سورة فاتحة الكتاب
مكية. وقيل مكية
ومدنية لأنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى. وتسمى أمّ القرآن ؛ لاشتمالها على
المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى بما هو أهله ، ومن التعبد بالأمر
والنهى ، ومن الوعد والوعيد. وسورة الكنز والوافية لذلك. وسورة الحمد والمثاني
لأنها تثنى في كل ركعة. وسورة الصلاة لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها.
وسورة الشفاء والشافية. وهي سبع آيات بالاتفاق ، إلا أنّ منهم من عدّ (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) دون التسمية ، ومنهم من مذهبه على العكس.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(١)
قرّاء المدينة
والبصرة والشأم وفقهاؤها على أنّ التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من
السور ، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها ، كما بدأ بذكرها في كل أمر ذى
بال ، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله ومن تابعه ، ولذلك لا يجهر بها عندهم في
الصلاة. وقرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ،
وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله ، ولذلك يجهرون بها. وقالوا : قد أثبتها السلف
في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن ، ولذلك لم يثبتوا (آمين) فلو لا أنها من
القرآن لما أثبتوها. وعن ابن عباس : «من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من
كتاب الله تعالى» .
__________________
فإن قلت : بم
تعلقت الباء؟ قلت : بمحذوف تقديره : بسم الله أقرأ أو أتلو ؛ لأن الذي يتلو التسمية مقروء ، كما أنّ المسافر إذا حلّ أو
ارتحل فقال : بسم الله والبركات ، كان المعنى : بسم الله أحل وبسم الله أرتحل ؛
وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله ب «بسم الله» كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ
له. ونظيره في حذف متعلق الجارّ قوله عزّ وجلّ : (فِي تِسْعِ آياتٍ
إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) ، أى اذهب في تسع آيات. وكذلك قول العرب في الدعاء للمعرس
: بالرفاء والبنين ، وقول الأعرابى : باليمن والبركة ، بمعنى أعرست ، أو نكحت.
ومنه قوله :
فقُلْتُ إلى
الطَّعام فقَالَ مِنْهُمْ
|
|
فَرِيقٌ نحْسُدُ
الإِنْسَ الطَّعامَا
|
__________________
فإن قلت : لم
قدّرت المحذوف متأخراً؟ قلت : لأنّ الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به ؛
لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون : باسم اللات ، باسم العزى ، فوجب أن
يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء ، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل
كما فعل في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص. والدليل عليه قوله
: (بِسْمِ اللهِ
مَجْراها وَمُرْساها). فإن قلت : فقد قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) ، فقدّم الفعل. قلت : هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أوّل
سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم.
فإن قلت : ما معنى
تعلق اسم الله بالقراءة؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة
في قولك : كتبت بالقلم ، على معنى أنّ المؤمن لما اعتقد أنّ فعله لا يجيء معتدا به
في الشرع واقعا على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله لقوله عليه الصلاة والسلام : «كل
أمر ذى بال لم يبدأ فيه
__________________
باسم الله فهو
أبتر» إلا كان فعلا كلا فعل ، جعل فعله مفعولا باسم الله كما يفعل الكتب بالقلم. والثاني
أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات في قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) على معنى : متبرّكا بسم الله أقرأ ، وكذلك قول الداعي
للمعرس : بالرفاء والبنين ، معناه أعرست ملتبسا بالرفاء والبنين ، وهذا الوجه أعرب
وأحسن ؛ فإن قلت : فكيف قال الله تبارك وتعالى متبركا باسم الله أقرأ؟ قلت : هذا
مقول على ألسنة العباد ، كما يقول الرجل الشعر على لسان غيره ، وكذلك : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ إلى آخره ، وكثير من القرآن على هذا المنهاج ، ومعناه
تعليم عباده كيف يتبركون باسمه ، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه. فإن قلت : من حق
حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون ، نحو
كاف التشبيه ولام الابتداء وواو العطف وفائه وغير ذلك ، فما بال لام الإضافة وبائها
بنيتا على الكسر؟ قلت : أما اللام فللفصل بينها وبين لام الابتداء ، وأما الباء
فلكونها لازمة للحرفية والجر ، والاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على
السكون ، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة ، لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن إذا كان
دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن ، لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة ،
ولوضعها على غاية من الإحكام والرصانة ، وإذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة
شيء. ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن ، فقال : سم وسم. قال:
بِاسْمِ الذِي في كلِّ سُورةٍ سِمُهْ
__________________
وهو من الأسماء
المحذوفة الأعجاز : كيد ودم ، وأصله : سمو ، بدليل تصريفه : كأسماء ، وسمى ،
وسميت. واشتقاقه من السمو ، لأنّ التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره ، ومنه قيل
للقب النبز : من النبز بمعنى النبر ، وهو رفع الصوت. والنبز قشر النخلة الأعلى.
فإن قلت : فلم حذفت الألف في الخط وأثبتت في قوله : باسم ربك؟ قلت : قد اتبعوا في
حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال ، وقالوا : طولت
الباء تعويضا من طرح الألف. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه : طوّل الباء
وأظهر السنات ودوّر الميم. و (الله) أصله الإله. قال :
مَعَاذَ الالهِ أَنْ تَكُونَ كظَبْيَةٍ
ونظيره : الناس ،
أصله الأناس. قال :
إنَّ المَنايَا
يَطَّلِعْ
|
|
نَ عَلَى
الأُنَاسِ الآمِنِينَا
|
فحذفت الهمزة
وعوّض منها حرف التعريف ، ولذلك قيل في النداء : يا الله بالقطع ، كما يقال :
__________________
يا إله ، والإله ـ
من أسماء الأجناس كالرجل والفرس ـ اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على
المعبود بحق ، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، وكذلك السنة على عام
القحط ، والبيت على الكعبة ، والكتاب على كتاب سيبويه. وأما (الله) بحذف الهمزة
فمختص بالمعبود بالحق ، لم يطلق على غيره. ومن هذا الاسم اشتق : تأله ، وأله ،
واستأله. كما قيل : استنوق ، واستحجر ، في الاشتقاق من الناقة والحجر. فإن قلت : أاسم
هو أم صفة؟ قلت : بل اسم غير صفة ، ألا تراك تصفه ولا تصف به ، لا تقول : شيء إله
، كما لا تقول : شيء رجل. وتقول : إله واحد صمد ، كما تقول : رجل كريم خير. وأيضا
فإنّ صفاته تعالى لا بدّ لها من موصوف تجرى عليه ، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير
جارية على اسم موصوف بها وهذا محال. فإن قلت : هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت : معنى
الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدا معنى واحد ، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم : أله
، إذا تحير ، ومن أخواته : دله ، وعله ، ينتظمهما معنى التحير والدهشة ، وذلك أنّ
الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن ، ولذلك كثر الضلال ، وفشا الباطل ،
وقل النظر الصحيح. فإن قلت : هل تفخم لامه؟ قلت : نعم قد ذكر الزجاج أنّ تفخيمها
سنة ، وعلى ذلك العرب كلهم ، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر.
و (الرَّحْمنِ) فعلان من رحم ، كغضبان وسكران ، من غضب وسكر ، وكذلك
الرحيم فعيل منه ، كمريض وسقيم ، من مرض وسقم ، وفي (الرَّحْمنِ) من المبالغة ما ليس في (الرَّحِيمِ) ، ولذلك قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا ،
ويقولون : إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى. وقال الزجاج في الغضبان : هو
الممتلئ غضبا. ومما طنّ على أذنى من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم
بالشقدف ، وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق ، فقلت في طريق الطائف لرجل منهم
: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي ، فقال : أليس ذاك اسمه الشقدف؟ قلت :
بلى ، فقال : هذا اسمه الشقنداف ، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى ، وهو من
الصفات الغالبة ـ كالدبران ، والعيوق ، والصعق ـ لم يستعمل في غير الله عزّ وجلّ ،
كما أنّ (الله) من الأسماء
__________________
الغالبة. وأما قول
بنى حنيفة في مسيلمة : رحمان اليمامة ، وقول شاعرهم فيه :
وأَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا
فباب من تعنتهم في
كفرهم. فإن قلت : كيف تقول : الله رحمن ، أتصرفه أم لا؟ قلت : أقيسه على أخواته من بابه ، أعنى نحو عطشان وغرثان
وسكران ، فلا أصرفه.
__________________
فإن قلت : قد شرط
في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى واختصاصه بالله يحظر أن يكون فعلان فعلى ،
فلم تمنعه الصرف؟ قلت : كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى كعطشى فقد حظر أن
يكون له مؤنث على فعلانة كندمانة ، فإذاً لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض
فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص وهو القياس على نظائره. فإن قلت : ما معنى وصف
الله تعالى بالرّحمة ومعناها العطف والحنوّ ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها؟
قلت : هو مجاز عن إنعامه على عباده ؛ لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم
بمعروفه وإنعامه ، كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنف بهم ومنعهم خيره
ومعروفه. فإن قلت : فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه ، والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم : فلان عالم
نحرير ، وشجاع باسل ، وجودا فياض؟ قلت : لما قال (الرَّحْمنِ) فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها ، أردفه (الرَّحِيمِ) كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)(٣)
الحمد والمدح
أخوان ، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها. تقول : حمدت الرجل على
إنعامه ، وحمدته على حسبه وشجاعته.
وأمّا الشكر فعلى
النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال :
أَفَادَتْكُمُ
النَّعْمَاءُ منِّى ثلاثةً
|
|
يَدِي ولِسَانِى
والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا
|
__________________
والحمد باللسان
وحده ، فهو إحدى شعب الشكر ، ومنه قوله عليه السلام : «الحمد رأس الشكر ، ما شكر
الله عبد لم يحمده» وإنما جعله رأس الشكر ؛ لأنّ ذكر النعمة باللسان والثناء
على موليها ، أشيع لها وأدلّ على مكانها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل
القلب ، وما في عمل الجوارح من الاحتمال ، بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح
عن كلّ خفى ويجلى كل مشتبه.
والحمد نقيضه
الذمّ ، والشكر نقيضه الكفران ، وارتفاع الحمد بالابتداء وخبره الظرف الذي هو لله
وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي
تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار ، كقولهم : شكراً ، وكفراً ، وعجباً ،
وما أشبه ذلك ، ومنها : سبحانك ، ومعاذ الله ، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدّون بها
مسدّها ، لذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة ، والعدل
بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه
قوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ
سَلامٌ) ، رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام
حياهم بتحية أحسن من تحيتهم ؛ لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدّده
وحدوثه. والمعنى : نحمد الله حمداً ، ولذلك قيل : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ؛ لأنه بيان لحمدهم له ، كأنه قيل : كيف تحمدون؟ فقيل :
إياك نعبد. فإن قلت : ما معنى التعريف فيه؟ قلت : هو نحو التعريف في أرسلها العراك
، وهو تعريف الجنس ،
__________________
ومعناه الإشارة
إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو ، والعراك ما هو ، من بين أجناس الأفعال.
والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم. وقرأ الحسن البصري : (الحمد لله)
بكسر الدال لإتباعها اللام. وقرأ إبراهيم بن أبى عبلة : (الحمد لله) بضم اللام
لإتباعها الدال ، والذي جسرهما على ذلك ـ والإتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم
منحدر الجبل ومغيرة ـ تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين ، وأشف
القراءتين قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى ،
بخلاف قراءة الحسن.
الرب : المالك.
ومنه قول صفوان لأبى سفيان : لأن يربني رجل من قريش أحب إلىّ من أن يربني رجل من
هوازن . تقول : ربه يربه فهو رب ، كما تقول : نمّ عليه ينمّ فهو نمّ. ويجوز أن يكون
وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل ، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده ، وهو
في غيره على التقيد بالإضافة ، كقولهم : رب الدار ، ورب الناقة ، وقوله تعالى : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) ، (إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوايَ). وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما : (رب العالمين) بالنصب
على المدح ، وقيل بما دل عليه (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، كأنه قيل : نحمد الله رب العالمين.
العالم : اسم لذوي
العلم من الملائكة والثقلين ، وقيل : كل ما علم به الخالق من الأجسام
__________________
والأعراض. فإن قلت
: لم جمع؟ قلت : ليشمل كل جنس مما سمى به. فإن قلت : هو اسم غير صفة ، وإنما تجمع
بالواو والنون صفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام. قلت : ساغ ذلك لمعنى
الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
قرئ : ملك يوم
الدين ، ومالك ، وملك بتخفيف اللام. وقرأ أبو حنيفة رضى الله عنه : مالك بالنصب.
وقرأ غيره : مالك وهو نصب على المدح ؛ ومنهم من قرأ : مالك ،بالرفع. ومالك : هو
الاختيار. لأنه قراءة أهل الحرمين ، ولقوله : (لمن اللك اليوم) ، ولقوله : (ملك
الناس). ولأن الملك يعم والملك يخص. ويوم الدين : يوم الجزاء. ومنه قولهم : «كما
تدين تدان» وبيت الحماسة :
__________________
ولم بق سوى العدوا
|
|
ن دناهم كما دانو
|
فإن قلت : ما هذه الإضافة؟ قلت : هي
إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع ، مجرى المفعول به كقولهم : يا سارق
الليلة أهل الدار ، والمعنى على الظرفية. ومعناه : مالك الأمر كله في يوم الدين ،
كقوله : (لمن الملك اليوم). فإن قلت : فإضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية إذا
أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال ، فكان في تقدير الانفصال ، كقولك : مالك
الساعة ، أو غدا. فأمّا إذ قصد معنى الماضي ، كقولك : هو مالك عبده أمس ، أو زمان
مستمرّ ، كقولك : زيد مالك العبيد ، كانت الإضافة حقيقية ، كقولك : مولى العبيد ،
وهذا هو المعنى في (مالك يوم الدين) ، ويجوز أن يكون المعنى ، مالك الأمور يوم
الدين ، كقوله : (ونادى أصحاب الجنة) ، و (نادى أصحاب الأعراف) ، والدليل عليه
قراءة أبي حنيفة : (مالك يوم الدين) ، وهذا الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه ـ
من كونه ربا مالكا للعالمين لا يخرج منهم شيء من ملكوته وربويته ، ومن كونه منعما
بالنعم كلها الظاهرة والباطنة والجلائل والدقائق ، ومن كونه مالكا للأمر كله في
العاقبة يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة
__________________
على اختصاص الحمد
به وأنه به حقيق في قوله الحمد لله ـ دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد
أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله.
إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
(إيا) ضمير منفصل
للمنصوب ، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك : إياك ، وإياه ،
وإياى ، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب ، كما لا محل
للكاف في أرأيتك ، وليست بأسماء مضمرة ، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون ، وأما ما
حكاه الخليل عن بعض العرب : «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب» فشيء شاذ لا
يعوّل عليه ، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص ، كقوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ) ، (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِي رَبًّا). والمعنى نخصك بالعبادة ، ونخصك بطلب المعونة. وقرئ : إياك
بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء. قال طفيل
الغنوي :
فَهَيَّاكَ
والأَمْرَ الَّذِى إنْ تَرَاحَبَتْ
|
|
مَوَارِدُهُ
ضاقَتْ عليْكَ مَصادِرُهُ
|
والعبادة أقصى
غاية الخضوع والتذلل. ومنه ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج ،
ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً
بأقصى غاية الخضوع. فإن قلت : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت : هذا
يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن
الغيبة إلى التكلم ،
__________________
كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ). وقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ). وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات :
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ
بالإثْمدِ
|
|
ونَامَ
الخَلِىُّ ولَم تَرْقُدِ
|
وبَاتَ وباتَتْ
لهُ لَيْلةٌ
|
|
كلَيْلةِ ذِى
العائرِ الأرْمَدِ
|
وذلِكَ مِنْ
نَبَإ جَاءَنى
|
|
وخُبِّرْتُهُ عن
أَبى الأَسْوَدِ
|
وذلك على عادة
افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه ، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان
ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ،
وقد تختص مواقعه بفوائد. ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد ،
وأجرى عليه تلك الصفات العظام ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية
الخضوع والاستعانة في المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات ، فقيل :
إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، لا نعبد غيرك ولا نستعينه ، ليكون
الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. فإن قلت :
لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟ قلت : ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين
ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته. فإن قلت : فلم قدّمت العبادة على الاستعانة؟ قلت : لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة
__________________
ليستوجبوا الإجابة
إليها. فإن قلت : لم أطلقت الاستعانة؟ قلت : ليتناول كل مستعان فيه ، والأحسن أن
تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ، ويكون قوله : (اهْدِنَا) بيانا للمطلوب من المعونة ، كأنه قيل : كيف أعينكم؟ فقالوا
: اهدنا الصراط المستقيم ، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.
وقرأ ابن حبيش : نستعين ، بكسر النون.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
(٦)
هدى أصله أن يتعدى
باللام أو بإلى ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، فعومل معاملة ـ اختار ـ في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ). ومعنى طلب الهداية ـ وهم مهتدون ـ طلب زيادة الهدى بمنح
الإلطاف ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
زادَهُمْ هُدىً) ، (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا). وعن على وأبىّ رضى الله عنهما : اهدنا ثبتنا ، وصيغة
الأمر والدعاء واحدة ، لأنّ كل واحد منهما طلب ، وإنما يتفاوتان في الرتبة. وقرأ
عبد الله : أرشدنا.
(السراط) الجادّة
، من سرط الشيء إذا ابتلعه ، لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه ، كما سمى : لقما ،
لأنه يلتقمهم. والصراط من قلب السين صاداً لأجل الطاء ، كقوله : مصيطر ، في مسيطر
، وقد تشم الصاد صوت الزاى ، وقرئ بهنّ جميعا ، وفصاحهنّ إخلاص الصاد ، وهي لغة
قريش وهي الثابتة في الإمام ، ويجمع سرطا ، نحو كتاب وكتب ، ويذكر ويؤنث كالطريق
والسبيل ، والمراد طريق الحق وهو ملة الإسلام.
(صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)(٧)
(صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بدل من الصراط المستقيم ، وهو في حكم تكرير العامل ، كأنه
قيل : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) ، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، كما قال : (الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) لمن آمن منهم. فإن قلت : ما فائدة البدل؟ وهلا قيل اهدنا
صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت : فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير ،
والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره :
__________________
صراط المسلمين ؛
ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده ، كما تقول : هل
أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان ؛ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من
قولك : هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل ، لأنك ثنيت ذكره مجملا أوّلا ، ومفصلا
ثانيا ، وأوقعت فلانا تفسيراً وإيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل
، فكأنك قلت : من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان ، فهو المشخص المعين
لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع. والذين أنعمت عليهم : هم المؤمنون ، وأطلق
الإنعام ليشمل كل إنعام ؛ لأنّ من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته
واشتملت عليه. وعن ابن عباس : هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا ، وقيل هم الأنبياء.
وقرأ ابن مسعود : (صراط من أنعمت عليهم)
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) بدل من الذين أنعمت عليهم ، على معنى أنّ المنعم عليهم :
هم الذين سلموا من غضب الله والضلال ، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة
المطلقة وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من غضب الله والضلال. فإن قلت : كيف صح
أن يقع (غير) صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) لا توقيت فيه كقوله :
وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنى
__________________
ولأنّ المغضوب
عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم ، فليس في ـ غير ـ إذاً الإبهام الذي يأبى عليه
أن يتعرّف ، وقرئ بالنصب على الحال وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر
بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير. وذو الحال الضمير في عليهم ، والعامل أنعمت ، وقيل
المغضوب عليهم : هم اليهود ؛ لقوله عز وجل : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ
وَغَضِبَ عَلَيْهِ). والضالون : هم النصارى ؛ لقوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ). فإن قلت : ما معنى غضب الله؟ قلت : هو إرادة الانتقام من العصاة ، وإنزال العقوبة بهم ، وأن يفعل بهم ما يفعله
الملك إذا غضب على من تحت يده ـ نعوذ بالله من غضبه ، ونسأله رضاه ورحمته. فإن قلت
: أى فرق بين (عليهم) الأولى و (عليهم) الثانية؟ قلت : الأولى محلها النصب على
المفعولية ، والثانية محلها الرفع على الفاعلية. فإن قلت : لم دخلت (لَا) في (وَلَا الضَّالِّينَ)؟ قلت : لما في ـ غير ـ من معنى النفي ، كأنه قيل : لا
المغضوب عليهم ولا الضالين. وتقول : أنا زيداً غير ضارب ، مع امتناع قولك : أنا
زيداً مثل ضارب ؛ لأنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب. وعن عمر وعلى رضى الله
عنهما أنهما قرءا : وغير الضالين. وقرأ أيوب السختياني : ولا الضألين ـ بالهمز ،
كما قرأ عمرو بن عبيد : (ولا جأن) وهذه لغة من جدّ في الهرب من التقاء الساكنين.
ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم : شأبة ، ودأبة. آمين : صوت سمى به الفعل الذي هو
استجب ، كما أنّ «رويد ، وحيهل ، وهلم» أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل ،
وأسرع ، وأقبل». وعن ابن عباس : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين فقال : «افعل» وفيه لغتان : مدّ ألفه ، وقصرها. قال :
وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قالَ آمِينَا
__________________
وقال :
أَمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْننَا بُعْدَا
وعن النبي صلى
الله عليه وسلم : «لقني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب وقال : إنه كالختم على الكتاب» ، وليس من القرآن بدليل أنه
لم يثبت في المصاحف. وعن الحسن : لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبى حنيفة
رحمه الله مثله ، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيها. وروى الإخفاء عبد الله بن
مغفل وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعند الشافعي يجهر بها. وعن وائل بن حجر أنّ النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا قرأ : ولا الضالين ، قال آمين ورفع بها صوته . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________________
أنه قال لأبىّ بن
كعب : «ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : «فاتحة الكتاب إنها السبع
المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وعن حذيفة بن اليمان أنّ النبي صلى الله عليه
وسلم قال : «إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبّى من صبيانهم في الكتاب (الحمد لله رب العالمين)
فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة»
سورة البقرة
مدنية ، وهي مائتان
وست وثمانون آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم)(١)
(الم) اعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء ، مسمياتها الحروف
المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، فقولك ـ ضاد ـ اسم سمى به «ضه» من ضرب إذا تهجيته
، وكذلك : را ، با : اسمان لقولك : ره ، به ؛ وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة ،
وهي أن المسميات لما كانت ألفاظا كأساميها وهي حروف وحدان والأسامى عدد حروفها
مرتق إلى الثلاثة ، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية
__________________
على المسمى فلم
يغفلوها ، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى ، إلا الألف فإنهم استعاروا
الهمزة مكان مسماها ؛ لأنه لا يكون إلا ساكنا. ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة
على المعنى : التهليل ، والحولقة ، والحيعلة ، والبسملة ؛ وحكمها ـ ما لم تلهها
العوامل ـ أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد ، فيقال : ألف لام ميم ،
كما يقال : واحد اثنان ثلاثة ؛ فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب. تقول : هذه
ألف ، وكتبت ألفاً ، ونظرت إلى ألف ؛ وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب ، قبل
أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها ، فحقك أن تلفظ به موقوفا. ألا ترى
أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناسا مختلفة ليرفع حسبانها ، كيف تصنع وكيف
تلقيها أغفالا من سمة الإعراب؟ فتقول : دار ، غلام ، جارية ، ثوب ، بساط. ولو
أعربت ركبت شططا. فإن قلت : لم قضيت لهذه الألفاظ بالاسمية؟ وهلا زعمت أنها حروف
كما وقع في عبارات المتقدّمين؟ قلت : قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير
حروف ، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح ، وقد وجدناهم متسامحين في تسمية
كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف ، مستعملين
الحرف في معنى الكلمة ، وذلك أن قولك : «ألف» دلالته على أوسط حروف «قال ، وقام»
دلالة «فرس» على الحيوان المخصوص ، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين.
ألا ترى أنّ الحرف : ما دلّ على معنى في غيره ، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه
؛ ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك : با ، تا. وبالتفخيم كقولك : يا ، ها.
وبالتعريف ، والتنكير ، والجمع والتصغير ، والوصف ، والإسناد ، والإضافة ، وجميع
ما للأسماء المتصرفة. ثم إنى عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك. قال سيبويه : قال
الخليل يوما ـ وسأل أصحابه ـ : كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك ، والباء التي في ضرب؟ فقيل : نقول : باء ، كاف
؛ فقال : إنما جئتم بالاسم ، ولم تلفظوا بالحرف ، وقال : أقول : كه ، به. وذكر أبو
على في كتاب الحجة في : (يس) : وإمالة يا ، أنهم قالوا : يا زيد ، في النداء ؛
فأمالوا وإن كان حرفا ، قال : فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل
الياء ، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يس أجدر.
__________________
ألا ترى أنّ هذه
الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت : من أى قبيل هي من الأسماء ، أمعربة أم مبنية؟
قلت : بل هي أسماء معربة ، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا
يمسها إعراب لفقد مقتضية وموجبه. والدليل على أنّ سكونها وقف وليس ببناء : أنها لو
بنيت لحذى بها حذو : كيف ، وأين ، وهؤلاء. ولم يقل : ص ، ق ، ن مجموعا فيها بين
الساكنين. فإن قلت : فلم لفظ المتهجى بما آخره ألف منها مقصورا ، فلما أعرب مدّ
فقال هذه باء ، وياء ، وهاء ؛ وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا» مقصورة ؛ فإذا
جعلتها اسما مددت فقلت : كتبت لاء؟ قلت : هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل ؛
والسبب في أن قصرت متهجاة ، ومدّت حين مسها الإعراب : أنّ حال التهجي خليقة بالأخف
الأوجز ، واستعمالها فيه أكثر. فإن قلت : قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم ، وأنها
من قبيل المعربة ، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف ، فما وجه وقوعها على
هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت : فيه أوجه : أحدها وعليه إطباق الأكثر : أنها أسماء
السور. وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب «باب
أسماء السور» وهي في ذلك على ضربين : أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب ، نحو : كهيعص
، والمر. والثاني : ما يتأتى فيه الإعراب ، وهو إما أن يكون اسما فردا كص وق ون ،
أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد ك «حم وطس ويس ؛» فإنها موازنة لقابيل وهابيل
، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها ، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسماء
واحد ؛ كدارابجرد ؛ فالنوع الأول محكي ليس إلا ؛ وأما النوع الثاني فسائغ فيه
الأمران : الإعراب ، والحكاية ؛ قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح ابن أوفى
العبسي
__________________
يُذَكِّرُنِى
حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ
|
|
فَهَلَّا تَلَا
حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
|
فأعرب حاميم
ومنعها الصرف ، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها ؛ لاجتماع سببى منع الصرف فيها ، وهما
: العلمية ، والتأنيث. والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته
الأولى. كقولك : دعني من تمرتان ، وبدأت بالحمد لله ، وقرأت سورة أنزلناها. قال :
وَجَدْنا في
كِتَابِ بَنى تَمِيم
|
|
أَحَقُّ
الْخَيْلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ
|
__________________
وقال ذو الرّمّة :
سَمِعْتُ
النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً
|
|
فَقُلْتُ
لِصَيْدَح انْتَجِعى بِلَالا
|
وقال آخر :
تَنَادَوْا
بالرَّحِيلِ غَداً
|
|
وَفي
تَرْحَالِهمْ نَفْسِى
|
وروى منصوبا
ومجرورا. ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول : رأيت زيدا ، من زيداً؟ وقال
سيبويه : سمعت من العرب : لا من أين يافتى. فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ : ص ،
وق ، ون مفتوحات؟ قلت : الأوجه أن يقال : ذاك نصب وليس بفتح ، وإنما لم
يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت. وانتصابها بفعل مضمر. نحو : اذكر ؛ وقد
أجاز
__________________
سيبويه مثل ذلك في
: حم ، وطس ، ويس لو قرئ به. وحكى أبو سعيد السيرافي أنّ بعضهم قرأ : يس. ويجوز أن
يقال : حرّكت لالتقاء الساكنين ، كما قرأ من قرأ : (وَلَا الضَّالِّينَ). فإن قلت : هلا زعمت أنها مقسم بها؟ وأنها نصبت قولهم : نعم الله لأفعلن ، وآي الله لأفعلن ،
على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم؟ وقال ذو الرمة :
أَلَا رُبَّ مَنْ قَلْبى لَهُ اللهَ نَاصِح
وقال آخر :
فَذَاكَ أَمَانَةُ اللهِ الثَّرِيدُ ؟
__________________
«ما»
زائده. وأدم يأدم كضرب يضرب ، إذا وفق وأصلح ، وكذلك آدم بمد الهمزة ، فتأدمه :
تصلحه ـ
قلت : إنّ القرآن
والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما ، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد
وقد استكرهوا ذلك. قال الخليل في قوله عزّ وجلّ : (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) : الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان
اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة
الباء والتاء. قال سيبويه : قلت للخليل : فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟
فقال : إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء ، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز
أن يستعمل كلاما آخر ، فيكون كقولك بالله لأفعلنّ ، بالله لأخرجنّ اليوم. ولا يقوى
أن تقول : وحقك وحق زيد لأفعلنّ. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرها قال
: وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ ؛ فثم هاهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن
بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف ؛ لمخالفة الثاني الأول في الإعراب. فان قلت :
فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها ، فقد جاء عنهم : الله لأفعلن
مجرورا ، ونظيره قولهم : لاه أبوك ؛ غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة
، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه. قلت : هذا لا يبعد
عن الصواب ، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال : أقسم الله بهذه
الحروف .
فإن قلت : فما وجه
قراءة بعضهم ص وق بالكسر ؟ قلت : وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين ، والذي
يبسط من عذر المحرّك : أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامى ، شاكلت لذلك ما اجتمع في
آخره ساكنان من المبنيات ، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء». فإن
قلت : هل تسوّغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في
__________________
المعربة من إرادة معنى القسم؟ قلت : لا عليك في ذلك ، وأن تقدّر
حرف القسم مضمراً في نحو قوله عز وجل : (حم وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ) ، كأنه قيل : أقسم بهذه السورة ، وبالكتاب المبين : إنا
جعلناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم «حم لا يبصرون» فيصلح أن يقضى له بالجرّ والنصب جميعاً على حذف الجار
وإضماره. فان قلت : فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ قلت : كأن المعنى في
ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ
، كما قال عز من قائل : (قُرْآناً عَرَبِيًّا). فان قلت : فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها ، لا على صور أساميها؟ قلت : لأنّ الكلم لما كانت
مركبة من ذوات الحروف ، واستمرّت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب : اكتب كيت
وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها ، عمل على تلك الشاكلة
المألوفة في كتابة هذه الفواتح. وأيضاً فإن شهرة أمرها ، وإقامة ألسن الأسود
والأحمر لها ،
__________________
وأنّ اللافظ بها
غير متهجاة لا يحلى بطائل منها وأنّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده :
أمنت وقوع اللبس فيها : وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بنى
عليها علم الخط والهجاء ؛ ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان ؛ لاستقامة اللفظ وبقاء
الحفظ ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد الله بن درستويه في كتابه :
المترجم بكتاب الكتاب المتمم : في الخط والهجاء خطان لا يقاسان : خط المصحف ، لأنه
سنة ، وخط العروض ؛ لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه. الوجه
الثاني : أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه ؛
وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين
ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه ،
ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة ، وهم أمراء
الكلام وزعماء الحوار ، وهم الحرّاص على التساجل في اقتصاب الخطب ، والمتهالكون على الافتنان في القصيد
والرجز ، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق ، وشقت غبار كل سابق ، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من
قوى الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء ؛ إلا لأنه ليس بكلام البشر ،
وأنه كلام خالق القوى والقدر. وهذا
__________________
القول من القوة
والخلاقة بالقبول بمنزل ، ولناصره على الأوّل أن يقول : إن القرآن إنما نزل بلسان
العرب مصبوبا في أساليبهم واستعمالاتهم ، والعرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة
وخمسة ، والقول بأنها أسماء السور حقيقة : يخرج إلى ما ليس في لغة العرب ، ويؤدّى
أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً. فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه
الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه ، أجابك بأن له محملا سوى ما يذهب إليه ، وأنه نظير
قول الناس : فلان يروى : قفا نبك ، وعفت الديار. ويقول الرجل لصاحبه : ما قرأت؟
فيقول (الحمد لله) و (براءة من الله ورسوله) و (يوصيكم الله في أولادكم) و (الله
نور السماوات والأرض). وليست هذه الجمل بأسامى هذه القصائد وهذه السور والآي ،
وإنما تعنى رواية القصيدة التي ذاك استهلالها ، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك
فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية ، واستفيد منها ما يستفاد من
التسمية ، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على
الوجه الأول أن يقول : التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة لعمري وخروج عن كلام
العرب ، ولكن إذا جعلت اسما واحداً على طريقة حضر موت ، فأما غير مركبة منثورة نثر
أسماء العدد فلا استنكار فيها ؛ لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية ، كما
سموا : بتأبط شراً ، وبرق نحره ، وشاب قرناها. وكما لو سمى : بزيد منطلق ، أو بيت
شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر ، وبين التسمية
بطائفة من أسماء حروف المعجم ، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها
بفاتحتها ، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً ، لأنها تسمية مؤلف بمفرده ،
والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين
إليه ، كقولهم : صاد ، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً
والمسمى مفرداً. الوجه الثالث : أن ترد السور مصدرة بذلك ليكون أوّل ما يقرع
الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب ، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أنّ النطق
بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام : الأميون منهم وأهل الكتاب ، بخلاف
النطق بأسامى الحروف ، فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم ،
وكان مستغرباً مستبعداً من الأمى التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة ، كما قال عز
وجل : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ). فكان حكم النطق بذلك
__________________
ـ مع اشتهار أنه
لم يكن ممن اقتبس شيئا من أهله ـ حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن ، التي لم تكن
قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها ، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحى ،
وشاهد بصحة نبوته ، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد. واعلم أنك
إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء. وجدتها نصف أسامى
حروف المعجم أربعة عشر سواء ، وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد
، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ،
والقاف ، والنون ـ في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه
الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أن فيها من المهموسة
نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء. ومن المجهورة نصفها : الألف ،
واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ، والياء ، والنون. ومن
الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف. ومن الرخوة نصفها : اللام ،
والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ،
__________________
والياء ، والنون.
ومن المطبقة نصفها : الصاد ، والطاء. ومن المنفتحة نصفها : الألف ، واللام ،
والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والياء
، والنون. ومن المستعلية نصفها : القاف ، والصاد ، والطاء. ومن المنخفضة نصفها :
الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والسين ،
والحاء ، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها : القاف ، والطاء. ثم إذا استقريت الكلم
وتراكيبها ، رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة
بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجله
ينزل منزلة كله. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته ، فكأن الله عز اسمه عدّد
على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم ، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم
وإلزام الحجة إياهم. ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم . أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم
هذه الفواتح مكرّرتين. وهي : فواتح سورة البقرة ، وآل عمران ، والروم ، والعنكبوت
ولقمان ، والسجدة ، والأعراف ، والرعد ، ويونس ، وإبراهيم ، وهود ، ويوسف ،
والحجر. فان قلت : فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن؟ ومالها جاءت مفرقة على
السور؟ قلت : لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير ، وتجديده
في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة
، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره.
فان قلت : فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على
حرف ، وطه وطس ويس وحم على حرفين ، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف ، والمص والمر
على أربعة أحرف ،
__________________
وكهيعص وحم عسق
على خمسة أحرف؟ قلت : هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام ، وتصرفهم فيه على
طرق شتى ومذاهب متنوّعة. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم
تتجاوز ذلك ، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك. فإن قلت : فما وجه اختصاص كل سورة
بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت : إذا كان الغرض هو التنبيه ـ والمبادي كلها في
تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة ـ كان تطلب وجه الاختصاص ساقطا ، كما إذا سمى
الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً ، لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك
بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك ؛ ولذلك لا يقال : لم سمى هذا
الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟ ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه
القعود؟ فإن قلت : ما بالهم عدوّا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت : هذا علم
توقيفى لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور. أمّا الم فآية حيث وقعت من السور
المفتتحة بها. وهي ست. وكذلك المص آية ، والمر لم تعدّ آية ، والر ليست بآية في
سورها الخمس ، وطسم آية في سورتيها ، وطه ويس آيتان ، وطس ليست بآية ، وحم آية في
سورها كلها ، وحم عسق آيتان ، وكهيعص آية واحدة ، وص وق ون ثلاثتها لم تعدّ آية.
هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم ، لم يعدّوا شيئا منها آية. فإن قلت : فكيف عدّ ما هو
في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت : كما عدّ الرحمن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على
طريق التوقيف. فإن قلت : ما حكمها في باب الوقف؟ قلت : يوقف على جميعها وقف التمام
إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده ، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور
ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلا : (الم اللهُ) أى هذه الم ثم ابتدأ فقال (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ). فإن قلت : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ قلت : نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده
كسائر الأسماء الأعلام. فإن قلت : ما محلها؟ قلت : يحتمل الأوجه الثلاثة ، أما
الرفع : فعلى الابتداء ، وأما النصب والجرّ ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها
بمنزلة الله والله على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور ، لم يتصوّر أن يكون
لها محل في مذهبه ، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدّدة.
__________________
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ
(٢)
فإن قلت : لم صحت
الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ قلت : وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى ،
والمتقضى في حكم المتباعد ، وهذا في كل كلام. يحدّث الرجل بحديث ثم يقول : وذلك ما
لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول : فذلك كذا وكذا. وقال الله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ
ذلِكَ). وقال : (ذلِكُما مِمَّا
عَلَّمَنِي رَبِّي) ، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه ، وقع في حد
البعد ، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا : احتفظ بذلك. وقيل معناه : ذلك الكتاب
الذي وعدوا به. فإن قلت : لم ذكر اسم الإشارة ـ والمشار إليه مؤنث وهو السورة ـ؟ قلت : لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته
خبره ، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه ، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير ، كما
أجرى عليه في التأنيث في قولهم : من كانت أمّك. وإن جعلته صفته ، فإنما أشير به
إلى الكتاب صريحاً ؛ لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول : هند
ذلك الإنسان ، أو ذلك الشخص فعل كذا. وقال الذبياني :
نُبِّئْتُ
نُعْمَى على الهِجْرانِ عاتِبةً
|
|
سُقْيَا
ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِى
|
__________________
فإن قلت : أخبرنى
عن تأليف (ذلِكَ الْكِتابُ) مع (الم). قلت : إن جعلت (الم) اسما للسورة ففي التأليف وجوه : أن يكون (الم) مبتدأ ، و (ذلِكَ). مبتدأ ثانيا ، و (الْكِتابُ) خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. ومعناه : أنّ ذلك
الكتاب هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وأنه الذي
يستأهل أن يسمى كتابا ، كما تقول : هو الرجل ، أى الكامل في الرجولية ، الجامع لما
يكون في الرجال من مرضيات الخصال. وكما قال :
هُمّ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ
وأن يكون الكتاب
صفة. ومعناه : هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون (الم) خبر مبتدإ محذوف ، أى هذه الم ، ويكون ذلك خبرا ثانيا أو
بدلا ، على أن الكتاب صفة ، وأن يكون : هذه الم جملة ، وذلك الكتاب جملة أخرى. وإن
جعلت الم بمنزلة الصوت ، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب ، أى ذلك الكتاب المنزل هو
الكتاب الكامل. أو الكتاب صفة والخبر ما بعده ، أو قدّر مبتدأ محذوف ، أى هو ـ يعنى
المؤلف من هذه الحروف ـ ذلك الكتاب. وقرأ عبد الله : الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه.
