
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
سورة الحج
مكية غير ست آيات
نزلت بالمدينة ، وهي قوله : (هذانِ خَصْمانِ) إلى قوله : (وَهُدُوا إِلى صِراطِ
الْحَمِيدِ). وهي ثمان وتسعون آية ، وعدد كلماتها ألفان ومائتان وإحدى
وتسعون كلمة ، وعدد حروفها خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(٢)
قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ) أي : احذروا عقابه. والأمر بالتقوى يتناول اجتناب المحرمات
، واجتناب ترك الواجبات.
قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) الزلزلة : شدة حركة الشيء ، ويجوز في هذا المصدر وجهان :
أحدهما : أن يكون
مضافا لفاعله ، وذلك على تقديرين :
أحدهما : أن يكون
من (زلزل) اللازم بمعنى : يزلزل ، فالتقدير : أن تزلزل السّاعة .
والثاني : أن يكون
من (زلزل) المتعدي ، ويكون المفعول محذوفا تقديره : إن زلزال الساعة.
والثاني : أن يكون
من (زلزل) المتعدي ، ويكون المفعول محذوفا تقديره : إن زلزال الساعة الناس ، كذا
قدره أبو البقاء . والأحسن أن يقدر : إن زلزال الساعة الأرض ، يدل عليه (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) ، ونسبة التزلزل أو الزلزال إلى الساعة على سبيل المجاز .
الوجه الثاني : أن
يكون المصدر مضافا إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف كقوله:
__________________
٣٧٤٣ ـ طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل
وقد أوضح الزمخشري
ذلك بقوله : ولا تخلو «السّاعة» من أن تكون على تقدير الفاعل لها ، كأنها هي التي
تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي ، فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله ، وعلى
تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف ، وإجرائه مجرى المفعول به كقوله
تعالى : (مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ).
فصل
اختلفوا في وقت
هذه الزلزلة ، فقال علقمة والشعبي : هي من أشراط الساعة قبل قيام الساعة ، ويكون بعدها طلوع الشمس من مغربها. وقال ابن عباس :
زلزلة الساعة قيامها ،
__________________
فتكون فعلها روي عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في حديث الصور : «إنّه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات :
نفخة الفزع ، ونفخة الصّعق ، ونفخة القيامة ، وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال
، و (تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) وتكون الأرض كالسفينة حصرتها الأمواج أو كالقنديل المعلق
تموجها الرياح» . قال مقاتل وابن زيد : هذا في أول يوم من أيام الآخرة وليس في الآية دلالة على هذه الأقوال ، لأن هذه الإضافة [تصح] وإن كانت فيها ومعها كقولنا : آيات الساعة وأمارات الساعة .
قوله : «يوم» ،
فيه أوجه :
أحدها : أن ينتصب
ب «تذهل» ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
الثاني : أنه
منصوب ب «عظيم».
الثالث : أنه
منصوب بإضمار «اذكر».
الرابع : أنه بدل
من «السّاعة» ، وإنما فتح لأنه مبني ، لإضافته إلى الفعل وهذا إنما
يتمشى على قول الكوفيين ، وتقدم تحقيقها آخر المائدة .
الخامس : أنه بدل
من «زلزلة» بدل اشتمال ، لأن كلّا من الحدث والزمان يصدق أنه مشتمل على الآخر. ولا
يجوز أن ينتصب ب «زلزلة» لما يلزم من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر.
قوله : «ترونها»
في هذا الضمير قولان :
أظهرهما : أنه
ضمير الزلزلة ؛ لأنها المحدث عنها ، ويؤيده أيضا قوله (تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ).
والثاني : أنه
ضمير الساعة .
فعلى الأول : يكون
الذهول والوضع حقيقة ؛ لأنه في الدنيا.
وعلى الثاني :
يكون على سبيل التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثية ، إذ المراد
__________________
بالساعة القيامة ،
وهو كقوله : (يَوْماً يَجْعَلُ
الْوِلْدانَ شِيباً).
قوله : «تذهل» في
محل نصب على الحال من الهاء في «ترونها» ، فإن الرؤية هنا بصريّة ، وهذا إنما يجيء
على غير الوجه الأول ، وأما الوجه الأول وهو أنّ «تذهل» ناصب ل (يَوْمَ تَرَوْنَها) فلا محل للجملة من الإعراب ؛ لأنها مستأنفة ، أو يكون
محلها النصب على الحال من الزلزلة ، أو من الضمير في «عظيم» وإن كان مذكرا ، لأنه
هو الزلزلة في المعنى ، أو من «الساعة» وإن كانت مضافا إليها ، لأنه إما فاعل أو
مفعول كما تقدم. وإذا جعلناها حالا فلا بد من ضمير محذوف تقديره : تذهل فيها . وقرأ العامة : «تذهل» بفتح التاء والهاء من : ذهل عن كذا
يذهل. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني : بضم التاء وكسر الهاء ، ونصب «كل» على المفعول
به من أذهله عن كذا يذهله ، عدّاه بالهمزة. والذهول : الاشتغال عن الشيء ، وقيل : إذا كان مع دهشته وقيل : إذا كان ذلك لطرآن شاغل
من همّ أو مرض ونحوهما ، وذهل بن شيبان أصله من هذا. والمرضعة : من تلبست بالفعل ، والمرضع من
شأنها أن ترضع كحائض فإذا أراد التلبس قيل : حائضة . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل «مرضعة» دون مرضع؟ قلت :
المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي ، والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في
حال وصفها (به ) . والمعنى : أن من شدة الهول تذهل هذه عن ولدها فكيف
بغيرها. وقال بعض الكوفيين : المرضعة يقال للأم ،
__________________
والمرضع يقال للمستأجرة غير الأم ، وهذا مردود بقول الشاعر :
٣٧٤٤ ـ كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت
|
|
بني بطنها هذا
الضّلال عن القصد
|
فأطلق المرضعة بالتاء
على غير الأم. وقول العرب مرضعة يرد أيضا قول الكوفيين : إن الصفات المختصة
بالمؤنث لا يلحقها تاء التأنيث نحو : حائض وطالق . فالذي يقال : إن قصد النسب فالأمر على ما ذكروا ، وإن قصد الدلالة على التلبس بالفعل وجبت التاء ، فيقال : حائضة وطالقة وطامثة .
قوله : (عَمَّا أَرْضَعَتْ) يجوز في «ما» أن تكون مصدرية ، أي : عن إرضاعها ، ولا حاجة
إلى تقدير حذف على هذا . ويجوز أن تكون بمعنى (الذي) ، فلا بد من حذف عائد ، أي :
أرضعته ، ويقويه تعدي «تضع» إلى مفعول دون مصدر . والحمل ـ بالفتح ـ ما كان في بطن أو على رأس شجر ،
وبالكسر ما كان على ظهر .
قوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى). العامة على فتح التاء من «ترى» على خطاب الواحد.
وقرأ زيد بن عليّ
بضم التاء وكسر الراء على أن الفاعل ضمير الزلزلة ، أو الساعة وعلى هذه القراءة فلا بد من مفعول أول محذوف ليتمّ المعنى به ، أي : وتري الزلزلة أو الساعة الخلق الناس سكارى. ويؤيد هذا قراءة أبي
هريرة
__________________
وأبي زرعة وأبي
نهيك (تَرَى النَّاسَ
سُكارى) بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ونصب «النّاس» ، بنوه من المتعدي لثلاثة ، فالأول قام مقام الفاعل وهو
ضمير المخاطب ، و (النَّاسَ سُكارى) هما الثاني والثالث .
ويجوز أن يكون
متعديا لاثنين فقط على معنى وتري الزلزلة أو الساعة الناس قوما سكارى ، ف «النّاس»
هو الأول و «سكارى» هو الثاني وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره (وَتَرَى) كقراءة أبي هريرة إلا أنهما رفعا «النّاس» على أنه مفعول
لم يسم فاعله ، والتأنيث في الفعل على تأويلهم بالجماعة . وقرأ الأخوان (سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) على وزن وصفه المؤنثة بذلك واختلف في ذلك هل هذه صيغة جمع على فعلى كمرضى وقتلى ، أو صفة مفردة استغني بها في وصف الجماعة خلاف مشهور تقدم
في قوله «أسرى» . وظاهر كلام سيبويه أنه جمع تكسير فإنه قال : وقوم يقولون
: «سكرى» جعلوه مثل مرضى. لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ثم جعلوا روبى مثل سكرى
، وهم المستثقلون نوما لا من شرب الرائب .
وقال الفارسي :
ويجوز أن يكون جمع سكر كزمن وزمنى ، وقد حكي : رجل سكر بمعنى سكران ، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع . قال شهاب الدين : ومن ورود سكر بمعنى سكران قوله :
__________________
٣٧٤٥ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني
|
|
ثوبي فأنهض نهض
الشّارب السّكر
|
وكنت أمشي على
رجلين معتدلا
|
|
فصرت أمشي على
أخرى من الشّجر
|
ويروى البيت الأول
: الشارب الثمل. وبالراء أصح لدلالة البيت الثاني عليه .
وقرأ الباقون «سكارى»
بضم السين ، وقد تقدم في البقرة خلاف ، هل هذه الصيغة جمع تكسير أو
اسم جمع . وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما ، وهو جمع تكسير واحده سكران . قال أبو حاتم : وهي لغة تميم . وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة والأعمش «سكرى» (وَما هُمْ بِسُكارى) بضم السين فيهما . فقال ابن جني : هي اسم مفرد كالبشرى بهذا أفتاني أبو علي . وقال أبو الفضل : فعلى بضم الفاء صفة الواحد من الإناث ،
لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد .
__________________
وقال الزمخشري :
وهو غريب . قال شهاب الدين : ولا غرابة فإن فعلى بضم الفاء كثير
مجيئها في أوصاف المؤنثة نحو الرّبّى والحبلى. وجوّز أبو البقاء فيه أن يكون محذوفا من سكارى وكان من حق هذا القارىء أن يحرك الكاف بالفتح إبقاء لها
على ما كانت عليه وقد رواها بعضهم كذلك عن الحسن . وقرىء «ويرى الناس» بالياء من تحت ، ورفع «النّاس» .
وقرأ أبو زرعة في
رواية «سكرى» بالفتح (وَما هُمْ بِسُكارى) بالضم . وعن ابن جبير كذلك إلا أنه حذف الألف من الأول دون الثاني
. وإثبات السكر وعدمه بمعنى الحقيقة والمجاز ، أي: (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) على التشبيه (وَما هُمْ بِسُكارى) على التحقيق . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل أولا : ترون ، ثم قيل :
ترى على الإفراد؟ قلت : لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة ، فجعل الناس جميعا رائين
لها ، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر ، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم
رائيا لسائرهم .
فصل
روي أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل في غزوة بني المصطلق ، والناس يسيرون ، فنادى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فاجتمعوا حوله ، فقرأهما عليهم ، فلم ير أكثر باكيا من
تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج على الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور ، والناس بين باك وجالس حزين متفكر.
فقال عليهالسلام : «أتدرون أيّ ذلك اليوم»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال
: «ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم : قم فابعث بعث النّار من ولدك ، فيقول آدم : وما بعث النّار؟ فيقول الله تعالى
من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النّار وواحد إلى الجنّة ، فعند ذلك يشيب
الصّغير ،
__________________
وتضع كلّ ذات حمل
حملها ، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» قال : فيقولون :
وأيّنا ذلك الواحد فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد» .
وفي رواية فقال
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «يسّروا وسدّدوا وقاربوا فإنّ معكم خليقتين ما كانتا
في قوم إلا كثروا يأجوج ومأجوج» ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة»
فكبّروا وحمّدوا الله ، ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» فكبّروا
وحمدوا الله ، ثم قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة ، إنّ أهل الجنّة
مائة وعشرون صفّا ، ثمانون من أمتّي وما المسلمون في الكفّار إلا كالشّامة في جنب البعير
، أو كالشّعرة البيضاء في الثور الأسود» ثم قال : «ويدخل من أمّتي سبعون ألفا
الجنّة بغير حساب» فقال عمر : سبعون ألفا. فقال : «نعم ومع كلّ واحد سبعون ألفا» فقام عكاشة بن محصن وقال
: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال : «أنت منهم» فقام رجل من الأنصار
وقال مثل قوله ، فقال : «سبقك بها عكاشة» . فخاض الناس في السبعين ألفا ، فأخبروا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بما قالوا ، فقال عليهالسلام : «هم الذين لا يكذبون ولا يزنون ولا يسرقون ولا ينظرون وعلى ربهم يتوكلون» .
فصل
معنى الآية قال
ابن عباس : «تذهل» تشغل ، وقيل : تتنسى (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) إذا شاهدت ذلك الهول وقد ألقمت المرضع ثديها نزعته من فيه
لما يلحقها من الدهشة (عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي تسقط ولدها التمام وغير التمام. قال الحسن : وهذا يدل
على أن الزلزلة تكون في الدنيا ؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل . قال القفال : ويحتمل أن يقال : إن من ماتت حاملا أو مرضعة
بعثت حاملا ومرضعة تضع حملها من الفزع ، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة
ووضع الحامل على جهة المثل كما تأولوا قوله : (يَوْماً يَجْعَلُ
الْوِلْدانَ شِيباً).
__________________
و (تَرَى النَّاسَ سُكارى) من الخوف (وَما هُمْ بِسُكارى) من الشراب . وقيل : معناه كأنهم سكارى ، ولكن ما أرهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم .
فإن قيل : هل يحصل
ذلك الخوف لكل أحد أو لأهل النار خاصة؟
فالجواب : قال قوم
إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار ، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون ، لقوله
: (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ) وقيل : بل يحصل للكل ؛ لأنه سبحانه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله .
فصل
احتجت المعتزلة بقوله (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ) وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة. وبقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجودا أو معدوما ،
والأول محال وإلا لزم كون القادر قادرا على إيجاد الموجود ، وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم ، فالمعدوم شيء (واحتجوا
أيضا بقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أطلق اسم الشيء على المعدوم في الحال ، فالمعدوم شيء) . وأجيب عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة.
وهي جواهر قامت بها أعراض ، وتحقق ذلك في العدم محال ، فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئا حال عدمها ، فلا بد من التأويل ،
ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئا وهذا هو الجواب عن الباقي .
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣)
كُتِبَ
عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ
السَّعِيرِ)(٤)
قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ) الآية. في النظم وجهان :
الأول : أنه أخبر
فيما تقدم عن أهل القيامة وشدتها ، ودعا الناس إلى تقوى الله ، ثم
__________________
ميز في هذه الآية
قوما من الناس الذين ذكروا في الأولى وأخبر عن مجادلتهم.
الثاني : أنه
تعالى بيّن أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها ، قال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
قوله : (مَنْ يُجادِلُ) يجوز أن تكون «من» نكرة موصوفة ، وأن تكون موصولة ، و (فِي اللهِ) أي : في صفاته ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مفعول أو حال من فاعل «يجادل» وقرأ زيد بن عليّ (وَيَتَّبِعُ) مخففا .
فصل
قال المفسرون :
نزلت في النضر بن الحارث ، كان كثير الجدل ، وكان يقول : الملائكة بنات الله
والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث ، وإحياء من صار ترابا ، ويتبع في جداله
في الله بغير علم كل شيطان مريد. والمريد : المتمرد المستمر في الشر . يريد شياطين الإنس ، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من
دونهم إلى الكفر .
وقيل : أراد إبليس
وجنوده ، قال الزجاج : المريد والمارد : المرتفع الأملس. يقال : صخرة مرداء ، أي :
ملساء . ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز [حد] مثله .
قوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ) قرأ العامة «كتب» مبنيا للمفعول ، وفتح «أنّ» في الموضعين. وفي ذلك وجهان :
أحدهما : أن «أنّه» وما في
حيزه في محل نصب لقيامه مقام الفاعل ، فالهاء في «عليه» ، وفي «أنّه» تعودان على «من» المتقدمة
. و «من» الثانية يجوز أن تكون شرطية ، والفاء جوابها ، وأن تكون موصولة
والفاء زائدة في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وفتحت
__________________
«أن» الثانية ،
لأنها وما في حيزها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فشأنه وحاله أنه يضله ،
أو يقدر «فأنّه» مبتدأ والخبر محذوف أي : فله أنه يضله .
الثاني : قال
الزمخشري : ومن فتح فلأن الأول فاعل كتب ، والثاي عطف عليه .
قال أبو حيان :
وهذا لا يجوز ؛ لأنك إذا جعلت «فأنّه» عطفا على «أنه» بقيت «أنه» بلا استيفاء خبر
، لأن (مَنْ تَوَلَّاهُ) «من» فيه مبتدأة
فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى تستقل خبرا ل «أنّه» ، وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها ، إذ جعلت «فأنه»
عطفا على «أنه» . قال شهاب الدين : وقد ذهب ابن عطية إلى مثل قول الزمخشري
فإنه قال : و «أنه» في موضع رفع (على المفعول الذي لم يسم فاعله. و «أنه» الثانية
عطف على الأولى مؤكد وهذا رد واضح . وقرىء «كتب» مبنيا للفاعل ، أي : كتب الله ، ف (أن) وما في حيزها في محل نصب) على المفعول به ، وباقي الآية على ما تقدم.
وقرأ الأعمش
والجعفي عن أبي عمرو «إنه ، فإنه» بكسر الهمزتين .
وقال ابن عطية :
وقرأ أبو عمرو «إنه ، فإنه» بالكسر فيهما وهذا يوهم أنه مشهور
__________________
عنه ، وليس كذلك . وفي تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه ، ذكرها الزمخشري :
الأول : أن يكون
على حكاية المكتوب كما هو ، كأنه قيل : كتب عليه هذا اللفظ ، كما تقول: كتب عليه
إن الله هو الغني الحميد.
الثاني : أن يكون
على إضمار قيل.
الثالث : أن «كتب»
فيه معنى قيل .
قال أبو حيان :
أما تقدير قيل يعني فيكون «عليه» في موضع مفعول ما لم يسأم فاعله ، و (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) الجملة مفعول لم يسأم لقيل المضمر ، وهذا ليس مذهب
البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلا فلا تكون مفعول ما لم يسأم فاعله . وكان أبو حيان قد اختار ما بدأ به الزمخشري أولا ، وفيه ما فر منه وهو أنه أسند الفعل إلى الجملة ، فاللازم
مشترك ، وقد تقدم تقرير مثل هذا في أول البقرة . ثم قال : وأما الثاني يعني أنه ضمن «كتب» معنى القول ـ ،
فليس مذهب البصريين ، لأنه لا تكسر «أن» عندهم إلا بعد القول الصريح ، لا ما هو
بمعناه . والضميران في «عليه» و «أنه» عائدان على «من» الأولى كما
تقدم ، وكذلك الضمائر في «تولاه» و «فأنه» والمرفوع في (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) لأن من الأولى هو المحدث عنه والضمير المرفوع في «تولاه» والمنصوب في (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) عائد على «من» الثانية .
وقيل : الضمير في «عليه»
ل (كُلَّ شَيْطانٍ) ، والضمير في «فأنه» للشأن .
__________________
وقال ابن عطية :
الذي يظهر لي أن الضمير الأول في «أنه» يعود على (كُلَّ شَيْطانٍ) وفي «فأنه» يعود على «من» الذي هو المتولى .
فصل
قيل : معنى (كُتِبَ عَلَيْهِ) مثل ، أي : كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه لظهور ذلك في
حاله. وقيل : كتب عليه في أم الكتاب. واعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون
راجعا إلى (مَنْ يُجادِلُ) ، وأن يرجع إلى الشياطين. فإن رجع إلى (مَنْ يُجادِلُ) فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد فكأنه قال : كتب : من
يتبع الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار ، وذلك زجر منه ، فكأنه قال : كتب على
من هذا حاله أن يصير أهلا لهذا الوعد. وإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل
شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يتولاه فهو ضال. وعلى هذا الوجه أيضا يكون زجرا عن
اتباعه.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ
مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)
وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور)(٧)
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) الآية. لما حكى عنهم الجدال بغير علم في إثبات الحشر
والنشر ، وذمهم عليه ، ألزمهم الحجة ، وأورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين :
أحدهما :
الاستدلال بخلقة الحيوان أولا ، ثم بخلقة النبات ثانيا ، وهذا موافق لما أجمله في
قوله : (قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) وقوله : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). فكأنه تعالى قال : (إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ) أي شك من البعث ففكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر
على خلقكم أولا قادر على خلقكم ثانيا .
__________________
قوله : (مِنَ الْبَعْثِ). يجوز أن يتعلق ب (رَيْبَ) ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل (رَيْبَ). وقرأ الحسن «البعث» بفتح العين ، وهي لغة كالطرد والحلب في الطرد والحلب بالسكون. قال أبو حيان : والكوفيون إسكان العين عندهم
تخفيف فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر ، والشعر والشعر ، والبصريون لا يقيمونه ،
وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان . وهذا يوهم ظاهره أن الأصل : البعث ـ بالفتح ـ وإنما خفف ،
وليس الأمر كذلك وإنما محل النزاع إذا سمع الحلقي مفتوح العين هل يجوز تسكينه أم
لا؟ لا أنه كلما جاء ساكن العين من ألحقها يدعي أن أصلها بالفتح كما هو ظاهر
عبارته.
قوله : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : خلقنا أصلكم وهو آدم من تراب نظيره قوله : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) وقوله : (مِنْها خَلَقْناكُمْ). ويحتمل أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما
يتولدان من الأغذية ، والأغذية إما حيوان أو نبات ، وغذاء الحيوان ينتهي إلى
النبات قطعا للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء فصح قوله : «إنا خلقناكم
من تراب» .
فصل
قال النووي في التهذيب : التراب معروف ؛ والمشهور الصحيح الذي قاله
الفراء والمحققون أنه جنس لا يثنى ولا يجمع . ونقل أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح
__________________
عن المبرد أنه قال
: هو جمع واحدته ترابة ، والنسبة إلى التراب ترابي . وذكر النحاس في كتابه صناعة الكتاب : في التراب خمس عشرة لغة فقال يقال : تراب وتورب على وزن جعفر ، وتوراب ، وتيرب ـ بفتح
أولهما ـ والإثلب والأثلب الأول بكسر الهمزة واللام ، والثاني بفتحهما ، والثاء مثلاثة فيهما ومنه قولهم : بفيه الأثلب ، وهو الكثكث ـ بفتح الكافين
وبالثاء المثلاثة المكررة ، والكثكث ـ بكسر الكافين ـ والدقعم ـ بكسر الدال والعين
ـ والدقعاء بفتح الدال والمد ، والرغام ـ بفتح الراء والغين المعجمة ـ ومنه : أرغم
الله أنفه ، أي : ألصقه بالرغام وهو البرا مقصور مفتوح الباء الموحدة كالعصا ، والكلخم بكسر الكاف والخاء المعجمة وإسكان اللام بينهما ، والكلخ بكسر الكاف واللام وإسكان الميم بينهما والخاأ
أيضا معجمة ، والعثير بكسر العين المهملة وإسكان الثاء المثلاثة وبعدها مثناة من
تحت مفتوحة .
قوله : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) والنطفة اسم للماء القليل ، أي ماء كان ، وهوهنا ماء الفحل
، وجمعها نطاف ، فكأنه سبحانه يقول : أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس
ماء لطيفا مع أنه لا مناسبة بينهما . والمراد من الخلق من النطفة الذرية.
قوله : (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) والعلقة قطعة الدم الجامدة ، وجمعها علق ولا شك أن بين
الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة . وعن بعضهم وقد سئل عن أصعب الأشياء فقال : وقع الزلق على
العلق ، أي : على دم القتلى في المعركة .
قوله : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) المضغة : القطعة من اللحم قدر ما يمضغ نحو الغرفة ، والأكلة بمعنى المغروفة والمأكولة.
__________________
قوله : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) العامة على الجر في (مُخَلَّقَةٍ) وفي (غَيْرِ) على النعت. وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما على الحال من النكرة ، وهو قليل جدا ، وإن كان سيبويه قاسه
.
والمخلقة :
الملساء التي لا عيب فيها من قولهم : صخرة خلقاء ، أي : ملساء وخلقت السواك: سويته وملسته. وقيل : التضعيف في (مُخَلَّقَةٍ) دلالة على تكثير الخلق ؛ لأن الإنسان ذو أعضاء متباينة
وخلق متفاوتة. قاله الشعبي وقتادة وأبو العالية وقال ابن عباس وقتادة : (مُخَلَّقَةٍ) تامة الخلق ، و (غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي ناقصة الخلق . وأبو مجاهد : مصورة وغير مصورة ، وهو السقط. وقيل : المخلقة من تمت فيه أحوال الخلق ، وغير المخلقة من
لم يتم فيه أحوال الخلق قاله قتادة والضحاك. وقيل : المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته ، وغير المخلقة السقط.
وروى علقمة عن ابن مسعود قال : «إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه ،
وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ، فإن قال : غير مخلقة قذفها في الرحم
دما ولم يكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد ، ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت؟
فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب
فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته». قوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي : لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم
لتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة وقيل : لنبين لكم أن تغيير الصفة والخلقة هو اختيار
__________________
من الفاعل المختار
، ولو لا ه لما صار بعضه مخلقا وبعضه غير مخلق وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في
العبادة .
قوله : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) العامة على رفع (وَنُقِرُّ) ، لأنه مستأنف ، وليس علة لما قبله فينصب نسقا على ما تقدم . وقرأ يعقوب ، وعاصم في روآية بنصبه .
قال أبو البقاء :
على أن يكون معطوفا في اللفظ والمعنى مختلف ، لأن اللام في (لِنُبَيِّنَ) للتعليل واللام المقدرة مع (نُقِرُّ) للصيرورة . وفيه نظر ، لأن قوله : معطوفا في اللفظ. يدفعه قوله :
واللام المقدرة. فإن تقدير اللام يقتضي النصب بإضمار (أن) بعدها لا بالعطف على ما قبله. وعن عاصم أيضا : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) بنصب الجيم . وقرأ ابن أبي عبلة «ليبين» و «يقر» بالياء من تحت فيهما ، والفاعل هو الله تعالى كما في قراءة النون.
وقرأ يعقوب في
روآية «ونقر» بفتح النون وضم القاف ورفع الراء من قر الماء يقره أي : صبه. وقرأ أبو زيد النحوي «ويقر» بفتح الياء من تحت وكسر القاف
ونصب الراء أي : ويقر الله وهو من قر الماء إذا صبه. وفي الكامل لابن جبارة (لِنُبَيِّنَ ، وَنُقِرُّ ، ثُمَّ
نُخْرِجُكُمْ) بالنصب فيهن يعني بالنون في الجميع ، المفضل بالياء فيهما
مع النصب أبو حاتم ، وبالياء والرفع عن عمر بن شبة. انتهى .
وقال الزمخشري :
والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى : يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره. ثم قال :
والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل ومعناه : جعلناكم مدرجين هذا التدريج
لغرضين :
__________________
أحدهما : أن نبين
قدرتنا.
والثاني : أن نقر
في الأرحام من نقر حتى يولدوا وينشئوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم ، ويعضد هذه
القراءة قوله : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ). قال شهاب الدين : تسميته مثل هذه الأفعال المسندة إلى
الله تعالى غرضا لا يجوز . وقرأ ابن وثاب «نشاء» بكسر النون وهو كسر حرف المضارعة كما تقدم في قوله : (نَسْتَعِينُ).
والمراد بالأجل
المسمى يعني نقر في الأرحام ما نشاء فلا نمحه ولا نسقطه إلى أجل مسمى وهو حد
الولادة ، وهو آخر ستة أشهر أو تسعة أشهر أو أربع سنين كما شاء وقدر تام الخلق
والمدة.
قوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي : تخرجون من بطون أمهاتكم ، «طفلا» حال من مفعول
«نخرجكم» ، وإنما وحّد ، لأنه في الأصل مصدر كالرضا والعدل ، فيلزم
الإفراد والتذكير ، قاله المبرد ، وإما لأنه مراد به الجنس ، ولأنه العرب تذكر الجمع باسم الواحد قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) وإما لأن المعنى نخرج كل واحد منكم ، نحو : القوم يشبعهم رغيف ، أي : كل واحد منهم . وقد يطابق به ما يراد به فيقال : طفلان وأطفال ، وفي الحديث : «سئل عن أطفال المشركين» . والطفل يطلق على الولد من حين الانفصال إلى البلوغ . وأما الطفل ـ بالفتح ـ فهو الناعم ، والمرأة طفلة ، قال :
__________________
٣٧٤٦ ـ ولقد لهوت بطفلة ميّالة
|
|
بلهاء تطلعني
على أسرارها
|
وقال :
٣٧٤٧ ـ أحببت في الطّفلة القبلا
|
|
لا كثيرا يشبه
الحولا
|
أما الطّفل : بفتح
الفاء والطاء ـ فوقت (ما بعد العصر ، من قولهم : طفلت الشمس : إذا مالت للغروب ، وأطفلت المرأة أي صارت ذات طفل) .
قوله : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) الأشدّ : كمال القوة والعقل ، وهو من ألفاظ الجموع التي لا
واحد لها ، فبنيت لذلك على لفظ الجمع ، والمعنى : أنه سهل في تربيتكم وأغذيتكم أمورا كثيرا إلى بلوغ أشدكم ، فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج
الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ، لأن بين الحالتين وسائط .
قوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) العامة على ضم الياء من «يتوفّى» وقرأت فرقة «يتوفّى» بفتح
الياء ، وفيه تخريجان :
أحدهما : أن
الفاعل ضمير الباري تعالى ، أي : يتوفاه الله تعالى . كذا قدره الزمخشري.
الثاني : أن
الفاعل ضمير «من» أي : يتوفى أجله وهذه القراءة كالتي في البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أي : مدتهم. ومعنى الآية : (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى) على قوته وكماله ، (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الهرم والخوف فيصير كما كان في أوان الطفولية ضعيف
البنية سخيف العقل قليل الفهم . وروي عن أبي عمرو ونافع
__________________
أنهما قرآ «العمر»
بسكون الميم وهو تخفيف قياسي نحو عنق في عنق .
قوله : (لِكَيْلا يَعْلَمَ) هذا الجار يتعلق ب «يرد» وتقدم نظيره في النحل والمعنى يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئا. فإن قيل : إنه يعلم بعض الأشياء
كالطفل فالجواب : المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئا . لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي مبالغة. ومن الناس من قال
هذه الحال لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو ضعيف ، لأن معنى قوله (ثُمَّ رَدَدْناهُ) دلالة على الذم ، فالمراد ما يجري مجرى العقوبة ، ولذلك
قال (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) وهذا تمام الاستدلال بخلقة الحيوان . وأما الاستدلال بخلقة النبات فهو قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) فنصب «هامدة» على الحال ، لأن الرؤية بصرية. والهمود :
الخشوع والسكون ، وهمدت الأرض : يبست ودرست ، وهمد الثوب: بلي ، قال الأعشى :
٣٧٤٨ ـ فالت قتيلة ما لجسمك شاحبا
|
|
وأرى ثيابك
باليات همّدا
|
والاهتزاز التحرك ، وتجوز به هنا عن إنبات الأرض نباتها بالماء. والجمهور
على «ربت» أي: زادت من ربا يربو . وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وأبو
__________________
عمرو في رواية «وربأت» بالهمز أي ارتفعت. يقال : ربأ بنفسه عن كذا ، أي : ارتفع عنه ،
ومنه الربيئة ، وهو من يطلع على موضع عال لينظر للقوم ما يأتيهم ، وهو عين القوم ،
ويقال له : ربيء أيضا قال الشاعر :
٣٧٤٩ ـ بعثنا ربيئا قبل ذلك مخملا
|
|
كذئب الغضا يمشي
الضّراء ويتّقي
|
قوله : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ). فيه وجهان :
أحدهما : أنه صفة
للمفعول المحذوف ، تقديره : وأنبتت ألوانا أو أزواجا من كل زوج .
والثاني : أن (من)
زائدة ، أي أنبتت كل زوج ، وهذا ماش عند الكوفيين والأخفش والبهيج: الحسن الذي يسر ناظره ، وقد بهج بالضم بهاجة وبهجة أي حسن وأبهجني كذا أي : سرني بحسنه .
فصل
المعنى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) يابسة لا نبات فيها ، (فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ) المطر «اهتزّت» تحركت بالنبات ، والاهتزاز الحركة على سرور
، وربت أي : ارتفعت وزادت ، وذلك أن الأرض ترتفع وتنتفخ ، فذلك تحركها. وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت . قال المبرد : أراد اهتزت وربا نباتها فحذف المضاف. والاهتزاز
في النبات أظهر يقال : اهتز النبات ، أي : طال ، وإنما أنث لذكر الأرض .
(وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وهذا مجاز لأن الأرض لا تنبت وإنما المنبت هو الله تعالى ، لكنه يضاف
إليها توسعا. ومعنى من كل نوع من أنواع النبات والبهجة : حسن
__________________
الشيء ونضارته ،
ثم إنه تعالى لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب وذلك قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) الآية .
«ذلك» فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ
والخبر الجار بعده ، والمشار إليه ما تقدم من خلق بني آدم وتطويرهم ،
والتقدير : ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطويرهم حاصل بأن الله هو الحق وأنه
إلى آخره.
الثاني : أن «ذلك»
خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك .
الثالث : أن «ذلك»
منصوب بفعل مقدر ، أي : فعلنا ذلك بسبب أن الله تعالى هو الحق فالباء على الأول مرفوعة المحل ، وعلى الثاني والثالث منصوبة.
قوله : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف
على المجرور بالباء ، أي : ذلك بأن الساعة.
والثاني : أنه ليس
معطوفا عليه ، ولا داخلا في حيز السببية ، وإنما هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : والأمر أن الساعة آتية و (لا رَيْبَ فِيها) يحتمل أن تكون هذه الجملة خبرا ثانيا ، وأن تكون حالا.
فصل
المعنى : ذلك
لتعلموا أن الله هو الحق ، والحق هو الموجود الثابت فكأنه تعالى بيّن أن هذه
الوجوه المتنافية وتواردها على الأجسام يدل على وجود الصانع. (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) وهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه
الأشياء ، فكيف يستبعد منه إعادة الأموات. (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : وأن الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يجب اتصافه بهذه
القدرة لذاته ، ومن كان كذلك كان قادرا على الإعادة. (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) والمعنى : أنه تعالى
__________________
لما أقام الدلائل
على أن الإعادة في نفسها ممكنة ، وأنه سبحانه قادر على كل الممكنات وجب القطع
بكونه قادرا على الإعادة وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه ، فلا بد من
القطع بوقوعه.
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨)
ثانِيَ
عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما
قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٠)
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية ، جعل ابن عطية هذه الواو للحال ، فقال : وكأنه يقول هذه الأمثال في غاية الوضوح ، ومن الناس مع ذلك من
يجادل (فكان الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف .
قال أبو حيان :
ولا يتخيل أن الواو في (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ)) واو حال ، وعلى تقدير الجملة التي قدرها قبله لو كان مصرحا
بها فلا تتقدر ب (إذ) ، فلا تكون للحال ، وإنما هي للعطف . قال شهاب الدين : ومنعه من تقديرها ب (إذ) فيه نظر ، إذ
لو قدر لم يلزم منه محذور.
قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يجوز أن يتعلق ب «يجادل» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال
من فاعل «يجادل» أي : يجادل ملتبسا بغير علم ، أي : جاهلا.
قوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ)
: حال من فاعل «يجادل»
أي : معرضا ، وهي إضافة لفظية نحو «ممطرنا» . والعامة على كسر العين ، وهو الجانب كني به عن التكبر.
__________________
والحسن بفتح العين
، وهو مصدر بمعنى التعطف ، وصفه بالقسوة.
قوله : «ليضلّ»
متعلق إما ب (يُجادِلُ) ، وإما ب (ثانِيَ عِطْفِهِ) وقرأ العامة بضم الياء في «يضل» والمفعول محذوف أي : ليضل
غيره . وقرأ مجاهد وأبو عمرو في رواية بفتحها ، أي : ليضل هو في نفسه.
قوله : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالا مقارنة أي : مستحقا ذلك ، وأن تكون حالا مقدرة ، وأن تكون مستأنفة . وقرأ زيد بن علي «وأذيقه» بهمزة المتكلم ، و (عَذابَ الْحَرِيقِ) يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته إذ الأصل العذاب الحريق أي : المحرق كالسميع بمعنى المسمع .
فصل
قال أبو مسلم : الآية الأولى واردة في الأتباع المقلدين ، وهذه الآية واردة في المتبعة
عن المقلدين ، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعا والآخر متبوع
، وبين ذلك قوله : (وَلا هُدىً وَلا
كِتابٍ مُنِيرٍ) فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد وإنما يقال فيمن يخاصم بناء على شبهة. فإن قيل : كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون
مجادلا؟ قلنا : يجادل تصويبا لتقليده ، وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن
كان معتمده الأصلي هو التقليد . وقيل : إن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحارث ، وهو
قول ابن عباس وفائدة التكرير المبالغة في الذم ، وأيضا : قد ذكر
__________________
في الآية الأولى
اتباعه تقليدا بغير حجة ، (وفي الثانية مجادلته في الدين ، وإضلاله غيره بغير حجة)
.
والأول أقرب لما
تقدم. ودلت الآية على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب حق حسن.
والمراد بالعلم
العلم الضروري ، وبالهدى الاستدلال والنظر ؛ لأنه يهدي إلى المعرفة ، وبالكتاب
المنير الوحي. والمعنى يجادل من غير مقدمة ضرورية ، ولا نظريّة ولا سمعيّة فهو
كقوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) ثم قال (ثانِيَ عِطْفِهِ
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ثني العطف عبارة عن التكبر والخيلاء قال مجاهد وقتادة : لاوي عنقه . وقال عطية وابن زيد : معرضا عما يدعى إليه تكبرا . والعطف الجانب وعطفا الرجل : جانباه عن يمين وشمال ، وهو الموضع الذي يعطفه
الإنسان أي : يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء ، ونظيره قوله تعالى
: (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) وقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ). (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) فمن ضم الياء فمعناه : ليضل غيره عن طريق الحق ، فجمع بين
الضلال والكفر وإضلال الغير. ومن فتح الياء فالمعنى : ليضل هو عن دين الله . (لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) عذاب وهوان ، وهو القتل ببدر ، فقتل النضر ، وعقبة بن أبي
معيط يوم بدر صبرا. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) ويقال له : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) والكلام في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) كالكلام في قوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ) وكذا قوله (وَأَنَّ اللهَ) يجوز عطفه على السبب ، ويجوز أن يكون التقدير والأمر أن
الله ، فيكون منقطعا عما قبله .
قوله : «ظلّام»
مثال مبالغة. فإن قيل : إذا قلت : إن زيدا ليس بظلام ، لا يلزم منه نفي أصل الظلم
، فإن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
فالجواب : أن
المبالغة إنما جيء بها لتكثير محلها فإن العبيد جمع ، وأحسن من
__________________
هذا أن فعّالا هنا
للنسب أي : بذي ظلم لا للمبالغة .
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على مطالب :
الأول : دلت على
أن العبد إنما وقع في ذلك العذاب بسبب عمله فلو كان فعله خلقا لله تعالى لكان حين خلقه استحال منه أن لا يتصف به فلا يكون ذلك
العقاب بسبب فعله ، فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك خلاف
النص.
الثاني : أن قوله
: (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يدل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالما بفعل ذلك العذاب ،
وهذا يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالما ، وهذا يدل على
أنه لا يجوز تعذيب الأطفال لكفر آبائهم.
الثالث : أنه
سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادرا عليه خلاف ما يقوله النّظّام ،
وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة.
الرابع : أنه لا
يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم ، لأن عندهم صحة نبوة النبي ـ عليهالسلام ـ موقوفة على نفي الظلم ، فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي
لزم الدور. وأجاب ابن الخطيب عن الكلّ بالمعارضة بالعلم والداعي .
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ
انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ
الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ
اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ
ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)(١٣)
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
عَلى حَرْفٍ) الآية.
قال ابن عباس
وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة : نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون
المدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصحّ بها جسمه ، ونتجت
فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما ، وكثر ماله قال : هذا دين حسن ، وقد أصبت
فيه خيرا واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه ، وقلّ ماله قال ما أصبت منذ دخلت هذا الدين إلا شرا
فينقلب عن
__________________
دينه ، وذلك
الفتنة ، فأنزل الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ). قال أكثر المفسرين : أي : على شك ، وأصله من حرف الشيء ،
وهو طرفه . وقيل : على انحراف ، أو على طرف الدين لا في وسطه كالذي
يكون في طرف العسكر إن رأى خيرا ثبت وإلا فرّ . و (عَلى حَرْفٍ) حال من فاعل «يعبد» أي : متزلزلا .
ومعنى (عَلى حَرْفٍ) أي على شك أو على انحراف أو على طرف الدين لا في وسطه.
فصل
لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه أعقبه بذكر المنافقين
فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون
وطمأنينة ، كالذي يكون على طرف العسكر ، فإن أحسن بغنيمة قرّ وإلا فرّ ، وهذا هو
المراد بقوله (فَإِنْ أَصابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ).
قال الحسن : هو
المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه ، (فَإِنْ أَصابَهُ
خَيْرٌ) صحة في جسمه وسعة في معيشته (اطْمَأَنَّ بِهِ) وسكن إليه ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ
فِتْنَةٌ) بلاء في جسده وضيق في معيشته (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) ارتد ورجع إلى ما كان عليه من الكفر .
فصل
ذكروا في السبب
وجوها :
الأول : ما تقدم .
والثاني : قال
الضحاك : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن
مرداس ، قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصابنا خير عرفنا أنه حق ، وإن كان غير ذلك عرفنا أنه باطل .
الثالث : قال أبو
سعيد الخدري : أسلم رجل من اليهود ، فذهب بصره وماله وولده ، فقال: يا رسول الله أقلني فإني ما أصبت من ديني هذا خيرا
ذهب بصري
__________________
ومالي وولدي. فقال
عليهالسلام : «إن الإسلام لا يقال ، إن الإسلام يسبك كما تسبك النار
خبث الحديد والذهب والفضة» ونزلت هذه الآية . وهاهنا إشكال ، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن هذه السور
مكيّة إلا ست آيات ذكروها أولها (هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا) إلى قوله (صِراطِ الْحَمِيدِ) ولم يعدوا هذه الوقائع (التي ذكروها في سبب نزول هذه الآية
مع أنهم يقولون إن هذه الوقائع) إنما كانت بالمدينة كما تقدم النقل عنهم. فإن قيل : كيف
قال : (وَإِنْ أَصابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ) والخير أيضا فتنة ، لأنه امتحان. قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً).
فالجواب : مثل هذا
كثير في اللغة ، لأن النعمة بلاء وابتلاء قال تعالى (فَأَمَّا الْإِنْسانُ
إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) ولكن إنما يطابق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع ،
والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي ، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي ، لأنه
لا دين له ؛ فلذلك وردت الآية على ما يعتقده . فإن قيل : إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله (انْقَلَبَ عَلى
وَجْهِهِ) وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب.
فالجواب أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره ، فصار يذم الدين عند
الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب على الحقيقة . فإن قيل : مقابل الخير هو الشر فلما قال (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) كان يجب أن يقول : وإن أصابه شرّ انقلب على وجهه .
فالجواب : لما
كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى : وإن أصابه شرّ بل وصفه بما لا يفيد فيه
القبح .
قوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) قرأ العامة «خسر» فعلا ماضيا ، وهو يحتمل ثلاثة أوجه :
الاستئناف ، والحالية من فاعل «انقلب» ، ولا حاجة إلى إضمار (قد) على الصحيح .
__________________
والبدلية من قوله «انقلب»
كما أبدل المضارع من مثله في قوله (يَلْقَ أَثاماً
يُضاعَفْ).
وقرأ مجاهد
والأعرج وابن محيصن والجحدري في آخرين «خاسر» بصيغة اسم الفاعل منصوب على الحال ، وهو توكيد كون الماضي في قراءة العامة حالا وقرىء برفعه
، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون
فاعلا ب «انقلب» ، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر ، أي : انقلب خاسر الدنيا
والآخرة ، والأصل : انقلب هو .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو خاسر .
وهذه القراءة تؤيد
الاستئناف في قراءة المضي على التخريج الثاني. وحق من قرأ «خاسر» رفعا ونصبا أن
يجر «الآخرة» لعطفها على «الدنيا» المجرورة بالإضافة. ويجوز أن يبقى النصب فيها ،
إذ يجوز أن تكون الدنيا منصوبة ، وإنما حذف التنوين من «خاسر» لالتقاء الساكنين
نحو قوله :
٣٧٥٠ ـ ولا ذاكر الله إلّا قليلا
فصل
معنى خسرانه
الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء
، ولا يبقى ماله ودمه مصونا ، وأما خسران الآخرة فيفوته الثواب
__________________
الدائم ، ويحصل له
العقاب الدائم ، و (ذلِكَ هُوَ
الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).
قوله : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَضُرُّهُ) إن عصاه ولم يعبده ، (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن أطاعه وعبده ، و (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) عن الحق والرشد وهذه الآية تدل على أن الآية الأولى لم ترد في اليهود ؛
لأنهم ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام. والأقرب أنها واردة في المشركين الذين
انقطعوا إلى الرسول على وجه النفاق .
قوله : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ). فيه عشرة أوجه ، وذلك أنه إما أن يجعل «يدعو» متسلطا على الجملة من قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ
أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) أو لا ، فإن جعلناه متسلطا عليها كان فيه سبعة أوجه :
الأول : أنّ «يدعو»
بمعنى يقول ، واللام للابتداء و «من» موصولة في محل رفع بالابتداء ، و «ضره» مبتدأ ثان ، و «أقرب» خبره ، وهذه الجملة صلة للموصول ،
وخبر الموصول محذوف تقديره : يقول للذي ضره أقرب من نفعه : إله ، أو إلهي ، ونحو ذلك ،
والجملة كلها في محل نصب ب «يدعو» لأنه بمعنى يقول ، فهي محكية به. وهذا قول أبي
الحسن وعلى (هذا فيكون قوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) مستأنفا ليس داخلا في المحكي قبله ، لأن الكفار لا يقولون
في أصنامهم ذلك ) . (ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى) إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنّ ضرّها أقرب من نفعها
البتة .
الثاني : أنّ «يدعو»
مشبه بأفعال القلوب ، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاد وأفعال القلوب تعلق ف «يدعو»
معلق أيضا باللام ، و (لَمَنْ) مبتدأ موصول ، والجملة بعدة صلة ، وخبره محذوف على ما مر في الوجه قبله ، والجملة في محل نصب كما
يكون كذلك بعد أفعال القلوب .
الثالث : أن يضم ن
«يدعو» معنى يزعم ، فتعلق كما تعلق ، والمعنى . والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله .
__________________
الرابع : أنّ
الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها ، فاللام معلقة ل «يدعو» وهو مذهب
يونس ، فالجملة بعده والكلام فيها كما تقدم.
الخامس : أن «يدعو»
بمعنى يسمي ، فتكون اللام مزيدة في المفعول الأول ، وهو الموصول وصلته ، ويكون المفعول الثاني محذوفا
تقديره : يسمي الذي ضره أقرب من نفعه إلها ومعبودا ونحو ذلك .
السادس : أن اللام
مزالة من موضعها ، والأصل : يدعو من لضره أقرب ، فقدمت من تأخر. وهذا قول الفراء . ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول .
السابع : أن
اللازم زائدة في المفعول به وهو «من» التقدير : يدعو من ضره أقرب ، ف «من» موصولة والجملة بعدها صلتها ، والموصول هو المفعول ب «يدعو» زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله : (رَدِفَ لَكُمْ) في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان
العاملفرعا أو تقدم المفعول. وقرأ عبد الله «يدعو من ضره» بغير لام الابتداء ، وهي
مؤيدة لهذا الوجه . وإن لم نجعله متسلطا على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه
:
أظهرها : أن «يدعو»
الثاني توكيد ل «يدعو» الأول فلا معمول له ، كأنه قيل : (يدعو يدعو) من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه ، فعلى هذا تكون الجملة من قوله (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ) معترضة بين المؤكد والمؤكد ، لأن فيها تشديدا وتأكيدا ،
ويكون
__________________
قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) كلاما مستأنفا ، فتكون اللام للابتداء ، و «من» موصولة ، و
«ضره» مبتدأ ، و «أقرب» خبره ، والجملة صلة ، و «لبئس» جواب قسم مقدر ، وهذا القسم
المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو الموصول .
الثاني : أن يجعل «ذلك»
موصولا بمعنى الذي ، و «هو» مبتدأ ، و «الضلال» خبره ، والجملة صلة له ، وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولا ب «يدعو» ، أي :
يدعو الذي هو الضلال وهذا منقول عن أبي علي الفارسي .
وليس هذا ماش على
رأي البصريين إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا «ذا» بشروط تقدم ذكرها.
(وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقا) أن تكون موصولة ، وعلى هذا فيكون (لَمَنْ ضَرُّهُ
أَقْرَبُ) مستأنفا على ما تقدم.
الثالث : أن يجعل «ذلك»
مبتدأ و «هو» جوزوا فيه أن يكون بدلا أو فصلا أو مبتدأ ، و «الضلال» خبر «ذلك» أو
خبر «هو» على حسب الخلاف في «هو» و «يدعو» حال ، والعائد منه محذوف
تقديره : يدعوه وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال ب (مدعوّا) .
قال أبو البقاء :
وهو ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه.
وكأن وجهه أن «يدعو»
مبني للفاعل فلا يناسب أن يقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول بل المناسب أن يقدر
اسم فاعل ، فكان ينبغي أن يقدروه داعيا ، ولو كان التركيب يدعى مبنيا للمفعول لحسن
تقديرهم : مدعو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جاء زيد
__________________
يضرب ، كيف
يقدرونه بضارب لا بمضروب .
فصل
اختلفوا في المراد
بقوله : (يَدْعُوا لَمَنْ
ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.) فقيل : المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم ، لأنه
يصح منهم أن يضروا ، ويؤيد هذا أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا
تضرهم ولا تنفعهم ، وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضارا نافعا ، فلو كان المذكور في هذه الآية هو
الأوثان لزم التناقض.
وقيل المراد
الأوثان ، ثم أجابوا عن التناقض بوجوه :
أحدها : أنها لا
تضر ولا تنفع بأنفسها ، ولكن عبادتها سبب الضرر ، وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سببا للضلال ، فكذلك هنا
نفى الضرر عنهم في الآية الأولى ، بمعنى كونها فاعلة ، وأضاف الضرر إليهم في هذه
الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر.
وثانيها : كأنه
سبحانه بيّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية
الثانية : ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكن ضرها أكثر من نفعها.
وثالثها : أن
الكفار إذ أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها لا نفع ولا ضرر في الدنيا ، ثم
إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها ، فكأنهم يقولون لها في الآخرة إن ضركم أعظم من نفعكم.
قوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ
الْعَشِيرُ) المولى هو الناصر ، والعشير الصاحب والمعاشر.
والمخصوص بالذم
محذوف تقديره : لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو. واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء
أليق ، لأنه لا يكاد يستعمل في الأوثان ، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله الذي هو خير
الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء بقوله تعالى : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) والمراد ذم ما انتصروا بهم .
__________________
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ
إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما
يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ
بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)(١٦)
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. لما بين في الآية السالفة حال عباده المنافقين وحال
معبودهم ، وأن معبودهم لا ينفع ولا يضر بين هاهنا صفة عباده المؤمنين وصفة معبودهم
، وأن عبادتهم حقيقة ، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة ، التي من كمالها
جمعها بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار ، وبين أنه يفعل ما يريد بهم من
أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ) . واحتج أهل السنة في خلق الأفعال بقوله : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) قالوا : أجمعنا على أنه تعالى يريد الإيمان ، ولفظة «ما»
للعموم فوجب أن يكون فاعلا للإيمان لقوله : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ
ما يُرِيدُ).
وأجاب عنه الكعبي
بأن الله تعالى يفعل ما يريد أن يفعله (لا ما يريد أن يفعله) غيره.
وأجيب : بأن هذا
تقييد للعموم وهو خلاف النص .
قوله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ). «من» يجوز أن تكون
شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، والضمير في «ينصره» الظاهر عوده على «من»
، وفسر النصر بالرزق ، وقيل يعود على الدين والإسلام فالنصر على بابه .
قال ابن عباس
والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج: أن الضمير في «ينصره» يرجع إلى محمد ـ عليهالسلام ـ يريد أن من ظن أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه ، وفي
الآخرة بإعلاء درجته ، والانتقام ممن كذبه ، والرسول ـ عليهالسلام ـ وإن لم يجر له ذكر في هذه
__________________
الآية ففيها ما
يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)، والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله .
قوله : (فَلْيَمْدُدْ) إما جزاء للشرط ، أو خبر للموصول ، والفاء للتشبيه بالشرط.
والجمهور على كسر اللام من (لْيَقْطَعْ) ، وسكنها بعضهم كما يسكنها بعد الفاء والواو لكونهن عواطف ، ولذلك أجروا (ثُمَّ) مجراهما في تسكين هاء (هو) و (هي) بعدها ، وهي قراءة الكسائي ونافع في رواية قالون عنه .
قوله : (هَلْ يُذْهِبَنَ) الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافض ، لأن
النظر تعلق بالاستفهام ، وإذا كان بمعنى الفكر تعدى ب (فِي).
وقوله : (ما يَغِيظُ) «ما» موصولة بمعنى
الذي ، والعائد هو الضمير المستتر ، و «ما» وصلتها مفعول بقوله : «يذهبن» أي : هل
يذهبن كيده الشيء الذي يغيظه ، فالمرفوع في «يغيظه» عائد على الذي والمنصوب على (مَنْ كانَ يَظُنُّ). وقال أبو حيان : و «ما» في (ما يَغِيظُ) بمعنى الذي والعائد محذوف أو مصدرية . قال شهاب الدين : كلا هذين القولين لا يصح ، أما قوله :
العائد محذوف فليس كذلك بل هو مضمر مستتر في حكم الموجود كما تقدم تقريره قبل ذلك
، وإنما يقال: محذوف فيما كان منصوب المحل أو مجروره ، وأما قوله : أو مصدرية فليس كذلك أيضا ، إذ لو كانت
مصدرية لكانت حرفا على الصحيح ، وإذا كانت حرفا لم يعد عليها ضمير وإذا لم يعد
عليها ضمير بقي الفعل بلا فاعل ، فإن قلت : أضمر في (يَغِيظُ) ضميرا فاعلا يعود على (مَنْ كانَ يَظُنُّ).
__________________
فالجواب : أن من
كان يظن في المعنى مغيظ لا غائظ. وهذا بحث حسن .
فصل
المعنى : من كان
يظن أن لن ينصر الله نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ، والسبب الحبل
، والسماء سقف البيت هذا قول الأكثرين ، أي : ليشدد حبلا في سقف بيته فليختنق به
حتى يموت ، ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق.
وقيل : سمي
الاختناق قطعا. وقيل : ليقطع ، أي : ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ
ما يَغِيظُ) صنيعه وحيلته ، أي : هل يذهبن كيده وحيلته غيظه. والمعنى :
فليختنق غيظا حتى يموت ، وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعل لأنه لا يمكنه القطع
والنظر بعد الاختناق والموت ، ولكنه كما يقال للحاسد إذا لم ترض بهذا فاختنق ومت
غيظا. وقا ابن زيد : المراد من السماء : السماء المعروفة. ومعنى الآية : من كان
يظن أن لا ينصر الله نبيه ، ويكيد في أمره ليقطعه عنه ، فليقطعه من أصله ، فإن
أصله من السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا
الفعل.
فصل
روي أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى الإسلام ، وكان بينهم وبين اليهود حلف ، وقالوا : لا
يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين
اليهود فلا يميروننا ولا يؤووننا فنزلت هذه الآية وقال مجاهد : النصر يعني الرزق ، والهاء
راجعة إلى «من» ومعناه من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة. نزلت فيمن
أساء الظن بالله ـ عزوجل ـ وخاف أن لا يرزقه (فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي : سماء البيت ، (فَلْيَنْظُرْ هَلْ
يُذْهِبَنَّ) فعله ذلك ما يغيظ وهو خيفة أن لا يرزق. وقد يأتي النصر بمعنى الرزق تقول العرب : من
ينصرني نصره الله ، أي من يعطيني أعطاه الله . قال أبو عبيدة : تقول العرب : أرض منصورة ، أي : ممطورة وعلى كل الوجوه فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه.
__________________
قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) الكاف إما حال من ضمير المصدر المقدر ، وإما نعت لمصدر
محذوف على حسب ما تقدم من الخلاف ، أي : ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ) ف (آياتٍ) حال.
قوله : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي) يجوز في «أن» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها
منصوبة المحل ، عطفا على مفعول (أَنْزَلْناهُ) ، أي : وأنزلنا أن الله يهدي من يريد ، أي : أنزلنا هداية الله
لمن يريد هدايته .
الثاني : أنها على
حذف حرف الجر ، وذلك الحرف متعلق بمحذوف والتقدير : ولأن الله يهدي من يريد أنزلناه ، فيجيء في موضعها
القولان المشهوران أفي محل نصب هي أم جر؟ وإلى هذا ذهب الزمخشري ، وقال في تقديره
: ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون أنزله كذلك مبينا .
الثالث : أنها في
محل رفع خبرا لمبتدأ مضمر تقديره : والأمر أن الله يهدي من يريد .
فصل
قال أهل السنة :
المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة ، أما الأول فغير جائز ؛ لأنه
تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ، ولأن قوله : (يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي متعلقة بمشيئته
سبحانه ، ووضع الأدلة عند الخصم واجب ، فيبقى أن المراد منه خلق المعرفة. قال
القاضي عبد الجبار في الاعتذار : هذا يحتمل وجوها :
أحدها : يكلف من
يريد لأن من كلف أحدا شيئا فقد وصفه له وبينه.
وثانيها : أن يكون
المراد يهدي إلى الجنة والإنابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا.
وثالثها : أن يكون
المراد أن الله يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا هدي ثبت على إيمانه كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله : إن الله يهدي
من قبل لا من لم يقبل ، والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي.
وأجيب عن الأول
بأن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة ، وعن الثاني ، من الشبهات فلا يجوز حمله
على محض التكليف ، وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان ،
__________________
لأنهما عند الخصم
واجبان على الله ، وقوله : (يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) يقتضي عدم الوجوب.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يَشاءُ)(١٨)
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. لما قال : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي
مَنْ يُرِيدُ) أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه. واعلم أن (إن) الثانية
واسمها وخبرها في محل رفع خبرا ل «أن» الأولى قال الزمخشري : وأدخلت «إنّ» على كل واحد من جزأي الجملة لزيادة التأكيد
ونحوه قول جرير :
٣٧٥١ ـ إنّ الخليفة إنّ الله سربله
|
|
سربال ملك به
ترجى الخواتيم
|
قال أبو حيان :
وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية ، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ، ولا يتعين أن يكون البيت كالآية ، لأن البيت
يحتمل أن يكون (إن الخليفة) خبره (به ترجى الخواتيم) ويكون (إنّ الله سربله) جملة اعتراض بين اسم (إنّ) وخبرها بخلاف الآية
فإنه يتعين قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) وحسن دخول «إن» على الجملة الواقعة خبرا لطول الفصل بينهما
بالمعاطيف . قال شهاب الدين : قوله : فإنه يتعين قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) يعني أن يكون خبرا. ليس كذلك ، لأن الآية محتملة لوجهين
آخرين ذكرهما الناس :
__________________
الأول : أن يكون
الخبر محذوفا تقديره : يفترقون يوم القيامة ونحوه ، والمذكور تفسير له كذا ذكره أبو البقاء .
والثاني : أن «إن»
الثانية تكرير للأولى على سبيل التوكيد ، وهذا ماش على القاعدة وهو أن الحرف إذا كرر توكيدا أعيد
معه ما اتصل به أو ضمير ما اتصل به ، وهذا قد أعيد معه ما اتصل به أولا ، وهي الجلالة المعظمة
فلم يتعين أن يكون قوله (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) خبرا ل «إنّ» الأولى كما ذكر . واختلف العلماء في المجوس ، فقيل : قوم يعبدون النار ،
وقيل : الشمس والقمر وقيل : اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح ، وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود شيئا ، وهم القائلون بأن للعالم أصلان ، نور وظلمة ، وقيل
هم قوم يستعملون النجاسات ، والأصل : نجوس ـ بالنون ـ فأبدلت ميما .
ومعنى (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يحكم بينهم ، (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : عالم بما يستحقه كل منهم ، فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف .
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ) الآية. قيل المراد بهذه الرؤية العلم ، أي : ألم تعلم ، وقيل : ألم تر بقلبك . والمراد بالسجود : قال الزجاج : أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والأرض (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا
أَتَيْنا طائِعِينَ) ، (أَنْ يَقُولَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ)(وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللهِ) ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ
__________________
بحمده» ، (وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ). والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه
الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود .
فإن قيل : هذا
التأويل يبطله قوله تعالى (وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ)
، فإن السجود
بالمعنى المذكور عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير
فائدة.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن السجود
بالمعنى المذكور وإن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر
، فهذا الشخص ، وإن كان ساجدا بذاته لا يكون ساجدا بظاهره ، وأما المؤمن فإن ساجد بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.
وثانيها : أن نقطع
قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) عما قبله ، ثم فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن تقدير
الآية : ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون
السجود الأول بمعنى الانقياد ، والثاني بمعنى العبادة ، وإنما فعلنا ذلك لقيام
الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعا.
الثاني : أن يكون
قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب ، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو
قوله : (حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذابُ).
والثالث : أن
يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب ، فيعطف «كثير» على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم
العذاب.
وثالثها : أن من
يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء
العقلاء العبادة ، وفي حق الجمادات الانقياد (ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم
بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد ) فإن قيل : قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عام فيدخل فيه الناس ، فلم قال (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مرة أخرى؟
فالجواب : لو
اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن
كثيرا منهم يسجد طوعا دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك ، وهم الذين حق عليهم
العذاب وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل ،
__________________
بمعنى كونها
معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه ، وعلى هذا تأولوا قوله :
(وَإِن مِّن شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)
.
وقال مجاهد : إنّ
سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى : (يَتَفَيَّأُ
ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ)
. وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين
يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه .
قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). فيه أوجه :
أحدها : أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره : ويسجد له كثير من الناس ، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه ، و الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وذلك أن السجود
المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما في المعنى ، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية
والإذعان لأمره ، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة.
الثاني : أنه
معطوف على (ما تقدمه ) وفي ذلك ثلاث تأويلات :
أحدها : أن المراد
بالسجود القدر المشترك بين الكل العقلاء وغيرهم ، وهو الخضوع والطواعية ، وهو من باب
الاشتراك المعنوي.
والتأويل الثاني :
أنه مشترك اشتراكا لفظيا ، ويجوز استعمال المشترك في معنييه.
والتأويل الثالث :
أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز ، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز
على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول.
الثالث من الأوجه
المتقدمة : أن يكون «كثير» مرفوعا بالابتداء ، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه
وهو قوله : (وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذابُ) كذا قدره الزمخشري ، وقدره أبو البقاء مطيعون أو مثابون أو نحو ذلك .
__________________
الرابع : أن يرتفع
«كثير» على الابتداء أيضا ويكون خبره (مِنَ النَّاسِ) أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة ، وهم الصالحون
والمتقون .
الخامس : أن يرتفع
بالابتداء أيضا ويبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف «كثير» على «كثير» ثم يخبر عنهم ب (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم .
قال أبو حيان بعد
أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال : وهذان التخريجان ضعيفان . (ولم يبين وجه ضعفهما) . قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة
طائلة في الإخبار بذلك ، وأما الثاني فقد يظهر ، وذلك أن التكرير يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف ، وقوله :
٣٧٥٢ ـ لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم
وقرأ الزّهري «والدواب»
مخفف الباء ، قال أبو البقاء : ووجهها أنّه حذف الباء الأولى كراهية
التّضعيف والجمع بين ساكنين . وقرأ جناح بن حبيش : «وكبير» بالباء الموحدة .
وقرىء «وكثير حقا»
بالنصب ، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب
حقا ، و «العذاب» مرفوع بالفاعلية. وقرىء «حقّ» مبنيا للمفعول . وقال ابن عطية : (وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذابُ) يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم أي : وكثير حق عليه
العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره . فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره مبتدأ وخبره
قوله : يسجد.
__________________
فصل
قال ابن عباس في
رواية عطاء : (وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) يوحده ، (وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذابُ) ممن لا يوحده ، وروي عنه أنه قال : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) في الجنة. وهذه الرواية تؤكد أن قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مبتدأ وخبره محذوف. وقال آخرون الوقف على قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم استأنف بواو الاستئناف فقال : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ).
(وأما قوله تعالى (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ) فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم مكرما لهم. ثم بين بقوله (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ
ما يَشاءُ) أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب
والعقاب.
قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ
فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما
فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ
مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(٢٤)
قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ) الآية. لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ، ومنهم
من حق عليه العذاب ذكر هاهنا كيفية اختصامهم. والخصم : في الأصل مصدر ولذلك يوحد
ويذكر غالبا ، وعليه قوله تعالى (نَبَأُ الْخَصْمِ
إِذْ تَسَوَّرُوا).
ويجوز أن يثنى
ويجمع ويؤنث ، وعليه هذه الآية. ولما كان كل خصم فريقا يجمع طائفة قال (اخْتَصَمُوا) بصيغة الجمع كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) فالجمع مراعاة للمعنى وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما» مراعاة للفظ وهي مخالفة للسواد. وقال أبو البقاء : وأكثر
الاستعمال توحيده فيمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء. و (اخْتَصَمُوا) إنما جمع حملا على المعنى لأن كل خصم تحته أشخاص .
__________________
وقال الزمخشري :
الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق ، فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان يختصمان ،
وقوله : «هذان» للفظ ، و (اخْتَصَمُوا) للمعنى ، كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا) ، ولو قيل : هؤلاء خصمان أو اختصما جاز أن يراد المؤمنون والكافرون . قال شهاب الدين : إن عنى بقوله : أن خصما صفة بطريق الاستعمال المجازي فمسلم ، لأن المصدر يكثر
الوصف به ، وإن أراد أنه صفة حقيقية فخطأه ظاهر لتصريحهم بأن نحو رجل خصم مثل رجل
عدل ، وقوله : «هذان» للفظ . أي : إنما أشير إليهم إشارة المثنى ، وإن كان في الحقيقة
المراد الجمع باعتبار لفظ الفوجين والفريقين ونحوهما. وقوله : كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ) إلى آخره فيه نظر ، لأن في تيك الآية تقدم شيء له لفظ
ومعنى وهو «من» ، وهنا لم يتقدم شيء له لفظ ومعنى.
وقوله تعالى : (فِي رَبِّهِمْ) أي : في دين ربهم ، ، فلا بد من حذف مضاف أي جادلوا في دينه وأمره. وقرأ
الكسائي في رواية عنه «خصمان» بكسر الخاء . واحتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله : (هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا.) وأجيب بأن المعنى جمع كما تقدم .
فصل
اختلفوا في تفسير
الخصمين ، فقيل : المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم ، وطائفة الكفار وجماعتهم ، وأن
كل الكفار يدخلون في ذلك ، قال ابن عاس : رجع أهل الأديان الستة (فِي رَبِّهِمْ) أي في ذاته وصفاته. وقيل : إنّ أهل الكتاب قالوا : نحن أحق
بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا
بمحمد وآمنا بنبيكم وما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم
تكتمونه ، وكفرتم به حسدا ، فهذه خصومتهم فى ربهم. وقيل : هو ما روى قيس بن عباد عن أبي ذر الغفاري
__________________
أنه كان يحلف
بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة
بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن المغيرة. وقال علي ـ رضي الله عنه
ـ أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله . وقال عكرمة : هما الجنة والنار.
قالت النار :
خلقني الله لعقوبته ، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله على محمد
خبرهما. والأقرب هو الأول ؛ لأن السبب وإن كان خاصا فالواجب حمل الكلام على ظاهره.
وقوله : «هذان» كالإشارة إلى ما تقدم ذكره ، وهم الأديان الستة المذكورون
في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).
وأيضا ذكر صنفين
أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب ، فوجب رجوع ذلك إليهما ، فمن خص به
مشركي العرب واليهود من حيث قالوا في نبيهم وكتابهم ما حكينا فقد أخطأ ، وهذا هو الذي يدل على أن قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أراد به الحكم ، لأن ذلك التخاصم يقتضي أن الواقع بعده
حكما . فبين تعالى حكمه في الكفار ، وذكر من أحوالهم ثلاثة أمور :
أحدها : قوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيابٌ مِنْ نارٍ)
، وهذه الجملة
تفصيل وبيان لفصل الخصومة المعني بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ) قاله الزمخشري .
وعلى هذا فيكون (هذانِ خَصْمانِ) معترضا ، والجملة من (اخْتَصَمُوا) حالية وليست مؤكدة لأنها أخص من مطلق الخصومة المفهومة من (خَصْمانِ) وقرأ الزعفراني في اختياره «قطعت» مخفف الطاء ، والقراءة المشهورة تفيد التكثير وهذه تحتمله. والمراد
بالثياب إحاطة النار بهم كقوله (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ
مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) ، وقال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب . وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار.
__________________
قوله : (يُصَبُّ) هذه الجملة تحتمل أن تكون خبرا ثانيا للموصول ، وأن تكون
حالا من الضمير في «لهم» ، وأن تكون مستأنفة . والحميم الماء الحار الذي انتهت حرارته ، قال ابن عباس :
لو قطرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها .
قوله : (يُصْهَرُ) جملة حالية من الحميم ، والصهر الإذابة ، يقال : صهرت الشحم ، أي : أذبته ، والصهارة
الألية المذابة ، وصهرته الشمس : أذابته بحرارتها ، قال :
٣٧٥٣ ـ تصهره الشّمس ولا ينصهر
وسمي الصّهر صهرا
لامتزاجه بأصهاره تخيلا لشدة المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين «يصهر» بفتح الصاد
وتشديد الهاء مبالغة وتكثيرا لذلك ، والمعنى : أن الحميم الذي يصب من
فوق رؤوسهم يذيب ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء .
قوله : (وَالْجُلُودُ) فيه وجهان :
أظهرهما : عطفه
على «ما» الموصولة ، أي : يذيب الذي في بطونهم من الأمعاء ، ويذاب أيضا الجلود ،
أي يذاب ظاهرهم وباطنهم .
والثاني : أنه
مرفوع بفعل مقدر أي : يحرق الجلود .
قالوا : لأن الجلد
لا يذاب إنما ينقبض وينكمش إذا صلي بالنار ، وهو في التقدير كقوله :
٣٧٥٤ ـ علفتها تبنا (وماء باردا)
__________________
٣٧٥٥ ـ وزجّجن الحواجب والعيونا
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) فإنه على تقدير : وسقيتها ماء ، وكحلن العيون ، واعتقدوا
الإيمان. قوله : (وَلَهُمْ مَقامِعُ) يجوز في هذا الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه
يعود على (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وفي اللام حينئذ قولان :
أحدهما : أنها
للاستحقاق. والثاني : أنها بمعنى (على) كقوله : (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) وليس بشيء.
والوجه الثاني : أن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم ، ودل عليهم سياق الكلام ، وفيه بعد. (مِنْ حَدِيدٍ) صفة ل (مَقامِعُ) ، وهي مقمعة بكسر الميم ، لأنها آلة القمع ، يقال: قمعه يقمعه : إذا ضربه بشيء يزجره به ، ويذله ،
والمقمعة : المطرقة ، وقيل : السوط ، أي : سياط من حديد ، وفي الحديث «لو وضعت
مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان (ما أقلوها» ).
قوله : (كُلَّما أَرادُوا). «كلّ» نصب على الظرف ، وتقدم الكلام في تحقيقها في البقرة
، والعامل فيها هنا قوله : (أُعِيدُوا). و (مِنْ غَمٍّ) فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بدل
من الضمير في «منها» بإعادة العامل بدل اشتمال كقوله :
__________________
(لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) ، ولكن لا بد في بدل الاشتمال من رابط ، فقالوا : هو مقدر
تقديره : من غمها .
والثاني : أنه
مفعول له ، ولما نقص شرط من شروط النصب جر بحرف السبب . وذلك الشرط هو عدم اتحاد الفاعل ، فإن فاعل الخروج غير
فاعل الغم ، فإن الغم من النار والخروج من الكفار. واعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، والمعنى : كلما أرادوا
أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها. ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن : أن
النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها
سبعين خريفا .
قوله : (وَذُوقُوا) منصوب بقول مقدر معطوف على (أُعِيدُوا) أي : وقيل لهم : (ذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) ، أي : المحرق مثل الأليم والوجيع. قال الزجاج : هو لأحد
الخصمين ، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ).
قوله : (يُحَلَّوْنَ) العامة على ضم
الياء وفتح اللام مشددة من حلاه يحلّيه إذا ألبسه الحليّ . وقرىء بسكون الحاء وفتح اللام مخففة ، وهو بمعنى الأول كأنهم عدوه تارة بالتضعيف وتارة
بالهمزة. قال أبو البقاء : من قولك : أحلي أي : ألبس الحلي هو بمعنى المشدد.
وقرأ ابن عباس
بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه من
حليت المرأة تحلى فهي حال ، وكذلك حلي الرجل فهو حال ، إذا لبسا الحلي (أو صارا
ذوي حلي ) .
__________________
الثاني : أنه من
حلي بعيني كذا يحلى إذا استحسنه ، و «من» مزيدة في قوله (مِنْ أَساوِرَ) قال : فيكون المعنى : يستحسنون فيها الأساور الملبوسة ولما نقل أبو حيان هذا الوجه عن أبي الفضل الرازي قال :
وهذا ليس بجيد ، لأنه جعل حلي فعلا متعديا ، ولذلك حكم بزيادة (من) في الواجب وليس مذهب
البصريين ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز ، لأنه لا يحفظ بهذا
المعنى إلا لازما ، فإن كان بهذا المعنى كانت «من» للسبب ، أي بلباس أساور الذهب
يحلّون بعين من رآهم أي يحلى بعضهم بعين بعض .
وهذا الذي نقله عن
أبي الفضل قاله أبو البقاء ، وجوز في مفعول الفعل وجها آخر فقال : ويجوز أن يكون
من حلي بعيني كذا إذا حسن ، وتكون «من» مزيدة ، أو يكون المفعول محذوفا و (مِنْ أَساوِرَ) نعت له . فقد حكم عليه بالتعدي ليس إلا ، وجوز في المفعول الوجهين
المذكورين .
والثالث : أنه من
حلي بكذا إذا ظفر به ، فيكون التقدير : يحلّون بأساور ، و «من» بمعنى الباء ، ومن مجيء حلي بمعنى ظفر قولهم : لم يحل فلان بطائل أي :
لم يظفر به .
واعلم أن حلي
بمعنى لبس الحلي أو بمعنى ظفر من مادة الياء لأنها من الحلية وأما حلي بعيني كذا ، فإنه من مادة الواو ؛ لأنه من الحلاوة ،
وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .
قوله : (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ). في من الأولى ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها
زائدة كما تقدم تقريره عن الرازي وأبي البقاء ، وإن لم يكن من أصول البصريين.
الثاني : أنها
للتبعيض أي : بعض أساور.
الثالث : أنها
لبيان الجنس قاله ابن عطية ، وبه بدأ وفيه نظر ، إذ لم يتقدم شيء
__________________
مبهم وفي (مِنْ ذَهَبٍ) لابتداء الغاية ، وهي نعت لأساور . كما تقدم.
وقرأ ابن عباس «من
أسور» دون ألف ولا هاء ، وهو محذوف من (أَساوِرَ) كما قالوا : جندل والأصل جنادل. قال أبو حيان : وكان قياسه
صرفه ، لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنعه الصرف . قال شهاب الدين : فقد جعل التنوين في جندل المقصور من
جنادل تنوين صرف ، وقد نصّ بعض النحاة على أنه تنوين عوض ، كهو في جوار وغواش وبابهما والأساور جمع سوار.
قوله : (وَلُؤْلُؤاً) قرأ نافع وعاصم بالنصب ، والباقون بالخفض . فأما النصب ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه منصوب
بإضمار فعل تقديره : ويؤتون لؤلؤا ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وكذا أبو الفتح حمله على إضمار فعل .
الثاني : أنه
منصوب نسقا على موضع (مِنْ أَساوِرَ) وهذا كتخريجهم (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب عطفا على محل (بِرُؤُسِكُمْ) ، ولأن (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ) في قوة : يلبسون أساور ، فحمل هذا عليه .
الثالث : أنه عطف
على (أَساوِرَ) ، لأن «من» مزيدة فيها كما تقدم.
الرابع : أنه
معطوف على ذلك المفعول المحذوف ، التقدير يحلون فيها الملبوس من أساور ولؤلؤا ف (لُؤْلُؤاً) عطف على الملبوس.
__________________
وأما الجر فعلى
وجهين :
أحدهما : عطفه على
(أَساوِرَ).
والثاني : عطفه
على (مِنْ ذَهَبٍ) ، (لأنّ السوار يتخذ من اللؤلؤ أيضا بنظم بعضه إلى بعض. فقد منع أبو البقاء أن يعطف على (ذَهَبٍ)) . قال : لأنّ السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة . قال شهاب الدين : بل قد يتخذ منه في العادة السوار .
واختلف الناس في
رسم هذه اللفظة في الإمام فنقل الأصمعي أنها في الإمام «لؤلؤ» بغير ألف بعد الواو . ونقل الجحدري أنها ثابتة في الإمام بعد الواو وهذا الخلاف بعينه قراءة وتوجيها جار في حرف فاطر أيضا . وقرأ أبو بكر في رواية المعلى بن منصور عنه «لؤلوا» بهمزة أولا وواو آخرا وفي رواية يحيى عنه عكس
ذلك .
وقرأ الفياض «ولوليا» بواو
أولا وياء آخرا ، والأصل (لُؤْلُؤاً) أبدل الهمزتين واوين ، فبقي في آخر الاسم واو بعد ضمة ،
ففعل فيها ما فعل بأدل جمع دلو بأن قلبت الواو ياء والضمة كسرة.
__________________
وقرأ ابن عباس «وليليا»
بياءين فعل ما فعل الفياض ثم أتبع الواو الأولى للثانية في القلب وقرأ طلحة «ولول» بالجر عطفا على المجرور قبله ، وقد تقدم ، والأصل ولولو بواوين ثم أعل إعلال أدل . واللؤلؤ قيل : كبار الجوهر ، وقيل : صغاره .
قوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم والمعنى أنه تعالى
يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا. قال عليهالسلام «من لبس الحرير في
الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» .
قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ
الْقَوْلِ.) يجوز أن يكون (مِنَ الْقَوْلِ) حالا من (الطَّيِّبِ) ، وأن يكون حالا من الضمير المستكن فيه . و «من» للتبعيض أو للبيان.
قال ابن عباس : الطيب من القول : شهادة أن لا إله إلا الله ، ويؤيد هذا
قوله : (مَثَلاً
كَلِمَةً طَيِّبَةً) وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ). وهو صراط الحميد ، لقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقال ابن زيد : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله
وسبحان الله. وقال السدي : هو القرآن. وقال ابن عباس في رواية عطاء : هو قول أهل
الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ). (وَهُدُوا إِلى صِراطِ
الْحَمِيدِ) إلى
__________________
دين الله وهو
الإسلام ، و (الْحَمِيدِ) هو الله المحمود في أفعاله .
قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢)
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية. لما فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ،
وعظم كفر هؤلاء فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد .
قال ابن عباس :
نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عام الحديبية عن المسجد الحرام وعن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا
الهدي ، فكره رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قتالهم وهو محرم ، ثم صالحوه على أن يعود في العام
القابل .
قوله : (وَيَصُدُّونَ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف
على ما قبله ، وحينئذ ففي عطفه على الماضي ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنّ
المضارع قد لا يقصد به الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يراد به مجرد
الاستمرار ، فكأنه قيل : إنّ الذين كفروا ومن شأنهم الصدّ عن سبيل الله ، ومثله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) .
الثاني : أنه مؤول
بالماضي لعطفه على الماضي .
الثالث : أنه على
بابه فإن الماضي قبله مؤول بالمستقبل .
الوجه الثاني :
أنه حال من فاعل «كفروا» ، وبه بدأ أبو البقاء . وهو فاسد ظاهرا ، لأنه مضارع مثبت وما كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول ،
فلا يحمل عليه القرآن . وعلى هذين القولين فالخبر محذوف ، واختلفوا
__________________
في موضع تقديره ،
فقدره ابن عطية بعد قوله : (وَالْبادِ) أي : إن الذين كفروا خسروا أو أهلكوا ، ونحو ذلك .
وقدره الزمخشري
بعد قوله : (وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) أي إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم ، وإنما قدره كذلك ؛ لأن قوله : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ) يدل عليه . إلا أن أبا حيان في تقدير الزمخشري بعد (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : لا يصح ، قال : لأن «الذي» صفة للمسجد الحرام ، فموضع
التقدير هو بعد (وَالْبادِ). يعني أنه يلزم من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو خبر «إن»
فيصير التركيب : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من
عذاب أليم الذي جعلناه للناس.
وللزمخشري أن
ينفصل عن هذا الاعتراض بأن (الَّذِي جَعَلْناهُ) لا نسلم أنه نعت للمسجد حتى يلزم ما ذكر بل نجعله مقطوعا عنه نصبا أو رفعا . ثم قال أبو حيان : لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن
عطية ، لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ وابن عطية لحظ من جهة
المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك .
الوجه الثالث : أن
الواو في (وَيَصُدُّونَ) مزيدة في خبر «إن» تقديره : إن الذين كفروا (يصدون) . وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه . وقال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود . قال شهاب الدين : ولا أدري فساد المعنى من أي جهة ألا ترى
لو صرح بقولنا : (إن الذين كفروا يصدون) لم يكن فيه فساد معنى ، فالمانع إنما هو
أمر صناعي عند أهل البصرة لا معنوي ، اللهم إلا أن يريد معنى خاصا يفسد بهذا
التقدير فيحتاج إلى بيانه .
قوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ) يجوز جره على النعت والبيان ، والنصب بإضمار فعل ،
__________________
والرفع بإضمار
مبتدأ. والجعل يجوز أن يتعدى لا ثنين بمعنى صير ، وأن يتعدى لواحد. والعامة على
رفع «سواء». وقرأ حفص عن عاصم بالنصب هنا ، وفي الجاثية (سَواءً مَحْياهُمْ) وافقه على الذي في الجاثية الأخوان وسيأتي توجيهه. فأما على قراءة الرفع ، فإن قلنا : إن «جعل»
بمعنى (صير) كان في المفعول الثاني ثلاثة أوجه :
أظهرها : أن الجملة من قوله : (سَواءً الْعاكِفُ
فِيهِ) هي المفعول الثاني ، ثم الأحسن في رفع «سواء» أن يكون خبرا مقدما ، و (الْعاكِفُ) ، والبادي مبتدأ مؤخر ، وإنما وحد الخبر وإن كان المبتدأ
اثنين ، لأن «سواء» في الأصل مصدر وصف به ، وقد تقدم أول البقرة . وأجاز بعضهم أن يكون «سواء» مبتدأ ، وما بعده الخبر ، وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوغ ،
ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة المبتدأ. وعلى هذا الوجه أعني كون الجملة
مفعولا ثانيا فقوله : «للناس» يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق
بالجعل ، أي : جعلناه لأجل الناس كذا.
والثاني : أن
يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «جعلناه» ، ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا
الوجه غير ذلك ، وليس معناه متضحا.
الوجه الثاني : أن
«للناس» هو المفعول الثاني ، والجملة من قوله : (سَواءً الْعاكِفُ) في محل نصب على الحال ، إما من الموصول وإما من عائده
وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، وفيه نظر ؛ لأنه جعل هذه الجملة التي هي محط الفائدة
فضلة.
__________________
الوجه الثالث : أن
المفعول الثاني محذوف. قال ابن عطية : المعنى الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبدا. فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه. إلا أن أبا حيان
قال : ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ ؛ لأن الجملة في موضع
المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله : «للناس» متعلقا
بالجعل على الغلبة وجوز فيه أبو البقاء وجهين آخرين :
أحدهما : أنه حال
من مفعول «جعلناه».
والثاني : أنه
مفعول تعدى إليه بحرف الجر .
وهذا الثاني لا
يتعقل كيف يكون «للناس» مفعولا عدي إليه الفعل بالحرف هذا ما لا يعقل ، فإن أراد
أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة. وأما على قراءة حفص فإن قلنا
: «جعل» يتعدى لا ثنين كان «سواء» مفعولا ثانيا . وإن قلنا : يتعدى لواحد كان حالا من هاء «جعلناه» وعلى التقديرين ف «العاكف» مرفوع به على الفاعلية ؛ لأنه
مصدر وصف به ، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق ، تقديره : جعلناه مستويا فيه العاكف
، ويدل عليه قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، فهو تأكيد للضمير المستتر فيه ، والعدم نسق على الضمير المستتر
؛ ولذلك ارتفع ، ويروى : سواء والعدم ؛ بدون تأكيد وهو شاذ وقرأ الأعمش وجماعة «سواء» نصبا «العاكف» جرا ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل
من الناس بدل تفصيل .
__________________
والثاني : أنه عطف
بيان ، فهذا أراد ابن عطية بقوله : عطفا على الناس .
ويمتنع في هذه
القراءة رفع «سواء» لفساده صناعة ومعنى ، ولذلك قال أبو البقاء : و «سواء» على هذا نصب لا غير . وأثبت ابن كثير ياء «والبادي» وقفا وو صلا . وأثبتها أبو عمرو وو رش وصلا وحذفاها وقفا. وحذفها
الباقون وصلا وو قفا ، وهي محذوفة في الإمام .
فصل
معنى الكلام :
ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال :
(وُضِعَ لِلنَّاسِ) وتقدم الكلام على معنى «سواء» باختلاف القراءة.
وأراد ب (الْعاكِفُ) المقيم فيه ، و «البادي» الطارى من البدو ، وهو النازع إليه من غربته . وقال بعضهم : يدخل في «العاكف» الغريب إذا جاور ولزمه
كالبعيد وإن لم يكن من أهله. واختلفوا في معنى «سواء» فقال ابن عباس في بعض
الروآيات : إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها ، فليس أحدهما أحق بالنزول الذي
يكون فيه من الآخر إلا أن يكون أحدهما سبق إلى المنزل ، وهو قول قتادة وسعيد بن
جبير ، ومن مذهب هؤلاء تحريم كراء دور مكة وبيعها ، واستدلوا بالآية والخبر أما الآية فهذه ،
قالوا : إن أرض مكة لا تملك ، فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والباد ، فلما
استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد. وأما الخبر فقوله عليهالسلام : «مكة مناخ لمن سبق إليه»
__________________
وهذا مذهب ابن عمر
وعمر بن عبد العزيز وأبي حنفية وإسحاق الحنظلي .
وقال عبد الرحمن
بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة أحق
بمنزله منهم . وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ينهى الناس أن
يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا فالمراد ب (الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) الحرم كله ؛ لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام وإرادة البلد الحرام جائز لقوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). وأيضا فقوله: (الْعاكِفُ) المراد منه المقيم ، وإقامته لا تكون في المسجد بل في
المنازل . وقيل : «سواء العاكف فيه والبادي» في تعظيم حرمته وقضاء
النسك به وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، أي ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ،
قال عليهالسلام : «يا بني عبد المطلب من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا
يمنعن أحدا طائف بهذا البيت أو صلى أية ساعة من ليل أو نهار» وهذا قول من أجاز بيع دور مكة.
وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة وكان إسحاق لا يرخص في
كراء بيوت مكة ، فاحتج الشافعي بقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ).
فأضاف الديار إلى
مالكيها أو إلى غير مالكيها . وقال عليهالسلام يوم فتح مكة : «من أغلق بابه فهو آمن» ، وقوله عليهالسلام : «هل ترك لنا عقيل من رباع» . وقد اشترى عمر بن الخطاب دار السجن ، أترى أنه اشتراها من
مالكيها أو من غير مالكيها .
__________________
قال إسحاق : فلما
علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي . والقول بجواز بيع دور مكة وإجارتها قول طاوس وعمرو بن دينار وبه قال الشافعي.
قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن مفعول «يرد» محذوف ، وقوله : (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفان ، والتقدير: ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما نذقه من عذاب إليم. وإنما حذف
ليتناول كل متناول ، قال معناه الزمخشري .
والثاني : أن
المفعول أيضا محذوف تقديره : ومن يرد فيه تعديا ، و (بِإِلْحادٍ) حال ، أي: ملتبسا بإلحاد ، و «بظلم» بدل بإعادة الجار .
الثالث : أن يكون «بظلم»
متعلقا ب «يرد» والباء للسببية ، أي : بسبب الظلم و (بِإِلْحادٍ) مفعول به ، والباء مزيدة فيه كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ).
٣٧٥٦ ـ لا يقرأن بالسور
وإليه ذهب أبو
عبيدة ، وأنشد للأعشى :
٣٧٥٧ ـ ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
__________________
أي : ضمنت رزق.
ويؤيده قراءة الحسن : «ومن يرد إلحاده بظلم» .
قال الزمخشري :
أراد إلحاده فيه ، فأضافه على الاتساع في الظرف ك (مَكْرُ اللَّيْلِ) ومعناه : ومن يرد أن يلحد فيه ظالما .
الرابع : أن تضمن «يرد»
معنى يلتبس فذلك تعدى بالباء ، أي : ومن يلتبس بإلحاد مريدا له . والعامة على «يرد» بضم الياء من الإرادة . وحكى الكسائي والفراء أنه قرىء «يرد» بفتح الياء ، قال الزمخشري : من الورود ومعناه : من أتى فيه بإلحاد
ظالما .
فصل
الإلحاد : العدول
عن القصد ، وأصله إلحاد الحافر. واختلف المفسرون فيه ، فقيل : إنه الشرك ، أي من
لجأ إلى الحرم ليشرك به عذّبه الله ، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس ، وهو قول
مجاهد وقتادة. وروي عن ابن عباس هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم من
لا يظلمك . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سعد حيث استسلمه النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فارتد مشركا ، وفي قيس بن (ضبابة) . وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن خطل حيث قتل الأنصاريّ
وهرب إلى مكة كافرا ، فأمر النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بقتله يوم الفتح . وقال مجاهد : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات .
__________________
وعن سعيد بن جبير
وحبيب بن أبي ثابت : هو احتكار الطعام بمكة . وعن عطاء هو قول الرجل في المبايعة : لا والله وبلى والله
. وعن عبد الله بن عمر : أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله
عاتبهم في الحل ، فقيل له في ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول
الرجل كلا والله ، وبلى والله .
وعن عطاء : هو
دخول الحرم غير محرم وارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر . ولما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بيّن تعالى
أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلا إلى الظلم فلهذا قرن الظلم بالإلحاد ؛ لأنه
لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم ، ولذلك قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
وقوله : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) بيان للوعيد.
قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ
الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٢٩)
قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ
الْبَيْتِ) الآية. أي ؛ اذكر حين ، واللام في «لإبراهيم» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها
للعلة ، ويكون مفعول «بوّأنا» محذوفا ، أي : بوأنا الناس لأجل إبراهيم مكان البيت ، و «بوّأ» جاء متعديا صريحا قال تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي
__________________
إسرائيل» (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
غُرَفاً) ، وقال الشاعر :
٣٧٥٨ ـ كم صاحب لي صالح
|
|
بوّأته بيديّ
لحدا
|
والثاني : أنها
مزيدة في المفعول به ، وهو ضعيف لما تقرر أنها لا تزاد إلا بعد تقدم معمول أو
كان العامل فرعا.
الثالث : أن تكون
معدية للفعل على أنه مضمن معنى فعل يتعدى بها ، أي ؛ هيأنا له مكان البيت ، كقولك
: هيأت له بيتا ، فتكون اللام معدية قال معناه أبو البقاء .
وقال الزمخشري :
واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة ففسر المعنى بأنه ضمن «بوأنا» معنى (جعلنا) ، ولا يريد
تفسير الإعراب. وفي (مَكانَ الْبَيْتِ) وجهان :
أظهرهما : أنه
مفعول به .
والثاني : قال أبو
البقاء : أن يكون ظرفا . وهو ممتنع من حيث إنه ظرف مختص فحقه أن يتعدى إليه ب (في).
فصل
روي أن الكعبة
الكريمة بنيت خمس مرات :
أحدها : بناء الملائكة قبل آدم ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم
رفعت إلى السماء أيام الطوفان.
والثانية : بناء
إبراهيم ـ عليهالسلام ـ.
والثالثة : بناء
قريش في الجاهلية ، وقد حضر رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذا البناء.
__________________
والرابعة : بناء
ابن الزبير .
والخامسة : بناء
الحجاج وهو البناء الموجود اليوم.
وروى أبو ذر قال :
قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : «المسجد الحرام».
قال : ثم قلت : أي؟
قال : «المسجد الأقصى». قلت : كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة» والمسجد الأقصى أسسه يعقوب ـ عليهالسلام ـ وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «بعث الله جبريل عليهالسلام إلى آدم وحواء فقال لهما : ابنيا لي بيتا ، فخطّ لهما
جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته : حسبك يا آدم. فلما
بنياه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به ، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت ، ثم
تناسخت القرون حتى حجه نوح ، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه». روي
عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم ـ عليهالسلام ـ أن ابن لي بيتا في الأرض ، فضاق به زرعا ، فأرسل الله
السكينة وهي ريح خجوج لها رأس ، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ، ثم تطوقت في
موضع البيت تطوّق الحية ، فبنى إبراهيم حتى إذا بلغ مكان الحجر ، قال لابنه :
ابغني حجرا ، فالتمس حجرا حتى أتاه به ، فوجد الحجر الأسود قد ركب ، فقال لأبيه : من أين لك هذا؟ قال : جاء به من لا يتكل على بنائك ، جاء
به جبريل من السماء فأتمه ، قال : فمرّ عليه الدهر فانهدم ، فبنته العمالقة ، ثم
انهدم فبنته جرهم ، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يومئذ رجل شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود
اختصموا فيه فقالوا : نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة ، فكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أول من خرج ، فقضى بينهم أن يجعلوه في مربط ثم ترفعه
جميع القبائل كلهم ، فرفعوه ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فوضعه ، وكانوا
يدعونه الأمين . قال موسى بن عقبة : كان بناء
__________________
الكعبة قبل المبعث
بخمس عشرة سنة. قال ابن إسحاق : كانت الكعبة على عهد النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثماني عشرة ذراعا ، وكانت تكسى القباطي ، ثم كسيت البرود ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .
وأما المسجد
الحرام فأول من أخر بنيان البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب اشتراها من أهلها
وهدمها ، فلما كان عثمان اشترى دورا وزادها فيه ، فلما ولّي ابن الزبير أحكم
بنيانه وأكثر أبوابه وحسن جدرانه ، ولم يوسعه شيئا آخر ، فلما استوى الأمر إلى عبد
الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج ، وتولى
ذلك بأمره الحجاج.
وروي أن الله
تعالى لما أمر إبراهيم ـ عليهالسلام ـ ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله تعالى ريحا خجوجا فكشفت
ما حول البيت عن الأساس. وقال الكلبي : بعث الله سحابة بقدر البيت ، فقامت بحيال البيت فيها رأس يتكلم وله لسان
وعينان يا إبراهيم ابن على قدري وحيالي ، فبنى عليه.
قوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ) في «أن» هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها هي
المفسرة . قال الزمخشري بعد أن ذكر هذا الوجه : فإن قلت : كيف يكون
النهي عن الشرك ، والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة. قلت : كانت التبوئة مقصودة
من أجل العبادة ، وكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا لا تشرك . يعني الزمخشري أن «أن» المفسرة لا بد أن يتقدمها ما هو بمعنى القول لا
حروفه ولم يتقدم
__________________
إلا لتبوئة وليست
بمعنى القول فضمنها معنى القول ، ولا يريد بقوله : قلنا : لا تشرك. تفسير الإعراب
بل تفسير المعنى ، لأن المفسرة لا تفسر القول الصريح .
الثاني : أنها
المخففة من الثقيلة. قاله ابن عطية . وفيه نظر من حيث إن (أن) المخففة لا بد أن يتقدمها فعل
تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة .
الثالث : أنها
المصدرية التي تنصب المضارع ، وهي توصل بالماضي والمضارع والأمر ، والنهي كالأمر ، وعلى هذا ف «أن» مجرورة بلام العلة مقدرة أي : بوأناه
لئلا تشرك ، وكان من حق اللفظ على هذا الوجه أن يكون «أن لا يشرك» بياء الغيبة ،
وقد قرىء بذلك ، قال أبو البقاء : وقوى ذلك قراءة من قرأة بالياء . يعني من تحت. ووجه قراءة العامة على هذا التخريج أن يكون من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
الرابع : أنها
الناصبة ومجرورة بلام أيضا ، إلا أن اللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعلنا ذلك لئلا
تشرك ، فجعل النهي صلة لها ، وقوّى ذلك قراءة الياء قاله أبو البقاء . والأصل عدم التقدير مع عدم الاحتياج إليه. وقرأ عكرمة
وأبو نهيك «أن لا يشرك» بالياء .
قال أبو حيان :
على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له . وقال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة
بمعنى : لئلا يشرك . قال شهاب الدين : كأنه لم يظهر له صلة (أن) المصدرية
بجملة النهي ؛ فجعل (لا) نافية ، وسلّط (أن) على
__________________
المضارع بعدها حتى
صار علة للفعل قبله ، وهذا غير لازم لما تقدم من وضوح المعنى مع جعلها ناهية .
فصل
وههنا سؤالات :
الأول : إذا قلنا
: أنّ (أن) هي المفسرة : فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا
للتبوئة؟
والجواب : أنه
سبحانه لما قال : جعلنا البيت مرجعا لإبراهيم ، فكأنه قيل : ما
معنى كون البيت مرجعا له ، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحدا لرب البيت عن الشريك والنظير مشتغلا بتنظيف البيت عن
الأوثان والأصنام.
السؤال الثاني :
أن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ لما لم يشرك بالله فيكف قيل : (لا تُشْرِكْ بِي)؟
والجواب : المعنى
: لا تجعل في العبادة لي شريكا ، ولا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت.
السؤال الثالث :
أنّ البيت ما كان معمورا قبل ذلك فكيف قال : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ).
والجواب : لعل ذلك
المكان كان صحراء فكانوا يرمون إليها الأقذار ، فأمر إبراهيم ببناء ذلك البيت في ذلك المكان وتطهيره عن الأقذار ، أو كانت معمورة
وكانوا وضعوا فيها أصناما ، فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد ، فذلك هو التطهير عن الأوثان ، أو يكون
المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك.
وقوله : «للطّائفين»
قال ابن عباس : للطائفين بالبيت من غير أهل مكة (وَالْقائِمِينَ) أي : المقيمين فيها ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي : المصلين من الكل ، وقيل : القائمون هم المصلون .
قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ). قرأ العامة بتشديد الذال بمعنى (ناد) .
__________________
وقرأ الحسن وابن
محيصن «آذن» بالمد والتخفيف بمعنى أعلم . ويبعده قوله : (فِي النَّاسِ) إذ كان ينبغي أن
يتعدى بنفسه. ونقل أبو الفتح عنهما أنهما قرءا بالقصر وتخفيف الذال ، وخرجها أبو الفتح وصاحب اللوامح على أنها عطف على «بوّأنا»
أي : واذكر إذ بوأنا وإذ أذن في الناس ، وهي تخريج واضح . وزاد صاحب اللوامح فقال : فيصير في الكلام تقديم وتأخير
ويصير «يأتوك» جزما على جواب الأمر في «وطهّر» . ونسب ابن عطية أبا الفتح في هذه القراءة إلى التصحيف فقال
بعد أن حكى قراءة الحسن وابن محيصن «وآذن» بالمد : وتصحف هذا على ابن جنيّ فإنه
حكى عنهما (وَأَذِّنْ) على أنه فعل ماض وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على «بوّأنا» . قال شهاب الدين : ولم يتصحف عليه بل حكى هذه القراءة أبو
الفضل الرازي في اللوامح له عنهما ، وذكرها أيضا ابن خالويه ، ولكنه لم يطلع عليها ، فنسب من اطّلع عليها للتصحيف ،
ولو تأنّى أصاب أو كاد .
وقرأ ابن أبي
إسحاق «بالحجّ» بكسر الحاء حيث وقع كما تقدم.
فصل
قال أكثر المفسرين
: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال الله له : (أَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ) ، قال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال : عليك الأذان وعليّ
البلاغ فصعد إبراهيم الصفا ، وفي رواية أبا قبيس ، وفي رواية على المقام. فارتفع
المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه ، وأقبل بوجهه يمينا وشمالا
وشرقا وغربا وقال : يا
__________________
أيها الناس ألا إن
ربكم قد بنى بيتا ، وقد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم ، فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك
اللهم لبيك. قال ابن عباس : فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا . وقال مجاهد : من أجاب مرّة حجّ مرّة ومن أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار . قال ابن عباس : لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له
الجبال وخفضت وارتفعت له القرى . وقال الحسن وأكثر المعتزلة : إنّ المأمور بالأذان هو محمد
ـ عليهالسلام ـ واحتجوا بأن ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أن محمدا
هو المخاطب فهو أولى وقد بينا أن قوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا) ، أي : واذكر يا محمد إذ بوأنا ، فهو في حكم المذكور ،
فلما قال : (وَأَذِّنْ) فإليه يرجع الخطاب . قال الجبائي : أمر محمدا ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن يفعل ذلك في حجة الوداع. قالوا : إنه ابتداء فرض الحج
من الله تعالى للرسول ، وفي قوله : «يأتوك» دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدى به .
وروى أبو هريرة
قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «إنّ الله قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا».
قوله : «رجالا»
نصب على الحال ، وهو جمع راجل نحو : صاحب وصحاب ، وتاجر وتجار ، وقائم
وقيام . وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز «رجّالا» بضم الراء وتشديد الجيم.
وروي عنهم تخفيفها
، وافقهم ابن أبي إسحاق على التخفيف ، وجعفر بن محمد ومجاهد على التشديد ، ورويت عن ابن عباس أيضا . فالمخفف اسم جمع كظؤار ، والمشدد جمع تكسير كصائم وصوام . وروي عن عكرمة أيضا «رجالى»
__________________
كنعامى بألف
التأنيث . وكذلك عن ابن عباس وعطاء إلا أنهما شددا الجيم . قوله : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) نسق على «رجالا» ، فيكون حالا أي : مشاة وركبانا . والضمور : الهزال ، ضمر يضمر ضمورا ، والمعنى أن الناقة
صارت ضامرة لطول سفرها .
قوله : «يأتين».
النون ضمير (كُلِّ ضامِرٍ) حملا على المعنى ، إذ المعنى : على ضوامر ، ف «يأتين» صفة
ل «ضامر» ، وأتى بضمير الجمع حملا على المعنى ، أي جماعة الإبل ، وقد تقدم في أول الكتاب أن «كل» إذا
أضيفت إلى نكرة لم يراع معناها إلا في قليل ، كقوله :
٣٧٥٩ ـ جادت عليه كلّ عين ثرّة
|
|
فتركت كلّ حديقة كالدّرهم
|
وهذه الآية ترده ،
فإن «كلّ» فيها مضافة لنكرة وقد روعي معناها ، وكان بعضهم أجاب عن بيت زهير بأنه إنما جاز ذلك ؛ لأنه في جملتين ، قيل له : فهذه الآية جملة
واحدة ، لأن «يأتين» صفة ل «ضامر». وجوّز أبو حيان أن يكون الضمير يشمل «رجالا» و (كُلِّ ضامِرٍ) قال : على معنى الجماعات والرفاق . قال شهاب الدين : فعلى هذا
__________________
يجوز أن يقال عنده
: الرجال يأتين ، ولا ينفعه كونه اجتمع مع الرجال هنا «كل ضامر» ، فيقال جاز ذلك
لما اجتمع معه ما يجوز فيه ذلك إذ يلزم منه تغليب غير العاقل على العاقل وهو ممنوع
. وقال البغوي : وإنما جمع «يأتين» لمكان «كلّ» وأراد النوق
. وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن أبي عبلة «يأتون» تغليبا للعقلاء الذكور . وعلى هذا فيحتمل أن يكون قوله : (عَلى كُلِّ ضامِرٍ) حالا أيضا ، ويكون «يأتون» مستأنفا متعلق به من كل فج أي
يأتونك رجالا وركبانا ثم قال : «يأتون من كل فج» وأن يتعلق بقوله «يأتون» أي يأتون
على كل ضامر من كل فجّ ، و «يأتون» مستأنف أيضا ، فلا يجوز أن يكون صفة ل «رجالا» ول «ضامر» لاختلاف
الموصوف في الإعراب ؛ لأن أحدهما منصوب والآخر مجرور ، ولو قلت : رأيت زيدا ومررت
بعمرو العاقلين. على النعت لم يجز بل على القطع. وقد جوّز ذلك الزمخشري فقال : وقرىء
«يأتون» صفة للرجال والركبان وهو مردود بما ذكرنا. والفج : الطريق بين الجبلين ، ثم
يستعمل في سائر الطرق اتساعا . والعميق : البعيد سفلا ، يقال : بئر عميقة معيقة ، فيجوز أن يكون مقلوبا إلا أنه أقل من الأول ، قال :
٣٧٦٠ ـ إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة
|
|
يمدّ بها في
السّير أشعث شاحب
|
وقرأ ابن مسعود : «معيق»
ويقال : عمق وعمق بكسر العين وضمها عمقا بفتح الفاء قال الليث : عميق (ومعيق
، والعميق في الطريق أكثر . وقال الفراء : عميق لغة الحجاز) ومعيق لغة تميم وأعمقت البئر وأمعقتها وعمقت ومعقت عماقة ومعاقة وإعماقا
وإمعاقا قال رؤبة :
__________________
٣٧٦١ ـ وقاتم الأعماق خاوي المخترق
الأعماق هنا بفتح
الهمزة جمع عمق وعلى هذا فلا قلب في معيق ، لأنها لغة مستقلة ، وهو ظاهر قول الليث
أيضا ، ويؤيده قراءة ابن مسعود بتقديم الميم ، ويقال : غميق بالغين المعجمة أيضا .
فصل
بدأ الله بذكر
المشاة تشريفا لهم ، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة
وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم ، قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال :
الحسنة بمائة ألف حسنة».
وإنما قال تعالى :
(يَأْتُوكَ رِجالاً) ؛ لأنه هو المنادي فمن أتى مكة حاجّا فكأنه أتى إبراهيم ـ عليهالسلام ـ ، لأنه يجيب نداءه.
قوله : «ليشهدوا»
يجوز في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أن تتعلق
ب «أذّن» ، أي : أذن ليشهدوا.
والثاني : أنها
متعلقة ب «يأتوك». وهو الأظهر .
قال الزمخشري :
ونكر «منافع» لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها
من العبادات . قل سعيد بن المسيب ومحمد بن علي الباقر :
__________________
المنافع : هي
العفو والمغفرة وقال سعيد بن جبير : التجارة ، وهي رواية ابن زيد.
وعن ابن عباس قال
: الأسواق. وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) قال الأكثرون : هي عشر ذي الحجة قيل لها «معلومات» للحرص
على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها .
والمعدودات : أيام
التشريق . وروي عن علي : أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، وهو اختيار الزجاج . لأن الذكر على (بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ) يدل على التسمية على نحرها. والنحر للهدايا إنما يكون في
هذه الأيام. وروى عطاء عن ابن عباس : أنها يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق . وقيل : عبر عن الذبح والنحر بذكر اسم الله ؛ لأن المسلمين
لا ينفكون عن ذكر اسم الله إذا نحروا . ثم قال : (عَلى ما رَزَقَهُمْ
مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني الهدايا والضحايا تكون من النعم ، وهي الإبل والبقر
والغنم. قال الزمخشري : البهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، فبينت
بالأنعام وهي : الإبل والبقر والغنم .
قوله : (فَكُلُوا مِنْها). قيل : هذا أمر وجوب ، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون
من لحوم هداياهم شيئا ترفّقا على الفقراء. وقيل : هذا أمر إباحة . واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا كان للمهدي أن يأكل منه ،
وكذلك أضحية التطوع ؛ لأن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أمر أن يؤخذ من كل جزور بضعه ، فطبخت ، وأكل لحمها ،
وحسي من مرقها ، وكان هذا تطوعا. واختلفوا في الهدي الواجب في النذور والكفارات
والجبرانات للنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودم التقليم والحلق ،
والواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد . فقال الشافعي وأحمد : لا يأكل منه. وقال ابن عمر : لا
__________________
يأكل من جزاء
الصيد والنذور ، ويأكل مما سواهما . وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ، ومن كل هدي وجب عليه
إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور . وعند أصحاب الرأي : يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل
من واجب سواهما .
قوله : (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ). يعني الزمن الفقير الذي لا شيء له .
قال ابن عباس :
البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه ، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه
وجه غني . والبؤس شدة الفقر.
قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ). العامة على كسر اللام ، وهي لام الأمر. وقرأ نافع
والكوفيون والبزي بسكونها ، إجراء للمنفصل مجرى المتصل نحو كتف ، وهو نظير تسكين هاء
(هو) بعد (ثمّ) في قراءة الكسائي وقالون حيث أجريت (ثمّ) مجرى الواو والفاء والتّفث : قيل أصله من التف ، وهو وسخ الأظفار قلبت الفاء ثاء كمعثور في معفور . وقيل : هو الوسخ والقذر يقال: ما تفثك. وحكى قطرب : تفث الرجل ، أي : كثر
وسخه في سفره . قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التّفث إلا من التفسير . وقال المبرد : أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه
نقضها. وقال القفال : قال نفطويه : سألت أعرابيا فصيحا ما
__________________
معنى قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ، فقال : ما أفسر القرآن ، ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك ،
أي : أوسخك وما أدرنك . ثم قال القفال : وهذا أولى من قول الزجاح لأن القول قول المثبت لا قول
النافي . والمراد بالتفث هنا : الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث والحاج
أشعث أغبر ، والمراد قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. والمراد بالقضاء
إزالة ذلك ، والمراد به الخروج من الإحرام بالحلق وقص الشارب والتنظيف ولبس الثياب
. وقال ابن عمر وابن عباس : قضاء التفث مناسك الحج كلها. وقال مجاهد : هو مناسك الحج
وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار. وقيل : التفث هنا رمي الجمار . وقيل : معنى (لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ) ليصنعوا ما يصنعه المحرم من إزالة شعر وشعث ونحوهما عند حله ، وفي
ضمن هذا قضاء جميع المناسك إذ لا يفعل هذا إلا بعد فعل المناسك كلها .
قوله : (وَلْيُوفُوا). قرأ أبو بكر «وليوفوا» بالتشديد ، والباقون بالتخفيف . وتقدّم في البقرة أن فيه ثلاث لغات وفّى ، ووفى ، وأوفى . وقرأ ابن ذكوان : «وليوفوا» بكسر اللام ، والباقون
بسكونها. وهذا الخلاف جار في قوله (وَلْيَطَّوَّفُوا). والمراد بالوفاء ما أوجبه بالنذر ، وقيل : ما أوجبه
الدخول في الحج من المناسك . قال مجاهد : أراد نذر الحج والهدي ، وما ينذره الإنسان من
شيء يكون في الحج . وقيل : المراد الوفاء بالنذر مطلقا وقوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا) المراد الطواف الواجب ، وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد
الرمي والحلق وسمي البيت العتيق قال الحسن : القديم لأنه أول بيت وضع
للناس . وقال ابن عباس وابن الزبير : لأنه أعتق من الجبابرة ، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله ، ولما قصده
أبرهة فعل به ما فعل. فإن قيل : قد تسلّط الحجاج عليه؟
__________________
فالجواب : أنه ما
قصد التسلط على البيت وإنما تحصّن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وقال ابن عيينة : لم يملك قط . وقال مجاهد : أعتق من الغرق .
وقيل : لأنه بيت
كريم من قولهم : عتاق الخيل والطير .
فصل
والطواف ثلاثة أطواف :
الأول : طواف
القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعا ، يرمل ثلاثا من الحجر الأسود إلى أن
ينتهي إليه ، ويمشي أربعا وهذا الطواف سنة لا شيء على تاركه.
والثاني : طواف
الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق ، ويسمى أيضا طواف الزيارة وطواف الصدر ، وهو
واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به.
والثالث : طواف
الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف
بالبيت سبعا ، فمن تركه فعليه دم إلا الحائض والنفساء ، فلا وداع عليهما لما روى
ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه أرخص للمرأة الحائض.
والرمل يختص بطواف القدوم ، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع.
قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما
يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ
بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(٣٢)
قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) الآية. «ذلك» خبر مبتدأ مضمر ، أي : الأمر والشأن ذلك ، قال الزمخشري : كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض
المعاني ، فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا ، وقد كان كذا . وقدره ابن عطية : فرضكم ذلك أو الواجب ذلك . وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، أي ذلك
__________________
الأمر الذي ذكرته . وقيل : في محل نصب أي : امتثلوا ذلك . ونظير هذه الإشارة قول زهير بعد تقدم جمل في وصف هرم بن
سنان :
٣٧٦٢ ـ هذا وليس كمن يعيابخطّته
|
|
وسط النّديّ إذا
ناطق نطقا
|
والحرمة ما لا يحلّ هتكه ، وجمييع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة
من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصا فيما
يتعلق بالحج.
وعن زيد بن أسلم :
الحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ،
والمشعر الحرام . وقال ابن زيد : الحرمات ههنا : البيت الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، (والإحرام)
.
وقال الليث :
حرمات الله ما لا يحل انتهاكها .
وقال الزجاج :
الحرمة ما وجب القيام به ، وحرم التفريط فيه .
قوله : «فهو» «هو»
ضمير المصدر المفهوم من قوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ) ، أي ؛ فتعظيم حرمات الله خير له ، كقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) و «خير» هنا
ظاهرها التفضيل بالتأويل المعروف ومعنى التعظيم : العلم بوجوب القيام بها وحفظها.
__________________
وقوله : «عند ربّه»
أي : عند الله في الآخرة. وقال الأصم : فهو خير له من التهاون .
قوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا
ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ووجه النظم أنه كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد
وغيره فالأنعام أيضا تحرم ، فبيّن تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها ، ثم استثنى منه
ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم في سورة المائدة في قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ) ، وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).
قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يجوز أن يكون استثناء متصلا ، ويصرف إلى ما يحرم من بهيمة
الأنعام لسبب عارض كالموت ونحوه. وأن يكون استثناء منقطعا ، إذ ليس فيها محرم وقد تقدم تقرير هذا أول المائدة .
قوله : (مِنَ الْأَوْثانِ). في «من» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها
لبيان الجنس ، وهو مشهور قول المعربين ، ويقدر بقولك الرجس الذي هو الأوثان. وقد تقدم أن شرط كونها
بيانية ذلك ويجيء مواضع كثيرة لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضه.
والثاني : أنها
لابتداء الغاية .
قال شهاب الدين :
وقد خلط أبو البقاء القولين فجعلهما قولا واحدا. فقال : و «من» لبيان الجنس ، أي :
اجتنبوا الرجس من هذا القبيل وهو معنى ابتداء الغاية
__________________
ههنا يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة .
الثالث : أنها
للتبعيض . وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال : ومن قال
إن «من» للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده . وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس عبادة الأوثان ، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم
من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره
مما لم يحرم الشرع استعماله ، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها. قاله
أبو حيان . والأوثان جمع وثن ، والوثن يطلق على ما صوّر من نحاس
وحديد وخشب ويطلق أيضا على الصليب ، قال عليهالسلام لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليبا : «ألق هذا الوثن عنك»
. وقال الأعشى :
٣٧٦٣ ـ يطوف العفاة بأبوابه
|
|
كطوف النّصارى
ببيت الوثن
|
واشتقاقه من وثن
الشيء ، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن ، وأنشد لرؤبة :
٣٧٦٤ ـ على أخلّاء الصّفاء الوثّن
أي : المقيمين على
العهد ، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصّنم .
فصل
قال المفسرون : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ) أي ؛ عبادتها ، أي : كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي
سبب الرجس وهو العذاب ، والرجس بمعنى الرجز .
__________________
وقال الزجاج : «من»
ههنا للتجنيس ، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). واعلم أنه تعالى لما حثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان
وقول الزور ، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات ، وإنما جمع الشرك وقول
الزور في سلك واحد ، لأن الشرك من باب الزور ، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له
العبادة فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور
كله ، ولا تقربوا شيئا منه ، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان . وسمى الأوثان رجسا لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد
من وجوب تجنب الرجس ، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. قال الأصمّ : إنما
وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها. وهذا بعيد ،
وإنما وصفها بذلك استحقارا واستخفافا .
والزور من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك (من أفكه إذا صرفه)
وذكر المفسرون في قول الزور وجوها :
الأول : قولهم :
هذا حلال وهذا حرام ، وما أشبه ذلك.
والثاني : شهادة
الزور ؛ لأن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ صلى الصبح فلما سلم قام قائما ، واستقبل الناس بوجهه ،
وقال : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» وتلا هذه الآية .
الثالث : الكذب
والبهتان.
الرابع : قول أهل
الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
قوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) حال من فاعل «اجتنبوا» ، وكذلك (غَيْرَ مُشْرِكِينَ)
__________________
وهي حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم «حنفاء» عدم الإشراك أي مخلصين
له ، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به ، فلذلك قال (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). ثم قال : (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي : سقط من السماء إلى الأرض.
قوله : «فتخطفه».
قرأ نافع بفتح الخاء والطاء مشددة ، وأصلها تختطفه فأدغم . وباقي السبعة «فتخطفه» بسكون الخاء وتخفيف الطاء . وقرأ الحسن والأعمش وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد . وروي عن الحسن أيضا بفتح الطاء مشددة مع كسر التاء والخاء . وروي عن الأعمش كقراءة العامة إلا أنه بغير فاء «تخطفه» وتوجيه هذه القراءات قد تقدم في أوائل البقرة عند قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ). وقرأ أبو جعفر «الرياح» جمعا .
وقوله : «خرّ» في
معنى (تخر) ، ولذلك عطف عليه المستقبل وهو «فتخطفه» .
ويجوز أن يكون على
بابه ولا يكون «فتخطفه» عطفا عليه بل هو خبر مبتدأ مضمر أي : فهو تخطفه . قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيها مركبا ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد
أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء
فاختطفته
__________________
الطير فتفرق مزعا في حواصلها ، أو عصفت به الرياح حتى هوت به في بعض المطاوح
البعيدة.
وإن كان مفرقا فقد
شبه الإيمان في علوّه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء
والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي
الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة . والسحيق البعيد ، ومنه : سحقه الله ، أي : أبعده ، ومنه
قول عليهالسلام : «سحقا سحقا» أي بعدا بعدا. والنخلة السحوق الممتدة في السماء من ذلك .
قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) الآية. إعراب «ذلك» كإعراب «ذلك» المتقدم وتقدم تفسير الشعيرة واشتقاقها في المائدة . والمعنى : ذلك الذي ذكرت من اجتناب الرجس ، وقول الزور ، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.
قال ابن عباس : شعائر الله البدن والهدايا. وأصلها من الإشعار وهو
إعلامها لتعرف أنها هدي ، وتعظيمها استحسانها واستسمانها. وقيل : شعائر الله أعلام
دينه .
وقيل : مناسك
الحج.
__________________
قوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). أي : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ، ولا
يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى (من) ليرتبط به ، وإنما ذكرت القلوب ، لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه وقلبه خال عنها ،
فلهذا لا يكون مجدّا في الطاعات ، وأما المخلص الذي تمكنت التقوى من قلبه فإنه
يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص .
واعلم أن الضمير
في قوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه ضمير
الشعائر على حذف مضافه ، أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
والثاني : أنه
ضمير المصدر المفهوم من الفعل قبله ، أي : فإن التعظيم من تقوى القلوب والعائد على اسم الشرط
من هذه الجملة الجزائية مقدر تقديره : فإنها من تقوى القلوب منهم. ومن جوّز إقامة (أل)
مقام الضمير ـ وهم الكوفيون ـ ، أجاز ذلك هنا ، والتقدير : من تقوى قلوبهم كقوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوى). والعامة على خفض «القلوب» ، وقرىء برفعها ، فاعلة للمصدر
قبلها وهو «تقوى» .
قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ
(٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣٥)
قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : في الشعائر بمعنى الشرائع ، أي : لكم في التمسك
__________________
بها. وقيل : في
بهيمة الأنعام ، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك. ورواه مقسم عن ابن عباس. وعلى هذا
فالمنافع درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهرها إلى أجل مسمى ، وهو أن يسميها
ويوجبها هديا ؛ فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها .
وروي عن ابن عباس
أن في البدن منافع مع تسميتها هديا بأن تركبوها إن احتجتم إليها ، وتشربوا لبنها إن احتجتم إليه ، إلى أجل مسمّى إلى أن تنحروها . وهذا اختيار الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق ، وهو أولى ؛ لأن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد ، فقال عليهالسلام : «اركبها». فقال يا رسول الله إنها هدي. فقال : «اركبها
ويلك» . قال عليهالسلام : «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» . واحتج أبو حنيفة على أنه لا يملك من منافعها بأنه لا يجوز له أن يؤجرها
للركوب فلو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات. وأجيب
بأن هذا قياس في معارضة النص فلا عبرة به ، وأيضا فإن أم الولد لا يملك بيعها
ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا . ومن حمل المنافع على سائر الواجبات يقول : (لَكُمْ فِيها) أي : في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده.
والأول قول جمهور المفسرين لقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها
إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم
هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق ، أي : وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله
(هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ).
وقوله : «محلّها»
يعني حيث يحل نحرها ، وأما (الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فالمراد به الحرم كله لقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي : الحرم كله ، فالمنحر على هذا القول مكة ، ولكنها نزهت
عن الدماء إلى منى ، ومنى من مكة قال عليهالسلام :
__________________
«كل فجاج مكة منحر
، (وكل فجاج منى منحر») . قال القفال : هذا إنما يختص بالهدايا التي تبلغ منى ،
فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محلها موضعه .
ومن قال : الشعائر
المناسك فإن معنى قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها
إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به
طواف الزيارة (يوم النحر) .
قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) الآية . قرأ الأخوان هذا وما بعده «منسكا» بالكسر. والباقون بالفتح .
فقيل : هما بمعنى
واحد ، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر . وقيل : المكسور مكان ، والمفتوح مصدر .
قال ابن عطية :
والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس ، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من
العرب . قال شهاب الدين : وهذا الكلام منه غير مرضي ، كيف يقول : ويشبه أن يكون
الكسائي سمعه. والكسائي يقول : قرأت به. فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى
السماعات ، وهو روايته لذلك قرأنا متواترا. وقوله : من الشاذ : يعني قياسا لا
استعمالا فإنه فصيح في الاستعمال ، وذلك أن فعل يفعل بضم العين في المضارع قياس
الفعل منه أن يفتح عينه مطلقا ، أي : سواء أريد به الزمان أم المكان أم
__________________
المصدر ، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم مذكورة في هذا الكتاب .
فصل
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) (أي : جماعة مؤمنة
سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليهالسلام (جَعَلْنا مَنْسَكاً)) أي ضربا من القربان ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند
ذبحها ونحرها فقال : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي : عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم . وقال : (بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ) قيد بالنعم ، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال
والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين ، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصّنم العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة.
قوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) في كيفية النظم وجهان :
الأول : أن الإله
واحد ، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح.
والثاني : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه. (فَلَهُ أَسْلِمُوا) انقادوا وأطيعوا ، فمن انقاد لله كان مخبتا فلذلك قال بعده (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ).
قال ابن عباس
وقتادة : المخبت المتواضع الخاشع وقال مجاهد : المطمئن إلى الله. والخبت المكان المطمئن من
الأرض . قال أبو مسلم : حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول : أخبت الرجل إذا
صار في الخبت كما يقال : أنجد وأتهم وأشأم .
__________________
وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم . وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا .
قوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ). يجوز أن يكون هذا الموصول في موضع جر أو نصب أو رفع ،
فالجر من ثلاثة أوجه : النعت للمخبتين ، أو البدل منهم ، أو البيان لهم. والنصب
على المدح. والرفع على إضمارهم وهو مدح أيضا ، ويسميه النحويون قطعا.
والمعنى : إذا ذكر
الله ظهر عليهم الخوف من عقاب الله والخشوع والتواضع لله ، والصابرين على ما
أصابهم من البلايا والمصائب من قبل الله ، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض
والمحن ، فأما ما يصيبهم من قبل الظّلمة فالصبر عليه غير واجب بل لو
أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة .
قوله : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها. والعامة على خفض «الصّلاة» بإضافة المقيمين
إليها.
وقرأ الحسن وأبو
عمرو في رواية بنصبها على حذف النون تخفيفا كما تحذف النون لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن مسعود والأعمش بهذا الأصل «والمقيمين الصلاة»
بإثبات النون ونصب الصلاة. وقرأ الضحاك : «والمقيم الصلاة» بميم ليس بعدها
__________________
شيء . وهذه لا تخالف قراءة العامة لفظا وإنما يظهر مخالفتها لها
وقفا وخطا. ثم قال : (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : يتصدقون فهم خائفون خاشعون متواضعون لله مشتغلون
بخدمة ربهم بالبدن والنفس والمال.
قوله تعالى :
(وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(٣٧)
قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ
شَعائِرِ اللهِ) الآية. العامة على نصب «البدن» على الاشتغال ، ورجح النصب وإن كان محوجا للإضمار على الرفع الذي لم
يحوج إليه ، لتقدم جملة فعلية على جملة الاشتغال وقرىء برفعها على الابتداء والجملة بعدها الخبر والعامة أيضا على تسكين الدال . وقرأ الحسن ويروى عن نافع وشيخه أبي جعفر بضمها ، وهما جمعان لبدنة نحو ثمرة وثمر وثمر ، فالتسكين يحتمل أن يكون تخفيفا من المضموم وأن يكون أصلا وقيل : البدن
والبدن جمع بدن ، والبدن جمع بدنة نحو خشبة وخشب ثم يجمع خشبا على خشب وخشب . وقيل : البدن اسم مفرد لا جمع يعنون اسم الجنس . وقرأ ابن أبي إسحاق : «البدنّ» بضم الباء والدال وتشديد
النون وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنه قرأ
كالحسن فوقف على الكلمة وضعف لامها ، كقولهم : هذا فرج ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك ويحتمل أن يكون اسما على فعل كعتل .
__________________
وسميت البدنة بدنة
، لأنها تبدن أي تسمن . وهل تختص بالإبل؟ الجمهور على ذلك ، قال الزمخشري :
والبدن جمع بدنة سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة لأن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ألحق البقر بالإبل حين قال : «البدنة عن سبعة ، والبقرة
عن سبعة» فجعل البقر في حكم الإبل ، فصارت البدنة متناولة في
الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه ، وإلا فالبدن هي الإبل ، وعليه تدل الآية.
وقيل : لا تختص
بالإبل ، فقال الليث : البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير ، وما يجوز
في الهدي والأضاحي ، ولا تقع على الشاة . وقال عطاء وغيره : ما أشعر من ناقة أو بقرة ، لقول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين سئل عن البقر فقال : «وهل هي إلا من البدن» (وقيل :
البدن يراد به العظيم السن من الإبل والبقر) .
ونقل النووي في
تحرير ألفاظ التنبيه عن الأزهري أنه قال : البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم . ويقال للسمين من الرجال ، وهو اسم جنس مفرد .
قوله : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) هو المفعول الثاني للجعل بمعنى التصيير .
وقوله : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) الجملة حال من هاء «جعلناها» ، وإما من (شَعائِرِ اللهِ) وهذان مبنيان على أن الضمير في «فيها» هل هو عائد على «البدن»
أو على (شَعائِرِ اللهِ) ، والأول قول الجمهور.
قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها
صَوافَّ). نصب «صوافّ» على الحال ، أي مصطفة جنب بعضها إلى بعض . وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صوافي»
جمع صافية ، أي : خالصة لوجه الله تعالى . وقرأ عمرو بن عبيد كذلك إلا أنه نون الياء فقرأ «صوافيا» . واستشكلت من حيث إنه جمع متناه ، وخرجت على وجهين :
أحدهما : ذكره
الزمخشري : وهو أن يكون التنوين عوضا من حرف الإطلاق عند
__________________
الوقف ، يعني أنه وقف على «صوافي» بإشباع فتحة الياء فتولد منها ألف ، يسمى حرف الإطلاق ، ثم عوض عنه هذا التنوين ، وهو الذي يسميه
النحويون تنوين الترنم .
والثاني : أنه جاء
على لغة من يصرف ما لا ينصرف . وقرأ الحسن «صواف» بالكسر والتنوين ، وجهها أنه نصبها بفتحة مقدرة فصار حكم هذه الكلمة كحكمها
حالة الرفع والجر في حذف الياء وتعويض التنوين نحو هؤلاء جوار ، ومررت بجوار
وتقدير الفتحة في الياء كثير كقولهم :
٣٧٦٥ ـ أعط القوس
باريها
وقوله :
٣٧٦٦ ـ كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق
|
|
أيدي جوار
يتعاطين الورق
|
__________________
وقول الآخر :
٣٧٦٧ ـ وكسوت عار لحمه
ويدل على هذه
قراءة بعضهم «صوافي» بياء ساكنة من غير تنوين نحو رأيت القاضي يا فتى. بسكون
الياء. ويجوز أن يكون سكن الياء في هذه القراءة للوقف ثم أجرى الوصل مجراه .
وقرأ العبادلة ومجاهد والأعمش «صوافن» بالنون جمع صافنة ، وهي التي تقوم على ثلاثة وطرف الرابعة أي : على طرف
سنبكه ، لأن البدنة تعلق إحدى يديها ، فتقوم على ثلاثة إلا أن الصوافن إنما يستعمل
في الخيل كقوله : (الصَّافِناتُ
الْجِيادُ) كما سيأتي ، فيكون استعماله في الإبل استعارة.
فصل
سميت البدنة بدنة
لعظمها يريد الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال : بدن الرجل بدنا وبدانة: إذا ضخم
، فأما إذا أسن واسترخى يقال : بدّن تبدينا .
(جَعَلْناها لَكُمْ
مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي : من أعلام دينه ، سميت شعائر ، لأنها تشعر ، وهو أن
تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) النفع في الدنيا والأجر في العقبى . (فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها) عند نحرها «صوافّ» أي قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها
وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك لما روى زياد بن جبير
__________________
قال : رأيت ابن
عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ. وقال مجاهد : الصواف إذا علقت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث . قال المفسرون: قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها) فيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها ، وهو أن يقال عند
النحر: باسم الله والله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك . والحكمة في اصطفافها ظهور كثرتها للناظر فتقوى نفوس المحتاجين ، ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم
أجرا ، وإعلاء اسم الله وشعائر دينه .
فصل
إذ قال : لله عليّ
بدنة ، هل يجوز نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال أبو يوسف : لا
يجوز إلا بمكة. واتفقوا في من نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة. ومن قال : لله عليّ
جزور أنه يذبحه حيث شاء. وقال أبو حنيفة : البدنة بمنزلة الجزور ، فوحب أن يجوز له
نحرها حيث يشاء ، بخلاف الهدي فإنه قال : (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي. واحتج أبو يوسف بقوله : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ
شَعائِرِ اللهِ) فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي.
وأجاب أبو حنيفة
بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم ، فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر
الأماكن.
قوله : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض. وأصل الوجوب السقوط ، يقال : وجبت الشمس
إذا سقطت للمغيب ، ووجب الجدار : أي سقط ، ومنه الواجب الشرعي كأنه وقع
علينا ولزمنا. قال أوس بن حجر :
٣٧٦٨ ـ ألم تكسف الشّمس شمس النّها
|
|
ر والبدر للجبل
الواجب
|
__________________
قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ) أمر إباحة (وأطعموا القانع والمعترّ) اختلفوا في معناهما ، فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة : القانع
الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر الذي يسأل . قال الأزهري : قال ابن الأعرابي : يقال : عروت فلانا
وأعتريته وعررته واعتررته : إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه .
قال أبو عبيدة :
روى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه
ويتعرض ولا يسأل . فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة ، يقال : قنع
قناعة : إذا رضي بما قسم له . وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع الذي يسأل ،
والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل . وقيل : القانع الراضي بالشيء اليسير من قنع يقنع قناعة
فهو قانع. والقنع بغير ألف هو السائل. ذكره أبو البقاء . وقال الزمخشري القانع السائل من قنعت وكنعت إذا خضعت له وسألته قنوعا ، والمعترّ : المتعرض بغير سؤال
أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال من قنعت قنعا وقناعة ، والمعتر
المتعرض للسؤال . انتهى.
وفرق بعضهم بين
المعنيين بالمصدر فقال : «قنع يقنع قنوعا» أي : سأل ، وقناعة أي : تعفف ببلغته
واستغنى به ، وأنشد للشماخ :
٣٧٦٩ ـ لمال المرء يصلحه فيغني
|
|
مفاقره أعفّ من
القنوع
|
وقال ابن قتيبة :
المعتر المتعرض من غير سؤال ، يقال : عره واعترّه وعراه واعتراه أي : أتاه طالبا
معروفه ، قال :
__________________
٣٧٧٠ ـ لعمرك ما المعترّ يغشىبلادنا
|
|
لنمنعه بالضّائع
المتهضّم
|
وقول الآخر.
٣٧٧١ ـ سلي الطّارق المعترّ يا أمّ
مالك
|
|
إذا ما اعتراني
بين قدري ومجزري
|
وقرأ أبو رجاء : «القنع»
دون ألف ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن أصلها
القانع فحذف الألف كما قالوا : مقول ، ومخيط وجندل وعلبط في مقوال ، ومخياط ،
وجنادل ، وعلابط .
والثاني : أن
القانع هو الراضي باليسير ، والقنع السائل كما تقدم تقريره. قال الزمخشري : والقنع
الراضي لا غير . وقرأ الحسن : «والمعتري» اسم فاعل من اعترى يعتري وقرأ إسماعيل ويروى عن أبي رجاء والحسن أيضا «والمعتر»
بكسر الراء اجتزاء بالكسر عن لام الكلمة . وقرىء «المعتري» بفتح التاء ، قال أبو البقاء : وهو في معناه أي : في معنى «المعتر» في قراءة العامة . قال بعضهم : والأقرب أن
__________________
القانع هو الراضي
بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح ، والمعتر : هو الذي يعترض ويطالب ويعتريهم حالا
بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبدا .
وقال ابن زيد :
القانع المسكين ، والمعتر الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة ، ويجيء إلى القوم
فيتعرض لهم لأجل لحمهم .
قوله : (كَذلِكَ سَخَّرْناها). الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر ، أي مثل وصفنا ما وصفنا من نحرها
قياما سخرناها لكم نعمة منا لتتمكنوا من نحرها. (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا إنعام الله عليكم.
قوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) العامة على القراءة بياء الغيبة في الفعلين ، لأن التأنيث مجازي
، وقد وجد الفصل بينهما . وقرأ يعقوب بالتاء فيهما اعتبارا باللفظ .
وقرأ زيد بن عليّ «لحومها
ولا دماءها» بالنصب والجلالة بالرفع ، (وَلكِنْ يَنالُهُ) بضم الياء على أن القائم مقام الفاعل «التّقوى». و «منكم» حال من
التقوى ، ويجوز أن يتعلق بنفس «يناله».
فصل
لما كانت عادة
الجاهلية إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله عزوجل فأنزل الله هذه الآية (لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها). قال مقاتل : لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها. (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي ولكن يرفع إليه منكم الأعمال الصالحة ، وهي التقوى
والإخلاص وما أريد به وجه الله .
فصل
قالت المعتزلة :
دلّت هذه الآية على أمور :
أحدها : أن الذي
ينتفع به فعله دون الجسم الذي ينحره.
وثانيها : أنه
سبحانه غني عن كل ذلك وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أمره.
__________________
وثالثها : أنه لما
لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه ، وجب أن يكون تقواه فعلا
له ، وإلا كان تقواه بمنزلة اللحوم.
ورابعها : أنه لما
شرط القبول بالتقوى ، وصاحب الكبيرة غير متّق ، فوجب أن لا يكون عمله مقبولا وأنه
لا ثواب له.
والجواب : أما
الأولان فحقان ، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم.
وأما الرابع :
فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقيا مطلقا ، ولكنه متّق فيما أتى به من الطاعة على
سبيل الإخلاص ، فوجب أن تكون طاعته مقبولة ، وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.
قوله : (كَذلِكَ سَخَّرَها) الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر (وَلِتُكَبِّرُوا) متعلق به أي إنما سخرها كذلك لتكبروا الله ، وهو التعظيم بما يفعله عند النحر وقبله
وبعده. و (عَلى ما هَداكُمْ) متعلق بالتكبير ، عدّي بعلى لتضمنه معنى الشكر على ما
هداكم أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه ، وهو أن يقول : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا ، ثم
قال بعده على سبيل الوعد لمن امتثل أمره (وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ) كما قال من قبل (وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ) قال ابن عباس : المحسنين الموحدين . والمحسن الذي يفعل الحسن من الأعمال فيصير محسنا إلى نفسه بتوفير
الثواب عليه .
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)
الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ
لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٤١)
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يدفع» ، والباقون «يدافع» . وفيه وجهان :
أحدهما : أن (فاعل)
بمعنى (فعل) المجرد نحو جاوزته وجزته وسافرت وطارقت .
__________________
والثاني : أنه
أخرج على زنة المفاعلة مبالغة فيه لأن فعل المبالغة أبلغ من غيره .
وقال ابن عطية :
يحسن «يدافع» لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ودفعه عنهم
مدافعة . يعني فتختلط فيها المفاعلة.
فصل
لما بيّن الحج
ومناسكه ، وما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، وذكر قبل ذلك صد الكفار عن المسجد
الحرام ، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا) قال مقاتل : إنّ الله يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة ،
وهذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم ، فاستأذنوا النبي
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في قتلهم سرا فنهاهم .
والمعنى : أن الله
يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم ، وإن كان في
الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين ، فلذلك قال بعده (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار ، وهو كقوله (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) وقوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ
آمَنُوا) وقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ).
(إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانة الله «كفور» لنعمته. قال ابن عباس : خافوا الله
فجعلوا معه شركاء وكفروا نعمه . قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور . قال مقاتل : أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من
هذه .
قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ). قرأ «أذن» مبنيا للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم ،
__________________
والباقون قرأوه
مبنيا للفاعل . قال الفراء والزجاج : يعني أذن الله للذين يحرصون على
قتال المشركين في المستقبل . وأما «يقاتلون» فقرأه مبنيا للمفعول نافع وابن عامر وحفص
، والباقون مبنيا للفاعل . وحصل من مجموع الفعلين أن نافعا وحفصا بنياهما للمفعول. وأن ابن كثير وحمزة والكسائي بنوهما للفاعل ، (وأن
أبا عمرو) وأبا بكر بنيا الأول للمفعول والثاني للفاعل ، وأن ابن
عامر عكس هذا. فهذه أربع رتب والمأذون فيه محذوف للعلم به أي للذين يقاتلون في
القتال . و (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) متعلق ب «أذن» ، والباء سببية ، أي بسبب أنهم مظلومون.
فصل
قال المفسرون : كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج يشكون ذلك إلى رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيقول لهم : «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجر
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهي أول آية أذن الله فيها
بالقتال ، ونزلت هذه الآية بالمدينة. وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة
إلى المدينة ، فكانوا يمنعون ، فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من
الهجرة (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء . (وَإِنَّ اللهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وهذا وعد منه تعالى بنصرهم ، كما يقول المرء لغيره : إن
أطعتني فأنا قادر على مجازاتك ، لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك.
قوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ) يجوز أن يكون «الذين» في محل جر نعتا للموصول الأول ، أو بيانا له ، أو بدلا منه وأن يكون في محل نصب على
المدح ، وأن يكون في محل رفع على إضمار مبتدأ .
__________________
فصل
لما بين أنهم إنما
أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا ، فسر ذلك الظلم بقوله (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) ، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين :
الأول : أنهم
أخرجوا من ديارهم.
والثاني : أخرجوهم
بسبب قولهم : (رَبُّنَا اللهُ). وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم .
قوله : (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا). فيه وجهان :
أحدهما : أنه
منصوب على الاستثناء المنقطع ، وهذا مما يجمع العرب على نصبه ، لأنه منقطع لا يمكن توجه
العامل إليه ، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا
ما ضر. فلو توجه العامل جاز فيه لغتان : النصب وهو لغة الحجاز ، وأن يكون كالمتصل
في النصب والبدل نحو ما فيها أحد إلا حمار . وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل ، لأنك لو قلت : الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا
ربنا الله لم يصح .
الثاني : أنه في
محل جر بدلا من «حقّ».
قال الزمخشري : أي
بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج
والتسيير ، ومثله (هَلْ تَنْقِمُونَ
مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ)
انتهى.
وممن جعله في موضع
جر بدلا مما قبله الزجاج . إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال : ما أجازاه من البدل لا
يجوز ، لأن البدل لا يجوز إلا حيث سبقه نفي أو نهي
__________________
أو استفهام في
معنى النفي (نحو : ما قام أحد إلا زيد ، ولا يضرب أحد إلا زيد ، وهل يضرب أحد إلا
زيد) وأما إذا كان الكلام موجبا أو أمرا فلا يجوز البدل (لا يقال : قام القوم إلا
زيد ، على البدل ، ولا يضرب القوم إلا زيد ، على البدل) لأن البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت :
قام إلا زيد ، و ليضرب إلا عمرو لم يجز. ولو قلت في غير القرآن : أخرج
الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاما ، هذا إذا تخيل أن
يكون (إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا) في موضع جر بدلا من «غير» المضاف إلى «حقّ» ، وأما إذا كان
بدلا من «حق» كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد ، لأنه يلزم منه أن يكون
البدل يلي غيرا فيصير التركيب : بغير إلا أن يقولوا ؛ وهذا لا يصح ،
ولو قدرنا (إلا) بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد ، فنجعله
بدلا لم يصح ، لأنه يصير التركيب : بغير قولهم ربنا الله ، فيكون قد أضيف غير إلى
غير ، وهي هي ، فيصير بغير غير ، ويصح في ما مررت بأحد إلا زيد ، أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم
إن الزمخشري حين مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة
جعل (إلا) بمعنى سوى ، ويصح على الصفة ، فالتبس عليه باب الصفة بباب
البدل ، ويجوز أن تقول : ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل .
قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين .
وقرأ نافع وابن
كثير «لهدمت» بالتخفيف ، والباقون بتثقيل الدال على التكثير ، لأن المواضع كثيرة متعددة ، والقراءة الأولى
صالحة لهذا المعنى أيضا .
قوله : (صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ
وَمَساجِدُ) العامة على «صلوات» بفتح الصاد واللام جمع صلاة وقرأ جعفر بن محمد «وصلوات» بضمّهما . وروي عنه أيضا بكسر الصاد وسكون اللام . وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام . وأبو العالية بفتح
__________________
الصاد وسكون اللام
، والجحدري أيضا «وصلوت» بضمهما وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صلب وصلوب والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من
فوقها . والجحدري أيضا وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء
المثلثة ألفا فقرءوا «صلوثا» ، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضا ، وروي عن الجحدري أيضا «صلواث» بضم الصاد وسكون اللام
وألف بعد الواو والثاء مثلثة . وقرأ عكرمة «صلويثا» بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو
مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف وحكى ابن مجاهد أنه قرىء «صلواث» بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها
ألف بعدها ثاء مثلثة. وقرأ الجحدري «وصلوب» مثل كعوب بالباء الموحدة وهو جمع صليب وفعول جمع فعيل شاذ نحو ظريف وظروف وأسينة
وأسون . وروي عن أبي عمرو «صلوات» كالعامة
إلا أنه لم ينون ، منعه الصرف للعلمية والعجمة ، كأنه جعله اسم موضع فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات المعهودة. ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع
صلوات ، أو تضمن «هدّمت» معنى عطلت ، فيكون قدرا مشتركا بين المواضع والأفعال فإن
تعطيل كل شيء بحسبه ، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف . والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل
__________________
ملة بحسبها. وظاهر كلام الزمخشري أنها بنفسها اسم مكان فإنه
قال : وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ، وقيل : هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية
صلوتا انتهى .
وأما غيرها من
القراءات ، فقيل : هي سريانية أو عبرانية دخلت في لسان العرب ولذلك كثر فيها
اللغات والصوامع : جمع صومعة ، وهي البناء المرتفع الحديد الأعلى
من قولهم رجل أصمع ، وهو الحديد القول ، ووزنها فوعلة كدوخلة ، وهي متعبد الرهبان لأنهم ينفردون. وقال قتادة : للصابئين
. والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى قاله قتادة والزجاج .
وقال أبو العالية
هي كنائس اليهود . وقال الزجاج : الصوامع للنصارى ، وهي التي بنوها في
الصحارى ، والبيع لهم أيضا وهي التي بنوها في البلد ، والصلوات لليهود .
وقال الزجاج : وهي
بالعبرانية صلوثا . والمساجد للمسلمين. وهذا هو الأشهر.
وقال أبو العالية
: الصلوات للصابئين . وقال الحسن : إنها بأسرها أسماء المساجد ، أما الصوامع
فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع ، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل
التشبيه ، وأما الصلوات فالمعنى أنه لو لا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت
المساجد .
فصل
معنى (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي بالجهاد وإقامة الحدود كأنه قال : ولو لا دفع الله أهل
الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك
على أهل الإيمان وعطلوا ما يبنونه من مواضع العبادة .
وقال الكلبي :
يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد .
__________________
وروى أبو الجوزاء
عن ابن عباس : يدفع الله بالمحسن عن المسيء ، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي ، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق ، وبالذي يحج عن الذي لا
يحج .
وعن ابن عمر عن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إنّ الله يدفع بالمسلم الصّالح عن مائة من أهل بيته
ومن جيرانه» ثم تلا هذه الآية . وقال الضحاك : يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة . وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود ، وعن النفوس
بالقصاص . فإن قيل : لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود
والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟ فالجواب أما على قول الحسن : فالمراد بهذه
المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها. وأما على قول غيره فقال
الزجاج : المعنى ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي
يتعبد فيه ، فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه
، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن نبينا المساجد. فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف
وقبل النسخ . فإن قيل : كيف تهدم الصلوات على تأويل من تأوله على صلاة
المسلمين؟ فالجواب من وجوه :
الأول : المراد من
هدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان ، إذا قابله
بالكفر دون الشكر .
الثاني : ما تقدم
من باب حذف المضاف كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهلها ، فالمراد مكان الصلاة.
الثالث : لما كان
الأغلب فيما ذكر ما يصح أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم : متقلدا
سيفا ورمحا. وإن كان الرمح لا يتقلد . فإن قيل : لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟
فالجواب لأنها
أقدم في الوجود. وقيل أخر المساجد في الذكر كما في قوله : (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ). قال عليهالسلام : «نحن الآخرون السّابقون» .
__________________
قوله : (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ) يجوز أن يكون صفة للمواضع المتقدمة كلها إن أعدنا الضمير
من «فيها» عليها . قال الكلبي ومقاتل : يعود إلى الكل لأن الله تعالى يذكر
في هذه المواضع كلها. ويجوز أن يكون صفة للمساجد فقط إن خصصنا الضمير في «فيها»
بها تشريفا لها . ثم قال (وَلَيَنْصُرَنَّ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي : ينصر دينه ونبيه .
وقيل : يتلقى
الجهاد بالقبول نصرة لدين الله. (إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ) أي : على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين. «عزيز» وهو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده .
قوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) يجوز في هذا الموصول ما جاز في الموصول قبله ويزيد هذا عليه بأنه يجوز أن يكون بدلا من (مَنْ يَنْصُرُهُ) ذكره الزجاج أي : ولينصرن الله الذين إن مكناهم ، و (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) شرط و «أقاموا» جوابه ، والجملة الشرطية بأسرها صلة
الموصول .
فصل
لما ذكر الذين أذن
لهم في القتال وصفهم في هذه الآية فقال : (الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق أي : نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد. قال قتادة : هم أصحاب محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ المهاجرون لأن الأنصار لم يخرجوا من ديارهم فوصفهم بأنهم
أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ثم قال (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي : آخر أمور الخلق ومصيرهم أي : يبطل كل ملك سوى ملكه ،
فتصير الأمور له بلا منازع .
قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ
إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ
وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها
__________________
وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ
يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٤٦)
قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) الآية. لما بيّن إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق ، وأذن في
مقاتلتهم ، وضمن للرسول النصرة ، وبين أن لله عاقبة الأمور ، أردفه بما يجري مجرى
التسلية للرسول بالصبر على أذيته بالتكذيب وغيره ، فقال : وإن يكذبوك قومك فقد
كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم ، وذكر الله تعالى سبعة منهم. فإن قيل : فلم قال :
وكذب موسى. ولم يقل : وقوم موسى؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أن موسى
ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط.
الثاني : كأنه قيل
بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم ، وكذّب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما
ظنك بغيره. (فَأَمْلَيْتُ
لِلْكافِرِينَ) أي : أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) عاقبتهم (فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ) أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ، وهذا استفهام تقرير ،
أي ؛ أليس كان واقعا قطعا ، أبدلتهم بالنعمة نقمة ، وبالكثرة قلة ، وبالحياة موتا
، وبالعمارة خرابا؟ وأعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصر على أعدائهم والتمكين
لهم في الأرض ، فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم ، فإنه تعالى إنما يمهل
لمصلحة ، فلا بد من الرضا والتسليم ، وإن شق ذلك على القلب .
والنكير : مصدر
بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار . وأثبت ياء نكيري حيث وقعت ورش في الوصل وحذفها في الوقف ،
والباقون بحذفها وصلا ووقفا .
قوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) يجوز أن تكون «كأين» منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر
يفسره (أهلكتها) وأن تكون في محل رفع بالابتداء ، والخبر (أهلكتها) . وتقدم تحقيق القول فيها . قال بعضهم : المراد من قوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وكم ، على وجه التكثير.
__________________
وقيل : معناه :
ورب قرية. والأول أولى ، لأنه أوكد في الزجر.
وقوله : «أهلكتها»
قرأ أبو عمرو ويعقوب «أهلكتها» بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد لقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ) وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة «أهلكناها» .
قوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) جملة حالية من هاء «أهلكناها» .
وقوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ) عطف على «أهلكتها» ، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على
الخبر على القول الثاني ، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على
القول الأول. وهذا عنى الزمخشري بقوله : والثانية ـ يعني قوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ) ـ لا محل لها ، لأنها معطوفة على «أهلكناها» وهذا الفعل ليس
له محل . تفريعا على القول بالاشتغال ، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل
ضرورة.
فصل
المعنى : وكم من
قرية أهلكتها (أي أهلها) لقوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) ، أي : وأهلها ظالمون ، (فَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) على سقوفها. قال الزمخشري : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو
خيمة أو ظلة فهو عرش ، والخاوي : الساقط من خوى النجم : إذا سقط ، أو من خوى
المنزل : إذا خلا من أهله . فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على
سقوفها ، أي : خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها ، فسقطت فوق السقوف. وإن
فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن
يكون خبرا بعد خبر ، أي : هي خالية وهي على عروشها ، يعني أن السقوف سقطت على الأرض
فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان قائمة ، فهي مشرفة على السقوف الساقطة . قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على «قرية» ، وكذلك «قصر» أي : وكأيّ من بئر وقصر
أهلكناهما . وقيل : يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على «عروشها» أي :
خاوية على بئر وقصر أيضا ، وليس بشيء .
__________________
والبئر : من بأرت
الأرض ، أي : حفرتها ومنه التأبير ، وهو شق كيزان الطلع ، والبئر : فعل بمعنى
مفعول كالذّبح بمعنى المذبوح ، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب .
وقوله :
٣٧٧٢ ـ وبئري ذو حفرت وذو طويت
يحتمل التذكير
والتأنيث. والمعطّلة : المهملة ، والتعطيل : الإهمال.
وقرأ الحسن : «معطلة»
بالتخفيف ، يقال : أعطلت البئر وعطلتها فعطلت بفتح الطاء ، وأما عطلت المرأة من
الحليّ فبكسر الطاء . والمعنى : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها.
والمشيد : المرتفع ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل . وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد : المجصص من الشّيد وهو الجص . وإنما بني هنا من شاده ، وفي النساء من شيّده ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير ، وهنا بعد
مفرد فناسب التخفيف ، ولأنه رأس آية وفاصلة .
فصل
المعنى أنه تعالى
بيّن أن القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل
كفرهم بهذا الوصف وكذلك البئر التي تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ، ولا وارد ،
والقصر الذي أحكموه بالجصّ وطولوه صار خاليا بلا
__________________
ساكن ، وجعل ذلك
عبرة لمن اعتبر ، وهذا يدل على أن تفسير «على» ب «مع» أولى ، لأن التقدير: وهي
خاوية مع عروشها . قيل : إنّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما
القصر على قلّة٠ جبل والبئر في سفحه ، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي
البئر والقصر خاليين . وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر بحضر موت في بلدة
يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحا مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت ، فلما
نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات ، فبنوا قوم صالح حاضوراء ،
وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم جلهس بن جلاس ، وجعلوا وزيره سنحاريب ، فأقاموا بها زمانا ثم كفروا
وعبدوا صنما ، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان ، وكان حمّالا فيهم ، فقتلوه في
السوق ، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم.
قال الإمام أبو
القاسم الأنصاري : وهذا عجيب ، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها: عكا ، فكيف يقال : إنه بحضر موت .
قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الآية. يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى
مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها
حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير
القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ
وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
قوله : «فتكون»
منصوب على جواب الاستفهام ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير. وقيل : على جواب النفي وقرأ مبشر بن عبيد : «فيكون» بالياء من
__________________
تحت لأن التأنيث
مجازي. ومتعلق العقل محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة . ثم قال : (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ
بِها) أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة
لهذا العقل ، فيكون القلب محلا للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه
متحيرا يشبه الأعمى . ثم قال : (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ
بِها) أي : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها.
قوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى) الضمير للقصة ، و (لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ) مفسرة له ، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة
تأنيث ، ولو ذكر في الكلام فقيل : «فإنه» لجاز ، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن
مسعود ، والتذكير باعتبار الأمر والشأن. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميرا مبهما
يفسره «الأبصار» وفي «تعمى» ضمير راجع إليه .
قال أبو حيان :
وما ذكره لا يجوز ، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحدا منه وهو في باب (ربّ)
، وفي باب نعم وبئس ، وفي باب الإعمال ، (وفي باب البدل) ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها ، وفي باب
ضمير الشأن ، والخمسة الأول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة ، وهذا ليس واحدا من الستة .
قال شهاب الدين :
بل هذا من المواضع المذكورة ، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ
وهو «إنّ» فهو نظير قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، و :
٣٧٧٣ ـ هي النّفس تحمل ما حمّلت
وقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده ، ولا فرق
بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ ، ولا أثر له ، وعجيب من غفلة
الشيخ عن ذلك .
قوله : (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) صفة أو بدل أو بيان ، وهل هو توكيد كقوله : (يَطِيرُ
__________________
بِجَناحَيْهِ) لأن القلوب لا تكون في غير الصدور ، أولها معنى زائد كما
قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى في الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن
تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات
ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا
التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه
للسانك الذي بين فكيك. (فقولك : الذي بين فكيك) تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا
غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهوا ،
ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا . وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه ،
وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير ، وليس من مواضع فصله ، وكان صوابه
أن يقول تعمدته به. كما تقول : السيف ضربتك به ، لا ضربت به إياك.
وقد تقدم نظير هذا
الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى : (يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله.
قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان
مخطئا في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده .
وقال ابن الخطيب :
وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله
تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ ، فالله تعالى بين أن
محل ذلك هو الصدر . وفي محل العقل خلاف مشهور ، وإلى الأول مال ابن عطية قال
: هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني ، وكقوله : (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ). وقد تقدم أن في قوله : «بأفواههم» فائدة زيادة على
التأكيد.
__________________
قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ
يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا
تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا
فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٥١)
قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ
يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) الآية. نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : (إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ)
.
وهذا يدل على أنه
ـ عليهالسلام ـ كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ، ولهذا قال : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ)
، فأنجز ذلك يوم
بدر. ثم بين أن العاقل لا ينبغي له أن يستعجل عذاب الآخرة فقال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) أي فيما ينالهم من العذاب وشدته (كَأَلْفِ سَنَةٍ)
، فبين تعالى أنهم
لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه. قاله أبو مسلم وقيل : المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة . وقيل : إن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء
، لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا إمهال ألف سنة (مِمَّا تَعُدُّونَ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يعدّون» بياء الغيبة ، لقوله
: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) وقرأ الباقون بالتاء ، لأنه أعمّ ، ولأنه خطاب للمسلمين. واتفقوا في «تنزيل» السجدة بالتاء . قال ابن عباس : يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله
فيها السموات والأرض وقال مجاهد وعكرمة: يوما من أيام الآخرة ، لما روى أبو
سعيد الخدري قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالفوز التّام يوم
القيامة تدخلون الجنّة قبل أغنياء النّاس بنصف يوم ، وذلك قدر خمسمائة سنة» .
__________________
قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ
لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي : أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم ، فاغتروا بذلك
التأخير ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر ، وهو معنى
قوله (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ). فإن قيل : ما الفائدة في قوله أولا «فكأين» بالفاء ،
وهاهنا قال «وكأين» بالواو؟
فالجواب : أن
الأولى وقعت بدلا من قوله (فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ) ، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين
بالواو ، أعني قوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ
اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ).
قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما
أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أمر رسوله بأن يديهم لهم التخويف والإنذار ، وأن لا يصده
استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار ، وأن يقول لهم: إنما
بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه .
قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). لما أمر الرسول بأن يقول لهم : إني نذير مبين أردف ذلك بأن
أمره بوعدهم ووعيدهم ، لأن هذه صفة المنذر ، فقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فجمع بين الوصفين ، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى
الإيمان ، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب
والإقرار باللسان ، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور ، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين
المغفرة والرزق الكريم ، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر ، أو عن غفران الكبائر
بعد التوبة ، أو عن غفرانها قبل التوبة ، والأولان واجبان عند الخصم ، وأداء
الواجب لا يسمى غفرانا فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة.
وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب ، والكريم : هو الذي لا ينقطع أبدا وقيل : هو الجنة .
قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ) أي : اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحرا وشعرا
وأساطير الأولين ، يقال لمن بذل جهده في أمر : إنه سعى فيه توسعا ، كما إذا بلغ
الماشي نهاية طاقته فيقال : إنه سعى ، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازا ، قال الزمخشري : يقال : سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو
أفسده بسعيه .
قوله : «معجّزين»
قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ .
__________________
والباقون : «معاجزين»
في الأماكن الثلاثة . والجحدري كقراءة ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن . وابن الزبير «معجزين» بسكون العين فأما الأولى ففيها وجهان :
أحدهما : قال
الفارسي : معناه ناسبين أصحاب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى العجز نحو : فسقته ، أي : نسبته إلى الفسق .
والثاني : أنها
للتكثير ومعناها مثبطين الناس عن الإيمان .
وأما الثانية
فمعناها ظانين أنهم يعجزوننا ، وقيل : معاندين .
وقال الزمخشري :
عاجزه : سابقه ، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه
قيل : أعجزه وعجّزه. فالمعنى : سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن
كيدهم للإسلام يتم لهم والمعنى : سعوا في معناها بالفساد. وقال أبو البقاء : إن «معاجزين»
في معنى المشدّد مثل : عاهد : عهّد ، وقيل : عاجز سابق ، وعجّز : سبق .
فصل
اختلفوا في المراد
هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين ، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله
استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه ، وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يعجزونه
ويغلبونه ، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد .
فأما القائلون بالأول فقال قتادة : ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا
بزعمهم وأن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، أو يعجزوننا : يفوتوننا فلا نقدر
عليهم كقوله تعالى (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) ، أو يعجزون الله بإدخال الشّبه في قلوب الناس .
__________________
وأما معاجزين
فالمغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى .
ثم قال : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : أنهم يدومون فيها.
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)
وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٥٧)
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهما من
المفسرين : لما رأى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه
وبين قومه لحرصه على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش ، وأحب
يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفّر عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ، فقرأها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتى بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدثه به نفسه ويتمنّاه: تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ،
ومضى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في قراءته ، وقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة ، فسجد المسلمون لسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من
المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا
أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من
__________________
البطحاء ورفعاها
إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين ، فلم يستطيعا السجود ، وتفرقت قريش ، وقد
سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذّكر ، وقالوا قد عرفنا أن الله
يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمد نصيبا
فنحن معه فلما أمسى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أتاه جبريل ، فقال : يا محمد ماذا صنعت تلوت على النّاس
ما لم أنزل به عن الله عزوجل ، وقلت ما لم أقل لك؟ فحزن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حزنا شديدا ، وخاف من الله خوفا عظيما فأنزل الله هذه
الآية يعزيه ، وكان به رحيما .
قال ابن الخطيب :
وأما أهل التحقيق فقالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة
والمعقول : أما القرآن فقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ) ، وقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) ، وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله : تلك الغرانيق العلى
لكان قد ظهر كذب الله في الحال ، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ
الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً
لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل ، وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) وكلمة «لو لا» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فذلك دل على أن الركون القليل لم يحصل ، وقوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤادَكَ) ، وقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى) وأما السنة : فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتابا.
وقال الإمام أبو
بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال : رواة هذه القصة
مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه ـ عليهالسلام ـ قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن
والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق .
__________________
وروي هذا الحديث
من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها : أن من
جوّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي
الأوثان.
وثانيها : أنه ـ عليهالسلام ـ ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند
الكعبة أمنا لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي ،
إذا لم يحضروا ليلا أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم.
وثالثها : أن
معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على
حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجّدا مع أنه لم يظهر
عندهم موافقته لهم.
ورابعها : قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي
الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول
أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات
لئلا يلتبس القرآن بغيره ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.
وخامسها : أنا لو
جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه ، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله
تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه
عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعا من
المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل
العقلية والنقلية المتواترة. وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين :
أحدهما : تمني
القلب.
والثاني : القراءة
، قال الله تعالى : (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) أي : إلا قراءة ، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف ،
وإنما يعلمه من القراءة.
وقال حسان :
٣٧٧٤ ـ تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
|
|
وآخرها لاقى
حمام المقادر
|
__________________
وقيل : إنما سميت
القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية
عذاب تمنى أن لا يبتلى بها.
وقال أبو مسلم :
التّمنّي هو التقدير ، وتمنّى هو تفعّل من منيت ، والمنيّة وفاة الإنسان للوقت
الذي قدره الله ، ومنّى الله لك أي : قدّر لك ، وإذا تقرر ذلك فإن التالي مقدر للحروف يذكرها شيئا فشيئا.
فالحاصل أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر ، فإن فسرناها بالقراءة ففيه قولان :
الأول : أنه تعالى
أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه من قوله : تلك الغرانيق العلى.
والثاني : المراد
منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ، ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه :
الأول : أن النبي
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يتكلم بقوله : تلك الغرانيق العلى ، ولا الشيطان تكلم به ،
ولا أحد تكلم به لكنه ـ عليهالسلام ـ لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض
ألفاظه ما رووه من قولهم : تلك الغرانيق العلى. وذلك على حسب ما جرت
العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال ، قاله جماعة وهو ضعيف لوجوه :
أحدها : أن التوهم
في مثل ذلك إنما يصح فيما جرت العادة بسماعه ، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه.
وثانيها : أنه لو
كان كذلك لوقع هذا التوهم في بعض هذا لتوهم بعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات.
وثالثها : لو كان
كذلك لم يكن مضافا إلى الشيطان.
الوجه الثاني :
قالوا : إن ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء
__________________
نفسه يوقعه في درج
تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول ، قالوا : ويؤيد ذلك
أنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت
الرسول ، فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول ، وعند سكوته ، فإذا سمع
الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول ، وما رأوا شخصا آخر ظن الحاضرون أنه
كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحا في النبوة لما لم يكن فعلا له. وهذا أيضا ضعيف
فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على كل السامعين
كونه كلاما للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع. فإن قيل : هذا
الاحتمال قائم في الكل ، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله أن يبين الحال فيه كما في
هذه الواقعة إزالة للتلبيس.
فالجواب لا يجب
على الله تعالى إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات ، وإذا لم يجب على الله ذلك
أمكن الاحتمال في الكل.
الوجه الثالث : أن
يقال : المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس ، وهم الكفرة فإنه عليهالسلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع ذكر أسماء
آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها ، فقال بعضهم : تلك الغرانيق العلا ، فاشتبه
الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة مباحثهم ، وطلبهم تغليطه ، وإخفاء قراءته ،
ولعل ذلك في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ، ويسمعون قراءته ، ويلغون
فيها. وقيل : إنه عليهالسلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات ، فألقى
بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات ، فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول
، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان ، لأنه بوسوسته يحصل أولا ، أو لأنه سبحانه جعل
ذلك المتكلم نفسه شيطانا.
وهذا أيضا ضعيف
لوجهين :
أحدهما : أنه لو
كان كذلك لكان يجب على الرسول إزالة الشبهة وتصريح الحق ، وتبكيت ذلك القائل ،
وإظهار أن هذه الكلمة صدرت منه ، ولو فعل ذلك لنقل ، فإن قيل : إنما لم يفعل
الرسول ذلك ، لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة دون هذه الزيادة ، فلم يكن ذلك مؤديا إلى اللبس كما لم يؤد سهوه في الصلاة
بعد أن وصفها إلى اللبس.
__________________
قلنا : لأن القرآن
لم يكن مستقرا على حالة واحدة في زمان حياته ، لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها
بالسور ، فلم تكن تأدية تلك السورة بدون الزيادة سببا لزوال اللبس.
وثانيهما : لو كان
كذلك لاستحق العتاب على فعل الغير ، وذلك لا يليق بالحكيم.
الوجه الرابع : أن
المتكلم بهذا هو الرسول ـ عليهالسلام ـ ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه :
إما أن يكون قال
هذه الكلمة سهوا أو قسرا أو اختيارا. فإن قالها سهوا كما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا : إنه عليهالسلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ،
فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد ، وفرح المشركون بما سمعوا ، وأتاه
جبريل واستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال : لم آتك بهذا ، فحزن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى أن أنزلت هذه الآية. وهذا ضعيف لوجوه :
أحدها : أنه لو
جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع ، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع.
وثانيها : أن
الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ، وطريقتها
ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحدا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق
منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.
وثالثها : هب أنه
تكلم بذلك سهوا فكيف لا يتنبه لذلك حين قرأها على جبريل وذلك ظاهر. وأما إن تكلم
بذلك قسرا ، كما قال قوم إن الشيطان أجبر النبي على التكلم به وهذا أيضا فاسد لوجوه :
أحدها : أن
الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي لكان اقتداره علينا أكثر ، فوجب أن يزيل
الشيطان الناس عن الدين ، ولجاز في أكثر ما يتكلم به أحدنا أن يكون ذلك
بإجبار الشيطان.
وثانيها : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال.
وثالثها : أنه
باطل لقوله تعالى حاكيا عن الشيطان (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا)
__________________
وقال : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ) ولا شك أنه ـ عليهالسلام ـ كان سيد المرسلين.
وأما إن كان تكلمه
بذلك اختيارا وهاهنا وجهان :
أحدهما : أن يقول
إن هذه الكلمة باطلة.
والثاني : أن يقول
إنها ليست كلمة باطلة.
أما على الأول
فذكروا فيه طريقين :
الأول : قال ابن
عباس في رواية عطاء : إن شيطانا يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقى عليه
هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم ، فجاءه جبريل فاستعرضه ، فقرأ
السورة ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة. قال جبريل : أنا ما جئتك بهذا ، فقال رسول الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «أتاني آت على صورتك فألقاه على لساني».
الطريق الثاني :
قال بعض الجهال : إنه ـ عليهالسلام ـ لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه
، ثم رجع عنها. وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة ، لأن الأول يقتضي أنه ـ عليهالسلام ـ ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث. والثاني
يقتضي أنه كان خائنا في الوحي ، وكل واحد منهما خروج عن الدين.
وأما الوجه الثاني
وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضا طرق :
الأول : أن يقال :
الغرانيق هم الملائكة ، وقد كان ذلك قرآنا منزلا في وصف الملائكة ، فلما توهم
المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله ذلك.
الثاني : أن يقال
: المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، فكأنه قال : أشفاعتهن ترتجى؟
الثالث : أن يقال
: ذكر تعالى الإثبات وأراد النفي كقوله (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي : لا تضلوا ، كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله
: (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) والمعنى أن تشركوا. وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما
بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن ، أو في الصلاة
بناء على هذا التأويل ، ولكن الأصل في الدين
__________________
أن لا يجوز عليهم
شيئا من ذلك ، لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما
يطعن في ذلك أو ينفر ، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها نحو الفظاظة وقول الشعر ، فقد ظهر القطع بكذب
هذه الوجوه المذكورة في قوله : الغرانيق العلا هذا إذا فسرنا التمني بالتلاوة.
فأما إن فسرنا التمني بالخاطر وتمني القلب ، فالمعنى أنه ـ عليهالسلام ـ إذا تمنى بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان
بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك
الالتفات إلى وسوسته. ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه :
أحدها : أنه تمنى
ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا : إنه ـ عليهالسلام ـ كان يحب أن يتألفهم ، فكان يتردد ذلك في نفسه ، فعندما لحقه النعاس زاد تلك
الزيادة من حيث كانت في نفسه ، وهذا أيضا خروج عن الدين لما تقدم .
وثانيها : قال مجاهد إنه ـ عليهالسلام ـ كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير ، فنسخ
الله ذلك بأن عرفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها.
وثالثها : يحتمل
أنه ـ عليهالسلام ـ عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إذا كان مجملا ،
فيلقي الشيطان في جملته ما لم ينزل ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده بأدلته
وآياته.
ورابعها : معنى (إِذا تَمَنَّى) إذا أراد فعلا مقربا إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه ، فرجع إلى الله
في ذلك ، وهو كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ
مُبْصِرُونَ) ، وكقوله : (وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ). ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب ،
لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ فتنة للكفار ، وذلك يبطله قوله : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ
فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ).
والجواب : لا يبعد
أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك
فتنة للكفار .
__________________
فصل
يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين
أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر ،
فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم ، وذلك هو المحكم. وقال أبو مسلم :
معنى الآية أنه لم يرسل نبيا إلا إذا تمنى كأنه قيل : وما أرسلنا إلى البشر ملكا (وما أرسلنا إليهم
نبيا إلا منهم) ، وما أرسلنا من نبي خلا عند تلاوته من وسوسة الشيطان ، وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي
ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك ، وبطلان ما
يكون من الشيطان ، قال : وفيما تقدم من قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تقوية لهذا التأويل ، كأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين :
أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ، ولم يرسل الله قبلي ملكا ، وإنما
أرسل رجالا فقد يوسوس الشيطان إليهم.
فإن قيل : هذا
إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة. قلنا : إذا كانت الملائكة أعظم درجة
من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلائهم بالوسوسة على
الملائكة. واعلم أنه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين :
الأول : كيفية
إزالتها ، وهو قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) والمراد إزالته وإزالة تأثيره ، وهو النسخ اللغوي ، لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
وأما قوله : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن ،
وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا تجوز فيها الغلط.
البحث الثاني :
أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة شرح أثرها في حق الكفار أولا ثم في
حقالمؤمنين ثانيا ، أما في حق الكفار فهو قوله : (لِيَجْعَلَ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً)
، وذلك أنهم
افتتنوا لما سمعوا ذلك ، والمراد به تشديد التبعد ، لأن ما يظهر من
الرسول ـ عليهالسلام ـ من الاشتباه في القراءة سهوا يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا
السهو من العمد ، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صوابا.
__________________
ثم قال : (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق ، وخصهم بذلك ، لأنهم مع كفرهم محتاجون إلى
التدبر. (وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر) وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم باطنا
وظاهرا. ثم قال : (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين. والمعنى : وإنهم. فوضع
الظاهر موضع المضمر ، قضى عليهم بالظلم وأبرزهم ظاهرين للشهادة عليهم بهذه الصفة
الذميمة. والشقاق الخلاف الشديد والمعاداة والمباعدة سواء. وأما في حق المؤمنين
فهو قوله : (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ولنرجع إلى الإعراب فنقول :
قوله : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ) في هذه الجملة بعد «إلّا» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في
محل نصب على الحال من «رسول» والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلا حاله هذه ، والحال
محصورة .
والثاني : أنها في
محل الصفة لرسول ، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجر باعتبار لفظ
الموصوف ، وبالنصب باعتبار محله ، فإن «من» مزيدة فيه .
الثالث : أنها في
موضع استثناء من غير الجنس. قاله أبو البقاء ، يعني : أنه استثناء منقطع و «إذا» هذه يجوز أن تكون
شرطية ، وهو الظاهر ، وإليه ذهب الحوفي ، وأن تكون لمجرد الظرفية. قال أبو حيان : ونصوا على أنه
يليها ـ يعني «إلا» ـ في النفي المضارع بلا شرط نحو ما زيد إلا يفعل ، وما
رأيت زيدا إلا يفعل ، والماضي بشرط تقدم فعل نحو (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا كانُوا) ، أو مصاحبة (قد) نحو : ما زيد إلا قد فعل ، وما جاء بعد (إلا) في الآية جملة شرطية ولم يلها ماض
مصحوب ب (قد) ، ولا
__________________
عار منها ، فإن صح
ما نصوا عليه يؤول على أن «إذا» جردت للظرفية ، ولا شرط فيها ، وفصل بها بين (إلا)
والفعل الذي هو «ألقى» ، وهو فصل جائز ، فتكون «إلا» قد وليها ماض في التقدير ،
ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل (إلا) وهو (وَما أَرْسَلْنا). قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى هذا التكليف المخرج للآية
عن معناها بل هي جملة شرطية إما حال أو صفة أو استثناء كقوله: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ
فَيُعَذِّبُهُ) وكيف يدعي الفصل بها وبالفعل بعدها بين «إلا» وبين «ألقى»
من غير ضرورة تدعو إليه ، ومع عدم صحة المعنى .
وقوله تعالى : (إِذا تَمَنَّى) إنما أفرد الضمير ، وإن تقدمه سببان معطوف أحدهما على
الآخر بالواو ، لأن في الكلام حذفا تقديره : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا
تمنى ، ولا نبي إلا إذا تمنى كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، والحذف إما من الأول أو الثاني . والضمير في «أمنيّته» فيه قولان : أظهرهما أنه ضمير
الشيطان والثاني : أنه ضمير الرسول.
قوله : «ليجعل» في
متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها متعلقة ب «يحكم» ، أي : ثم يحكم الله آياته ليجعل ،
وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) جملة اعتراض ، وإليه نحا الحوفي .
والثاني : أنها
متعلقة ب «ينسخ» وإليه نحا ابن عطية ، وهو ظاهر أيضا.
الثالث : أنها
متعلقة ب «ألقى» ، وليس بظاهر. وفي اللام قولان :
__________________
أحدهما : أنها
للعلة . والثاني : أنها للعاقبة . و «ما» في قوله : (ما يُلْقِي) الظاهر أنها بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية .
قوله : (وَالْقاسِيَةِ) أل في «القاسية» موصولة ، والصفة صلتها ، و «قلوبهم» فاعل بها ، والضمير المضاف إليه هو
عائد الموصول ، وأنّثت الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي ، ولو وضع فعل موضعها لجاز تأنيثه . و «القاسية» عطف على «الذين» ، أي : فتنة للذين في قلوبهم مرض وفتنة للقاسية قلوبهم.
قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ) عطف على «ليجعل» عطف علة على مثلها والضمير في «أنّه» قال
الزمخشري : إنه يعود على تمكين الشيطان ، أي : ليعلم المؤمنون أن تمكين
الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق . أما على قول أهل السنة فلأنه تعالى يتصرف كيف شاء في ملكه
وملكه فكان حقا وأما على قول المعتزلة فلأنه تعالى حكيم فتكون كل أفعاله صوابا
فيؤمنوا به وقال ابن عطية : إنه يعود على القرآن ، وهو وإن لم يجر له ذكر فهو في قوة المنطوق ، وهو قول
مقاتل . وقال الكلبي: إنه يعود إلى نسخ الله ما ألقاه الشيطان .
قوله : «فيؤمنوا»
عطف على «وليعلم» ، و «فتخبت» عطف عليه وما أحسن ما وقعت هذه الفاءان . ومعنى «فتخبت» أي تخضع وتسكن له قلوبهم لعلمهم بأن المقضي
كائن وكلّ ميسّر لما خلق له .
فصل
ومعنى (أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : التوحيد والقرآن. وقال السّدّي : التصديق. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي: يعتقدوا أنه من الله .
قوله : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ) قرأ العامة «لهاد الذين» بالإضافة تخفيفا . وابن أبي
__________________
عبلة وأبو حيوة
بتنوين الصفة وإعمالها في الموصول . والمعنى : أن الله يهدي الذين آمنوا إلى طريق قويم وهو
الإسلام.
قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
مِرْيَةٍ) الآية. لما بين حال الكافرين أولا ثم حال المؤمنين ثانيا
عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى ، فقال : (وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) شك ونفاق «منه» أي : من القرآن ، أو من الرسول ، أو مما
ألقاه الشيطان .
والمرية والمرية
بالكسر والضم لغتان مشهورتان ، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان .
قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) وهذا يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا
وصفه. «بغتة» أي : فجأة من دون أن يشعروا ، ثم جعل الساعة لكفرهم ، وأنهم يؤمنون
عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء . وقيل : أراد بالساعة الموت. (أَوْ يَأْتِيَهُمْ
عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). قال الأكثرون : هو يوم بدر. وقال عكرمة والضحاك : هو يوم
القيامة . والعقيم من العقم ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه السد
، يقال : امرأة معقومة الرّحم أو مسدودته عن الولادة. وهو قول أبي عبيد.
والثاني : أن أصله القطع ، ومنه (الملك عقيم) أي : لأنه يقطع صلة الرحم بالتراحم عليه ، ومنه العقيم
لانقطاع ولادتها . والعقم انقطاع الخبر ، ومنه يوم عقيم ، قيل : لأنه لا
ليلة بعده ، ولا يوم فشبه بمن انقطع نسله ، وقيل : لأنهم لا يرون فيه خيرا. وقيل : لأن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم ، فكيف يحصل
الحمل فيه. هذا إن أريد به يوم القيامة.
وإن أريد به يوم
بدر فقيل : لأن أبناء الحرب تقتل فيه ، فكأن النساء لم يلدنهم فيكنّ عقما ، يقال :
رجل عقيم وامرأة عقيم ، أي : لا يولد لهما. والجمع عقم.
وقيل : لأنه الذي
لا خير فيه ، يقال : ريح عقيم إذا لم تنشىء مطرا ، ولم تلقح شجرا.
__________________
وقيل : إنه لا مثل له في عظم أمره ، وذلك لقتال الملائكة فيه.
والقول الأول أولى
لأنه لا يجوز أن يقال : (وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ويكون المراد إلى يوم بدر ، لأن من المعلوم أنهم في مرية
بعد يوم بدر .
فإن قيل : لمّا
ذكر الساعة ، فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار.
قلنا : ليس كذلك
لأن الساعة مقدمات القيامة ، واليوم العقيم كما مر نفس ذلك اليوم على أن الأمر لو كان كما قال لم يكن تكرارا
، لأن في الأول ذكر الساعة ، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم.
وإن أريد بالساعة
وقت الموت ، وبعذاب يوم عقيم القيامة فالسؤال زائل .
قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)
، وهذا من أقوى ما
يدل على أن اليوم العقيم هو هذا اليوم ، وأراد أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه. و «يومئذ» منصوب بما تضمنه «لله» من
الاستقرار ، لوقوعه خبرا . و «يحكم» يجوز أن يكون حالا من اسم الله ، وأن يكون
مستأنفا ، والتنوين في «يومئذ» عوض من جملة ، فقدرها الزمخشري :
يوم يؤمنون. وهو لازم لزوال المرية ، وقدره أيضا : يوم نزول مريتهم .
ثم بيّن تعالى كيف
يحكم بينهم وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم والكافرين إلى عذاب مهين.
قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، وقوله : «فأولئك» وما بعده خبره ودخلت الفاء لتضمن
المبتدأ معنى الشرط بالشرط المذكور ، و «لهم» يحتمل أن يكون خبرا عن «أولئك» و «عذاب» فاعل به
لاعتماده على المخبر عنه. وأن يكون خبرا مقدما وما بعده مبتدأ ، والجملة خبر «أولئك».
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ
__________________
اللهُ
رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
ذلِكَ
وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ
اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١)
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ
وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٦٢)
قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) مبتدأ ، وقوله : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ) جواب قسم مقدر ، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا). وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ. ومن
يمنع يضمر قولا هو الخبر يحكي به هذه الجملة القسمية. وهو قول مرجوح .
قوله : «رزقا»
يجوز أن تكون مفعولا ثانيا على أنه من باب الرعي والذبح أي : مرزوقا حسنا. وأن يكون مصدرا مؤكدا .
__________________
وقوله : (ثُمَّ قُتِلُوا) وقوله : «مدخلا» تقدم الخلاف في القراءة بهما في آل عمران وفي النساء .
فصل
لما ذكر أن الملك
له يوم القيامة ، وأنه يحكم بينهم ، ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد
الكريم للمهاجرين ، وأفردهم بالذكر تفخيما لشأنهم فقال : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله ، وطلب رضاه (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) وهم كذلك قال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى
المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الآية العموم . ثم قال : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ
اللهُ رِزْقاً حَسَناً) والرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبدا وهو نعيم الجنة. وقال
الأصم : إنه العلم والفهم لقول شعيب ـ عليهالسلام ـ (وَرَزَقَنِي مِنْهُ
رِزْقاً حَسَناً). (وقال الكلبي : (رِزْقاً حَسَناً)) أي حلالا وهو الغنيمة.
وهذان الوجهان
ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت ، وبعدهما
لا يكون إلا نعيم الآخرة . ثم قال : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ) معلوم بأن كل الرزق من عنده. فقيل : إن التفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا
يقدر عليه غيره. وقيل : المراد أنه الأصل في الرزق ، وغيره إنما يرزق بما تقدم من
الرزق من جهة الله . وقيل : إن غيره ينقل من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس
الرزق.
وقيل : إن غيره
إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به ، إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن
يستحق به حمدا أو ثناء ، أو لأجل الرقّة الجنسية ، أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء
كمالا زائدا ، فالرزق الصادر منه لمحض الإحسان. وقيل : إن غيره إنما يرزق إذا حصل
في قلبه إرادة ذلك الفعل ، وتلك الإرادة من الله ، فالرازق في الحقيقة هو الله .
__________________
فصل
قالت المعتزلة :
الآية تدل على أمور ثلاثة :
الأول : أن غير
الله قادر.
الثاني : أن غير
الله يصح أن يرزق ويملك ، ولو لا كونه قادرا فاعلا لما صح ذلك.
الثالث : أن الرزق
لا يكون إلا حلالا ، لأن قوله : (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يدل على كونهم ممدوحين.
والجواب : لا نزاع
في كون العبد قادرا ، فإن القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام.
والثالث بحث لفظي
تقدم الكلام فيه.
فصل
دل قوله : (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء ،
لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد ، ويؤيده ما روى أنس أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «المقتول في سبيل الله والمتوفّى في سبيل الله
بغير قتل هما في الأجر شريكان» ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها
بالذكر فائدة .
قوله : «ليدخلنّهم»
هذه الجملة يجوز أن تكون بدلا من «ليرزقنّهم» وأن تكون مستأنفة . وقوله : (مُدْخَلاً
يَرْضَوْنَهُ) قال ابن عباس : إنما قال : «يرضونه» لأنهم يرون في الجنة
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ف «يرضونه» وقوله : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وقوله : (ارْجِعِي إِلى
رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً)(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ).
ثم قال : (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم ، أو عليم بما
يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة ، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على
المعصية ، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة .
قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ) «ذلك» خبر مبتدأ
مضمر أي : الأمر ذلك وما بعده مستأنف . والباء في قوله : (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ
بِهِ) للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء
__________________
والذي يظهر أن
الأولى يشبه أن تكون للآلة. (وَمَنْ عاقَبَ) مبتدأ خبره (لَيَنْصُرَنَّهُ
اللهُ).
فصل
المعنى : الأمر
ذلك الذي قصصنا عليك (وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي قاتل من كان يقاتله ، ثم كان المقاتل مبغيا عليه بأن
اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتدىء بالقتال .
قال مقاتل : نزلت
في قوم من قريش أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم ، وكره المسلمون قتالهم ، وسألوهم أن يكفوا عن
القتال من أجل الشهر الحرام ، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون
لهم فنصروا ، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية
، وعفا عنهم وغفر لهم .
والعقاب الأول
بمعنى الجزاء ، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله
تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ).
وهذه النّصرة تقوي
تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا
بذلك. وقال الضحاك : هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية .
قال الشافعي وأحمد
في إحدى الروايتين عنه : من حرّق حرّقناه ، ومن غرّق غرّقناه لهذا الآية ، فإن
الله تعالى جوّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر. وقال أبو حنيفة
وأحمد في الرواية الأخرى : بل يقتل بالسيف. فإن قيل : كيف تعلق الآية بما قبلها؟
فالجواب : كأنه
تعالى قال : مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من
بغى عليهم .
ثم قال : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللهِ)(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(وَلَمَنْ صَبَرَ
__________________
وَغَفَرَ
إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه تعالى قال :
إني عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها. وقيل : إنه تعالى وإن ضمن له النصر على الباغي
لكنه عرض مع ذلك بما هو أولى وهو العفو والمغفرة ، فلوّح بذكر هاتين الصفتين.
وفيه وجه آخر وهو
أنه تعالى دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو
إلا القادر على ضده .
قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ) وفيه وجهان :
الأول : أي : ذلك
النصر بسبب أنه قادر ، ومن قدرته كونه خالقا لليل والنهار ومتصرفا فيهما ، فوجب أن
يكون قادرا عالما بما يجري فيهما ، وإذا كان كذلك كان قادرا على النصر.
الثاني : المراد
أنه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما
في الآخر . ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر أنه يحصل ظلمة هذا في ضياء
ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم
بفقده.
وقيل هو أن يزيد
في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات . و «ذلك» مبتدأ و (بِأَنَّ اللهَ) خبره ، ثم قال : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي : أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، فكذلك يدرك
المسموع والمبصر ، ولا يجوز المنع عليه ، وذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز
في المسموع والمبصر .
قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) الآية. قرأ العامة «وأن ما» عطفا على الأول . والحسن بكسرها استئنافا . وقوله : (هُوَ الْحَقُّ) يجوز أن يكون فصلا ومبتدأ.
وجوّز أبو البقاء
أن يكون توكيدا . وهو غلط لأن المضمر لا يؤكد المظهر ، ولكان صيغة النصب أولى به من الرفع فيقال : إياه ، لأن
المتبوع منصوب. وقرأ الأخوان
__________________
وحفص وأبو عمرو
هنا وفي لقمان «يدعون» بالياء من
تحت. والباقون بالتاء من فوق ، والفعل مبني للفاعل وقرأ مجاهد واليماني بالياء من تحت مبنيا للمفعول . والواو التي هي ضمير تعود على معنى «ما» والمراد بها الأصنام أو الشياطين ، ومعنى الآية : أن ذلك الوصف الذي تقدم من القدرة على هذه
الأمور لأجل أن الله هو الحق ، أي : هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير
والزوال وأن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كقوله :
(لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ
فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ).
(وَأَنَّ اللهَ هُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) العلي القاهر المقتدر نبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر
من يعبد مرغبا بذلك في عبادته زاجرا عن عبادة غيره ، وأما الكبير فهو العظيم في
قدرته وسلطانه ، وذلك يفيد كمال القدرة .
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
وَهُوَ
الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ)(٦٦)
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) الآية لما دل على قدرته بما تقدم أتبعه بأنواع أخر من
الدلائل على قدرته ونعمته فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ) وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المراد
الرؤية الحقيقية ، لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين ،
__________________
واخضرار النبات
على الأرض مرئي ، فحمل الكلام على حقيقته أولى.
والثاني : المراد
ألم تخبر على سبيل الاستفهام.
الثالث : المراد
ألم تعلم .
قال ابن الخطيب :
والأول ضعيف ، لأن الماء وإن كان مرئيا إلا أن كون الله منزلا له من السماء غير
مرئي ، وإذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم ،
لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل .
قوله : «فتصبح»
فيه قولان :
أحدهما : أنه
مضارع لفظا ماض معنى تقديره : فأصبحت ، قاله أبو البقاء ، ثم قال بعد أن عطفه على «أنزل» : فلا موضع له إذا . وهو كلام ضعيف ، لأن عطفه على «أنزل» يقتضي أن يكون له
محل من الإعراب وهو الرفع خبرا ل «أن». لكنه لا يجوز لعدم الربط.
الثاني : أنه على
بابه ، ورفعه على الاستئناف. قال أبو البقاء : فهي ، أي : القصة ، و (تصبح) الخبر . قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ ، بل هذه جملة
فعلية مستأنفة لا سيما وقدّر المبتدأ ضمير القصة ثم حذفه ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يؤتى
بضمير القصة إلا للتأكيد والتعظيم والحذف ينافيه . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت ، ولم صرف إلى
لفظ المضارع. قلت : لنكتة فيه ، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول :
أنعم عليّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو شاكرا له ، ولو قلت : فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب
جوابا بالاستفهام. قلت : لو نصب لأعطى عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار ،
فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك
فتشكر. إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر ، وهذا
وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله . وقال ابن عطية : قوله : «فتصبح» بمنزلة قوله : فتضحى أو
تصير ، عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ، ووقع قوله : «فتصبح» من حيث
__________________
الآية خبر ،
والفاء عاطفة وليست بجواب ، لأن كونها جوابا لقوله : (أَلَمْ تَرَ) فاسد المعنى . قال أبو حيان : ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون
النصب نافيا للاخضرار ، ولا كون المعنى فاسدا. قال سيبويه : وسألته ـ يعني الخليل ـ عن
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال : هذا واجب وتنبيه ، كأنك قلت : أتسمع أنزل الله من
السماء ماء فكان كذا وكذا .
قال ابن خروف :
وقوله : هذا واجب. وقوله : فكان كذا. يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام ب «أتسمع». (ليريك
أنه لا يتصل بالاستفهام) لضعف حكم الاستفهام فيه .
وقال بعض شراح
الكتاب : «فتصبح» لا يمكن نصبة ، لأن الكلام واجب ، ألا ترى أن المعنى أن الله
أنزل فالأرض هذه حالها . وقال الفراء : «الم تر» خبر ، كما تقول في الكلام : اعلم
أن الله يفعل كذا فيكون كذا . ويقول : إنما امتنع النصب جوابا للاستفهام هنا ، لأن النفي إذا
دخل عليه الاستفهام ، وإن كان يقتضي تقريرا في بعض الكلام ، هو معامل معاملة النفي
المحض في الجواب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى) وكذلك الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل
منهما ينتفي الجواب. فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا. بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا
محدثا ، وإنما تأتينا ولا تحدّث ، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتي فكيف تحدث ،
فالحديث منتف في الحالتين ، والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت
ما دخلته الهمزة وينفي الجواب ، فيلزم من هذا التقدير إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار ،
وهو خلاف المقصود.
__________________
وأيضا فإن جواب
الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء كقوله :
٣٧٧٥ ـ ألم تسأل فتخبرك الرّسوم
يتقدر : إن تسأل
تخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر : إن تر إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة ، لأن
اخضرارها ليس مترتبا على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال.
وإنما عبر
بالمضارع ، لأن فيه تصوير الهيئة التي الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض ، والماضي يفيد
انقطاع الشيء ، وهذا كقول جحدر بن معاوية يصف حاله مع أسد نازله في قصة جرت له مع
الحجاج بن يوسف الثقفي ، وهي أبيات فمنها :
٣٧٧٦ ـ يسمو بناظرتين تحسب فيهما
|
|
لما أجالهما
شعاع سراج
|
لما نزلت بحصن
أزبر مهصر
|
|
للقرن أرواح
العدا محّاج
|
فأكرّ أحمل وهو
يقعي باسته
|
|
فإذا يعود فراجع
أدراج
|
وعلمت أنّي إن
أبيت نزاله
|
|
أنّي من الحجّاج
لست بناج
|
فقوله : فأكرّ
تصوير للحالة التي لابسها . قال شهاب الدين : أما قوله : وأيضا فإن جواب الاستفهام
ينعقد مع الاستفهام. إلى قوله : إنما هو مترتب على الإنزال. منتزع من كلام أبي
البقاء. قال أبو البقاء : إنما رفع الفعل هنا وإن كان قبله استفهام لأمرين :
أحدهما : أنه
استفهام بمعنى الخبر ، أي قدر رأيت فلا يكون له جواب.
والثاني : أن ما
بعد الفاء ينصب إذا كان المستفهم عنه سببا له ، ورؤيته لإنزال الماء لا يوجب
اخضرار الأرض ، وإنما يجب على الماء . وأما قوله : وإنما عبر بالمضارع. فهو معنى كلام الزمخشري
بعينه ، وإنما غير عبارته وأوسعها .
__________________
وقوله : «فتصبح»
استدل به بعضهم على أن الفاء لا تقتضي التعقيب ، قال : لأن اخضرارها متراخ عن
إنزال الماء ، هذا بالمشاهدة.
وأجيب عن ذلك بما
نقله عكرمة من أن أرض مكة وتهامة على ما ذكروا أنها تمطر الليلة فتصبح الأرض غدوة
خضرة ، فالفاء على بابها . قال ابن عطية : شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة
التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف . وقيل : تراها كل شيء بحسبه ، وقيل : ثم جمل محذوفة قبل الفاء تقديره : فتهتز وتربو
وتنبت ، بيّن ذلك قوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ) وهذا من الحذف الذي يدل عليه فحوى الكلام كقوله تعالى : (فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ
أَفْتِنا) إلى آخر القصة. و «تصبح» يجوز أن تكون الناقصة وأن تكون
التامة «مخضرّة» حال قاله أبو البقاء . وفيه بعد عن المعنى إذ يصير التقدير فتدخل الأرض في وقت
الصباح على هذه الحال. ويجوز فيها أيضا أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران
مضمون الجملة بهذا الزمن الخاص ، وإنما خص هذا الوقت لأن الخضرة والبساتين أبهج ما
ترى فيه ويجوز أن تكون بمعنى تصير. وقرأ العامة «مخضرّة» بضم الميم وتشديد الراء
اسم فاعل من اخضرّت فهي مخضرّة ، والأصل مخضررة بكسر الراء الأولى فأدغمت في
مثلها. وقرأ بعضهم «مخضرة» بفتح الميم وتخفيف الراء بزنة مبقلة ومسبعة.
والمعنى : ذات
خضروات وذات سباع وذات بقل.
ثم قال : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي : أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به ، لأن
الأرض إذا أصبحت مخضرة ، والسماء إذا أمطرت كان ذلك سببا لعيش الحيوان أجمع. ومعنى
«خبير» أي ؛ عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك
__________________
من غير زيادة ولا
نقصان. وقال ابن عباس : «لطيف» بأرزاق عباده «خبير» بما في قلوبهم من القنوط. وقال
الكلبي : «لطيف» في أفعاله «خبير» بأعمال خلقه.
وقال مقاتل : «لطيف»
باستخراج النبت «خبير» بكيفية خلقه .
(لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) عبيدا وملكا ، وهو غني عن كل شيء لأنه كامل لذاته ، ولكنه
لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من مطر ونبات فخلق هذه الأشياء
رحمة للحيوانات وإنعاما عليهم لا لحاجة به إلى ذلك ، وإذا كان كذلك كان إنعامه خاليا عن غرض عائد
إليه ، فكان مستحقا للحمد ، فكأنه قال : إنه لكونه غنيا لم يفعل ما فعله إلا
للإحسان ، ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا ، فلهذا قال : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ).
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ
ما فِي الْأَرْضِ) أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ، ولا أشد من الحديد
، ولا أكثر هيبة من النار ، وقد سخرها لكم ، وسخر الحيوانات أيضا حتى ينتفع بها
للأكل والركوب والحمل .
قوله : (وَالْفُلْكَ) العامة على نصب «الفلك» وفيه وجهان :
أحدهما : أنها عطف
على (ما فِي الْأَرْضِ) أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك ، وأفردها بالذكر
وإن اندرجت بطريق العموم تحت «ما» في قوله (ما فِي الْأَرْضِ) لظهور الامتنان بها ، ولعجيب تسخيرها دون سائر المسخرات ، و
«تجري» على هذا حال .
والثاني : أنها
عطف على الجلالة ، وتقديره : ألم تر أنّ الفلك تجري في البحر ، ف «تجري» خبر على هذا . وضم لام «الفلك» هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن ، وهي
قراءة ابن مقسم ، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني
برفع (وَالْفُلْكَ) على الابتداء ، و «تجري» بعده الخبر . ويجوز أن يكون ارتفاعه
__________________
عطفا على محل اسم «إن»
عند من يجيز ذلك نحو إن زيدا وعمرو قائمان ، وعلى هذا ف «تجري» حال أيضا والباء في «بأمره» للسببية.
فصل
وكيفية تسخيره
الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح تجريها ، فلو لا صفتها على ما هما عليه لما جرت
بل كانت تغوص أو تقف فنبه تعالى على نعمته بذلك ، وبأن خلق ما تعمل منه
السفن ، وبأن بين كيف تعمل ، وقال : «بأمره» لما كان تعالى هو المجري لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعا ، لأن ذلك يفيد (تعظيمه
بأكثر مما يفيد) لو أضافه إلى فعله على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة .
قوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ) (في «أن تقع») ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في
محل نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر تقديره من أن تقع .
الثاني : أنها في
محل نصب فقط لأنها بدل من «السماء» بدل اشتمال أي ويمسك وقوعها بمنعه.
الثالث : أنها في
محل نصب على المفعول من أجله ، فالبصريون يقدرون كراهة أن تقع ، والكوفيون لئلا
تقع .
قوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) في هذا الجار وجهان :
أحدهما : أنه
متعلق ب «تقع» أي : إلا بإذنه فتقع .
والثاني : أنه
متعلق ب «يمسك».
قال ابن عطية :
ويحتمل أن يعود قوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) على الإمساك ، لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، كأنه
أراد إلا بإذنه فيه نمسكها . قال أبو حيان : ولو كان
__________________
على ما قال لكان
التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء ويكون التقدير : ويمسك السماء بإذنه .
قال شهاب الدين :
فهذا الاستثناء مفرغ ، ولا يقع في موجب ، لكنه لما كان الكلام قبله في قوة النفي
ساغ ذلك إذ التقدير : لا يتركها تقع إلا بإذنه ، والذي يظهر أن هذه الباء حالية ،
أي : إلا ملتبسة بأمره . ثم قال : (إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد
بلغ الغاية في الإحسان والإنعام ، فهو إذا رؤوف رحيم قوله : (وَهُوَ الَّذِي
أَحْياكُمْ) أنشأكم ولم تكونوا شيئا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة للثواب والعقاب (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ) لنعم الله عزوجل ، وهذا كما يعدد المرء نعمه على ولده ثم يقول: إن الولد لكفور لنعم الوالد
زجرا له عن الكفران ، وبعثا له على الشكر ، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار ، فبين
أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ).
قال ابن عباس :
الإنسان هنا هو الكافر ، وقال في رواية : هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف. والأولى أنه في كل المنكرين .
قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً
هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ
لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ
فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٦٩)
قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) لما عدد نعمه وأنه لرؤوف رحيم بعباده ، وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر ، أتبعه بذكر
نعمه بما كلّف ، فقال : (لِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً). وحذف الواو من قوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ) لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فحذف العاطف.
قال الزمخشري :
لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في
__________________
أمر النسائك فعطفت
على أخواتها ، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا .
قوله : (هُمْ ناسِكُوهُ) هذه الجملة صفة ل «منسكا». وقد تقدم أنه يقرأ بالفتح
والكسر ، وتقدم الخلاف فيه هل هو مصدر أو مكان . وقال ابن عطية : «ناسكوه» يعطي أن المنسك المصدر ، ولو
كان مكانا لقال : ناسكون فيه . يعني أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير الظرف إلا بواسطة (في).
وما قاله غير لازم ، لأنه قد يتسع في الظرف فيجري مجرى المفعول فيصل الفعل إلى
ضميره بنفسه ، وكذا ما عمل عمل الفعل .
ومن الاتساع في
ظرف الزمان قوله :
٣٧٧٧ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا
|
|
قليل سوى الطّعن
النّهال نوافله
|
ومن الاتساع في ظرف
المكان قوله :
٣٧٧٨ ـ ومشرب أشربه وشيل
|
|
لا آجن الماء
ولا وبيل
|
يريد أشرب فيه.
فصل
روي عن ابن عباس :
المنسك شريعة عاملون بها ، ويؤيده قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً). وروي عنه أنه قال : عيدا يذبحون فيه. وقال مجاهد وقتادة : قربان
يذبحون. وقيل : موضع عبادة. وقيل : مألفا يألفونه والأول أولى لأن المنسك
__________________
مأخوذ من النسك
وهو العبادة ، وإذا وقع الاسم على عبادة فلا وجه للتخصيص .
فإن قيل : هلا
حملتموه على الذبح ، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على
موضع العبادة وعلى وقتها؟
فالجواب عن الأول
: لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح ، لأن سائر أفعال الحج تسمى مناسك قال عليهالسلام : «خذوا عنّي مناسككم» .
وعن الثاني : أن
قوله : (هُمْ ناسِكُوهُ) أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان . (فَلا يُنازِعُنَّكَ) قرأ الجمهور بتشديد النون ، وقرىء بالنون الخفيفة وقرأ أبو مجلز «فلا ينزعنك» من نزعته من كذا أي قلعته منه. وقال الزجاج : هو من نازعته
فنزعته أنزعه أي : غلبته في المنازعة . ومجيء هذه الآية كقوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) وقولهم : لا أرينّك ههنا .
فصل
معنى الكلام على
قراءة أبي مجلز : أي اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه وعلى قراءة : «ينازعنّك» فيه قولان :
الأول : قال
الزجاج : إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربك فلان أي : لا تضاربه . قال بعض المفسرين : (فَلا يُنازِعُنَّكَ
فِي الْأَمْرِ) في أمر الذبائح ، نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان
ويزيد بن حبيش قالوا لأصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم : ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما قتل الله
.
__________________
والثاني : أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك ، وقد استقر
الآن الأمر على شرعك ، وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه ، فكأنه قال : كل أمة بقيت منها بقية يلزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول ـ عليهالسلام ـ فلذلك قال : «وادع إلى ربّك» أي : لا تخص بالدعاء أمة
دون أمة ، فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك ، فإنك على هدى مستقيم
والهدى يحتمل أن يكون نفس الدين ، وأن يكون أدلة الدين ، وهو
أولى. كأنه قال : ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ،
ولهذا قال : (وَإِنْ جادَلُوكَ) أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى المراء والتمسك بعادتهم (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي أنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى
الوعيد والتحذير من يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب
لمن ردّ وأنكر. فقال : (اللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فتعرفون حينئذ الحق من الباطل .
قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ)(٧٢)
قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الآية. لما قال : (اللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ) أتبعه بما به يعلم أنه تعالى عالم بما يستحقه كل أحد ، ويقع الحكم بينهم بالعدل لا بالجور فقال
لرسوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، وهذا استفهام معناه تقوية قلب الرسول ـ عليهالسلام ـ والوعد له وإبعاد الكافرين بأن أفعالهم كلها محفوظة عند
الله لا يضل عنه ولا ينسى. والخطاب مع الرسول والمراد سائر العباد لأن الرسالة لا
تثبت إلا بعد العلم بكونه تعالى عالما بكل المعلومات ، إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن
يشتبه عليه الكاذب بالصادق ، فحينئذ لا يكون إظهار المعجزة دليلا على الصدق ، وإذا
كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالما بذلك ، فثبت أن المراد
__________________
أن يكون خطابا مع
الغير ثم قال : (إِنَّ ذلِكَ فِي
كِتابٍ) أي : كله في كتاب يعني اللوح المحفوظ .
وقال أبو مسلم :
معنى الكتاب الحفظ والضّبط والشّد ، يقال : كتبت المزادة أكتبها إذا خرزتها ، فحفظت بذلك ما فيها ، ومعنى الكتاب
بين الناس حفظ ما يتعاملون به ، فالمراد بالآية أنه محفوظ عنده. وأيضا فالقول
الأول يوهم أن علمه مستفاد من الكتاب.
وأجيب بأن هذا
القول وإن كان صحيحا نظرا إلى الاشتقاق لكن حمل اللفظ على المتعارف أولى ، ومعلوم
أن الكتاب هو ما كتب فيه الأمور .
فإن قيل : أي
فائدة في ذلك الكتاب إذا كان محفوظا؟
فالجواب أن كتبه
تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات دليل على أنه تعالى غني في
علمه عن ذلك الكتاب. وفائدة أن الملائكة ينظرون فيه ، ثم يرون الحوادث داخلة في
الوجود على وفقه فيصير ذلك دليلا لهم زائدا على كونه تعالى عالما بكل المعلومات وقوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيرٌ) أي العلم بجميع ذلك على الله يسير. والمعنى : إن ذلك مما
يتعذر على الخلق لكنه متى أراده الله تعالى كان ، فعبر عن ذلك بأنه يسير ، وإن كان
هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور ، وتعالى الله عن ذلك . ثم إنه تعالى بين ما يقدم الكفار عليه مع عظم نعمه ووضوح
دلائله فقال :
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجة (وَما لَيْسَ لَهُمْ
بِهِ عِلْمٌ) أي : عن جهل ، وليس لهم به دليل عقلي فهو تقليد وجهل ،
والقول الذي هذا شأنه يكون باطلا.
(وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ نَصِيرٍ) أي وما للمشركين من نصير مانع يمنعهم من عذاب الله.
قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) يعني القرآن «بيّنات» لأنه متضمن للدلائل العقلية وبيان
الأحكام. وقوله : «تعرف» العامة على «تعرف» خطابا مبنيا للفاعل ، «المنكر» مفعول
به. وعيسى بن عمر «يعرف» بالياء من تحت مبنيا للمفعول ، «المنكر» مرفوع قائم مقامل
الفاعل ، والمنكر اسم مصدر بمعنى الإنكار.
وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) من إقامة الظاهر مقام المضمر للشهادة عليهم بذلك ، قال
__________________
الكلبي : تعرف في
وجوههم الكراهية للقرآن. وقال ابن عباس : التجبر والترفع. وقال مقاتل : أنكروا أن
يكون من الله .
قوله : (يَكادُونَ يَسْطُونَ) هذه حال إما من الموصول ، وإن كان مضافا إليه لأن المضاف
جزؤه وإما من الوجوه لأنها يعبّر بها عن أصحابها كقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) ثم قال : (أُولئِكَ هُمُ). و «يسطون» ضمن معنى يبطشون فتعدى تعديته ، وإلا فهو متعدّ ب (على). يقال : سطا عليه ، وأصله القهر
والغلبة ، وقيل : إظهار ما يهول للإخافة ، ولفلان سطوة أي تسلط
وقهر. وقال الخليل والفراء والزجاج : السطو شدة البطش والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيما
لإنكار ما خوطبوا به . أي : يكادون يبطشون (بِالَّذِينَ
يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي بمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأصحابه من شدة الغيظ ، يقال : سطا عليه وسطا به إذا
تناوله بالبطش والعنف ثم أمر رسوله بأن يقابلهم بالوعيد فقال : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون. أو من
غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي
عليكم . قوله : «النار» تقرأ بالحركات الثلاث ، فالرفع من وجهين :
أحدهما : الرفع
على الابتداء والخبر الجملة من (وَعَدَهَا اللهُ) ، والجملة لا محل لها فإنها مفسرة للشر المتقدم كأنه قيل :
ما شر من ذلك؟ (فقيل : النار وعدها الله.
والثاني : أنها
خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل : ما شر من ذلك) فقيل : النار أي : هو النار وحينئذ يجوز في (وَعَدَهَا اللهُ) الرفع على كونها خبرا بعد خبر ، وأجيز أن يكون بدلا من النار. وفيه نظر من حيث إن المبدل
منه مفرد ، وقد يجاب عنه بأن الجملة في تأويل مفرد ، ويكون بدل اشتمال ، كأنه قيل : النار وعدها الله الكفار.
__________________
وأجيز أن تكون
مستأنفة لا محل لها . ولا يجوز أن تكون حالا ، قال أبو البقاء لأنه ليس في
الجملة ما يصلح أن يعمل في الحال .
وظاهر نقل أبي
حيان عن الزمخشري أنه يجيز كونها حالا فقال : وأجاز الزمخشري أن تكون «النّار»
مبتدأ و «وعدها» خبر ، وأن تكون حالا على الإعراب الأول انتهى.
والإعراب الأول هو
كون «النار» خبر مبتدأ مضمر. والزمخشري لم يجعلها حالا إلا إذا نصبت النار» أو
جررتها بإضمار قد . هذا نصه وإنما منع ذلك لما تقدم من قول أبي البقاء ، وهو
عدم العامل. وأما النصب فهو قراءة زيد بن علي وابن أبي عبلة . وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها
منصوبة بفعل مقدر يفسره الفعل الظاهر ، والمسألة من الاشتغال .
الثاني : قال
الزمخشري : إنها منصوبة على الاختصاص .
الثالث : أن ينتصب
بإضمار أعني ، وهو قريب مما قبله أو هو هو. وأما الجر فهو قراءة ابن
إبي إسحاق وإبراهيم بن نوح ، على البدل من «شرّ» والضمير في «وعدها» قال أبو حيان : الظاهر أنه هو المفعول
الأول ، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم ، ألا ترى إلى قوله
تعالى : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ) ، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول الأول ، كما قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ
وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ). قال شهاب الدين : وينبغي أن يتعين هذا الثاني ، لأنه متى
اجتمع بعد ما يتعدى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول ، فالفاعل المعنوي
رتبته التقديم وهو المفعول الأول ، ونعني بالفاعل المعنوي من يتأتى منه فعل ، فإذا
قلت : وعدت زيدا دينارا. فالدينار هو المفعول ، لأنه لا يتأتى منه فعل ، وهو
__________________
نظير أعطيت زيدا
درهما. فزيد هو الفاعل ، لأنه آخذ للدرهم .
وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف تقديره : وبئس المصير هي النار.
فصل
والمعنى : أن الذي
ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب والغم ، وهي النار
وعدها الله الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وبئس المصير هي.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٧٤)
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ) الآية لما بين أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به
ولا علم ذكر هاهنا ما يدل على إبطال قولهم .
قوله : (ضُرِبَ مَثَلٌ) قال الأخفش : ليس هذا مثل وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلا . قال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس مثلا ، فكيف سماه مثلا؟ قلت
قد سميت الصفة والقصة الرائعة المتلقاة بالامتحان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض
الأمثال المسيرة لكونها مستغربة مستحسنة . وقيل : معنى «ضرب» جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث ،
وضرب الجزية على أهل الذمة. ومعنى الآية : فجعل لي شبه وشبّه بي الأوثان ، أي : جعل
المشركون الأصنام شركائي فعبدوها. وقيل : هو مثل من حيث المعنى ، لأنه ضرب مثل من
يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذبابا . (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي : فتدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع ، وإنما
ينفع بالتدبر.
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) قرأ العامة «تدعون» بتاء الخطاب والحسن ويعقوب وهارون
ومحبوب عن أبي عمرو بالياء من تحت وهو في كلتيهما مبني للفاعل .
__________________
وموسى الأسواري واليماني «يدعون» بالياء من أسفل مبنيا للمفعول . والمراد الأصنام. فإن قيل : قول «ضرب» يفيد فيما مضى ،
والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء فالجواب : إذا كان ما يورد من الوصف
معلوما من قبل جاز ذلك فيه ، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر تقدم .
قوله : (لَنْ يَخْلُقُوا). جعل الزمخشري نفي «لن» للتأبيد وتقدم البحث معه في ذلك. والذباب معروف ، وهو واحد ، وجمعه القليل : أذبّه ، وفيه
الكسرة ، ويجمع على ذبّان وذبّان بكسر الذال وضمها وعلى ذبّ . والمذبّة ما يطرد بها الذباب . وهو اسم جنس واحدته ذبابة تقع للمذكر والمؤنث فتفرد
بالوصف.
قوله : (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال يستحيل خلقهم
الذباب حال اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه فكيف حال انفرادهم . وقد تقدم أن هذه الواو عاطفة هذه الجملة الحالية على حال محذوفة ، أي : انتفى خلقهم الذباب
على كل حال ولو في هذه الحالة المقتضية لخلقهم ، فكأنه تعالى قال : إن هذه الأصنام لو اجتمعت لا
تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا .
__________________
قوله : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) السلب اختطاف الشيء بسرعة ، يقال : سلبه نعمته.
والسلب : ما على
القتيل ، وفي الحديث : «من قتل قتيلا فله سلبه» .
وقوله : (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) الاستنقاذ : استفعال بمعنى الإفعال ، يقال : أنقذه من
كربته ، أي : أنجاه منه وخلصه ، ومثله : أبلّ المريض واستبلّ .
فصل
كأنه تعالى قال :
أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم فيما هو أسهل منه ، فإن الذباب إذا سلب منها شيئا فهي لا
تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب. واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك
بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة ، وأما الثانية فلا.
فإن قيل هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة
عالمة حية مدبرة ، وإما لنفي كونها مستحقة للتعظيم ، والأول فاسد ، لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة ، فلا فائدة في
إقامة الدلالة عليه. وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده ، لأنه لا يلزم من نفي
كونها حيّة أن لا تكون معظمة ، فإن جهات التعظيم مختلفة ، فالقوم كانوا
يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صور الكواكب ، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء
المتقدمين.
فالجواب : أما
كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الضر والنفع ، فهو يبطل بهذه
الدلالة ، فإنها لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا
تنفع غيرها أولى. وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين ، فقد تقرر في
العقل أنّ تعظيم غير الله ينبغي أن يكون أقل من تعظيم الله ، والقوم كانوا
__________________
يعظمونها نهاية
التعظيم ، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم ، فمن
هاهنا استوجبوا الذم .
فصل
قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ، فإذا جفّ جاءت الذباب فاستلبته وقال السدي : كانوا يضعون
الطعام بين يدي الأصنام فيقع الذباب عليه فيأكلن منه .
وقال ابن زيد :
كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلىء وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بأنواع الطيب
، فربما يسقط منها واحدة فأخذها طائر وذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قيل : هو إخبار. وقيل : تعجب. والأول أظهر .
قال ابن عباس :
الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم ، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه
السلب . وقيل : العكس الطالب الصنم والمطلوب الذباب ، فالصنم كالطالب لأنه لو طلب أن
يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه ، والذباب بمنزلة المطلوب . وقال الضحاك : الطالب العابد والمطلوب المعبود ، لأن كون
الصنم طالبا ليس حقيقة بل على سبيل التقدير . وقيل : المعنى ضعف أي ظهر قبح هذا المذهب كما يقال عند
المناظرة : ما أضعف هذا المذهب ، وما أضعف هذا الوجه .
قوله : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظموه حق تعظيمه ، حيث جعلوا هذه الأصنام على
نهاية خساستها شركاء له في المعبودية . (إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) : «قويّ» لا يتعذر عليه فعل شيء «عزيز» لا يقدر أحد على
مغالبته ، فأي حاجة إلى القول بالشريك .
قال الكلبي : في
هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام : أنها نزلت في
مالك
__________________
ابن الصيف وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وغيرهم من اليهود ، حيث
قالوا : إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها ، فاستلقى
واستراح ، ووضع إحدى رجليه على الأخرى ، فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم ، ونزل قوله :
(وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ)» .
قوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٧٦)
قوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً) الآية لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر هاهنا ما يتعلق
بالنبوات. قال بعضهم : [تقدير الكلام : ومن الناس رسلا. ولا حاجة لذلك ، بل قوله (وَمِنَ النَّاسِ) مقدّر التقديم ، أي : يصطفي من الملائكة ومن الناس رسلا]. قال مقاتل : قال الوليد بن المغيرة (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا)؟ فأنزل الله هذه الآية فإن قيل : كلمة «من» للتبعيض ، فقوله (مِنَ الْمَلائِكَةِ) يقتضي أن يكون الرسل بعضهم لا كلهم ، وقوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) يقتضي كون كلهم رسلا ، فكيف الجمع؟
فالجواب : يجوز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلا إلى بني آدم ، وهم أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، والحفظة صلوات
الله عليهم ، وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض. فإن قيل : قوله في سورة الزمر (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى ، وهذه الآية تدل على
أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين ، فلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد.
فالجواب : أن قوله
: (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى) يدل على أن كل ولد
__________________
مصطفى ولا يدل على أن كل مصطفى ولد ، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على
وجود مصطفى كونه ولدا. وأيضا فالمراد من هذه الآية تبكيت من عبد غير الله من
الملائكة ، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان ، وفي هذه الآية
أبطل قول عبدة الملائكة ، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة لأن الله
اصطفاهم لمكان عبادتهم ، فكأنه تعالى بيّن أنهم (ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) إذ جعلوا الملائكة معبودة مع الله.
ثم بين تعالى : بقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ) أنه يسمع ما يقولون ، ويرى ما يفعلون ولذلك أتبعه بقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ). قال ابن عباس : ما قدموا وما خلفوا وقال الحسن : (ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ) ما عملوا ، (وَما خَلْفَهُمْ) ما هم عاملون من بعد . ثم قال : (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) إشارة إلى القدرة التامة ، والتفرد بالإلهية والحكم ، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية .
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي
هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى
النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ
مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨)
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا) إلى آخر السورة. لما ذكر الإلهيات ثم النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع ، وهو من أربعة أوجه
:
الأول : تعيين
المأمور.
والثاني : أقسام
المأمور به.
والثالث : ذكر ما
يوجب تلك الأوامر.
والرابع : تأكيد
ذلك التكليف.
