجصاص. طبقات القراء ١ / ٢٦.

(١٠) عنه : سقط من ب ، أي : عن أبي عمرو.

(١١) انظر المختصر (١٠٤) البحر المحيط ٦ / ٤٩٤.

(١٢) انظر المختصر (١٠٤) ، المحتسب ٢ / ١٢٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٤.

(١٣) قال ابن جني : (إلا أنه حذف النون الثانية التي هي فاء فعل نزل ، لالتقاء الساكنين استخفافا) المحتسب ٢ / ١٢٠.

(١٤) ما بين القوسين في الأصل : إحديهما.


وابن كثير في رواية عنهما بهذا الأصل «وننزّل» (١) بنونين وتشديد الزاي (٢). وقرأ أبيّ «ونزّلت» بالتشديد مبنيّا للمفعول (٣) ، «وتنزّلت» بزيادة تاء في أوله ، وتاء التأنيث (فيهما (٤)) (٥).

وقرأ (٦) أبو عمرو في طريقة الخفاف عنه «ونزل» بضم النون وكسر الزاي خفيفة مبنيّا للمفعول(٧). قال صاحب اللوامح : فإن صحت هذه القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، تقديره : ونزل نزول الملائكة ، فحذف النزول ونقل إعرابه إلى «الملائكة» بمعنى : نزل نازل الملائكة ، لأنّ المصدر يجيء بمعنى الاسم ، وهذا مما (٨) يجيء على مذهب سيبويه (٩) ترتيب بناء اللازم للمفعول به ، لأنّ الفعل يدل على مصدره (١٠). قال شهاب الدين : وهذا تمحّل كثير دعت إليه ضرورة الصناعة (١١). وقال (١٢) ابن جني : وهذا غير معروف ، لأنّ (نزل) لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا للملائكة (١٣) ، ووجهه أن يكون مثل زكم الرّجل وجنّ ، فإنه لا يقال إلا أزكمه ، وأجنّه الله ، وهذا باب سماع لا قياس (١٤). ونظير هذه القراءة ما تقدم في سورة الكهف في قراءة من قرأ «فلا يقوم لهم (١٥) يوم القيامة وزنا» (١٦) بنصب وزن من حيث تعدية القاصر ، وتقدم ما فيها.

فصل

الغمام : هو الأبيض الرقيق مثل الضباب ، ولم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم (١٧). والألف واللام في «الغمام» ليس للعموم بل للمعهود ، وهو ما ذكره في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ)(١٨) [البقرة : ٢١٠] قال ابن عباس : تتشقق

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) قال ابن خالويه :(«وننزل الملائكة» هارون عن أبي عمرو) المختصر (١٠٤).

(٣) المختصر (١٠٤) ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٤.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٤٩٤.

(٥) ما بين القوسين في ب : فيها.

(٦) وقرأ : سقط من ب.

(٧) حكاها أبو حيان عن صاحب اللوامح ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٤ ، وفي المحتسب قال ابن جني : (وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو «ونزل الملائكة» خفيفة) ٢ / ١٢١.

(٨) في ب : ما.

(٩) قال سيبويه : (هذا باب ما يكون من المصادر مفعولا فيرتفع كما ينتصب إذا شغلت الفعل به وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره. قال : وإن شئت قلت سير عليه السير ، كما قلت : سير شديد. وإن وصفته كان أقوى وأبين ، كما كان ذلك في قوله : سير عليه ليل طويل ونهار طويل) الكتاب ١ / ٢٣٢.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٤.

(١١) الدر المصون ٥ / ١٣٦.

(١٢) في ب : قال.

(١٣) في ب : الملائكة.

(١٤) انظر المحتسب ٢ / ١٢١.

(١٥) في النسختين : له. وهو تحريف.

(١٦) [الكهف : ١٠٥].

(١٧) انظر القرطبي ١٣ / ٢٣ ـ ٢٤. البحر المحيط ٦ / ٤٩٤.

(١٨) [البقرة : ٢١٠]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٤.


سماء الدنيا فينزل أهلها (١) ، وهم أكثر ممن في الأرض من (٢) الجن والإنس ، [ثم تشقق السماء الثانية ، فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس](٣) ثم كذلك حتى تشقق (٤) السماء السابعة ، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ، ثم ينزل الكروبيّون (٥) ، ثم حملة العرش(٦).

فإن قيل : ثبت بالقياس أن نسبة الأرض إلى سماء (٧) الدنيا كحلقة في فلاة ، فكيف بالقياس إلى(٨) الكرسي والعرش ، فملائكة هذه المواضع (بأسرها ، فكيف تتسع الأرض لكل هؤلاء؟

فالجواب : قال بعض المفسرين : الملائكة يكونون في الغمام ، والغمام يكون) (٩) مقرّ الملائكة(١٠).

قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) فيها أوجه :

أحدها : أن يكون «الملك» مبتدأ والخبر «الحقّ» و «يومئذ» متعلق ب «الملك» ، و «للرّحمن» متعلق ب «الحقّ» ، أو بمحذوف على التبيين ، أو بمحذوف على أنه صفة للحق (١١).

الثاني : أنّ الخبر «يومئذ» ، و «الحقّ» نعت للملك (١٢) ، [و «للرحمن» على ما تقدم](١٣).

[الثالث : أنّ الخبر «للرّحمن» و «يومئذ» متعلق ب «الملك» ، و «الحقّ» نعت للملك(١٤)](١٥).

قيل : ويجوز نصب الحق بإضمار (أعني) (١٦).

__________________

(١) كذا في ب ، وفي الأصل : غير أهلها.

(٢) في الأصل : ممن في السماء الدنيا ومن.

(٣) ما بين القوسين تكملة من البغوي.

(٤) في الأصل : تشق.

(٥) الكروبيون : سادة الملائكة ، منهم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، هم المقربون الكرب القرب. اللسان (كرب).

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٧١.

(٧) في ب : السماء.

(٨) إلى : سقط من ب.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٤.

(١١) انظر البيان ٢ / ٢٠٤ ، التبيان ٢ / ٩٨٤ ـ ٩٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٥.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٥.

(١٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٤) انظر البيان ٢ / ٢٠٤ ، التبيان ٢ / ٩٨٤ ، البحر المحيط ٦ / ٦ / ٤٩٥.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٦) قال الزجاج : (ويجوز : «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ» ولم يقرأ بها ، ويكون النصب على وجهين :

أحدهما : على معنى الملك يومئذ للرحمن أحق ذلك الحق ، وعلى أعني الحقّ) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٥.


فصل

المعنى : أنّ الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة (١).

قال ابن عباس : يريد (٢) أنّ يوم القيامة لا ملك يقضي غيره (٣). ومعنى وصفه بكونه حقا : أنه لا يزول ولا يتغير (٤). فإن قيل : مثل هذا الملك لم يكن (٥) قط إلا للرحمن ، فما الفائدة في قوله : «يومئذ»؟. فالجواب لأنّ في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ، ولا في المعنى ، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه ، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام (٦). (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي : شديدا ، وهذا الخطاب يدلّ على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا ؛ جاء في الحديث «أنه يهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» (٧) قوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) يوم معمول لمحذوف (٨) ، أو معطوف على (يَوْمَ تَشَقَّقُ). و «يعضّ» مضارع عضّ ، ووزنه فعل بكسر العين بدليل قولهم : عضضت أعضّ. وحكى الكسائي فتحها في الماضي (٩) ، فعلى هذا يقال : أعضّ بالكسر في المضارع. والعضّ هنا كناية عن شدة الندم ، ومثله : حرق نابه ، قال(١٠) :

٣٨٧٣ ـ أبى الضّيم والنّعمان يحرق نابه

عليه فأفضى (١١) والسّيوف معاقله (١٢)

وهذه الكناية أبلغ من تصريح المكني عنه (١٣).

فصل

(أل) في «الظّالم» تحتمل (١٤) العهد والجنس على خلاف في ذلك (١٥). فالقائلون (١٦) بالعهد اختلفوا على قولين :

الأول : قال ابن عباس : أراد بالظالم : عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس ، كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما ، ودعا إليه جيرته وأشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ١٧١.

(٢) في ب : ويريد.

(٣) انظر البغوي ٦ / ١٧١.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٤ ـ ٧٥.

(٥) في ب : يمكن. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٥.

(٧) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٧٥.

(٨) أي : اذكر. وانظر تفسير ابن عطية ١١ / ٣٢.

(٩) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٥٨ ، القرطبي ١٣ / ٢٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٥.

(١٠) في ب : قوله.

(١١) في ب : فأمضى.

(١٢) البيت من بحر الطويل ، قاله زهير بن أبي سلمى في مدح حصن بن حذيفة بن بدر وقد تقدم.

(١٣) وهذه كناية عن صفة.

(١٤) في الأصل : تحمل.

(١٥) قال الزمخشري : (واللام في «الظالم» يجوز أن تكون للعهد يراد به عقبة خاصة ويجوز أن تكون للجنس ، فيتناول عقبة وغيره) الكشاف ٣ / ٩٥.

(١٦) في ب : والقائلون.


النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويعجبه حديثه ، فقدم ذات يوم من سفر ، فصنع (١) طعاما ، ودعا الناس ، ودعا الرسول ، فلما قرب الطعام قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد (٢) أنّ محمدا رسول الله ، فأكل الرسول من(٣) طعامه ، وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف ، فلما أتى أبي بن خلف قال له : يا عقبة صبأت ، قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل عليّ فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له ، فطعم. فقال : ما أنا بالذي أرضى منك أبدا إلا أن تأتيه وتبزق (٤) في وجهه ، وتطأ على عنقه (٥) ، ففعل ذلك عقبة ، فقال عليه‌السلام (٦) : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوتك بالسيف ، فقتل عقبة يوم بدر (٧) صبرا ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بيده يوم أحد (٨).

قال الضحاك : لما بزق عقبة في وجه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عاد بزاقه (٩) في وجهه ، فاحترق خداه ، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت (١٠).

وقال الشعبي : كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية (١١) بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من (١٢) وجهك حرام إن بايعت محمدا ، فكفر وارتد ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ)(١٣) يعني : عقبة ، يقول : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) ، أي : ليتني اتبعت محمدا فاتخذت معه سبيلا إلى الهدى. وقرأ أبو عمرو (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ) بفتح الياء (١٤) ، والآخرون بإسكانها(١٥).

الثاني : قالت الرافضة : الظالم هو رجل بعينه ، وإن المسلمين عرفوا اسمه وكتموه ، وجعلوا فلانا بدلا من اسمه ، وذكروا فاضلين من أصحاب الرسول.

ومن حمل الألف واللام على العموم ، لأنها إذا دخلت على الاسم المفرد أفادت العموم بالقرينة ، وهي أنّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف ، فدلّ على أنّ المؤثر في العض على اليدين كونه ظالما ، فيعم الحكم لعموم علته.

__________________

(١) في ب : وصنع.

(٢) أشهد : سقط من ب.

(٣) من : سقط من ب.

(٤) في ب : وتبصق.

(٥) في ب : عقبه.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) بدر : سقط من ب.

(٨) انظر أسباب النزول للواحدي ٨ / ٢٤ ـ ٢٤٩ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٧٥.

(٩) في ب : بصاقه.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ١٧٢ ، وأسباب النزول للواحدي (٢٤٩) ، والقرطبي ١٣ / ٢٦.

(١١) في ب : أبي أمية.

(١٢) من : سقط من ب.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ١٧٢ ـ ١٧٣.

(١٤) في ب : التاء. وهو تحريف.

(١٥) السبعة (٤٦٤) ، الكشف ٢ / ١٤٩ ، النشر ٢ / ٣٣٥ ، الإتحاف (٣٢٩).


وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة ، ونزوله في واقعة خاصة (لا ينافي العموم) (١) ، بل تدخل فيه تلك الصورة وغيرها. والمقصود من الآية زجر الكل عن الظلم ، وذلك لا يحصل إلا بالعموم(٢).

فصل

قال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال هكذا كلما أكلها (٣) نبتت (٤) وقال المحققون : هذه اللفظة (٥) للتحسر والغم ، يقال : عضّ أنامله (٦) ، وعضّ على يديه (٧).

قوله : «يقول» هذه الجملة حال من فاعل «يعضّ» وجملة التمني بعد القول محكية به (٨) ، وتقدم الكلام في مباشرة (يا) ل «ليت» في النساء (٩).

قوله : (يا وَيْلَتى). قرأ الحسن (يا وَيْلَتى) بكسر التاء وياء صريحة بعدها ، وهي الأصل(١٠). وقرأ الدّوريّ (١١) بالإمالة (١٢).

قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن ، لأن أصل هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من الياء ، فمن أمال رجع إلى الذي منه فرّ أولا (١٣). وهذا منقوض بنحو (باع) فإن أصله الياء ، ومع ذلك أمالوا ، وقد أمالوا (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ) [الزمر : ٥٦] و (يا أَسَفى)(١٤) وهما ك (ياء) «ويلتي» في كون ألفهما عن ياء المتكلم. و «فلان» كناية عن علم من يعقل ، وهو متصرف. و «فل» (١٥) كناية عن نكرة من يعقل من الذكور ، و «فلة» (١٥) عن من يعقل من الإناث. والفلان والفلانة بالألف عن (١٦) غير العاقل ، ويختص (فل) ، و (فلة) بالنداء (١٧) إلّا في ضرورة كقوله :

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٥ ـ ٧٦. وفيه : (وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن ، وإثبات أنه غير وبدل ، ولا نزاع في أنه كفر).

(٣) في ب : كلها.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٦.

(٥) في ب : القصة. وهو تحريف.

(٦) في ب : أنامله غيظا.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٦.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥.

(٩) عند قوله تعالى : «يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» [النساء : ٧٣].

(١٠) المختصر (١٠٤) ، الإتحاف (٣٢٩).

(١١) هو حفص بن عمر بن عبد العزيز أبو عمرو الدوري الأزدي البغدادي النحوي الضرير ، إمام القراءة وشيخ الناس في زمانه ، أول من جمع القراءات وقرأ بسائر الحروف السبعة ، وبالشواذ ، وسمع من ذلك شيئا كثيرا ، مات سنة ٢٤٦ ه‍. طبقات القراء ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٧.

(١٢) الإتحاف (٣٢٩).

(١٣) انظر الحجة لأبي عليّ ٦ / ٢٠.

(١٤) من قوله تعالى : «وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» [يوسف : ٤٨].

(١٥) في ب : وقيل. وهو تحريف.

(١٥) في ب : وقيل. وهو تحريف.

(١٦) في ب : من. وهو تحريف.

(١٧) انظر اللسان (فلن).


٣٨٧٤ ـ في لجّة أمسك فلانا عن فل (١)

وليس (فل) مرخما من (فلان) خلافا للفراء (٢). وزعم أبو حيان أنّ ابن عصفور (٣) وابن مالك (٤) ، وابن العلج (٥) وهموا في جعلهم (فل) كناية عن علم من يعقل (فلان) (٦). ولام (فل) و (فلان) فيها وجهان :

أحدهما : أنها واو.

والثاني : أنها ياء (٧).

فصل

تقدم الكلام في (يا وَيْلَتى) في هود (٨). (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني أبيّ بن خلف (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) عن الإيمان والقرآن ، (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) يعني الذكر مع الرسول (وَكانَ الشَّيْطانُ) وهو كل متمرد عات من الجن والإنس ، وكل من صدّ عن سبيل الله فهو شيطان (٩). وقييل: أشار إلى خليله (١٠). وقيل : أراد إبليس ، فإنه الذي حمله على أن صار خليلا لذلك المضل ، ومخالفة الرسول ، ثم خذله (١١) ، وهو معنى قوله : (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي : تاركا يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب (١٢).

وقوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ) يحتمل أن تكون هذه الجملة من مقول الظالم فتكون منصوبة المحل بالقول. وأن تكون من مقول الباري تعالى فلا (١٣) محل لها ، لاستئنافها (١٤).

__________________

(١) رجز قاله أبو النجم. تقدم تخريجه.

(٢) هذا القول منسوب للكوفيين. انظر شرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، الهمع ١ / ١٧٧ ونسبه إلى الفراء أبو حيان في البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.

(٣) قال ابن عصفور : (وقد اختصت العرب بعض الأسماء بالنداء وهو أبت ، وأمت واللهم ، وفل ، وهو كناية عن العلم) المقرب (١٩٩).

(٤) قال ابن مالك : (فمن ذلك قولهم للرجل : يا فل ـ بمعنى يا فلان ـ وللمرأة يا فلة ـ بمعنى يا فلانة) شرح الكافية الشافية ٣ / ١٣٢٩.

(٥) انظر شرح التصريح ٢ / ١٧٩.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.

(٧) قال صاحب اللسان : (وروي عن الخليل أنه قال : فلان نقصانه ياء أو واو من آخره ، والنون زائدة ، لأنك تقول في تصغيره : فليان ، فيرجع إليه ما نقص وسقط منه ، ولو كان فلان مثل دخان لكان تصغيره فلين مثل دخين ، ولكنهم زادوا ألفا ونونا على فل) اللسان (فلن). ويرى سيبويه أن لام (فل وفلان) نون فإنه قال : (ومن ذلك فل ، تقول : فلين. وقولهم : فلان دليل على أن ما ذهب لام وأنها نون. وفل وفلان معناهما واحد) الكتاب ٣ / ٤٥٢.

(٨) عند قوله تعالى : «قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» [هود : ٧٢].

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٧٣.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٧٦.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ١٧٣.

(١٣) في ب : ولا.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ٩٦ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٤ ـ ٣٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.


قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً)(٣١)

قوله تعالى (١) : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ).

قال أكثر المفسرين : إنّ هذا القول وقع مع الرسول. وقال أبو مسلم : بل المراد أنّ الرسول يقوله في الآخرة كقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١]. والأول أولى ، لأنّ قوله : (وَكَذلِكَ (٢) جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) تسلية للرسول ، ولا يليق ذلك إلا إذا وقع القول منه (٣). و «مهجورا» مفعول ثان ل «اتّخذوا» (٤) ، أو حال. وهو مفعول من الهجر ـ بفتح الهاء ـ وهو التّرك والبعد. أي : جعلوه متروكا بعيدا ، لم يؤمنوا به ، ولم يقبلوه ، وأعرضوا عن استماعه. وقيل : هو من الهجر ـ بالضم ـ أي : مهجورا فيه. ثم حذف الجار (٥) بدليل قوله : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون : ٦٧]. وهجرهم فيه : قولهم فيه (٦) : إنه شعر ، وسحر ، وأساطير الأولين ، وكذب وهجر ، أي : هذيان (٧).

قال عليه‌السلام : «من تعلم القرآن وعلق مصحفا ، ولم يتعاهده ، ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقا به ، يقول : يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» (٨). وجعل الزمخشري «مهجورا» (٩) هنا مصدرا بمعنى الهجر قال كالمجلود والمعقول (١٠). قال شهاب الدين : وهو غير مقيس ، ضبطه أهل اللغة في أليفاظ فلا يتعدى إلّا بنقل (١١).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) الآية. جعل ذكر ذلك تسلية للرسول ، وأن له أسوة بسائر الرسل ، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبر أولو العزم من الرسل (١٢). (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).

قال المفسرون : الباء زائدة بمعنى كفى ربك (١٣)(هادِياً وَنَصِيراً) منصوبان على

__________________

(١) تعالى : سقط من ب.

(٢) في ب : كذلك.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٩٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧.

(٦) فيه : سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧

(٨) أخرجه ابن حجر في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢١) ، الثعلبي من طريق أبي هدية عن أنس ، وأبو هدية كذاب. وأورده ابن عطية في تفسيره ١١ / ٣٥ ـ ٣٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧ ، القرطبي ١٣ / ٢٧ ـ ٢٨.

(٩) في الأصل : مفعولا.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ٩٦.

(١١) الدر المصون ٥ / ١٣٧.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧.

(١٣) هذا هو المشهور ، وقيل : إن الباء معدية دخلت لتضمّن كفى معنى اكتف ، قال ابن هشام : وهو من الحسن بمكان ويصححه قولهم : اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ، أي : ليتق وليفعل بدليل جزم ـ


الحال ، وقيل : على التمييز (١) «هاديا» إلى مصالح الدين والدنيا ، «ونصيرا» على الأعداء.

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر ، لأنّ قوله : (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى ، وتلك العداوة كفر. قال الجبائي : المراد من الجعل التبيين ، لأنه تعالى لمّا بيّن أنهم أعداؤه ، فقد جعل أنهم أعداء ، كما إذا بيّن الرجل أنّ فلانا لص ، فقد جعله لصا ، وكما يقال في الحاكم : إنه عدّل فلانا ، وفسّق فلانا ، وجرّحه.

وقال الكعبي (٢) : إنه تعالى لما أمر (الأنبياء) (٣) بعداوة الكفار ، وعداوتهم للكفار تقتضي (عداوة الكفار) (٤) لهم ، فلهذا جاز أن يقول : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة.

وقال أبو مسلم : يحتمل في العدو أنه البعيد الغريب (٥) ، إذ المعاداة المباعدة (٦) ، كما أن النصرة قرب من المظاهرة (٧) ، وقد باعد الله بين المؤمنين والكافرين. والجواب عن الأول : أنّ التبيين لا يسمي التيه جعلا ، لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال : إنه جعل الصانع وجعل قدمه.

والجواب عن الثاني : أنّ الذي أمره (٨) الله تعالى (به) (٩) هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم ، أو ليس له فيه تأثير؟.

فإن كان الأول فقد تم الكلام ، لأنّ عداوتهم للرسول كفر ، فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة ، فقد أمر بما له أثر في وقوع الكفر ، وإن لم يكن له (١٠) فيه تأثير ألبتة كان منقطعا عنه بالكلية ، فيمتنع إسناده إليه ، وهذا هو الجواب عن أبي مسلم (١١). فإن قيل : قوله ـ عليه‌السلام (١٢) ـ : ((يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) في

__________________

ـ (يثب) وتوجيه قولهم : كفى بهند ، بترك التاء ، وقيل : الفاعل ضمير الاكتفاء ، فالباء ليست بزائدة ، والتقدير : كفى الاكتفاء بالله. قال الرماني : فيه بعد لقبح حذف الفاعل ، ولأن الاستعمال يدل على خلافه ، ولا تزاد الباء في فاعل (كفى) التي بمعنى أجزأ وأغنى ، ولا التي بمعنى وفى. انظر معاني الحروف للرماني (٣٧) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٦ ، المغني ١ / ١٠٦ ـ ١٠٧ ، حاشية الشيخ يس على التصريح ١ / ٢٧٠.

(١) انظر القرطبي ١٣ / ٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.

(٢) في ب : الكلبي. وهو تحريف.

(٣) الأنبياء : تكملة من الفخر الرازي.

(٤) ما بين القوسين في النسختين : عداوته. والتصويب من الفخر الرازي.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : والغريب.

(٧) في ب : والمباعدة.

(٨) في ب : الظاهر.

(٩) في الأصل : أمر.

(١٠) به : تكملة من الفخر الرازي.

(١١) له : سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧.


المعنى كقول نوح ـ عليه‌السلام) (١) ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٥ ـ ٦] فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هنا (٢) ، فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

فالجواب : أن نوحا ـ عليه‌السلام (٣) ـ لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد ـ عليه‌السلام (٤) ـ لما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر ، فلما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) (من المجرمين) (٥) كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك (٦) الدعاء عليهم (فافترقا) (٧)(٨). فإن قيل : قوله : «جعلنا» صيغة تعظيم ، والعظيم إذا ذكر نفسه في معرض التعظيم ، وذكر أنه يعطي ، فلا بد وأن تكون العطية عظيمة كقوله : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وقوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ)(٩) ، فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي (١٠) هي منشأ الضرر في الدين والدنيا؟

فالجواب : خلق العدو (١١) تسبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب (١٢).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ١٣) عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) الآية.

هذه شبهة خامسة (١٤) لمنكري النبوة ؛ فإن أهل مكة قالوا : تزعم أنك رسول من عند الله ، فهلا تأتينا بالقرآن جملة (واحدة) (١٥) ، كما أتي موسى بالتوراة جملة ، وكما أتي عيسى بالإنجيل جملة ، وداود بالزبور (١٦). قال ابن جريج : من أوله إلى آخره في ثنتين أو ثلاث وعشرين سنة (١٧). و «جملة» حال من «القرآن» ؛ إذ هي في معنى مجتمعا (١٨).