وتأليف هذا ظاهر.
__________________
والريب : مصدر
رابنى ، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة : قلق النفس واضطرابها.
ومنه ما روى الحسن
بن على قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك فإن الشك ريبة ، وإنّ الصدق طمأنينة» أى فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق
له النفس ولا تستقرّ. وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن. ومنه : ريب الزمان ،
وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. ومنه أنه مر بظبي حاقف فقال : «لا يربه أحد بشيء . فإن قلت : كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ وكم من
مرتاب فيه؟ قلت : ما نفى أنّ أحدا لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له ؛ لأنه من وضوح
الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى :
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، فما أبعد وجود الريب منهم؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل
الريب ، وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة ، هل تتم للمعارضة أم
تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة. فإن
قلت : فهلا قدّم الظرف على الريب ، كما قدّم على الغول في قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ)؟ قلت : لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي ، نفى الريب
عنه ، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب ، كما كان المشركون يدّعونه ، ولو أولى
الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد ، وهو أنّ كتابا آخر فيه الريب لا فيه ، كما قصد
في قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول
كما تغتالها هي ، كأنه قيل : ليس فيها
__________________
ما في غيرها من
هذا العيب والنقيصة : وقرأ أبو الشعثاء : (لا ريب فيه) بالرفع : والفرق بينها وبين
المشهورة ، أنّ المشهورة توجب الاستغراق ، وهذه تجوّزه. والوقف على : (فِيهِ) هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على : (لا رَيْبَ) ولا بد للواقف من أن ينوى خبرا. ونظيره قوله تعالى : (قالُوا لا ضَيْرَ) ، وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز. والتقدير
: لا ريب فيه.
(فِيهِ هُدىً) الهدى مصدر على فعل ، كالسرى والبكى ، وهو الدلالة الموصلة
إلى البغية ، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال الله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدى). وقال تعالى : (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). ويقال : مهدى ، في موضع المدح كمهتد ؛ ولأن اهتدى مطلوع
هدى ـ ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ـ ألا ترى إلى نحو : غمه فاغتم ، وكسره
فانكسر ، وأشباه ذلك : فإن قلت : فلم قيل : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والمتقون مهتدون؟ قلت : هو كقولك للعزيز المكرم : أعزك الله وأكرمك ، تريد
طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته ، كقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ). ووجه آخر ، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس
التقوى : متقين ، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه» وعن ابن عباس : «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض
المريض وتضل الضالة ، وتكتفّ الحاجة» فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال :
__________________
قتيلا ومريضاً
وضالا. ومنه قوله تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا
فاجِراً كَفَّاراً) ، أى صائراً إلى الفجور والكفر. فإن قلت : فهلا قيل هدى
للضالين؟ قلت : لأن الضالين فريقان : فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على
قلوبهم ، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى ؛ فلا يكون هدى للفريق الباقين على
الضلالة ، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل : هدى
للصائرين إلى الهدى بعد الضلال ، فاختصر الكلام باجرائه على الطريقة التي ذكرنا ،
فقيل : هدى للمتقين. وأيضاً فقد جعل ذلك سلما إلى تصدير السورة التي هي أولى
الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني ، بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده.
والمتقى في اللغة
اسم فاعل ، من قولهم : وقاه فاتقى. والوقاية : فرط الصيانة. ومنه : فرس واق ، وهذه
الدابة تقى من وجاها ، إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى
شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو
ترك. واختلف في الصغائر وقيل الصحيح أنه لا يتناولها ، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب
الكبائر. وقيل : يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال ، والمتقى لا يطلق إلا عن
خبرة ، كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر.
ومحل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الرفع ، لأنه خبر مبتدإ محذوف ، أو خبر مع (لا رَيْبَ فِيهِ) لذلك ، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه. ويجوز
أن ينصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف. والذي هو أرسخ عرقا في
البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً ، وأن يقال إن قوله : (الم) جملة برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية. و (لا رَيْبَ فِيهِ) ثالثة. و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) رابعة.
__________________
وقد أصيب بترتيبها
مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق ، وذلك
لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم
جراً إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدّى به ،
ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدي ،
وشدّاً من أعضاده. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلا
بكماله ، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة.
وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحا ، وفي شبهة تتضاءل
افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك
حوله ، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من
الأربع ، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا النظم السرى ، من نكتة ذات
جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في
التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف.
ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً. والإيجاز في
ذكر المتقين.
زادنا الله اطلاعا
على أسرار كلامه ، وتبيينا لنكت تنزيله ، وتوفيقاً للعمل بما فيه.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
(٣)
(الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ) إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة ، أو مدح منصوب ،
أو مرفوع بتقدير : أعنى الذين يؤمنون ، أو هم الذين يؤمنون. وإما مقتطع عن المتقين
مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب (أُولئِكَ عَلى هُدىً). فإذا كان موصولا ، كان الوقف على المتقين حسناً غير تامّ.
وإذا كان مقتطعاً ، كان وقفاً تاما. فإن قلت : ما هذه الصفة ، أواردة بيانا وكشفا
للمتقين؟ أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء
كصفات الله الجارية عليه تمجيداً؟ قلت : يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف
لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات. أمّا الفعل
فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها ، وذكر الصلاة والصدقة ؛
لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية ، وهما العيار على غيرهما. ألم تر كيف
سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة عماد الدين ، وجعل الفاصل بين الإسلام
والكفر ترك الصلاة؟ وسمى الزكاة قنطرة
الإسلام؟ وقال الله تعالى : (وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ). فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر
العبادات واستتباعها. ومن ثم اختصر الكلام اختصاراً ، بأن استغنى عن عدّ الطاعات
بذكر ما هو كالعنوان لها ، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به ، مع ما في
ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين. وأما الترك فكذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى
: (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)؟ ويحتمل أن لا تكون بيانا للمتقين ، وتكون صفة برأسها دالة
على فعل الطاعات ، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي. ويحتمل أن تكون مدحا
للموصوفين بالتقوى ، وتخصيصاً للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر ؛
إظهاراً لإنافتها على سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات
والإيمان : إفعال
من الأمن. يقال : أمنته وآمنته غيرى. ثم يقال : آمنه إذا صدّقه. وحقيقته : آمنه
التكذيب والمخالفة. وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف. وأمّا ما حكى
أبو زيد عن العرب : ما آمنت أن أجد صحابة ـ أى ما وثقت ـ فحقيقته : صرت ذا أمن به
، أى ذا سكون وطمأنينة ، وكلا الوجهين حسن في (يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ) أى يعترفون به أو يثقون بأنه حق. ويجوز أن لا يكون (بالغيب)
صلة للإيمان ، وأن يكون في موضع الحال ، أى يؤمنون غائبين عن المؤمن به. وحقيقته :
ملتبسين بالغيب ، كقوله : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ، (لِيَعْلَمَ أَنِّي
لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). ويعضده ما روى «أن أصحاب عبد الله ذكروا أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وإيمانهم ، فقال ابن مسعود : إنّ أمر محمد كان بيناً لمن
رآه. والذي لا إله غيره ، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية. فإن
قلت : فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالا؟ قلت : إن جعلته صلة كان
بمعنى
__________________
الغائب ، إمّا
تسمية بالمصدر من قولك. غاب الشيء غيبا ، كما سمى الشاهد بالشهادة. قال الله تعالى
: (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ). والعرب تسمى المطمئن من الأرض غيباً. وعن النضر بن شميل :
شربت الإبل حتى وارت غيوب كلاها. يريد بالغيب : الخمصة التي تكون في موضع الكلية ،
إذا بطنت الدابة انتفخت. وإما أن يكون فيعلا فخفف ، كما قيل «قيل» وأصله : قيل :
والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير ، وإنما نعلم منه
نحن ما أعلمناه ، أو نصب لنا دليلا عليه. ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال : فلان يعلم
الغيب. وذلك نحو الصانع وصفاته ، والنبوّات وما يتعلق بها ، والبعث والنشور
والحساب والوعد والوعيد ، وغير ذلك. وإن جعلته حالا كان بمعنى الغيبة والخفاء ،
فإن قلت : ما الإيمان الصحيح؟ قلت : أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ، ويصدّقه بعمله.
فمن أخل بالاعناد ـ وإن شهد وعمل ـ فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل
بالعمل فهو فاسق.
ومعنى إقامة
الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها ، من أقام
العود ـ إذا قوّمه ـ أو الدوام عليها والمحافظة عليها ، كما قال عز وعلا : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
دائِمُونَ) ، (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) من قامت السوق إذا نفقت ، وأقامها. قال :
__________________
أَقَامَتْ
غَزَالةُ سُوقَ الضِّرَابِ
|
|
لِأَهْلِ
العِرَاقيْنِ حَولاً قَمِيطاً
|
لأنها إذا حوفظ
عليها ، كانت كالشىء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون. وإذا
عطلت وأضيعت ، كانت كالشىء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو التجلد والتشمر لأدائها.
وأن لا يكون في مؤدّيها فتور عنها ولا توان ، من قولهم : قام بالأمر ، وقامت الحرب
على ساقها. وفي ضدّه : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه ـ إذا تقاعس وتثبط ـ أو أداؤها ،
فعبر عن الأداء بالإقامة ؛ لأنّ القيام بعض أركانها ، كما عبر عنه بالقنوت ـ والقنوت
القيام ـ وبالركوع وبالسجود. وقالوا : سبح ، إذا صلى ؛ لوجود التسبيح فيها. (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ).
والصلاة : فعلة من
صلى ، كالزكاة من زكى. وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى : حرّك الصلوين
؛ لأن المصلى يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى
عند تعظيم صاحبه ؛ لأنه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان. وقيل للداعي : مصلّ ، تشبيها في تخشعه
بالراكع والساجد.
وإسناد الرزق إلى
نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله ، ويسمى رزقا منه.
وأدخل من التبعيضة صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه. وقدّم مفعول
الفعل دلالة على كونه أهم ، كأنه قال : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به.
وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة ، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة
__________________
وأن تراد هي
وغيرها من النفقات في سبل الخير ، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق. وأنفق
الشيء وأنفده أخوان. وعن يعقوب : نفق الشيء ، ونفد واحد. وكل ما جاء مما فاؤه نون
وعينه فاء ، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت.
(وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ)(٤)
فإن قلت : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون؟ وإنما وسط العاطف كما
يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد ، وفي قوله :
إلَى المَلِكِ
الْقَرْمِ وَابْنِ الْهمامِ
|
|
وَلَيْثِ
الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحمْ
|
وقوله :
يَا لَهْفَ
زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ
|
|
الصَّابِحِ
فالغَانِم فَالْآيِبِ؟
|
قلت : يحتمل أن
يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا ، فاشتمل
إيمانهم على كل وحى أنزل من عند الله ، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا
عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا
أياما
__________________
معدودات ،
واجتماعهم على الإقرار بالنشأة الأخرى وإعادة الأرواح في الأجساد ، ثم افتراقهم
فرقتين : منهم من قال : تجرى حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب
مجراها في الدنيا ؛ ودفعه آخرون فزعموا أن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من
أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل ، وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون
إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ والفرح والسرور ، واختلافهم في الدوام
والانقطاع ، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه. ويحتمل أن يراد وصف الأوّلين. ووسط
العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه. فإن قلت : فإن أريد بهؤلاء
غير أولئك ، فهل يدخلون في جملة المتقين أم لا؟. قلت : إن عطفتهم على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) دخلوا وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين من مؤمنى أهل
الكتاب وغيرهم. وإن عطفتهم على (لِلْمُتَّقِينَ) لم يدخلوا. وكأنه قيل : هدى للمتقين ، وهدى للذين يؤمنون
بما أنزل إليك. فإن قلت : قوله (بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، فلم يكن ذلك
منزلا وقت إيمانهم ، فكيف قيل أنزل بلفظ المضىّ؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله
وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه
واجب. قلت : المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضىّ وإن كان بعضه مترقباً ،
تغليبا للموجود على ما لم يوجد ، كما بغلب المتكلم على المخاطب ، والمخاطب على
الغائب فيقال : أنا وأنت فعلنا ، وأنت وزيد تفعلان. ولأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه
منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله ، ويدل عليه قوله تعالى : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ
بَعْدِ مُوسى) ولم يسمعوا جميع الكتاب ، ولا كان كله منزلا ، ولكن سبيله
سبيل ما ذكرنا. ونظيره قولك : كل ما خطب به فلان فهو فصيح ، وما تكلم بشيء إلا وهو
نادر. ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي ، لكونه معقوداً بعضه ببعض ،
ومربوطا آتيه بماضيه. وقرأ يزيد بن قطيب (بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) على لفظ ما سمى فاعله. وفي تقديم (بِالْآخِرَةِ) وبناء (يُوقِنُونَ) على : (هُمْ) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة
على خلاف حقيقته ، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما
أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والإيقان : إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. و (بِالْآخِرَةِ) تأنيث الآخر الذي هو
__________________
نقيض الأوّل ، وهي
صفة الدار بدليل قوله : (تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ) وهي من الصفات الغالبة ، وكذلك الدنيا. وعن نافع أنه خففها
بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام ، كقوله (دَابَّةُ الْأَرْضِ) وقرأ أبو حية النميري (يوقنون) بالهمز ، جعل الضمة في جار الواو كأنها
فيه ، فقلبها قلب واو «وجوه» و «وقتت». ونحوه :
لَحُبَّ
المُؤْقِدَانِ إلَىَّ مُؤْسَى
|
|
وَجَعدَةُ إذْ
أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ
|
(أُولئِكَ
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)
(أُولئِكَ عَلى هُدىً) الجملة في محل الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ ؛
وإلا فلا محلّ لها. ونظم الكلام على الوجهين : أنك إذا نويت الابتداء بالذين
يؤمنون بالغيب ، فقد ذهبت به مذهب الاستئناف. وذلك أنه لما قيل : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) واختصّ المتقون بأنّ الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل
فيقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله : (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدّر. وجيء بصفة
المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم ، ويفعل
بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم ، أى الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم ، أحقاء
بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح. ونظيره
__________________
قولك : أحبّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه ، وكشفوا الكرب عن وجهه ،
أولئك أهل للمحبة. وإن جعلته تابعاً للمتقين ، وقع الاستئناف على أولئك ؛ كأنه قيل
: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين ، غير
مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا ، وبالفلاح آجلا. واعلم أنّ هذا النوع من
الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث ، كقولك : قد أحسنت إلى زيد
، زيد حقيق بالإحسان. وتارة بإعادة صفته ، كقولك : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل
لذلك منك ؛ فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ ، لانطوائها على بيان الموجب
وتلخيصه. فإن قلت : هل يجوز أن يجرى الموصول الأوّل على المتقين ، وأن يرتفع
الثاني على الابتداء وأولئك خبره؟ قلت : نعم على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح
تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم
ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله. وفي اسم الإشارة الذي
هو (أولئك) إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال
التي عدّدت لهم ، كما قال حاتم : ولله صعلوك ثم عدّد له خصالا فاصلة ، ثم عقب
تعديدها بقوله :
فَذلِكَ إنْ
يَهْلِكْ فَحسْبى ثَنَاؤُهُ
|
|
وَإنْ عاشَ لَمْ
يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا
|
ومعنى الاستعلاء
في قوله : (عَلى هُدىً) مثل لتمكنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه ، وتمسكهم به.
شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه. ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل.
__________________
وقد صرّحوا بذلك
في قولهم : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى.
ومعنى (هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أى منحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو اللطف والتوفيق
الذي اعتضدوا به على أعمال الخير ، والترقي إلى الأفضل فالأفضل. ونكر (هدى) ليفيد
ضربا مبهماً لا يبلغ كنهه ، ولا يقادر قدره ؛ كأنه قيل : على أى هدى ، كما تقول :
لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. وقال الهذلي :
فَلَا وَأَبِى
الطّيْرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى
|
|
عَلى خالِدٍ
لَقدْ وَقَعْتِ على لَحَم
|
والنون في : (مِنْ رَبِّهِمْ) أدغمت بغنة وبغير غنة. فالكسائى ، وحمزة ، ويزيد ، وورش في
رواية والهاشمي عن ابن كثير لم يغنوها. وقد أغنها الباقون إلا أبا عمرو. فقد روى
عنه فيها روايتان.
وفي تكرير (أُولئِكَ) تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى ، فهي ثابتة
لهم بالفلاح ؛ فجعلت كلّ واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت
كفت مميزة على حيالها. فإن قلت :
لم جاء مع العاطف؟
وما الفرق بينه وبين قوله : (أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)؟ قلت : قد اختلف الخبران هاهنا فلذلك دخل العاطف ، بخلاف
الخبرين ثمة فإنهما متفقان ؛ لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيهم بالبهائم شيء واحد
، فكانت الجملة الثانية مقرّرة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل
__________________
و (رَبِّهِمْ) فصل : وفائدته : الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة ،
والتوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. أو هو مبتدأ
والمفلحون خبره ، والجملة خبر أولئك.
ومعنى التعريف في (الْمُفْلِحُونَ) : الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم
يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنسانا قد تاب من أهل بلدك ، فاستخبرت من هو؟
فقيل زيد التائب ، أى هو الذي أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين إن حصلت صفة
المفلحين وتحققوا ما هم ، وتصوّروا بصورتهم الحقيقية ، فهم هم لا يعدون تلك
الحقيقة. كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً
هو هو. فانظر كيف كرّر الله عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله
أحد على طرق شتى ، وهي : ذكر اسم الإشارة ، وتكريره ، وتعريف المفلحين ، وتوسيط
الفصل بينه وبين أولئك ؛ ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا ، وينشطك لتقديم
ما قدّموا ، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه
حكمته ولم تسبق به كلمته. اللهمّ زينا بلباس التقوى ، واحشرنا في زمرة من صدرت
بذكرهم سورة البقرة. والمفلح : الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم
تستغلق عليه. والمفلج ـ بالجيم ـ مثله. ومنه قولهم المطلقة : استفلحى بأمرك بالحاء
والجيم. والتركيب دال على معنى الشق والفتح ، وكذلك أخواته في الفاء والعين ، نحو
: فلق ، وفلذ ، وفلي.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ)(٦)
لما قدّم ذكر
أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده ، وبين أن الكتاب
هدى ولطف لهم خاصة ، قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة من الكفار الذين
لا ينفع فيهم الهدى ، ولا يجدى عليهم اللطف ، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه ،
وإنذار الرسول وسكوته. فإن قلت : لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف
كنحو قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت : ليس وزان هاتين القصتين وزان
ما ذكرت : لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى للمتقين ، وسيقت
الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب ،
وهما على حدّ لا مجال فيه للعاطف. فإن قلت : هذا إذا زعمت أن الذين يؤمنون جار على
المتقين ، فأمّا إذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين ، ثم عقبته بكلام آخر في
صفة أضدادهم ، كان
مثل تلك الآي
المتلوّة. قلت : قد مرّ لي أن الكلام المبتدأ عقيب المتقين سبيله الاستئناف ، وأنه
مبنىّ على تقدير سؤال ، فذلك إدراج له في حكم المتقين ، وتابع له في المعنى ؛ وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في الحقيقة
كالجارى عليه.
والتعريف في (الَّذِينَ كَفَرُوا) يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبى لهب
وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وأن يكون للجنس متناولا كلّ من صمم على
كفره تصميما لا يرعوى بعده وغيرهم ، ودل على تناوله للمصرين الحديث عنهم باستواء
الإنذار وتركه عليهم ، و (سَواءٌ) اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر. ومنه قوله
تعالى : (تَعالَوْا إِلى
كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) ، (فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإنّ ، و (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ) في موضع المرتفع به على الفاعلية ؛ كأنه قيل : إنّ الذين
كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. كما تقول : إنّ زيدا مختصم أخوه وابن عمه. أو يكون
أأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء ، وسواء خبراً مقدّما بمعنى : سواء عليهم
إنذارك وعدمه ، والجملة خبر لإنّ. فإن قلت : الفعل أبداً خبر لا مخبر عنه فكيف صحّ
الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت : هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى
جانب المعنى ، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بيناً ،
من ذلك قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب
اللبن ، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل. والهمزة وأم مجرّدتان
لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً. قال سيبويه : جرى
هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك : اللهمّ اغفر لنا أيتها
العصابة ، يعنى أنّ هذا جرى على صورة
__________________
الاستفهام ولا
استفهام ، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء استواؤهما في
علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن ، إمّا الإنذار وإمّا عدمه ،
ولكن لا بعينه ، فكلاهما معلوم بعلم غير معين. وقرئ : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) بتحقيق الهمزتين ، والتخفيف أعرب وأكثر ، وبتخفيف الثانية
بين بين ، وبتوسيط ألف بينهما محققتين ، وبتوسيطها والثانية بين بين ، وبحذف حرف
الاستفهام ، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله ، كما قرئ (قَدْ أَفْلَحَ). فإن قلت : ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً؟ قلت : هو
لاحن خارج عن كلام العرب خروجين : أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه ـ
وحدّه أن يكون الأوّل حرف لين والثاني حرفا مدغماً نحو قوله : الضالين ، وخويصة ؛ والثاني : إخطاء طريق التخفيف ؛ لأن طريق تخفيف الهمزة
المتحرّكة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين ؛ فأما القلب ألفاً فهو تخفيف الهمزة
الساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس. والإنذار : التخويف من عقاب الله بالزجر عن
المعاصي. فإن قلت : ما موقع (لا يُؤْمِنُونَ)؟ قلت : إمّا أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها ، أو خبراً
لإنّ والجملة قبلها اعتراض.
(خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) (٧)
الختم والكتم
أخوان ؛ لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل
إليه ولا يطلع عليه.
والغشاوة الغطاء
فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة. فإن
قلت : ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت : لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة ، وإنما هو من باب المجاز ، ويحتمل أن يكون
من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل. أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا
ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده
، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها
بالختم ، وأبصارهم لأنها لا تجتلى آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة كما
تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطى عليها وحجبت ، وحيل بينها وبين
الإدراك. وأمّا التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي
كلفوها وخلقوا من
__________________
أجلها بأشياء ضرب
حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية. وقد جعل بعض المازنيين الحبسة في
اللسان والعىّ ختما عليه فقال :
خَتَمَ الالهُ
عَلى لِسَانِ عُذَافِرٍ
|
|
خَتْماً فلَيْسَ
عَلى الكلامِ بقَادِرِ
|
وإذا أَرَادَ
النُّطْقَ خِلْتَ لِسَانَهُ
|
|
لَحْماً
يُحَرِّكُهُ لِصَقْرٍ نَاقِرِ
|
فإن قلت : فلم
أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل
__________________
إليه بطرقه وهو
قبيح والله تعالى عن فعل القبيح علوا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه. وقد نص على تنزيه
ذاته بقوله : (وَما أَنَا
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، (وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ، (إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت : القصد إلى صفة
القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل ، فلينبه على أنّ
هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشىء الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم
: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه ، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه. وكيف يتخيل
ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم ، ونيط
بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟ ويجوز أن تضرب الجملة كما هي ، وهي ختم الله على قلوبهم
مثلا كقولهم : سال به الوادي ، إذا هلك. وطارت به العنقاء ، إذا أطال الغيبة ،
وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في
__________________
طول غيبته ؛ وإنما
هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت
به العنقاء ؛ فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب
ختم الله عليها نحو قلوب الأغتام التي هي في خلوّها عن الفطن كقلوب البهائم ، أو بحال قلوب
البهائم أنفسها ، أو بحال قلوب مقدّر ختم الله عليها حتى لا تعبى شيئا ولا تفقه ،
وليس له عز وجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله ، وهو متعال عن ذلك.
ويجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير الله لله ، فيكون الختم مسنداً إلى اسم
الله على سبيل المجاز. وهو لغيره حقيقة. تفسير هذا : أنّ للفعل ملابسات شتى يلابس.
الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له ؛ فإسناده إلى الفاعل
حقيقة ، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة ؛ وذلك
لمضاهاتها للفاعل في ملابسة الفعل ، كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له
اسمه ، فيقال في المفعول به : عيشة راضية ، وماء دافق. وفي عكسه : سيل مفعم . وفي المصدر : شعر شاعر ، وذيل ذائل. وفي الزمان : نهاره
صائم. وليله قائم. وفي المكان : طريق سائر ، ونهر جار. وأهل مكة يقولون : صلى
المقام. وفي المسبب : بنى الأمير المدينة ، وناقة ضبوث وحلوب. وقال :
إذَا رَدَّ عَافِى الْقِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُها
__________________
فالشيطان هو
الخاتم في الحقيقة أو الكافر ، إلا أنّ الله سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه ،
أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب. ووجه رابع : وهو أنهم لما كانوا على
القطع والبت ممن لا يؤمن ولا تغنى عنهم الآيات والنذر ، ولا تجدى عليهم الألطاف
المحصلة ولا المقربة إن أعطوها ، لم يبق ـ بعد استحكام العلم بأنه لا طريق إلى أن
يؤمنوا طوعا واختياراً ـ طريق إلى إيمانهم إلا القسر والإلجاء ، وإذا لم تبق طريق
إلا أن يقسرهم الله ويلجئهم ثم لم يقسرهم ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف
، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم ، إشعاراً بأنهم الذين ترامى أمرهم في التصميم
على الكفر والإصرار عليه إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، وهي الغاية
القصوى في وصف لجاجهم في الغى واستشرائهم في الضلال والبغي. ووجه خامس : وهو أن
يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) ونظيره في الحكاية والتهكم قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). فإن قلت : اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم
الختم وفي حكم التغشية فعلى أيهما يعوّل؟ قلت : على دخولها في حكم الختم لقوله
تعالى : (وَخَتَمَ عَلى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. فإن قلت : أىّ فائدة في
تكرير الجارّ في قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ)؟ قلت : لو لم يكرّر لكان انتظاما للقلوب والأسماع في تعدية
واحدة ؛ وحين استجدّ للأسماع تعدية على حدة ، كان أدل على شدة الختم في الموضعين.
ووحد السمع كما وحد البطن في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يفعلون ذلك إذا أمن
اللبس. فإذا لم يؤمن كقولك : فرسهم ،
__________________
وثوبهم ، وأنت
تريد الجمع رفضوه. ولك أن تقول : السمع مصدر في أصله ، والمصادر لا تجمع. فلمح
الأصل يدل عليه جمع الأذن في قوله : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) وأن تقدّر مضافا محذوفا : أى وعلى حواس سمعهم. وقرأ ابن
أبى عبلة : وعلى أسماعهم. فإن قلت : هلا منع أبا عمرو والكسائي من إمالة أبصارهم
ما فيه من حرف الاستعلاء وهو الصاد؟ قلت : لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية ،
لما فيها من التكرير كأن فيها كسرتين ، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما
لا يمال. والبصر نور العين ، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات. كما أن
البصيرة نور القلب ، وهو ما به يستبصر ويتأمل. وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله
فيهما آلتين للإبصار والاستبصار.
وقرئ (غشاوة)
بالكسر والنصب. وغشاوة : بالضم والرفع. وغشاوة : بالفتح والنصب. وغشوة : بالكسر
والرفع. وغشوة : بالفتح والرفع والنصب. وعشاوة : بالعين غير المعجمة والرفع ، من
العشا.
والعذاب : مثل
النكال بناء ومعنى ؛ لأنك تقول : أعذب عن الشيء ، إذا أمسك عنه.
كما تقول : نكل
عنه. ومنه العذب ؛ لأنه يقمع العطش ويردعه ، بخلاف الملح فإنه يزيده.
ويدل عليه تسميتهم
إياه نقاخا ؛ لأنه ينقخ العطش أى يكسره. وفراتا ، لأنه يرفته على القلب. ثم اتسع
فيه فسمى كل ألم فادح عذابا ، وإن لم يكن نكالا ـ أى عقاباً يرتدع به الجاني عن
المعاودة.
والفرق بين العظيم
والكبير ، أن العظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، فكأن العظيم فوق الكبير
، كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً. تقول : رجل عظيم
وكبير ، تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما
يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ولهم من بين الآلام العظام نوع
عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.
اللهم أجرنا من
عذابك ولا تبلنا بسخطك يا واسع المغفرة.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(١٠)
افتتح سبحانه بذكر
الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ووافق سرهم علنهم وفعلهم قولهم.
ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً قلوبا وألسنة. ثم ثلث بالذين آمنوا
بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا وهم الذين قال فيهم : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ، لا إِلى
هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) وسماهم المنافقين ، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه
وأمقتهم عنده ؛ لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً ، وبالشرك استهزاء وخداعا.
ولذلك أنزل فيهم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ووصف حال الذين كفروا في آيتين ، وحال الذين نافقوا في
ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وفضحهم وسفههم ، واستجهلهم واستهزأ
بهم ، وتهكم بفعلهم ، وسجل بطغيانهم ، وعمههم ودعاهم صما بكما عمياً ، وضرب لهم
الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف
الجملة على الجملة.
وأصل (ناس) أناس ،
حذفت همزته تخفيفاً كما قيل : لوقة ، في ألوقة . وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد يقال الأناس.
ويشهد لأصله إنسان وأناس وأناسى وإنس.
وسموا لظهورهم
وأنهم يؤنسون أى يبصرون ، كما سمى الجنّ لاجتنانهم. ولذلك سموا بشراً. ووزن ناس
فعال ؛ لأن الزنة على الأصول. ألا تراك تقول في وزن «قه» افعل ، وليس معك إلا
العين وحدها؟ وهو من أسماء الجمع كرخال . وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان
ورويجل. ولام التعريف فيه للجنس. ويجوز أن تكون للعهد ، والإشارة إلى الذين كفروا
المارّ ذكرهم ؛ كأنه قيل : ومن هؤلاء من يقول. وهم عبد الله بن أبىّ وأصحابه ومن
كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق. ونظير موقعه موقع القوم في قولك : نزلت
ببني فلان فلم يقرونى والقوم لئام.
ومن في (مَنْ يَقُولُ) موصوفة ، كأنه قيل : ومن الناس ناس يقولون كذا ، كقوله (من
المؤمنين رجال) إن جعلت اللام للجنس. وإن جعلتها للعهد فموصولة ، كقوله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ). فإن قلت : كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم
على قلوبهم؟ قلت : الكفر جمع الفريقين معاً وصيرهم جنساً واحداً. وكون المنافقين
نوعا من نوعي هذا
__________________
الجنس ـ مغايراً
للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء ـ لا
يخرجهم من أن يكونوا بعضا من الجنس ؛ فإن الأجناس إنما تنوّعت لمغايرات وقعت بين
بعضها وبعض. وتلك المغايرات إنما تأتى بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية. فإن
قلت : لم اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؟ قلت : اختصاصهما
بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة ؛ لأن القوم كانوا يهوداً ،
وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان ، لقولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ). وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ، لأنهم يعتقدونه على خلاف
صفته ، فكان قولهم : (آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) خبثاً مضاعفاً وكفراً موجهاً ، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم
لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم ، فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه
النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم ، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي ، كان
خبثا إلى خبث ، وكفراً إلى كفر. وأيضا فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا
الإيمان من جانبيه ، واكتنفوه من قطريه ، وأحاطوا بأوّله وآخره.
وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن
قلت : كيف طابق قوله : (وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ) قولهم (آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني في ذكر شأن
الفاعل لا الفعل؟ قلت : القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه ، فسلك في ذلك طريق أدّى
إلى الغرض المطلوب. وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره ، وهو إخراج ذواتهم
وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين ، لما علم من حالهم المنافية لحال
الداخلين في الإيمان. وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة ، فقد انطوى
تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع.
ونحوه قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) هو أبلغ من قولك : وما يخرجون منها. فإن قلت : فلم جاء
الإيمان مطلقا في الثاني وهو مقيد في الأوّل؟ قلت : يحتمل أن يراد التقييد ويترك
لدلالة المذكور عليه ، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من
الإيمان بالله وباليوم الآخر ، ولا من الإيمان بغيرهما. فإن قلت : ما المراد باليوم
الآخر؟ قلت : يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا
ينقطع ، لتأخره عن الأوقات المنقضية. وأن يراد الوقت المحدود من
__________________
النشور إلى أن
يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا حدّ
للوقت بعده.
والخدع : أن يوهم
صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه. من قولهم : ضب خادع وخدع ، إذا أمر الحارش يده
على باب جحره أو همه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر. فإن قلت : كيف ذلك ومخادعة
الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم
الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا. ألا
نرى إلى قوله :
__________________
واسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كلَّ مُنْخدِعِ
وقول ذى الرمّة :
إنَّ الحَليمَ وذَا الإِسْلامِ يُخْتَلَبُ
فقد جاء النعت
بالانخداع ولم يأت بالخدع. قلت : فيه وجوه. أحدها : أن يقال كانت صورة صنعهم مع
الله حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون ، صورة صنع الخادعين. وصورة صنع الله معهم
ـ حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك
الأسفل من النار ـ صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا
أمر الله فيهم فأجروا أحكامهم عليهم. والثاني : أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم
وظنهم أن الله ممن يصح خداعه ؛ لأن من كان ادعاؤه الإيمان بالله نفاقا لم يكن
عارفا بالله ولا بصفاته ، ولا أن لذاته تعلقا بكل معلوم ، ولا أنه غنى عن فعل
القبائح ؛ فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعا ومصابا بالمكروه من
وجه خفى ، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. والثالث : أن يذكر الله تعالى ويراد
الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه خليفته في أرضه ، والناطق عنه بأوامره ونواهيه
مع عباده ، كما يقال : قال الملك كذا ورسم كذا ؛
__________________
وإنما القائل
والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه. مصداقه قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما
يُبايِعُونَ اللهَ ، يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقوله : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). والرابع : أن يكون من قولهم : أعجبنى زيد وكرمه ، فيكون
المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله. وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص ، ولما كان
المؤمنون من الله بمكان ، سلك بهم ذلك المسلك. ومثله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) وكذلك : (إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ونظيره في كلامهم : علمت زيدا فاضلا ، والغرض فيه ذكر
إحاطة العلم بفضل زيد لا به نفسه ؛ لأنه كان معلوما له قديما ؛ كأنه قيل : علمت
فضل زيد ؛ ولكن ذكر زيد توطئة وتمهيد لذكر فضله. فإن قلت : هل للاقتصار بخادعت على
واحد وجه صحيح؟ قلت : وجهه أن يقال : عنى به «فعلت» إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت»
لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ
وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. ويعضده
قراءة من قرأ : (يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) وهو أبو حيوة. و (يُخادِعُونَ) بيان ليقول. ويجوز أن يكون مستأنفا كأنه قيل : ولم يدعون
الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك؟ فقيل يخادعون. فان قلت: عمّ كانوا يخادعون؟ قلت
: كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة وعما
كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار. ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من
إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد ، ومنها
اطلاعهم ـ لاختلاطهم بهم ـ على الأسرار التي كانوا حراصا على إذاعتها إلى
منابذيهم. فإن قلت : فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها.
قلت : لم يظهر عليهم لما أحاط به علما من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت
مفاسد واستبقاء إبليس وذرّيته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم
النفاق أشدّ من ذلك. ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة. فإن قلت : ما
المراد بقوله : (وَما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)؟ قلت : يجوز أن يراد : وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة
بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم ، ومكرها يحيق بهم ، كما تقول :
فلان يضارّ فلانا وما يضارّ إلا نفسه ، أى : دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية
إياه ، وأن يراد حقيقة المخادعة أى : وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها
الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به ، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدّثهم بالأمانى وأن
يراد : وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون» للمبالغة. وقرئ : وما يخدعون ،
ويخدعون من خدع.
ويخدعون ـ بفتح الياء ـ بمعنى يخدعون. ويخدعون. ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله.
والنفس : ذات الشيء وحقيقته. يقال عندي كذا نفسا. ثم قيل للقلب : نفس ؛ لأن النفس
به. ألا ترى إلى قولهم : المرأ بأصغريه. وكذلك بمعنى الروح وللدم نفس ؛ لأن قوامها
بالدم. وللماء نفس ؛ لفرط حاجتها إليه : قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍّ) وحقيقة نفس الرجل بمعنى عين أصيبت نفسه ، كقولهم : فلان
يؤامر نفسيه ـ إذا تردّد في الأمر اتجه له رأيان وداعيان لا يدرى على أيهما يعرج
كأنهم أرادوا داعي النفس ، وهاجسى النفس فسموهما : نفسين ، إما لصدورهما عن النفس
، وإما لأن الداعيين لما كانا كالمشيرين عليه والآمرين له ، شبهوهما بذاتين
فسموهما نفسين. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم. والمعنى بمخادعتهم ذواتهم : أن
الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم. ويجوز أن يراد
قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم.
والشعور علم الشيء
علم حس من الشعار. ومشاعر الإنسان : حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر
ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادى غفلتهم كالذي لا حسّ له.