فأما تعيين
المأمور به فهو قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا خطاب للمؤمنين ؛ لأنه
__________________
صرح بهم ، ولقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) ، ولقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ) ، وقوله (وَتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ). وقيل : خطاب لكل المكلفين مؤمنا كان أو كافرا ؛ لأن
التكليف بهذه الإشارة عامّ في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمن بذلك. وأما
فائدة التخصيص ، فلأنه لما لم يقبله إلا المؤمنون خصهم بالذكر ليحرضهم على
المواظبة على ما قبلوه ، وكالتشريف لهم في ذلك الإفراد. وأما المأمور به فأربعة أمور :
الأول : الصلاة
وهو المراد بقوله : (ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا) وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود ، والصلاة
هي المختصة بهذين الركنين ، فجرى ذكرهما مجرى ذكر الصلاة ، وذكر ابن عباس : أن
الناس كانوا في أول إسلامهم يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية.
والثاني : قوله : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) قيل : وحدوه. وقيل : اعبدوا ربكم في سائر المأمورات
والمنهيات. وقيل : افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات بنية العبادة.
الثالث : قوله : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) قال ابن عباس : هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفوزوا بالجنة. وقيل : كلمة «لعلّ» للترجي ، فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير ، فليس هو على يقين من أن الذي أتى به هل هو
مقبول عند الله والعواقب مستورة «وكل ميسر لما خلق له»
فصل
اختلفوا في سجود
التلاوة عند قراءة هذه الآية ، فذهب عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود
وابن عباس : إلى أنه يسجد ، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لما روى عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين
قال : «نعم ، من لم يسجدهما فلا يقرأهما» . وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : لا يسجد هاهنا. وعدد
سجود القرآن أربع عشرة سجدة عند أكثر أهل العلم منها ثلاث في المفصل ، وروي عن
أبيّ بن كعب وابن عباس : ليس في المفصل سجود ، وبه قال مالك.
__________________
وقد صح عن أبي
هريرة قال : سجدنا مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في «اقرأ» » و (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ). وأبو هريرة متأخر الإسلام. واختلفوا في سجدة ص فروي عن ابن عباس أنها سجدة شكر وهو مذهب الشافعي وعن عمر
أنه يسجد فيها ، وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق .
الرابع : قوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) يجوز أن يكون (حَقَّ جِهادِهِ) منصوبا على المصدر ، وهو واضح. وقال أبو البقاء : ويجوز أن
يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي جهادا حق جهاده. وفيه نظر من حيث إن هذا معرفة فكيف يجعل صفة لنكرة.
قال الزمخشري :
فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة ، وكان القياس : حقّ الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه
كما قال (وَجاهِدُوا فِي اللهِ). قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد
مختصا بالله من حيث إنه مفعول من أجله ولوجهه صحت إضافته إليه ، ويجوز أن يتسع في
الظرف كقوله :
٣٧٧٩ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا
يعني بالظرف الجار
والمجرور كأنه كان الأصل : حق جهاد فيه. فحذف حرف الجر وأضيف المصدر للضمير ، وهو من باب
هو حقّ عالم وجد ، أي : عالم حقا وعالم جدا .
فصل
المعنى : (جاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ) «أعداء الله حق
جهاده» هو استفراغ الطاقة فيه.
قاله ابن عباس ،
وعنه قال : لا تخافون لومة لائم. وقال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه
حق عبادته. وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) وهذا بعيد لأن التكليف شرطه القدرة لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً
__________________
(إِلَّا وُسْعَها)(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ) و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). فكيف يقول : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) على وجه لا يقدرون عليه ؟ وقال أكثر المفسرين: حق الجهاد أن يكون بنية صادقة . وقيل : يفعله عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم
والغنيمة . وقيل : يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا ، فقد كان جهادهم في الأول أقوى ،
وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر ، روي عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ «وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر
الزمان كما جاهدتم في أوله» قال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال :
إذا كانت بنو أمية الأمراء ، وبنو المغيرة الوزراء. واعلم أنه يبعد أن تكون هذه
الزيادة من القرآن ، وإلا لنقل كنقل نظائره ، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما
قاله كالتفسير للآية.
وروي عن ابن عباس
أنه قرأ : «وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة» فقال عمر ـ رضي الله عنه
ـ : من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال : صدقت. وقيل
: معنى الآية : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله ، وإقامة حقوقه بالحرب واليد
واللسان ، وجميع ما يمكن ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل وقال ابن المبارك : هو
مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر [وهو حق الجهاد وقد روي أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لما رجع من غزوة تبوك قال : «رجعنا من الجهاد والأصغر
إلى الجهاد الأكبر» ] وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر
الجهاد مع النفس. وأما بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر ، فهو ثلاثة :
الأول : قوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ، وهذه من أعظم التشريفات ، فأي رتبة أعلى
من هذا ، وأي سعادة فوق هذا. ثم قال : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وهو كالجواب عن سؤال ، وهو أن التكليف وإن كان تشريفا لكنه
شاق على النفس؟ أجاب بعضهم بقوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، [روي أن أبا هريرة ـ رضي
__________________
الله عنه قال :
كيف قال الله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) مع أنه منعنا عن الزنا؟ فقال ابن عباس : بلى ، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا .
وهذا قول الكلبي.
قال المفسرون : معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجا بعضها
بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب
إلا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العذاب منه . وقال ابن عباس ومقاتل : هو الإتيان بالرخص ، فمن لم يستطع أن يصلي قائما
فليصل جالسا ، ومن لم يستطع ذلك فليوم ، وإباحة الفطر في السفر للصائم ، والقصر فيه
والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة .
فصل
استدلت المعتزلة
بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : لما خلق الله الكفر والمعصية
في الكافر والعاصي ، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج ، وذلك منفي بصريح هذا
النص.
والجواب أنه لما
أمره بترك الكفر ، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلا ، فقد أمر المكلف بقلب علم
الله جهلا ، وذلك من أعظم الحرج ، ولما استوى العدمان زال السؤال .
الموجب الثاني :
قوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) فيه أوجه :
أحدها : أنها
منصوبة باتبعوا مضمرا. قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء .
الثاني : أنها
منصوبة على الاختصاص ، أي : أعني بالدين ملة أبيكم .
الثالث : أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها ، كأنه قال : وسع دينكم
توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قاله الزمخشري . وهذا أظهرها .
الرابع : أنها منصوبة بجعلها مقدرا. قاله ابن عطية .
__________________
الخامس : أنها
منصوبة على حذف كاف الجر ، أي : كملة أبيكم. قاله الفراء ، وقال أبو البقاء قريبا منه ، فإنه قال : وقيل تقديره :
مثل ملة ، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف
إليه مقامه .
وقوله : «إبراهيم»
بدل أو بيان أو منصوب بأعني.
فصل
والمقصود من ذكر «إبراهيم»
التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين
لإبراهيم ـ عليهالسلام ـ لأنهم من أولاده ، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول هذا الدين . فإن قيل : ليس كل المسلمين يرجع نسبه إلى إبراهيم.
فالجواب : أن هذا خطاب مع العرب ، وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل : خاطب به جميع
المسلمين ، وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب إكرامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، فهو كقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ، وقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «إنما أنا لكم مثل الوالد» . فإن قيل : هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم سواء
، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ، ويؤكده قوله : (اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ).
فالجواب : إنما
وقع هذا الكلام مع عبدة الأوثان ، فكأنه قال : عبادة الله وترك الأوثان هي ملة
إبراهيم ، وأما تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع .
قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ) في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود
على «إبراهيم» ، لأنه أقرب مذكور إلا أن ابن عطية قال : وفي هذه اللفظة يعني قوله : (وَفِي هذا) ضعف قول من قال : الضمير ل «إبراهيم» ولا يتوجه إلا بتقدير
محذوف من الكلام مستأنف . انتهى.
ومعنى ضعف من قال
بذلك أن قوله : (وَفِي هذا) عطف على «من قبل» و «هذا» إشارة إلى القرآن ، فيلزم أن «إبراهيم»
سمّاهم المسلمين في القرآن ، وهو غير واضح ؛ لأن
__________________
القرآن المشار
إليه إنما أنزل بعد إبراهيم بمدد طوال ، فلذلك ضعف قوله.
وقوله : إلا
بتقدير محذوف الذي ينبغي أن يقدر : وسميتهم في هذا القرآن المسلمين وقال أبو
البقاء : قيل : الضمير ل «إبراهيم» فعلى هذا الوجه يكون قوله «وفي هذا» أي : وفي
هذا القرآن سبب تسميتهم وهو قول إبراهيم : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ، فاستجاب الله له ، وجعلها أمة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
والثاني : أن
الضمير يعود على الله تعالى ، ويدلّ له قراءة أبي «الله سماكم» بصريح الجلالة ، أي سماكم في الكتب السالفة وفي هذا القرآن
الكريم أيضا. وهو مرويّ عن ابن عباس ويؤيده قوله: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). فبيّن أنه سمّاهم بذلك لهذا الغرض ، وهذا لا يليق إلا
بالله .
فقوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) متعلق ب «سمّاكم» فبيّن فضلكم على سائر الأمم ، وسماكم بهذا الاسم لأجل
الشهادة المذكورة ، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو
الموجب الثالث لقبول التكليف ، وتقدم الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيدا علينا
وكيف تكون أمته شهداء على الناس في سورة البقرة . وأما ما يجري مجرى المؤكد لما مضى فهو قوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) فهي المفروضات ، لأنها المعهودة. واعتصموا بحبل الله أي
بدلائله العقلية والسمعية. قال ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كل المحرمات . وقيل : ثقوا بالله وتوكلوا عليه . وقال الحسن : تمسكوا بدين الله (هُوَ مَوْلاكُمْ) سيدكم والمتصرف فيكم وناصركم وحافظكم. (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) فكأنه تعالى قال : أنا مولاكم بل أنا ناصركم. وحسن حذف المخصوص بالمدح وقوع الثاني رأس آية وفاصلة.
فصل
احتجت المعتزلة
بهذه الآية من وجوه :
__________________
أحدها : أن قوله :
(لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ) يدلّ على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل ؛ لأنه تعالى لا
يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلا مرضيا ، فإذا أراد أن يكونوا شهداء على
الناس فقد أراد أن يكونوا جميعا صالحين عدولا ، وقد علمنا أن منهم فسّاقا ، فدل ذلك على أن الله ـ تعالى ـ أراد من الفاسق كونه
عدلا.
وثانيها : قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه.
وثالثها : قوله : (فَنِعْمَ الْمَوْلى) فإنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده
ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى ، بل كان لا يوجد من شر
المولى أحد إلا وهو شرّ منه ، فكان يجب أن يوصف بأنه بئس المولى. وذلك باطل فدل
على أنه ـ سبحانه ـ ما أراد من جميعهم إلا الصلاح. فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون
نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟ قلنا : إنه ـ تعالى ـ مولى
الكافرين والمؤمنين جميعا ، فيجب أن يقال : نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى
للكافرين ، فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله ـ تعالى ـ تعالى
الله عند ذلك.
ورابعها : أن قوله
: (سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله ـ تعالى ـ لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه
الخصوص.
والجواب عن الأول
: وهو قولهم إن كونه ـ تعالى ـ مريدا لكونه شاهدا يستلزم كونه مريدا لكونه عدلا.
فنقول : إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر يوجب
أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله ، ويلزم كونه ـ تعالى ـ مريدا لجهل نفسه ، وإن لم
يكن ذلك واجبا فقد سقط الكلام.
وأما قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) فيقال : هذا أيضا وارد عليكم ، فإنه ـ سبحانه ـ خلق الشهوة
في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهى وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه شياطين
الإنس والجن ، وعلم لا محالة أنه يقع في الفجور والضلال ، وفي الشاهد كل من فعل
ذلك فإنه يكون بئس المولى. فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازم عليكم وإن بطل
سقط كلامكم بالكلية والله أعلم .
روى الثعلبي
بإسناده عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة
اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» .
__________________
سورة المؤمنون
مكية وهي مائة وثمان عشرة آية ، وألف ومائتان وأربعون كلمة ،
وعدد حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
وَالَّذِينَ
هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥)
إِلاَّ
عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨)
وَالَّذِينَ
هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ
(٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠)
الَّذِينَ
يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١)
قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) الآيات العشر ، روى ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : كان إذا نزل
على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الوحي يسمع عند وجهه كدويّ النحل فمكثنا ساعة ، وفي
رواية : فنزل عليه يوما فمكثنا ساعة ، فاستقبل القبلة فرفع يديه ، وقال : «اللهمّ زدنا ولا تنقصنا ،
وأكرمنا ولا تهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنّا» ثم قال
: «لقد أنزل علينا عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة» ثم قرأ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) عشر آيات . ورواه الإمام أحمد ، وعلي بن المديني ، وجماعة عن عبد
__________________
الرزاق وقالوا : «وأعطنا ولا تحرمنا وارض عنّا» .
قوله : «قد» هنا
للتوقع ، قال الزمخشري : «قد» نقيضة «لمّا» قد تثبت المتوقع ولما تنفيه ، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لهذه
البشارة ، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دلّ على ثبات ما توقعوه . وقال البغوي : قد حرف تأكيد. وقال المحققون : قد يقرب
الماضي من الحال يدل على أن الفلاح قد
__________________
حصل لهم وأنهم عليه في الحال. وهو أبلغ من تجريد ذلك الفعل .
والعامة على «أفلح»
مفتوح الهمزة والحاء فعلا ماضيا مبنيا للفاعل ، وورش على قاعدته من نقل حركة
الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها . وعن حمزة في الوقف خلاف ، فروي عنه كورش وكالجماعة . وقال أبو البقاء : من ألقى حركة الهمزة على الدال وحذفها
فعلّته أنّ الهمزة بعد حذف حركتها صيّرت ألفا ، ثم حذفت لسكونها (وسكون الدال
قبلها في الأصل ولا يعتدّ بحركة الدال لأنها عارضة . وفي كلامه نظر من وجهين :
أحدهما : أنّ
اللغة الفصيحة في النقل حذف الهمزة من الأصل فيقولون : المرة والكمة في المرأة
والكمأة ، واللغة الضعيفة فيه إبقاؤها وتدبيرها بحركة ما قبلها ، فيقولون : المراة
والكماة بمدة بدل الهمزة ك (راس وفاس) فيمن خففها ، فقوله : صيّرت ألفا. ارتكاب
لأضعف اللغتين .
الثاني : أنه وإن
سلم أنها صيّرت ألفا فلا نسلّم أنّ حذفها) لسكونها وسكون الدال في الأصل بعد حذفها لساكن محقق في
اللفظ ، وهو الفاء من «أفلح» ، ومتى وجد سبب ظاهر أحيل الحكم عليه دون السبب المقدر. وقرأ طلحة بن مصرّف وعمرو بن
عبيد «أفلح» مبنيا للمفعول ، أي : دخلوا في الفلاح فيحتمل أن يكون من أفلح متعديا ،
يقال : أفلحه ،
__________________
أي : أصاره إلى
الفلاح ، فيكون «أفلح» مستعملا لازما ومتعديا .
وقرأ طلحة أيضا : «أفلح»
بفتح الهمزة واللام وضم الحاء ، وتخريجها على أنّ الأصل أفلحوا المؤمنون ، بإلحاق علامة
جمع قبل الفاعل كلغة : أكلوني البراغيث ، فيجيء فيها ما تقدم في قوله : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ)(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا).
قال عيسى : سمعت
طلحة يقرؤها فقلت له : أتلحن؟ قال : نعم كما لحن أصحابي ، يعني أني اتّبعتهم فيما قرأت به ، فإن لحنوا على سبيل
فرض المحال ، فأنا لاحن تبعا لهم. وهذا يدل على شدة اعتناء القدماء بالنقل وضبطه
خلافا لمن يغلّط الرواة.
وقال ابن عطية :
وهي قراءة مردودة . قال شهاب الدين : ولا أدري كيف يردّونها مع ثبوت مثلها في
القرآن بإجماع ، وهما الآيتان المتقدمتان . وقال الزمخشري : وعنه أي : عن طلحة ـ «أفلح» بضمة بغير
واو اجتزاء بها عنها كقوله :
٣٧٨٠ ـ فلو أنّ الأطّبّا كان حولي
وفيه نظر من حيث
إن الواو لا تثبت في مثل هذا درجا ، لئلا يلتقي ساكنان فالحذف هنا لا بدّ منه ،
فكيف يقول اجتزأ بها عنها . وأما تنظيره بالبيت فليس بمطابق ، لأنّ حذفها من الآية
ضروري ومن البيت ضرورة ، وهذه الواو لا يظهر لفظها في الدرج بل يظهر في الوقف وفي
الخط.
وقد اختلف النقلة
لقراءة طلحة هل يثبت للواو صورة؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوبا بواو بعد الحاء ، وفي اللوامح : وحذفت الواو بعد الحاء لالتقائهما في الدرج ، وكانت
الكتابة عليها محمولة على الوصل (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ). قال شهاب الدين : ومثله
__________________
(سَنَدْعُ
الزَّبانِيَةَ) «لصال الجحيم» . قال المفسرون : والفلاح النجاة والبقاء. قال ابن عباس :
قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة . وتقدم الكلام في الإيمان في البقرة. قوله : (فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الجار متعلق بما بعده ، وقدّم للاهتمام به ، وحسنه كون متعلقه فاصلة ، وكذا فيما بعده من أخواته ، وأضيف الصلاة إليهم ، لأنهم هم
المنتفعون بها ، والمصلى له غنيّ عنها ، فلذلك أضيفت إليهم دونه .
فصل
اختلفوا في الخشوع
فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح
كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين ، وهو الأولى .
قال ابن عباس : مخبتون أذلاء. وقال الحسن وقتادة : خائفون. وقال مقاتل :
متواضعون. وقال مجاهد : هو غض البصر وخفض الصوت ، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ
الخضوع في البدن ، والخشوع في القلب والبصر والصوت قال تعالى : (وَخَشَعَتِ
الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ). وعن عليّ: هو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا. وقال سعيد بن
جبير : هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره . وقال عطاء : هو أن تعبث بشيء من جسدك ، لأن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : «لو خشع قلب
هذا لخشعت جوارحه» . وقال ابن الخطيب : وهو عندنا واجب ، ويدل
عليه أمور :
أحدها : قوله
تعالى : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها). والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى ، وقوله تعالى
: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلاً) أي : قفوا على عجائبه ومعانيه.
__________________
وثانيها : قوله
تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) وظاهر الأمر للوجوب ، والغفلة تضاد الذكر ، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة لذكره.
وثالثها : قوله
تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ
الْغافِلِينَ) وظاهره للتحريم ، وقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما
تَقُولُونَ) تعليل لنهي السكران ، وهو مطرد في الغافل المستغرق في
الدنيا.
ورابعها : قوله ـ عليهالسلام ـ «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله
إلا بعدا» وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء ، قال عليهالسلام : «كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب» وما أراد به إلا الغافل ، وقال أيضا : «ليس للعبد من صلاته
إلا ما عقل» ، وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ سألت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن الالتفات في الصلاة ، فقال : «هو اختلاس يختلسه الشّيطان من صلاة العبد» وعن أبي ذر عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «لا يزال الله ـ عزوجل ـ مقبلا على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت
أعرض عنه» . وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع
خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه.
وأجيب بأن هذا
الإجماع ممنوع ، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بدّ من الخضوع والخشوع ، واحتجوا
بأن السجود لله تعالى طاعة ، وللصنم كفر ، وكل واحد منهما
__________________
يماثل الآخر في
ذاته ولوازمه ، فلا بدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة ، وفي الأخرى
معصية ، قالوا : وما ذاك إلا القصد والإرادة ، والمراد من القصد : إيقاع تلك
الأفعال لداعية الامتثال ، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور .
قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ) قال عطاء عن ابن عباس : عن الشرك .
وقال الحسن : عن
المعاصي . وقال الزجاج : كل باطل ، ولهو وما لا يجمل من القول والفعل . وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب ، قال الله تعالى :
(وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه
.
واعلم أن اللغو قد
يكون كفرا كقوله تعالى : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) ، وقد يكون كذبا لقوله تعالى : (لا تَسْمَعُ فِيها
لاغِيَةً) ، وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً). ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن
اللغو ليجمع لهم الفعل والترك .
قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) اللام في قوله : «للزّكاة» مزيدة في المفعول لتقدمه على
عامله ، ولكونه فرعا . والزكاة في الأصل مصدر ، ويطلق على القدر المخرج من
الأعيان ، وقال الزمخشري : اسم مشترك بين عين ومعنى ، فالعين القدر الذي يخرجه
المزكي من النصاب ، والمعنى فعل المزكي ، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين
له ، ولا يسوغ فيه غيره ، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عنه بالفعل ، ويقال لمحدثه
فاعل ، تقول للضارب : فاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل ، وللمزكي : فاعل التزكية
، وعلى هذا الكلام كله ، والتحقيق في هذا أنك تقول في جميع الحوادث : (من فعل هذا)
فيقال لك : فاعله الله أو بعض الخلق ، ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق
بها (فاعلون) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل ، ولكن لأنّ الخلق
ليسوا بفاعليها ، وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت :
__________________
٣٧٨١ ـ المطعمون الطّعام في السنة ال
|
|
أزمة والفاعلون
للزكوات
|
ويجوز أن يراد
بالزكاة العين ، ويقدر مضاف محذوف ، وهو الأداء ، وحمل البيت على هذا أصح ، لأنها فيه مجموعة . قال شهاب الدين : إنما أحوج أبا القاسم إلى هذا أن بعضهم
زعم أنه يتعين أن يكون الزكاة هنا المصدر ؛ لأنه لو أراد العين لقال : مؤدون ولم
يقل : فاعلون ، فقال الزمخشري : لم يمتنع ذلك لعدم صحة تناول فاعلون لها بل لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها ، وإنما جعل الزكوات في
بيت أمية أعيانا لجمعها ، لأنّ المصدر لا يجمع ، وناقشه أبو حيان وقال : يجوز أن يكون مصدرا وإنما جمع
لاختلاف أنواعه . وقال أبو مسلم : إنّ فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود
مرضي ، كقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) ، وقوله : (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ) ومن جملتهم ما يخرج من حق المال ، وإنما سمي بذلك ؛ لأنها
تطهر من الذنوب ، لقوله تعالى : (تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِها). وقال الأكثرون : المراد بها هنا : الحق الواجب في الأموال
خاصة ؛ لأنّ هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى . فإنّ قيل : إن الله تعالى لم يفصل بين الصلاة والزكاة فلم
فصل هنا بينهما بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)؟ فالجواب : لأنّ ترك اللغو من متمات الصلاة . قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة ، وحفظ الفرج التعفف عن
الحرام . قوله : (إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ) فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلق
ب «حافظون» على التضمين معنى ممسكين أو قاصرين وكلاهما يتعدى بعلى قال تعالى : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ).
الثاني : أنّ «على»
بمعنى «من» أي : إلا من أزواجهم كما جاءت «من» بمعنى
__________________
«على» في قوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) وإليه ذهب الفراء .
الثالث : أن يكون
في موضع نصب على الحال ، قال الزمخشري : إلّا والين على أزواجهم أو قوّامين عليهنّ
من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان ، ونظيره : كان زياد على
البصرة أي : واليا عليها ، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ، ومن ثمّ سميت المرأة فراشا .
الرابع : أن يتعلق
بمحذوف يدل عليه (غَيْرُ مَلُومِينَ) قال الزمخشري : كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم ، أي :
يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه . قال شهاب الدين : وإنما لم يجعله متعلقا ب «ملومين»
لوجهين :
أحدهما : أن ما
بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها.
الثاني : أن
المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف .
الخامس : أن يجعل
صلة لحافظين ، قال الزمخشري : من قولك : احفظ عليّ عنان فرسي ، على تضمينه معنى
النفي كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت معنى : ما طلبت منك إلا فعلك يعني أنّ صورته إثبات ومعناه نفي. قال أبو حيان بعدما ذكر
ذلك عن الزمخشري : وهذه وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة . قال شهاب الدين : وأي عجمة في ذلك على أنّ الشيخ جعلها متعلقة ب «حافظون» على ما ذكره من التضمين ، وهذا لا
يصح له إلا بأن يرتكب وجها منها وهو التأويل بالنفي
__________________
كنشدتك الله ، لأنه استثناء مفرغ ولا يكون إلا بعد نفي أو ما في
معناه .
السادس : قال أبو
البقاء : في موضع نصب ب «حافظون» على المعنى ؛ لأنّ المعنى صانوها عن كل فرج إلا عن فروج أزواجهم . قال شهاب الدين : وفيه سببان :
أحدهما تضمين «حافظون»
معنى صانوا ، وتضمين «على» معنى «عن» .
قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ) «ما» بمعنى :
اللاتي ، و «ما» في محل الخفض يعني : أو على ما ملكت أيمانهم . وفي وقوعها على العقلاء وجهان :
أحدهما : أنها
واقعة على الأنواع كقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ) أي : أنواع .
والثاني : قال
الزمخشري : أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث.
قال أبو حيان :
وقوله : وهم. ليس بجيد ، لأنّ لفظ هم مختص بالذكور فكان ينبغي أن يقول : «وهو» على
لفظ «ما» أو «هنّ» على معنى (ما) .
وأجيب بأن الضمير
عائد على العقلاء فقوله : «وهم» أي : العقلاء الإناث. وقال ابن الخطيب هلا قيل :
من ملكت؟ فالجواب : لأنه اجتمع في السّرّيّة وصفان :
أحدهما : الأنوثة
وهي مظنة نقصان العقل.
__________________
والآخر : كونها
بحيث تباع وتشترى كسائر السلع.
فلهذين الوصفين
فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء .
فصل
هذه الآية في
الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها .
فإن قيل : أليست
الزوجه والمملوكة لا تحل له الاستمتاع بها في أحوال كحال الحيض ، وحال العدة ، والصيام ، والإحرام ، وفي الأمة حال
تزويجها من الغير وحال عدتها ، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ)؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنّ مذهب
أبي حنيفة أنّ الاستثناء من النفي لا يكون إثباتا ، لقوله عليهالسلام : «لا صلاة إلا بطهور ، ولا نكاح إلّا بوليّ» فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور ، وحصول
النكاح بمجرد حصول الولي. وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) معناه أنه يجب حفظ الفرج عن الكل إلا في هاتين الصورتين
فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات.
الثاني : (أنّا إن)
سلمنا أنّ الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى حجة فيما عداه .
وقوله : (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) يعني : يحفظ فرجه إلا من امرأته وأمته فإنه لا يلام على
ذلك إذا كان على وجه أذن الشرع فيه دون الإتيان في غير المأتى ، وفي حال الحيض
والنفاس فإنه محظور ويلام على فعله .
قوله : (فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ) أي : التمس وطلب سوى الأزواج والمملوكات (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام ، وفيه دليل أنّ
الاستمناء باليد حرام قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : مكروه ، سمعت أنّ
قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء . وعن سعيد بن جبير قال : عذّب الله أمة كانوا يعبثون
__________________
بمذاكيرهم . قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَماناتِهِمْ) قرأ ابن كثير هنا وفي سأل «لأمانتهم» بالتوحيد ، والباقون بالجمع . وهما في المعنى واحد إذ المراد العموم والجمع أوفق.
والأمانة في الأصل
مصدر ، ويطلق على الشيء المؤتمن عليه لقوله : (أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها).
(وَتَخُونُوا
أَماناتِكُمْ) ، وإنما يؤدّى ويخان الأعيان لا المعاني ، كذا قال
الزمخشري .
أما ما ذكره من
الآيتين فمسلم ، وأما هذه الآية فيحتمل المصدر ويحتمل العين ، والعهد ما عقده على
نفسه فيما يقربه إلى الله ، ويقع أيضا على ما أمر الله به كقوله : (الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. فالأمانات
تكون بين الله وبين العبد كالصلاة ، والصيام ، والعبادات الواجبة وتكون بين العبيد
كالودائع والبضائع ، فعلى العبد الوفاء بجميعها .
وقوله : «راعون»
الراعي القائم على الشيء يحفظه ويصلحه كراعي الغنم ، ومنه يقال : من راعي
هذا الشيء؟ أي متوليه .
وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) قرأ الأخوان (عَلى صَلاتِهِمْ) بالتوحيد ، والباقون «صلواتهم» بالجمع ، وليس في المعارج خلاف .
__________________
والإفراد والجمع كما تقدم في (أمانتهم) و (أماناتهم) . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف كرر ذكر الصلاة أولا وآخرا؟
قلت : هما ذكران مختلفان وليس بتكرير ، وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم ، وآخرا
بالمحافظة عليها . ثم قال : وأيضا فقد وحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة ، أي صلاة كانت ، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن الراتبة ، وهذا إنما يتجه في قراءة غير الأخوين وأما الأخوان فإنهما أفردا أولا وآخرا على أنّ الزمخشري قد حكى
الخلاف في جمع الصلاة الثانية وإفرادها بالنسبة إلى القراءة. وقيل : كرر ذكر
الصلاة ليبين أنّ المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب .
ثم قال : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) «أولئك» أي : أهل
هذه الصفة (هُمُ الْوارِثُونَ) فإن قيل : كيف سمى ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث؟ مع أنه
سبحانه حكم بأنّ الجنة حقهم في قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). فالجواب من وجوه :
الأول : روى أبو
هريرة قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما منكم من أحد إلّا وله منزلان منزل في الجنّة ومنزل في
النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ، وذلك قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ). وأيضا : فقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت
وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه ، كذلك قالوا في الدية التي إنما تجب
بالقتل إنها تورث مع أنه مالكها على التحقيق وهذا يؤيد ما ذكر فإن قيل : إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثا ، وعلى ما قلتم إنما يدخل في الإرث ما كان
يستحقه غيرهم لو أطاع.
فالجواب : لا
يمتنع أنه تعالى جعل ما هو (منزلة) لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك
كان يزيد في المنازل فإذا أمن هذا عدل بذلك إليه.
__________________
الثاني : أنّ
انتقال الجنة إليهم من دون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث.
الثالث : أنّ
الجنة كانت مسكن أبينا آدم ـ عليهالسلام ـ فإذا انتقلت إلى أولاده كان ذلك شبيها بالميراث. فإن قيل
: كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات
الواجبة كالصوم والحج؟
فالجواب : أنّ
قوله : (لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما تقدم
والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات لكونها من شرائطها . واعلم أنّ قوله : (هُمُ الْوارِثُونَ) يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به ، لأنه ثبت أنّ الجنة
يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور ، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد
العفو لقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ، وتقدم الكلام في الفردوس في سورة الكهف . قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالا مقدرة
إما من الفاعل ب «يرثون» وإما من مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون ، وقد جاء في الحديث : «أن
الله خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر
ولا ديوث» .
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
ثُمَّ
إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(١٦)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الآيات لما أمر بالعبادات في
__________________
الآيات المتقدمة
بطريق الحث عليها والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله ، لا جرم
عقّبها بذكر ما يدل على وجوده ، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية ، فذكر أنواعا من
الدلائل : منها تقلب الإنسان في أدوار خلقته وهي تسعة :
أولها : قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد بالإنسان آدم
ـ عليهالسلام ـ سلّ من كلّ تربة ، وخلقت ذريته من ماء مهين.
وقيل : الإنسان
اسم جنس يقع على الواحد والجميع ، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي
لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منيا ، وهذا مطابق لقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ).
قال ابن الخطيب :
وفيه وجه آخر : وهو أنّ الإنسان إنما يتولد من النطفة ، وهي إنما تتولد من فضل
الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية ، وهي إما حيوانية أو نباتية ،
والحيوانية تنتهي إلى النباتية ، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء ،
فالإنسان في الحقيقة يكون متولدا من سلالة من طين ، ثم إن تلك السلالة بعد أن
تواردت عليها أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منيا .
(قوله) : (مِنْ سُلالَةٍ) فيه وجهان :
أظهرهما : أن
يتعلق ب «خلقنا» ، و «من» لابتداء الغاية .
والثاني : أن
يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الإنسان».
والسّلالة (فعالة)
، وهو بناء يدل على القلة كالقلامة ، وهي من سللت الشيء من الشيء أي استخرجته منه ، ومنه
قولهم : هو سلالة أبيه كأنه انسلّ من ظهره ، وأنشد :
٣٧٨٢ ـ فجاءت به عضب الأديم غضنفرا
|
|
سلالة فرج كان
غير حصين
|
__________________
وقال أمية بن أبي
الصلت :
٣٧٨٣ ـ خلق البرية من سلالة منتن
|
|
وإلى السلالة
كلها ستعود
|
وقال عكرمة : هو
الماء يسيل من الظهر. والعرب يسمون النطفة سلالة ، والولد سليلا وسلالة ، لأنهما مسلولان منه . وقال الزمخشري : السلالة الخلاصة ، لأنها تسل من بين
الكدر . وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، أي : والله لقد خلقنا ، وعطفت على الجملة
قبلها لما بينهما من المناسبة ، وهو أنه لما ذكر أنّ المتصفين بتلك الأوصاف يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على المعاد ، فإنّ الابتداء في العادة أصعب من الإعادة ، لقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).
وهذا أحسن من قول
ابن عطية : هذا ابتداء كلام ، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، وإن
تباينتا في المعنى . وقد تقدم بيان وجه المناسبة.
قوله : «من طين»
في «من» وجهان :
أحدهما : أنها
لابتداء الغاية.
والثاني : أنها
لبيان الجنس.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين «من» و «من»؟ قلت : الأولى
للابتداء ، والثانية للبيان كقوله : (مِنَ الْأَوْثانِ). قال أبو حيان : ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا : إن
السلالة هي الطين أما إذا قلنا : إنه من انسل من الطين ف «من» لابتداء الغاية وفيما تتعلق به «من» هذه ثلاثة أوجه :
__________________
أحدها : أنها
تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل «سلالة» .
الثاني : أنها
تتعلق بنفس «سلالة» لأنها
بمعنى مسلولة .
الثالث : أنها
تتعلق ب «خلقنا» ، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا : إنّ السلالة هي نفس الطين. قوله : (ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً) في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود
للإنسان ، فإن أريد غير آدم فواضح ، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله ، وهو آدم
(فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم ، فيكون الضمير عائدا على نسله ، أي :
جعلنا نسله) ، فهو على حذف مضاف أيضا ، ويؤيده قوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ
طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ).
أو عاد الضمير على
الإنسان اللائق به ذلك ، وهو نسل آدم ، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع
، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري .
قوله : (فِي قَرارٍ) يجوز أن يتعلق بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «نطفة».
والقرار : المستقر
، وهو موضع الاستقرار ، والمراد بها الرحم ، وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين : إمّا على المجاز كطريق سائر ، وإنما السائر من فيه ،
وإمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت . ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولا طينا ،
ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة ،
فصار الرحم قرارا مكينا لهذه النطفة تتخلق فيه إلى أن تصير إنسانا. قوله : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) وما بعدها ضمن «خلق» معنى «جعل» التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن «جعل» معنى
«خلق» فيتعدى لواحد نحو (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ). والمعنى : حولنا النطفة عن صفاتها
__________________
إلى صفات العلقة ،
وهي الدم الجامد (فَخَلَقْنَا
الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي : جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة ، أي : قطعة لحم ، كأنها
مقدار ما يمضع كالغرفة ، وهو ما يغترف.
وسمى التحويل خلقا
، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها ، ويخلق أعراضا غيرها ، فسمى خلق الأعراض خلقا لها
، كأنه سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة .
قوله : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي : صيرناها كذلك. وقرأ العامة : «عظاما» و «العظام»
بالجمع فيهما ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «عظما» و «العظم» بالإفراد فيهما ، والسلمي والأعرج ، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وإبراهيم بن أبي بكر بجمع الأول وإفراد الثاني عكس ما قبله . فالجمع على الأصل ، لأنه مطابق لما يراد به ، والإفراد للجنس
كقوله : (وَالْمَلَكُ صَفًّا) ، وكقوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّي).
وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس ، لأنّ
الإنسان ذو عظام كثيرة . قال أبو حيان : وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا (لضرورة)
وأنشدوا :
٣٧٨٤ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا
__________________
وإن كان معلوما أن
كل واحد له بطن . قال شهاب الدين : ومثله :
٣٧٨٥ ـ لا تنكروا القتل وقد سبينا
|
|
في حلقكم عظم
وقد شجينا
|
يريد في حلوقكم
ومثله قول الآخر :
٣٧٨٦ ـ بها جيف الحسرى فأمّا عظامها
|
|
فبيض وأمّا
جلدها فصليب
|
يريد جلودها ،
ومنه (وَعَلى سَمْعِهِمْ).
قوله : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي : ألبسنا ، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة (لها) قيل : بين كل خلقين
أربعون يوما. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) أي : خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله
حيوانا ، وكان جمادا ، وناطقا وكان أبكم وسميعا وكان أصم وبصيرا وكان أكمه ، وأودع
باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة ، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف
الواصفين . قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية : المراد
بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه. وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر ، وروى ابن جريج
عن مجاهد : أنه استواء الشباب. وعن الحسن قال : ذكر أو أنثى.
وروى العوفي عن
ابن عباس : أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى
القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ، وخلق الفهم
والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها إلى أن يموت.
قالوا : وفي هذه
الآية دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن ، فإنه سبحانه بيّن
أنّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء . وفيها دلالة أيضا
__________________
على بطلان قول
الفلاسفة الذين يقولون : الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم .
وقال : (فَتَبارَكَ اللهُ) أي : فتعالى الله ، لأنّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما
زاد على الشيء فقد علاه. ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله.
وقيل : أصله من
البروك وهو الثبات ، فكأنه قال : البقاء والدوام والبركات كلها منه ، فهو المستحق
للتعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال (أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة: التقدير ، قال زهير
:
٣٧٨٧ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبع
|
|
ض القوم يخلق
ثمّ لا يفري
|
قوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل
من الجلالة .
الثاني : أنه نعت
للجلالة ، وهو أولى مما قبله ، لأنّ البدل بالمشتق يقل.
الثالث : أن يكون
خبر مبتدأ مضمر أي : هو أحسن ، والأصل عدم الإضمار.
وقد منع أبو
البقاء أن يكون وصفا ، قال : لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن «من» ، وهكذا جميع أفعل منك .
قال شهاب الدين :
وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا ،
والصحيح الأول . والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه
__________________
عليه ، أي : أحسن
الخالقين خلقا المقدرين تقديرا كقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ) أي : في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه .
فصل
قالت المعتزلة :
لو لا أن يكون غير الله قد يكون خالقا لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين
، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه : (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) و (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). والخلق في اللغة : هو كل فعل وجد من فاعله مقدّرا لا على
سهو وغفلة ، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه. قال الكعبي : هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق
لا يطلق على العبد إلا مع القيد ، كما أنه يجوز أن يقال : ربّ الدار ، ولا يجوز أن يقول : رب ، ولا
يقول العبد لسيده : هذا ربّي ، ولا يقال : إنما قال الله سبحانه ذلك لأنه وصف عيسى ـ عليهالسلام ـ بأنه يخلق من الطّين كهيئة الطّير . لأنا نجيب من وجهين :
أحدهما : أن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه (أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.
الثاني : أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه
يخلق وصحّ أيضا وصف غيره من المصورين بأنه يخلق.
وأجيب بأن هذه
الآية معارضة بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) فوجب حمل
__________________
هذه الآية على أنه
(أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) في اعتقادكم وظنكم كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ).
وجواب ثان ، وهو
أنّ الخالق هو المقدر ، لأن الخلق هو التقدير ، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن
المقدرين ، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان ، وذلك في حق الله تعالى محال ،
فتكون الآية من المتشابه.
وجواب ثالث : أنّ
الآية تقتضي كون العبد خالقا بمعنى كونه مقدرا لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه
موحدا.
فصل
قالت المعتزلة :
الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن
الخالقين ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقا للكفر والمعصية ، فوجب أن يكون العبد هو الموجد
لهما .
وأجيب بأنّ من
الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في التركيب والتأليف ، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه
يحسن من الله كل الأشياء ، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعا له عن فعل
شيء .
فصل
روى الكلبي عن ابن
عباس أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما انتهى إلى قوله : (خَلْقاً آخَرَ) عجب من ذلك فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «اكتب فهكذا نزلت» فشك عبد الله وقال : إن كان محمد
صادقا فيما يقول ، فإنه يوحى إليّ كما يوحى إليه ، وإن كان كاذبا فلا خير في دينه
، فهرب إلى مكة ، فقيل : إنه مات على الكفر ، وقيل : إنه أسلم يوم الفتح وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن
الخطاب : فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله : «هكذا أنزل يا عمر».
وكان عمر يقول :
وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام ، وضرب الحجاب على النسوة ، وقولي لهنّ :
أو ليبدله الله خيرا منكنّ ، فنزل قوله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ) ، والرابع قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) قال العارفون : هذه الواقعة
__________________
كانت من أسباب
السعادة لعمر ، وسبب الشقاوة لعبد الله ، كما قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيراً).
فإن قيل : فعلى كل
الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن ، وذلك يقدح في كونه معجزا كما
ظنّه عبد الله.
فالجواب : هذا غير
مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز ، فسقطت شبهة عبد الله .
قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ
لَمَيِّتُونَ) أي : بعد ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة ، وقرأ العامة «لميّتون»
، وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن «لمائتون» والفرق بينهما : أن الميّت يدل على الثبوت والاستقرار ،
والمائت على الحدوث كضيق وضائق وفرح وفارح ، فيقال لمن سيموت : ميّت ومائت ، ولمن
مات : ميّت فقط دون مائت ، لاستقرار الصفة وثبوتها ، وسيأتي مثله في الزمر إن شاء الله تعالى. فإن قيل : الموت لم يختلف فيه اثنان
وكم من مخالف في البعث ، فلم أكّد المجمع عليه أبلغ تأكيد وترك المختلف فيه من تلك المبالغة في التأكيد ؟ فالجواب : أنّ البعث لما تظاهرت أدلته وتظافرت ، أبرز في
صورة المجمع عليه المستغني عن ذلك ، وأنهم لمّا لم يعملوا للموت ، ولم يهتموا بأموره ، نزّلوا منزلة من ينكره ،
فأبرز لهم في صورة المنكر الذي استبعدوه كل استبعاد . وكان أبو حيان سئل عن ذلك ، فأجاب بأنّ اللام غالبا تخلص المضارع للحال ، ولا يمكن دخولها في «تبعثون» ، لأنه مخلص للاستقبال
لعمله في الظرف المستقبل ، واعترض على نفسه بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإن اللام دخلت على المضارع العامل في ظرف مستقبل وهو (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فأجاب بأنه خرج هذا بقوله : غالبا ، وبأن العامل في (يَوْمَ الْقِيامَةِ) مقدر ، وفيه نظر إذ فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه. و (بَعْدَ ذلِكَ) متعلق ب «ميّتون» ، ولا تمنع لام الابتداء من ذلك .
__________________
قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
تُبْعَثُونَ) جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين على
اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع .
فإن قيل : ما
الحكمة في الموت ، وهلا وصل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام
أبلغ؟
فالجواب هذا
كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في
الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله بدليل أنه لو قيل
لمن يصوم : إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب
الجنة ، فلا جرم أخره وبعده بالإماتة ، وهو الإعادة ، ليكون العبد عابدا لطاعته لا لطلب الانتفاع.
فإن قيل : هذه
الآية تدل على نفي عذاب القبر ، لأنه قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة.
فالجواب من وجهين
:
الأول : أنه ليس
في ذكر الحياتين نفي الثالثة.
والثاني : أنّ
الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإحياء والإماتة والإعادة والذي ترك ذكره فهو
من جنس الإعادة .
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ)(١٧)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرائِقَ) الآية ، أي : سبع سموات سميت طرائق لتطارقها ، وهو أن بعضها فوق بعض ، يقال
: طارقت النعل : إذا أطبق نعلا على نعل ، وطارق بين الثوبين : إذا لبس ثوبا على ثوب قاله الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج : هو كقوله : (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) وقال عليّ بن عيسى : سميت بذلك ، لأنها طرائق الملائكة في
العروج والهبوط ، وقيل : لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.
__________________
والوجه في إنعامه
علينا بذلك أنه جعلها موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها ، وجعلها مقرا للملائكة ،
ولأنها موضع الثواب ، ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي .
قوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي : بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع
فتهلكهم ، وهذا قول سفيان بن عيينة ، وهو كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) ، وقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ
أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) ، وقال الحسن : إنا خلقناها فوقهم ليدل عليهم بالأرزاق والبركات منها .
وقيل : خلقنا هذه
الأشياء دلالة على كمال قدرتنا ، ثم بيّن كمال العلم بقوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) يعني : عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية
الزجر .
وقيل : وما كنا عن
خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظين لئلا تخرج عن التقدير الذي أردناها عليه
كقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ).
واعلم أن هذه
الآيات دالة على مسائل :
منها : أنها تدل
على وجود الصانع ، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع
إمكان بقائها على الصفة الأولى يدل على أنه لا بد من مغير.
ومنها : أنها تدل
على فساد القول بالطبيعة ، فإن شيئا من تلك الصفات لو حصلت بالطبيعة لوجب بقاؤها ،
وعدم تغيرها ، ولو قيل : إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك
الطبيعة إلى خالق وموجد.
ومنها : أنها تدل
على أنّ المدبر قادر عالم ، لأنّ الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.
ومنها : أنها تدل
على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات.
ومنها : أنها تدل
على جواز الحشر والنشر بصريح الآية ، ولأنّ الفاعل لما كان قادرا على كل الممكنات
وعالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما
كانت.
__________________
ومنها : أنّ معرفة
الله يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية ، وإلّا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا.
قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ(١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ
بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها
تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)(٢٠)
قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
بِقَدَرٍ) الآية ، لما استدل أولا على كمال القدرة بخلق الإنسان ، ثم
استدل ثانيا بخلق السموات ، استدلّ ثالثا بنزول الأمطار ، وكيفية تأثيرها في
النبات. واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة ، وهو مع ذلك سبب لحصول النعم ، فلا جرم ذكره الله أولا ثم ذكر ما يحصل به من
النعم ثانيا .
قال أكثر المفسرين
: إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية ، ولقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ). وقال بعضهم : المراد بالسماء السحاب ، وسماه سماء لعلوه ،
والمعنى: أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض ، ومن البحار إلى السماء حتى
صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله
على قدر الحاجة إليه ، ولو لا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ، ولا بماء البحر لملوحته ، ولأنه لا حيلة في إجراء
مياه البحار على وجه الأرض ، لأنّ البحار هي الغاية في العمق ، وهذه الوجوه التي يتحملها من ينكر الفاعل المختار ، فأمّا من أقرّ به فلا
حاجة به إلى شيء منها .
وقوله : «بقدر»
قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة من الزرع والغرس والشرب ، ويسلمون معه من المضرة.
وقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) قيل : جعلناه ثابتا في الأرض ، قال ابن عباس : أنزل الله
تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من
درجاتها على جناحي جبريل ـ
__________________
عليهالسلام ـ ، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع
للناس ، فذلك قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ) ، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ، ويرفع أيضا القرآن والعلم كله والحجر
الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، فيرفع كل ذلك إلى
السماء فذلك قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ
بِهِ لَقادِرُونَ) ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا
والدين . وقيل : معنى : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الْأَرْضِ) : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في
الصيف عند انقطاع المطر.
وقيل : فأسكناه في
الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء.
قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (عَلى ذَهابٍ) متعلق ب «لقادرون» واللام كما تقدم غير مانعة من ذلك ، و «به» متعلق ب «ذهاب» ، وهي مرادفة للهمزة كهي في «لذهب بسمعهم» أي : على إذهابه والمعنى : كما قدرنا على إنزاله كذلك نقدر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشا ، وتهلك مواشيكم وتخرب
أرضكم .
قال الزمخشري :
قوله : (عَلى ذَهابٍ بِهِ) من أوقع النكرات وأحزها للمفصل ، والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ،
وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء ، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) ، أي : بالماء (جَنَّاتٍ مِنْ
نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان
مقام الطعام والإدام والفاكهة رطبا ويابسا ، وقوله :
__________________
(لَكُمْ فِيها
فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي : في الجنات فكما أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) شتاء وصيفا .
قال الزمخشري :
يجوز أن يكون هذا من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يعملها ، يعنون
أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه ، كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم
ومعايشكم.
قوله : (وَشَجَرَةً) عطف على «جنّات» ، أي : ومما أنشأنا لكم شجرة ، وقرئت مرفوعة على الابتداء . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سيناء» بكسر السين ، والباقون بفتحها والأعمش كذلك إلا أنه قصرها . فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس
في الكلام (فعلاء) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق بسرداح وقرطاس ، فهي كعلباء ، فتكون الهمزة منقلبة عن ياء أو واو ، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة
متطرفا بعد ألف زائدة قلب همزة كرداء وكساء قال الفارسي : وهي الياء التي ظهرت في درحاية ، والدرحاية الرجل القصير السمين . وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلا مثل : حملاق ، إذ
__________________
ليس في الكلام مثل
: سيناء . يعني : مادة (سين ونون وهمزة). وهذا مخالف لما تقدم من
كونها بدلا من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم ، وعلى
هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها اسم بقعة بعينها ، وقيل : للتعريف
والعجمة . قال بعضهم : والصحيح أن سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت فيه لغاتها ، فقالوا : (سيناء) كحمراء وصفراء ، و (سيناء)
كعلباء وحرباء وسينين كخنذيد ، وزحليل ، والخنذيد الفحل والخصي أيضا ، فهو من الأضداد ، وهو أيضا رأس الجبل
المرتفع . والزحليل : المتنحي من زحل إذ انتحى وقال الزمخشري : (طُورِ سَيْناءَ) وطور سينين لا يخلو إمّا أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء
وسينون ، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس وكبعلبك
، فيمن أضاف ، فمن كسر سين «سيناء» فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث ،
لأنها بقعة ، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء .
قال شهاب الدين :
وكون ألف (فعلاء) بالكسر
ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة ، وأمّا الكوفيون فعندهم أنّ ألفها يكون للتأنيث ،
فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحمراء وبابها. وكسر السين من (سيناء) لغة كنانة وأمّا القراءة الثانية : فألفها للتأنيث ، فمنع الصرف
واضح. قال أبو البقاء : وهمزته للتأنيث ، إذ ليس في الكلام (فعلال) بالفتح ، وما
حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خزعال لا يثبت ، وإن ثبت فهو
__________________
شاذ لا يحمل عليه . وقد وهم بعضهم فجعل (سيناء) مشتقة من (السنا) وهو الضوء ،
ولا يصح ذلك لوجهين :
أحدهما : أنه ليس
عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم.
الثاني : أنّا وإن
سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين (السنا) نون وعين (سيناء) ياء
. كذا قال بعضهم. وفيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم أن عين (سيناء) (ياء)
بل عينها (نون) ، وياؤها مزيدة ، وهمزتها منقلبة عن واو ، كما قلبت (السنا) ،
ووزنها حينئذ (فيعال) و (فيعال) موجود في كلامهم ، كميلاع وقيتال مصدر قاتل .
قوله : (تَنْبُتُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء وكسر الباء
والباقون بفتح التاء وضم الباء . فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن أنبت
بمعنى (نبت) فهو مما اتفق فيه (فعل) و (أفعل) وأنشدوا لزهير :
٣٧٨٨ ـ رأيت ذوي الحاجات عند بيوتهم
|
|
قطينا بها حتّى
إذا أنبت البقل
|
وأنكره الأصمعي ،
أي : نبت .
الثاني : أنّ
الهمزة للتعدية ، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي : تنبت ثمرها ، أو جناها ، و «بالدّهن»
حال ، أي : ملتبسا بالدهن .
الثالث : أن الباء
مزيدة في المفعول به كهي في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ) ، وقول الآخر :
__________________
٣٧٨٩ ـ سود المحاجر لا يقرأن بالسّور
وقول الآخر :
٣٧٩٠ ـ نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج
وأمّا القراءة
الأخرى فواضحة ، والباء للحال من الفاعل ، أي ملتبسة بالدهن يعني وفيها الدهن ، كما يقال : ركب الأمير بجنده . وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» مبنيّا
للمفعول من أنبتها الله و «بالدّهن» حال من المفعول القائم مقام الفاعل أي : ملتبسة بالدّهن . وقرأ زرّ بن حبيش «تنبت الدهن» من أنبت ، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من
أثبتها. والأشهب وسليمان بن عبد الملك «بالدّهان» وهو جمع دهن كرمح ورماح وأمّا قراءة أبّي : «تتمر» ، وعبد الله : «تخرج» فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد ، والدّهن : عصارة ما فيه
دسم ، والدّهن ـ بالفتح ـ المسح بالدّهن مصدر دهن يدهن ، والمداهنة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه
ليقر خاطره .
فصل
اختلفوا في (طُورِ سَيْناءَ) وفي (طُورِ سِينِينَ). فقال مجاهد : معناه البركة
__________________
أي : من جبل مبارك.
وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن. وقال الضحاك : معناه بالنبطية :
الحسن.
وقال عكرمة :
بالحبشية. وقال الكلبي : معناه : المشجر أي : جبل وشجر . وقيل : هو بالسريانية : الملتف بالأشجار. وقال مقاتل : كل جبل فيه
أشجار مثمرة ، فهو سيناء ، وسينين بلغة النبط. وقال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي
منه موسى بين مصر وأيلة .
وقال مجاهد : سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده . والمراد بالشجرة التي تنبت بالدّهن أي : تثمر الدهن وهو
الزيتون. قال المفسرون : وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل ، لأن منها تشعبت في
البلاد وانتشرت ، ولأن معظمها هناك . قوله : «وصبغ» العامة على الجر عطفا على الدّهن .
والأعمش : «وصبغا»
بالنصب نسقا على موضع «بالدّهن» ، كقراءة (وَأَرْجُلَكُمْ) في أحد محتملاته . وعامر بن عبد الله : «وصباغ» بالألف ، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ «بالدّهان» . والصبغ والصباغ كالدبغ والدباغ ، وهو اسم ما يفعل به. قال
الزمخشري : هو ما يصطبغ به أي : ما يصبغ به الخبز.
__________________
و «للآكلين» صفة ،
والمعنى : إدام للآكلين. فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة ، لأنها تخرج الثمرة
التي يكثر الانتفاع بها ، وهي طرية ومدخرة ، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ، ويعظم
وجوه الانتفاعبه .
قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ
وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا
بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ
رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)(٢٥)
قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً) الآية ، لما ذكر النعم الحاصلة من الماء والنبات ، ذكر
بعده النعم الحاصلة من الحيوان ، فذكر أنّ فيها عبرة مجملا ثم فصله من أربعة أوجه
:
أحدها : قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) المراد منه جميع وجوه الانتفاع ، ووجه الاعتبار فيه أنها
تجتمع في الضروع ، وتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله ـ تعالى ـ فتستحيل إلى
طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ، وتصير غذاء ، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته
، فهو من النعم الدينية ، ومن انتفع به فهو من النعم الدنيوية. وأيضا : فهذه
الألبان التي تخرج من بطونها إذا ذبحت لم تجد لها أثرا ، وذلك دليل على عظم قدرة
الله. وتقدم الكلام في «نسقيكم» في النحل وقرىء «تسقيكم» بالتاء من فوق مفتوحة ، أي : تسقيكم الأنعام.
وثانيها : قوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : بالبيع ، والانتفاع بأثمانها.
وثالثها : قوله ـ تعالى
ـ : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : كما تنتفعون بها وهي حيّة تنتفعون بها بعد الذبح
بالأكل.
ورابعها : قوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ) أي : على الإبل في البر وعلى الفلك في البحر ، ولمّا بيّن دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة
في سائر السور قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) الآيات. قيل : كان نوح اسمه يشكر ،
__________________
ثم سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك
فأهلكهم الله بالطوفان فندم على ذلك.
وقيل : لمراجعة
ربه في شأن ابنه. وقيل : لأنه مر بكلب مجذوم ، فقال له : اخسأ يا قبيح ، فعوتب على
ذلك ، وقال الله تعالى : أعبتني إذ خلقته ، أم عبت الكلب ، وهذه وجوه متكلفة ، لأن
الأعلام لا تفيد صفة في المسمى .
قوله : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) : وحّدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ) أي : أنّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. وقرىء «غيره»
بالرفع على المحل ، وبالجر على اللفظ .
ثم إنه لمّا لم
ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح ـ عليهالسلام ـ : وهي قولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وهذه الشبهة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يقال
: إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض
سواء امتنع كونه رسولا لله ، لأنّ الرسول لا بدّ وأن يكون معظما عند الله وحبيبا له ، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة
والعزة ، فلما انتفت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.
والثاني : أن يقال
: إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور ، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلا إلا بادعاء النبوة ، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في
نبوته ، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم : (يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : يطلب الفضل عليكم ويرأسكم .
الشبهة الثانية :
قولهم : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي : ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي
، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر ، لأن الملائكة لعلو
شأنهم وشدة سطوتهم ، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم ، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا
لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا .
__________________
الشبهة الثالثة :
قولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا
فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) فقولهم : «بهذا» إشارة إلى نوح ـ عليهالسلام ـ أي : بإرسال بشر رسولا ، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله
وحده ، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان ، وذلك أنهم كانوا لا يعوّلون في شيء من
مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء ، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح ـ عليهالسلام ـ هذه الطريقة حكموا بفسادها .
الشبهة الرابعة :
قولهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا
رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام ، لأنه ـ عليهالسلام ـ كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم ، فكان الرؤساء يقولون
للعوام إنه مجنون ، فكيف يجوز أن يكون رسولا؟
الشبهة الخامسة :
قولهم : (فَتَرَبَّصُوا بِهِ
حَتَّى حِينٍ) ، وهذا يحتمل أن يكون متعلقا بما قبله ، أي : أنه مجنون
فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه.
ويحتمل أن يكون
كلاما مستأنفا ، وهو أن يقولوا لقومهم : اصبروا فإنه إنه كان نبيا حقا فالله ينصره
ويقوي أمره فنتبعه حينئذ ، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه
. واعلم أنه تعالى لم يذكر الجواب على هذه الشبه لركاكتها ووضوح فسادها لأنّ كل عاقل يعلم أنّ الرسول لا
يصير رسولا لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولا بتميزه عن غيره بالمعجزات ، فسواء
كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولا ، بل جعل الرسول من البشر
أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) فإن أرادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته
فهذا واجب في الرسول ، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون
عن ذلك. وأما قولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا) فهو استدلال بعدم التقليد (على عدم وجود الشيء ، وهو في
غاية السقوط ، لأنّ وجود التقليد) لا يدل على وجود الشيء ، فعدمه من أين يدل على عدمه. وأما
قولهم : (بِهِ جِنَّةٌ) فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم
: «فتربّصوا» فضعيف ، لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته ، وهي المعجزة ،
__________________
وجب عليهم قبول
قوله في الحال ، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته ، لأنّ الدولة لا تدل على
الحقيقة ، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر .
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا
وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
فَإِذَا
اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨)
وَقُلْ
رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(٣٠)
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي : أعنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي (كأنه قال : أهلكهم
بسبب تكذيبهم) . وقيل : انصرني بدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك ، أي بدل
ذاك ومكانه . وقيل : انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه
فيه حين قال لهم : (إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
ولمّا أجاب الله
دعاءه قال : (فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بحفظنا وكلائنا ، كان معه من الله حفّاظا يكلأونه
بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله .
قيل : كان نوح
نجارا ، وكان عالما بكيفية اتخاذ الفلك .
وقيل : إن جبريل ـ
عليهالسلام ـ علّمه عمل السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله : (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا). (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا). واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على
سبيل الاستعلاء ، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم ، لأن قولك : هذا أمر تردد الذهن
بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما . وقيل : إنما سماه أمرا تعظيما وتفخيما كقوله : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً).
__________________
قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) تقدم الكلام في التنور في سورة هود . (فَاسْلُكْ فِيها) أي : ادخل فيها. يقال : سلك فيه دخله ، وسلك غيره وأسلكه (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : من كل زوجين من الحيوان (الذي يحضره في الوقت اثنين
الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان) وكل واحد منهما زوج ، لا كما تقوله العامة : إنّ الزوج هو
الاثنان . روي أنه لم يحمل إلّا ما يلد ويبيض . وقرىء : «من كلّ» بالتنوين و «اثنين» تأكيد وزيادة بيان «وأهلك» أي :
وأدخل أهلك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ولفظ (على) إنما يستعمل في المضارّ قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ). وهذه الآية تدل على أمرين :
__________________
أحدهما : أنه
تعالى أمره بإدخال سائر من آمن به ، وإن لم يكن من أهله. وقيل :المراد بأهله من
آمن دون من يتعمل به نسبا أو حسبا. وهذا ضعيف ، وإلّا لما جاز الاستثناء بقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).
والثاني : قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا) يعني : كنعان ، فإنه ـ سبحانه ـ لمّا أخبر بإهلاكهم ، وجب
أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم. لأنه إن أجابه إليه ، فقد صيّر خبره الصادق كذبا ،
وإن لم يجبه إليه ، كان ذلك تحقيرا لشأن نوح ـ عليهالسلام ـ ، فلذلك قال : (إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ) أي : الغرق نازل بهم لا محالة . قوله : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) اعتدلت أنت ومن معك على الفلك ، قال ابن عباس : كان في
السفينة ثمانون إنسانا ، نوح وامرأته سوى التي غرقت ، وثلاثة بنين ، سام ، وحام ، ويافث ، وثلاث نسوة لهم ، واثنان
وسبعون إنسانا ، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة .
روى سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «ولد لنوح ثلاثة أولاد سام ، وحام ، ويافث ، فأمّا
سام فأبو العرب وفارس والروم ، وأما يافث فأبو يأجوج ومأجوج والبربر ، وأما حام
فأبو هذه الجلدة السوداء ويأجوج ومأجوج بنو عم الترك» .
قال ابن الجوزي : ولد لحام كوش ، ونبرش ، وموغع ، وبوان ، وولد لكوش نمرود
، وهو أول النماردة ، ملك بعد الطوفان ثلاثمائة سنة ، وعلى عهده قسمت الأرض ، وتفرّق الناس واختلفت الألسن ، ونمرود
إبراهيم الخليل ، ومن ولد نبرش الحرير ، ومن ولد موغع يأجوج ومأجوج ، ومن ولد بوان
الصقالبة ، والنوبة ، والحبشة ، والهند ، والسند.
ولما اقتسم أولاد
نوح الأرض ، نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور ، فجعل الله فيهم الأدمة ، وبياضا
قليلا ، ولهم أكثر الأرض ، وروي أن فالغ أبو غابر قسم الأرض بين أولاد نوح بعد موت نوح ، فنزل سام سرة الأرض فكانت فيهم الأدمة والبياض ، ونزل بنو يافث مجرى
الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة والشقرة ، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور
فتغيرت ألوانهم.
__________________
روى ابن شهاب قال
: قيل لعيسى ابن مريم ـ عليهالسلام ـ أحي حام بن نوح ـ فقال : أروني قبره. فأروه ، فقام ،
فقال : يا حام بن نوح احي بإذن الله ـ عزوجل ـ فلم يخرج ، ثم قالها الثانية ، فخرج ، وإذا شقّ رأسه ولحيته أبيض ، فقال : ما هذا ، قال : سمعت الدعاء
الأول فظننت أنه من الله ـ تعالى ـ فشاب له شقي ، ثم سمعت الدعاء الثاني فعلمت أنه
من الدنيا فخرجت ، قال : مذ كم متّ؟ قال : منذ أربعة آلاف سنة ، ما ذهبت عنّي سكرة
الموت حتى الآن. وروي أن الذي أحياه عيسى ابن مريم سام بن نوح ، والله أعلم. وروي
عن النمر بن هلال قال : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ فاثنا عشر ألف للسودان ،
وثمانية للروم ، وثلاثة للفرس وألف للعرب قال مجاهد : ربع من لا يلبس الثياب من السودان مثل جميع الناس.
قوله : (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، وإنما قال : «فقل» ولم يقل : فقولوا ، لأنّ
نوحا كان نبيا لهم وإمامهم ، فكان قوله قولا لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة
وإظهار كبرياء الربوبية ، وأن رتبة ذلك المخاطب لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي .
قال قتادة : علمكم
الله أن تقولوا عند ركوب السفينة : (بِسْمِ اللهِ
مَجْراها وَمُرْساها) ، وعند ركوب الدابة : (سُبْحانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنا هذا) ، وعند النزول : «وقل رب أدخلني منزلا مباركا» . قال الأنصاري : وقال لنبينا : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) ، وقال : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فكأنه ـ تعالى ـ أمرهم أن لا يغفلوا عن ذكره في جميع
أحوالهم .
قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً
مُبارَكاً) قرأ أبو بكر بفتح ميم (منزلا) وكسر الزاي ، والباقون بضم
الميم وفتح الزاي و (المنزل) و (المنزل) كل
منهما يحتمل أن
__________________
يكون اسم مصدر ،
وهو الإنزال أو النزول ، وأن يكون اسم مكان النزول أو الإنزال ، إلا أن القياس «منزلا» بالضم
والفتح لقوله : «أنزلني» . وأما الفتح والكسر فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر
الرباعي كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ نَباتاً) ، وتقدم نظيره في «مدخل» و «مدخل» في سورة النساء واختلفوا في المنزل ، فقيل : نفس السفينة ، وقيل : بعد
خروجه من السفينة منزلا من الأرض مباركا. والأول أقرب ، لأنه أمر بهذا الدعاء حال
استقراره ، فيكون هو المنزل دون غيره .
ثم قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ، وذلك أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع
من الله ، لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله . ثم بين تعالى أن فيما ذكر من قصة نوح وقومه «آيات» دلالات
وعبر في الدعاء إلى الإيمان ، والزجر عن الكفر ، فإن إظهار تلك المياه العظيمة ،
ثم إذهابها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات ، وظهور تلك الواقعة على وفق
قول نوح ـ عليهالسلام ـ يدل على المعجز العظيم ، وإفناء الكفار ، وبقاء الأرض
لأهل الطاعة من أعظم أنواع العبر . قوله : (وَإِنْ كُنَّا
لَمُبْتَلِينَ) «إن» مخففة ، و «اللام»
فارقة. وقيل : «إن» نافية و «اللام» بمعنى «إلا» وتقدم ذلك مرارا فعلى الأول معناه : وقد كنا ، وعلى الثاني
: ما كنا إلا مبتلين ، فيجب على كل مكلف أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه . وقيل : المراد لمعاقبين من كذب الأنبياء ، وسئلك مثل
طريقة قوم نوح . وقيل : المراد كما عاقب بالغرق من كذب فقد نمتحن من لم
يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب ، لكيلا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد.
__________________
قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ
قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ
رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣)
وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ
لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ
حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ
رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩)
قالَ
عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ
بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤١)
قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ
قَرْناً آخَرِينَ) الآيات. قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هذه قصة هود لقوله
تعالى حكاية عن هود (وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) ، ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف ، وهود ،
والشعراء .
وقال بعضهم : هي
قصة صالح لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة وتقدم كيفية الدعوى في قصة نوح.
قوله : (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ) قال الزمخشري : فإن قلت : حق «أرسل» أن يتعدى ب «إلى»
كأخواته التي هي : وجه ، وأنفذ وبعث ، فما له عدي في القرآن ب (إلى) تارة وب (في) أخرى كقوله : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ
فِي أُمَّةٍ)
(ما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ)
. قلت : لم يعد ب (في) كما عدي ب (إلى) ، ولم يجعله صلة
مثله ، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعا للإرسال ، كقول رؤبة :
٣٧٩١ ـ أرسلت فيها مصعبا ذا أقحام
__________________
وقد جاء (بعث) على ذلك ، كقوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ نَذِيراً).
قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) يجوز أن تكون المصدرية أي : أرسلناه بأن اعبدوا الله. أي : بقوله اعبدوا ، وأن
تكون مفسرة . «ا فلا تتقون» قال بعضهم : هذا الكلام غير موصول بالأول ،
وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه ، وردوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك خوفهم
بقوله : «ا فلا تتقون» هذه الطريقة مخافة العذاب الذي أنذركم به. ويجوز أن يكون
موصولا بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان ،
فدعاهم إلى عبادة الله ، وحذرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان .
قوله : (وَقالَ الْمَلَأُ) قال الزمخشري : فإن قلت : ذكر مقالة قوم هود في جوابه في
سورة الأعراف ، وسورة هود بغير واو ، (قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ)(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا
بِبَيِّنَةٍ). وهاهنا مع الواو ، فأي فرق بينهما؟ قلت : الذي بغير واو
على تقدير سؤال سائل قال : فما ذا قيل له؟ فقيل له : قالوا : كيت وكيت ، وأما الذي
مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ، ومعناه أنه اجتمع في الحصول ، (أي : في هذه الواقعة في) هذا الكلام الحق وهذا (الكلام) الباطل وشتان ما بينهما قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : هذا جواب بنفس الواقع ،
والسؤال باق ، إذ يحسن أن يقال : لم لا جعل هنا قولهم أيضا جوابا لسؤال سائل كما في نظيرتها أو عكس
الأمر .
قوله (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي : بالمصير إلى الآخرة (وَأَتْرَفْناهُمْ) نعمناهم وو سعنا عليهم (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) وقد تقدم شرح هذه الشبهة في القصة الأولى (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي : منه ، فحذف العائد لا ستكمال شروطه ، وهو ا تحاد الحرف ، والمتعلق ، وعدم قيامه مقام مرفوع ، وعدم ضمير
__________________
آخر ، هذا إذا جعلناها بمعنى الذي ، فإن جعلتها مصدرا لم تحتج
إلى عائد ، فيكون المصدر واقعا موقع المفعول. أي : من مشروبكم .
وقال في التحرير : وزعم الفراأ أن معنى (مِمَّا تَشْرَبُونَ) على حذف أي : تشربون منه . وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولا يحتاج إلى حذف ألبتة ،
لأن (ما) إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت العائد ،
ولم تحتج إلى إضمار (من) يعني : أنه يقدر تشربونه من غير حرف جر ، وحينئذ تكون شروط الحذف أيضا موجودة ولكن تفوت المقابلة إذ قوله : (تَأْكُلُونَ مِنْهُ) فيه تبعيض ، فلو قدرت هنا تشربونه من غير (من) فاتت
المقابلة. ثم إن قوله : وهو لا يجوز عند البصريين ممنوع ، بل هو جائز لوجود شرط
الحذف.
قوله : (لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ
إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لمغبونون ، جعلوا اتباع الرسول خسرانا ولم يجعلوا عبادة
الصنم خسرانا ، قال الزمخشري و «إذا» وقع في جزاء الشرط وجواب للذين
قاولوهم من قولهم قال أبو حيان : وليس واقعا في جزاء الشرط ، بل واقعا بين «إنكم»
و (الخبر) ، و «إنكم» و (الخبر) ليس جزاء للشرط بل ذلك جواب للقسم المحذوف قبل «إن»
الشرطية (ولو كانت «إنكم» والخبر جوابا للشرط) لزمت (الفاء) في (إنكم) بل لو كان بالفاء في تركيب غير
القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم
خطأ قال شهاب الدين : يعني أنه إذ توالى شرط وقسم أجيب سابقهما ، والقسم هنا
متقدم فينبغي أن يجاب ولا يجاب الشرط ، ولو أجيب الشرط لا ختلت القاعدة إلا عند بعض
__________________
الكوفيين ، فإنه
يجيب الشرط وإن تأخر ، وهو موجود في الشعر .
قوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ») الآية. في إعرابها ستة أوجه :
أحدها : أن اسم أن
الأولى مضاف لضمير الخطاب ، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والخبر قوله : (إِذا مِتُّمْ) ، و (أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ) تكرير ، لأن الأولى للتأكيد ، والدلالة على المحذوف
والمعنى: أن إخراجكم إذا متم وكنتم .
الثاني : أن خبر (أن)
الأولى هو «مخرجون» ، وهو العامل في «إذا» وكررت الثانية توكيدا لما طال الفصل وإليه ذهب الجرمي والمبرد والفراء ، ويدل على كون الثانية توكيدا قراءة عبد الله: «أيعدكم
إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون» .
الثالث : أن (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مؤل بمصدر مرفوع بفعل محذوف ذلك الفعل المحذوف جواب (إذا) الشرطية ، و
(إذا) الشرطية وجوابها المقدر خبر ل (أنكم) الأولى تقديره : يحدث أنكم مخرجون.
__________________
الرابع : كالثالث
في كونه مرفوعا بفعل مقدر إلا أن هذا الفعل المقدر خبر ل (أن) الأولى وهو العامل في (إذا) .
الخامس : أن خبر
الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه ، فتقديره : أنكم تبعثون ، وهو العامل في الظرف ، و (أن) الثانية وما
في حيزها بدل من الأولى ، وهذا مذهب سيبويه .
السادس : أن يكون (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مبتدأ وخبره الظرف مقدما عليه ، والجملة خبر عن (أنكم)
الأولى ، والتقدير : أيعدكم أنكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم . ولا يجوز أن يكون العامل في «إذا» «مخرجون» على كل قول
لأن ما في حيز (أن) لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم» ، لأنه مضاف إليه ، و
«أنكم» وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف الحرف إذ الأصل : أيعدكم
بأنكم ويجوز أن لا يقدر حرف جر ، فيكون في محل نصب فقط نحو : وعدت زيدا خيرا.
قوله : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ). «هيهات» اسم فعل معناه : بعد ، وكرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع ،
قال جرير :
٣٧٩٢ ـ فهيهات هيهات العقيق وأهله
|
|
وهيهات خل
بالعقيق نواصله
|
__________________
وفسره الزجاج في
عبارته بالمصدر ، فقال : البعد لما توعدون ، أو بعد لما توعدون فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه ، ويمكن أن يكون
فسّر المعنى فقط.
و «هيهات» اسم
لفعل قاصر برفع الفاعل ، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجرورا باللام فمنهم من
جعله على ظاهره وقال : (ما تُوعَدُونَ) فاعل به ، وزيدت فيه اللام التقدير : بعد بعد ما توعدون ، ، وهو ضعيف : إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل. ومنهم من
جعل الفاعل مضمرا لدلالة الكلام عليه ، فقدره أبو البقاء : هيهات التصديق ، أو :
الصحة لما توعدون . وقدّره غيره : بعد إخراجكم . و (لما توعدون) للبيان ، قال الزمخشري : لبيان المستبعد
ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في (هَيْتَ لَكَ) لبيان المهيت به . وقال الزجاج : «البعد لما توعدون» فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر. قال الزمخشري : فإن قلت : (ما توعدون) هو المستبعد ، فمن حقه
أن يرتفع ب «هيهات» كما ارتفع بقوله :
٣٧٩٣ ـ هيهات هيهات العقيق وأهله
فما هذه اللام؟
قلت : قال الزجاج في تفسيره : البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نون ، فنزّله منزلة المصدر . قال أبو حيان : وقول الزمخشري (فمن نوّنه نزّله منزلة المصدر) ليس بواضح ،
لأنهم قد نوّنوا أسماء الأفعال ولا نقول : إنها إذا نوّنت تنزلت منزلة المصادر . قال شهاب الدين : الزمخشري لم يقل كذا ، إنما
__________________
قال : فيمن نوّن
نزله منزلة المصدر لأجل قوله : أو بعد ، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه
منزلا منزلة المصدر ، فإنّ أسماء الأفعال ما نوّن منها نكرة ، وما لم ينوّن معرفة
نحو : صه وصه يقدر الأول بالسكوت ، والثاني بسكوت ما . وقال ابن عطية : طورا تلي الفاعل دون لام ، تقول : هيهات
مجيء زيد أي : بعد ، وأحيانا يكون الفاعل محذوفا عند اللام ، كهذه الآية ،
والتقدير : بعد الوجود لما توعدون . ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله : حذف الفاعل ، والفاعل
لا يحذف ، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر ، وهو الموجود ، وإبقاء معموله وهو (لِما تُوعَدُونَ) و «هيهات» الثاني
تأكيد للأول تأكيدا لفظيا ، وقد جاء غير مؤكد كقوله :
٣٧٩٤ ـ هيهات منزلنا بنعف سويقة
|
|
كانت مباركة على
الأيّام
|
وقال آخر :
٣٧٩٥ ـ هيهات ناس من أناس ديارهم
|
|
دقاق ودار
الآخرين الأوائن
|
وقال رؤبة :
٣٧٩٦ ـ هيهات من منخرق هيهاؤه
قال القيسي شارح أبيات الإيضاح : وهذا مثل قولك : «بعد بعده» وذلك
أنّه بنى من هذه اللفظة (فعلالا) فجاء به مجيء القلقال والزلزال. والألف في «هيهات» غير الألف في (هيهاؤه) ، وهي
في «هيهات» لام الفعل الثانية كقاف الحقحقة الثانية ، وهي في (هيهاؤه) ألف الفعلال الزائدة . وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ،
__________________
ذكر منها
الصّاغاني ستة وثلاثين لغة ، وهي : (هيهات) ، وأيهات ، وهيهان ،
وأيهان وهيهاه ، وأيهاه كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخر ومفتوحة ، ومكسورته ،
وكل واحدة منها منوّنة وغير منوّنة ، فتكون ستّا وثلاثين . وحكى غيره : هيهاك ، وأيهاك ـ بكاف الخطاب ـ ، وأيهاء ، وأيها ، وهيهاء ، فأمّا المشهور ما قرىء به. فالمشهور «هيهات» بفتح التاء
من غير تنوين بني لوقوعه موقع المبني ، أو لشبهه بالحرف ، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة وهي لغة أهل الحجاز . و «هيهاتا» بالفتح والتنوين ، وبها قرأ أبو عمرو في رواية
هارون عنه ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس.
و «هيهات» بالضم
والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة . وبالضم من غير تنوين ،
__________________
ويروى عن أبي حيوة
أيضا ، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية .
و «هيهات» بالكسر
والتنوين ، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس . وبالكسر من غير تنوين ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة ، وتروى
عن عيسى أيضا وهي لغة تميم وأسد .
و «هيهات» بإسكان
التاء ، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني أيضا وخارجة عن أبي عمرو والأعرج و «هيهاه» بالهاء
آخرا وصلا ووقفا. و «أيهات» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء ، وبهاتين قرأ بعض
القراء فيما نقل أبو البقاء . فهذه تسع لغات قد قرىء بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى.
ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة. و «أيهان» بالنون
آخرا. و «أيها» بألف آخرا.
فمن فتح التاء
قالوا : فهي عنده اسم مفرد ، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزينبات وهندات. ويعزى
هذا لسيبويه ، لأنه قال : هي مثل بيضات ، فنسب إليه أنه جمع من ذلك ، حتى قال بعض النحويين :
مفردها (هيهة) مثل بيضة.
__________________
وليس بشيء بل
مفردها (هيهات).
قالوا : وكان ينبغي على أصله أن يقال فيها : (هيهيات) بقلب ألف (هيهات)
ياء ، لزيادتها على الأربعة نحو : ملهيات ، ومغزيات ، ومرميات ، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حاحيت
وصيصية ، وأصلها بوزن القلقلة والحقحقة فانقلبت الياء ألفا
لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت : هيهاة كالسلقاة والجعباة. وإن كانت الياء التي
انقلبت عنها ألف سلقاة وجعباة زائدة ، وياء هيهية أصلا ، فلما جمعت كان قياسها على
قولهم : أرطيات وعلقيات أن يقولوا فيها : (هيهيات) ، إلّا أنهم حذفوا الألف
لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفوها في (ذان) ، و (اللّتان) و
(تان) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية ، والألفات في أواخر المتمكنة ،
وعلى هذا حذفوها في أولات وذوات ، لتخالف ياء حصيات ونويات . وقالوا : من فتح تاء (هيهات) فحقه أن يكتبها هاء ، لأنها
في مفرد كتمرة ونواة ، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء ، لأنها في جمع كهندات ، وكذلك حكم الوقف سواء ، ولا التفات إلى لغة : كيف الإخوه
والأخواه ، ولا هذه ثمرت ، لقلتها ، وقد رسمت في المصحف بالهاء.
واختلف القراء في
الوقف عليها ، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ عن ابن كثير. ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون . وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين :
أحدهما : موافقة
الرسم.
والثاني : أنهم قالوا : المفتوح اسم مفرد أصله هيهية كولولة وقلقلة
في مضاعف الرباعي ، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء. وأمّا
التنوين فهو
__________________
على قاعدة تنوين
أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير ، وخروجه دال على التعريف .
قال القيسي : من
نوّن اعتقد تنكيرها ، وتصوّر معنى المصدر النكرة ، كأنه قال : بعدا بعدا. ومن لم
ينوّن اعتقد تعريفها ، وتصوّر معنى المصدر المعرفة ، كأنه قال : البعد البعد فجعل
التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف انتهى.
ولا يوجد تنوين
التنكير إلا في نوعين : أسماء الأفعال وأسماء الأصوات (نحو صه وصه ، وبخ وبخ ،
والعلم المختوم ب (ويه)) نحو سيبويه وسيبويه ، وليس بقياس بمعنى : أنه ليس لك أن تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره . والذي يقال في القراءات المتقدمة : إنّ من نوّن جعله
للتنكير كما تقدم. ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف. ومن فتح فللخفة
وللاتباع. ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضم فتشبيها بقبل وبعد. ومن سكّن
فلأنّ أصل البناء السكون. ومن وقف بالهاء فاتباعا للرسم ، ومن وقف بالتاء فعلى
الأصل سواء كسرت التاء أو فتحت ، لأنّ الظاهر أنهما سواء ، وإنما ذلك من تغيير
اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه ما تقدم. هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة. وقال ابن
عطية فيمن ضم ونوّن : إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء ، وخبره (لِما تُوعَدُونَ) أي : البعد لوعدكم ، كما تقول : النجح لسعيك .
وقال الرازي في
اللوامح : فأمّا من رفع ونوّن احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرفوعين ، خبرهما من حروف الجر بمعنى : البعد لما
توعدون ، والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسما للفعل ، والضم للبناء مثل : حوب في زجر الإبل لكنه نوّنه (لكونه) نكرة .
قال شهاب الدين :
وكان ينبغي لابن عطية وأبي الفضل أن يجعلاه اسما أيضا في حالة النصب مع التنوين على
أنه مصدر واقع موقع الفعل وقرأ ابن أبي عبلة : «هيهات هيهات ما توعدون» من غير لام
جر . وهي واضحة ، مؤيدة لمدعي زيادتها
__________________
في قراءة العامة . و «ما» في (لِما تُوعَدُونَ) تحتمل المصدرية ، أي : لوعدكم ، وأن تكون بمعنى الذي ،
والعائد محذوف ، أي : توعدونه.
قوله : (إِنْ هِيَ) «هي» ضمير يفسره
سياق الكلام ، أي : إن الحياة إلا حياتنا .
وقال الزمخشري :
هذا ضمير لا يعلم ما يراد به إلّا بما يتلوه من بيانه ، وأصله : إن الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، فوضع «هي» موضع «الحياة» لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه : هي النّفس تتحمل ما
حمّلت ، وهي العرب تقول ما شاءت . وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظا ورتبة ،
ونسبه إلى الزمخشري متعلقا بما نقلناه عنه. قال شهاب الدين : ولا تعلق له في ذلك.
قوله : (نَمُوتُ وَنَحْيا) جملة مفسرة لما ادّعوه من أنّ حياتهم ما هي إلا كذا. وزعم
بعضهم أنّ فيها دليلا على عدم الترتيب في الواو ، إذ المعنى : نحيا ونموت إذ هو الواقع.
ولا دليل فيها
لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرّا يسير إلى انقراض
العصر ويخلف غيره مكانه. وقيل : نموت نحن ويحيا أبناؤنا.
وقيل : القوم
كانوا يعتقدون الرجعة أي : نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت.
فصل
اعلم أنّ القوم
طعنوا في نبوّته بكونه بشرا يأكل ويشرب ، ثم جعلوا طاعته خسرانا : أي إنكم إن
أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع ، فذلك هو الخسران ، ثم طعنوا في
صحة الحشر والنشر ، فقالوا : (أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) معادون أحياء للمجازاة ، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى
__________________
قرنوا به الاستبعاد
العظيم ، فقالوا : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ
لِما تُوعَدُونَ) ثم أكدوا ذلك بقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا
حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) ولم يريدوا بقولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا) الشخص الواحد ، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا ،
وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا : (وَما نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ) ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه
بهذا الباطل فقد (افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ).
واعلم أنّ الله ـ تعالى
ـ ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى : فتقدم الجواب عنها . وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه ، أنّه لمّا كان قادرا
على كل الممكنات عالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا على الحشر والنشر ، وأيضا : فلولا الإعادة لكان تسليط
القويّ على الضعيف في الدنيا ظلما ، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله
تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ).
واعلم أنّ الرسول
لمّا يئس من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) وقد تقدّم تفسيره. فأجاب الله سؤاله وقال : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ).
قوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) في (ما) هذه وجهان :
أحدهما : أنّها
مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد كما زيدت الباء نحو : (فَبِما رَحْمَةٍ) ، وفي من نحو «مما خطاياهم» .
و «قليل» صفة لزمن
محذوف ، أي : عن زمن قليل .
والثاني : أنّها
غير زائدة ، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن ، و «قليل» صفتها ، أو بدل منها ، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه
متعلق بقوله : «ليصبحنّ» ، أي : ليصبحن عن زمن قليل نادمين .
__________________
الثاني : أنه
متعلق ب «نادمين» ، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم ، وذلك أنّ فيها
ثلاثة أقوال :
جواز تقديم معمول
ما بعدها عليها مطلقا ، وهو قول الفراء وأبي عبيدة.
والثاني : المنع
مطلقا ، وهو قول جمهور البصريين.
والثالث : التفصيل
بين الظرف وعديله وبين غيرهما ، فيجوز فيهما للاتساع ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في : والله لأضربن زيدا ، زيدا
لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله .
والثالث من الأوجه
المتقدمة : أنّه متعلق بمحذوف تقديره : عمّا قليل تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه ،
وهو قوله : (رَبِّ انْصُرْنِي). وقرىء : «لتصبحنّ» بتاء الخطاب على الالتفات ، أو على أنّ القول صدر من الرسول لقومه
بذلك.
قوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلاك فعند ذلك يحصل لهم
الحسرة والندامة على ترك القبول . ثمّ بيّن تعالى الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ) قيل : إن جبريل ـ عليهالسلام ـ صاح بهم صيحة عظيمة فهلكوا. وقال ابن عباس : الصيحة
الرجفة . وعن الحسن : الصيحة نفس العذاب والموت. كما يقال فيمن
يموت : دعي فأجاب.
وقيل : هي العذاب
المصطلم ، قال الشاعر :
٣٧٩٧ ـ صاح الزمان بآل برمك صيحة
|
|
خروا لشدتها على
الأذقان
|
والأول أولى لأنه
الحقيقة .
قوله : «بالحقّ»
أي : دمرناهم بالعدل ، من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضائه . وقال المفضل : «بالحقّ» بما لا مدفع له كقوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ).
__________________
قوله : (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) الجعل بمعنى : التصيير ، و «غثاء» مفعول ثان ، والغثاء : قيل
: هو الجفاء ، وتقدم في الرعد ، قاله الأخفش وقال الزجاج : هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل
خالط زبده واسود ، ومنه قوله : (غُثاءً أَحْوى) وقيل : كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به ، وبه يضرب المثل في ذلك ولامه واو ، لأنه من غثا الوادي
يغثو غثوا ، وكذلك غثت القدر ، وأمّا غثيت نفسه تغثي غثيانا ، أي : خبثت. فهو قريب
من معناه ، ولكنه من مادة الياء .
وتشدد (ثاء)
الغثاء ، وتخفّف ، وقد جمع على أغثاء ، وهو شاذ ، بل كان قياسه أن يجمع على أغثية
، كأغرية ، وعلى غيثان ، كغربان ، وغلمان وأنشدوا لامرىء القيس :
٣٧٩٨ ـ من السّيل والغثّاء فلكة مغزل
بتشديد الثاء ،
وتخفيفها ، والجمع ، أي : والأغثاء.
قوله : (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) «بعدا» مصدر يذكر
بدلا من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم ، والأصل : بعد بعدا وبعدا نحو رشد رشدا ورشدا وفي هذه اللام قولان :
__________________
أظهرهما : أنها
متعلقة بمحذوف للبيان ، كهي في سقيا له ، وجدعا له. قاله الزمخشري .
والثاني : أنّها
متعلقة ب «بعدا» قاله الحوفي . وهذا مردود ، لأنه لا يحفظ حذف هذه اللام ، ووصول المصدر
إلى مجروها ألبتة ، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
فَتَعْساً لَهُمْ) لأن اللام لا تتعلق ب «تعسا» بل بمحذوف ، وإن كان الزمخشري
جوّز ذلك ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
فصل
(فَجَعَلْناهُمْ
غُثاءً) صيرناهم هلكى فيبسوا يبس الغثاء من نبات الأرض ، «فبعدا» بمنزلة
اللعن الذي هو التبعيد من الخير (لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) الكافرين ، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم .
قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ
قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا
بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(٤٤)
قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ
قُرُوناً آخَرِينَ) أي : أقواما آخرين. قيل : المراد قصة لوط ، وشعيب ، وأيوب
، ويوسف ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ، والمعنى : أنه ما أخلى الديار من المكلفين . (ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها) (من) صلة كأيّ :
ما تسبق أمة أجلها وقت هلاكها . وقيل : آجال حياتها وتكليفها . قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله
، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر ، وذلك ينافيه هذا النص .
قوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) في «تترى» وجهان :
__________________
أظهرهما : أنه
منصوب على الحال من «رسلنا» ، يعني : متواترين أي : واحدا بعد واحد ، أو متتابعين
على حسب الخلاف في معناه. وحقيقته : أنه مصدر واقع موقع الحال .
والثاني : أنه نعت
مصدر محذوف ، تقديره : إرسالا تترى ، أي : متتابعا أو إرسالا إثر إرسال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ، وهي قراءة الشافعي «تترى»
بالتنوين ، ويقفون بالألف ، وباقي السبعة «تترى» بألف صريحة دون تنوين ، والوقف
عندهم يكون بالياء ، ويميله حمزة والكسائي ، وهو مثل غضبى وسكرى ، ولا يميله أبو
عمرو في الوقف ، وهذه هي اللغة المشهورة. فمن نوّن فله وجهان:
أحدهما : أنّ وزن
الكلمة فعل كفلس فقوله : «تترى» كقولك : نصرته نصرا ؛ ووزنه في قراءتهم «فعلا» . وقد ردّ هذا الوجه ، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب
على رائه ، فيقال : هذا تتر ، ورأيت تترا ، ومررت بتتر ، نحو : هذا نصر ، ورأيت
نصرا ، ومررت بنصر ، فلمّا لم يحفظ ذلك بطل أن يكون وزنه (فعلا) .
الثاني : أنّ ألفه
للإلحاق بجعفر ، كهي في أرطى وعلقى ، فلما نوّن ذهبت لالتقاء الساكنين وهذا أقرب مما قبله ، ولكنه يلزم منه وجود ألف الإلحاق في المصادر ، وهو نادر (ومن لم ينوّن ،
فله فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الألف
بدل من التنوين في حالة الوقف.
والثاني : أنها
للإلحاق كأرطى وعلقى) .
الثالث : أنها
للتأنيث كدعوى ، وهي واضحة .
__________________
فتحصّل في ألفه
ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل
من التنوين في الوقف.
الثاني : أنها
للإلحاق.
الثالث : أنها
للتأنيث .
واختلفوا فيها هل
هي مصدر كدعوى و «ذكرى» ، أو اسم جمع ك «أسرى» و «شتى» ؟ كذا قاله أبو حيان . وفيه نظر : إذ المشهور أن «أسرى» و «شتّى» جمعا تكسير لا اسما جمع . وتاؤها في الأصل واو لأنها من المواترة ، والوتر ، فقلبت تاء كما قلبت تاء في «تورية» ، وتولج ، وتيقور ، وتخمة وتراث ، وتجاه فإنه من الوري والولوج ، والوقار ، والوخامة ، والوراثة ،
والوجه . واختلفوا في مدلولها ، فعن الأصمعي : واحدا بعد واحد
وبينهما هنيهة وقال غيره : هو من المواترة ، وهي التتابع بغير مهلة . وقال الراغب : والتواتر تتابع
__________________
الشيء وترا وفرادى
، قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا تَتْرا). والوتيرة : السّجية والطريقة ، يقال : هم على وتيرة واحدة
. والتّرة : الذّحل والوتيرة : الحاجز بن المنخرين .
قوله : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها
كَذَّبُوهُ) أي : أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن
أهلكه الله بالغرق والصيحة ، ولذلك قال : (فَأَتْبَعْنا
بَعْضَهُمْ بَعْضاً) بالإهلاك .
قوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) قيل : هو جمع حديث ، ولكنه شاذ . والمعنى : سمرا وقصصا يحدث من بعدهم بأمرهم ، ولم يبق
منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به .
وقيل : بل هو جمع
أحدوثة ، كأضحوكة وأعجوبة ، وهو ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجّبا .
وقال الأخفش : لا
يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير وقد شذت العرب في ألفاظ ، فجمعوها على صيغة (أفاعيل)
كأباطيل وأقاطيع . وقال الزمخشري : الأحاديث يكون اسم جمع للحديث ، ومنه
أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم .
وقال أبو حيان : و
(أفاعيل) ليس من أبنية اسم الجمع ، فإنما ذكره النحاة فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع ، وإذا كان عباديد قد
حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد ، فأحرى أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا
اسم جمع لما ذكرنا. ثم قال تعالى : (فَبُعْداً لِقَوْمٍ
لا يُؤْمِنُونَ) وهذا دعاء ، وذم ، وتوبيخ ، وذلك وعيد شديد.
__________________
قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ
هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧)
فَكَذَّبُوهُما
فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)(٤٩)
قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ
هارُونَ) الآية. يجوز أن يكون «هارون» بدلا ، وأن يكون بيانا ، وأن يكون منصوبا بإضمار أعني. واختلفوا
في الآيات ، فقال ابن عباس : هي الآيات التسع وهي العصا ، واليد ،
والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، والسنين ، ونقص الثمرات. وقال
الحسن : «بآياتنا» أي : بديننا. واحتج بأن المراد لو كان الآيات وهي المعجزات ،
والسلطان المبين : هو أيضا المعجز ، لزم منه عطف الشيء على نفسه.
والأول أقرب ،
لأنّ لفظ الآيات إذا ذكر مع الرسول فالمراد به المعجزات.
وأما احتجاجه
فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أنّ
المراد بالسلطان المبين : يجوز أن يكون أشرف معجزاته ، وهي العصا ، لأن فيها
معجزات شتّى من انقلابها حيّة وتلقّفها ما صنع السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر
بضربهما بها ، وكونها حارسا ، وشمعة ، وشجرة مثمرة ، ودلوا ، ورشاء ، فلاجتماع هذه
الفضائل فيها أفردت بالذكر كقوله : (وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ).
والثاني : يجوز أن
يكون المراد بالآيات نفس تلك المعجزات ، وبالسلطان المبين كيفيّة دلالتها على الصدق ،
فلأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها
في قوة دلالتها على قبول قول موسى ـ عليهالسلام ـ.
الثالث : أن يكون
المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى ـ عليهالسلام ـ عليهم في الاستدلال على وجود الصانع ، وإثبات النبوّة ،
وأنه ما كان يقيم لهم قدرا ولا وزنا.
واعلم أنّ الآية
تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضا وأنّ النبوة مشتركة بينهما ،
فكذلك المعجزات . ثم قال : (إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) وتعظموا عن الإيمان (وَكانُوا قَوْماً
عالِينَ) متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم.
قوله : «لبشرين»
بشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع ، والمذكر والمؤنث
__________________
قال تعالى : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ) ، وقد يطابق ، ومنه هذه الآية وأما إفراد «مثلنا» ، فلأنه
يجري مجرى المصادر في الإفراد والتذكير ، ولا يؤنث أصلا ، وقد يطابق ما هو له
تثنية لقوله : (مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ) وجمعا كقوله : (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم).
وقيل : أريد
المماثلة في البشريّة لا الكمية . وقيل : اكتفي بالواحد عن الاثنين . (وَقَوْمُهُما لَنا
عابِدُونَ) جملة حالية.
فصل
«فقالوا» يعني
لفرعون وقومه (أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) يعنون موسى وهارون (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) مطيعون متذللون . قال أبو عبيدة : والعرب تسمي كل من دان لملك عابدا له ويحتمل أن يقال : إنه كان يدعي الإلهية ، وإن طاعة الناس له عبادة ، ولمّا
خطر ببالهم هذه الشبهة صرحوا بالتكذيب ، ولمّا كان التكذيب كالعلّة لهلاكهم لا جرم
رتّبه عليه بفاء التعقيب ، فقال : (فَكَذَّبُوهُما
فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي : بالغرق (أي : فيمن حكم عليهم بالغرق) فإن الغرق لم يحصل عقيب التكذيب ، (إنما حصل عقيب التكذيب)
حكم الله ـ تعالى ـ عليهم بالغرق في الوقت اللائق به.
قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) قيل : أراد قوم موسى ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه ، ولذلك أعاد الضمير من قوله : «لعلّهم» عليهم .
وفيه نظر ، إذ
يجوز عود الضمير على القوم من غير تقدير إضافتهم إلى موسى ، ويكون هدايتهم مترتبة
على إيتاء التوراة لموسى. قال الزمخشري : لا يجوز أن يرجع الضمير في «لعلّهم» إلى
فرعون وملئه لأن التوراة إنما أوتيت بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون ، بدليل قوله
تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ) .
__________________
بل المعنى الصحيح
ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها ، ومواعظها ، فذكر موسى والمراد آل موسى
كما يقال : هاشم وثقيف. والمراد قومهم .
قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(٥٠)
قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً) والمراد عيسى ـ عليهالسلام ـ وأمه «آية» دلالة على قدرتنا. ولم يقل آيتين قيل : معناه
جعلنا شأنهما آية. وقيل المعنى كل واحد آية كقوله : (كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا)
. قال المفسرون : معنى كون عيسى وأمه آية أنه خلق من غير ذكر ، وأنطقه في
المهد في الصغر ، وأجرى على يده إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى وأمّا مريم فلأنها حملت من غير ذكر . وقال الحسن : تكلّمت مريم في صغرها كما تكلّم عيسى وهو قولها
: (هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، ولم تلقم ثديا قط . قال ابن الخطيب : والأقرب أن جعلهما آية هو نفس الولادة ،
لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعا في هذا الأمر العجيب الخارق
للعادة ، ويدل على هذا وجهان :
الأول : قوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
آيَةً) لأن نفس المعجز ظهر منهما ، لا أنّه ظهر على يديهما ، لأنّ
الولادة فيه وفيها بخلاف الآيات التي ظهرت على يده.
الثاني : قوله : (آيَةً) ولم يقل آيتين ، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتمّ
إلا بمجموعهما أولى ، وذلك هو الولادة لا المعجزات التي كانت لعيسى .
قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) «الرّبوة» و «الرّباوة»
في رائهما الحركات الثلاثة ، وهي الأرض المرتفعة.
__________________
قال عطاء عن ابن
عباس : هي بيت المقدس ، وهو قول قتادة وأبي العالية وكعب قال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا .
وقال أبو هريرة :
إنها الرّملة . وقال السدي : أرض فلسطين . وقال عبد الله بن سلام : هي دمشق ، وهو قول سعيد بن
المسيب ومقاتل والضحاك . وقال الكلبي وابن زيد : هي مصر . والقرار : المستقر من أرض مستوية منبسطة . وقال قتادة : ذات ثمار وماء ، أي : لأجل الثمار يستقر
فيها ساكنوها . قوله : «ومعين» صفة لموصوف محذوف ، أي : وماء معين. وفيه
قولان :
أحدهما : أن ميمه
زائدة ، وأصله معيون . أي : مبصر بالعين فأعلّ إعلال مبيع وبابه وهو مثل قولهم : كبدته ، أي ضربت كبده ، ورأسته أي :
أصبت رأسه ، وعنته أي : أدركته بعيني ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن .
والثاني : أن
الميم أصلية ، ووزنه (فعيل) مشتق من المعن .
واختلف في المعين
، فقيل : هو الشيء القليل ، ومنه : الماعون . وقيل : هو من معن الشيء معانة أي : كثر ، قال جرير :
٣٧٩٩ ـ إنّ الّذين غدوا بلبّك غادروا
|
|
وشلا بعينك لا
يزال معينا
|
وقال الراغب : هو
من معن الماء جرى ، وسمي مجاري الماء معنان ، وأمعن الفرس تباعد في عدوه ، وأمعن
بحقّي : ذهب به ، وفلان معن في حاجته يعني : سريعا فكلّه راجع إلى معنى الجري والسرعة.
__________________
وفي المعين قولان :
أحدهما : أنّه
مفعول ، لأنه لظهوره مدرك بالعين من عانه : إذا أدركه بعينه.
وقال الفراء والزجاج : إن شئت جعلته (فعيلا) من الماعون ، ويكون أصله من المعن والماعون فاعول منه. قال أبو علي : والمعين : السهل الذي
ينقاد ولا يتعاصى ، والماعون ما سهل على معطيه. قالوا : وسبب الإيواء أنها فرّت
بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة ، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ، ثم رجعت إلى أهلها
بعدما مات ملكهم .
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)(٥٦)
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ) الآية.
اعلم أنّ هذا خطاب
مع كل الرسل ، وذلك غير ممكن ، لأنّ الرّسل إنّما أرسلوا متفرقين في أزمنة
مختلفة ، فلهذا تأوّلوه على وجوه :
فقيل : معناه
الإعلام بأن كلّ رسول نودي في زمانه بهذا المعنى ، ووصي به ، ليعتقد السامع أن
أمرا نودي له جميع الرسل ، ووصوا به ، حقيق أن يؤخذ ويعمل عليه.
وقال الحسن ومجاهد
وقتادة والسدي والكلبي وجماعة : أراد به محمدا ـ عليهالسلام ـ وحّده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة
كقولك للواحد : أيّها القوم كفّوا عنّا أذاكم ولأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار
الرسل. وقال ابن جرير : المراد عيسى ـ عليهالسلام ـ لأنه إنما ذكر بعد ذكره مكانه الجامع للطعام والشراب ،
ولأنه روي «أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام كان يأكل من غزل أمه».
__________________
والأول أقرب ،
لأنه أوفق للفظ ، ولأنه روي عن أم عبد الله أخت شدّاد بن أوس أنها بعثت إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بقدح لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم فردّه الرسول
إليها وقال : «من أين لك هذا؟» ، فقالت : من شاة لي ، فقال : «من أين هذه الشاة؟»
، فقالت : اشتريتها بمالي ، فأخذه ، ثم إنها جاءته فقالت : يا رسول الله لم رددته؟
فقال ـ عليهالسلام ـ : «بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلّا طيبا ولا تعمل إلّا
صالحا » .
واختلفوا في
الطيّب ، فقيل : هو الحلال. وقيل : هو المستطاب المستلذ من المأكل .
قوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) يجوز أن يكون «صالحا» نعتا لمصدر محذوف أي : واعملوا عملا
صالحا من غير نظر إلى ما يعملونه ، كقولهم : يعطي ويمنع. ويجوز أن يكون مفعولا به
، وهو واقع على نفس المعمول. (إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وهذا تحذير من مخالفة ما أمرهم به ، وإذا كان تحذيرا للرسل
مع علو شأنهم ، فبأن يكون تحذيرا لغيرهم أولى .
قوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) قرأ ابن عامر وحده «وأن هذه» بفتح الهمزة وتخفيف النون.
والكوفيون بكسرها والتثقيل. والباقون بفتحها والتثقيل . فأمّا قراءة ابن عامر فهي المخففة من الثقيلة ، وسيأتي
توجيه الفتح في الثقيلة ، فيتضح معنى قراءته.
وأمّا قراءة
الكوفيين فعلى الاستئناف .
وأمّا قراءة
الباقين ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّها على
حذف اللام أي : ولأنّ هذه ، فلمّا حذف حرف الجرّ جرى الخلاف المشهور ، وهذه اللام تتعلق ب «اتّقون» . والكلام في الفاء كالكلام في قوله : (إِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
__________________
الثاني : أنها
منسوقة على (بِما تَعْمَلُونَ) أي : إنّي عليم بما تعملون وبأنّ هذه ، فهذه داخلة في حيز المعلوم .
الثالث : أنّ في
الكلام حذفا تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم .
وتقدّم (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ
زُبُراً) وما قيل فيها .
فصل
المعنى : وأن هذه
ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمة واحدة ، أي : ملة واحدة وهي الإسلام. فإن قيل : لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم
واحدا؟
فالجواب : أنّ
المراد من الدين ما لا يختلفون من أصول الدين من معرفة ذات الله وصفاته ، وأما
الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يسمّى اختلافا في الدين ، فكما يقال في الحائض
والطاهر من النساء : إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا هنا .
وقيل : المعنى :
أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم ، وأمركم واحد .
(وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ) فاحذرون ، (فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي : تفرقوا فصاروا فرقا يهودا ، ونصارى ، ومجوسا. «زبرا»
أي : فرقا وقطعا مختلفة ، واحدها (زبور) ، وهو الفرقة والطائفة ، ومثلها «الزّبرة»
وجمعها «زبر» ومنه (زُبَرَ الْحَدِيدِ).
وقرأ بعض أهل
الشام : «زبرا» بفتح الباء . وقال مجاهد وقتادة «زبرا» أي : كتبا ، أي : دان كلّ فريق بكتاب غير
الكتاب الذي دان به الآخر.
وقيل : جعلوا
كتبهم قطعا آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض وحرّفوا البعض (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) بما عندهم من الدين معجبون مسرورون .
ولما ذكر تفرقهم
في دينهم أتبعه بالوعيد وقال : (فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ) وهذا خطاب
__________________
لنبينا ـ عليهالسلام ـ ، أي : دع هؤلاء الكفار في جهلهم .
قوله : (فِي غَمْرَتِهِمْ) مفعول ثان ل «ذرهم» أي : اتركهم مستقرين (فِي غَمْرَتِهِمْ) ويجوز أن يكون ظرفا للترك ، والمفعول الثاني محذوف.
والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة ، والمغمر الماء الذي يغمر الأرض ثم استعير ذلك للجهالة ، فقيل :
فلان في غمرة والمادة تدل على الغطاء والاستتار ومنه الغمر ـ بالضم ـ لمن لم يجرب الأمور ،
وغمار الناس وخمارهم زحامهم ، والغمر ـ بالكسر ـ الحقد ، لأنه يغطي القلب ،
فالغمرات الشدائد ، والغامر : الذي يلقي نفسه في المهالك . وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة ، فضربت
لهم مثلا لما هم فيه من جهلهم وعمايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم
عليه من الباطل كقوله :
٣٨٠٠ ـ كأنّني ضارب في غمرة لعب
وقرأ أمير
المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن «غمراتهم» بالجمع ، لأنّ لكل منهم غمرة تخصه. وقراءة العامة لا تأبى هذا
المعنى ، فإنه اسم جنس مضاف .
قوله : (حَتَّى حِينٍ) أي إلى أن يموتوا. وقيل : إلى حين المعاينة. وقيل : إلى
حين العذاب . ولمّا كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أنّ
تلك النعم كالثواب المعجل لهم إلى أديانهم ، فبيّن سبحانه أنّ الأمر بخلاف ذلك
فقال : (أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) أي : أن ما نعطيهم ونجعله مددا لهم من المال والبنين في
الدنيا ل (نُسارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْراتِ) أي : نعجل لهم في الخيرات ، ونقدّمها ثوابا بأعمالهم
لمرضاتنا عنهم (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنّ ذلك استدراج لهم .
قوله : (أَنَّما نُمِدُّهُمْ) في «ما» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها
بمعنى الذي ، وهي اسم (أنّ) و (نمدّهم به) صلتها وعائدها محذوف ،
__________________
و (من مال) حال من
الموصول أو بيان له ، فيتعلق بمحذوف ، و (نسارع) خبر (أنّ) والعائد من هذه الجملة
إلى اسم (أنّ) محذوف تقديره : نسارع لهم به أو فيه إلا أنّ حذف مثله قليل . وقيل : الرابط بين هذه الجملة باسم «أنّ» هو الظاهر الذي
قام مقام المضمر من قوله : (فِي الْخَيْراتِ) ، إذ الأصل نسارع لهم فيه ، فأوقع الخيرات موقعه تعظيما
وتنبيها على كونه من الخيرات ، وهذا يتمشّى على مذهب الأخفش ، إذ يرى الربط
بالأسماء الظاهرة وإن لم يكن بلفظ الأوّل ، فيجيز زيد الذي قام أبو عبد الله ، إذا
كان أبو عبد الله كنية زيد ، وتقدّمت منه أمثلة. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون
الخبر (من مال) ، لأنه (إذا) كان من مال فلا (يعاب عليهم ذلك ،
وإنّما) يعاب عليهم اعتقادهم أن تلك الأموال خير لهم .
الثاني : أن تكون (ما)
مصدرية فينسبك منها ومما بعدها مصدر ، هو اسم (أنّ) ، و «نسارع» هو الخبر ، وعلى
هذا فلا بدّ من حذف (أن) المصدرية قبل «نسارع» ، ليصح الإخبار ، تقديره : أن نسارع.
فلمّا حذفت (أن) ارتفع المضارع بعدها ، والتقدير : أيحسبون أن إمدادنا لهم من كذا
مسارعة منّا لهم في الخيرات .
الثالث : أنها
مهيئة كافة ، وبه قال الكسائي في هذه الآية ، وحينئذ يوقف على (وبنين) ، لأنّه قد حصل بعد فعل الحسبان نسبة من
مسند ومسند إليه نحو : حسبت إنّما ينطلق عمرو وإنّما تقوم أنت . وقرأ يحيى بن وثاب : «إنّما» بكسر الهمزة على الاستئناف ، ويكون حذف مفعول الحسبان اقتصارا
واختصارا. وابن كثير في رواية «يمدّهم» بالياء ، وهو الله تعالى ، وقياسه أن يقرأ «يسارع» أيضا. وقرأ
السلمي وابن أبي بكرة «يسارع» بالياء
وكسر الراء ، وفي فاعله وجهان:
أحدهما : الباري
تعالى.