قوله : «كذلك» الكاف إما مرفوعة المحل ، أي : الأمر كذلك (١٩) ، و «لنثبّت» علة

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في الأصل : هناك.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) في ب : ونزل. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٧ ـ ٧٨.

(٨) ما بين القوسين في ب : فافترقوا.

(٩) من قوله تعالى : «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» [الكوثر : ١].

(١٠) التي : سقط من ب.

(١١) في ب : العبد. وهو تحريف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٨.

(١٣) في الأصل : أنزل. وهو تحريف.

(١٤) خامسة : سقط من ب.

(١٥) واحدة : سقط من الأصل.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٨ ـ ٧٩.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٩.

(١٨) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥.

(١٩) انظر الكشاف ٣ / ٩٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٦.


لمحذوف (١) ، أي : لنثبت فعلنا ذلك. وإما منصوبته (٢) على الحال ، أي : أنزل مثل ذلك ، أو على النعت لمصدر محذوف ، و «لنثبت» متعلقة بذلك الفعل المحذوف (٣) وقال أبو حاتم : هي جواب قسم(٤). وهذا قول مرجوح نحا إليه الأخفش (٥) ، وجعل منه «ولتصغى» (٦) ، وقد تقدم في الأنعام. وقرأ عبد الله «ليثبت» بالياء (٧) أي الله تعالى.

فصل

هذا جواب عن شبهتهم ، وبيانه من وجوه :

أحدها : أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يكن من أهل الكتابة والقراءة (٨) ، فلو نزل ذلك عليه جملة واحدة كان (٩) لا يضبطه وجاز عليه فيه الخطأ والغلط.

وثانيها : أن من كان الكتاب عنده ، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ ، فالله (١٠) تعالى ما أعطاه الكتاب جملة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ، ليكون حفظه له أكمل ، فيكون أبعد عن المساهمة وقلة التحصيل.

وثالثها : أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة على الخلق ، فكان يثقل عليهم ذلك فلما (١١) نزل مفرقا منجما نزلت التكاليف قليلا قليلا ، فكان تحملها أسهل.

ورابعها : أنه إذا شاهد جبريل حالا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على عوارض النبوة ، وعلى احتمال الأذى وعلى التكاليف الشاقة.

وخامسها : أنه لما تم (١٢) شرط الإعجاز فيه مع كونه منجما ثبت كونه معجزا ؛ فإنه لو كان ذلك مقدورا للبشر لوجب أن يأتوا بمثله منجما مفرقا ، ولما عجزوا عن معارضة نجومه المفرقة ، فعن معارضة الكل أولى.

وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم ووقائعهم ، فكانوا يزدادون بصيرة ، وكان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب.

وسابعها : أن السفارة بين الله وبين أنبيائه ، وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم ، فيحتمل أن يقال : إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة لبطل المنصب على

__________________

(١) في ب : بمحذوف.

(٢) في ب : منصوبة.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٨٥.

(٤) أي : اللام في «لنثبت» ، والتقدير : والله ليثبتن ، فحذفت النون وكسرت اللام. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(٥) قال الأخفش :(«ولتصغى إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة» أي : ولتصغين) معاني القرآن ٢ / ٥٥٨.

(٦) من قوله تعالى : «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ»[الأنعام : ١١٣].

(٧) المختصر (١٠٤) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(٨) في ب : القراءة والكتابة.

(٩) في ب : فإنه.

(١٠) في ب : والله.

(١١) في ب : فيما.

(١٢) تم : تكملة من الفخر الرازي.


جبريل ـ عليه‌السلام ـ فلما أنزله مفرقا منجما بقي ذلك المنصب العالي عليه ، فلذلك جعلة الله تعالى منجما(١).

فصل (٢)

قوله : «كذلك» يحتمل أن يكون من تمام (٣) كلام المشركين ، أي : جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ذكره جوابا لهم ، أي : كذلك أنزلناه ، مفرقا (٤). فإن قيل : «كذلك» إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدمه هو إنزالة جملة ، (فكيف فسره ب «كذلك أنزلناه») (٥) مفرقا؟

فالجواب : أن الإشارة (إلى الإنزال مفرقا لا إلى جملة (٦). قوله : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) الترتيل : التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت) (٧) يسير دون قطع النفس ، ومنه ثغر (٨) رتل ومرتل ، أي: مفلج الأسنان بين أسنانه فرج يسيرة (٩). قال الزمخشري : ونزل هنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلا تدافعا (١٠). يعني أن نزل بالتشديد يقتضي بالأصالة التنجيم والتفريق ، فلو لم يجعل بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك ، لتدافع (١١) مع قوله «جملة» لأن الجملة تنافي التفريق ، وهذا بناء منه على معتقده ، وهو أن التضعيف يدل على التفريق ، وقد نص على كذلك في مواضع من الكشاف في سورة البقرة (١٢) ، وأول (١٣) آل عمران (١٤) ، وآخر الإسراء (١٥) ، وحكى هناك عن ابن عباس ما يقوي ظاهره صحة قوله (١٦).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٩.

(٢) في الأصل : قوله. وهو تحريف.

(٣) تمام : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٩.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل ، وعلى هامشه : لعله : لا اتزالة.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧٩.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) الثغر : الفم. وقيل : هو اسم الأسنان كلها ما دامت في منابتها قبل أن تسقط ، وقيل : هي الأسنان كلها ، كن في منابتها أو لم تكن ، اللسان (ثغر).

(٩) انظر اللسان (رتل).

(١٠) في الكشاف : وإلا كان متدافعا. الكشاف ٣ / ٩٦.

(١١) في ب : التدافع.

(١٢) عند قوله تعالى : «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» [البقرة : ٢٣]. قال الزمخشري : (فإن قلت : لم قيل «مِمَّا نَزَّلْنا» على لفظ التنزيل؟ قلت : لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم ، وهو من مجازه لمكان التحدي) الكشاف ١ / ٤٧.

(١٣) في ب : وأول سورة.

(١٤) عند قوله تعالى : «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» [آل عمران : ٣]. قال الزمخشري: (فإن قلت : لم قيل : نزّل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل؟ قلت : لأن القرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة) الكشاف ١ / ١٧٤.

(١٥) عند قوله تعالى : «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً»[الإسراء : ١٠٦]. قال الزمخشري : (وقرأ أبيّ «فرقناه» بالتشديد ، أي : جعلنا نزوله مفرقا منجما ... «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً» على حسب الحوادث) الكشاف ٢ / ١٣٨.

(١٦) قال الزمخشري عند قوله «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ... الآية» [الإسراء : ١٠٦] : (وعن ابن عباس رضي الله عنه ـ


فصل

(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) قال ابن عباس : بيناه بيانا (١). والترتيل : التبيين (٢) في ترسل (٣) وتثبيت(٤). وقال السديّ : فصلناه تفصيلا (٥). وقال مجاهد : بعضه (٦) في أثر بعض (٧). وقال النخعي والحسن (٨) وقتادة : فرقناه تفريقا آية بعد آية (٩). قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ) يعني المشركين «بمثل» يضربونه (١٠) في إبطال أمرك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ) الذي (١١) يدفع ما جاءوا به من المثل ويبطله كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء : ١٨] في ما يريدون من الشبه (مثلا ، وسمى ما يدفع به الشّبه) (١٢) حقا (١٣).

قوله : (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ) هذا الاستثناء مفرغ ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك كذا ، والمعنى : ولا يأتونك بسؤال عجيب إلا جئناك بالأمر الحق ، (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي : بيانا وتفضيلا ، و «تفسيرا» تمييز. والمفضّل عليه محذوف : تفسيرا من مثلهم (١٤).

والتفسير : تفعيل من الفسر (١٥) ، وهو كشف ما قد غطي (١٦).

ثم ذكر مآل المشركين فقال : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) بساقون ويجرّون إلى جهنم ، روي أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم (١٧) على القفا ، وأرجلهم إلى فوق ، وقال عليه‌السلام (١٨) : «إنّ الذين أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (١٩). والأول أولى ، لأنه (٢٠) ورد أيضا.

قوله : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ) يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين (٢١) ويجوز نصبه على الذم (٢٢) ، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة من قوله «أولئك شرّ

__________________

ـ أنه قرأه مشدّدا (أي : فرّقناه) ، وقال : لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة) الكشاف ٢ / ٣٧٨.

(١) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(٢) في ب : التبيان.

(٣) في ب : ترتل.

(٤) اللسان (رتل).

(٥) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(٦) في ب : بعض.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(٨) في ب : الحسن والنخعي.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(١٠) في ب : تصرفونه.

(١١) الذي : مكرر في ب.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(١٥) في ب : المفسر.

(١٦) اللسان (فسر).

(١٧) في ب : على وجوههم.

(١٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٩) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦٩ ، مسلم (منافقين) ٤ / ٢١٦١ ، أحمد ٢ / ٣٥٤ ، ٣٦٣.

(٢٠) لأنه : سقط من ب.

(٢١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(٢٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦.


مكانا» (١) ، ويجوز أن يكون «أولئك» بدلا أو بيانا للموصول ، و (شَرٌّ مَكاناً) خبر الموصول.

قوله : (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) منزلا ومصيرا من أهل الجنة (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) وأخطأ طريقا (٢) وههنا سؤال كما تقدم في قوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا)(٣).

ولما تكلم في التوحيد ، ونفي الأنداد (٤) وإثبات النبوة وأحوال القيامة شرع في ذكر القصص على الطريقة المعلومة (٥).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً)(٣٦)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الآية. لما (٦) قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٣١] وذكر ذلك في معرض التسلية له ، ذكر جماعة من الأنبياء ، وعرفه تكذيب أممهم ، والمعنى (٧) : لست يا محمد بأول من أرسلنا فكذب (وآتيناه الآيات فردّ) (٨) : فقد آتينا موسى الكتاب ، وقوينا عضده بأخيه هارون (ومع ذلك فقد ردّ) (٩)(١٠). فإن قيل : كون (١١) هارون وزيرا كالمنافي لكونه شريكا ، بل يجب أن يقال : إنه لما صار (شريكا) (١٢) خرج عن كونه وزيرا. فالجواب : لا منافاة بين الصنفين ، لأنه لا يمنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيرا ، وظهيرا (١٣) ، ومعينا له (١٤). ولا (١٥) وجه لقول من قال في قوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا) إنه خطاب لموسى عليه‌السلام (١٦) وحده بل يجري مجرى قوله : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)(١٧) [طه : ٤٣].

قوله (١٨) : «هارون» بدل (١٩) ، أو بيان (٢٠) ، أو منصوب على القطع و «وزيرا» مفعول ثان (٢١) ، وقيل : حال ، والمفعول الثاني قوله «معه» (٢٢). قال الزجاج : الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويعمل (٢٣) برأيه ، والوزر (٢٤) ما يعتصم به ، ومنه : (كَلَّا لا وَزَرَ) [القيامة : ١١]

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٧.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٧٦.

(٣) من الآية (٢٤) من السورة نفسها.

(٤) في ب : الإنذار. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٠.

(٦) في ب : ولما.

(٧) في ب : فالمعنى.

(٨) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٠.

(١٠) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١١) في ب : كيف. وهو تحريف.

(١٢) شريكا : تكملة من الفخر الرازي.

(١٣) في ب : ظهيرا.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٥) في ب : فلا.

(١٦) عليه‌السلام : سقط من ب.

(١٧) [طه : ٤٣]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٨) في ب : فصل. وهو تحريف.

(١٩) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦.

(٢٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٢١) المرجع السابق.

(٢٢) المرجع السابق.

(٢٣) في معاني القرآن وإعرابه : ويتحصن.

(٢٤) في ب : والوزير.


أي : لا منجى ولا ملجأ (١). قال القاضي : ولذلك لا يوصف (٢) تعالى بأن له (٣) وزيرا (٤).

قوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني القبط.

قوله : (فَدَمَّرْناهُمْ). العامة على «فدمّرنا» فعلا ماضيا معطوفا على محذوف ، أي : فذهبا فكذبوهما (٥)(فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أهلكناهم إهلاكا. وقرأ عليّ ـ كرم الله وجهه ـ «فدمّراهم» أمر (٦) لموسى وهارون (٧) ، وعنه أيضا : «فدمّرانّهم» كذلك أيضا ، ولكنه مؤكد بالنون الشديدة (٨) ، وعنه أيضا : «فدمّرا بهم» بزيادة باء الجر بعد فعل الأمر (٩) ، وهي تشبه القراءة قبلها في الخط ، ونقل عنه الزمخشري «فدمّرتهم» بتاء المتكلم (١٠). فإن قيل : الفاء للتعقيب ، والإهلاك لم يحصل عقيب بعث موسى وهارون إليهم بل بعد (١١) مدة مديدة.

فالجواب : فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بالإهلاك لا على الوقوع. وقيل : إنه تعالى أراد اختصار القصة (١٢) فذكر المقصود منها أولها وآخرها ، والمراد إلزام الحجة ببعثة الرسل ، واستحقاق التدمير بتكذيبهم (١٣). واعلم أن قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب الآيات الإلهية فلا إشكال ، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة ، فاللفظ وإن كان للماضي (١٤) فالمراد به المستقبل (١٥).

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)(٣٩)

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ) الآية. يجوز أن يكون «قوم» منصوبا عطفا على مفعول

__________________

(١) في معاني القرآن وإعرابه : أي لا ملجأ يوم القيامة ولا منجى إلا لمن رحم الله عزوجل. وانظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٧.

(٢) لا يوصف : سقط من ب.

(٣) في الأصل : بأنه.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٧٩ ، التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٦) في ب : أمر.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٩٧ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٨) قال ابن جني : (الذي رويناه عن أبي حاتم أنه حكاها قراءة غير معزوّة إلى أحد «فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» وقال : كأنه أمر موسى وهارون عليهما‌السلام أن يدمراهم. قال أبو الفتح : ألحق نون التوكيد ألف التثنية كما تقول : اضربانّ زيدا ، ولا تقتلان جعفرا) المحتسب ٢ / ١٢٢ ـ ١٢٣. وانظر المختصر (١٠٥) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٩) المحتسب ٢ / ١٢٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(١٠) قال الزمخشري : (وعن علي ـ رضي الله عنه ـ «فدمّرتهم») الكشاف ٣ / ٣٧.

(١١) في ب : بعده.

(١٢) في ب : اختصاره الفقه. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٤) في ب : الماضي.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.


«دمّرناهم» (١) ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر قوله : «أغرقناهم» (٢) وترجح هذا بتقديم جملة فعلية قبله. هذا إذا قلنا : إن «لما» ظرف زمان (٣) ، وأما إذا (٤) قلنا إنها حرف وجوب لوجوب فلا يتأتى ذلك ، لأن «أغرقناهم» حينئذ جواب «لما» ، وجوابها لا يفسر (٥) ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر لا على سبيل الاشتغال ، أي : اذكر قوم نوح (٦).

فصل

إنما قال : (كَذَّبُوا الرُّسُلَ) إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل ، أو (٧) لأن تكذيبهم (٨) لواحد تكذيب للجميع ، لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل (٩).

وقوله «أغرقناهم». قال الكلبي : أمطرنا عليهم السماء أربعين يوما ، وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك الأربعين ، فصارت (١٠) الأرض بحرا واحدا (١١). «وجعلناهم» أي : جعلنا إغراقهم وقصتهم «للناس آية» للظالمين أي : لكل من سلك سبيلهم ، (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) في الآخرة (عَذاباً أَلِيماً)(١٢).

قوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) الآية ، «وعادا» فيه ثلاثة أوجه :

أن يكون معطوفا على «قوم نوح» (١٣) ، وأن يكون معطوفا على مفعول «جعلناهم» (١٤) وأن يكون معطوفا على محل «للظّالمين» لأنه في قوة وعدنا الظالمين بعذاب (١٥). قوله : (وَأَصْحابَ الرَّسِّ) فيه (١٦) وجهان :

__________________

(١) انظر البيان ٢ / ٢٠٤ ، التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٢) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٣٩ ، البيان ٢ / ٢٠٤ ، التبيان ٢ / ٩٨٦.

(٣) تبعا لابن السراج والفارسي ومن تبعهما في أنها ظرف بمعنى حين. انظر المغني ١ / ٢٨٠.

(٤) في ب : إن.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(٦) انظر البيان ٢ / ٢٠٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨. وقال الفراء : إنه منصوب ب «أغرقناهم». معاني القرآن ٢ / ٢٦٨ وردّه النحاس ، فإنه قال : (وهذا لا يحصل لأن (أغرقنا) ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي «قوم نوح») إعراب القرآن ٣ / ١٦١.

(٧) في ب : و. وهو تحريف.

(٨) في الأصل : تكذبهم.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٠) في ب : لصارت.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨١.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(١٤) قاله الزجاج. معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٩ ، وقال النحاس : (وهو أولى : لأنه أقرب إليه) إعراب القرآن ٣ / ١٦١ ، ورده ابن الأنباري ، فإنه قال : (ولا يجوز أن يكون بالعطف على «وجعلناهم») البيان ٢ / ٢٠٥ ، ولا وجه له لأن جميع هذه الأمم قد صارت آية لمن أتوا بعدهم من الأمم.

(١٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٦٩ ، الكشاف ٣ / ٩٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨.

(١٦) فيه : سقط من ب.


أحدهما : (أنه) (١) من عطف المغاير ، وهو الظاهر.

والثاني : أنه من عطف بعض الصفات على بعض.

والمراد ب (أَصْحابَ الرَّسِّ) ثمود ، لأن الرّسّ البئر التي (٢) التي لم تطو عن أبي عبيدة (٣) ، وثمود أصحاب آبار. وقيل : «الرّسّ» نهر بالمشرق (وكانت قرى أصحاب الرس على شاطىء فبعث الله إليهم نبيا من أولاد يهودا (٤) بن يعقوب فكذبوه ، فلبث فيهم زمانا يشتكي إلى الله منهم ، فحفروا بئرا ورسوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم وهو يقول : إلهي ترى ضيق مكاني ، وشدة كربي ، وضعف قلبي ، وقلة (٥) صلتي فجعل قبض روحي حتى مات ، فأرسل الله ريحا عاصفة شديدة الحر ، وصارت الأرض من تحتهم كبريتا متوقدا (٦) ، وأظلتهم (٧) سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب (٨) الرصاص) (٩) ويقال : إنهم (١٠) أناس عبدة أصنام قتلوا نبيهم ، ورسوه في بئر أي ؛ دسوه (١١) فيها (١٢) وقال قتادة والكلبي : الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم وهو حنظلة بن صفوان (١٣) وقيل : هم بقية ثمود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكر الله تعالى (١٤) في قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)(١٥) [الحج : ٤٥]. وقال كعب ومقاتل والسدي : الرس (١٦) بأنطاكية قتلوا فيها حبيب النجار ، ورسوه في بئر ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة يس (١٧). وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس هو الأخدود الذي حفروه (١٨).

وقال عكرمة : هم قوم رسوا (١٩) نبيهم في بئر (٢٠). وقيل : الرس المعدن ، وجمعه

__________________

(١) أنه : تكملة ليست في المخطوط.

(٢) التي : سقط من ب.

(٣) في النسختين : عبيد. كذا نقل عنه الزمخشري الكشاف ٣ / ٩٧. والفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ والذي ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن ٢ / ٧٥ أن الرّسّ : المعدن.

(٤) في ب : هودا. والتصويب من الفخر الرازي.

(٥) في ب : قلته.

(٦) في ب : فيوقده. والتصويب من الفخر الرازي.

(٧) في ب : وأضلتهم. والتصويب من الفخر الرازي.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ ـ ٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(٩) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٠) في الأصل : أنه.

(١١) في ب : ودسوه.

(١٢) انظر الكشاف ٣ / ٩٧ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ١٧٨ ، الكشاف ٣ / ٩٧ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(١٤) تعالى : سقط من ب.

(١٥) [الحج : ٤٥]. وانظر البغوي ٦ / ١٧٨.

(١٦) في ب : البئر.

(١٧) في قوله تعالى : «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» .. إلخ [يس : ١٣ وما بعدها]. انظر البغوي ٦ / ١٧٨ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٤٠ ، القرطبي ١٣ / ٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٨) انظر البغوي ٦ / ١٧٨ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٩) في ب : دسوا.

(٢٠) انظر البغوي ٦ / ١٧٨.


رساس (١) وروي (٢) عن علي ـ رضي الله عنه ـ : أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة الصّنوبر وسموا أصحاب الرس ؛ لأنهم رسوا نبيهم في الأرض (٣). وروى ابن جرير عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن الله بعث نبيا إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهل القرية أحد إلا عبد أسود ، ثم إنهم حفروا للرسول بئرا وألقوه فيها ، ثم طبقوا عليها حجرا ضخما ، وكان ذلك الرجل الأسود يحتطب ويشتري له طعاما وشرابا ، ويرفع الصخرة ويدليه إليه ، فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوما ، فلما أراد أن يحملها وجد نوما (٤) ، فاضطجع (٥) ، وضرب الله على أذنه تسع سنين ، ثم هبّ (٦) واحتمل حزمته واشترى طعاما وشرابا ، وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحدا ، وكان قومه قد استخرجوه فآمنوا به ، وصدقوه ، وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود ، ويقول لهم إنه (٧) أول من يدخل الجنة (٨).

قوله : («وقرونا») (٩) أي : وأهلكنا قرونا كثيرة (١٠) بين عاد وأصحاب الرس (١١) والقرون : جمع قرن ، قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : القرن أربعون سنة ، وهو قول النخعي. وقيل : مائة وعشرون سنة. وقيل غير ذلك (١٢). وتقدم الكلام عليه في سورة سبحان عند قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء : ١٧].

قوله : «بين ذلك» «ذلك» إشارة إلى من تقدم ذكره ، وهم جماعات ، فلذلك حسن دخول «بين» عليه (١٣). وقد يذكر الذاكر بحوثا ثم يشير إليها بذلك ، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ، ثم يقول : فذلك كيت وكيت ، أي ذلك المحسوب أو المعدود (١٤).

قوله : «وكلا» يجوز نصبه بفعل يفسره ما بعده ، أي : وحذرنا أو (١٥) ذكرنا ، لأنها في معنى ضربنا له الأمثال (١٦).

ويجوز أن يكون معطوفا على ما تقدم (١٧) ، و «ضربنا» بيان لسبب إهلاكهم. وأما «كلّا» الثانية فمفعول مقدم (١٨).

__________________

(١) المرجع السابق واللسان (رسس).

(٢) في ب : روي.

(٣) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٤٠ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٨٢ ، القرطبي ١٣ / ٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(٤) في ب : قوما ما. وهو تحريف.

(٥) في ب : واضطجع.

(٦) في ب : ذهب.

(٧) أنه : مكرر في ب.

(٨) جامع البيان ١٩ / ١٠ ـ ١١.

(٩) ما بين القوسين بياض في ب.

(١٠) في ب : كثيرا.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٧٩.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٣ ، اللسان (قرن).

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٣.

(١٥) في الأصل : أي.

(١٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٦٨ ، الكشاف ٣ / ٩٨ ، البيان ٢ / ٢٠٥ ، التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٧) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٩٩.

(١٨) ل «تبرنا». الكشاف ٣ / ٩٨ ، البيان ٢ / ٢٠٥ ، التبيان ٢ / ٩٨٦.


قوله (١) : (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي : الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار (٢). وقيل : بيّنّا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا «تبّرناهم تتبيرا» أي (٣) : أهلكناهم إهلاكا (٤). وقال الأخفش : كسرنا تكسيرا.

قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتّتّه فقد تبّرته (٥).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٢)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ)(٦) الآية. أراد بالقرية قريات لوط ، وكانت خمس قرى ، فأهلك الله منها أربعا ونجت واحدة ، وهي (صقر) (٧) كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث. يعني أن قريشا مرّوا مرورا كثيرا إلى الشام على تلك القرى ، (الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي : أهلكت بالحجارة من السماء ، «أفلم (٨) يكونوا يرونها» في مرورهم وينظروا إلى آثار عذاب الله ونكاله فيعتبروا ويتذكروا (٩).

قوله : (مَطَرَ السَّوْءِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مصدر على حذف الزوائد أي : أمطار السوء.

الثاني : أنه مفعول ثان ؛ إذ المعنى : أعطيتها وأوليتها مطر السوء.

الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : أمطارا (١٠) مثل مطر (١١) السوء (١٢) وقرأ زيد بن عليّ «مطرت» ثلاثيا مبنيا (للمفعول) (١٣)(١٤) ، ومطر متعد قال :

٣٨٧٥ ـ كمن بواديه بعد المحل ممطور (١٥)

__________________

(١) في الأصل : فصل.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٧٩.