واستعمال المرض في
القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازا ، فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول : في جوفه
مرض. والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب ، كسوء الاعتقاد ، والغل ، والحسد والميل
إلى المعاصي ، والعزم عليها ، واستشعار الهوى ، والجبن ، والضعف ، وغير ذلك مما هو
فساد وآفة شبيهة بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك. والمراد به هنا
ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر ، أو من الغل والحسد والبغضاء ، لأن صدورهم
كانت تغلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقاً ويبغضونهم
البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله : (قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) ويتحرقون عليهم حسدا (إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) وناهيك مما كان من ابن أبىّ وقول سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم : «اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ،
__________________
ولقد اصطلح أهل
هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك . أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور ، لأن
قلوبهم كانت قوية ، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به : أن ريح الإسلام تهب
حيناً ثم تسكن ولواءه يخفق أياما ثم يقرّ ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله
على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله. وإما لجرامتهم وجسارتهم في الحروب
فضعفت جبناً وخورا حين قذف الله في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين
وإمداد الله لهم بالملائكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نصرت بالرعب
مسيرة شهر» . ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله
الوحى فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم ، فكأن الله هو الذي زادهم ما
ازدادوه إسنادا للفعل إلى المسبب له ، كما أسنده إلى السورة في قوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) لكونها سببا. أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطا في البلاد
ونقصا من أطراف الأرض ازدادوا حسدا وغلا وبغضا وازدادت قلوبهم ضعفا وقلة طمع فيما
عقدوا به رجاءهم وجبنا وخورا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع. وقرأ أبو عمرو
في رواية الأصمعى : مرض ، ومرضا ، بسكون الراء :
يقال ألم فهو (أَلِيمٌ) كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله :
تحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
__________________
وهذا على طريقة
قولهم : جدّ جدّه. والألم في الحقيقة للمؤلم كما أنّ الجدّ للجادّ.
والمراد بكذبهم
قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته ، وتخييل أن
العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم. ونحوه قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) والقوم كفرة. وإنما خصت الخطيئات استعظاما لها وتنفيرا عن
ارتكابها. والكذب : الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. وأما ما
يروى عن إبراهيم عليه السلام أنه كذب ثلاث كذبات . فالمراد التعريض. ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمى به.
وعن أبى بكر رضى الله عنه وروى مرفوعا : «إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان» وقرئ ؛ يكذبون ، من كذبه الذي هو نقيض صدقه ؛ أو من كذّب
الذي هو مبالغة في كذب ، كما بولغ في صدق فقيل : صدّق. ونظيرهما : بان الشيء وبين
، وقلص الثوب وقلص. أو بمعنى الكثرة كقولهم : موتت البهائم ، وبركت الإبل ، أو من
قولهم : كذب الوحشي إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه ؛ لأن المنافق متوقف
متردّد في أمره ، ولذلك قيل له مذبذب. وقال عليه السلام : «مثل المنافق كمثل الشاة
العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ
__________________
هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
وَإِذا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ)(١٦)
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) معطوف على يكذبون. ويجوز أن يعطف على : (يَقُولُ آمَنَّا) لأنك لو قلت : ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا ، كان
صحيحا ، والأوّل أوجه.
والفساد : خروج
الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به ، ونقيضه ؛ الصلاح ، وهو الحصول على الحالة
المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض : هيج الحروب والفتن ، لأن في ذلك فساد ما في
الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية. قال
الله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى
فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) ، (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ). ومنه قيل لحرب كانت بين طيء : حرب الفساد. وكان فساد
المنافقين في الأرض. أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء
أسرارهم إليهم وإغرائهم علتهم ، وذلك مما يؤدّى إلى هيج الفتن بينهم ، فلما كان
ذلك من صنيعهم مؤديا إلى الفساد قيل لهم : لا تفسدوا ، كما تقول للرجل : لا تقتل
نفسك بيدك ، ولا تلق نفسك في النار ، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. و «إنما» لقصر
الحكم على شيء ، كقولك : إنما ينطق زيد ، أو لقصر الشيء على حكم كقولك : إنما زيد
كاتب. ومعنى (إِنَّما نَحْنُ
مُصْلِحُونَ) أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها
من وجه من وجوه الفساد. و (أَلا) مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ، لإعطاء معنى التنبيه
على تحقق ما بعدها ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا كقوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ)؟ ولكونها في هذا المنصب من التحقيق ، لا تكاد تقع الجملة
بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدّمات اليمين
وطلائعها :
أَمَا والّذِى لا يَعْلَمُ الغَيْبَ غَيْرُهُ
أَمَا والّذِى أَبْكَى وأَضحَكَ
ردّ الله ما ادعوه
من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم ، والمبالغة فيه من جهة
الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا. وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل.
وقوله : (لا يَشْعُرُونَ) أتوهم في النصيحة من وجهين : أحدهما تقبيح ما كانوا عليه
لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة. والثاني : تبصيرهم الطريق الأسد من
اتباع ذوى الأحلام ، ودخولهم في عدادهم ؛ فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم ،
وجهلوهم لتمادى
__________________
جهلهم. وفي ذلك
تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. فإن قلت : كيف صح أن يسند «قيل» إلى «لا تفسدوا
، وآمنوا» وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح؟ قلت : الذي لا يصح هو إسناد الفعل
إلى معنى الفعل ، وهذا إسناد له إلى لفظه ، كأنه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول
وهذا الكلام. فهو نحو قولك : «ألف» ضرب من ثلاثة أحرف. ومنه : زعموا مطية الكذب .
و «ما» في «كما»
يجوز أن تكون كافة مثلها في : (رُبَما) ، ومصدرية مثلها في: (بِما رَحُبَتْ). واللام في «الناس» للعهد ، أى كما آمن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومن معه. أو هم ناس معهودون كعبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم
ومن أبناء جنسهم ، أى : كما آمن أصحابكم وإخوانكم ، أو للجنس أى : كما آمن
الكاملون في الإنسانية. أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ، ومن عداهم
كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل.
والاستفهام في (أَنُؤْمِنُ) في معنى الإنكار. واللام في (السُّفَهاءُ) مشاربها إلى الناس ، كما تقول لصاحبك : إن زيداً قد سعى بك
، فيقول : أو قد فعل السفيه. ويجوز أن تكون للجنس ، وينطوى تحته الجاري ذكرهم على
زعمهم واعتقادهم ؛ لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه. فإن قلت : لم سفهوهم واستركوا
عقولهم ، وهم العقلاء المراجيح؟ قلت : لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم
، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيها
؛ ولأنهم كانوا في رياسة وسطة في قومهم ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم
موال كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم. أو أرادوا عبد الله بن سلام
وأشياعه ومفارقتهم دينهم وما غاطهم من إسلامهم وفت في أعضادهم. قالوا ذلك على سبيل
التجلد توقياً من الشماتة بهم مع علمهم أنهم من السفه بمعزل ، والسفه سخافة العقل
وخفة الحلم. فان قلت : فلم فصلت هذه الآية ب : (لا يَعْلَمُونَ) ، والتي قبلها ب : (لا يَشْعُرُونَ)؟ قلت : لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ
وهم على الباطل ، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة. وأما النفاق وما
فيه من البغي المؤدّى إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوىّ مبنى على
__________________
العادات ، معلوم
عند الناس ، خصوصا عند العرب في جاهليتهم وما كان قائما بينهم من التغاور والتناحر
والتحارب والتحازب ، فهو كالمحسوس المشاهد ؛ ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر
العلم معه أحسن طباقا له. مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين
فليس بتكرير ، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان ما كانوا
يعملون عليه مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين
وإيهامهم أنهم معهم ، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم. وروى أن
عبد الله بن أبىّ وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد
الله : انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبى بكر فقال : مرحبا
بالصدّيق سيد بنى تيم وشيخ الإسلام وثانى رسول الله في الغار ، الباذل نفسه وماله
لرسول الله. ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيد بنى عدىّ الفاروق القوىّ في دين الله
، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد علىّ فقال : مرحباً بابن عم رسول الله
وختنه سيد بنى هاشم ما خلا رسول الله. ثم افترقوا فقال لأصحابه : كيف رأيتمونى
فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً ، فنزلت. ويقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه ،
وهو جارى ملاقىّ ومراوقى. وقرأ أبو حنيفة : وإذا لاقوا.
وخلوت بفلان وإليه
، إذا انفردت معه. ويجوز أن يكون من «خلا» بمعنى : مضى ، وخلاك ذمّ : أى عداك ومضى
عنك. ومنه : القرون الخالية ، ومن «خلوت به» إذا سخرت منه. وهو من قولك : خلا فلان
بعرض فلان يعبث به. ومعناه : وإذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدّثوهم
بها. كما تقول : أحمد إليك فلانا ، وأذمّه إليك. وشياطينهم : الذين ماثلوا
الشياطين في تمرّدهم. وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية ، وفي
آخر زائدة. والدليل على أصالتها قولهم : تشيطن ، واشتقاقه من «شطن» إذا بعد ؛
لبعده من الصلاح والخير. ومن «شاط» إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة. ومن أسمائه
الباطل.
__________________
(إِنَّا مَعَكُمْ) إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. فإن قلت : لم كانت
مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية ، وشياطينهم بالاسمية محققة بأن؟ قلت : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين
وأوكدهما ، لأنهم في ادّعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم ، لا في ادعاء أنهم
أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم ، وذلك إما لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه
، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرّك ، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة
واعتقاد. وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة. وكيف
يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في
التوراة والإنجيل. ألا ترى إلى حكاية الله قول المؤمنين : (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا). وأما مخاطبة إخوانهم ، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من
الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر ، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق
رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به ، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم ،
فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد. فإن قلت : أنى تعلق قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) قلت : هو توكيد له ، لأن قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) معناه الثبات على اليهودية. وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ردّ للإسلام ودفع له منهم ، لأن المستهزئ بالشيء المستخف
به منكر له ودافع لكونه معتدا به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه ، لأن
من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف ، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم : (إِنَّا مَعَكُمْ) ، فقالوا : فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام
فقالوا : (إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ). والاستهزاء : السخرية والاستخفاف ، وأصل الباب الخفة ـ من
الهزء وهو القتل السريع ـ وهزأ يهزأ : مات على المكان. عن بعض العرب : مشيت فغلبت
فظننت لأهز أنّ على مكاني. وناقته تهزأ به : أى تسرع وتخف. فإن قلت : لا يجوز
الاستهزاء على الله تعالى ، لأنه متعال عن القبيح ، والسخرية من باب العيب والجهل.
ألا ترى إلى قوله : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا
هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، فما معنى استهزائه بهم؟ قلت : معناه إنزال الهوان والحقارة
بهم ، لأنّ المستهزئ غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به ،
__________________
وإدخال الهوان والحقارة
عليه ، والاشتقاق كما ذكرنا شاهد لذلك. وقد كثر التهكم في كلام الله تعالى
بالكفرة. والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم ، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقة
بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون. ويجوز أن يراد به ما مر في : (يُخادِعُونَ) من أنه يجرى عليهم أحكام المسلمين في الظاهر ، وهو مبطن
بادخار ما يراد بهم ، وقيل : سمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ، (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). فإن قلت : كيف ابتدئ قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) ولم يعطف على الكلام قبله . قلت : هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله
عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء
ولا يؤبه له في مقابلته ، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل. وفيه
أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن
يعارضوهم باستهزاء مثله. فان قلت : فهلا قيل الله مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) قلت : لأن (يستهزئ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد
وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف
أسرار ، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) ، (قُلِ اسْتَهْزِؤُا
إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ). (وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ) من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره.
وكذلك مدّ الدواة وأمدها : زادها ما يصلحها. ومددت السرج والأرض : إذا استصلحتهما
بالزيت والسماد. ومده الشيطان في الغى وأمده : إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه
ويزداد انهما كافيه. فإن قلت : لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء
والإمهال؟ قلت : كفاك دليلا على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن
: (وَيَمُدُّهُمْ) ، وقراءة نافع : (وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ) على أن الذي بمعنى أمهله
__________________
إنما هو مدّ له مع
اللام كأملى له. فان قلت : فكيف جاز أن يوليهم الله مددا في الطغيان وهو فعل
الشياطين؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ)؟ قلت : إما أن يحمل على أنهم لما منعهم الله ألطافه التي
يمنحها المؤمنين ، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه ، بقيت قلوبهم بتزايد الرين
والظلمة فيها ، تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مدداً.
وأسند إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم. وإما على منع القسر
والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية
بينه وبين إغواء عباده. فإن قلت : فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال
وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت : استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن
يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد
لصحته ، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام. ومن حق مفسر كتاب الله الباهر
وكلامه المعجز ، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما
وقع به التحدّى سليما من القادح ، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم
والبلاغة على مراحل. ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره : في ضلالتهم يتمادون ،
وأن هؤلاء من أهل الطبع. والطغيان : الغلو في الكفر ، ومجاوزة الحدّ في العتوّ. وقرأ
زيد بن على رضى الله عنه : (في طغيانهم) بالكسر وهما لغتان ، كلقيان ولقيان ،
وغنيان وغنيان. فان قلت : أى نكتة في إضافته اليهم؟ قلت : فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته
أنفسهم واجترحته أيديهم ، وأن الله بريء منه ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين : لو
شاء
__________________
الله ما أشركنا ،
ونفياً لوهم من عسى يتوهم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان اليهم ليميط
الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته. ومصداق ذلك أنه حين أسند المدّ إلى
الشياطين ، أطلق الغىّ ولم يقيده بالإضافة في قوله : (وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ). والعمه : مثل العمى ، إلا أن العمى عامّ في البصر والرأى
، والعمه في الرأى خاصة ، وهو التحير والتردّد ، لا يدرى أين يتوجه. ومنه قوله :
بالجاهلين العمه ، أى الذين لا رأى لهم ولا دراية بالطرق. وسلك أرضاً عمهاء : لا
منار بها
ومعنى اشتراء
الضلالة بالهدى : اختيارها عليه واستبدالها به ، على سبيل الاستعارة ، لأنّ
الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر . ومنه :
أَخَذْتُ
بالجُمَّةِ رَأْساً أزْعَرَا
|
|
وبالثَّنَايَا
الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا
|
وبالطَّوِيلِ
العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا
|
|
كما اشْتَرَى
المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا
|
وعن وهب : قال
الله عز وجل فيما يعيب به بنى إسرائيل : «تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل
، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة». فان قلت : كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا
على هدى؟ قلت : جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم كأنه في أيديهم ، فإذا تركوه إلى
__________________
الضلالة فقد عطلوه
واستبدلوها به ، ولأن الذين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فكل من ضل
فهو مستبدل خلاف الفطرة
و (الضَّلالَةَ) الجور عن الفصد وفقد الاهتداء. يقال. ضلّ منزله ، وضل دريص
نفقه فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. والربح : الفضل على رأس المال ، ولذلك
سمى : الشف ، من قولك : أشف بعض ولده على بعض ، إذا فضله. ولهذا على هذا شف.
والتجارة : صناعة التاجر ، وهو الذي يبيع ويشترى للربح. وناقة تاجرة : كأنها من
حسنها وسمنها تبيع نفسها. وقرأ ابن أبى عبلة (تجاراتهم). فإن قلت : كيف أسند
الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت : هو من الإسناد المجازى ، وهو أن يسند
الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ، كما تلبست التجارة بالمشترين. فإن
قلت : هل يصح : ربح عبدك وخسرت جاريتك ، على الإسناد المجازى؟ قلت : نعم إذا دلت
الحال. وكذلك الشرط في صحة : رأيت أسداً ، وأنت تريد المقدام ؛ إن لم تقم حال دالة
لم يصح. فإن قلت : هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما
معنى ذكر الربح والتجارة؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة . قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة
العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات ، إذا تلاحقن
لم تر كلاما أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقا ، وهو المجاز المرشح. وذلك نحو قول العرب
في البليد : كأن أذنى قلبه خطلا ، وإن جعلوه كالحمار ، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق
البلادة ، فادعوا لقلبه أذنين ، وادعوا لهما الخطل ، ليمثلوا البلادة تمثيلا يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة
معاينة. ونحوه :
__________________
ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ
عَزَّ ابْنَ دَأْيَةٍ
|
|
وعَشَّشَ في
وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِى
|
لما شبه الشيب
بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فتاكهم
في أمّه :
فما أُمُّ
الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ
|
|
بِعالِمَةٍ
بأَخْلاقِ الْكِرَامِ
|
إذَا الشّيْطانُ
قَصَّعَ في قَفَاها
|
|
تَنفّقْناهُ
بالحُبُلِ التُّوَامِ
|
أى إذا دخل
الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم. يريد : إذا حردت وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من
خلقها. استعار التقصيع أوّلا ، ثم ضم إليه التنفق ، ثم الحبل التوام. فكذلك لما
ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه ، تمثيلا
لخسارهم وتصويراً لحقيقته. فإن قلت : فما معنى قوله (فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). قلت : معناه أنّ الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم
__________________
شيئان : سلامة رأس
المال ، والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس ما لهم كان هو الهدى ،
فلم يبق لهم مع الضلالة. وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة ، لم يوصفوا بإصابة
الربح. وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية ؛ لأن الضال خاسر دامر ، ولأنه
لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله : قد ربح ، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما
يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧)
صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)
(١٨)
لما جاء بحقيقة
صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان. ولضرب العرب الأمثال واستحضار
العلماء المثل والنظائر ـ شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ، ورفع الأستار
عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق ، والمتوهم في معرض المتيقن ،
والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد ، وقمع لسورة الجامح الأبىّ ، ولأمر
مّا أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء. قال الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال. والمثل في أصل كلامهم :
بمعنى المثل ، وهو النظير. يقال : مثل ومثل ومثيل ، كشبه وشبه وشبيه. ثم قيل للقول
السائر الممثل مضربه بمورده : مثل. ولم يضربوا مثلا ، ولا رأوه أهلا للتسيير ، ولا
جديرا بالتداول والقبول ، إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثمّ حوفظ عليه
وحمى من التغيير. فإن قلت : ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ، وما مثل
المنافقين ومثل الذي استوقد نارا حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟ قلت : قد استعير
المثل استعارة الأسد للمقدام ، للحال أو الصفة أو القصة ، إذا كان لها شأن وفيها
غرابة ، كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا. وكذلك قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ) أى وفيما قصصنا عليك من العجائب : قصة الجنة العجيبة. ثم
أخذ في بيان عجائبها. ولله المثل الأعلى : أى الوصف الذي له شأن من العظمة
والجلالة. (مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْراةِ) : أى صفتهم وشأنهم المتعجب منه. ولما في المثل من معنى
الغرابة قالوا : فلان مثلة في الخير والشر ، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن. فإن
قلت : كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ قلت : وضع الذي موضع الذين ، كقوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) والذي سوّغ
وضع الذي موضع
الذين ، ولم يجز وضع القائم موضع القائمين ولا نحوه من الصفات أمران : أحدهما :
أنّ «الذي» لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة بجملة ، وتكاثر وقوعه في كلامهم ، ولكونه
مستطالا بصلته ، حقيق بالتخفيف ، ولذلك نهكوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم
اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين. والثاني : أن جمعه ليس
بمنزلة جمع غيره بالواو والنون. وإنما ذاك علامة لزيادة الدلالة. ألا ترى أن سائر
الموصولات لفظ الجمع ، والواحد فيهن واحد. أو قصد جنس المستوقدين. أو أريد الجمع
أو الفوج الذي استوقد نارا. على أنّ المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد
حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد ؛ إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد. ونحوه قوله
: (مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً) ، وقوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ). ووقود النار : سطوعها وارتفاع لهبها. ومن أخواته : وقل في
الجبل إذا صعد وعلا ، والنار : جوهر لطيف مضيء حارّ محرق. والنور : ضوءها وضوء كل
نير ، وهو نقيض الظلمة. واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ؛ لأنّ فيها حركة واضطرابا
، والنور مشتق منها. والإضاءة : فرط الإنارة. ومصداق ذلك قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
وَالْقَمَرَ نُوراً) ، وهي في الآية متعدية. ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة
إلى ما حوله. والتأنيث للحمل على المعنى ؛ لأنّ ما حول المستوقد أماكن وأشياء.
ويعضده قراءة ابن أبى عبلة (ضاءت). وفيه وجه آخر ، وهو أن يستتر في الفعل ضمير
النار. ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها ، على أنّ ما مزيدة
أو موصولة في معنى الأمكنة. و (حَوْلَهُ) نصب على الظرف وتأليفه للدوران والإطافة. وقيل للعام : حول
؛ لأنه يدور. فإن قلت : أين جواب لما؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن جوابه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ). والثاني : أنه محذوف كما حذف في قوله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ). وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدالّ
عليه ، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة ، مع الإعراب عن الصفة التي
حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت
ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد
الكدح في إحياء النار. فإن قلت : فإذا قدّر الجواب محذوفا فبم يتعلق (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)؟ قلت : يكون كلاما مستأنفاً. كأنهم لما شبهت حالهم بحال
المستوقد الذي طفئت ناره ، اعترض سائل فقال : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا
المستوقد؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم. أو يكون بدلا من
جملة التمثيل على
سبيل البيان. فإن قلت : قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين فما مرجعه في
الوجه الثاني؟ قلت : مرجعه الذي استوقد ؛ لأنه في معنى الجمع. وأما جمع
هذا الضمير وتوحيده في : (حَوْلَهُ) ، فللحمل على اللفظ تارة ، وعلى المعنى أخرى. فإن قلت :
فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله : (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ)؟ قلت : إذا طفئت النار بسبب سماوي ريح أو مطر ، فقد أطفأها
الله تعالى وذهب بنور المستوقد. ووجه آخر ، وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه
مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة
للإسلام ، وتلك النار متقاصرة مدّة اشتعالها قليلة البقاء. ألا ترى إلى قوله : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللهُ) ، وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة
بها إلى بعض المعاصي ، ويتهدوا بها في طرق العبث ، فأطفأها الله وخيب أمانيهم. فإن
قلت : كيف صح في النار المجازية أن توصف بإضاءة ما حول المستوقد؟ قلت : هو خارج
على طريقة المجاز المرشح فأحسن تدبره. فإن قلت : هلا قيل ذهب الله بضوئهم؟ لقوله :
(فَلَمَّا أَضاءَتْ)؟ قلت : ذكر النور أبلغ ؛ لأنّ الضوء فيه دلالة على
الزيادة. فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً
، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلا. ألا ترى كيف ذكر عقيبه (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه ، وكيف جمعها ، وكيف
نكرها ، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله (لا يُبْصِرُونَ). فان قلت : فلم وصفت بالإضاءة؟ قلت : هذا على مذهب قولهم :
للباطل صولة ثم يضمحل. ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت ، ونار العرفج مثل لنزوة كل
طماح. والفرق بين أذهبه وذهب به ، أن معنى أذهبه : أزاله وجعله ذاهبا. ويقال : ذهب
به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله : أخذه (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) ، (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ). ومنه : ذهبت به الخيلاء. والمعنى : أخذ الله نورهم وأمسكه
، (وما يمسك فلا مرسل له) فهو أبلغ من الإذهاب. وقرأ اليماني : أذهب الله نورهم.
وترك : بمعنى طرح وخلى ، إذا علق بواحد ، كقولهم : تركه ترك ظبى ظله. فإذا علق
بشيئين كان مضمناً معنى صير ، فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة :
__________________
فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ
ومنه قوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) أصله : هم في ظلمات ، ثم دخل ترك فنصب الجزأين. والظلمة
عدم النور. وقيل : عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا : أى
ما منعك وشغلك ، لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وقرأ الحسن (ظلمات) بسكون اللام
وقرأ اليماني (في ظلمة) على التوحيد. والمفعول الساقط من (لا يبصرون) من قبيل
المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي ،
كأنّ الفعل غير متعدّ أصلا ، نحو (يَعْمَهُونَ) في قوله : (وَيَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). فإن قلت : فيم شبهت حالهم بحال المستوقد؟ قلت : في أنهم
غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورّطوا في حيرة. فان قلت : وأين الإضاءة في حال
المنافق؟ وهل هو أبداً إلا حائر خابط في ظلماء الكفر؟ قلت : المراد ما استضاءوا به
قليلا من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة
ظلمة النفاق التي ترمى بهم إلى ظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمد. ويجوز أن يشبه
بذهاب الله بنور المستوقد اطلاع الله على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين
واتسموا به من سمة النفاق. والأوجه أن يراد الطبع ، لقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). وفي الآية تفسير آخر : وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا
الضلالة بالهدى ، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما
حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم
وتركه إياهم في الظلمات. وتنكير النار للتعظيم. كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدّوا
عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويتبصروا
بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك
كقوله :
__________________
صُم إذا سَمِعُوا
خَيْراً ذُكِرْتُ بِهِ
|
|
وإنْ ذُكِرْتُ
بسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
|
أَصَمُّ
عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ
|
أَصَمُّ عَنِ
الشَّىْءِ الَّذِى لا ارِيدُهُ
|
|
وأَسْمَعُ
خَلْقِ اللهِ حِينَ أُرِيدُ
|
فأَصمَمتُ
عَمْراً وأَعْمَيتُهُ
|
|
عَنِ الجُودِ
والفَخْرِ يَوْمَ الفَخَار
|
فإن قلت : كيف
طريقته عند علماء البيان؟ قلت : طريقة قولهم «هم ليوث» للشجعان ، وبحور للأسخياء.
إلا أنّ هذا في الصفات ، وذاك في الأسماء ، وقد جاءت الاستعارة في الأسماء والصفات
والأفعال جميعاً. تقول : رأيت ليوثا ، ولقيت صما عن الخير ، ودجا الإسلام. وأضاء
الحق. فإن قلت : هل يسمى ما في الآية استعارة؟ قلت : مختلف فيه. والمحققون على
__________________
تسميته تشبيها
بليغاً لا استعارة ؛ لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق
حيث يطوى ذكر المستعار له ، ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول
عنه والمنقول إليه ، لو لا دلالة الحال أو فحوى الكلام ، كقول زهير :
لَدَى أَسَدٍ
شَاكِى السِّلاحِ مُقَذَّفٍ
|
|
لَهُ لِبَدٌ
أَظْفارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
|
ومن ثم ترى
المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحاً. قال أبو تمام
:
ويُصْعِدُ حتَّي
يَظُنَّ الجَهُولُ
|
|
بأَنَّ لهُ
حاجَةً في السَّمَاء
|
وبعضهم :
لا تَحْسَبُوا
أَنَّ في سِرْبالهِ رَجُلاً
|
|
ففِيهِ غَيْثٌ
ولَيْثٌ مُسْبِلٌ مُشْبِل
|
__________________
وليس لقائل أن
يقول : طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدإ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في
حكم المنطوق به ، نظيره قول من يخاطب الحجاج :
أَسَدٌ عَلَىَّ
وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ
|
|
فَتْخاءُ
تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ
|
ومعنى (لا يَرْجِعُونَ) أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة
بعد أن اشتروها ، تسجيلا عليهم بالطبع. أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا
جامدين في مكانهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى
حيث ابتدءوا منه؟
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي
آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)
ثم ثنى الله
سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف ، وإيضاحا غب إيضاح. وكما
يجب على البليغ في مظانّ الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز ؛ فكذلك الواجب عليه في
موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ :
__________________
يُوحُونَ
بالخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً
|
|
وَحْىَ
المُلَاحِظِ خِيفةَ الرُّقَباءِ
|
ومما ثنى من
التمثيل في التنزيل قوله : (وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا
الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) وألا ترى إلى ذى الرمّة كيف صنع في قصيدته؟ :
أَذَاكَ أَمْ
نَمَشٌ بالْوَشْىِ أَكْرَعُهُ
|
|
....................
|
أَذَاكَ أَمْ
خَاضِبٌ بالسَّىِّ مَرْتَعُهُ
|
|
....................
|
فإن قلت : قد شبه
المنافق في التمثيل الأوّل بالمستوقد نارا ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع
انتفاعه بانطفاء النار ، فما ذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات وبالرعد
وبالبرق وبالصواعق؟ قلت : لقائل أن يقول : شبه دين الإسلام بالصيب ، لأنّ القلوب
تحيا به حياة الأرض بالمطر. وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات. وما فيه من
الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة
أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى : أو كمثل ذوى صيب. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء
على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. فإن قلت : هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر
المشبهات؟ وهلا صرح به كما
__________________
في قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) ، وفي قول امرئ القيس :
كأنَّ قُلُوبَ
الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً
|
|
لَدَى وَكْرِها
العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِى؟
|
قلت : كما جاء ذلك
صريحاً فقد جاء مطويا ذكره على سنن الاستعارة ، كقوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ
فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ، (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ). والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه : أنّ
التمثلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة ، لا يتكلف الواحد واحد
شيء يقدر شبهه به ، وهو القول الفحل والمذهب الجزل ، بيانه : أنّ العرب تأخذ أشياء
فرادى ، معزولا بعضها من بعض ، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها ، كما فعل
امرؤ القيس وجاء في القرآن ، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت
حتى عادت شيئا واحدا ، بأخرى مثلها كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ) الآية. الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من
التوراة وآياتها الباهرة ، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوى
الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار ، لا يشعر من ذلك إلا
بما يمرّ بدفيه من الكدّ والتعب. وكقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر. فأما أن
يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئا واحدا ، فلا. فكذلك
لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم
وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل ، وكذلك من
أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. فإن قلت : الذي كنت
تقدّره في المفرّق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك «أو كمثل ذوى صيب» هل تقدّر
مثله في المركب منه؟ قلت : لو لا طلب
__________________
الراجع في قوله
تعالى : (يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره ؛ لأنى أراعى الكيفية
المنتزعة من مجموع الكلام فلا علىّ أوَلِىَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم
لم يله. ألا ترى إلى قوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ
الدُّنْيا) الآية ، كيف ولى الماء الكاف ، وليس الغرض تشبيه الدنيا
بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره. ومما هو بين في هذا قول لبيد :
وما النَّاسُ
إلّا كالدِّيَارِ وأَهْلُهَا
|
|
بِهَا يَوْمَ
حَلُّوهَا وغَدْواً بَلَاقِعُ
|
لم يشبه الناس
بالديار ، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم ، بحلول أهل الديار
فيها ووشك نهوضهم عنها ، وتركها خلاء خاوية. فان قلت : أى التمثيلين أبلغ؟ قلت :
الثاني ، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته ، ولذلك أُخر ، وهم يتدرجون
في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. فإن قلت : لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف
الشك؟ قلت : أو في أصلها لتساوى شيئين فصاعدا في الشك ، ثم اتسع فيها فاستعيرت
للتساوى في غير الشك ، وذلك قولك : جالس الحسن أو ابن سيرين ، تريد أنهما سيان في
استصواب أن يجالسا ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، أى الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما ، فكذلك
قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين
، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل ، فبأيتهما مثلتها
فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. والصيب : المطر الذي يصوّب ، أى ينزل
ويقع.
ويقال للسحاب :
صيب أيضا. قال الشماخ :
وأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ
__________________
وتنكير صيب لأنه
أريد نوع من المطر شديد هائل. كما نكرت النار في التمثيل الأول. وقرئ : كصائب ،
والصيب أبلغ. والسماء : هذه للمظلة. وعن الحسن : أنها موج مكفوف. فان قلت : قوله :
(مِنَ السَّماءِ) ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء. قلت : الفائدة
فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوّب من سماء ، أى من أفق واحد من بين سائر
الآفاق ، لأنّ كل أفق من آفاقها سماء ، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها). الدليل عليه قوله :
ومِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنا وسَمَاءِ
والمعنى أنه غمام
مطبق آخذ بآفاق السماء ، كما جاء بصيب. وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء
والتنكير. أمد ذلك بأن جعله مطبقا. وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ
ماءه ، لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر. ويؤيده قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ
__________________
«أوه»
بالتشديد مع فتح الواو وكسرها مبنى على السكون. وروى بضم الهمزة وسكون الواو. وفيه
لغة ثالثة بابدال الواو ألف مد مبنى فيهما على الكسر : اسم فعل للتوجع. وما زائدة
بعد إذا للدلالة على تعميم الأوقات. يقول : أتوجع من تذكر المحبوبة كلما تذكرتها ،
ومن بعد ما بيننا من قطعة أرض وقطعة سماء تقابل تلك القطعة فأطلق الأرض والسماء
على بعض كل منهما ، وذكرهما لافادة ذلك ، لكن المقرر عندهم أن التنوين إنما يفيد
التبعيض في الأفراد لا في الأجزاء ، فلا يتم ما تقدم إلا بعد ادعاء أن السماء تطلق
على بعض تلك المظلة ، والأرض على بعض هذه المقلة ؛ ليكون البعض فرداً من الأفراد
لا جزءاً من الأجزاء. وذكر السماء دلالة على تناهى البعد في الأرض ، لأنه يظهر
فيها قبل ظهوره في السماء. ويجوز أن المراد تشبيه البعد بينهما بالبعد بين السماء
والأرض. وعليه فالتنوين للتهويل والتعظيم.
جِبالٍ
فِيها مِنْ بَرَدٍ). فان قلت : بم ارتفع ظلمات؟ قلت : بالظرف على الاتفاق
لاعتماده على موصوف. والرعد : الصوت الذي يسمع من السحاب ، كأن أجرام السحاب تضطرب
وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك من الارتعاد. والبرق الذي يلمع من السحاب ،
من برق الشيء بريقا إذا لمع. فان قلت : قد جعل الصيب مكانا للظلمات فلا يخلو من أن
يراد به السحاب أو المطر ، فأيهما أريد فما ظلماته؟ قلت : أما ظلمات السحاب فإذا
كان أسحم مطبقا فظلمتا سجمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل. وأما ظلمات المطر
فظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر ، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل. فان قلت :
كيف يكون المطر مكانا للبرق والرعد وإنما مكانهما السحاب؟ قلت إذا كانا في أعلاه
ومصبه وملتبسين في الجملة فهما فيه. ألا تراك تقول : فلان في البلد ، وما هو منه
الا في حيز يشغله جرمه. فان قلت : هلا جمع الرعد والبرق أخذا بالأبلغ كقول البحتري
:
يَا عَارِضاً
مُتَلِّفعاً ببُرُودِهِ
|
|
يَخْتالُ بَيْنَ
بُرُوقِهِ ورُعُودِهِ
|
وكما قيل ظلمات؟
قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يراد العينان ، ولكنهما لما كانا مصدرين في الأصل ـ يقال
: رعدت السماء رعداً وبرقت برقا ـ ، روعي حكم أصلهما بأن ترك جمعهما وإن أريد معنى
الجمع. والثاني : أن يراد الحدثان كأنه قيل : وإرعاد وإبراق. وإنما جاءت هذه
الأشياء منكرات ، لأن المراد أنواع منها ، كأنه قيل : فيه ظلمات داجية ، ورعد قاصف
، وبرق خاطف. وجاز رجوع الضمير في يجعلون إلى أصحاب الصيب مع كونه محذوفا قائما
مقامه الصيب ، كما قال : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ، لأن المحذوف باق معناه وإن سقط لفظه. ألا ترى إلى حسان
كيف عوّل على بقاء معناه في قوله :
__________________
يُسْقَوْنَ مِنْ
وِرْدِ البَرِيصِ عليْهِمُ
|
|
بَرْدَي
يُصَفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
|
حيث ذكر يصفق ؛
لأن المعنى ؛ ماء بردي ، ولا محل لقوله : (يَجْعَلُونَ) لكونه مستأنفا ، لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن
بالشدّة والهول ، فكأن قائلا قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ثم قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل : يكاد البرق
يخطف أبصارهم. فان قلت : رأيس الأصبع هو الذي يجعل في الأذن فهلا قيل أناملهم؟ قلت : هذا من الاتساعات في اللغة التي
لا يكاد الحاصر يحصرها ، كقوله : (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) ، (فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما) أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضا ففي
ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل. فان قلت : فالأصبع التي تسدّ بها
الأذن أصبع خاصة ، فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت : لأن السبابة
__________________
فعالة من السب
فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة
والسباحة والمهللة والدّعاءة. فان قلت : فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت : هي
ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد ، وإنما أحدثوها بعد. وقوله (مِنَ الصَّواعِقِ) متعلق بيجعلون ، أى : من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في
آذانهم ، كقولك : سقاه من العيمة . والصاعقة : قصفة رعد تنقض معها شقة من نار ، قالوا :
تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت
عليه ، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف
ثم طفئت. ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته ، فصعق ؛ أى مات إما بشدة الصوت أو
بالإحراق. ومنه قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى
صَعِقاً). وقرأ الحسن : من الصواقع ؛ وليس بقلب للصواعق ، لأنّ كلا
البناءين سواء في التصرف ، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله. ألا تراك تقول
: صقعه على رأسه ، وصقع الديك ، وخطيب مصقع : مجهر بخطبته. ونظيره «جبذ» في «جذب»
ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف. وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد
، والتاء مبالغة كما في الراوية ، أو مصدرا كالكاذبة والعافية. وقرأ ابن أبى ليلى
: حذار الموت ، وانتصب على أنه مفعول له كقوله :
وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ
والموت فساد بنية
الحيوان. وقيل : عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. وإحاطة الله بالكافرين مجاز.
والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة
__________________
اعتراض لا محل
لها. والخطف : الأخذ بسرعة. وقرأ مجاهد (يخطف) بكسر الطاء ، والفتح أفصح وأعلى ،
وعن ابن مسعود : يختطف. وعن الحسن : يخطف ، بفتح الياء والخاء ، وأصله يختطف. وعنه
: يخطف ، بكسرهما على إتباع الياء الخاء. وعن زيد بن على : يخطف ، من خطف. وعن
أبىّ : يتخطف ، من قوله : (يُتَخَطَّفُ النَّاسُ
مِنْ حَوْلِهِمْ). (كُلَّما أَضاءَ
لَهُمْ) استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في تارتى
خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب
وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون ، إذا صادفوا من البرق خفقة
، مع خوف أن يخطف أبصارهم ، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفى
وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ، ولو شاء الله لزاد في قصيف الرعد
فأصمهم ، أو في ضوء البرق فأعماهم. وأضاء : إما متعد بمعنى : كلما نوّر لهم ممشى
ومسلكا أخذوه والمفعول محذوف. وإما غير متعد بمعنى : كلما لمع لهم (مَشَوْا) في مطرح نوره وملقى ضوئه. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة :
كلما ضاء لهم والمشي : جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعى. فإذا ازداد فهو
عدو. فإن قلت : كيف قيل مع الإضاءة : كلما ، ومع الإظلام : إذا؟ قلت ؛ لأنهم حراص
على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه ، فكلما صادفوا منه فرصة
انتهزوها ، وليس كذلك التوقف والتحبس. وأظلم : يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر
، وأن يكون متعديا منقولا من ظلم الليل ، وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب : أظلم ، على ما لم يسم
فاعله. وجاء في شعر حبيب ابن أوس :
هُمَا أَظْلَمَا
حالَىَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا
|
|
ظَلَامَيْهُما
عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ
|
__________________
وهو وإن كان محدثا
لا يستشهد بشعره في اللغة ، فهو من علماء العربية ، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما
يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء : الدليل عليه بيت الحماسة ، فيقتنعون بذلك
لوثوقهم بروايته وإتقانه. ومعنى (قامُوا) وقفوا وثبتوا في مكانهم. ومنه : قامت السوق ، إذا ركدت
وقام الماء : جمد. ومفعول (شاءَ) محذوف ، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى : ولو شاء الله أن
يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و «أراد» لا
يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله :
فلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِى دَماً لَبَكَيْتُهُ
وقوله تعالى «لو
أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ، (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً). وأراد : ولو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد ، وأبصارهم
بوميض البرق. وقرأ ابن أبى عبلة : لأذهب بأسماعهم ، بزيادة الباء كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ). والشيء : ما صح أن يعلم ويخبر عنه. قال سيبويه ـ في ساقة
الباب المترجم بباب مجارى أواخر الكلم من العربية ـ : وإنما يخرج التأنيث من
التذكير. ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟.