__________________
والثاني : ضمير (ما)
الموصولة إن جعلناها بمعنى (الذي) ، أو على المصدر إن جعلناها مصدرية ، وحينئذ يكو
ن «يسارع لهم» الخبر. فعلى الأوّل يحتاج إلى تقدير عائد أي : يسارع الله لهم به أو
فيه وعلى الثاني لا يحتاج إذ الفاعل ضمير (ما) الموصولة .
وعن (ابن) أبي بكرة المتقدم أيضا «يسارع» بالياء مبنيا للمفعول و (فِي الْخَيْراتِ) هو القائم مقام الفاعل ، والجملة خبر (أنّ) والعائد محذوف
على ما تقدّم .
وقرأ الحسن : «نسرع»
بالنون من أسرع ، وهي ك «نسارع» فيما تقدم. و (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) إضراب عن الحسبان المستفهم عنه استفهام تقريع ، وهو إضراب
انتقال ، والمعنى : أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكروا
في ذلك الإمداد ، أهو استدراج أم مسارعة في الخير روى يزيد بن ميسرة قال : أوحى الله ـ تعالى ـ إلى نبيّ من الأنبياء : «أيفرح
عبدي أن أبسط له في الدنيا وهو أبعد له منّي ، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهي أقرب
له منّي» ثم تلا (أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ).
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ
بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩)
وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ)(٦١)
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) الآيات لمّا ذمّ من تقدّم بقوله : (أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ) ثم قال : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ، بيّن بعده صفات من يسارع في الخيرات ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) ، والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف. وقيل : جمع
بينهما للتأكيد. ومنهم من حمل الخشية على العذاب ،
__________________
والمعنى : إن
الذين هم من عذاب ربهم مشفقون أي : خائفون من عقابه .
قوله : (مِنْ خَشْيَةِ) فيه وجهان :
أحدهما : أنها
لبيان الجنس. قال ابن عطية : هي لبيان جنس الإشفاق .
قال شهاب الدين :
وهي عبارة قلقة .
والثاني : أنها
متعلقة ب «مشفقون». قاله الحوفي ، وهو واضح.
قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ) يصدّقون ، وآيات الله هي المخلوقات الدالة على وجوده . (وَالَّذِينَ هُمْ
بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله ـ تعالى
ـ ، لأن ذلك داخل في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ ، وهو أن يكون مخلصا في
العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه .
قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) العامة على أنه من الإيتاء ، أي : يعطون ما أعطوا .
وقرأت عائشة وابن
عباس والحسن والأعمش : «يأتون ما أتوا» من الإتيان ، أي : يفعلون ما فعلوا من الطاعات . واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على «أتوا» فقط ، وليس بجيّد ، لأنّه يوهم أن من قرأ «أتوا» بالقصر قرأ «يؤتون»
من الرباعي وليس كذلك.
قوله : (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هذه الجملة حال من فاعل «يؤتون» ، فالواو للحال ، والمعنى
: يعطون ما أعطوه ، ويدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان من حقوق الله كالزكوات ،
والكفارات وغيرها . أو من حقوق الآدميين ، كالودائع ، والديون وأصناف الإنصاف
والعدل. وبيّن أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه (وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ) ، أي : إنهم يقدمون على العبادة على وجل من تقصير وإخلال بنقصان .
روي أن عائشة سألت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : (وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)
__________________
أهو الذي يزني ،
ويشرب الخمر ، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله؟ فقال عليهالسلام : «لا يا بنت الصديق ، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ،
وهو على ذلك يخاف الله» قوله : «أنّهم» يجوز أن يكون التقدير : وجلة من أنّهم أي : خائفة من رجوعهم إلى ربّهم. ويجوز أن يكون : لأنهم أي : سبب الوجل الرجوع إلى ربهم.
قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ) هذه الجملة خبر (إِنَّ الَّذِينَ) ، وقرأ الأعمش : «إنّهم» بالكسر ، على الاستئناف ، فالوقف على «وجلة» تام أو كاف .
وقرأ الحسن : «يسرعون»
من أسرع. قال الزجاج : يسارعون أبلغ . يعني : من حيث إن المفاعلة تدل على قوة الفعل لأجل
المبالغة .
قوله : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) في الضمير في «لها» أوجه :
أظهرها : أنه يعود
على الخيرات لتقدمها في اللفظ .
وقيل : يعود على
الجنة . وقال ابن عباس : إلى السعادة . وقال الكلبي : سبقوا الأمم إلى الخيرات . والظاهر أن «سابقون» هو الخبر ، و «لها» متعلق به
__________________
قدّم للفاصلة
وللاختصاص. واللام ، قيل : بمعنى (إلى) ، يقال : سبقت له ، وإليه ، بمعنى ومفعول
«سابقون» محذوف ، تقديره : سابقون الناس إليها . وقيل : اللام للتعليل ، أي : سابقون الناس لأجلها . وتكون هذه الجملة مؤكدة للجملة قبلها ، وهي (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ، ولأنها تفيد معنى آخر وهو الثبوت والاستقرار بعدما دلّت
الأولى على التجدد .
وقال الزمخشري :
أي : فاعلون السّبق لأجلها ، أو سابقون الناس لأجلها قال أبو حيان : وهذان القولان عندي واحد . قال شهاب الدين : ليسا بواحد إذ مراده بالتقدير الأول : أن لا يقدر السبق مفعول ألبتة ،
وإنّما الغرض الإعلام بوقوع السبق منهم من غير نظر إلى من سبقوه كقوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، و (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ، و «يعطي ويمنع» وغرضه في الثاني تقدير مفعول حذف للدلالة
، واللام للعلة في التقديرين وقال الزمخشري أيضا : أو : إيّاها سابقون. أي : ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم
في الدنيا . قال شهاب الدين : يعني أن «لها» هو المفعول ب «سابقون» ، وتكون
اللام قد زيدت في المفعول ، وحسن زيادتها شيئان كل منهما لو انفرد لاقتضى الجواز ،
كون العامل فرعا ، وكونه مقدّما عليه معموله . قال أبو حيان : ولا يدل لفظ (لَها سابِقُونَ) على هذا التفسير ، لأنّ سبق الشيء الشيء يدل على تقديم
السابق على المسبوق ، فكيف يقول : وهم يسبقون الخيرات ، هذا لا يصح . قال شهاب الدين : ولا أدري عدم الصحة من أي جهة ، وكأنّه
تخيّل أنّ السابق يتقدم على المسبوق فكيف يتلاقيان؟ لكنّه كان ينبغي أن يقول : فكيف يقول : وهم
ينالون الخيرات ، وهم لا يجامعونها ، لتقدمهم عليها إلّا أن يكون قد سبقه القلم
فكتب بدل (وهم ينالون) (وهم
يسبقون) وعلى كل
__________________
تقدير فأين عدم
الصحة ؟ وقال الزمخشري أيضا : ويجوز أن يكون (وَهُمْ لَها
سابِقُونَ) خبرا بعد خبر ومعنى (وَهُمْ لَها) كمعنى قوله :
٣٨٠١ ـ أنت لها أحمد من بين البشر
يعني : أن هذا
الوصف الذي وصف به الصالحين غير خارج من حد الوسع والطاقة .
فتحصل في اللام
ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها
بمعنى (إلى).
الثاني : أنها
للتعليل على بابها.
والثالث : أنها
مزيدة. وفي خبر المبتدأ قولان :
أحدهما : أنه «سابقون»
وهو الظاهر.
والثاني : أنه
الجار كقوله.
٣٨٠٢ ـ أنت لها أحمد من بين البشر
وهذا قد رجّحه
الطبري ، وهو مروي عن ابن عباس .
قوله تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها
وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ
فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
حَتَّى
إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا
الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ)(٦٥)
قوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الآية ، لمّا ذكر كيفيّة أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العبادة :
الأوّل : قوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قال المفضّل : الوسع الطاقة.
وقال مقاتل ،
والضحّاك ، والكلبي ، والمعتزلة : هو دون الطاقة ، لأن الوسع إنما
__________________
سمي وسعا ، لأنه
يتسع عليه فعله ، ولا يصعب ولا يضيق ، فبيّن أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما
عملوا. قال مقاتل : من لم يستطع القيام فليصلّ قاعدا ، ومن لم يستطع الجلوس
فليومىء إيماء ، ومن لم يستطع الصوم فليفطر .
قوله : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) «ينطق» صفة ل «كتاب»
و «بالحقّ» يجوز أن يتعلق ب «ينطق» ، وأن يتعلق بمحذوف حالا من فاعله. أي : ينطق
ملتبسا بالحق ، ونطيره (هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ). فشبّه الكتاب بمن يصدر عنه البيان ، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما
فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان محقّا. فإن قيل : هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك
الكتاب ، إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله ، أو مجوزين ذلك عليه ، فإن أحالوه
عليه ، فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد ، وإن جوزوه عليه
لم يحصل لهم بذلك الكتاب يقين ، لتجويزهم أنه ـ سبحانه ـ كتب فيه خلاف ما حصل ،
وعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب. فالجواب : يفعل الله ما يشاء ، وعلى أنه
لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة .
قوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقص من حسناتهم ، ولا يزاد على سيئاتهم ونظيره : (وَوَجَدُوا
ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).
قالت المعتزلة : الظلم إمّا أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من
الثواب ، أو بأن يعذب على ما لم يعمل أو بأن يكلفهم (ما لا يطيقون) فتكون الآية دالة على كون العبد موجدا لفعله ، وإلا لكان
تعذيبه عليه ظلما ، ويدلّ على أنه ـ سبحانه ـ لا يكلف ما لا يطاق.
وأجيب بأنه لمّا
كلف أبا لهب أن يؤمن (والإيمان يقتضي تصديق الله في كل ما أخبر به ، ومما أخبر أنّ
أبا لهب لا يؤمن) فقد كلّفه (بأن يؤمن) بأن لا يؤمن فيلزمكم (كل ما ذكرتموه ).
قوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي : في غفلة وجهالة ، يعني الكفار في غفلة. (مِنْ هذا) أي : القرآن ، أي من هذا الذي بيّناه في القرآن ، أو من الكتاب الذي ينطق
بالحق
__________________
أو من هذا الذي هو
وصف المشفقين. «ولهم» أي : ولهؤلاء الكفار (أَعْمالٌ مِنْ دُونِ
ذلِكَ) أي : أعمال خبيثة من المعاصي «دون ذلك» أي : سوى جهلهم وكفرهم.
وقيل : «دون ذلك»
يعني : من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله ـ عزوجل ـ قال بعضهم: أراد أعمالهم في الحال. وقيل : بل أراد
المستقبل لقوله : (هُمْ لَها عامِلُونَ).
وإنما قال : (هُمْ لَها عامِلُونَ) ، لأنها مثبتة في علم الله ـ تعالى ـ وفي اللوح المحفوظ ،
فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة. وقال أبو مسلم : هذه الآيات من صفات المشفين كأنه قال بعد وصفهم
: (وَلا نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يحفظ أعمالهم (يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) (فَلاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِنْ هذا) هو أيضا وصف لهم بالحيرة كأنه قال : وهم مع ذلك الوجل
والخوف كالمتحيرين في أن أعمالهم مقبولة أو مردودة (وَلَهُمْ أَعْمالٌ
مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي : لهم أيضا من النوافل ووجوه البرّ سوى ما هم عليه إمّا
أعمالا قد عملوها في الماضي ، أو سيعملوها في المستقبل ، ثم إنه تعالى رجع بقوله :
(حَتَّى إِذا أَخَذْنا
مُتْرَفِيهِمْ) إلى وصف الكفار وهذا قول قتادة.
قال ابن الخطيب :
وقول أبي مسلم أولى ، لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به كان أولى من ردّه
إلى ما بعد خصوصا ، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أنّ أعمالهم محفوظة ، كما يحذر بذلك من الشر ،
وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ، ويراد أنّه قد استولى
عليه الفكر في قبوله أو ردّه ، وفي أنه هل أدّى عمله كما يجب أو قصّر؟
فإن قيل : فما
المراد بقوله : «من هذا» وهو إشارة إلى ماذا؟
قلنا : إشارة إلى
إشفاقهم ووجلهم بيّن أنهما مستوليان على قلوبهم .
قوله : (هُمْ لَها عامِلُونَ) كقوله : (هُمْ لَها سابِقُونَ).
قوله : (حَتَّى إِذا) «حتّى» هذه إمّا حرف ابتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها ، وإذا الثانية فجائية ، وهي جواب الشرط ، وإمّا حرف جر عند بعضهم ، وتقدّم تحقيقه. وقال الحوفي : «حتّى» غاية ، وهي عاطفة ،
و «إذا» ظرف مضاف لما بعده فيه معنى الشرط ، و «إذا» الثانية في موضع جواب الأولى
، ومعنى الكلام عامل في
__________________
«إذا» ، والمعنى :
جأروا ، والعامل في الثانية «أخذنا» . وهو كلام لا يظهر .
وقال ابن عطية : و
«حتى» حرف ابتداء لا غير ، و «إذا» الثانية ـ (التي هي جواب) ـ تمنعان من أن تكون «حتى» غاية ل «عاملون» . قال شهاب الدين : يعني أن الجملة الشرطية وجوابها لا يظهر
أن تكون غاية ل «عاملون» .
وظاهر كلام مكي
أنها غاية ل «عاملون» ، فإنه قال : أي : لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل
البر (هُمْ لَها عامِلُونَ) إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم إذا هم يضجون . والجؤار : الصراخ مطلقا ، وأنشد الجوهري :
٣٨٠٣ ـ يراوحمن صلوات الملي
|
|
ك طورا سجودا وطورا جؤارا
|
وتقدم مستوفى في
النحل .
فصل
قال الزمخشري : «حتى»
هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام الجملة الشرطية .
واعلم أن الضمير
في «مترفيهم» راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار ، لأن العذاب لا يليق إلا بهم . والمراد بالمترفين : رؤساؤهم. قال ابن عباس : هو السيف
يوم بدر .
وقال الضحاك :
يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني
يوسف» فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف . وقيل : أراد عذاب الآخرة . ثم بين تعالى أنهم إذا نزل
__________________
بهم هذا «يجأرون»
أي : ترتفع أصواتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة ما نالهم.
ويقال لهم على وجه
التبكيت : (لا تَجْأَرُوا
الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ).
لا تمنعون منا ولا
ينفعكم تضرعكم .
قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ
فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
مُسْتَكْبِرِينَ
بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ
يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ
بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ
أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
أَمْ
تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٧٢)
قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن (فَكُنْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) وهذا مثل يضرب لمن يتباعد عن الحق كل التباعد فهو قوله : (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
تَنْكِصُونَ) أي : ترجعون قهقرى وتتأخرون عن الإيمان ، وينفرون عن تلك
الآيات ، وعن من يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه .
قوله : (عَلى أَعْقابِكُمْ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه
متعلق ب «تنكصون» كقولك نكص على عقبيه.
والثاني : أنه
متعلق بمحذوف ، لأنه حال من فاعل (تنكصون) قاله أبو البقاء وقرأ أمير المؤمنين «تنكصون» بضم العين ، وهي لغة .
قوله : «مستكبرين»
حال من فاعل «تنكصون» ، و «به» فيه قولان :
أحدهما : أنه
متعلق ب «مستكبرين» .
والثاني : أنه
متعلق ب «سامرا» .
وعلى الأول
فالضمير للقرآن ، لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل
__________________
يسمرون ، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن ، وتسميته سحرا وشعائرا. أو للبيت شرفه الله ـ تعالى
ـ كانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم ، كانوا يفتخرون به ، لأنهم
ولا ته ، والقائمون به. قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل الضمير في «به» للرسول ـ عليهالسلام ـ. أو للنكوص المدلول عليه ب «تنكصون» كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى). والباء في هذا كله للسببية ، لأنهم استكبروا بسبب القرآن
لما تلي عليهم وبسبب البيت لأنهم كانوا يقولون نحن ولا ته ، وبالرسول لأنهم كانوا
يقولون هو منا دون غيرنا وبالنكوص لأنه سبب الاستكبار . وقيل : ضمن الاستكبار معنى التكذيب فلذلك عدي بالباء ، وهذا يتأتى على أن يكون الضمير للقرآن وللرسول.
وأما على الثاني
وهو تعلقه ب «سامرا» فيجوز أن يكون الضمير عائدا على ما عاد عليه فيما تقدم إلا
النكوص ، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وبالرسول يجعلونهما حديثا لهم يخوضون في ذلك
كما يسمر بالأحاديث وكانوا يسمرون في البيت فالباء ظرفية على هذا و «سامرا» نصب على
الحال إما من فاعل «تنكصون» وإما من الضمير في (مستكبرين).
وقرأ ابن مسعود
وابن عباس وأبو حياة ويروى عن أبي عمرو : «سامرا» بضم الفاء وفتح العين مشددة . وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضا «سمارا» كذلك إلا
أنه بزيادة ألف بين الميم والراء ، وكلاهما جمع لسامر ، وهما جمعان مقيسان لفاعل الصفة نحو ضرب وضراب في ضارب ، والأفصح الإفراد ، لأنه يقع على
ما فوق الواحد بلفظ الإفراد يقال : قوم سامر ونظيره : (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).
__________________
والسامر مأخوذ من
السمر ، وهو سهر الليل أو مأخوذ من السمر : وهو ما يقع على الشجر من ضوء
القمر ، فيجلسون إليه يتحدثون مستأنسين به قال :
٣٨٠٤ ـ كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
|
|
أنيس ولم يسمر
بمكة سامر
|
وقال الراغب :
السامر : الليل المظلم يقال : ولا آتيك ما سمر ابنا سمير يعنون الليل والنهار. وقال الراغب : ويقال : سامر ، وسمار
، وسمرة ، وسامرون. وسمرت الشيء ، وإبل مسمرة ، أي : مهملة ، والسامري : منسوب إلى رجل انتهى.
والسمرة أحد
الألوان ، والسامراء يكنى بها عن الحنطة .
قوله : «تهجرون»
قرأ العامة بفتح التاء وضم الجيم ، وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها من
الهجر بسكون الجيم ، وهو القطع والصد. أي تهجرون آيات الله ورسوله ، وتزهدون
فيهما فلا تصلونهما .
والثاني : أنها من
الهجر ـ بفتحها ـ وهو الهذيان ، يقال : هجر المريض هجرا أي : هذى فلا مفعول له . ونافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أهجر إهجارا ، أي : أفحش في منطقه قال ابن عباس : يعني كانوا يسبون النبي صلىاللهعليهوسلم
__________________
وأصحابه وقرأ زيد بن علي ، وابن محيصن ، وأبو نهيك بضم التاء وفتح
الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هجر بالتشديد ، وهو محتمل لأن يكون تضعيفا للهجر أو
للهجر (أو للهجر ) وقرأ ابن أبي عاصم كالعامة إلا أنه بالياء من تحت ، وهو
التفات .
قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي : يتدبروا القول ، يعني ما جاءهم من القول وهو القرآن
من حيث إنه كان مباينا لكلام العرب في الفصاحة ، ومبرأ من التناقض مع طوله ،
فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلىاللهعليهوسلم ، ومعرفة الصانع ، والوحدانية ، فيتركوا الباطل ، ويرجعوا إلى
الحق (أَمْ جاءَهُمْ ما
لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) واعلم أن إقدامهم على كفرهم وجهلهم لا بد وأن يكون لأحد أمور أربعة :
الأول : أن لا
يتأملوا دليل ثبوته ، وهو المراد من قوله : (أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) وهو القرآن يعني : أنه كان معروفا لهم.
والثاني : أن
يعتقدوا أن مجيء الرسول على خلاف العادة ، وهو المراد من قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ) وذلك أنهم عرفوا بالتواتر مجيء الرسول إلى الأمم السالفة ،
وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك ، أفما دعائهم ذلك إلى تصديق الرسل.
وقال بعضهم : «أم»
هاهنا بمعنى «بل» والمعنى بل جاءهم ما لم يأت آباءهم .
والثالث : أن لا
يكونوا عالمين بديانته ، وحسن خصاله قبله ادعائه النبوة ، وهو المراد من قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ
فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) والمعنى : أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يدعي الرسالة ، وكونه
في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار عن الكذب والأخلاق الذميمة ، وكانوا يسمونه
الأمين ، فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين.
والرابع : أن
يعتقدوا فيه الجنون ، فيقولوا إنما حمله على ادعاء الرسالة جنونه ، وهو المراد
بقوله (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ
جِنَّةٌ). وهذا أيضا ظاهر الفساد ، لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه
أعقل الناس ، فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة ،
والشرائع الكاملة.
وفي كونهم سموه
بذلك وجهان :
__________________
أحدهما : أنهم
نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له ، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم ،
فنسبوه إلى الجنون لذلك.
والثاني : أنهم
قالوا ذلك إيهاما لعوامهم لئلا ينقادوا له ، فذكروا ذلك استحقارا له .
ثم إنه ـ تعالى ـ بعد
أن عد هذه الوجوه ، ونبه على فسادها قال : (بَلْ جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ) أي: بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنهم تمسكوا بالتقليد ، وعلموا أنهم لو أقروا بمحمد لزالت
رياستهم ومناصبهم ، فلذلك كرهواه .
فإن قيل قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ
لِلْحَقِّ كارِهُونَ) يدل على أن أقلهم لا يكرهون الحق.
فالجواب : أنه كان
منهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه ، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق
.
قوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الجمهور على كسر الوا ولا لتقاء الساكنين وابن وثاب بضمها تشبيها بواو الضمير كما كسرت واو الضمير تشبيها بها .
فصل
قال ابن جريج
ومقاتل والسدي وجماعة : الحق هو الله. أي : لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل وقيل : لو اتبع مرادهم ، فيسمي لنفسه شريكا وولدا كما
يقولون (لَفَسَدَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).
وقال الفراء والزجاج : المراد بالحق : القرآن. أي : نزل القرآن بما يحبون من
جعل الشريك والولد على ما يعتقدون (لَفَسَدَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) وهو كقوله : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) .
__________________
قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) العامة على إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه ،
والمراد أتتهم رسلنا . وقرأ أبو عمرو في روآية «آتيناهم» بالمد أي أعطيناهم ، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني غير مذكور ، ويحتمل أن
يكون «بذكرهم» والباء مزيدة فيه وابن أبي إسحاق وعيسى ابن عمر وأبو عمرو أيضا «أتيتهم»
بتاء المتكلم وحده .
وأبو البرهثم وأبو
حياة والجحدري وأبو رجاء «أتيتهم» بتاء الخطاب ، وهو الرسول ـ عليهالسلام ـ.
وعيسى : «بذكراهم»
بألف التأنيث . وقتادة «نذكرهم» بنون المتكلم المعظم نفسه مكان باء الجر
مضارع (ذكر) المشدد ، ويكون (نذكرهم) جملة حالية.
وتقدم الكلام في «خرجا»
و «خراجا» في : الكهف .
فصل
قال ابن عباس : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني : القرآن ، فهو كقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي : شرفكم ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي : شرف لك ولقومك (فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ) شرفهم «معرضون» .
وقيل : الذكر هو
الوعظ والتذكير التحذير . (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على ما جئتم به «خرجا» أجرا وجعلا (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وتقدم الكلام على نظيره.
قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ
وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٧٥)
قوله : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) وهو الإسلام. (وَإِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ
__________________
بِالْآخِرَةِ
عَنِ الصِّراطِ) عن دين الحق «لناكبون» لعادون عن هذا الطريق ، لأن طريق
الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير .
قوله : (عَنِ الصِّراطِ) متعلق ب «ناكبون» ولا تمنع لائم الابتداء من ذلك على رأي تقدم تحقيقه. والنكوب والنكب : العدول والميل ،
ومنه : النكباء للريح بين ريحين ، سميت بذلك لعدولها عن المهاب ، ونكبت حوادث الدهر ، أي : هبت هبوب النكباء.
والمنكب : مجتمع
ما بين العضد والكتف ، والأنكب : المائل المنكب ، ولفلان نكابة في قومه أي : نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلا من
القاف ، ويقال : نكب ونكب مخففا ومثقلا .
قوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما
بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) قحط وجدب وقيل : ضرر القتال والسبي. وقيل : مضار الآخرة وعذابها .
قوله : «للجوا»
جواب «لو» ، وقد توالى فيه لا مان ، وفيه تضعيف لقول من قال : جوابها إذا نفي ب (لم)
ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت : لو قام للم
يقم عمرو ، لم يجز ، قال : لئلا يتوالى لا مان ، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية
، ولم يمتنع ، وإلا فما الفرق بين النفي والإثبات في ذلك واللجاج : التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه ، ومنه اللجة : بالفتح : لتردد الصوت ، كقوله :
٣٨٠٥ ـ في لجة أمسك فلانا عن فل
__________________
ولجة البحر لتردد أمواجه ، ولجة الليل لتردد ظلامه. واللجلجة تردد الكلام ،
وهو تكرير لج ، ويقال : لج والتج . ومعنى الآية : لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم
ينزعوا عنه .
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ
فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا
فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٨٠)
قوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قال المفسرون : لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ، ولحق باليمامة ، ومنع الميرة عن أهل مكة ، ودعا النبي صلىاللهعليهوسلم على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط
حتى أكلوا العلهز ، جاء أبو سفيان إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وقال : أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة
للعالمين؟ فقال : «بلى». فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فادع
الله يكشف عنا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية . والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا. وقال الأصم : العذاب
هو ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر يعني أن ذلك مع شدة ما دعائهم إلى الإيمان.
وقيل : المراد من
عذب من الأمم الخالية. (فَمَا اسْتَكانُوا) أي : مشركو العرب .
قوله : (فَمَا اسْتَكانُوا) تقدم وزن (استكان) في آل عمران .
وجاء الأول ماضيا
والثاني مضارعا ، ولم يجيئا ماضيين ، ولا مضارعين ولا جاء الأول مضارعا والثاني
ماضيا ، لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه ، وهو بالاستكانة أليق ، بخلاف التضرع
فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبائل وأما الاستكانة فقد توجد منهم.
__________________
وقال الزمخشري :
فإن قلت : هلا قيل : وما تضرعوا (أو) فما يستكينون.
قلت : لأن المعنى
محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا
ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد .
فظاهر هذا أن (حتى)
غاية لنفي الاستكانة والتضرع . ومعنى الاستكانة طلب السكون ، أي : ما خضعوا وما ذلوا إلى
ربهم ، وما تضرعوا بل مضوا على تمردهم.
قوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً
ذا عَذابٍ شَدِيدٍ.) قرى «فتحنا» بالتشديد .
قال ابن عباس
ومجاهد : يعني القتل يوم بدر. وقيل : الموت وقيل : قيام الساعة . وقيل : الجوع. (إِذا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ) آيسون من كل خير. وقرأ السلمي : «مبلسون» ـ بفتح اللام ـ من أبلسه ، أي : أدخله في الإبلاس.
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) الآية.
العطف لا يحسن إلا
مع المجانسة ، فأي مناسبة بين قوله : (وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) وبين ما قبله؟
والجواب : كأنه
تعالى لما بين مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار ، وتأمل الحقائق
قال للمؤمنين : هو الذي أعطاكم هذه الأشياء وو فقكم لها تنبيها على أن من لم يعمل
هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها ، لقوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ)» وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).
قال أبو مسلم :
وليس المراد أن لهم شكرا وإن قل ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة : ما أقل
شكر فلان .
ثم قال : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ) أي : خلقكم ، قال أبو مسلم : ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي : هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين ، ويحشركم يوم
القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه ، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه لا بمعنى
المكان . ثم قال : (وَهُوَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة
__________________
وأنه سبحانه ـ وإن
أنعم بها ، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب . ثم قال : (وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، ووجه
النعمة بذلك معلوم. قال الفراء : جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض . ثم قال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قرأ أبو عمرو في روآية يعقوب : بياء الغيبة على الالتفات والمعنى : ا فلا تعقلون ما ترون صنعه فتعتبرون.
قوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ
الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا
نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٨٣)
قوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ
الْأَوَّلُونَ) أي : كذبوا كما كذب الأولون (قالُوا أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) لمحشورون ، قالوا ذلك منكرين متعجبين.
واعلم أنه ـ سبحانه
ـ لما أوضح دلائل التوحيد عقبه بذكر المعاد ، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته ،
وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين ، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد ثم حكى قولهم : (لَقَدْ وُعِدْنا
نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) كأنهم قالوا إن هذا الوعد كما وقع منه ـ عليهالسلام ـ فقد وقع قديما من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد
، وظنوا أن الإعادة تكون في الدنيا ، ثم قالوا : لما لم يكن ذلك فهو من أساطير
الأولين. والأساطير جمع أسطار ، وهي جمع سطر ، أي : ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له ، أو جمع أسطورة .
قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦)
سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ)(٨٨)
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٩٠)
قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) الآية. اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود
__________________
من هذه الآيات
الرد على منكري الإعادة ، وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان ، لأن القوم
كانوا مقرين بالله ، وقالوا : نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى ، فقال تعالى : قل يا محمد مجيبا لهم يعني يا أهل مكة (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من الخلق (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) خالقها ومالكها (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فلا بد لهم من ذلك ، لأنهم يقرون أنها مخلوقة ، فقل لهم
إذا أقروا بذلك : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على
إحيائهم بعد الموت. وفي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) سؤال يأتي في قوله : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا
يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة
من خلقهم ، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع.
وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه .
قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ووجه الاستدلال بها على الأمرين كما تقدم . وإنما قال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : تحذرون ، تنبيها على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا
بترك عبادة الأوثان ، والاعتراف بجواز الإعادة .
قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) في الأخيرتين من غير لا م جر ، ورفع الجلالة جوابا على اللفظ لقوله «من» قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ، لأن المسؤل به مرفوع المحل وهو «من» فجاء جوابه مرفوعا
مطابقا له لفظا ، وكذلك رسم الموضعان في مصاحف البصرة بالألف .
والباقون : «لله»
في الموضعين باللام وهو جواب على المعنى ؛ لأنه لا فرق بين قوله : (مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ) وبين قوله : لمن السماوات ، ولا بين قوله : (مَنْ بِيَدِهِ) ولا لمن له الإحسان ، وهذا كقولك : من رب هذه الدار؟ فيقال
: زيد ، وإن شئت
__________________
لزيد ، لأنّ قولك
: من ربّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد ، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال : لمن هذه
الدار؟ ومن ربّها؟ واللام مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه.
ولم يختلف في
الأول أنه «لله» ، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال ولو حذفت من الجواب لجاز ، لأنه لا فرق بين : (لِمَنِ الْأَرْضُ) ومن ربّ الأرض ، إلا أنه لم يقرأ به أحد.
قوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ) (لمّا ذكر الأرض
أولا والسماء ثانيا ، عمّم الحكم هاهنا بقوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)) ويدخل في الملكوت الملك والملك والتاء فيه على سبيل
المبالغة. (وَهُوَ يُجِيرُ) أي : يؤمن من يشاء ، (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي : لا يؤمن من أخافه الله ، يقال : أجرت فلانا على فلان
إذا منعته منه .
قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فيه سؤال : وهو كيف قال : (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) ثم حكى عنهم (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وفيه تناقض؟ والجواب : لا تناقض ، لأنّ قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لا ينفي علمهم بذلك وقد يقال مثل ذلك في الحجاج على وجه
التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك .
وقوله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي : تصرفون عن توحيده وطاعته ، والمعنى كيف يحتمل لكم
الحق باطلا. (بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِالْحَقِّ) بالصدق ، (وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ) فيما يدعون من الشرك والولد ، وقرىء هنا ببعض ما قرىء به
في نظيره. فقرأ ابن إسحاق : «أتيتهم» بتاء الخطاب ، وغيره بتاء المتكلم.
قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما
كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
قُلْ
رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا
تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ
نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ)(٩٦)
قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما
كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) الآية. وهذه الآية كالتنبيه على الردّ على الكفار الذين
يقولون : الملائكة بنات الله. وقوله : (وَما كانَ مَعَهُ
مِنْ إِلهٍ) ردّ
__________________
على اتخاذهم
الأصنام آلهة ، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية .
ثم إنه تعالى ذكر
الدليل بقوله : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه ، ولم يرض أن يضاف
خلقه إلى غيره ، ومنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم ،
وحين لم تروا ذلك فاعلموا أنه إله واحد .
قوله : «إذا» جواب
وجزاء ، قال الزمخشري : فإن قلت : «إذا» لا تدخل إلّا على كلام هو جواب وجزاء ،
فكيف وقع قوله : «لذهب» جوابا وجزاء ولم يتقدّم شرط ولا سؤال سائل قلت : الشرط
محذوف تقديره : لو كان معه آلهة ، حذف لدلالة (وَما كانَ مَعَهُ
مِنْ إِلهٍ).
وهذا رأي الفراء ، وقد تقدّم في الإسراء في قوله : (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) ثم إنه تعالى نزّه نفسه فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من إثبات الولد والشريك .
قرىء : «تصفون»
بتاء الخطاب وهو التفات.
قوله : (عالِمِ الْغَيْبِ). قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : بالجر على البدل من الجلالة . وقال الزمخشري : صفة لله . كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف .
والباقون : بالرفع
على القطع خبر مبتدأ محذوف .
ومعنى الآية : أنه
مختص بعلم الغيب والشهادة ، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم
__________________
يعلم الغيب ، لأن
الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال : ((فَتَعالَى اللهُ) عَمَّا يُشْرِكُونَ).
قوله : «فتعالى»
عطف على معنى ما تقدم ، كأنّه قال علم الغيب فتعالى كقولك : زيد شجاع
فعظمت منزلته أي : شجع فعظمت. أو يكون على إضمار القول ، أي : أقول فتعالى الله . قوله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي : ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة «ترينّي» بصريح
الياء. والضحاك : «ترئنّي» بالهمز عوض الياء ، وهذا كقراءة : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) «لترؤنّ» بالهمز ، وهو بدل شاذ .
قوله : (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي) جواب الشرط ، و «ربّ» نداء معترض بين الشرط وجزائه ، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع .
فإن قيل : كيف
يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
فالجواب : يجوز أن
يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارا
للعبودية وتواضعا لربه .
قوله : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ) هذا الجار متعلق ب «لقادرون» أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن
يعمل فيما قبلها. والمعنى : أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ، فقيل لهم : إن الله
قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا. وقيل : المراد عذاب الآخرة .
__________________
قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم.
قال الزمخشري :
قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أبلغ من أن يقال : بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل ، (كأنه
قال ادفع بالحسنى السيئة) والمعنى الصفح عن إساءتهم ، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان
، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان ، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة
...
قيل : هذه الآية
نسخت بآية السيف ، وقيل : محكمة ، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة . ثم قال : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَصِفُونَ) أي : يقولون من الشرك.
قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ
رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩)
لَعَلِّي
أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ
وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(١٠٠)
قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الآية لما أدّب رسوله بقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين :
أحدهما : من همزات
الشياطين . والهمزات جمع همزة ، وهي النخسة والدفع بيد وغيرها ، وهي كالهزّ والأزّ ، ومنه مهماز الرائض ، والمهماز مفعال من ذلك كالمحراث من الحرث والهمّاز الذي يصيب الناس ، كأنه يدفع بلسانه وينخس به.
فصل
معنى (أَعُوذُ بِكَ) أمتنع وأعتصم بك (مِنْ هَمَزاتِ
الشَّياطِينِ) نزعاتهم وقال الحسن :
__________________
وساوسهم. وقال
مجاهد : نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي . قال الحسن : كان عليهالسلام يقول بعد استفتاح الصلاة : «لا إله إلّا الله ثلاثا ، الله
أكبر ثلاثا ، اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه».
فقيل : يا رسول
الله ما همزه؟ قال : «الموتة التي تأخذ ابن آدم» أي : الجنون. قيل : فما نفثه؟ قال : «الشعر» قيل : فما نفخه؟
قيل : «الكبر» .
والثاني : قوله : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي : في شيء من أموري ، وإنما ذكر الحضور ، لأن الشيطان
إذا حضر وسوس.
قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) الآية في (حتّى) هذه أوجه :
أحدها : أنها غاية
لقوله : (بِما يَصِفُونَ).
والثاني : أنها
غاية «لكاذبون» .
ويبين هذين
الوجهين قول الزمخشري : «حتّى» يتعلق ب «يصفون» أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى
هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد. ثم قال : أو على قوله
: (وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ). قال شهاب الدين : قوله : (أو على قوله كذا) كلام محمول
على المعنى ، إذ التقدير : «حتّى» معلقة على «يصفون» أو على قوله : «لكاذبون» وفي
الجملة فعبارته مشكلة.
الثالث : قال ابن
عطية : «حتّى» في هذا الموضع حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف
، والأوّل أبين ، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود (ذكره ) .
قال أبو حيان :
فتوهم ابن عطية أن «حتّى» إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية ، وهي وإن كانت حرف
ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها ، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر .
وقال أبو البقاء :
(حتّى) غاية في معنى العطف . قال أبو حيّان : والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون «حتّى» غاية لها يدل عليها ما
قبلها ، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جاء
، ونظير حذفها قول الشاعر :
__________________
٣٨٠٦ ـ فيا عجبا حتّى كليب تسبّني
أي : يسبني الناس
كلهم حتى كليب إلّا أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة.
قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ.) في قوله : «ارجعون» بخطاب الجمع ثلاثة أوجه :
أجودها : أنه على
سبيل التعظيم كقوله :
٣٨٠٧ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم
|
|
وإن شئت لم أطعم
نقاخا ولا بردا
|
وقال الآخر :
٣٨٠٨ ـ ألا فارحموني يا إله محمّد
وقد يؤخذ من هذا
البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال : إنه لم نعلم أحدا أجاز للداعي أن يقول : يا
رحيمون قال : لئّلا يوهم خلاف التوحيد ، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها
للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
الثاني : أنه نادى
ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله : «ارجعون» . ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف ، أي : ملائكة
ربي ، فحذف المضاف ثم التفت إليه في عود الضمير كقوله: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها). ثم قال : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) التفاتا ل «أهل» المحذوف.
الثالث : أنّ ذلك
يدل على تكرير الفعل كأنه قال : ارجعني ارجعني نقله أبو
__________________
البقاء وهو يشبه ما قالوه في قوله : (أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ) أنه بمعنى : ألق ألق ثنّى الفعل للدلالة على ذلك ، وأنشدوا :
٣٨٠٩ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
أي : قف قف.
فصل
اعلم أنّه تعالى
أخبر أنّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة
الموت فقال : (حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ (قالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ)) ولم يقل : ارجعني ، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم
في الإعراب . وقال الضحّاك : كنت جالسا عند ابن عباس فقال: من لم يزكّ ولم يحج سأل
الرجعة عند الموت ، فقال رجل : إنما يسأل ذلك الكفار. فقال ابن عباس : أنا أقرأ عليك به قرآنا (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ).
وقال عليهالسلام : إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين
يديه فعنده يقول : (رَبِّ ارْجِعُونِ
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) .
واختلفوا في وقت
مسألة الرجعة ، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل : بل عند معاينة النار
في الآخرة ، وهذا القائل إنّما ترك ظاهر هذه الآية لمّا أخبر الله ـ تعالى ـ عن
أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة .
قوله : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما
تَرَكْتُ) أي : ضيّعت. أي : أقول لا إله إلّا الله .
__________________
وقيل : أعمل بطاعة
الله تعالى. وقيل : أعمل صالحا فيما قصّرت ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية
، وهذا أقرب ، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه . فإن قيل : قوله تعالى : (لَعَلِّي أَعْمَلُ
صالِحاً) كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.
فالجواب : ليس
المراد ب «لعلّ» الشك فإنّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي
ما سأل ، فهو مثل من قصّر في حق نفسه ، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير ، فيقول :
مكنوني من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازما بأنه سيتدارك.
ويحتمل أيضا أنّ
الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد
قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ).
قوله : «كلّا» كلمة ردع وزجر أي : لا ترجع. معناه المنع طلبوا ، كما يقال لطالب الأمر المستبعد : هيهات. ويحتمل أن يكون
ذلك إخبارا بأنهم يقولون ذلك ، وأنّ هذا الخبر حق ، فكأنّه تعالى قال : حقا إنّها
كلمة هو قائلها. والأول أقرب .
قوله : (إِنَّها كَلِمَةٌ) من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله : «أصدق كلمة قالها
الشاعر كلمة لبيد» يعني قوله :
٣٨١٠ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
وقد تقدم طرف من
هذا في آل عمران . و (هُوَ قائِلُها) صفة ل «كلمة».
__________________
والمراد بالكلمة :
سؤاله الرجعة : كلمة هو قائلها ولا ينالها ، وقيل : معناه لا يخليها ولا يسكت عنها
لاستيلاء الحسرة عليه .
قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمامهم وبين أيديهم . «برزخ» البرزخ : الحاجز بين المسافتين وقيل : الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر ، وهو بمعنى الأوّل.
وقال الراغب :
أصلة برزه بالهاء فعرّب ، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة
والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
قال مجاهد : حجاب
بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. (وقال قتادة : بقيّة الدنيا) .
قال الضحاك :
البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل : القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون .
قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا
أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)
فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢)
وَمَنْ
خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ
وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
أَلَمْ
تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(١٠٥)
قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) الآية لمّا قال : (وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ذكر أحوال ذلك اليوم فقال : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو ، وهو آلة إذا نفخ فيها
ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات ، قال عليهالسلام : «إنّه قرن ينفخ فيه» . وقرأ ابن عباس والحسن : بفتح الواو جمع صورة. والمعنى : فإذا نفخ في الصور أرواحها وقرأ أبو رزين : بكسر الصاد وفتح الواو ، وهو شاذ . وهذا عكس (لحى) بضم اللام جمع (لحية) بكسرها . وقيل : إنّ النفخ في الصور استعارة ، والمراد منه البعث
والحشر.
__________________
قوله : «فلا أنساب»
الأنساب جمع نسب ، وهو القرابة من جهة الولادة ، ويعبّر به عن التواصل ، وهو في
الأصل مصدر قال :
٣٨١١ ـ لا نسب اليوم ولا خلّة
|
|
اتسع الخرق على
الرّاقع
|
قوله : «بينهم»
يجوز تعلقه بنفس «أنساب» ، وكذلك «يومئذ» ، أي : فلا قربة بينهم في ذلك اليوم . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة ل «أنساب» ، والتنوين في «يومئذ» عوض عن جملة تقديره : يومئذ نفخ في الصور.
فصل
من المعلوم أنّه تعالى إذا أعادهم فالأنساب ثابتة ، لأنّ المعاد هو
الولد والوالد ، فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك
من وجوه :
أحدها : أنّ من حق
النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا : أسألك بالله والرحم أن
تفعل كذا ، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولا بنفسه ،
وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام
عظيمة ينسى ولده ووالده.
وثانيها : أنّ من
حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا ، وأن يسأل البعض عن أحوال البعض ، وفي
الآخرة لا يتفرغون لذلك.
وثالثها : أنّ ذلك
عبارة عن الخوف الشديد ، فكل امرىء مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه.
قال ابن مسعود : يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي مناد ألا
إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه ، فيفرح المرء يومئذ
__________________
أن يثبت له الحق
على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) وروى عطاء عن ابن عباس : أنّها النفخة الثانية .
(فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ) أي : لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما
كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت؟ ومن أي قبيلة أنت ؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع.
فإن قيل : أليس قد
جاء في الحديث : «كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي» قيل معناه : لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلّا سببه
ونسبه ، وهو الإيمان والقرآن .
فإن قيل : قد قال
ههنا (وَلا يَتَساءَلُونَ) وقال : (وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً). وقال (وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ).
فالجواب : روي عن
ابن عباس أنّ للقيامة أحوالا ومواطن ، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون ،
وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون. وقيل : إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا
بأنفسهم عن التساؤل ، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا). وقيل : المراد لا يتساءلون بحقوق النسب. وقيل : (لا يَتَساءَلُونَ) صفة للكفار لشدة خوفهم ، وأمّا قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها . وعن الشعبي قالت عائشة : يا رسول الله أما نتعارف يوم
القيامة أسمع الله يقول : (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) فقال عليهالسلام «ثلاثة مواطن تذهل
فيها كلّ مرضعة عما أرضعت عند رؤية القيامة وعند الموازين وعلى جسر جهنم» .
قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لمّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد
بالموازين الأعمال فمن أتي بما له قدر وخطر فهو الفائز
__________________
المفلح ، ومن أتي
بما لا وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس : الموازين جمع موزون وهي
الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَزْناً) أي : قدرا وقيل : ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة
، والسيّئات في أقبح صورة . وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء .
قوله : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قال ابن عباس : غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين . وقيل : امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب .
قوله : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) يجوز أن يكون «خالدون» خبرا ثانيا ل (أولئك) ، وأن يكون
خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم خالدون . وقال الزمخشري : (فِي جَهَنَّمَ
خالِدُونَ) بدل من (خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ) ، ولا محل للبدل والمبدل منه ، لأنّ الصلة لا محل لها .
قال أبو حيان :
جعل (فِي جَهَنَّمَ) بدلا من (خسروا) ، وهذا بدل غريب ، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به (فِي جَهَنَّمَ) أي : استقروا في جهنم وهو بدل شيء من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم . قال شهاب الدين : فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل دون «خالدون» ، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلا ، بدليل قوله
بعد ذلك : أو خبرا بعد خبر ، ل «أولئك» أو خبر مبتدأ محذوف . وهذان إنّما يليقان ب «خالدون» ، وأما (فِي جَهَنَّمَ) فمتعلق به ، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب ، وأيضا فيصير «خالدون»
معلقا. وجوّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتا لاسم الإشارة ، وفيه نظر ، إذ الظاهر كونه خبرا له .
قوله : «تلفح»
يجوز استئنافه ، ويجوز حاليته ، ويجوز كونه خبرا ل «أولئك».
__________________
واللفح إصابة
النار الشيء بوهجها وإحراقها له ، وهو أشد من النفح ، وقد تقدم النفح في الأنبياء. قوله : (وَهُمْ فِيها
كالِحُونَ) الكلوح تشمير الشفة العليا ، واسترخاء السفلى .
قال عليهالسلام في قوله : (وَهُمْ فِيها
كالِحُونَ) قال : «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ،
وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» . وقال أبو هريرة : يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال
ضرسه مثل أحد ، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون . ومنه كلوح الأسد أي : تكشيره عن أنيابه ، ودهر كالح (وبرد
كالح) أي : شديد وقيل الكلوح : تقطيب الوجه وتسوره ، وكلح الرجل يكلح كلوحا (وكلاحا)
.
قوله : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن تخوفون بها (فَكُنْتُمْ بِها
تُكَذِّبُونَ) قالت المعتزلة دلت الآية على أنهم إنما عذبوا بسوأ أفعالهم
، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صح ذلك.
والجواب : أن
القادر على الطاعة والمعصية إن صدرت المعصية عنه لا لمرجح ألبتة كان صدورها عنه اتفاقيا لا اختياريا فوجب أن لا يستحق العقاب ، وإن
كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلا لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة
عنه اضطراريا لا اختياريا فوجب أن لا يستحق الثواب .
قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا
شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها
وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ
فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا
__________________
حَتَّىٰ
أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ
(١١٠) إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)
قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) الآية. لما قال سبحانه (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم : (رَبَّنا غَلَبَتْ
عَلَيْنا شِقْوَتُنا) قرأ الأخوان : «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف. والباقون بكسر
الشين وسكون القاف . وهما مصدران بمعنى واحد فالشقاوة كالقساوة ، وهي لغة فاشية ، والشقوة كالفطنة
والنعمة ، وأنشد الفراء :
٣٨١٢ ـ كلف من عنائه وشقوته
|
|
بنت ثماني عشرة
من حجته
|
وهي لغة الحجاز.
قال أبو مسلم : «الشقوة
من الشقاء كجرية الماء ، والمصدر الجري ، وقد يجيء لفظ فعلة ، والمراد به الهيئة
والحال فيقول : جلسة حسنة وركبة وقعدة ، وذلك من الهيئة ، وتقول : عاش فلان عيشة
طيبة ، ومات ميتة كريمة ، وهذا هو الحال والهيئة ، فعلى هذا المراد من الشقوة حال
الشقاء . وقرأ قتادة والحسن في روآية كالأخوين إلا أنهما كسرا
الشين ، وشبل في اختياره كالباقين إلا أنه فتح الشين .
__________________
قال الزمخشري : (غَلَبَتْ عَلَيْنا) ملكتنا من قولك غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك (وامتلكه)
والشقاوة سوء العاقبة .
فصل
قال الجبائي : المراد أن طلبنا اللذات المحرمة ، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى
هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المسبب على السبب ، وليس هذا باعتذار فيه ، لأن علمهم بأن
لا عذر لهم فيه ثابت عندهم ، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم.
وأجيب : بأنك حملت
الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة ، وطلب تلك اللذات حاصل باختيارهم أولا
باختيارهم ، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر ، فلم لا
يجوز في كل الحوادث ذلك؟ وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع ، وإن افتقر إلى محدث
فمحدثه إما العبد أو الله ، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه :
أحدها : أن قدرة
العبد صالحة للفعل والترك ، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر ، عاد
الكلام فيه ، ولزم التسلسل ، وإن لم يتوقف على المرجح ، فقد جوزت رجحان أحد طرفي
الممكن على الآخر لا لمرجح ، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
وثانيها : أن
العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ، ولا كيفيتها ، والجاهل بالشيء لا يكون محدثا له
، وإلا لبطلت دلالة الأحكام ، ولا يقال علم العلم.
وثالثها : أن أحدا
في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل ، بل لا يقصد إلا (ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد
إلا) تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله ، ثم إن
الداعية إذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة ، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت
شقاوة.
وقال القاضي :
قولهم (رَبَّنا غَلَبَتْ
عَلَيْنا شِقْوَتُنا) دليل على أنه لا عذر لهم لا عترأ فهم ، فلو كان كفرهم من
خلقه وإرادته ، وعلموا ذلك ، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر.
والجواب : قد بينا
أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ، ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل : (اخْسَؤُا فِيها).
والوجه الثاني لهم في الجواب : قولهم : (وَكُنَّا قَوْماً
ضالِّينَ) أي : عن الهدى ،
__________________
وهذا الضلال الذي
جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه
، وهو باطل ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال (عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم ،
وما ذلك إلا خلق الداعي إلى الضلال) . ثم إن القوم لما اعتذروا بهذين العذرين ، قالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي : من النار (فَإِنْ عُدْنا) لما أنكرنا (فَإِنَّا ظالِمُونَ) فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)
فإن قيل : كيف
يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أن عقابهم دائم؟ قلنا : يجوز أن يلحقهم السهو عن
ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على
وجه الغوث والاسترواح .
قوله : (اخْسَؤُا فِيها) أقيموا فيها ، كما يقال للكلب إذا طرد اخسأ ؛ أي : انزجر كما
تنزجر الكلاب إذا زجرت ، يقال : خسأ الكلب وخسأ بنفسه . (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم ، وليس هذا نهيا ، لأنه
لا تكليف في الآخرة .
قال الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ، ثم لا يتكلمون
بعده إلا الشهيق والزفير. ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون .
قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) الآية. العامة على كسر همزة (إنه) استئنافا . وأبي والعتكي : بفتحها أي : لأنه والهاء ضمير الشأن. قال البغوي : الهاء في إنه عماد ،
وتسمى المجهولة أيضا .
قوله : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص بكسر السين. والباقون : بضمها في الموضعين .
و (سخريا) مفعول
ثان للاتخاذ . واختلف في معناها فقال الخليل
__________________
وسيبويه والكسائي وأبو زيد : هما بمعنى واحد نحو دري ودري ، وبحر لجي ولجي بضم اللام وكسرها. وقال يونس : إن
أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير ، وإن أريد الهزء فالضم والكسر ورجح أبو علي وتبعه مكي قراءة الكسر ، قالا : لأن ما بعدها أليق لها لقوله : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ). ولا حجة فيه ، لأنهم جمعوا بين الأمرين سخروهم في العمل ،
وسخروا منهم استهزاء. والسخرة بالتاء الاستخدام .
وسخريا بالضم منها
، والسخر بدونها الهزء والمكسور منه ، قال الأعشى :
٣٨١٣ ـ إني أتاني حديث لا أسر به
|
|
من علو لا كذب فيه ولا سخر
|
ولم يختلف السبعة
في ضم ما في الزخرف ، لأن المراد الاستخدام ، وهو يقوي قول من فرق بينهما ،
إلا أن ابن محيصن وابن مسلم وأصحاب عبد الله كسروه أيضا ، وهي مقوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سخريا وسخريا
للنسب زيدت
__________________
للدلالة على قوة
الفعل ، فالسخري أقوى من السخر ، كما قيل في الخصوص خصوصية دلالة على قوة ذلك. قال معناه الزمخشري .
فصل
اعلم أنه تعالى
قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل : إن رؤس قريش مثل أبي جهل ، وعاقبة وأبي بن خلف ، كانوا
يستهزؤن بأصحاب محمد ، ويضحكون بالفقراء منهم ، كبلال ، وخباب ، وعمار ، وصهيب ،
والمعنى : اتخذتموهم هزوا (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذكري وكنتم منهم تضحكون) ونظيره : (إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) ثم إنه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأن وصف ما جازى
به أولئك فقال : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي : جزيتهم اليوم الجزاء الوافر.
قوله : (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) قرأ الأخوان بكسر الهمزة ، استئنافا .
والباقون بالفتح ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنّه
تعليل فيكون نصبا بإضمار الخافض أي : لأنهم هم الفائزون ، وهي موافقة للأولى فإنّ
الاستئناف يعلل به أيضا .
والثاني : قاله
الزمخشري ، ولم يذكر غيره ، أنه مفعول ثان ل «جزيتهم» أي : بأنهم أي : فوزهم وعلى الأوّل يكون المفعول الثاني محذوفا .
قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
__________________
فَسْئَلِ
الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧)
وَقُلْ
رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(١١٨)
قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) قرأ الأخوان : «قل كم لبثتم» «قل إن لبثتم» بالأمر في
الموضعين وابن كثير كالأخوين في الأوّل فقط. والباقون : «قال» في الموضعين على الإخبار عن الله أو الملك. والفعلان مرسومان بغير ألف
في مصاحف الكوفة ، وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة . فحمزة والكسائي وافقا مصاحف الكوفة ، وخالفها عاصم أو
وافقها على تقدير حذف الألف من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحف
مكة ، وفي الأوّل غيرها ، أو إيّاها على تقدير حذف الألف وإرادتها. وأمّا الباقون
فوافقوا مصاحفهم في الأوّل والثاني. فعلى الأمر معنى الآية : قولوا أيّها الكافرون
، فأخرج الكلام مخرج الواحد ، والمراد منه الجماعة إذ كان معناه مفهوما. ويجوز أن
يكون الخطاب لكل واحد منهم ، أي : قل أيها الكافرون . وأمّا على الخبر أي قال الله ـ عزوجل ـ للكفار يوم البعث (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الْأَرْضِ) أي : في الدنيا أو في القبور. و (كم) في موضع نصب على ظرف
الزمان ، أي : كم سنة ، و «عدد» بدل من «كم» قاله أبو البقاء ، وقال غيره: «عدد سنين» تمييز ل «كم» وهذا هو الصحيح. وقرأ الأعمش والمفضّل عن عاصم : «عددا»
منونا ، وفيه أوجه :
أحدها : أن يكون
عددا مصدرا أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدّم على المنعوت قاله صاحب اللوامح . يعني : أنّ الأصل سنين عددا. أي : معدودة ، لكنّه يلزم
تقديم
__________________
النعت على المنعوت
، فصوابه أن يقول فانتصب حالا هذا مذهب البصريين.
والثاني : أن «لبثتم»
بمعنى : عددتم ، فيكون نصب «عددا» على المصدر و «سنين» بدل منه. قاله صاحب اللوامح أيضا. وفيه بعد لعدم دلالة اللبث على العدد.
والثالث : أنّ «عددا»
تمييز ل «كم» و «سنين» بدل منه .
فصل
الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ ، لأنّهم كانوا ينكرون
لبثا في الآخرة أصلا ، ولا يعدون اللبث إلّا في دار الدنيا ، ويظنون أنّ بعد الموت
يدوم الفناء ولا إعادة. فلمّا حصلوا في النار ، وأيقنوا دوامها ، وخلودهم فيها
سألهم (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الْأَرْضِ) منبّها لهم على ما ظنّوه دائما طويلا ، وهو يسير بالإضافة
إلى ما أنكروه ، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا ، حيث
تيقّنوا خلافه ، وهذا هو الغرض من السؤال فإن قيل : فكيف يصح أن يقولوا في جوابهم : (لَبِثْنا يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ولا يقع الكذب من أهل النار؟ فالجواب : لعلّهم نسوا لكثرة
ما هم فيه من الأهوال ، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ). قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين
النفختين.
وقيل : مرادهم
بقولهم : (لَبِثْنا يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب . وقيل : أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوما أو بعض يوم من
أيام الآخرة ، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة.
فصل
اختلفوا في أنّ السؤال عن أيّ لبث؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا ،
فأجابوا بأنّ قدر لبثهم كان يسيرا بناء على أنّ الله أعلمهم أنّ الدنيا متاع قليل
وأن الآخرة هي دار القرار.
وقيل : المراد
اللبث في حال الموت ، لأنّ قوله : (فِي الْأَرْضِ) يفيد الكون في الأرض أي : في القبر ، والحيّ إنّما يقال
فيه أنّه على الأرض. وهذا ضعيف لقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) ، واستدلوا أيضا بقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) ثم قالوا : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي : الملائكة الذين يحفظون أعمال
__________________
بني آدم ويحصونها
عليهم ، وهذا قول عكرمة. وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا. وقيل : المعنى
سل من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه . وقرىء «العادين» بالتخفيف ، وهي قراءة الحسن والكسائي في
رواية جمع (عادي) اسم فاعل من (عدا) أي : الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا .
وقيل : العادين :
القدماء المعمرين ، فإنّهم سيقصرونها. قال أبو البقاء : كقولك : هذا بئر عادية ، أي ؛ سل من تقدّمنا ، وحذف إحدى ياءي النسب كما قالوا : الأشعرون
، وحذفت الأخرى لالتقاء الساكنين . قال شهاب الدين : المحذوف أوّلا الياء الثانية ، لأنّها
المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان . ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال : وقرىء (العاديين
أي : القدماء المعمرين ، فإنهم يستقصرونها ، فكيف بمن دونهم ؟ قال ابن خالويه : ولغة أخرى العاديّين يعني : بياء مشددة جمع عاديّة بمعنى القدماء) .
فصل
احتجّ من أنكر
عذاب القبر بهذه الآية فقال : قوله : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الْأَرْضِ) يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض ، وزمان كونهم أمواتا
في بطن الأرض ، فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أنّ مدة مكثهم في الأرض طويلة ،
فلم يقولوا : (لَبِثْنا يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).
والجواب من وجهين
:
الأول : أنّ
الجواب لا بدّ وأن يكون بحسب السؤال ، وإنّما سألوا عن موت لا حياة بعده إلّا في الآخرة ، وذلك لا يكون إلّا بعد عذاب القبر.
والثاني : يحتمل
أن يكونوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه ، فلا مدخل في تقدّم موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) عند أنفسنا .
__________________
قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي : ما لبثتم (إِلَّا قَلِيلاً) ، وكأنه قيل لهم : صدقتم ما لبثتم فيها إلّا قليلا ، لأنها في مقابلة أيام الآخرة .
قوله : (لَوْ أَنَّكُمْ) جوابها محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من
الطول لما أجبتم بهذه المدة. وانتصب «قليلا» (على النعت) لزمن محذوف (أو لمصدر محذوف) أي : إلّا زمنا قليلا ، أو إلّا لبثا قليلا .
قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً) الآية في نصب (عبثا) وجهان :
أحدهما : أنّه
مصدر واقع موقع الحال أي : عابثين.
والثاني : أنه
مفعول من أجله أي : لأجل العبث . والعبث : اللعب ، وما لا فائدة فيه ، أي : لتعبثوا وتلعبوا ، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وكل ما
ليس له غرض صحيح. يقال : عبث يعبث عبثا إذا خلط عليه بلعب ، وأصله من قولهم عبثت الأقط ، أي : خلطته ، والعبيث : طعام مخلوط بشيء ، ومنه العوبثاني لتمر وسويق وسمن
مختلط. قوله : (وَأَنَّكُمْ) يجوز أن يكون معطوفا على (أنّما خلقناكم) لكون الحسبان
منسحبا عليه وأن يكون معطوفا على (عبثا) إذا كان مفعولا من أجله.
قال الزمخشري :
ويجوز أن يكون معطوفا على (عبثا) أي : للعبث ولترككم غير مرجوعين وقدّم «إلينا» على (تُرْجَعُونَ) لأجل الفواصل.
قوله : (لا تُرْجَعُونَ) هو خبر «أنّكم» ، وقرأ الأخوان «ترجعون» مبنيا
للفاعل ، والباقون مبنيا للمفعول . وقد تقدّم أن (رجع) يكون لازما ومتعديا . وقيل : لا يكون إلا متعدّيا ، والمفعول محذوف.
__________________
فصل
لما شرح صفات
القيامة استدل على وجودها بأنّه لو لا القيامة لما تميّز المطيع عن العاصي ،
والصديق عن الزنديق ، وحينئذ يكون هذا العالم عبثا ، وهو كقوله : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً). والمعنى : أنّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزوجل .
روي أن رجلا مصابا
مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنيه (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) حتى ختمها ، فبرأ ، (فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم بماذا رقيته في أذنه فأخبره) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده لو أنّ رجلا موقنا قرأها على جبل لزال»
ثم نزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال : (فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ) ، والملك : هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته ،
والحقّ : هو الذي يحق له الملك ، لأنّ كل شيء منه وإليه ، والثابت الذي لا يزول
ملكه .
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) قرأ العامة «الكريم» مجرورا نعتا للعرش ، وصف بذلك لتنزّل
الخيرات منه والبركات والرحمة. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين ، كما يقال : بيت كريم إذا كان ساكنوه
كراما . وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنّه نعت
للعرش أيضا ، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيّد
لتوافق القراءتين في المعنى.
والثاني : أنه نعت
ل (ربّ) .
فصل
قال المفسرون :
العرش السرير الحسن. وقيل : المرتفع . وقال أبو مسلم : العرش هنا السموات بما فيها من العرش
الذي تطوف به الملائكة ، ويجوز أن يراد به
__________________
الملك العظيم . والأكثرون : على أنّه العرش حقيقة .
قوله : (وَمَنْ يَدْعُ) شرط ، وفي جوابه وجهان :
أحدهما : أنه قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ) ، وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) وجهان :
أحدهما : أنها صفة
، ل «إلها» وهي صفة لازمة ، أي : لا يكون الإله المدعو من دون الله إلّا كذا ، فليس لها
مفهوم لفساد المعنى. ومثله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ) لا يفهم أنّ ثمّ إلها آخر مدعوّا من دون الله له برهان ،
وأن ثمّ طائرا يطير بغير جناحيه.
والثاني : أنها
جملة اعتراض بين الشرط وجوابه ، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم
عليه برهان ، ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقولك : من أحسن إلى زيد لا
أحد أحقّ بالإحسان منه فالله مثيبه .
والثاني من
الوجهين الأولين : أن جواب الشرط قوله : (لا بُرْهانَ لَهُ
بِهِ) كأنه فرّ من مفهوم الصفة لما يلزم من فساده ، فوقع في شيء
لا يجوز إلّا في ضرورة شعر ، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية كقوله :
٣٨١٤ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها
|
|
والشّرّ بالشّر
عند الله سيّان
|
وقد تقدّم تخريج
كون (لا بُرْهانَ لَهُ) على الصفة ، ولا إشكال ، لأنها صفة لازمة ، أو على أنها
جملة اعتراض .
فصل
لمّا بيّن أنّه (الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ رَبُّ) أتبعه بأن من ادّعى إلها آخر فقد ادّعى
__________________
باطلا ، لأنه (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) لا حجّة ولا بيّنة ، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك ، وهذا
يدل على صحة النظر وفساد التقليد. ثم قال : (فَإِنَّما حِسابُهُ) أي : جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال : (إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) كأنّه قال : إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه
إلّا الله .
قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها. قرأ الجمهور بكسر
همزة (إنّه) على الاستئناف المفيد للعلة . وقرأ الحسن وقتادة «أنّه» بالفتح ، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر «حسابه» قال : ومعناه
حسابه عدم الفلاح ، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو ، فوضع الكافرون في موضع الضمير ،
لأن «من يدع» في موضع الجمع ، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا
يفلحون . انتهى.
ويجوز أن يكون ذلك
على حذف حرف العلة أي : لأنّه لا يفلح . وقرأ الحسن : (لا يُفْلِحُ) مضارع (فلح) بمعنى (أفلح) (فعل) و (أفعل) فيه بمعنى ،
والله أعلم.
فصل
المعنى لا يسعد من
جحد وكذّب ، وأمر الرسول بأن يقول : (رَبِّ اغْفِرْ
وَارْحَمْ) ويثني عليه بأن (خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ، وقد تقدّم بيان كونه (أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ).
فإن قيل : كيف
اتصال هذه الخاتمة بما قبلها؟
فالجواب : أنّه
سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع
إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته ، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات .
روي أنّ أوّل سورة
(قد أفلح) وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها ، واتعظ بأربع من
آخرها فقد نجا وأفلح . وروى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب قال : قال رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرّوح
والرّيحان ، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» .
__________________
سورة النور
مدنية وهي أربع وستون آية ، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة ، وخمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها
وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢)
(قوله تعالى) : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها) الآية.
قرأ العامة «سورة»
بالرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون
مبتدأ ، والجملة بعدها صفة لها ، وذلك هو المسوّغ للابتداء بالنكرة ، وفي الخبر
وجهان :
أحدهما : أنه
الجملة من قوله : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي).
(وإلى هذا نحا ابن
عطية فإنه قال : ويجوز أن تكون مبتدأ ، والخبر (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي)) وما بعد ذلك. والمعنى : السورة المنزّلة والمفروضة كذا
وكذا ، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم.
والثاني : أن
الخبر محذوف ، أي : فيما يتلى عليكم سورة ، أو فيما أنزلنا سورة .
والوجه الثاني من
الوجهين الأولين : أن تكون خبرا لمبتدأ مضمر ، أي : هذه (سورة ) .
__________________
وقال أبو البقاء :
(سورة) بالرفع على تقدير : هذه سورة ، أو فيما يتلى عليك سورة ، فلا تكون (سورة) مبتدأ ، لأنها نكرة .
وهذه عبارة مشكلة
على ظاهرها ، كيف يقول : «لا تكون مبتدأ» مع تقديره : فيما يتلى عليك سورة؟ وكيف
يعلّل المنع بأنها نكرة مع تقديره لخبرها جارا مقدما عليها ، وهو مسوغ للابتداء
بالنكرة؟ وقرأ عمر بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة
وطلحة بن مصرف «سورة» بالنصب ، وفيها أوجه :
أحدها : أنها
منصوبة بفعل مقدّر غير مفسّر بما بعده ، تقديره : «اتل سورة» أو «اقرأ سورة».
والثاني : أنها
منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده ، والمسألة من الاشتغال ، تقديره : «أنزلنا سورة (أنزلناها
») .
والفرق بين
الوجهين : أنّ الجملة بعد «سورة» في محل نصب على الأول ، ولا محل لها على الثاني .
الثالث : أنها
منصوبة على الإغراء ، أي : دونك سورة ، قاله الزمخشري . ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء . واستشكل أبو حيان أيضا على وجه الاشتغال جواز الابتداء
بالنكرة من غير مسوغ ، ومعنى ذلك أنه ما من موضع يجوز (فيه) النصب على الاشتغال إلّا ويجوز أن يرفع على الابتداء ،
وهنا لو رفعت «سورة» بالابتداء لم يجز ، إذ لا مسوغ ، فلا يقال : «رجلا ضربته» لامتناع «رجل ضربته» ، ثم أجاب بأنه إن اعتقد حذف
وصف جاز ، أي : «سورة معظّمة أو موضّحة أنزلناها» فيجوز ذلك .
الرابع : أنها
منصوبة على الحال من «ها» في «أنزلناها» ، والحال من المكنيّ يجوز أن يتقدم عليه ،
قاله الفراء .
__________________
وعلى هذا فالضمير
في «أنزلناها» ليس عائدا على «سورة» بل على الأحكام ، كأنه قيل : أنزلنا الأحكام
سورة من سور القرآن ، فهذه الأحكام ثابتة بالقرآن بخلاف غيرها فإنه قد ثبت
بالسّنّة ، وتقدم معنى الإنزال.
قوله : (وَفَرَضْناها) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد . والباقون بالتخفيف .
فالتشديد إمّا
للمبالغة في الإيجاب وتوكيد ، وإمّا لتكثير المفروض عليهم ، وإمّا لتكثير الشيء
المفروض. والتخفيف بمعنى : أوجبناها وجعلناها مقطوعا بها. وقيل : ألزمناكم العمل
بها وقيل : قدرنا ما فيها من الحدود.
والفرض : التقدير
، قال الله (تعالى) : (فَنِصْفُ ما
فَرَضْتُمْ) أي : قدرتم ، (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ). ثم إنّ السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود ،
وتحصيل الحاصل محال ، فوجب أن يكون المراد : فرضنا ما بيّن فيها من الأحكام ، ثم قال : (وَأَنْزَلْنا فِيها
آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات. (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) تتعظون ، وأراد ب «الآيات» ما ذكر في السورة من الأحكام
والحدود ودلائل التوحيد.
وقرىء «تذكّرون»
بتشديد الذال وتخفيفها . وتقدم معنى «لعلّ» في سورة البقرة .
قال القاضي : «لعلّ»
بمعنى «كي» .
فإن قيل : الإنزال
يكون من صعود إلى نزول ، وهذا يدل على أنه تعالى في جهة؟
فالجواب : أن
جبريل كان يحفظها من اللوح ثم ينزلها على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقيل : «أنزلناها» توسعا.
وقيل : إن الله
تعالى أنزلها من أم الكتاب إلى السماء الدنيا دفعة واحدة ، ثم أنزلها بعد ذلك على
لسان جبريل ـ عليهالسلام ـ.
__________________
وقيل : معنى «أنزلناها»
: أعطيناها الرسول ، كما يقول العبد إذا كلم سيّده : رفعت إليه حاجتي ، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال
، قال الله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) .
قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي) في رفعهما وجهان :
مذهب سيبويه : أنه
مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : فيما يتلى عليكم حكم الزّانية ، ثم بيّن ذلك بقوله : «فاجلدوا»
... إلى آخره .
والثاني وهو مذهب
الأخفش وغيره : أنه مبتدأ ، والخبر جملة الأمر ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط ، ولكون الألف واللام بمعنى الذي ، تقديره : من زنا فاجلده ، أو التي زنت والذي زنا فاجلدوهما ، وتقدم الكلام على هذه المسألة في قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ
فَآذُوهُما) وعند قوله : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ) فأغنى عن إعادته .
وقرأ عيسى الثقفي
ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وأبو شيبة ورويس
__________________
بالنصب على الاشتغال .
قال الزمخشري : «وهو
أحسن من (سورة أنزلناها) لأجل الأمر» .
وقرىء : «والزّان»
بلا ياء .
ومعنى «فاجلدوا» :
فاضربوا (كُلَّ واحِدٍ
مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، يقال : جلده : إذا ضرب جلده ، كما يقال : رأسه وبطنه :
إذا ضرب رأسه وبطنه ، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح ، ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم.
قوله (تعالى) : (وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ)
: رحمة ورقة.
قرأ العامة هنا
وفي الحديد بسكون همزة «رأفة». وابن كثير بفتحها .
وقرأ ابن جريج
وتروى أيضا عن ابن كثير وعاصم «رآفة» بألف بعد الهمزة بزنة «سحابة». وكلها مصادر ل «رأف به يرؤف» ، وتقدم معناه
، وأشهر المصادر الأول ، ونقل أبو البقاء فيها لغة رابعة ، وهي إبدال الهمزة ألفا ، وهذا ظاهر.
وقرأ العامة «تأخذكم»
بتاء التأنيث مراعاة للفظ.
وعليّ بن أبي طالب
والسّلميّ ومجاهد بالياء من تحت ، لأنّ التأنيث مجازيّ ، وللفصل بالمفعول والجار .
__________________
و «بهما» يتعلق ب «تأخذكم»
، أو بمحذوف على سبيل البيان ، ولا يتعلق ب «رأفة» لأن المصدر لا يتقدم عليه معمولا ، و «دين الله» متعلّق بالفعل قبله أيضا .
وهذه الجملة دالة على جواب الشرط بعدها ، أو هي الجواب عند بعضهم .
فصل
الزنا حرام ، وهو
من الكبائر ، لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله : (وَلا يَزْنُونَ) ، وقال (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى) ، وقال عليهالسلام : «يا معشر الناس اتقوا الزّنا فإنّ فيه ست خصال : ثلاث في
الدنيا وثلاث في الآخرة ، أما التي في الدنيا : فيذهب البهاء ، ويورث الفقر ،
وينقص العمر. وأما اللاتي في الآخرة : فسخط الله ، وسوء الحساب ، وعذاب (النار »).
قال بعض العلماء
في حدّ الزنا : إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم قطعا .
واختلف العلماء في
اللواط ، هل يسمى زنا أم لا؟
فقيل : نعم لقوله
ـ عليهالسلام ـ : «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» ، ولدخوله في حدّ الزنا المتقدم. وقيل : لا يسمى زنا ،
لأنه في العرف لا يسمى زانيا ، ولو حلف لا يزني فلاط لم يحنث ، ولأن الصحابة
اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة. وأما الحديث فمحمول على الإثم (بدليل
قوله ـ عليهالسلام ـ) : «إذا أتت
__________________
المرأة المرأة
فهما زانيتان» ، وقوله عليهالسلام : «اليدان تزنيان ، والعينان تزنيان» . وأما دخوله في مسمى الفرج لما فيه من الانفراج فبعيد ،
لأن العين والفم منفرجان ولا يسميان فرجا ، وسمي النجم نجما لظهوره ، وما سموا كل
ظاهر نجما ، وسموا الجنين جنينا لاستتاره ، وما سمّوا كل مستتر جنينا .
واختلفوا في حدّ اللوطي :
فقيل : حدّ الزنا
، إن كان محصنا رجم ، وإن كان غير محصن جلد وغرب .
وقيل : يقتل
الفاعل والمفعول مطلقا .
واختلفوا في كيفية
قتله :
فقيل : تضرب رقبته
كالمرتد لقوله عليهالسلام : «من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه» .
وقيل : يرجم
بالحجارة .
وقيل : يهدم عليه
جدار .
وقيل : يرمى من
شاهق ، لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك .
وقيل : يعزّر
الفاعل ، وأما المفعول فعليه القتل إن قلنا يقتل الفاعل ، وإن قلنا على الفاعل حدّ الزنا فعلى
المفعول جلد مائة وتغريب عام محصنا كان أو غير محصن.
وقيل : إن كانت
امرأة محصنة فعليها الرجم .
فصل
وأجمعت الأمة على
حرمة إتيان البهيمة ، واختلفوا في حدّه :
__________________
فقيل : حدّ الزنا.
وقيل : يقتل مطلقا
لقوله عليهالسلام : «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» .
وقيل : التعزير ، وهو الصحيح .
وأما السحق وإتيان
الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه إلا التعزير .
فصل
تقدم الكلام في
حدّ الزنا في سورة النساء ، وأما إثباته فلا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة. أما الإقرار
، فقال الشافعي : يثبت بالإقرار مرة واحدة لقصة العسيف .
وقال أبو حنيفة
وأحمد : لا بد من الإقرار أربع مرات لقصة ما عز ، ولقوله عليهالسلام : «إنّك شهدت على نفسك أربع مرات» ولو كانت المرة الواحدة
مثل الأربع في إيجاب الحدّ لكان هذا الكلام لغوا ، ولقول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ
لما عز بعد إقراره الثالثة : لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
__________________
وقال بريدة
الأسلمي : كنا معشر أصحاب محمد نقول : لو لم يقر ما عز (أربع مرات)
ما رجمه رسول الله.
وأيضا فكما لا
يقبل في الشهادة على الزنا إلّا أربع شهادات ، فكذا في الإقرار.
وكما أن الزنا لا
ينتفي إلّا بأربع شهادات في اللعان ، فلا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات.
وأما البينة
فأجمعوا على أنه لا بدّ من أربع شهادات لقوله تعالى : (فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ)
.
فصل
قال بعض العلماء : لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم
نفسه ، كما إذا ادعى رجل على آخر حقا وأقام عليه بينة ، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه ، أو
ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حيّا بعد ذلك ، أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها ، لا يجوز أن يقضي به ولو أقام عليه شهودا
وهل يجوز له أن يقضي بعلم نفسه مثل إن ادعى عليه ألفا وقد رآه القاضي أقرضه ،
أو سمع المدعى عليه يقرّ به؟
فقال أبو يوسف
ومحمد والمزني : يجوز له أن يقضي بعلمه ، لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود ،
وهي إنما تفيد الظن ، فلأن يجوز (له) بما هو منه على علم أولى.
قال الشافعي : «أقضي
بعلمي ، وهو أقوى من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، وهو أقوى من شاهد ويمين ، (وبشاهد
ويمين) وهو أقوى من (النكول ) وردّ اليمين» وقيل : لا يحكم بعلمه لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ، ولم يوجد هذا في
الأموال فأما العقوبات ، فإن كانت العقوبة من حقوق العباد كالقصاص وحدّ القذف فهو
مثل المال ، إن قلنا لا يقضي فهاهنا أولى ، وإلا فقولان.
والفرق بينهما أن
حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة ، ولا فرق
__________________
على القولين أن
يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته (وزمان ولايته) أو في غيره . وقال أبو حنيفة: إن حصل له العلم في بلد ولايته (وفي زمان
ولايته) له أن يقضي بعلمه وإلا فلا .
فصل
لا يقيم الحد إلا
الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه لقوله عليهالسلام : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» . وقيل : بل يرفعه إلى الإمام.
ويجلد المحصن مع
ثيابه ولا يجرد ، ولكن ينبغي أن تكون بحيث يصل ألم الضرب إليه ، وأما المرأة فلا
يجوز تجريدها ، بل تربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ، ويلي ذلك منها امرأة . ويضرب بسوط لا جديد يجرح ولا خلق لا يؤلم ، ولا يمد ، ولا
يربط ، بل يترك حتى يتقي بيديه ويضرب الرجل قائما والمرأة جالسة ، وتفرق السياط على
أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ويتقى المهالك كالوجه والبطن والفرج.
قال الشافعي :
يضرب على الرأس.
وقال أبو حنيفة :
لا يضرب على الرأس .
فصل
ولا يقام الحدّ
على الحامل حتى تضع ولدها ، ويستغنى عنها لحديث الجهنية ، وأما المريض فإن كان يرجى زوال مرضه أخّر حتى يبرأ (إن
كان الحد جلدا ، وإن كان رجما أقيم عليه الحدّ ، لأن المقصود قتله) ، وإن كان مرضه لا يرجى زواله لم يضرب بالسياط ، بل يضرب
بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه لقصة أيوب (ـ عليه
__________________
السلام ـ) وأدلة جميع ما تقدم مذكورة في كتب الفقه.
فصل
لو فرق السياط
تفريقا لا يحصل به التنكيل مثل أن ضرب كل يوم سوطا أو سوطين لم يحسب ، وإن ضرب كل يوم عشرين وأكثر حسب .
فصل
ويقام الحد في وقت
اعتدال الهواء ، فإن كان في وقت شدة حرّ أو برد نظرنا : إن كان الحدّ رجما أقيم
عليه كما يقام في المرض ، لأن المقصود قتله.
وقيل : إن كان
الرجم ثبت بإقراره أخّر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض (إن كان يرجى زوال ، لأنه
ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم) وقد أثر الرجم في جسمه فيعين شدة الحر والبرد والمرض على
إهلاكه.
وإن ثبت بالبينة
لا يؤخر ، لأنه لا يسقط.
وإن كان الحد جلدا
لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض .
فصل
معنى قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ).
قال مجاهد وعكرمة
وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي : لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا
تقيموها .
وقيل : ولا تأخذكم
رأفة فتخففوا ، ولكن أوجعوهما ضربا. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
قال الزهري :
يجتهد في حدّ الزنا والغربة ، ويخفف في حدّ الشرب .
وقال قتادة : يخفف
في الشرب والغربة ، ويجتهد في الزنا .
ومعنى (فِي دِينِ اللهِ) : أي : في حكم الله ، روي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد : «اضرب
ظهرها ورجليها» فقال له ابنه : (وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) فقال : «يا بنيّ إن الله لم يأمرني بقتلها ، وقد ضربت
فأوجعت» .
__________________
فصل
إذا ثبت الزنا
بإقراره فمتى رجع ترك ، وقع به بعض الحد أو لم يقع (به ) ، لأنّ ماعزا لما مسته الحجارة هرب ، فقال عليهالسلام : «هلّا تركتموه» .
وقيل : لا يقبل
رجوعه .
ويحفر للمرأة إلى
صدرها ، ولا يحفر للرجل ، وإذا مات في الحدّ غسل وكفّن وصلّي عليه ودفن في مقابر
المسلمين .
قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معناه : أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله.
قوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي : وليحضر «عذابهما» : حدهما إذا أقيم عليهما «طائفة»
نفر من المؤمنين. قال النخعي ومجاهد : أقله رجل واحد ، لقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا). وقال عطاء وعكرمة : اثنان ، لقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ) وكل ثلاثة فرقة ، والخارج عن الثلاثة واحد أو اثنان ، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر. وقال الزهري وقتادة
: ثلاثة فصاعدا ، لأن الطائفة هي الفرقة التي تكون حافة حول الشيء ، وهذه الصورة
أقل ما لا بد في حصولها الثلاثة.
وقال ابن عباس : «إنّها
أربعة ، عدد شهود الزنا» ، وهو قول مالك وابن زيد.
وقال الحسن البصري
: عشرة ، لأنها العدد الكامل .
واعلم أن قوله : «وليشهد»
أمر ، وظاهره للوجوب ، لكن الفقهاء قالوا : يستحب حضور الجمع ، والمقصود
منه : إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة.
وقيل : أراد
بالطائفة : الشهود يجب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة .
وقال الشافعي
ومالك : يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر ، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور.
وقال أبو حنيفة : «إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي ، ثم الإمام ،
ثم الناس ، وإن ثبت بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس».
__________________
واحتج الشافعي بأن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رجم ماعزا والغامدية ولم يحضر رجمهما وأما تسميته عذابا فإنه يدل على أنه عقوبة ، ويجوز أن يسمى
عذابا لأنه يمنع المعاودة ، كما يسمى نكالا لذلك .
قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٣)
قرأ أبو البرهسيم «وحرّم» مبنيا
للفاعل مشددا . وزيد بن علي «حرم» بزنة كرم . واختلفوا في معنى الآية وحكمها :
فقال مجاهد وعطاء
بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس : «قدم المهاجرون
المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ،
وهنّ يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم
، فاستأذنوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فنزلت هذه الآية» وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك
البغايا ، لأنهنّ كنّ مشركات .
وقال عكرمة : نزلت
في نساء بمكة والمدينة ، منهن تسع لهن رايات البيطار يعرفن بها منزلهن : أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب
المخزومي ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ،
فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في نكاح «أمّ مهزول» واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل
الله هذه الآية .
فإن قيل : قوله
تعالى : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ظاهره خبر وليس الأمر كذلك ، لأن الزاني قد ينكح المؤمنة
العفيفة ، والزانية
__________________
قد ينكحها المؤمن
العفيف ، وأيضا فقوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ليس كذلك ، فإن المؤمن يحل له التزويج بالمرأة الزانية.
فالجواب من وجوه :
أحدها ـ وهو
أحسنها ـ : ما قاله القفال : إن اللفظ وإن كان عاما لكن المراد منه الأعم الأغلب ،
لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة ، وإنما
يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة ، والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح ، بل
تنفر عنه ، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين ، فهذا على الأعم
الأغلب ، كما يقال «لا يفعل الخير إلّا الرجل التقيّ» وقد يفعل الخير من ليس بتقي
، فكذا هاهنا.
وأما قوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فالجواب من وجهين :
الأول : أن نكاح
المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها فحرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق
، وحضور موقع التهمة ، والتسبب لسوء المقالة فيه ، والغيبة ، ومجالسة الخطائين فيها التعرض لاقتراف الآثام ، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار.
وثانيها : أن صرف الرغبة
بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين ، لأن قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) معناه : أنّ الزاني لا يرغب إلا في زانية ، فهذا محرم على
المؤمنين ، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزويج بالزانية ، فهذا هو المعتمد
في تفسير الآية.
الوجه الثاني : أن
الألف واللام في قوله : «الزّاني» وفي قوله : «المؤمنين» وإن كان للعموم ظاهرا
لكنه مخصوص بالأقوام الذين نزلت فيهم كما قدمناه آنفا.
الوجه الثالث : أن
قوله : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) وإن كان خبرا في الظاهر لكن المراد منه النهي ، والمعنى :
كل من كان زانيا فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية ، «وحرّم ذلك على المؤمنين» هكذا كان
الحكم في ابتداء الإسلام.
وعلى هذا الوجه
ذكروا قولين :
أحدهما : أن ذلك
الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف
وبالعكس ، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود.
ثم في هؤلاء من
يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا
يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها.
ومنهم من يفصل لأن
في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة.
__________________
والقول الثاني :
أن هذا الحكم صار منسوخا. واختلفوا في ناسخه : فقال الجبائي : إن ناسخه هو الإجماع
وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ، (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ).
قال المحققون :
هذان الوجهان ضعيفان ، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا
ينسخ ولا ينسخ به ، وأيضا فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة ، والإجماع في
هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي ، فكيف يصح؟
وأما قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ) فلا يصلح أن يكون ناسخا ، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا
يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما .
ولقائل أن يقول :
لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين ، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن
الأخ ، وأن للزنا تأثيرا في الفرقة ما ليس لغيره ، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟
ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ، ولأن الزنا يورث العار ، ويؤثر في الفراش
، ففارق غيره.
واحتج من ادعى
النسخ بأن رجلا سأل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : «يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس» ، قال
: «طلّقها». قال : «إني أحبها ، وهي جميلة» ، قال : «استمتع بها». وفي رواية : «فأمسكها
إذن» .
وروي أن عمر بن
الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام. وبأن ابن عباس
سئل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس ، وشبهه بمن سرق ثمر
شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه سئل عن ذلك فقال : «أوّله سفاح وآخره نكاح ، والحرام
لا يحرّم الحلال».
الوجه الرابع : أن
يحمل النكاح على الوطء ، والمعنى : أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة
، وكذا الزانية «وحرّم ذلك على المؤمنين» أي : وحرم الزنا على المؤمنين ، وهذا
تأويل أبي مسلم ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، ورواية الوالبي عن ابن عباس .
__________________
قال الزجاج : «وهذا
التأويل فاسد من وجهين :
الأول : أنه ما
ورد النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج ، ولم يرد البتة بمعنى الوطء.
الثاني : أن ذلك
يخرج الكلام عن الفائدة ، لأنا لو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية
فالإشكال عائد ، لأنا نرى الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ، ولو قلنا :
المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا ، فهذا كلام لا فائدة فيه»
.
فإن قيل : أي فرق
بين قوله : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) وبين قوله : «الزّانية لا ينكحها إلّا زان»؟
فالجواب أن الكلام
الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية ، بخلاف الزانية فقد ترغب في
نكاح غير الزاني ، فلا جرم بيّن ذلك بالكلام الثاني .
فإن قيل : لم قدم
الزانية على الزاني في أول السورة وهاهنا بالعكس؟
فالجواب : سبقت
تلك الآية على عقوبتها لخيانتها ، فالمرأة هي المادة في الزنا ، وأما هاهنا فمسوقة
لذكر النكاح ، والرجال أصل فيه ، لأنه هو الراغب الطالب .
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ..) الآية هي كقوله : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) فيعود فيه ما تقدم بحاله ، وقوله : «المحصنات» فيه وجهان :
أحدهما : أن
المراد به النساء فقط ، وإنما خصّهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع.
والثاني : أن
المراد بهن النساء والرجال ، وعلى هذا فيقال : كيف غلّب المؤنث على المذكر؟
والجواب أنه صفة
لشيء محذوف يعمّ الرجال والنساء ، أي : الأنفس المحصنات ، وهو بعيد أو تقول : ثمّ معطوف محذوف لفهم المعنى ، وللإجماع على أن
حكمهم حكمهنّ أي : والمحصنين.
قوله : (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) العامة على إضافة اسم العدد للمعدود ، وقرأ أبو زرعة
__________________
وعبد الله بن مسلم
بالتنوين في العدد ، واستفصح الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن
جني ففضّلها على قراءة العامة ، قال : لأنّ المعدود متى كان صفة فالأجود الإتباع
دون الإضافة ، تقول : «عندي ثلاثة ضاربون» ، ويضعف «ثلاثة ضاربين» وهذا غلط ، لأن الصفة التي جرت مجرى الأسماء تعطى حكمها ،
فيضاف إليها العدد ، و «شهداء» من ذلك ، فإنه كثر حذف موصوفه ، قال تعالى : (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ). و (اسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ) ، وتقول : عندي ثلاثة أعبد ، وكل ذلك صفة في الأصل.
ونقل ابن عطية عن
سيبويه أنه لا يجيز تنوين العدد إلّا في شعر .
وليس كما نقله عنه
، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو «ثلاثة رجال» وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم.
وفي «شهداء» على
هذه القراءة ثلاثة أوجه :
__________________
أحدها : أنه تمييز
، وهذا فاسد ، لأنّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمميّزه ليس إلا ، وغير ذلك
ضرورة.
الثاني : أنه حال
، وهو ضعيف أيضا لمجيئها من النكرة من غير مخصّص.
الثالث : أنها مجرورة نعتا ل «أربعة» ، ولم تنصرف لألف التأنيث.
فصل
ظاهر الآية لا يدل
على الشيء الذي رموا به المحصنات ، وذكر الرمي لا يدل على الزنا ، إذ قد يرميها
بسرقة أو شرب خمر ، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين.
واتفق العلماء على
أن المراد الرمي بالزنا ، وفي دلالة الآية عليه وجوه :
الأول : تقدم ذكر
الزنا.
الثاني : أنه
تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم العفاف.
الثالث : قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَداءَ) يعني : على صحة ما رموا به ، وكون الشهود أربعة من شروط
الزنا.
الرابع : الإجماع
على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا ، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا.
فصل
شروط الإحصان خمسة
:
الإسلام ، والعقل
، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنا ، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب
وحسنت حالته منذ عمره ، فقذفه قاذف لا حدّ عليه ، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا
، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ، لأن الحد وجب
للفرية ، وقد ثبت صدقه.
فصل
وألفاظ القذف :
صريح ، وكناية ، وتعريض.
فالصريح : أن يقول
: يا زانية ، أو زنيت ، أو زنا قبلك أو دبرك ، فإن قال : زنا
__________________
يدك ، فقيل :
كناية ، لأن حقيقة الزنا من الفرج ، والصحيح أنه صريح ، لأن الفعل يصدر بكل البدن
، والفرج آلة.
والكناية : أن
يقول : يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، يا مؤاجرة ، يا ابنة الحرام ، أو لا ترد
يد لامس ، فلا يكون قذفا إلا بالنية ، وكذا لو قال لعربي : يا نبطي ، أو بالعكس ،
فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له ، وإلا فلا.
فإن قال : عنيت
نبطي الدار أو اللسان ، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه.
والتعريض ليس بقذف وإن نواه ، كقوله : يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت وليست أمي بزانية ، لأن الأصل براءة الذمة ، فلا يجب بالشك ، والحد يدرأ
بالشبهات.
وقال مالك : يجب
فيه الحد.
وقال أحمد وإسحاق
: هو قذف في حال الغضب دون الرضا .
فصل
إذا قذف شخصا
واحدا مرارا ، فإن أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد ، (فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني.
وإن قذفه بزناءين
مختلفين كقوله : زنيت بزيد ، ثم قال : زنيت بعمرو ، فقيل : يتعدد اعتبارا باللفظ ،
ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون.
والصحيح أنه
يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد ، فتداخل كحدود الزنا.
ولو قذف زوجته
مرارا فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا.
وإن قذف جماعة
بكلمة واحدة ، فقيل : حدّ واحد) ، لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، فقال عليهالسلام : «البينة أو حدّ في ظهرك» ، فلم
__________________
يوجب على هلال إلا
حدا واحدا مع أنه قذف زوجته بشريك.
وقيل : لكل واحد
حدّ.
وإن كان بكلمات
فلكل واحد حدّ .
فصل
إذا قذف الصبي أو
المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، لقول عليهالسلام : «رفع القلم عن ثلاث» ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز .
والأخرس إن فهمت
إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد ، ولذلك يصح لعانه بالإشارة
والكتابة .
وأما العبد إذا
قذف الحر ، فقيل : يلزمه نصف الحد . وقيل : الحد كله .
وأما الكافر إذا
قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية .
وإن كان المقذوف غير محصن لم يجب الحد ، بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفا بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير .
قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَداءَ) أي : يشهدون على زناهن (فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وهو الأظهر. وجوّز أبو البقاء فيها أن تكون حالا .
__________________
وقوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اعلم أن في هذا الاستثناء خلافا ، هل يعود لما تقدّمه من
الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟
وتكلم عليها من
النحاة ابن مالك والمهاباذيّ ، فاختار ابن مالك عوده إلى الجمل المتقدمة والمهاباذي إلى الأخيرة .
وقال الزمخشري :
رد شهادة القاذف معلّق عند أبي حنيفة ـ رحمهالله ـ باستيفاء الحدّ ، فإذا شهد قبل الحدّ أو قبل تمام
استيفائه قبلت شهادته ، فإذا استوفي لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار
الأتقياء.
وعند الشافعي ـ رحمهالله ـ يتعلّق ردّ شهادته بنفس القذف ، فإذا تاب عن القذف بأن
رجع عنه عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما متمسّك بالآية ، فأبو حنيفة ـ رحمهالله ـ جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد وردّ الشهادة عقيب
الجلد على التأبيد ، وكانوا مردودي الشهادة عنده في أبدهم ، وهو مدّة حياتهم ،
وجعل قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية
حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) استثناء من «الفاسقين» ، ويدلّ عليه قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). والشافعيّ ـ رحمهالله ـ جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا
__________________
غير أنه صرف الأبد
إلى مدة كونه قاذفا ، وهي تنتهي بالتوبة (والرجوع) عن القذف ، وجعل الاستثناء متعلّقا بالجملة الثانية . انتهى.
واعلم أن الإعراب
متوقف على ذكر الحكم ، ومحلّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب
على أصل الاستثناء .
والثاني : أنه
مجرور بدلا من الضمير في «لهم» .
وقد أوضح الزمخشري
ذلك بقوله : وحق المستثنى عنده ـ أي : الشافعي ـ أن يكون مجرورا بدلا من «هم» في «لهم» ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوبا ، لأنه عن
موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط ،
كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم ، وردّوا شهادتهم ، وفسّقوهم ، أي : فاجمعوا
لهم الجلد والردّ والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم
، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسّقين .
قال أبو حيان :
وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده
كلام العرب ، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها .
والوجه الثالث :
أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله : (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ).
واعترض بخلوّها من
رابط.
وأجيب بأنه محذوف
، أي : غفور لهم .
واختلفوا أيضا في
هذا الاستثناء ، هل هو متّصل أم منقطع؟ والثاني ضعيف جدا .
__________________
فصل
الإقرار بالزنا
يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا ، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل : لا يثبت
إلا بأربعة كفعل الزنا .
فصل
إذا شهدوا على فعل
الزنا يجب أن يذكروا الزاني والمزني به ، لأنه قد يراه على جارية
ابنه فيظن أنه زنا.
ويجب أن يشهدوا
أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة ، فلو شهدوا مطلقا أنه زنا لم
يثبت ، بخلاف ما لو قذف إنسانا وقال : «زنيت» يجب الحد ولا يستفسر ، ولو أقر على
نفسه بالزنا ، فقيل : يجب أن يستفسر كالشهود ، وقيل : لا يجب كما في القذف .
فصل
لا فرق بين أن
يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين .
وقال أبو حنيفة :
إذا شهدوا متفرقين لا يثبت ، وعليهم حد القذف.
وحجة الأول : أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم
مجتمعين ومتفرقين. وأيضا فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا
جاءوا متفرقين كسائر الأحكام ، بل هذا أولى ، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة
وعن تلقن بعضهم من بعض ، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ،
وأيضا فإنه لا يشترط أن يشهدوا معا في حالة واحدة ، بل إذا اجتمعوا عند القاضي
قدّم واحدا بعد واحد ويشهد ، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد بعد واحد.
واحتج أبو حنيفة
بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد
للآية ، أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن القذف بلفظ الشهادة ، وذلك لا عبرة به ، لأنه
يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأسا ، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل
بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده.
وأيضا فإن المغيرة
بن شعبة شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب : أبو
__________________
بكرة ، وشبل بن معبد ، ونافع ، ونفيع ، قال زياد : وقال رابعهم : رأيت استا تنبو ، ونفسا يعلو ، ورجلاها
على عاتقه كأذني حمار ، ولا أدري ما وراء ذلك ، فجلد عمر الثلاثة ، ولم يسأل : هل
معهم شاهد آخر؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه .
فصل
لو شهد على الزنا
أقل من أربعة لم يثبت ، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فقيل : يجب عليهم حد القذف
لما تقدم آنفا .
وقيل : لا يجب
لأنهم جاءوا مجيء الشهود ، ولأنا لو حددنا لانسد باب الشهادة على الزنا ، لأن كل واحد لا
يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد .
فصل
لو أتى القاذف
بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا :
قال أبو حنيفة :
يسقط الحد عن القاذف ، ولا يجب الحد على الشهود.
وقال الشافعي في
أحد قوليه : يحدّون.
واحتج أبو حنيفة
بأنه أتى بأربعة شهداء ، فلا يلزمه الحد ، والفاسق من أهل الشهادة ، فقد وجدت
شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة.
واحتج الشافعي
بأنهم ليسوا من أهل الشهادة .
قوله : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) وهذا خطاب للإمام ، أو للمالك ، أو لرجل
__________________
صالح إذا فقد
الإمام . ويخص من هذا العموم صور :
الأولى : الوالد
إذا قذف ولده (أو ولد ولده) وإن سفل لا يجب عليه الحد ، كما لا يجب عليه القصاص بقتله.
الثانية : القاذف
إذا كان عبدا فالواجب جلده أربعين ، وكذا المكاتب ، وأم الولد ، ومن بعضه حر ،
فقيل : كالرقيق. وقيل : بالحساب.
الثالثة : من قذف
رقيقه ، أو من زنت قديما ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها
فصل
قالوا : أشد الضرب
في الحدود ضرب حد الزنا ، ثم ضرب حدّ الخمر ، ثم ضرب القاذف ، لأن سبب عقوبته
محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض .
فصل
قال مالك والشافعي
: حدّ القذف يورث ، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه.
وقيل : لا يورث
إلا أن يطالب المقذوف قبل موته ، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد. وعند أبي
حنيفة : الحد لا يورث ، ويسقط بالموت.
حجة الشافعي : أنه
حق آدمي يسقط بعفوه ، ولا يستوفى إلا بطلبه ، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر ،
وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليهالسلام : «من مات عن حقّ فلورثته» .
وحجة أبي حنيفة :
لو كان موروثا لورثة الزوج والزوجة ، ولأنه حق ليس فيه معنى المال
فلا يورث كالوكالة والمضاربة.
وأجيب بأنا لا
نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان ، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت
، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب ، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة .
فصل
إذا قذف إنسانا
بين يدي الحاكم ، أو قذف امرأته برجل بعينه ، والرجل غائب ،
__________________
فعلى الحاكم أن
يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلانا قذفك ، وثبت لك حدّ القذف عليه ، كما لو ثبت له
مال على آخر وهو لا يعلم ، يجب عليه إعلامه ، ولهذا بعث النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنيسا ليخبرها أن فلانا قذفها بابنه ، ولم يبعثه ليتفحص
عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك.
قوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً
أَبَداً).
قال أكثر الصحابة
والتابعين : إذا تاب قبلت شهادته وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة
وأصحابه والثوري والحسن بن صالح : لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب . وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه ، وهاهنا مبنية على
أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة ؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي
حكم هذا الاستثناء : فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب
وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله
تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا).
وقالوا :
الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم
الفسق ، يروى ذلك عن عمر وابن عباس ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس
وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وبه قال مالك
والشافعي. وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب ، وقالوا :
الاستثناء يرجع إلى قوله: (وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي.
وقالوا : بنفس
القذف ترد شهادته ما لم يحد.
قال الشافعي : هو
قبل أن يحد شر منه حين يحد ، لأن الحدود كفارات ، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته
وتقبلونها في شر حالته.
وذهب الشعبي إلى
أن حد القذف يسقط بالتوبة.
__________________
وقالوا :
الاستثناء يرجع إلى الكل.
وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط
كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة.
فإن قيل : إذا
قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله : «أبدا» ؟
قيل : معناه : لا
تقبل شهادته أبدا ما دام مصرّا على قذفه ، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله ،
كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا ، يراد : ما دام كافرا .
فصل
اختلفوا في كيفية
التوبة بعد القذف :
فقيل : التوبة منه
إكذابه نفسه بأن يقول : كذبت فلا أعود إلى مثله.
وقيل : لا يقول
كذبت ، لأنه ربما يكون صادقا ، فيكون قوله : «كذبت» كذبا ، والكذب معصية ، وإتيان
المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، ندمت على ما قلت
ورجعت عنه ولا أعود إليه . ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى
تقبل شهادته ، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها
الأحوال والطباع كأجل العنّين ، وقد علق الشرع أحكاما بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما
، وهذا معنى قوله : «وأصلحوا» ، ثم قال : (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يقبل التوبة.
لما ذكر أحكام قذف
الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ
أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ
لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧)
وَيَدْرَؤُا
عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ
غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(١٠)
قال ابن عباس : لما نزل قوله : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
__________________
شهداء» قال عاصم
بن عدي الأنصاري : إن دخل رجل منا بيته فرأى رجلا على بطن امرأته فإن جاء
بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال :
وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت عن غيظ ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا
ابن عم يقال له: عويمر ، وله امرأة يقال لها : خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصما
فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : يا رسول الله ، ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل
بيتي ، فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «وما ذاك»؟ فقال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك
بن سحماء على بطن امرأته خولة ، فدعا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لهم جميعا ، فقال لعويمر : «اتق الله في زوجتك وابنة عمك
، ولا تقذفها» فقال : يا رسول الله ، تالله لقد رأيت شريكا على بطنها ، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر
، وإنها حبلى من غيري. فقال لها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «اتّقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت» فقالت : يا رسول
الله ، إن عويمر رجل غيور ، وإنه رأى شريكا يطيل النظر ويتحدث ، فحملته الغيرة على
ما قال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسول الله (صلىاللهعليهوسلم) بأن يؤذّن : الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم
وقل : أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية : أشهد
أني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة : أشهد بالله
أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الرابعة قل أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني
لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر (يعني : نفسه) إن كان من
الكاذبين. ثم قال : اقعد ، وقال لخولة : قومي ، فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا
بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين ، وقالت في الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكا على
بطني وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الثالثة : أشهد بالله ما أنا حبلى منه وإنه لمن
الكاذبين ، وقالت في الرابعة : أشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه من
الكاذبين ، وقالت في الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين
في قوله ، ففرق النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بينهما .
وفي رواية عكرمة
عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ
__________________
بشريك بن سحماء ، فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «البينة وإلا حدّ في ظهرك». فقال : يا رسول الله ، إذا
رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «البينة وإلّا حدّ في ظهرك». فقال هلال : والذي
بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد ، فنزيل جبريل ـ عليهالسلام ـ وأنزل عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْواجَهُمْ) فقرأ حتى بلغ (إِنْ كانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) فانصرف رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : «إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب»؟.
ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة .
قال ابن عباس :
فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ،
فمضت ، وقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ،
حدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء. فجاءت به كذلك ، فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لو لا ما مضى من كتاب الله ـ عزوجل ـ لكان لي ولها شأن» .
وفي رواية عكرمة
عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) الآية قال سعد بن عبادة : لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ،
فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن
في ظهري لثمانين جلدة ـ فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «يا معشر الأنصار ، ألا تسمعون ما يقول سيّدكم».
قالوا : لا تلمه
فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن
يتزوجها. قال سعد : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله
وأنها حق ، ولكن عجبت من ذلك ، فقال عليهالسلام : «فإنّ الله يأبى إلّا ذلك». فقال : صدق الله ورسوله ، قال : فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم
له يقال له : هلال بن أمية (من حديقة له) ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فرأى
__________________
رجلا مع امرأته
يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله ، إني جئت
أهلي عشاء فوجدت رجلا مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما جاء به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال:
والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق
، وما قلت إلا حقا ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا ، فهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بضربه ، قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال
سعد ، يجلد هلال وتبطل شهادته ، فإنهم لكذلك ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه
عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ...) إلى آخر الآيات». فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أبشر يا هلال ، فإنّ الله قد جعل لك فرجا». فقال :
كنت أرجو ذلك من الله ـ عزوجل ـ فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أرسلوا إليها» فجاءت فكذبت هلال. فقال عليهالسلام : «الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب»؟ وأمر
بالملاعنة ، وشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال عليهالسلام له عند الخامسة : «اتّق الله يا هلال ، فإنّ عذاب الدنيا
أهون من عذاب الآخرة». فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها
رسول الله ، وشهد الخامسة : أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قال رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أتشهدين»؟ فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين
، ثم قال لها عند الخامسة ووقفها : «اتقي الله فإنها الخامسة الموجبة ، وإن عذاب الله أشد
من عذاب الناس». فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت
الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصّادقين. ففرق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بينهما ، وقضى أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى
ولدها ، ثم قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها ، وإن جاءت به كذا
وكذا فهو للّذي قيل فيه». فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق ، على التشبيه المكروه ، وكان بعد أميرا بمصر ولا يدرى من
أبوه .
فصل
إذا رمى الرجل
امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة ، والتعزير إن لم تكن محصنة ، كما في
رمي الأجنبي ، إلا أن قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف ، أو
ببينة أربعة شهداء على الزنا.
__________________
وفي قذف الزوجة
يسقط الحد عنه بأحد هذين الأمرين وباللعان.
وإنما اعتبر الشارع
اللعان في الزوجات دون الأجنبيات ، لأنه لا معيرة عليه في زنا الأجنبية ، والأولى
له سترة. وأما في الزوجة فيلحقه العار والنسب الفاسد ، فلا يمكنه الصبر عليه .
فصل
إذا قذف زوجته
ونكل عن اللعان لزمه حد القذف ، فإذا لاعن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا . وقال أبو حنيفة : يجلس الناكل منهما حتى يلاعن.
حجة القول الأول :
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ...) الآية ؛ فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو
الجلد ، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد.
وأيضا قوله : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ
تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ) والألف واللام في «العذاب» للمعهود السابق وهو الحدّ ،
وليسا للعموم ، لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب. ومما يدل على بطلان الحبس في
حق المرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقا فحدّوني ، وإن كان كاذبا فخلوني. وليس حبس
في كتاب الله وسنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس. واحتج أبو حنيفة بأن المرأة ما
فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس بينة على الزنا ولا إقرارا منها به ، فوجب ألا يجوز
رجمها لقوله عليهالسلام : «لا يحلّ دم امرىء مسلم» الحديث. وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في
غير المحصّن ، لأن لا قائل بالفرق. وأيضا فالنكول بصريح الإقرار ، فلم يجز إثبات
الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره .
__________________
فصل
من صح يمينه صح
لعانه ، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين ، وكذا إذا كان أحدهما
رقيقا ، أو كان الزوج مسلما والمرأة ذمية .
فإن قيل : اللعان
شهادة ، فوجب ألا يصح إلا من أهل الشهادة. وإنما قلنا : اللعان شهادة ، لقوله
تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) فسمى اللعان شهادة كقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ) ، ولأن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين ، وإذا ثبت أن اللعان شهادة وجب ألا تقبل من
المحدودين في القذف لقوله : (وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر ، إما
للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة ، أو لأنه لا قائل بالفرق.
فالجواب : أن
اللعان ليس شهادة في الحقيقة ، بل هو يمين مخصوصة ، لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان
لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ،
ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا تجوز شهادتهما فإن قيل : الفاسق والفاسقة قد
يتوبان. قلنا : وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته .
فصل
قال عثمان البتي : إذا تلاعن الزوجان لم تقع الفرقة ، لأن اللعان ليس بصريح
ولا كناية عن الفرقة ، فلا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة ،
ولأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قوله ، وهذا لا يوجب تحريما ، (ألا ترى
أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريما) ، فإذا كان كاذبا والمرأة صادقة فأولى ألا يوجب تحريما.