(٣) أي : سقط من الأصل.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٧٩.

(٥) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٦٨.

(٦) مطر السوء : سقط من ب.

(٧) في ب : صغيره. وهو تحريف.

(٨) أفلم : سقط من ب.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٤.

(١٠) في ب : أمطار. وهو تحريف.

(١١) في ب : أمطار. وهو تحريف.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٨٦ ـ ٩٨٧.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٠.

(١٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٥) عجز بيت من بحر البسيط ، وصدره :

إنّي وإياك إذ حلّت بأرحلنا

قاله الفرزدق يمدح يزيد بن عبد الملك ، وهو في ديوانه ١ / ٢١٣. الكتاب ٢ / ١٠٦ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٠ ، المغني ١ / ٣٢٨ ، شرح شواهده ٢ / ٧٤١. المحل : الجدب. الممطور : الذي نزل به المطر.

والشاهد فيه قوله : ممطور ، فإنه اسم مفعول من مطرته السماء فهو ممطور فالثلاثي متعد. وفيه شاهد ـ


وقرأ أبو السمال (مَطَرَ السَّوْءِ) بضم السين (١) ، وتقدم الكلام على السوء والسوء في براءة(٢). وقوله : (أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ) إنما عدّي (أتى) ب (على) ، لأنه ضمّن معنى مرّ.

قوله (٣) : (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) في هذا الرجاء ثلاثة أوجه :

أقواها ما قاله القاضي : وهو أنه محمول على حقيقة الرجاء ؛ لأن الإنسان لا يحتمل متاعب التكليف إلا رجاء ثواب الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق.

وثانيها : معناه لا يتوقعون نشورا ، فوضع الرجاء موضع التوقّع ؛ لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن.

وثالثها : معناه : (لا يخافون) على اللغة التهامية. وهو ضعيف (٤).

قوله (٥) : (وَإِذا رَأَوْكَ)(٦) الآية. لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته (٧) بإيراد الشبهات بين بعد ذلك أنهم إذا رأوا الرسول اتخذوه هزوا ، ولم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ، ويقول بعضهم لبعض : «أهذا (٨) الّذي بعث الله رسولا» (٩).

قوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) «إن» الأولى (١٠) نافية ، والثانية (١١) مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة (١٢) بينهما (١٣) ، و «هزوّا مفعول ثان (١٤) ، ويحتمل أن يكون التقدير : موضع هزء وأن يكون مهزوءا بك (١٤). وهذه الجملة المنفية تحتمل وجهين :

أحدهما : أنها جواب (إذا) الشرطية (١٥) ، واختصت (إذا) بأن جوابها متى كان منفيا ب (ما) أو (إن) أو (لا) لا تحتاج إلى الفاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط (١٦) فعلى هذا يكون قوله : (أَهذَا الَّذِي) في محل نصب بالقول المضمر ، وذلك القول المضمر في محل نصب على الحال ، أي : إن يتخذونك قائلين ذلك (١٧).

__________________

ـ آخر : وهو جري (ممطور) على (من) النكرة المبهمة نعتا لها لازما لزوم الصلة.

(١) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٠ ، وفيه : وقرأ أبو السماك.

(٢) يشير إلى قوله تعالى : «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ»[التوبة : ٩٨].

(٣) في ب : وقوله.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٤.

(٥) في ب : قوله تعالى.

(٦) في النسختين : «وإذا راك الذين كفروا». وهو خطأ من الناسخ. [الأنبياء : ١٦].

(٧) في ب : النبوة.

(٨) «أ» في «أهذا» : سقط من ب.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٤.

(١٠) في قوله : «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ».

(١١) في قوله : «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا».

(١٢) في ب : المفارقة.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ٩٨ ، البيان ٢ / ٢٠٥ ، ٢٠٦.

(١٤) في ب : وهزّا.

(١٤) في ب : وهزّا.

(١٥) انظر البيان ٢ / ٢٠٥.

(١٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٠.

(١٧) والتقدير : وإذا رأوك ما يتخذونك إلا هزوا قائلين أهذا الذي بعث الله رسولا. انظر البيان ٢ / ٢٠٥.


والثاني : أنها جملة معترضة بين (إذا) وجوابها. وجوابها هو ذلك القول المضمر المحكي به(١)(أَهذَا الَّذِي) والتقدير : وإذا رأوك قالوا أهذا الذي (٢) بعث ، فاعترض (٣) بجملة النفي ، ومفعول «بعث» محذوف هو (٤) عائد الموصول (٥) ، أي : بعثه (٦). و «رسولا» على بابه من كونه صفة فينتصب على الحال ، وقيل : هو مصدر بمعنى رسالة (٧) ، فيكون على حذف مضاف ، أي ذا رسول بمعنى رسالة ، أو يجعل نفس المصدر مبالغة ، أو بمعنى : مرسل (٨). (٩) وهو تكلف.

قوله : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) تقدم نظيره في سبحان (١٠).

قوله : (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا) جوابها محذوف ، أي : لضللنا (١١) عن آلهتنا. قال الزمخشري : و «لو لا» في مثل (١٢) هذا الكلام جار (١٣) من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقيد للحكم (المطلق) (١٤)(١٥).

فصل

قال المفسرون : إن أبا جهل كان إذا مر بأصحابه على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال مستهزءا : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (إِنْ كادَ) قد كاد «ليضلّنا» أي : قد قارب أن يضلنا (١٦) عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها أي : (أي لو لم نصبر عليها) (١٧) انصرافا (١٨) عنها ، (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من أخطأ طريقا (١٩). (واعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول ـ عليه الصلاة السلام ـ أتوا بنوعين من الأفعال. أحدهما : الاستهزاء ، فيقولون : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وذلك جهل عظيم ، لأن الاستهزاء إما أن يكون بصورته أو بصفته(٢٠) والأول باطل ، لأنه ـ عليه

__________________

(١) به : سقط من ب.

(٢) الذي : سقط من ب.

(٣) في ب : فأعرض.

(٤) في الأصل : أي هو.

(٥) الموصول : مكرر في ب.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٠.

(٧) قالهما ابن الأنباري. البيان ٢ / ٢٠٥.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٨٧.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) عند قوله تعالى : «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ» من الآية (٧٣). (إن) هذه فيها المذهبان المشهوران ، مذهب البصريين أنها مخففة من الثقيلة ، واللام فارقة بينها بين (إن) النافية ، ولهذا دخلت على فعل ناسخ. ومذهب الكوفيين أنها بمعنى (ما) النافية واللام بمعنى (إلا).

انظر اللباب ٥ / ٣٠١.

(١١) في ب : أضللنا.

(١٢) مثل : سقط من ب.

(١٣) في ب : جاز. وهو تصحيف.

(١٤) الكشاف ٣ / ٩٨.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٦) في ب : أو ليضلنا.

(١٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٨) في ب : انصرفنا.

(١٩) انظر البغوي ٦ / ١٨٠.

(٢٠) في ب : أو بحقيقته.


الصلاة والسلام ـ كان أحسن منهم صورة وخلقة) (١) ، وبتقدير أنه لم يكن كذلك ، لكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما كان يدعي التميز عنهم بالصورة بل بالحجة. والثاني باطل ، لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ادّعى التميز عليهم بظهور المعجز عليه دونهم ، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ، ثم إنهم لوقاحتهم (٢) قلبوا القضية ، واستهزءوا بالرسول ، وذلك يدل على (أنه ليس للمبطل في كل الأوقات) (٣) إلا السفاهة والوقاحة.

والنوع الثاني : قولهم : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) فسمّوا ذلك ضلالا ، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم ، ويدل على جده واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان فلهذا قالوا : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) ، وذلك يدل على أنهم كانوا مقهورين بالحجة ، ولم يكن في أيديهم إلا مجرد (الوقاحة (٤)) (٥).

قوله : «من (٦) أضل» جملة استفهامية معلقة ب «يعلمون» فهي سادّة مسدّ مفعوليها (٧) إن كانت على بابها ، ومسدّ واحد إن كانت بمعنى (عرف) (٨)(٩). ويجوز في «من» أن تكون موصولة ، و «أضلّ» خبر مبتدأ مضمر هو العائد على «من» تقديره : من هو أضل ، وإنما حذف للاستطالة(١٠) بالتمييز ، كقولهم : ما أنا بالذي (١١) قائل لك سوءا (١٢). وهذا ظاهر إن كانت متعدية لواحد ، وإن كانت متعدية لاثنين فيحتاج (١٣) إلى تقدير ثان (١٤) ولا حاجة إليه.

__________________

(١) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٢) في ب : مواقحتهم.

(٣) ما بين القوسين في ب : أن المبطل ليس.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٥.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) في الأصل : ومن. وهو تحريف.

(٧) في ب : مفعولهما. وهو تحريف.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٠ ـ ٥٠١.

(٩) ما بين القوسين في ب : حرف. وهو تحريف.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠١.

(١١) في ب : الذي.

(١٢) هذا قول من أقوال العرب على ما ذكر النحاة ، والشاهد فيه حذف الضمير العائد على الذي ، والأصل : ما أنا بالذي هو قائل لك سوءا. انظر الكتاب ٢ / ١٠٨ ، ٤٠٤. يجوز حذف العائد المرفوع بشرطين إذا كان مبتدأ غير منسوخ ، وكان مخبرا عنه بمفرد ، ولا يكثر الحذف للضمير المرفوع في صلة غير (أي) عند البصريين إلا إن طالت الصلة إما بمعمول الخبر أو بغيره ، سوءا ؛ تقدم المعمول على الخبر نحو (وهو الذي في السماء إله) ، أو تأخر نحو قولهم : ما أنا بالذي قائل لك سوءا ؛ حكاه الخليل ، ويستثنى من اشتراط الطول : لا سيما زيد ، فإنهم جوزوا في زيد إذا رفع أن تكون (ما) موصولة ، وزيد خبر مبتدأ محذوف وجوبا والتقدير : لا سيّ الذي هو زيد ، فحذف العائد وجوبا ولم تطل الصلة والكوفيون لا يشترطون في حذف العائد المرفوع استطالة الصلة. انظر شرح التصريح ١ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(١٣) في ب : يحتاج.

(١٤) أي إلى مفعول ثان.


فصل

لما وصفوه بالإضلال في قولهم : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) بين تعالى أنه سيظهر لهم (١) من المضل ومن الضال (٢) عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص (٣) لهم منه (٤) ، فقال : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ (٥) الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ، وهذا وعيد شديد على التعامي (٦) والإعراض عن الاستدلال والنظر (٧).

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤)

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الآية. (أَرَأَيْتَ) كلمة تصلح للإعلان والسؤال ، وههنا تعجب ممن (٨) هذا وصفه ونعته (٩).

وقوله : (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) مفعولا الاتخاذ من غير تقديم (١٠) ولا تأخير ، لاستوائهما في التعريف (١١). وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أخر «هواه» والأصل قولك : اتخذ الهوى إلها. قلت(١٢): ما (١٣) هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية (به) (١٤) كما تقول : علمت منطلقا زيدا لفضل عنايتك بالمنطلق (١٥).

قال أبو حيان : وادعاء القلب ، يعني : أن التقديم ليس بجيد ، لأنه من ضرائر الأشعار (١٦). قال شهاب الدين : قد تقدم فيه ثلاثة مذاهب (١٧) ، على أن هذا ليس من

__________________

(١) لهم : سقط من ب.

(٢) في ب : الضلال. وهو تحريف.

(٣) في ب : لا يختص. وهو تحريف.

(٤) في ب : له عنه. وهو تحريف.

(٥) في ب : نزول. وهو تحريف.

(٦) في النسختين : العامي. والتصويب من الفخر الرازي.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦.

(٨) في ب : من.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ١٠٥.

(١٠) في ب : تقدم.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ١٠٥.

(١٢) قلت : سقط من ب.

(١٣) في ب : بما.

(١٤) به : ليس في الكشاف.

(١٥) الكشاف ٣ / ٩٨.

(١٦) عبارة أبي حيان في البحر المحيط : (وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه ، والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله عنه ، كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن) ٦ / ٥٠١. فنرى أبا حيان لم يذكر البيت الذي أشار إليه ولا أشار إلى من ذكر هذا البيت ، وقوله : وادعاء القلب. تعريض بالزمخشري ولم يصرح باسمه هنا ، ولم يذكر الزمخشري هنا شيئا من الشعر شاهدا على ما ذكره من التقديم والتأخير.

(١٧) في سورة الأعراف عند قوله تعالى : «حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ» من الآية (١٠٥).

وللناس فيه ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقا ، والمنع مطلقا ، والتفصيل بين أن يفيد معنى بديعا فيجوز أو لا فيمتنع. انظر اللباب ٤ / ٧٨ ـ ٧٩.


القلب المذكور في شيء إنما هو تقديم وتأخير فقط (١).

وقرأ ابن هرمز «إلاهة هواه» على وزن فعالة (٢) ، والإلهة بمعنى المألوه ، والهاء للمبالغة ك (علّامة ونسّابة). و «إلاهة» مفعول ثاني قدم لكونه نكرة ولذلك صرف. وقيل : إلاهة هي الشمس ، ورد هذا بأنه (٣) كان ينبغي أن يمتنع (٤) من الصرف للعلمية والتأنيث. وأجيب بأنها يدخل عليها (أل) (٥) كثيرا فلما نزعت منها صارت نكرة جارية مجرى الأوصاف. ويقال : ألاهة بضم الهمزة للشمس (٦) وقرأ بعض المدنيّين «آلهة هواه» جمع إله (٧) ، وهو أيضا مفعول مقدم وجمع باعتبار الأنواع ، فقد كان الرجل يعبد آلهة شتى. ومفعول (أَرَأَيْتَ) الأول «من» والثاني الجملة الاستفهامية (٨).

فصل

قال ابن عباس : الهوى إله يعبد (٩). وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الحجر ، فإذا رأى حجرا أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر وعبده (١٠). (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي: حافظا تحفظه من اتباع هواه ، أي لست كذلك ، ونظيره : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٤٥] (لا (١١) إِكْراهَ فِي الدِّينِ)(١٢) ، قال الكلبي: نسختها آية القتال (١٣). (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) يسمعون ما تقول سماع طالب الإفهام ، أو يعقلون ما يعاينون من الحجج والأعلام. و «أم» هنا منقطعة بعنى : بل. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) في عدم انتفاعهم بالكلام ، وعدم تدبرهم ، وتفكرهم ، بل هم أضل سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها ، وتنقاد لأربابها التي تتعهدها ، (وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وقلوب الأنعام خالية عن العلم ، وعن الاعتقاد الفاسد ، وهؤلاء قلوبهم خالية عن العلم ومليئة من الاعتقاد والباطل ، وعدم علم الأنعام لا يضر بأحد ، وجهل هؤلاء منشأ للضرر العظيم ، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ، والبهائم لا تستحق عقابا على عدم العلم ، وهؤلاء يستحقون على عدم العلم أعظم العقاب) (١٤) ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم ، ولأن الأنعام تسجد وتسبح الله ، وهؤلاء الكفار لا

__________________

(١) الدر المصون ٥ / ١٣٩.

(٢) انظر المحتسب ٢ / ١٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠١.

(٣) في ب : بأن.

(٤) في ب : تمنع.

(٥) في ب : أن. وهو تحريف.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠١.

(٧) المرجع السابق.

(٨) المرجع السابق.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في ب : ولا. وهو تحريف.

(١٢) ق : ٤٥.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦.

(١٤) ما بين القوسين سقط من الأصل.


يفعلون (١) فإن قيل : لم قال : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ) فحكم بذلك على الأكثر دون الكل؟ فالجواب : لأنه كان فيهم من يعرف الله ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لحبّ الرياسة لا للجهل (٢). فإن قيل : إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين ، وكيف بعث الرسول إليهم ، فإن (٣) من شرط التكليف العقل؟ فالجواب : ليس المراد أنهم لا يعقلون بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل ، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم : إنما أنت أعمى وأصم (٤).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)(٤٩)

قوله تعالى (٥) : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) الآية. لما بين جهل المعرضين عن دلائل التوحيد ، وبين فساد طريقهم ذكر أنواعا من الدلائل الدالة على وجود الصانع ، فأولها الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه ، وتغير أحواله (٦) قوله : (أَلَمْ تَرَ) فيه وجهان (٧) :

أحدهما : أنه من رؤية العين.

والثاني : أنه من رؤية القلب ، يعني : العلم ، فإن حملناه على رؤية العين ، فالمعنى : ألم تر إلى الظل كيف مده ربّك ، وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج (٨) ، فالمعنى : ألم تعلم ، وهذا أولى ، لأن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه (٩) معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر ، فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه (١٠). وهذا الخطاب وإن (١١) كان ظاهره للرسول فهو عام في المعنى ، لأن المقصود بيان نعم الله تعالى (١٢) بالظل ، وجميع المكلفين مشتركون في تنبيههم لهذه (١٣) النعمة (١٤) و «كيف» منصوبة ب «مدّ» ، وهي

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦ ـ ٨٧.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٦.

(٣) في ب : وإن.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٧.

(٥) تعالى : سقط من ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٨.

(٧) في ب : وجهين. وهو تحريف.

(٨) فإنه قال : (والأجود أن يكون بمعنى : ألم تعلم) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٧٠.

(٩) في ب : ولكن هو.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٨.

(١١) في ب : إن.

(١٢) تعالى : سقط من ب.

(١٣) في ب : بهذه.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٨.


معلقة ل «تر» فهي في موضع نصب (١) ، وقد تقدم القول في (أَلَمْ تَرَ)(٢).

فصل(٣)

الظل عبارة عن عدم الضوء مما شأنه أن يضيء ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، جعله ممدودا ، لأنه ظل لا شمس (٤) معه ، كما قال في ظل الجنة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠] إذ(٥) لم يكن معه شمس (٦) ، (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) دائما ثابتا (٧) لا يزول ولا تذهبه (٨) الشمس(٩).

قال أبو عبيدة : الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة ، والفيء ما نسخ الشمس (٩). سمي فيئا ، لأنه فاء من جانب المغرب إلى جانب المشرق (١٠) ، (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) ، أي : على الظل دليلا ، ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرفت الظل ، ولو لا النور ما عرف الظلمة ، والأشياء تعرف بأضدادها (١١).

قال الزمخشري : فإن قلت : «ثم» (١٢) في هذين الموضعين كيف موقعها قلت موقعها لبيان تفاضل (١٣) الأمور الثلاث (١٤) ، كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم منهما تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بينهما (١٥) في الوقت (١٦).

قوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ) يعني : الظل (إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) بالشمس التي تأتي عليه ، والقبض جمع المنبسط من الشيء ، معناه : أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزءا فجزءا (قَبْضاً يَسِيراً) أي : خفيا (١٧) ، وقيل : المراد من قبضها يسيرا قبضها عند قيام الساعة ، وذلك قبض أسبابها ، وهي الأجرام التي تلقي الظلال (١٨). وقوله : «يسيرا» كقوله: (حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤] قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) الآية. هذا هو النوع الثاني شبه الليل من حيث يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن ، ونبه على (ما لنا فيه) (١٩) من النفع

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٢ ـ ٥٠٣.

(٢) عند قوله تعالى :«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ»[البقرة : ٢٤٣].

(٣) في ب : قوله.

(٤) في ب : لأنه لا ظل للشمس.

(٥) في ب : ما.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٧) في ب : ما شاء.

(٨) في ب : ولا يذهب.

(٩) انظر مجاز القرآن ٢ / ٧٥.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ١٨١ ، القرطبي ١٣ / ٣٧.

(١١) انظر البغوي ٦ / ١٨١.

(١٢) ثم : سقط من ب.

(١٣) في ب : مفاضل.

(١٤) في الكشاف : الثلاثة.

(١٥) في الكشاف : ما بين الحوادث.

(١٦) الكشاف ٣ / ٩٩.

(١٧) انظر البغوي ٦ / ١٨١.

(١٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٨.

(١٩) ما بين القوسين في ب : ما النافية. وهو تحريف.


بقوله (١) : (وَالنَّوْمَ سُباتاً) والسبات : هو الراحة ، أي : راحة لأبدانكم ، وقطعا لعملكم ، وأصل السبت (٢) : القطع ، والنائم مسبوت ، لأنه انقطع عمله وحركته (٣).

قال أبو مسلم : السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت ، لما جرت به العادة من الاستراحة فيه ، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت (٤).

وقال الزمخشري : السبات : الموت ، والمسبوت الميت ، لأنه مقطوع الحياة ، قال : وهذا كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)(٥) [الأنعام : ٦٠]. وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة ، لأن النشور في مقابلته. (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) قال أبو مسلم : هو بمعنى الانتشار والحركة ، كما سمى تعالى نوم (٦) الإنسان وفاة فقال : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور (٧).

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً) الآية. هذا هو النوع الثالث ، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في الأعراف (٨). (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعني : المطر ؛ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) قال الزمخشري : فإن قلت : إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت : لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهارة (٩) إكراما لهم ، وتتميما للمنّة عليهم (١٠).

وطهور : يجوز أن يكون صفة مبالغة منقولا من ظاهر (١١) ، كقوله تعالى : (شَراباً طَهُوراً)(١٢) ، وقال :

٣٨٧٦ ـ إلى رجّح الأكفال غيد من الصّبا

عذاب الثّنايا ريقهنّ طهور (١٣)

وأن يكون اسم ما يتطهر به (١٤) كالسحور لما يتسحّر به ، والفطور لما يتفطّر به ،

__________________

(١) في ب : قوله.

(٢) في ب : السبتا.

(٣) انظر البغوي ٦ / ١٨١ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٨٩ ، اللسان (سبت).

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٩.

(٥) [الأنعام : ٦٠]. وانظر الكشاف ٣ / ٩٩.

(٦) في ب : يوم. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨٩ ـ ٩٠.

(٨) عند قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» [الأعراف : ٥٧].

(٩) في الكشاف : وصفه بالطهور.

(١٠) الكشاف ٣ / ١٠٠.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٩٩ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٥.

(١٢) من قوله تعالى : «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً»[الإنسان : ٢١].

(١٣) البيت من بحر الطويل قاله جميل بن معمر ، وهو في ديوانه (٩٣) القرطبي ١٣ / ٣٠. البحر المحيط ٦ / ٥٠٥ ، اللسان (رجح). رجّح : جمع رجاح وراجح ، وامرأة رجاح. ورجاح : ثقيلة العجيزة من نسوة رجح. الأكفال : جمع كفل ، وهو العجز. غيد : جمع غيداء : وهي المرأة المتثنية من اللين ، وقد تغايدت في مشيها. والشاهد فيه قوله : طهور على وزن فعول. بفتح الفاء صفة مبالغة.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ٩٩ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٥.


قال عليه‌السلام (١) في البحر : «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» (٢) أراد به المطهر ، فالماء مطهر ، لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة ، كما قال في آية آخرى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١] فثبت أن التطهير مختص بالماء (٣).

(وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور هو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة كالخل وماء الورد ، والمرق ، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز رفع الحدث بها (٤). وقال عليه‌السلام : «التّراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج» ولو كان معنى الطهور هو الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم ، وحينئذ لا ينتظم الكلام ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعا» (٥) ولو كان الطهور هو الطاهر لكان معناه : طاهر (٦) إناء أحدكم ، وحينئذ لا ينتظم الكلام (٧)) (٨).

ويجوز أن يكون مصدرا ك (القبول والولوع) (٩).

وقوله : «لنحيي به» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق بالإنزال. والثاني : وهو صعب أنه متعلق ب (طهور) (١٠).

ووصف «بلدة» ب «ميّت» وهي صفة للمذكر (١١) ، لأنها بمعنى البلد.

قوله : (وَنُسْقِيَهُ) العامة على ضمّ النون ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيوة(١٢) وابن أبي عبلة بفتحها (١٣) ، وقد (١٤) تقدم أنه قرىء بذلك في النحل (١٥) والمؤمنون (١٦) وتقدم الكلام (على ذلك) (١٧).

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه ابن ماجه (صيد) ٢ / ١٠٨١ ، ومالك في الموطأ (صيد) ٢ / ٤٩٥.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٨١٨٢

(٤) المرجع السابق.

(٥) أخرجه مسلم (طهارة) ١ / ٢٣٤ ، أبو داود (طهارة) ١ / ٥٧ ، وأحمد ٢ / ٤٢٧ ، ولغ الكلب في الإناء يلغ ولوغا ، أي شرب فيه بأطراف لسانه.