والشيء : مذكر ، وهو أعم العام : كما أن الله أخص الخاص يجرى على الجسم والعرض
__________________
والقديم. تقول :
شيء لا كالأشياء ؛ أى معلوم لا كسائر المعلومات ، وعلى المعدوم والمحال فان قلت :
كيف قيل (عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل وفعل قادر آخر ؟ قلت : مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا ؛
فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها ، فكأنه قيل : على كل
شيء مستقيم قدير. ونظيره : فلان أمير على الناس أى على من وراءه منهم ، ولم يدخل
فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس. وأما الفعل بين قادرين فمختلف فيه. فإن قلت :
ممّ اشتقاق القدير؟ قلت : من التقدير ، لأنه يوقع فعله على مقدار قوّته واستطاعته
وما يتميز به عن العاجز.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ)(٢١)
لما عدّد الله
تعالى فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين ، وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف
أمورهم ، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ،
أقبل عليهم بالخطاب ، وهو من الالتفات المذكور عند قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) ، وهو فنّ من الكلام جزل ، فيه هزّ وتحريك من السامع ، كما
أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما : إنّ فلانا من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه
ما فرط منه ، ثم عدلت
__________________
بخطابك إلى الثالث
فقلت : يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجارى أمورك ، وتستوي على جادّة
السداد في مصادرك ومواردك ، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه ، واستدعيت إصغاءه إلى
إرشادك زيادة استدعاء ، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه
ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من
صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول ، وبلغنا بإسناد
صحيح عن إبراهيم عن علقمة : أنّ كل شيء نزل فيه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكي ، و (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدنى ، فقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) خطاب لمشركي مكة ، و «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد ،
صوت يهتف به الرجل بمن يناديه. وأما نداء القريب فله أى والهمزة ، ثم استعمل في
مناداة من سها وغفل وإن قرب. تنزيلا له منزلة من بعد ، فإذا نودي به القريب
المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معنىّ به جداً. فإن قلت : فما
بال الداعي يقول في جؤاره : يا رب ، ويا الله ، وهو
أقرب إليه من حبل الوريد ، وأسمع به وأبصر؟ قلت : هو استقصار منه لنفسه ، واستبعاد
لها من مظانّ الزلفى وما يقرّبه إلى رضوان الله ومنازل المقرّبين ، هضما لنفسه
وإقرارا عليها بالتفريط في جنب الله ، مع فرط التهالك على استجابة دعوته والإذن
لندائه وابتهاله ، و «أى» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، كما أنّ «ذو» و «الذي»
وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل. وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما
يوضحه ويزيل إبهامه ، فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجرى مجراه يتصف به حتى يصح
المقصود بالنداء ، فالذي يعمل فيه حرف النداء هو «أىّ» والاسم التابع له صفته ،
كقولك : يا زيد الظريف ؛ إلا أن «أيا» لا يستقل بنفسه استقلال «زيد» فلم ينفك من
الصفة. وفي هذا التدرّج من الإبهام إلى التوضيح ضرب من التأكيد والتشديد. وكلمة
التنبيه
__________________
المقحمة بين الصفة
وموصوفها لفائدتين : معاضدة حرف النداء ومكانفته بتأكيد معناه ، ووقوعها عوضا مما
يستحقه أىّ من الإضافة. فان قلت : لم كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة ما
لم يكثر في غيره؟ قلت : لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة : لأن كل
ما نادى الله له عباده ـ من أوامره ونواهيه ، وعظاته وزواجره ووعده ووعيده ،
واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك مما أنطق به كتابه ـ أمور عظام ،
وخطوب جسام ، ومعان ـ عليهم أن يتيقظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها ،
وهم عنها غافلون. فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. فإن قلت : لا يخلو الأمر
بالعبادة من أن يكون متوجها إلى المؤمنين والكافرين جميعاً ، أو إلى كفار مكة خاصة
، على ما روى عن علقمة والحسن ، فالمؤمنون عابدون ربهم فكيف أمروا بما هم ملتبسون
به؟ وهل هو إلا كقول القائل :
فلَوَ انِّى
فَعَلْتُ كُنْتُ مَنْ تَسْأَلُهُ
|
|
وهُوَ قائمٌ أنْ
يَقُوما
|
وأما الكفار فلا
يعرفون الله ، ولا يقرّون به فكيف يعبدونه؟ قلت : المراد بعبادة المؤمنين :
ازديادهم منها وإقبالهم وثباتهم عليها. وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بد
لها منه وهو الإقرار. كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية
وغيرهما وما لا بد للفعل منه ، فهو مندرج تحت الأمر به وإن لم يذكر ، حيث لم ينفعل
إلا به ، وكان من لوازمه. على أنّ مشركي مكة كانوا يعرفون الله ويعترفون به (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللهُ). فان قلت : فقد جعلت قوله : (اعْبُدُوا) متناولا شيئين معاً : الأمر بالعبادة ، والأمر بازديادها.
قلت : الازدياد من العبادة عبادة وليس شيئاً آخر. فإن قلت : (رَبَّكُمُ) ما المراد به؟ قلت : كان المشركون معتقدين ربوبيتين :
ربوبية الله ، وربوبية آلهتهم. فإن خصوا بالخطاب فالمراد به اسم يشترك فيه رب
السموات والأرض والآلهة التي كانوا يسمونها أربابا وكان قوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة موضحة مميزة. وإن كان الخطاب للفرق جميعاً ، فالمراد
به «ربكم»
__________________
على الحقيقة.
والذي خلقكم : صفة جرت عليه على طريق المدح والتعظيم. ولا يمتنع هذا الوجه في خطاب
الكفرة خاصة ، إلا أن الأول أوضح وأصح. والخلق : إيجاد الشيء على تقدير واستواء.
يقال : خلق النعل ، إذا قدرها وسواها بالمقياس. وقرأ أبو عمرو : (خلقكم) بالإدغام.
وقرأ أبو السميقع : وخلق من قبلكم. وفي قراءة زيد بن على : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهي قراءة مشكلة ، ووجهها على إشكالها أن يقال : أقحم
الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً ، كما أقحم جرير في قوله :
يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيّ لا أَبَا لَكُمُ
تيما الثاني بين
الأول وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في : لا
أبالك : ولعل للترجى أو الإشفاق. تقول : لعل زيداً يكرمني. ولعله يهينني.
__________________
وقال الله تعالى :
(لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ، (لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ). ألا ترى إلى قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْها). وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن ، ولكن
لأنه إطماع من كريم رحيم ، إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة ، لجرى إطماعه مجرى
وعده المحتوم وفاؤه به. قال من قال : إن «لعل» بمعنى «كى» ، و «لعل» لا تكون بمعنى
«كى» ، ولكن الحقيقة ما ألقيت إليك. وأيضا فمن ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم
ورسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا :
عسى ، ولعل ، ونحوهما من الكلمات أو يخيلوا إخالة. أو يظفر منهم بالرمزة أو
الابتسامة أو النظرة الحلوة ، فإذا عثر على شيء من ذلك منهم ، لم يبق للطالب ما
عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب. فعلى مثله ورد كلام مالك الملوك ذى العز
والكبرياء. أو يجيء على طريق الإطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد ، كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ). فان قلت : ف «لعل» التي في الآية ما معناها وما موقعها؟
قلت : ليست مما ذكرناه في شيء ، لأن قوله : (خَلَقَكُمْ) ، (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) ، لا يجوز أن يحمل على رجاء الله تقواهم لأن الرجاء لا
يجوز على عالم الغيب والشهادة : وحمله على أن يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد أيضا.
ولكن «لعل» واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة ، لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف
، وركب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين ،
ووضع في أيديهم زمام الاختيار ، وأراد منهم الخير والتقوى . فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم ـ وهم
مختارون بين الطاعة والعصيان ـ كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل ،
ومصداقه قوله عز وجل : (لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وإنما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب ، ولكن شبه
بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار. فإن قلت : كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون ،
فكذلك خلق الذين من قبلهم لذلك ، فلم قصره عليهم
__________________
دون من قبلهم؟ قلت
: لم يقصره عليهم ، ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم
جميعا. فان قلت : فهلا قيل تعبدون لأجل اعبدوا؟ أو اتقوا لمكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم. قلت : ليست
التقوى غير العبادة حتى يؤدّى ذلك إلى تنافر النظم. وإنما التقوى قصارى أمر العابد
ومنتهى جهده. فإذا قال : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ) للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة ،
وأشدّ إلزاما لها ، وأثبت لها في النفوس. ونحوه أن تقول لعبدك : احمل خريطة الكتب
، فما ملكتك يمينى إلا لجرّ الأثقال. ولو قلت : لحمل خرائط الكتب لم يقع من نفسه
ذلك الموقع.
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
(٢٢)
قدّم سبحانه من موجبات
عبادته وملزمات حق الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلا ؛ لأنه سابقة أصول النعم
ومقدمتها ، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما ، ثم خلق الأرض التي هي
مكانهم ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه ، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه ،
ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار ، ثم ما
سوّاه عزّ وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها.
والإخراج به من بطنها ـ أشباه النسل المنتج من الحيوان ـ من ألوان الثمار رزقا
لبنى آدم ، ليكون لهم ذلك معتبرا : ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد
والاعتراف ؛ ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكرون في خلق أنفسهم
وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء
منها ، فيتيقنوا عند ذلك أن لا بدّ لها من خالق ليس كمثلها ، حتى لا يجعلوا المخلوقات
له أندادا وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر. والموصول مع صلته
إمّا أن يكون في محل النصب وصفا كالذي خلقكم ، أو على المدح والتعظيم. وإمّا أن
يكون رفعا على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح. وقرأ يزيد الشامي : بساطا.
وقرأ
__________________
طلحة : مهادا.
ومعنى جعلها فراشا وبساطا ومهادا للناس : أنهم يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما
يتقلب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده. فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الأرض مسطحة
وليست بكرّية؟ قلت : ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش ، وسواء
كانت على شكل السطح. أو شكل الكرة ، فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع ، لعظم حجمها
واتساع جرمها وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهلا في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض ،
فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل. والبناء مصدر سمى به المبنى ـ بيتا كان أو
قبة أو خباء أو طرافا ـ وأبنية العرب : أخبيتهم ، ومنه بنى على امرأته ، لأنهم
كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا. فإن قلت : ما معنى إخراج الثمرات بالماء
وإنما خرجت بقدرته ومشيئته؟ قلت : المعنى أنه جعل الماء سببا في خروجها ومادّة لها
، كماء الفحل في خلق الولد ، وهو قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا
موادّ كما أنشأ نفوس الأسباب والموادّ ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجا لها من
حال إلى حال ، وناقلا من مرتبة إلى مرتبة حكما ودواعي يجدد فيها لملائكته والنظار
بعيون الاستبصار من عباده عبرا وأفكارا صالحة ، وزيادة طمأنينة ، وسكون إلى عظيم
قدرته وغرائب حكمته ، ليس ذلك في إنشائها بغتة من غير تدريج وترتيب. و «من» في (مِنَ الثَّمَراتِ) للتبعيض بشهادة قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، وقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ
ثَمَراتٍ). ولأنّ المنكرين أعنى : ماء ، ورزقا. يكتنفانه. وقد قصد
بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل : وأنزلنا من السماء بعض الماء ، فأخرجنا به بعض
الثمرات ، ليكون بعض رزقكم. وهذا هو المطابق لصحة المعنى ، لأنه لم ينزل من السماء
الماء كله ، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ، ولا جعل الرزق كله في الثمرات. ويجوز
أن تكون للبيان كقولك : أنفقت من الدراهم ألفا. فإن قلت : فيم انتصب (رِزْقاً)؟ قلت : إن كانت «من» للتبعيض. كان انتصابه بأنه مفعول له.
وإن كانت مبنية ، كان مفعولا لأخرج. فإن قلت : فالثمر المخرج بماء السماء كثير جمّ
فلم قيل الثمرات دون الثمر والثمار؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما أن يقصد بالثمرات
جماعة الثمرة التي في قولك : فلان أدركت ثمرة بستانه ، تريد ثماره. ونظيره قولهم :
كلمة الحويدرة ، لقصيدته. وقولهم للقرية : المدرة ، وإنما هي مدر متلاحق. والثاني
: أنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية ، كقوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) و (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). ويعضد الوجه الأوّل قراءة محمد بن السميقع : من الثمرة ،
على التوحيد. و (قَبْلِكُمْ) صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل
اسما للمعنى فهو
مفعول به ، كأنه قيل : رزقا إياكم. فإن قلت : بم تعلق (فَلا تَجْعَلُوا)؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه : أن يتعلق بالأمر. أى اعبدوا ربكم
فلا تجعلوا له (أَنْداداً) لأنّ أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل لله ندّ
ولا شريك. أو بلعل ، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب ، «فأطلع» في قوله عز وجل : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ.
أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) في رواية حفص عن عاصم ، أى خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه
فلا تشبهوه بخلقه ، أو بالذي جعل لكم ، إذا رفعته على الابتداء ، أى هو الذي خصكم
بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية ، فلا تتخذوا له شركاء.
والند : المثل. ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ. قال جرير :
أتَيماً
تَجْعَلُون إِلَىَّ نِداًّ
|
|
وما تَيْمٌ
لِذِى حَسَب نَدِيدَا
|
وناددت الرجل :
خالفته ونافرته ، من ندّ ندا إذا نفر. ومعنى قولهم : ليس لله ندّ ولا ضدّ نفى ما
يسدّ مسدّه ، ونفى ما ينافيه. فإن قلت : كانوا يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما
يعظم به من القرب ، وما كانوا يزعمون أنها تخالف الله وتناويه. قلت : لما تقرّبوا
إليها وعظموها وسموها آلهة ، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله ، قادرة على
مخالفته ومضادّته فقيل لهم ذلك على سبيل النهكم. كما تهكم بهم بلفظ الندّ ، شنع
عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ندّ قط. وفي
ذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه :
أرَبًّا واحِداً
أمْ ألْفُ رَبٍ
|
|
أدِينُ إذَا
تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ
|
__________________
وقرأ محمد بن
السميقع : فلا تجعلوا لله ندا. فإن قلت : ما معنى (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ). قلت : معناه : وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين
الصحيح والفاسد ، والمعرفة بدقائقالأمور وغوامض الأحوال ، والإصابة في التدابير ،
والدهاء والفطنة ، بمنزل لا تدفعون عنه. وهكذا كانت العرب ، خصوصاً ساكن والحرم من
قريش وكنانة ، لا يصطلى بنارهم في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها. ومفعول (تعلمون)
متروك كأنه قيل : وأنتم من أهل العلم والمعرفة. والتوبيخ فيه آكد ، أى أنتم
العرّافون المميزون. ثم إنّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله
أندادا ، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل. ويجوز أن يقدر : وأنتم تعلمون أنه لا
يماثل. أو : وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت. أو : وأنتم تعلمون أنها لا
تفعل مثل أفعاله ، كقوله : (هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
(٢٣)
لما احتج عليهم
بما يثبت الوحدانية ويحققها ، ويبطل الإشراك ويهدمه ، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك
وتصحيحه ، وعرفهم أنّ من أشرك فقد كابر عقله وغطى على ما أنعم عليه من معرفته
وتمييزه ـ عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما
يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأراهم كيف يتعرفون أهو من عند الله كما يدعى ،
أم هو من عند نفسه كما يدعون. بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ويذوقوا طباعهم وهم
أبناء جنسه وأهل جلدته. فان قلت : لم قيل : (مِمَّا نَزَّلْنا) على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت : لأن المراد النزول على
سبيل التدريج والتنجيم ، وهو من محازه لمكان التحدي. وذلك أنهم كانوا يقولون : لو
كان هذا من عند الله مخالفاً لما يكون من عند الناس ، لم ينزل هكذا نجوما سورة بعد
سورة وآيات غب آيات ، على حسب النوازل وكفاء الحوادث وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر ، من وجود ما
يوجد منهم مفرقا حيناً فحيناً ، وشيئاً فشيئا حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة
والحاجات السانحة ، لا يلقى الناظم ديوان شعره دفعة ،
__________________
ولا يرمى النائر
بمجموع خطبه أو رسائله ضربة ، فلو أنزله الله لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة :
قال الله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) ، فقيل: إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل
وتدريج ، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلموا نجما فردا من نجومه : سورة من
أصغر السور ، أو آيات شتى مفتريات. وهذه غاية التبكيت ، ومنتهى إزاحة العلل. وقرئ (على
عبادنا) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته. والسورة : الطائفة من القرآن
المترجمة التي أقلها ثلاث آيات. وواوها إن كانت أصلا ، فإما أن تسمى بسورة المدينة
وهي حائطها ، لأنها طائفة من القرآن محدودة محوّزة على حيالها ، كالبلد المسوّر ،
أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد ، كاحتواء سورة المدينة على
ما فيها. وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة. قال النابغة :
ولرَهْطِ
حَرَّابٍ وقَدٍ سُورَةٌ
|
|
في المَجْدِ
لَيْسَ غُرَابُهَا بمُطَارِ
|
لأحد معنيين ، لأن
السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ : وهي أيضاً في أنفسها مترتبة :
طوال وأوساط وقصار ، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين. وإن جعلت واوها منقلبة
عن همزة ، فلأنها قطعة وطائفة من القرآن ، كالسؤرة التي هي البقية من الشيء
والفضلة منه. فان قلت : ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً؟ قلت : ليست الفائدة
في ذلك واحدة. ولأمر ما أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى
أنبيائه على هذا المنهاج مسوّرة مترجمة السور. وبوّب المصنفون في كل فنّ كتبهم
أبوابا موشحة الصدور بالتراجم. ومن فوائده : أنّ الجنس إذا انطوت تحته أنواع ،
واشتمل على أصناف ، كان
__________________
أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون بيانا واحدا. ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو
بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه ، وأبعث على الدرس والتحصيل
منه لو استمر على الكتاب بطوله. ومثله المسافر ، إذا علم أنه قطع ميلا ، أو طوى
فرسخا ، أو انتهى إلى رأس بريد : نفس ذلك منه ونشطه للسير. ومن ثم جزأ القرّاء
القرآن أسباعا وأجزاء وعشورا وأخماسا. ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة ، اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها
فاتحة وخاتمة ، فيعظم عنده ما حفظه ، ويجل في نفسه ويغتبط به. ومنه حديث أنس رضى
الله عنه : «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران ، جد فينا » ومن ثمة كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل. ومنها
أنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحظ المعاني
ويتجاوب النظم ، إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع (مِنْ مِثْلِهِ) متعلق بسورة صفة لها أى بسورة كائنة من مثله. والضمير لما
نزلنا ، أو لعبدنا. ويجوز أن يتعلق بقوله : (فَأْتُوا) والضمير للعبد. فإن قلت : وما مثله حتى يأتوا بسورة من ذلك
المثل؟ قلت : معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في
حسن النظم. أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب
ولم يأخذ من العلماء ، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك. ولكنه نحو قول القبعثرى
للحجاج ـ وقد قال له : لأحملنك على الأدهم ـ : مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب.
أراد
__________________
من كان على صفة
الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد. ولم يقصد أحدا يجعله مثلا للحجاج. وردّ
الضمير إلى المنزل أوجه ، لقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ). (فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ) ، (عَلى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح
الأساليب ، والكلام مع ردّ الضمير إلى المنزل أحسن ترتيبا. وذلك أن الحديث في
المنزل لا في المنزل عليه ، وهو مسوق إليه ومربوط به ، فحقه أن لا يفك عنه برد الضمير
إلى غيره. ألا ترى أن المعنى : وإن ارتبتم في أنّ القرآن منزل من عند الله. فهاتوا
أنتم نبذاً مما يماثله ويجانسه. وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يقال : وإن ارتبتم في أنّ محمداً مُنزل عليه فهاتوا
قرآنا من مثله. ولأنهم إذا خوطبوا جميعاً ـ وهم الجم الغفير ـ بأن يأتوا بطائفة
يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم ، كان أبلغ في التحدّى من أن يقال لهم : ليأتى
واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد ، ولأنّ هذا التفسير هو الملائم لقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة. ومعنى
(دون) أدنى مكان من الشيء. ومنه الشيء الدون ، وهو الدنىّ الحقير ، ودوّن الكتب ،
إذا جمعها ، لأن جمع الأشياء إدناء بعضها من بعض وتقليل المسافة بينها. يقال : هذا
دون ذاك ، إذا كان أحط منه قليلا. ودونك هذا : أصله خذه من دونك. أى من أدنى مكان
منك فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم.
ومنه قول من قال لعدوّه وقد رآه بالثناء عليه : أنا دون هذا وفوق ما في نفسك ،
واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حدّ إلى حدّ وتخطى حكم إلى حكم.
قال الله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أى لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. وقال
أمية :
يا نَفْسُ مالَكِ دُونَ اللهِ مِنْ وَاقِى
__________________
أى إذا تجاوزت
وقاية الله ولم تناليها لم يقك غيره. و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بادعوا أو بشهدائكم. فإن علقته بشهدائكم فمعناه :
ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم
على الحق. أو ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله من قول الأعشى :
تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وهِىَ دُونَهُ
أى تريك القذى
قدّامها وهي قدّام القذى ، لرقتها وصفائها. وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا
ينطق في معارضة القرآن بفصاحته : غاية التهكم بهم. وادعوا شهداءكم من دون الله ،
أى من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ، ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله. وهذا من
المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأنّ شهداءهم وهم مدارة القوم ، الذين هم وجوه المشاهد وفرسان المقاولة والمناقلة ، تأبى
عليهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد
البين عندهم فساده واستقامة المحال الجلى في عقولهم إحالته ، وتعليقه بالدعاء في
هذا الوجه جائز. وإن علقته بالدعاء فمعناه : ادعوا من دون الله شهداءكم ، يعنى لا
تستشهدوا بالله ولا تقولوا : الله يشهد أنّ ما ندعيه حق ، كما يقوله العاجز عن
إقامة البينة على صحة دعواه وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينة تصحح بها
الدعاوى عند الحكام. وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخذالهم. وأنّ الحجة قد
بهرتهم ولم تبق لهم متشبثاً غير قولهم : الله يشهد أنا صادقون. وقولهم هذا : تسجيل
منهم على أنفسهم بتناهي العجز وسقوط القدرة.
__________________
وعن بعض العرب أنه
سئل عن نسبه فقال : قرشىّ والحمد لله. فقيل له : قولك «الحمد لله» في هذا المقام
ريبة. أو ادعوا من دون الله شهداءكم : يعنى أنّ الله شاهدكم لأنه أقرب إليكم من
حبل الوريد ، وهو بينكم وبين أعناق رواحلكم. والجن والإنس شاهدوكم فادعوا كل من
يشهدكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا الله تعالى ، لأنه القادر وحده على أن
يأتى بمثله دون كل شاهد من شهدائكم ، فهو في معنى قوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ) ... الآية.
(فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(٢٤)
لما أرشدهم إلى
الجهة التي منها يتعرّفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به حتى يعثروا على
حقيقته وسرّه وامتياز حقه من باطله. قال لهم فإذا لم تعارضوه ولم يتسهل لكم ما
تبغون وبان لكم أنه معجوز عنه ، فقد صرح الحق عن محضه ووجب التصديق ؛ فآمنوا
وخافوا العذاب المعدّ لمن كذب. وفيه دليلان على إثبات النبوّة : صحة كون المتحدى
به معجزاً ، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله. فان قلت :
انتفاء إتيانهم بالسورة واجب ، فهلا جيء ب «إذا» الذي للوجوب دون «إن» الذي للشك.
قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم ، وأن العجز
عن المعارضة كان قبل التأمّل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم
على الكلام. والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه
بالغلبة على من يقاويه : إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكما
به. فإن قلت : لم عبر عن الإتيان بالفعل وأى فائدة في تركه إليه؟ قلت : لأنه فعل
من الأفعال. تقول : أتيت فلانا ، فيقال لك : نعم ما فعلت. والفائدة فيه أنه جار
مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً ووجازة تغنيك عن طول المكنى عنه. ألا ترى أنّ
الرجل يقول : ضربت زيداً في موضع كذا على صفة كذا ، وشتمته ونكلت به ، ويعد كيفيات
وأفعالا ، فتقول : بئسما فعلت. ولو ذكرت ما أنبته عنه ، لطال عليك ، وكذلك لو لم
يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل ، لاستطيل أن يقال : فإن لم تأتوا بسورة من
مثله. ولن تأتوا بسورة من مثله. فإن قلت : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) ما محلها؟ قلت : لا محل لها لأنها جملة اعتراضية. فإن قلت
: ما حقيقة «لن» في باب النفي؟ قلت : «لا» و «لن» أختان في نفى المستقبل ، إلا أن
في «لن» توكيداً وتشديداً. تقول لصاحبك : لا أقيم غداً ، فإن أنكر عليك قلت : لن
أقيم غداً ؛ كما تفعل في : أنا مقيم ، وإنى مقيم. وهي عند الخليل في إحدى
الروايتين عنه
أصلها «لا أن»
وعند الفراء «لا» أبدلت ألفها نونا. وعند سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل : حرف
مقتضب لتأكيد نفى المستقبل. فإن قلت : من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو به
حتى يكون معجزة؟ قلت : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه
، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال ، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من
الذابين عنه ، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به فكان معجزة. فإن
قلت : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت : إنهم
إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة ، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؛ وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا ، استوجبوا
العقاب بالنار ؛ فقيل لهم : إن استبنتم العجز فاتركوا العناد ؛ فوضع (فَاتَّقُوا النَّارَ) موضعه ، لأنّ اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، من
حيث أنه من نتائجه ؛ لأنّ من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه
: إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطى. يريد : فأطيعونى واتبعوا أمرى ، وافعلوا ما
هو نتيجة حذر السخط. وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة. وفائدته
الإيجاز الذي هو من حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد بإنابة اتقاء النار منابه
وإبرازه في صورته ، مشيعاً ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها.
والوقود : ما ترفع
به النار. وأمّا المصدر فمضموم ، وقد جاء فيه الفتح. قال سيبويه :
وسمعنا من العرب
من يقول : وقدت النار وقوداً عاليا. ثم قال : والوقود أكثر ، والوقود الحطب. وقرأ
عيسى بن عمر الهمدانىّ ـ بالضم ـ تسمية بالمصدر ، كما يقال : فلان فخر قومه وزين
بلده. ويجوز أن يكون مثل قولك : حياة المصباح السليط ، أى ليست حياته إلا به ؛
فكأنّ نفس السليط حياته ، فإن قلت : صلة «الذي» و «التي» يجب أن تكون قصة معلومة ،
للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت : لا يمتنع أن
يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى في سورة التحريم (ناراً وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) فإن قلت : فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في
سورة التحريم ، وهاهنا معرّفة؟ قلت : تلك الآية نزلت بمكة ، فعرفوا منها ناراً
موصوفة بهذه الصفة. ثم نزلت هذه بالمدينة مشاراً بها إلى ما عرفوه أوّلا.
__________________
فإن قلت : ما معنى
قوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ)؟ قلت : معناه أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران ، بأنها
لا تتقد إلا بالناس والحجارة ، وبأن غيرها إن أريد إحراق الناس بها أو إحماء
الحجارة أو قدت أوّلا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه ، وتلك ـ أعاذنا
الله منها برحمته الواسعة ـ توقد بنفس ما يحرق ويحمى بالنار ، وبأنها لإفراط حرّها
وشدّة ذكائها إذا اتصلت بما لا تشتعل به نار ، اشتعلت وارتفع لهبها. فإن قلت :
أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة ، أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟
قلت : بل هي نيران شتى ، منها نار توقد بالناس والحجارة ، يدل على ذلك تنكيرها في
قوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) ، (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى). ولعل لكفار الجن وشياطينهم ناراً وقودها الشياطين ، كما
أنّ لكفرة الإنس ناراً وقودها هم ، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب. فإن قلت :
لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقوداً. قلت : لأنهم قرنوا بها أنفسهم
في الدنيا ، حيث نحتوها أصناما وجعلوها لله أنداداً أو عبدوها من دونه : قال الله
تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وهذه الآية مفسرة لما نحن فيه. فقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ) في معنى الناس والحجارة ، و (حَصَبُ جَهَنَّمَ) في معنى وقودها. ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من
دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم
بمكانهم ، جعلها الله عذابهم ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم ، إبلاغا في إيلامهم
وإعراقا في تحسيرهم ، ونحوهم ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم
عدّة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها
جباههم وجنوبهم. وقيل : هي حجارة الكبريت ، وهو تخصيص بغير دليل وذهاب عما هو
المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل (أُعِدَّتْ) هيئت لهم وجعلت عدّة لعذابهم. وقرأ عبد الله ، أعتدت ، من
العتاد بمعنى الغدة.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥)
__________________
من عادته عز وجل
في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط ،
لاكتساب ما يزلف ، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم
بالعقاب ، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل
الطاعات وترك المعاصي ، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب. فإن قلت : من
المأمور بقوله تعالى : (وَبَشِّرِ)؟ قلت : يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن
يكون كل أحد. كما قال عليه الصلاة والسلام «بشر المشاءين إلى المساجد في الظلم
بالنور التام يوم القيامة » لم يأمر بذلك واحداً بعينه. وإنما كل أحد مأمور به ، وهذا
الوجه أحسن وأجزل ؛ لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل
من قدر على البشارة به. فإن قلت : علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهى يصح
عطفه عليه؟ قلت : ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى
يعطف عليه ؛ إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على جمة
وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق ، وبشر عمراً بالعفو
والإطلاق. ولك أن تقول : هو معطوف على قوله : (فَاتَّقُوا) كما تقول : يا بنى تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشر يا
فلان بنى أسد بإحسانى إليهم. وفي قراءة زيد بن علىّ رضى الله عنه : (وَبَشِّرِ) على لفظ المبنىّ للمفعول عطفاً على : (أُعِدَّتْ). والبشارة : الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال
العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرنى بقدوم فلان فهو حرّ ، فبشروه فرادى ، عتق
أوّلهم ، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان «بشرنى» «أخبرنى»
عتقوا جميعاً ، لأنهم جميعاً أخبروه. ومنه : البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح :
ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ
المستهزأ به وتألمه واغتمامه ، كما يقول الرجل لعدوّه : أبشر بقتل ذرّيتك ونهب
مالك. ومنه قوله :
__________________
فَأعْتَبُوا بِالصَّيْلَمِ
والصالحة نحو
الحسنة في جريها مجرى الاسم. قال الحطيتة :
كيْفَ الهِجَاءُ
وما تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ
|
|
مِنْ آلِ لَأْمٍ
بظهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينِى
|
والصالحات : كل ما
استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة ، واللام للجنس. فإن قلت : أى فرق
بين لام الجنس داخلة على المفرد ، وبينها داخلة على المجموع؟ قلت : إذا دخلت على
المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به ، وأن يراد به بعضه إلى الواحد
منه. وإذا دخلت على المجموع ، صلح أن يراد به جميع الجنس ، وأن يراد به بعضه لا
إلى الواحد منه ؛ لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول
الجنسية ، والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه. فإن قلت : فما المراد بهذا المجموع
مع اللام؟ قلت : الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن
في مواجب التكليف.
والجنة : البستان
من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. قال زهير ؛
تَسقِى جَنَّةً سُحُقَا
__________________
أى نحلا طوالا.
والتركيب دائر على معنى الستر ، وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي
المرّة ، من مصدر جنه إذا ستره ، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها. وسميت دار
الثواب «جنة» لما فيها من الجنان. فإن قلت : الجنة مخلوقة أم لا؟ قلت : قد اختلف
في ذلك. والذي يقول إنها مخلوقة يستدل بسكنى آدم وحواء الجنة وبمجيئها في القرآن
على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام ، كالنبي والرسول والكتاب ونحوها. فان
قلت : ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت : الجنة اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة
على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين ، لكل طبقة منهم جنات من
تلك الجنان. فان قلت : أما يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل الصالح أن لا
يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ؛ وأن لا يندم على ما أوجده من فعل
الطاعة وترك المعصية؟ فهلا شرط ذلك؟ قلت : لما جعل الثواب مستحقا بالإيمان والعمل
الصالح ، والبشارة مختصة بمن يتولاهما ، وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق
فاعله عليه المثوبة والثناء ، إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه ، وأنه لا يبقى
مع وجود مفسده إحساناً ، وأعلم بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم
الناس عليه وأعزهم : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، وقال تعالى المؤمنين : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) كان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر.
فان قلت : كيف صورة جرى الأنهار من تحتها؟ قلت : كما ترى الأشجار النابتة على
شواطئ الأنهار الجارية. وعن مسروق : أن أنهار الجنة تجرى في غير أخدود. وأنزه
البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة ، والأنهار في خلالها مطردة. ولو لا
أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ، وأن الجنان والرياض وإن كانت
آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية
__________________
والنشاط حتى يجرى
فيها الماء ، وإلا كان الأنس الأعظم فائتا ، والسرور الأوفر مفقوداً ، وكانت
كتماثيل لا أرواح فيها ، وصور لا حياة لها ، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات
مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما
من صاحبه ، ولما قدّمه على سائر نعوتها. والنهر : المجرى الواسع فوق الجدول ودون
البحر. يقال لبردى : نهر دمشق ، وللنيل : نهر مصر. واللغة العالية «النهر» بفتح
الهاء. ومدار التركيب على السعة ، وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازى
كقولهم : بنو فلان يطؤهم الطريق ، وصيد عليه يومان. فإن قلت : لم نكرت الجنات
وعرّفت الأنهار. قلت : أما تنكير الجنات فقد ذكر. وأما تعريف الأنهار فأن يراد
الجنس ، كما تقول : لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه ،
تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب. أو يراد أنهارها ، فعوّض التعريف باللام من
تعريف الإضافة كقوله : (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً). أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ
، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) ـ الآية.
وقوله (كُلَّما رُزِقُوا) لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف
، أو جملة مستأنفة ؛ لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار
تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا ، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس؟ فقيل إنّ
ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا ، أى أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا
يعلمها إلا الله. فان قلت : ما موقع (مِنْ ثَمَرَةٍ)؟ قلت : هو كقولك : كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا
حمدتك. فموقع (مِنْ ثَمَرَةٍ) موقع قولك من الرمان ، كأنه قيل : كلما رزقوا من الجنات من
أى ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك. فمن
الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدئ من الجنات ، والرزق
من الجنات قد ابتدئ من ثمرة. وتنزيله تنزيل أن تقول : رزقني فلان ، فيقال لك : من
أين؟ فتقول : من بستانه ، فيقال : من أى ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول : من رمّان.
وتحريره أن «رزقوا» جعل مطلقا مبتدأ من ضمير الجنات ، ثم جعل مقيدا بالابتداء من
ضمير الجنات ، مبتدأ من ثمرة ، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة
الفذة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار. ووجه آخر : وهو أن
يكون (مِنْ ثَمَرَةٍ) بيانا على منهاج قولك : رأيت منك أسداً. تريد
أنت أسد. وعلى هذا
يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار ، والجنات الواحدة. فإن قلت : كيف قيل (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في
الدنيا؟ قلت : معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل . وشبهه بدليل قوله وأتوا به متشابها ، وهذا كقولك : أبو
يوسف أبو حنيفة ، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته. فإن قلت : إلام يرجع
الضمير في قوله : (وَأُتُوا بِهِ)؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً ؛ لأنّ قوله
: (هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. ونظيره قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً
فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أى بجنسى الغنى والفقير لدلالة قوله : غنيا أو فقيرا على
الجنسين. ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد. فإن قلت : لأى
غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة ، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناسا أخر؟ قلت :
لأنّ الإنسان بالمألوف آنس ، وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه
طبعه وعافته نفسه ، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم له معه ألف
، ورأى فيه مزية ظاهرة ، وفضيلة بينة ، وتفاوتا بينه وبين ما عهد بليغاً ، أفرط
ابتهاجه واغتباطه ، وطال استعجابه واستغرابه ، وتبين كنه النعمة فيه ، وتحقق مقدار
الغبطة به. ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقا ، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا
كذلك ، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا
ومبلغها في الحجم ، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة ، ثم يبصرون رمّانة
الجنة تشبع السكن. والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة ، ثم يرون نبق الجنة كقلال
هجر ، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده ، ثم يرون الشجرة في الجنة
يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه ، كان ذلك أبين للفضل ، وأظهر للمزية ،
وأجلب للسرور ، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد
سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها ، دليل على
تناهى الأمر وتمادى الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة ، وعلى أنّ ذلك التفاوت
العظيم هو الذي يستملى تعجبهم ، ويستدعى تبجحهم في كل أوان. عن مسروق : «نخل الجنة
نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى
، وأنهارها تجرى في غير أخدود ، والعنقود اثنتا عشرة
__________________
ذراعا». ويجوز أن
يرجع الضمير في : (أُتُوا بِهِ) إلى الرزق ، كما أن هذا إشارة إليه ، ويكون المعنى : أن ما
يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه ، كما يحكى عن الحسن : يؤتى أحدهم
بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول
الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف. وعنه صلى الله عليه وسلم : «والذي نفس
محمد بيده ، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي
بواصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها» فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا
ذلك. والتفسير الأوّل هو هو. فإن قلت : كيف موقع قوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) من نظم الكلام؟ قلت : هو كقولك : فلان أحسن بفلان ونعم ما
فعل. ورأى من الرأى كذا وكان صوابا. ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها
أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة
للتقرير. والمراد بتطهير الأزواج : أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة
، وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس. ويجوز لمجيئه مطلقاً : أن يدخل تحته
الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا ، مما يكتسبن بأنفسهنّ ،
ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشئ المفسدة ، ومن سائر عيوبهنّ
ومثالبهنّ وخبثهنّ وكيدهنّ. فان قلت : فهلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت
: هما لغتان فصيحتان. يقال : النساء فعلن ، وهنّ فاعلات وفواعل ، والنساء فعلت ،
وهي فاعلة. ومنه بيت الحماسة :
وإذَا
العَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ
|
|
واسْتَعْجَلَتْ
نَصْبَ القُدُورِ فملَّتِ
|
__________________
والمعنى وجماعة
أزواج مطهرة . وقرأ زيد بن على : (مطهرات) وقرأ عبيد بن عمير : مطهرة ،
بمعنى متطهرة. وفي كلام بعض العرب : ما أحوجنى إلى بيت الله. فأطهر به أطهرة. أى
فأتطهر به تطهرة. فإن قلت : هلا قيل طاهرة؟ قلت : في «مطهرة» فخامة لصفتهنّ ليست
في طاهرة ، وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهنّ. وليس ذلك إلا الله عزّ وجلّ المريد
بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزية فيما أعدّ لهم.