وأيضا لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة ، فكذا عند الحاكم. وأيضا فاللعان
قائم مقام الشهود في قذف الأجنبيات ، فكما أنه لا فائدة في إحضار الشهود هناك إلا
إسقاط الحد (فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد) .
__________________
وأيضا فلو أكذب
الزوج نفسه في قذفة إياها ثم حدّ لم يوجب ذلك فرقة ، فكذا إذا لاعن ، لأن اللعان
قائم مقام درء الحد.
وأما تفريق النبي
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في قصة العجلاني ، وكان قد طلقها ثلاثا بعد اللعان فلذلك فرق بينهما .
وقال أصحاب الرأي
: لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما ، لما روى سهل بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ،
ولأن في قصة عويمر أنهما لما فرغا قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، هي
طالق ثلاثا ، (فطلقها ثلاثا) قبل أن يأمرهما ، ولو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله : كذبت
عليها إن أمسكتها ، لأن إمساكها غير ممكن ، ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا
عند الحاكم ، فوجب ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم ، كما لا يثبت المشهود به
إلا بحكم الحاكم وقال مالك والليث وزفر : (إذا فرغا) من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم بينهما ، لأنه
لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا ، بل فرق بينهما ، فدل على أن اللعان قد
أوجب الفرقة.
وقال الشافعي :
إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته ، ولا يحل له أبدا لقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) ... الآية» ، فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا
في دفع العذاب عن نفسها ، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج ،
ولأن لعان الزوج مستقلّ بنفي الولد ، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا
بقولها .
فصل
في كيفية اللعان
وهو مذكور في
الآية صريحا. قال العلماء : يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ،
__________________
وتقام المرأة حتى
تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب ويقول له : إني أخاف إن لم تكن صادقا.
ويكون اللعان عند الحاكم ، فإن كان بمكة كان بين المقام والركن ، وإن كان بالمدينة
عند المنبر ، وبيت المقدس في مسجده ، وفي المواضع المعظمة. ولعان المشرك في
الكنيسة وأما في الزمان فيوم الجمعة بعد العصر ، ولا بد من حضور جماعة ، وأقلهم
أربعة . وهذا التغليظ قيل : واجب. وقيل
: مستحب.
فصل
معنى الآية : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أي : يقذفون نساءهم (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَداءُ) يشهدون على صحة ما قالوا (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أي : غير أنفسهم (فَشَهادَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ). في رفع «أنفسهم» وجهان :
أحدهما : أنه بدل
من «شهداء» ، ولم يذكر الزمخشري في غضون كلامه (غيره) .
والثاني : أنه نعت
له على أن «إلا» بمعنى : غير.
قال أبو البقاء :
ولو قرىء بالنصب لجاز على أن يكون خبر «كان» ، أو منصوبا على الاستثناء ، وإنما
كان الرفع هنا أقوى لأن «إلا» هنا صفة للنكرة كما ذكرنا في سورة الأنبياء .
قال شهاب الدين :
وعلى قراءة الرفع يحتمل أن تكون «كان» ناقصة ، وخبرها الجار ، وأن تكون تامة ، أي
: ولم يوجد لهم شهداء .
وقرأ العامة «يكن»
بالياء من تحت ، وهو الفصيح ، لأنه إذا أسند الفعل لما بعد «إلا» على سبيل التفريغ وجب عند بعضهم التذكير في الفعل نحو «ما قام إلا هند» ولا يجوز «ما قامت» إلا في ضرورة كقوله :
__________________
٣٨١٥ ـ وما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع
أو في شذوذ ،
كقراءة الحسن : «لا ترى إلا مساكنهم» .
وقرىء : «ولم تكن» بالتاء من فوق ، وقد عرف ما فيه.
قوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) في رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
مبتدأ ، وخبره مقدر التقديم ، أي : فعليهم شهادة ، أو مؤخر أي : فشهادة أحدهم كافية أو واجبة .
الثاني : أن يكون
خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب شهادة أحدهم .
الثالث : أن يكون
فاعلا بفعل مقدر ، أي : فيكفي ، والمصدر هنا مضاف للفاعل .
وقرأ العامة : «أربع شهادات» بالنصب على المصدر ، والعامل فيه «شهادة» .
فالناصب للمصدر
مصدر مثله كما تقدم في قوله : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً).
وقرأ الأخوان وحفص
برفع «أربع» على أنها خبر المبتدأ ، وهو قوله : «فشهادة».
ويتخرج على
القراءتين تعلق الجار في قوله : «بالله».
__________________
فعلى قراءة النصب
يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق
ب «شهادات» لأنه أقرب إليه.
والثاني : أنه
متعلق بقوله : «فشهادة» أي : فشهادة أحدهم بالله ، ولا يضر الفصل ب «أربع» لأنها
معمولة للمصدر فليست أجنبية .
الثالث : أن
المسألة من باب التنازع ، فإن كلّا من «شهادة» أو «شهادات» يطلبه من حيث المعنى ،
وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول ، وهو مختار البصريين وعلى قراءة الرفع يتعين تعلقه ب «شهادات» إذ لو علقت ب «شهادة»
لزم الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، ولا يجوز لأنه أجنبي .
ولم يختلف في «أربع»
الثانية ، وهي قوله : (أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ شَهاداتٍ) أنها منصوبة ، للتصريح بالعامل فيها وهو الفعل.
قوله : «والخامسة»
اتفق السبعة على رفع «الخامسة» الأولى ، واختلفوا في الثانية : فنصبها حفص . ونصبهما معا الحسن والسلمي وطلحة والأعمش .
فالرفع على
الابتداء ، وما بعده من «أنّ» وما في حيزها الخبر .
وأما نصب الأولى
فعلى قراءة من نصب (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) يكون النصب للعطف على المنصوب قبلها . وعلى قراءة من رفع يكون النصب بفعل مقدر ، أي : وتشهد
الخامسة .
وأما نصب الثانية
فعطف على ما قبلها من المنصوب وهو (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) ، والنصب هنا أقوى منه في الأولى لقوة النصب فيما قبلها
كما تقدم تقريره ، ولذلك لم يختلف فيه.
وأما «أنّ» وما في
حيزها فعلى قراءة الرفع يكون في محل رفع خبرا للمبتدأ كما تقدم ، وعلى قراءة النصب
يكون على إسقاط الخافض ويتعلق الخافض بذلك الناصب
__________________
ل «الخامسة» أي :
ويشهد الخامسة بأنّ لعنة الله ، وبأن غضب الله وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلا من «الخامسة» .
قوله : (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ).
قرأ العامة بتشديد
«أنّ» في الموضعين.
وقرأ نافع بتخفيفها
في الموضعين ، إلا أنه يقرأ «غضب الله» يجعل «غضب» فعلا ماضيا ، والجلالة فاعله ، كذا نقل أبو حيان عنه التخفيف في الأولى أيضا ، ولم ينقله غيره . فعلى قراءته يكون اسم «أن» ضمير الشأن في الموضعين ، و «لعنة
الله» مبتدأ و «عليه» خبرها ، والجملة خبر «أن» ، وفي الثانية يكون «غضب الله»
جملة فعلية في محل خبر «أن» أيضا. ولكنه يقال : يلزمكم أحد أمرين : وهو إمّا عدم
الفصل بين المخففة والفعل الواقع خبرا ، وإما وقوع الطلب خبرا في هذا الباب ، وهو
ممتنع.
تقرير ذلك : أن
خبر (أن) المخففة متى كان فعلا متصرفا غير مقرون ب «قد» وجب الفصل
بينهما بما تقدم في سورة المائدة.
فإن أجيب بأنه
دعاء ، اعترض بأن الدعاء طلب ، وقد نصوا على أن الجمل الطلبية لا تقع خبرا ل «أنّ»
، حتى تأولوا قوله :
٣٨١٦ ـ إنّ الرّياضة لا تنصبك للشّيب
وقوله :
٣٨١٧ ـ إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم
|
|
لا تحسبوا ليلهم
عن ليلكم ناما
|
على إضمار القول.
ومثله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ).
__________________
وقرأ الحسن وأبو
رجاء وقتادة والسّلمي وعيسى بتخفيف «أن» و «غضب الله» بالرفع على الابتداء ، والجار بعده خبره ، والجملة خبر «أن» .
وقال ابن عطية : و
(أن) الخفيفة على قراءة (نافع) في قوله : (أن غضب) قد وليها الفعل . قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل ،
إلّا أن يفصل بينها وبينه بشيء ، نحو قوله : (عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ) ، (أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ) ، فأما قوله : (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ) فذلك لقلة تمكن (ليس) في الأفعال ، وأما قوله : (أن بورك
من في النّار) و (بورك) في معنى
الدعاء ، فلم يجىء دخول الفاعل لئلا يفسد المعنى ، فظاهر هذا أن (غضب) ليس دعاء ، بل هو خبر عن (غضب الله
عليها). والظاهر أنه دعاء كما أن (بورك) كذلك ، وليس المعنى على الإخبار فيهما
فاعتراض أبي علي وأبي محمد ليس بمرضي .
قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ).
جواب : «لو لا»
محذوف أي : لهلكتم أو لعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان ، (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة «حكيم» فيما فرض من
الحدود.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١)
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآية.
في خبر «إنّ»
وجهان :
أحدهما : أنه عصبة
و «منكم» صفته. قال أبو البقاء : «وبه أفاد الخبر» .
والثاني : أن
الخبر الجملة من قوله : «لا تحسبوه» ، ويكون «عصبة» ، بدلا من فاعل «جاءوا». قال
ابن عطية : التقدير : إنّ فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون
«عصبة» خبر (إنّ) . كذا أورده عنه أبو حيان غير معترض عليه ؛
__________________
والاعتراض عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر «إنّ» جملة طلبية ، وقد
تقدم أنه لا يجوز وإن ورد منه شيء في الشعر أوّل كالبيتين المتقدمين . وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب
الكلامي ، إذ لو لم يقدر لكان التركيب «لا تحسبوهم» .
ولا يعود الضمير
في «لا تحسبوه» على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها
بالمبتدأ .
وفي قول غيره يجوز
أن يعود على الإفك ، أو على القذف ، أو على المصدر المفهوم من «جاءوا» ، أو على ما
نال المسلمين من الغم .
فصل
سبب نزول هذه
الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج
بها معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج فيها سهمي ،
فخرجت مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد نزول آية الحجاب ، فحملت في هودج فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين نزل منزلا ثم آذن بالرحيل ، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما
قضيت شأني
__________________
أقبلت إلى رحلي
فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار وقد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل
الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي
، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبّلن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه
، وكنت جارية حديثة السن فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعد
ما استمرّت الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت
منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي ، فبينما أنا جالسة في
منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر
لئلا يذهب شيء ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير
استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق
يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول ، وافتقدني
__________________
الناس حين نزلوا ،
وماج الناس في ذكري ، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم ، فتكلم القوم
وخاضوا في حديثي. قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبيّ
ابن سلول . قال عروة : لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت ، ومسطح بن
أثاثة ، وحمنة بنت جحش . في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عزوجل. قال عروة : وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول :
إنه هو الذي قال :
٣٨١٨ ـ فإنّ أبي ووالده وعرضي
|
|
لعرض محمّد منكم
وقاء
|
قالت عائشة : وقدم
رسول الله (صلىاللهعليهوسلم) المدينة ، ولم أر فيه ـ عليهالسلام ـ ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه ، والناس يفيضون في
قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، وهو يريبني في وجعي أنّي لا أرى من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم» ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين
نقهت ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان
__________________
متبرّزنا ، وكنا
لا نخرج إلا ليلا إلى الليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا قالت : فانطلقت أنا وأم مسطح ، وهي بنت
أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف. وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ـ رضي
الله عنه ـ وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل
بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح. فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبّين رجلا شهد بدرا؟
فقالت : أي هنتاه ، أو لم تسمعي ما قال؟ فقلت : وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل
الإفك ، وقالت : أشهد بالله إنك من المؤمنات الغافلات. فازددت مرضا على مرضي ،
فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم قال : «كيف تيكم»؟ فقلت له أتأذن لي أن آتي أبوي؟
قالت : وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقلت لأمي : يا أماه ، ما ذا يتحدث الناس؟ قالت : يا بنية
، هوّني عليك ، فو الله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراء إلا كثّرن عليها . فقلت : سبحان الله ، أو لقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك
الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، فدخل عليّ أبي وأنا أبكي ، فقال لأمي : ما يبكيها؟ قالت
: لم تكن علمت ما قيل فيها ، فأقبل يبكي. قالت : ودعا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق
__________________
أهله ، فقال أسامة
: يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليّ فقال : لم يضيّق الله
عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، فدعا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بريرة ، فقال : «هل رأيت من شيء يريبك»؟ قالت له بريرة :
والذي بعثك بالحق نبيا ما رأيت عليها أمرا قط أغضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي
الداجن فتأكله. قالت :
فقام نبي الله خطيبا على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ـ يعني : عبد الله بن أبيّ ـ فو
الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما
كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أخو بني الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من
الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة
وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن أخذته الحمية ، وكانت أم حسان بنت عمه من
فخذه ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله لا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير
، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتله ،
وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا
، ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا. قالت : فبكيت
يومي ذلك كله وليلتي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت
ليلتين ويوما حتى أني لأظنّ أن البكاء فالق كبدي ، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت
عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك إذ دخل
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ
ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين جلس ثم قال : أمّا بعد يا عائشة ، فإنه بلغني عنك
كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن
__________________
كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب
تاب الله عليه قالت : فلمّا قضى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة ، (فقلت) لأبي : أجب عني رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيما قال. فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله.
فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقلت وأنا جارية حديثة السّن لا أقرأ من القرآن كثيرا :
إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ،
فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه
بريئة لتصدقونني ، فو الله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال : «فصبر جميل
والله المستعان على ما تصفون» ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني
حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في
شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر ، ولكني كنت
أرجو أن يرى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رؤيا يبرئني الله بها ، فو الله ما قام رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على
نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر فيه العرق مثل الجمان في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت : فسري عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو يضحك ، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : «يا عائشة ،
أما الله قد برأك» قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : فو الله لا أقوم إليه
، فإني لا أحمد إلا الله. قالت : وأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ..) العشر آيات. فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مسطح بعدها
، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره ، فأنزل الله : (وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ...) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ). فلما سمع أبو بكر قوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ
لَكُمْ) قال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى
النفقة على مسطح وقال : والله لا أنزعها منه أبدا. قال : فلما نزل عذري قام رسول
الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فذكر
__________________
ذلك وتلا القرآن ،
فلما نزل ضرب عبد الله بن أبيّ ومسطح وحسّان وحمنة الحد .
فصل
الإفك : أبلغ ما
يكون من الكذب والافتراء ، وهو أسوأ الكذب. وسمي إفكا لكونه مصروفا عن الحق من قولهم : أفك الشيء : إذا قلبه عن وجهه. قيل : هو البهتان وأجمع
المسلمون على أن المراد : ما أفك به على عائشة .
وإنما وصف الله
ذلك الكذب بكونه إفكا لكون المعروف من حال عائشة خلافه ، وذلك من وجوه :
الأوّل : أن كونها
زوجة المعصوم يمنع من ذلك ، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم
، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم ، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات.
فإن قيل : كيف جاز
أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ وأيضا فلو
لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن
كيفية الواقعة؟
فالجواب عن الأول
: أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجور فإنه من المنفرات.
والجواب عن الثاني
: أنه عليهالسلام كثيرا ما يكون يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك ، كما قال
تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) فهذا من ذاك الباب.
الثاني : أن
المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور ، ومن
كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به.
الثالث : أن
القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم ، وكلام المفتري ضرب من الهذيان . فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي .
__________________
فصل
العصبة : قيل :
الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وكذلك العصابة ، وهم عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ،
وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم.
قوله : «كبره»
العامة على كسر الكاف.
وضمّها في قراءته
الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن . ورويت أيضا عن أبي عمرو والكسائي .
فقيل : هما لغتان
في مصدر : كبر الشيء ، أي : عظم ، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم في السن والمكانة ، يقال : هو كبر القوم بالضم ، أي : أكبرهم سنا أو مكانة ، وفي الحديث في قصة محيصة وحويصة : «الكبر الكبر» .
وقيل : بالضم :
معظم الإفك. وبالكسر : البداءة. وقيل : بالكسر : الإثم .
قوله : «منكم»
معناه : إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون ، لأن عبد
الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا .
قوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ) هذا شرح حال المقذوف وليس خطاب مع القاذفين.
فإن قيل : هذا
مشكل من وجهين :
أحدهما : أنه لم
يتقدم ذكرهم.
والثاني : أن
المقذوفين هم عائشة وصفوان ، فكيف يحمل عليهما صيغة الجمع في قوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ)؟
فالجواب عن الأول
: أنه تقدم ذكرهم في قوله : «منكم».
__________________
وعن الثاني : أن
المراد من لفظ الجمع : كل من تأذّى بذلك الكذب ، ومعلوم أنه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به .
فإن قيل : فمن أي
جهة يصير خيرا لهم مع أنه مضرّة؟
فالجواب : لوجوه :
أحدها : أنهم
صبروا على ذلك الغم طلبا لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين.
وثانيها : لو لا
إظهارهم الإفك كان يجوز أن يبقى الهمّ كامن في صدور البعض ، وعند الإظهار انكشف
كذب القوم.
وثالثها : صار
خيرا لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية ، كل واحدة
منها مستقلة ببراءة عائشة ، وشهد الله بكذب القاذفين ، ونسبهم إلى الإفك ، وأوجب
عليهم اللعن والذم ، وهذا غاية الشرف والفضل.
ورابعها :
صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها ، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكا
وبالغ في شرحه ، فكل من شك فيه كان كافرا قطعا ، وهذه درجة عالية .
وقال بعضهم : قوله
تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ
شَرًّا لَكُمْ) خطاب مع القاذفين وجعل الله خيرا لهم من حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، ومن حيث تاب
بعضهم عنده. وهذا القول ضعيف ، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف ، ولما وصف أهل الإفك
خاطبهم بالهاء بقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة ، فالمراد : لهم
جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا ، والمعنى : أن قدر العقاب
يكون مثل قدر الخوض .
قوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ). أي : الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن (أبيّ
ابن) سلول. والعذاب العظيم هو النار في الآخرة.
روي عن عائشة في
حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت
عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم : من هذه؟ قالوا
: عائشة. قال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل
حتى أصبحت ، ثم جاء يقودها. وشرع في ذلك أيضا حسان بن ثابت ، ومسطح ، وحمنة بنت
جحش زوجة طلحة بن عبيد الله ، فهم الذين تولوا كبره. والأقرب أنه عبد الله بن أبيّ ، فإنه كان منافقا
يطلب ما يقدح في (الرسول) .
__________________
قال مسروق : دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعرا يشبب
بأبيات له وقال :
٣٨١٩ ـ حصانرزان ما تزنّبريبة
|
|
وتصبح غرثى من
لحوم (الغوافل )
|
فقالت له عائشة : «لكنك
لست كذلك».
قال مسروق : فقلت
لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله : (وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)؟ قالت : «وأيّ عذاب أشد من العمى» .
وروي أن عائشة
ذكرت حسان وقالت : «أرجو له الجنّة». فقيل : أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت : «إذا
سمعت شعره في مدح الرسول رجوت له الجنّة» وقال عليهالسلام : «إنّ الله يؤيد حسان بروح القدس في شعره» .
وروي أن النبي صلىاللهعليهوسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعا .
فصل
المراد من إضافة
الكبر إليه أنه كان مبتدئا بذلك القول ، فلا جرم حصل له من العقاب ما حصل لكل من
قال ذلك ، لقوله عليهالسلام : «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
وقال أبو مسلم : «سبب
تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة» .
__________________
قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ
مُبِينٌ)(١٢)
قوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) «لو لا» هذه
تحضيضية ، أي : هلّا ، وذلك كثير في اللغة إذا كانت تلي الفعل كقوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) وقوله : (فَلَوْ لا كانَتْ).
فأما إذا ولي
الاسم فليس كذلك كقوله : (لَوْ لا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ، (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ). و «إذ» منصوب ب «ظنّ» والتقدير : لو لا ظنّ المؤمنون
بأنفسهم إذ سمعتموه. وفي هذا الكلام التفات. قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل :
لو لا إذ سمعتموه ، ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم ، ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن
الضمير إلى الظاهر؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ
الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق (أحد قالة في أخيه ، وألا يظن
بالمسلمين إلا خيرا) .
وقوله : «ولم عدل عن الخطاب»؟ يعني في قوله : «وقالوا» فإنه كان
الأصل : «وقلتم» ، فعدل عن هذا الخطاب إلى الغيبة في «وقالوا».
وقوله : «وعن الضمير» يعني أن الأصل كان «ظننتم» فعدل عن ضمير
الخطاب إلى لفظ المؤمنين.
فصل
المعنى : هلّا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ) بإخوانهم «خيرا».
وقال الحسن : بأهل
دينهم ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ)(فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) المعنى : بأمثالكم المؤمنين.
وقيل : جعل
المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور ، فإذا جرى
__________________
على أحدهم مكروه
فكأنه جرى على جميعهم ، كما قال عليهالسلام «مثل المسلمين في
تواصلهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسّهر والحمّى» ، وقال عليهالسلام : «المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضه بعضا » .
وقوله : (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي : كذب بين .
قوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ
الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٤)
قوله : «لو لا جاءوا» : هلّا جاءوا (عَلَيْهِ
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي : على ما زعموا ، يشهدون على معاينتهم ما رموها به (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَداءِ) ولم يقيموا بينة على ما قالوه (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ) أي : في حكمه (هُمُ الْكاذِبُونَ).
فإن قيل : كيف
يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى
بالشهداء أو لم يأت؟
فالجواب : معناه :
كذبوهم بأمر الله.
وقيل : هذا في حق عائشة خاصة ، فإنهم كانوا عند الله كاذبين .
وقيل : المعنى :
في حكم الكاذبين ، فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب ، والقاذف إذا لم يأت بالشهود
فإنه يجب زجره ، فلما (كان) شأنه (شأن) الكاذب في الزجر أطلق عليه أنه كاذب مجازا.
قوله : «فإذ لم
يأتوا». «إذ» منصوب ب «الكاذبون» في قوله : (فَأُولئِكَ عِنْدَ
اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، وهذا كلام في قوة شرط وجزاء.
قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) من
__________________
الإفك (عَذابٌ عَظِيمٌ.) (وهذا زجر) و «لو لا» هاهنا
لامتناع الشيء لوجود غيره ويقال: أفاض في الحديث : اندفع وخاض. والمعنى : ولو أني
قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال ، وأترحّم
عليكم في الآخرة بالعفو ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك.
وقيل : المعنى :
ولو لا فضل الله عليكم لمسّكم العذاب في الدّنيا والآخرة معا ، فيكون فيه تقديم
وتأخير . وهذا الفضل هو حكم الله لمن تاب.
وقال ابن عباس :
المراد بالعذاب العظيم أي : عذاب لا انقطاع له. أي : في الآخرة لأنه ذكر عذاب
الدنيا من قبل فقال : (وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد أصابه ، فإنه جلد وحدّ .
قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)(١٥)
قوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ). «إذ» منصوب ب «مسّكم» أو ب (أَفَضْتُمْ).
وقرأ العامة : «تلقّونه»
والأصل : تتلقّونه ، فحذف إحدى التاءين ك «تنزل» ونحوه ، ومعناه : يتلقّاه بعضكم من بعض.
قال الكلبي : وذلك
أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول : بلغني كذا وكذا ، يتلقونه تلقيا .
قال الزجاج :
يلقيه بعضهم إلى بعض .
والبزّي على أصله في أنه يشدّد التّاء وصلا ، وتقدم تحقيقه في البقرة نحو (وَلا تَيَمَّمُوا) وهو هناك سهل ، لأن ما قبله حرف لين بخلافه هنا .
__________________
وأبو عمرو
والكسائي وحمزة على أصولهم في إدغام الذال في التاء .
وقرأ أبيّ : «تتلقّونه»
بتاءين ، وتقدم أنها الأصل. وقرأ ابن السميفع في رواية عنه :
«تلقونه» بضم التاء وسكون اللام وضم القاف مضارع : ألقى إلقاء.
وقرأ هو في رواية
أخرى : «تلقونه» بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مضارع : لقي. وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى وابن يعمر وزيد
بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الرجل : إذا كذب. قال ابن سيدة : جاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي ، وعندي أنه أراد : تلقون فيه ، فحذف الحرف ، ووصل الفعل للضمير ، يعني : أنهم جاءوا ب «تلقّونه» وهو متعد مفسرا ب «تكذبون» وهو
غير متعد ، ثم حمله على ما ذكر. وقال الطبري وغيره : إن هذه اللفظة مأخوذة من الولق وهو الإسراع بالشيء بعد
الشيء ، كعدو في إثر عدو ، وكلام في إثر كلام ، يقال : ولق في سيره أي :
أسرع ، وأنشد :
٣٨٢٠ ـ جاءت به عيس من الشّام تلق
وقال أبو البقاء :
أي : يسرعون فيه ، وأصله من «الولق» وهو الجنون .
وقرأ زيد بن أسلم
وأبو جعفر : «تألقونه» بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة من «الألق» وهو الكذب . وقرأ يعقوب : «تيلقونه» بكسر التاء من فوق ،
__________________
بعدها ياء ساكنة
ولام مفتوحة وقاف مضمومة ، وهو مضارع «ولق» بكسر اللام ، كما قالوا : «تيجل» مضارع «وجل».
وقوله : «بأفواهكم» كقوله : (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ) وقد تقدم.
فصل
اعلم أن الله
تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام ، وعلق مس العذاب العظيم بها.
أحدها : تلقي
الإفك بألسنتهم ، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل يقول له : ما وراءك؟ فيحدثه بحديث
الإفك حتى شاع واشتهر ، ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. فكأنهم سعوا في إشاعة
الفاحشة ، وذلك من العظائم .
وثانيها : أنهم
كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به ، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم
، ونظيره : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
وثالثها : أنهم
كانوا يستصغرون ذلك ، وهو عظيمة من العظائم .
وتدل الآية على أن
القذف من الكبائر لقوله : (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ
عَظِيمٌ) ، وتدل على أن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم
الإقدام عليه.
ونبه بقوله : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) على أن عمل المعصية لا يختلف بظن فاعله وحسبانه ، بل ربما
كان ذلك مؤكدا لعظمه .
فإن قيل : ما معنى
قوله : «بأفواهكم» والقول لا يكون إلّا بالفم؟
فالجواب : معناه :
أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه باللسان ، وهذا الإفك ليس إلا
قولا يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به كقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ
ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)» .
قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ
ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ)(١٦)
قوله : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) كقوله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
ظَنَّ) ولكن الالتفات فيه قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز الفصل
بين (لو لا) و (قلتم) بالظرف؟ قلت :
__________________
للظروف شأن ليس
لغيرها ، لأنها لا ينفك عنها ما يقع فيها ، فلذلك اتسع فيها .
قال أبو حيان : «وهذا
يوهم اختصاص ذلك بالظروف ، وهو جائز في المفعول به ، تقول : لو لا زيدا ضربت ، ولو
لا عمرا قتلت» .
وقال الزمخشري
أيضا : فإن قلت : أي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت : الفائدة فيه :
بيان أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به ، فلما
كان ذكر الوقت أهم وجب تقديمه. فإن قلت : ما معنى «يكون» والكلام بدون متلئب لو قيل : ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت : معناه : ينبغي ويصح
، أي : ما ينبغي وما يصح كقوله : (ما يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ).
فصل
قوله : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ) هذا اللفظ هنا معناه التعجب (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي : كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته.
روي أن أم أيوب قالت لأبي أيوب الأنصاري : أما بلغك ما يقول الناس في عائشة؟ فقال أبو أيوب : «سبحانك
هذا بهتان عظيم» فنزلت الآية على وفق قوله .
قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٨)
قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ ...) الآية وهذا من باب الزواجر ،
__________________
أي : يعظكم الله
بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب ، ولأن فيه الحد والنكال في الدنيا
والعذاب في الآخرة ، لكي لا تعودوا إلى مثل هذا الفعل أبدا .
قوله : (أَنْ تَعُودُوا) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول
من أجله ، أي : يعظكم كراهة أن تعودوا .
الثاني : أنه على
حذف «في» أي : في أن تعودوا ، نحو : وعطف فلانا في كذا ، فتركه.
الثالث : أنه ضمن
معنى فعل يتعدى ب «عن» ثم حذفت ، أي : يزجركم بالوعظ عن العود .
وعلى هذين القولين
يجيء القولان في محل «أن» بعد نزع الخافض.
قال ابن عباس : «يحرم
الله عليكم» .
وقال مجاهد : «ينهاكم
الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبيّن الله لكم الآيات» في الأمر
والنهي (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأمر عائشة وصفوان «حكيم» ببراءتهما .
واعلم أن العليم
الحكيم هو الذي لا يأمر إلا بما ينبغي ، ولا يهمل جزاء المستحقين فلهذا ذكر هاتين
الصفتين وخصهما بالذكر .
فصل
استدلت المعتزلة
بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) على أن ترك القذف من الإيمان ، لأن المعلق على الشرط يعدم
عند عدم الشرط.
وأجيبوا بأن هذا
معارض بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي : منكم أيها المؤمنون ، فدل ذلك على أن القذف لا يوجب
الخروج عن الإيمان ، وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على التهيج في الاتعاظ
والانزجار .
فصل
قالت المعتزلة :
دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد من جميع من وعظه مجانبة ذلك في المستقبل وإن كان
فيهم من لا يطيع ، فمن هذا الوجه يدل على أنه يريد منهم كلهم
__________________
الطاعة وإن عصوا ،
ولأن قوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ
أَنْ تَعُودُوا) ، أي : لكي لا تعودوا لمثله ، وذلك يدل على الإرادة ،
وتقدم الجواب عنه مرارا .
فإن قيل : هل يجوز
أن يسمى الله واعظا لقوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ)؟ فالأظهر أنه لا يجوز ، كما لا يجوز أن يسمى الله معلما
لقوله : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ)» .
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١٩)
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) الآية.
لمّا بين ما على
الإفك وعلى من سمع منه وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا كما شارك فيه من فعله
.
والإشاعة :
الانتشار ، يقال : في هذا العقار سهم شائع : إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلا.
وشاع الحديث : إذا ظهر في الجميع ولم يكن منفصلا. وشاع الحديث : إذا ظهر في العامة
. والمعنى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ) أن يظهر ويذيع الزنا (فِي الَّذِينَ
آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين والعذاب في
الدنيا : الحد. وفي الآخرة : النار.
وظاهر الآية
يتناول كل من كان بهذه الصفة.
والآية إنما نزلت
في قذفة عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال : (وَاللهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وهذا حسن الموقع في هذا الموضع ، لأن محبة القلب كافية
ونحن لا نعلمها إلا بالإبانة ، وأما الله ـ سبحانه ـ فإنه لا يخفى عليه ، وهذا
نهاية في الزجر ، لأن من أحبّ إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو
يعلم أن الله يعلم ذلك منه ، ويعلم قدر الجزاء عليه.
وهذه الآية تدل
على أن العزم على الذنب العظيم ذنب ، وأن إرادة الفسق فسق ، لأنه تعالى علق الوعيد
بمحبّة إشاعة الفاحشة.
فصل
قالت المعتزلة :
إن الله بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة ، فلو كان تعالى هو
__________________
الخالق لأفعال
العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو ، فكان يجب ألا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة
إلا هو ، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة ، وغيره لم يفعل شيئا ، وتقدم الكلام على (نظيره
) .
قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ
الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ
اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢١)
قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) جواب «لو لا» محذوف ، أي : لعاجلكم بالعقوبة.
قال ابن عباس :
يريد مسطحا وحسان وحمنة. ويجوز أن يكون الخطاب عاما.
وقيل : جوابه في
قوله : «ما زكى منكم من أحد» .
وقيل : جوابه :
لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة ، وهو قول أبي مسلم. والأقرب أن جوابه محذوف ،
لأن قوله من بعد : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ) كالمنفصل من الأول ، فلا يكون جوابا للأول خصوصا (وقد) وقع بين الكلامين كلام آخر .
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الآية قرىء «خطوات» بضم الطاء
وسكونها . والخطوات : جمع خطوة وهو من خطا الرجل يخطو خطوا فإذا أردت الواحدة قلت : خطوة مفتوحة الأول ، والمراد بذلك
: السيرة .
والمعنى : لا
تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة ، والله
__________________
تعالى وإن خص بذلك
المؤمنين ، فهو نهي لكل المكلفين ، لأن قوله : (وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) منع لكل المكلفين من ذلك والفحشاء : ما أفرط قبحه. والمنكر
: ما تنكره النفوس ، فتنفر عنه ولا ترتضيه .
قوله : «فإنه يأمر»
في هذه الهاء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها ضمير
الشأن ، وبه بدأ أبو البقاء .
والثاني : أنها
ضمير الشيطان.
وهذان الوجهان
إنما يجوزان على رأي من لا يشترط عود الضمير على اسم الشرط من جملة الجزاء.
والثالث : أنه
عائد على «من» الشرطية .
قوله : «ما زكى».
العامة على تخفيف الكاف ، يقال : زكا يزكو ، وفي ألفه الإمالة وعدمها. وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بتشديدها . وكتبت ألفه ياء ، وهو شاذ ، لأنه من ذوات الواو كغزا ، وإنما حمل على لغة من أمال ، أو على كتابة المشدد .
فعلى قراءة
التخفيف يكون «من أحد» فاعلا. وعلى قراءة التشديد يكون مفعولا ، و «من» مزيدة على
كلا التقديرين ، والفاعل هو الله تعالى.
فصل
قال مقاتل : ما
زكا : ما صلح .
وقال ابن قتيبة :
ما (ظهر ) .
وقيل : من بلغ في
الطاعة لله مبلغ الرضا ، (يقال : زكا الزرع) ، فإذا بلغ المؤمن
__________________
في الصلاح في
الدين ما يرضاه (تعالى) سمي زكيا ، فلا يقال : زكى إلا إذا وجد زاكيا ، كما لا يقال
لمن ترك الهدى : هداه الله مطلقا ، بل يقال : هداه الله فلم يهتد . ودلت الآية على أن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد ،
لأن التزكية كالتسويد والتحمير ، فكما أن التسويد يحصل السواد ، فكذا التزكية تحصل
الزكاء في المحل .
والمعتزلة حملوه
هنا على فعل الإلطاف ، أو على الحكم بكون العبد زكيا ، وهو خلاف الظاهر ، ولأن
الله تعالى قال : (وَلكِنَّ اللهَ
يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) علق التزكية على الفضل والرحمة ، وخلق الإلطاف واجبا فلا
يكون معلقا بالفضل والرحمة ، وأما الحكم بكونه زكيا فذلك واجب ، لأنه لو لا الحكم له لكان
كذبا (و) الكذب على الله محال ، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة؟ .
فصل
قال ابن عباس في
رواية عطاء : هذا خطاب للذين خاضوا في الإفك ، ومعناه : ما ظهر من هذا الذنب ولا
صلح أمره بعد الذي فعل ، أي : ما قبل منكم توبة أحد أبدا ، (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) يطهر «من يشاء» من الذنب
بالرحمة والمغفرة (وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) أي : يسمع أقوالكم في القذف ، وأقوالكم في البراءة و «عليم»
بما في قلوبهم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهتها ، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز
عن معصيته .
قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ
مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٢)
قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ
مِنْكُمْ) الآية.
يجوز أن يكون «يأتل»
: «يفتعل» ، من الألية ، وهي الحلف ، كقوله :
٣٨٢١ ـ وآلت حلفة لم تحلّل
__________________
ونصر الزمخشري هذا
بقراءة الحسن «ولا يتألّ» من الأليّة ، كقوله : «من يتألّ على الله يكذّبه» .
ويجوز أن يكون «يفتعل»
من ألوت ، أي : قصّرت ، كقوله تعالى : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) قال :
٣٨٢٢ ـ وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
|
|
بمدرك أطراف
الخطوب ولا آل
|
وقال أبو البقاء :
وقرىء : «ولا يتألّ» على «يتفعل» وهو من الألية أيضا ، ومنه :
٣٨٢٣ ـ تألّى ابن أوس حلفة ليردّني
|
|
إلى نسوة
كأنّهنّ مفائد
|
قوله : «أن يؤتوا»
هو على إسقاط الجار ، وتقديره على القول الأول : ولا يأتل أولو الفضل على أن لا
يحسنوا. وعلى الثاني : ولا يقصر أولو الفضل في أن يحسنوا .
وقرأ أبو حيوة
وأبو البرهسيم وابن قطيب : «تؤتوا» بتاء الخطاب ، وهو التفات موافق لقوله : (أَلا تُحِبُّونَ). وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين «ولتعفوا ولتصفحوا»
بالخطاب وهو موافق لما بعده.
__________________
فصل
المشهور أن معنى
الآية : لا يحلف أولو الفضل ، فيكون «افتعال» من الألية.
قال أبو مسلم :
وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : أن ظاهر
الآية على هذا التأويل يقتضي المنع عن الحلف على الإعطاء ، وهم أرادوا المنع على
ترك الإعطاء ، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب ، وجعل المنهي عنه مأمورا
به.
الثاني : أنه قلما
يوجد في الكلام «أفتعلت» مكان «أفعلت» (وإنما وجد مكان «فعلت») وهنا آليت من الأليّة : «افتعلت» فلا يقال : أفعلت ، كما لا
يقال من ألزمت التزمت ، ومن أعطيت اعتطيت. ثم قال في «يأتل» : إن أصله «يأتلي» ذهبت الياء للجزم لأنه نهي ، وهو من قولك : ما ألوت فلانا
نصحا ، ولم آل في أمري جهدا ، أي : ما قصرت. ولا يأل ولا يأتل ولم يأل والمراد :
لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ، ويوجد كثيرا «افتعلت» مكان «فعلت» ، تقول : كسبت واكتسبت ، وصنعت واصطنعت ، وهذا التأويل
مروي عن أبي عبيدة. قال ابن الخطيب : «وهذا هو الصحيح دون الأول» .
وأجاب الزجاج عن
الأول بأن «لا» تحذف في اليمين كثيرا ، قال الله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً
لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) يعني : أن لا تبروا ، وقال امرؤ القيس :
٣٨٢٤ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا
أي : لا أبرح.
وأجابوا عن السؤال
الثاني أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظ باليمين ، وقول
واحد منهم حجة في اللغة ، فكيف الكل؟ ويعضده قراءة الحسن : «ولا يتألّ» .
فصل
قال المفسرون
معناه : ولا يحلف (أُولُوا الْفَضْلِ
مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) أي : أولوا الغنى ،
__________________
يعني : أبا بكر
الصديق (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي
الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني : مسطحا ، وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر
حلف أبو بكر لا ينفق عليه (وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا) عنهم خوضهم في أمر عائشة «ألا تحبّون» يخاطب أبا بكر (أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فلما قرأها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على أبي بكر قال : «بلى إنما أحب أن يغفر الله لي» ورجع
إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : «والله لا أنزعها منه أبدا» .
وقال ابن عباس
والصحابة أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألا يتصدقوا على رجل
تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية .
فصل
أجمع المفسرون على
أن المراد من قوله : «أولو الفضل» أبو بكر ، وهذا يدل على أنه كان أفضل الناس بعد
الرسول ، لأن الفضل المذكور في الآية إما في الدنيا وإما في الدين ، والأول باطل ،
لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له ، والمدح من الله بالدنيا غير جائز ، ولأنه لو
جاز ذلك لكان قوله : «والسّعة» تكريرا ، فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين
، فلو كان غيره مساويا له في الدرجة في الدين لم يكن هو صاحب الفضل ، لأن المساوي
لا يكون فاضلا ، فلما أثبت الله له الفضل غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق ترك العمل به في حق الرسول
ـ عليهالسلام ـ فيبقى معمولا به في حق الغير.
وأجمعت الأمة على
أن الأفضل إما أبو بكر أو عليّ ، فإذا تبين أنه ليس المراد عليّا تعينت الآية في أبي بكر.
وإنما قلنا : ليس
المراد عليّا ، لأن ما قبل الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر ، ولأنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة ، وأن
عليّا ـ رضي الله عنه ـ لم يكن من أولي السّعة في الدنيا في ذلك الوقت ، فثبت أن
المراد منه أبو بكر قطعا.
فصل
أجمعوا على أن
مسطحا كان من البدريين ، وصح عنه عليهالسلام أنه قال :
__________________
«لعلّ الله نظر
إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم» فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريّا؟
والجواب : أنه لا
يجوز أن يكون المراد منه : افعلوا ما شئتم من المعاصي ، فيأمر بها ، لأنا نعلم
بالضرورة أن التكليف كان باقيا عليهم ، ولو حملناه على ذلك لأفضى إلى زوال التكليف
عنهم ، ولو كان كذلك لما جاز أن يحدّ مسطح على ما فعل ، فوجب حمله على أحد أمرين :
الأول : أنه تعالى
علم توبة أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير ، فقد غفرت
لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة.
والثاني : أن يكون
المراد أنهم يوافون بالطاعة ، فكأنه تعالى قال : قد غفرت لكم لعلمي بأنّكم تموتون على التوبة والإنابة ، فذكر
حالهم في الوقت وأراد العاقبة .
فصل
دلت الآية على أن (الأيمان
على) الامتناع من الخير غير جائز ، وإنما يجوز إذا حصلت داعية صارفة عنه .
فصل
مذهب الجمهور أنّ
من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر
عن يمينه.
وقال بعضهم : إنه
يأتي بالذي هو خير ، وذلك هو كفارته ، لأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب
عليه كفارة. ولقوله عليهالسلام : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو
خير ، وذلك كفارته».
واحتج الجمهور
بقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ) ، وقوله : (ذلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) ، وقوله لأيوب ـ عليهالسلام ـ : «وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث» وقد علمنا أن الحنث كان خيرا من تركه ، ولو كان الحنث فيها
كفارتها لما أمر بضربها ، بل كان يحنث بلا كفارة ، وقال عليهالسلام :
__________________
«من حلف على يمين
فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير وليكفّر عن يمينه» .
وأما قولهم : إنّ
الله تعالى لم يذكر الكفارة في قصة أبي بكر ، فإن حكمها كان معلوما عندهم. وأما
قوله عليهالسلام : «وليأت الذي هو خير ، وذلك كفارته» فمعناه : تكفير الذنب
لا أنه الكفارة المذكورة في الكتاب .
فصل
روي عن عائشة أنها
قالت : «فضلت على أزواج النبي بعشر خصال :
تزوج رسول الله بي
بكرا دون غيري ، وأبواي مهاجران ، وجاء جبريل بصورتي وأمره أن يتزوج بي ، وكنت أغتسل معه
في إنائه ، وجبريل ينزل عليه وأنا معه في لحاف ، وتزوج في شوال ، وبنى بي في ذلك
الشهر وقبض بين سحري ونحري ، وأنزل الله عذري من السماء ، ودفن في بيتي ، وكل ذلك لم يساوني
فيه غيري» .
وقال بعضهم : «لقد برّأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) ، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ
مريم بإنطاق ولدها ، وبرأ عائشة بهذه الآيات في كتابه المتلو على وجه الدهر» .
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ)(٢٥)
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) العفائف «الغافلات» عن الفواحش «المؤمنات» والغافلة عن
الفاحشة أي : لا تقع في مثلها ، وكانت عائشة كذلك ، فقال
__________________
بعضهم : الصيغة
عامة ، فيدخل فيه قذفة عائشة وغيرها .
وقيل : المراد
قذفة عائشة.
قالت عائشة : رميت
وأنا غافلة ، وإنما بلغني بعد ذلك ، فبينا رسول الله عندي إذ أوحى إليه ، قال : «أبشري» وقرأ : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ).
وقيل : المراد
جملة أزواج رسول الله ، وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحق به.
واحتج هؤلاء بأمور :
الأول : أن قاذف
سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أول السورة : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا ...).
وأما القاذف في
هذه الآية فإنه لا تقبل توبته لقوله تعالى : (لُعِنُوا فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ولم يذكر استثناء.
وأيضا فهذه صفة
المنافقين في قوله : (مَلْعُونِينَ
أَيْنَما ثُقِفُوا).
الثاني : أن قاذف
سائر المحصنات لا يكفر ، والقاذف في هذه الآية كافر ، لقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ ...) وذلك صفة الكفار والمنافقين لقوله : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ ...) الآيات .
الثالث : أنه قال
: (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) والعذاب العظيم هو عذاب الكفر ، (فدلّ على أن عذاب هذا القاذف عقاب الكفر) . وعقاب قذف سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر.
وروي أن ابن عياش كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يسأل عن تفسير هذه الآية ،
فقال : «من أذنب ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة».
وأجاب الأولون بأن
الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطا بعدم التوبة ، لأن الذنب سواء
كان كفرا أو فسقا ، فإذا تاب عنه صار مغفورا.
__________________
وقيل : هذه الآية
نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد ، فكانت المرأة إذا خرجت إلى
المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا : «إنها خرجت لتفجر» فنزلت فيهم.
قوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ) ، ناصبه الاستقرار الذي تعلق به «لهم» .
وقيل : بل ناصبه «عذاب» . ورد بأنه مصدر موصوف .
وأجيب بأن الظرف
يتّسع فيه ما لا يتّسع في غيره.
وقرأ الأخوان : «يشهد»
بالياء من تحت ، لأن التأنيث مجازي ، وقد وقع الفصل والباقون : بالتاء مراعاة للفظ
.
قوله : «يومئذ» :
التنوين في «إذ» عوض من الجملة تقديره : يومئذ تشهد ، وقد تقدم خلاف الأخفش فيه .
وقرأ زيد بن علي «يوفيهم»
مخففا من «أوفى».
وقرأ العامة بنصب «الحقّ»
نعتا ل «دينهم» .
وأبو حيوة وأبو
روق ومجاهد ـ وهي قراءة ابن مسعود ـ برفعه نعتا لله تعالى .
فصل
قوله (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ).
قال المفسرون :
هذا قبل أن يختم على أفواههم وأيديهم وأرجلهم.
يروى أنه يختم على
الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا.
(يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) جزاءهم الواجب. وقيل : حسابهم العدل ،
__________________
(وَيَعْلَمُونَ أَنَّ
اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا .
وإنما سمّي الله ب
«الحق» لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره .
وقيل : سمّي ب «الحق»
ومعناه : الموجود ، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم ، ومعنى «المبين»: المظهر .
قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ
وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ
لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ)(٢٦)
قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) الآية.
قال أكثر المفسرين
: «الخبيثات» من القول والكلام «للخبيثين» من الناس ، «والخبيثون» من الناس «للخبيثات»
من القول ، «والطيبات» من القول «للطّيّبين» من الناس ، «والطّيّبون» من الناس «للطّيّبات»
من القول.
والمعنى : أنّ
الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس ، والطيّب لا يليق إلا بالطيّب
فعائشة ـ رضي الله عنها ـ لا يليق بها الخبيثات من القول ، لأنها طيبة ، فيضاف
إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها .
وقال الزجاج :
معناه : لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء ، ولا يتكلم بالطيبات إلا
الطيب من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ، ومدح للذين برّأوها بالطهار.
قال ابن زيد :
معناه : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من
النساء ، أمثال عبد الله بن أبيّ والشاكين في الدين ، والطيبات من النساء للطيبين
من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، يريد : عائشة طيبها الله لرسوله الطيب ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «مبرءون» يعني : عائشة وصفوان ، ذكرهما بلفظ الجمع كقوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) أي : أخوان.
وقيل : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ) يعني : الطيبين والطيبات منزهون مما يقولون .
وقيل : الرّمي
تعلق بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبعائشة وصفوان ، فبرأ الله كل واحد منهم .
__________________
وقيل : المراد كل
أزواج الرسول برأهن الله تعالى من هذا الإفك ، ثم قال : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يعني : براءة من الله. وقيل : العفو عن الذنوب. والرزق
الكريم : الجنة.
قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، وأن تكون في محل رفع خبرا
ثانيا .
ويجوز أن يكون «لهم»
خبر «أولئك» (و) «مغفرة» فاعله.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى
أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ
تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ
لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٢٩)
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) الآية.
لما ذكر حكم الرمي
والقذف ذكر ما يليق به ، لأن أهل الإفك (إنما توصلوا) إلى بهتانهم لوجود الخلوة ، فصارت كأنها طريق التهمة ،
فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام ، لأن الدخول
على غير هذا الوجه يوقع التهمة ، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاءبه.
قوله : «تستأنسوا»
يجوز أن يكون من الاستئناس ، لأنّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا ؟ فزال استيحاشه ، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه.
وقيل : من الإيناس
، وهو الإبصار ، أي : حتى تستكشفوا الحال .
وفسره ابن عباس : «حتى
تستأذنوا» وليست قراءة ، وما ينقل عنه أنه قال : «تستأنسوا» خطأ من الكاتب ، إنما
هو (تستأذنوا فشيء مفترى عليه .
وضعفه بعضهم بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي
__________________
صحة القرآن الذي
لم ينقل بالتواتر ، وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه باطل.
وروي عن الحسن
البصري أنه قال : «إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، فالمعنى : حتى تسلموا على أهلها
وتستأنسوا». وهذا أيضا خلاف الظاهر .
وفي قراءة عبد
الله : «حتى تسلموا وتستأذنوا» وهو أيضا خلاف الظاهر .
واعلم أن هذا نظير
ما تقدم في الرعد : (في) (أَفَلَمْ يَيْأَسِ
الَّذِينَ آمَنُوا) وتقدم القول فيه . والاستئناس : الاستعلام (والاستكشاف ، من أنس الشيء : إذا
أبصره ، كقوله : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) ، والمعنى : حتى تستعلموا الحال ، هل يراد دخولكم ؟) قال :
٣٨٢٥ ـ كأنّ رحلي وقد زال النّهار بنا
|
|
يوم الجليل على
مستأنس وحد
|
وقيل : هو من «الإنس»
بكسر الهمزة ، أي : يتعرّف هل فيها إنس أم لا؟
وحكى الطبري أنه
بمعنى : «وتؤنسوا أنفسكم» .
قال ابن عطية :
وتصريف الفعل يأبى أن يكون من «أنس» .
__________________
فصل
قال الخليل :
الاستئناس : الاستبصار من (أنس الشيء إذا أبصره) كقوله : (آنَسْتُ ناراً) أي : أبصرت.
وقيل : هو أن
يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت. وجملة حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام
والاستئذان .
واختلفوا : هل
يقدم الاستئذان أو السلام؟
فقيل : يقدم
الاستئذان ، فيقول : أأدخل ؟ سلام عليكم ، لقوله : (حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا) أي: تستأذنوا (وَتُسَلِّمُوا عَلى
أَهْلِها). والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم ،
أأدخل؟ (لما روي أن رجلا دخل على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يسلم ولم يستأذن ، فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «ارجع فقل : السلام عليكم ، أأدخل» ) وروى ابن عمر أن رجلا استأذن عليه فقال : أأدخل؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم ، فسلّم ،
فأذن له. وقيل : إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلّا قدم الاستئذان ثم يسلم . والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألّا يهجم على ما لا
يحل له أن ينظر إليه من عورة ، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال .
فصل
عدد الاستئذان
ثلاثا لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «الاستئذان ثلاث ، الأولى يستضيئون ، والثانية يستصلحون ، والثالثة يأذنون أو يردون» وعن أبي سعيد الخدري قال : «كنت جالسا في مجلس
الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعا ، فقلنا له : ما أفزعك؟ فقال : أخبرني عمر أن آتيه
فأتيته ، فاستأذنت ثلاثا ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، فقال : ما منعك أن تأتيني؟ فقلت
: قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي ، وقد قال عليهالسلام ـ : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع». فقال : لتأتيني
(على هذا) بالبينة ، أو لأعاقبنك ، فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا
__________________
صغير القوم ، قال
: فقام أبو سعيد ، فشهد له» .
وفي بعض الروايات
أن عمر قال لأبي موسى : لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله .
وعن قتادة : «الاستئذان
ثلاثة : الأول ليسمع الحي ، والثاني ليتهيأ ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ».
وهذا من محاسن
الآداب ، لأنه في أول كرّة ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن ، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع ، فإذا لم
يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع. ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت
ما.
فأما قرع الباب
بعنف ، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام ، لأنه إيذاء ، وكذا قصة بني أسد وما نزل
فيها من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) .
فصل
في كيفية الوقوف على الباب
روى أبو سعيد قال
: استأذن رجل على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو مستقبل الباب ، فقالعليهالسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب» .
وروي أنه عليهالسلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن
من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : «السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها
يومئذ ستور .
فصل
كلمة «حتّى»
للغاية ، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها ، فقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت
إذن.
__________________
والجواب أن الله
تعالى جعل الغاية الاستئناس ، ولا يحصل إلا بعد الإذن.
وأيضا فإنّا علمنا
بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه ، فإنّ ذلك مما
يسوؤه ، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن.
وأيضا قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً
فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)) فمنع الدخول إلا مع الإذن ، فدل على أن الإذن شرط في إباحة
الدخول في الآية الأولى.
وإذا ثبت هذا
فنقول : لا بد من الإذن أو ما يقوم مقامه ، لقوله عليهالسلام «إذا دعي أحدكم
فجاء مع الرسول فإنّ ذلك له إذن» .
وقال بعضهم : إن
من جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان . واعلم أن ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقا سواء كان
الآذن صبيا أو امرأة أو عبدا أو ذميا ، فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة ،
وكذلك قبول إحضار هؤلاء في الهدايا ونحوها.
فصل
ويستأذن على
المحارم ، لما روي أن رجلا سأل النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : «أأستأذن على أختي؟» فقال عليهالسلام : «نعم ، أتحب أن تراها عريانة؟» وسأل رجل حذيفة : «أأستأذن على أختي؟» فقال : «إن لم
تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك». ولعموم قوله : «وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم
فليستأذنوا» إلا أنّ ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز أيسر
لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوه .
فصل
إذا اطلع إنسان في دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر ، لقوله عليهالسلام : «من اطّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت
عينه» .
__________________
وقال أبو بكر
الرازي : هذا الخبر ورد على خلاف قياس الأصول ، فإنه لا خلاف أنه
لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامنا ، وكان عليه القصاص إن كان عامدا ،
والأرش إن كان مخطئا ، والداخل قد اطّلع وزاد على الاطلاع ، فظاهر
الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق ، فإن صحّ فمعناه : من اطلع في دار قوم ونظر
إلى حرمهم فمنع فلم يمتنع فذهب عينه في حال الممانعة فهي هدر ، فأما إذا لم يكن
إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى : (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلى قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).
وأجيب بأن التمسك
بقوله : «العين بالعين» ضعيف ، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن
العين مستحقة ، فإنه لو كانت مستحقة القصاص ، فلم قلت : إن من اطّلع في دار إنسان
لم تكن عينه مستحقة؟
وأما قوله : إنه
لو دخل لم يجز فقء عينه ، فكذا إذا نظر.
والفرق بينهما أنه
إذا دخل ، علم القوم بدخوله عليهم ، فاحترزوا عنه وتستروا ، فأما إذا نظر فقد لا
يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه ، فلا يبعد
في حكم الشرع أن يبالغ هنا في الزجر حسما لهذه المفسدة.
وأيضا فردّ حديث
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بهذا القدر من الكلام ليس جائزا .
فصل
إذا عرض أمر في
دار من حريق أو هجوم سارق ، أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟ فقيل : كل ذلك مستثنى
بالدليل .
فأما السلام فهو
من سنة المسلمين التي أمروا بها ، وهو تحية أهل الجنة ، ومجلبة
للمودة ، وناف للحقد والضغائن.
قال عليهالسلام : «لمّا خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله
، فحمد الله بإذن الله ، فقال له الله : يرحمك ربك يا آدم ، اذهب إلى هؤلاء
الملائكة
__________________
(وهم) ملأ منهم جلوس فقل : السلام عليكم ، فلما فعل ذلك رجع إلى
ربه قال : هذه تحيتك وتحية ذريتك» وعن عليّ بن أبي طالب قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «حق المسلم على المسلم ست : يسلّم عليه إذا لقيه ،
ويجيبه إذا دعاه ، وينصح له بالغيب ، ويشمّته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويشهد جنازته إذا مات» .
وعن ابن عمر قال :
قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إن سرّكم أن يسل الغل من صدوركم فأفشوا السلام بينكم» .
قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).
أي : إن فعل ذلك
خير لكم وأولى بكم من الهجوم بغير إذن (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) أي : لتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها) أي : فإن لم تجدوا في البيوت «أحدا» يأذن لكم في دخولها (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ
لَكُمْ) لجواز أن يكون هناك أحوال مكتومة ، (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا
فَارْجِعُوا) وذلك أنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار ، فكذلك
الوقوف على الباب قد يكرهه ، فلا جرم كان الأولى له أن يرجع (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي : الرجوع هو أطهر وأصلح لكم.
قال قتادة : إذا
لم يؤذن له فلا يقعد على الباب ، فإنّ للناس حاجات ، وإذا حضر فلم يستأذن وقعد على
الباب منتظرا جاز.
كان ابن عباس يأتي
الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب (حتى يخرج) ولا يستأذن ، فيخرج الرجل ويقول : «يا ابن عم رسول الله لو
أخبرتني» فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم. وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا
كان الباب مردودا لما روي أن رجلا اطلع على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من ستر الحجرة ، وفي يد النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مدراء ، فقال : «لو علمت أن هذا ينظرني حتى آتيه لطعنت بالمدراء في عينه
، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر»؟ .
قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي : من الدخول بالإذن وغير الإذن.
ولما ذكر الله
تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير
__________________
مسكونة فقال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ).
قال المفسرون :
لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى
ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله عزوجل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ). أي : بغير استئذان (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي : منفعة لكم .
قال محمد ابن
الحنفية : إنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين .
وقال ابن زيد : هي
بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء ، وهو المنفعة قال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن .
وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم ، أأدخل؟ ثم
يلج .
وقال عطاء : هي
البيوت الخربة ، و «المتاع» هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط . وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها .
وقيل : هي
الحمامات .
وروي أن أبا بكر
قال : يا رسول الله ، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان ، وإنا نختلف في
تجارتنا فننزل هذه الخانات ، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية .
والأصح أنه لا
يمتنع دخول الجميع تحت الآية ، لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة ، فإن
لم يخف ذلك فله الدخول ، لأنه مأذون فيها عرفا.
(وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وهذا وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل
الريبة .
قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ
بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ
__________________
أَوْ
بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ
جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣١)
قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ) الآية. الغض : إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية. قال :
٣٨٢٦ ـ فغضّ الطّرف إنّك من نمير
|
|
فلا كعبا بلغت
ولا كلابا
|
وفي «من» أربعة
أوجه :
أحدها : أنها
للتبعيض ، لأنه يعفى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد .
والثاني : لبيان
الجنس ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر من حيث إنّه لم يتقدّم مبهم يكون مفسّرا ب «من».
الثالث : أنها
لابتداء الغاية ، قاله ابن عطية .
الرابع : قال
الأخفش : إنها مزيدة .
فصل
قال الأكثرون :
المراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل .
فإن قيل : كيف دخلت
«من» في غض البصر دون حفظ الفرج؟
فالجواب : أن ذلك
دليل على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن ، وكذا الجواري المستعرضات ، وأما أمر
الفروج فمضيق.
وقيل : معنى (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي : ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو
مغضوض.
وعلى هذا «من»
ليست زائدة ، ولا هي للتبعيض ، بل هي صلة للغض ، يقال : غضضت من فلان : إذا نقصت
منه .
فصل
العورات تنقسم
أربعة أقسام :
__________________
عورة الرجل مع
الرجل.
وعورة المرأة مع
المرأة.
وعورة المرأة مع
الرجل.
وعورة الرجل مع
المرأة.
أما الرجل مع
الرجل ، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة ، وهي ما بين السرة والركبة ،
والسرة والركبة ليسا بعورة.
وعند أبي حنيفة : الركبة عورة.
وقال مالك : «الفخذ
ليس بعورة».
وهو مردود بقوله عليهالسلام : «غطّ فخذك فإنّها من العورة» .
وقوله لعلي : «لا
تبرز فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميّت» .
فإن كان أمر ولم
يحل النظر إلى وجهه ، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة ، ولا يجوز للرجل مضاجعة
الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليهالسلام
: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد ، ولا تفضي إلى
المرأة إلى المرأة في ثوب واحد». وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة لما روي عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا
يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال : لا. قال : أيلزمه ويقبله؟ قال : لا. قال :
أفيأخذ يده فيصافحه؟ قال : نعم .
ونهى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن المكاعمة والمكامعة ، وهي : معانقة الرجل للرجل وتقبيله.
وأما عورة المرأة
مع المرأة ، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء.
والذمية هل يجوز
لها النظر إلى بدن المسلمة؟ فقيل : هي كالمسلمة مع المسلمين.
__________________
والصحيح أنه لا
يجوز لها (النظر) لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى : (أَوْ نِسائِهِنَّ) وليست الذمية من نسائنا .
وأما عورة المرأة
مع الرجل ، فإما أن تكون (أجنبية ، أو ذات محرم ، أو مستمتعة. فإن كانت أجنبية
فإما أن تكون حرة أو أمة. فإن كانت) حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين ، لأنها تحتاج إلى
إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء ، والمراد : الكف إلى
الكوع . واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام :
إما ألّا يكون فيه
غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون لشهوة. فإن كان لغير غرض فلا يجوز
النظر إلى وجهها ، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ). وقيل : يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة ، وبه قال أبو
حنيفة. ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليهالسلام : «لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» .
وقال جابر : سألت
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن نظر الفجاءة ، فأمرني أن أصرف بصري . فإن كان فيه غرض ولا فتنة ، وهو أمور :
أحدها : أن يريد
نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيها لقول رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ للرجل الذي سأله أن يتزوج امرأة من الأنصار : «انظر
إليها ، فإنّ في أعين الأنصار شيئا» وقال عليهالسلام : «إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا
كان ينظر إليها للخطبة» .
وقال المغيرة بن
شعبة : خطبت امرأة ، فقال عليهالسلام : نظرت إليها؟ فقلت :
__________________
لا. قال : فانظر فإنه أحرى أن يؤدم (بينكما) .
وذلك يدل على جواز
النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن .
وثانيها : أنه إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة.
وثالثها : عند
المبايعة ينظر إلى وجهها متأملا حتى يعرفها عند الحاجة.
ورابعها : ينظر
إليها عند تحمل الشهادة ، ولا ينظر إلى غير الوجه. فإن كان النظر لشهوة فهو محرم لقوله عليهالسلام : «العينان تزنيان» .
وأما النظر إلى
بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور :
أحدها : يجوز للطيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان ، ينظر إلى
فرج المختون للضرورة.
وثانيها : أن
يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا ، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على
الولادة ، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع.
وقال بعض العلماء
لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع ، لأن الزنا مندوب إلى ستره ، وفي
الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء ، فلا حاجة إلى نظر الرجال.
وثالثها : لو وقعت
في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها . فإن كانت الأجنبية أمة فقيل : عورتها ما بين السرة
والركبة.
وقيل : عورتها ما
لا يبين في المهنة ، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه
بحال إلا لحاجة ، لأن اللمس أقوى من النظر ، لإن الإنزال باللمس يفطر الصائم
وبالنظر لا يفطره .
__________________
فصل
فإن كانت المرأة
ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل. وقيل: عورتها
ما لا يبدو عند المهنة ، وهو قول أبي حنيفة. وستأتي بقية التفاصيل ـ إن شاء الله
تعالى ـ في تفسير الآية .
فصل
فإن كانت المرأة
مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها
حتى الفرج ، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه ، لأنه يروى أنه يورث
الطمس .
وقيل : لا يجوز (النظر)
إلى فرجها ، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قنّ أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة.
فإن كانت مجوسية ،
أو مرتدة ، أو وثنية ، أو مشتركة بينه وبين غيره ، أو مزوجة ، أو مكاتبة فهي
كالأجنبية لقول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «إذا زوّج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فعورته معها ما
بين السرة والركبة» .
فصل
فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف
الفتنة ، ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روت أم سلمة أنّها كانت عند رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وميمونة ، إذ أقبل ابن أم مكتوم ، فقال : «احتجبا عنه» فقالت : يا
رسول الله ، أليس هو
__________________
أعمى لا يبصرنا؟
فقال عليهالسلام : «أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه»؟ . وإن كان محرما لها فعورته ما بين السرة والركبة.
وإن كان زوجها أو
سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه ، غير أنه يكره النظر إلى الفرج
كهو معها .
فصل
ولا يجوز للرجل أن
يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته ، لأنه عليهالسلام سئل عنه فقال : «الله أحق أن يستحيى منه» وقال عليهالسلام : «إيّاكم والتّعرّي ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند
الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله » .
قوله : (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي : عما لا يحل.
وقال أبو العالية
: كلّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به
الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.
وهذا ضعيف ، لأنه
تخصيص من غير دليل ، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من
الزنا واللمس والنظر .
قوله : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ).
أي : غض البصر
وحفظ الفرج أزكى لهم ، أي : خير لهم وأطهر (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) عليم بما يفعلون.
قوله : (وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) الكلام فيه كما تقدم وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد
الزنا ، والبلوى فيه أشد وأكثر ، ولا يكاد يقدر على الاحتراز منه .
قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، والمراد بالزينة : الخفية
، وهما زينتان : خفية وظاهرة. فالخفية : مثل الخلخال والخضاب في الرّجل ،
__________________
والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها.
والمراد بالزينة : موضع الزينة.
وقيل : المراد
بالزينة : محاسن الخلق التي خلقها الله ، وما تزين به الإنسان من فضل لباس ، لأن كثيرا من النساء ينفردن بخلقهنّ من سائر ما يعدّ
زينة ، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقه ، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة
فيه ، ولأنّ قوله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلى جُيُوبِهِنَّ) يدل على أن المراد من الزينة ما يعم الخلقة وغيرها ،
فكأنها تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن ، موجبا سترها بالخمار .
قوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها). أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال : معنى
الآية : إلا ما يظهره الإنسان في العادة ، وذلك من النساء : الوجه والكفان ، ومن
الرجال : الوجه واليدان والرجلان ، فرخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه ، وأدت الضرورة
إلى إظهاره ، وأمرهم بستر ما لا ضرورة في كشفه. ولما كان ظهور الوجه والكفين ضرورة
لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة.
وأما القدم فليس ظهوره ضروريا فلا جرم اختلفوا فيه هل هو من العورة أم
لا؟ والصحيح أنه عورة. وفي صوتها وجهان :
أصحهما ليس بعورة
، لأن نساء النبي ـ عليهالسلام ـ كن يروين الأخبار للرجال.
وأما الذين حملوا
الزينة على ما عد الخلقة ، قالوا : إنه تعالى إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال (انفصالها
عن أعضاء المرأة ، فلما حرم الله النظر إليها حال) اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى
أعضاء المرأة. وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوشمة والغمرة ، وزينة بدنها من
__________________
الخضاب والخواتيم
والثياب ، لأن سترها فيه حرج ، لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها ،
والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة والمحاكمة والنكاح .
قال سعيد بن جبير
والضحاك والأوزاعي : «الزينة الظاهرة التي استثنى الله الوجه والكفان».
وقال ابن مسعود :
هي الثياب ، لقوله تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وقال الحسن :
الوجه والثياب .
وقال ابن عباس :
الكحل والخاتم والخضاب في الكف . فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر
إليها إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئا منها غض البصر .
فصل
واتفقوا على تخصيص
قوله : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر ، لأن الأمة مال ،
فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها ، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على
الاستقصاء .
قوله : «وليضربن».
ضمن «يضربن» معنى «يلقين» فلذلك عداه ب «على» . وقرأ أبو عمرو في رواية بكسر لام الأمر .
وقرأ طلحة : «بخمرهنّ»
بسكون الميم . وتسكين «فعل» في الجمع أولى من تسكين المفرد. وكسر الجيم
من «جيوبهنّ» ابن كثير والأخوان وابن ذكوان .
والخمر : جمع خمار
، وفي القلة يجمع على أخمرة. قال امرؤ القيس :
__________________
٣٨٢٧ ـ وترى الشّجراءفي
ريّقه
|
|
كرؤوس قطعت فيها
الخمر
|
والجيب : ما في
طوق القميص يبدو منه بعض الجسد.
فصل
قال المفسرون :
إنّ نساء الجاهلية كنّ يسدلن خمرهن من خلفهن ، وإن جيوبهن كانت من قدام ، وكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن.
قالت عائشة : رحم الله نساء المهاجرات الأوّل ، لما أنزل الله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى
جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها .
قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يعني الزينة الخفية التي لم يبح لهنّ كشفها في الصلاة ولا
للأجانب ، وهو ما عد الوجه والكفين (إِلَّا
لِبُعُولَتِهِنَّ) قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب والخمار إلا
لأزواجهنّ (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ
آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ أَوْ بَنِي
أَخَواتِهِنَّ) فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظروا إلى ما بين السرة
والركبة إلا الزوج فإنه يجوز له أن ينظر على ما تقدم ، وهؤلاء محارم.
فإن قيل : أيحل
لذي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل في المؤمنة؟
فالجواب : إذا ملك
المرأة من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة فإن قيل : فما القول في العم والخال؟
فالجواب : أن
الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر ، وهو قول الحسن البصري قال :
لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع ، وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) الآية» ولم يذكر فيها البعولة ، وقد ذكره هنا.
__________________
وقال الشعبي :
إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفها العم عند ابنه ، والخال كذلك.
والمعنى : أن سائر
القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وابناهما ، وإذا رآها
الأب وصفها لابنه وليس بمحرم ، وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن
في النسب .
فصل
والسبب في إباحة
نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم
في الأسفار في النزول والركوب .
قوله : (أَوْ نِسائِهِنَّ).
قال أكثر المفسرين
: المراد اللّائي على دينهن.
قال ابن عباس :
ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ، ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها.
وكتب عمر إلى أبي
عبيدة أن تمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقيل : المراد ب «نسائهنّ»
جميع النساء.
وهذا هو الأولى ،
وقول السلف محمول على الاستحباب .
قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ). وهذا يشمل العبيد والإماء ، واختلفوا في ذلك : فقال قوم :
عبد المرأة محرم لها يجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا ، وأن ينظر إلى بدن
مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم ، وهو ظاهر القرآن ، وهو مروي عن عائشة
وأم سلمة. وروي أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت
به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما تلقى قال : «إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغلامك»
. وعن مجاهد : «كنّ أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم». وكانت عائشة تمتشط والعبد ينظر إليها.
وقال ابن مسعود
والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته. وهو قول أبي
حنيفة .
__________________
وقال ابن جريج :
المراد من الآية : الإماء دون العبيد ، وأن قوله : (أَوْ نِسائِهِنَّ
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين امرأة مشركة إلا أن
تكون تلك المشركة أمة لها .
قوله : (أَوِ التَّابِعِينَ
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ).
قرأ ابن عامر وأبو
بكر : «غير» نصبا ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه
استثناء.
وقيل : على القطع ، لأن «التّابعين» معرفة و «غير» نكرة.
والثاني : أنه حال
. والباقون : «غير» بالجر نعتا ، أو بدلا ، أو بيانا.
والإربة : الحاجة.
وتقدم اشتقاقها في «طه» .
(قوله : «من
الرّجال» حال من «أولي» ) .
فصل
المراد ب (التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ).
قال مجاهد وعكرمة
والشعبي : هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم ، لا همة لهم إلا ذلك ،
ولا حاجة لهم في النساء.
وعن ابن عباس :
أنه الأحمق العنين.
وقال الحسن : «هو
الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن».
وقال سعيد بن جبير
: المعتوه . وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو
__________________
المخنّث . وقال مقاتل : هو الشيخ الهم والعنّين والخصيّ والمجبوب
ونحوه .
واعلم أن الخصيّ
والمجبوب ومن يشاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ، ويكون له إربة فيما
عداه من التمتع ، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد ، فيجب أن يحمل المراد على من لا
إربة له في سائر وجوه التمتع لما روت عائشة قالت : كان رجل مخنّث يدخل على أزواج
النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يوما وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة فقال : إنها
إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان . فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «ألا أرى هذا يعلم ما ههنا ، لا يدخلنّ هذا» فحجبوه .
وفي رواية عن زينب
بنت أم سلمة أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ دخل عليها وعندها مخنّث ، فأقبل على أخي أم سلمة ، فقال
: «يا عبد الله ، إن فتح الله غدا لكم الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل
بأربع وتدبر بثمان». فقال عليهالسلام : «لا يدخلنّ عليكم هذا» فأباح رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ دخول المخنث عليهن ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء
وأوصافهنّ علم أنه من أولي الإربة ، فحجبه .
وفي الخصيّ
والمجبوب ثلاثة أوجه :
أحدها : استباحة
الزينة الباطنة.
والثاني : تحريمها.
(والثالث :
تحريمها) على المخصيّ دون المجبوب .
قوله : أو الطّفل الّذين لم يظهروا».
تقدم في الحج أن الطفل يطلق على المثنى والمجموع ، فلذلك وصف بالجمع.
وقيل : لما قصد به
الجنس روعي فيه الجمع كقولهم : «أهلك النّاس الدّينار الحمر والدّرهم البيض» . و «عورات» جمع عورة ، وهو ما يريد الإنسان ستره من بدنه ،
وغلب في السّوأتين. والعامة على «عورات» بسكون الواو ، وهي لغة عامة العرب ،
__________________
سكنوها تخفيفا
لحرف العلة. وقرأ ابن عامر في رواية «عورات» بفتح الواو .
ونقل ابن خالويه
أنها قراءة ابن أبي إسحاق والأعمش ، وهي لغة هذيل بن مدركة . قال الفراء : وأنشد في بعضهم :
٣٨٢٨ ـ أخو بيضات رائح متأوّب
|
|
رفيق بمسح
المنكبين سبوح
|
وجعلها ابن مجاهد
لحنا وخطأ ، يعني : من طريق الرواة ، وإلا فهي لغة ثانية .
فصل
الظهور على الشيء
يكون بمعنى العلم به ، كقوله تعالى : (إِنَّهُمْ إِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي : يشعروا بكم. ويكون بمعنى الغلبة عليه ، كقوله : (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ).
فلهذا قال مجاهد
وابن قتيبة : معناه : لم يطلعوا على عورات النساء ، ولم يعرفوا العورة من غيرها من
الصغر .
وقال الفراء والزجاج : لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء .
وقيل : لم يبلغوا
حدّ الشهوة.
__________________
فصل
فأما المراهق
فيلزم المرأة أن تستر منه ما بين سرتها وركبتها ، وفي لزوم ستر ما عداه وجهان :
الأول : لا يلزم ،
لأن القلم غير جار عليه.
والثاني : يلزم
كالرجل ، لأنه مشتهى ، والمرأة قد تشتهيه ، واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم وأما الشيخ فإن بقيت له شهوة فهو كالشاب ، وإن لم تبق له
شهوة ففيه وجهان :
أحدهما : أن
الزينة الباطنة معه مباحة ، والعورة معه ما بين السرة والركبة.
والثاني : أن جميع
البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة.
وههنا آخر الصور
التي استثناها الله تعالى ، (والرضاع كالنسب) .
قوله : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).
قال ابن عباس
وقتادة : كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخالها ، فنهين عن ذلك ؛ لأن الذي تغلب عليه شهوة
النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة إلى مشاهدتهن ، وعلل تعالى
ذلك بقوله : (لِيُعْلَمَ ما
يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) وفي الآية فوائد :
الأولى : لما نهي
عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة ، فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة
أولى.
الثانية : أن
المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب ، إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة (من صوت خلخالها ، ولذلك كرهوا
أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت ، والمرأة منهية عنه.
الثالثة : تدل على
تحريم النظر إلى وجهها بشهوة ، لأن ذلك أقرب إلى الفتنة) .
قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ). قال ابن عباس : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا
والآخرة . وقيل : توبوا من
__________________
التقصير الواقع
منكم في أمره ونهيه. وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب
المذكورة في هذه السورة.
قوله : (أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ). العامة على فتح الهاء وإثبات ألف بعد الهاء ، وهي «ها» التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف «يأيه الساحر» وفي الرحمن (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) بضم الهاء وصلا ، فإذا وقف سكن .
ووجهها : أنه لما حذفت الألف لالتقاء الساكنين استحقت الفتحة على
حرف خفي ، فضمت الهاء إتباعا. وقد رسمت هذه المواضع الثلاثة دون ألف ، فوقف أبو
عمرو والكسائي بألف والباقون بدونها اتباعا للرسم ، ولموافقة الخط للفظ . وثبتت في غير هذه المواضع حملا لها على الأصل نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) وبالجملة فالرسم سنة متبعة.
قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٣٢)
قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ).
لما أمر تعالى بغض
الأبصار وحفظ الفروج بيّن بعده أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل ، ثم ذكر بعد ذلك
طريق الحلّ فقال : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ). الأيامى : جمع أيّم ب «زنة» : «فيعل» ،
يقال منه : آم يئيم كباع يبيع ، قال الشاعر :
٣٨٢٩ ـ كلّ امرىء ستئيم من
|
|
ه العرس أو منها
يئيم
|
وقياس جمعه :
أيائم ، كسيّد وسيائد. و «أيامى» فيه وجهان :
__________________
أظهرهما من كلام
سيبويه أنه جمع على «فعالى» غير مقلوب ، وكذلك «يتامى» .
وقيل : إن الأصل «أيايم»
و «يتايم» و «يتيم» (فقلبا) .
والأيّم : (من لا
زوج له) ذكرا كان أو أنثى . قال النضر بن شميل : الأيّم في كلام العرب : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر
معها. وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك ، يقول : زوجوا أياماكم بعضكم من بعض . وخصّه أبو بكر الخفّاف بمن فقدت زوجها ، فإطلاقه على البكر مجاز . وقال الزمخشري : «تأيّما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو
ثيّبين» ، وأنشد :
٣٨٣٠ ـ فإنّ تنكحي أنكح وإن تتأيّمي
|
|
وإن كنت أفتى
منكم أتأيّم
|
وعن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «اللهم إني أعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكرم
والقرم» . العيمة ـ بالمهملة : شدة شهوة اللبن . وبالمعجمة : شدة العطش . والأيمة : طول العزبة . والكرم : شدة شهوة الأكل والقرم : شدة شهوة
__________________
اللحم و «منكم» حال.
وكذا «من عبادكم».
فصل
قوله : «وأنكحوا»
أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فدلّ على أن الولي يجب عليه تزويج موليته ، (وإذا ثبت
هذا وجب ألا يكون النكاح إلا بولي ، لأن كل ما وجب على الولي حكم بأنه لا يصح من
المولية) ، ولأن المولية لو فعلت ذلك لفوّتت على الولي تمكنه من
أداء هذا الواجب ، وأنه غير جائز ، ولم تطابق قوله عليهالسلام : «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه ، إلّا تفعلوا
تكن فتنة في الأرض» . قال أبو بكر الرازي : هذه الآية وإن اقتضت الإيجاب ، إلا
أنه أجمع السلف على أنه لا يراد الإيجاب ، ويدل عليه أمور :
أحدها : أنه لو
كان ذلك واجبا لنقل عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعن السلف
مستفيضا ، لعموم الحاجة إليه ، فلما علمنا أن سائر الأعصار كانت فيهم أيامى من
الرجال والنساء ولم ينكروا ذلك ، ثبت أنه لم يرد الإيجاب.
وثانيها : أجمعنا
على أن الأيّم الثيّب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه.
وثالثها : اتفاق
الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده ، وهو معطوف على الأيامى ، فدل
على أنه غير واجب في الجميع ، بل ندب في الجميع .
ورابعها : أن اسم
الأيامى يشمل الرجال والنساء ، وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم ،
كذلك في النساء.
والجواب : أن جميع
ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية ، والعام بعد التخصيص حجة ، فوجب إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب ، وحينئذ ينتظم الكلام.
فصل
قال الشافعي :
الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها ، لأن الآية والحديث يدلّان على
أمر الولي بتزويجها. ولو لا قيام الدلالة على أنه تزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا
له تزويجها أيضا لعموم الآية .
__________________
فصل
الناس في النكاح
قسمان :
الأول : من تتوق
نفسه للنكاح ، فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبته سواء كان مقبلا على العبادة أو لم
يكن ، ولكن لا يجب ، وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم لقوله عليهالسلام : «يا معشر الشّباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ،
فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فليصم فإنّه له وجاء» .
الثاني : من لا
تتوق نفسه للنكاح ، فإن كان لعلة من كبر أو مرض أو عجز فيكره له ، لأنه
يلتزم ما لا يمكنه القيام به ، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة.
وإن لم يكن به عجز
وكان قادرا على القيام بحقه لم يكره له النكاح ، لكن الأفضل أن يتخلّى للعبادة ،
لأن الله تعالى مدح يحيى بكونه (حَصُوراً) ، والحصور : الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ ، ولا
يقال : هو الذي لا يأتي النساء مع العجز ؛ لأن مدح الإنسان بما يكون عيبا غير جائز
، وإذا كان مدحا في حق يحيى وجب أن يشرع في حقنا ، لقوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، ولا يحمل الهدى على الأصول ، لأن التقليد فيها غير جائز
، فوجب حمله على الفروع. وقال عليهالسلام : «اعلموا أن خير أعمالكم الصّلاة» وقال عليهالسلام : «أفضل أعمال أمّتي قراءة القرآن» . وقال أبو حنيفة : النكاح أفضل لقوله عليهالسلام : «أحبّ المباحات إلى الله النكاح» لأن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا ، فيكون دفعا للضرر عن
النفس. والنافلة :
__________________
جلب نفع. ودفع
الضرر أولى من جلب النفع. وأجيب بأن يحمل الأحب على الأصلح في الدنيا ، لئلا يقع
التناقض بين كونه أحبّ وبين كونه مباحا. والمباح : ما يستوي طرفاه في الثواب
والعقاب.
والمندوب : ما
ترجّح وجوده على عدمه ، فتكون العبادة أفضل. وبقية المباحث مذكورة في كتب الفقه .
قوله : «منكم» أي
: زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم.
وقيل : أراد
الحرية والإسلام .
وقوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ
وَإِمائِكُمْ) ظاهره يقتضي الأمر بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين.
وخصّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن الصالحين منهم هم
الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في المودّة ، فكانوا مظنة للتوصية والاهتمام
بهم. ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك.
وقيل : أراد
الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها ، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج.
وقيل : أراد بالصلاح ألا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح .
فصل
ظاهر الآية يدل
على أنّ العبد لا يتزوج بنفسه ، وإنما يتولى تزويجه مولاه ، لكن ثبت بالدليل أنه
إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه ، فيكون توليه بإذنه بمنزلة تولي
السيد. فأما الإماء فإنّ المولى يتولى تزويجهنّ خصوصا على قول من لا
يجوّز النكاح إلا بوليّ .
فصل
الولي شرط في صحة
النكاح لقوله عليهالسلام : «لا نكاح إلّا بوليّ» .
وقال عليهالسلام : «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل» ثلاثا
، فإن
__________________
أصابها فلها المهر
بما استحلّ من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان وليّ (من لا وليّ له) . قوله : «إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله» الأصح أن هذا ليس وعدا بإغناء من يتزوج ، بل المعنى : لا تنظروا
إلى فقر من يخطب إليكم ، أو فقر من تريدون تزويجها ، ففي فضل الله ما يغنيهم ،
والمال غاد ورائح ، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح ، فهذا معنى صحيح ،
وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف . وروي عن قدماء الصحابة ما يدلّ على أن ذلك وعد ، فروي عن
أبي بكر قال : «أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى».
وعن عمر وابن عباس مثله. وشكى رجل إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الحاجة ، فقال : «عليك بالباءة» وقال طلحة بن مصرّف : تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم ،
وأوسع في أخلاقكم ، ويزيد الله في مروءتكم. فإن قيل : فنحن نرى من كان غنيا فتزوج فيصير
فقيرا؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا
الوعد مشروط بالمشيئة في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) والمطلق يحمل على المقيد.
وثانيها : أن
اللفظ وإن كان عامّا إلا أنه يخصّ بعض المذكورين دون البعض ، وهو في الأيامى الأحرار الذين
يملكون فيستغنون بما يملكون.
وثالثها : المراد
بالغنى : العفاف ، فيكون الغنى هنا معناه : الاستغناء بالنكاح عن الوقوع في الزنا.
فصل
استدل بعضهم بهذه
الآية على أن العبد والأمة يملكان ، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم ، فاقتضى أن
العبد قد يكون فقيرا وغنيا ، وذلك يدل على الملك ، فثبت أنهما يملكان. والمفسرون
تأولوه على الأحرار خاصة ، فقالوا : هو راجع إلى الأيامى ، وإن فسرنا الغنى
بالعفاف سقط استدلالهم .
__________________
وقوله : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي يوسع عليهم من إفضاله ، «عليم» بمقادير ما يصلحهم من
الإفضال والرزق .
قوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا
يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا
تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٣)
قوله : (وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) الآية .
لما ذكر تزويج
الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال : (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي : وليجتهد في العفة ، كأن المستعفف طالب من نفسه
العفاف.
وقوله : «لا يجدون
نكاحا» أي : لا يتمكنون من الوصول إليه ، يقال : لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن
منه ، قال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) ويقال : هو غير واجد للماء وإن كان موجودا ، إذا لم يمكنه أن يشتريه. ويجوز أن يراد
بالنكاح : ما ينكح به من المال ، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف
ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح. فإن قيل : أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح؟
قلنا : لكن من لم
يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى .
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ ...) الآية» لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد
والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحرارا فيتصرفون في
أنفسهم كالأحرار ، فقال : (وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ). يجوز في الذين الرفع على الابتداء ، والخبر الجملة
المقترنة بالفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.
ويجوز نصبه بفعل
مقدر على الاشتغال ، كقولك : «زيدا فاضربه» وهو أرجح لمكان الأمر. والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة
، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه :
__________________
أحدها : أن أصل
الكلمة من الكتب ، وهو الضم والجمع ، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض ، وتضم ماله إلى ماله.
وثانيها : مأخوذ
من الكتاب ، ومعناه : كتبت لك على نفسي (أن تعتق إذا وفيت بمالي
وكتبت لي على نفسي) أن تفي لي بذلك ، أو كتبت عليك الوفاء بالمال ، وكتبت عليّ العتق ، قاله الأزهري .
وثالثها : سمي
بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه ، لأنه لا يجوز أن يقع على مال
هو في يد العبد حين يكاتب ، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير
مقبوضة عن كسبه ، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالا ، بل يقع مؤجلا ،
ليكون متمكنا من الاكتساب. ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل
كتاب ، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتابا لما فيه من الأجل ، قال تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ).
فصل
قال بعض العلماء :
الكتابة أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا ، ويسمي مالا معلوما ، يؤديه في نجمين أو
أكثر ، ويبين عدد النجوم ، وما يؤدي في كل نجم ، ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت
حر ، أو ينوي ذلك بقلبه ، ويقول العبد : قبلت .
فإذا لم يقل بلسانه
، أو لم ينو بقلبه : إذا أديت ذلك فأنت حر ، لم يعتق .
وقال مالك وأبو
حنيفة وأصحابه : لا حاجة إلى ذلك ، لأن قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) ليس فيه شرط ، فتصح الكتابة بدون هذا الشرط ، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء
للإجماع. واحتج الأولون بأن الكتابة ليست عقد معاوضة
__________________
محضة ، لأن ما في
يد العبد ملك للسيّد ، والإنسان لا يبيع ملكه بملكه ، بل قوله : «كاتبتك» كناية في
العتق ، فلا بد من لفظ التعليق أو نيته .
فصل
لا تجوز الكتابة الحالّة ، لأن العبد ليس له ملك يؤديه في الحال ، وإذا
عقدت حالّة توجهت المطالبة عليه في الحال ، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل العقد ،
كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح ، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه
يجوز لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن ، فالعجز لا يتحقق. وقال أبو حنيفة : تجوز لقوله تعالى (فَكاتِبُوهُمْ) ، وهو مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة. وأيضا فمال
الكتابة بدل عن الرقبة ، فهو بمنزلة أثمان السلع المبيعة ، فتجوز حالة.
وأيضا فأجمعوا على جواز العتق مطلقا على مال حال ، فالكتابة مثله لأنه بدل عن
العتق في الحالين ، إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط العبادة وفي الآخر معجل ،
فوجب أن لا يختلف حكمهما .
فصل
لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين ، لأنه يروى عن عليّ وعثمان وابن عمر ،
روي أن عثمان غضب على عبده فقال : «لأضيقن عليك ، ولأكاتبنك على نجمين» ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل ، لأن
التضييق فيه أشد ، وإنما شرطنا التنجيم ، لأنه عقد إرفاق ، ومن شرط الإرفاق :
التنجيم ليتيسر عليهم الأداء.
وقال أبو حنيفة :
تجوز الكتابة على نجم واحد ، لأن ظاهر قوله : «كاتبوهم» ليس فيه تقييد.
فصل
يشترط أن يكون
المكاتب بالغا عاقلا. فإن كان صبيا أو مجنونا لم تصح كتابته لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) والابتغاء لا يتصور من الصبي والمجنون.
وقال أبو حنيفة :
تجوز كتابة الصبي ، ويقبل عنه (المولى) .
فصل
ويشترط أن يكون
السيد مكلفا مطلقا. فإن كان صبيا أو محجورا عليه لسفه لم
__________________
تصح كتابته ، كما
لا يصح بيعه ، لأن قوله : (فَكاتِبُوهُمْ) خطاب ، فلا يتناول غير المكلف.
وقال أبو حنيفة :
تصحّ كتابة الصبيّ بإذن الوليّ .
فصل
اختلفوا في قوله
تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) هل هو أمر إيجاب أو ندب؟ فقيل : أمر إيجاب ، فيجب على
السيد أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيرا ، فإن سأله
بدون قيمته لم يلزمه ، وهذا قول ابن دينار وعطاء ، وإليه ذهب داود بن عليّ ومحمد بن جرير لظاهر الآية ، وأيضا فلأن سبب نزولها إنما نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له : «صبيح» سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى
عليه ، فنزلت الآية ، فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا وروي أن عمر أمر أنسا بأن يكاتب
سيرين (أبا محمد بن سيرين) فأبى ، فرفع عليه الدّرّة وضربه ، وقال : «فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا» وحلف عليه
ليكاتبنه ، ولو لم يكن واجبا لكان ضربه بالدرة ظلما ، ولم ينكر عليه أحد من
الصحابة ، فجرى ذلك مجرى الإجماع. وقال أكثر الفقهاء : إنه أمر استحباب ، وهو ظاهر
قول ابن عباس والحسن والشعبي ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد
لقوله عليهالسلام : «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه» . ولأنه لا فرق بين أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه
في الكفارة ، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة فإن قيل : كيف يصح أن يبيع ماله بماله؟
فالجواب : إذا ورد
الشرع به جاز ، كما إذا علق عتقه على مال يكسبه فيؤديه أو يؤدى عنه صار سببا لعتقه
.
فإن قيل : هل
يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لو لا الكتابة؟
فالجواب : نعم ،
لأنه لو دفع إليه الزكاة قبل الكتابة لم يحل له أخذها ، وإذا صار
__________________
مكاتبا حل له
أخذها سواء أدى فعتق ، أو عجز فعاد إلى الرق. واستفاد أيضا أن الكتابة تبعثه على
الاجتهاد في الكسب ، ولولاها لم يكن ليفعل ذلك. ويستفيد المولى الثواب ، لأنه إذا
باعه فلا ثواب ، وإذا كاتبه فالولاء له ، فورد الشرع بجواز الكتابة لهذه الفوائد .
قوله : «إن علمتم
فيهم خيرا» قال عليهالسلام : «إن علمتم لهم حرفة ، ولا تدعوهم كلّا على الناس» . وقال ابن عمر : قوة على الكسب ، وهو قول مالك والثوري .
قال عطاء والحسن
ومجاهد والضحاك : الخير : المال ، لقوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي : مالا. قال عطاء : بلغني ذلك عن ابن عباس . ويروى أن عبدا لسلمان الفارسي قال له : كاتبني. قال: لك
مال؟ قال : لا. قال : تريد أن تطعمني أوساخ الناس ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إن علمتم لهم خيرا .
وأيضا فلأن العبد
لا مال له ، بل المال لسيده . وقال إبراهيم النخعي وابن زيد وعبيدة : صدقا وأمانة . وقال طاوس وعمرو بن دينار : مالا وأمانة .
وقال الحسن :
صلاحا في الدين . قال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبيد : الاكتساب مع
الأمانة ، وأجاب ألا يمتنع من الكتابة إذا كان هكذا ، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما ، فإنه ينبغي أن
يكون كسوبا يحصل المال ، ويكون أمينا يصرفه في نجومه ولا يضيعه .
قوله : «وآتوهم من
مال الله الّذي آتاكم». قيل : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئا ، وهو قول عثمان
وعليّ والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي وهؤلاء اختلفوا في قدره : فقيل : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول عليّ ، ورواه بعضهم عن عليّ
مرفوعا. وعن ابن عباس : يحط الثلث. وقيل : ليس له حد ، بل يختلف بكثرة المال وقلته ، وهو قول الشافعي ، لأن
ابن عمر
__________________
كاتب غلاما له على
خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم.
وقيل : يحط عنه
قدرا يحصل الاستغناء به. قال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع
عنه شيئا من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما
أحب . وكاتب عمر عبدا ، فجاءه بنجمه ، فقال : اذهب فاستغن على أداء مال الكتابة ،
فقال المكاتب : لو تركته إلى آخر نجم فقال : إني أخاف ألا أدرك ذلك .
وقيل : هو أمر استحباب ، لقوله عليهالسلام : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وقولهعليهالسلام : أيما عبد كاتب على مائة فأداها إلا عشرة فهو عبد . ولو كان الحط واجبا سقط عنه بقدره ، وأيضا فلو كان
الإيتاء واجبا لكان وجوبه معلقا بالعقد ، فيكون العقد موجبا له ومسقطا له ، وذلك محال لتنافي الإسقاط
والإيجاب.
وأيضا فلو كان
الحط واجبا لما احتاج أن يضع عنه ، بل كان يسقط القدر المستحق ، كمن له على إنسان
دين ، ثم لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قابضا له. وأيضا فلو كان واجبا لكان
قدر الإيتاء إما أن يكون معلوما أو مجهولا ، فإن كان معلوما وجب ألا تكون الكتابة
بثلاثة أرباع المال على قول من يجعله الربع ، فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف إذا كان
العقد على أربعة آلاف ، وذلك باطل ، لأن أداء جميعها شرط ، فلا يعتق بأداء البعض
لقوله عليهالسلام : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» . وإن كان مجهولا صارت الكتابة مجهولة ، لأن الباقي بعد
الحط مجهول ، فلا يصح ، كما لو كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء .
وقال قوم : المراد
بقوله : «وآتوهم» أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله : (وَفِي الرِّقابِ) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم ، ورواية عطاء عن
__________________
ابن عباس. وعلى
هذا الخطاب لغير السادة ، لأنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع زكاته إلى
مكاتبه . وقال الكلبي وعكرمة وإبراهيم : هو خطاب لجميع الناس ، وحث
على معونة المكاتب ، لقوله عليهالسلام : «من أعان مكاتبا في فك رقبته أطلقه الله في ظل عرشه» .
فصل
إذا مات المكاتب
قبل أداء النجوم. فقيل : يموت رقيقا ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك ،
كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع. وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت ،
وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد . وقيل : إن ترك وفاء لما بقي عليه من الكتابة كان حرا ،
وإن كان فيه فضل فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن ، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي
.
فصل
ولو كاتب عبده
كتابة فاسدة يعتق بأداء المال ، لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد ، ويتبعه الأولاد والأكساب كما في
الكتابة الصحيحة. ويفترقان في بعض الأحكام ، وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك
المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق
بالإبراء من النجوم. والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو
أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ، وتبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء من النجوم.
وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ويثبت في
الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع
إليه إن كان مالا.
قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى
الْبِغاءِ ...) الآية» لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم
أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور .
واعلم أن العرب
تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ) وقال : (تُراوِدُ فَتاها) وقال : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ).
__________________
وقال عليهالسلام : «ليقل أحدكم : فتاي وفتاتي ، ولا يقل : عبدي وأمتي» .
والبغاء : الزنا ،
مصدر : بغت المرأة تبغي بغاء ، أي : زنت ، وهو مختص بزنا النساء .
فصل
قال المفسرون :
نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق ، كان له ست جوار معاذة ، ومسيكة ، وأميمة ، وعمرة ، وأروى ، وقتيلة ،
يكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب يأخذها ، وكذلك كانوا
يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا
الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين : فإن يكن خيرا فقد استكثرنا منه ، وإن كان
شرا فقد آن لنا أن ندعه فشكيا إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فنزلت الآية . وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوما ببرد ، وجاءت الأخرى
بدينار ، فقال لهما : «ارجعا فازنيا» فقالتا : «والله لا نفعل وقد جاء الإسلام
وحرم الزنا» فأتيا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وشكيا إليه ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ هذه الآية . وروي أن عبد الله بن أبيّ أسر رجلا ، فأراد الأسير جارية
عبد الله ، وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت الجارية لإسلامها ، فأكرهها سيدها على
ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده ، فنزلت الآية . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومعه جارية من أجمل النساء تسمى : معاذة ، وقال : يا
رسول الله ، هذه لأيتام فلان ، أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها. فقال عليهالسلام : لا. فأعاد الكلام ، فنزلت الآية .
__________________
فصل
الإكراه إنما يحصل
بالتخويف بما يقتضي تلف النفس.
ومعنى قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي : إذ أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن
على الزنا إن لم يردن تحصنا ، كقوله عزوجل : (وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : إذ كنتم مؤمنين . وقيل : إنما شرط إرادة التحصن ، لأن الإكراه إنما يكون
عند إرادة التحصن ، فإن لم ترد التحصن بغت طوعا ، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن
لم تكن كارهة للزنا ، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها ، فامتنع الإكراه
لامتناعه في نفسه . وقيل : هذا الشرط لا مفهوم له ، لأنه خرج مخرج الغالب ،
لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن ، كما أن الخلع يجوز في غير
حالة الشقاق ، ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن
لقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (مفهوم) ومنه قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) والقصر لا يختص بحال الخوف ، ولكنه أخرجه على الغالب ، فكذا ههنا . وقال بعض العلماء: في الآية تقديم وتأخير ، تقديره :
وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لتبتغوا عرض الحياة الدّنيا ، أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد : من كسبهن وبيع
أولادهن. والتحصن : التعفف.
قوله : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ
مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي : غفور رحيم للمكرهات ، والوزر على المكره ، وكان الحسن
إذا قرأ هذه الآية قال : (لهنّ والله) .
وقال ابن الخطيب :
فيه وجهان :
أحدهما : غفورا لهنّ ، لأنّ الإكراه (يزيل الإثم) والعقوبة عن المكره فيما فعل.
__________________
والثاني : (فإنّ
الله غفور رحيم) بالمكره بشرط
التوبة. وهذا ضعيف لأنه يحتاج إلى الإضمار ، والأول لا يحتاج إليه . وفي هذا نظر ، لأنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط عند
الجمهور كما تقدم تحقيقه (في البقرة) .
قوله : (فَإِنَّ اللهَ) جملة وقعت جوابا للشرط ، والعائد على اسم الشرط محذوف ،
تقديره : غفور لهم . وقدره الزمخشري في أحد تقديراته وابن عطية وأبو البقاء : فإن الله غفور لهنّ ، أي : للمكرهات ، فعريت جملة الجزاء
عن رابط يربطها باسم الشرط ، ولا يقال : إن الرابط هو الضمير المقدر الذي هو
فاعل المصدر ؛ إذ التقدير : من بعد إكراههم لهنّ ، فليكتف بهذا الرابط المقدر ، لأنهم لم يعدوا ذلك من الروابط ،
تقول : هند عجبت من ضربها زيدا فهذا جائز ، ولو قلت : هند عجبت من ضرب زيد : أي : من
ضربها ، لم يجز ، لخلوها من الرابط وإن كان مقدرا. ولما
__________________
قدر الزمخشري «لهن»
أورد سؤالا فقال : فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ، لأن المكرهة على
الزنا بخلاف المكره غير آثمة. قلت : لعلّ الإكراه غير ما اعتبرته الشريعة من
إكراه بقتل ، أو بما يخاف منه التلف ، أو فوات عضو حتى يسلم من الإثم
، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة .
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ
مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ)(٣٤)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ
مُبَيِّناتٍ) الآية.
لما ذكر الأحكام
وصف القرآن بصفات ثلاث :
أحدها : قوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ
مُبَيِّناتٍ) أي : مفصلات. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر : «مبيّنات»
بكسر الياء ، أي : أنها تبين للناس الحلال والحرام ، كقوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وتقدم الكلام في «مبيّنات» كسرا وفتحا .
وثانيها : قوله : (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ). قال الضحاك : «يريد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن
مثله» وقال مقاتل : «قوله : «ومثلا» أي : شبها من حالهم بحالكم في تكذيب الرسل»
يعني : بينا لكم ما أحللنا بهم من العقاب لتمردهم على الله ، فجعلنا ذلك مثلا لكم
، وهذا تخويف لهم ، فقوله : «ومثلا» عطف على «آيات» أي : وأنزلنا مثلا من أمثال
الذين من قبلكم .
وثالثها : قوله : (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي : الوعيد
والتحذير ، ولا شك أنه موعظة للكل ، وخصّ المتقين بالذكر لما تقدم في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ
كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا
__________________
غَرْبِيَّةٍ
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي
اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٣٥)
قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. هذه جملة من مبتدأ وخبر ، إما على حذف مضاف ، أي :
ذو نور السموات والمراد بالنور : عدله ، ويؤيد هذا قوله : «مثل نوره» وأضاف النور لهذين الظرفين إما دلالة على سعة إشراقه ، وفشوّ
إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض ، وإمّا لإرادة أهل السموات والأرض ، وأنهم يستضيئون به . ويجوز أن يبالغ في العبادة على سبيل المدح كقولهم : فلان
شمس البلاد وقمرها قال النابغة :
٣٨٣١ ـ فإنّك شمس والملوك كواكب
|
|
إذا ظهرت لم يبد
منهنّ
كوكب
|
وقال (آخر) :
٣٨٣٢ ـ قمر القبائل خالد بن يزيد
ويجوز أن يكون
المصدر واقعا اسم الفاعل ، أي : منوّر السّموات. ويؤيد هذا الوجه قراءة أمير
المؤمنين وزيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي : «نوّر» فعلا
ماضيا ، وفاعله ضمير الباري تعالى ، «السموات» مفعوله ، وكسره نصب ، و «الأرض»
بالنصب نسق عليه . وفسّره الحسن فقال : «الله منوّر السّموات» .
__________________
فصل
قال ابن عباس :
هادي أهل السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من
حيرة الضلالة ينجون. وقال الضحاك : منوّر السموات والأرض ، يقال : نوّر الله
السماء بالملائكة ونوّر الأرض بالأنبياء. وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات
والأرض.
وقال أبي بن كعب
والحسن وأبو العالية : مزيّن السموات والأرض ، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم ،
وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقيل : بالنبات والأشجار. وقيل : معناه
: الأنوار كلها منه ، كما يقال : فلان رحمة ، أي : منه الرحمة. وقد يذكر هذا اللفظ
على طريق المدح ، كقول القائل :
٣٨٣٣ ـ إذا سار عبد الله من مرو ليلة
|
|
فقد سار منها
نورها وجمالها
|
قوله : «مثل نوره
كمشكاة» مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة إيضاح وتفسير لما قبلها ، فلا محلّ لها ، وثمّ مضاف محذوف ، أي : كمثل مشكاة. قال الزمخشري : أي : صفة
نوره العجيبة الشأن في الإضاءة «كمشكاة» أي : كصفة (مشكاة) . واختلفوا في الضمير في «نوره» : فقيل : هو الله تعالى ، أي : مثل نور الله ـ عزوجل ـ في قلب المؤمن ، وهو النور الذي يهتدى به ، كما قال : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). وكان ابن مسعود يقرأ «مثل نوره في قلب المؤمن» وقال سعيد
بن جبير عن ابن عباس : «مثل نوره الذي أعطى المؤمن» وعلى هذا المراد بالنور :
الإيمان ، والآيات البيّنات.
وقيل : يعود على
المؤمنين أو المؤمن ، أو من آمن به ، أي مثل نور قلب المؤمن. وكان أبيّ يقرأ بهذه الألفاظ
كلها ، وأعاد الضمير على ما قرأ به. والمراد بالنور : الإيمان
__________________
والقرآن لقوله
تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) يعني : القرآن.
وقال سعيد بن جبير
والضحاك : الضمير يعود على محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يتقدم لهذه الأشياء ذكر. وأما عوده على المؤمنين في
قراءة أبيّ ، ففيه إشكال من حيث الإفراد . قال مكّيّ : يوقف على الأرض في هذه الأقوال الثلاثة .
وقيل : أراد ب «النور»
الطاعة ، سمى طاعة الله نورا ، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلا.
فصل
واختلفوا في هذا
التشبيه :
(هل هو) تشبيه مركب ، أي : أنه قصد تشبيه جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء ، بل قصد تشبيه
هداه وإتقانه صنعته في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي يتخذونه ،
وهو أبلغ صفات النور عندكم أو تشبيه غير مركب ، أي : قصد مقابلة جزء بجزء. ويترتب
الكلام فيه بحسب الأقوال في الضمير في «نوره» . و «المشكاة» : الكوّة غير النّافذة. وهل هي عربية أم
حبشيّة معرّبة؟ خلاف .
قال مجاهد : «هي
القنديل» . وقيل : هي الحديدة أو الرّصاصة التي يوضع فيها الذّبال ،
وهو الفتيل ، ويكون في جوف الزجاجة .
وقيل : هي العمود
الذي يوضع على رأسه المصباح . وقيل : ما يعلق منه القنديل من الحديدة . وأمال «المشكاة» الدّوري عن الكسائي لتقدّم الكسر وإن
__________________
وجد فاصل ورسمت
بالواو ك «الزكوة» و «الصلواة» . والمصباح : السّراج الضّخم ، وأصله من الضوء ومنه الصبح.
والزّجاجة : واحدة الزّجاج ، وهو جوهر معروف ، وفيه ثلاث لغات : فالضم : لغة الحجاز ، وبها قرأ العامة. والكسر والفتح :
لغة قيس . وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن
مجاهد . وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في رواية عنه ، وأبو رجاء . وكذلك الخلاف في قوله : «الزّجاجة». والجملة من قوله : «فيها
مصباح» صفة ل «مشكاة» ، ويجوز أن يكون الجار وحده هو الوصف ، و «مصباح» مرتفع به
فاعلا .
قوله : «درّي».
قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال ، وياء بعدها همزة. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم
بضم الدال وياء بعدها همزة. والباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز . وهذه الثلاثة في السبع. وقرأ زيد بن عليّ والضحاك وقتادة
بفتح الدال وتشديد الياء . وقرأ الزهري بكسرها وتشديد الياء .
وقرأ أبان بن
عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وقتادة أيضا «درّيء» فتح الدال وياء بعدها همزة فأما الأولى فقراءة واضحة ، لأنه بناء كثير ، يوجد في
الأسماء نحو : «سكّين» وفي الصفات نحو «سكّير». وأما القراءة الثانية فهي من «الدرء»
بمعنى : الدفع ، أي : يدفع بعضها بعضا ، أو يدفع ضوؤها خفاءها.
__________________
قيل : ولم يوجد
شيء وزنه «فعّيل» إلا «مرّيقا» للعصفر ، و «سرّيّة» على قولنا : إنها من السّرور ، وأنه أبدل من
إحدى المضعّفات ياء ، وأدغمت فيها ياء «فعّيل» ، و «مرّيخا» للذي في داخل القرن اليابس ، ويقال بكسر الميم أيضا ، و «علّيّة» و «درّيء» في هذه
القراءة ، و «درّيّة» أيضا في قول ، وقال بعضهم : وزن «دريء» في هذه القراءة «فعّول» كسبّوح قدّوس
فاستثقل توالي الضم فنقل إلى الكسر ، وهذا منقول أيضا في «سرّيّة» و «درّيّة». وأما القراءة
الثالثة فتحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
أصلها الهمز كقراءة حمزة إلا أنه أبدل من الهمز ياء ، وأدغم ، فيتحد معنى
القراءتين. ويحتمل أن تكون نسبة إلى الدّرّ لصفائها ، وظهور (إشراقها) .
وأما قراءة تشديد
الياء مع فتح الدال وكسرها ، فالذي يظهر أنه منسوب إلى الدّرّ. والفتح والكسر في
الدال من باب تغييرات النسب. وأما فتح الدال مع المد والهمز ففيها إشكال.
قال أبو الفتح :
وهو بناء عزيز لم يحفظ منه إلّا السّكّينة بفتح الفاء وتشديد العين .
__________________
قال شهاب الدين :
وقد حكى الأخفش فعلية السّكّينة والوقار ، وكوكب درّيء من (درأته). قوله : «توقد» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «توقّد» بزنة «تفعّل»
فعلا ماضيا فيه ضمير فاعله يعود على «المصباح» ، ولا يعود على «كوكب» لفساد
المعنى. والأخوان وأبو بكر : «توقد» بضم التاء من فوق وفتح القاف مضارع «أوقد» ،
وهو مبني للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير يعود على «زجاجة» فاستتر في الفعل.