(٦) في ب : طهروا.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩٠.

(٨) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٩) عزاه أبو حيان وابن منظور إلى سيبويه. انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٥ ، اللسان (طهر).

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٨٧.

(١١) في ب : وهو وصف المذكر.

(١٢) في ب : أبو حيان. وهو تحريف.

(١٣) انظر المختصر (١٠٥) تفسير ابن عطية ١١ / ٤٩ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٥.

(١٤) قد : سقط من ب.

(١٥) يشير إلى قوله تعالى : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ»[النحل : ٦٦]. وذكر هناك : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم بضم النون هنا وفي المؤمنون ، والباقون بفتح النون فيهما.

انظر اللباب ٥ / ٢٠٦.

(١٦) يشير إلى قوله تعالى : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها» [المؤمنون : ٢١].

(١٧) ما بين القوسين سقط من ب.


قوله : (مِمَّا خَلَقْنا) يجوز أن يتعلق «من» ب «نسقيه» ، وهي لابتداء الغاية ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من «أنعاما» (١) ، ونكرت الأنعام والأناسي ، (قال الزمخشري) (٢) : لأن علية الناس وجلهم مجتمعون بالأودية (٣) والأنهار ، فيهم غنية عن سقي الماء وأعقابهم وهم كثير منهم لا يعيشهم إلا ما ينزل (٤) الله من رحمته وسقيا (سمائه (٥)) (٦).

قوله : (وَأَناسِيَّ) فيه وجهان :

أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه جمع إنسان ، والأصل إنسان ، وأناسين ، فأبدلت النون ياء ، وأدغمت فيها الياء قبلها نحو ظربان وظرابي (٧).

والثاني : وهو قول الفراء (٨) والمبرد (٩) والزجاج (١٠) أنه جمع إنسي. وفيه نظر ، لأن فعالي إنما يكون جمعا لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كرسي وكراسي ، فلو أريد ب (كرسي) النسب لم يجز جمعه على كراسي (١١) ، ويبعد أن يقال : إن الياء في

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٧.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في الكشاف : وجلهم فينحون بالقرب من الأودية.

(٤) في ب : ما وينزل.

(٥) الكشاف ٣ / ١٠٠.

(٦) ما بين القوسين في ب : سما.

(٧) قال سيبويه : (وقالوا : أناسية لجمع إنسان) الكتاب ٣ / ٦٢١ ، وقال السيرافي موجها كلام سيبويه : (في هذا الجمع وجهان : أحدهما : أن يجعلوا الهاء عوضا من إحدى ياءي أناسي. وتكون الياء الأولى منقلبة من الألف التي بعد السين ، والثانية من النون. والثاني أن تحذف الألف والنون في إنسان تقديرا ، ويؤتى بالياء التي تكون في تصغيره ، إذا قالوا : أنيسيان ، وكأنهم في الجمع الياء التي يريدونها في التصغير فيصير أناسيّ ، ويدخلون الهاء لتحقيق التأنيث) هامش الكتاب ٣ / ٦٢١.

والفراء جوز هذا الوجه. انظر معاني القرآن ٢ / ٢٩٩ ، ونسب ابن الأنباري هذا الوجه إلى الفراء وضعّفه بقوله : (لأنه لو كان ذلك قياسا لكان يقال في جمع سرحان سراحي ، وذلك لا يجوز) البيان ٢ / ٢٠٦.

ووزن إنسان على مذهب البصريين (فعلان) لأنه مأخوذ من الإنس وعلى مذهب الكوفيين (إفعان) ، لأن أصل إنسان : إنسيان من النسيان وحذف منه الياء لكثرة الاستعمال. الإنصاف ٢ / ٨٠٩ ـ ٨١٢.

(٨) جوز الفراء الوجهين ، قال : (وقوله : «وَأَناسِيَّ كَثِيراً» واحدهم إنسيّ وإن شئت جعلته إنسانا ثم جمعته أناسي فتكون الياء عوضا من النون) معاني القرآن ٢ / ٢٦٩.

(٩) قال المبرد : أناسية جمع إنسية ، والهاء عوض من الياء المحذوفة ، لأنه كان يجب أناسين بوزن زناديق وفرازين ، وأن الهاء في زنادقة وفرازنة إنما هي بدل من الياء ، وأنها لما حذفت للتخفيف عوضت منها الهاء. اللسان (أنس).

(١٠) جوز الزجاج الوجهين قال : (وقوله : «وَأَناسِيَّ كَثِيراً» أناسي جمع إنسيّ مثل كرسي وكراسي ، ويجوز أن يكون جمع إنسان وتكون الياء بدلا من النون ، الأصل أناسين بالنون مثل سراحين) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٧١.

(١١) فعاليّ من أمثلة جميع الكثرة ، وهو يطرد في كل اسم ثلاثي ساكن العين مزيد آخره ياء مشددة لغير تحديد نسب نحو كرسيّ وكراسي ، وكركيّ وكراكي ف (أناسي) جمع إنسان لا إنسيّ ، وأصله أناسين ـ


إنسيّ ليست للنسب (١) ، وكان حقه أن يجمع على (أناسية) نحو مهالبة في المهلبي ، وأزارقة في الأزرقي(٢). وقرأ يحيى بن الحارث الذماري (٣) والكسائي (٤) في رواية «وأناسي» بتخفيف الياء (٥). قال الزمخشري : بحذف ياء أفاعيل ، كقولك (أناعم في أناعيم (٦)) (٧). قال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي. قلت : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم ، ولأنهم إذا ظفروا بسقيا أرضهم ، وسقي أنعامهم لم يعدموا سقياهم(٨) فإن قيل : لم خص الإنسان والأنعام هاهنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟ فالجواب : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، لأن حوائج الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان (٩) الإنعام عليهم (بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم) (١٠) بسقيهم (١١). وقال : (أَناسِيَّ كَثِيراً) ولم يقل : كثيرين ، لأنه قد جاء فعيل مفردا ويراد به الكثرة كقوله : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)(١٢) [النساء : ٦٩].

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)(٥٢)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) في هذه الهاء ثلاثة أوجه :

أحدها : قال الجمهور : إنها ترجع إلى المطر ، ثم هؤلاء قال بعضهم : (المعنى صرفنا نزول الماء من وابل ، وطل وجود وطشّ ، ورذاذ ، وغير ذلك (١٣).

__________________

ـ فأبدلوا النون ياء كما قالوا : ظربان : ظرابي وفي ذلك قال ابن مالك :

واجعل فعاليّ لغير ذي نسب

جدّد كالكرسيّ تتّبع العرب

انظر شرح الأشموني ٤ / ١٤٤ ـ ١٤٥.

(١) في ب : في النسي للنسب.

(٢) وذلك أن التاء تلحق الجمع الأقصى لزوما إذا كان المفرد منسوبا ، لتكون التاء عوضا عن ياء النسب كقولهم : أشاعثة ومغاربة جمع أشعثي ومغربي وجواز إذا كان المفرد أعجميا معربا كطيالسة وجوارية جمع طيلس وجورب أو تعويضا عن ياء فعاليل كزنادقة في زناديق ، أو تأكيدا لمعنى الجمع كتاء ملائكة. انظر التبيان في تصريف الأسماء ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : راوي الكسائي.

(٥) انظر المختصر (١٠٥) والبحر المحيط ٦ / ٥٠٥.

(٦) الكشاف ٣ / ١٠٠.

(٧) ما بين القوسين في ب : أناغم وأناغيم.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٠٠.

(٩) في ب : وكان.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٠ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٩١.

(١٢) [النساء : ٦٩]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩١.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١٠٠.


وقال بعضهم) (١) : «صرّفناه» أي : أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات (٢) وأنواع المعاش به. وقال آخرون : معناه : أنه تعالى ينزله في مكان (دون مكان) (٣) في عام ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول ، قال ابن عباس : ما عام بأكثر من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض. ثم قرأ هذه الآية.

وروى ابن مسعود عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «ما من عام بأمطر من عام ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي».

الثاني : قال أبو مسلم : الضمير راجع إلى المطر والسحاب والإظلال وسائر ما ذكره الله من الأدلة.

الثالث : أي (٤) هذا القول صرفناه بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء (٥) السحاب ، وإنزال المطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع (٦).

وقرأ عكرمة : «صرفناه» بتخفيف (٧) الراء (٨). وقيل : التصريف راجع إلى الريح.

«ليذكروا» ويتفكروا في قدرة الله تعالى (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) جحودا ، وكفرانهم هو أنهم إذا أمطروا قالوا : أمطرنا بنوء كذا ، روى زيد بن خالد الجهني (٩) قال : صلى لنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : «هل تدرون ما قال ربكم» قالوا : الله ورسوله أعلم «قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب» (١٠).

فصل

قال الجبائي : قوله : «ليذّكّروا» يدل على أنه تعالى يريد من الكل أن يذكروا ويشكروا ، ولو أراد أن يكفروا أو يعرضوا لما صح ذلك ، وذلك يبطل قول من قال : إن

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٢) في ب : وبالزراعات وغير ذلك.

(٣) دون مكان : سقط من ب.

(٤) في ب : أن.

(٥) في ب : إفشاء.

(٦) قال ابن الخطيب : والوجه الأول أقرب ، لأنه أقرب المذكورات إلى الضمير. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩٨ ـ ٩٩.

(٧) في ب : بتضعيف. وهو تحريف.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٥٠ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٦.

(٩) زيد بن خالد الجهني أبو عبد الرحمن ، ويقال : أبو طلحة المدني ، روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن عثمان ، وأبي طلحة ، وعائشة ، وعنه ابناه خالد وأبو حرب ومولاه أبو عمرة وغيرهم ، مات سنة ٧٨ ه‍. تهذيب التهذيب ٣ / ٤١٠ ـ ٤١١.

(١٠) أخرجه أبو داود (طب) ٤ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، ومالك في الموطأ (استسقاء) ١ / ١٩٢.


الله مريد لكفر من يكفر قال : ودلّ (١) قوله : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) على قدرتهم على فعل هذا التذكر ؛ إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال : أبوا أن يفعلوه ، كما لا يقال في الزمن أبى أن يسعى (٢).

وقال الكعبي : قوله : «ولقد صرّفناه بينهم ليذّكّروا» (حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين ، وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا ، لأن قوله : «ليذّكّروا») (٣) عامّ في الكل ، وقوله تعالى : (أَكْثَرُ النَّاسِ) يقتضي أن يكون هذا (٤) الأكثر داخلا في ذلك العام ، لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفورا. والجواب قد تقدم مرارا (٥).

قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) رسولا ينذرهم ، والمراد من ذلك تعظيم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من وجوه :

أحدها : أنه تعالى بين أنه مع القدرة على بعثه نذيرا ورسولا في كل قرية خصه بالرسالة وفضّله بها على الكل ، ولذلك أتبعه بقوله : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي : لا توافقهم. وثانيها : المراد : ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين و «لبعثنا في كلّ قرية نذيرا» ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل ، فقابل هذا الإجلال بالتشدّد (٦) في الدين.

وثالثها : أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف ، لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيرا مثل محمد ، وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد البتة.

وقوله : (وَلَوْ شِئْنا) يدل على أنه تعالى لا يفعل ذلك (٧). والمعنى : ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحمّلناك ثقل نذارة (٨) جميعها لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة (٩). (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يدعونك إليه من موافقتهم وهذا يدل على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلا به (١٠).

قوله : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي : بالقرآن (١١) ، أو بترك الطاعة المدلول عليه بقوله : «فلا تطع» ، أو بما دل عليه «ولو شئنا لبعثنا في كلّ قرية نذيرا» من كونه نذير كافة القرى ، أو بالسيف (١١).

والأقرب الأول ؛ لأن السورة مكية ، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان ، فالمراد

بذل الجهد في الدعاء جهادا كبيرا شديدا.

__________________

(١) في ب : ويدل.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩٩.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) هذا : سقط من ب.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩٩.

(٦) في ب : بالتشديد. وهو تصحيف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩٩.

(٨) نذارة : سقط من ب.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٨٥.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٠.

(١١) انظر القرطبي ١٣ / ٥٨.


قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)(٥٣)

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) الآية. هذا النوع الرابع. في «مرج» قولان :

أحدهما : بمعنى خلط ومرج ، ومنه مرج الأمر أي : اختلط قاله ابن عرفة (١١).

وقيل : «مرج» أجرى (١) ، وأمرج لغة فيه (٢).

(و) (٣) قيل : مرج لغة الحجاز ، وأمرج لغة نجد (٤) ، وفي كلام بعض الفصحاء : بحران أحدهما بالآخر ممروج ، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج (٥). وقيل : أرسلهما في مجاريهما وخلّاهما كما ترسل الخيل في المرج قاله ابن عباس (٦).

وأصل المرج الخلط والإرسال يقال : مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء (٧).

قوله : «هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج» هذه الجملة لا محل لها ، لأنها مستأنفة (٨) جواب لسؤال مقدر كأن قائلا قال : كيف مرجهما؟ فقيل : هذا عذب وهذا ملح.

ويجوز على ضعف أن تكون حالية (٩). والفرات : المبالغ في الحلاوة (١٠) ، والتاء فيه أصلية لام الكلمة ، ووزنه فعال (١١). وبعض العرب يقف عليها هاء ، وهذا كما تقدم في التابوت (١٢). ويقال : سمي الماء الحلو فراتا ، لأنه يفرت العطش أي : يشقه ويقطعه والأجاج : المبالغ في الملوحة ، وقيل : في الحرارة ، وقيل في المرارة (١٣). وهذا من أحسن المقابلة (١٤) ، حيث قال تعالى : (عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وأنشد بعضهم :

__________________

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٨.

(١) نسب القرطبي ذلك إلى ثعلب ١٣ / ٥٨.

(٢) قال الأخفش : ويقول قوم : أمرج البحرين مثل مرج البحرين ، فعل وأفعل بمعنى. انظر اللسان (مرج) والقرطبي ١٣ / ٥٨.

(٣) و : تكملة ليست في المخطوط.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٧٨.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٠١.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٠.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٨٥ ، اللسان (مرج).

(٨) في ب : لأنه مستأنف.

(٩) في ب : عالية. وهو تحريف.

(١٠) الفرات : أشد الماء عذوبة ، وفي التنزيل العزيز : «هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج» وقد فرت الماء يفرت فروتة إذا عذب فهو فرات. اللسان (فرت).

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٨.

(١٢) يشير إلى قوله تعالى : «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» [البقرة : ٢٤٨].

(١٣) انظر اللسان (أجج).

(١٤) المقابلة من المحسنات البديعية ، وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين ، أو معان متوافقة ، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب. انظر الإيضاح ٣٥٣.


٣٨٧٧ ـ فلا والله لا أنفكّ أبكي

(إلى أن نلتقي شعثا عراتا) (١)

أألحى إن نزحت أجاج عيني

على جدث حوى العذب الفراتا (٢)

ما أحسن ما كنى عن دمعه بالأجاج ، وعن المبكي عليه بالعذب الفرات وكان سبب إنشاد هذين البيتين (٣) أن بعضهم لحن قائلهما (٤) في قوله : عراتا (٥). كيف يقف على تاء التأنيث المنونة بالألف؟ فقيل له : إنها لغة مستفيضة يجعلون التاء كغيرها فيبدلون تنوينها بعد الفتح ألفا ، حكي عن العرب أكلت تمرتا نحو أكلت زيتا (٦). وقرأ طلحة وقتيبة (٧) عن الكسائي «ملح» بفتح الميم وكسر اللام (٨) ، وكذا في سورة فاطر (٩) ، وهو مقصور من (مالح) كقولهم : برد في بارد ، قال :

٣٨٧٨ ـ وصليانا (١٠) بردا (١١)

وماء مالح لغة شاذة (١٢). وقال أبو حاتم : هذه قراءة منكرة (١٣).

قوله : (بَيْنَهُما بَرْزَخاً) يجوز أن يكون الظرف متعلقا بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «برزخا» (١٤).

والأول أظهر. ومعنى «برزخا» أي : حاجزا بقدرته لئلا يختلط أحدهما بالآخر (١٥).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) البيتان من بحر الوافر ، لم أهتد إلى قائلهما ، وهما في الدر المصون ٥ / ١٤١ (مخطوط) والشاهد فيهما أن الوقف على تاء التأنيث بالألف لغة فاشية ، وأنّ هذا الذي قاله الشاعر ليس بلحن.

(٣) في ب : هذا البيت.

(٤) في ب : قائلة.

(٥) في ب : فراتا.

(٦) إذا كان الاسم مؤنثا بالهاء نحو رأيت قائمة ، فإنك لا تبدل عند الوقف عليه من التنوين فيه ألفا ، هذا على الأعرف من لسان العرب ، وهم الذين يقفون بابدال التاء هاء ، وأما من يقف بالتاء ، وهم بعض العرب ، وهي لغة فاشية حكاها أبو الخطاب ، فإنه يبدل من التنوين ألفا ، فيقولون : رأيت قائمتا.

وخرج بالمؤنث بالهاء المؤنث بالتاء نحو بنت وأخت فإنه يبدل فيه التنوين ألفا كغير المؤنث نحو رأيت بنتا وأختا. انظر الهمع ٢ / ٢٠٥ ، وانظر أيضا الدر المصون ٥ / ١٤١.

(٧) هو قتبية بن مهران ، أبو عبد الرحمن الأزاذاني إمام مقرىء ثقة ، أخذ القراءة عرضا وسماعا عن الكسائي ، وسليمان بن مسلم بن جماز وغيرهما ، وروى القراءة عنه عرضا وسماعا يونس بن حبيب وغيره ، مات بعد المائتين من الهجرة. طبقات القراء ٢ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٨) المختصر (١٠٥) ، المحتسب ٢ / ١٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٧.

(٩) في قوله تعالى : «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» من الآية (١٢).

(١٠) في ب : وصلنا ما. وهو تحريف.

(١١) رجز لم أهتد إلى قائله. وقد تقدم.

(١٢) انظر اللسان (ملح) ، ووجه الشذوذ أنه لم يوصف إلا بالمصدر. البحر المحيط ٦ / ٥٠٧.

(١٣) انظر المحتسب ٢ / ١٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٧.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٨٨.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٠ ، القرطبي ١٣ / ٥٩.


قوله : (وَحِجْراً مَحْجُوراً) الظاهر عطفه على «برزخا» (١).

وقال الزمخشري : (فإن قلت : (حِجْراً مَحْجُوراً)) (٢) ما معناه؟ قلت هي الكلمة التي يقولها المتعوّذ ، وقد فسرناها ، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز ، كأن واحدا من البحرين يقول لصاحبه : حجرا محجورا كأنه يتعوذ من صاحبه ويقول له : حجرا محجورا. كما قال : «لا يبغيان» (٣). وهي من أحسن الاستعارات (٤).

فعلى ما قاله يكون منصوبا بقول مضمر (٥). فإن قيل : لا وجود للبحر العذب ، فكيف ذكره الله تعالى هنا؟ لا يقال : هذا مدفوع من وجهين :

أحدهما : أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون (٦).

الثاني : لعله حصل في البحار موضع يكون أحد جانبيه عذبا والآخر ملحا ، لأنا نقول : أما الأول فضعيف ، لأن هذه الأودية ليس فيها ماء ملح ، والبحار ليس فيها ماء عذب ، فلم يحصل البتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف ؛ لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوما ، وأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال.

فالجواب (٧) : أنا نقول : المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن البحر الأجاج البحار الكبار. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) أي : حائلا (٨) من الأرض ، ووجه الاستدلال هاهنا أن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض والماء ، فلا بد من الاستواء ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة (٩). ويمكن الجواب بطريق آخر ، وهو أنا رأينا نيل مصر داخلا في بحر ملح أبيض لونه مغاير للون بحر الملح ، ولا يختلط به ويؤخذ منه ويشرب.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(٥٤)

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) الآية.

هذا نوع خامس ، وفي هذا الماء قولان :

أحدهما : أنه النطفة ، والثاني : أنه الماء الذي تسقى به الأرض فيتولد منه (١٠) الأغذية ، ويتولد من الأغذية النطفة ، كما تقدم في قوله : (وَجَعَلْنا (١١) مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(١٢).

__________________

(١) نقله أبو حيان عن الحوفي. انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٧.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) من قوله تعالى : «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» [الرحمن : ٢٠].

(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٠١.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٧.

(٦) في اللسان (جحن) : الجوهري : جيحون نهر بلخ ، وهو فيعول. وجيحان نهر بالشام. قال ابن بري : يحتمل أن يكون وزن جيحون فعلول مثل زيتون وحمدون.

(٧) في ب : والمراد.

(٨) في ب : حاجزا.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٠ ـ ١٠١.

(١٠) في ب : منها.

(١١) في ب : وخلقنا.

(١٢) [الأنبياء : ٣٠]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠١.


قوله : «من الماء» يجوز أن يكون متعلقا (١) ب «خلق» وأن يتعلق بمحذوف حالا من ماء ، و «من» لابتداء الغاية ، أو للتبعيض.

قوله : (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي : جعله ذا نسب وصهر قال الخليل : لا يقال لأهل بيت المرأة إلا أصهار (٢) ، ولا لأهل بيت الرجل إلا أختان. قال : ومن العرب من يطلق الأصهار على الجميع(٣). وهذا هو الغالب.

وقيل : النسب ما لا يحل نكاحه ، والصهر ما يحل نكاحه ، والنسب ما يوجب الحرمة ، والصهر ما لا يوجبها. والصحيح أن النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح(٤) ، وقد تقدم أن الله تعالى حرم بالنسب سبعا وبالسبب سبعا في قوله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)(٥) [النساء : ٢٣] (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق من النطفة نوعين من البشر الذكر (٦) والأنثى (٧).

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) (٥٨)

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية. لما ذكر دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم فقال (وَيَعْبُدُونَ) أي : هؤلاء المشركون (ما لا يَنْفَعُهُمْ) إن عبدوه (وَلا يَضُرُّهُمْ) إن تركوه ، (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي : معينا للشيطان على ربه بالمعاصي (٨). قال الزجاج : يعاون الشيطان على معصية الله ، لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان (٩). فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاونا للشيطان على ربه بالعداوة. فالجواب أنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ)(١٠) [الأحزاب : ٥٧]. وقيل معناه : وكان (١١) الكافر على ربه هينا ذليلا ، كما يقول الرجل لمن يستهين به : جعلني بظهر ، أي : جعلني هينا ، ويقال : ظهرت به : إذا جعلته خلف ظهرك ، كقوله : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا)(١٢) [هود : ٩٢].

__________________

(١) في ب : يتعلق.

(٢) في ب : إلا وأصهار.

(٣) انظر معجم العين (هصر) ٣ / ٤١١ ، (ختن) ٤ / ٢٣٨.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٨٦.

(٥) [النساء : ٢٣]. انظر البغوي ٦ / ١٨٦. واللسان (صهر).

(٦) في ب : والذكر. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠١.

(٨) انظر البغوي ٦ / ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٧٣.

(١٠) من قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً» [الأحزاب : ٥٧]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٢.

(١١) في ب : وكما أن. وهو تحريف.

(١٢) [هود : ٩٢]. وانظر القرطبي ١٣ / ٦١.


قال (١) أبو مسلم : وقياس العربية أن يقال : مظهورا ، أي : مستخف به متروك وراء الظهر ، فقيل فيه : ظهير بمعنى مظهور ، ومعناه : هين على الله أن يكفر الكافر ، وهو تعالى مستهين بكفره (٢).

والمراد بالكافر قيل : أبو جهل ، لأن الآية نزلت فيه. والأولى (٣) حمله على العموم لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ (٤). قيل : ويجوز أن يريد بالظهير (٥) الجماعة كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] كالصديق والخليط ، فعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس ، وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور الله قال تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ)(٦) [الأعراف : ٢٠٢].

قوله : (عَلى رَبِّهِ) يجوز أن يتعلق ب «ظهيرا» ، وهو الظاهر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه خبر «كان» و «ظهيرا» حال (٧) ، والظهير المعاون (٨).

قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي : منذرا ، ووجه (٩) تعلقه بما تقدم أن الكفار يطلبون العون على الله ورسوله والله تعالى بعث رسوله لنفعهم ، لأنه بعثه (١٠) ليبشرهم على الطاعة و (١١) ينذرهم على المعصية ، فيستحقوا الثواب ، ويحترزوا عن العقاب فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرع جهده في إصلاح مهماته دينا ودنيا ، ولا يسألهم على ذلك ألبتة (١٢) أجرا (١٣).

قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ) فيه وجهان :

أحدهما : هو منقطع ، أي : لكن من يشاء (أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فليفعل (١٤).

والثاني : أنه متصل على حذف مضاف ، يعني : إلا أجر من ، أي : الأجر الحاصل على دعائه إلى الإيمان وقبوله ، لأنه تعالى يأجرني (١٥) على ذلك. حكاه أبو حيان (١٦) وفيه نظر ، لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير.

فصل

المعنى : ما أسألكم على تبليغ الوحي من أجر ، فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه (١٧).

__________________

(١) في الأصل : قاله.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٢.

(٣) في الأصل : والأول. وهو تحريف.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٢.

(٥) في ب : بالظهر.

(٦) [الأعراف : ٢٠٢]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٢.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٨٨.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٠١.

(٩) في ب : ووجه تعلقها.

(١٠) في ب : بعثهم.

(١١) و : سقط من ب.

(١٢) في ب : البتة على ذلك.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٢.

(١٤) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٦٤ ـ ١٦٥ ، البيان ٢ / ٢٠٦.

(١٥) في ب : يؤجرني.

(١٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٨.

(١٧) انظر البغوي ٦ / ١٨٧.


وقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) استثناء منقطع معناه : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بإنفاق ماله في سبيله فعل ذلك (١).

والمعنى : لا أسألكم لنفسي أجرا ، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته (٢).

قوله (٣) : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) الآية (٤). لما تبين أن الكفار يتظاهرون على إيذائه ، وأمره أن لا يطلب منهم أجرا ، أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار ، وفي جلب جميع المنافع ، وإنما قال : (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) ، لأن من توكل على الحي الذي يموت (٥) فإذا مات المتوكّل عليه صار المتوكّل ضائعا ، وأما الله تعالى فهو حي لا يموت فلا يضيع المتوكّل عليه (٦).

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) قيل : المراد بالتسبيح الصلاة. وقيل : قل (٧) سبحان الله والحمد لله (٨). «وكفى به بذنوب عباده بصيرا» عالما ، وهذه كلها يراد بها المبالغة ، يقال كفى بالعلم جمالا ، وكفى بالأدب مالا وهو بمعنى حسبك ، أي لا يحتاج معه إلى غيره ، لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم وهذا وعيد شديد (٩).

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً)(٦٠)

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية. لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور منها : أنه حي لا يموت ، وأنه عالم بجميع المعلمات بقوله (١٠)(وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً)(١١) ومنها أنه قادر على كل الممكنات ، وهو قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهذا متصل بقوله : (الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)(١١) لأنه سبحانه لما كان خالقا للسموات والأرض ولكل ما بينهما ثبت أنه القادر على جميع المنافع ودفع المضار ، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه (١٢). و (الَّذِي خَلَقَ) يجوز أن يكون مبتدأ ، و «الرّحمن» خبره (١٣) ، وأن يكون خبر مبتدأ مقدر ، أي : هو الذي

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) انظر البغوي ٦ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٣) في ب : قوله تعالى.

(٤) الآية : سقط من الأصل.

(٥) في ب : لا يموت.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٣.

(٧) في ب : بل.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٣.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) في ب : فهو له. وهو تحريف.

(١١) من الآية السابقة.

(١١) من الآية السابقة.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٣.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١٠٢ ، البيان ٢ / ٢٠٧ ، التبيان ٢ / ٩٨٩ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٨.


خلق (١) ، وأن يكون منصوبا بفعل مضمر (٢) ، وأن يكون صفة للحي الذي لا يموت (٣) ، أو بدلا ، أو بيانا هذا على قراءة «الرحمن» بالرفع ومن قرأه بالجر (٤) فيتعين أن يكون (الَّذِي خَلَقَ) صفة للحي فقط (٥).

قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فيه (٦) سؤال ، وهو أن الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات فقيل السموات لا أيام (٧) ، فكيف قال : خلقها في ستة أيام؟

والجواب : في مدة مقدارها (هذه المدة) (٨) ، لا يقال : الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة (٩) لا يكون عدما محضا بل لا بد وأن يكون موجودا فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك (١٠) يقتضي قدم الزمان ، لأنا نقول : هذا معارض بنفس الزمان ، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل بخمسة أيام والمدة المتوهمة المحتملة لخمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى ، فلما لم يلزم من هذا قدم الزمان لم يلزم ما قلتموه ، وعلى هذا نقول (١١) لعل الله سبحانه خلق المدة أولا ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام. وقيل : في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة. وهو بعيد ، لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول (١٢). فإن قيل : لم قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟

فالجواب على قول أهل السنة المشيئة والقدرة كافية للتخصيص ، وقالت المعتزلة : لا بد وأن يكون من حكمة وهو أن التخصيص بهذا المقدار أصلح ، وهذا بعيد لوجهين :

الأول : أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجبا لذاته أو جائزا ، فإن كان واجبا وجب أن لا يتغير فيكون حاصلا في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سببا لزمان معين ، وإن كان جائزا افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ، ولزم التسلسل.

والثاني : أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعورا به كيف يقدح في حصول المصالح (١٣).

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٨٩ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٨.

(٢) تقديره : أعني. المرجعان السابقان.

(٣) فيكون في موضع جر. انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٨.

(٤) وهي قراءة زيد بن علي بن الحسين. انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٥٩ البحر المحيط ٦ / ٥٠٨.

(٥) لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي. انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٨.

(٦) فيه : سقط من ب.

(٧) في ب : لا أيام في.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في ب : فالتجزئة.

(١٠) في ب : والذي.

(١١) في ب : نقول.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(١٣) المرجع السابق ٢٤ / ١٠٤.


واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة ، فإنه بحر لا ساحل له ، كتقدير ملائكة النار بتسعة عشر ، وحملة العرش بثمانية ، والسموات بالسبع ، وعدد الصلوات ، ومقادير النصب في الزكوات ، وكذا الحدود ، والكفارات ، فالإقرار بكل ما قال الله حق هو الدين ، والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء ، وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [المدثر : ٣١] ثم قال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] ، وهو الجواب أيضا في أنه لم لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير : إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليما لخلقه الرفق والتثبت. وقيل : ثم خلقها في يوم الجمعة فجعله الله عيدا للمسلمين (١).

قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) لا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة ؛ لأن أوصاف الله لم تزل ، فلا يصح دخول «ثمّ» فيه. ولا على الاستقرار ، لأنه يقتضي التغيير الذي هو دليل الحدوث ، ويقتضي التركيب ، وكل ذلك على الله محال ، بل المراد أنه خلق العرش ورفعه (٢).

فإن قيل : يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)(٣) [هود : ٧].

فالجواب : كلمة «ثمّ» ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات (٤).

قوله : «الرّحمن» قرأ العامة بالرفع ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه خبر «الّذي» (٥) ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : الرحمن (٦) ، ولهذا أجاز الزجاج(٧) وغيره (٨) الوقف على العرش ثم يبدأ الرحمن ، أي : هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له ، أو يكون بدلا من الضمير في «استوى» (٩) أو يكون مبتدأ وخبره

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٤.

(٢) المرجع السابق.

(٣) من قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» [هود : ٧].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٥) تقدم قريبا.

(٦) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٧٣ ، إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٦٥ ، الكشاف ٣ / ١٠٢ ، البيان ٢ / ٢٠٧ ، التبيان ٢ / ٩٨٩ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٨.

(٧) انظر معاني القرآن وإعرابه للزّجاج.

(٨) وهو أبو البقاء. انظر التبيان ٢ / ٩٨٩.

(٩) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٧٣ ، إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٦٥ ، الكشاف ٣ / ١٠٢ ، البيان ٢ / ٢٠٧ ، التبيان ٢ / ٩٨٩.


الجملة من قوله «فاسأل» (١) على رأي الأخفش (٢) كقوله :

٣٨٧٩ ـ وقائلة خولان فانكح فتاتهم (٣)

أو يكون صفة الذي خلق (٤) ، إذا قلنا : إنه مرفوع.

وقرأ زيد بن علي «الرّحمن» بالجر فيتعين أن يكون نعتا للذي خلق و (الَّذِي خَلَقَ) صفة للحي فقط ، لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي (٥).

قوله : (فَسْئَلْ بِهِ) في الباء قولان : أحدهما : هي على بابها ، وهي متعلقة بالسؤال ، والمراد ب «الخبير» الله تعالى ، ويكون من التجريد (٦) ، كقولك : لقيت به أسدا والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء.

قال الزمخشري : أو فاسأل (٧) بسؤاله خبيرا كقولك : رأيت به أسدا ، أي برؤيته (٨) انتهى. قال الكلبي : فاسأل خبيرا (٩) به ، فقوله : «به» يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والاستواء على العرش ، والباء من صلة الخبير ، وذلك الخبير هو الله تعالى ؛ لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض ، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى (١٠) ، ف «خبيرا» مفعول «اسأل» (١١) على هذا ، أو منصوب على الحال المؤكدة (١٢) ، واستضعفه أبو البقاء. قال : ويضعف أن يكون «خبيرا» حالا من فاعل «اسأل» ؛ لأن «الخبير» لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١]. ثم قال : ويجوز أن يكون حالا من «الرّحمن» إذا رفعته ب «استوى» (١٣). والثاني: أن تكون الباء بمعنى «عن» (١٤) إما مطلقا وإما مع السؤال (١٥) خاصة كهذه الآية الكريمة ، وكقول علقمة بن عبدة :

__________________

(١) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٧٣ ، إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٦٥ ، البيان ٢ / ٢٠٧.

(٢) لأنه يجوز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقا. انظر معاني القرآن ١ / ٢٦٥.

(٣) صدر بيت من بحر الطويل ، وعجزه : وأكرومة الحيّين خلو كما هيا.

لم يعرف قائله وهو في معاني القرآن للأخفش ١ / ٢٤٧ ، الكتاب ١ / ١٦٥ ، ١٤٣ ، ٣ / ١٧٨ ، ابن يعيش ١ / ١٠٠ ، ٨ / ٩٥ ، اللسان (هلا) المغني ١ / ١٦٥ ، ٢ / ٤٨٣ ، المقاصد النحوية ٢ / ٥٣٩ ، التصريح ١ / ٢٩٩ ، الهمع ١ / ١١٠ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٦٨.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٨.

(٥) تقدم قريبا.

(٦) وهو من المحسنات البديعية ، وهو : أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة ، مبالغة في كمالها فيه. انظر الإيضاح (٣٧٤).

(٧) في ب : إذا سأل.

(٨) الكشاف ٣ / ١٠٢.

(٩) في ب : به خبيرا به.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٥ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

(١١) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٦٠ ، الكشاف ٣ / ١٠٢.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٦٠.

(١٣) التبيان ٢ / ٩٨٩.

(١٤) انظر البيان ٢ / ٢٠٧ ، التبيان ٢ / ٩٨٩.

(١٥) من معاني الباء المجاوزة ك «عن» فقيل : تختص بالسؤال ، نحو «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» بدليل «يَسْئَلُونَ عَنْ ـ


٣٨٨٠ ـ فإن تسألوني بالنّساء فإنّني(١)

خبير بأدواء النّساء طبيب (٢)

والضمير في «به» لله تعالى ، و «خبيرا» من صفات الملك وهو جبريل قال ابن عباس : إن ذلك الخبير هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم (٣) وهو قول الزجاج (٤) والأخفش (٥). ويجوز على هذا أي : كون «خبيرا» من صفات جبريل ، أن تكون الباء على بابها ، وهي متعلقة ب «خبير» كما تقدم ، أي : فاسأل الخبراء به.

وقال ابن جرير : الباء في «به» صلة ، والمعنى : فاسأله خبيرا و «خبيرا» (٦) نصب على الحال(٧). وقيل : قوله : «به» يجري مجرى القسم كقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ)(٨) [النساء : ١].

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) الآية. قال أكثر المفسرين : الرحمن اسم من أسماء الله مكتوب في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه (٩).

قال مقاتل : إن أبا جهل قال : إن الذي يقول محمد شعر ، فقال عليه‌السلام (١٠) : «الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن» ، فقال أبو جهل : بخ بخ (١١) لعمري (١٢) والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك ، فقال عليه‌السلام (١٣) : «الرحمن الذي في السماء ومن عنده يأتيني الوحي» ، فقال : يا أبا غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول : الله يعلمني والرحمن ، ألستم تعلمون أنهما إلهان (١٤). قال القاضي : والأقرب أن مرادهم إنكار الله لا الاسم ، لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام ، ثم إن قلنا : إنهم كانوا منكرين (لله كان قولهم) (١٥) : (وَمَا الرَّحْمنُ) سؤال عن الحقيقة كقول فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣] ، وإن قلنا : إنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم (وَمَا الرَّحْمنُ) سؤال عن هذا الاسم (١٦).

__________________

ـ أَنْبائِكُمْ» [الأحزاب : ٢٠] ، وقيل : لا تختص به بدليل قوله تعالى :«يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» [الحديد : ١٢]. انظر المغني ١ / ١٠٤ ، الهمع ٢ / ٢٢.

(١) في ب : فإني.

(٢) البيت من بحر الطويل قاله علقمة بن عبدة. وقد تقدم.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٥ ، البحر المحيط ٦ / ٥٠٩.

(٤) قال الزجاج : (والمعنى فاسأل عنه خبيرا) انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٧٣.

(٥) انظر البحر المحيط ١٩ / ١٩.

(٦) في ب : وخبير.

(٧) جامع البيان ١٩ / ١٩.

(٨) [النساء : ١]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٥.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٥.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) معنى (بخ بخ) : تعظيم الأمر وتفخيمه ، ويقال عند التعجب من الشيء وعند المدح والرضى بالشيء.

انظر اللسان (بخخ).

(١٢) في ب : لعمرك.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٥.

(١٥) ما بين القوسين في ب : الله كانوا قالوا.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٥.


قوله : (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) قرأ الأخوان بياء الغيبة (١) ، يعنون محمدا كأن بعضهم قال لبعض : أنسجد لما يأمرنا محمد أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو (٢). والباقون بالخطاب (٣) ، يعني لما تأمرنا أنت يا محمد.

و «ما» يجوز أن يكون بمعنى (الذي) (٤) ، والعائد محذوف لأنه متصل ؛ لأن (أمر) يتعدى إلى الثاني بإسقاط الحرف ، ولا حاجة إلى التدرج (٥) الذي ذكره أبو البقاء وهو أن الأصل : لما تأمرنا بالسجود له ، ثم بسجوده ، ثم تأمرناه ، ثم تأمرنا ، كذا قدره ، ثم قال : هذا على مذهب أبي الحسن وأما على مذهب سيبويه فحذف ذلك من غير تدريج (٦). قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب سيبويه (٧). ويجوز أن تكون موصوفة (٨) ، والكلام (٩) في عائدها موصوفة كهي موصولة ويجوز أن تكون مصدرية (١٠) ، وتكون اللام للعلة ، أي : أنسجد من أجل أمرك وعلى هذا يكون المسجود (١١) له محذوفا (١٢) ، أي : أنسجد للرحمن لما تأمرنا ، وعلى هذا لا تكون «ما» واقعة على العالم ، وفي الوجهين الأوليين يحتمل ذلك وهو المتبادر للفهم.

قوله : (وَزادَهُمْ نُفُوراً) قول القائل لهم اسجدوا للرحمن. نفورا عن الدين والإيمان. ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول ، قال الضحاك : سجد الرسول (١٣) وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة ، ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين من هذا ، وهو المراد من قوله (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي : فزادهم سجودهم نفورا (١٤).

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢)

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) الآية.

لما حكى مزيد نفور الكفار عن السجود ، وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن فقال (١٥) : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) تقدم القول في

__________________

(١) السبعة (٤٦٦) ، الكشف ٢ / ١٤٦ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٩).

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٦.

(٣) السبعة (٤٦٦) ، الكشف ٢ / ١٤٦ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٩).

(٤) انظر البيان ٢ / ٢٠٧ ، التبيان ٢ / ٩٨٩.

(٥) في ب : التدريج.

(٦) التبيان ٢ / ٩٨٩ ـ ٩٩٠.

(٧) الدر المصون ٥ / ١٤٣.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩٨٩.

(٩) في ب : بالكلام.

(١٠) انظر البيان ٢ / ٢٠٧ ، التبيان ٢ / ٩٩٠.

(١١) في ب : السجود. وهو تحريف.

(١٢) في ب : محذوف. وهو تحريف.

(١٣) في الأصل : رسول.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٦.

(١٥) في ب : فقال تعالى.


«تبارك» (١) ، قال الحسن ومجاهد وقتادة ورواية (٢) عن ابن عباس البروج هي النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها ، لأن اشتقاق البرج من التبرج وهو الظهور.

وقال عطية العوفي : البروج هي القصور العالية ، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، وهذا أولى لقوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها) أي : في البروج (٣) فإن قيل : لم لا (٤) يجوز أن يكون قوله «فيها» راجعا إلى السماء دون البروج؟

فالجواب : لأن البروج أقرب ، فعود (٥) الضمير إليها أولى (٦).

وروى عطاء عن ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر (٧).

قوله : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً). قرأ الجمهور (٨) بالإفراد ، والمراد به الشمس لقوله تعالى : (وَجَعَلَ (٩) الشَّمْسَ سِراجاً)(١٠) ، ويؤيده أيضا ذكر القمر بعده. والأخوان «سرجا» بضمتين جمعا(١١) نحو حمر في حمار ، وجمع باعتبار الكواكب النيرات (١٢) ، وإنما ذكر القمر تشريفا له كقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] بعد انتظامهما في الملائكة. وقرأ الأعمش والنخعي وعاصم في رواية عصمة (١٣) «وقمرا» بضمة وسكون (١٤) وهو جمع قمراء (١٥) كحمر في حمراء ، والمعنى : وذا ليال قمر منيرا ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ثم التفت إلى المضاف بعد حذفه فوصفه تمييزا ، ولو لم يعتبره لقال : منيرة ، ونظير مراعاته بعد حذفه قول حسان :

٣٨٨١ ـ يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل (١٦)

__________________

(١) في أول السورة.

(٢) في ب : ورواه.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٦.

(٤) في ب : لم.

(٥) في ب : فيعود. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٦.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٨٩.

(٨) غير حمزة والكسائي. انظر السبعة (٤٦٦).

(٩) في ب : وجعلنا. وهو تحريف.

(١٠) [نوح : ١٦].

(١١) السبعة (٤٦٦) ، الكشف ٢ / ١٤٦ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٣٠).

(١٢) في ب : النيران.

(١٣) عصمة : سقط من ب.

(١٤) انظر المختصر (١٠٥) ، البحر المحيط ٦ / ٥١١ ، الإتحاف (٣٣٠).

(١٥) القمراء : ضوء القمر ، وليلة مقمرة ، وليلة قمرة ومقمرة. اللسان (قمر).

(١٦) البيت من بحر الكامل ، قاله حسان بن ثابت ، وهو في ديوانه (٣٦٥) ، الكشاف ٣ / ١٠٣. ابن يعيش ٣ / ٢٥ ، ٦ / ١٣٣ ، اللسان (برص ، سلسل) ، البحر المحيط ٦ / ٥١١. الأشموني ٢ / ٢٧٢ ، الخزانة ٤ / ٣٨١ ، الدرر ٢ / ٦٤ ، البريص : اسم واد. بردى : نهر بدمشق ، وألفه للتأنيث. يصفق : يمزج. الرحيق : الخمر. السلسل من الماء : العذب أو البارد ، ومن الخمر اللينة. والشاهد فيه حذف المضاف وهو قوله : ماء. وإقامة المضاف إليه وهو قوله بردى مقامه ، ثم أعاد الكلام إلى المضاف المحذوف فقال : يصفق بالياء ، ولو لم يعتبر المضاف المحذوف لقال : تصفق بتاء التأنيث ، لأن (بردى) مؤنث.


الأصل : ماء بردى ، فحذفه (١) ثم راعاه في قوله : (يصفق) بالياء من تحت ولو لم يكن ذلك لقال : تصفق بالتاء من فوق على أن بيت حسان يحتمل أن يكون كقوله :

٣٨٨٢ ـ ولا أرض أبقل إبقالها (٢)

مع أن ابن كيسان (٣) يجيزه سعة (٤).

وقال بعضهم : لا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر كالرّشد والرّشد (٥).

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) الآية.

في «خلفة» وجهان : أحدهما : أنه مفعول ثان. والثاني : أنه حال (٦) بحسب القولين في «جعل». و «خلفة» يجوز أن تكون مصدرا من خلفه يخلفه إذا جاء مكانه ، وأن يكون اسم هيئة منه كالرّكبة ، وأن يكون من الاختلاف (٧).

كقوله :

٣٨٨٣ ـ ولها بالماطرون إذا

أكل النّمل الّذي جمعا

خلفة حتّى إذا ارتبعت

سكنت من جلّق بيعا

في بيوت وسط دسكرة

حولها الزّيتون قد ينعا (٨)

ومثله قول زهير :

٣٨٨٤ ـ بها العين والآرام يمشين خلفة (٩)

وأفرد «خلفة» قال أبو البقاء : لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر ، فلا يتحقق هذا إلا منهما(١٠).

قال ابن عباس : جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه ،

__________________

(١) في ب : فحذف.

(٢) عجز بيت من بحر المتقارب ، وصدره :

فلا مزنة ودقت ودقها

قاله عامر بن جوين ، وتقدم تخريجه.

(٣) تقدم.

(٤) يشير إلى ما نقل عن ابن كيسان من أنه يجيز ترك تاء التأنيث مع ضمير المؤنث المجازي في النثر ، قال السيوطي : (قال ابن كيسان : يقاس عليه لأن سيبويه حكى قال فلانة) الهمع ١ / ١٧١.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٠٣ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٦ ، البحر المحيط ٦ / ٥١١.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٩٠.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١١.

(٨) الأبيات من بحر المديد ، قالها أبو دهبل الجمحي أو يزيد بن معاوية ، وقد تقدم.

(٩) صدر بيت من بحر الطويل ، وعجزه :

وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم

قاله زهير ، وهو من معلقته. وقد تقدم.

(١٠) التبيان ٢ / ٩٩٠.


فمن فرط في عمل في أحدهما قضاه في الآخر ، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب (١) فقال فاتتني الصلاة الليلة فقال : أدرك ما فاتتك من ليلتك في نهارك فإن الله عزوجل جعل الليل والنهار خلفة. وقال مجاهد وقتادة والكسائي : يقال لكل شيئين اختلفا : هما خلفان ، فقوله : «خلفة» أي مختلفين ، هذا أسود ، وهذا أبيض ، وهذا طويل ، وهذا قصير. والأول أقرب (٢).

«لمن أراد أن يذّكّر» قراءة العامة (٣) بالتشديد ، وقرأ حمزة بالتخفيف (٤) ، وعن أبيّ بن كعب «يتذكر» (٥). والمعنى : لينظر الناظر في اختلافهما ، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال ، من ناقل ومغير فيتعظ (٦).

(أَوْ أَرادَ شُكُوراً) قال مجاهد : أي شكر نعمة ربه عليه (٧) فيها (٨). والشّكور بالضم مصدر شكر شكورا بمعنى الشّكر ، وبالفتح صيغة مبالغة (٩).

قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٦٧)

قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ) عبد الرحمن رفع بالابتداء ، وفي خبره وجهان :

أحدهما : الجملة الأخيرة في آخر السورة (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ)(١٠) ، وبه بدأ الزمخشري (١١) ، و (الَّذِينَ يَمْشُونَ) وما بعده صفات للمبتدأ.

والثاني : أن الخبر «يمشون» (١٢). والعامة على «عباد» ، [واليمانيّ بضم العين وتشديد الباء جمع عابد (١٣) ، والحسن «عبد» بضمتين (١٤).

__________________

(١) في ب : عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٦.

(٣) غير حمزة.

(٤) السبعة (٤٦٦) ، الكشف ٢ / ١٤٧ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٣٠).

(٥) الكشاف ٣ / ١٠٣ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٦٤.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ١٠٣ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٧.

(٧) عليه : سقط من الأصل.

(٨) انظر البغوي ٦ / ١٩١.

(٩) انظر اللسان (شكر).

(١٠) من الآية (٧٥).

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٣.

(١٢) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٧٤ ـ ٧٥ ، الكشاف ٣ / ١٠٣ ، البيان ٢ / ٢٠٨ ، التبيان ٢ / ٩٩٠ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٢.