والخلد : الثبات
الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع. قال الله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ
الْخُلْدَ ، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ). وقال امرؤ القيس :
ألَا انْعَمْ
صَبَاحاً أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِى
|
|
وهَلْ
يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالى
|
وهَلْ
يَنْعَمَنْ إلّا سَعِيدٌ مُخَلّدٌ
|
|
قَلِيلُ
الهُمُومِ مَا يَبِيتُ بأوْجَالِ
|
(إِنَّ
اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً
__________________
يُضِلُّ
بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢٧)
سيقت هذه الآية
لبيان أنّ ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من
أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ،
من قبل أنّ التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض
المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد. فان كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به
مثله ، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك. فليس العظم والحقارة في المضروب به
المثل إذاً إلا أمراً تستدعيه حال المتمثل له وتستجرّه إلى نفسها ، فيعمل الضارب
للمثل على حسب تلك القضية. ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً جلياً أبلج ، كيف تمثل
له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته ، كيف تمثل له بالظلمة؟ ولما
كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى لا حال أحقر منها وأقلّ ،
ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن ، وجعلت أقلّ من الذباب وأخس قدرا ،
وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا لم يستنكر ولم يستبدع ، ولم يقل للمتمثل :
استحى من تمثيلها بالبعوضة ، لأنه مصيب في تمثيله ، محق في قوله ، سائق للمثل على
قضية مضربه ، محتذ على مثال ما يحتكمه ويستدعيه ، ولبيان أنّ المؤمنين الذين
عادتهم الإنصاف والعمل على العدل والتسوية والنظر في الأمور بناظر العقل ، إذا
سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمرّ الشبهة بساحته ، والصواب الذي
لا يرتع الخطأ حوله. وأنّ الكفار الذين غلبهم الجهل على عقولهم ، وغصبهم على
بصائرهم فلا يتفطنون ولا يلقون أذهانهم ، أو عرفوا أنه الحق إلا أنّ حب الرياسة
وهوى الألف والعادة لا يخليهم أن ينصفوا ، فإذا سمعوه عاندوا وكابروا وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، وأنّ
ذلك سبب زيادة هدى المؤمنين وانهماك الفاسقين في غيهم وضلالهم. والعجب منهم كيف
أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات
والهوام ، وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها
بأحقر الأشياء
__________________
فقالوا : أجمع من
ذرّة ، وأجرأ من الذباب ، وأسمع من قراد ، وأصرد من جرادة ، وأضعف من فراشة ، وآكل من السوس. وقالوا في البعوضة :
أضعف من بعوضة ، وأعز من مخ البعوض. وكلفتنى مخ البعوض. ولقد ضربت الأمثال في
الإنجيل بالأشياء المحقرة ، كالزوان والنخالة وحبة الخردل ، والحصاة ، والأرضة ، والدود ، والزنابير.
والتمثيل بهذه الأشياء وبأحقر منها مما لا تغنى استقامته وصحته على من به أدنى
مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة
ولا إقناع ، أن يرمى لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح وإنكار
المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معوّلا. وعن الحسن
وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت
اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله. فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
والحياء تغير
وانكسار يعترى الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذم. واشتقاقه من الحياة. يقال : حيي
الرجل ، كما يقال : نسى وحشى وشظى الفرس ، إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحي لما يعتريه من الانكسار والتغير ، منتكس القوّة
منتقص الحياة ، كما قالوا : هلك فلان حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلاك في
وجهه من شدّة الحياء. وذاب حياء ، وجمد في مكانه خجلا. فإن قلت : كيف جاز وصف
القديم سبحانه به ولا يجوز عليه التغير والخوف والذم ، وذلك في حديث سلمان
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله حي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردّهما صفرا حتى يضع
فيهما خيرا». قلت :
__________________
هو جار على سبيل
التمثيل مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك
ردّ المحتاج إليه حياء منه. وكذلك معنى قوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي) أى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيى أن يتمثل بها
لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة ، فقالوا : أما يستحيى رب محمد
أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على
السؤال. وهو فنّ من كلامهم بديع ، وطراز عجيب ، منه قول أبى تمام :
مَنْ مُبْلِغٌ
أَفْناءَ يَعْرُبَ كُلَّها
|
|
أَنِّى بَنَيْتُ
الجَارَ قبْلَ المَنْزِلِ؟
|
وشهد رجل عند
شريح. فقال : إنك لسبط الشهادة. فقال الرجل : إنها لم تجعد عنى. فقال : لله بلادك
، وقبل شهادته. فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة. ولولا
بناء الدار لم يصح بناء الجار. وسبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها. ولله درّ أمر
التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها ، لا تكاد تستغرب منها فنا إلا عثرت عليه
فيه على أقوم مناهجه وأسدّ مدارجه. وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه :
إذَا مَا
اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نفْسَهُ
|
|
كرَعْنَ بِسبْتٍ
في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ
|
__________________
وقرأ ابن كثير في
رواية شبل (يستحى) بياء واحدة. وفيه لغتان : التعدي بالجارّ والتعدي بنفسه. يقولون
: استحييت منه واستحييته ، وهما محتملتان هاهنا.
وضرب المثل :
اعتماده وصنعه ، من ضرب اللبن وضرب الخاتم. وفي الحديث «اضطرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم خاتما من ذهب» و (ما) هذه
إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته
شياعا وعموما ، كقولك : أعطنى كتابا مّا ، تريد أى كتاب كان. أو ضلة للتأكيد ،
كالتي في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ) كأنه قيل : لا يستحيى أن يضرب مثلا حقاً أو البتة ، هذا
إذا نصبت (بَعُوضَةً) فإن رفعتها فهي موصولة ، صلتها
__________________
الجملة ؛ لأن
التقدير : هو بعوضة ، فحذف صدر الجملة كما حذف في : (تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ) ووجه آخر حسن جميل ، وهو أن تكون التي فيها معنى الاستفهام
لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال : إنّ الله لا يستحي أن يضرب
للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة مثلا ، بله البعوضة فما فوقها ، كما يقال :
فلان لا يبالى بما وهب ما دينار وديناران. والمعنى : أن لله أن يتمثل للأنداد
وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ وبما
لا يدركه لتناهيه في صغره إلا هو وحده بلطفه ، أو بالمعدوم ، كما
تقول العرب : فلان أقل من لا شيء في العدد. ولقد ألم به قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) وهذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج ، وهو أمضغ العرب
للشيح والقيصوم ، والمشهود له بالفصاحة ، وكانوا يشبهون به الحسن ، وما أظنه ذهب
في هذه القراءة إلا إلى هذا الوجه ، وهو المطابق لفصاحته. وانتصب (بَعُوضَةً) بأنها عطف بيان لمثلا. أو مفعول ليضرب ، و (مَثَلاً) حال عن النكرة مقدمة عليه. أو انتصبا مفعولين فجرى «ضرب»
مجرى «جعل». واشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب. يقال : بعضه
البعوض. وأنشد :
لَنِعْمَ
البَيْتُ بَيْتُ أَبى دِثارٍ
|
|
إذَا مَا خافَ
بعضُ القَوْمِ بَعْضَا
|
ومنه : بعض الشيء
لأنه قطعه منه. والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت. وكذلك الخموش (فَما فَوْقَها) فيه معنيان : أحدهما : فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى
الذي ضربت فيه مثلا ، وهو القلة والحقارة ، نحو قولك ـ لمن يقول : فلان أسفل الناس
وأنذلهم ـ :
__________________
هو فوق ذاك ، تريد
هو أبلغ وأعرق فيما وصف به من السفالة والنذالة. والثاني : فما زاد عليها في الحجم
، كأنه قصد بذلك ردّ ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، لأنهما أكبر من
البعوضة. كما تقول لصاحبك ـ وقد ذمّ من عرفته يشح بأدنى شيء فقال ؛ فلان بخل
بالدرهم والدرهمين ـ : هو لا يبالى أن يبخل بنصف درهم فما فوقه ، تريد بما فوقه ما
بخل فيه وهو الدرهم والدرهمان ، كأنك قلت : فضلا عن الدرهم والدرهمين. ونحوه في
الاحتمالين ما سمعناه في صحيح مسلم عن إبراهيم عن الأسود قال : دخل شباب من قريش
على عائشة رضى الله عنها وهي بمنى وهم يضحكون. فقالت : ما يضحككم؟ قالوا : فلان
خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب. فقالت : لا تضحكوا. إنى سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها
درجة ومحيت بها عنه خطيئة» يحتمل فما عدا الشوكة وتجاوزها في القلة وهي نحو نخبة
النملة في قوله عليه الصلاة والسلام : «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه
حتى نخبة النملة » وهي عضتها. ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على
طنب الفسطاط. فإن قلت : كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ قلت
: ليس كذلك ، فإن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات ، وقد ضربه رسول الله صلى
الله عليه وسلم مثلا للدنيا ، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها ، ربما رأيت في
تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحادّ إلا تحركها ، فإذا سكنت
فالسكون يواريها ، ثم إذا لوحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها ، فسبحان من يدرك
صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها ويبصر بصرها ويطلع على ضميرها
، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر (سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) وأنشدت لبعضهم :
يَا مَنْ يَرَى
مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَها
|
|
في ظُلْمَةِ
اللَّيْلِ البَهِيمِ الألْيَلِ
|
ويَرَى عُرُوقَ
نِيَاطِها في نَحْرِها
|
|
والمُخَّ في
تِلْكَ العِظَامِ النّحَّلِ
|
اغْفِرْ لِعبْدٍ
تابَ مِنْ فَرَطاتِهِ
|
|
ما كانَ مِنْهُ
في الزَّمانِ الأوَّلِ
|
__________________
و (فَأَمَّا) حرف فيه معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء. وفائدته في
الكلام أن يعطيه فضل توكيد. تقول : زيد ذاهب. فإذا قصدت توكيد ذاك وأنه لا محالة
ذاهب وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت : أمّا زيد فذاهب. ولذلك قال سيبويه في
تفسيره : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب. وهذا التفسير مدل لفائدتين : بيان كونه
توكيداً ، وأنه في معنى الشرط. ففي إيراد الجملتين مصدّرتين به ـ وإن لم يقل :
فالذين آمنوا يعلمون ، والذين كفروا يقولون ـ إحماد عظيم لأمر المؤمنين ، واعتداد
بعلمهم أنه الحق ، ونعى على الكافرين إغفالهم حظهم وعنادهم ورميهم بالكلمة
الحمقاء. و (الْحَقُ) الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. يقال : حق الأمر ، إذا ثبت
ووجب. وحقت كلمة ربك ، وثوب محقق : محكم النسج : و (ما ذا) فيه وجهان : أن يكون ذا اسماً موصولا بمعنى الذي ، فيكون
كلمتين. وأن يكون (ذا) مركبة مع (ما) مجعولتين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة ،
فهو على الوجه الأوّل مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته. وعلى الثاني
منصوب المحل في حكم (ما) وحده لو قلت : ما أراد الله. والأصوب في جوابه أن يجيء
على الأوّل مرفوعا ، وعلى الثاني منصوباً ، ليطابق الجواب السؤال. وقد جوّزوا عكس
ذلك تقول ـ في جواب من قال : ما رأيت؟ ـ خير ، أى المرئي خير. وفي جواب ما الذي
رأيت؟ خيراً ، أى رأيت خيراً. وقرئ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) بالرفع والنصب على التقديرين. والإرادة نقيض الكراهة ، وهي
مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك. وفي حدود المتكلمين : الإرادة
معنى يوجب للحىّ حالا لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه. وقد اختلفوا في إرادة
الله ، فبعضهم على أنّ للباري مثل صفة المريد منا التي هي القصد ، وهو أمر زائد
على كونه عالما غير ساه. وبعضهم على أن معنى إرادته لأفعاله هو أنه فعلها وهو غير
ساه ولا مكره. ومعنى إرادته لأفعال غيره أنه أمر بها. والضمير في (أَنَّهُ الْحَقُ) للمثل ، أو لأن يضرب. وفي قولهم (ما ذا أراد الله بهذا
مثلا) استرذال واستحقار كما قالت عائشة رضى الله عنها في عبد الله بن عمرو بن
العاصي يا عجباً لابن عمرو
__________________
هذا؟ (مَثَلاً) نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث : ما ذا أردت
بهذا جوابا. ولمن حمل سلاحا رديا. كيف تنتفع بهذا سلاحا؟ أو على الحال ، كقوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً). وقوله : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جاز مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدّرتين بأما ، وأن
فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ،
وأنّ العلم بكونه حقاً من باب الهدى الذي ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم ،
وأنّ الجهل بحسن مورده من باب الضلالة التي زادت الجهلة خبطا في ظلمائهم. فإن قلت
: لم وصف المهديون بالكثرة ـ والقلة صفتهم ، (وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبادِيَ الشَّكُورُ) ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ، الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ، وجدت الناس أخبر
تقله؟ قلت : أهل الهدى كثير في أنفسهم ، وحين يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها
بالقياس إلى أهل الضلال. وأيضاً فإنّ القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا
في الصورة ، فسموا ذهاباً إلى الحقيقة كثيراً :
إنَّ الكِرَامَ
كثِيرٌ في البِلادِ وإنْ
|
|
قَلُّوا كَمَا
غَيْرُهُمْ قَلُّ وإنْ كَثُروا
|
وإسناد الإضلال
إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب : لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم
__________________
واهتدى به قوم ،
تسبب لضلالهم وهداهم. وعن مالك بن دينار رحمه الله أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال
عليه وقيد ، فقال : يا أبا يحيى ، أما ترى ما نحن فيه من القيود؟ فرفع مالك رأسه
فرأى سلة. فقال : لمن هذه السلة؟ فقال : لي ، فأمر بها تنزل ، فإذا دجاج وأخبصة ،
فقال مالك :
هذه وضعت القيود
على رجلك. وقرأ زيد بن على : يَضل به كثير. وكذلك : وما يَضل به إلا الفاسقون.
والفسق : الخروج عن القصد. قال رؤبة :
فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِها جَوَائرَا
والفاسق في
الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو النازل بين المنزلتين أى بين منزلة المؤمن والكافر ، وقالوا ؛ إنّ أوّل من حدّ
له هذا الحدّ : أبو حذيفة واصل بن عطاء رضى الله عنه وعن أشياعه . وكونه بين بين أنّ حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث
ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. وهو كالكافر في الذمّ واللعن والبراءة
منه واعتقاد عداوته ، وأن لا تقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيدية : أنّ
الصلاة لا تجزئ خلفه. ويقال للخلفاء المردة من الكفار : الفسقة. وقد جاء
الاستعمالان في كتاب الله. (بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ). يريد اللمز والتنابز (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
هُمُ الْفاسِقُونَ).
النقض : الفسخ وفك
التركيب. فإن قلت : من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت : من حيث
تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة ، لما فيه من ثبات الوصلة بين
المتعاهدين. ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة : يا رسول الله ، إنّ بيننا وبين
القوم حبالا ونحن قاطعوها ، فنخشى إنّ الله عز وجل أعزّك وأظهرك أن ترجع إلى قومك » وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء
المستعار ، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من
__________________
روادفه ، فينبهوا
بتلك الرمزة على مكانه. ونحوه قولك : شجاع يفترس أقرانه ، وعالم يغترف منه الناس ،
وإذا تزوّجت امرأة فاستوثرها. لم تقل هذا إلا وقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما
أسد وبحر ، وعلى المرأة بأنها فراش
والعهد : الموثق.
وعهد إليه في كذا : إذا وصاه به ووثقه عليه. واستعهد منه : إذا اشترط عليه واستوثق
منه : والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله : أحبار اليهود المتعنتون ، أو منافقوهم
، أو الكفار جميعاً. فإن قلت : فما المراد بعهد الله؟ قلت : ما ركز في عقولهم من
الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم ، وهو معنى قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول ـ يصدقه
الله بمعجزاته ـ صدّقوه واتبعوه ، ولم يكتموا ذكره فيما تقدّمه من الكتب المنزلة
عليهم ، كقوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). وقوله في الإنجيل لعيسى صلوات الله عليه : «سأنزّل عليك
كتاباً فيه نبأ بنى إسرائيل ، وما أريته إياهم من الآيات ، وما أنعمت عليهم وما
نقضوا من ميثاقهم الذي واثقوا به ، وما ضيعوا من عهده إليهم» وحسن صنعه للذين
قاموا بميثاق الله تعالى وأوفوا بعهده ، ونصره إياهم ، وكيف أنزل بأسه ونقمته
بالذين غدروا ونقضوا ميثاقهم ولم يوفوا بعهده ، لأنّ اليهود فعلوا باسم عيسى ما
فعلوا باسم محمد صلى الله عليهما وسلم من التحريف والجحود وكفروا به كما كفروا
بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : هو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ،
ولا يبغى بعضهم على بعض ، ولا يقطعوا أرحامهم. وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة
عهود : العهد الأوّل الذي أخذه على جميع ذرّية آدم ، الإقرار بربوبيته وهو قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ) ، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا
يتفرّقوا فيه ، وهو قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) وعهد خصّ به العلماء وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ). والضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من
قبوله وإلزامه أنفسهم. ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه ، كما أنّ الميعاد والميلاد ،
بمعنى الوعد والولادة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى ، أى من بعد توثقته
عليهم ، أو من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه وإنذار رسله. ومعنى قطعهم ما أمر
الله به أن يوصل : قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين ، وقيل قطعهم ما بين الأنبياء
من الوصلة
__________________
والاتحاد
والاجتماع على الحق ، في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض. فإن قلت : ما الأمر؟ قلت: طلب
الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه. وبه سمى الأمر الذي هو واحد الأمور ؛ لأن الداعي
الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : أمر ، تسمية للمفعول به
بالمصدر كأنه مأمور به ، كما قيل له شأن. والشأن : الطلب والقصد. يقال : شأنت شأنه
، أى قصدت قصده (هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح
وعقابها بثوابها.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)
معنى الهمزة التي
في (كَيْفَ) مثله في قولك : أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر
ويدعو إلى الإيمان ، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك : أتطير بغير جناح ، وكيف
تطير بغير جناح؟ فإن قلت : قولك : أتطير بغير جناح إنكار للطيران ، لأنه مستحيل
بغير جناح ، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء. قلت : قد أخرج
في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان. فإن قلت : فقد
تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه ، أو لقوة الصارف
عنه ، فما تقول في «كيف» حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت : حال
الشيء تابعة لذاته ، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال ؛ فكان إنكار
حال الكفر لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر ، وثباتها على طريق
الكناية ، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ. وتحريره : أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم
حال يوجد عليها. وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك عن حال وصفة عند وجوده. ومحال أن
يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني.
والواو في قوله (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) للحال. فإن قلت : فكيف صح أن يكون حالا وهو ماض ، ولا يقال
جئت وقام الأمير ، ولكن وقد قام ، لا أن يضمر قد؟ قلت : لم تدخل الواو على : (كُنْتُمْ أَمْواتاً) وحده ، ولكن على جملة قوله : (كُنْتُمْ أَمْواتاً) إلى (تُرْجَعُونَ) ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم
كنتم أمواتا نطفا في أصلاب
آبائكم فجعلكم
أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يحييكم بعد الموت ، ثم يحاسبكم. فإن قلت : بعض
القصة ماض وبعضها مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعا حالا حتى يكون
فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه ، فما الحاضر الذي وقع حالا؟ قلت : هو العلم
بالقصة ، كأنه قيل : كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها. فإن قلت :
فقد آل المعنى إلى قولك : على أى حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة فما وجه صحته؟
قلت : قد ذكرنا أنّ معنى الاستفهام في «كيف» الإنكار. وأنّ إنكار الحال متضمن
لإنكار الذات على سبيل الكناية ، فكأنه قيل : ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه!
فإن قلت : إن اتصل علمهم بأنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم ، فلم يتصل
بالإحياء الثاني والرجوع؟ قلت : قد تمكنوا من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه ،
فكان ذلك بمنزلة حصول العلم. وكثير منهم علموا ثم عاندوا. والأموات : جمع ميت ،
كالأقوال في جمع قيل . فإن قلت : كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جمادا ، وإنما
يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البنى؟ قلت : بل يقال ذلك لعادم الحياة ، كقوله :
(بَلْدَةً مَيْتاً) ، (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ
الْمَيْتَةُ) ، (أَمْواتٌ غَيْرُ
أَحْياءٍ). ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس.
فإن قلت : ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت : يجوز أن يراد به الإحياء في القبر ،
وبالرجوع : النشور. وأن يراد به النشور ، وبالرجوع : المصير إلى الجزاء. فإن قلت :
لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت : لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب
الموت بغير تراخ ، وأما الموت فقد نراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ
عن الموت ـ إن أريد به النشور ـ تراخيا ظاهرا. وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب
العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور. فإن قلت : من أين أنكر
اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله ، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن
الكفر ، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعا ، لأنّ
ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. (لَكُمْ) لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الانتفاع
الدنيوي فظاهر. وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة
على الصانع القادر الحكيم ، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها ،
لاشتماله على أسباب الأنس واللذة
__________________
من فنون المطاعم
والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية ، وعلى أسباب الوحشة
والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم
والمخاوف. وقد استدل بقوله : (خَلَقَ لَكُمْ) على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة
مطلقا لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها. فإن قلت : هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق
لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما
تذكر السماء وتراد الجهات العلوية : جاز ذلك ، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في
الجهات السفلية. و (جَمِيعاً) نصب على الحال من الموصول الثاني. والاستواء : الاعتدال
والاستقامة. يقال : استوى العود وغيره ، إذا قام واعتدل ، ثم قيل : استوى إليه
كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً ، من غير أن يلوى على شيء. ومنه استعير قوله
: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ) ، أى قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض ، من
غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء : جهات العلو ، كأنه قيل :
ثم استوى إلى فوق. والضمير في (فَسَوَّاهُنَ) ضمير مبهم. و (سَبْعَ سَماواتٍ) تفسيره ، كقولهم : ربه رجلا. وقيل الضمير راجع إلى السماء.
والسماء في معنى الجنس. وقيل جمع سماءة ، والوجه العربي هو الأوّل. ومعنى تسويتهنّ
: تعديل خلقهنّ ، وتقديمه ، وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهنّ (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فمن ثم خلقهنّ خلقاً مستوياً محكما من غير تفاوت ، مع خلق
ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم. فإن قلت : ما فسرت به معنى
الاستواء إلى السماء يناقضه «ثم» لإعطائه معنى التراخي والمهلة قلت : «ثم» هاهنا
لما بين الخلقين من التفاوت وفضل خلق السماوات على خلق الأرض ، لا للتراخي في
الوقت كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا). على أنه لو كان لمعنى التراخي في الوقت لم يلزم ما اعترضت
به ، لأن المعنى أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك ـ أى في تضاعيف
القصد إليها ـ
__________________
خلقاً آخر. فإن
قلت : أما يناقض هذا قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها)؟ قلت : لا ؛ لأنّ جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء. وأمّا
دحوها فمتأخر. وعن الحسن : خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر ، عليها
دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات ، وأمسك الفهر في موضعها وبسط
منها الأرض ، فذلك قوله : (كانَتا رَتْقاً) وهو الالتزاق.
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ
لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)
(٣٣)
(وَإِذْ) نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن ينتصب بقالوا. والملائكة : جمع
ملأك على الأصل ، كالشمائل في جمع شمأل. وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. و (جاعِلٌ) من جعل الذي له مفعولان ، دخل على المبتدأ والخبر وهما
قوله (فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً) فكانا مفعوليه.
ومعناه مُصير في
الأرض خليفة. والخليفة : من يخلف غيره. والمعنى خليفة منكم ، لأنهم كانوا سكان
الأرض فخلفهم فيها آدم وذرّيته. فإن قلت : فهلا قيل : خلائف ، أو خلفاء؟ قلت :
أريد بالخليفة آدم ، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كا استغنى بذكر أبى القبيلة في
قولك : مضر وهاشم. أو أريد من يخلفكم ، أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك. وقرئ : خليقة
بالقاف ويجوز أن يريد : خليفة منى ، لأنّ آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل
نبىّ (إِنَّا جَعَلْناكَ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ). فإن قلت : لأى غرض أخبرهم بذلك؟ قلت : ليسألوا ذلك السؤال
ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، صيانة لهم عن
اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم. وقيل ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن
يقدموا عليها ، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم ، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة
غنيا عن المشاورة (أَتَجْعَلُ فِيها) تعجب من أن
يستخلف مكان أهل
الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير ولا يريد إلا الخير. فإن قلت : من أين عرفوا ذلك حتى
تعجبوا منه وإنما هو غيب؟ قلت : عرفوه بإخبار من الله ، أو من جهة اللوح ، أو ثبت
في علمهم أنّ الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون ، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم
: أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى
الملائكة. وقرئ : يسفك ، بضم الفاء. ويُسفك. ويَسفك ، من أسفك. وسفك. والواو في (وَنَحْنُ) للحال ، كما تقول : أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان.
والتسبيح : تبعيد الله عن السوء ، وكذلك تقديسه ، من سبح في الأرض والماء. وقدس في
الأرض : إذا ذهب فيها وأبعد. و (بِحَمْدِكَ) في موضع الحال ، أى نسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك ؛ لأنه
لو لا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك. (أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أى أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفى عليكم. فإن قلت : هلا
بين لهم تلك المصالح؟ قلت : كفى العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة ،
وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة. على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أتبعه من قوله (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) واشتقاقهم «آدم» من الأدمة ، ومن أديم الأرض ، نحو
اشتقاقهم «يعقوب» من العقب ، و «إدريس» من الدرس ، و «إبليس» من الإبلاس. وما آدم
إلا اسم أعجمى : وأقرب أمره أن يكون على فاعل ، كآزر ، وعازر ، وعابر وشالخ. وفالغ
، وأشباه ذلك (الْأَسْماءَ كُلَّها) أى أسماء المسميات
__________________
فحذف المضاف اليه
لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء ، لأن الاسم لا بدله من مسمى ، وعوض منه
اللام كقوله : (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ). فان قلت : هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف اليه
مقامه ، وأن الأصل : وعلم آدم مسميات الأسماء؟ قلت : لأن التعليم وجب تعليقه
بالأسماء لا بالمسميات لقوله : (أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) ، (أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمائِهِمْ ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل : أنبؤنى
بهؤلاء ، وأنبئهم بهم ، وجب تعليق التعليم بها. فان قلت : فما معنى تعليمه أسماء
المسميات؟ قلت : أراه الأجناس التي خلقها ، وعلمه أن هذا اسمه فرس ، وهذا اسمه
بعير ، وهذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع
الدينية والدنيوية (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أى عرض المسميات. وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء
فغلبهم. وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنى في زعمكم أنى أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء
إرادة للرد عليهم ، وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد
كلها ، ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا. فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر
المصالح في استخلافهم في قوله (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ). وقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استحضار لقوله لهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) ، إلا أنه جاء به على وجه أبسط من ذلك وأشرح. وقرئ : وعُلم
آدم ، على البناء للمفعول. وقرأ عبد الله : عرضهن. وقرأ أُبىّ : عرضها. والمعنى
عرض مسمياتهن أو مسمياتها : لأن العرض لا يصح في الأسماء. وقرئ : أنبيهم ، بقلب
الهمزة ياء. وأنبهم ، بحذفها والهاء مكسورة فيهما.
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا
تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى
حِينٍ)(٣٦)
السجود لله تعالى
على سبيل العبادة ، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة
لآدم ، وأبو يوسف وإخوته له؟ ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه. وقرأ أبو
جعفر (للملائكة اسجدوا) بضم التاء للاتباع. ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية
بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة ، كقولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ). (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل ، لأنه كان جنياً واحداً بين أظهر الألوف من
الملائكة مغموراً بهم ، فغلبوا عليه في قوله : (فَسَجَدُوا) ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم. ويجوز أن يجعل منقطعا (أَبى) امتنع مما أمر به (وَاسْتَكْبَرَ) عنه (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) من جنس كفرة الجن وشياطينهم ، فكذلك أبى واستكبر كقوله : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِ). السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار. و (أَنْتَ) تأكيد للمستكن في : (اسْكُنْ) ليصح العطف عليه. و (رَغَداً) وصف للمصدر ، أى أكلا رغداً واسعا رافها. و (حَيْثُ) للمكان المبهم ، أى : أىّ مكان من الجنة (شِئْتُما) أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة
للعلة ، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة
، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها الفائتة للحصر ،
وكانت الشجرة فيما قيل «الحنطة» أو «الكرمة» أو «التينة» وقرئ (ولا تِقربا) بكسر
التاء. وهذى ، والشجرة ، بكسر الشين. والشيرة بكسر الشين والياء. وعن أبى عمرو أنه
كرهها ، وقال : يقرأ بها برابرة مكة وسودانها. (مِنَ الظَّالِمِينَ) من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله (فَتَكُونا) جزم عطف على : (تَقْرَبا) أو نصب جواب للنهى. الضمير في : (عَنْها) للشجرة. أى فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتحقيقه :
فأصدر الشيطان زلتهما عنها. و «عن» هذه ، مثلها في قوله تعالى : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي). وقوله :
يَنهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وعَنْ شُرْبِ
وقيل : فأزلهما عن
الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما ، كما تقول : زلّ عن مرتبته. وزل عنى ذاك :
__________________
إذا ذهب عنك وزل
من الشهر كذا. وقرئ : فأزالهما. (مِمَّا كانا فِيهِ) من النعيم والكرامة. أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في
عنها. وقرأ عبد الله : فوسوس لهما الشيطان عنها. وهذا دليل على أن الضمير للشجرة ،
لأن المعنى صدرت وسوسته عنها. فان قلت : كيف توصل إلى إزلالهما ووسوسته لهما بعد
ما قيل له (فَاخْرُجْ مِنْها
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ). قلت : يجوز أن يمنع دخولها على جهة التقريب والتكرمة
كدخول الملائكة ، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء. وقيل كان
يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل : قام عند الباب فنادى. وروى أنه أراد الدخول
فمنعته الخزنة ، فدخل في فم الحية حتى دخلت به وهم لا يشعرون. قيل (اهْبِطُوا) خطاب لآدم وحواء وإبليس : وقيل والحية. والصحيح أنه لآدم
وحواء والمراد هما وذريتهما ، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما
الإنس كلهم. والدليل عليه قوله : (قالَ اهْبِطا مِنْها
جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). ويدل على ذلك قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. ومعنى بعضكم لبعض (عَدُوٌّ) ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض.
والهبوط : النزول إلى الأرض (مُسْتَقَرٌّ) موضع استقرار ، أو استقرار و (مَتاعٌ) وتمتع بالعيش (إِلى حِينٍ) يريد إلى يوم القيامة. وقيل إلى الموت.
(فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣٩)
معنى تلقى الكلمات
استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرئ بنصب آدم ورفع الكلمات : على
أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به. فإن قلت : ما هنّ؟ قلت : قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ... الآية. وعن ابن مسعود رضى الله عنه : «إن أحب الكلام
إلى الله ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك
وتعالى
__________________
جدّك ، لا إله إلا
أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». وعن ابن عباس رضى الله عنهما
قال : «يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى. قال : يا رب ألم تنفخ فىّ الروح من روحك؟
قال : بلى. قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى. قال : ألم تسكني جنتك؟
قال : بلى. قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعى أنت إلى الجنة؟ قال : نعم » واكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء ، لأنها كانت تبعا له
، كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك. وقد ذكرها في قوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا). (فَتابَ عَلَيْهِ) فرجع عليه بالرحمة والقبول. فإن قلت : لم كرر : (قُلْنَا اهْبِطُوا)؟ قلت : للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). فإن قلت : ما جواب الشرط الأول؟ قلت : الشرط الثاني مع
جوابه كقولك : إن جئتني فان قدرت أحسنت إليك. والمعنى : فإما يأتينكم منى هدى
برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم ؛ بدليل قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) في مقابلة قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) فإن قلت : فلم جيء بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه؟ قلت : للإيذان بأنّ
الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب ، وأنه إن لم يبعث
رسولا ولم ينزل كتابا ، كان الإيمان به وتوحيده واجباً ؛ لما ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الأدلة ومكنهم من النظر والاستدلال.
فإن قلت : الخطيئة التي أهبط بها آدم إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء ، وإن كانت
__________________
صغيرة ، فلم جرى
عليه ما جرى بسببها من نزع اللباس والإخراج من الجنة والإهباط من السماء ، كما فعل
بإبليس ونسبته إلى الغىّ والعصيان ونسيان العهد وعدم العزيمة والحاجة إلى التوبة؟
قلت : ما كانت إلا صغيرة مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التي هي
أجل الأعمال وأعظم الطاعات. وإنما جرى عليه ما جرى ، تعظيما للخطيئة وتفظيعاً
لشأنها وتهويلا ، ليكون ذلك لطفاً له ولذرّيته في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم ،
والتنبيه على أنه أخرج من الجنة بخطيئة واحدة ، فكيف يدخلها ذو خطايا جمة. وقرئ :
فمن تبع هُدَىَّ ، على لغة هذيل ، فلا خوف ـ بالفتح.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا
تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)(٤١)
(إِسْرائِيلَ) هو يعقوب عليه السلام لقب له ، ومعناه في لسانهم : صفوة
الله ، وقيل عبد الله. وهو بزنة إبراهيم وإسماعيل غير منصرف مثلهما لوجود العلمية
والعجمة. وقرئ إسرائل ، وإسرائلّ. وذِكرهم النعمة : أن لا يخلوا بشكرها ، ويعتدّوا
بها ، ويستعظموها ، ويطيعوا ماتحها. وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدّد
عليهم : من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق. ومن العفو عن اتخاذ العجل ،
والتوبة عليهم ، وغير ذلك ، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه
وآله وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل. والعهد يضاف إلى المعاهِد والمعاهَد
جميعا. يقال أوفيت بعهدي ، أى بما عاهدت عليه كقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) وأوفيت بعهدك : أى بما عاهدتك عليه. ومعنى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بى والطاعة لي ،
كقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِما
عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) ، (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ) ، (رِجالٌ صَدَقُوا ما
عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) ، (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)
__________________
بما عاهدتكم عليه
من حسن الثواب على حسناتكم (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) فلا تنقضوا عهدى. وهو من قولك : زيدا رهبته. وهو أوكد في
إفادة الاختصاص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). وقرئ (أوفّ) بالتشديد : أى أبالغ في الوفاء بعهدكم ،
كقوله : (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها). ويجوز أن يريد بقوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) ما عاهدوا عليه ووعدوه من الإيمان بنبىّ الرحمة والكتاب
المعجز. ويدل عليه قوله : (وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أوّل من كفر به ، أو أول فريق أو فوج كافر به ، أو : ولا
يكن كل واحد منكم أوّل كافر به ، كقولك : كسانا حلة ، أى كل واحد منا. وهذا تعريض
بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته. ولأنهم كانوا
المبشرين بزمان من أوحى إليه والمستفتحين على الذين كفروا به ، وكانوا يعدون
اتباعه أول الناس كلهم ، فلما بعث كان أمرهم على العكس كقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) إلى قوله : (وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). ويجوز أن يراد : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، يعنى من
أشرك به من أهل مكة. أى : ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا ،
مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له. وقيل : الضمير في «به» لما معكم ، لأنهم إذا
كفروا بما يصدّقه فقد كفروا به. والاشتراء استعارة للاستبدال كقوله تعالى : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) وقوله :
كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا
وقوله :
فإنِّى شَرَيْتُ الحِلْمَ بَعْدَك بالجَهْلِ
__________________
يعنى ولا تستبدلوا
بآياتى ثمنا وإلا فالثمن هو المشترى به. والثمن القليل الرياسة التي كانت لهم في
قومهم ، خافوا عليها الفوات لو أصبحوا أتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستبدلوها ـ وهي بدل قليل ومتاع يسير ـ بآيات الله وبالحق الذي كل كثير إليه قليل
، وكل كبير إليه حقير ، فما بال القليل الحقير. وقيل كانت عامّتهم يعطون أحبارهم
من زروعهم وثمارهم ، ويهدون إليهم الهدايا ، ويرشونهم الرشا على تحريفهم الكلم ،
وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع. وكان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا
أو يحرّفوا.
(وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)(٤٣)
الباء التي في (بِالْباطِلِ) إن كانت صلة مثلها في قولك : لبست الشيء بالشيء خلطته به ،
كأن المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي
كتبتم ، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم ، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك :
كتبت بالقلم ، كان المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه (وَتَكْتُمُوا) جزم داخل تحت حكم النهى بمعنى : ولا تكتموا. أو منصوب
بإضمار أن ، والواو بمعنى الجمع ، أى ولا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ،
كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. فإن قلت : لبسهم وكتمانهم ليسا بفعلين متميزين
حتى ينهوا عن الجمع بينهما ، لأنهم إذا لبسوا الحق بالباطل فقد كتموا الحق ؟ قلت : بل هما متميزان ، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا
__________________
من كتابتهم في
التوراة ما ليس منها. وكتمانهم الحق أن يقولوا : لا نجد في التوراة صفة محمد صلى
الله عليه وآله وسلم ، أو حكم كذا. أو يمحوا ذلك. أو يكتبوه على خلاف ما هو عليه. وفي
مصحف عبد الله : وتكتمون ، بمعنى كاتمين (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون ، وهو أقبح لهم ، لأنّ
الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) يعنى صلاة المسلمين وزكاتهم (وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ) منهم ، لأنّ اليهود لا ركوع في صلاتهم. وقيل «الركوع» الخضوع
والانقياد لما يلزمهم في دين الله. ويجوز أن يراد بالركوع : الصلاة ، كما يعبر
عنها بالسجود ، وأن يكون أمرا بأن يصلى مع المصلين ، يعنى في الجماعة ، كأنه قيل :
وأقيموا الصلاة وصلوها مع المصلين ، لا منفردين.
(أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٤٦)
(أَتَأْمُرُونَ) الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم. والبرّ سعة
الخير والمعروف. ومنه البر لسعته ، ويتناول كل خير. ومنه قولهم : صدقت وبررت. وكان
الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه
وسلم ولا يتبعونه. وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون ، وإذا أتوا بصدقات
ليفرّقوها خانوا فيها. وعن محمد بن واسع : بلغني أنّ ناسا من أهل الجنة اطلعوا على
ناس من أهل النار فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة.
قالوا كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها (وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ) وتتركونها من البر كالمنسيات (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتابَ) تبكيت مثل قوله : (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) يعنى تتلون التوراة وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم ،
أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) توبيخ عظيم بمعنى : أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى
يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول ، لأن العقول تأباه
وتدفعه. ونحوه (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). (وَاسْتَعِينُوا) على حوائجكم إلى الله (بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أى بالجمع بينهما ، وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة ،
محتملين لمشاقها وما يجب فيها ـ من إخلاص القلب ، وحفظ النيات ، ودفع الوساوس
ومراعاة الآداب ،
والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع ، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي
جبار السموات ، ليسأل فك الرقاب عن سخطه وعذابه. ومنه قوله تعالى: (وأْمر أهلك
بالصلاة واصطبر عليها) أو : واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها
والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حزبه
أمر فزع إلى الصلاة» وعن ابن عباس أنه نعى إليه أخوه «قثم» وهو في سفر ،
فاسترجع وتنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشى إلى راحلته
وهو يقول : واستعينوا بالصبر والصلاة» وقيل : الصبر الصوم ، لأنه حبس عن المفطرات. ومنه قيل لشهر
رمضان : شهر الصبر. ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء ، وأن يستعان على البلايا بالصبر
، والالتجاء إلى الدعاء ، والابتهال إلى الله تعالى في دفعه (وَإِنَّها) الضمير للصلاة أو للاستعانة. ويجوز أن يكون لجميع الأمور
التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) إلى (وَاسْتَعِينُوا). (لَكَبِيرَةٌ) لشاقة ثقيلة من قولك : كبر علىّ هذا الأمر ، (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ). فإن قلت : مالها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه
مما يثقل؟ قلت :
لأنهم يتوقعون ما
ادّخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أى يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ، ويطمعون فيه. وفي
مصحف عبد الله : يعلمون. ومعناه : يعلمون أن لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب
ذلك. ولذلك فسر «يظنون» بيتيقنون. وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب ، كانت
عليه مشقة خالصة فثقلت عليه كالمنافقين والمراءين بأعمالهم. ومثاله من وعد على بعض
الأعمال والصنائع أجرة زائدة على مقدار عمله ، فتراه يزاوله برغبة ونشاط وانشراح
صدر ومضاحكة لحاضريه ، كأنه يستلذ مزاولته بخلاف حال عامل يتسخره بعض الظلمة. ومن
ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «وجعلت قرّة عينى في الصلاة» وكان يقول «يا بلال
__________________
روّحنا» والخشوع. الإخبات والتطامن. ومنه : الخشعة للرملة
المتطامنة. وأما الخضوع فاللين والانقياد. ومنه : خضعت بقولها إذا لينته.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا
يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٤٨)
(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) نصب عطف على : (نِعْمَتِيَ) أى اذكروا نعمتي وتفضيلي (عَلَى الْعالَمِينَ) على الجم الغفير من الناس ، كقوله تعالى : (بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) يقال : رأيت عالما من الناس يراد الكثرة (يَوْماً) يريد يوم القيامة (لا تَجْزِي) لا تقضى عنها شيئا من الحقوق. ومنه الحديث في جذعة بن نيار
: «تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك» و (شَيْئاً) مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر ، أى قليلا من الجزاء
، كقوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ
شَيْئاً) ومن قرأ (لا تجزئ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه ، فلا يكون في
قراءته إلا بمعنى شيئا من الإجزاء. وقرأ أبو السرار الغنوي : لا تجزى نسمة عن نسمة
شيئا. وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوما. فإن قلت : فأين العائد منها إلى
الموصوف؟ قلت : هو محذوف تقديره : لا تجزى فيه. ونحوه ما أنشده أبو على :
تَرَوَّحِى أَجْدَرُ أَنْ تَقِيلِى
__________________
أى ماء أجدر بأن
تقيلى فيه. ومنهم من ينزل فيقول : اتسع فيه ، فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار ثم
حذف الضمير كما حذف من قوله : أم مال أصابوا. ومعنى التنكير أن نفسا من الأنفس لا
تجزى عن نفس منها شيئا من الأشياء ، وهو الإقناط الكلى القطاع للمطامع. وكذلك قوله
: (وَلا يُقْبَلُ مِنْها
شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أى فدية لأنها معادلة للمفدى. ومنه الحديث «لا يقبل منه
صرف ولا عدل» أى توبة ولا فدية. وقرأ قتادة : ولا يقبل منها شفاعة ، على
بناء الفعل للفاعل وهو الله عز وجل ، ونصب الشفاعة. وقيل : كانت اليهود تزعم أن
آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا. فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا
تقبل للعصاة ؟ قلت : نعم ، لأنه نفى أن تقضى نفس عن نفس حقاً أخلت به من
فعل
__________________
أو ترك ، ثم نفى
أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة. فإن قلت : الضمير في (وَلا يُقْبَلُ مِنْها) إلى أى النفسين يرجع؟ قلت : إلى الثانية العاصية غير
المجزى عنها ، وهي التي لا يؤخذ منها عدل. ومعنى لا يقبل منها شفاعة : إن جاءت
بشفاعة شفيع لم يقبل منها. ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى ، على أنها لو شفعت لها
لم تقبل شفاعتها ، كما لا تجزى عنها شيئا ، ولو أعطت عدلا عنها لم يؤخذ منها (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعنى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة
والتذكير بمعنى العباد والأناسى ، كما تقول : ثلاثة أنفس.
(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٤٩)
أصل (آلِ) أهل ، ولذلك يصغر بأهيل ، فأبدلت هاؤه ألفاً. وخص استعماله
بأولى الخطر والشأن كالملوك وأشباههم ، فلا يقال آل الإسكاف والحجام. و (فِرْعَوْنَ) علم لمن ملك العمالقة ، كقيصر : لملك الروم ، وكسرى : لملك
الفرس. ولعتوّ الفراعنة اشتقوا : تفرعن فلان ، إذا عتا وتجبر. وفي ملح بعضهم :
قَدْ جَاءَهُ
الْمُوسَى الْكَلُومُ فَزَادَ فِى
|
|
أقْصَى
تَفَرْعُنِهِ وَفَرْطِ عُرَامِهِ
|
وقرئ : أنجيناكم ،
ونجيتكم (يَسُومُونَكُمْ) من سامه خسفاً إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم :
إذَا مَا
الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً
|
|
أَبَيْنَا أَنْ
يَقِرَّ الْخَسْفُ فِينَا
|
__________________
وأصله من سام
السلعة إذا طلبها. كأنه بمعنى يبغونكم (سُوءَ الْعَذابِ) ويريدونكم عليه. والسوء : مصدر السيئ : يقال أعوذ بالله من
سوء الخلق وسوء الفعل ، يراد قبحهما. ومعنى سوء العذاب ـ والعذاب كله سيئ ـ :
أشدّه وأفظعه ، كأنه قبحه بالإضافة لي سائره. و (يُذَبِّحُونَ) : بيان لقوله يسومونكم. ولذلك ترك العاطف كقوله تعالى : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرأ الزهري (يذبحون) بالتخفيف كقولك : قطعت الثياب وقطعتها.
وقرأ عبد الله : يقتلون. وإنما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد
مولود يكون على يده هلاكه ، كما أنذر نمروذ. فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ ،
وكان ما شاء الله. والبلاء المحنة إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون. والنعمة إن أشير
به إلى الإنجاء.
(وَإِذْ فَرَقْنا
بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ)
(٥٠)
(فَرَقْنا) فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم. وقرئ :
فرّقنا ، بمعنى فصلنا. يقال : فرق بين الشيئين ، وفرّق بين الأشياء ؛ لأن المسالك
كانت اثنى عشر على عدد الأسباط. فإن قلت : ما معنى (بِكُمُ)؟ قلت : فيه أوجه : أن يراد أنهم كانوا يسلكونه ، ويتفرّق الماء عند سلوكهم ، فكأنما فرق بهم كما يفرق بين
الشيئين بما يوسط بينهما ، وأن يراد فرقناه بسببكم وبسبب إنجائكم ، وأن يكون في موضع الحال بمعنى فرقناه ملتبسا بكم كقوله :
تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبا
__________________
أى تدوسها ونحن
راكبوها. وروى أنّ بنى إسرائيل قالوا لموسى : أين أصحابنا لا نراهم؟ قال : سيروا
فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا : لا نرضى حتى نراهم. فقال : اللهم أعنى على
أخلاقهم السيئة. فأوحى إليه : أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان ، فصارت
فيها كوى. فتراموا وتسامعوا كلامهم (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه.
(وَإِذْ واعَدْنا
مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥٢)
لما دخل بنو
إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله موسى أن ينزل
عليه التوراة ، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وقيل (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) لأنّ الشهور غررها بالليالي. وقرئ (واعَدْنا) لأن الله تعالى وعده الوحى ووعد المجيء للميقات إلى الطور (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد مضيه إلى الطور (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) بإشراككم (ثُمَّ عَفَوْنا
عَنْكُمْ) حين تبتم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد ارتكابكم الأمر العظيم وهو اتخاذكم العجل (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إرادة أن تشكروا النعمة في العفو عنكم.
(وَإِذْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ
فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ
بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥٤)
__________________
(الْكِتابَ
وَالْفُرْقانَ) يعنى الجامع بين كونه كتابا منزلا ، وفرقانا يفرق بين الحق
والباطل : يعنى التوراة ، كقولك : رأيت الغيث والليث ، تريد الرجل الجامع بين
الجود والجرأة. ونحوه قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً) يعنى الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكراً : أو
التوراة. والبرهان : الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات
، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، وقيل الفرقان : انفراق البحر. وقيل :
النصر الذي فرّق بينه وبين عدوّه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يريد به يوم بدر. حمل قوله (فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) على الظاهر وهو البخع . وقيل : معناه قتل بعضهم بعضا. وقيل : أمر من لم يعبد
العجل أن يقتلوا العبدة. وروى أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه ، فلم
يمكنهم المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ،
وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم ، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم ، وقيل لهم
: اصبروا ، فلعن الله من مدّ طرفه أو حل حبوته أو اتقى بيد أو رجل ، فيقولون :
آمين ، فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهرون وقالا : يا رب ، هلكت بنو إسرائيل ،
البقية البقية ، فكشفت السحابة ونزلت التوبة. فسقطت الشفار من أيديهم ، وكانت
القتلى سبعين ألفا. فإن قلت : ما الفرق بين الفاءات؟ قلت : الأولى للتسبيب لا غير
، لأن الظلم سبب التوبة. والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا
أنفسكم ، من قبل أن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم. ويجوز أن يكون القتل تمام
توبتهم. فيكون المعنى : فتوبوا ، فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم ، والثالثة
متعلقة بمحذوف ، ولا يخلو إما أن ينتظم في قول موسى لهم فتتعلق بشرط محذوف ، كأنه
قال : فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وإمّا أن يكون خطابا من الله تعالى لهم على طريقة
الالتفات. فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم. فإن قلت :
من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من
التفاوت (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ومتميزا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ،
فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته
على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر ، إلى عباد البقرة التي هي مثل
في الغباوة والبلادة. ـ في أمثال العرب : أبلد من ثور ـ حتى عرضوا أنفسهم لسخط
__________________
الله ونزول أمره
بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم ، حين لم يشكروا
النعمة في ذلك ، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها.
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
وَظَلَّلْنا
عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ)(٥٧)
قيل : القائلون
السبعون الذين صعقوا. وقيل قاله عشرة آلاف منهم (جَهْرَةً) عيانا. وهي مصدر من قولك : جهر بالقراءة وبالدعاء ، كأنّ
الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية ، والذي يرى بالقلب مخافت بها ، وانتصابها على
المصدر ، لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس ، أو
على الحال بمعنى ذوى جهرة. وقرئ «جهرة» بفتح الهاء ، وهي إمّا مصدر كالغلبة. وإما
جمع جاهر. وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه الصلاة والسلام رادّهم القول
وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال وأن من استجاز على الله الرؤية فقد جعله من جملة الأجسام أو الأعراض ، فرادّوه بعد بيان
__________________
الحجة ووضوح
البرهان ، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل ، فسلط الله عليهم الصعقة كما سلط
على أولئك القتل تسوية بين الكفرين ودلالة على عظمهما بعظم المحنة. و (الصَّاعِقَةُ) ما صعقهم ، أى أماتهم. قيل : نار وقعت من السماء فأحرقتهم.
وقيل : صيحة جاءت من السماء. وقيل : أرسل الله جنودا سمعوا بحسها فخروا صعقين
ميتين يوما وليلة. وموسى عليه السلام ، لم تكن صعقته موتا ولكن غشية ، بدليل قوله
: فلما أفاق. والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). وقرأ علىّ رضى الله عنه فأخذتكم الصاعقة. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البعث بعد الموت ، أو نعمة الله بعد ما كفرتموها إذا
رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت. (وَظَلَّلْنا) وجعلنا الغمام يظلكم. وذلك في التيه ، سخر الله لهم السحاب
يسير بسيرهم يظلهم من الشمس ؛ وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه ، وثيابهم
لا تتسخ ولا تبلى ، وينزل عليهم (الْمَنَ) وهو الترنجبين مثل الثلج. من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ،
لكل إنسان صاع ، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم (السَّلْوى) وهي السمانى فيذبح الرجل منها ما يكفيه (كُلُوا) على إرادة القول (وَما ظَلَمُونا) يعنى فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا ، فاختصر
الكلام بحذفه لدلالة (وما ظلمونا) عليه.
(وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا
الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٥٩)
(الْقَرْيَةَ) بيت المقدس. وقيل أريحاء من قرى الشأم ، أمروا بدخولها بعد
التيه (الْبابَ) باب القرية. وقيل هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم
لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام. أمروا بالسجود عند
الانتهاء إلى الباب شكراً لله وتواضعاً. وقيل «السجود» أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين
، ليكون دخولهم بخشوع وإخبات. وقيل : طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤسهم فلم يخفضوها ،
ودخلوا متزحفين على أوراكهم (حِطَّةٌ) فعلة من الحط كالجلسة والركبة ، وهي خبر مبتدأ محذوف ، أى
مسألتنا حطة ، وأمرك حطة. والأصل : النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة. وإنما رفعت
لتعطى معنى الثبات ، كقوله :
صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلَانَا مُبْتَلَى
والأصل صبراً ،
على : اصبر صبراً. وقرأ ابن أبى عبلة بالنصب على الأصل. وقيل معناه : أمرنا حطة ،
أى أن نحط في هذه القرية ونستقرّ فيها. فإن قلت : هل يجوز أن تنصب حطة في قراءة من
نصبها بقولوا ، على معنى : قولوا هذه الكلمة؟ قلت : لا يبعد. والأجود أن تنصب
بإضمار فعلها ، وينتصب محل ذلك المضمر بقولوا. وقرئ (يُغفر لكم) على البناء
للمفعول بالياء والتاء (وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ) أى من كان محسناً منكم كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة
ثوابه ، ومن كان مسيئا كانت له توبة ومغفرة (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا) أى وضعوا مكان حطة (قَوْلاً) غيرها. يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار ،
فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ، ولم يمتثلوا أمر الله. وليس الغرض
أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر. لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر
مستقل بمعنى ما أمروا به ، لم يؤاخذوا به. كما لو قالوا مكان حطة : نستغفرك ونتوب
إليك. أو اللهم اعف عنا وما أشبه ذلك. وقيل : قالوا مكان حطة : حنطة. وقيل : قالوا
بالنبطية : «حطا سمقاثا» أى حنطه حمراء ، استهزاء منهم بما قيل لهم ، وعدولا عن
طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا. وفي تكرير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم. وقد جاء في سورة
الأعراف : (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ) على الإضمار. والرجز : العذاب. وقرئ ـ بضم الراء ـ وروى
أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً. وقيل : سبعون ألفاً.
(وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا
وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٦٠)
__________________
عطشوا في التيه ،
فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له (اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْحَجَرَ) واللام إمّا للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روى أنه
حجر طوري حمله معه ، وكان حجراً مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث
أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم ، وكانوا ستمائة
ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا. وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه ، حتى وقع
إلى شعيب ، فدفعه إليه مع العصا. وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ
رموه بالأدرة ، ففرّ به ، فقال له جبريل : يقول لك الله تعالى : ارفع هذا الحجر ،
فإنّ لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته. وإمّا للجنس ، أى اضرب الشيء
الذي يقال له الحجر. وعن الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال : وهذا أظهر في
الحجة وأبين في القدرة. وروى أنهم قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها
حجارة ، فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه. وقيل كان يضربه بعصاه فينفجر ،
ويضربه بها فييبس. فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى إليه : لا تقرع
الحجارة ، وكلمها تطعك ، لعلهم يعتبرون. وقيل : كان من رخام وكان ذراعا في ذراع.
وقيل مثل رأس الإنسان. وقيل : كان من آس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى ، وله شعبتان تتقدان في
الظلمة ، وكان يحمل على حمار (فَانْفَجَرَتْ) الفاء متعلقة بمحذوف ، أى فضرب فانفجرت. أو فإن ضربت فقد
انفجرت ، كما ذكرنا في قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ. وقرئ (عشرة)
بكسر الشين وبفتحها وهما لغتان (كُلُّ أُناسٍ) كل سبط (مَشْرَبَهُمْ) عينهم التي يشربون منها (كُلُوا) على إرادة القول (مِنْ رِزْقِ اللهِ) مما رزقكم من الطعام وهو المنّ والسلوى ومن ماء العيون.
وقيل الماء ينبت منه الزروع والثمار ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والعثىّ : أشدّ
الفساد ، فقيل لهم : لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه.
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها
وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى
__________________
بِالَّذِي
هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)
كانوا فلاحة
فنزعوا إلى عكرهم فأجموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء (عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أرادوا ما رزقوا في التيه من المنّ والسلوى. فإن قلت : هما
طعامان فما لهم قالوا على طعام واحد؟ قلت : أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل
، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدّة يداوم عليها كل يوم لا يبدّلها ، قيل : لا
يأكل فلان إلا طعاما واحدا يراد بالوحدة نفى التبدّل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا
أنهما ضرب واحد ، لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والتترف ، ونحن قوم فلاحة أهل
زراعات ، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول
ونحو ذلك. ومعنى (يُخْرِجْ لَنا) يظهر لنا ويوجد والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر. والمراد
به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها. وقرئ (وقثائها)
بالضم. والفوم : الحنطة. ومنه فوّموا لنا ، أى : اخبزوا. وقيل الثوم. ويدل عليه
قراءة ابن مسعود : وثومها ، وهو للعدس والبصل أوفق (الَّذِي هُوَ أَدْنى) الذي هو أقرب منزلة وأدون مقداراً ، والدنو والقرب يعبر
بهما عن قلة المقدار فيقال : هو دانى المحل وقريب المنزلة ، كما يعبر بالبعد عن
عكس ذلك فيقال : هو بعيد المحل وبعيد الهمة يريدون الرفعة والعلو. وقرأ زهير
الفرقبي : أدنأ بالهمزة من الدناءة (اهْبِطُوا مِصْراً) وقرئ اهبطوا ، بالضم : أى انحدروا إليه من التيه. يقال :
هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه ، إذا خرج. وبلاد التيه : ما بين بيت المقدس إلى
قنسرين ، وهي اثنا عشر فرسخا في ثمانية فراسخ. ويحتمل أن يريد العلم وإنما صرفه مع
اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث ، لسكون وسطه كقوله : ونوحا ولوطا.
وفيهما العجمة والتعريف ، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد ، وأن يريد
مصراً من الأمصار. وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش : اهبطوا مصر ـ بغير تنوين ـ كقوله
: ادخلوا مصر. وقيل هو «مصرائيم» فعرّب (وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم ، فهم فيها كما يكون في
القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب ، كما يضرب الطين على
الحائط فيلزمه ،
__________________
فاليهود صاغرون
أذلاء أهل مسكنة ومدقعة إما على الحقيقة ، وإما لتصاغرهم وتفاقرهم ، خيفة أن تضاعف
عليهم الجزية (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ
اللهِ) من قولك : باء فلان بفلان ، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به ،
لمساواته له ومكافأته ، أى صاروا أحقاء بغضبه (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم من ضرب الذلة والمسكنة والخلاقة بالغضب
، أى ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وقد قتلت اليهود ـ لعنوا ـ شعيا وزكريا ويحيى
وغيرهم : فان قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟ قلت :
معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض
فيقتلوا. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، فلو سئلوا وأنصفوا من
أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم. وقرأ علىّ رضى الله عنه ويقتلون
بالتشديد (ذلِكَ) تكرار للإشارة (بِما عَصَوْا) بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل
شيء ، مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء. وقيل : هو اعتداؤهم في السبت. ويجوز
أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم ،
لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء ،
أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)
إن الذين آمنوا بألسنتهم
من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون (وَالَّذِينَ هادُوا) والذين تهوّدوا. يقال : هاد يهود. وتهوّد إذا دخل في
اليهودية ، وهو هائد ، والجمع هود. (وَالنَّصارى) وهو جمع نصران. يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانة ، قال :
نصرانة لم تحنف. والياء في نصرانىّ للمبالغة كالتي في أحمرىّ. سموا لأنهم نصروا
المسيح. (وَالصَّابِئِينَ) وهو من صبأ إذا خرج من الدين وهم قوم عدلوا عن دين
اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة (مَنْ آمَنَ) من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ودخل في ملة الإسلام دخولا
أصيلا (وَعَمِلَ صالِحاً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم. فإن قلت : ما محل من آمن؟
قلت : الرفع إن جعلته مبتدأ خبره (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والنصب إن جعلته بدلا من اسم إنّ والمعطوف عليه. فخبر إنّ
في الوجه الأول الجملة كما هي وفي الثاني فلهم أجرهم. والفاء لتضمن «من» معنى
الشرط.
__________________
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ
مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها
نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٦٦)
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ) بالعمل على ما في التوراة (وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ) حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أن موسى عليه السلام
جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة ، فكبرت عليهم وأبوا
قبولها ، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله ، ورفعه وظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن
قبلتم وإلا أُلقى عليكم ، حتى قبلوا. (خُذُوا) على إرادة القول (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بحدّ وعزيمة (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) رجاء منكم أن تكونوا متقين ، أو قلنا خذوا واذكروا إرادة
أن تتقوا. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بتوفيقكم للتوبة لخسرتم. وقرئ : خذوا ما آتيتكم ، وتذكروا
، واذّكروا و (السَّبْتِ) مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت ، وإن ناساً منهم
اعتدوا فيه أى جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد.
وذلك أن الله ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا
مضى تفرّقت. كما قال : (تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ
يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ
نَبْلُوهُمْ) فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، فكانت
الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم : (قِرَدَةً خاسِئِينَ) خبر ان أى كونوا جامعين بين القردية والخسوء ، وهو الصغار
والطرد (فَجَعَلْناها) يمنى المسخة (نَكالاً) عبرة تنكل من اعتبر بها أى تمنعه. ومنه النكل : القيد (لِما بَيْنَ يَدَيْها) لما قبلها (وَما خَلْفَها) وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها ، واعتبر بها
من بلغتهم من الآخرين : أو أريد
__________________
بما بين يديها :
ما بحضرتها من القرى والأمم. وقبل نكالا : عقوبة منكلة لما بين يديها. لأجل ما
تقدّمها من ذنوبهم وما تأخر منها (وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) للذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم ، أو لكل متق
سمعها.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا
هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ
وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ
صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ
شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ
مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما
كادُوا يَفْعَلُونَ)(٧١)
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)
فَقُلْنا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٧٣)
كان في بنى
إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه ليرثوه ، وطرحوه على باب مدينة ثم جاءوا
يطالبون بديته ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أتجعلنا مكان هزو
، أو أهل هزو ، أو مهزوا بنا ، أو الهزو نفسه لفرط الاستهزاء (مِنَ الْجاهِلِينَ) لأن الهزو في مثل هذا من باب الجهل والسفه. وقرئ «هزؤا» بضمتين.
«وهزءاً» بسكون الزاى ، نحو كفؤا وكفؤا. وقرأ حفص «هزوا» بالضمتين والواو وكذلك «كفوا».
والعياذ واللياذ من واد واحد.
في قراءة عبد الله
: سل لنا ربك ما هي؟ سؤال عن حالها وصفتها. وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب
ببعضها ميت فيحيا ، فسألوا عن صفة تلك البقرة المجيبة الشأن الخارجة عما عليه
البقر. والفارض : المسنة ، وقد فرضت فروضا فهي فارض. قال خفاف بن ندبة :
لَعَمْرِى
لَقَدْ أَعْطَيْتُ ضَيْفَكَ فَارِضاً
|
|
تُسَاقُ إلَيْهِ
مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ
|
وكأنها سميت فارضا
لأنها فرضت سنها أى قطعتها وبلغت آخرها. والبكر : الفتية.
والعوان النصف.
قال :
نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُونِ
وقد عوّنت . فإن قلت : (بين) يقتضى شيئين فصاعدا فمن أين جاز دخوله على (ذلك) : قلت لأنه في معنى شيئين حيث
وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. فإن قلت : كيف جاز أن يشار به إلى
مؤنثين ، وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟ قلت : جاز ذلك على تأويل ما ذكر وما
تقدّم ، للاختصار في الكلام ، كما جعلوا «فعل» نائبا عن أفعال جمة تذكر قبله :
تقول للرجل : نعم ما فعلت ، وقد ذكر لك أفعالا كثيرة وقصة طويلة ، كما تقول له : ما
أحسن ذلك. وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا. قال أبو عبيدة قلت لرؤبة في
قوله :
فِيهَا خُطُوطٌ
مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ
|
|
كَأَنَّهُ فِى
الْجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
|
__________________
إن أردت الخطوط
فقل : كأنها. وإن أردت السواد والبلق فقل : كأنهما. فقال : أردت كأن ذاك ، ويلك!
والذي حسن منه أنّ أسماء الإشارة تثنيتها وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة وكذلك
الموصولات. ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع (ما تُؤْمَرُونَ) أى ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به من قوله أمرتك الخير أو
أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول به بالمصدر ، كضرب الأمير.
الفقوع أشد ما
يكون من الصفرة وأنصعه. يقال في التوكيد : أصفر فاقع ووارس ، كما يقال أسود حالك
وحانك ، وأبيض يقق ولهق. وأحمر قانى وذريخى. وأخضر ناضر ومدهامّ. وأورق خطبانىّ
وأزمك ردانىّ. فإن قلت : فاقع هاهنا واقع خبرا عن اللون ، فلم يقع توكيداً لصفراء
قلت : لم يقع خبرا عن اللون إنما وقع توكيداً لصفراء ، إلا أنه ارتفع اللون به
ارتفاع الفاعل واللون من سببها وملتبس بها ، فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة
وصفراء فاقع لونها. فإن قلت : فهلا قيل صفراء فاقعة؟ وأى فائدة في ذكر اللون؟ قلت
: الفائدة فيه التوكيد ، لأنّ اللون اسم للهيئة وهي الصفرة ، فكأنه قيل : شديدة
الصفرة صفرتها ، فهو من قولك : جدّ جدّه ، وجنونك مجنون. وعن وهب : إذا نظرت إليها
خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو
توقعه. وعن على رضى الله عنه : «من لبس نعلا صفراء قل همه لقوله تعالى تسرّ الناظرين» وعن الحسن البصري (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) سوداء شديدة السواد. ولعله مستعار من صفة الإبل ؛ لأن
سوادها تعلوه صفرة. وبه فسر قوله تعالى : (جِمالَتٌ صُفْرٌ). قال الأعشى :
تِلْكَ خَيْلِى
مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِى
|
|
هُنَّ صُفْرٌ
أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ
|
__________________
(ما هِيَ) مرة ثانية تكرير للسؤال عن حالها وصفتها ، واستشكاف زائد
ليزدادوا بيانا لوصفها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو اعترضوا أدنى بقرة
فذبحوها لكفتهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم» والاستقصاء شؤم. وعن بعض
الخلفاء أنه كتب إلى عامله بأن يذهب إلى قوم فيقطع أشجارهم ويهدم دورهم ، فكتب
إليه : بأيهما أبداً؟ فقال : إن قلت لك بقطع الشجر سألتنى : بأى نوع منها أبدأ؟
وعن عمر بن عبد العزيز : إذا أمرتك أن تعطى فلانا شاة سألتنى : أضائن أم ماعز؟ فإن
بينت لك قلت : أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت : أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء
فلا تراجعني. وفي الحديث «أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته»
(إِنَّ الْبَقَرَ
تَشابَهَ عَلَيْنا) أى إنّ البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا
أيها نذبح. وقرئ : تشابه ، بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين. وتشابهت
ومتشابهة ومتشابه. وقرأ محمد ذو الشامة : إن الباقر يشابه ، بالياء والتشديد. جاء
في الحديث «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» أى : لو لم يقولوا إن شاء الله. والمعنى : إنا لمهتدون إلى
البقرة المراد ذبحها ، أو إلى ما خفى علينا من أمر القاتل (لا ذَلُولٌ) صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول ، يعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقى
الحروث ، و «لا» الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا
ذلول تثير وتسقى. على أنّ الفعلين صفتان لذلول ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى : لا ذلول ، بمعنى لا ذلول هناك : أى حيث هي ، وهو نفى
لذلها ؛ ولأن توصف به فيقال : هي ذلول. ونحوه قولك : مررت بقوم لا بخيل ولا جبان.
أى فيهم ، أو حيث هم.
__________________
وقرئ تسقى بضم
التاء من أسقى (مُسَلَّمَةٌ) سلمها الله من العيوب أو معفاة من العمل سلمها أهلها منه
كقوله :
أَوْ مَعْبَرَ
الظَّهْرِ يُنْبِى عَنْ وَلِيَّتِهِ
|
|
مَا حَجَّ
رَبُهُ فِى الدُّنْيَا وَلَا اعْتَمَرَا
|
أو مخلصة اللون ،
من سلم له كذا إذا خلص له ، لم يشب صفرتها شيء من الألوان (لا شِيَةَ فِيها) لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة ، فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها.
وهي في الأصل مصدر وشاه وشيا وشية ، إذا خلط بلونه لونا آخر ، ومنه ثور موشى
القوائم (جِئْتَ بِالْحَقِ) أى بحقيقة وصف البقرة ، وما بقي إشكال في أمرها (فَذَبَحُوها) أى فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها.
وقوله (وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ) استثقال لاستقصائهم واستبطاء لهم ، وأنهم لتطويلهم المفرط
وكثرة استكشافهم ، ما كادوا يذبحونها ، وما كادت تنتهي سؤالاتهم ، وما كاد ينقطع
خيط إسهابهم فيها وتعمقهم. وقيل : وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل : لخوف
الفضيحة في ظهور القاتل. وروى أنه كان في بنى إسرائيل شيخ صالح له عجِلة فأتى بها
الغيضة وقال : اللهم إنى أستودعكها لابنى حتى يكبر ، وكان براً
بوالديه ، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمّه حتى اشتروها
بملء مسكها ذهباً ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير
__________________
وكانوا طلبوا
البقرة الموصوفة أربعين سنة. فإن قلت : كانت البقرة التي تناولها الأمر بقرة من شق
البقر غير مخصوصة ، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات ، فذبحوا المخصوصة ، فما فعل
الأمر الأوّل؟ قلت : رجع منسوخا لانتقال الحكم إلى البقرة المخصوصة ، والنسخ قبل
الفعل جائز. على أنّ الخطاب كان لإبهامه متناولا لهذه البقرة الموصوفة كما تناول
غيرها. ولو وقع الذبح عليها بحكم الخطاب قبل التخصيص لكان امتثالا له ، فكذلك إذا
وقع عليها بعد التخصيص (وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً) خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم (فَادَّارَأْتُمْ) فاختلفتم واختصمتم في شأنها ، لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم
بعضاً ، أى يدفعه ويزحمه. أو تدافعتم ، بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض ، فدفع
المطروح عليه الطارح. أو لأنّ الطرح في نفسه دفع. أو دفع بعضكم بعضاً عن البراءة
واتهمه (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً.
فإن قلت : كيف أعمل مخرج وهو في معنى المضىّ؟ قلت : وقد حكى ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ. كما حكى الحاضر في قوله : (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما (فَادَّارَأْتُمْ) و (فَقُلْنا) والضمير في (اضْرِبُوهُ) إمّا أن يرجع إلى النفس والتذكير على تأويل الشخص والإنسان
، وإمّا إلى القتيل لما دل عليه من قوله : (ما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ). (بِبَعْضِها) ببعض البقرة. واختلف في البعض الذي ضرب به ، فقيل : لسانها
، وقيل : فخذها اليمنى ، وقيل : عجبها ، وقيل : العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل
الأذن ، وقيل : الأذن ، وقيل : البضعة بين الكتفين. والمعنى : فضربوه فحيى ، فحذف
ذلك لدلالة قوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ
الْمَوْتى). وروى أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً
وقال : قتلني فلان وفلان لا بنى عمه ، ثم سقط ميتاً ، فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل
بعد ذلك. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ
الْمَوْتى) إما أن يكون خطابا للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا
لهم : كذلك يحيى الله الموتى يوم القيامة (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) ودلائله على أنه قادر على كل شيء (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تعملون على قضية عقولكم. وأن من قدر على إحياء نفس واحدة
قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث. وإما أن يكون خطابا
للمنكرين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت : هلا أحياه ابتداء؟ ولم
شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ قلت : في الأسباب والشروط
__________________
حكم وفوائد. وإنما
شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرّب وأداء التكاليف واكتساب الثواب والإشعار
بحسن تقديم القربة على الطلب ، وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم ،
ولآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى وارتسامها على
الفور ، من غير تفتيش وتكثير سؤال ، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على
بركة البرّ بالوالدين ، والشفقة على الأولاد ، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه ولا
يطلع على حقيقته من كلام الحكماء ، وبيان أنّ من حق المتقرّب إلى ربه أن يتنوّق في اختيار ما يتقرب به ، وأن يختاره فتىّ السنّ غير قحم
ولا ضرع ، حسن اللون بريا من العيوب يونق من ينظر إليه ، وأن يغالى بثمنه ، كما
يروى عن عمر رضى الله عنه أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار ، وأنّ الزيادة في الخطاب نسخ له ، وأن
النسخ قبل الفعل جائز وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء ،
وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب
، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن تتولد منهما حياة. فإن قلت : فما
للقصة لم تقص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدّم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على
الأمر بذبحها ، وأن يقال : وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة
واضربوه ببعضها؟ قلت : كل ما قص من قصص بنى إسرائيل إنما قص تعديداً لما وجد منهم
من الجنايات ، وتقريعا لهم عليها ، ولما جدّد فيهم من الآيات العظام. وهاتان قصتان
كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين ، فالأولى
لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك. والثانية
للتقريع على قتل النفس المحرّمة وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قدّمت قصة
الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولذهب
الغرض في تثنية التقريع. ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة
برأسها أن وصلت بالأولى ، دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في
قوله : (اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِها) حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيته
بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها ، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى
البقرة.
__________________
(ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها
لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
(٧٤)
معنى (ثُمَّ قَسَتْ) استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها
ونحوه : (ثُمَّ أَنْتُمْ
تَمْتَرُونَ) وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار وأنّ
المواعظ لا تؤثر فيها. و (ذلِكَ) إشارة إلى إحياء القتيل ، أو إلى جميع ما تقدّم من الآيات
المعدودة (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) فهي في قسوتها مثل الحجارة (أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً) منها ، وأشد معطوف على الكاف ، إما على معنى أو مثل أشد
قسوة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال
عطفاً على الحجارة. وإما على : أو هي أنفسها أشدّ قسوة. والمعنى : أن من عرف حالها
شبهها بالحجارة ، أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلا. أو من عرفها شبهها بالحجارة
، أو قال : هي أقسى من الحجارة. فإن قلت : لم قيل : أشد قسوة ، وفعل القسوة مما
يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب ؟ قلت : لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة. ووجه آخر ، وهو
أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة ، كأنه قيل : اشتدت قسوة
الحجارة ، وقلوبهم أشدّ قسوة. وقرئ : قساوة. وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس ،
كقولك : زيد كريم وعمرو أكرم. وقوله (وَإِنَّ مِنَ
الْحِجارَةِ) بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة ، وتقرير
لقوله : (أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً). وقرئ «وإن» بالتخفيف ، وهي «إن» المخففة من الثقيلة التي
تلزمها اللام الفارقة. ومنها قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ). والتفجر : التفتح بالسعة والكثرة. وقرأ مالك بن دينار (ينفجر)
بالنون. (يَشَّقَّقُ) يتشقق. وبه قرأ الأعمش. والمعنى إنّ من الحجارة ما فيه
خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير ، ومنها ما ينشق انشقاقا بالطول أو
بالعرض فينبع منه الماء أيضا (يَهْبِطُ) يتردّى من أعلى الجبل. وقرئ بضم الباء. والخشية مجاز عن
انقيادها لأمر الله تعالى ، وأنها
__________________
لا تمتنع على ما
يريد فيها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به. وقرئ (يعملون) بالياء
والتاء ، وهو وعيد.