وباقي السبعة كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، والضمير المستتر يعود على «المصباح». وقرأ الحسن والسّلمي وابن محيصن ورويت عن عاصم من طريق المفضّل كذلك
إلا أنه ضمّ الدّال ، جعله مضارع «توقّد» ، والأصل «تتوقّد» بتاءين فحذف إحداهما ك «تتذكّر» ،
والضمير أيضا للزجاجة.
وقرأ عبد الله «وقّد»
فعلا ماضيا بزنة «قتّل» مشددا ، أي : «المصباح» وقرأ الحسن وسلام أيضا «يوقّد» بالياء من تحت وضم الدال مضارع «توقد» ، والأصل «يتوقد» بياء من تحت وتاء من فوق ، فحذف التاء من
فوق (و) هذا شاذ ، إذ لم يتوال مثلان ، ولم يبق في اللفظ ما يدل
على المحذوف ، بخلاف «تنزّل» و «تذكّر» وبابه ، فإن فيه تاءين ، والباقي يدل على
ما فقد. وقد يتمحّل لصحته وجه من القياس ، وهو أنهم قد حملوا «أعد» و «تعد» و «نعد»
على «يعد» في حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، فكذلك حملوا «يتوقّد» بالياء
والتاء على «تتوقّد» بتاءين وإن لم يكن الاستثقال موجودا في الياء والتاء .
__________________
قوله : «من شجرة»
من لابتداء الغاية ، وثمّ مضاف محذوف ، أي : من زيت (شجرة) . و «زيتونة» فيها قولان : أشهرهما : أنها بدل من «شجرة» .
الثاني : أنها عطف
بيان ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم أبو علي . وتقدم هذا. في قوله : «من ماء صديد» .
قوله : «لا شرقيّة»
صفة ل «شجرة» ودخلت «لا» لتفيد النفي. وقرأ الضّحّاك بالرفع على إضمار
مبتدأ ، أي : لا هي شرقية ، والجملة أيضا في محل جر نعتا ل «شجرة» . (قوله : «يكاد» هذه الجملة أيضا نعت ل «شجرة» ) .
قوله : (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) جوابها محذوف ، أي : لأضاءت ، لدلالة ما تقدم عليه ،
والجملة حالية. وتقدم تحرير هذا في قولهم : أعطوا السائل ولو جاء على فرس. وأنها
لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحالة . وقرأ ابن عباس والحسن : «يمسسه» بالياء ، لأن التأنيث مجازي ، ولأنه قد فصل بالمفعول أيضا .
فصل في كيفية هذا التمثيل
قال جمهور
المتكلمين : معناه : أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات ، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي يكون
فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح (يتّقد بزيت) بلغ النهاية في
الصفاء. فإن قيل : لم شبهه بذلك مع أن ضوء الشمس أعظم منه؟
__________________
فالجواب : أنه
تعالى أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة ، لأن الغالب على أوهام
الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات (وهداية الله تعالى فيما بينها
كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات) وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس ، لأن ضوءها إذا ظهر
امتلأ العالم من النور الخالص ، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة ، فلا جرم كان هذا المثل أليق وأوفق .
فصل
اعلم أن الأمور
التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء.
فأولها : أن
المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته ، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته
فكانت أشد إنارة ، ويحقق ذلك أن المصباح ينعكس شعاعه من بعض جوانب الزجاجة إلى
البعض ، لما في الزجاجة من الصفاء والشفافة ، فيزداد بسبب ذلك الضوء والنور ،
والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف النور الظاهر ،
حتى إنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء ، فإذا انعكست تلك الأشعة من كل جانب من
جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية.
وثانيها : أن ضوء
المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد فيه ، فإذا كان الدهن صافيا خالصا كانت حاله بخلاف
حاله إذا كان كدرا ، وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي
يظهر في الزيت ، فربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع
يتردد في أجزائه.
وثالثها : أن
الزيت يختلف باختلاف شجرته ، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة
للشمس (في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجا ، فكان زيته أكثر صفاء ، لأن زيادة
تأثير الشمس) تؤثر في ذلك ، فإذا اجتمعت هذه الأمور وتعاونت صار ذلك
الضوء خالصا كاملا ، فيصلح أن يجعل مثلا لهداية الله تعالى .
فصل
قال بعضهم : «هذه
الآية من المقلوب والتقدير : مثل نوره كمصباح في مشكاة ، لأن المشبه به هو الذي
يكون معدنا للنور ومنبعا له ، وذلك هو المصباح لا المشكاة» .
فصل
قال مجاهد : «المشكاة»
: القنديل ، والمعنى : كمصباح في مشكاة. المصباح في
__________________
زجاجة ، يعني : «القنديل»
قال الزجاج : إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين في كل شيء ، وضوؤه يزيد في الزجاج. ثم وصف الزجاجة فقال : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ). والدّرّ : الدفع ، لأن الكواكب تدفع الشياطين من السماء.
وشبيه حالة الدفع ، لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور. وقيل : «دري» أي : طالع ،
يقال : درى النجم : إذا طلع وارتفع ، ويقال : هو من درأ الكوكب : إذا
اندفع منقضا فيضاعف ضوؤه في ذلك الوقت ) (ويقال : درأ
علينا فلان ، أي : طلع وظهر . وقيل : الدري أي ضخم مضى ، ودراري النجوم : عظامها. وقيل
: الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام ، وهي : زحل ، والمريخ والمشتري ،
والزهرة وعطارد . وقيل : الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي
في المعظم الأول . فإن قيل : لم شبهه بالكوكب ولم يشبهه بالشمس والقمر؟.
فالجواب لأن الشمس
والقمر يلحقها الخسوف ، والكواكب لا يلحقها الخسوف. «توقّد» يعني : المصباح ، أي : اتّقد.
ويقال : توقدت النار ، أي : اتقدت ، يعني : نار الزجاجة ، لأن الزجاجة لا توقد.
هذا على قراءة من ضم التاء وفتح القاف .
وأما على قراءة
الآخرين ف «توقد» يعني المصباح (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) أي : من زيت شجرة مباركة ، فحذف المضاف بدليل قوله : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ). وأراد بالشجرة المباركة : الزيتون وهي كثيرة البركة
والنفع : لأن الزيت يسرج به وهو أضوأ وأصفى الأدهان ، وهو إدام وفاكهة ، ولا يحتاج
في استخراجه إلى عصار ، بل كل أحد يستخرجه. وقيل : أول شجرة نبتت بعد الطوفان ،
وبارك فيها سبعون نبيا منهم الخليل. وجاء في الحديث أنه مصحة من الباسور ، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها . وقال عليهالسلام : «كلوا الزّيت وادهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» .
__________________
وقيل : المراد
زيتون الشام ، لأنه في الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه الشجرة بأنها «لا شرقية
ولا غربية» واستدلوا على ذلك بوجوه :
أحدها : أن الشام
وسط الدنيا ، فلا توصف شجرتها بأنها شرقية أو غربية. وهذا ضعيف ، لأن من قال : «الأرض
كرة» لم يثبت للمشرق والمغرب موضعين معينين ، بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة ، لأن
المثل مضروب لكل من (يعرف ، الزيت) وقد) يوجد في غير الشام كوجوده فيه.
وثانيها : قال
الحسن : «لأنها من شجر الجنة ، إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية». وهذا
أيضا ضعيف ، لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه ، وهم ما شاهدوا شجر الجنة.
وثالثها : أنها
شجرة يلتف بها ورقها التفافا شديدا ، ولا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية
أو غربية ، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان.
وهذا أيضا ضعيف ، لأن الغرض صفاء الزيت ، وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون ،
وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله.
ورابعها : قال ابن
عباس : «المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال ، أو صحراء واسعة ، فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب». وهذا قول سعيد
بن جبير وقتادة.
وقال الفراء والزجاج : «لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ، ولكنها شرقية غربية ، كما يقال : فلان لا مسافر ولا مقيم ، إذا كان يسافر ويقيم ، أي : تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها ، فتكون شرقية
غربية تأخذ حظها من الأمرين ، فيكون زيتها أضوأ ، كما يقال : فلان ليس بأسود ولا
أبيض ، يريد : ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص ، بل اجتمع فيه الأمران ، وهذا
الرمان ليس بحلو ولا حامض ، أي : اجتمع فيه الحلاوة والحموضة».
وهذا هو المختار ،
لأن الشجرة إذا كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء ، وحينئذ يكون مقصود التمثيل
أتم . وقيل : المراد ب «المشكاة» صدر محمد ، (و «الزجاجة» قلب محمد) و «المصباح» ما في
قلب محمد من الدين ، (يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ) يعني :
__________________
(وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ)» والشجرة : إبراهيم ، ثم وصف إبراهيم بقوله : «لا شرقيّة
ولا غربيّة» أي : لا يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى ، بل كان عليهالسلام يصلي إلى الكعبة ، ثم قال : (يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) لأن الزيت إذا كان خالصا ثم رئي من بعيد يرى كأن له شعاعا ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا
على ضوئه كذلك.
قال ابن عباس : «يكاد
قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد نورا على نور
، وهدى على هدى». وقال الضحاك : «يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي» . قال عبد الله بن رواحة :
٣٨٣٤ ـ لو لم تكن فيه آيات مبينة
|
|
كانت بديهته
تنبيك بالخبر
|
وقال محمد بن كعب
القرظي : المشكاة : إبراهيم ، والزجاجة : إسماعيل والمصباح محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سماه الله مصباحا كما سماه سراجا فقال (وَسِراجاً مُنِيراً)(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) وهي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وسماه مباركا ، لأن
أكثر الأنبياء من صلبه (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ) أي لم يكن إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ، ولكن كان حنيفا ،
لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق (يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) يكاد محاسن محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تظهر للناس من قبل أن يوحى إليه ، (نُورٌ عَلى نُورٍ) نبي من نسل نبي (نور محمد على نور إبراهيم ) .
قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) خبر مبتدأ مضمر أي : ذلك نور ، و «على نور» صفة ل «نور».
والمعنى : أن القرآن نور من الله ـ عزوجل ـ لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول
القرآن ، فازدادوا بذلك نورا على نور . (يَهْدِي اللهُ
لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).
قال ابن عباس : «لدين
الإسلام ، وهو نور البصيرة». وقيل : القرآن. (قال إن
__________________
المؤمن يتقلب في
خمسة أنوار : قوله نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصير إلى نور) . واستدل أهل السنة بهذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا : «إنه
تعالى بعد أن بين أن هذه الدلائل التي بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي
لا يمكن الزيادة عليه ، قال : (يَهْدِي اللهُ) بإيضاح هذه الأدلة «لنوره من يشاء» أي : وضوح هذه الدلائل
لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان».
قوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) يبين الله الأشباه للناس ، أي : للمكلفين ، تقريبا
لأفهامهم ، وتسهيلا لنيل الإدراك.
(وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذا كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ، ولا ينظر
في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات . قالت المعتزلة : قوله تعالى (وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) ذكره في معرض النعمة ، وإنما يكون نعمة عظيمة لو أمكنكم
الانتفاع به وتقدم جوابه .
قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ
الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧)
لِيَجْزِيَهُمُ
اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ
يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٨)
قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) الآية .
واعلم أن قوله : «في
بيوت» يقتضي محذوفا يكون فيها ، وذكروا فيه ستّة أوجه :
أحدها : أن قوله :
«في بيوت» صفة ل «مشكاة» أي كمشكاة في بيوت ، أي : في بيت من بيوت الله .
(الثاني : أنه صفة
ل «مصباح» ) وهذا اختيار أكثر المحققين.
واعترض عليه أبو
مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين :
الأول : أن المقصود من ذكر «المصباح» المثل ، وكون المصباح في بيت أذن
الله لا يزيد في هذا المقصود ، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة.
__________________
والثاني : أن الذي
تقدم ذكره فيه وجوه يقتضي كونه واحدا ، كقوله : (كَمِشْكاةٍ) وقوله : (فِيها مِصْباحٌ) وقوله : (فِي زُجاجَةٍ) وقوله : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ) ، ولفظ «البيوت» جمع ، ولا يصح كون هذا الواحد في كل
البيوت.
وأجيب عن الأول :
أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم ، فكان
أضوأ ، فكان التمثيل به أتم وأكمل.
وعن الثاني : أنه
لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في
زجاجة يتوقد من الزيت ، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله
تعالى ، كقولك : «الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته» لكان وإن
ذكر بلفظ الواحد ، فالمراد النوع ، فكذا ههنا .
الثالث : أنه صفة ل «زجاجة» ..
الرابع : أنه
يتعلق ب «يوقد» أي : يوقد في بيوت ، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال : المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء
النجوم لأهل الأرض . وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على «عليم» .
الوجه الخامس : أنه
متعلق بمحذوف كقوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي : سبحوه في بيوت.
السادس : أنه
متعلق ب «يسبّح» أي : يسبح رجال في بيوت ، و «فيها» تكرير للتوكيد كقوله : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) وعلى هذين القولين فيوقف على «عليم» .
قوله : (أَذِنَ اللهُ) في محل جر صفة ل «بيوت» ، و «أن ترفع» على حذف الجار ، أي
: في أن ترفع. ولا يجوز تعلق «في بيوت» بقوله : «ويذكر» لأنه عطف
__________________
على ما في حيز «أن»
وما بعد «أن» لا يتقدم عليها .
فصل
قال أكثر المفسرين
: المراد ب «البيوت» ههنا : المساجد.
وقال عكرمة : هي
البيوت كلها. والأول أولى ، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع، وأيضا
فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة ، وذلك لا يليق إلا بالمساجد. ثم
القائلون بأنها المساجد قال بعضهم : بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة
بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة. وبيت المقدس بناه داود وسليمان ـ عليهماالسلام ـ ومسجد المدينة بناه النبي ـ عليهالسلام ـ ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قاله ابن بريدة. وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه
عشرة آلاف قنديل. وهذا تخصيص بغير دليل.
وقال ابن عباس :
المراد جميع المساجد كما تقدم .
قوله : «أن ترفع».
قال مجاهد : تبنى كقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ، وهو مرويّ عن ابن عباس. وقال الحسن والزجاج : تعظّم وتطهّر عن الأنجاس ولغو الأفعال. وقيل : مجموع
الأمرين (وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ).
قال ابن عباس :
يتلى فيها كتابه. وقيل : عام في كل ذكر (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها).
قرأ ابن عامر وأبو
بكر بفتح الباء مبنيا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثّلاث ، والأولى منها بذلك الأوّل ، لاحتياج العامل إلى مرفوعه ،
فالذي يليه أولى ، و «رجال» على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين : إمّا
بفعل مقدّر لتعذّر إسناد الفعل إليه ، وكأنّه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : «من
يسبّحه»؟ فقيل : «يسبّحه رجال» ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر :
٣٨٣٥ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة
|
|
ومختبط ممّا
تطيح الطّوائح
|
__________________
كأنه قيل : من
يبكيه؟ فقيل : يبكيه ضارع ، إلّا أنّ في اقتباس هذا خلافا : منهم من (جوّزه وقاس) عليه : «ضربت هند زيد» أي : ضربها زيد. ومنهم من منعه .
والوجه الثاني في
البيت أن «يزيد» منادى حذف منه حرف النّداء ، أي : ما يزيد وهو ضعيف جدا.
الثاني : أن «رجال»
خبر مبتدأ محذوف ، أي : المسبّحة رجال .
وعلى هذه القراءة
يوقف على «الآصال» . وباقي السبعة بكسر الباء مبنيا للفاعل ، والفاعل «رجال» فلا يوقف على «الآصال» . وقرأ ابن وثّاب وأبو حيوة «تسبّح» بالتاء من فوق ، وكسر
الباء ، لأن جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحكام ، وهذا منها . وقرأ أبو جعفر كذلك إلّا أنه فتح (الباء) . وخرّجها الزمخشري على إسناد الفعل إلى (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) على زيادة الباء ، كقولهم : «صيد عليه يومان» (والمراد :
وحشهما) . وخرّجها غيره على أن القائم مقام الفاعل ضمير
__________________
التّسبيحة ، أي :
تسبّح التّسبيحة على المجاز المسوّغ لإسناده إلى الوقتين ، كما خرجوا قراءة أبي
جعفر أيضا : (لِيَجْزِيَ قَوْماً) أي : «ليجزى الجزاء قوما» ، بل هذا أولى من آية الجاثية ، إذ ليس هنا مفعول صريح.
فصل
اختلفوا في هذا
التسبيح. فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة
الصبح والعصر ، فقال : كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما ، وقال عليهالسلام : «من صلى صلاة البردين دخل الجنة» . وقيل : أراد الصلوات المفروضة ، فالتي تؤدى بالغداة صلاة
الفجر ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الأصيل يجمعهما ، و «الآصال» جمع أصيل ، وهو العشي.
وإنما وحد «الغدو»
لأنه مصدر في الأصل لا يجمع ، و «الأصيل» اسم فجمع.
قال الزمخشري : «بالغدو
، أي بأوقات الغد ، أي بالغدوات» .
وقيل : صلاة الضحى
، قال عليهالسلام : «من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهّر ، فأجره كأجر الحاجّ
المحرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر ، وصلاة
على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في علّيّين» . وقال ابن عباس : «إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله (مذكورة) (وتلا هذه) الآية . وقيل : المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في
ذاته وفعله ؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ
وَإِيتاءِ الزَّكاةِ). وهذا الوجه أظهر .
وقرىء : «بالغدو
والإيصال» وهو الدخول في الأصل .
قوله : «لا تلهيهم»
في محل رفع صفة ل «رجال». (و) خص الرجال
__________________
بالذكر في هذه
المساجد ، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد . «لا تلهيهم» : تشغلهم ، «تجارة» قيل : خص التجارة بالذكر ،
لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات.
قال الحسن : أما
والله إنهم كانوا يتجرون ، ولكن إذا جاءتهم فرائض الله لم يلههم عنها شيء ، فقاموا
بالصلاة والزكاة . فإن قيل : البيع داخل في التجارة ، فلم أعاد البيع؟ فالجواب
من وجوه :
الأول : أن
التجارة جنس يدخل تحته أنواع الشراء والبيع ، وإنما خص البيع بالذكر لأن الالتهاء
به أعظم ، لكون الربح الحاصل من البيع معين ناجز ، والربح الحاصل من
الشراء مشكوك مستقبل.
الثاني : أن البيع
تبديل العرض بالنقدين ، والشراء بالعكس ، والرغبة في تبديل النقد أكثر من العكس.
الثالث : قال
الفراء : التجارة لأهل الجلب ، يقال : تجر فلان في كذا : إذا جلبه من غير بلده ،
والبيع ما باعه على يديه .
الرابع : أراد
بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعا ، لأنه ذكر
البيع بعده كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً) يعني : الشراء .
قوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) عن حضور المساجد لإقامة الصلاة. فإن قيل : فما معنى قوله :
«وإقام الصّلاة؟» فالجواب قال ابن عباس : المراد بإقامة الصلاة : إقامتها
لمواقيتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة.
ويجوز أن يكون
قوله : «الصّلاة» تفسيرا لذكر الله ، فهم يذكرون قبل الصلاة .
قال الزجاج :
وإنما حذفت الهاء ، لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل : إقواما ، ولكن
قلبت الواو ألفا ، فاجتمعت ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي : أقمت
الصلاة إقاما ، فأدخلت الهاء عوضا من المحذوف ، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض
مقام الهاء المحذوفة ، وهذا إجماع من النحويين .
__________________
فصل
المراد : الصلوات
المفروضة لما روى سالم (عن) ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة ، فقام الناس
وأغلقوا حوانيتهم ، فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت هذه الآية : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا
بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ).
وقوله : (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) يريد : المفروضة. قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة
لم يحبسوها . وروي عن ابن عباس أيضا : المراد من الزكاة : طاعة الله
والإخلاص. وهذا ضعيف لأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء ، وهذا لا يحتمل إلا ما يعطى من حقوق المال . قوله : (يَخافُونَ يَوْماً) يجوز أن يكون نعتا ثانيا ل «رجال» ، وأن يكون حالا من
مفعول «تلهيهم» و «يوما» مفعول به
لا ظرف على الأظهر ، و «تتقلّب» صفة ل «يوما».
قوله : «تتقلّب
فيه القلوب والأبصار» : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر
وتنفتح الأبصار من الأغطية بعد أن كانت مطبوعة عليها لا تبصر ، وكلهم انقلبوا من
الشك إلى اليقين ، كقوله : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ
اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) وقوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). وقيل : تتقلب القلوب تطمع في النجاة وتخشى الهلاك ،
وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤخذ أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم ، أمن قبل
اليمين أم من قبل الشمال؟
والمعتزلة لا
يرضون بهذا التأويل ، لأنهم قالوا : إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة ، وأهل
العقاب لا يرجون العفو. وقيل : إن القلوب تزول من أماكنها فتبلغ الحناجر ،
والأبصار تصير زرقا . وقيل : تقلب البصر : شخوصه من هول الأمر وشدته .
__________________
(وقال الجبائي :
تقلب القلوب والأبصار) : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب. قال : ويجوز أن
يريد به تقليبها على جمر جهنم كقوله : (وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
.
قوله : «ليجزيهم».
يجوز تعلقه ب «يسبّح» أي : يسبّحون لأجل الجزاء .
ويجوز تعلقه
بمحذوف ، أي : فعلوا ذلك ليجزيهم . وظاهر كلام الزمخشري أنه من باب الإعمال ، فإنه قال :
والمعنى : يسبّحون ويخافون (ليجزيهم» ) . ويكون على إعمال الثاني للحذف من الأول . وقوله : (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي : ثواب أحسن ، أو أحسن جزاء ما عملوا ، و «ما» مصدرية ، أو بمعنى الذي ، أو نكرة.
فصل
المراد بالأحسن :
الحسنات أجمع ، وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن لأنه لا
يجازيهم على مساوىء أعمالهم ، بل يغفرها لهم.
وقيل : يجزيهم
جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشر إلى سبعمائة . ثم قال : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) أي : ما لم يستحقوه بأعمالهم. فإن قيل : هذا يدل على أن
لفعل الطاعة أثر في استحقاق الثواب ، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل ، وأنتم لا
تقولون بذلك ، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئا؟ قلنا : نحن نثبت الاستحقاق
بالوعد ، فذلك القدر هو الذي يستحق ، والزائد عليه هو الفضل . ثم قال : (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) وذلك تنبيه على كمال قدرته ، وكمال جوده ، وسعة إحسانه ،
فكأنه تعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة ، وهم مع ذلك في نهاية الخوف ،
فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في
مقابلة خوفهم .
__________________
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ
ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ
لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ)(٤٠)
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) الآية.
لما بيّن حال
المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور ، وبسببه يكون متمسكا بالعمل الصالح ، ثم بين
أنه يكون في الآخرة فائزا بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، أتبع ذلك ببيان أن
الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران ، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات ، وضرب لكل
واحد منهما مثلا ، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ).
قال الأزهري : «السّراب
: ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيها بالماء الجاري وليس بماء ، ولكن
الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جاريا ، يقال : سرب الماء يسرب سروبا : إذا جرى ،
فهو سارب» . وقيل : السّراب : ما يتراءى للإنسان في القفر في شدّة
الحرّ ممّا يشبه الماء . وقيل : ما يتكاثف من قعور القيعان . قال الشاعر :
٣٨٣٦ ـ فلمّا كففت الحرب كانت عهودهم
|
|
كلمع سراب في
الفلا متألّق
|
يضرب به المثل لمن
يظنّ بشيء خيرا فيخلف ظنّه. وقيل : هو الشّعاع الذي يرى نصف النّهار في شدة
الحرّ في البراري ، يخيّل للناظر أنه الماء السّارب ، أي : الجاري ، فإذا
قرب منه لم ير شيئا . والآل : ما ارتفع من الأرض ، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض
بالغدوات شبه الملاة يرفع الشخوص ، يرى فيها الصغير كبيرا ، والقصير طويلا .
__________________
والرّقراق : يكون
بالعشايا. وهو ما ترقرق من السراب ، أي : جاء وذهب .
قوله : «بقيعة»
فيه وجهان :
أحدهما : أنه
متعلّق بمحذوف على أنه صفة ل «سراب» .
والثاني : أنه ظرف
، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه .
والقيعة : بمعنى
القاع ، قاله الزمخشري ، وهو المنبسط من الأرض ، وتقدم في «طه» .
وقيل : بل هي جمعه
ك «جار وجيرة» قاله الفراء . وقرأ مسلمة بن محارب بتاء (ممطوطة) ، وروي عنه بتاء شكل الهاء ، ويقف عليها بالهاء ، وفيها أوجه :
أحدها : أن يكون
بمعنى «قيعة» كالعامة ، وإنّما أشبع الفتحة فتولّد منها ألف كقوله : مخرنبق لينباع
. قاله صاحب اللوامح .
والثاني : أنه جمع
: «قيعة» وإنّما وقف عليها بالهاء ذهابا به مذهب لغة طيىء في قولهم : «الإخوه
والأخواه» و «دفن البناه من المكرماه» أي : والأخوات ، والبنات ، والمكرمات . وهذه القراءة تؤيد أن «قيعة» جمع قاع.
__________________
قال الزمخشري :
وقد جعل بعضهم «بقيعاة» بتاء
مدوّرة ك «رجل عزهاة» .
فظاهر هذا أنه جعل هذا بناء مستقلا ليس جمعا ولا إشباعا.
قوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) جملة في محل الجر صفة ل «سراب» أيضا ، وحسن ذلك لتقدم الجار على الجملة ، هذا إن جعلنا الجارّ
صفة والضمائر المرفوعة في «جاءه» ، وفي «لم يجده» وفي «وجد» ، والضمائر في «عنده»
وفي «وفّاه» وفي «حسابه» كلها ترجع إلى «الظّمآن» لأن المراد به الكافر المذكور
أولا ، وهذا قول الزمخشري . وهو حسن.
وقيل : بل
الضميران في «جاءه» و «وجد» عائدان على «الظّمآن» ، والباقية عائدة على الكافر . وإنما أفرد الضمير على هذا وإن تقدمه جمع ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) حملا على المعنى ؛ إذ المعنى : كلّ واحد من الكفار .
والأول أولى
لاتّساق الضمائر. وقرأ أبو جعفر ، ورويت عن نافع : «الظّمان» بإلقاء حركة الهمزة
على الميم .
فصل
قال الزجاج : «(الظّمآن)
قد تخفف همزته ، وهو الشديد العطش ، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال
البر فهو لا يستحق عليه ثوابا مع أنه يعتقد أن له ثوابا عليه ، وإن كان من أفعال
الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أنه ثوابا ، فكيف كان فهو يعتقد أن له
ثوابا عند الله تعالى ، فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب ، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه
، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الشراب ويتعلق قلبه به ، ويرجو به النجاة ، فإذا جاءه وأيس مما
__________________
كان يرجوه عظم ذلك
عليه» . قال مجاهد : «السراب : عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا» .
فإن قيل : قوله : (حَتَّى إِذا جاءَهُ) يدل على كونه شيئا ، وقوله : (لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً) مناقض له؟
فالجواب من وجوه :
الأول : معناه :
لم يجد شيئا نافعا ، كما يقال : فلان ما عمل شيئا ، وإن كان قد اجتهد.
الثاني : «إذا
جاءه» أي : جاء موضع السراب لم يجد السراب ، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة
، كأنه ضباب وهباء ، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء .
قوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي : وجد عقاب الله عنده الذي توعد به الكافر .
وقيل : وجد الله
عنده ، أي : عند عمله ، أي وجد الله بالمرصاد.
وقيل : قدم على
الله (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي : جزاء عمله . قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس
المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام .
قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلا يشق عليه الحساب.
وقال بعض
المتكلمين : «معناه : لا تشغله محاسبة أحد عن آخر كنحن ، ولو كان يتكلم بآلة كما تقول المشبهة لما صح ذلك» .
قوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ) هذا مثل آخر ضربة الله تعالى لأعمال الكفار ، وفي هذا
العطف أوجه :
أحدها : أنه نسق
على «كسراب» على حذف مضاف واحد ، تقديره : أو كذي ظلمات ، ودل على هذا المضاف قوله
: (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ
لَمْ يَكَدْ يَراها) فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. وهو قول أبي علي .
__________________
الثاني : أنه على
حذف مضافين ، تقديره : أو كأعمال ذي ظلمات فيقدّر «ذي» ليصح عود
الضمير إليه في قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) ويقدر «أعمال» ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة
، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة .
الثالث : أنه لا حاجة إلى حذف البتّة ، والمعنى : أنه شبّه أعمال الكفّار في حيلولتها بين القلب وما يهتدي
به بالظلمة.
وأما الضميران في (أَخْرَجَ يَدَهُ) فيعودان على محذوف دلّ عليه المعنى ، أي : إذا أخرج يده من
فيها و «أو» هنا
للتنويع لا للشك . وقيل : بل هي للتخيير ، أي : «شبهوا أعمالهم بهذا أو بهذا . وقرأ سفيان بن حسين : «أو كظلمات» بفتح الواو ، جعلها عاطفة دخلت عليها همزة الاستفهام التي معناها التقرير ، وقد تقدم ذلك في قوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى). قوله : «في بحر لجّيّ» : «في بحر» صفة ل «ظلمات» فيتعلق
بمحذوف . واللّجيّ : منسوب إلى «اللّجّ» وهو معظم البحر قاله الزمخشري .
وقال غيره : منسوب
إلى اللّجّة بالتاء ، وهي أيضا معظمه . فاللّجّيّ : هو العميق الكثير الماء ، وفيه لغتان : كسر
اللام ، وضمها .
قوله : (يَغْشاهُ مَوْجٌ) صفة أخرى ل «بحر» هذا إذا أعدنا الضمير في «يغشاه» على «بحر» وهو الظاهر.
وإن قدّرنا مضافا محذوفا ، أي : «أو كذي ظلمات» كما فعل
__________________
بعضهم كان الضمير في «يغشاه» عائدا عليه ، وكانت الجملة حالا منه
لتخصيصه بالإضافة ، أو صفة له . قوله : «من فوقه موج» يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر صفة ل «موج» الأول ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط ، و «موج» فاعل به
، لاعتماده على الموصوف ، قوله : (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) فيه الوجهان المذكوران قبله من كون الجملة صفة ل «موج» الثاني ، أو الجار فقط.
قوله : «ظلمات».
قرأ العامة بالرفع ، وفيه وجهان :
أجودهما : أن يكون
خبر مبتدأ مضمر تقديره : هذه أو تلك ظلمات .
الثاني : أن يكون «ظلمات»
مبتدأ ، والجملة من قوله : (بَعْضُها فَوْقَ
بَعْضٍ) خبره ، ذكره الحوفي وفيه نظر ، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ، اللهم إلا
أن يقال : إنها موصوفة تقديرا ، أي: ظلمات كثيرة متكاثفة ، كقولهم : «السمن منوان بدرهم» .
وقرأ ابن كثير : «ظلمات»
بالجر ، إلا أنّ البزّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من «سحاب» فقرأ البزّيّ عنه : (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بإضافة «سحاب» ل «ظلمات». وقرأ قنبل عه التنوين في «سحاب»
كالجماعة مع جره ل «ظلمات» . فأما رواية البزّي فقال أبو البقاء : جعل الموج المتراكم
بمنزلة السحاب . وأما رواية قنبل فإنه جعل «ظلمات» بدلا من «ظلمات» الأولى.
قوله : (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين
في «ظلمات» قبلها لأنها صفة لها . وجوّز الحوفي على قراءة رفع «ظلمات»
__________________
في «بعضها» أن
تكون بدلا من «ظلمات» ورد عليه من حيث المعنى ، (إذ المعنى) على الإخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض
وصفا لها بالتّراكم ، لا أنّ المعنى أنّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن
تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة .
وفيه نظر ، إذ لا
فرق بين قولك : بعض الظلمات فوق بعض ، وبين قولك : الظلمات بعضها فوق بعض ، وإن
تخيّل ذلك في بادىء الرأي.
قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ
يَراها). تقدم الكلام في «كاد» وأنّ بعضهم زعم أنّ نفيها إثبات
وإثباتها نفي ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).
وقال الزمخشري هنا
: (لم يكد يراها) مبالغة في (لم يرها) أي : لم يقرب أن يراها فضلا (عن) أن يراها ، ومنه قوله ذي الرمة :
٣٨٣٧ ـ إذا غيّر النّأي المحبّين لم
يكد
|
|
رسيس الهوى من
حبّ ميّة يبرح
|
أي : لم يقرب من
البراح فما باله يبرح . وقال أبو البقاء : اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ،
ومنشأ الاختلاف فيه أنّ موضوع «كاد» إذا نفيت وقوع الفعل ، وأكثر المفسرين على أن
المعنى : أنه لا يرى يده ، فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه :
أحدها : أن
التقدير : لم يرها ولم يكد ، ذكره جماعة من النحويين ، وهذا خطأ لأن قوله : «لم يرها» جزم بنفي الرؤية ، وقوله
: «لم يكد» إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير : ولم يكد يراها ، كما هو
مصرّح به في الآية ، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جهد ،
تناقض ، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها.
وإن كان معنى (لَمْ يَكَدْ يَراها) لم يرها البتّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن
يحمل عليه من غير أن يقدّر «لم يرها» .
__________________
الوجه الثاني :
قال الفراء : إن (كاد) زائدة . وهو بعيد.
الثالث : أن «كاد»
خرّجت هاهنا على معنى «قارب» والمعنى : لم يقارب رؤيتها ، وإذا لم يقاربها باعدها ، وعليه جاء قول ذي
الرمة في البيت المتقدم ، أي : لم يقارب البراح ، ومن هنا حكي عن ذي الرّمة أنه
لما روجع في هذا البيت قال : (لم أجد) بدل (لم يكد) .
والمعنى الثاني :
أنه رآها بعد جهد ، والتشبيه على هذا صحيح ، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدّ نظره إلى
يده وقرّبها من عينه رآها انتهى.
أما الوجه الأول
وهو ما ذكره أن قول الأكثرين (إنه يكون نفيها إثباتا ، فقد تقدم أنه غير صحيح ،
وليس هو قول الأكثر) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة ، وما أنشد بعضهم :
٣٨٣٨ ـ أنحويّ هذا
العصر ما هي لفظة
البيتين .
__________________
وأما ما ذكره من
زيادة «كاد» فهو قول أبي بكر وغيره ، ولكنه مردود عندهم.
وأما ما ذكره من
المعنى الثاني ، وهو أنه رآها بعد جهد ، فهو مذهب الفراء والمبرد . والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري ، وهو
المبالغة في نفي الرؤية .
وقال ابن عطية ما
معناه : إذا كان الفعل بعد «كاد» منفيّا دلّ على ثبوته ، نحو : «كاد زيد لا يقوم»
، أو مثبتا دلّ على نفيه ، نحو : «كاد زيد يقوم» وتقول : «كاد النّعام يطير» فهذا يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت : «كاد النعام ألا
يطير» وجب الطيران له ، وإذا تقدم النفي على «كاد» احتمل أن يكون موجبا وأن يكون
منفيا ، تقول : «المفلوج لا يكاد يسكن» فهذا يتضمّن نفي السكون ، وتقول : «رجل
منصرف لا يكاد يسكن» فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد .
فصل
اعلم أن الله
تعالى بين أنّ أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب ، وإن كانت قبيحة فهي
الظلمات ، وفيه وجه آخر ، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة ، وإما
كظلمات في بحر وذلك في الدنيا. وقيل : إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم ،
وأنهم لا يحصلون منها على شيء ، والآية الثانية في ذكر عقائدهم ، فإنها
تشبه الظلمات ، كما قال : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي : من الكفر إلى
__________________
الإيمان ، يدل
عليه قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).
فصل
وأما تقرير المثل
فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا بسبب غور الماء ، فإذا ترادفت عليه
الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ،
فالواقع في قعر هذا البحر اللّجّيّ في نهاية شدة الظلمة. ولما كانت العادة في اليد
أنها من أقرب ما يراها ، وأبعد ما يظن أنه لا يراها ، فقال تعالى : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ
يَراها) فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات ،
ثم شبه الكافر في اعتقاده ، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) وفي قوله : (يَسْعى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ). ولهذا قال أبي بن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلم :
كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات إلى النار.
وفي كيفية هذا
التشبيه وجوه :
الأول : قال الحسن
: «إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر ، وظلمة الأمواج ، وظلمة
السحاب ، كذا الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ،
وظلمة العمل».
الثاني : قال ابن
عباس : «شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث».
الثالث : أن
الكافر لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، ويعتقد أنه يدري ، فهذه المراتب الثلاث
تشبه تلك الظلمات الثلاث .
الرابع : قلب مظلم
في صدر مظلم في جسد مظلم.
الخامس : أن هذه
الظلمات متراكمة ، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى
لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه .
قوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً
فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).
قال ابن عباس : من
لم يجعل الله له دينا وإيمانا فلا دين له . وقيل : من لم يهده الله (فلا إيمان له) ولا يهديه أحد . قال أهل السنة : إنه تعالى لما وصف
__________________
هداية المؤمن
بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال : (يَهْدِي اللهُ
لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) ، ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبه بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً
فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). والمراد من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد
الإيمان ، وظلمة الطريق لا تمنع منه ، فإن الكل مربوط بخلق الله وهدايته وتكوينه .
قال القاضي : قوله
: (ومن لم يجعل الله له نورا) يعني في الدنيا بالإلطاف (فما له من نور) أي : لا يهتدي فيتحير ، وتقدم الكلام عليه.
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ
صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٤٢)
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية.
لما وصف أنوار
قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد.
والمعنى : ألم تعلم ، لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب ، وهذا استفهام
والمراد به: التقرير والبيان. قال ابن الخطيب : «إما أن يكون المراد من هذا
التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزها عن النقائص ، موصوفا بنعوت
الجلال ، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين
النطق باللسان.
والأول أقرب ، لأن
القسم الثاني متعذر ، لأن في الأرض من لا يكون مكلفا لا يسبح بهذا المعنى ، والمكلفون
منهم فمن لا يسبح أيضا بهذا المعنى كالكفار.
وأما القسم الثاني
وهو أن يقال : إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض
فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة ، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا ، وهو غير
جائز ، فلم يبق إلا
__________________
القسم الأول ، وهو
أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته
وإلاهيته وتوحيده وعدله ، فسمى ذلك تنزيها توسعا. فإن قيل : فالتسبيح بهذا المعنى
حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء؟ قلنا : لأن خلقة العقلاء أشد
دلالة على وجود الصانع سبحانه ، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر ، وهي العقل
والنطق والفهم» .
قوله : «والطّير».
قرأ العامة : «والطّير» رفعا ، «صافّات» نصبا. فالرفع عطف على «من» والنصب على
الحال . وقرأ الأعرج : «والطّير» نصبا على المفعول معه ، و «صافّات» حال أيضا . وقرأ الحسن وخارجة عن نافع : والطير صافّات» برفعهما على الابتداء والخبر ، ومفعول «صافّات» محذوف ، أي :
أجنحتها.
قوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ) في هذه الضمائر أقوال :
أحدها : أنّها
كلّها عائدة على «كلّ» ، أي : كلّ قد علم هو صلاة نفسه وتسبيحها ، وهذا أولى
لتوافق الضمائر.
الثاني : أن
الضمير في «علم» عائد إلى الله تعالى ، وفي (صَلاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ) عائد على «كلّ» ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).
الثالث : بالعكس ،
أي : علم كلّ صلاة الله وتسبيحه ، أي : اللذين أمر بهما وبأن يفعلا ، كإضافة الخلق
إلى الخالق ، وعلى هذا فقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) استئناف.
ورجّح أبو البقاء
ألّا يكون الفاعل ضمير «كلّ» قال : «لأنّ القراءة برفع (كلّ) على الابتداء فيرجع
ضمير الفاعل إليه ، ولو كان فيه ضمير الله لكان الأولى نصب (كلّ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو
من سببها فيصير كقولك : (زيدا ضرب عمرو وغلامه) فتنصب (زيدا) بفعل دلّ عليه ما
بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز» . قال شهاب
__________________
الدين : وليس كما
ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصّورة ولا في هذه السورة ، بل نصّ النحويون على أنّ مثل هذه الصورة يرجّح رفعها
بالابتداء على نصبها على الاشتغال ، لأنه لم يكن ثمّ قرينة من القرائن التي
جعلوها مرجحة للنصب ، والنصب يحوج إلى إضمار ، والرفع لا يحوج إليه ، فكان أرجح . وقرأت فرقة : «علم صلاته وتسبيحه» بالرفع وبناء الفعل
للمفعول الذي لم يسم فاعله. ذكرها أبو حاتم .
فصل
وجه اتصال هذا بما
قبله أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون ، ذكر المستقرين في الهواء الذي هو بين السماء والأرض ، وهم الطير يسبحون ، وذلك أن
إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة
أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه
، وجعل طيرانها سجودا منها له سبحانه ، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه
الأمور على التنزيه (لا النطق) اللساني . وقال أبو ثابت : «كنت جالسا عند أبي جعفر الباقر فقال لي :
أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ (قال : لا) قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن». واستبعد
المتكلمون ذلك فقالوا : الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون
كلامنا وإشارتنا ، لكنها ليست كذلك ، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصانا من
الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور ، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى ، وإذا ثبت أنها لا
تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق ، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال
كما تقدم . قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات
أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وإذا كان كذلك (فلم لا) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه
:
__________________
أحدها : أن الدب
يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه ، وربما عاود يشمه ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه
تعريضا بالواحد وصدمة بالأخرى ، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به ، ويحكى عن
الفأر في سرقته أمور عجيبة.
وثانيها : أمر
النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل
المهندسين.
وثالثها : انتقال
الكراكيّ من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلبا لما يوافقها
من الأهوية ، ويقال : من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتا ما
، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله ، والتماسيح تفتح
أفواهها لطائر يقع عليها يقال له : القطقاط وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة ، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير
تأذى من تلك الشوكة ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر ، والسلحفاة تتناول بعد أكل
الحية صعترا جبليا ثم تعود من ذلك . وحكى بعض الثقاة المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه
إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ، ولا تزال كذلك ، وكان ذلك الشخص قاعدا في كن ،
وكانت البقلة قريبة من مسكنه ، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة ، فعاد الحبارى إلى
منبتها فلم يجدها ، وأخذ يدور حول منبتها دورانا متتابعا حتى خرّ ميتا ، فعلم
الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة ، وتلك البقلة هي الجرجير البري.
وابن عرس يستظهر في الحية أكل السّذاب ، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى.
والكلاب إذا دودت
بطونها أكلت سنبل القمح. وإذا جرحت اللقالق بعضها
__________________
بعضا دوات الجراحة بالصعتر الجبلي. والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير
المدخل إلى جحرها ، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس
بإنذاره ، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور ، فيستدل به.
والخطّاف صانع في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ
في التراب لتحمل جناحاه قدرا من الطين ، وإذا فرّخ بالغ في تعهد الفراخ ، وتأخذ ذرقها بمنقارها وترميها عن العش ، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ
القبجة ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب
آخر سوى جانب الفراخ. وناقر الخشب قلما يقع على الأرض ، بل على الشجر ينقر الموضع
يعلم أن فيه دودا. والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران ، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفا مسموعا يتبع به بعضهم بعضا ، فإذا باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلّا القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه ، وإذا سمع جرسا صاح.
وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضا أمر عجيب ، وإذا
كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم ، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة
في فمها وتذهب في أسرع وقت.
والاستقصاء في هذا
الباب مذكور في كتاب «طبائع الحيوان» . والمقصود من
__________________
ذلك أن الفضلاء من
العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنها
تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَلكِنْ لا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما
يَفْعَلُونَ).
قرأ الجمهور
بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه .
وقرأ عيسى والحسن
بالتاء من فوق ، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وفي مصحف أبيّ وابن مسعود : «والله بصير بما تفعلون» .
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) تنبيه على أن الكل منه ، لأن كل ما سواه ممكن ومحدث ،
والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب ، ويدخل في هذا جميع
الأجرام والأعراض ، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم .
وقوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) وهذا دليل على المعاد ، وأنه لا بدّ من مصير الكل إليه .
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي
سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ
فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)
يُقَلِّبُ
اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(٤٤)
وهذه الرؤية
بصرية. والإزجاء : السوق قليلا قليلا ، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد ، وإزجاء السير في الإبل : الرفق بها
حتى تسير شيئا شيئا .
قوله : «بينه»
إنما دخلت «بين» على مفرد ، وهي إنّما تدخل على مثنى فما فوقه ، لأنّه إما أن يراد
بالسحاب : الجنس ، فعاد الضمير عليه على حكمه ، وإما أن يراد حذف مضافه أي : بين
قطعه ، فإن كل قطعة سحابة . قال ابن عطية : بين مفترق السحاب ، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن
بينه فروجا . وورش عن نافع لا يهمز
__________________
«يؤلّف». وقالون
عن نافع والباقون يهمزون «يؤلّف» .
قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي : متراكما يركب بعضها على البعض ويتكاثف ، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا
جعل السحاب ركاما بالريح عصر بعضه بعضا فخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً
ثَجَّاجاً) ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت :
٣٨٣٩ ـ كلتاهما حلب العصير فعاطني
|
|
بزجاجة أرخاهما للمفصل
|
وروي : «للمفصل»
بكسر الميم وفتح الصاد. فالمفصل : واحد المفاصل. والمفصل : اللسان. وروي بالقاف.
أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت ، أي : من عصير العنب ، وهذه من عصير السحاب ،
نقله ابن عطية . وقال أهل الطبائع : إن تكوين السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر
يكون من تكاثف البخار ، وفي الأقل من تكاثف الهواء.
أما الأول فالبخار
الصاعد إن كان قليلا وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل
وينقلب هواء ، وإن كان البخار كثيرا ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك
الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا
تبلغ.
فإن بلغت فإما أن
يكون البرد قويا أو لا يكون. فإن لم يكن البرد هنا قويا تكاثف ذلك البخار بذلك
القدر من البرد واجتمع وتقاطر ، فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ،
والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم. وإن كان البرد شديدا فلا
يخلوا إما أن يصل البرد إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد
صيرورتها كذلك. فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجا. وإن كان على الوجه الثاني نزل
بردا فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة.
__________________
فإن كانت كثيرة
فقد تنعقد سحابا ماطرا ، وقد لا تنعقد. أما الأول فلأسباب خمسة :
أحدها : إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة.
وثانيها : أن تكون
الرياح (ضاغطة ) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح.
وثالثها : أن تكون
هناك رياح متقابلة متصادمة
فتعود الأبخرة حينئذ.
ورابعها : أن يعرض
للبخار المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته يلتص به سائر الأجزاء الكثيرة المدد.
وخامسها : لشدة
برد الهواء القريب من الأرض ، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا
حتى كأنه مكبة موضوعة على وهدة ، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة ، والذين يكونون تحت
الغمامة يمطرون ، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس.
فإن كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة ، فإذا مر بها
برد الليل وكثفها ، فإنها تصير ماء محبوسا ينزل أولا متفرقا لا يحس به إلا عند
اجتماع شيء يعتد به ، فإن لم يجمد كان طلّا ، وإن جمد كان صقيعا ، ونسبة الصقيع
إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر.
والجواب (أنّا
دللنا على) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادرا مختارا يمكنه
إيجاد الأجسام ، ، فلا نقطع بما ذكرتموه (لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب
دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه) وأيضا فهب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكن الأجسام بالاتفاق
ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر ، ثم إنها متماثلة ، فاختصاص كل واحد منها
بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص ، فإذا كان
هو سبحانه خالقا لتلك الطبائع ، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب ،
وخالق السبب خالق المسبب ، فكان سبحانه هو الذي يزجي سحابا ، لأنه هو الذي خلق تلك
الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء ، ثم تلك الأبخرة
__________________
ترادفت في صعودها
والتصق بعضها بالبعض ، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاما ، فعلى جميع التقديرات توجه
الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة .
قوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
خِلالِهِ). تقدم الخلاف في «خلال» هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجبال جمع
«جبل» ؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك ـ وتروى عن أبي عمرو أيضا ـ «من خلله»
بالإفراد وقرأ عاصم والأعرج : «ينزّل» على المبالغة.
والجمهور على
التخفيف . والودق : قيل : هو المطر ضعيفا كان أو شديدا ، قال :
٣٨٤٠ ـ فلا مزنة ودقت ودقها
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها
|
وقيل : هو البرق ، وأنشد :
٣٨٤١ ـ أثرن عجاجة وخرجن منها
|
|
خروج الودق من
خلل السّحاب
|
والودق في الأصل
مصدر ، يقال : «ودق السحاب يدق ودقا» و «يخرج» حال ، لأن
الرؤية بصرية.
قوله : (مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ
بَرَدٍ). «من» الأولى لابتداء الغاية اتفاقا ، لأن ابتداء الإنزال
من السماء. وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لابتداء الغاية أيضا فهي ومجرورها بدل من الأولى
بإعادة العامل ، والتقدير : وينزّل من جبال السماء ، أي : من جبال فيها ، فهو بدل
اشتمال .
الثاني : أنها
للتبعيض ، قاله الزمخشري وابن عطية ، لأن جنس تلك الجبال
__________________
من جنس البرد ،
فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال.
الثالث : أنها زائدة ، أي : ينزل من السماء جبالا .
وقال الحوفي : (من
جبال) بدل من الأولى ، ثم قال : «وهي للتبعيض» .
ورده أبو حيان
بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية .
وأما الثالثة
ففيها أربعة أوجه :
الثلاثة المتقدمة
، والرابع : أنها لبيان الجنس ، قاله الحوفي والزمخشري . فيكون التقدير على قولهما وينزّل من السماء بعض جبال التي
هي البرد ، فالمنزّل برد ، لأنّ بعض البرد برد ، ومفعول «ينزّل» : هو من جبال كما تقدم تقريره.
وقال الزمخشري : «أو الأوليان للابتداء ، والثالثة للتبعيض» يعني : أنّ الثانية بدل من الأولى كما تقدم تقريره ، وحينئذ يكون مفعول «ينزّل»
هو الثالثة مع مجرورها ، التقدير : وينزّل بعض برد من السماء من جبالها. وإذا قيل
بأن الثانية
__________________
والثالثة زائدتان
، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدل من الأول ، والتقدير : وينزّل من السّماء
جبالا بردا ، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل ، أو الثاني في محل نصب مفعولا ل «ينزّل»
، والثالث في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله؟ خلاف ، الأول
قول الأخفش ، والثاني قول الفراء ، وتكون الجملة على قول الفراء صفة ل «جبال» ، فيحكم على موضعها بالجر اعتبارا باللفظ ، أو بالنصب اعتبارا
بالمحل. ويجوز أن يكون «فيها» وحده هو الوصف ، ويكون «من برد» فاعلا به لاعتماده ، أي استقر فيها برد . وقال الزجاج : «معناه : وينزّل من السماء من جبال برد
فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي : خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت
في هذا وفي الآية ب «من» لما فرّقت ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتم من حديد ، وخاتم حديد ، كان المعنى واحدا» انتهى.
فيكون (مِنْ بَرَدٍ) في موضع جرّ صفة ل «جبال» كما كان (مِنْ حَدِيدٍ) صفة ل «خاتم» ، ويكون مفعول : «ينزّل» : (مِنْ جِبالٍ) ، ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزّل بردا .
وقال أبو البقاء :
والوجه الثاني : أن التقدير : شيئا من جبال ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة. وهذا
الوجه هو الصحيح ، لأن قوله : (فِيها مِنْ بَرَدٍ) يحوجك إلى مفعول يعود الضمير إليه ، فيكون تقديره : وينزّل من جبال السماء جبالا
فيها برد ، وفي ذلك زيادة حذف وتقدير مستغنى عنه . وفي كلامه نظر ، لأن الضمير له شيء يعود عليه وهو «السّماء»
، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر ، لأنه مستغنى عنه ، وليس ثمّ مانع يمنع من عوده على
«السّماء».
وقوله آخرا :
وتقدير يستغنى عنه ينافي قوله : وهذا الوجه هو الصحيح.
__________________
والضمير في «به» يجوز أن يعود على البرد وهو الظاهر ، ويجوز أن يعود على
الودق والبرد معا جريا بالضمير مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل : فيصيب بذلك ، وقد تقدم نظيره.
فصل
قال ابن عباس :
أخبر الله أن في السماء جبالا من برد ، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر
المفسرين. وقيل : المراد بالسماء هو الغيم المرتفع ، سمي بذلك لسموه وارتفاعه ،
وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد. وأراد بقوله : «من جبال» : السحاب
العظام ، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال ، كما يقال : فلان يملك جبالا من مال ، ووصف
بذلك توسعا.
وذهبوا إلى أن
البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب ، ثم أنزل إلى الأرض. وقال بعضهم : إنما سمي
ذلك الغيم جبالا لأنه سبحانه خلقها من البرد ، وكل جسم متحجر فهو من الجبال ، ومنه
قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ
وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ). قال المفسرون : والأول أولى ، لأنّ السماء اسم لهذا الجسم
المخصوص ، فتسمية السحاب سماء بالاشتقاق مجاز ، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم
ينزله بردا ، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء ، فلا وجه لترك الظاهر
.
قوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي : بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أي : يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه .
قوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ). العامة على قصر «سنا» وهو الضوء ،
وهو من ذوات الواو ، يقال : سنا يسنو سنا ، أي أيضاء يضيء ، قال امرؤ القيس :
٣٨٤٢ ـ يضيء سناه أو مصابيح راهب
__________________
والسناء ـ بالمد ـ
: الرفعة ، قال :
٣٨٤٣ ـ (وسنّ كسنّيق سناء وسنّما )
وقرأ ابن وثاب : «سناء
برقه» بالمد ، وبضم الباء من «برقه» وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضا . فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان . فأما «برقه» فجمع «برقة» ، وهي المقدار من البرق ، ك «غرفة
وغرف» ، و «لقمة ولقم» . وأما ضم الراء فإتباع ، ك «ظلمات» بضم اللام إتباعا لضم الظاء ، وإن كان أصلها السكون . وقرأ العامة أيضا «يذهب» بفتح الياء والهاء.
وأبو جعفر بضم
الياء وكسر الهاء من «أذهب» .
وقد خطّأ هذه
القراءة الأخفش وأبو حاتم ، قالا : «لأنّ الباء تعاقب الهمزة» .
__________________
وليس ردّهما بصواب
، لأنّها تتخرّج على ما خرّج ما قرىء به في المتواتر : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) من أنّ الباء مزيدة ، أو أنّ المفعول محذوف والباء بمعنى «من» تقديره : يذهب
النور من الأبصار، كقوله :
٣٨٤٤ ـ شرب النّزيف ببرد ماء الحشرج
فصل
المعنى : يكاد ضوء
برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه. واعلم أنّ البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون نارا عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء
والبرد ، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد ، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم ، ثم قال : (يُقَلِّبُ اللهُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يصرفهما في اختلافهما ، ويعاقبهما : يأتي بالليل ويذهب
بالنهار ، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليهالسلام : «قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسبّ الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنهار» . وقيل : المراد ولوج أحدهما في الآخر.
وقيل : المراد
تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما . (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي : إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)
__________________
البصائر ، أي : دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده .
قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى
رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٤٦)
قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
ماءٍ) الآية.
لما استدل أولا
بأحوال السماء والأرض ، وثانيا بالآثار العلوية استدل ثالثا بأحوال الحيوانات. قال
ابن عطية : قرأ حمزة والكسائي : «والله خالق كلّ دابّة» على الإضافة ، فإن قيل : لم قال : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) مع أن كثيرا من الحيوانات لم يخلق من الماء ، كالملائكة خلقوا من النور ، وهم أعظم الحيوانات عددا ، وكذلك الجن وهم مخلوقون من
النار ، وخلق آدم من التراب لقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) وخلق عيسى من الريح لقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا) ونرى كثيرا من الحيوانات يتولد لا عن نطفة؟ فالجواب من
وجوه :
أحسنها : ما قال
القفال : إنّ «ماء» صلة (كُلَّ دَابَّةٍ) وليس هو من صلة «خلق» والمعنى: أنّ كلّ دابّة متولدة من
الماء فهي مخلوقة لله تعالى.
وثانيها : أنّ أصل
جميع المخلوقات الماء على ما روي : «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين
الهيبة فصارت ماء ، ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور». والمقصود من هذه
الآية : بيان أصل الخلقة ، وكان أصل الخلقة الماء ، فلهذا ذكره الله تعالى.
وثالثها : المراد
من «الدّابّة» : التي تدب على وجه الأرض ، ومسكنهم هنالك ، فيخرج الملائكة والجن ، ولما كان الغالب من هذه
الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء ، إما لأنها متولدة من النطفة ، وإما لأنها لا
تعيش إلا بالماء ، لا جرم أطلق عليه لفظ الكل تنزيلا للغالب منزلة الكل .
وقيل : الجار في
قوله : «من ماء» متعلق ب «خلق» أي : خلق من ماء كلّ دابّة ، و «من» لابتداء الغاية
. ويرد على هذا السؤال المتقدم.
__________________
فإن قيل : لم نكر الماء في قوله : «من ماء» وعرفه في قوله : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)؟
فالجواب : جاء
هاهنا منكرا لأنّ المعنى : خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصا بتلك الدابة ،
وعرفه في قوله : (مِنَ الْماءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ) لأنّ المقصود هناك : كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم
إلى أنواع كثيرة .
قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي). إنما أطلق «من» على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في
المفصّل ب «من» وهو (كُلَّ دَابَّةٍ). وكان التعبير ب «من» أولى ليوافق اللفظ .
وقيل : لمّا وصفهم
بما يوصف به العقلاء وهو المشي أطلق عليها «من» وفيه نظر ، لأن هذه الصفة ليست خاصة بالعقلاء ، بخلاف قوله
تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ) ، وقوله :
٣٨٤٥ ـ أسرب القطا هل من يعير جناحه
|
|
.................
|
البيت.
وقد تقدّم خلاف
القرّاء في (خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ) في سورة «إبراهيم» .
واستعير المشي
للزّحف على البطن ، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس ، كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ، ويقال
: فلان ما يمشي له أمر . فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ،
وقد تجد من يمشي على أكثر من
__________________
أربع كالعناكب
والعقارب والرتيلات والحيوان الذي له أربعة وأربعون رجلا؟
فالجواب : هذا
القسم الذي لم يذكر كالنادر ، فكان ملحقا بالعدم . وأيضا قال النقاش : إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن
ذكر ما يمشي على أكثر ، لأنّ جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع ، وهي قوام مشيه ، وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخلقة ، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها . قال ابن عطية : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا
، بل هي محتاج إليها في نقل الحيوان ، وهي كلها تتحرك في تصرفه .
وجواب آخر وهو أن
قوله تعالى : (يَخْلُقُ اللهُ ما
يَشاءُ) كالتنبيه على سائر الأقسام .
وفي مصحف أبيّ بن
كعب : «ومنهم من يمشي على أكثر» فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم
يثبت بالإجماع .
قوله : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأنه هو القادر على الكل ، والعالم بالكل ، فهو المطلع على أحوال
هذه الحيوانات ، فأي عقل يقف عليها؟ وأي خاطر يصل إلى ذرّة من أسرارها؟ بل هو الذي يخلق ما يشاء كما يشاء ، ولا يمنعه
منه مانع .
قوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ
مُبَيِّناتٍ). الأولى حمله على كل الأدلة. وقيل : المراد القرآن ، لأن كالمشتمل على
كل الأدلة والعبر . (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ
يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وتقدم الكلام في نظائر هذه الآية بين أهل السنة والمعتزلة .
قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ
__________________
(٤٨) وَإِنْ يَكُنْ
لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ
بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٥٠)
قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) الآية.
لما ذكر دلائل
التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالذنب بألسنتهم ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم.
قال مقاتل : نزلت
هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهوديا في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى
محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقال المنافق : نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمدا
يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية. وقد مضت قصتها في سورة «النساء» .
وقال الضحاك :
نزلت في المغيرة بن وائل ، كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض تقاسماها ، فوقع إلى عليّ
ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة ، فقال المغيرة : بعني أرضك. فباعها إياه ، وتقابضا.
فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي : اقبض أرضك ، فإنما اشتريتها
إن رضيتها ، ولم أرضها. فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها ، لا
أقبلها منك ، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال المغيرة : أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه ، فإنه
يبغضني ، وأنا أخاف أن يحيف علي ، فنزلت الآية.
وقال الحسن : نزلت
هذه في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر .
فصل
المعنى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) يعني : المنافقين يقولونه ، (ثُمَّ يَتَوَلَّى) يعرض عن طاعة الله ورسوله (فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد قولهم : آمنّا ، ويدعو إلى غير حكم الله ، ثم
قال : (وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ).
فإن قيل : إنه
تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون : «آمنّا» ثم حكى عن فريق منهم التولي ، فكيف يصح
أن يقول في جميعهم : (وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ) مع أن المتولي فريق منهم؟
فالجواب : أن قوله
: (وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ) راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة
__________________
الأولى ، وأيضا
فلو رجع إلى الأولى لصح ، ويكون معنى قوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي : يرجع هذا الفريق إلى الباقين فيظهر بضهم لبعض الرجوع ، كما أظهروه ، ثم بين تعالى أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم
إذا فريق منهم معرضون ، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول لقوله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا
إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) منقادين لحكمه ، أي : إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا
إلى حكمه لتيقنهم أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا بالحق ، وهذا يدل على
أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا. فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن
الإعراض وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا (ببذل الرضا ) .
قوله : «ليحكم»
أفرد الضمير وقد تقدّمه اسمان وهما : (اللهِ وَرَسُولِهِ) فهو كقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) لأنّ حكم رسوله هو حكمه. قال الزمخشري : كقولك : أعجبني زيد وكرمه ، أي : كرم زيد ، ومنه :
٣٨٤٦ ـ ومنهل من الفيافي أوسطه
|
|
غلّسته قبل القطا وفرطه
|
أي : قبل فرط (القطا
) يعني : قبل تقدّم القطا. وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس والحسن : (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) هنا ، والتي بعدها مبنيا للمفعول ، والظرف قائم مقام الفاعل.
__________________
قوله : (إِذا فَرِيقٌ) «إذا» هي الفجائية
، وهي جواب «إذا» الشرطية أولا ، وهذا أحد الأدلة على منع أن يعمل في «إذا» الشرطية جوابها ، فإن ما
بعد الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، كذا ذكره أبو حيان ، وتقدم تحرير هذا وجواب الجمهور عنه.
قوله : «إليه»
يجوز تعلقه ب «يأتوا» ، لأنّ «أتى» و «جاء» قد جاءا معدّيين ب «إلى» ، ويجوز أن يتعلق ب «مذعنين» لأنه بمعنى : مسرعين
في الطاعة. وصححه الزمخشري ، قال : لتقدّم صلته ، ودلالته على الاختصاص ، و «مذعنين» حال . والإذعان : الانقياد ، يقال : أذعن فلان لفلان ، انقاد له
. وقال الزجاج : «الإذعان : الإسراع مع الطاعة» .
قوله : (أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ). «أم» فيهما منقطعة ، فتقدر عند الجمهور بحرف الإضراب
وهمزة الاستفهام ، تقديره : بل أرتابوا بل أيخافون ، ومعنى الاستفهام هنا : التقرير
والتوقيف ، ويبالغ فيه تارة في الذم كقوله :
٣٨٤٧ ـ ألست من القوم الّذين تعاهدوا
|
|
على اللّؤم والفحشاء
في سالف الدّهر
|
وتارة في المدح
كقوله جرير :
٣٨٤٨ ـ ألستم خير من ركب المطايا
|
|
وأندى العالمين
بطون راح
|
و «أن يحيف» مفعول
الخوف والحوف : الميل والجور في القضاء ، يقال : حاف في قضائه ، أي : (مال ) .
فصل
قوله (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق (أَمِ ارْتابُوا) شكوا ، وهو استفهام ذم وتوبيخ ،
__________________
أي هم كذلك ، (أَمْ يَخافُونَ أَنْ
يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي : يظلم (بَلْ أُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) ، لأنفسهم بإعراضهم عن الحق .
قال الحسن بن أبي
الحسن : من دعا خصمه إلى حكم من أحكام المسلمين فلم يجب ، فهو ظالم فإن قيل : إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد
ارتابوا في الدين ، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض ، فالكل واحد ، فأي فائدة في
التعديد ؟
فالجواب : قوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إشارة إلى النفاق ، وقوله : (أَمِ ارْتابُوا) إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين
بسببه . فإن قيل : هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة ، فكيف أدخل عليها كلمة «أم»؟
فالجواب الأقرب
أنه تعالى أنبههم على كل واحدة من هذه الأوصاف ، فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق
، وكان فيها شك وارتياب ، وكانوا يخافون الحيف من الرسول ، وكل واحد من ذلك كفر
ونفاق ، ثم بين تعالى بقوله : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) بطلان ما هم عليه ، لأن الظلم يتناول كل معصية ، كما قال
تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) .
قوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ
إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا
سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا
بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا
تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ
وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ
إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٥٤)
قوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ). العامة على نصب «قول» خبرا ل «كان» ، والاسم «أن» المصدرية وما بعدها. وقرأ أمير المؤمنين والحسن وابن أبي
إسحاق برفعه على أنه الاسم ، و «أن» وما في حيّزها الخبر ، وهي عندهم
مرجوحة ، لأنه متى اجتمع معرفتان فالأولى جعل الأعرف الاسم ، وإن كان سيبويه
خيّر في ذلك بين كل
__________________
معرفتين ، ولم
يفرّق هذه التفرقة ، وتقدم تحقيق هذا في «آل عمران».
فصل
قوله : (إِنَّما كانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) أي : إلى كتاب الله «ورسوله ليحكم بينهم» وهذا ليس على
طريق الخبر ، ولكنه تعليم أدب الشرع ، بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا ، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة ، (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال ابن عباس : فيما ساءه وسره (يَخْشَى اللهَ) فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي «ويتّقه» فيما بقي من
عمره (فَأُولئِكَ هُمُ
الْفائِزُونَ) الناجون.
قوله : «ويتّقه».
القراء فيه بالنسبة إلى القاف على مرتبتين :
الأولى : تسكين القاف ، ولم يقرأ بها إلّا حفص. والباقون بكسرها .
وأما بالنسبة إلى
هاء الكناية فإنهم فيها على خمس مراتب :
الأولى : تحريكها
مفصولة قولا واحدا ، وبها قرأ ورش وابن ذكوان وخلف وابن كثير
والكسائيّ.
الثانية : تسكينها
قولا واحدا ، وبها قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم .
الثالثة : إسكان
الهاء أو وصلها بياء ، وبها قرأ خلّاد .
__________________
الرابعة : تحريكها من غير صلة ، وبها قرأ قالون وحفص .
الخامسة : تحريكها
موصولة أو مقصورة ، وبها قرأ هشام .
فأمّا إسكان الهاء
وقصرها وإشباعها فقد مرّ تحقيقه مستوفى . وأما تسكين القاف فإنهم حملوا المنفصل على المتّصل ، وذلك
أنهم يسكّنون عين «فعل» فيقولون : كبد ، وكتف ، وصبر في كبد وكتف وصبر ، لأنها كلمة واحدة ، ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مجرى
المتصل ، فإن «يتّقه» صار منه «تقه» بمنزلة «كتف» فسكن كما يسكن ، ومنه :
٣٨٤٩ ـ قالت سليمى اشتر لنا سويقا
بسكون الراء كما
سكن الآخر :
٣٨٥٠ ـ فبات منتصبا وما تكردسا
وقول الآخر :
٣٨٥١ ـ عجبت لمولود وليس له أب
|
|
وذي ولد لم يلده
أبوان
|
يريد : «منتصبا» ،
و «لم يلده».
__________________
وتقدم في أول
البقرة تحرير هذا الضابط في قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) و «هي» و «هو»
ونحوها.
وقال مكيّ : كان
يجب على من سكّن القاف أن يضمّ الهاء ، لأنّ هاء الكناية إذا سكّن ما قبلها ولم
يكن الساكن ياء ضمّت نحو «منه» و «عنه» ، ولكن لما كان سكون القاف عارضا لم يعتدّ
به ، وأبقى الهاء على كسرتها التي كانت عليها مع كسر القاف ، ولم يصلها بياء ،
لأنّ الياء المحذوفة قبل الهاء مقدّرة منويّة ، (فبقي الحذف الذي في الياء قبل
الهاء على أصله ) .
وقال الفارسيّ :
الكسرة في الهاء لالتقاء الساكنين ، وليست الكسرة التي قبل الصلة ، وذلك أنّ هاء
الكناية ساكنة في قراءته ، ولما أجرى «تقه» مجرى كتف ، وسكّن القاف التقى ساكنان ،
ولمّا التقيا اضطر إلى تحريك أحدهما ، فإمّا أن يحرّك الأول أو الثاني ، (و) لا سبيل إلى تحريك الأول ، لأنه يعود إلى ما فرّ منه ، وهو
ثقل «فعل» فحرّك ثانيهما (على غير) أصل التقاء الساكنين ، فلذلك كسر الهاء ، ويؤيده قوله :
٣٨٥٢ ـ ................
|
|
... لم يلده أبوان
|
وذلك أن أصله : لم
«يلده» بكسر اللام وسكون الدال للجزم ، ثم لما سكن اللام التقى ساكنان ، فلو حرك
الأول لعاد إلى ما فرّ منه ، فحرك ثانيهما وهو الدال ، وحركها بالفتح وإن كان على
خلاف أصل التقاء الساكنين مراعاة لفتحة الياء . وقد ردّ أبو القاسم بن فيره قول الفارسي وقال : لا يصحّ قوله : إنه كسر الهاء لالتقاء
الساكنين ، لأن حفصا لم يسكّن الهاء في قراءته قطّ وقد رد أبو عبد الله شارح قصيدته هذا الردّ ، وقال : وعجبت من نفيه الإسكان عنه مع ثبوته
عنه في «أرجه» و (فَأَلْقِهْ) ، وإذا قرأه في «أرجه» و «فألقه» احتمل أن يكون «يتّقه»
عنده قبل سكون
__________________
القاف كذلك ،
وربما يرجّح ذلك بما ثبت عن عاصم من قراءته إيّاه بسكون الهاء مع كسر القاف . قال شهاب الدين : لم يعن الشاطبيّ بأنّه لم يسكن الهاء
قطّ ، الهاء من حيث هي هي ، وإنما (عنى هاء) «يتّقه» خاصة ،
وكان الشاطبيّ أيضا يعترض التوجيه الذي تقدم عن مكّي ، ويقول : تعليله حذف الصلة
بأن الياء المحذوفة قبل الهاء مقدّرة منويّة ، فبقي في حذف الصلة بعد الهاء على
أصله غير مستقيم من قبل أنّه قرأ «يؤدهي» وشبّهه بالصلة ، ولو كان يعتبر ما قاله من تقدير الياء قبل الهاء لم يصلها .
قال أبو عبد الله
: هو وإن قرأ «يؤدّ هي» وشبّهه بالصلة فإنه قرأ : «يرضه» بغير صلة ، فألحق مكيّ «يتّقه» ب «يرضه» ، وجعله مما خرج
فيه عن نظائره لاتّباع الأثر ، والجمع بين اللغتين ، ويرجح ذلك عنده لأنّ اللفظ
عليه ، ولما كانت القاف في حكم المكسورة بدليل كسر الهاء بعدها صار كأنه «يتّقه»
بكسر القاف والهاء من غير صلة ، كقراءة قالون وهشام في أحد وجهيه ، فعلّله بما يعلّل به قراءتهما ، والشاطبيّ يرجح عنده حمله على الأكثر مما قرأ به ، لا
على ما قلّ وندر ، فاقتضى تعليله بما ذكر .
قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ) في (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وجهان :
أحدهما : أنه
منصوب على المصدر بدلا من اللفظ بفعله ، إذ أصل : أقسم بالله جهد اليمين : أقسم
بجهد اليمين جهدا ، فحذف الفعل وقدّم المصدر موضوعا موضعه ، مضافا إلى المفعول ك (فَضَرْبَ الرِّقابِ) ، قاله الزمخشري .
والثاني : أنه حال
، تقديره : مجتهدين في أيمانهم ، كقولهم : افعل ذلك جهدك وطاقتك. وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجها
واحدا فقال بعد ما تقدّم عنه : وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قيل : جاهدين
أيمانهم وتقدم الكلام على (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في المائدة .
__________________
فصل
قال مقاتل : من
حلف بالله فقد أجهد في اليمين ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا
، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا». فقال الله تعالى : «قل» لهم «لا تقسموا» لا تحلفوا
، وهاهنا تم الكلام .
ولو كان قسمهم لما
يجب لم يجز النهي عنه ، لأنّ من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه ،
فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم ، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم ، ومن نوى الغدر لا الوفاء
فقسمه قبيح .
قوله : «طاعة
معروفة». في رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر
مبتدأ مضمر تقديره : «أمرنا طاعة» ، أو «المطلوب طاعة» .
والثاني : أنها مبتدأ والخبر محذوف ، أي : (أمثل أو أولى ) .
وقد تقدّم أنّ
الخبر متى كان في الأصل مصدرا بدلا من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه ، كقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، ولا يبرز إلّا اضطرارا ، كقوله :
٣٨٥٣ ـ فقالت على اسم الله أمرك طاعة
|
|
وإن كنت قد
كلّفت ما لم أعوّد
|
على خلاف في ذلك.
والثالث : أن يكون
فاعله بفعل محذوف ، أي : ولتكن طاعة ، ولتوجد طاعة.
__________________
واستضعف ذلك بأنّ
الفعل لا يحذف إلّا (إذا) تقدّم مشعر به ، كقوله : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) في قراءة من بناه للمفعول ، أي : يسبّحه رجال. أو يجاب به نفي ، كقولك : بلى زيد لمن قال : «لم يقم أحد». أو استفهام كقوله :
٣٨٥٤ ـ ألا هل أتى أمّ الحويرث مرسل
|
|
بلى خالد إن لم
تعقه العوائق
|
وقرأ زيد بن علي و
اليزيديّ : «طاعة» بنصبها بفعل مضمر ، وهو الأصل. قال أبو البقاء :
ولو قرىء بالنصب
لكان جائزا في العربية ، وذلك على المصدر ، أي : أطيعوا طاعة وقولوا قولا ، وقد
دلّ عليه قوله بعدها : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) قال شهاب الدين : (قوله : (ولو قرىء بالنصب لكان جائزا) قد
تقدم النقل لقراءته) . وأما قوله : (وقولوا قولا) فكأنه سبق لسانه إلى آية
القتال ، وهي : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد .
فصل
المعنى : هذه طاعة
بالقول باللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة ، أي : أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ،
قاله مجاهد. وقيل : طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها
الفعل . وقال مقاتل بن سليمان : لتكن
__________________
منكم طاعة معروفة.
هذا على قراءة الرفع . وأما على قراءة النصب فالمعنى : أطيعوا الله طاعة و (اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : لا يخفى عليه شيء من سرائركم ، فإنه فاضحكم لا محالة
، ومجازيكم على نفاقكم ، ثم قال : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : عن طاعة الله ورسوله (فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي : على الرسول «ما حمّل» كلّف وأمر به من تبليغ الرسالة (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الإجابة والطاعة . وقرأ نافع في رواية : «فإنّما عليه ما حمل» بفتح الحاء
والتخفيف أي: فعليه إثم ما حمل من المعصية .
(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) أي : تصيبوا الحق ، وإن عصيتموه ، ف (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ). و «البلاغ» بمعنى : التبليغ. و «المبين» : الواضح .
قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يجوز أن يكون ماضيا ، وتكون الواو ضمير الغائبين ويكون في
الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحسّن الالتفات هنا كونه لم يواجههم بالتولّي
والإعراض ، وأن يكون مضارعا حذفت إحدى تاءيه ، والأصل : «تتولّوا» ، ويرجّح هذا قراءة البزّيّ : بتشديد (التاء «فإن) تّولّوا». وإن كان بعضهم يستضعفها للجمع بين ساكنين على
غير حدّهما.
ويرجّحه أيضا
الخطاب في قوله : (وَعَلَيْكُمْ ما
حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)
، ودعوى الالتفات
من الغيبة إلى الخطاب ثانيا بعيد.
قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ
هُمُ الْفاسِقُونَ)(٥٥)
قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.
تقدير النظم :
بلّغ أيها الرسول وأطيعوا أيها المؤمنون فقد (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي : الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض
فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين ، كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود
__________________
وسليمان ـ عليهماالسلام ـ وغيرهما ، وأنه يمكن لهم دينهم ، وتمكينه ذلك بأن يؤيدهم
بالنصر والإعزاز ، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمنا ، بأن ينصرهم عليهم
فيقتلوهم ، ويأمنوا بذلك شرهم .
قال أبو العالية :
مكث النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد الوحي بمكة عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على
أذى الكفار ، فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ،
وأمروا بالقتال ، وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه ، فقال رجل منهم : ما
يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني : والله
ليستخلفنهم في الأرض ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وسكانها (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ).
(قال قتادة : داود
وسليمان وغيرهما من الأنبياء .
وقيل) : (كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : بني إسرائيل ، حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام ،
وأورثهم أرضهم وديارهم . روى عدي بن حاتم قال : أتينا عند النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذ أتى إليه رجل فشكى إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكى
إليه قطع النسل ، فقال : «يا عدي هل رأيت الحيرة؟» قلت : لم أرها وقد أتيت فيها :
قال : «فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف
أحدا إلا الله» قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين قد سعوا البلاد ، «وإن طالت بك
حياة لتفتحن كنوز كسرى». قلت : كسرى بن هرمز ، «ولئن طالت بك حياة لترين الرجل من
مكة يخرج ملأ كفه من ذهب ، أو ذهب يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله ، وليلقين
الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ، وليقولن : «ألم أبعث
إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أعطك مالا وأتفضل عليك» فيقول : بلى
، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا الجنة ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم». قال عدي
: سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد تمرا
فبكلمة طيبة» ـ قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة
لا تخاف إلا الله تعالى وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة
لترون ما قال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يخرج (الرجل ملأ كفه ) .
__________________
قوله : «ليستخلفنّهم»
فيه وجهان :
أحدهما : هو جواب
قسم مضمر ، أي : أقسم ليستخلفنهم ، ويكون مفعول الوعد محذوفا تقديره : وعدهم الاستخلاف ،
لدلالة قوله : «ليستخلفنّهم» عليه .
والثاني : أن يجرى
«وعد» مجرى القسم لتحقّقه ، فلذلك أجيب بما يجاب به القسم .
قوله : «كما
استخلف» أي : استخلافا كاستخلافهم . والعامة على بناء استخلف للفاعل.
وأبو بكر بناه
للمفعول . فالموصول منصوب على الأول ومرفوع على الثاني.
قوله : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ). قرأ ابن كثير وأبو بكر : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بسكون الباء وتخفيف الدال من أبدل وتقدم توجيهها في الكهف في قوله : (أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما).
قوله : «يعبدونني»
فيه سبعة أوجه :
أحدها : أنه
مستأنف ، أي : جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما بالهم يستخلفون ويؤمنون؟
فقيل : «يعبدونني»
.
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم يعبدونني ، والجملة أيضا
استئنافية تقتضي المدح.
الثالث : أنه حال
من مفعول «وعد الله» .
الرابع : أنه حال
من مفعول «ليستخلفنّهم» .
__________________
الخامس : أن يكون
حالا من فاعله .
السادس : أن يكون
حالا من مفعول «ليبدّلنّهم» .
السابع : أن يكون
حالا من فاعله .
قوله : «لا يشركون».
يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا من فاعل «يعبدونني» أي : يعبدونني موحدين ،
وأن يكون بدلا من الجملة التي قبله الواقعة حالا ، وتقدم ما فيها.
فصل
دلّ قوله : (وَعَدَ اللهُ) على أنه متكلم ، لأن الوعد نوع من أنواع الكلام ، والموصوف
بالنوع موصوف بالجنس ، ولأنه تعالى ملك مطاع ، والملك المطاع لا بدّ وأن يكون بحيث
يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه ، فثبت أنه سبحانه متكلم .
فصل
ودلت الآية على
أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافا لهشام بن الحكم ، فإنه قال : لا يعلمها
قبل وقوعها. ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخبارا على
التفصيل. وقد وقع المخبر مطابقا للخبر ، ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم .
فصل
ودلت الآية على
أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات لقوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الْأَرْضِ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وقد فعل كل ذلك ، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر
على كل الممكنات المقدورات .
فصل
ودلت الآية على
أنه سبحانه هو المستحق للعبادة ، لأن قال : «يعبدونني».
وقالت المعتزلة :
الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض ، لأنّ المعنى : لكي يعبدونني.
وقالوا أيضا : الآية تدل على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل ، لأنّ من
__________________
فعل فعلا لغرض ،
فلا بدّ وأن يكون مريدا لذلك الغرض .
فصل
ودلت الآية على
أنه سبحانه منزه عن الشريك ، لقوله : (لا يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئاً) وذلك يدل على نفي الإله الثاني ، وعلى أنه لا يجوز عبادة
غير الله سبحانه .
فصل
ودلت الآية على
نبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنه أخبر عن الغيب بقوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وقد وجد هذا المخبر موافقا للخبر ، ومثل هذا الخبر معجز ،
والمعجز دليل الصدق ، فدل على صدق محم عليهالسلام.
فصل
دلت الآية على أنّ
العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان ، خلافا للمعتزلة ، لأنه عطف العمل الصالح على
الإيمان ، والمعطوف خارج عن المعطوف عليه .
فصل
دلت الآية على
إمامة الأئمة الأربعة ، لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين
في زمان محمد ـ عليهالسلام ـ بقوله : «منكم» بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين
من قبلهم ، وأن يمكن لهم دينهم المرضي ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمنا ، ومعلوم أن المراد بهذا
الوعد بعد الرسول هؤلاء ، لأنّ استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ، ومعلوم ألا نبيّ
بعده ، لأنه خاتم الأنبياء ، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ، ومعلوم
أن بعد الرسول لا يحصل هذا الاستخلاف إلّا في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ،
لأنّ في أيامهم كان الفتوح العظيم ، وحصل التمكن ، وظهر الدين والأمن ، ولم يحصل
ذلك في أيام عليّ ـ كرم الله وجهه ـ لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار ، لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة ، فثبت بهذا
دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء . فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأنها تقتضي حصول
الخلافة
__________________
لكل من آمن وعمل
صالحا ، ولم يكن الأمر كذلك ، نزلنا عنه ، ولكن لم لا يجوز أن يكون المراد من
قوله: «ليستخلفنّهم» هو أنه تعالى أسكنهم في الأرض ، ومكنهم من التصرف ، لأنّ
المراد خلافة الله ، ويدل عليه قوله : (كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الأمانة ، فوجب أن
يكون الأمن في حقهم أيضا ، كذلك نزلنا عنه ، لكن هاهنا ما يدل على أنه لا يجوز
حمله على خلافة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأن من مذهبكم أنه ـ عليهالسلام ـ لم يستخلف أحدا ، وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «أنزلتكم كما نزلت نبي الله» فعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ) ، وقال في حق علي ـ رضي الله عنه ـ : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ، نزلنا عنه ، ولكن نحمله على الأئمة الاثني عشر؟
والجواب عن الأول
: أن كلمة «من» للتبعيض ، فقوله : «منكم» يدل على أنّ المراد من هذا الخطاب بعضهم.
وعن الثاني : أن
الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق ، والمذكور هاهنا في معرض
البشارة ، فلا بدّ وأن يكون مغايرا له.
وأما قوله تعالى :
(كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فالذين كانوا قبلهم قد كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة وتارة بسبب الملك ، فالخلافة
حاصلة في الصورتين.
وعن الثالث : أنه
وإن كان مذهبنا أنه عليهالسلام لم يستخلف أحدا بالتعيين ، ولكن قد استخلف بذكر الوصف
والأمر والإخبار ، فلا يمتنع في هؤلاء أنه تعالى استخلفهم ، وأن الرسول استخلفهم ،
وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ خليفة رسول الله ، والذي قيل : إنه عليهالسلام لم يستخلف أريد به على وجه التعيين ، وإذا قيل : استخلف ، فالمراد على طريق الوصف والأمر.
وعن الرابع : أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز ، وهو خلاف الأصل.
__________________
وعن الخامس : أنه
باطل لوجهين :
أحدهما : قوله
تعالى : (مِنْكُمْ) يدل على أنّ الخطاب كان مع الحاضرين ، وهؤلاء الأئمة ما
كانوا حاضرين.
الثاني : أنه
تعالى وعدهم القوة والشوكة والبقاء في العالم ، ولم يوجد ذلك فيهم. فثبت بهذا صحة
إمامة الأئمة الأربعة ، وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان ، وعلى
بطلان قول الخوارج ، الطاعنين على عثمان وعلي .
قوله : «ومن كفر
بعد ذلك» أراد كفر النعمة ، ولم يرد الكفر بالله تعالى ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) العاصون لله عزوجل. قال المفسرون : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان ، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل
عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا. روى حميد بن هلال قال : قال عبد الله بن سلام في عثمان : إن الملائكة لم تزل
محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتى اليوم ، فو الله لئن قتلتموه لتذهبون ثم لا تعودون
أبدا ، فو الله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له ، وإن سيف الله لم
يزل مغمودا عنكم ، والله لئن قتلتموه ليسللنه الله ـ عزوجل ـ ثم لا يغمده عنكم إما قال أبدا ، وإما قال إلى يوم
القيامة ، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا ، ولا خليفة إلا قتل به خمسة
وثلاثون ألفا .
وروى علي بن الجعد
قال : أخبرني حماد ـ وهو ابن سلمة ـ عن ابن دينار عن سعيد بن جهمان عن سفينة قال : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول : الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا ، ثم قال :
أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر
__________________
عشر ، وعثمان اثني عشر ، وعلي ست. قال علي : «قلت لحماد :
سفينة القائل لسعيد : أمسك؟ قال : نعم» .
قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ
الْمَصِيرُ)(٥٧)
قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه
معطوف على (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل ، وإن
طال ، لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، قاله الزمخشري . قال شهاب الدين : وقوله : (لأن حقّ المعطوف ... إلى آخره)
لا يظهر علّة للحكم الذي ادّعاه .
والثاني : أنّ
قوله : «وأقيموا» من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، وحسنه الخطاب في قوله
قبل ذلك : «منكم» ثم قال : (وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : افعلوها على رجاء الرحمة.
قوله : «لا تحسبنّ».
قرأ العامة : «لا تحسبّن» بتاء الخطاب ، والفاعل ضمير المخاطب ، أي : لا تحسبن أيّها المخاطب ، ويمتنع أو يبعد جعله
للرسول ـ عليهالسلام ـ لأنّ مثل هذا الحسبان لا يتصوّر منه حتى ينهى عنه . وقرأ حمزة وابن عامر : «لا يحسبنّ» بياء الغيبة ، وهي قراءة حسنة واضحة ، فإنّ الفاعل فيها مضمر ، يعود
على ما دلّ السياق عليه ، أي : «لا يحسبّن حاسب واحد» ، وإما على الرسول لتقدّم
ذكره ، ولكنه ضعيف للمعنى المتقدم ، خلافا لمن لحّن قارىء هذه القراءة كأبي حاتم
__________________
وأبي جعفر والفراء. قال النحاس : ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا
ولا كوفيا إلا وهو يلحّن قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن ، لأنه لم يأت إلا
مفعول واحد ل «يحسبن» . وقال الفراء : هو ضعيف ، وأجازه على حذف المفعول الثاني
والتقدير : «لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين» قال شهاب الدين : وسبب تلحينهم هذه القراءة : أنهم اعتقدوا
أنّ «الّذين» فاعل ، ولم يكن في اللفظ إلا مفعول واحد ، وهو «معجزين» فلذلك قالوا
ما قالوا .
والجواب عن ذلك من
وجوه :
أحدها : أنّ
الفاعل مضمر يعود على ما تقدم ، أو على ما يفهم من السياق ، كما
سبق تحريره.
الثاني : أنّ
المفعول الأول محذوف تقديره : ولا يحسبن الّذين كفروا أنفسهم معجزين ،
إلّا أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين ، ومنه قول عنترة :
٣٨٥٥ ـ ولقد نزلت فلا تظنّي غيره
|
|
منّي بمنزلة
المحبّ المكرم
|
أي : تظني غيره
واقعا. ولما نحا الزمخشريّ إلى هذا الوجه قال : وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين
كفروا معجزين. ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوّغ ذلك أن
الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث . فقدّر المفعول الأول ضميرا متصلا. قال أبو حيان : وقد
رددنا هذا التخريج في أواخر «آل عمران» في قوله : (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) في قراءة من قرأ بالغيبة ، وجعل الفاعل : (الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ) ، وملخصه : أنّ هذا ليس من الضمائر التي يفسّرها ما بعدها
، فلا يتقدّر «لا يحسبنهم» إذ
لا يجوز ظنّه زيد
__________________
قائما ، على رفع (زيد)
ب (ظنه) . وقد تقدم هذا الرد في الموضع المذكور .
الثالث : أن
المفعولين هما قوله : (مُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ) قاله الكوفيون . ولما نحا إليه الزمخشري قال : والمعنى : لا يحسبن الذين
كفروا أحدا يعجز الله في الأرض يطمعوهم في مثل ذلك ، وهذا معنى قويّ جيّد . قال شهاب الدين : قيل : هو خطأ ، لأنّ الظاهر تعلق «في
الأرض» ب «معجزين» فجعله مفعولا ثانيا كالتهيئة للعمل والقطع عنه ، وهو نظير : «ظننت
قائما في الدّار» .
قوله : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن هذه
الجملة عطف على الجملة التي قبلها من غير تأويل ولا إضمار ، وهو مذهب سيبويه ، أعني : عطف الجمل بعضها على بعض وإن اختلفت أنواعها خبرا وطلبا وإنشاء. وقد تقدم تحقيقه في أول الكتاب .
الثاني : أنها
معطوفة عليها ، ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية ، والتقدير : الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار. قاله الزمخشري ، كأنه يرى تناسب الجمل شرطا في (صحة) العطف ، هذا ظاهر حاله.
الثالث : أنها
معطوفة على جملة مقدرة.
قال الجرحاني : لا يحتمل أن يكون (وَمَأْواهُمُ) متصلا بقوله : «لا يحسبن» ذلك
__________________
نهي وهذا إيجاب ،
فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله ، تقديره : «لا يحسبن الذين كفروا معجزين في
الأرض بل هم مقهورون ومأواهم النار» .
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا
الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ
تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ
عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)
وَالْقَواعِدُ
مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ
يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ
خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(٦٠)
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية.
قال ابن عباس :
وجّه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ غلاما من الأنصار يقال له : «مدلج بن عمرو» إلى عمر بن
الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل ، فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فأنزل
الله هذه الآية . وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد ، كان لها غلام كبير ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقالت : إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها
، فأنزل الله (يأيّها الّذين آمنوا ليستأذنكم) اللام للأمر (مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) يعني : العبيد والإماء.
قال القاضي : هذا
الخطاب وإن كان ظاهره للرجال ، فالمراد به الرجال والنساء ، لأنّ التذكير يغلب على
التأنيث . قال ابن الخطيب : والأولى عندي أنّ الحكم ثابت في النساء بقياس جليّ ، لأنّ النساء
في باب (حفظ) العورة أشد حالا من الرجال ، فهو كتحريم الضرب بالقياس على
حرمة التأفيف . وقال ابن عباس : هي في الرجال
__________________
والنساء يستأذنون
على كل حال في الليل والنهار. واختلف العلماء في هذا الندب : فقيل للأمر. وقيل :
للوجوب ، وهو الأظهر . قوله : (وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي : من الأحرار ، وليس المراد: الأطفال الذين لم يظهروا على
عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ، ولكن لم يبلغوا.
واتفق الفقهاء على
أن الاحتلام بلوغ. واختلفوا في بلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يوجد احتلام: قال أبو حنيفة : لا يكون بالغا حتى
يبلغ ثماني عشرة سنة ، ويستكملها الغلام والجارية تستكمل سبع عشرة. وقال الشافعي
وأبو يوسف ومحمد : في الغلام والجارية خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم ، لما روى ابن عمر أنه عرض على
النبي يوم أحد ، وهو ابن أربع عشرة سنة ، فلم يجزه ، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس
عشرة سنة ، فأجازه. قال أبو بكر الرازي : هذا الخبر مضطرب ، لأن أحدا كان في سنة
ثلاث ، والخندق كان في سنة خمس ، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في
القتال لا تعلق لها بالبلوغ ، فقد لا يؤذن للبالغ لضعفه ، ويؤذن لغير البالغ لقوته
ولطاقته لحمل السلاح ، ولذلك لم يسأله النبي ـ عليهالسلام ـ عن الاحتلام والسن . واختلفوا في الإنبات : هل يكون بلوغا؟ فأصحاب الرأي لم يجعلوه بلوغا ، لقوله ـ عليهالسلام ـ : «وعن الصبي حتى يحتلم» . وقال الشافعي : هو بلوغ ، لأن النبي ـ عليهالسلام ـ : أمر بقتل من أنبت من بني قريظة. قال الرازي : الإنبات
يدل على القوة البدنية ، فالأمر بالقتل لذلك لا للبلوغ .
فصل
قال أبو بكر
الرازي : دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل
الشرائع ، وينهى عن ارتكاب القبائح ، فإن الله تعالى أمرهم بالاستئذان في هذه
الأوقات.
وقال عليهالسلام : «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم على تركها وهم
أبناء عشر».
__________________
وقال ابن عمر :
يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وقال ابن مسعود : إذا بلغ الصبي عشر
سنين كتبت له حسناته ، ولا تكتب عليه سيئاته حتى يحتلم. واعلم أنه إنما يؤمر بذلك
تمرينا ليعتاده ويسهل عليه بعد البلوغ .
فصل
قال الأخفش :
الحلم : من حلم الرجل بفتح اللام ، ومن الحلم : حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام .
قوله : «ثلاث مرات»
فيه وجهان :
أحدهما : أنه
منصوب على الظرف الزماني ، أي : ثلاثة أوقات ، ثم فسر تلك الأوقات بقوله: «من قبل
صلاة الفجر وحين تضعون (ثيابكم من الظهيرة) ومن بعد صلاة العشاء».
والثاني : أنه
منصوب على المصدرية ، أي ثلاثة استئذانات.
ورجح أبو حيان هذا
فقال : والظاهر من قوله : ثلاث مرات : ثلاثة استئذانات ، لأنك إذا قلت :
ضربت ثلاث مرات ، لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ، ويؤيده قوله عليهالسلام : «الاستئذان ثلاث» . قال شهاب الدين : مسلم أن الظاهر كذا ، ولكن الظاهر هنا
متروك للقرينة المذكورة ، وهي التفسير بثلاثة الأوقات المذكورة .
وقرأ الحسن وأبو
عمرو في روآية : «الحلم» بسكون العين ، وهي تميمية .
قوله : «من قبل
صلاة الفجر» فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل
من قوله : «ثلاث» فيكون في محل نصب.
__________________
الثاني : أنه بدل
من «مرات» فيكون في محل جر.
الثالث : أنه خبر
مبتدأ مضمر ، أي : هي من قبل ، أي : تلك المرات ، فيكون في محل رفع.
وقوله : «وحين
تضعون» عطف على محل «من قبل صلاة الفجر» .
قوله : «من
الظهيرة» فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن «من»
لبيان الجنس ، أي : حين ذلك الذي هو الظهيرة.
الثاني : أنها بمعنى «في» أي : تضعونها في الظهيرة.
الثالث : أنها
بمعنى اللام ، (أي) : من أجل حر الظهيرة .
وقوله : «ومن بعد
صلاة العشاء» : عطف على ما قبله. والظهيرة شدة الحر ، وهو انتصاف النهار .
قوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ). قرأ الأخوان وأبو بكر : «ثلاث» نصبا. والباقون رفعا . فالأولى تحتمل ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها بدل
من قوله : «ثلاث مرات».
قال ابن عطية :
إنما يصح البدل بتقدير : أوقات ثلاث عورات ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وكذا قدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء ، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث المرات نفس ثلاث العورات مبالغة فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، وعلى
هذا الوجه ـ أعني : وجه البدل ـ لا يجوز الوقف على ما قبل (ثَلاثُ عَوْراتٍ) لأنه بدل منه وتابع له ، ولا يوقف على المتبوع دون تابعه .
__________________
الثاني : أن (ثَلاثُ عَوْراتٍ) بدل من الأوقات المذكورة ، قاله أبو البقاء . يعني قوله : «من قبل صلاة الفجر» وما عطف عليه ، ويكون
بدلا على المحل ، فلذلك نصب.
الثالث : أن ينتصب
بإضمار فعل.
فقدره أبو البقاء
: «أعني» وأحسن من هذا التقدير : اتقوا ، أو احذروا ثلاث .
فأما الثانية : ف «ثلاث» خبر مبتدأ محذوف تقديره : «هن ثلاث عورات» .
وقدره أبو البقاء
مع حذف مضاف ، فقال : أي : هي أوقات ثلاث عورات ، فحذف المبتدأ والمضاف . قال شهاب الدين : وقد لا يحتاج إليه على جعل العورات نفس
الأوقات مبالغة ، وهو المفهوم من كلام الزمخشري ، وإن كان قد قدر مضافا ، كما تقدم
عنه.
قال الزمخشري :
ويسمى كل واحد من هذه الأحوال عورة ، لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها. والعورة : الخلال ، ومنه أعور الفارس ،
وأعور المكان.
والأعور : المختل
العين . فهذا منه يؤذن بعدم تقدير «أوقات» مضاف ل «عورات» بخلاف كلامه أولا فيؤخذ من
مجموع كلاميه وجهان .
وعلى قراءة الرفع
وعلى الوجهين قبلها في تخريج قراءة النصب يوقف على ما قبل (ثَلاثُ عَوْراتٍ) لأنها ليست تابعة لما قبلها . وقرأ الأعمش : «عورات» بفتح الواو ، وهي لغة هذيل وبني تميم ، يفتحون عين «فعلاء» واوا أو ياء ، وأنشد :
٣٨٥٦ ـ أخو بيضات رائح متأوب
|
|
رفيق بمسح
المنكبين سبوح
|
فصل
المعنى : يستأذنوا
في ثلاثة أوقات : من قبل صلاة الفجر ، وو قت القيلولة ، ومن بعد
__________________
صلاة العشاء. وخص
هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب ، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن
يراه أحد من العبيد والصبيان ، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات ، فأما غيرهم
فيستأذنون في جميع الأوقات . وسميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه
فتبدو عورته .
فصل
قال بعضهم : إن
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال ، فنسخ بهذه الآية في
غير هذه الأحوال الثلاثة . قال ابن عباس : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، وكان الخدم
والو لا ئد يدخلون ، فربما يرون منهم ما لا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، وقد بسط
الله الرزق ، واتخذ الناس الستور ، فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان .
وقال آخرون :
الآية الأولى أريد بها المكلف ، لأنه خطاب لمن آمن ، والمراد بهذه الآية غير
المكلف ، لا يدخل في بعض الأحوال إلا بإذن ، وفي بعضها بغير إذن ، ولا وجه
للنسخ . فإن قيل : قوله : (الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) يدخل فيه من بلغ ، فالنسخ لا زم؟
فالجواب أن قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا) لا يدخل تحته العبيد والإماء ، فلا يجب النسخ . قال أبو عبيد : لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : ثلاث آيات من كتاب الله
تركهن الناس لا أرى أحدا يعمل بهن ، قال عطاء : حفظت آيتين ونسيت واحدة ، وقرأ هذه الآية ، وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) وذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا
الْقُرْبى) ... الآية» .
__________________
قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) هذه الجملة يجوز أن يكون لها محل من الإعراب ، وهو الرفع
نعتا ل (ثَلاثُ عَوْراتٍ) في قراءة من رفعها ، كأنه قيل : هنّ ثلاث عورات مخصوصة
بالاستئذان ، وألّا يكون لها محل ، بل هي كلام مقرر للأمر بالاستئذان
في تلك الأحوال خاصة ، وذلك في قراءة من نصب (ثَلاثُ عَوْراتٍ).
قوله : «بعدهن».
قال أبو البقاء : التقدير : بعد استئذانهم فيهن ، ثم حذف حرف الجر والفاعل فبقي «بعد استئذانهم» ثم حذف المصدر .
يعني بالفاعل :
الضمير المضاف إليه الاستئذان ، فإنه فاعل معنوي بالمصدر ، وهذا غير ظاهر ، بل
الذي يظهر أن المعنى : ليس عليكم جناح ولا عليهم أي : العبيد والإماء والصبيان «جناح»
في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة ، ولا حاجة إلى التقدير الذي ذكره.
قوله : «طوّافون»
خبر مبتدأ مضمر تقديره : «هم طوّافون» ، و «عليكم» متعلق به.
قوله : (بعضكم على
بعض). في «بعضكم» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ
، و (عَلى بَعْضٍ) الخبر ، فقدره أبو البقاء : «يطوف على بعض» وتكون هذه الجملة
بدلا مما قبلها ، ويجوز أن تكون مؤكدة مبينة ، يعني : أنها أفادت إفادة الجملة التي قبلها ، فكانت بدلا
أو مؤكدة. وردّ أبو حيان هذا بأنه كون مخصوص ، فلا يجوز حذفه .
والجواب عنه : أن
الممتنع الحذف إذا لم يدل عليه دليل ، وقصد إقامة الجار والمجرور مقامه. وهنا عليه
دليل ولم يقصد إقامة الجار مقامه. ولذلك قال الزمخشري : خبره «على بعض» على معنى :
طائف على بعض ، وحذف لدلالة «طوافون» عليه .
الثاني : أن يرتفع
بدلا من «طوّافون» قاله ابن عطية قال أبو حيان : ولا يصحّ إن قدّر الضمير ضمير غيبة لتقدير
المبتدأ «هم» لأنه يصير التقدير : هم يطوف بعضكم على بعض وهو لا يصح ، فإن جعلت
التقدير : أنتم يطوف بعضكم على بعض ، فيدفعه أنّ قوله : «عليكم» يدل على أنهم هم
المطوف عليهم ، و «أنتم طوّافون» يدل على أنهم طائفون ، فتعارضا . قال شهاب الدين: الذي نختار أن التقدير : أنتم ، ولا يلزم
__________________
محذور ، وقوله :
فيدفعه إلى آخره ، لا تعارض فيه ، لأن المعنى : كل منكم ومن عبيدكم طائف على صاحبه ، وإن كان طواف أحد
النوعين غير طواف الآخر ، لأنّ المراد الظهور على أحوال الشخص ، ويكون «بعضكم»
بدلا من «طوّافون» و «على بعض» بدلا من عليكم بإعادة العامل ، فأبدلت مرفوعا من
مرفوع ومجرورا من مجرور ، ونظيره قوله :
٣٨٥٧ ـ فلمّا قرعنا النّبع بالنّبع
بعضه
|
|
ببعض أبت عيدانه
أن تكسّرا
|
ف «بعضه» بدل من «النّبع»
المنصوب ، و «ببعض» بدل من المجرور بالياء .
الثالث : أنه
مرفوع بفعل مقدر ، أي : يطوف بعضكم على بعض ، لدلالة «طوّافون» عليه ، قاله
الزمخشري . وقرأ ابن أبي عبلة : «طوّافين» بالنصب على الحال من ضمير «عليهم»
.
فصل
المعنى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ) يعني : العبيد والإماء والصبيان «جناح» في الدخول عليكم
بغير استئذان «بعدهنّ» أي : بعد هذه الأوقات الثلاثة ، (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم : يترددون ويدخلون
ويخرجون في أشغالهم بغير إذن (بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ). فإن قيل : هل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة (لهم؟ فالجواب ،
لا ، وإنما أباح تعالى ذلك من حيث كانت العادة لا تكشف العورة) في غير تلك الأوقات ، فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم فذلك يحرم عليها. فإن كان الخادم مكلفا حرم عليه الدخول إذا ظن أن
هناك كشف عورة.
فإن قيل : أليس في
الناس من جوّز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته؟
فالجواب : من جوّز
ذلك فالشعر عنده ليس بعورة في حق المماليك كما هو في
__________________
حق الرحم ، إذ
العورة تنقسم أقساما وتختلف بالإضافات .
فصل
هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم.
وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ
جُناحٌ) هذا الحكم مختص بالصغار دون البالغين ، لقوله بعد ذلك : «وإذا
بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم» .
قوله : «وإذا بلغ
الأطفال منكم الحلم» أي : الاحتلام ، يريد : الأحرار الذين بلغوا (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) أي : يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) من الأحرار (الكبار) . وقيل يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى (عليهمالسلام) (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) دلالاته. وقيل : أحكامه (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأمور خلقه «حكيم» بما دبر لهم . قال سعيد بن المسيب : يستأذن الرجل على أمه ، فإنما أنزلت الآية في ذلك وسئل حذيفة : أيستأذن الرجل على والدته؟ قال : «نعم
وإن لم تفعل رأيت منها ما تكره» .
قوله : (وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ). القواعد : من غير تاء تأنيث ، ومعناه : القواعد عن النكاح ، أو عن الحيض ، أو عن الاستمتاع ، أو عن الحبل ، أو عن الجميع ولو لا تخصيصهنّ بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من
القعود المعروف .
__________________
وقوله : (مِنَ النِّساءِ) وما بعده بيان لهن. و «القواعد» مبتدأ ، و (مِنَ النِّساءِ) حال ، و «اللّاتي» صفة القواعد لا للنساء ، وقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ) ، الجملة خبر المبتدأ ، وإنما دخلت الفاء لأن المبتدأ موصوف بموصول ، لو كان ذلك
الموصول مبتدأ لجاز دخولها في خبره ، ولذلك منعت أن تكون «اللاتي» صفة للنساء ، إذ
لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ .
وقال أبو البقاء :
ودخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط ، لأن الألف واللام بمعنى الذي وهذا مذهب الأخفش ، وتقدم تحقيقه في المائدة ، ولكن هنا ما يغني عن ذلك ، وهو وصف المبتدأ بالموصول
المذكور ، و (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ) حال من «عليهن» . (والتّبرّج الظهور من البرج) وهو البناء الظاهر ، والتبرج : سعة العين يرى بياضها محيطا
بسوادها كله ، لا يغيب منه شيء والتبرج : إظهار ما يجب إخفاؤه بأن تكشف المرأة
للرجال (بإبداء) زينتها وإظهار محاسنها . و «بزينة» متعلق به. قوله : (وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ) مبتدأ بتأويل : «استعفافهنّ» ، و «خير» خبره.
فصل
قال المفسرون :
القواعد : هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ، ولا مطمع لهن في الأزواج.
والأولى ألا يعتبر
قعودهن عن الحيض ، لأن ذلك ينقطع ، والرغبة فيهن باقية ، والمراد : قعودهن عن
الأزواج ، ولا يكون ذلك إلا عند بلوغهن إلى حيث لا يرغب فيهن الرجال لكبرهن قال ابن قتيبة : سميت المرأة قاعدا إذا كبرت ، لأنها تكثر القعود وقال ربيعة : هنّ العجز اللواتي إذا رآهنّ الرجل استقذرهن ، فأما من كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا
تدخل في هذه الآية . «فليس
__________________
عليهنّ جناح أن يضعن
ثيابهنّ» عند الرجال ، يعني : يضعن بعض ثيابهن ، وهي الجلباب ، والرداء الذي فوق
الثياب ، والقناع الذي فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز وضعه لما فيه من كشف العورة.
وقرأ عبد الله بن
مسعود وأبي بن كعب : «أن يضعن من ثيابهن» . وروي عن ابن عباس أنه قرأ : «أن يضعن جلابيبهن» . وعن السدي عن شيوخه : أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن وإنما خصهن الله بذلك لأن التهم مرتفعة عنهن ، وقد بلغن
هذا المبلغ ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهنّ وضع الثياب ، ولذلك قال : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) وإنما جعل ذلك أفضل لأنه أبعد عن الظنة ، فعند الظنة يلزمهن ألا يضعن ذلك كما يلزم الشابة ، والله سميع عليم.
قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا
عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ
أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً
فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٦١)
قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية.
قال ابن عباس :
لما أنزل الله ـ عزوجل ـ (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا :
الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله ـ عزوجل ـ عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ،
ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول ، فلا يستوفي الطعام ،
فأنزل الله هذه الآية . وعلى هذا التأويل تكون «على» بمعنى «في» أي : ليس في
الأعمى ، أي : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج . وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : «كان العرجان
والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس
__________________
يتقذرون منهم
ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى : ربما أكل أكثر ، ويقول الأعرج : ربما أخذ مكان
اثنين ، فنزلت هذه الآية» .
وقال مجاهد : نزلت
هذه الآية (ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله بهذه الآية) لأن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب العلم ، فإذا لم
يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم ، أو بعض من سمى الله ـ عزوجل ـ في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره ،
فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا اختلفوا
منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم
أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيب ،
فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم . وقال الحسن : نزلت الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد
، وقال : تم الكلام عند قوله : (وَلا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وقوله تعالى : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) كلام منقطع عما قبله .
وقيل : لما نزل
قوله : (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ، أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم . فإن قيل : أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه في بيته؟
فالجواب : قيل :
أراد من أموال عيالكم وأزواجكم ، وبيت المرأة كبيت الزوج . وقال ابن قتيبة : أراد من بيوت أولادكم ، نسب بيوت
الأولاد إلى الآباء كقوله عليهالسلام : «أنت ومالك لأبيك» .