(١٣) المختصر (١٠٥) ، البحر المحيط ٦ / ٥١٢.

(١٤) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٦٥ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٢.


والعامة «يمشون» بالتخفيف مبنيا للفاعل](١) ، واليماني والسلمي بالتشديد مبنيا للمفعول(٢).

فصل

هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل (٣) وإلا فالخلق كلهم عباد الله.

قوله : «هونا» إما نعت مصدر ، أي : مشيا هونا ، وإما حال أي : هيّنين ، والهون : اللين والرفق (٤) ، أي يمشون بالسكينة والوقار متواضعين ، ولا يضربون بأقدامهم أشرا وبطرا (٥) ولا يتبخترون خيلاء (٦). وقال الحسن : علماء حكماء (٧).

وقال محمد ابن الحنفية : أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون (٨) وإن سفه عليهم حلموا (٩)(وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) يعني السفهاء بما يكرهونه (قالُوا سَلاماً). قال مقاتل : قولا يسلمون فيه من الإثم (١٠). وقيل : المعنى : لا نجاهلكم. وقيل : المراد حلمهم في مقابلة الجهل (١١). وقال الأصم : (قالُوا سَلاماً) أي : سلام توديع لا محبة ، كقول إبراهيم ـ عليه‌السلام (١٢) ـ لأبيه : (سَلامٌ عَلَيْكَ)(١٣).

قال الكلبي وأبو العالية : نسختها آية القتال (١٤).

قوله : «سلاما» يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر أي : نسلم سلاما أو نسلم تسليما منكم لا نجاهلكم فأقيم السلام مقام التسليم (١٥) ، ويجوز أن ينتصب على المفعول به ، أي : قالوا هذا اللفظ ، قال الزمخشري : أي قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الأذى ، والمراد سلامتهم (١٦) من السفه ، كقوله :

٣٨٨٥ ـ ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (١٧)

ورجح سيبويه أن المراد بالسلام السلامة لا التسليم ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٢) المختصر (١٠٥) ، البحر المحيط ٦ / ٥١٢.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٠٣.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٠٣ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٢.

(٥) البطر : الطغيان عند النعمة وطول الغنى. اللسان (بطر).

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٧.

(٧) انظر البغوي ٦ / ١٩١.

(٨) في ب : لا يسهون.

(٩) انظر البغوي ٦ / ١٩١.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٨.

(١٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٣) من قوله تعالى : «قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» [مريم : ٤٧]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٨.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٨.

(١٥) انظر الكشاف ٣ / ١٠٣ ، البيان ٢ / ٢٠٨.

(١٦) في ب : سلامهم.

(١٧) الكشاف ٣ / ١٠٣. بتصرف. البيت من الوافر قاله عمرو بن كلثوم ، وقد تقدم وأورده شاهدا على أنهم أمروا بألا يقابلوا الإساءة بمثلها أو بأكبر منها بل بالحسنى.


بالتسليم على الكفرة ، وإنما أمروا بالمسالمة ، ثم نسخ ذلك ، ولم يذكر سيبويه نسخا إلا في هذه الآية (١).

قوله : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً). لما ذكر وصفهم بالنهار من وجهين :

أحدهما : ترك الإيذاء بقوله : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)(٢).

والثاني : تحمل الإيذاء بقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(٢) شرح صفتهم في الليل (٣). قال الزجاج : كل من أدركه الليل قيل : بات وإن لم ينم كما يقال : بات فلان قلقا (٤). والمعنى يبيتون لربهم سجدا على (٥) وجوههم ، وقياما على أقدامهم (٦) قال ابن عباس : من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجدا وقائما (٦). وروى عثمان بن عفان قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» (٧).

قوله : «سجّدا» خبر «يبيتون» ، ويضعف أن تكون تامة. أي : دخلوا في البيات ، و «سجّدا» حال و «لربّهم» متعلق ب «سجّدا». وقدم السجود على القيام وإن كان بعده في الفعل ، لاتفاق الفواصل (٨). و «سجّدا» جمع ساجد كضرّاب في ضارب.

وقرأ أبو البرهسيم «سجودا» (٩) بزنة قعود ، ويبيت هي اللغة الفاشية ، وأزد السّراة وبجيلة يقولون : يبات ، وهي لغة العوام اليوم (١٠).

قوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ). قال ابن عباس : يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول (١١).

قوله : «غراما» أي : لازما دائما ، وعن الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلّا غريم جهنم (١٢). وأنشد بشر بن أبي خازم (١٣) :

__________________

(١) قال سيبويه : (وزعم أبو الخطاب أن مثله قولك للرجل : سلاما ، تريد تسليما منك ، كما قلت : براءة منك ، تريد لا ألتبس بشيء من أمرك. وزعم أن أبا ربيعة كان يقول : إذا لقيت فلانا فقل له : سلاما. فزعم أنه سأله ففسره له بمعنى براءة منك. وزعم أن هذه الآية : «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» بمنزلة ذلك ، لأن الآية فيما زعم مكية ، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ، ولكنه على قولك : براءة منكم وتسليما لا خير بيننا وبينكم ولا شر) الكتاب ٢ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ، وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٨.

(٢) من الآية السابقة.

(٢) من الآية السابقة.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٨.

(٤) انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٧٥.

(٥) على : سقط من ب.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٩٢.

(٧) أخرجه أبو داود (صلاة) ١ / ٣٧٦ ، الترمذي (صلاة) ١ / ١٤٢. الدارمي (صلاة) ١ / ٢٧٨ ، أحمد ١ / ٦٨.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٣.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٣.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٣.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٨.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ١٩٣.

(١٣) هو بشر بن أبي خازم ، من بني أسد ، جاهلي قديم ، وشهد حرب أسد وطيىء ، وشهد هو وابنه نوفل ـ


٣٨٨٦ ـ ويوم(١)النّسار ويوم الجفا

ر (٢) كانا عذابا وكان غراما (٣)

وقول الأعشى :

٣٨٨٧ ـ إن يعاقب يكن غراما وإن يع

ط جزيلا فإنّه لا يبالي (٤)

ف (غراما) بمعنى شر لازم (٥) ، وقيل : خسرانا ملحّا لازما ، ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ، ويقال : فلان مغرم بالنساء ، إذا كان مولعا بهن ، وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال : هو الوجع (٦).

قوله : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً). يجوز أن تكون «ساءت» بمعنى أحزنت ، فتكون متصرفة ناصبة المفعول ، وهو هنا محذوف ، أي : أنها يعني جهنم أحزنت أصحابها و «مستقرّا» (٧) يجوز أن تكون تمييزا وأن تكون حالا (٨).

ويجوز أن تكون «ساءت» بمعنى بئست ، فتعطي حكمها ، ويكون المخصوص بالذم محذوفا ، وفي «ساءت» ضمير مبهم يفسره (٩) مستقر و «مستقرا» يتعين أن يكون تمييزا ، أي : ساءت هي ، فهي مخصوص وهو الرابط بين هذه الجملة وبين ما وقعت خبرا عنه ، وهو «إنّها» كذا قدّره أبو حيان (١٠) ، وقال أبو البقاء : «مستقرّا» تمييز ، و «ساءت» بمعنى بئس (١١). فإن قيل : يلزم من هذا إشكال ، وذلك أنه يلزم تأنيث فعل الفاعل المذكّر من غير مسوّغ لذلك ، فإنّ الفاعل في «ساءت» على هذا يكون ضميرا عائدا على ما بعده ، وهو (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) ، وهما مذكران ، فن أين جاء التأنيث؟

والجواب : أن المستقرّ عبارة عن جهنّم فلذلك جاز تأنيث فعله ، ومثله قوله :

__________________

ـ الحلف بينهما. الشعر والشعراء ١ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧ ، الخزانة ٤ / ٤٤١ ـ ٤٤٥.

(١) في النسختين : يوم. والتصويب من تفسير ابن عطية ١١ / ٦٩.

(٢) في ب : الخيار. وهو تحريف.

(٣) من بحر المتقارب قاله بشر بن أبي خازم من قصيدة يفخر فيها بقومه ، وهو في مجاز القرآن ٢ / ٨٠ ، الكشاف ٣ / ١٠٣ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٦٩ ، اللسان (جفر) بتقديم (يوم الجفار) على (يوم النسار) ، ونسبه في اللسان (غرم) إلى الطرماح ، البحر المحيط ٦ / ٥١٣ ، النسار : موضع ، قيل : هو ماء لبني عامر ، ومنه يوم النسار لبني أسد وذبيان على جشم بن معاوية. الجفار : موضع ، وقيل : هو ماء لبني تميم. والشاهد فيه قوله : (غراما) فإنه بمعنى اللزوم أي العذاب المستمر اللازم.

(٤) البيت من بحر الخفيف ، قاله الأعشى من قصيدة في مدح الأسود بن المنذر اللخمي. وهو في ديوانه (١٧١) ، مجاز القرآن ٢ / ٨٠ ، الكشاف ٣ / ١٠٤ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٦٩ ، القرطبي ١٣ / ٧٢ ، اللسان (غرم) ، البحر المحيط ٦ / ٥١٣. والشاهد فيه قوله (غراما) فإنه بمعنى لازم مستمر.

(٥) اللسان (غرم).

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٨. اللسان (غرم).

(٧) في ب : ومستقر.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤.

(٩) في ب : مفسره.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٣ ، وانظر الكشاف ٣ / ١٠٤.

(١١) التبيان ٢ / ٩٩١.


٣٨٨٨ ـ أو حرّة عيطل ثيجاء مجفرة

دعائم الزّور نعمت زورق البلد (١)

و (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) قيل : مترادفان (٢) ، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما. وقيل : بل هما مختلفا (٣) المعنى ، فالمستقرّ للعصاة ، فإنهم يخرجون ، والمقام للكفّار فإنهم مخلدون (٤). فإن قيل : إنهم سألوا الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين : إحداهما (٥) : أن عذابها كان غراما. والثانية : أنها ساءت مستقرا ومقاما فما الفرق بين الوجهين؟

فالجواب : قال المتكلمون : عقاب الكافر يجب أن يكون مضرّة خالصة عن شوائب النفع (دائمة ، فقوله : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) إشارة إلى كونه مضرّة خالصة عن شوائب النفع) (٦) وقوله : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) إشارة إلى كونه دائما ، فحصلت المغايرة (٧). وقرأت فرقة «مقاما» بفتح الميم ، أي : مكان قيام (٨).

وقراءة العامة (٩) هي المطابقة للمعنى ، أي : مكان إقامة (١٠) وثويّ.

وقوله : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا) يحتمل أن يكون من كلامهم ، فتكون منصوبة المحل بالقول ، وأن يكون من كلام الله تعالى (١١).

قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا).

قرأ الكوفيون (١٢) بفتح الياء وضم التاء من يقتروا ، وابن كثير وأبو عمرو بالفتح والكسر ، ونافع وابن عامر بالضم والكسر من أقتر (١٣) ، وعليه (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)(١٤) [البقرة : ٢٣٦] وأنكر أبو حاتم أقتر ، وقال : لا يناسب هنا ، فإن أقتر بمعنى افتقر ، ومنه (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)(١٤) [البقرة: ٢٣٦] وردّ عليه بأن الأصمعي وغيره حكوا أقتر بمعنى ضيّق (١٥). وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر

__________________

(١) البيت من بحر البسيط ، قاله ذو الرمة من قصيدة في مدح بلال بن أبي بردة وهو في الديوان ١ / ١٧٤ ، ابن يعيش ٧ / ١٣٦ ، المقرب ٧٢ ، الخزانة ٩ / ٤٢٠.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤.

(٣) في ب : مختلفان.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٣.

(٥) في ب : إحديهما.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٩.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٧٠ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٣.

(٩) بالضم. تفسير ابن عطية ١١ / ٩٦ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٣.

(١٠) المرجعان السابقان.

(١١) فتكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب. انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٣.

(١٢) وهم عاصم ، وحمزة ، والكسائي. السبعة (٤٦٦).

(١٣) السبعة (٤٦٦) ، الكشف ٢ / ١٤٧ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٣٠).

(١٤) والاستشهاد بالآية على استعمال الفعل أقتر ، فإنه جاء منه «المقتر» اسم فاعل منه. الكشف ٢ / ١٤٧.

(١٤) والاستشهاد بالآية على استعمال الفعل أقتر ، فإنه جاء منه «المقتر» اسم فاعل منه. الكشف ٢ / ١٤٧.

(١٥) انظر القرطبي ١٣ / ٧٤ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٤.


التاء (١) مشددة (٢) من قتّر بمعنى ضيّق ، وكلها لغات (٣) ، والقتر والإقتار والتّقتير (التضييق الذي هو نقيض) (٤) الإسراف ، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة (٥).

فصل

المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير ، كقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)(٦) [الإسراء : ٢٩]. وسأل ابن الورد (٧) بعض العلماء ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال : ما سترك عن الشمس ، وأكنّك من المطر. وقال له ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ فقال : ما سد الجوعة ، وقال له في اللباس : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد (٨).

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : الإسراف في النفقة في معصية الله تعالى ، والإقتار : منع حق الله تعالى (٩).

قال مجاهد : لو أنفق الرجل مثل (أبي) (١٠) قبيس ذهبا في طاعة الله لم يكن مسرفا (١١). وأنشدوا :

٣٨٨٩ ـ ذهاب المال في حمد وأجر

ذهاب لا يقال له ذهاب (١٢)

وقيل : السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع وإن كان من حلال ، لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء (١٣).

__________________

(١) في ب : الراء. وهو تحريف.

(٢) المختصر (١٠٥).

(٣) من قرأ بفتح الياء وكسر التاء أخذه من قتر يقتر مثل ضرب يضرب ، ومن ضم التاء أخذه من قتر يقتر مثل خرج يخرج ، ومن الياء وكسر التاء أخذه من أقتر يقتر. الحجة لابن خالويه (٢٦٦). وفي اللسان (قتر) : يقال : قتر وأقتر وقتر بمعنى واحد ، وقتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا ، أي ضيق عليهم في النفقة.

(٤) ما بين القوسين في ب : بمعنى التضيق يقبض. وهو تحريف.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٩.

(٦) [الإسراء : ٢٩]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٩.

(٧) لم أهتد إلى ترجمة له.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٩.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) أبي : تكملة من الفخر الرازي.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٩.

(١٢) البيت من بحر الوافر ، ولم أهتد إلى توثيق له فيما اطلعت عليه من مصادر.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٩.


قوله (١) : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) في اسم «كان» وجهان :

أشهرهما : أنه ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله «أنفقوا». أي : وكان إنفاقهم مستويا قصدا لا إسرافا ولا تقتيرا ، وفي خبرها وجهان :

أحدهما : هو «قواما» و (بَيْنَ ذلِكَ) إما معمول له ، وإما ل «كان» عند من يرى إعمالها في الظرف ، وإما المحذوف على أنه حال من «قواما» ، ويجوز أن يكون (بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، خبرين ل «كان» عند من يرى ذلك ، وهم الجمهور خلافا لابن درستويه (٢).

والثاني : أن الخبر «بين ذلك» و «قواما» حال مؤكدة (٣).

والثاني من الوجهين الأولين : أن يكون اسمها (بَيْنَ ذلِكَ) وبني لإضافته إلى غير متمكن ، و «قواما» خبرها قاله الفراء (٤). قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به (ولكنه من جهة المعنى) (٥) ليس بقوي ؛ لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة (٦).

قال شهاب الدين : وهو يشبه قولك : كان سيّد الجارية مالكها (٧). قال ثعلب : القوام ـ بالفتح ـ (العدل والاستقامة ، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر (٨).

وقال الزمخشري : القوام) (٩) العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص (١٠). وقرأ حسان بن عبد الرحمن (١١) «قواما» يكسر القاف (١٢) ، فقيل : هما بمعنى (١٣) ، وقيل : بالكسر اسم ما يقام به الشيء (١٤) وقيل : بمعنى سدادا وملاكا (١٥).

__________________

(١) قوله : سقط من ب.

(٢) وذلك أن ابن درستويه لا يجوز تعدد خبر (كان) ووجهه أن هذه الأفعال شبهت بما يتعدى إلى واحد فلا يزاد على ذلك. انظر الكشاف ٣ / ١٠٤ ، البيان ٢ / ٢٠٨ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٤ ، الهمع ١ / ١١٤.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤ ، التبيان ٢ / ٩٩١ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٤.

(٤) قال الفراء : (وإن شئت جعلت «بين» في معنى رفع ، كما تقول : كان دون هذا كافيا لك ، تريد : أقل من هذا كان كافيا لك ، وتجعل «وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ» كان الوسط من ذلك قواما) معاني القرآن ٢ / ٢٧٣.

(٥) ما بين القوسين في الكشاف : ولكن المعنى.

(٦) الكشاف ٣ / ١٠٤.

(٧) الدر المصون ٥ / ١٤٥.

(٨) لم أعثر على ما قاله ثعلب في مجالسه ، والفصيح ، وهو في الفخر الرازي ٢٤ / ١١٠.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤. بتصرف يسير.

(١١) لعله حسان بن ثابت أبو عبد الرحمن ، لأنه ليس في كتب تراجم القراء حسان بن عبد الرحمن راويا أو مرويا عنه.

(١٢) انظر المختصر (١٠٥) ، المحتسب ٢ / ١٢٥ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٧٣ ، القرطبي ١٣ / ٧٤ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٤.

(١٣) انظر القرطبي ١٣ / ٧٤ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٤.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤.

(١٥) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٧٣.


قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(٧١)

قوله (١) : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) الآية. قال ابن عباس : إن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا (٢) : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت هذه الآية (٣) ، ونزل (يا عِبادِيَ)(٤)(الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] وروي أن رجلا قال : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال : «أن تدعو لله ندا وهو خلقك» قال : ثم أي؟ قال : «ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال : ثم أي؟ قال : «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها هذه الآية (٥).

فإن قيل : إن الله تعالى ذكر أن من صفات عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل والزنا ، فلو كان الترتيب (٦) بالعكس كان أولى؟ فالجواب : أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمكنا بالشرك تدينا ، ويقتل المولود تدينا ، ويزني تدينا ، فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يتجنب هذه الكبائر. وأجاب الحسن فقال : المقصود من ذلك التنبيه (٧) على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال : وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلها آخر ، وأنتم تدعون، (وَلا يَقْتُلُونَ) وأنتم تقتلون الموءودة ، (وَلا يَزْنُونَ) وأنتم تزنون (٨).

قوله : (إِلَّا بِالْحَقِّ) يجوز أن تتعلق الباء بنفس «يقتلون» أي : لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، وأن تتعلق بمحذوف على أنها صفة للمصدر ، أي : قتلا ملتبسا بالحق (٩) ، أو على أنها حال أي : إلّا ملتبسين بالحق (١٠).

__________________

(١) في ب : قوله تعالى.

(٢) في ب : فقال.

(٣) انظر أسباب النزول للواحدي (٢٤٩) والقرطبي ١٣ / ٧٦.

(٤) في ب : يا عباد.

(٥) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦٩. أبو داود (طلاق) ٢ / ٧٣٢ ـ ٧٣٣ ، الترمذي (تفسير) ٥ / ١٧ ، ١٨ ، النسائي (تحريم) ٧ / ٨٩ ـ ٩٠ ، أحمد ١ / ٣٨٠ ، ٤٣١ ، ٤٣٤. وانظر أسباب النزول للواحدي (٢٤٩ ـ ٢٥٠). القرطبي ١٣ / ٧٥.

(٦) في ب : بالترتيب.

(٧) في ب : النسبة.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٠ ـ ١١١.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٩١.


فإن قيل : من حلّ قتله لا يدخل في النفس المحرمة ، فكيف يصحّ هذا الاستثناء فالجواب : أن المقتضي لحرمة القتل قائم أبدا ، وجواز القتل إنما ثبت بمعارض ، فقوله : (حَرَّمَ اللهُ) إشارة إلى المقتضي ، وقوله : «إلّا بالحقّ» إشارة إلى المعارض (١) والسبب المبيح للقتل هو الردة ، والزنا بعد الإحصان ، وقتل النفس المحرمة (٢).

قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) هذه إشارة إلى جميع ما تقدم ، لأنه بمعنى ما ذكر (فلذلك وحّد(٣)) (٤).

قوله : «يلق» (٥). قراءة العامة مجزوما على جزاء الشرط بحذف الألف ، وقرأ عبد الله وأبو رجاء «يلقى» بإثباتها (٦) كقوله : (فَلا تَنْسى)(٧) على أحد القولين (٨) ، وكقراءة لا تخف دركا ولا تخشى (٩) [طه : ٧٧] في أحد القولين (١٠) أيضا ، وذلك بأن نقدر علامة الجزم حذف الضمة المقدرة(١١). وقرأ بعضهم «يلقّ» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف (١٢) من لقاه كذا. والأثام مفعول على قراءة الجمهور ، ومفعول ثان على قراءة هؤلاء والأثام العقوبة ، قال :

٣٨٩٠ ـ جزى الله ابن عروة حيث أمسى

عقوقا والعقوق له أثام (١٣)

أي عقوبة.

وقيل : هو الإثم نفسه ، أي : يلق جزاء إثم (١٤). قال أبو مسلم : والأثام والإثم واحد ، والمراد هاهنا جزاء الأثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه (١٥).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١١.

(٢) المرجع السابق.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(٤) ما بين القوسين في ب : فكذلك وجد. وهو تحريف.

(٥) في ب : «يَلْقَ أَثاماً».

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(٧) من قوله تعالى : «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» [الأعلى : ٦].

(٨) القول الثاني : أن الألف حذفت للجزم ، والألف الثابتة ناشئة عن إشباع الفتحة.

(٩) [طه : ٧٧]. و «لا تخف» جزما والتاء مفتوحة قراءة حمزة وحده ، وقرأ الباقون «لا تخاف» رفعا بالألف. السبعة (٤٢١).

(١٠) أي على قراءة حمزة «لا تخف» بالجزم فقوله : «وَلا تَخْشى» قيل نشأت الألف لإشباع الفتحة ليتوافق رؤوس الآي ، وقيل : الألف في تقدير الجزم ، شبهت بالحروف الصحاح. انظر التبيان ٢ / ٨٩٩.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(١٢) وهي قراءة ابن مسعود وأبي رجاء ، كذا نسبها ابن خالويه في المختصر (١٠٥).

(١٣) البيت من بحر الوافر ، نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن ٢ / ٨١ إلى بلعاء بن قيس الكناني ، ونسبه ابن منظور في اللسان (أثم) إلى شافع الليثي. وهو في الكشاف ٣ / ١٠٤ ، وتفسير ابن عطية ١١ / ٧٤ ، القرطبي ١٣ / ٧٦ البحر المحيط ٦ / ٥١٥ العقوق بالضم : منع بر الوالدين وقطع صلتهما. والشاهد فيه أن قوله : (أثام) بمعنى : جزاء وعقاب.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١١.


وقال الحسن : الأثام اسم من أسماء جهنم (١) ، وقال مجاهد : اسم واد في جهنم (٢) وقيل : بئر فيها (٣). وقرأ ابن مسعود : «أيّاما» (٤) جمع يوم ، يعني شدائد ، والعرب تعبر عن ذلك بالأيّام ، يقال: يوم ذو أيام لليوم الصعب (٥).

قوله : «يضاعف» قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «يضاعف» و «يخلد» (٦) على أحد وجهين : إمّا الحال ، وإمّا على الاستئناف (٧). والباقون بالجزم فيهما (٨) بدلا من «يلق» (٩) بدل اشتمال ، ومثله قوله :

٣٨٩١ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (١٠)

فأبدل من الشرط كما أبدل هنا من الجزاء. وابن كثير وابن عامر على ما تقدم لهما في البقرة (١١) من القصر والتضعيف في العين (١٢). ولم يذكر أبو حيان ابن عامر مع ابن كثير وذكره مع الجماعة في قرّائهم (١٣). وقرأ أبو جعفر وشيبة «نضعّف» بالنون مضمومة وتشديد العين ، «العذاب» نصبا على المفعول به (١٤). وطلحة (١٥) «يضاعف» مبنيا للفاعل ، أي : الله «العذاب» نصبا (١٦) ، وطلحةبن سليمان «وتخلد» بتاء الخطاب على الالتفات (١٧) ، وأبو حيوة «ويخلّد» مشدّدا مبنيا للمفعول (١٨). وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنه بالتخفيف (١٩).