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)
(٧٧)
(أَفَتَطْمَعُونَ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم ، كقوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) يعنى اليهود ، (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ) طائفة فيمن سلف منهم (يَسْمَعُونَ كَلامَ
اللهِ) وهو ما يتلونه من التوراة (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) كما حرّفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وآية
الرّجم ، وقيل كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور
وما أمر به ونهى ، ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه
الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس. وقرئ : كلم الله ، (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم شبهة في صحته (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون مفترون. والمعنى : إن كفر هؤلاء وحرّفوا فلهم
سابقة في ذلك. (وَإِذا لَقُوا) يعنى اليهود (قالُوا) قال منافقوهم (آمَنَّا) بأنكم على الحق ، وأنّ محمدا هو الرسول المبشر به (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ) الذين لم ينافقوا (إِلى بَعْضٍ) الذين نافقوا (قالُوا) عاتبين عليهم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بما بين لكم في التوراة من صفة محمد. أو قال المنافقون
لأعقابهم يرونهم التصلب في دينهم : أتحدّثونهم ، إنكارا عليهم أن يفتحوا عليهم
شيئا في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ) ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في
__________________
كتابه ، جعلوا
محاجتهم به ، وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله. ألا تراك تقول : هو في
كتاب الله هكذا. وهو عند الله هكذا ، بمعنى واحد (يَعْلَمُ) جميع (ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ) ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.
(وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)
(وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ) لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) التوراة (إِلَّا أَمانِيَ) إلا ما هم عليه من أمانيهم ، وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم
ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أنّ
النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل : إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم
فتقبلوها على التقليد. قال أعرابى لابن دأب في شيء حدث به : أهذا شيء رويته ، أم
تمنيته ، أم اختلقته وقيل : إلا ما يقرؤن من قوله :
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ
والاشتقاق من منى
إذا قدّر ، لأن المتمنى يقدّر في نفسه ويحزر ما يتمناه ، وكذلك المختلق والقارئ
يقدر أن كلمة كذا بعد كذا. وإلا أمانىّ : من الاستثناء المنقطع. وقرئ : أمانى ،
بالتخفيف. ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم والاستيقان ، ثم العوامّ
الذين قلدوهم ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ، لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه ،
وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكن من العلم. (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) المحرّف (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد ، وهو
__________________
من محاز التأكيد ،
كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه : يا هذا كتبته بيمينك هذه. (مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الرشا.
(وَقالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ
اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)
(٨٢)
(إِلَّا أَيَّاماً
مَعْدُودَةً) أربعين يوما عدد أيام عبادة العجل. وعن مجاهد : كانوا يقولون
مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما. (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ) متعلق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف
الله عهده. و (أَمْ) إمّا أن تكون معادلة بمعنى أى الأمرين كائن على سبيل
التقرير ، لأن العلم واقع بكون أحدهما. ويجوز أن تكون منقطعة (بَلى) إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أى بلى تمسكم أبدا ، بدليل قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ). (مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً) من السيئات ، يعنى كبيرة من الكبائر (وَأَحاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ) تلك واستولت عليه ، كما يحيط العدوّ ولم يتفص عنها بالتوبة. وقرئ : خطاياه ، وخطيئاته. وقيل في الإحاطة : كان
ذنبه أغلب من طاعته. وسأل رجل الحسن عن الخطيئة قال : سبحان الله : ألا أراك ذا
لحية وما تدرى ما الخطيئة ، انظر في المصحف فكل آية نهى فيها الله عنها وأخبرك أنه
من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة.
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)(٨٣)
__________________
(لا تَعْبُدُونَ) إخبار في معنى النهى ، كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له كذا ، تريد الأمر ،
وهو أبلغ من صريح الأمر والنهى ، لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء ، فهو
يخبر عنه وتنصره قراءة عبد الله وأبىّ (لا تعبدوا) ولا بدّ من إرادة القول ، ويدل
عليه أيضا قوله : (وَقُولُوا). وقوله (وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) إما أن يقدّر : وتحسنون بالوالدين إحسانا. أو وأحسنوا.
وقيل : هو جواب قوله : (أَخَذْنا مِيثاقَ
بَنِي إِسْرائِيلَ) إجراء له مجرى القسم ، كأنه قيل : وإذ أقسمنا عليهم لا
تعبدون. وقيل : معناه أن لا تعبدوا ، فلما حذفت «أن» رفع ، كقوله :
أَلَا أَيُّهذَا الزّاجِرِى أَحْضُرَ الوَغَى
ويدل عليه قراءة
عبد الله (أن لا تعبدوا) ويحتمل (أن لا تعبدوا) أن تكون «إن» فيه مفسرة ، وأن تكون
أن مع الفعل بدلا عن الميثاق ، كأنه قيل : أخذنا ميثاق بنى إسرائيل توحيدهم وقرئ
بالتاء حكاية لما خوطبوا به ، وبالياء لأنهم غيب. (حُسْناً) قولا هو حسن في نفسه لإفراط حسنه. وقرئ حسنا. وحسنى ـ على المصدر ـ كبشرى. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) على طريقه الالتفات أى توليتم عن الميثاق ورفضتموه. (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) قيل : هم الذين أسلموا منهم (وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ) وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن المواثيق ، والتولية.
__________________
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ
هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ
دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ
مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ
إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(٨٥)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٨٦)
(لا تَسْفِكُونَ
دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) لا يفعل ذلك بعضكم ببعض. جعل غير الرجل نفسه. إذا اتصل به
أصلا أو دينا. وقيل : إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه ، لأنه يقتص منه (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) عليها كقولك : فلان مقرّ على نفسه بكذا شاهد عليها. وقيل :
وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) استبعاد لما أسند اليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم
وشهادتهم. والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون ، يعنى أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين تنزيلا ، لتغير الصفة منزلة تغير الذات
، كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله (تَقْتُلُونَ) بيان لقوله (ثُمَّ أَنْتُمْ
هؤُلاءِ) وقيل : هؤلاء موصول بمعنى الذي . وقرئ (تظاهرون) بحذف التاء وإدغامها ، وتتظاهرون بإثباتها
، وتظهرون بمعنى تتظهرون : أى تتعاونون عليهم. وقرئ : تفدوهم ، وتفادوهم. وأسرى ،
وأسارى (وَهُوَ) ضمير الشأن. ويجوز أن يكون مبهما تفسيره (إِخْراجُهُمْ ، أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ)
__________________
أى بالفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أى بالقتال والإجلاء. وذلك أنّ قريظة كانوا حلفاء الأوس ،
والنضير كانوا خلفاء الخزرج ، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا
ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه. فعيرتهم العرب
وقالت ؛ كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم ، فيقولون : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم
، ولكنا نستحيى أن نذل حلفاءنا. والخزي : قتل بنى قريظة وأسرهم وإجلاء بنى النضير.
وقيل الجزية. وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشد العذاب ، لأن عصيانه أشدّ. وقرئ :
يردّون ، ويعملون ـ بالياء والتاء ـ (فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ) عذاب الدنيا بنقصان الجزية ، ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم.
وكذلك عذاب الآخرة.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا
غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٨٩)
(الْكِتابَ) التوراة ، آتاه إياها جملة واحدة. ويقال : قفاه إذا أتبعه
من القفا. نحو ذنبه ، من الذنب. وقفاه به : أتبعه إياه ، يعنى : وأرسلنا على أثره
الكثير من الرسل ، كقوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا تَتْرا) وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير
وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم. وقيل (عِيسَى) بالسريانية أيشوع. و (مَرْيَمَ) بمعنى الخادم. وقيل : المريم بالعربية من النساء ، كالزير
من الرجال . وبه فسر قول رؤبة :
قُلْتُ لِزَيْرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ
__________________
ووزن «مريم» عند
النحويين «مفعل» لأن فعيلا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو عثير وعليب (الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات والحجج ، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه
والأبرص والإخبار بالمغيبات. وقرئ : وآيدناه. ومنه : آجده بالجيم إذا قوّاه. يقال : الحمد لله الذي آجدنى بعد ضعف ، وأوجدنى
بعد فقر. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالروح المقدّسة ، كما تقول : حاتم الجود ، ورجل صدق.
ووصفها بالقدس كما قال : (وَرُوحٌ مِنْهُ) فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. وقيل : لأنه لم تضمه
الأصلاب ، ولا أرحام الطوامث. وقيل بجبريل. وقيل بالإنجيل كما قال في القرآن : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيى الموتى بذكره. والمعنى
: ولقد آتينا يا بنى إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ) منهم بالحق (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان به ، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ
والتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يريد : ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم. ثم
وبخهم على ذلك. ودخول الفاء لعطفه على المقدّر. فإن قلت : هلا قيل وفريقا قتلتم؟ . قلت : هو على وجهين : أن تراد الحال الماضية ، لأنّ الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في
القلوب ، وأن يراد : وفريقا تقتلونهم بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه
وسلم لو لا أنى أعصمه منكم. ولذلك سحرتموه وسممتم
__________________
له الشاة. وقال
صلى الله عليه وسلم عند موته «ما زالت أُكلة خيبر تعادّنى ، فهذا أوان قطعت أبهرى»
(غُلْفٌ) جمع أغلف ، أى هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها
ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن ،
__________________
كقولهم : قلوبنا
في أكنة مما تدعونا إليه. ثم ردّ الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، بأن
الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم ، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر
الزائغ عن الفطرة وتسببوا بذلك لمنع الألطاف التي تكون للمتوقع إيمانهم وللمؤمنين (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) فإيمانا قليلا يؤمنون. وما مزيدة ، وهو إيمانهم ببعض
الكتاب. ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم. وقيل «غلف» تخفيف «غلف» جمع غلاف ، أى
قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره. وروى عن أبى عمرو : قلوبنا
غلف ، بضمتين (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) هو القرآن (مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ) من كتابهم لا يخالفه. وقرئ : مصدّقا ، على الحال. فإن قلت
: كيف جاز نصبها عن النكرة؟ قلت : إذا وصف النكرة تخصص فصح انتصاب الحال عنه ، وقد
وصف «كتاب» بقوله «من عند الله» وجواب لما محذوف وهو نحو : كذبوا به ، واستهانوا
بمجيئه ، وما أشبه ذلك (يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) يستنصرون على المشركين ، إذا قاتلوهم قالوا : اللهم انصرنا
بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة ، ويقولون لأعدائهم
من المشركين : قد أظل زمان نبىّ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم :
وقيل معنى (يَسْتَفْتِحُونَ) يفتحون عليهم ويعرفونهم أنّ نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه.
والسين للمبالغة ، أى يسألون أنفسهم الفتح عليهم ، كالسين في استعجب واستسخر ، أو
يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا) من الحق (كَفَرُوا بِهِ) بغيا وحسداً وحرصا على الرياسة. (عَلَى الْكافِرِينَ) أى عليهم وضعا للظاهر موضع المضمر للدلالة على أنّ
__________________
اللعنة لحقتهم
لكفرهم. واللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس ويدخلوا فيه دخولا أوّليا.
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا
وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(٩١)
(بِئْسَمَا) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس شيئا (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) والمخصوص بالذم (أَنْ يَكْفُرُوا) واشتروا بمعنى باعوا (بَغْياً) حسداً وطلبا لما ليس لهم ، وهو علة اشتروا (أَنْ يُنَزِّلَ) لأن ينزل أو على أن ينزل ، أى حسدوه على أن ينزّل الله (مِنْ فَضْلِهِ) الذي هو الوحى (عَلى مَنْ يَشاءُ) وتقتضي حكمته إرساله (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى
غَضَبٍ) فصاروا أحقاء بغضب مترادف ، لأنهم كفروا بنبىّ الحق وبغوا
عليه. وقيل كفروا بمحمد بعد عيسى. وقيل بعد قولهم : عزيز ابن الله ، وقولهم : يد
الله مغلولة ، وغير ذلك من أنواع كفرهم (بِما أَنْزَلَ اللهُ) مطلق فيما أنزل الله من كل كتاب (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) مقيد بالتوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما
وَراءَهُ) أى قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما
مَعَهُمْ) منها غير مخالف له ، وفيه ردّ لمقالتهم لأنهم إذا كفروا
بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ثم اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادّعائهم الإيمان
بالتوراة والتوراة لا تسوّغ قتل الأنبياء
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ
مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ
ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ
وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا
قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ
قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩٣)
__________________
(وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) يجوز أن يكون حالا ، أى عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة
غير موضعها. وأن يكون اعتراضا بمعنى : وأنتم قوم عادتكم الظلم. وكرّر رفع الطور
لما نيط به من زيادة ليست مع الأول مع ما فيه من التوكيد (وَاسْمَعُوا) ما أمرتم به في التوراة (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك. فإن قلت : كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت : طابقه من حيث
أنه قال لهم : اسمعوا ، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا : سمعنا ، ولكن لا
سماع طاعة (وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أى تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ.
وقوله (فِي قُلُوبِهِمُ) بيان لمكان الإشراب كقوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ ناراً). (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم (بِئْسَما
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بالتوراة ، لأنه ليس في التوراة عبادة العجاجيل. وإضافة
الأمر إلى إيمانهم تهكم ، كما قال قوم شعيب (أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ) وكذلك إضافة الإيمان إليهم. وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له.
(قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ
يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)
(خالِصَةً) نصب على الحال من الدار الآخرة. والمراد الجنة ، أى سالمة
لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق. يعنى إن صحّ قولكم لن يدخل الجنة إلا من
كان هوداً. و (النَّاسِ) للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة
الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب ، كما روى عن المبشرين بالجنة ما
روى. كان على رضى الله عنه يطوف بين الصفين في غلالة ، فقال له ابنه الحسن : ما
هذا بزي المحاربين : فقال : يا بنىّ لا يبالى أبوك على الموت سقط ، أم عليه سقط
الموت. وعن حذيفة رضى الله عنه أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : حبيب جاء
على فاقة ، لا أفلح من ندم . يعنى
__________________
على التمني. وقال
عمار بصفين : «الآن ألاقى الأحبة محمداً وحزبه» . وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحنّ إليه. وعن النبي
صلى الله عليه وسلم : «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على
وجه الأرض يهودى» (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) بما أسلفوا من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى الله عليه
وآله وسلم وبما جاء به ، وتحريف كتاب الله ، وسائر أنواع الكفر والعصيان. وقوله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) من المعجزات ، لأنه إخبار بالغيب ، وكان كما أخبر به ،
كقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فإن قلت : ما أدراك أنهم لم يتمنوا؟ قلت : لأنهم لو تمنوا
لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى
المطاعن في الإسلام أكثر من الذرّ ، وليس أحد منهم نقل ذلك. فإن قلت : التمني من
أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد ، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا؟ قلت : ليس
التمني من أعمال القلوب ، إنما هو قول الإنسان بلسانه : ليت لي كذا ، فإذا قاله
قالوا : تمنى ، وليت : كلمة التمني ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب
ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا : قد تمنينا الموت في قلوبنا ، ولم ينقل
أنهم قالوا ذلك فإن قلت : لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدّقون. قلت : كم حكى
عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك
مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب البحت ولم يبالوا ، فكيف
يمتنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه ، مع احتمال أن
يكونوا صادقين في قولهم وإخبارهم عن ضمائرهم ، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان
فيصدّق مع احتمال أن يكون كاذبا لأنه أمر خافٍ لا سبيل إلى الاطلاع عليه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تهديد لهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين في قولهم : وجدت
زيداً
__________________
ذا الحفاظ ومفعولاه «هم أحرص». فإن قلت : لم قال : (عَلى حَياةٍ) بالتنكير؟ قلت : لأنه أراد حياة مخصوصة وهي الحياة
المتطاولة ، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبىّ (على الحياة) (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس.
فإن قلت : ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلت : بلى ، ولكنهم أفردوا بالذكر لأن
حرصهم شديد. ويجوز أن يراد : وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف لدلالة أحرص الناس
عليه. وفيه توبيخ عظيم : لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا
الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم ، فإذا زاد عليهم في الحرص من
له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ. فإن قلت : لم زاد حرصهم على
حرص المشركين؟ قلت : لأنهم علموا ـ لعلمهم بحالهم ـ أنهم صائرون إلى النار لا
محالة والمشركون لا يعلمون ذلك. وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس ، لأنهم كانوا
يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان. وعن ابن عباس رضى الله عنه : هو قول
الأعاجم : زى هزار سال . وقيل (وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) كلام مبتدأ ، أى ومنهم ناس (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) على حذف الموصوف كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) والذين أشركوا ـ على هذا ـ : مشارٌ به إلى اليهود ، لأنهم
قالوا : عزير ابن الله. والضمير في (وَما هُوَ) لأحدهم و (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل بمزحزحه ، أى : وما أحدهم بمن يزحزحه من النار
تعميره. وقيل : الضمير لما دل عليه يعمر من مصدره ، وأن يعمر بدل منه. ويجوز أن
يكون «هو» مبهما ، و «أن يعمر» موضحة. والزحزحة : التبعيد والإنحاء. فإن قلت : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) ما موقعه؟ قلت : هو بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف.
فإن قلت : كيف اتصل لو يعمر بيودّ أحدهم؟ قلت : هو حكاية لودادتهم. و «لو» في معنى
التمني ، وكان القياس : لو أعمر ، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) كقولك : حلف بالله ليفعلنّ.
(قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ
لِلْكافِرِينَ)(٩٨)
__________________
روى أنّ عبد الله
بن صوريا من أحبار فدك حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأله عمن يهبط عليه
بالوحي ، فقال : جبريل ، فقال : ذاك عدوّنا ، ولو كان غيره لآمنا بك ، وقد عادانا
مرارا ، وأشدّها أنه أنزل على نبينا أنّ بيت المقدس سيخربه بخت نصر ، فبعثنا من
يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا ، فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم
فإنه لا يسلطكم عليه ، وإن لم يكن إياه فعلى أى حق تقتلونه . وقيل : أمره الله تعالى أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في
غيرنا. وروى أنه كان لعمر رضى الله عنه أرض بأعلى المدينة ، وكان ممرّه على مدارس
اليهود ، فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم ، فقالوا يا عمر ، قد أحببناك ، وإنا لنطمع
فيك فقال : والله ما أجيئكم لحبكم ، ولا أسألكم لأنى شاك في دينى ، وإنما أدخل
عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأرى آثاره في كتابكم ، ثم
سألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدوّنا يطلع محمداً على أسرارنا ، وهو صاحب كل خسف
وعذاب ، وإنّ ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم : وما منزلتهما من الله تعالى
قالوا : أقرب منزلة ، جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره. وميكائيل عدوّ لجبريل.
فقال عمر : لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوّين ، ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن
كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر ، ومن كان عدواً لهما كان عدوّاً لله. ثم رجع
عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد وافقك ربك
يا عمر.
فقال عمر : لقد
رأيتنى في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر . وقرئ : جبرئيل ، بوزن قفشليل وجبرئل بحذف الياء ، وجبريل بحذف الهمزة ، وجبريل بوزن
قنديل ، وجبرالّ بلام شديدة. وجبرائيل بوزن جبراعيل ، وجبرائل بوزن جبراعل. ومنع
الصرف فيه للتعريف والعجمة. وقيل معناه : عبد الله. الضمير في (نَزَّلَهُ) للقرآن. ونحو هذا الإضمار ـ أعنى إضمار ما لم يسبق ذكره ـ فيه
فخامة لشأن صاحبه ، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ، ويكتفى عن اسمه
الصريح بذكر شيء من صفاته (عَلى قَلْبِكَ) أى حفظه إياك وفهمكه (بِإِذْنِ اللهِ) بتيسيره
__________________
وتسهيله. فإن قلت
: كان حق الكلام أن يقال : على قلبي . قلت : جاءت على حكاية كلام الله تعالى كما تكلم به ، كأنه
قيل : قل ما تكلمت به من قولي : من كان عدوّا لجبريل فإنه نزله على قلبك. فإن قلت
: كيف استقام قوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) جزاء للشرط ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما إن عادى جبريل أحد من أهل
الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه
وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. والثاني : إن عاداه أحد
فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم وموافقا له ، وهم كارهون
للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له ، كقولك : إن
عاداك فلان فقد أذيته وأسأت إليه. أُفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر
، وهو مما ذكر أنّ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات. وقرئ : ميكال ،
بوزن قنطار. وميكائيل كميكاعيل. وميكائل كميكاعل. وميكئل كميكعل. وميكئيل كميكعيل.
قال ابن جنى : العرب إذا نطقت بالأعجمى خلطت فيه. (عَدُوٌّ
لِلْكافِرِينَ) أراد عدوّ لهم فجاء بالظاهر ، ليدل على أنّ الله إنما
عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر ، وإذا كانت عداوة الأنبياء كفراً فما بال
الملائكة وهم أشرف والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدّ العقاب.
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)
__________________
أَوَكُلَّما
عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٠١)
(إِلَّا الْفاسِقُونَ) إلا المتمرّدون من الكفرة. وعن الحسن : إذا استعمل الفسق
في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. وعن ابن عباس رضى الله
عنه : قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما جئتنا بشيء نعرفه وما
أنزل عليك من آية فنتبعك لها فنزلت. واللام في : (الْفاسِقُونَ) للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب (أَوَكُلَّما) الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات وكلما
عاهدوا. وقرأ أبو السمال بسكون الواو على أنّ الفاسقون بمعنى الذين فسقوا ، فكأنه
قيل : وما يكفر بها إلا الذين فسقوا ، أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة. وقرئ
عوهدوا وعهدوا واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم
ومن آبائهم فنقضوا. وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ
يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ). والنبذ الرمي بالذمام ورفضه. وقرأ عبد الله نقضه (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وقال فريق منهم ، لأنّ منهم من لم ينقض (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالتوراة وليسوا من الدين في شيء ، فلا يعدّون نقض
المواثيق ذنباً ولا يبالون به (كِتابَ اللهِ) يعنى التوراة ، لأنهم بكفرهم برسول الله المصدق لما معهم
كافرون بها نابذون لها. وقيل : كتاب الله القرآن ، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه
بالقبول. (كَأَنَّهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) أنه كتاب الله لا يدخلهم فيه شك . يعنى أنّ علمهم بذلك رصين ، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه
وراء ظهورهم ، مثل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه
وقلة التفات إليه. وعن الشعبي : هو بين أيديهم يقرءونه ، ولكنهم نبذوا العمل به.
وعن سفيان : أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ، ولم يحلوا حلاله ولم
يحرّموا حرامه.
(وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ
__________________
الشَّياطِينَ
كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ
عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٢)
(وَاتَّبَعُوا) أى نبذوا كتاب الله واتبعوا (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) يعنى واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أى على عهد ملكه وفي زمانه. وذلك أنّ الشياطين كانوا
يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد
دوّنوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام
حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : هذا علم سليمان ، وما تم
لسليمان ملكه إلا بهذا العلم ، وبه تسخر الإنس والجن والريح التي تجرى بأمره (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به وسماه كفراً (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) هم الذين (كَفَرُوا) باستعمال السحر وتدوينه (يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ) يقصدون به إغواءهم وإضلالهم (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) عطف على السحر ، أى ويعلمونهم ما أنزل على الملكين. وقيل :
هو عطف على ما تتلو ، أى واتبعوا ما أنزل. (هارُوتَ وَمارُوتَ) عطف بيان للملكين علمان لهما ، والذي أنزل عليهما هو علم
السحر ابتلاء من الله للناس. من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ، ومن تجنبه أو
تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا :
عَرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لكِنْ لِتَوَقِّيهِ
__________________
كما ابتلى قوم
طالوت بالنهر ، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي). وقرأ الحسن (على الملكين) بكسر اللام ، على أنّ المنزل
عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل. وما يعلم الملكان أحدا حتى ينبهاه وينصحاه
ويقولا له (إِنَّما نَحْنُ
فِتْنَةٌ) أى ابتلاء واختيار من الله (فَلا تَكْفُرْ) فلا تتعلم معتقداً أنه حق فتكفر (فَيَتَعَلَّمُونَ) الضمير لما دلّ عليه من أحد. أى فيتعلم الناس من الملكين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ) أى علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين من
حيلة وتمويه ، كالنفث في العقد ، ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز
والخلاف ابتلاء منه ، لا أنّ السحر له في نفسه بدليل قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنه ربما أحدث الله عنده فعلا من أفعاله وربما لم يحدث (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا
يَنْفَعُهُمْ) لأنهم يقصدون به الشر. وفيه أن اجتنابه أصلح كتعلم الفلسفة
التي لا يؤمن أن تجرّ إلى الغواية. ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه أى استبدل
ما تتلو الشياطين من كتاب الله (ما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) من نصيب (وَلَبِئْسَ ما
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أى باعوها. وقرأ الحسن : الشياطون. وعن بعض العرب : بستان
فلان حوله بساتون. وقد ذكر وجهه فيما بعد. وقرأ الزهري (هاروت وماروت) بالرفع على
: هما هاروت وماروت. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ، ولو كانا من الهرت
والمرت ـ وهو الكسر كما زعم بعضهم ـ لانصرفا. وقرأ طلحة (وما يعلمان) من أعلم ،
وقرئ (بين المرء) بضم الميم وكسرها مع الهمز. والمرّ ، بالتشديد على تقدير التخفيف
والوقف ، كقولهم : فرج ، وإجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الأعمش :
وما هم بضارّى ، بطرح النون والإضافة إلى أحد والفضل بينهما بالظرف. فإن قلت : كيف
يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن؟ قلت : جعل الجار جزءاً من المجرور. فإن قلت : كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله (وَلَقَدْ عَلِمُوا) على سبيل التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم في قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)؟ قلت : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم ، جعلهم حين لم
يعملوا به كأنهم منسلخون عنه.
__________________
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا) برسول الله والقرآن (وَاتَّقَوْا) الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب
الشياطين (لَمَثُوبَةٌ مِنْ
عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) وقرئ : لمثوبة ، كمشورة ومشورة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنّ ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا ، ولكنه جهلهم
لترك العمل بالعلم. فإن قلت : كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو؟
قلت : لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى
الرفع في سلام عليكم لذلك ، فإن قلت : فهلا قيل لمثوبة الله خير؟ قلت : لأنّ
المعنى : لشيء من الثواب خير لهم. ويجوز أن يكون قوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) تمنيا لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم
له ، كأنه قيل ؛ وليتهم آمنوا : ، ثم ابتدئ لمثوبة من عند الله خير. كان المسلمون
يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم : راعنا يا
رسول الله ، أى راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه وتحفظه. وكانت لليهود كلمة
يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي «راعينا» فلما سمعوا بقول المؤمنين : راعنا ،
افترصوه وخاطبوا به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعنون به تلك المسبة ، فهي
المؤمنون عنها وأُمروا بما هو في معناها وهو (انْظُرْنا) من نظره إذا انتظره. وقرأ أُبىّ : أنظرنا من النظرة ، أى
أمهلنا حتى نحفظ وقرأ عبد الله بن مسعود : راعونا ، على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ
الجمع للتوقير : وقرأ الحسن : راعنا ، بالتنوين من الرعن وهو الهوج ، أى لا تقولوا
قولا راعنا منسوبا إلى الرعن بمعنى رعنيا ، كدارع ولابن لأنه لما أشبه قولهم :
راعينا ، وكان سببا في السب اتصف بالرعن (وَاسْمَعُوا) وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويلقى عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان
__________________
حاضرة ، حتى لا
تحتاجوا إلى الاستعانة وطلب المراعاة ، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن
سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا ، أو واسمعوا ما أمرتم به بجدّ
حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه ، تأكيدا عليهم ترك تلك الكلمة. وروى أن سعد بن
معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده لئن
سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا :
أو لستم تقولونها فنزلت. (وَلِلْكافِرِينَ) ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم
وسبوه (عَذابٌ أَلِيمٌ) من الأولى للبيان لأنّ الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل
الكتاب ، والمشركون ؛ كقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) والثانية مزيدة لاستغراق الخير ، والثالثة لابتداء الغاية.
والخير الوحى ، وكذلك الرحمة كقوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ) والمعنى : أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم
وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحى والله يختص بالنبوّة (مَنْ يَشاءُ) ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إشعار بأنّ إيتاء النبوّة من الفضل العظيم كقوله تعالى : (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً).
(ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ
أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ
إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٠)
__________________
روى أنهم طعنوا في
النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ، ثم ينهاهم عنه ويأمرهم
بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟ فنزلت. وقرئ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) وما ننسخ : بضم النون ، من أنسخ. أو ننسأها. وقرئ (نُنْسِها) وننسها بالتشديد. وتنسها وتنسها ، على خطاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وقرأ عبد الله. ما ننسك من آية أو ننسخها وقرأ حذيفة : ما ننسخ من
آية أو ننسكها. ونسخ الآية : إزالتها بإبدال أخرى مكانها وإنساخها. الأمر بنسخها ،
وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها. ونسؤها ،
تأخيرها وإذهابها. لا إلى بدل. وإنساؤها أنّ يذهب بحفظها عن القلوب. والمعنى أن كل
آية يذهب بها على ما توجبه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معا ، أو من إزالة
أحدهما إلى بدل أو غير بدل (نَأْتِ) بآية خير منها للعباد ، أى بآية العمل بها أكثر للثواب أو
مثلها في ذلك (عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) فهو يقدر على الخير ، وما هو خير منه ، وعلى مثله في الخير
(لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم ، وهو
أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ. لما بين لهم أنه مالك أمورهم ومدبرها على حسب
مصالحهم من نسخ الآيات وغيره ، وقررهم على ذلك بقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به
وينزل عليهم وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحه آباء اليهود على موسى عليه
السلام من الأشياء التي كانت عاقبتها وبالا عليهم كقولهم : اجعل لنا إلها ، أرنا
الله جهرة ، وغير ذلك (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة ، وشك فيها ، واقترح غيرها (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) روى أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود
قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم يروا ما أصابكم. ولو
كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلا
فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد. قال : فإنى قد عاهدت أن لا أكفر
بمحمد ما عشت : فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت
بالله ربا ، وبمحمد نبيا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة ،
وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : أصبتما
خيرا وأفلحتما . فنزلت. فإن قلت : بم تعلق قوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بودّ ، على معنى أنهم
تمنوا
__________________
أن ترتدوا عن
دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم ، لا من قبل التدين والميل مع
الحق ، لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق ، فكيف يكون تمنيهم من
قبل الحق؟ وإما أن يتعلق بحسدا ، أى حسدا متبالغا منبعثا من أصل أنفسهم (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل
والعداوة (حَتَّى يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ) الذي هو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم بضرب
الجزية عليهم (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الانتقام منهم (مِنْ خَيْرٍ) من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) تجدوا ثوابه عند الله (إِنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم لا يضيع عنده عمل عامل.
(وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١١٢)
الضمير في (وَقالُوا) لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. والمعنى : وقالت اليهود :
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى
، فلف بين القولين ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كل فريق قوله ، وأمنا من الإلباس لما
علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه. ونحوه (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى
تَهْتَدُوا) ، والهود : جمع هائد ، كعائذ وعُوذ ، وبازل وبُزل. فإن قلت
: كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت : حمل الاسم على لفظ «من»
والخبر على معناه ، كقراءة الحسن إلا من هو صالوا الجحيم. وقوله : (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها). وقرأ أبىّ بن كعب : إلا من كان يهوديا أو نصرانيا. فإن
قلت : لم قيل (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) وقولهم (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ) أمنية واحدة ؟ قلت :
__________________
أشير بها إلى
الأمانى المذكورة وهو أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن
يردّوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم : أى تلك الأمانى الباطلة
أمانيهم. وقوله (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ) متصل بقولهم : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى.
وتلك أمانيهم : اعتراض ، أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، على حذف المضاف
وإقامة المضاف إليه مقامه. يريد أن أمانيهم جميعا في البطلان مثل أمنيتهم هذه.
والأمنية أفعولة من التمني ، مثل الأضحوكة والأعجوبة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين. وأنّ كل قول لا
دليل عليه فهو باطل غير ثابت. و «هات» صوت بمنزلة هاء ، بمعنى أحضر (بَلى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذي يستوجبه. فإن قلت : من أسلم وجهه كيف موقعه؟ قلت :
يجوز أن يكون (بَلى) ردّاً لقولهم ، ثم يقع (مَنْ أَسْلَمَ) كلاما مبتدأ ، ويكون (مَنْ) متضمنا لمعنى الشرط ، وجوابه (فَلَهُ أَجْرُهُ) ، وأن يكون (مَنْ أَسْلَمَ) فاعلا لفعل محذوف ، أى بلى يدخلها من أسلم ، ويكون قوله : (فَلَهُ أَجْرُهُ) كلاما معطوفا على يدخلها من أسلم.
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى
شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها
أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١٤)
(عَلى شَيْءٍ) أى على شيء يصح ويعتدّ به. وهذه مبالغة عظيمة ، لأنّ
المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء ، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء عليه ، فقد بولغ في ترك
الاعتداد به إلى ما ليس بعده . وهذا كقولهم : أقل من لا شيء (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الواو للحال ، والكتاب
__________________
للجنس. أى قالوا
ذلك ، وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب. وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو
غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي ؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدّق
للثاني شاهد بصحته ، وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج (قالَ) الجهلة (الَّذِينَ) لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم
قالوا لأهل كل دين : ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع
علمهم في سلك من لا يعلم. وروى أنّ وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما
أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى والإنجيل. وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا
بموسى والتوراة (فَاللهُ يَحْكُمُ) بين اليهود والنصارى (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه. وعن الحسن
: حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار (أَنْ يُذْكَرَ) ثانى مفعولي منع. لأنك تقول : منعته كذا. ومثله (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ) ، (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا) ويجوز أن يحذف حرف الجر مع أن ، ولك أن تنصبه مفعولا له
بمعنى كراهة أن يذكر ، وهو حكم عام لجنس مساجد الله ، وأن مانعها من ذكر الله مفرط
في الظلم ، والسبب فيه أن النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس
أن يصلوا فيه ، وأن الروم غزوا أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا. وقيل
أراد به منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام
الحديبية. فإن قلت : فكيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد
وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عاما وإن كان السبب
خاصا ، كما تقول لمن أذى صالحا واحداً : ومن أظلم ممن أذى الصالحين. وكما قال الله
عز وجل : (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) والمنزول فيه الأخنس بن شريق (وَسَعى فِي خَرابِها) بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان. وينبغي أن يراد ب «من»
منع العموم كما أريد بمساجد الله ، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك
النصارى أو المشركين (أُولئِكَ) المانعون (ما كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها) أى ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله (إِلَّا خائِفِينَ) على حال التهيب وارتعاد الفرائض من المؤمنين أن يبطشوا بهم
، فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى ما كان الحق
والواجب إلا ذلك لو لا ظلم الكفرة وعتوّهم. وقيل ما كان لهم في حكم الله ، يعنى أن
الله قد حكم وكتب في اللوح أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى
__________________
لا يدخلوها إلا
خائفين. روى أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة. وقال
قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضربا وأبلغ إليه في العقوبة. وقيل
: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا لا يحجنّ بعد هذا العام مشرك ، ولا
يطوفنّ بالبيت عريان » وقرأ عبد الله : إلا خيفا ، وهو مثل صيم . وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد : فجوّزه أبو
حنيفة رحمه الله ، ولم يجوّزه مالك ، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. وقيل
: معناه النهى عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه ، كقوله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
اللهِ). (خِزْيٌ) قتلٌ وسبىٌ ، أو ذلة بضرب الجزية. وقيل : فتح مدائنهم
قسطنطينية ورومية وعمورية.
(وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ
واسِعٌ عَلِيمٌ)(١١٥)
(وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أى بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله هو مالكها
ومتوليها (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) ففي أى مكان فعلتم التولية ، يعنى تولية وجوهكم شطر القبلة
بدليل قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ). (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أى جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى أنكم إذا منعتم أن
تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس ، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أى
بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا يختص
إسكانها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم (عَلِيمٌ) بمصالحهم. وعن ابن عمر نزلت في صلاة المسافر على الراحلة
أينما توجهت. وعن عطاء : عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما
أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل : معناه فأينما تولوا للدعاء والذكر ولم يرد
الصلاة. وقرأ الحسن : فأينما تولوا ، بفتح التاء من التولي يريد : فأينما توجهوا
القبلة.
(وَقالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ
قانِتُونَ) (١١٦)
(وَقالُوا) وقرئ بغير واو ، يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزير
ابن الله والملائكة بنات الله. (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن ذلك وتبعيد (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) هو خالقه ومالكه ، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون ، لا يمتنع شيء منه على
__________________
تكوينه وتقديره
ومشيئته ، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس ، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد.
والتنوين في : (كلّ) عوض من المضاف إليه ، أى كل ما في السموات والأرض. ويجوز أن
يراد كلّ من جعلوه لله ولداً له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما
أضافوا إليهم. فإن قلت : كيف جاء بما التي لغير أولى العلم مع قوله قانتون؟ قلت :
هو كقوله : سبحان ما سخر كنّ لنا. وكأنه جاء ب «ما» دون «من» تحقيراً لهم وتصغيراً
لشأنهم ، كقوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً).
(بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١١٧)
يقال بدع الشيء
فهو بديع ، كقولك : بزع الرجل فهو بزيع. و (بَدِيعُ السَّماواتِ) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أى بديع سماواته وأرضه.
وقيل البديع بمعنى المبدع ، كما أنّ السميع في قول عمرو :
أمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِى السَّمِيعُ
بمعنى المسمع وفيه
نظر (كُنْ فَيَكُونُ) من كان التامّة ، أى أحدث فيحدث. وهذا مجاز من الكلام
وتمثيل ولا قول ثم ، كما لا قول في قوله :
إذْ قَالَتِ الْأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ
وإنما المعنى أنّ
ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا
توقف ، كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه
الإباء.
__________________
أكد بهذا استبعاد
الولادة لأنّ من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في
توالدها. وقرئ (بديع السماوات) مجروراً على أنه بدل من الضمير في له. وقرأ المنصور
بالنصب على المدح.
(وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ
بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨)
(وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) وقال الجهلة من المشركين ، وقيل من أهل الكتاب ، ونفى عنهم
العلم لأنهم لم يعملوا به : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا
اللهُ) هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى؟ استكباراً منهم
وعتوا (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات ، واستهانة
بها (تَشابَهَتْ
قُلُوبُهُمْ) أى قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى ، كقوله : (أَتَواصَوْا بِهِ). (قَدْ بَيَّنَّا
الْآياتِ لِقَوْمٍ) ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها
والاكتفاء بها عن غيرها.