فصل
دلّت هذه الآية
بظاهرها على إباحة الأكل من هذه المواضع بغير استئذان ، وهو
__________________
منقول عن قتادة ،
وأنكره الجمهور ، ثم اختلفوا : فقيل : كان ذلك في صدر الإسلام ، فنسخ بقوله عليهالسلام : «لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه» ويدل على هذا النسخ قوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ
إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) وكان في أزواج الرسول من لهنّ الآباء والأخوات ، فعم بالنهي عن دخول بيوتهن إلا
بالإذن في الأكل. فإن قيل : إنما أذن الله تعالى في هذه الآية ،
لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا في بيوتهم ، حضروا أو
غابوا ، فجاز أن يرخص في ذلك؟
فالجواب : لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى ، لأن غيرهم كهم في ذلك. وقال
أبو مسلم : المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين ، لأنه تعالى نهى من قبل
عن مخالطتهم بقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ) ثم إنه تعالى أباح في هذه الآية ما حظره هناك ، قال : ويدل
عليه أن في هذه السورة (أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلى أَهْلِها) وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك ، بل) أمر أن
يسلموا على أنفسهم ، فالمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة لا إثبات
الإباحة في جميع الأوقات.
وقيل : لما علم
بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم ، والعادة كالإذن ، فيجوز
أن يقال : خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأصل توجد منهم ، ولذلك ضم إليهم الصديق ، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت لأجل حصول
الرضا فيها ، فلا حاجة إلى النسخ.
قوله : (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ).
قال ابن عباس :
عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته
ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر ، وملك المفتاح : كونه في يده وحفظه قال المفضل : «المفاتح» واحدها «مفتح» بفتح الميم ، وواحد
__________________
المفاتيح : مفتح (بكسر
الميم) . وقال الضحاك : يعني : من بيوت عبيدكم ومماليككم ، لأن
السيد يملك منزل عبده والمفاتيح : الخزائن ، لقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ) ، ويجوز أن يكون الذي يفتح به . وقال عكرمة : «إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن ، فلا بأس
أن يطعم الشيء اليسير» .
وقال السّديّ :
الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه ، فلا بأس أن يأكل منه . وقيل : «أو ما ملكتم مفاتحه» : ما خزنتموه عندكم . قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم.
قوله : «أو ما
ملكتم مفاتحه» العامة على فتح الميم واللام مخففة. وابن جبير : «ملّكتم» ، بضم
الميم وكسر اللام مشدّدة ؛ أي : «ملّككم غيركم». والعامة على «مفاتحه» دون ياء ، جمع «مفتح». وابن
جبير «مفاتيحه» بالياء بعد التاء ، جمع «مفتاح». وجوّز أبو البقاء أن يكون جمع «مفتح»
بالكسر ، وهو الآلة ، وأن يكون جمع «مفتح» بالفتح ، وهو المصدر بمعنى الفتح. والأول أقيس. وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه : «مفتاحه»
بالإفراد ، وهي قراءة قتادة.
قوله : «أو صديقكم».
العامة على فتح الصاد. وحميد الجزّار روى كسرها إتباعا لكسرة الدّال والصديق : يقع للواحد والجمع كالخليط والفطين وشبههما.
فصل
الصديق : الذي
صدقك في المودة. قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده
__________________
مجهودا ، فسأله عن
حاله فقال : تحرجت من أكل طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله هذه الآية وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم
بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية. والمعنى : ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا
دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا . يحكى أن الحسن دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد أخرجوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة مكبون عليها يأكلون ، فتهلل أسارير وجهه سرورا وضحك ، وقال : «هكذا
وجدناهم» يعني : كبراء الصحابة . وعن ابن عباس : الصديق أكبر من الوالدين ، لأن أهل جهنم
لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات ، بل قالوا : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ).
وحكي أن أخا
الربيع بن خيثم دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل ،
فلما قدم أخبرته بذلك ، فانسر لذلك وقال : إن صدقت فأنت حرة .
فصل
احتج أبو حنيفة
بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ، لأن الله تعالى أباح لهم
الأكل من بيوتهم ، ودخولها بغير إذنهم ، فلا يكون ماله محرزا منهم. فإن قيل : فيلزم ألا يقطع إذا سرق
من مال صديقه؟
فالجواب : من أراد
سرقة ماله لا يكون صديقا له .
قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) قال الأكثرون : نزلت في بني ليث بن عمرو حي من كنانة ، كان الرجل منهم لا يأكل وحده ،
ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح
إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا
__________________
يشرب من ألبانها
حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل. هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج
. وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته
وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأحتج ، أي : أتحرج أن آكل معك ،
وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية وقال عكرمة وأبو صالح : «نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا
يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلّا مع ضيفهم ، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا جميعا
مجتمعين ، أو اشتاتا متفرقين» . وقال الكلبي : «كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا
للأعمى طعاما على حدة ، وكذلك المزمن والمريض ، فبيّن الله لهم أن ذلك غير واجب» . قوله : «جميعا» حال من فاعل «تأكلوا» ، و «أشتاتا» عطف عليه ، وهو جمع «شتّ» و «شتّى» جمع «شتيت». و «شتّان» تثنية «شت»
. قال المفضل : وقيل : الشت : مصدر بمعنى : التفرق ، ثم يوصف به
ويجمع .
قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
عَلى أَنْفُسِكُمْ). أي : ليسلم بعضكم على بعض ، جعل أنفس المسلمين كالنفس
الواحدة ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ). قال ابن عباس : «فإن لم يكن أحد فعلى نفسه يسلم ، ليقل :
السلام علينا من قبل ربنا» .
قال جابر وطاوس
والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار : «إذا دخل الرجل بيت نفسه يسلم على أهله
ومن في بيته» . وقال قتادة : «إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك ، فهم أحق من
سلمت عليهم ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين ، حدثنا أن الملائكة ترد عليه» وعن ابن عباس في قوله : «فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على
أنفسكم» قال : «إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» . قال القفال : «وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل : السلام
على من اتبع الهدى» .
قوله : «تحيّة»
منصوب على المصدر من معنى «فسلّموا» فهو من باب : قعدت
__________________
جلوسا ، كأنه قال
: فحيوا تحية ، وتقدم وزن «التحية» . و (مِنْ عِنْدِ اللهِ) يجوز أن يتعلق بنفس (تَحِيَّةً) أي : التحية صادرة من جهة الله ، و «من» لابتداء الغاية
مجازا إلا أنه يعكر على الوصف تأخر الصفة الصريحة عن المؤولة ، وتقدم ما فيه .
فصل
(تَحِيَّةً مِنْ
عِنْدِ اللهِ) أي : مما أمركم الله به. قال ابن عباس : من قال : السلام عليكم ، (معناه
: اسم الله عليكم (مُبارَكَةً طَيِّبَةً). قال ابن عباس) : «حسنة جميلة» وقال الضحاك : «معنى البركة فيه تضعيف الثواب» (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ) أي : يفصل الله شرائعه (لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) عن الله أمره ونهيه. قال أنس : وقفت على رأس النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أصب الماء على يديه ، فرفع رأسه وقال : «ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها» ؟ فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، بلى. قال : «من لقيت
من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتا فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل
الصلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين» .
قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ
يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ
شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ
يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ)(٦٤)
قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي : مع رسول الله
__________________
ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «على أمر جامع» يجمعهم من حرب حضرت ، أو صلاة جمعة ، أو عيد ، أو جماعة ، أو تشاور في أمر
نزل. فقوله : «أمر جامع» من الإسناد المجازي ، (لأنه لما كان سببا في
جمعهم نسب الفعل) إليه مجازا .
وقرأ اليماني : «على
أمر جميع» فيحتمل أن يكون صيغة مبالغة بمعنى «مجمع» وألا يكون.
والجملة الشرطية من قوله : (وَإِذا كانُوا) وجوابها عطف على الصلة من قوله : «آمنوا».
والأمر الجامع :
هو الذي يعم ضرره أو نفعه ، والمراد به : الخطب الجليل الذي لا بدّ لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من أرباب التجارب (والآراء) ليستعين بتجاربهم ، فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يشق
على قلبه .
فصل
قال الكلبي : كان
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم ، فينظر المنافقون يمينا وشمالا ، فإذا لم يرهم أحد انسلوا
وخرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفا ، فنزلت الآية ، فكان المؤمن
بعد نزول هذه الآية لا يخرج لحاجته حتى يستأذن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكان المنافقون يخرجون بغير إذن .
فصل
قال العلماء : كل
أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلّا بإذن ، وهذا
إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام ، (فإن حدث سبب يمنعه من المقام) بأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو
يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان .
فصل
قال الجبائي :
دلّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ، ولو لا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي
الإيمان.
والجواب : هذا
بناء على أن كلمة «إنما» للحصر ، وأيضا فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافا
، وذلك كفر .
__________________
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) تعظيما لك ورعاية للأدب (أُولئِكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه. قال الضحاك ومقاتل :
المراد : عمر بن الخطاب ، وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله ، فأذن
له ، وقال : «انطلق ، فو الله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام ،
فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم ، وإذا استأذناه أبى ، فو الله
ما نراه يعدل .
قال ابن عباس : إن
عمر استأذن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في العمرة ، فأذن له ، ثم قال : «يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك» .
قوله : «لبعض
شأنهم» تعليل ، أي : لأجل بعض حاجتهم. وأظهر العامة الضاد عند الشين. وأدغمها أبو
عمرو فيها ، لما بينهما من التقارب ، لأن الضاد من أقصى حافة اللسان والشين من
وسطه. وقد استضعف جماعة من النحويين هذه الرواية واستبعدوها عن أبي عمرو ـ رأس الصناعة ـ من
حيث إن الضاد أقوى من الشين ، ولا يدغم الأقوى في الأضعف وأساء الزمخشري على راويها السوسيّ . وقد أجاب الناس عنه ، فقيل : وجه الإدغام أن الشين أشد
استطالة من الضاد ، وفيها تفشّي ليس في الضاد ، فقد صارت الضاد أنقص منها ، وإدغام الأنقص
في الأزيد جائز ، قال :
__________________
ويؤيّد هذا أن
سيبويه حكى عن بعض العرب «اطّجع» في «اضطجع» ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى.
والخصم لا يسلم
جميع ما ذكر ، ومستند المنع واضح.
فصل
(فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أمرهم (فَأْذَنْ لِمَنْ
شِئْتَ مِنْهُمْ) بالانصراف ، أي : إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) وهذا تنبيه على أن الأولى ألا يستأذنوا وإن أذن ، لأن
الاستغفار يكون عن ذنب. ويحتمل أن يكون أمره بالاستغفار لهم مقابلة على تمسكهم
بإذن الله تعالى في الاستئذان .
فصل
قال مجاهد : قوله
: فأذن لمن شئت منهم نسخت هذه الآية. وقال قتادة : نسخت هذه الآية بقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). والآية تدل على أنه تعالى فوض إلى رسول الله بعض أمر
الدين ليجتهد فيه رأيه .
قوله : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً). قال سعيد بن جبير وجماعة كثيرة : لا تنادونه باسمه فتقولون
: يا محمد ، ولا بكنيته فتقولون : يا أبا القاسم ، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير : يا
رسول الله ، يا نبي الله . وعلى هذا يكون المصدر مضافا لمفعوله . وقال المبرد والقفال : لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم
لبعض فتتباطؤون كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر ، بل يجب عليكم المبادرة
لأمره ، ويؤيده قوله : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ). وعلى هذا يكون المصدر مضافا للفاعل .
وقال ابن عباس : «احذروا
دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره»
. وروي عنه أيضا : «لا ترفعوا أصواتكم في دعائه». وهو المراد من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) وقول المبرد أقرب إلى نظم الآية. وقرأ الحسن : «نبيكم»
بتقديم النون على الباء المكسورة ، بعدها ياء
__________________
مشددة مخفوضة مكان «بينكم» الظرف في
قراءة العامة ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل
من الرسول .
الثاني : أنه عطف
بيان له ، لأنّ النبيّ بإضافته إلى المخاطبين صار أشهر من الرسول.
الثالث : أنه نعت.
لا يقال : إنه لا
يجوز لأن هذا كما قرّرتم أعرف ، والنعت لا يكون أعرف من المنعوت بل إمّا أقلّ أو
مساو ، لأنّ الرّسول صار علما بالغلبة على محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقد تساويا تعريفا .
قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ). «قد» تدل على التقليل مع المضارع إلّا في أفعال الله فتدل
على التحقيق كهذه الآية. وقد ردّها بعضهم إلى التقليل ، لكن إلى متعلّق العلم ،
يعني : أن الفاعلين لذلك قليل ، فالتقليل ليس في العلم بل في متعلّقه .
قوله : لواذا فيه
وجهان :
أحدهما : أنه
منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول ، إذ التقدير : يتسلّلون منكم تسلّلا ، أو
يلاوذون لواذا .
والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : ملاوذين .
واللّواذ : مصدر
لاوذ ، وإنما صحّت الواو وإن انكسر ما قبلها ولم تقلب ياء كما قلبت في «قيام»
و «صيام» ، لأنه صحّت في الفعل نحو «لاوذ» ، فلو أعلّت في الفعل أعلّت في المصدر
نحو «القيام» و «الصّيام» لقلبها ألفا في «قام» و «صام». وأما مصدر : «لاذ بكذا يلوذ به» فمعتل نحو : «لاذ لياذا» مثل : «صام صياما ، وقام
قياما» . واللّواذ والملاوذة : التّستّر ، يقال : لاوذ فلان بكذا :
إذا استتر به . واللّوذ :
__________________
ما يطيف بالجبل . وقيل : اللّواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية ، ووجه المفاعلة أنّ كلّا منهم يلوذ بصاحبه ، فالمشاركة
موجودة.
وقرأ يزيد بن قطيب : «لواذا» بفتح اللام ، وهي محتملة لوجهين :
أحدهما : أن يكون
مصدر «لاذ» ثلاثيا ، فيكون مثل «طاف طوافا» .
والثاني : أن يكون
مصدر «لاوذ» إلّا أنه فتحت الفاء إتباعا لفتحة العين . وهو تعليل ضعيف يصلح لمثل هذه القراءة .
فصل
المعنى : قال
المفسرون : إن المنافقين كانوا يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا.
قال ابن عباس : كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع
خطبة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار وقال مجاهد : يتسللون من الصف في القتال . وقيل : كان هذا في حفر الخندق ينصرفون عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مختفين. وقيل : يعرضون عن الله وعن كتابه وعن ذكره وعن نبيه .
قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ) فيه وجهان :
أشهرهما ، وهو
الذي لا يعرف النحاة غيره : أن الموصول هو الفاعل و (أَنْ تُصِيبَهُمْ) مفعوله ، أي : فليحذر المخالفون عن أمره إصابتهم فتنة.
والثاني : أن فاعل
«فليحذر» ضمير مستتر ، والموصول مفعول به. وردّ هذا بوجوه :
__________________
منها : أن الإضمار
خلاف الأصل. وفيه نظر ، لأنّ هذا الإضمار في قوة المنطوق به ، فلا يقال : هو خلاف
الأصل ، ألا ترى أن نحو : «قم» و «ليقم» فاعله مضمر ، ولا يقال في شيء منه هو خلاف
الأصل ، وإنما الإضمار خلاف الأصل فيما كان حذفا نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).
ومنها : أنّ هذا
الضمير لا مرجع له ، أي : ليس له شيء يعود عليه ، فبطل أن يكون الفاعل ضميرا
مستترا. وأجيب بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصول الأول ، أي : فليحذر المتسلّلون المخالفين عن أمره ، فيكونون قد أمروا بالحذر منهم ، أي : أمروا
باجتنابهم ، كما يؤمر باجتناب الفسّاق. وردّوا هذا بوجهين :
أحدهما : أنّ
الضمير مفرد ، والذي يعود عليه جمع ، ففاتت المطابقة التي هي شرط في تفسير
الضمائر.
الثاني : أن
المتسلّلين هم المخالفون ، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أمروا
بالحذر عن أنفسهم ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يمكن أن يؤمروا بالحذر عن أنفسهم. ويمكن
أن يجاب عن الأول بأن الضمير وإن كان مفردا فإنما عاد على جمع باعتبار أن المعنى :
فليحذر هو ، أي : من ذكر قبل ذلك ، وحكى سيبويه : «ضربني وضربت قومك» أي : ضربني
من ثمّ ومن ذكر ، وهي مسألة معروفة في النحو. أو يكون التقدير : فليحذر كلّ واحد من المتسللين.
وعن الثاني : بأنه
يجوز أن يؤمر الإنسان بالحذر عن نفسه مجازا ، يعني : أنه لا يطاوعها على شهواتها ، وما تسوّله له من السوء ، وكأنه قيل : فليحذر المخالفون أنفسهم فلا يطيعوها فيما
تأمرهم به ، ولهذا يقال : أمر نفسه ونهاها ، وأمرته نفسه باعتبار المجاز .
__________________
ومنها : أنه يصير
قوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مفلّتا ضائعا ، لأنّ «يحذر» يتعدى
لواحد ، وقد أخذه على زعمكم ، وهو الذين يخالفون ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا : إن (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) في محل مفعوله الثاني ، فيبقى ضائعا. وفيه نظر ، لأنّا لا نسلّم ضياعه ، لأنه مفعول من أجله. واعترض على هذا بأنه
لا يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل ، لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة.
وهو ضعيف ، لأن
حذف حرف الجر يطرد مع «أنّ» و «أن» منقول مسلم : شروط النصب غير موجودة ، وهو
مجرور باللام تقديرا ، وإنما حذفت مع أن لطولها بالصلة. و «يخالفون» يتعدى بنفسه نحو : خالفت
أمر زيد ، وب «إلى» نحو : خالفت إلى كذا ، فكيف تعدّى هذا بحرف المجاورة؟ وفيه
أوجه :
أحدها : أنه ضمّن
معنى «صدّ» و «أعرض» أي : صدّ عن أمره ، وأعرض عنه مخالفا له.
الثاني : قال ابن
عطية : معناه : يقع خلافهم بعد أمره ، كما تقول : كان المطر عن ريح كذا ، و «عن»
لما عدا الشي .
الثالث : أنها
مزيدة ، أي : يخالفون أمره ، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة . والزيادة خلاف الأصل. وقرىء : «يخلّفون» بالتشديد ، ومفعوله محذوف ، أي : يخلّفون أنفسهم.
فصل
المعنى : «فليحذر
الّذين يخالفون» أي : يعرضون «عن أمره» ، أو يخالفون أمره وينصرفون عنه بغير إذنه (أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ) أي : لئلا تصيبهم فتنة.
قال مجاهد : بلاء
في الدنيا. (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) وجيع في الآخرة. والضمير في «أمره» يرجع إلى «الرسول».
وقال أبو بكر الرازي : الأظهر أنه لله تعالى لأنه يليه.
__________________
فصل
الآية تدل على أن
الأمر للوجوب ، لأن تارك المأمور مخالف للأمر ، ومخالف الأمر يستحق العقاب ، ولا
معنى للوجوب إلا ذلك .
قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي : ملكا وعبيدا ، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى
عليهما ، وعلى ما بينهما وفيهما .
قوله : «قد يعلم
ما أنتم عليه». قال الزمخشري : أدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين
والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، وذلك أن «قد» إذا دخلت على
المضارع كانت بمعنى «ربّما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله
:
٣٨٥٨ ـ فإن يمسي مهجور الفناء فربّما
|
|
أقام به بعد
الوفود وفود
|
ونحو من ذلك قول
زهير :
٣٨٥٩ ـ أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله
|
|
ولكنّه قد يهلك
المال نائله
|
قال أبو حيان :
وكون «قد» إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول لبعض النحاة ، وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من السياق. والصحيح أن
ربّ لتقليل
__________________
الشيء أو لتقليل
نظيره ، وإن فهم تكثير فمن السياق لا منها .
قوله : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ) ، في «يوم» وجهان :
أحدهما : أنه
مفعول به لا ظرف ، لعطفه على قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، أي : يعلم الذي أنتم عليه من جميع أحوالكم ، ويعلم يوم
يرجعون ، كقوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ).
وقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ).
والثاني : أنه ظرف
لشيء محذوف. قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقدير : والعلم الظاهر لكم أو نحو :
هذا يوم ، فيكون النصب على الظرف . انتهى.
وقرأ العامة «يرجعون»
مبنيا للمفعول ، وأبو عمرو في آخرين مبنيّا للفاعل ، وعلى كلتا القراءتين فيجوز وجهان :
أحدهما : أن يكون
في الكلام التفات من الخطاب في قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) إلى الغيبة في قوله «يرجعون».
والثاني : أنّ «ما
أنتم عليه» خطاب عام لكل أحد ، والضمير في «يرجعون» للمنافقين خاصة ، فلا التفات
حينئذ .
فصل
المعنى : «يعلم ما
أنتم عليه» من الإيمان والنفاق و «قد» صلة (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ
إِلَيْهِ) يعني يوم البعث ، (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا) من الخير والشر ، (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ).
روي عن عائشة قالت
: قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهن الكتابة ، وعلموهن الغزل وسورة النور» .
وروى الثعلبي عن
أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل
مؤمن فيما مضى وفيما بقي» .
__________________
سورة الفرقان
مكية ، وهي سبع وسبعون آية ، وثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة ،
وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفا.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ
عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٢)
قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ
عَلى عَبْدِهِ) الآية. اعلم أنه تعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد
والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر العباد المخلصين المؤمنين. قال الزجاج :
«تبارك» تفاعل من البركة . والبركة كثرة الخير وزيادته ، وفيه معنيان :
أحدهما : تزايد
خيره وتكاثره. قال ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا
تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤].
والثاني : قال
الضحاك : تعظّم الذي نزل الفرقان ، أي : القرآن على عبده. وقيل : الكلمة تدل على البقاء ، وهو مأخوذ من بروك البعير ، ومن
بروك الطير على الماء. وسميت البركة بركة ، لثبوت الماء فيها ، والمعنى : أنه
سبحانه باق في ذاته أزلا وأبدا ممتنع التغير ، وباق في صفاته ممتنع التبدل.
فإن قيل : كلمة «الذي»
موضوعة في اللغة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه
__________________
بقضية معلومة ،
وإذا كان كذلك فالقوم ما كانوا عالمين بأنه ـ سبحانه ـ الذي نزل الفرقان. فالجواب
: أنه لما ظهر الدليل على كونه من عند الله ، فلقوة الدليل وظهوره أجراه مجرى
المعلوم .
فصل
وصف القرآن
بالفرقان ، لأنه فرق بين الحق والباطل في نبوة محمد ـ عليهالسلام ـ وبين الحلال والحرام ، أو لأنه فرق في النزول كقوله : (وَقُرْآناً
فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦] ،
وهذا أقرب ، لأنه قال : (نَزَّلَ الْفُرْقانَ
عَلى عَبْدِهِ) ولفظة «نزل» تدل على التفريق ، ولفظة «أنزل» تدل على الجمع
، ولهذا قال في سورة آل عمران : (نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ)) (وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣].
والمراد بالعبد ههنا محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
قوله : «ليكون».
اللام متعلقة ب «نزّل» ، وفي اسم «يكون» ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضمير
يعود على «الّذي نزّل» ، أي : ليكون الذي نزل الفرقان نذيرا .
الثاني : أنه يعود
على «الفرقان» وهو القرآن ، أي : ليكون الفرقان نذيرا (أضاف الإنذار إليه
كما أضاف الهداية إليه في قوله : (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي) [الإسراء : ٩]
وهذا بعيد ؛ لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف ، ووصف القرآن به مجاز ،
وحمل الكلام على الحقيقة أولى).
الثالث : أنه يعود
على «عبده» ، أي : ليكون عبده محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نذيرا . وهذا أحسن الوجوه معنى وصناعة ، لقربه مما يعود عليه
الضمير على أقرب مذكور. و «للعالمين» متعلق ب «نذيرا» ، وإنما قدم لأجل الفواصل ،
ودعوى إفادة الاختصاص بعيدة ، لعدم تأتيها هنا ، ورجح أبو حيان عوده على «الذي» ،
قال : لأنه العمدة المسند إليه الفعل ، وهو من وصفه تعالى كقوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان : ٣] ، و
«نذيرا» الظاهر فيه أنه بمعنى منذر ، وجوّزوا أن يكون مصدرا بمعنى الإنذار كالنكير
بمعنى الإنكار ، ومنه (فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر : ١٦] فإن
قوله : «تبارك» يدل على كثرة
__________________
الخير والبركة ،
فالمذكور عقيبه لا بد وأن يكون سببا لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم
والخوف ، فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ فالجواب : أن الإنذار يجري مجرى تأديب الولد
، كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر (كان الإحسان إليه أكثر ،
لما أن ذلك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة ، فكذا ههنا كلما كان الإنذار
كثيرا) كان رجوع الخلق إلى الله أكثر ، وكانت السعادة الأخروية
أتم وأكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة ؛ لأنه تعالى
لما وصف نفسه بأنه معطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر منافع
الدنيا البتّة .
قوله : «الّذي له
ملك» يجوز في «الّذي» الرفع نعتا للذي الأول ، أو بيانا ، أو بدلا ، أو خبرا لمبتدأ محذوف ، أو النصب على المدح .
وما بعد بدل من
تمام الصلة فليس أجنبيا ، فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا
الثاني تابعا له .
فصل
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه حال حدوثها ،
وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء .
«ولم يتخذ ولدا»
أي : هو الفرد أبدا ، ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه ، وهذا رد على
النصارى . (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي : هو المنفرد بالإلهية ، وإذا عرف العبد ذلك انقطع
رجاؤه عن كل ما سواه ، ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه ، وفيه رد على الثنوية ،
والقائلين بعبادة النجوم والأوثان .
قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) الخلق هنا عبارة عن الإحداث والتهيئة لما يصلح له ، لا
__________________
خلل فيه ولا تفاوت
حتى يجيء قوله : «فقدره تقديرا» مفيدا إذ لو حملنا (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام : وقدر كل شيء
فقدره .
فصل
قوله : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يدل على أنه تعالى خلق الأعمال من وجهين :
الأول : أن قوله :
(كُلَّ شَيْءٍ) يتناول جميع الأشياء ، ومن جملتها أفعال العباد.
والثاني : أنه
تعالى نفى الشريك ، فكأن قائلا قال : ههنا أقوام معترفون بنفي الشريك والأنداد ومع
ذلك يقولون بخلق أفعال أنفسهم ، فذكر الله تعالى هذه الآية ردا عليهم. قال القاضي
: الآية تدل عليه لوجوه :
أحدها : أنه تعالى
صرح بكون العبد خالقا فقال : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة : ١١٠] ، وقال : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] و
تمدح بأنه قدره تقديرا ، ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره.
فظاهر الآية لا يدل إلا على التقدير ، لأن الخلق عبارة عن التقدير ، فلا يتناول
إلا ما يظهر فيه التقدير وهو الأجسام لا الأعراض. والجواب : أن قوله : «إذ تخلق» ،
وقوله : (أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) معارض بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢]
وبقوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] وقولهم
: لا يجوز التمدح بخلق الفساد ، فالجواب : لم لا يجوز أن يتمدح به من حيث نفاذ القدرة
.
قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا
يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا
وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٣)
قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا) يجوز أن يعود الضمير على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين
، وأن يعود على من ادّعى لله شريكا وولدا ، لدلالة قوله : (وَلَمْ يَتَّخِذْ
وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) وأن يعود على المنذرين ، لدلالة «نذيرا» عليهم .
__________________
قوله : «لا يخلقون»
صفة ل «آلهة» ، وغلب العقلاء على غيرهم ؛ لأن الكفار كانوا يعبدون
العقلاء كعزير والمسيح والملائكة وغيرهم كالكواكب والأصنام. ومعنى «لا يخلقون» لا
يقدرون على التقدير ، والخلق يوصف به العباد قال زهير :
٣٨٦٠ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبع
|
|
ض القوم يخلق ثم
لا يفري
|
ويقال : خلقت
الأديم : أي : قدرته ، وهذا إذا أريد بالخلق التقدير ، فإن أريد به الإيجاد فلا
يوصف به غير الباري ـ تعالى ـ وقد تقدم .
وقيل : بمعنى
يختلقون كقوله : (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً).
فصل
لما وصف نفسه
بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب عبدة الأوثان من وجوه : منها : أنها
ليست خالقة للأشياء ، والإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد ومنها : أنها
مخلوقة ، والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنيا. ومنها : أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا ، ومن كان كذلك لا
يملك موتا ولا حياة ولا نشورا. أي : لا يقدر على الإحياء والإماتة لا في زمن
التكليف ، ولا في زمن المجازاة ، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها ، وكيف يستحق العبادة
؟.
فصل
احتج أهل السنة
بقوله : (لا يَخْلُقُونَ
شَيْئاً) على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأنه عاب هؤلاء الكفار
من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئا ، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد ، فلو كان
العبد خالقا لكان معبودا إلها. وأجاب الكعبي بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى ، (وقال بعض أصحابنا في
الخلق : إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى.
ثم قال : قد قال
الله تعالى) : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩] في
وصف الأصنام ، أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد. فإذا قالوا : لا. قيل : فكذلك ما ذكرتم ،
وقد قال الله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤]
هذا كله كلام الكعبي.
__________________
والجواب : قوله :
لا نطلق اسم الخالق على العبد. قلنا : بل يجب ذلك ، لأن الخلق في اللغة هو التقدير ، والتقدير يرجع إلى
الظن والحسبان ، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازا في الله ، فكيف يمكنهم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد؟. وأما قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) فالعيب إنما وقع عليهم ، فلا جرم أن من تحقق العجز في حقه
من بعض الوجوه لم يحسن عبادته. وأما قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فتقدم الكلام عليه . واعلم أن في استدلال أهل السنة بالآية نظر ، لاحتمال أن الغيب إنما حصل بمجموع الأمرين ، وهو كونهم ليسوا بخالقين ،
وكونهم مخلوقون ، والعبد وإن كان خالقا إلا أنه مخلوق ، فلا يلزم أن يكون العبد إلها معبودا .
فصل
دلّت الآية على
البعث ، لأنه تعالى ذكر النشور ، ومعناه : أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال
الثواب إلى المطيعين ، والعقاب إلى العصاة ، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا يصلح للإلهية.
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا
إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً
وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى
إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨)
انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٩)
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا
إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) الآية. لما تكلم أولا في التوحيد وثانيا في الرد على عبدة
الأوثان ، تكلم ههنا في مسألة النبوة ، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ. فالشبهة الأولى : قوله : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).
__________________
قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث هو الذي قال هذا
القول «وأعانه عليه قوم آخرون» يعني : عامر مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار غلام
عامر بن الحضرمي ، وجبير مولى عامر ، هؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا
يقرؤون التوراة ، فلما أسلموا ، وكان النبي يتعهدهم ، فمن أجل ذلك قال النضر ما
قال . وقال الحسن : عبيد بن الحصر الحبشيّ الكاهن . وقيل : جبر ويسار وعداس عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب ،
فزعم المشركون أن محمدا يأخذ منهم .
قوله : «افتراه»
الهاء تعود على «إفك» وقال أبو البقاء : الهاء تعود على «عبده» في أول السورة . قال شهاب الدين : ولا أظنه إلا غلطا وكأنه أراد أن يقول الضمير المرفوع في
«افتراه» فغلط .
قوله : «ظلما» فيه
أوجه :
أحدها : أنه مفعول
به ، لأن جاء يتعدى بنفسه (وكذلك أتى) .
والثاني : أنه على
إسقاط الخافض ، أي : جاءوا بظلم. قاله الزجاج .
الثالث : أنه في
موضع الحال ، فيجيء فيه ما في قولك : جاء زيد عدلا .
قال الزمخشري : «فقد
جاءوا ظلما وزورا» أي : أتوا ظلما وكذبا كقوله : (لَقَدْ جِئْتُمْ
شَيْئاً إِدًّا) [مريم : ٨٩]
فانتصب بوقوع المجيء . أما كونه «ظلما»
__________________
فلأنهم نسبوا هذا
الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وذلك هو الظلم.
وأما كونه «زورا» فلأنهم كذبوا ، قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول .
الشبهة الثانية :
قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ. اكْتَتَبَها) الآية. يجوز في «اكتتبها» ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون
حالا من «أساطير» ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة ، فإن «أساطير»
خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة .
الثاني : أن يكون
في موضع خبر ثان ل «هذه».
الثالث : أن يكون «أساطير»
مبتدأ و «اكتتبها» خبره . و «اكتتبها» الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر
بكتابتها كافتصد واحتجم إذا أمر بذلك ويجوز أن يكون بمعنى كتبها ، وهو من جملة افترائهم عليه ،
لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ويكون كقولهم : (استكبه واصطبه ، أي: سكبه وصبه)
، والافتعال مشعر بالتكليف . ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب ، وهو الجمع لا من الكتابة بالقلم. وقرأ طلحة «اكتتبها» مبنيا للمفعول .
قال الزمخشري :
والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أميا لا يكتب بيده ، ثم حذفت اللام فأفضى
الفعل إلى الضمير ، فصار اكتتبها إياه كاتب ، كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] ،
ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إيّاه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار «اكتتبها» كما ترى . قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين ،
لأن «اكتتبها» له
__________________
كاتب ، وصل الفعل
فيه المفعولين : أحدهما : مسرح ، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد ، وهو ضميره عليهالسلام ـ ، ثم اتسع في الفعل ، فحذف حرف الجر ، فصار «اكتتبها
إياه كاتب» ، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظا
وتقديرا ، لا المسرح لفظا المقيد تقديرا ، فعلى هذا كان يكون التركيب (اكتتبه) لا (اكتتبها)
، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع ، قال الفرزدق :
٣٨٦١ ـ ومنّا الّذي اختير الرجال
سماحة
|
|
وجودا إذا هبّ
الرياح الزّعازع
|
ولو جاء على ما
قدره الزمخشري لجاء التركيب : ومنّا الذي اختيره الرجال. لأن (اختير) تعدى إلى
الرجال بإسقاط حرف الجر ؛ إذ تقديره : اختير من الرجال . وهو اعتراض حسن بالنسبة إلى مذهب الجمهور ، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه ، ويوافق
الأخفش والكوفيين ، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظا وتقديرا ، ويقيمون
المجرور بالحرف مع وجوده ، فهذا أولى .
والظاهر أن الجملة
من قوله «اكتتبها فهي تملى» من تتمة قول الكفار .
وعن الحسن أنها من
كلام الباري تعالى ، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ «أكتتبها» بهمزة مقطوعة
مفتوحة للاستفهام كقوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٨]. ويمكن
أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢].
وقول الآخر :
__________________
٣٨٦٢ ـ أفرح أن أرزأ الكرام وأن
|
|
أورث ذودا
شصائصا نبلا
|
يريد : أو تلك ،
أو أأفرح ، فحذف لدلالة الحال ، وحقه أن يقف على «الأولين» قال الزمخشري : كيف قيل : «اكتتبها فهي تملى عليه» وإنما
يقال : أمليت عليه فهو يكتبها. قلت فيه وجهان :
أحدهما : أراد
اكتتابها وطلبه ، فهي تملى عليه ، أو كتبت له ، وهو أمر فهي تملى عليه ، أي : تلقى
عليه من كتاب يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب .
وقرأ عيسى وطلحة «تتلى»
بتاءين من [فوق من التلاوة. و «بكرة وأصيلا» ظرفا زمان للإملاء ، والياء في «تملى» بدل من] اللام ، كقوله : (فَلْيُمْلِلْ) وقد تقدم.
فصل
المعنى : أن هذا
القرآن ليس من الله ، إنما هو مما سطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار ، جمع
أسطار وأسطورة كأحدوثة استنسخها محمد من أهل الكتاب «فهي تملى عليه» أي :
تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها «بكرة وأصيلا» غدوة وعشيّا. قوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) الآية. وهذا جواب عن شبههم ، وذلك أنه ـ عليهالسلام ـ تحداهم بالمعارضة وأظهر عجزهم عنها ، ولو كان عليهالسلام أتى بالقرآن من عند نفسه ، أو استعان بأحد لكان من الواجب
عليهم أيضا أن يستعينوا بأحد ، فيأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزوا عنه ثبت أنه
وحي الله وكلامه ، فلهذا قال : (قُلْ أَنْزَلَهُ) يعني: القرآن «الّذي يعلم السّرّ» أي : الغيب (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالما
بكل المعلومات ظاهرها وخفيها ، (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
__________________
لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ثم
قال : (إِنَّهُ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) ، فذكر الغفور في هذا الموضع لوجهين :
أحدهما : قال أبو
مسلم : إنه لما أنزله لأجل الإنذار وجب أن يكون غفورا رحيما ، غير مستعجل
بالعقوبة.
الثاني : أنهم
استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العقاب صبّا ، ولكن صرف عنهم كونه غفورا
رحيما ، يمهل ولا يعاجل .
الشبهة الثالثة :
قوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ). الآية. «ما» استفهامية مبتدأة ، والجار بعدها خبر ، و «يأكل»
جملة حالية ، وبها تتم فائدة الإخبار ، كقوله : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] وقد
تقدم في النساء أن لام الجر كتبت مفصولة من مجرورها ، وهو خارج عن قياس
الخط . والعامل في الحال الاستقرار العامل في الجر ، أو نفس الجر ذكره أبو البقاء .
قوله : «فيكون».
العامة على نصبه ، وفيه وجهان :
أحدهما : نصبه على
جواب التحضيض .
والثاني : قال أبو
البقاء : «فيكون» منصوب على جواب الاستفهام . وفيه نظر ، لأن ما بعد الفاء لا يترتب على هذا الاستفهام
، وشرط النصب أن ينعقد منهما شرط وجزاء. وقرىء «فيكون» بالرفع وهو معطوف على «أنزل» ، وجاز عطفه على الماضي ؛ لأن المراد
بالماضي المستقبل إذ التقدير : لو لا ينزل .
قوله : «أو يلقى
... أو تكون» معطوفان على «أنزل» لما تقدم من كونه بمعنى
__________________
ينزل ، ولا يجوز
أن يعطفا على «فيكون» المنصوب في الجواب ؛ لأنهما مندرجان في التحضيض في حكم
الواقع بعد «لو لا» ، وليس المعنى على أنهما جواب للتحضيض ، فيعطفا على جوابه . وقرأ الأعمش وقتادة «أو يكون له» بالياء من تحت ؛ لأن تأنيث الجنة مجازي .
قوله : «يأكل منها»
الجملة في موضع الرفع صفة ل «جنّة». وقرأ الأخوان «نأكل» بنون الجمع
، والباقون بالياء من تحت أي : الرسول .
قوله : «وقال
الظّالمون» وضع الظاهر موضع المضمر ؛ إذ الأصل «وقالوا».
قال الزمخشري :
وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم .
قال أبو حيان :
وقوله ليس تركيبا سائغا بل التركيب العربي أن يقول أرادهم بأعيانهم .
فصل
وهذه الشبهة التي
ذكروها في نهاية الرذالة ، فقالوا : «مال هذا الرّسول يأكل الطّعام ويمشي في
الأسواق» يلتمس المعاش كما نلتمس فمن أين له الفضل علينا؟ وكيف يمتاز عنّا بالنبوة
، وهو مثلنا في هذه الأمور.
وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) هلّا أنزل إليه ملك (فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيراً) يصدقه ويشهد له ، ويرد على من خالفه. «أو يلقى إليه كنز»
من السماء ، فينفعه ولا يحتاج إلى تردد لطلب المعاش ، وكانوا يقولون له : لست أنت
بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك ؛ لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق
وتتبذل. وما قالوه فاسد ؛ لأن أكله الطعام لكونه آدميا ، ومشيه في الأسواق لتواضعه
، وكان ذلك صفة له. وقالوا : (أَوْ تَكُونُ لَهُ
جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) ، والمعنى : إن لم يكن له كنز فلا أقلّ أن يكون كواحد من
الدهاقين ، فيكون له بستان يأكل منه (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) مخدوعا ، وقيل : مصروفا عن الحق. وتقدمت هذه القصة في آخر
بني إسرائيل . ثم أجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ)
__________________
يعني الأشباه
فضلوا عن الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلاً) إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة.
وبيان وجه الجواب
كأنه تعالى قال : انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها : لأجل
أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوّتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلا البتّة ، إذ
الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول .
قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ
خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ
قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا
مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣)
لا
تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(١٤)
قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ
خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الآية وهذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة ، أي : تبارك الّذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك الذي قالوا
، وأفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، أي : أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما
ذكروه ، ولكنه تعالى يعطي عباده بحسب المصالح ، أو على وفق المشيئة ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله .
قال ابن عباس : (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي : مما عيّروك بفقد الجنة الواحدة ، وهو سبحانه قادر على
أن يعطيك جنات كثيرة. وقال في رواية عكرمة : (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي : من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش .
وقوله : «إن شاء»
معناه : أنه تعالى قادر على ذلك لا أنه شاكّ ، لأن الشك لا يجوز على الله تعالى.
وقيل : «إن» ههنا بمعنى (قد) ، أي : قد جعلنا لك في الآخرة جنات ومساكن ، وإنما أدخل (إن) تنبيها
للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته ، وأنه معلق على محض مشيئته ، وليس لأحد من
العباد حق على الله لا في الدنيا ولا في الآخرة .
قوله : «جنّات».
يجوز أن يكون بدلا من «خيرا» وأن يكون عطف بيان لذلك الخير عند من يجوزه في النكرات ، وأن يكون منصوبا بإضمار أعني. و (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) صفة.
قوله : «ويجعل لك»
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع «يجعل» ، والباقون
__________________
بإدغام لام «يجعل»
في لام «لك» وأما الرفع ففيه وجهان :
أحدهما : أنه
مستأنف .
والثاني : أنه
معطوف على جواب الشرط. قال الزمخشري : لأن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع ،
كقوله :
٣٨٦٣ ـ وإن أتاه خليل يوم مسألة
|
|
يقول لا غائب
مالي ولا حرم
|
قال الزمخشري : وليس هذا مذهب سيبويه بل مذهبه أن الجواب محذوف ، وأن
هذا المضارع منويّ به التقديم ، ومذهب المبرد والكوفيين أنه جواب على حذف الفاء ، ومذهب آخرين أنه جواب لا على حذفها بل لما كان الشرط
ماضيا ضعف تأثير (إن) فارتفع . فالزمخشري بنى قوله على هذين المذهبين. ثم قال أبو حيان :
وهذا التركيب جائز فصيح ، وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجيء إلا في ضرورة . وأما القراءة الثانية فتحتمل وجهين :
__________________
أحدهما : أن سكون
اللام للجزم عطفا على محل (جعل) ؛ لأنه جواب الشرط .
والثاني : أنه
مرفوع ، وإنما سكن لأجل الإدغام. قاله الزمخشري وغيره . وفيه نظر من حيث إن من جملة من قرأ بذلك وهو نافع
والأخوان وحفص ليس من أصولهم الإدغام حتى يدعى لهم في هذا المكان. نعم أبو عمرو
أصله الإدغام وهو يقرأ هنا بسكون اللام فيحتمل ذلك على قراءته ، وهذا من محاسن علم
النحو والقراءات معا وقال الواحدي : وبين القراءتين فرق في المعنى ، فمن جزم فالمعنى : إن
شاء يجعل لك قصورا في الدنيا ، ولا يحسن الوقف على «الأنهار» ومن رفع حسن الوقف (على
«الأنهار») واستأنف (وَيَجْعَلْ لَكَ
قُصُوراً) في الآخرة.
وقرأ ابن سليمان وطلحة بن سليمان «ويجعل» بالنصب ، وذلك بإضمار أن على جواب الشرط ، واستضعفها ابن جنيّ ، ومثل هذه القراءة قوله :
٣٨٦٤ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك
|
|
ربيع النّاس
والبلد الحرام
|
ونأخذ بعده
بذناب عيش
|
|
أجبّ الظّهر ليس
له سنام
|
بالتثليث في (نأخذ).
فصل
القصور جماعة
القصر ، وهو المسكن الرفيع. قال المفسرون : القصور هي البيوت
__________________
المشيدة ، والعرب
تسمي كل بيت مشيد قصرا. ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكنا ومنتزها ، ويجوز
أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة.
وقال مجاهد : «إن
شاء جعل لك جنات» في الآخرة وقصورا في الدنيا .
روي أنه ـ عليهالسلام ـ قال : «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، فقلت :
لا يا ربّ ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ـ أو قال ثلاثا ، أو نحو هذا ـ فإذا جعت تضرّعت إليك ودعوتك ،
وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» وروت عائشة قالت : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : لو شئت لسارت معي جبال الذهب جاءني ملك فقال : إنّ ربك
يقرأ عليك السلام ويقول إن شئت كنت نبيا عبدا ، وإن شئت نبيا ملكا ، فنظرت إلى
جبريل ـ عليهالسلام ـ فأشار إليّ أن ضع نفسك ، فقلت : نبيا عبدا قالت : وكان
النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد ذلك لا يأكل متكئا ، ويقول : آكل كما يأكل العبد
وأجلس كما يجلس العبد وعن ابن عباس قال : بينما رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ جالس وجبريل ـ عليهالسلام ـ معه فقال جبريل : «هذا ملك قد نزل من السّماء استأذن
ربّه في زيارتك» فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقال : «إنّ الله يخيرك أن يعطيك مفاتيح كلّ شيء لم يعط
أحد قبلك ولا يعطيه أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئا» فقال عليهالسلام : بل يجمعهما لي جميعا في الآخرة فنزل (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ) الآية . قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا
بِالسَّاعَةِ) أي : بالقيامة ، فلا يرجون ثوابا ولا عقابا فلا يتكلفون النظر والفكر ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل.
(وَأَعْتَدْنا لِمَنْ
كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً). قال أبو مسلم : «أعتدنا» أي : جعلناها عتيدا ومعدة لهم ، والسعير : النار الشديدة الاستعار ، وعن الحسن : أنه
اسم جهنم .
فصل
احتج أهل السنة
على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى : (أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣]
وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية .
__________________
قال الجبائي :
يحتمل في قوله : «وأعتدنا» أن المراد منه نار الدنيا ، وبها نعذب الكفار والفساق
في قبورهم ، ويحتمل نار الآخرة ، ويكون المعنى : «وأعتدنا» أي : سنعدّها ، كقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤].
وهذا جواب ساقط ، لأن المراد من السعير إما نار الدنيا ، أو نار الآخرة ، فإن كان
الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا ، أو يعذبهم في
الآخرة بنار الدنيا والأول باطل ، لأنه تعالى ما عذبهم بالنار في الدنيا ،
والثاني ـ أيضا ـ باطل ؛ لأنه لم يقل أحد من الأمة إنه تعالى يعذب الكفرة في
الآخرة بنيران الدنيا. فثبت أن المراد نار الآخرة وأنها معدة.
وأما حمل الآية
على أن الله تعالى سيجعلها معدة فترك للظاهر من غير دليل . قوله : (إِذا رَأَتْهُمْ) هذه الجملة الشرطية في موضع نصب صفة ل «سعيرا» ، لأنه مؤنث بمعنى النار.
قوله : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) فإن قيل : التّغيّظ لا يسمع. فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على
حذف مضاف ، أي : صوت تغيظها .
والثاني : أنه على
حذف تقديره : سمعوا ورأوا تغيظا وزفيرا ، فيرجع كل واحد إلى ما يليق به ، أي: رأوا
تغيظا وسمعوا زفيرا .
والثالث : أن يضمن «سمعوا» معنى يشمل الشيئين ، أي : أدركوا لها
تغيظا وزفيرا .
وهذان الوجهان
الأخيران منقولان من قوله :
٣٨٦٥ ـ ورأيت زوجك في الوغى
|
|
متقلّدا سيفا
ورمحا
|
ومن قوله :
٣٨٦٦ ـ علفتها تبنا وماء باردا
أي : ومعتقلا رمحا
، وسقيتها ماء ، أو يضمّن (متقلّدا) معنى متسلحا ،
__________________
و (علفتها) معنى
أطعمتها تبنا وماء باردا.
فصل
معنى (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). قال الكلبي والسديّ : من مسيرة عام. وقيل : من مسيرة مائة
سنة . روي عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ بين عيني جهنم
مقعدا» قالوا : وهل لها من عينين؟ قال : نعم ألم تسمع قول الله ـ عزوجل ـ (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ
مَكانٍ بَعِيدٍ).
وقيل : إذا رأتهم
زبانيتها . قال الجبائي : إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة
الموكلين بتعذيب أهل النار ، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار ، فهو كقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وأراد أهلها .
قوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً). «مكانا» منصوب على الظرف ، و «منها» في محل نصب على الحال من «مكانا». لأنه في
الأصل صفة له . و «مقرّنين» حال من مفعول «ألقوا» ، و «ثبورا» مفعول به ، فيقولون : واثبوراه ، ويجوز أن يكون مصدرا من معنى «دعوا» ، وقيل : منصوب بفعل من لفظه مقدر تقديره ثبرنا ثبورا .
وقرأ معاذ بن جبل «مقرّنون»
بالواو ، ووجهها أن تكون بدلا من مفعول «ألقوا» وقرأ عمرو بن محمد «ثبورا» بفتح
الثاء ، والمصادر التي على
__________________
(فعول) بالفتح
قليلة جدا ، وينبغي أن يضم هذا إليها ، وهي مذكورة في البقرة عند
قوله (وَقُودُهَا النَّاسُ).
فصل
قال ابن عباس :
يضيق جهنم عليهم كما يضيق الزج على الرمح ، وهو منقول أيضا عن ابن عمر . وسئل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن ذلك فقال : «إنّهم يستكرهون في النار كما يستكره
الوتد في الحائط» .
قال الكلبي :
الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب. قال الزمخشري : الكرب مع الضيق كما أن الفرج مع السعة ، ولذلك وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض .
وقوله : «مقرّنين»
(أي : مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال . وقيل: مقرنين) مع الشياطين في السلاسل ، كل كافر مع شيطان ، فعندما
يشاهدون هذا العذاب دعوا بالويل والثبور .
قال ابن عباس :
يقولون : ويلا . وقال الضحاك : هلاكا . فيقولون : واثبوراه فهذا حينك وزمانك ، فيقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً
وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي : هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية
كثيرة .
__________________
قال الكلبي : نزل
هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات .
قوله تعالى : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ
الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً(١٥)
لَهُمْ
فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٦)
قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) الآية. لما وصف العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما
يؤكد الحسرة والندامة فقال : (أَذلِكَ خَيْرٌ).
فإن قيل : كيف
يقال : العذاب خير أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل : السكر أحلى أم الصبر؟
فالجواب : هذا يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فتمرد وأبى
واستكبر فضربه ويقول له : أهذا خير أم ذلك ؟
فصل
قال أبو مسلم :
جنة الخلد : هي التي لا ينقطع نعيمها ، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور ، قال تعالى : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا
شُكُوراً) [الإنسان : ٩].
فإن قيل : الجنة اسم لدار مخلدة ، فأي فائدة في قوله : (جَنَّةُ الْخُلْدِ)؟ فالجواب : الإضافة قد تكون للتبيين ، وقد تكون لبيان صفات
الكمال ، كقوله تعالى : (الْخالِقُ الْبارِئُ) وهذا من هذا الباب .
فصل
احتج المعتزلة
بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين :
الأول : اسم
الجزاء لا يتناول إلا المستحق ، فأما الموعود بمحض التفضيل فلا يسمى جزاء.
والثاني : لو كان
المراد بالجزاء ما صرتم إليه بمجرد الوعد فلا يبقى بين قوله : «جزاء» وبين قوله: «مصيرا»
تفاوت ، فيصير ذلك تكريرا من غير فائدة.
والجواب : أنه لا
نزاع في كونه جزاء إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق ، وليس
في الآية ما يدل على التعيين .
فإن قيل : إن
الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيرا لكنها بعد ما صارت كذلك ، فلم قال الله (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً)؟
فالجواب من وجهين
:
__________________
الأول : أن ما
وعده فهو في تحققه كأنه قد كان ؛ ولأنه قد كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل أن
يخلقهم الله بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم (ومصيرا) .
قوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) هو نظير قوله : (وَلَكُمْ فِيها ما
تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [فصلت: ٣١] ، (وَفِيها ما
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ). فإن قيل : أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات
العالية لا بد وأن يريدوها ، فإذا سألوها ربهم ، فإن أعطاها لم يبق بين الناقص
والكامل تفاوت في الدرجة ، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ، وأيضا فالأب إذا كان ولده في دركات النيران وأشد العذاب
فلو اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب ، (فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه) ، فإن فعل قدح ذلك في أن عذاب الكافر مخلد ، وإن لم يفعل
قدح ذلك في قوله: (وَلَكُمْ فِيها ما
تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [فصلت : ٣١] ، وفي
قوله : (لَهُمْ فِيها ما
يَشاؤُنَ خالِدِينَ) .
والجواب أن الله
تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم .
قوله : «خالدين»
منصوب على الحال ، إما من فاعل «يشاءون» وإما من فاعل «لهم» ، لوقوعه خبرا ، والعائد على «ما» محذوف ، أي : لهم فيها
الذي يشاءونه حال كونهم خالدين.
قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ) في اسم «كان» وجهان :
أحدهما : أنه ضمير
(ما يَشاؤُنَ) ذكره أبو البقاء .
والثاني : أن يعود على الوعد المفهوم من قوله (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ). و «مسؤولا» على المجاز ، يسأل هل وفى لك أم لا ، أو يسأله
من وعد به.
فصل
قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما
تقدم . وقوله : «مسؤولا» أي : مطلوبا ، قيل : إنّ المتقين سألوا
__________________
ربهم في الدنيا
فقالوا : (رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤]
وقال محمد بن كعب القرظي : الملائكة سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم : (رَبَّنا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر : ٨].
وقيل : إن
المكلفين سألوه بلسان الحال ؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة
الله كان ذلك قائما مقام السؤال ، قال المتنبي :
٣٨٦٧ ـ وفي النّفس حاجات وفيك فطانة
|
|
سكوتي كلام
عندها وخطاب
|
وقيل : (وَعْداً مَسْؤُلاً) أي : واجبا وإن لم يسأل. قاله الفراء وقيل : «مسؤولا» أي : من حقه أن يكون مسؤولا ، لأنه حق
واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة ، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة .
قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ
ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ
ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ
بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ
مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ
وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠)
قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ) الآية قرأ ابن عامر «نحشرهم ... فنقول» بالنون فيهما ،
وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما ، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في
الثاني . وهنّ واضحات.
__________________
وقرأ الأعرج «نحشرهم» بكسر
الشين في جميع القرآن.
قال ابن عطية : هي
قليلة في الاستعمال قوية في القياس ، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من
يفعل بضم العين . وقال أبو الفضل الرازي : وهو القياس في الأفعال الثلاثية
المتعدية ؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي . قال أبو حيان : وليس كما ذكرا بل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ،
ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيرا ، فإن شهر أحد الاستعمالين اتّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيّر
فيهما سمعا للكلمة أم لم يسمعا .
قال شهاب الدين :
الذي خيّر في ذلك ابن عصفور ، فيجيز أن يقول : زيد يفعل بكسر العين ، ويضرب بكسر الراء مع سماع
الضم في الأول والكسر في الثاني وسبقه إلى ذلك ابن درستويه (إلا أن) النحاة على خلافه .
قوله : (وَما يَعْبُدُونَ) عطف على مفعول «يحشرهم» ، ويضعف نصبه على المعية ، وغلب غير العاقل عليه فأتي ب «ما» دون «من».
__________________
فصل
ظاهر قوله : (وَما يَعْبُدُونَ) أنها الأصنام ، لأن (ما) لما لا يعقل. وظاهر قوله : (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ) أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وعزير وغيرهم ؛
لأن الإضلال وجد بهم فلهذا اختلفوا .
فقال مجاهد : أراد
الملائكة والجن والمسيح وعزير . وقال عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام . فقيل لهم : كيف يخاطب الله تعالى الجماد فأجابوا بوجهين :
أحدهما : أنه
تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها.
والثاني : أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل
بلسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات ، وكلام الأيدي والأرجل ، وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك؟ فإن لم يحصل جوابا
أجابتك اعتبارا .
وقال الأكثرون :
المراد الملائكة وعيسى وعزير ـ عليهمالسلام ـ قالوا : ويتأكد هذا القول بقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠] فإن
قيل : لفظة «ما» لا تستعمل في العقلاء. فالجواب من وجهين :
الأول : لا نسلم
أن كلمة «ما» لا تستعمل لمن لا يعقل ؛ لأنهم قالوا : «من» لمن لا يعقل في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥].
الثاني : أنه أريد
به الوصف كأنه قيل : ومعبودهم.
وقال تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] وهذا لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين .
فصل
قالت المعتزلة : (وفيه
كسر بيّن لقول من يقول إن) الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان
الجواب الصحيح أن يقول : إلهنا ههنا قسم ثالث
__________________
غيرهما هو الحق ،
وهو أنّك أضللتهم ، فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا ضلالهم إلى أنفسهم ، علمنا أنه تعالى لا يضل أحدا من عباده ، فإن
قيل : لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه ، وقالوا : (وَلكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) ، وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم ،
وهو أنه تعالى متّعهم وآباءهم بنعيم الدنيا. قلنا : لو كان الأمر كذلك لكان يلزم
أن يصير الله محجوجا في يد أولئك المعبودين ، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن
يصير الكافر محجوجا مفحما ملوما .
وأجاب أهل السنة
بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله ، وإن صلحت له لم يترجح اقتدارها للضلال على اقتدارها
على الاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى ، وعند ذلك يزول السؤال.
وأما ظاهر الآية
وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا .
قوله : «هؤلاء»
يجوز أن يكون نعتا ل «عبادي» أو بدلا أو بيانا.
قوله : (ضَلُّوا السَّبِيلَ) على حذف حرف الجر وهو «عن» كما صرح به في قوله (يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١١٧]
ثم اتّسع فيه فحذف نحو هدى ، فإنّه يتعدّى ب (إلى) وقد يحذف اتساعا . و «ضلّ» مطاوع (أضلّ) . فإن قيل : إنّه تعالى كان عالما في الأزل بحال المسؤول
عنه فما فائدة هذا السؤال؟
فالجواب : هذا
سؤال تقريع للمشركين كما قيل لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦].
فإن قيل : فما فائدة «أنتم» ، وهلّا قيل : أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟
فالجواب : هذا
سؤال عن الفاعل فلا بدّ من ذكره حتى يعلم أنه المسؤول عنه .
وقوله : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ ...
أَمْ هُمْ ضَلُّوا) (إنما قدم الاسم
على الفعل)
__________________
كما تقدم في قوله
: (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦].
قوله : «ينبغي»
العامة على بنائه للفاعل ، وأبو عيسى الأسود القارىء «ينبغى» مبنيّا
للمفعول. قال ابن خالويه : زعم سيبويه أنّ «ينبغى» لغة .
قوله : «أن نتّخذ»
فاعل «ينبغي» ، أو مفعول قائم مقام الفاعل في قراءة الأسود وقرأ العامة «نتّخذ»
مبنيّا للفاعل ، و (مِنْ أَوْلِياءَ) مفعوله وزيدت فيه (من) ويجوز أن يكون مفعولا أوّل على أن (اتّخذ) متعديا لاثنين .
ويجوز أن لا تكون
المتعدية لاثنين بل لواحد ، فعلى هذا (مِنْ دُونِكَ) متعلق بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنه حال من «أولياء».
وقرأ أبو الدرداء
، وزيد بن ثابت ، وأبو رجاء ، والحسن ، وأبو جعفر في آخرين : «نتّخذ» مبنيّا
للمفعول . وفيه أوجه :
أحدها : أنها
المتعدية لاثنين ، فالأول : «هم» ضمير الاثنين ، والثاني : قوله : (مِنْ أَوْلِياءَ) و «من» للتبعيض ،
أي : ما كان ينبغي أن نتخذ بعض أولياء ، قاله الزمخشري .
الثاني : أنّ (مِنْ أَوْلِياءَ) هو المفعول الثاني ـ (أيضا ـ إلّا أن «من» مزيدة في
المفعول الثاني) . وهذا مردود بأن «من» لا تزاد في المفعول الثاني إنما تزاد
في الأول . قال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول «من» في قوله : (مِنْ أَوْلِياءَ) اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره . قال الزجاج : أخطأ من قرأ بفتح الخاء وضم النون ، لأنّ «من»
إنما تدخل في هذا الباب إذا كانت مفعولة أولا ولا تدخل على مفعول الحال ، تقول : ما اتخذت من
__________________
أحد وليا ، ولا
يجوز ما اتخذت أحدا من وليّ .
الثالث : أن يكون (مِنْ أَوْلِياءَ) في موضع الحال قاله ابن جني إلّا أنه قال : ودخلت «من»
زيادة لمكان النفي المتقدم كقولك : ما اتخذت زيدا من وكيل . فظاهر هذا أنه جعل الجار والمجرور (في موضع الحال ،
وحينئذ يستحيل أن تكون «من» مزيدة ولكنه يريد أن هذا المجرور) هو الحال نفسه و «من» مزيدة فيه إلّا أنه لا يحفظ زيادة «من»
في الحال وإن كانت منفية وإنما حفظ زيادة الباء فيها على خلاف في ذلك . فإن قيل : هذه القراءة غير جائزة ، لأنه لا مدخل لهم في
أن يتخذهم غيرهم أولياء. قلنا : المراد أنا لا نصلح لذلك ، فكيف ندعوهم إلى
عبادتنا ؟ وقرأ الحجاج : نتّخذ من دونك [أولياء] فبلغ عاصما فقال : مقّت المخدج ، أو ما علم أنّ فيها «من» .
فصل
أجابوا بقولهم : «سبحانك».
وفيه وجوه :
أحدها : أنه تعجب
منهم ، تعجبوا مما قيل لهم ؛ لأنهم ملائكة ، والأنبياء معصومون فما أبعدهم عن
الإضلال الذي هو مختصّ بإبليس وجنوده.
وثانيها : أنهم
نطقوا ب «سبحانك» ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون بذلك ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده.
__________________
وثالثها : قصدوا
بالتسبيح تنزيهه عن الأنداد سواء كان المسبح وثنا أو نبيا أو ملكا.
ورابعها : قصدوا
تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إبراء من كان بريئا من الجرم
، بل إنما سألهم تقريعا للكفار وتوبيخا لهم .
وقولهم : (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ
مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ).
معناه : إذا كنا لا نرى أن يتخذ من دونك وليا ، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك ،
أي
ما كان لنا أن
نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك. وقيل : ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين.
وقيل : ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء ، أي : إنا علمنا أنك لا ترضى
بهذا فما فعلنا ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل : قالت الملائكة : (إنّا
وهم عبيدك ، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك وليا ولا حبيبا فضلا عن أن
يتخذ عبدا آخر إلها. وقيل : قالت الأصنام) : إنا لا يصلح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا
ادعاؤنا من المعبودين .
قوله : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ). لمّا تضمّن كلامهم أنّا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال
حسن هذا الاستدراك ، وهو أن ذكروا سببه ، أي : أنعمت عليهم وتفضلت فجعلوا ذلك
ذريعة إلى ضلالهم عكس القضية. والمعنى متعتهم وآباءهم في الدنيا بطول العمر والصحة
والنعمة .
(حَتَّى نَسُوا
الذِّكْرَ) تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن . وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه .
قوله : (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي : هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان . و «بورا» يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع
بائر كعائذ و عوذ .
والثاني : أنه
مصدر في الأصل كالزور ، فيستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ، وهو
من البوار وهو الهلاك .
وقيل من الفساد ،
وهي لغة الأزد ، يقولون : بارت بضاعته أي : فسدت ، وأمرنا بائر ، أي: فاسد ، وهذا معنى قولهم : كسدت البضاعة.
وقال الحسن : هو
من قولهم : أرض بور ، أي : لا نبات بها . وهذا يرجع إلى معنى الهلاك والفساد.
__________________
قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) هذا خطاب مع المشركين ، أي : كذّبكم المعبودون في قولكم
إنهم آلهة وإنهم أضلوكم. وقيل : خطاب للمؤمنين في الدنيا ، أي : فقد كذبوكم أيها
المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدّنيا ، وهو معنى قوله (بِما تَقُولُونَ). وهذه الجملة من كلام الله تعالى اتفاقا ، فهي على إضمار القول
والالتفات. قال الزمخشري : هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة ، وخاصة إذا انضمّ إليها الالتفات وحذف القول ،
ونحوها قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ
تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) [المائدة : ١٩] ،
وقول القائل :
٣٨٦٨ ـ قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
|
|
ثمّ القفول فقد
جئنا خراسانا
|
انتهى .
يريد أنّ الأصل في
الآية الكريمة فقلنا فقد كذبوكم ، وفي البيت : فقلنا قد جئنا. وقرأ أبو حيوة وقنبل
في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياء من تحت ، أي : «فقد كذّبكم الآلهة بما يقولون (سُبْحانَكَ ما كانَ
يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ) إلى آخره وقيل : المعنى : فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار
بما يقولون) من الافتراء عليكم .
قوله : «فما
يستطيعون». قرأ حفص بتاء الخطاب ، والمراد عبّادها ، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار
صرف العذاب عنكم. وقيل : الصرف : التوبة ، وقيل : الحيلة .
__________________
وقرأ الباقون باء الغيبة ، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره ،
ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير ، والمعنى : فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم
العذاب وأن يحتالوا لكم.
قوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ). قرأ العامة «نذقه» بنون العظمة ، وقرىء بالياء ، وفي الفاعل وجهان :
أظهرهما : أنه
الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك.
والثاني : أنه
ضمير الظلم المفهوم من الفعل ، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم ،
والمعنى : ومن يشرك منكم نذقه عذابا كبيرا.
فصل
تمسك المعتزلة
بهذه الآية (في القطع بوعيد أهل الكبائر ، قالوا : ثبت أن كلمة «من» في معرض الشرط
للعموم ، وثبت أن الكافر ظالم لقوله (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ،
والفاسق ظالم لقوله : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات : ١١]
فثبت بهذه الآية) أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة.
والجواب : أنا لا
نسلم أن كلمة «من» في معرض الشرط للعموم ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ،
سلمنا أنه للعموم لكن قطعا أم ظاهرا؟ ودعوى القطع ممنوعة ، فإنا نرى في العرف
العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام
معينون ويدل عليه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] ثم
إن كثيرا من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع أن يقال : قولنا (الَّذِينَ كَفَرُوا) كان يفيد العموم ، لكن المراد منه إمّا الغالب أو المراد منه أقوام مخصصون.
وعلى التقديرين
ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة
ظاهرة لا قاطعة ، وذلك لا ينفي تجويز العفو.
__________________
سلمنا دلالته ،
لكن أجمعنا على أن قوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ
مِنْكُمْ) مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من
ذلك الظلم ، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله : (يَظْلِمْ مِنْكُمْ) مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول : هذا مسلم ،
لكن لم قلتم : إنه لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي
تزيله ، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله
: (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧].
فإن قيل : آيات الوعيد أولى ، لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ، وإذا
ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين
الاستحقاقين محال. قلنا : لا نسلم أنّ السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه
لو تاب فإنه (لا) يقطع على سبيل التنكيل (بل على سبيل المحنة) . نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) خطاب مع قوم مخصوصين معينين ، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم .
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ) الآية هذا جواب عن قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] أي
: هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن .
قوله : (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ) حق الكلام أن يقال : إلّا أنّهم. بفتح الألف ، لأنه متوسط
، والمكسورة لا تليق إلّا بالابتداء ، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في
محل نصب صفة لمفعول محذوف ، فقدره الزجاج والزمخشري : «وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين».
وإنما حذف ، لأن في قوله : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) دليلا عليه ، نظيره قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤]
بمعنى : ما منّا أحد . وقدره ابن عطية : رجالا أو رسلا . والضمير في «إنّهم» وما بعده عائد على هذا الموصوف المحذوف .
والثاني : قال
الفراء : إنها لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول
__________________
محذوف هو المفعول (ل
«أرسلنا») ، تقديره : إلا من أنهم. فالضمير في «إنّهم» وما بعده عائد
على معنى «من» المقدرة ، واكتفي بقوله : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عنه كقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها انَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً)) ، أي : إلّا من يردها .
فعلى قول الزجاج
الموصوف محذوف ، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ، ولا يجوز حذف الموصول
وتبقية الصلة عند البصريين إلّا في مواضع ، تقدّم التنبيه عليها في البقرة .
الثالث : أن
الجملة محلها النصب على الحال ، وإليه ذهاب ابن الأنباري قال : التقدير : إلّا وإنهم ، يعني أنها حالية ، فقدّر معها الواو بيانا للحالية ، فكسر بعد استئناف.
وردّ بكون ما بعد «إلّا» صفة لما قبلها ، وقدره أبو البقاء أيضا . والعامة على كسر «إنّ» ، لوجود اللام في خبرها ، ولكون
الجملة حالا على الراجح. قال أبو البقاء : وقيل : لو لم تكن اللام
لكسرت أيضا لأن الجملة حالية ، إذ المعنى : إلّا وهم . وقيل : المعنى : إلا قيل إنهم .
وقرىء «أنّهم»
بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية ، والتقدير : إلّا لأنّهم أي : ما جعلنا رسلا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم .
وقرأ العامة «يمشون»
خفيفة ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله «يمشّون» مشددا مبنيّا للمفعول
، أي : تمشّيهم حوائجهم أو الناس .
وقرأ عبد الرحمن :
«يمشّون» بالتشديد مبنيّا للفاعل ، وهي بمعنى «يمشون» قال الشاعر :
٣٨٦٩ ـ ومشّى بأعطان المياه وابتغى
|
|
قلائص منها صعبة
وركوب
|
__________________
قال الزمخشري :
ولو قرىء «يمشّون» لكان أوجه لو لا الرواية . يعني بالتشديد.
قال شهاب الدين :
قد قرأ بها السّلميّ ولله الحمد .
فصل
روى الضحاك عن ابن
عباس قال : لمّا عيّر المشركون رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧]
أنزل الله هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول ، وما كنت بدعا من الرسل ، وهم
كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كما قال في موضع آخر : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت : ٤٣]. (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ
فِتْنَةً) أي : بلية ، فالغني فتنة للفقير ، (ويقول الفقير) : ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة
للوضيع . قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما
تسمعون منهم ، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى .
وقال الكلبي
والزجاج والفراء : نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف
الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم ، وأقام على كفره لئلا يكون
للوضيع السابقة والفضل عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا
إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١]
وقيل : هذا عام في جميع الناس ، روى أبو الدرداء عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرعية ،
(وويل للرعية من السلطان) ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ،
وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية .
وروي عن ابن عباس
والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية (هذا يقول لم لم أجعل مثله) في الخلق ، والخلق ، وفي العقل ، وفي العلم ، وفي الرزق ، وفي
الأجل .
وقيل : هذا احتجاج
عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها ، فالمرسلون
يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً
كَثِيراً) [آل عمران : ١٨٦]
،
__________________
والمرسل إليهم
يتأذون أيضا (من الرسل) بحسب الحسد ، وصيرورته مكلفا بالخدمة ، وبذل النفس والمال
بعد أن كان رئيسا مخدوما .
والأولى حمل الآية
على الكل ، لأن بين الجميع قدرا مشتركا .
قال عليهالسلام : «إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه في المال والجسد فلينظر
إلى من دونه في المال والجسد» .
قوله : (أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً). «أتصبرون» المعادل محذوف ، أي : أم لا تصبرون وهذه الجملة
استفهام ، والمراد منه : التقرير بأن موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم بعد الابتلاء في قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بمعنى : أنها معلّقة لما فيها من معنى فعل القلب ، فتكون
منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى : «أتصبرون» على البلاء ، فقد علمتم ما وعد
الصابرون ، (وَكانَ رَبُّكَ
بَصِيراً) أي : عالم بمن يصبر ، وبمن لا يصبر فيجازي كلا منهم بما
يستحقه من ثواب وعقاب .
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا
لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)(٢٤)
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الآية. هذه هي الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحاصلها : لم (لم) تنزّل الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق في دعواه ، (أَوْ نَرى رَبَّنا) حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا ؟
فصل
قال الفراء : قوله
تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ
لِقاءَنا) أي : لا يخافون
__________________
لقاءنا ، فوضع
الرجاء موضع الخوف لغة تهاميّة إذا كان معه جحد ، ومنه قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] أي :
لا تخافون لله عظمة
قال القاضي : لا
وجه لذلك ، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ،
والمعلوم من حال عبّاد الأصنام أنهم كانوا لا يخافون العقاب ، لتكذيبهم (بالمعاد) ، فكذلك لا يرجون الثواب لمثل ذلك ، فقوله : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) محمول على الحقيقة ، وهو أنهم لا يرجون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب والجنة
، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضا ، فالخوف تابع (للرجاء ) .
فصل
دلّ ظاهر الآية
على جواز الرؤية ، لأن اللقاء جنس تحته أنواع ، أحد أنواعه الرؤية ، والآخر
الاتصال والمماسّة. وهما باطلان ، فدلّ على جواز الرؤية ، لأن الرائي يصل برؤيته
إلى حقيقة المرئي فسمي الرؤية لقاء . وقالت المعتزلة : تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة ،
لأنه يقال في الدعاء : لقاك الله الخير. ويقول القائل : لم ألق الأمير. وإن رآه من
بعد إذا حجب عنه ، ويقال في الضرير : لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب ، وقد يلقاه
في الليلة الظلماء ولا يراه ، بل المراد من اللقاء هنا المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [الانفطار : ١٩]
لا أنه رؤية البصر . قال ابن الخطيب : وهذا كلام ضعيف ، لأنّ اللفظ الموضوع
لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني ، فيصح قوله : لقاك
الخير ، ويصح قول الأعمى : لقيت الأمير ، ويصح قول البصير : لقيته (بمعنى رأيته ،
وما لقيته) بمعنى ما وصلت إليه ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا) مذكور في معرض الذم لهم ، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلا
، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني وبين الوصول بالرؤية ، وقد بطل الأول فتعيّن الثاني.
__________________
وقولهم : المراد
من اللقاء الوصول إلى حكمه. صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل ، فثبت دلالة الآية على
صحة الرؤية بل على وجوبها ، بل على أنّ إنكار الرؤية ليس إلا من دين (الكفار).
قوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ) : هلّا أنزل (عَلَيْنَا
الْمَلائِكَةُ) فيخبرونا أن محمدا صادق (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بذلك (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ) (أي : تعظموا في
أنفسهم) بهذه المقالة. قال الكلبي ومقاتل : نزلت الآية في أبي جهل والوليد
وأصحابهما المنكرين للنبوة والبعث.
قوله : «عتوا»
مصدر وقد صحّ هنا وهو الأكثر وأعلّ في مريم في «عتيّا» ، لمناسبة ذكرت هناك ، وهي تواخي رؤوس الفواصل .
فصل
قال مجاهد : «عتوّا»
طغوا . وقال مقاتل : «عتوّا» غلوّا في القول .
والعتو : أشد
الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به .
وقوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) ، لأنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه ، كما قال : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما
هُمْ بِبالِغِيهِ)) . وعتوا : تجاوزوا الحد في الظلم .
فصل
وهذا جواب عن
شبهتهم وبيانه من وجوه :
أحدها : أن القرآن
لما ظهر كونه معجزا فقد تمت نبوة محمد ـ عليهالسلام ـ فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض التعنت
والاستكبار.
__________________
وثانيها : أنّ
نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ، فلا يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزا
فيكون قبول ذلك المعجز وردّ المعجز الآخر ترجيحا لأحد المثلين على الآخر من غير
مزيد فائدة ومرجّح ، وهو محض الاستكبار والتعنت.
وثالثها : أنهم
بتقدير أن يروا الرب ، ويسألوه عن صدق محمد ـ عليهالسلام ـ وهو سبحانه يقول: نعم هو رسولي ، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد ـ عليهالسلام ـ لأنّا بيّنّا أن المعجزة تقوم مقام التصديق بالقول ، إذ
لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول : اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت ، فيحييه
الله تعالى ، (والعادة لم تجر بمثله) ، وبين أن يقول له : صدقت. وإذا كان التصديق بالقول
والتصديق الحاصل بالمعجز (سيّين) في كونه تصديقا للمدعى ، كان تعيين أحدهما محض استكبار وتعنت.
ورابعها : يمكن أن
يكون المراد أنّ الله تعالى قال : لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ، ولكني علمت
أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت ، فلو أعطيتهم مقترحهم لما
انتفعوا به ، فلا جرم لا أعطيتهم ذلك.
وخامسها : لعلهم
سمعوا من أهل الكتاب أن الله لا يرى ، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على
عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل الاستهزاء .
فصل
استدل المعتزلة
بهذه الآية على عدم الرؤية ، لأنّ رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتوا. قالوا
: فقوله : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) ليس إلّا لأجل سؤال الرؤية ، واستعظم في آية أخرى قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) [البقرة : ٥٥].
فثبت أن الاستكبار والعتو هاهنا إنما حصل لأجل سؤال الرؤية ، وتقدم الكلام على ذلك
في سورة البقرة . ونقول هاهنا : إنّا بينا أن قوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) يدل على الرؤية ، وأمّا الاستكبار والعتو فلا يدل ذلك على أن
الرؤية
__________________
مستحيلة ، لأنّ من
طلب شيئا محالا لا يقال : إنه عتا واستكبر ، ألا ترى قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ
آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨]
لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتوّا واستكبارا بل قال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
ومما يدل على ذلك
أن موسى ـ عليهالسلام ـ لما قال : (رَبِ أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ) [الأعراف: ١٤٣] ما وصفه الله بالاستكبار والعتوّ ، لأنه ـ عليهالسلام ـ طلب الرؤية شوقا ، وهؤلاء لمّا طلبوها امتحانا وتعنتا لا جرم وصفهم بذلك .
قوله : يوم يرون»
فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب
بإضمار فعل يدل عليه قوله : «لا بشرى» أي : يمنعون البشرى يوم يرون.
الثاني : أنه منصوب ب (اذكر) ، فيكون مفعولا به .
الثالث : أنّه
منصوب ب (يعذبون) مقدرا .
ولا يجوز أن يعمل
فيه نفس «البشرى» لوجهين :
أحدهما : أنها
مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله .
والثاني : أنّها منفية ب (لا) ، (وما بعد (لا)) لا يعمل فيما قبلها .
قوله : «لا بشرى»
هذه الجملة معمولة لقول مضمر ، أي : يرون الملائكة يقولون لا بشرى ، فالقول حال من
«الملائكة» ، وهو نظير التقدير في قوله : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ) [الرعد : ٢٣] إلى
قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤].
قال أبو حيان :
واحتمل «بشرى» أن يكون
مبنيّا مع «لا» ، واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف
للتأنيث اللازم فإن كانة مبنيّا مع «لا» احتمل أن يكون «يومئذ» خبرا و «للمجرمين» خبرا بعد خبر ، أو نعتا ل «بشرى» ،
__________________
أو متعلقا بما
تعلّق به الخبر ، وأن يكون «يومئذ» صفة ل «بشرى» والخبر «للمجرمين» ، ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر
لنفس «لا» أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع «لا» وما بني معها .
وإن كان في نية
التنوين وهو معرب ، (جاز أن يكون «يومئذ» ، و «للمجرمين» خبرين ، و) جاز أن يكون «يومئذ» خبرا و «للمجرمين» صفة ، والخبر إذا
كان الاسم ليس مبنيا لنفس «لا» بإجماع . قال شهاب الدين : قوله : واحتمل أن يكون في نية التنوين إلى آخره لا يتأتّى إلّا
على قول أبي إسحاق ، وهو أنه يرى أنّ اسم (لا) النافية للجنس معرب ، ويعتذر عن حذف التنوين بكثرة الاستعمال ويستدل عليه
بالرجوع إليه في الضرورة ، وينشد :
٣٨٧٠ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا
ويتأوله البصريون
على إضمار : ألا ترونني رجلا ، وكان يمكن الشيخ أن يجعله معربا كما ادّعى بطريق
أخرى ، وهو : أن يجعل «بشرى» عاملة في «يومئذ» أو في «للمجرمين» ، فيصير من قبيل المطوّل ، والمطوّل معرب ، لكنه لم يلم بذلك ، وسيأتي شيء من هذا
في كلام أبي البقاءرحمهالله.
ويجوز أن يكون «بشرى»
معربا منصوبا بطريق أخرى ، وهي أن تكون منصوبة بفعل مقدّر ، أي : لا يبشّرون بشرى
، كقوله تعالى : (لا مَرْحَباً بِهِمْ)) ، (و) لا أهلا ولا سهلا ، إلّا أن كلام الشيخ لا يمكن تنزيله على
هذا لقوله : جاز أن يكون «يومئذ» و «للمجرمين» خبرين ، فقد حكم أن لها خبرا ، وإذا جعلت منصوبة بفعل مقدر لا
__________________
يكون [ل (لا)] حينئذ خبر ، لأنها داخلة على ذلك الفعل المقدر ، وهذا موضع حسن .
قوله : «يومئذ
للمجرمين» قد تقدّم في «يومئذ» أوجه ، وجوّز أبو البقاء أن يكون منصوبا ب «بشرى» ،
قال : إذا قدّرت أنها منونة غير مبنيّة مع (لا) ، ويكون الخبر «للمجرمين» . وجوّز ـ أيضا ـ هو والزمخشري أن يكون «يومئذ» تكريرا (ل «يوم)
يرون» وردّه أبو حيان سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظيّ أم أريد به البدل قال : لأنّ «يوم» منصوب
بما تقدم ذكره من (اذكر) (أو من) (يعدمون) البشرى ،
وما بعد (لا) العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها ، وعلى تقدير ما ذكراه يكون العامل فيه ما قبل (لا) . وما ردّه ليس بظاهر ، لأنّ الجملة المنفية معمولة للقول
المضمر الواقع حالا من «الملائكة» ، و «الملائكة» معمولة
ل «يرون» ، و «يرون» معمول ل «يوم» خصّصا بالإضافة ، ف (لا) وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنها معمولة لبعض
ما في حيزه ، فليست بأجنبية ولا مانعة من أن يعمل ما قبلها فيما بعدها.
والعجب له كيف
تخيل هذا وغفل عما تقدم فإنه واضح مع التأمل. و «للمجرمين» من وضع الظاهر موضع
المضمر شهادة عليهم بذلك. والضمير في «يقولون» يجوز عوده للكفار (أو للملائكة ) . و «حجرا» من المصادر الملتزم إضمار ناصبها ، ولا يتصرّف فيه نحو معاذ الله ، وقعدك ، وعمرك ،
وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ وهجوم نازلة ، ونحو ذلك يضعونها موضع
الاستعاذة ، قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل : أتفعل كذا فيقول : حجرا وهي من حجره : إذا منعه ، لأنّ المستعيذ
__________________
طالب من الله أن يمنع المكروه ولا يلحقه ، وكان المعنى : أسأل الله أن يمنعه منعا ويحجره حجرا.
والعامة على كسر الحاء ، والضحاك ، والحسن ، وأبو رجاء على ضمّها وهو لغة فيه.
قال الزمخشري :
ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرّف فيه لاختصاصه بموضع واحد كما كان قعدك
وعمرك كذلك وأنشد لبعض الرجاز :
٣٨٧١ ـ قالتوفيها حيدة وذعر
|
|
عوذ بربّي منكم وحجر
|
وهذا الذي أنشده الزمخشري يقتضي تصرّف «حجرا». وقد تقدم نص سيبويه على أنه يلتزم النصب.
وحكى أبو البقاء فيه لغة ثالثة وهي الفتح ، قال : وقد قرىء بها . فعلى هذا كمل فيه ثلاثة لغات مقروء بهنّ.
و «محجورا» صفة
مؤكدة للمعنى كقولهم : ذيل ذائل ، والذيل : الهوان ، وموت مائت ، والحجر : العقل ، لأنه يمنع صاحبه .
فصل
قوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ) عند الموت. قاله ابن عباس ، وقال الباقون : يريد يوم القيامة (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ) للكافرين. قالت المعتزلة : الآية تدلّ على القطع بوعيد
الفساق وعدم العفو ، قوله : (لا بُشْرى ...
لِلْمُجْرِمِينَ) نكرة في سياق النفي فتعمّ
__________________
جميع أنواع البشر
في جميع الأوقات ، بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال : بل له بشرى في الوقت الفلاني ، فلما كان ثبوت البشرى في وقت
من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية ، علمنا أن قوله : «لا بشرى» يقتضي نفي جميع
البشرى في كل الأوقات ، وشفاعة الرسول لهم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك
لأحد من المجرمين ، والكلام على التمسك بصيغ العموم ، وقد تقدم مرارا .
فصل
اختلفوا في
القائلين (حِجْراً مَحْجُوراً) : فقال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شدة ، ورأوا ما
يكرهون ، قالوا : «حجرا محجورا» ، فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة .
قال مجاهد : يعني
: عوذا معاذا ، فيستعيذون به من الملائكة .
وقال ابن عباس :
تقول الملائكة : حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال : لا إله إلا الله . قال مقاتل : إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة (حِجْراً مَحْجُوراً) أي : حرام محرم عليكم أن تكون لكم البشرى .
قوله : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ) أي : وعمدنا إلى عملهم.
قوله : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً). الهباء والهبوة : التراب الدقيق. قاله ابن عرفة .
قال الجوهري :
يقال فيه : هبا يهبو : إذا ارتفع ، وأهببته أنا إهباء .
وقال الخليل
والزجاج : هو مثل الغبار الداخل في الكوّة يتراءى مع ضوء الشمس فلا يمس بالأيدي ولا يرى في الظل. وهو قول الحسن وعكرمة
ومجاهد .
__________________
وقيل : الهباء ما
تطاير من شرر النّار إذا أضرمت ، والواحدة هباءة على حد تمر وتمرة. و «منثورا» أي : مفرّقا ، نثرت الشيء فرّقته. والنّثرة لنجوم متفرقة . والنّثر : الكلام غير المنظوم على المقابلة بالشعر.
قال ابن عباس
وقتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح ، وتذريه من التراب ، (وحطام الشجر ) .
وقال مقاتل : هو
ما يسطع من حوافر الدواب عند السير .
وفائدة الوصف به
أنّ الهباء تراه منتظما مع الضوء ، فإذا حرّكته تفرّق ، فجيء بهذه الصفة لتفيد ذلك
. وقال الزمخشري : أو مفعول ثالث ل «جعلناه» أي : فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ، كقوله : «كونوا» (قِرَدَةً خاسِئِينَ) [الأعراف : ٦٦] أي
: جامعين للمسخ والخسأ .
قال أبو حيان :
وخالف ابن درستويه ، فخالف النحويين في منعه أن يكون ل (كان) خبران وأزيد ، وقياس قوله في (جعل) أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث .
قال شهاب الدين :
مقصوده أن كلام الزمخشري مردود قياسا على ما منعه ابن درستويه من تعديد خبر (كان) .
قوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا) أي : من هؤلاء المشركين المستكبرين. (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) موضع قائلة . وفي (أفعل) هاهنا قولان :
أحدهما : أنها على
بابها من التفضيل ، والمعنى : أن المؤمنين خير في الآخرة
__________________
مستقرا من مستقرّ
الكفار (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) من مقيلهم ، لو فرض أن يكون لهم.
والثاني : أن يكون
لمجرّد الوصف من غير مفاضلة .
فصل
قال المفسرون :
يعني أن أهل الجنة لا يمرّ بهم يوم إلا قدر النهار من أوله إلى قدر القائلة حتى
يسكنوا مساكنهم من الجنة .
قال ابن مسعود :
لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ،
وقرأ : «ثمّ إن مقيلهم لإلى الجحيم» وهكذا كان يقرأ .
وقال ابن عباس في
هذه الآية : الحساب ذلك اليوم في أوله . وقال قوم : حين قالوا في منازلهم.
قال الأزهري :
القيلولة والمقيل : الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم ، لأن الله قال : (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) والجنة لا نوم فيها .
وروي «أن يوم
القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس».
قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ
بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً
(٢٦)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩)
قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) العامل في «يوم» إمّا (اذكر) ، وإمّا ينفرد الله بالملك يوم تشقق ، لدلالة قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) عليه. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو [هنا وفي (ق) «تشقّق» بالتخفيف
، والباقون بالتشديد ، وهما واضحتان ،
__________________
حذف الأولون] تاء المضارعة أو تاء التفعل على خلاف في ذلك ، والباقون أدغموا تاء التفعل في الشين لما بينهما من
المقاربة ، وهما ك «تظاهرون» و «تظّاهرون» حذفا وإدغاما ، وقد مضى في البقرة . قوله : «بالغمام» في هذه الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : على
السببية ، أي : بسبب الغمام ، يعني بسبب طلوعها منها ، ونحوه (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ) [المزمل : ١٨]
كأنه الذي يتشقق به السماء .
الثاني : أنها
للحال ، أي : ملتبسة بالغمام .
الثالث : أنها
بمعنى (عن) ، أي : عن الغمام كقوله : («يوم تشقّق الأرض عنهم ) ، [والباء وعن يتعاقبان ، تقول : رميت عن القوس وبالقوس].
قوله : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) فيها اثنتا عشرة قراءة ثنتان في المتواتر ، وعشر في الشاذ. فقرأ ابن كثير من السبعة «وننزل» بنون مضمومة ثم
أخرى ساكنة وزاي خفيفة مكسورة مضارع (أنزل) ، و «الملائكة» بالنصب مفعول به ، وكان من حق المصدر أن يجيء بعد هذه القراءة على
(إنزال). قال أبو علي : لما كان (أنزل) و (نزّل) يجريان مجرى واحدا أجزأ مصدر أحدهما عن مصدر الآخر ، وأنشد :
٣٨٧٢ ـ وقد تطوّيت انطواء الحضب
__________________
لأنّ تطوّيت
وانطويت بمعنى ، ومثله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] [أي
: تبتّلا] وقرأ الباقون من السبعة «ونزّل» بضم النون وكسر الزاي
المشددة وفتح اللام ماضيا مبنيّا للمفعول ، «الملائكة» بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، وهي موافقة لمصدرها.
وقرأ ابن مسعود
وأبو رجاء «ونزّل» بالتشديد ماضيا مبنيّا للفاعل ، وهو الله تعالى ، «الملائكة»
مفعول به. وعنه ـ أيضا ـ «وأنزل» مبنيّا للفاعل عداه بالتضعيف مرة ، و بالهمزة أخرى ، والاعتذار عن مجيء مصدره على التفعيل
كالاعتذار عن ابن كثير . وعنه ـ أيضا ـ «وأنزل» مبنيّا للمفعول.
وقرأ هارون عن أبي
عمرو (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ) بالتاء من فوق وتشديد الزاي ورفع اللام مضارعا مبنيّا
للفاعل ، «الملائكة» بالرفع مضارع «نزّل» بالتشديد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول
محذوف ، أي : وتنزّل الملائكة ما أمرت أن تنزّله.
وقرأ الخفّاف عنه ، وجناح بن حبيش «ونزل» مخففا مبنيّا للفاعل ، «الملائكة»
بالرفع. وخارحة عن أبي عمرو ـ أيضا ـ وأبو معاذ «ونزّل» بضم النون وتشديد الزاي ،
ونصب «الملائكة» ، والأصل : وننزل بنونين حذفت (إحداهما ) وقرأ أبو عمرو
__________________
وابن كثير في
رواية عنهما بهذا الأصل «وننزّل» بنونين وتشديد الزاي . وقرأ أبيّ «ونزّلت» بالتشديد مبنيّا للمفعول ، «وتنزّلت» بزيادة تاء في أوله ، وتاء التأنيث (فيهما ) .
وقرأ أبو عمرو في طريقة الخفاف عنه «ونزل» بضم النون وكسر الزاي
خفيفة مبنيّا للمفعول. قال صاحب اللوامح : فإن صحت هذه القراءة فإنه حذف منها
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، تقديره : ونزل نزول الملائكة ، فحذف النزول ونقل
إعرابه إلى «الملائكة» بمعنى : نزل نازل الملائكة ، لأنّ المصدر يجيء بمعنى الاسم
، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه ترتيب بناء اللازم للمفعول به ، لأنّ الفعل يدل على مصدره . قال شهاب الدين : وهذا تمحّل كثير دعت إليه ضرورة الصناعة
. وقال ابن جني : وهذا غير معروف ، لأنّ (نزل) لا يتعدى إلى مفعول
فيبنى هنا للملائكة ، ووجهه أن يكون مثل زكم الرّجل وجنّ ، فإنه لا يقال إلا
أزكمه ، وأجنّه الله ، وهذا باب سماع لا قياس . ونظير هذه القراءة ما تقدم في سورة الكهف في قراءة من قرأ
«فلا يقوم لهم يوم القيامة وزنا» بنصب وزن من حيث تعدية القاصر ، وتقدم ما فيها.
فصل
الغمام : هو
الأبيض الرقيق مثل الضباب ، ولم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم . والألف واللام في «الغمام» ليس للعموم بل للمعهود ، وهو
ما ذكره في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠]
قال ابن عباس : تتشقق
__________________
سماء الدنيا فينزل
أهلها ، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، [ثم تشقق السماء الثانية ، فينزل أهلها وهم
أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس] ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة ، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي
قبلها ، ثم ينزل الكروبيّون ، ثم حملة العرش.
فإن قيل : ثبت
بالقياس أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة ، فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش ، فملائكة هذه المواضع (بأسرها ، فكيف تتسع
الأرض لكل هؤلاء؟
فالجواب : قال بعض
المفسرين : الملائكة يكونون في الغمام ، والغمام يكون) مقرّ الملائكة.
قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) فيها أوجه :
أحدها : أن يكون «الملك»
مبتدأ والخبر «الحقّ» و «يومئذ» متعلق ب «الملك» ، و «للرّحمن» متعلق ب «الحقّ» ،
أو بمحذوف على التبيين ، أو بمحذوف على أنه صفة للحق .
الثاني : أنّ
الخبر «يومئذ» ، و «الحقّ» نعت للملك ، [و «للرحمن» على ما تقدم].
[الثالث : أنّ
الخبر «للرّحمن» و «يومئذ» متعلق ب «الملك» ، و «الحقّ» نعت للملك].
قيل : ويجوز نصب
الحق بإضمار (أعني) .
__________________
فصل
المعنى : أنّ
الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة .
قال ابن عباس :
يريد أنّ يوم القيامة لا ملك يقضي غيره . ومعنى وصفه بكونه حقا : أنه لا يزول ولا يتغير . فإن قيل : مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن ، فما الفائدة في قوله : «يومئذ»؟. فالجواب
لأنّ في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ، ولا في المعنى ، فتخضع له
الملوك وتعنو له الوجوه ، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام . (وَكانَ يَوْماً عَلَى
الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي : شديدا ، وهذا الخطاب يدلّ على أنه لا يكون على المؤمنين
عسيرا ؛ جاء في الحديث «أنه يهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من
صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» قوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ) يوم معمول لمحذوف ، أو معطوف على (يَوْمَ تَشَقَّقُ). و «يعضّ» مضارع عضّ ، ووزنه فعل بكسر العين بدليل قولهم :
عضضت أعضّ. وحكى الكسائي فتحها في الماضي ، فعلى هذا يقال : أعضّ بالكسر في المضارع. والعضّ هنا
كناية عن شدة الندم ، ومثله : حرق نابه ، قال :
٣٨٧٣ ـ أبى الضّيم والنّعمان يحرق
نابه
|
|
عليه فأفضى والسّيوف معاقله
|
وهذه الكناية أبلغ
من تصريح المكني عنه .
فصل
(أل) في «الظّالم»
تحتمل العهد والجنس على خلاف في ذلك . فالقائلون بالعهد اختلفوا على قولين :
الأول : قال ابن
عباس : أراد بالظالم : عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس ، كان لا يقدم من سفر
إلا صنع طعاما ، ودعا إليه جيرته وأشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة
__________________
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويعجبه حديثه ، فقدم ذات يوم من سفر ، فصنع طعاما ، ودعا الناس ، ودعا الرسول ، فلما قرب الطعام قال
رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني
رسول الله» فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله ، فأكل الرسول من طعامه ، وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف ، فلما أتى أبي بن
خلف قال له : يا عقبة صبأت ، قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل عليّ فأبى أن يأكل
طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له ، فطعم. فقال
: ما أنا بالذي أرضى منك أبدا إلا أن تأتيه وتبزق في وجهه ، وتطأ على عنقه ، ففعل ذلك عقبة ، فقال عليهالسلام : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوتك بالسيف ، فقتل عقبة يوم
بدر صبرا ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بيده يوم أحد .
قال الضحاك : لما
بزق عقبة في وجه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عاد بزاقه في وجهه ، فاحترق خداه ، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت .
وقال الشعبي : كان
عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا ، فكفر وارتد ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) يعني : عقبة ، يقول : (يا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) ، أي : ليتني اتبعت محمدا فاتخذت معه سبيلا إلى الهدى.
وقرأ أبو عمرو (يا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ) بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها.
الثاني : قالت
الرافضة : الظالم هو رجل بعينه ، وإن المسلمين عرفوا اسمه وكتموه ، وجعلوا فلانا
بدلا من اسمه ، وذكروا فاضلين من أصحاب الرسول.
ومن حمل الألف
واللام على العموم ، لأنها إذا دخلت على الاسم المفرد أفادت العموم بالقرينة ، وهي
أنّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف ، فدلّ على أنّ المؤثر في العض على
اليدين كونه ظالما ، فيعم الحكم لعموم علته.
__________________
وهذا القول أولى
من التخصيص بصورة واحدة ، ونزوله في واقعة خاصة (لا ينافي العموم) ، بل تدخل فيه تلك الصورة وغيرها. والمقصود من الآية زجر
الكل عن الظلم ، وذلك لا يحصل إلا بالعموم.
فصل
قال الضحاك : يأكل
يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال هكذا كلما أكلها نبتت وقال المحققون : هذه اللفظة للتحسر والغم ، يقال : عضّ أنامله ، وعضّ على يديه .
قوله : «يقول» هذه
الجملة حال من فاعل «يعضّ» وجملة التمني بعد القول محكية به ، وتقدم الكلام في مباشرة (يا) ل «ليت» في النساء .
قوله : (يا وَيْلَتى). قرأ الحسن (يا وَيْلَتى) بكسر التاء وياء صريحة بعدها ، وهي الأصل. وقرأ الدّوريّ بالإمالة .
قال أبو علي :
وترك الإمالة أحسن ، لأن أصل هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا
فرارا من الياء ، فمن أمال رجع إلى الذي منه فرّ أولا . وهذا منقوض بنحو (باع) فإن أصله الياء ، ومع ذلك أمالوا ،
وقد أمالوا (يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ) [الزمر : ٥٦] و (يا أَسَفى) وهما ك (ياء) «ويلتي» في كون ألفهما عن ياء المتكلم. و «فلان»
كناية عن علم من يعقل ، وهو متصرف. و «فل» كناية عن نكرة من يعقل من الذكور ، و «فلة» عن من يعقل من الإناث. والفلان والفلانة بالألف عن غير العاقل ، ويختص (فل) ، و (فلة) بالنداء إلّا في ضرورة كقوله :
__________________
٣٨٧٤ ـ في لجّة أمسك فلانا عن فل
وليس (فل) مرخما
من (فلان) خلافا للفراء . وزعم أبو حيان أنّ ابن عصفور وابن مالك ، وابن العلج وهموا في جعلهم (فل) كناية عن علم من يعقل (فلان) . ولام (فل) و (فلان) فيها وجهان :
أحدهما : أنها
واو.
والثاني : أنها
ياء .
فصل
تقدم الكلام في (يا وَيْلَتى) في هود . (لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني أبيّ بن خلف (لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ) عن الإيمان والقرآن ، (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) يعني الذكر مع الرسول (وَكانَ الشَّيْطانُ) وهو كل متمرد عات من الجن والإنس ، وكل من صدّ عن سبيل
الله فهو شيطان . وقييل: أشار إلى خليله . وقيل : أراد إبليس ، فإنه الذي حمله على أن صار خليلا
لذلك المضل ، ومخالفة الرسول ، ثم خذله ، وهو معنى قوله : (لِلْإِنْسانِ
خَذُولاً) أي : تاركا يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب .
وقوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ) يحتمل أن تكون هذه الجملة من مقول الظالم فتكون منصوبة المحل
بالقول. وأن تكون من مقول الباري تعالى فلا محل لها ، لاستئنافها .
__________________
قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً
وَنَصِيراً)(٣١)
قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ).
قال أكثر المفسرين
: إنّ هذا القول وقع مع الرسول. وقال أبو مسلم : بل المراد أنّ الرسول يقوله في
الآخرة كقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].
والأول أولى ، لأنّ قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ
نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) تسلية للرسول ، ولا يليق ذلك إلا إذا وقع القول منه . و «مهجورا» مفعول ثان ل «اتّخذوا» ، أو حال. وهو مفعول من الهجر ـ بفتح الهاء ـ وهو التّرك والبعد.
أي : جعلوه متروكا بعيدا ، لم يؤمنوا به ، ولم يقبلوه ، وأعرضوا عن استماعه. وقيل
: هو من الهجر ـ بالضم ـ أي : مهجورا فيه. ثم حذف الجار بدليل قوله : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ
سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون : ٦٧].
وهجرهم فيه : قولهم فيه : إنه شعر ، وسحر ، وأساطير الأولين ، وكذب وهجر ، أي :
هذيان .
قال عليهالسلام : «من تعلم القرآن وعلق مصحفا ، ولم يتعاهده ، ولم ينظر
فيه ، جاء يوم القيامة متعلقا به ، يقول : يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا
اقض بيني وبينه» . وجعل الزمخشري «مهجورا» هنا مصدرا بمعنى الهجر قال كالمجلود والمعقول . قال شهاب الدين : وهو غير مقيس ، ضبطه أهل اللغة في
أليفاظ فلا يتعدى إلّا بنقل .
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا) الآية. جعل ذكر ذلك تسلية للرسول ، وأن له أسوة بسائر
الرسل ، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبر أولو العزم من الرسل . (وَكَفى بِرَبِّكَ
هادِياً وَنَصِيراً).
قال المفسرون :
الباء زائدة بمعنى كفى ربك (هادِياً وَنَصِيراً) منصوبان على
__________________
الحال ، وقيل :
على التمييز «هاديا» إلى مصالح
الدين والدنيا ، «ونصيرا» على الأعداء.
فصل
احتج أهل السنة
بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر ، لأنّ قوله : (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى ، وتلك العداوة
كفر. قال الجبائي : المراد من الجعل التبيين ، لأنه تعالى لمّا بيّن أنهم أعداؤه ،
فقد جعل أنهم أعداء ، كما إذا بيّن الرجل أنّ فلانا لص ، فقد جعله لصا ، وكما يقال
في الحاكم : إنه عدّل فلانا ، وفسّق فلانا ، وجرّحه.
وقال الكعبي : إنه تعالى لما أمر (الأنبياء) بعداوة الكفار ، وعداوتهم للكفار تقتضي (عداوة الكفار) لهم ، فلهذا جاز أن يقول : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك
العداوة.
وقال أبو مسلم :
يحتمل في العدو أنه البعيد الغريب ، إذ المعاداة المباعدة ، كما أن النصرة قرب من المظاهرة ، وقد باعد الله بين المؤمنين والكافرين. والجواب عن الأول
: أنّ التبيين لا يسمي التيه جعلا ، لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال :
إنه جعل الصانع وجعل قدمه.
والجواب عن الثاني
: أنّ الذي أمره الله تعالى (به) هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم ، أو ليس له فيه
تأثير؟.
فإن كان الأول فقد
تم الكلام ، لأنّ عداوتهم للرسول كفر ، فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك
العداوة ، فقد أمر بما له أثر في وقوع الكفر ، وإن لم يكن له فيه تأثير ألبتة كان منقطعا عنه بالكلية ، فيمتنع إسناده
إليه ، وهذا هو الجواب عن أبي مسلم . فإن قيل : قوله ـ عليهالسلام ـ : ((يا رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) في
__________________
المعنى كقول نوح ـ
عليهالسلام) ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٥ ـ ٦]
فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هنا ، فكيف يليق هذا
بمن وصفه الله بالرحمة في قوله (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].
فالجواب : أن نوحا
ـ عليهالسلام ـ لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد ـ عليهالسلام ـ لما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر ، فلما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا) (من المجرمين) كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم (فافترقا) . فإن قيل : قوله : «جعلنا» صيغة تعظيم ، والعظيم إذا ذكر
نفسه في معرض التعظيم ، وذكر أنه يعطي ، فلا بد وأن تكون العطية عظيمة كقوله :
ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وقوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) ، فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة
التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا؟
فالجواب : خلق
العدو تسبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب .
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ
وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ
عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) الآية.
هذه شبهة خامسة لمنكري النبوة ؛ فإن أهل مكة قالوا : تزعم أنك رسول من عند
الله ، فهلا تأتينا بالقرآن جملة (واحدة) ، كما أتي موسى بالتوراة جملة ، وكما أتي عيسى بالإنجيل
جملة ، وداود بالزبور . قال ابن جريج : من أوله إلى آخره في ثنتين أو ثلاث وعشرين
سنة . و «جملة» حال من «القرآن» ؛ إذ هي في معنى مجتمعا .
قوله : «كذلك»
الكاف إما مرفوعة المحل ، أي : الأمر كذلك ، و «لنثبّت» علة
__________________
لمحذوف ، أي : لنثبت فعلنا ذلك. وإما منصوبته على الحال ، أي : أنزل مثل ذلك ، أو على النعت لمصدر محذوف
، و «لنثبت» متعلقة بذلك الفعل المحذوف وقال أبو حاتم : هي جواب قسم. وهذا قول مرجوح نحا إليه الأخفش ، وجعل منه «ولتصغى» ، وقد تقدم في الأنعام. وقرأ عبد الله «ليثبت» بالياء أي الله تعالى.
فصل
هذا جواب عن
شبهتهم ، وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه ـ عليهالسلام ـ لم يكن من أهل الكتابة والقراءة ، فلو نزل ذلك عليه جملة واحدة كان لا يضبطه وجاز عليه فيه الخطأ والغلط.
وثانيها : أن من
كان الكتاب عنده ، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ ، فالله تعالى ما أعطاه الكتاب جملة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة
، ليكون حفظه له أكمل ، فيكون أبعد عن المساهمة وقلة التحصيل.
وثالثها : أنه
تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة على الخلق ، فكان يثقل
عليهم ذلك فلما نزل مفرقا منجما نزلت التكاليف قليلا قليلا ، فكان تحملها
أسهل.
ورابعها : أنه إذا
شاهد جبريل حالا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على
عوارض النبوة ، وعلى احتمال الأذى وعلى التكاليف الشاقة.
وخامسها : أنه لما
تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجما ثبت كونه معجزا ؛ فإنه لو كان ذلك مقدورا
للبشر لوجب أن يأتوا بمثله منجما مفرقا ، ولما عجزوا عن معارضة نجومه المفرقة ،
فعن معارضة الكل أولى.
وسادسها : كان
القرآن ينزل بحسب أسئلتهم ووقائعهم ، فكانوا يزدادون بصيرة ، وكان ينضم إلى
الفصاحة الإخبار عن الغيوب.
وسابعها : أن
السفارة بين الله وبين أنبيائه ، وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم ، فيحتمل أن
يقال : إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة لبطل المنصب على
__________________
جبريل ـ عليهالسلام ـ فلما أنزله مفرقا منجما بقي ذلك المنصب العالي عليه ،
فلذلك جعلة الله تعالى منجما.
فصل
قوله : «كذلك»
يحتمل أن يكون من تمام كلام المشركين ، أي : جملة واحدة كذلك أي كالتوراة
والإنجيل. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ذكره جوابا لهم ، أي : كذلك أنزلناه
، مفرقا . فإن قيل : «كذلك» إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدمه هو
إنزالة جملة ، (فكيف فسره ب «كذلك أنزلناه») مفرقا؟
فالجواب : أن
الإشارة (إلى الإنزال مفرقا لا إلى جملة . قوله : (وَرَتَّلْناهُ
تَرْتِيلاً) الترتيل : التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت) يسير دون قطع النفس ، ومنه ثغر رتل ومرتل ، أي: مفلج الأسنان بين أسنانه فرج يسيرة . قال الزمخشري : ونزل هنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى
أخبر وإلا تدافعا . يعني أن نزل بالتشديد يقتضي بالأصالة التنجيم والتفريق ،
فلو لم يجعل بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك ، لتدافع مع قوله «جملة» لأن الجملة تنافي التفريق ، وهذا بناء منه
على معتقده ، وهو أن التضعيف يدل على التفريق ، وقد نص على كذلك في مواضع من
الكشاف في سورة البقرة ، وأول آل عمران ، وآخر الإسراء ، وحكى هناك عن ابن عباس ما يقوي ظاهره صحة قوله .
__________________
فصل
(وَرَتَّلْناهُ
تَرْتِيلاً) قال ابن عباس : بيناه بيانا . والترتيل : التبيين في ترسل وتثبيت. وقال السديّ : فصلناه تفصيلا . وقال مجاهد : بعضه في أثر بعض . وقال النخعي والحسن وقتادة : فرقناه تفريقا آية بعد آية . قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ) يعني المشركين «بمثل» يضربونه في إبطال أمرك (إِلَّا جِئْناكَ
بِالْحَقِّ) الذي يدفع ما جاءوا به من المثل ويبطله كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء : ١٨]
في ما يريدون من الشبه (مثلا ، وسمى ما يدفع به الشّبه) حقا .
قوله : (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ) هذا الاستثناء مفرغ ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي :
لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك كذا ، والمعنى : ولا يأتونك بسؤال عجيب
إلا جئناك بالأمر الحق ، (وَأَحْسَنَ
تَفْسِيراً) أي : بيانا وتفضيلا ، و «تفسيرا» تمييز. والمفضّل عليه
محذوف : تفسيرا من مثلهم .