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) المرجع السابق.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(٤) انظر المختصر وهامشه (١٠٥) ، الكشاف ٣ / ١٠٤ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(٦) السبعة (٤٦٧) ، الكشف ٢ / ٣٣٤ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٣٠).

(٧) انظر الكشاف ٣ / ١٠٥ ، البيان ٢ / ٢٠٩ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(٨) السبعة (٤٦٧) ، الكشف ٢ / ٢٠٩ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٣٠).

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٠٤ ، البيان ٢ / ٢٠٩ ، التبيان ٢ / ٩٩١ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(١٠) البيت من بحر الطويل ، قاله عبيد الله بن الحر ، من قصيدة قالها وهو في سجن مصعب بن الزبير.

وقد تقدم.

(١١) يشير إلى قوله تعالى : «وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» من الآية (٢٦١) أي : أنهما يقرآن هنا كما في البقرة «يضعف» بالألف مع تشديد العين.

(١٢) السبعة (٤٦٧) الكشف ٢ / ١٤٧ ، النشر ٢ / ٣٣٤ ، الإتحاف ٣٣٠.

(١٣) أي أن أبا حيان لم ينص على أن ابن عامر ممن قرأ بالرفع وتضعيف العين. البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(١٤) في المحتسب : (ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان : «نضعف له» بالنون «العذاب» نصب) ٢ / ١٢٥ ، وانظر البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(١٥) طلحة بن مصرف كما في البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(١٦) المرجع السابق.

(١٧) انظر المحتسب ٢ / ١٢٥ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٦٤ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

قال أبو حيان : (وقرأ طلحة بن سليمان «وتخلد» بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعا ، أي : وتخلد أيها الكافر».

(١٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(١٩) قال ابن مجاهد : (وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو «ويخلد» بضم الياء وفتح اللام وجزم الدال ـ


و «مهانا» حال (١) ، وهو اسم مفعول من أهانه يهينه ، أي : أذلّه وأذاقه الهوان.

فصل

قال القاضي : بيّن الله تعالى (أن) (٢) المضاعفة والزيادة يكون حالها في الزيادة كحال الأصل ، فقوله : (وَيَخْلُدْ فِيهِ) أي : ويخلد في ذلك التضعيف ، وذلك إنما حصل بسبب العقاب على المعاصي ، فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائما ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك ؛ لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع غيره ، أو منفردا.

والجواب : لم لا يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع غيره أثر في مزيد القبح ، ألا ترى أن الشيئين قد يكون كل واحد منهما في نفسه حسنا وإن كان الجميع قبيحا ، وقد يكون كل واحد منهما قبيحا ، ويكون الجمع بينهما أقبح (٣). وسبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك فيعذب على الشرك وعلى المعاصي ، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه ، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام (٤).

قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ) فيه وجهان :

أحدهما : وهو الذي لم يعرف الناس غيره : أنه استثناء متصل ؛ لأنه من الجنس (٥).

والثاني : أنه منقطع. قال أبو حيان : ولا يظهر ، يعني الاتصال ؛ لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب (فيصير التقدير : إلّا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فلا يضاعف له العذاب) (٦) ، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعّف ، فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعا ، أي : لكن من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدّل الله سيّآتهم حسنات وإذا كان كذلك فلا يلقى عذابا ألبتة (٧).

قال شهاب الدين : والظاهر قول الجمهور ، وأمّا ما قاله فلا يلزم إذ المقصود الإخبار بأنّ من فعل كذا فإنه يحلّ به ما ذكر إلا أن يتوب ، وأمّا إصابة أصل العذاب وعدمها فلا تعرّض في الآية له (٨). واعلم أن البحث الذي ذكره أبو حيان ذكره أيضا ابن الخطيب فقال : دلت الآية على أن التوبة مقبولة ، والاستثناء لا يدل على ذلك ، لأنه أثبت أنه (٩) يضاعف له العذاب ضعفين ، فيكفي لصحة الاستثناء أن لا يضاعف للتائب ضعفين ،

__________________

ـ وهو غلط) السبعة (٤٦٧). قال أبو علي : (وهي غلط من جهة الرواية) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٧٥ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٩١.

(٢) أن : تكملة من الفخر الرازي.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١١ ـ ١١٢.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١١.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٩١.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) البحر المحيط ٦ / ٥١٥.

(٨) الدر المصون ٥ / ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٩) أنه : سقط من ب.


وإنما يدلّ عليه قوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ)(١).

فصل

نقل عن ابن عباس أنه قال : توبة القاتل لا تقبل ، وزعم أن هذه الآية منسوخة (بقوله تعالى)(٢): (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] ، وقالوا : نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة ، وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين ، وتقدم في سورة النساء (٣).

فإن قيل : العمل الصالح يدخل في التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح حشو؟ فالجواب : أفردهما بالذكر لعلوّ شأنهما ولما كان لا بدّ معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما العمل الصالح(٤).

قوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ).

قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والسدي ومجاهد وقتادة : التبديل إنما يكون في الدنيا ، فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدلهم بالشرك إيمانا ، وبقتل (٥) المؤمنين قتل (٦) المشركين ، وبالزنا إحصانا وعفة (٧). وقيل : يبدل الله سيئاتهم (٨) التي عملوها في الإسلام حسنات (٩).

قال الزجاج : السيئة بعينها لا تصير حسنة ، فالتأويل : أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السّيّئات (١٠).

قوله : «سيّئاتهم» هو المفعول الثاني للتبديل ، وهو المقيد بحرف الجر ، وإنما حذف ، لفهم المعنى ، و «حسنات» هو الأول المسرح (١١) ، وهو المأخوذ ، والمجرور بالباء هو المتروك (١٢) ، وقد صرح بهذا في قوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ)(١٣) [سبأ : ١٦] وقال :

٣٨٩٢ ـ تضحك منّي أخت (١٤) ذات النّحيين

أبدلك الله بلون لونين

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٤ / ١١٢.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٢.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : بقل. وهو تحريف.

(٦) في ب : قبل. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٢.

(٨) سيئاتهم : سقط من ب.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٢.

(١٠) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٧٠٦.

(١١) في ب : المفتوح. وهو تحريف.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٥ ـ ٥١٦.

(١٣) [سبأ : ١٦]. واستشهد بها على أن الباء تدخل على المفعول الثاني وهو المتروك.

(١٤) في ب : نلت. وهو تحريف.


سواد وجه وبياض عينين (١)

وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله (٢) : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ)(٣).

قوله : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً) الآية. قال بعض العلماء : هذا في التوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ، أي : تاب من الشرك وأدى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ) يعود إليه بعد الموت «متابا» حسنا يفضل (٤) على غيره ممن قتل وزنا. فالتوبة الأولى وهي قوله : (وَمَنْ تابَ) رجوع عن الشرك ، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة (٥).

وقيل : هذه التوبة أيضا عن جميع السيئات ، ومعناه من أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله ، فقوله : (يَتُوبُ إِلَى اللهِ) خبر بمعنى الأمر ، أي : ليتب إلى الله (٦) ، وقيل : معناه وليعلم أن توبته ومصيره إلى الله (٧).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)(٧٣)

قوله (٨) : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) في «الزّور» وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ، أي : لا يحضرون الزّور ، وفسر بالصّنم واللهو. وقال أكثر المفسرين : يعني : الشرك (٩).

والثاني : أنه مصدر ، والمراد شهادة الزّور ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قاله علي بن أبي طالب (١٠).

وقال ابن (١١) جريج : الكذب. وقال مجاهد : أعياد المشركين. وقيل : النوح. وقال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم (١٢). وكل هذه الوجوه محتملة.

وأصل «الزّور» : تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته ، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق.

قوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي : بأهله. قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم

__________________

(١) من الرجز لم أهتد إلى قائله ، وقد تقدم.

(٢) في ب : قوله تعالى.

(٣) من قوله تعالى : «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» [البقرة : ٢١١].

(٤) في ب : بفضل.

(٥) انظر البغوي ٦ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٦) انظر البغوي ٦ / ٢٠٠.

(٧) المرجع السابق.

(٨) في ب : قوله تعالى.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢٠٠.

(١٠) المرجع السابق وانظر الوجهين أيضا في البحر المحيط ٦ / ٥١٦.

(١١) أين : سقط من ب.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٢٠٠.


والأذى أعرضوا وصفحوا كقوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)(١) [القصص : ٥٥].

وقال الحسن والكلبي : اللغو : المعاصي كلها (٢) مما يجب أن يلغى ويترك.

(مَرُّوا كِراماً) مسرعين معرضين ، يقال : تكرّم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه (٣).

قوله : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) النفي متسلط على القيد، وهو الصمم والعمى ، أي : إنّهم يخرّون عليها لكن لا على هاتين الصفتين (٤).

قال الزمخشري : فقوله : (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) ليس بنفي للخرور (٥) ، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى ، كما تقول : لا يلقاني زيد مسلما. هو نفي للسلام لا للقاء ، والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبّوا عليها حرصا على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم (٦) عليها سامعون بآذان واعية ويبصرون بعيون واعية ، لا كالذين يذكرون بها فتراهم (٧) مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد على استماعها ، وهم كالصّمّ والعميان حيث لا يفهمونها ، ولا يبصرون ما فيها (٨) ، وفيه تعريض بالمنافقين.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)(٧٤)

قوله (٩) : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا).

يجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية ، أي : هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح (١٠) ، وأن تكون للبيان ، قاله الزمخشري وجعله من التّجريد ، أي : هب لنا (١١) قرّة أعين من أزواجنا كقولك رأيت منك أسدا (١٢).

وقرأ أبو عمرو والأخوان (١٣) وأبو بكر «ذرّيّتنا» بالتوحيد ، والباقون بالجمع سلامة (١٤) وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود «قرّات» بالجمع (١٥) ، وقال

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٢٠١.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٢٠١.

(٣) في النسختين : عنها. وانظر البغوي ٦ / ٢٠١ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١١٤.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٦.

(٥) في ب : للمجرور. وهو تحريف.

(٦) في ب : أكنانهم. وهو تحريف.

(٧) في ب : افتراهم.

(٨) الكشاف ٣ / ١٠٥.

(٩) في ب : قوله تعالى.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١٠٥.

(١١) لنا : سقط من ب.

(١٢) أي : أنت أسد. الكشاف ٣ / ١٠٥.

(١٣) حمزة والكسائي.

(١٤) السبعة (٤٦٧) ، الكشف ٢ / ١٤٨ ، النشر ٢ / ٣٣٥ ، الإتحاف (٣٣٠).

(١٥) المختصر (١٠٥) ، البحر المحيط ٦ / ٥١٧.


الزمخشري : أتى هنا ب «أعين» صيغة القلة دون (عيون) صيغة الكثرة ، إيذانا بأنّ عيون المتقين قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم (١). وردّه أبو حيان بأن أعينا يطلق على العشرة فما دونها ، وعيون المتقين كثيرة فوق العشرة (٢). وهذا تحمّل عليه ، لأنّه إنما أراد القلة بالنسبة إلى كثرة غيرهم ، ولم يرد قدرا مخصوصا.

فصل

أراد قرة أعين لهم في الدين لا في الدنيا من المال والجمال ، قال الزجاج : يقال : أقرّ الله عينك ، أي : صادف فؤادك ما يحبه (٣) وقال المفضل : في قرة العين ثلاثة أقوال :

أحدها : برد دمعتها ، وهي التي تكون مع السرور ، ودمعة الحزن حارة.

الثاني : فرحها ، لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع.

الثالث : قال الأزهري (٤) : حصول الرضا (٥).

قوله : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في «إماما» وجهان :

أحدهما : أنه مفرد ، وجاء به مفردا إرادة للجنس (٦) ، وجنسه كونه رأس فاصلة (٧).

(أو المراد : اجعل كل واحد منا إماما (٨). كما قال (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً)) (٩) [الحج : ٥].

قال الفراء : قال «إماما» ولم يقل : أئمة. كما قال للاثنين (١٠)(إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١١) [الشعراء : ١٦]. وقيل : أراد أئمة كقوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء : ٧٧] ، وإمّا لاتحادهم و (١٢) اتفاق كلمتهم (١٣) ، وإمّا لأنّه مصدر في الأصل كصيام وقيام (١٤).

الثاني : أنه جمع (١٥) آمّ كحالّ وحلال ، أو جمع إمامة كقلادة وقلاد (١٦).

قال القفال : وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل : اجعلنا

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٦.

(٢) البحر المحيط ٦ / ٥١٧.

(٣) لم أعثر على ما قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه. وهو في الفخر الرازي ٢٤ / ١١٥.

(٤) بالمعنى. التهذيب (قر) ٨ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٥.

(٦) انظر البيان ٢ / ٢١٠.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٧.

(٨) المرجع السابق.

(٩) ما بين القوسين ساقط من ب.

(١٠) في ب : للراسين. وهو تحريف.

(١١) معاني القرآن ٢ / ٢٧٤. بتصرف يسير.

(١٢) في ب : في.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٧.

(١٤) انظر القرطبي ١٣ / ٨٣ والتبيان ٢ / ٩٩٢.

(١٥) انظر معاني القرآن للأخفش ٢ / ٦٤٣ ، ونقل القرطبي هذا الوجه عن الأخفش قال : (قال الأخفش : الإمام جمع آم من أمّ يؤم جمع على فعال نحو صاحب وصحاب ، وقائم وقيام) القرطبي ١٣ / ٨٣.

(١٦) انظر البيان ٢ / ٢١٠ ، التبيان ٢ / ٩٩٢.


حجة للمتقين ، ومثله البينة يقال : هؤلاء بينة فلان.

فصل

قال الحسن (١) : نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون (٢). وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداة كما قال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) [الأنبياء : ٧٣] ولا تجعلنا أئمة ضلالة ، كقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)(٣) [القصص : ٤١]. وقيل هذا من المقلوب ، أي : واجعل المتقين لنا إماما واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم قاله مجاهد (٤).

فصل

قيل : نزلت الآية (٥) في العشرة المبشرين بالجنة (٦).

قال بعضهم : هذه الآية تدل على وجوب طلب الرياسة في الدين والرغبة فيها ، قال إبراهيم ـ عليه‌السلام (٧) ـ (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(٨) [الشعراء : ٨٤] واحتج أهل السنة بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، لأن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل ، والعلم والعمل إنما يكون بجعل الله وخلقه.

قال القاضي : المراد من هذا السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون أئمة.

والجواب : أن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثا (٩).

واعلم أنه تعالى لما بيّن صفات المتقين المخلصين بيّن بعده إحسانه إليهم.

قوله تعالى : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)

قوله : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أي : يثابون الغرفة ، وهي الدرجة العالية. و «الغرفة» مفعول ثان ل «يجزون» ، والغرفة كلّ بناء مرتفع ، والجمع غرف (١٠).

قوله : (بِما صَبَرُوا) أي بصبرهم (١١) ، أي : بسببه أو بسبب الذي صبروه ، والأصل :

__________________

(١) الحسن : سقط من ب.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) [القصص : ٤١]. وانظر البغوي ٦ / ٢٠٣.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٢٠٣.

(٥) في الفخر الرازي : الآيات.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٥.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) [الشعراء : ٨٤]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٥.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٥.

(١٠) وفي اللسان (غرف) : الغرفة : العلية ، والجمع غرفات ، وغرفات ، وغرفات ، وغرف.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٦.


صبروا عليه ، ثم حذف بالتدريج. والباء للسببية كما تقدم ، وقيل : للبدل (١) ، كقوله :

٣٨٩٣ ـ فليت لي بهم قوما ... (٢)

ولا حاجة إلى ذلك. وذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه ، ليعمّ جميع أنواع المشاقّ ، ولا وجه لقول من يقول : المراد الصبر على الفقر خاصة (٣).

قوله : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها) قرأ الأخوان (٤) وأبو بكر (٥) بفتح الياء وسكون اللام من لقي يلقى ، والباقون بضمها ، وفتح اللام وتشديد القاف على بنائه للمفعول (٦) ، كقوله : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١]. والتحيّة الدعاء بالتعمير ، أي : بقاء دائما ، وقيل : الملك. والسلام الدعاء بالسلامة ، أو يسلم بعضهم على بعض. وهذه التحيّة والسلام يمكن أن يكون من الله كقوله (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤]. ويمكن أن يكون بعضهم على بعض(٧).

قوله : (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً). وصف ذلك بالدوام بقوله : (خالِدِينَ فِيها) ، وقوله : (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي : موضع قرار وإقامة ، وهذا في مقابلة قوله : (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الشعراء : ٦٦] أي : ما أسوأ ذاك وأحسن هذا (٨).

قوله : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي). قال مجاهد وابن زيد : أي : ما يصنع وما يفعل بكم (٩). قال أبو عبيدة : يقال : ما عبأت به شيئا (١٠) ، أي : لم أباله ، فوجوده وعدمه سواء (١١). وقال الزجاج: معناه لا وزن لكم عندي والعبء في اللغة الثقل (١٢). وقال أبو عمرو بن العلاء : ما يبالي ربكم(١٣) ، ويقال : ما عبأت بك ، أي : ما اهتممت ولا اكترثت ، ويقال : عبأت الجيش وعبأته ، أي: هيأته وأعددته (١٤). قوله : (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٧.

(٢) جزء بيت من بحر البسيط ، وتمامه :

 ... إذا ركبوا

شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا

وقد تقدم.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٥.

(٤) حمزة والكسائي.

(٥) عن عاصم.

(٦) عدّ ابن مجاهد (ابن عامر) فيمن قرأ «يُلَقَّوْنَ» بفتح الياء وسكون اللام. السبعة (٤٦٨) ، وانظر الكشف ٢ / ١٤٨ ، النشر ٢ / ٣٣٥ الإتحاف (٣٣٠).

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٦.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٦.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢٠٣.

(١٠) مجاز القرآن ٢ / ٨٢.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢٠٣.

(١٢) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٧٨.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٦.

(١٤) انظر اللسان (عبأ).


جوابها محذوف لدلالة ما تقدم ، أي : لو لا دعاؤكم ما أعبأ بكم ولا أكترث ، و «ما» يجوز أن تكون نافية (١) ، وهو الظاهر ، وقيل : استفهام ، بمعنى النفي (٢) ، ولا حاجة إلى التجوز في شيء يصح أن يكون حقيقة بنفسه. و «دعاؤكم» يجوز أن يكون مضافا للفاعل ، أي : لو لا تضرّعكم إليه ، ويجوز أن يكون مضافا للمفعول ، أي : لو لا دعاؤكم إيّاه إلى الهدى (٣).

فصل

ومعنى هذا الدعاء وجوه :

الأول : لو لا دعاؤكم إياه في الشدائد كما قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥].

الثاني : لو لا شكركم له على إحسانه ، لقوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) [النساء : ١٤٧].

الثالث : لو لا عبادتكم.

الرابع : لو لا إيمانكم (٤).

وقيل المعنى : ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم (٥). وقيل : المعنى : قل ما يعبأ بخلقكم (٦) ربي لو لا عبادتكم وطاعتكم إياه ، يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]. قاله ابن عباس ومجاهد (٧). وقيل : معناه ما يبالي بمغفرتكم ربي لو لا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما يفعل الله بعذابكم لو لا شرككم كما قال : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء : ١٤٧].

قوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أيها الكافرون يخاطب أهل مكة ، يعني أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه. وقرىء (٨) «فقد كذب الكافرون» (٩) قوله : (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي : فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم ، وهذا عقاب الآخرة ،

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٦ ، البحر المحيط ٦ / ٥١٧.

(٢) قال الفراء :(«ما» استفهام أي : ما يصنع بكم «لَوْ لا دُعاؤُكُمْ» لو لا دعاؤه إياكم إلى الإسلام) معاني القرآن ٢ / ٢٧٥. وانظر المرجعين السابقين.

(٣) قال القرطبي : (وليس يبعد أن تكون نافية ، لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام ، كما قال الله تعالى : «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» القرطبي ١٣ / ٨٤.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٧.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٧.

(٦) المرجع السابق.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢٠٤.

(٨) وهي قراءة : عبد الله وابن عباس وابن الزبير. انظر المختصر (١٠٥) ، البحر المحيط ٦ / ١٨ ، وقال أبو حيان : (وهو محمول على أنه تفسير ، لا قرآن).

(٩) انظر الكشاف ٤٣ / ١٠٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١١٧.


ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي (١) أن أحسن إلى من يطيعني (٢) فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك (٣).

قوله : «لزاما» قرىء بالفتح (٤) يعني اللزوم (٥) كالثبات والثبوت (٦).

قال ابن عباس : موتا (٧). وقال أبو عبيدة : هلاكا (٨). وقال ابن زيد : قتالا والمعنى : يكون التكذيب لازما لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله. وقال ابن جريج : عذابا دائما لازما وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض. قال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومجاهد ومقاتل : هو يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم (٩). وقال عبد الله بن مسعود : خمس قد مضين الدخان والقمر واليوم والبطشة واللزام : (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً). روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الفرقان بعثه الله يوم القيامة وهو يؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، ودخل الجنة بغير حساب» (١٠).

تمّ الجزء الرّابع عشر ، ويليه الجزء الخامس عشر

وأوّله : تفسير سورة الشعراء

__________________

(١) في النسختين : عبادتي. والتصويب من الفخر الرازي.

(٢) في النسختين : يعصيني. والتصويب من الفخر الرازي.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٧.

(٤) وهي قراءة المنهال وأبان بن تغلب وأبي السمال. انظر البحر المحيط ٦ / ٥١٨.

(٥) وهو مصدر لزم ، ففي اللسان (لزم) : لزم الشيء يلزمه لزما ولزوما ولازمه ملازمة ولزاما.

(٦) في اللسان (ثبت) : ثبت الشيء يثبت ثباتا وثبوتا.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢٠٤.

(٨) مجاز القرآن ٢ / ٨٢.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢٠٤.

(١٠) رواه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبيّ ، انظر : الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٢٢.


فهرس المحتويات

سورة الحج

الآيتان : ١ ، ٢................................................................. ٣

فصل في اختلافهم في وقت هذه الزلزلة.............................................. ٤

فصل في وقت نزول هاتين الآيتين................................................ ١٠

فصل في معنى الآية : «يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة ...»............................ ١١

فصل في احتجاج المعتزلة بقوله : «إن زلزلة الساعة شيء عظيم»...................... ١٢

الآيتان : ٣ ، ٤............................................................... ١٢

فصل فيمن نزلت هذه الآية...................................................... ١٣

فصل في معنى «كتب عليه»..................................................... ١٦

الآيات : ٥ ـ ٧................................................................ ١٦

فصل في تفسير الآية : «يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ...»      ١٧

فصل في معنى : «وترى الأرض هامدة ...»....................................... ٢٤

فصل : لتعلموا أن الله هو الحق ، والحق هو الموجود الثابت........................... ٢٥

الآيات : ٨ ـ ١٠.............................................................. ٢٦

فصل في قول المعتزلة : هذه الآية تدل على مطالب................................. ٢٩

الآيات : ١١ ـ ١٣............................................................. ٢٩

فصل : لما بيّن حال المظهرين للشرك المجادلين فيه أعقبه بذكر المنافقين.................. ٣٠

فصل في سبب نزول هذه الآية : «من الناس من يعبد الله على حرف ...»............ ٣٠

فصل : معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة................. ٣٢

فصل في اختلافهم في المراد بقوله : «يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه»................... ٣٦

الآيات : ١٤ ـ ١٦............................................................. ٣٧

فصل في معنى الآية : «من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ...»........... ٣٩

فصل فيمن نزلت هذه الآية...................................................... ٣٩

فصل : قال أهل السنة : المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة............... ٤٠

الآيتان : ١٧ ، ١٨............................................................ ٤١

فصل في معنى قوله : «وكثير من الناس ..»........................................ ٤٦


الآيات : ١٩ ـ ٢٤............................................................. ٤٦

فصل في اختلافهم في تفسير الخصمين............................................ ٤٧

الآية : ٢٥.................................................................... ٥٦

فصل في معنى الآية : «ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام ...»................... ٦٠

فصل : الإلحاد : العدول عن القصد ، وأصله إلحاد الحافر............................ ٦٣

الآيات : ٢٦ ـ ٢٩............................................................. ٦٤

فصل في أن الكعبة بنيت خمس مرات............................................. ٦٥

فصل : بدأ الله بذكر المشاة تشريفا لهم............................................ ٧٤

فصل : الطواف ثلاثة أطواف.................................................... ٧٨

الآيات : ٣٠ ـ ٣٢............................................................. ٧٨

فصل في معنى قوله : «فاجتنبوا الرجس من الأوثان»................................ ٨١

الآيات : ٣٣ ـ ٣٥............................................................. ٨٥

فصل في معنى الآية : «ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله ...»................. ٨٨

الآيتان : ٣٦ ، ٣٧............................................................ ٩٠

فصل في تسمية البدنة........................................................... ٩٣

فصل : إذا قال : لله عليّ بدنة ، هل يجوز نحرها في غير مكة؟........................ ٩٤

فصل في دلالة هذه الآية : «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى ...».... ٩٧

الآيات : ٣٨ ـ ٤١............................................................. ٩٨

فصل في بيان الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة......................... ٩٩

فصل في أذية المشركين لأصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم......................... ١٠٠

فصل في معنى الآية : «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربنا الله»...... ١٠١

فصل في معنى قوله : «ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض»....................... ١٠٤

فصل في معنى قوله : «الذين إن مكّنّاهم في الأرض».............................. ١٠٦

الآيات : ٤٢ ـ ٤٦........................................................... ١٠٧

فصل في معنى قوله : «فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية»............. ١٠٨

فصل في معنى قوله : «أفلم يسيروا في الأرض ...» الآية........................... ١٠٩

الآيات : ٤٧ ـ ٥١........................................................... ١١٣

فصل في اختلافهم في المراد : هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين................... ١١٥

الآيات : ٥٢ ـ ٥٧........................................................... ١١٦

فصل في أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر............................... ١٢٤

فصل في معنى : «أوتوا العلم» أي : التوحيد والقرآن............................... ١٢٧


الآيات : ٥٨ ـ ٦٢........................................................... ١٣٠

فصل في أنه لما ذكر أن الملك له يوم القيامة وأنه يحكم بينهم ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد الكريم للمهاجرين         ١٣١

فصل في قول المعتزلة : الآية تدل على أمور ثلاثة.................................. ١٣٢

فصل في دلالة قوله : «ثم قتلوا ثم ماتوا»......................................... ١٣٢

فصل في معنى قوله : «ومن عاقب بمثل ما عوقب به»............................. ١٣٣

الآيات : ٦٣ ـ ٦٦........................................................... ١٣٥

فصل في أن كيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح تجريها.............. ١٤١

الآيات : ٦٧ ـ ٦٩........................................................... ١٤٢

فصل في معنى قوله : «لكلّ أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه»........................ ١٤٣

فصل في قراءات «ينازعنّك»................................................... ١٤٤

الآيات : ٧٠ ـ ٧٢........................................................... ١٤٥

فصل في معنى الآيات : أن الذي ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب والغم  ١٤٩

الآيتان : ٧٣ ، ٧٤.......................................................... ١٤٩

فصل : كأنه تعالى قال : أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم فيما هو أسهل منه.......... ١٥١

فصل فيمن نزلت هذه الآية : «ما قدروا الله حق قدره»............................ ١٥٢

الآيتان : ٧٥ ، ٧٦.......................................................... ١٥٣

الآيتان : ٧٧ ، ٧٨.......................................................... ١٥٤

فصل في اختلافهم في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية........................... ١٥٥

فصل في الدعوة للجهاد في سبيل الله............................................ ١٥٦

فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق................ ١٥٨

فصل في أن المقصود من ذكر «إبراهيم» التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم   ١٥٩

سورة المؤمنون

الآيات : ١ ـ ١١............................................................. ١٦٢

فصل في اختلافهم في الخشوع.................................................. ١٦٦

فصل في أن هذه الآية خاصة في الرجال لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها.. ١٧٢

الآيات : ١٢ ـ ١٦........................................................... ١٧٥

فصل في قول المعتزلة : لو لا أن يكون غير الله قد يكون خالقا لما جاز القول بأنه أحسن

الخالقين..................................................................... ١٨٢

فصل في قول المعتزلة : الآية تدل على أن كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب..... ١٨٣


الآية : ١٧.................................................................. ١٨٥

الآيات : ١٨ ـ ٢٠........................................................... ١٨٧

فصل في اختلافهم في «طور سيناء» وفي «طور سينين»............................ ١٩٢

الآيات : ٢١ ـ ٢٥........................................................... ١٩٤

الآيات : ٢٦ ـ ٣٠........................................................... ١٩٧

الآيات : ٣١ ـ ٤١........................................................... ٢٠٢

فصل في أن القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشرا يأكل ويشرب ، ثم جعلوا طاعته خسرانا.. ٢١٣

فصل في معنى قوله : «فجعلناهم غثاء»......................................... ٢١٧

الآيات : ٤٢ ـ ٤٤........................................................... ٢١٧

الآيات : ٤٥ ـ ٤٩........................................................... ٢٢١

فصل في معنى : «فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا»..................................... ٢٢٢

الآية : ٥٠.................................................................. ٢٢٣

الآيات : ٥١ ـ ٥٦........................................................... ٢٢٥

فصل في معنى الآية : «وإنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون»............... ٢٢٧

الآيات : ٥٧ ـ ٦١........................................................... ٢٣٠

الآيات : ٦٢ ـ ٦٥........................................................... ٢٣٤

الآيات : ٦٦ ـ ٧٢........................................................... ٢٣٨

فصل في المراد ب «الحق»...................................................... ٢٤٢

فصل في معنى قوله : «بل أتيناهم بذكرهم»...................................... ٢٤٣

الآيات : ٧٣ ـ ٧٥........................................................... ٢٤٣

الآيات : ٧٦ ـ ٨٠........................................................... ٢٤٥

الآيات : ٨١ ـ ٩٠........................................................... ٢٤٧

الآيات : ٩١ ـ ٩٦........................................................... ٢٤٩

الآيات : ٩٧ ـ ١٠٠......................................................... ٢٥٢

فصل في معنى الآية : «وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشيطان».................... ٢٥٢

فصل في معنى قوله : «حتّى إذا جاء أحدهم الموت ...»........................... ٢٥٥

الآيات : ١٠١ ـ ١٠٥........................................................ ٢٥٧

فصل في أنه تعالى إذا أعادهم فالأنساب ثابتة.................................... ٢٥٨

الآيات : ١٠٦ ـ ١١١........................................................ ٢٦٢

فصل في أن طلبنا اللذّات المحرّمة وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة..... ٢٦٣

الآيات : ١١٢ ـ ١١٨........................................................ ٢٦٧

فصل في أن الغرض من السؤال «كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟» : التبكيت والتوبيخ ٢٦٨

فصل في اختلافهم في أن السؤال عن أي لبث؟................................... ٢٦٨


فصل في احتجاج من أنكر عذاب القبر بهذه الآية................................. ٢٦٩

فصل في أنه لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنه لو لا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي ٢٧١

فصل في قول المفسرين : العرش السرير الحسن.................................... ٢٧١

فصل في معنى قوله : «الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم».............. ٢٧٢

سورة النور

الآيتان : ١ ، ٢.............................................................. ٢٧٤

فصل في أن الزنا حرام وهو من الكبائر........................................... ٢٧٩

فصل في إجماع الأمة على حرمة إتيان البهيمة واختلافهم في حدّه.................... ٢٨٠

فصل في أن إثبات حدّ الزنا لا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة......................... ٢٨١

فصل في قول بعض العلماء : لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه      ٢٨٢

فصل : لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه.............. ٢٨٣

فصل : لا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها................................. ٢٨٣

فصل : يقام الحدّ في وقت اعتدال الهواء.......................................... ٢٨٤

فصل : في معنى قوله : «ولا تأخذكم بهما رأفة».................................. ٢٨٤

فصل : إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك ، وقع به بعض الحد أو لم يقع به.......... ٢٨٥

الآية : ٣.................................................................... ٢٨٦

الآيتان : ٤ ، ٥.............................................................. ٢٨٩

فصل في أن ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات................. ٢٩١

فصل : شروط الإحصان خمسة................................................. ٢٩١

فصل : ألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض................................ ٢٩١

فصل : إذا قذف شخصا واحدا مرارا فإن أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد...... ٢٩٢

فصل : إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان.................. ٢٩٣

فصل : الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا......................... ٢٩٦

فصل : إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني والمزني به.................... ٢٩٦

فصل : لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين........................... ٢٩٦

فصل : لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت.................................. ٢٩٧

فصل : فيما لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا............... ٢٩٧

فصل : قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب حدّ الزنا............................. ٢٩٨

فصل في قول مالك والشافعي : حد القذف يورث وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه  ٢٩٨


فصل في معنى قوله : «ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا»................................. ٢٩٩

فصل في اختلافهم في كيفية التوبة بعد القذف.................................... ٣٠٠

الآيات : ٦ ـ ١٠............................................................. ٣٠٠

فصل : إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة................. ٣٠٣

فصل : إذا قذف زوجته ونكل عن اللعان لزمه حد القذف......................... ٣٠٤

فصل : من صح يمينه صح لعانه ، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين..... ٣٠٥

فصل : قال عثمان البتّي : إذا تلاعن الزوجان لم تقع الفرقة......................... ٣٠٥

فصل في كيفية اللعان.......................................................... ٣٠٦

فصل في معنى الآية : «والذين يرمون أزواجهم ...»............................... ٣٠٧

الآية : ١١.................................................................. ٣١١

فصل في سبب نزول هذه الآية................................................. ٣١٢

فصل : الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وهو أسوأ الكذب............. ٣١٨

فصل : العصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين................................. ٣١٩

فصل في أن المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئا بذلك القول.................. ٣٢١

الآية : ١٢.................................................................. ٣٢٢

فصل في معنى قوله : «إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا»............. ٣٢٢

الآيتان : ١٣ ، ١٤.......................................................... ٣٢٣

الآية : ١٥.................................................................. ٣٢٤

فصل في أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام ، وعلق مسّ العذاب العظيم بها..... ٣٢٦

الآية : ١٦.................................................................. ٣٢٦

فصل في معنى قوله : «ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك».. ٣٢٧

الآيتان : ١٧ ، ١٨.......................................................... ٣٢٧

فصل في استدلال المعتزلة بقوله : «إن كنتم مؤمنين» على أن ترك القذف من الإيمان.. ٣٢٨

فصل : قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد من جميع من وعظه مجانبة ذلك في المستقبل         ٣٢٨

الآية : ١٩.................................................................. ٣٢٩

فصل في قول المعتزلة : إن الله بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة................. ٣٢٩

الآيتان : ٢٠ ، ٢١.......................................................... ٣٣٠

فصل في معنى «ما زكى»....................................................... ٣٣٠

الآية : ٢٢.................................................................. ٣٣٢

فصل في أن معنى الآية : لا يحلف أولوا الفضل................................... ٣٣٤

فصل في قول المفسرين : معناه : ولا يحلف «أولوا الفضل منكم والسعة» أي : أولوا الغنى ٣٣٤


فصل في أن المراد من قوله : «أولوا الفضل» أبو بكر.............................. ٣٣٥

فصل : مذهب الجمهور أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه     ٣٣٦

الآيات : ٢٣ ـ ٢٥........................................................... ٣٣٧

فصل في معنى قوله : «يوم تشهد عليهم ألسنتهم»................................ ٣٣٩

الآية : ٢٦.................................................................. ٣٤٠

الآيات : ٢٧ ـ ٢٩........................................................... ٣٤١

فصل في معنى «الاستئناس».................................................... ٣٤٣

فصل في عدد الاستئذان....................................................... ٣٤٣

فصل في كيفية الوقوف على الباب.............................................. ٣٤٤

فصل في معنى «حتى»......................................................... ٣٤٤

فصل في الاستئذان على المحارم.................................................. ٣٤٥

فصل : إذا اطلع إنسان على دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر............... ٣٤٥

فصل : إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟...... ٣٤٦

الآيتان : ٣٠ ، ٣١.......................................................... ٣٤٨

فصل : قال الأكثرون : المراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل......... ٣٤٩

فصل : العورات تنقسم أربعة أقسام............................................. ٣٤٩

فصل : إن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل      ٣٥٣

فصل : إن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج          ٣٥٣

فصل : فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة........... ٣٥٣

فصل : لا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته............... ٣٥٤

فصل في معنى قوله : «ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها»......................... ٣٥٦

فصل في معنى قوله : «وليضربن بخمرهن على جيوبهن ...»........................ ٣٥٧

فصل في أن السبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في النزول والركوب..................................................................... ٣٥٨

فصل في المراد ب «التابعين غير أولي الإربة»...................................... ٣٥٩

فصل في أن الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به.............................. ٣٦١

فصل : فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستر منه ما بين سرتها وركبتها..................... ٣٦٢

الآية : ٣٢.................................................................. ٣٦٣

فصل في معنى قوله : «وأنكحوا»............................................... ٣٦٥


فصل في قول الشافعي : «الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها»....... ٣٦٥

فصل : الناس في النكاح قسمان................................................ ٣٦٦

فصل في أن ظاهر الآية يدل على أن العبد لا يتزوج بنفسه......................... ٣٦٧

فصل : الولي شرط في صحة النكاح............................................. ٣٦٧

فصل في استدلال بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان.................... ٣٦٨

الآية : ٣٣.................................................................. ٣٦٩

فصل في قول بعض العلماء : الكتابة أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا............ ٣٧٠

فصل : لا تجوز الكتابة الحالّة................................................... ٣٧١

فصل : لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين...................................... ٣٧١

فصل : يشترط أن يكون المكاتب بالغا عاقلا..................................... ٣٧١

فصل : يشترط أن يكون السيد مكلفا مطلقا..................................... ٣٧١

فصل في اختلافهم في قوله تعالى : «فكاتبوهم».................................. ٣٧٢

فصل فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم..................................... ٣٧٥

فصل : لو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال............................... ٣٧٥

فصل فيمن نزلت هذه الآية.................................................... ٣٧٦

فصل : الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس....................... ٣٧٧

الآية : ٣٤.................................................................. ٣٧٩

الآية : ٣٥.................................................................. ٣٨٠

فصل في معنى الآية............................................................ ٣٨١

فصل في اختلافهم في هذا التشبيه............................................... ٣٨٢

فصل في كيفية هذا التمثيل..................................................... ٣٨٦

فصل : في أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء.......... ٣٨٧

فصل في معنى «المشكاة»...................................................... ٣٨٧

الآيات : ٣٦ ـ ٣٨........................................................... ٣٩١

فصل في أن المراد ب «البيوت» : المساجد....................................... ٣٩٣

فصل في اختلافهم في هذا التسبيح.............................................. ٣٩٥

فصل في معنى قوله : «إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار» ٣٩٧

فصل في أن المراد بالأحسن : الحسنات أجمع ، وهي الطاعات فرضها ونفلها.......... ٣٩٨

الآيتان : ٣٩ ، ٤٠.......................................................... ٣٩٩

فصل في معنى قوله : «الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ...»................ ٤٠١

فصل في أن الله تعالى بيّن أن أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب وإن كانت قبيحة فهي الظلمات ٤٠٧

الآيتان : ٤١ ، ٤٢.......................................................... ٤٠٩


فصل في معنى قوله : «يسبح له من في السموات والأرض والطير ..»................ ٤١١

الآيتان : ٤٣ ، ٤٤.......................................................... ٤١٤

فصل في معنى قوله : «وينزّل من السماء من جبال فيها من برد».................... ٤٢٠

فصل : في معنى قوله : «يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار»......................... ٤٢٢

الآيتان : ٤٥ ، ٤٦.......................................................... ٤٢٣

الآيات : ٤٧ ـ ٥٠........................................................... ٤٢٦

فصل في معنى قوله : «ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا»......................... ٤٢٦

فصل في معنى الآية : «أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ...». ٤٢٨

الآيات : ٥١ ـ ٥٤........................................................... ٤٢٩

فصل في معنى قوله : «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله»...................... ٤٣٠

فصل : قال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد في اليمين........................... ٤٣٤

فصل في أن هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد.............................. ٤٣٥

الآية : ٥٥.................................................................. ٤٣٦

فصل : دل قوله : «وعد الله» على أنه متكلم.................................... ٤٣٩

فصل في دلالة الآية على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها...................... ٤٣٩

فصل في دلالة الآية على أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات................... ٤٣٩

فصل في دلالة الآية على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة.......................... ٤٣٩

فصل في دلالة الآية على أنه سبحانه منزه عن الشريك............................. ٤٤٠

فصل في دلالة الآية على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم......................................... ٤٤٠

فصل في دلالة الآية على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان................. ٤٤٠

فصل في دلالة الآية على إمامة الأئمة الأربعة..................................... ٤٤٠

الآيتان : ٥٦ ، ٥٧.......................................................... ٤٤٣

الآيات : ٥٨ ـ ٦٠........................................................... ٤٤٦

فصل : قال أبو بكر الرازي : دلّت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح       ٤٤٧

فصل في معنى : «الحلم»...................................................... ٤٤٨

فصل في الاستئذان في ثلاثة أوقات.............................................. ٤٥٠

فصل في وجوب الاستئذان في كل حال.......................................... ٤٥١

فصل في معنى الآية : «والقواعد من النساء اللّاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح ...» ٤٥٣

فصل في أن هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم........................... ٤٥٤

فصل في معنى «القواعد»...................................................... ٤٥٥


الآية : ٦١.................................................................. ٤٥٦

فصل في دلالة هذه الآية بظاهرها على إباحة الأكل من هذه المواضع بغير استئذان.... ٤٥٧

فصل في أن الصديق : الذي صدقك في المودة.................................... ٤٥٩

فصل في احتجاج أبي حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ٤٦٠

فصل في معنى قوله : «تحية من عند الله»........................................ ٤٦٢

الآيات : ٦٢ ـ ٦٤........................................................... ٤٦٢

فصل : قال الكلبي : كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم. ٤٦٣

فصل : قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن  ٤٦٣

فصل : قال الجبائي : دلّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم............... ٤٦٣

فصل في معنى قوله : «فإذا استأذنوك لبعض شأنهم».............................. ٤٦٥

فصل في المراد بقوله : «فأذن لمن شئت منهم»................................... ٤٦٥

فصل في قول المفسرين : إن المنافقين كانوا يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا      ٤٦٧

فصل في معنى : «فليحذر الذين يخالفون»....................................... ٤٦٩

فصل في دلالة الآية على أن الأمر للوجوب لأن تارك المأمور مخالف للأمر ومخالف الأمر يستحق العقاب      ٤٧٠

فصل في معنى قوله : «يعلم ما أنتم عليه»....................................... ٤٧١

سورة الفرقان

الآيتان : ١ ، ٢.............................................................. ٤٧٢

فصل : وصف القرآن بالفرقان لأنه فرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام......... ٤٧٣

فصل في معنى قوله : «الذي له ملك السموات والأرض».......................... ٤٧٤

فصل في معنى قوله : «خلق كل شيء».......................................... ٤٧٥

الآية : ٣.................................................................... ٤٧٥

فصل : لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف عبدة الأوثان....... ٤٧٦

فصل في احتجاج أهل السنة بقوله : «ولا يخلقون شيئا»........................... ٤٧٦

فصل في دلالة الآية على البعث................................................ ٤٧٧

الآيات : ٤ ـ ٩.............................................................. ٤٧٧

فصل في قولهم : معنى الآية : «قالوا أساطير الأولين ...» أن هذا القرآن ليس من الله إنما

هو مما سطره الأولون.......................................................... ٤٨١

فصل في أن الشبهة التي ذكروها في نهاية الرذالة................................... ٤٨٣

الآيات : ١٠ ـ ١٤........................................................... ٤٨٤


فصل في معنى «القصور»...................................................... ٤٨٦

فصل في احتجاج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة................................. ٤٨٧

فصل في معنى قوله : «إذا رأتهم من مكان بعيد».................................. ٤٨٩

فصل : قال ابن عباس : يضيق جهنم عليهم كما يضيق الزج على الرمح............. ٤٩٠

الآيتان : ١٥ ، ١٦.......................................................... ٤٩١

فصل في معنى قوله : «جنة الخلد».............................................. ٤٩١

فصل في احتجاج المعتزلة بهذه الآية على إثبات الاستحقاق......................... ٤٩١

فصل في معنى قوله : «كان على ربك وعدا مسؤولا».............................. ٤٩٢

الآيات : ١٧ ـ ٢٠........................................................... ٤٩٣

فصل في أن ظاهر قوله : «وما يعبدون» أنها الأصنام.............................. ٤٩٥

فصل في قول المعتزلة : الله يضل عباده في الحقيقة.................................. ٤٩٥

فصل : أجابوا بقولهم : «سبحانك» وفيه وجوه................................... ٤٩٨

فصل في تمسك المعتزلة بهذه الآية................................................ ٥٠١

فصل في نزول هذه الآيات..................................................... ٥٠٤

الآيات : ٢١ ـ ٢٤........................................................... ٥٠٥

فصل في معنى قوله : «وقال الذين لا يرجون لقاءنا».............................. ٥٠٥

فصل في دلالة هذه الآية على جواز الرؤية........................................ ٥٠٦

فصل في معنى «عتوّا»......................................................... ٥٠٧

فصل : هذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه................................... ٥٠٧

فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على عدم الرؤية............................... ٥٠٨

فصل في أن معنى قوله : «يوم يرون الملائكة» عند الموت........................... ٥١٢

فصل في اختلافهم في القائلين «حجرا محجورا»................................... ٥١٣

فصل في قول المفسرين : يعني أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم إلا قدر النهار............. ٥١٥

الآيات : ٢٥ ـ ٢٩........................................................... ٥١٥

فصل في معنى «الغمام»....................................................... ٥١٨

فصل في معنى «الملك»........................................................ ٥٢٠

فصل في المراد ب «الظالم»..................................................... ٥٢٠

فصل في معنى قوله : «يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا».......................... ٥٢٣

الآيتان : ٣٠ ، ٣١.......................................................... ٥٢٤

فصل في احتجاج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر............... ٥٢٥

الآيات : ٣٢ ـ ٣٤........................................................... ٥٢٦

فصل في المراد بقوله : «لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة»......................... ٥٢٧

فصل في معنى «ورتلناه ترتيلا».................................................. ٥٢٩


الآيتان : ٣٥ ، ٣٦.......................................................... ٥٣٠

الآيات : ٣٧ ـ ٣٩........................................................... ٥٣٠

فصل في معنى قوله : «كذبوا الرسل»........................................... ٥٣٢

الآيات : ٤٠ ـ ٤٢........................................................... ٥٣٥

الآيتان : ٤٣ ، ٤٤.......................................................... ٥٣٩

فصل في معنى الآية : «أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا»........... ٥٤٠

الآيات : ٤٥ ـ ٤٩........................................................... ٥٤١

فصل في معنى «الظل»........................................................ ٥٤٢

الآيات : ٥٠ ـ ٥٢........................................................... ٥٤٦

فصل : قال الجبائي : قوله : «ليذّكّروا» يدل على أنه تعالى يريد من الكل أن يذكروا ويشكروا...... ٥٤٧

الآية : ٥٣.................................................................. ٥٤٩

الآية : ٥٤.................................................................. ٥٥١

الآيات : ٥٥ ـ ٥٨........................................................... ٥٥٢

فصل في معنى الآية : «قل ما أسألكم عليه من أجر ...»......................... ٥٥٣

الآيتان : ٥٩ ، ٦٠.......................................................... ٥٥٤

الآيتان : ٦١ ، ٦٢.......................................................... ٥٥٩

الآيات : ٦٣ ـ ٦٧........................................................... ٥٦٢

فصل في أن المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير.............................. ٥٦٧

الآيات : ٦٨ ـ ٧١........................................................... ٥٦٩

فصل : نقل عن ابن عباس أنه قال : توبة القاتل لا تقبل ، وزعم أن هذه الآية منسوخة ٥٧٣

الآيتان : ٧٢ ، ٧٣.......................................................... ٥٧٤

الآية : ٧٤.................................................................. ٥٧٥

فصل : أراد قرة أعين لهم في الدين لا في الدنيا من المال والجمال..................... ٥٧٦

فصل : قيل : نزلت هذه الآية في العشرة المبشرين بالجنة............................ ٥٧٧

الآيات : ٧٥ ـ ٧٧........................................................... ٥٧٧

الآيات : ٧٥ ـ ٧٧........................................................... ٥٧٧

فصل في معنى هذا الدعاء...................................................... ٥٧٩

اللّباب في علوم الكتاب - ١٤

المؤلف:
الصفحات: 592