والتفسير : تفعيل
من الفسر ، وهو كشف ما قد غطي .
ثم ذكر مآل
المشركين فقال : (الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) بساقون ويجرّون إلى جهنم ، روي أنهم يمشون في الآخرة
مقلوبين وجوههم على القفا ، وأرجلهم إلى فوق ، وقال عليهالسلام : «إنّ الذين أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على
وجوههم» . والأول أولى ، لأنه ورد أيضا.
قوله : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ) يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ويجوز نصبه على الذم ، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة من قوله «أولئك شرّ
__________________
مكانا» ، ويجوز أن يكون «أولئك» بدلا أو بيانا للموصول ، و (شَرٌّ مَكاناً) خبر الموصول.
قوله : (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) منزلا ومصيرا من أهل الجنة (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) وأخطأ طريقا وههنا سؤال كما تقدم في قوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا).
ولما تكلم في
التوحيد ، ونفي الأنداد وإثبات النبوة وأحوال القيامة شرع في ذكر القصص على
الطريقة المعلومة .
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا
إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً)(٣٦)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الآية. لما قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٣١]
وذكر ذلك في معرض التسلية له ، ذكر جماعة من الأنبياء ، وعرفه تكذيب أممهم ،
والمعنى : لست يا محمد بأول من أرسلنا فكذب (وآتيناه الآيات فردّ) : فقد آتينا موسى الكتاب ، وقوينا عضده بأخيه هارون (ومع
ذلك فقد ردّ) . فإن قيل : كون هارون وزيرا كالمنافي لكونه شريكا ، بل يجب أن يقال : إنه
لما صار (شريكا) خرج عن كونه وزيرا. فالجواب : لا منافاة بين الصنفين ،
لأنه لا يمنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيرا ، وظهيرا ، ومعينا له . ولا وجه لقول من قال في قوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا) إنه خطاب لموسى عليهالسلام وحده بل يجري مجرى قوله : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ طَغى) [طه : ٤٣].
قوله : «هارون» بدل ، أو بيان ، أو منصوب على القطع و «وزيرا» مفعول ثان ، وقيل : حال ، والمفعول الثاني قوله «معه» . قال الزجاج : الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويعمل برأيه ، والوزر ما يعتصم به ، ومنه : (كَلَّا لا وَزَرَ) [القيامة : ١١]
__________________
أي : لا منجى ولا
ملجأ . قال القاضي : ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيرا .
قوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني القبط.
قوله : (فَدَمَّرْناهُمْ). العامة على «فدمّرنا» فعلا ماضيا معطوفا على محذوف ، أي :
فذهبا فكذبوهما (فَدَمَّرْناهُمْ
تَدْمِيراً) أهلكناهم إهلاكا. وقرأ عليّ ـ كرم الله وجهه ـ «فدمّراهم»
أمر لموسى وهارون ، وعنه أيضا : «فدمّرانّهم» كذلك أيضا ، ولكنه مؤكد بالنون
الشديدة ، وعنه أيضا : «فدمّرا بهم» بزيادة باء الجر بعد فعل الأمر
، وهي تشبه القراءة قبلها في الخط ، ونقل عنه الزمخشري «فدمّرتهم» بتاء
المتكلم . فإن قيل : الفاء للتعقيب ، والإهلاك لم يحصل عقيب بعث
موسى وهارون إليهم بل بعد مدة مديدة.
فالجواب : فاء
التعقيب محمولة هنا على الحكم بالإهلاك لا على الوقوع. وقيل : إنه تعالى أراد
اختصار القصة فذكر المقصود منها أولها وآخرها ، والمراد إلزام الحجة
ببعثة الرسل ، واستحقاق التدمير بتكذيبهم . واعلم أن قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب الآيات الإلهية فلا إشكال
، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة ، فاللفظ وإن كان للماضي فالمراد به المستقبل .
قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا
لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧)
وَعاداً
وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا
لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)(٣٩)
قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ) الآية. يجوز أن يكون «قوم» منصوبا عطفا على مفعول
__________________
«دمّرناهم» ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر قوله : «أغرقناهم» وترجح هذا بتقديم جملة فعلية قبله. هذا إذا قلنا : إن «لما»
ظرف زمان ، وأما إذا قلنا إنها حرف وجوب لوجوب فلا يتأتى ذلك ، لأن «أغرقناهم»
حينئذ جواب «لما» ، وجوابها لا يفسر ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر لا على سبيل الاشتغال ،
أي : اذكر قوم نوح .
فصل
إنما قال : (كَذَّبُوا الرُّسُلَ) إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل ، أو لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع ، لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع
الرسل .
وقوله «أغرقناهم».
قال الكلبي : أمطرنا عليهم السماء أربعين يوما ، وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك
الأربعين ، فصارت الأرض بحرا واحدا . «وجعلناهم» أي : جعلنا إغراقهم وقصتهم «للناس آية»
للظالمين أي : لكل من سلك سبيلهم ، (وَأَعْتَدْنا
لِلظَّالِمِينَ) في الآخرة (عَذاباً أَلِيماً).
قوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) الآية ، «وعادا» فيه ثلاثة أوجه :
أن يكون معطوفا
على «قوم نوح» ، وأن يكون معطوفا على مفعول «جعلناهم» وأن يكون معطوفا على محل «للظّالمين» لأنه في قوة وعدنا
الظالمين بعذاب . قوله : (وَأَصْحابَ الرَّسِّ) فيه وجهان :
__________________
أحدهما : (أنه) من عطف المغاير ، وهو الظاهر.
والثاني : أنه من
عطف بعض الصفات على بعض.
والمراد ب (أَصْحابَ الرَّسِّ) ثمود ، لأن الرّسّ البئر التي التي لم تطو عن أبي عبيدة ، وثمود أصحاب آبار. وقيل : «الرّسّ» نهر بالمشرق (وكانت
قرى أصحاب الرس على شاطىء فبعث الله إليهم نبيا من أولاد يهودا بن يعقوب فكذبوه ، فلبث فيهم زمانا يشتكي إلى الله منهم ،
فحفروا بئرا ورسوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، وكانوا عامة يومهم
يسمعون أنين نبيهم وهو يقول : إلهي ترى ضيق مكاني ، وشدة كربي ، وضعف قلبي ، وقلة صلتي فجعل قبض روحي حتى مات ، فأرسل الله ريحا عاصفة شديدة
الحر ، وصارت الأرض من تحتهم كبريتا متوقدا ، وأظلتهم سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص) ويقال : إنهم أناس عبدة أصنام قتلوا نبيهم ، ورسوه في بئر أي ؛ دسوه فيها وقال قتادة والكلبي : الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم
وهو حنظلة بن صفوان وقيل : هم بقية ثمود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكر
الله تعالى في قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ
وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج : ٤٥]. وقال
كعب ومقاتل والسدي : الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيب النجار ، ورسوه في بئر ، وهم
الذين ذكرهم الله تعالى في سورة يس . وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس هو الأخدود الذي حفروه .
وقال عكرمة : هم
قوم رسوا نبيهم في بئر . وقيل : الرس المعدن ، وجمعه
__________________
رساس وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ : أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة
الصّنوبر وسموا أصحاب الرس ؛ لأنهم رسوا نبيهم في الأرض . وروى ابن جرير عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن الله بعث نبيا إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهل القرية
أحد إلا عبد أسود ، ثم إنهم حفروا للرسول بئرا وألقوه فيها ، ثم طبقوا عليها حجرا
ضخما ، وكان ذلك الرجل الأسود يحتطب ويشتري له طعاما وشرابا ، ويرفع الصخرة ويدليه
إليه ، فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوما ، فلما أراد أن يحملها وجد نوما ، فاضطجع ، وضرب الله على أذنه تسع سنين ، ثم هبّ واحتمل حزمته واشترى طعاما وشرابا ، وذهب إلى الحفرة فلم
يجد أحدا ، وكان قومه قد استخرجوه فآمنوا به ، وصدقوه ، وكان ذلك النبي يسألهم عن
الأسود ، ويقول لهم إنه أول من يدخل الجنة .
قوله : («وقرونا»)
أي : وأهلكنا قرونا كثيرة بين عاد وأصحاب الرس والقرون : جمع قرن ، قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : القرن
أربعون سنة ، وهو قول النخعي. وقيل : مائة وعشرون سنة. وقيل غير ذلك . وتقدم الكلام عليه في سورة سبحان عند قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ
بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء : ١٧].
قوله : «بين ذلك» «ذلك»
إشارة إلى من تقدم ذكره ، وهم جماعات ، فلذلك حسن دخول «بين» عليه . وقد يذكر الذاكر بحوثا ثم يشير إليها بذلك ، ويحسب الحاسب
أعدادا متكاثرة ، ثم يقول : فذلك كيت وكيت ، أي ذلك المحسوب أو المعدود .
قوله : «وكلا»
يجوز نصبه بفعل يفسره ما بعده ، أي : وحذرنا أو ذكرنا ، لأنها في معنى ضربنا له الأمثال .
ويجوز أن يكون
معطوفا على ما تقدم ، و «ضربنا» بيان لسبب إهلاكهم. وأما «كلّا» الثانية
فمفعول مقدم .
__________________
قوله : (ضَرَبْنا لَهُ
الْأَمْثالَ) أي : الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد
الإنذار . وقيل : بيّنّا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا «تبّرناهم
تتبيرا» أي : أهلكناهم إهلاكا . وقال الأخفش : كسرنا تكسيرا.
قال الزجاج : كل
شيء كسرته وفتّتّه فقد تبّرته .
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ
الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا
لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١)
إِنْ
كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٢)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ
الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) الآية. أراد بالقرية قريات لوط ، وكانت خمس قرى ، فأهلك
الله منها أربعا ونجت واحدة ، وهي (صقر) كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث. يعني أن قريشا مرّوا
مرورا كثيرا إلى الشام على تلك القرى ، (الَّتِي أُمْطِرَتْ
مَطَرَ السَّوْءِ) أي : أهلكت بالحجارة من السماء ، «أفلم يكونوا يرونها» في مرورهم وينظروا إلى آثار عذاب الله
ونكاله فيعتبروا ويتذكروا .
قوله : (مَطَرَ السَّوْءِ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر
على حذف الزوائد أي : أمطار السوء.
الثاني : أنه
مفعول ثان ؛ إذ المعنى : أعطيتها وأوليتها مطر السوء.
الثالث : أنه نعت
مصدر محذوف ، أي : أمطارا مثل مطر السوء وقرأ زيد بن عليّ «مطرت» ثلاثيا مبنيا (للمفعول) ، ومطر متعد قال :
٣٨٧٥ ـ كمن بواديه بعد المحل ممطور
__________________
وقرأ أبو السمال (مَطَرَ السَّوْءِ) بضم السين ، وتقدم الكلام على السوء والسوء في براءة. وقوله : (أَتَوْا عَلَى
الْقَرْيَةِ) إنما عدّي (أتى) ب (على) ، لأنه ضمّن معنى مرّ.
قوله : (بَلْ كانُوا لا
يَرْجُونَ نُشُوراً) في هذا الرجاء ثلاثة أوجه :
أقواها ما قاله
القاضي : وهو أنه محمول على حقيقة الرجاء ؛ لأن الإنسان لا يحتمل متاعب التكليف
إلا رجاء ثواب الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق.
وثانيها : معناه
لا يتوقعون نشورا ، فوضع الرجاء موضع التوقّع ؛ لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن.
وثالثها : معناه :
(لا يخافون) على اللغة التهامية. وهو ضعيف .
قوله : (وَإِذا رَأَوْكَ) الآية. لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته بإيراد الشبهات بين بعد ذلك أنهم إذا رأوا الرسول اتخذوه
هزوا ، ولم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ،
ويقول بعضهم لبعض : «أهذا الّذي بعث الله رسولا» .
قوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) «إن» الأولى نافية ، والثانية مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينهما ، و «هزوّا مفعول ثان ، ويحتمل أن يكون التقدير : موضع هزء وأن يكون مهزوءا بك . وهذه الجملة المنفية تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها
جواب (إذا) الشرطية ، واختصت (إذا) بأن جوابها متى كان منفيا ب (ما) أو (إن)
أو (لا) لا تحتاج إلى الفاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط فعلى هذا يكون قوله : (أَهذَا الَّذِي) في محل نصب بالقول المضمر ، وذلك القول المضمر في محل نصب
على الحال ، أي : إن يتخذونك قائلين ذلك .
__________________
والثاني : أنها
جملة معترضة بين (إذا) وجوابها. وجوابها هو ذلك القول المضمر المحكي به(أَهذَا الَّذِي) والتقدير : وإذا رأوك قالوا أهذا الذي بعث ، فاعترض بجملة النفي ، ومفعول «بعث» محذوف هو عائد الموصول ، أي : بعثه . و «رسولا» على بابه من كونه صفة فينتصب على الحال ، وقيل
: هو مصدر بمعنى رسالة ، فيكون على حذف مضاف ، أي ذا رسول بمعنى رسالة ، أو يجعل
نفس المصدر مبالغة ، أو بمعنى : مرسل . وهو تكلف.
قوله : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) تقدم نظيره في سبحان .
قوله : (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا) جوابها محذوف ، أي : لضللنا عن آلهتنا. قال الزمخشري : و «لو لا» في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقيد للحكم (المطلق)
.
فصل
قال المفسرون : إن
أبا جهل كان إذا مر بأصحابه على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال مستهزءا : (أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (إِنْ كادَ) قد كاد «ليضلّنا» أي : قد قارب أن يضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها أي : (أي لو لم نصبر عليها)
انصرافا عنها ، (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من أخطأ طريقا . (واعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا
الرسول ـ عليه الصلاة السلام ـ أتوا بنوعين من الأفعال. أحدهما : الاستهزاء ،
فيقولون : (أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وذلك جهل عظيم ، لأن الاستهزاء إما أن يكون بصورته أو
بصفته والأول باطل ، لأنه ـ عليه
__________________
الصلاة والسلام ـ كان
أحسن منهم صورة وخلقة) ، وبتقدير أنه لم يكن كذلك ، لكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ
ما كان يدعي التميز عنهم بالصورة بل بالحجة. والثاني باطل ، لأنه ـ عليه الصلاة
والسلام ـ ادّعى التميز عليهم بظهور المعجز عليه دونهم ، وأنهم ما قدروا على القدح
في حجته ، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية ، واستهزءوا بالرسول ، وذلك يدل على (أنه ليس
للمبطل في كل الأوقات) إلا السفاهة والوقاحة.
والنوع الثاني :
قولهم : (إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) فسمّوا ذلك ضلالا ، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في
تعظيم آلهتهم ، ويدل على جده واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان فلهذا قالوا : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا
لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) ، وذلك يدل على أنهم كانوا مقهورين بالحجة ، ولم يكن في
أيديهم إلا مجرد (الوقاحة ) .
قوله : «من أضل» جملة استفهامية معلقة ب «يعلمون» فهي سادّة مسدّ
مفعوليها إن كانت على بابها ، ومسدّ واحد إن كانت بمعنى (عرف) . ويجوز في «من» أن تكون موصولة ، و «أضلّ» خبر مبتدأ مضمر
هو العائد على «من» تقديره : من هو أضل ، وإنما حذف للاستطالة بالتمييز ، كقولهم : ما أنا بالذي قائل لك سوءا . وهذا ظاهر إن كانت متعدية لواحد ، وإن كانت متعدية لاثنين
فيحتاج إلى تقدير ثان ولا حاجة إليه.
__________________
فصل
لما وصفوه
بالإضلال في قولهم : (إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا) بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه ، فقال : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ، وهذا وعيد شديد على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر .
قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤)
قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ) الآية. (أَرَأَيْتَ) كلمة تصلح للإعلان والسؤال ، وههنا تعجب ممن هذا وصفه ونعته .
وقوله : (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير ، لاستوائهما في التعريف . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أخر «هواه» والأصل قولك :
اتخذ الهوى إلها. قلت: ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية (به) كما تقول : علمت منطلقا زيدا لفضل عنايتك بالمنطلق .
قال أبو حيان :
وادعاء القلب ، يعني : أن التقديم ليس بجيد ، لأنه من ضرائر الأشعار . قال شهاب الدين : قد تقدم فيه ثلاثة مذاهب ، على أن هذا ليس من
__________________
القلب المذكور في
شيء إنما هو تقديم وتأخير فقط .
وقرأ ابن هرمز «إلاهة
هواه» على وزن فعالة ، والإلهة بمعنى المألوه ، والهاء للمبالغة ك (علّامة
ونسّابة). و «إلاهة» مفعول ثاني قدم لكونه نكرة ولذلك صرف. وقيل : إلاهة هي الشمس
، ورد هذا بأنه كان ينبغي أن يمتنع من الصرف للعلمية والتأنيث. وأجيب بأنها يدخل عليها (أل) كثيرا فلما نزعت منها صارت نكرة جارية مجرى الأوصاف. ويقال
: ألاهة بضم الهمزة للشمس وقرأ بعض المدنيّين «آلهة هواه» جمع إله ، وهو أيضا مفعول مقدم وجمع باعتبار الأنواع ، فقد كان
الرجل يعبد آلهة شتى. ومفعول (أَرَأَيْتَ) الأول «من» والثاني الجملة الاستفهامية .
فصل
قال ابن عباس :
الهوى إله يعبد . وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الحجر ،
فإذا رأى حجرا أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر وعبده . (أَفَأَنْتَ تَكُونُ
عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي: حافظا تحفظه من اتباع هواه ، أي لست كذلك ، ونظيره : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٤٥] (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) ، قال الكلبي: نسختها آية القتال . (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) يسمعون ما تقول سماع طالب الإفهام ، أو يعقلون ما يعاينون
من الحجج والأعلام. و «أم» هنا منقطعة بعنى : بل. (إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ) في عدم انتفاعهم بالكلام ، وعدم تدبرهم ، وتفكرهم ، بل هم
أضل سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها ، وتنقاد لأربابها التي تتعهدها ، (وتطلب
ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وقلوب الأنعام خالية عن العلم ، وعن الاعتقاد
الفاسد ، وهؤلاء قلوبهم خالية عن العلم ومليئة من الاعتقاد والباطل ، وعدم علم
الأنعام لا يضر بأحد ، وجهل هؤلاء منشأ للضرر العظيم ، لأنهم يصدون الناس عن سبيل
الله ، والبهائم لا تستحق عقابا على عدم العلم ، وهؤلاء يستحقون على عدم العلم
أعظم العقاب) ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي
خلقهم ورزقهم ، ولأن الأنعام تسجد وتسبح الله ، وهؤلاء الكفار لا
__________________
يفعلون فإن قيل : لم قال : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ) فحكم بذلك على الأكثر دون الكل؟ فالجواب : لأنه كان فيهم
من يعرف الله ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لحبّ الرياسة لا للجهل . فإن قيل : إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم
على الإعراض عن الدين ، وكيف بعث الرسول إليهم ، فإن من شرط التكليف العقل؟ فالجواب : ليس المراد أنهم لا
يعقلون بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل ، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم
: إنما أنت أعمى وأصم .
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ
دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً
يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ
ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)(٤٩)
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) الآية. لما بين جهل المعرضين عن دلائل التوحيد ، وبين فساد
طريقهم ذكر أنواعا من الدلائل الدالة على وجود الصانع ، فأولها الاستدلال بحال
الظل في زيادته ونقصانه ، وتغير أحواله قوله : (أَلَمْ تَرَ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه من
رؤية العين.
والثاني : أنه من
رؤية القلب ، يعني : العلم ، فإن حملناه على رؤية العين ، فالمعنى : ألم تر إلى
الظل كيف مده ربّك ، وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج ، فالمعنى : ألم تعلم ، وهذا أولى ، لأن الظل إذا جعلناه
من المبصرات فتأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر ، فحمل هذا اللفظ على
رؤية القلب أولى من هذا الوجه . وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للرسول فهو عام في المعنى ، لأن المقصود بيان
نعم الله تعالى بالظل ، وجميع المكلفين مشتركون في تنبيههم لهذه النعمة و «كيف» منصوبة ب «مدّ»
، وهي
__________________
معلقة ل «تر» فهي
في موضع نصب ، وقد تقدم القول في (أَلَمْ تَرَ).
فصل
الظل عبارة عن عدم
الضوء مما شأنه أن يضيء ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، جعله ممدودا ،
لأنه ظل لا شمس معه ، كما قال في ظل الجنة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠] إذ لم يكن معه شمس ، (وَلَوْ شاءَ
لَجَعَلَهُ ساكِناً) دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس.
قال أبو عبيدة :
الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة ، والفيء ما نسخ الشمس . سمي فيئا ، لأنه فاء من جانب المغرب إلى جانب المشرق ، (ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) ، أي : على الظل دليلا ، ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن
الشمس لما عرفت الظل ، ولو لا النور ما عرف الظلمة ، والأشياء تعرف بأضدادها .
قال الزمخشري :
فإن قلت : «ثم» في هذين الموضعين كيف موقعها قلت موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاث ، كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم منهما تشبيها
لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بينهما في الوقت .
قوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ) يعني : الظل (إِلَيْنا قَبْضاً
يَسِيراً) بالشمس التي تأتي عليه ، والقبض جمع المنبسط من الشيء ،
معناه : أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل
جزءا فجزءا (قَبْضاً يَسِيراً) أي : خفيا ، وقيل : المراد من قبضها يسيرا قبضها عند قيام الساعة ،
وذلك قبض أسبابها ، وهي الأجرام التي تلقي الظلال . وقوله : «يسيرا» كقوله: (حَشْرٌ عَلَيْنا
يَسِيرٌ) [ق : ٤٤] قوله
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) الآية. هذا هو النوع الثاني شبه الليل من حيث يستر الكل
ويغطي باللباس الساتر للبدن ، ونبه على (ما لنا فيه) من النفع
__________________
بقوله : (وَالنَّوْمَ سُباتاً) والسبات : هو الراحة ، أي : راحة لأبدانكم ، وقطعا لعملكم
، وأصل السبت : القطع ، والنائم مسبوت ، لأنه انقطع عمله وحركته .
قال أبو مسلم :
السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت ، لما جرت به العادة من الاستراحة فيه ، ويقال
للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت .
وقال الزمخشري :
السبات : الموت ، والمسبوت الميت ، لأنه مقطوع الحياة ، قال : وهذا كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠].
وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة ، لأن النشور في مقابلته. (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) قال أبو مسلم : هو بمعنى الانتشار والحركة ، كما سمى تعالى
نوم الإنسان وفاة فقال : (يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من
الموت في التسمية بالنشور .
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ
بُشْراً) الآية. هذا هو النوع الثالث ، وقد تقدم الكلام على نظيرتها
في الأعراف . (بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ) يعني : المطر ؛ (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) قال الزمخشري : فإن قلت : إنزال الماء موصوفا بالطهارة
وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير
على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت : لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له
الماء وصف بالطهارة إكراما لهم ، وتتميما للمنّة عليهم .
وطهور : يجوز أن
يكون صفة مبالغة منقولا من ظاهر ، كقوله تعالى : (شَراباً طَهُوراً) ، وقال :
٣٨٧٦ ـ إلى رجّح الأكفال غيد من
الصّبا
|
|
عذاب الثّنايا
ريقهنّ طهور
|
وأن يكون اسم ما
يتطهر به كالسحور لما يتسحّر به ، والفطور لما يتفطّر به ،
__________________
قال عليهالسلام في البحر : «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» أراد به المطهر ، فالماء مطهر ، لأنه يطهر الإنسان من
الحدث والنجاسة ، كما قال في آية آخرى (وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١]
فثبت أن التطهير مختص بالماء .
(وذهب أصحاب الرأي
إلى أن الطهور هو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة كالخل وماء
الورد ، والمرق ، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز رفع الحدث بها . وقال عليهالسلام : «التّراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج» ولو كان
معنى الطهور هو الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم ، وحينئذ لا ينتظم الكلام ،
وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعا»
ولو كان الطهور هو الطاهر لكان معناه : طاهر إناء أحدكم ، وحينئذ لا ينتظم الكلام ) .
ويجوز أن يكون
مصدرا ك (القبول والولوع) .
وقوله : «لنحيي به»
فيه وجهان :
أظهرهما : أنه
متعلق بالإنزال. والثاني : وهو صعب أنه متعلق ب (طهور) .
ووصف «بلدة» ب «ميّت»
وهي صفة للمذكر ، لأنها بمعنى البلد.
قوله : (وَنُسْقِيَهُ) العامة على ضمّ النون ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية
عنهما وأبو حيوة وابن أبي عبلة بفتحها ، وقد تقدم أنه قرىء بذلك في النحل والمؤمنون وتقدم الكلام (على ذلك) .
__________________
قوله : (مِمَّا خَلَقْنا) يجوز أن يتعلق «من» ب «نسقيه» ، وهي لابتداء الغاية ،
ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من «أنعاما» ، ونكرت الأنعام والأناسي ، (قال الزمخشري) : لأن علية الناس وجلهم مجتمعون بالأودية والأنهار ، فيهم غنية عن سقي الماء وأعقابهم وهم كثير منهم
لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا (سمائه ) .
قوله : (وَأَناسِيَّ) فيه وجهان :
أحدهما : وهو مذهب
سيبويه أنه جمع إنسان ، والأصل إنسان ، وأناسين ، فأبدلت النون ياء ، وأدغمت فيها
الياء قبلها نحو ظربان وظرابي .
والثاني : وهو قول
الفراء والمبرد والزجاج أنه جمع إنسي. وفيه نظر ، لأن فعالي إنما يكون جمعا لما
فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كرسي وكراسي ، فلو أريد ب (كرسي) النسب لم يجز
جمعه على كراسي ، ويبعد أن يقال : إن الياء في
__________________
إنسيّ ليست للنسب ، وكان حقه أن يجمع على (أناسية) نحو مهالبة في المهلبي ،
وأزارقة في الأزرقي. وقرأ يحيى بن الحارث الذماري والكسائي في رواية «وأناسي» بتخفيف الياء . قال الزمخشري : بحذف ياء أفاعيل ، كقولك (أناعم في أناعيم
) . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي.
قلت : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم ،
ولأنهم إذا ظفروا بسقيا أرضهم ، وسقي أنعامهم لم يعدموا سقياهم فإن قيل : لم خص الإنسان والأنعام هاهنا بالذكر دون الطير
والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟ فالجواب : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا
يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، لأن حوائج الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم (بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم) بسقيهم . وقال : (أَناسِيَّ كَثِيراً) ولم يقل : كثيرين ، لأنه قد جاء فعيل مفردا ويراد به
الكثرة كقوله : (وَقُرُوناً بَيْنَ
ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].
قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ
لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا
لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١)
فَلا
تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)(٥٢)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) في هذه الهاء ثلاثة أوجه :
أحدها : قال
الجمهور : إنها ترجع إلى المطر ، ثم هؤلاء قال بعضهم : (المعنى صرفنا نزول الماء
من وابل ، وطل وجود وطشّ ، ورذاذ ، وغير ذلك .
__________________
وقال بعضهم) : «صرّفناه» أي : أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب
وبالزراعات وأنواع المعاش به. وقال آخرون : معناه : أنه تعالى ينزله
في مكان (دون مكان) في عام ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام
الأول ، قال ابن عباس : ما عام بأكثر من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض. ثم قرأ
هذه الآية.
وروى ابن مسعود عن
النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «ما من عام بأمطر من عام ولكن إذا عمل قوم
بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي».
الثاني : قال أبو
مسلم : الضمير راجع إلى المطر والسحاب والإظلال وسائر ما ذكره الله من الأدلة.
الثالث : أي هذا القول صرفناه بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب
والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب ، وإنزال المطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع .
وقرأ عكرمة : «صرفناه»
بتخفيف الراء . وقيل : التصريف راجع إلى الريح.
«ليذكروا»
ويتفكروا في قدرة الله تعالى (فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) جحودا ، وكفرانهم هو أنهم إذا أمطروا قالوا : أمطرنا بنوء
كذا ، روى زيد بن خالد الجهني قال : صلى لنا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ، فلما
انصرف أقبل على الناس فقال : «هل تدرون ما قال ربكم» قالوا : الله ورسوله أعلم «قال
: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن
بي وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن
بالكواكب» .
فصل
قال الجبائي :
قوله : «ليذّكّروا» يدل على أنه تعالى يريد من الكل أن يذكروا ويشكروا ، ولو أراد
أن يكفروا أو يعرضوا لما صح ذلك ، وذلك يبطل قول من قال : إن
__________________
الله مريد لكفر من
يكفر قال : ودلّ قوله : (فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) على قدرتهم على فعل هذا التذكر ؛ إذ لو لم يقدروا لما جاز
أن يقال : أبوا أن يفعلوه ، كما لا يقال في الزمن أبى أن يسعى .
وقال الكعبي :
قوله : «ولقد صرّفناه بينهم ليذّكّروا» (حجة على من زعم أن القرآن وبال على
الكافرين ، وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا ، لأن قوله : «ليذّكّروا») عامّ في الكل ، وقوله تعالى : (أَكْثَرُ النَّاسِ) يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلا في ذلك العام ، لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه
على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفورا. والجواب قد تقدم مرارا .
قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ نَذِيراً) رسولا ينذرهم ، والمراد من ذلك تعظيم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من وجوه :
أحدها : أنه تعالى
بين أنه مع القدرة على بعثه نذيرا ورسولا في كل قرية خصه بالرسالة وفضّله بها على
الكل ، ولذلك أتبعه بقوله : (فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ) أي : لا توافقهم. وثانيها : المراد : ولو شئنا لخففنا عنك
أعباء الرسالة إلى كل العالمين و «لبعثنا في كلّ قرية نذيرا» ولكنا قصرنا الأمر
عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل ، فقابل هذا الإجلال بالتشدّد في الدين.
وثالثها : أن
الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف ، لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية
نذيرا مثل محمد ، وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد البتة.
وقوله : (وَلَوْ شِئْنا) يدل على أنه تعالى لا يفعل ذلك . والمعنى : ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحمّلناك ثقل نذارة
جميعها لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة . (فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ) فيما يدعونك إليه من موافقتهم وهذا يدل على أن النهي عن
الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلا به .
قوله : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي : بالقرآن ، أو بترك الطاعة المدلول عليه بقوله : «فلا تطع» ، أو بما
دل عليه «ولو شئنا لبعثنا في كلّ قرية نذيرا» من كونه نذير كافة القرى ، أو بالسيف
.
والأقرب الأول ؛
لأن السورة مكية ، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان ، فالمراد
بذل الجهد في
الدعاء جهادا كبيرا شديدا.
__________________
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً
مَحْجُوراً)(٥٣)
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) الآية. هذا النوع الرابع. في «مرج» قولان :
أحدهما : بمعنى
خلط ومرج ، ومنه مرج الأمر أي : اختلط قاله ابن عرفة .
وقيل : «مرج» أجرى
، وأمرج لغة فيه .
(و) قيل : مرج لغة الحجاز ، وأمرج لغة نجد ، وفي كلام بعض الفصحاء : بحران أحدهما بالآخر ممروج ،
وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج . وقيل : أرسلهما في مجاريهما وخلّاهما كما ترسل الخيل في
المرج قاله ابن عباس .
وأصل المرج الخلط
والإرسال يقال : مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث
تشاء .
قوله : «هذا عذب
فرات وهذا ملح أجاج» هذه الجملة لا محل لها ، لأنها مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأن قائلا قال : كيف مرجهما؟ فقيل : هذا
عذب وهذا ملح.
ويجوز على ضعف أن
تكون حالية . والفرات : المبالغ في الحلاوة ، والتاء فيه أصلية لام الكلمة ، ووزنه فعال . وبعض العرب يقف عليها هاء ، وهذا كما تقدم في التابوت . ويقال : سمي الماء الحلو فراتا ، لأنه يفرت العطش أي :
يشقه ويقطعه والأجاج : المبالغ في الملوحة ، وقيل : في الحرارة ، وقيل في المرارة . وهذا من أحسن المقابلة ، حيث قال تعالى : (عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا
مِلْحٌ أُجاجٌ) وأنشد بعضهم :
__________________
٣٨٧٧ ـ فلا والله لا أنفكّ أبكي
|
|
(إلى أن نلتقي شعثا عراتا)
|
أألحى إن نزحت
أجاج عيني
|
|
على جدث حوى
العذب الفراتا
|
ما أحسن ما كنى عن
دمعه بالأجاج ، وعن المبكي عليه بالعذب الفرات وكان سبب إنشاد هذين البيتين أن بعضهم لحن قائلهما في قوله : عراتا . كيف يقف على تاء التأنيث المنونة بالألف؟ فقيل له : إنها
لغة مستفيضة يجعلون التاء كغيرها فيبدلون تنوينها بعد الفتح ألفا ، حكي عن العرب
أكلت تمرتا نحو أكلت زيتا . وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي «ملح» بفتح الميم وكسر اللام ، وكذا في سورة فاطر ، وهو مقصور من (مالح) كقولهم : برد في بارد ، قال :
٣٨٧٨ ـ وصليانا بردا
وماء مالح لغة
شاذة . وقال أبو حاتم : هذه قراءة منكرة .
قوله : (بَيْنَهُما بَرْزَخاً) يجوز أن يكون الظرف متعلقا بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على
أنه حال من «برزخا» .
والأول أظهر.
ومعنى «برزخا» أي : حاجزا بقدرته لئلا يختلط أحدهما بالآخر .
__________________
قوله : (وَحِجْراً مَحْجُوراً) الظاهر عطفه على «برزخا» .
وقال الزمخشري : (فإن
قلت : (حِجْراً مَحْجُوراً)) ما معناه؟ قلت هي الكلمة التي يقولها المتعوّذ ، وقد
فسرناها ، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز ، كأن واحدا من البحرين يقول لصاحبه :
حجرا محجورا كأنه يتعوذ من صاحبه ويقول له : حجرا محجورا. كما قال : «لا يبغيان» . وهي من أحسن الاستعارات .
فعلى ما قاله يكون
منصوبا بقول مضمر . فإن قيل : لا وجود للبحر العذب ، فكيف ذكره الله تعالى
هنا؟ لا يقال : هذا مدفوع من وجهين :
أحدهما : أن
المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون .
الثاني : لعله حصل
في البحار موضع يكون أحد جانبيه عذبا والآخر ملحا ، لأنا نقول : أما الأول فضعيف ،
لأن هذه الأودية ليس فيها ماء ملح ، والبحار ليس فيها ماء عذب ، فلم يحصل البتة
موضع التعجب وأما الثاني فضعيف ؛ لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوما ، وأما
بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال.
فالجواب : أنا نقول : المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن البحر
الأجاج البحار الكبار. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما
بَرْزَخاً) أي : حائلا من الأرض ، ووجه الاستدلال هاهنا أن العذوبة والملوحة إن
كانت بسبب طبيعة الأرض والماء ، فلا بد من الاستواء ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من
قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة . ويمكن الجواب بطريق آخر ، وهو أنا رأينا نيل مصر داخلا في
بحر ملح أبيض لونه مغاير للون بحر الملح ، ولا يختلط به ويؤخذ منه ويشرب.
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ
بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(٥٤)
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ
بَشَراً) الآية.
هذا نوع خامس ،
وفي هذا الماء قولان :
أحدهما : أنه
النطفة ، والثاني : أنه الماء الذي تسقى به الأرض فيتولد منه الأغذية ، ويتولد من الأغذية النطفة ، كما تقدم في قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ).
__________________
قوله : «من الماء»
يجوز أن يكون متعلقا ب «خلق» وأن يتعلق بمحذوف حالا من ماء ، و «من» لابتداء
الغاية ، أو للتبعيض.
قوله : (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي : جعله ذا نسب وصهر قال الخليل : لا يقال لأهل بيت
المرأة إلا أصهار ، ولا لأهل بيت الرجل إلا أختان. قال : ومن العرب من يطلق
الأصهار على الجميع. وهذا هو الغالب.
وقيل : النسب ما
لا يحل نكاحه ، والصهر ما يحل نكاحه ، والنسب ما يوجب الحرمة ، والصهر ما لا
يوجبها. والصحيح أن النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب
المحرم للنكاح ، وقد تقدم أن الله تعالى حرم بالنسب سبعا وبالسبب سبعا في
قوله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق من النطفة نوعين من البشر الذكر والأنثى .
قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا
يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) (٥٨)
قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية. لما ذكر دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم فقال (وَيَعْبُدُونَ) أي : هؤلاء المشركون (ما لا يَنْفَعُهُمْ) إن عبدوه (وَلا يَضُرُّهُمْ) إن تركوه ، (وَكانَ الْكافِرُ
عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي : معينا للشيطان على ربه بالمعاصي . قال الزجاج : يعاون الشيطان على معصية الله ، لأن عبادتهم
الأصنام معاونة للشيطان . فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاونا للشيطان على
ربه بالعداوة. فالجواب أنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) [الأحزاب : ٥٧].
وقيل معناه : وكان الكافر على ربه هينا ذليلا ، كما يقول الرجل لمن يستهين به
: جعلني بظهر ، أي : جعلني هينا ، ويقال : ظهرت به : إذا جعلته خلف ظهرك ، كقوله :
(وَاتَّخَذْتُمُوهُ
وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [هود : ٩٢].
__________________
قال أبو مسلم : وقياس العربية أن يقال : مظهورا ، أي : مستخف
به متروك وراء الظهر ، فقيل فيه : ظهير بمعنى مظهور ، ومعناه : هين على الله أن
يكفر الكافر ، وهو تعالى مستهين بكفره .
والمراد بالكافر
قيل : أبو جهل ، لأن الآية نزلت فيه. والأولى حمله على العموم لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ . قيل : ويجوز أن يريد بالظهير الجماعة كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤]
كالصديق والخليط ، فعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس ، وأن بعضهم مظاهر لبعض على
إطفاء نور الله قال تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) [الأعراف : ٢٠٢].
قوله : (عَلى رَبِّهِ) يجوز أن يتعلق ب «ظهيرا» ، وهو الظاهر ، وأن يتعلق بمحذوف
على أنه خبر «كان» و «ظهيرا» حال ، والظهير المعاون .
قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً
وَنَذِيراً) أي : منذرا ، ووجه تعلقه بما تقدم أن الكفار يطلبون العون على الله ورسوله
والله تعالى بعث رسوله لنفعهم ، لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة و ينذرهم على المعصية ، فيستحقوا الثواب ، ويحترزوا عن
العقاب فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرع جهده في إصلاح
مهماته دينا ودنيا ، ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجرا .
قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ) فيه وجهان :
أحدهما : هو منقطع
، أي : لكن من يشاء (أَنْ يَتَّخِذَ إِلى
رَبِّهِ سَبِيلاً) فليفعل .
والثاني : أنه
متصل على حذف مضاف ، يعني : إلا أجر من ، أي : الأجر الحاصل على دعائه إلى الإيمان
وقبوله ، لأنه تعالى يأجرني على ذلك. حكاه أبو حيان وفيه نظر ، لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله
تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير.
فصل
المعنى : ما
أسألكم على تبليغ الوحي من أجر ، فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه
فلا نتبعه .
__________________
وقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى
رَبِّهِ سَبِيلاً) استثناء منقطع معناه : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا
بإنفاق ماله في سبيله فعل ذلك .
والمعنى : لا
أسألكم لنفسي أجرا ، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل
إلى جنته .
قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) الآية . لما تبين أن الكفار يتظاهرون على إيذائه ، وأمره أن لا
يطلب منهم أجرا ، أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار ، وفي جلب جميع المنافع
، وإنما قال : (عَلَى الْحَيِّ
الَّذِي لا يَمُوتُ) ، لأن من توكل على الحي الذي يموت فإذا مات المتوكّل عليه صار المتوكّل ضائعا ، وأما الله
تعالى فهو حي لا يموت فلا يضيع المتوكّل عليه .
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) قيل : المراد بالتسبيح الصلاة. وقيل : قل سبحان الله والحمد لله . «وكفى به بذنوب عباده بصيرا» عالما ، وهذه كلها يراد بها
المبالغة ، يقال كفى بالعلم جمالا ، وكفى بالأدب مالا وهو بمعنى حسبك ، أي لا
يحتاج معه إلى غيره ، لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم وهذا وعيد شديد .
قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ
فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا
وَزادَهُمْ نُفُوراً)(٦٠)
قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية. لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور منها
: أنه حي لا يموت ، وأنه عالم بجميع المعلمات بقوله (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ
خَبِيراً) ومنها أنه قادر على كل الممكنات ، وهو قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهذا متصل بقوله : (الْحَيِّ الَّذِي لا
يَمُوتُ) لأنه سبحانه لما كان خالقا للسموات والأرض ولكل ما بينهما
ثبت أنه القادر على جميع المنافع ودفع المضار ، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا
يجوز التوكل إلا عليه . و (الَّذِي خَلَقَ) يجوز أن يكون مبتدأ ، و «الرّحمن» خبره ، وأن يكون خبر مبتدأ مقدر ، أي : هو الذي
__________________
خلق ، وأن يكون منصوبا بفعل مضمر ، وأن يكون صفة للحي الذي لا يموت ، أو بدلا ، أو بيانا هذا على قراءة «الرحمن» بالرفع ومن
قرأه بالجر فيتعين أن يكون (الَّذِي خَلَقَ) صفة للحي فقط .
قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فيه سؤال ، وهو أن الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات فقيل
السموات لا أيام ، فكيف قال : خلقها في ستة أيام؟
والجواب : في مدة
مقدارها (هذه المدة) ، لا يقال : الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة
والنقصان والتجزئة لا يكون عدما محضا بل لا بد وأن يكون موجودا فيلزم من
وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان ، لأنا نقول : هذا معارض بنفس الزمان ،
لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل بخمسة أيام والمدة المتوهمة
المحتملة لخمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى ، فلما لم
يلزم من هذا قدم الزمان لم يلزم ما قلتموه ، وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولا ثم خلق السموات والأرض
فيها بمقدار ستة أيام. وقيل : في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة.
وهو بعيد ، لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول . فإن قيل : لم قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟
فالجواب على قول
أهل السنة المشيئة والقدرة كافية للتخصيص ، وقالت المعتزلة : لا بد وأن يكون من
حكمة وهو أن التخصيص بهذا المقدار أصلح ، وهذا بعيد لوجهين :
الأول : أن حصول
تلك الحكمة إما أن يكون واجبا لذاته أو جائزا ، فإن كان واجبا وجب أن لا يتغير فيكون
حاصلا في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سببا لزمان معين ، وإن كان جائزا افتقر حصول
تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ، ولزم التسلسل.
والثاني : أن
التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم
يكن مشعورا به كيف يقدح في حصول المصالح .
__________________
واعلم أنه يجب على
المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه
الأسئلة ، فإنه بحر لا ساحل له ، كتقدير ملائكة النار بتسعة عشر ، وحملة العرش
بثمانية ، والسموات بالسبع ، وعدد الصلوات ، ومقادير النصب في الزكوات ، وكذا الحدود
، والكفارات ، فالإقرار بكل ما قال الله حق هو الدين ، والواجب ترك البحث عن هذه
الأشياء ، وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما
ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [المدثر : ٣١] ثم
قال : (وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] ،
وهو الجواب أيضا في أنه لم لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير
: إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليما لخلقه الرفق والتثبت.
وقيل : ثم خلقها في يوم الجمعة فجعله الله عيدا للمسلمين .
قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) لا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة ؛ لأن أوصاف الله لم
تزل ، فلا يصح دخول «ثمّ» فيه. ولا على الاستقرار ، لأنه يقتضي التغيير الذي هو
دليل الحدوث ، ويقتضي التركيب ، وكل ذلك على الله محال ، بل المراد أنه خلق العرش
ورفعه .
فإن قيل : يلزم أن
يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧].
فالجواب : كلمة «ثمّ»
ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات .
قوله : «الرّحمن»
قرأ العامة بالرفع ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه خبر «الّذي»
، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : الرحمن ، ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش ثم يبدأ الرحمن ، أي : هو الرحمن الذي لا
ينبغي السجود والتعظيم إلا له ، أو يكون بدلا من الضمير في «استوى» أو يكون مبتدأ وخبره
__________________
الجملة من قوله «فاسأل»
على رأي الأخفش كقوله :
٣٨٧٩ ـ وقائلة خولان فانكح فتاتهم
أو يكون صفة الذي
خلق ، إذا قلنا : إنه مرفوع.
وقرأ زيد بن علي «الرّحمن»
بالجر فيتعين أن يكون نعتا للذي خلق و (الَّذِي خَلَقَ) صفة للحي فقط ، لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي .
قوله : (فَسْئَلْ بِهِ) في الباء قولان : أحدهما : هي على بابها ، وهي متعلقة
بالسؤال ، والمراد ب «الخبير» الله تعالى ، ويكون من التجريد ، كقولك : لقيت به أسدا والمعنى فاسأل الله الخبير
بالأشياء.
قال الزمخشري : أو
فاسأل بسؤاله خبيرا كقولك : رأيت به أسدا ، أي برؤيته انتهى. قال الكلبي : فاسأل خبيرا به ، فقوله : «به» يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والاستواء
على العرش ، والباء من صلة الخبير ، وذلك الخبير هو الله تعالى ؛ لأنه لا دليل في
العقل على كيفية خلق السموات والأرض ، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى ، ف «خبيرا» مفعول «اسأل» على هذا ، أو منصوب على الحال المؤكدة ، واستضعفه أبو البقاء. قال : ويضعف أن يكون «خبيرا» حالا
من فاعل «اسأل» ؛ لأن «الخبير» لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١]. ثم قال : ويجوز أن يكون حالا من «الرّحمن»
إذا رفعته ب «استوى» . والثاني: أن تكون الباء بمعنى «عن» إما مطلقا وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية الكريمة ، وكقول علقمة بن عبدة :
__________________
٣٨٨٠ ـ فإن تسألوني بالنّساء فإنّني
|
|
خبير بأدواء
النّساء طبيب
|
والضمير في «به»
لله تعالى ، و «خبيرا» من صفات الملك وهو جبريل قال ابن عباس : إن ذلك الخبير هو
جبريل ـ عليهالسلام ـ وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وهو قول الزجاج والأخفش . ويجوز على هذا أي : كون «خبيرا» من صفات جبريل ، أن تكون
الباء على بابها ، وهي متعلقة ب «خبير» كما تقدم ، أي : فاسأل الخبراء به.
وقال ابن جرير :
الباء في «به» صلة ، والمعنى : فاسأله خبيرا و «خبيرا» نصب على الحال. وقيل : قوله : «به» يجري مجرى القسم كقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ
بِهِ) [النساء : ١].
قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا
لِلرَّحْمنِ) الآية. قال أكثر المفسرين : الرحمن اسم من أسماء الله
مكتوب في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه .
قال مقاتل : إن
أبا جهل قال : إن الذي يقول محمد شعر ، فقال عليهالسلام : «الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن» ، فقال أبو جهل
: بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك ، فقال عليهالسلام : «الرحمن الذي في السماء ومن عنده يأتيني الوحي» ، فقال :
يا أبا غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول : الله يعلمني والرحمن
، ألستم تعلمون أنهما إلهان . قال القاضي : والأقرب أن مرادهم إنكار الله لا الاسم ،
لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام ، ثم إن
قلنا : إنهم كانوا منكرين (لله كان قولهم) : (وَمَا الرَّحْمنُ) سؤال عن الحقيقة كقول فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣] ،
وإن قلنا : إنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان
قولهم (وَمَا الرَّحْمنُ) سؤال عن هذا الاسم .
__________________
قوله : (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) قرأ الأخوان بياء الغيبة ، يعنون محمدا كأن بعضهم قال لبعض : أنسجد لما يأمرنا محمد
أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو . والباقون بالخطاب ، يعني لما تأمرنا أنت يا محمد.
و «ما» يجوز أن
يكون بمعنى (الذي) ، والعائد محذوف لأنه متصل ؛ لأن (أمر) يتعدى إلى الثاني
بإسقاط الحرف ، ولا حاجة إلى التدرج الذي ذكره أبو البقاء وهو أن الأصل : لما تأمرنا بالسجود
له ، ثم بسجوده ، ثم تأمرناه ، ثم تأمرنا ، كذا قدره ، ثم قال : هذا على مذهب أبي
الحسن وأما على مذهب سيبويه فحذف ذلك من غير تدريج . قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب سيبويه . ويجوز أن تكون موصوفة ، والكلام في عائدها موصوفة كهي موصولة ويجوز أن تكون مصدرية ، وتكون اللام للعلة ، أي : أنسجد من أجل أمرك وعلى هذا
يكون المسجود له محذوفا ، أي : أنسجد للرحمن لما تأمرنا ، وعلى هذا لا تكون «ما»
واقعة على العالم ، وفي الوجهين الأوليين يحتمل ذلك وهو المتبادر للفهم.
قوله : (وَزادَهُمْ نُفُوراً) قول القائل لهم اسجدوا للرحمن. نفورا عن الدين والإيمان.
ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول ، قال الضحاك : سجد الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة
، ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين من هذا ، وهو
المراد من قوله (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي : فزادهم سجودهم نفورا .
قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ
بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ
شُكُوراً)(٦٢)
قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ
بُرُوجاً) الآية.
لما حكى مزيد نفور
الكفار عن السجود ، وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن
فقال : (تَبارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) تقدم القول في
__________________
«تبارك» ، قال الحسن ومجاهد وقتادة ورواية عن ابن عباس البروج هي النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها ،
لأن اشتقاق البرج من التبرج وهو الظهور.
وقال عطية العوفي
: البروج هي القصور العالية ، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، وهذا أولى
لقوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها) أي : في البروج فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قوله «فيها» راجعا إلى السماء دون البروج؟
فالجواب : لأن
البروج أقرب ، فعود الضمير إليها أولى .
وروى عطاء عن ابن
عباس : هي البروج الاثنا عشر .
قوله : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً). قرأ الجمهور بالإفراد ، والمراد به الشمس لقوله تعالى : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) ، ويؤيده أيضا ذكر القمر بعده. والأخوان «سرجا» بضمتين
جمعا نحو حمر في حمار ، وجمع باعتبار الكواكب النيرات ، وإنما ذكر القمر تشريفا له كقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] بعد
انتظامهما في الملائكة. وقرأ الأعمش والنخعي وعاصم في رواية عصمة «وقمرا» بضمة
وسكون وهو جمع قمراء كحمر في حمراء ، والمعنى : وذا ليال قمر منيرا ، فحذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ثم التفت إلى المضاف بعد حذفه فوصفه تمييزا ،
ولو لم يعتبره لقال : منيرة ، ونظير مراعاته بعد حذفه قول حسان :
٣٨٨١ ـ يسقون من ورد البريص عليهم
|
|
بردى يصفّق
بالرّحيق السّلسل
|
__________________
الأصل : ماء بردى
، فحذفه ثم راعاه في قوله : (يصفق) بالياء من تحت ولو لم يكن ذلك
لقال : تصفق بالتاء من فوق على أن بيت حسان يحتمل أن يكون كقوله :
٣٨٨٢ ـ ولا أرض أبقل إبقالها
مع أن ابن كيسان يجيزه سعة .
وقال بعضهم : لا
يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر كالرّشد والرّشد .
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ خِلْفَةً) الآية.
في «خلفة» وجهان :
أحدهما : أنه مفعول ثان. والثاني : أنه حال بحسب القولين في «جعل». و «خلفة» يجوز أن تكون مصدرا من
خلفه يخلفه إذا جاء مكانه ، وأن يكون اسم هيئة منه كالرّكبة ، وأن يكون من
الاختلاف .
كقوله :
٣٨٨٣ ـ ولها بالماطرون إذا
|
|
أكل النّمل
الّذي جمعا
|
خلفة حتّى إذا
ارتبعت
|
|
سكنت من جلّق
بيعا
|
في بيوت وسط
دسكرة
|
|
حولها الزّيتون
قد ينعا
|
ومثله قول زهير :
٣٨٨٤ ـ بها العين والآرام يمشين خلفة
وأفرد «خلفة» قال
أبو البقاء : لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر ، فلا يتحقق هذا إلا منهما.
قال ابن عباس :
جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه ،
__________________
فمن فرط في عمل في
أحدهما قضاه في الآخر ، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال فاتتني الصلاة الليلة فقال : أدرك ما فاتتك من ليلتك
في نهارك فإن الله عزوجل جعل الليل والنهار خلفة. وقال مجاهد وقتادة والكسائي :
يقال لكل شيئين اختلفا : هما خلفان ، فقوله : «خلفة» أي مختلفين ، هذا أسود ، وهذا
أبيض ، وهذا طويل ، وهذا قصير. والأول أقرب .
«لمن أراد أن
يذّكّر» قراءة العامة بالتشديد ، وقرأ حمزة بالتخفيف ، وعن أبيّ بن كعب «يتذكر» . والمعنى : لينظر الناظر في اختلافهما ، فيعلم أنه لا بد
في انتقالهما من حال إلى حال ، من ناقل ومغير فيتعظ .
(أَوْ أَرادَ شُكُوراً) قال مجاهد : أي شكر نعمة ربه عليه فيها . والشّكور بالضم مصدر شكر شكورا بمعنى الشّكر ، وبالفتح
صيغة مبالغة .
قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً
(٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ
سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً
(٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٦٧)
قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ) عبد الرحمن رفع بالابتداء ، وفي خبره وجهان :
أحدهما : الجملة
الأخيرة في آخر السورة (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ) ، وبه بدأ الزمخشري ، و (الَّذِينَ يَمْشُونَ) وما بعده صفات للمبتدأ.
والثاني : أن
الخبر «يمشون» . والعامة على «عباد» ، [واليمانيّ بضم العين وتشديد الباء
جمع عابد ، والحسن «عبد» بضمتين .
__________________
والعامة «يمشون»
بالتخفيف مبنيا للفاعل] ، واليماني والسلمي بالتشديد مبنيا للمفعول.
فصل
هذه الإضافة
للتخصيص والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله.
قوله : «هونا» إما
نعت مصدر ، أي : مشيا هونا ، وإما حال أي : هيّنين ، والهون : اللين والرفق ، أي يمشون بالسكينة والوقار متواضعين ، ولا يضربون
بأقدامهم أشرا وبطرا ولا يتبخترون خيلاء . وقال الحسن : علماء حكماء .
وقال محمد ابن
الحنفية : أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) يعني السفهاء بما يكرهونه (قالُوا سَلاماً). قال مقاتل : قولا يسلمون فيه من الإثم . وقيل : المعنى : لا نجاهلكم. وقيل : المراد حلمهم في
مقابلة الجهل . وقال الأصم : (قالُوا سَلاماً) أي : سلام توديع لا محبة ، كقول إبراهيم ـ عليهالسلام ـ لأبيه : (سَلامٌ عَلَيْكَ).
قال الكلبي وأبو
العالية : نسختها آية القتال .
قوله : «سلاما»
يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر أي : نسلم سلاما أو نسلم تسليما منكم لا
نجاهلكم فأقيم السلام مقام التسليم ، ويجوز أن ينتصب على المفعول به ، أي : قالوا هذا اللفظ ،
قال الزمخشري : أي قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الأذى ، والمراد سلامتهم من السفه ، كقوله :
٣٨٨٥ ـ ألا لا يجهلن أحد علينا
|
|
فنجهل فوق جهل
الجاهلينا
|
ورجح سيبويه أن
المراد بالسلام السلامة لا التسليم ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط
__________________
بالتسليم على
الكفرة ، وإنما أمروا بالمسالمة ، ثم نسخ ذلك ، ولم يذكر سيبويه نسخا إلا في هذه
الآية .
قوله : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ
سُجَّداً وَقِياماً). لما ذكر وصفهم بالنهار من وجهين :
أحدهما : ترك
الإيذاء بقوله : (يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْناً).
والثاني : تحمل
الإيذاء بقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) شرح صفتهم في الليل . قال الزجاج : كل من أدركه الليل قيل : بات وإن لم ينم كما
يقال : بات فلان قلقا . والمعنى يبيتون لربهم سجدا على وجوههم ، وقياما على أقدامهم قال ابن عباس : من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجدا
وقائما . وروى عثمان بن عفان قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلى
الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» .
قوله : «سجّدا»
خبر «يبيتون» ، ويضعف أن تكون تامة. أي : دخلوا في البيات ، و «سجّدا» حال و «لربّهم»
متعلق ب «سجّدا». وقدم السجود على القيام وإن كان بعده في الفعل ، لاتفاق الفواصل . و «سجّدا» جمع ساجد كضرّاب في ضارب.
وقرأ أبو البرهسيم
«سجودا» بزنة قعود ، ويبيت هي اللغة الفاشية ، وأزد السّراة وبجيلة
يقولون : يبات ، وهي لغة العوام اليوم .
قوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ). قال ابن عباس : يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول .
قوله : «غراما» أي
: لازما دائما ، وعن الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلّا غريم جهنم . وأنشد بشر بن أبي خازم :
__________________
٣٨٨٦ ـ ويومالنّسار ويوم الجفا
|
|
ر كانا عذابا وكان غراما
|
وقول الأعشى :
٣٨٨٧ ـ إن يعاقب يكن غراما وإن يع
|
|
ط جزيلا فإنّه
لا يبالي
|
ف (غراما) بمعنى
شر لازم ، وقيل : خسرانا ملحّا لازما ، ومنه الغريم لإلحاحه
وإلزامه ، ويقال : فلان مغرم بالنساء ، إذا كان مولعا بهن ، وسأل ابن عباس نافع بن
الأزرق عن الغرام فقال : هو الوجع .
قوله : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً). يجوز أن تكون «ساءت» بمعنى أحزنت ، فتكون متصرفة ناصبة
المفعول ، وهو هنا محذوف ، أي : أنها يعني جهنم أحزنت أصحابها و «مستقرّا» يجوز أن تكون تمييزا وأن تكون حالا .
ويجوز أن تكون «ساءت»
بمعنى بئست ، فتعطي حكمها ، ويكون المخصوص بالذم محذوفا ، وفي «ساءت» ضمير مبهم
يفسره مستقر و «مستقرا» يتعين أن يكون تمييزا ، أي : ساءت هي ، فهي مخصوص وهو
الرابط بين هذه الجملة وبين ما وقعت خبرا عنه ، وهو «إنّها» كذا قدّره أبو حيان ، وقال أبو البقاء : «مستقرّا» تمييز ، و «ساءت» بمعنى بئس
. فإن قيل : يلزم من هذا إشكال ، وذلك أنه يلزم تأنيث فعل الفاعل المذكّر من
غير مسوّغ لذلك ، فإنّ الفاعل في «ساءت» على هذا يكون ضميرا عائدا على ما بعده ،
وهو (مُسْتَقَرًّا
وَمُقاماً) ، وهما مذكران ، فن أين جاء التأنيث؟
والجواب : أن
المستقرّ عبارة عن جهنّم فلذلك جاز تأنيث فعله ، ومثله قوله :
__________________
٣٨٨٨ ـ أو حرّة عيطل ثيجاء مجفرة
|
|
دعائم الزّور
نعمت زورق البلد
|
و (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) قيل : مترادفان ، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما. وقيل : بل هما
مختلفا المعنى ، فالمستقرّ للعصاة ، فإنهم يخرجون ، والمقام
للكفّار فإنهم مخلدون . فإن قيل : إنهم سألوا الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين
: إحداهما : أن عذابها كان غراما. والثانية : أنها ساءت مستقرا
ومقاما فما الفرق بين الوجهين؟
فالجواب : قال
المتكلمون : عقاب الكافر يجب أن يكون مضرّة خالصة عن شوائب النفع (دائمة ، فقوله :
(إِنَّ عَذابَها كانَ
غَراماً) إشارة إلى كونه مضرّة خالصة عن شوائب النفع) وقوله : (إِنَّها ساءَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) إشارة إلى كونه دائما ، فحصلت المغايرة . وقرأت فرقة «مقاما» بفتح الميم ، أي : مكان قيام .
وقراءة العامة هي المطابقة للمعنى ، أي : مكان إقامة وثويّ.
وقوله : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا) يحتمل أن يكون من كلامهم ، فتكون منصوبة المحل بالقول ،
وأن يكون من كلام الله تعالى .
قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا).
قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء من يقتروا ، وابن كثير وأبو عمرو
بالفتح والكسر ، ونافع وابن عامر بالضم والكسر من أقتر ، وعليه (وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦]
وأنكر أبو حاتم أقتر ، وقال : لا يناسب هنا ، فإن أقتر بمعنى افتقر ، ومنه (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة: ٢٣٦] وردّ عليه بأن الأصمعي وغيره حكوا أقتر
بمعنى ضيّق . وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر
__________________
التاء مشددة من قتّر بمعنى ضيّق ، وكلها لغات ، والقتر والإقتار والتّقتير (التضييق الذي هو نقيض) الإسراف ، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة .
فصل
المراد من الآية
القصد بين الغلو والتقصير ، كقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩].
وسأل ابن الورد بعض العلماء ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال : ما سترك عن
الشمس ، وأكنّك من المطر. وقال له ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ فقال : ما سد الجوعة
، وقال له في اللباس : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد .
وقال ابن عباس
ومجاهد وقتادة والضحاك : الإسراف في النفقة في معصية الله تعالى ، والإقتار : منع
حق الله تعالى .
قال مجاهد : لو
أنفق الرجل مثل (أبي) قبيس ذهبا في طاعة الله لم يكن مسرفا . وأنشدوا :
٣٨٨٩ ـ ذهاب المال في حمد وأجر
|
|
ذهاب لا يقال له
ذهاب
|
وقيل : السرف
مجاوزة الحد في التنعم والتوسع وإن كان من حلال ، لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب
الفقراء .
__________________
قوله : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ
قَواماً) في اسم «كان» وجهان :
أشهرهما : أنه
ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله «أنفقوا». أي : وكان إنفاقهم مستويا قصدا
لا إسرافا ولا تقتيرا ، وفي خبرها وجهان :
أحدهما : هو «قواما»
و (بَيْنَ ذلِكَ) إما معمول له ، وإما ل «كان» عند من يرى إعمالها في الظرف
، وإما المحذوف على أنه حال من «قواما» ، ويجوز أن يكون (بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، خبرين ل «كان» عند من يرى ذلك ، وهم الجمهور خلافا لابن
درستويه .
والثاني : أن
الخبر «بين ذلك» و «قواما» حال مؤكدة .
والثاني من
الوجهين الأولين : أن يكون اسمها (بَيْنَ ذلِكَ) وبني لإضافته إلى غير متمكن ، و «قواما» خبرها قاله الفراء
. قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به (ولكنه من جهة المعنى) ليس بقوي ؛ لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة
فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة .
قال شهاب الدين :
وهو يشبه قولك : كان سيّد الجارية مالكها . قال ثعلب : القوام ـ بالفتح ـ (العدل والاستقامة ،
وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر .
وقال الزمخشري :
القوام) العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ، وبالكسر
ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص . وقرأ حسان بن عبد الرحمن «قواما» يكسر
القاف ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : بالكسر اسم ما يقام به الشيء وقيل : بمعنى سدادا وملاكا .
__________________
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ
وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨)
يُضاعَفْ
لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩)
إِلاَّ
مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ
وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(٧١)
قوله : (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ) الآية. قال ابن عباس : إن ناسا من أهل الشرك كانوا قد
قتلوا وأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا
كفارة فنزلت هذه الآية ، ونزل (يا عِبادِيَ)(الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] وروي
أن رجلا قال : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال : «أن تدعو لله ندا وهو
خلقك» قال : ثم أي؟ قال : «ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال : ثم أي؟ قال :
«أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها هذه الآية .
فإن قيل : إن الله
تعالى ذكر أن من صفات عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل والزنا ، فلو كان
الترتيب بالعكس كان أولى؟ فالجواب : أن الموصوف بتلك الصفات
السالفة قد يكون متمكنا بالشرك تدينا ، ويقتل المولود تدينا ، ويزني تدينا ، فبين
تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يتجنب هذه الكبائر.
وأجاب الحسن فقال : المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال :
وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلها آخر ، وأنتم تدعون، (وَلا يَقْتُلُونَ) وأنتم تقتلون الموءودة ، (وَلا يَزْنُونَ) وأنتم تزنون .
قوله : (إِلَّا بِالْحَقِّ) يجوز أن تتعلق الباء بنفس «يقتلون» أي : لا يقتلونها بسبب
من الأسباب إلا بسبب الحق ، وأن تتعلق بمحذوف على أنها صفة للمصدر ، أي : قتلا
ملتبسا بالحق ، أو على أنها حال أي : إلّا ملتبسين بالحق .
__________________
فإن قيل : من حلّ
قتله لا يدخل في النفس المحرمة ، فكيف يصحّ هذا الاستثناء فالجواب : أن المقتضي
لحرمة القتل قائم أبدا ، وجواز القتل إنما ثبت بمعارض ، فقوله : (حَرَّمَ اللهُ) إشارة إلى المقتضي ، وقوله : «إلّا بالحقّ» إشارة إلى
المعارض والسبب المبيح للقتل هو الردة ، والزنا بعد الإحصان ، وقتل
النفس المحرمة .
قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) هذه إشارة إلى جميع ما تقدم ، لأنه بمعنى ما ذكر (فلذلك
وحّد) .
قوله : «يلق» . قراءة العامة مجزوما على جزاء الشرط بحذف الألف ، وقرأ
عبد الله وأبو رجاء «يلقى» بإثباتها كقوله : (فَلا تَنْسى) على أحد القولين ، وكقراءة لا تخف دركا ولا تخشى [طه : ٧٧] في أحد
القولين أيضا ، وذلك بأن نقدر علامة الجزم حذف الضمة المقدرة. وقرأ بعضهم «يلقّ» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقاه كذا. والأثام مفعول على قراءة الجمهور ، ومفعول
ثان على قراءة هؤلاء والأثام العقوبة ، قال :
٣٨٩٠ ـ جزى الله ابن عروة حيث أمسى
|
|
عقوقا والعقوق
له أثام
|
أي عقوبة.
وقيل : هو الإثم
نفسه ، أي : يلق جزاء إثم . قال أبو مسلم : والأثام والإثم واحد ، والمراد هاهنا جزاء
الأثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه .
__________________
وقال الحسن :
الأثام اسم من أسماء جهنم ، وقال مجاهد : اسم واد في جهنم وقيل : بئر فيها . وقرأ ابن مسعود : «أيّاما» جمع يوم ، يعني شدائد ، والعرب تعبر عن ذلك بالأيّام ،
يقال: يوم ذو أيام لليوم الصعب .
قوله : «يضاعف»
قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «يضاعف» و «يخلد» على أحد وجهين : إمّا الحال ، وإمّا على الاستئناف . والباقون بالجزم فيهما بدلا من «يلق» بدل اشتمال ، ومثله قوله :
٣٨٩١ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
|
|
تجد حطبا جزلا
ونارا تأجّجا
|
فأبدل من الشرط
كما أبدل هنا من الجزاء. وابن كثير وابن عامر على ما تقدم لهما في البقرة من القصر والتضعيف في العين . ولم يذكر أبو حيان ابن عامر مع ابن كثير وذكره مع الجماعة
في قرّائهم . وقرأ أبو جعفر وشيبة «نضعّف» بالنون مضمومة وتشديد العين
، «العذاب» نصبا على المفعول به . وطلحة «يضاعف» مبنيا
للفاعل ، أي : الله «العذاب» نصبا ، وطلحةبن سليمان «وتخلد» بتاء الخطاب على الالتفات ، وأبو حيوة «ويخلّد» مشدّدا مبنيا للمفعول . وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنه بالتخفيف .
__________________
و «مهانا» حال ، وهو اسم مفعول من أهانه يهينه ، أي : أذلّه وأذاقه
الهوان.
فصل
قال القاضي : بيّن
الله تعالى (أن) المضاعفة والزيادة يكون حالها في الزيادة كحال الأصل ،
فقوله : (وَيَخْلُدْ فِيهِ) أي : ويخلد في ذلك التضعيف ، وذلك إنما حصل بسبب العقاب
على المعاصي ، فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائما ، وإذا كان كذلك
وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك ؛ لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع
غيره ، أو منفردا.
والجواب : لم لا
يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع غيره أثر في مزيد القبح ، ألا ترى أن الشيئين قد
يكون كل واحد منهما في نفسه حسنا وإن كان الجميع قبيحا ، وقد يكون كل واحد منهما
قبيحا ، ويكون الجمع بينهما أقبح . وسبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك
فيعذب على الشرك وعلى المعاصي ، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه ، وهذا يدل
على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام .
قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ) فيه وجهان :
أحدهما : وهو الذي
لم يعرف الناس غيره : أنه استثناء متصل ؛ لأنه من الجنس .
والثاني : أنه
منقطع. قال أبو حيان : ولا يظهر ، يعني الاتصال ؛ لأن المستثنى منه محكوم عليه
بأنه يضاعف له العذاب (فيصير التقدير : إلّا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فلا
يضاعف له العذاب) ، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعّف ،
فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعا ، أي : لكن من تاب وآمن وعمل عملا صالحا
فأولئك يبدّل الله سيّآتهم حسنات وإذا كان كذلك فلا يلقى عذابا ألبتة .
قال شهاب الدين :
والظاهر قول الجمهور ، وأمّا ما قاله فلا يلزم إذ المقصود الإخبار بأنّ من فعل كذا
فإنه يحلّ به ما ذكر إلا أن يتوب ، وأمّا إصابة أصل العذاب وعدمها فلا تعرّض في
الآية له . واعلم أن البحث الذي ذكره أبو حيان ذكره أيضا ابن الخطيب
فقال : دلت الآية على أن التوبة مقبولة ، والاستثناء لا يدل على ذلك ، لأنه أثبت
أنه يضاعف له العذاب ضعفين ، فيكفي لصحة الاستثناء أن لا يضاعف للتائب ضعفين ،
__________________
وإنما يدلّ عليه
قوله : (فَأُوْلئِكَ
يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ).
فصل
نقل عن ابن عباس
أنه قال : توبة القاتل لا تقبل ، وزعم أن هذه الآية منسوخة (بقوله تعالى): (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] ،
وقالوا : نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة ، وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين ،
وتقدم في سورة النساء .
فإن قيل : العمل
الصالح يدخل في التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح حشو؟ فالجواب : أفردهما
بالذكر لعلوّ شأنهما ولما كان لا بدّ معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما
العمل الصالح.
قوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ).
قال ابن عباس
والحسن وسعيد بن جبير والسدي ومجاهد وقتادة : التبديل إنما يكون في الدنيا ، فيبدل
الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدلهم بالشرك
إيمانا ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا إحصانا وعفة . وقيل : يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات .
قال الزجاج :
السيئة بعينها لا تصير حسنة ، فالتأويل : أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع
التوبة ، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السّيّئات .
قوله : «سيّئاتهم»
هو المفعول الثاني للتبديل ، وهو المقيد بحرف الجر ، وإنما حذف ، لفهم المعنى ، و
«حسنات» هو الأول المسرح ، وهو المأخوذ ، والمجرور بالباء هو المتروك ، وقد صرح بهذا في قوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ) [سبأ : ١٦] وقال :
٣٨٩٢ ـ تضحك منّي أخت ذات النّحيين
|
|
أبدلك الله بلون
لونين
|
__________________
سواد وجه وبياض عينين
وتقدم تحقيق هذا
في البقرة عند قوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ
نِعْمَةَ اللهِ).
قوله : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً) الآية. قال بعض العلماء : هذا في التوبة عن غير ما سبق
ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ، أي : تاب من الشرك وأدى الفرائض ممن لم
يقتل ولم يزن (فَإِنَّهُ يَتُوبُ
إِلَى اللهِ) يعود إليه بعد الموت «متابا» حسنا يفضل على غيره ممن قتل وزنا. فالتوبة الأولى وهي قوله : (وَمَنْ تابَ) رجوع عن الشرك ، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة .
وقيل : هذه التوبة
أيضا عن جميع السيئات ، ومعناه من أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله ، فقوله
: (يَتُوبُ إِلَى اللهِ) خبر بمعنى الأمر ، أي : ليتب إلى الله ، وقيل : معناه وليعلم أن توبته ومصيره إلى الله .
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ
وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا
ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)(٧٣)
قوله : (وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ) في «الزّور» وجهان :
أحدهما : أنه
مفعول به ، أي : لا يحضرون الزّور ، وفسر بالصّنم واللهو. وقال أكثر المفسرين :
يعني : الشرك .
والثاني : أنه
مصدر ، والمراد شهادة الزّور ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قاله علي بن
أبي طالب .
وقال ابن جريج : الكذب. وقال مجاهد : أعياد المشركين. وقيل : النوح.
وقال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم . وكل هذه الوجوه محتملة.
وأصل «الزّور» :
تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته ، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق.
قوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي : بأهله. قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم
__________________
والأذى أعرضوا
وصفحوا كقوله : (وَإِذا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص : ٥٥].
وقال الحسن
والكلبي : اللغو : المعاصي كلها مما يجب أن يلغى ويترك.
(مَرُّوا كِراماً) مسرعين معرضين ، يقال : تكرّم فلان عما يشينه إذا تنزه
وأكرم نفسه عنه .
قوله : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) النفي متسلط على القيد، وهو الصمم والعمى ، أي : إنّهم
يخرّون عليها لكن لا على هاتين الصفتين .
قال الزمخشري :
فقوله : (لَمْ يَخِرُّوا
عَلَيْها) ليس بنفي للخرور ، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى ، كما تقول : لا
يلقاني زيد مسلما. هو نفي للسلام لا للقاء ، والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبّوا
عليها حرصا على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية ويبصرون بعيون واعية ، لا كالذين
يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد
على استماعها ، وهم كالصّمّ والعميان حيث لا يفهمونها ، ولا يبصرون ما فيها ، وفيه تعريض بالمنافقين.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ
لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)(٧٤)
قوله : (وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا).
يجوز أن تكون «من»
لابتداء الغاية ، أي : هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح ، وأن تكون للبيان ، قاله الزمخشري وجعله من التّجريد ، أي
: هب لنا قرّة أعين من أزواجنا كقولك رأيت منك أسدا .
وقرأ أبو عمرو
والأخوان وأبو بكر «ذرّيّتنا» بالتوحيد ، والباقون بالجمع سلامة وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود «قرّات» بالجمع ، وقال
__________________
الزمخشري : أتى
هنا ب «أعين» صيغة القلة دون (عيون) صيغة الكثرة ، إيذانا بأنّ عيون المتقين قليلة
بالنسبة إلى عيون غيرهم . وردّه أبو حيان بأن أعينا يطلق على العشرة فما دونها ،
وعيون المتقين كثيرة فوق العشرة . وهذا تحمّل عليه ، لأنّه إنما أراد القلة بالنسبة إلى
كثرة غيرهم ، ولم يرد قدرا مخصوصا.
فصل
أراد قرة أعين لهم
في الدين لا في الدنيا من المال والجمال ، قال الزجاج : يقال : أقرّ الله عينك ،
أي : صادف فؤادك ما يحبه وقال المفضل : في قرة العين ثلاثة أقوال :
أحدها : برد
دمعتها ، وهي التي تكون مع السرور ، ودمعة الحزن حارة.
الثاني : فرحها ،
لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع.
الثالث : قال
الأزهري : حصول الرضا .
قوله : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في «إماما» وجهان :
أحدهما : أنه مفرد
، وجاء به مفردا إرادة للجنس ، وجنسه كونه رأس فاصلة .
(أو المراد : اجعل
كل واحد منا إماما . كما قال (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً)) [الحج : ٥].
قال الفراء : قال «إماما»
ولم يقل : أئمة. كما قال للاثنين (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦].
وقيل : أراد أئمة كقوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي) [الشعراء : ٧٧] ،
وإمّا لاتحادهم و اتفاق كلمتهم ، وإمّا لأنّه مصدر في الأصل كصيام وقيام .
الثاني : أنه جمع آمّ كحالّ وحلال ، أو جمع إمامة كقلادة وقلاد .
قال القفال :
وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل : اجعلنا
__________________
حجة للمتقين ،
ومثله البينة يقال : هؤلاء بينة فلان.
فصل
قال الحسن : نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون . وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداة كما قال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) [الأنبياء : ٧٣]
ولا تجعلنا أئمة ضلالة ، كقوله : (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص : ٤١].
وقيل هذا من المقلوب ، أي : واجعل المتقين لنا إماما واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم
قاله مجاهد .
فصل
قيل : نزلت الآية في العشرة المبشرين بالجنة .
قال بعضهم : هذه
الآية تدل على وجوب طلب الرياسة في الدين والرغبة فيها ، قال إبراهيم ـ عليهالسلام ـ (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤]
واحتج أهل السنة بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، لأن الإمامة في
الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل ، والعلم والعمل إنما يكون بجعل الله وخلقه.
قال القاضي :
المراد من هذا السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون
أئمة.
والجواب : أن تلك
الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثا .
واعلم أنه تعالى
لما بيّن صفات المتقين المخلصين بيّن بعده إحسانه إليهم.
قوله تعالى : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما
صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥)
خالِدِينَ
فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)
قوله : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أي : يثابون الغرفة ، وهي الدرجة العالية. و «الغرفة»
مفعول ثان ل «يجزون» ، والغرفة كلّ بناء مرتفع ، والجمع غرف .
قوله : (بِما صَبَرُوا) أي بصبرهم ، أي : بسببه أو بسبب الذي صبروه ، والأصل :
__________________
صبروا عليه ، ثم
حذف بالتدريج. والباء للسببية كما تقدم ، وقيل : للبدل ، كقوله :
٣٨٩٣ ـ فليت لي بهم قوما ...
ولا حاجة إلى ذلك.
وذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه ، ليعمّ جميع أنواع المشاقّ ، ولا وجه لقول من
يقول : المراد الصبر على الفقر خاصة .
قوله : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها) قرأ الأخوان وأبو بكر بفتح الياء وسكون اللام من لقي يلقى ، والباقون بضمها ،
وفتح اللام وتشديد القاف على بنائه للمفعول ، كقوله : (وَلَقَّاهُمْ
نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١].
والتحيّة الدعاء بالتعمير ، أي : بقاء دائما ، وقيل : الملك. والسلام الدعاء
بالسلامة ، أو يسلم بعضهم على بعض. وهذه التحيّة والسلام يمكن أن يكون من الله
كقوله (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. ويمكن
أن يكون من الملائكة لقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤].
ويمكن أن يكون بعضهم على بعض.
قوله : (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا
وَمُقاماً). وصف ذلك بالدوام بقوله : (خالِدِينَ فِيها) ، وقوله : (حَسُنَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي : موضع قرار وإقامة ، وهذا في مقابلة قوله : (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الشعراء : ٦٦] أي
: ما أسوأ ذاك وأحسن هذا .
قوله : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي). قال مجاهد وابن زيد : أي : ما يصنع وما يفعل بكم . قال أبو عبيدة : يقال : ما عبأت به شيئا ، أي : لم أباله ، فوجوده وعدمه سواء . وقال الزجاج: معناه لا وزن لكم عندي والعبء في اللغة
الثقل . وقال أبو عمرو بن العلاء : ما يبالي ربكم ، ويقال : ما عبأت بك ، أي : ما اهتممت ولا اكترثت ، ويقال
: عبأت الجيش وعبأته ، أي: هيأته وأعددته . قوله : (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ)
__________________
جوابها محذوف
لدلالة ما تقدم ، أي : لو لا دعاؤكم ما أعبأ بكم ولا أكترث ، و «ما» يجوز أن تكون
نافية ، وهو الظاهر ، وقيل : استفهام ، بمعنى النفي ، ولا حاجة إلى التجوز في شيء يصح أن يكون حقيقة بنفسه. و
«دعاؤكم» يجوز أن يكون مضافا للفاعل ، أي : لو لا تضرّعكم إليه ، ويجوز أن يكون
مضافا للمفعول ، أي : لو لا دعاؤكم إيّاه إلى الهدى .
فصل
ومعنى هذا الدعاء
وجوه :
الأول : لو لا
دعاؤكم إياه في الشدائد كما قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥].
الثاني : لو لا
شكركم له على إحسانه ، لقوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) [النساء : ١٤٧].
الثالث : لو لا
عبادتكم.
الرابع : لو لا
إيمانكم .
وقيل المعنى : ما
خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم . وقيل : المعنى : قل ما يعبأ بخلقكم ربي لو لا عبادتكم وطاعتكم إياه ، يعني أنه خلقكم لعبادته
كما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]. قاله
ابن عباس ومجاهد . وقيل : معناه ما يبالي بمغفرتكم ربي لو لا دعاؤكم معه
آلهة ، أو ما يفعل الله بعذابكم لو لا شرككم كما قال : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء : ١٤٧].
قوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أيها الكافرون يخاطب أهل مكة ، يعني أن الله دعاكم بالرسول
إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه. وقرىء «فقد كذب الكافرون»
قوله : (فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزاماً) أي : فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم ، وهذا عقاب الآخرة ،
__________________
ونظيره أن يقول
الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك .
قوله : «لزاما»
قرىء بالفتح يعني اللزوم كالثبات والثبوت .
قال ابن عباس :
موتا . وقال أبو عبيدة : هلاكا . وقال ابن زيد : قتالا والمعنى : يكون التكذيب لازما لمن
كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله. وقال ابن جريج : عذابا دائما لازما وهلاكا
مفنيا يلحق بعضكم ببعض. قال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومجاهد ومقاتل : هو يوم بدر
واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم . وقال عبد الله بن مسعود : خمس قد مضين الدخان والقمر
واليوم والبطشة واللزام : (فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزاماً). روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «من قرأ سورة الفرقان بعثه الله يوم القيامة وهو يؤمن أن
الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، ودخل الجنة بغير حساب» .
تمّ الجزء الرّابع
عشر ، ويليه الجزء الخامس عشر
وأوّله : تفسير سورة
الشعراء
__________________
فهرس المحتويات
سورة الحج
الآيتان
: ١ ، ٢................................................................. ٣
فصل
في اختلافهم في وقت هذه الزلزلة.............................................. ٤
فصل
في وقت نزول هاتين الآيتين................................................ ١٠
فصل
في معنى الآية : «يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة ...»............................ ١١
فصل
في احتجاج المعتزلة بقوله : «إن زلزلة الساعة شيء عظيم»...................... ١٢
الآيتان
: ٣ ، ٤............................................................... ١٢
فصل
فيمن نزلت هذه الآية...................................................... ١٣
فصل
في معنى «كتب عليه»..................................................... ١٦
الآيات
: ٥ ـ ٧................................................................ ١٦
فصل
في تفسير الآية : «يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ...» ١٧
فصل
في معنى : «وترى الأرض هامدة ...»....................................... ٢٤
فصل
: لتعلموا أن الله هو الحق ، والحق هو الموجود الثابت........................... ٢٥
الآيات
: ٨ ـ ١٠.............................................................. ٢٦
فصل
في قول المعتزلة : هذه الآية تدل على مطالب................................. ٢٩
الآيات
: ١١ ـ ١٣............................................................. ٢٩
فصل
: لما بيّن حال المظهرين للشرك المجادلين فيه أعقبه بذكر المنافقين.................. ٣٠
فصل
في سبب نزول هذه الآية : «من الناس من يعبد الله على حرف ...»............ ٣٠
فصل
: معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة................. ٣٢
فصل
في اختلافهم في المراد بقوله : «يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه»................... ٣٦
الآيات
: ١٤ ـ ١٦............................................................. ٣٧
فصل
في معنى الآية : «من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ...»........... ٣٩
فصل
فيمن نزلت هذه الآية...................................................... ٣٩
فصل
: قال أهل السنة : المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة............... ٤٠
الآيتان
: ١٧ ، ١٨............................................................ ٤١
فصل
في معنى قوله : «وكثير من الناس ..»........................................ ٤٦
الآيات
: ١٩ ـ ٢٤............................................................. ٤٦
فصل
في اختلافهم في تفسير الخصمين............................................ ٤٧
الآية
: ٢٥.................................................................... ٥٦
فصل
في معنى الآية : «ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام ...»................... ٦٠
فصل
: الإلحاد : العدول عن القصد ، وأصله إلحاد الحافر............................ ٦٣
الآيات
: ٢٦ ـ ٢٩............................................................. ٦٤
فصل
في أن الكعبة بنيت خمس مرات............................................. ٦٥
فصل
: بدأ الله بذكر المشاة تشريفا لهم............................................ ٧٤
فصل
: الطواف ثلاثة أطواف.................................................... ٧٨
الآيات
: ٣٠ ـ ٣٢............................................................. ٧٨
فصل
في معنى قوله : «فاجتنبوا الرجس من الأوثان»................................ ٨١
الآيات
: ٣٣ ـ ٣٥............................................................. ٨٥
فصل
في معنى الآية : «ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله ...»................. ٨٨
الآيتان
: ٣٦ ، ٣٧............................................................ ٩٠
فصل
في تسمية البدنة........................................................... ٩٣
فصل
: إذا قال : لله عليّ بدنة ، هل يجوز نحرها في غير مكة؟........................ ٩٤
فصل
في دلالة هذه الآية : «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى ...».... ٩٧
الآيات
: ٣٨ ـ ٤١............................................................. ٩٨
فصل
في بيان الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة......................... ٩٩
فصل
في أذية المشركين لأصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم......................... ١٠٠
فصل
في معنى الآية : «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربنا الله»...... ١٠١
فصل
في معنى قوله : «ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض»....................... ١٠٤
فصل
في معنى قوله : «الذين إن مكّنّاهم في الأرض».............................. ١٠٦
الآيات
: ٤٢ ـ ٤٦........................................................... ١٠٧
فصل
في معنى قوله : «فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية»............. ١٠٨
فصل
في معنى قوله : «أفلم يسيروا في الأرض ...» الآية........................... ١٠٩
الآيات
: ٤٧ ـ ٥١........................................................... ١١٣
فصل
في اختلافهم في المراد : هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين................... ١١٥
الآيات
: ٥٢ ـ ٥٧........................................................... ١١٦
فصل
في أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع
العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر
البشر............................... ١٢٤
فصل
في معنى : «أوتوا العلم» أي : التوحيد والقرآن............................... ١٢٧
الآيات
: ٥٨ ـ ٦٢........................................................... ١٣٠
فصل
في أنه لما ذكر أن الملك له يوم القيامة وأنه يحكم بينهم ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه
بذكر الوعد الكريم للمهاجرين ١٣١
فصل
في قول المعتزلة : الآية تدل على أمور ثلاثة.................................. ١٣٢
فصل
في دلالة قوله : «ثم قتلوا ثم ماتوا»......................................... ١٣٢
فصل
في معنى قوله : «ومن عاقب بمثل ما عوقب به»............................. ١٣٣
الآيات
: ٦٣ ـ ٦٦........................................................... ١٣٥
فصل
في أن كيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح تجريها.............. ١٤١
الآيات
: ٦٧ ـ ٦٩........................................................... ١٤٢
فصل
في معنى قوله : «لكلّ أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه»........................ ١٤٣
فصل
في قراءات «ينازعنّك»................................................... ١٤٤
الآيات
: ٧٠ ـ ٧٢........................................................... ١٤٥
فصل
في معنى الآيات : أن الذي ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات
من الغضب والغم ١٤٩
الآيتان
: ٧٣ ، ٧٤.......................................................... ١٤٩
فصل
: كأنه تعالى قال : أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم فيما هو أسهل منه.......... ١٥١
فصل
فيمن نزلت هذه الآية : «ما قدروا الله حق قدره»............................ ١٥٢
الآيتان
: ٧٥ ، ٧٦.......................................................... ١٥٣
الآيتان
: ٧٧ ، ٧٨.......................................................... ١٥٤
فصل
في اختلافهم في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية........................... ١٥٥
فصل
في الدعوة للجهاد في سبيل الله............................................ ١٥٦
فصل
في استدلال المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق................ ١٥٨
فصل
في أن المقصود من ذكر «إبراهيم» التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة
إبراهيم ١٥٩
سورة
المؤمنون
الآيات
: ١ ـ ١١............................................................. ١٦٢
فصل
في اختلافهم في الخشوع.................................................. ١٦٦
فصل
في أن هذه الآية خاصة في الرجال لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها.. ١٧٢
الآيات
: ١٢ ـ ١٦........................................................... ١٧٥
فصل
في قول المعتزلة : لو لا أن يكون غير الله قد يكون خالقا لما جاز القول بأنه أحسن
الخالقين..................................................................... ١٨٢
فصل
في قول المعتزلة : الآية تدل على أن كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب..... ١٨٣
الآية
: ١٧.................................................................. ١٨٥
الآيات
: ١٨ ـ ٢٠........................................................... ١٨٧
فصل
في اختلافهم في «طور سيناء» وفي «طور سينين»............................ ١٩٢
الآيات
: ٢١ ـ ٢٥........................................................... ١٩٤
الآيات
: ٢٦ ـ ٣٠........................................................... ١٩٧
الآيات
: ٣١ ـ ٤١........................................................... ٢٠٢
فصل
في أن القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشرا يأكل ويشرب ، ثم جعلوا طاعته خسرانا.. ٢١٣
فصل
في معنى قوله : «فجعلناهم غثاء»......................................... ٢١٧
الآيات
: ٤٢ ـ ٤٤........................................................... ٢١٧
الآيات
: ٤٥ ـ ٤٩........................................................... ٢٢١
فصل
في معنى : «فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا»..................................... ٢٢٢
الآية
: ٥٠.................................................................. ٢٢٣
الآيات
: ٥١ ـ ٥٦........................................................... ٢٢٥
فصل
في معنى الآية : «وإنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون»............... ٢٢٧
الآيات
: ٥٧ ـ ٦١........................................................... ٢٣٠
الآيات
: ٦٢ ـ ٦٥........................................................... ٢٣٤
الآيات
: ٦٦ ـ ٧٢........................................................... ٢٣٨
فصل
في المراد ب «الحق»...................................................... ٢٤٢
فصل
في معنى قوله : «بل أتيناهم بذكرهم»...................................... ٢٤٣
الآيات
: ٧٣ ـ ٧٥........................................................... ٢٤٣
الآيات
: ٧٦ ـ ٨٠........................................................... ٢٤٥
الآيات
: ٨١ ـ ٩٠........................................................... ٢٤٧
الآيات
: ٩١ ـ ٩٦........................................................... ٢٤٩
الآيات
: ٩٧ ـ ١٠٠......................................................... ٢٥٢
فصل
في معنى الآية : «وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشيطان».................... ٢٥٢
فصل
في معنى قوله : «حتّى إذا جاء أحدهم الموت ...»........................... ٢٥٥
الآيات
: ١٠١ ـ ١٠٥........................................................ ٢٥٧
فصل
في أنه تعالى إذا أعادهم فالأنساب ثابتة.................................... ٢٥٨
الآيات
: ١٠٦ ـ ١١١........................................................ ٢٦٢
فصل
في أن طلبنا اللذّات المحرّمة وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة..... ٢٦٣
الآيات
: ١١٢ ـ ١١٨........................................................ ٢٦٧
فصل
في أن الغرض من السؤال «كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟» : التبكيت والتوبيخ ٢٦٨
فصل
في اختلافهم في أن السؤال عن أي لبث؟................................... ٢٦٨
فصل
في احتجاج من أنكر عذاب القبر بهذه الآية................................. ٢٦٩
فصل
في أنه لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنه لو لا القيامة لما تميز المطيع
عن العاصي ٢٧١
فصل
في قول المفسرين : العرش السرير الحسن.................................... ٢٧١
فصل
في معنى قوله : «الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم».............. ٢٧٢
سورة
النور
الآيتان
: ١ ، ٢.............................................................. ٢٧٤
فصل
في أن الزنا حرام وهو من الكبائر........................................... ٢٧٩
فصل
في إجماع الأمة على حرمة إتيان البهيمة واختلافهم في حدّه.................... ٢٨٠
فصل
في أن إثبات حدّ الزنا لا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة......................... ٢٨١
فصل
في قول بعض العلماء : لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه ٢٨٢
فصل
: لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه.............. ٢٨٣
فصل
: لا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها................................. ٢٨٣
فصل
: يقام الحدّ في وقت اعتدال الهواء.......................................... ٢٨٤
فصل
: في معنى قوله : «ولا تأخذكم بهما رأفة».................................. ٢٨٤
فصل
: إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك ، وقع به بعض الحد أو لم يقع به.......... ٢٨٥
الآية
: ٣.................................................................... ٢٨٦
الآيتان
: ٤ ، ٥.............................................................. ٢٨٩
فصل
في أن ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات................. ٢٩١
فصل
: شروط الإحصان خمسة................................................. ٢٩١
فصل
: ألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض................................ ٢٩١
فصل
: إذا قذف شخصا واحدا مرارا فإن أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد...... ٢٩٢
فصل
: إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان.................. ٢٩٣
فصل
: الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا......................... ٢٩٦
فصل
: إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني والمزني به.................... ٢٩٦
فصل
: لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين........................... ٢٩٦
فصل
: لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت.................................. ٢٩٧
فصل
: فيما لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا............... ٢٩٧
فصل
: قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب حدّ الزنا............................. ٢٩٨
فصل
في قول مالك والشافعي : حد القذف يورث وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث
عنه ٢٩٨
فصل
في معنى قوله : «ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا»................................. ٢٩٩
فصل
في اختلافهم في كيفية التوبة بعد القذف.................................... ٣٠٠
الآيات
: ٦ ـ ١٠............................................................. ٣٠٠
فصل
: إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة................. ٣٠٣
فصل
: إذا قذف زوجته ونكل عن اللعان لزمه حد القذف......................... ٣٠٤
فصل
: من صح يمينه صح لعانه ، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين..... ٣٠٥
فصل
: قال عثمان البتّي : إذا تلاعن الزوجان لم تقع الفرقة......................... ٣٠٥
فصل
في كيفية اللعان.......................................................... ٣٠٦
فصل
في معنى الآية : «والذين يرمون أزواجهم ...»............................... ٣٠٧
الآية
: ١١.................................................................. ٣١١
فصل
في سبب نزول هذه الآية................................................. ٣١٢
فصل
: الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وهو أسوأ الكذب............. ٣١٨
فصل
: العصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين................................. ٣١٩
فصل
في أن المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئا بذلك القول.................. ٣٢١
الآية
: ١٢.................................................................. ٣٢٢
فصل
في معنى قوله : «إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا»............. ٣٢٢
الآيتان
: ١٣ ، ١٤.......................................................... ٣٢٣
الآية
: ١٥.................................................................. ٣٢٤
فصل
في أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام ، وعلق مسّ العذاب العظيم بها..... ٣٢٦
الآية
: ١٦.................................................................. ٣٢٦
فصل
في معنى قوله : «ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك».. ٣٢٧
الآيتان
: ١٧ ، ١٨.......................................................... ٣٢٧
فصل
في استدلال المعتزلة بقوله : «إن كنتم مؤمنين» على أن ترك القذف من الإيمان.. ٣٢٨
فصل
: قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد من جميع من وعظه مجانبة ذلك
في المستقبل ٣٢٨
الآية
: ١٩.................................................................. ٣٢٩
فصل
في قول المعتزلة : إن الله بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة................. ٣٢٩
الآيتان
: ٢٠ ، ٢١.......................................................... ٣٣٠
فصل
في معنى «ما زكى»....................................................... ٣٣٠
الآية
: ٢٢.................................................................. ٣٣٢
فصل
في أن معنى الآية : لا يحلف أولوا الفضل................................... ٣٣٤
فصل
في قول المفسرين : معناه : ولا يحلف «أولوا الفضل منكم والسعة» أي : أولوا الغنى ٣٣٤
فصل
في أن المراد من قوله : «أولوا الفضل» أبو بكر.............................. ٣٣٥
فصل
: مذهب الجمهور أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أنه ينبغي له أن يأتي
الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه ٣٣٦
الآيات
: ٢٣ ـ ٢٥........................................................... ٣٣٧
فصل
في معنى قوله : «يوم تشهد عليهم ألسنتهم»................................ ٣٣٩
الآية
: ٢٦.................................................................. ٣٤٠
الآيات
: ٢٧ ـ ٢٩........................................................... ٣٤١
فصل
في معنى «الاستئناس».................................................... ٣٤٣
فصل
في عدد الاستئذان....................................................... ٣٤٣
فصل
في كيفية الوقوف على الباب.............................................. ٣٤٤
فصل
في معنى «حتى»......................................................... ٣٤٤
فصل
في الاستئذان على المحارم.................................................. ٣٤٥
فصل
: إذا اطلع إنسان على دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر............... ٣٤٥
فصل
: إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟...... ٣٤٦
الآيتان
: ٣٠ ، ٣١.......................................................... ٣٤٨
فصل
: قال الأكثرون : المراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل......... ٣٤٩
فصل
: العورات تنقسم أربعة أقسام............................................. ٣٤٩
فصل
: إن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع
الرجل ٣٥٣
فصل
: إن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن
ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج ٣٥٣
فصل
: فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة........... ٣٥٣
فصل
: لا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته............... ٣٥٤
فصل
في معنى قوله : «ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها»......................... ٣٥٦
فصل
في معنى قوله : «وليضربن بخمرهن على جيوبهن ...»........................ ٣٥٧
فصل
في أن السبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن
واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في النزول والركوب..................................................................... ٣٥٨
فصل
في المراد ب «التابعين غير أولي الإربة»...................................... ٣٥٩
فصل
في أن الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به.............................. ٣٦١
فصل
: فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستر منه ما بين سرتها وركبتها..................... ٣٦٢
الآية
: ٣٢.................................................................. ٣٦٣
فصل
في معنى قوله : «وأنكحوا»............................................... ٣٦٥
فصل
في قول الشافعي : «الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها»....... ٣٦٥
فصل
: الناس في النكاح قسمان................................................ ٣٦٦
فصل
في أن ظاهر الآية يدل على أن العبد لا يتزوج بنفسه......................... ٣٦٧
فصل
: الولي شرط في صحة النكاح............................................. ٣٦٧
فصل
في استدلال بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان.................... ٣٦٨
الآية
: ٣٣.................................................................. ٣٦٩
فصل
في قول بعض العلماء : الكتابة أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا............ ٣٧٠
فصل
: لا تجوز الكتابة الحالّة................................................... ٣٧١
فصل
: لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين...................................... ٣٧١
فصل
: يشترط أن يكون المكاتب بالغا عاقلا..................................... ٣٧١
فصل
: يشترط أن يكون السيد مكلفا مطلقا..................................... ٣٧١
فصل
في اختلافهم في قوله تعالى : «فكاتبوهم».................................. ٣٧٢
فصل
فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم..................................... ٣٧٥
فصل
: لو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال............................... ٣٧٥
فصل
فيمن نزلت هذه الآية.................................................... ٣٧٦
فصل
: الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس....................... ٣٧٧
الآية
: ٣٤.................................................................. ٣٧٩
الآية
: ٣٥.................................................................. ٣٨٠
فصل
في معنى الآية............................................................ ٣٨١
فصل
في اختلافهم في هذا التشبيه............................................... ٣٨٢
فصل
في كيفية هذا التمثيل..................................................... ٣٨٦
فصل
: في أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء.......... ٣٨٧
فصل
في معنى «المشكاة»...................................................... ٣٨٧
الآيات
: ٣٦ ـ ٣٨........................................................... ٣٩١
فصل
في أن المراد ب «البيوت» : المساجد....................................... ٣٩٣
فصل
في اختلافهم في هذا التسبيح.............................................. ٣٩٥
فصل
في معنى قوله : «إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار» ٣٩٧
فصل
في أن المراد بالأحسن : الحسنات أجمع ، وهي الطاعات فرضها ونفلها.......... ٣٩٨
الآيتان
: ٣٩ ، ٤٠.......................................................... ٣٩٩
فصل
في معنى قوله : «الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ...»................ ٤٠١
فصل
في أن الله تعالى بيّن أن أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب وإن كانت قبيحة
فهي الظلمات ٤٠٧
الآيتان
: ٤١ ، ٤٢.......................................................... ٤٠٩
فصل
في معنى قوله : «يسبح له من في السموات والأرض والطير ..»................ ٤١١
الآيتان
: ٤٣ ، ٤٤.......................................................... ٤١٤
فصل
في معنى قوله : «وينزّل من السماء من جبال فيها من برد».................... ٤٢٠
فصل
: في معنى قوله : «يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار»......................... ٤٢٢
الآيتان
: ٤٥ ، ٤٦.......................................................... ٤٢٣
الآيات
: ٤٧ ـ ٥٠........................................................... ٤٢٦
فصل
في معنى قوله : «ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا»......................... ٤٢٦
فصل
في معنى الآية : «أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ...». ٤٢٨
الآيات
: ٥١ ـ ٥٤........................................................... ٤٢٩
فصل
في معنى قوله : «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله»...................... ٤٣٠
فصل
: قال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد في اليمين........................... ٤٣٤
فصل
في أن هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد.............................. ٤٣٥
الآية
: ٥٥.................................................................. ٤٣٦
فصل
: دل قوله : «وعد الله» على أنه متكلم.................................... ٤٣٩
فصل
في دلالة الآية على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها...................... ٤٣٩
فصل
في دلالة الآية على أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات................... ٤٣٩
فصل
في دلالة الآية على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة.......................... ٤٣٩
فصل
في دلالة الآية على أنه سبحانه منزه عن الشريك............................. ٤٤٠
فصل
في دلالة الآية على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم......................................... ٤٤٠
فصل
في دلالة الآية على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان................. ٤٤٠
فصل
في دلالة الآية على إمامة الأئمة الأربعة..................................... ٤٤٠
الآيتان
: ٥٦ ، ٥٧.......................................................... ٤٤٣
الآيات
: ٥٨ ـ ٦٠........................................................... ٤٤٦
فصل
: قال أبو بكر الرازي : دلّت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل
الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح ٤٤٧
فصل
في معنى : «الحلم»...................................................... ٤٤٨
فصل
في الاستئذان في ثلاثة أوقات.............................................. ٤٥٠
فصل
في وجوب الاستئذان في كل حال.......................................... ٤٥١
فصل
في معنى الآية : «والقواعد من النساء اللّاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح ...» ٤٥٣
فصل
في أن هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم........................... ٤٥٤
فصل
في معنى «القواعد»...................................................... ٤٥٥
الآية
: ٦١.................................................................. ٤٥٦
فصل
في دلالة هذه الآية بظاهرها على إباحة الأكل من هذه المواضع بغير استئذان.... ٤٥٧
فصل
في أن الصديق : الذي صدقك في المودة.................................... ٤٥٩
فصل
في احتجاج أبي حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ٤٦٠
فصل
في معنى قوله : «تحية من عند الله»........................................ ٤٦٢
الآيات
: ٦٢ ـ ٦٤........................................................... ٤٦٢
فصل
: قال الكلبي : كان النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعرّض في خطبته بالمنافقين
ويعيبهم. ٤٦٣
فصل
: قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه
إلا بإذن ٤٦٣
فصل
: قال الجبائي : دلّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم............... ٤٦٣
فصل
في معنى قوله : «فإذا استأذنوك لبعض شأنهم».............................. ٤٦٥
فصل
في المراد بقوله : «فأذن لمن شئت منهم»................................... ٤٦٥
فصل
في قول المفسرين : إن المنافقين كانوا يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى
لا يروا ٤٦٧
فصل
في معنى : «فليحذر الذين يخالفون»....................................... ٤٦٩
فصل
في دلالة الآية على أن الأمر للوجوب لأن تارك المأمور مخالف للأمر ومخالف الأمر
يستحق العقاب ٤٧٠
فصل
في معنى قوله : «يعلم ما أنتم عليه»....................................... ٤٧١
سورة
الفرقان
الآيتان
: ١ ، ٢.............................................................. ٤٧٢
فصل
: وصف القرآن بالفرقان لأنه فرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام......... ٤٧٣
فصل
في معنى قوله : «الذي له ملك السموات والأرض».......................... ٤٧٤
فصل
في معنى قوله : «خلق كل شيء».......................................... ٤٧٥
الآية
: ٣.................................................................... ٤٧٥
فصل
: لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف عبدة الأوثان....... ٤٧٦
فصل
في احتجاج أهل السنة بقوله : «ولا يخلقون شيئا»........................... ٤٧٦
فصل
في دلالة الآية على البعث................................................ ٤٧٧
الآيات
: ٤ ـ ٩.............................................................. ٤٧٧
فصل
في قولهم : معنى الآية : «قالوا أساطير الأولين ...» أن هذا القرآن ليس من الله
إنما
هو
مما سطره الأولون.......................................................... ٤٨١
فصل
في أن الشبهة التي ذكروها في نهاية الرذالة................................... ٤٨٣
الآيات
: ١٠ ـ ١٤........................................................... ٤٨٤
فصل
في معنى «القصور»...................................................... ٤٨٦
فصل
في احتجاج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة................................. ٤٨٧
فصل
في معنى قوله : «إذا رأتهم من مكان بعيد».................................. ٤٨٩
فصل
: قال ابن عباس : يضيق جهنم عليهم كما يضيق الزج على الرمح............. ٤٩٠
الآيتان
: ١٥ ، ١٦.......................................................... ٤٩١
فصل
في معنى قوله : «جنة الخلد».............................................. ٤٩١
فصل
في احتجاج المعتزلة بهذه الآية على إثبات الاستحقاق......................... ٤٩١
فصل
في معنى قوله : «كان على ربك وعدا مسؤولا».............................. ٤٩٢
الآيات
: ١٧ ـ ٢٠........................................................... ٤٩٣
فصل
في أن ظاهر قوله : «وما يعبدون» أنها الأصنام.............................. ٤٩٥
فصل
في قول المعتزلة : الله يضل عباده في الحقيقة.................................. ٤٩٥
فصل
: أجابوا بقولهم : «سبحانك» وفيه وجوه................................... ٤٩٨
فصل
في تمسك المعتزلة بهذه الآية................................................ ٥٠١
فصل
في نزول هذه الآيات..................................................... ٥٠٤
الآيات
: ٢١ ـ ٢٤........................................................... ٥٠٥
فصل
في معنى قوله : «وقال الذين لا يرجون لقاءنا».............................. ٥٠٥
فصل
في دلالة هذه الآية على جواز الرؤية........................................ ٥٠٦
فصل
في معنى «عتوّا»......................................................... ٥٠٧
فصل
: هذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه................................... ٥٠٧
فصل
في استدلال المعتزلة بهذه الآية على عدم الرؤية............................... ٥٠٨
فصل
في أن معنى قوله : «يوم يرون الملائكة» عند الموت........................... ٥١٢
فصل
في اختلافهم في القائلين «حجرا محجورا»................................... ٥١٣
فصل
في قول المفسرين : يعني أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم إلا قدر النهار............. ٥١٥
الآيات
: ٢٥ ـ ٢٩........................................................... ٥١٥
فصل
في معنى «الغمام»....................................................... ٥١٨
فصل
في معنى «الملك»........................................................ ٥٢٠
فصل
في المراد ب «الظالم»..................................................... ٥٢٠
فصل
في معنى قوله : «يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا».......................... ٥٢٣
الآيتان
: ٣٠ ، ٣١.......................................................... ٥٢٤
فصل
في احتجاج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر............... ٥٢٥
الآيات
: ٣٢ ـ ٣٤........................................................... ٥٢٦
فصل
في المراد بقوله : «لو لا نزّل عليه القرآن جملة واحدة»......................... ٥٢٧
فصل
في معنى «ورتلناه ترتيلا».................................................. ٥٢٩
الآيتان
: ٣٥ ، ٣٦.......................................................... ٥٣٠
الآيات
: ٣٧ ـ ٣٩........................................................... ٥٣٠
فصل
في معنى قوله : «كذبوا الرسل»........................................... ٥٣٢
الآيات
: ٤٠ ـ ٤٢........................................................... ٥٣٥
الآيتان
: ٤٣ ، ٤٤.......................................................... ٥٣٩
فصل
في معنى الآية : «أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا»........... ٥٤٠
الآيات
: ٤٥ ـ ٤٩........................................................... ٥٤١
فصل
في معنى «الظل»........................................................ ٥٤٢
الآيات
: ٥٠ ـ ٥٢........................................................... ٥٤٦
فصل
: قال الجبائي : قوله : «ليذّكّروا» يدل على أنه تعالى يريد من الكل أن يذكروا
ويشكروا...... ٥٤٧
الآية
: ٥٣.................................................................. ٥٤٩
الآية
: ٥٤.................................................................. ٥٥١
الآيات
: ٥٥ ـ ٥٨........................................................... ٥٥٢
فصل
في معنى الآية : «قل ما أسألكم عليه من أجر ...»......................... ٥٥٣
الآيتان
: ٥٩ ، ٦٠.......................................................... ٥٥٤
الآيتان
: ٦١ ، ٦٢.......................................................... ٥٥٩
الآيات
: ٦٣ ـ ٦٧........................................................... ٥٦٢
فصل
في أن المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير.............................. ٥٦٧
الآيات
: ٦٨ ـ ٧١........................................................... ٥٦٩
فصل
: نقل عن ابن عباس أنه قال : توبة القاتل لا تقبل ، وزعم أن هذه الآية منسوخة ٥٧٣
الآيتان
: ٧٢ ، ٧٣.......................................................... ٥٧٤
الآية
: ٧٤.................................................................. ٥٧٥
فصل
: أراد قرة أعين لهم في الدين لا في الدنيا من المال والجمال..................... ٥٧٦
فصل
: قيل : نزلت هذه الآية في العشرة المبشرين بالجنة............................ ٥٧٧
الآيات
: ٧٥ ـ ٧٧........................................................... ٥٧٧
الآيات
: ٧٥ ـ ٧٧........................................................... ٥٧٧
فصل
في معنى هذا الدعاء...................................................... ٥٧٩
|