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ)(١١٩)
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ) لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان ، وهذه تسلية لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه ، لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم
على الكفر. ولا نسألك (عَنْ أَصْحابِ
الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم ،
كقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) وقرئ : (وَلا تُسْئَلُ) على النهى. روى أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواى ، فنهى عن
السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله. وقيل : معناه تعظيم ما وقع فيه
الكفار من العذاب كما تقول : كيف فلان؟ سائلا عن الواقع في بلية ، فيقال لك : لا
تسأل عنه. ووجه التعظيم أن المستخبر يجزع أن يجرى على لسانه ما هو فيه لفظاعته ،
فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره ، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه
السامع وإضجاره ، فلا تسأل.
وتعضد القراءة
الأولى قراءة عبد الله : ولن تسئل ، وقراءة أبىّ : وما تسئل.
(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ
هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٢٠)
كأنهم قالوا : لن
نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا ، إقناطا منهم لرسول الله صلى
الله عليه وسلم عن دخولهم في الإسلام ، فحكى الله عزّ وجلّ كلامهم ، ولذلك قال : (قُلْ
إِنَّ
هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) على طريقة إجابتهم عن قولهم ، يعنى أن هدى الله الذي هو
الإسلام هو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى ، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى ،
وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى. ألا ترى إلى قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أى أقوالهم التي هي أهواء وبدع (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أى من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة.
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
يا
بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢)
وَاتَّقُوا
يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا
تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (١٢٣)
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم مؤمنون أهل الكتاب (يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ) لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ) بكتابهم دون المحرفين (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) من المحرفين (فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الضلالة بالهدى
(وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١٢٥)
(ابْتَلى إِبْراهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) اختبره بأوامر ونواه. واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه عن
اختيار أحد الأمرين : ما يريد الله ، وما يشتهيه العبد ، كأنه
يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. وقرأ أبو حنيفة رضى الله عنه وهي
قراءة ابن عباس رضى الله عنه : (إبراهيمُ ربَّه) رفع إبراهيم ونصب ربه. والمعنى :
أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهنّ أم لا؟ فإن قلت : الفاعل
في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير ، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر.
قلت : الإضمار قبل الذكر أن يقال : ابتلى ربه إبراهيم. فأما ابتلى إبراهيم ربه ،
أو ابتلى ربه إبراهيم ، فليس واحداً منهما بإضمار قبل الذكر. أما الأوّل فقد ذكر
فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكرا ظاهرا. وأما الثاني فإبراهيم فيه مقدّم في المعنى
، وليس كذلك : ابتلى ربه إبراهيم. فإن الضمير فيه قد تقدم لفظا ومعنى فلا سبيل إلى
__________________
صحته. والمستكن في
(فَأَتَمَّهُنَ) في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى : فقام بهنّ حق القيام
وأدّاهنّ أحسن التأدية من غير تفريط وتوان. ونحوه (وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) وفي الأخرى لله تعالى بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه
شيئا. ويعضده ما روى عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) ، (وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ، (وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِنْهُمْ). (رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنَّا) فإن قلت : ما العامل في إذ؟ قلت : إما مضمر نحو : واذكر إذ
ابتلى أو وإذا ابتلاه كان كبت وكيت ، وإما (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ). فإن قلت : فما موقع قال؟ قلت : هو على الأوّل استئناف ،
كأنه قيل : فما ذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل : قال إنى جاعلك للناس إماما.
وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها. ويجوز أن يكون بيانا لقوله : (ابْتَلى) وتفسيراً له فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير
البيت ورفع قواعده. والإسلام قبل ذلك في قوله : (إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ) وقيل في الكلمات : هنّ خمس في الرأس : الفرق ، وقص الشارب
، والسواك ، والمضمضة والاستنشاق. وخمس في البدن : الختان ، والاستحداد ،
والاستنجاء ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط. وقيل ابتلاه من شرائع الإسلام بثلاثين
سهما : عشر في براءة (التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ) ، وعشر في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ) ، وعشر في المؤمنون وسأل سائل إلى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
يُحافِظُونَ) وقيل هي مناسك الحج ، كالطواف والسعى والرمي والإحرام
والتعريف وغيرهنّ. وقيل : ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس والختان وذبح ابنه والنار
والهجرة. والإمام اسم من يؤتم به على زنة الآلة ، كالإزار لما يؤتزر به ، أى
يأتمون بك في دينهم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك
: سأكرمك ، فتقول : وزيدا (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) وقرئ : الظالمون ، أى من كان ظالما من ذرّيتك. لا يناله
استخلافى وعهدى إليه بالإمامة ، وإنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم. وقالوا :
في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة. وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه
وشهادته ، ولا تجب طاعته ؛ ولا يقبل خبره ، ولا يقدّم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه
الله يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علىّ رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ،
والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة ، كالدوانيقى وأشباهه.
وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن
حتى قتل. فقال : ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء
مسجد وأرادونى على عدّ آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما قط.
وكيف يجوز نصب الظالم للامامة ، والإمام إنما هو لكف الظلمة. فإذا نصب من كان
ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم. و (الْبَيْتَ)
اسم غالب للكعبة ،
كالنجم للثريا (مَثابَةً لِلنَّاسِ) مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار ، يتفرقون عنه ثم يثوبون
إليه أى يثوب إليه أعيان الذين يزورونه أو أمثالهم (وَأَمْناً) موضع أمن ، كقوله (حَرَماً آمِناً
وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) ولأن الجاني يأوى إليه فلا يتعرض له حتى يخرج. وقرئ :
مثابات ، لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)(وَاتَّخِذُوا) على إرادة القول ، أى وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون
فيه. وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه
أخذ بيد عمر فقال : هذا مقام ابراهيم ، فقال عمر أفلا نتخذه مصلى ـ يريد أفلا
نؤثره لفضله بالصلاة فيه تبركا به وتيمنا بموطئ قدم إبراهيم ـ فقال : لم أومر بذلك
، فلم تغب الشمس حتى نزلت» . وعن جابر بن عبد الله «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة ، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى
خلفه ركعتين وقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقيل : مصلى مدعى. ومقام إبراهيم : الحجر الذي فيه أثر
قدميه ، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه ، وهو الموضع الذي يسمى
مقام إبراهيم. وعن عمر رضى الله عنه أنه سأل المطلب بن أبى وداعة : هل تدرى أين
كان موضعه الأوّل؟ قال : نعم ، فأراه موضعه اليوم. وعن عطاء (مَقامِ إِبْراهِيمَ) عرفة والمزدلفة والجمار ، لأنه قام في هذه المواضع ودعا
فيها. وعن النخعي : الحرم كله مقام إبراهيم. وقرئ (واتخذوا) بلفظ الماضي عطفا على
: (جَعَلْنَا) أى واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به
وإسكان ذرّيته عنده قبلة يصلون إليها (عَهِدْنا) أمرناهما (أَنْ طَهِّرا
بَيْتِيَ) بأن طهرا ، أو أى طهرا. والمعنى طهراه من الأوثان والأنجاس
وطواف الجنب والحائض والخبائث كلها ، أو أخلصاه لهؤلاء لا يغشه غيرهم (وَالْعاكِفِينَ) المجاورين الذين عكفوا عنده ، أى أقاموا لا يبرحون ، أو
المعتكفين. ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعنى القائمين في الصلاة ، كما قال :
(لِلطَّائِفِينَ
وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ، والمعنى : للطائفين والمصلين ، لأنّ القيام والركوع
والسجود هيآت المصلى.
__________________
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ)(١٢٦)
أى اجعل هذا البلد
أو هذا المكان (بَلَداً آمِناً) ذا أمن ، كقوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ). أو آمنا من فيه ، كقوله : ليل نائم. و (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من أهله ، يعنى وارزق المؤمنين من أهله خاصة. (وَمَنْ كَفَرَ) عطف على من آمن كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف في جاعلك فإن قلت : لم خص إبراهيم صلوات الله
عليه المؤمنين حتى ردّ عليه؟ قلت : قاس الرزق على الإمامة فعرّف الفرق بينهما ،
لأنّ الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعى ، وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ،
بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة له. والمعنى : وأرزق من
كفر فأمتعه. ويجوز أن يكون (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ متضمنا معنى الشرط. وقوله (فَأُمَتِّعُهُ) جوابا للشرط ، أى ومن كفر فأنا أمتعه. وقرئ فأمتعه فأضطره فألزه إلى عذاب النار لزّ المضطر الذي لا يملك الامتناع
مما اضطر إليه ، وقرأ أبىّ : فنمتعه قليلا ثم نضطره. وقرأ يحيى بن وثاب : فاضطره ،
بكسر الهمزة. وقرأ ابن عباس فأمتعه قليلا ثم اضطره ، على لفظ الأمر. والمراد
الدعاء من إبراهيم دعا ربه بذلك. فإن قلت : فكيف تقدير الكلام على هذه القراءة؟
قلت : في : (قال) ضمير إبراهيم ، أى قال إبراهيم بعد مسألته اختصاص المؤمنين
بالرزق : ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره. وقرأ ابن محيصن : فاطره ، بإدغام الضاد
في الطاء كما قالوا : اطجع ، وهي لغة مرذولة ، لأنّ الضاد من الحروف الخمسة التي
يدغم فيها ما يجاورها ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف «ضم شفر».
(وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا
وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩)
__________________
(يَرْفَعُ) حكاية حال ماضية. و (الْقَواعِدَ) جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه ، وهي صفة غالبة ،
ومعناها الثابتة. ومنه قعدك الله ، أى أسأل الله أن يقعدك أى يثبتك. ورفع الأساس :
البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة
الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأنّ كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه. ومعنى رفع
القواعد : رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافا فوق ساف فقد رفع السافات. ويجوز أن
يكون المعنى : وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت ـ أى استوطأ ـ يعنى جعل هيئته
القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء ، وروى أنه كان مؤسسا قبل إبراهيم فبنى
على الأساس. وروى أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من
زمرد : شرقى وغربي ، وقال لآدم عليه السلام : أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول
عرشي ، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا ، وتلقته الملائكة فقالوا : بر حجك يا
آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه ، فكان
على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور ثم
إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرّفه جبريل مكانه. وقيل بعث الله سحابة أظلته
: ونودي : أن ابن على ظلها لا نزد ولا تنقص. وقيل : بناه من خمسة أجبل طور سينا ،
وطور زيتا ، ولبنان ، والجودي ، وأسسه من حراء. وجاءه جبريل بالحجر الأسود من
السماء. وقيل : تمخض أبو قبيس فانشق عنه ، وقد خبئ فيه في أيام الطوفان وكان
ياقوتة بيضاء من الجنة ، فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسودّ. وقيل كان إبراهيم
يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة (رَبَّنا) أى يقولان ربنا. وهذا الفعل في محل النصب على الحال ، وقد
أظهره عبد الله في قراءته ،
__________________
ومعناه : يرفعانها
قائلين ربنا (إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بضمائرنا ونياتنا. فإن قلت : هلا قيل : قواعد البيت ، وأى
فرق بين العبارتين؟ قلت : في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في
إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم لشأن المبين (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) مخلصين لك أوجهنا ، من قوله : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أو مستسلمين. يقال : أسلم له وسلم واستسلم ، إذا خضع
وأذعن. والمعنى : زدنا إخلاصا أو إذعانا لك. وقرئ (مسلمين) على الجمع ، كأنهما
أرادا أنفسهما وهاجر ، أو أجريا التثنية على حكم الجمع لأنها منه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) واجعل من ذرّيتنا (أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ) و (من) للتبعيض أو
للتبيين ، كقوله : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ). فإن قلت : لم خصا ذرّيتهما بالدعاء؟ قلت : لأنهم أحق
بالشفقة والنصيحة (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) ، ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وشايعوهم
على الخير. ألا ترى أن المقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد ، كيف
يتسببون لسداد من وراءهم؟ وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم (وَأَرِنا) منقول من رأى بمعنى أبصر أو عرّف. ولذلك لم يتجاوز مفعولين
، أى وبصرنا متعبداتنا في الحج ، أو وعرفناها. وقيل : مذابحنا. وقرئ : وأرنا ،
بسكون الراء قياس على فخذ في فخذ. وقد استرذلت ، لأنّ الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة
دليل عليها ، فإسقاطها إجحاف. وقرأ أبو عمرو بإشمام الكسرة. وقرأ عبد الله : وأرهم
مناسكهم. (وَتُبْ عَلَيْنا) ما فرط منا من الصغائر أو استتابا لذرّيتهما (وَابْعَثْ فِيهِمْ) في الأمة المسلمة (رَسُولاً مِنْهُمْ) من أنفسهم. وروى أنه قيل له : قد استجيب لك وهو في آخر
الزمان ، فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام «أنا
دعوة أبى إبراهيم وبشرى أخى عيسى ورؤيا أمى
__________________
(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِكَ) يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل وحدانيتك وصدق
أنبيائك (وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) الشريعة وبيان الأحكام (وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس ، كقوله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ).
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي
الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١)
(وَمَنْ يَرْغَبُ) إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق
الواضح الذي هو ملة إبراهيم. و (مَنْ سَفِهَ) في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب ، وصح البدل
لأنّ من يرغب غير موجب ، كقولك : هل جاءك أحد إلا زيد (سَفِهَ نَفْسَهُ) امتهنها واستخف بها.
وأصل السفه :
الخفة. ومنه زمام سفيه. وقيل انتصاب النفس على التمييز ، نحو : غبن رأيه وألم
رأسه. ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميز نحو قوله :
وَلَا بِفَزَارَةَ الشُّعُرِ الرِّقَابَا
أجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
__________________
وقيل معناه : سفه
في نفسه ، فحذف الجار ، كقولهم : زيد ظنى مقيم ، أى في ظنى. والوجه هو الأوّل.
وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث «الكبر أن تسفه
الحق وتغمص الناس » وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في
إذالة نفسه وتعجيزها ، حيث خالف بها كل نفس عاقبة (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) بيان لخطإ رأى من رغب عن ملته ، لأنّ من جمع
__________________
الكرامة عند الله
في الدارين ، بأن كان صفوته وخيرته في الدنيا وكان مشهوداً له بالاستقامة على
الخير في الآخرة ، لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه (إِذْ قالَ) ظرف لاصطفيناه ، أى : اخترناه في ذلك الوقت. أو انتصب
بإضمار «اذكر» استشهاداً على ما ذكر من حاله. كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه
المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله. ومعنى قال له : أسلم ، أخطر بباله النظر
في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام (قالَ أَسْلَمْتُ) أى فنظر وعرف. وقيل أسلمْ : أى أذعنْ وأطعْ. وروى أنّ عبد
الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أنّ
الله تعالى قال في التوراة : إنى باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، فمن آمن به
فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون. فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم ،
فنزلت.
(وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ
فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٣٢)
قرئ : وأوصى ، وهي
في مصاحف أهل الحجاز والشام. والضمير في (بِها) لقوله أسلمت لرب العالمين على تأويل الكلمة والجملة ،
ونحوه رجوع الضمير في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً) إلى قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ
مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وقوله : كلمة باقية ، دليل على أن التأنيث على تأويل
الكلمة (وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم ، داخل في حكمه. والمعنى : ووصى بها يعقوب
بنيه أيضا. وقرئ : ويعقوب ، بالنصب عطفا على بنيه. ومعناه : ووصى بها إبراهيم بنيه
ونافلته يعقوب (يا بَنِيَ) على إضمار القول عند البصريين. وعند الكوفيين يتعلق بوصي ،
لأنه في معنى القول. ونحوه قول القائل :
رَجْلَانِ مِنْ
ضَبَّةَ أخْبَرَانَا
|
|
إنّا رَأيْنَا
رَجُلاً عُرْيَانَا
|
بكسر الهمزة : فهو
بتقدير القول عندنا ، وعندهم يتعلق بفعل الإخبار. وفي قراءة أبىّ وابن مسعود : أن
يا بنىَ (اصْطَفى لَكُمُ
الدِّينَ) أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام. ووفقكم
للأخذ به (فَلا تَمُوتُنَ) معناه فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام
، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ، كقولك : لا تصلّ
إلا وأنت
__________________
خاشع ، فلا تنهاه
عن الصلاة ، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته. فإن قلت : فأى نكتة في إدخال حرف النهى
على الصلاة وليس بمنهى عنها؟ قلت : النكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها
كلا صلاة ، فكأنه قال : أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة. ألا ترى إلى قوله
عليه الصلاة والسلام «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فإنه كالتصريح بقولك لجار المسجد : لا تصلِّ إلا في المسجد
: وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير
فيه ، وأنه ليس بموت السعداء ، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم. وتقول في
الأمر أيضا : مت وأنت شهيد. وليس مرادك الأمر بالموت. ولكن بالكون على صفة الشهداء
إذا مات ؛ وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته ، وإظهاراً لفضلها على غيرها ،
وأنها حقيقة بأن يحث عليها.
(أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ
مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٣)
(أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ) هي أم المنقطعة . ومعنى الهمزة فيها الإنكار. والشهداء جمع شهيد ، بمعنى
الحاضر : أى ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت ، أى حين احتضر والخطاب
للمؤمنين بمعنى : ما شاهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحى. وقيل
__________________
الخطاب لليهود ،
لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبىُّ إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا
ما قاله لبنيه وما قالوه ، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام ، ولما ادعوا عليه
اليهودية. فالآية منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : أم كنتم شهداء؟ ولكن الوجه أن
تكون أم متصلة على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدّعون على الأنبياء
اليهودية؟ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ، يعنى أن أوائلكم من بنى إسرائيل
كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام ، وقد علمتم ذلك ، فما
لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ وقرئ (حضر) بكسر الضاد وهي لغة. (ما تَعْبُدُونَ) أىّ شيء تعبدون؟ و (ما) عامّ في كل شيء فإذا علم فرق بما
ومن ، وكفاك دليلا قول العلماء «من» لما يعقل. ولو قيل : من تعبدون ، لم يعم إلا
أولى العلم وحدهم. ويجوز أن يقال : (ما تَعْبُدُونَ) سؤال عن صفة المعبود. كما تقول : ما زيد؟ تريد : أفقيه أم
طبيب أم غير ذلك من الصفات؟ و (إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لآبائك. وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه ،
لأنّ العمّ أب والخالة أمّ ، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة لا تفاوت بينهما.
ومنه قوله عليه السلام «عمّ الرجل صنو أبيه» أى لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وقال
عليه الصلاة والسلام في العباس «هذا بقية آبائي» وقال «ردّوا علىّ أبى ، فإنى أخشى أن تفعل به قريش
ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود» وقرأ أبىّ : وإله إبراهيم ، بطرح آبائك. وقرئ : أبيك. وفيه
وجهان : أن يكون واحداً وإبراهيم وحده عطف بيان له ، وأن يكون جمعاً بالواو
والنون. قال :
وَفَدَّيْنَنَا بالْأَبِينَا
(إِلهاً واحِداً) بدل من إله آبائك
، كقوله تعالى : (بِالنَّاصِيَةِ
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) أو على
__________________
الاختصاص ، أى نريد
بإله آبائك إلهاً واحداً (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) حال من فاعل نعبد ، أو من مفعوله ، لرجوع الهاء إليه في
له. ويجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد ، وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أى ومن
حالنا أنا له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ
لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ)(١٣٤)
(تِلْكَ) إشارة إلى الأمّة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما
الموحدون. والمعنى: أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدّماً كان أو متأخراً ، فكما
أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا ، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم. وذلك
أنهم افتخروا بأوائلهم. ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا بنى هاشم ،
لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم » (وَلا تُسْئَلُونَ
عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ولا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تنفعكم حسناتهم.
(وَقالُوا كُونُوا
هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٣٥)
(بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) بل تكون ملة إبراهيم أى أهل ملته كقول عدىّ بن حاتم. إنى
من دين » يريد من أهل دين. وقيل : بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ : (ملة
إبراهيم) بالرفع ، أى ملته ملتنا ، أو أمرنا ملته ، أو نحن ملته بمعنى أهل ملته. و
(حَنِيفاً) حال من المضاف إليه ، كقولك : رأيت وجه هند قائمة. والحنيف
: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. والحنف : الميل في القدمين. وتحنف إذا مال.
وأنشد :
وَلكِنّا
خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا
|
|
حَنِيفاً
دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِينِ
|
(وَما
كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلا منهم يدعى اتباع إبراهيم
__________________
وهو على الشرك (قُولُوا) خطاب للمؤمنين. ويجوز أن يكون خطابا للكافرين ، أى قولوا
لتكونوا على الحق ، وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) يجوز أن يكون على : بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم ، أو كونوا
أهل ملته.
(قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ
فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٣٧)
والسبط : الحافد.
وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَالْأَسْباطِ) حفدة يعقوب ذرارىّ أبنائه الاثني عشر (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى. و (أَحَدٍ) في معنى الجماعة . ولذلك صح دخول (بين) عليه (بِمِثْلِ ما
آمَنْتُمْ بِهِ) من باب التبكيت ، لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين
الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فلا يوجد إذاً دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً ،
حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين ، فقيل : فإن آمنوا بكلمة الشك
على سبيل الفرض والتقدير ، أى : فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في
الصحة والسداد فقد اهتدوا. وفيه أنّ دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير
مماثل ، لأنه حق وهدى وما سواه باطل وضلال. ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه.
هذا هو الرأى الصواب ، فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به ، وقد علمت أن لا أصوب
من رأيك. ولكنك تريد تبكيت صاحبك ، وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأى وراءه. ويجوز أن
لا تكون الباء صلة وتكون باء الاستعانة ، كقولك : كتبت بالقلم ، وعملت بالقدوم أى
فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها. وقرأ ابن عباس وابن
مسعود : بما آمنتم به ، وقرأ أبى : بالذي آمنتم به. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عما تقولون لهم ولم ينصفوا فما هم إلا
__________________
(فِي شِقاقٍ) أى في مناوأة ومعاندة لا غير ، وليسوا من طلب الحق في شيء. أو : وإن تولوا عن
الشهادة والدخول في الإيمان بها (فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللهُ) ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ،
وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بنى النضير. ومعنى السين أنّ ذلك كائن لا
محالة وإن تأخر إلى حين (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) وعيد لهم ، أى يسمع ما ينطقون به ، ويعلم ما يضمرون من
الحسد والغل وهو معاقبهم عليه. أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى : يسمع
ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق ، وهو مستجيب لك وموصلك إلى
مرادك.
(صِبْغَةَ اللهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(١٣٨)
(صِبْغَةَ اللهِ) مصدر مؤكد منتصب على قوله : (آمَنَّا بِاللهِ) كما انتصب (وعد الله) عما تقدمه ، وهي «فعلة» من صبغ ،
كالجلسة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ والمعنى : تطهير الله ، لأن
الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر
يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم ، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال
: الآن صار نصرانيا حقا ، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : قولوا آمنا بالله ،
وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا. أو
يقول المسلمون. صبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم. وإنما جيء بلفظ الصبغة
على طريقة المشاكلة ، كما تقول لمن يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلا
يصطنع الكرم (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ صِبْغَةً) يعنى أنه يصبغ عباده بالإيمان ، ويطهرهم به من أو ضار
الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته. وقوله (وَنَحْنُ لَهُ
عابِدُونَ) عطف على آمنا بالله. وهذا العطف يردّ قول من زعم أن (صِبْغَةَ اللهِ) بدل من (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أو نصب على الإغراء بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من
فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه ، وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه ،
والقول ما قالت حذام
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا
فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
__________________
وَالْأَسْباطَ
كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ)(١٤١)
قرأ زيد بن ثابت (أتحاجونا)
بإدغام النون. والمعنى : أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم ،
وتقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا ، وترونكم أحق بالنبوّة منا (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) نشترك جميعا في أننا عباده ، وهو ربنا ، وهو يصيب برحمته
وكرامته من يشاء من عباده ، هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمى دون عربى إذا كان أهلا
للكرامة (وَلَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) يعنى أن العمل هو أساس الأمر وبه العبرة ، وكما أن لكم
أعمالا يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك. ثم قال (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) فجاء بما هو سبب الكرامة ، أى ونحن له موحدون نخلصه
بالإيمان فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة ، وكانوا يقولون : نحن
أحق بأن تكون النبوة فينا ، لأنا أهل كتاب والعرب عبدة أو ثان (أَمْ تَقُولُونَ) يحتمل فيمن قرأ بالتاء أن تكون أم معادلة للهمزة في : (أَتُحَاجُّونَنا) بمعنى أىّ الأمرين تأتون : ألمحاجة في حكمة الله أم ادّعاء
اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ والمراد بالاستفهام عنهما إنكارهما معاً ، وأن
تكون منقطعة بمعنى : بل أتقولون ، والهمزة للإنكار أيضا ، وفيمن قرأ بالياء لا
تكون إلا منقطعة (قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) يعنى أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا
نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً). (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) أى كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته
لإبراهيم بالحنيفية. ويحتمل معنيين : أحدهما أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم ،
لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها. والثاني : أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم
يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد صلى الله عليه
وسلم بالنبوّة في كتبهم وسائر شهاداته. (ومن) في قوله : (شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) مثلها في قولك : هذه شهادة منى لفلان إذا شهدت له ، ومثله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)
(سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا
عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
وَما
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ
عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٤٣)
(سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ) الخفاف الأحلام وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة ،
وأنهم لا يرون النسخ. وقيل : المنافقون ، لحرصهم على الطعن والاستهزاء. وقيل :
المشركون ، قالوا رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها ، والله ليرجعن إلى دينهم. فإن
قلت : أى فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه ؟ قلت : فائدته أنّ مفاجأة المكروه أشدّ ، والعلم به قبل
وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدّمه من توطين النفس ، وأنّ الجواب العتيد
قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه ، وقبل الرمي يراش السهم (ما وَلَّاهُمْ) ما صرفهم (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) وهي بيت المقدس (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ) أى بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من أهلها (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة ، من توجيههم تارة إلى بيت
المقدس ، وأخرى إلى الكعبة (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ) ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم (أُمَّةً وَسَطاً) خيارا ، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء. ولذلك استوى
فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. ونحوه قوله عليه السلام : «وأنطوا الثبجة » يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء وصفا بالثبج وهو وسط
الظهر ، إلا أنه الحق تاء التأنيث مراعاة لحق الوصف. وقيل : للخيار : وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل ، والأعوار والأوساط
محمية محوّطة. ومنه قول الطائي :
كَانَتْ هِىَ
الْوَسَطَ المَحْمِىَّ فَاكْتَنَفَتْ
|
|
بِهَا
الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
|
__________________
وقد اكتريت بمكة
جمل أعرابى للحج فقال : أعطنى من سطاتهنه ، أراد من خيار الدنانير. أو عدولا ،
لأنّ الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) روى «أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ،
فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمّة محمد صلى
الله عليه وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار
الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم
فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعد التهم » وذلك قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً). فإن قلت : فهلا قيل لكم شهيدا وشهادته لهم لا عليهم ؟ قلت : لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له ،
جيء بكلمة الاستعلاء. ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، (كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح
إلا بشهادة العدول الأخيار (وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً) يزكيكم ويعلم بعدالتكم. فإن قلت : لم أخرت صلة الشهادة
أولا وقدّمت آخرا ؟ قلت : لأن الغرض في
__________________
الأوّل إثبات
شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) ليست بصفة للقبلة إنما هي ثانى مفعولي جعل. يريد : وما
جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة
تألفا لليهود ، ثم حوّل إلى الكعبة فيقول : وما جعلنا القبلة التي تجب أن تستقبلها
الجهة التي كنت عليها أوّلا بمكة ، يعنى : وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس
وابتلاء (لِنَعْلَمَ) الثابت على الإسلام الصادق فيه ، ممن هو على حرف ينكص (عَلى عَقِبَيْهِ) لقلقه فيرتدّ ، كقوله : (وَما جَعَلْنا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ـ الآية ويجوز أن يكون بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس
قبلته. يعنى أنّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا
عارضا لغرض. وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا ـ وهي بيت
المقدس ، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول منهم ومن لا يتبعه وينفر عنه. وعن ابن
عباس رضى الله عنه : كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه
وبينه . فإن قلت :
كيف قال : (لِنَعْلَمَ) ولم يزل عالما بذلك؟ قلت : معناه : لنعلمه علما يتعلق به
الجزاء ، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلا ونحوه : (وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). وقيل : ليعلم رسول الله والمؤمنون. وإنما أسند علمهم إلى
ذاته ، لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده. وقيل : معناه لتميز التابع من الناكص ، كما
قال : (لِيَمِيزَ اللهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فوضع العلم موضع التمييز لأنّ العلم به يقع التمييز به (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) هي إن المخففة التي تلزمها اللام الفارقة. والضمير في : (كانت)
لما دل عليه قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ
الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من الردّة ، أو التحويلة ، أو الجعلة. ويجوز أن يكون
للقبلة (لَكَبِيرَةً) لثقيلة شاقة (إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللهُ) إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول الذين لطف الله
بهم وكانوا أهلا للطفه (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى ثباتكم على الايمان وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا ، بل
شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب العظيم. ويجوز أن يراد : وما كان الله ليترك تحويلكم
لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم. وقيل : من كان صلى إلى بيت المقدس قبل
__________________
التحويل فصلاته
غير ضائعة . عن ابن عباس رضى الله عنه : لما وجه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت. (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لا يضيع أجورهم ولا يترك ما يصلحهم. ويحكى عن الحجاج أنه
قال للحسن : ما رأيك في أبى تراب ، فقرأ قوله : (إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللهُ) ثم قال : وعلىٌّ منهم ، وهو ابن عم رسول الله صلى الله
عليه وسلم وختنه على ابنته ، وأقرب الناس إليه ، وأحبهم. وقرئ : إلا ليعلم على
البناء للمفعول. ومعنى العلم : المعرفة. ويجوز أن يكون «من» متضمنة لمعنى
الاستفهام معلقا عنها العلم ، كقولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو. وقرأ ابن أبى
إسحاق (على عقبيه) بسكون القاف. وقرأ اليزيدي (لكبيرة) بالرفع. ووجهها أن تكون «كان»
مزيدة ، كما في قوله :
وَجِيرَانٍ لَنَا كانُوا كِرَامِ
والأصل : وإن هي
لكبيرة ، كقولك : إن زيد لمنطلق ثم ، وإن كانت لكبيرة وقرئ : ليضيع بالتشديد
(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ
بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً
لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥)
(قَدْ نَرى) ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية . كقوله :
__________________
قَدْ أتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ
(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء. وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوّله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ،
وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود فكان
يراعى نزول جبريل عليه السلام والوحى بالتحويل (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها ، من قولك : وليته كذا.
إذا جعلته والياً له ، أو فلنجعلنك تلى سمتها دون سمت بيت المقدس (تَرْضاها) تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة
الله وحكمته (شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) نحوه. قال :
وَأظْعَنُ بِالْقَوْمِ شَطْرَ الْمُلُوكِ
وقرأ أبىّ : تلقاء
المسجد الحرام. وعن البراء بن عازب قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى
نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة وقيل : كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين
، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بنى سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة
الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب ، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان
الرجال ، فسمى المسجد مسجد القبلتين . و (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) نصب على الظرف ، أى اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أى في
جهته وسمته لأن
__________________
استقبال عين
القبلة فيه حرج عظيم على البعيد. وذكر المسجد الحرام دون الكعبة : دليل في أنّ
الواجب مراعاة الجهة دون العين (لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُ) أن التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم
برسول الله أنه يصلى إلى القبلتين (يَعْمَلُونَ) قرئ بالياء والتاء (ما تَبِعُوا) جواب القسم المحذوف سدّ مسدّ جواب الشرط. (بِكُلِّ آيَةٍ) بكل برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق ، ما تبعوا (قِبْلَتَكَ) لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة ، إنما
هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) حسم لأطماعهم إذ كانوا ماجوا في ذلك وقالوا : لو ثبت على
قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. وقرئ (بتابع
قبلتهم) على الإضافة (وَما بَعْضُهُمْ
بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) يعنى أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة
لا يرجى اتفاقهم ، كما لا ترجى موافقتهم لك. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس ،
والنصارى مطلع الشمس. أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه ،
فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان ، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة
شكيمته في عناده. وقوله (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ) بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله وما أنت
بتابع قبلتهم كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير ، بمعنى : ولئن اتبعتهم مثلا بعد
وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ) المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة
تحذير. واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى ، وتهييج وإلهاب
للثبات على الحق. فإن قلت : كيف قال : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ) (قِبْلَتَهُمْ) ولهم قبلتان
__________________
لليهود قبلة
وللنصارى قبلة؟ قلت : كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق ، فكانتا بحكم
الاتحاد في البطلان قبلة واحدة.
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
وَلِكُلٍّ
وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ
بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٤٨)
(يَعْرِفُونَهُ) يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جلية يميزون
بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص (كَما يَعْرِفُونَ
أَبْناءَهُمْ) لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. وعن عمر رضى الله
عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به
منى بابني. قال : ولم؟ قال : لأنى لست أشك في محمد أنه نبى. فأما ولدى ، فلعل
والدته خانت ، فقبل عمر رأسه. وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل
عليه ولا يلتبس على السامع. ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه
علماً معلوما بغير إعلام. وقيل الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة. وقوله : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد الله بن سلام. فإن قلت :
لم اختص الأبناء ؟ قلت : لأنّ الذكور أشهر وأعرف ، وهم لصحبة الآباء ألزم ،
وبقلوبهم ألصق. وقال (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) استثناء لمن آمن منهم ، أو لجهالهم الذين قالوا : يقال
فيهم : (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ). (الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ) يحتمل أن يكون الحق خبر مبتدإ محذوف. أى هو الحق. أو مبتدأ
خبره (مِنْ رَبِّكَ) وفيه وجهان : أن تكون اللام للعهد ، والإشارة إلى الحق
الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلى الحق الذي في قوله ليكتمون الحق.
أى : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك ، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا
من غيره. يعنى أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه ، وما لم يثبت أنه من
الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل. فإن قلت : إذا جعلت الحق خبر مبتدإ فما محل
من ربك؟ قلت : يجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون حالا. وقرأ علىّ رضى الله
عنه : الحق من ربك.
__________________
على الإبدال من
الأوّل ، أى يكتمون الحق ، الحق من ربك ، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ) الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم ، أو في أنه من ربك (وَلِكُلٍ) من أهل الأديان المختلفة (وِجْهَةٌ) قبلة. وفي قراءة أبىّ : ولكل قبلة (هُوَ مُوَلِّيها) وجهه ، فحذف أحد المفعولين. وقيل هو لله تعالى ، أى الله
موليها إياه. وقرئ : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) على الإضافة. والمعنى وكل وجهة الله موليها ، فزيدت اللام
لتقدم المفعول كقولك : لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه. وقرأ ابن عامر : هو مولاها ،
أى هو مولى تلك الجهة وقد وليها. والمعنى : لكل أمّة قبلة تتوجه إليها ، منكم ومن
غيركم (فَاسْتَبِقُوا) أنتم (الْخَيْراتِ) واستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره. ومعنى آخر : وهو أن يراد :
ولكل منكم يا أمة محمد وجهة أى جهة يصلى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية
فاستبقوا الخيرات (أَيْنَ ما تَكُونُوا
يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) للجزاء من موافق ومخالف لا تعجزونه. ويجوز أن يكون المعنى
: فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت ، أينما
تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعا يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة
واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.
(وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(١٤٩)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
__________________
الْحَرامِ
وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(١٥٤)
(وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ) أى ومن أى بلد خرجت للسفر (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)
إذا صليت (وَإِنَّهُ) وإن هذا المأمور به. وقرئ (يعملون) بالتاء والياء. وهذا
التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده ، لأنّ النسخ من مظانّ الفتنة والشبهة وتسويل
الشيطان والحاجة إلى التفصلة بينه وبين البداء ، فكرر عليهم ليثبتوا ويعزموا
ويجدّوا ، ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) استثناء من الناس ، ومعناه ، لئلا يكون حجة لأحد من اليهود
إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه
وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء. فإن قلت : أى حجة كانت تكون
للمنصفين منهم لو لم يحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ قلت :
كانوا يقولون ماله لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في
التوراة؟ فإن قلت : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت : لأنهم يسوقونه
سياق الحجة. ويجوز أن يكون المعنى : لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم
التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبى العرب ، إلا الذين ظلموا
منهم وهم أهل مكة حين يقولون : بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى
دينهم. وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما : ألا الذين ظلموا منهم ، على أنّ ألا
للتنبيه ووقف على حجة ، ثم استأنف منبها (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم (وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا أمرى وما رأيته مصلحة لكم. ومتعلق اللام محذوف
، معناه : ولإتمامى النعمة عليكم وإرادتى اهتداءكم أمرتكم بذلك ؛ أو يعطف على علة
مقدّرة ، كأنه قيل. واخشوني لأوفقكم ولأتمّ نعمتي عليكم. وقيل : هو معطوف على : (لِئَلَّا يَكُونَ). وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة» وعن على رضى الله عنه «تمام النعمة الموت على الإسلام» (كَما أَرْسَلْنا) إمّا أن يتعلق بما قبله ، أى : ولأتم نعمتي عليكم في
الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول ، أو بما بعده : أى كما
ذكرتكم بإرسال الرسول (فَاذْكُرُونِي) بالطاعة (أَذْكُرْكُمْ) بالثواب (وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت به عليكم (وَلا تَكْفُرُونِ) ولا تجحدوا نعمائي. (أَمْواتٌ بَلْ
أَحْياءٌ) هم أموات بل هم أحياء (وَلكِنْ لا
تَشْعُرُونَ) كيف حالهم في حياتهم. وعن الحسن : أنّ الشهداء أحياء عند
الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح والفرح ، كما تعرض النار على
أرواح آل فرعون غدوة وعشيا ، فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد :
يرزقون ثمر الجنة
ويجدون ريحها وليسوا فيها. وقالوا : يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة
فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرّة. وقيل : نزلت في شهداء بدر
وكانوا أربعة عشر.
__________________
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا
أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم ، هل
تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه أم لا؟ (بِشَيْءٍ) بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) المسترجعين عند البلاء ؛ لأنّ الاسترجاع تسليم وإذعان. وعن
النبي صلى الله عليه وسلم «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه
وجعل له خلفا صالحاً يرضاه» . وروى أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إنا
لله وإنا إليه راجعون» فقيل : أمصيبة هي؟ قال «نعم كل شيء يؤذى المؤمن فهو له
مصيبة» وإنما قلل في قوله : (بِشَيْءٍ) ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه ،
وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم وإنما وعدهم ذلك قبل كونه
ليوطنوا عليه نفوسهم. (وَنَقْصٍ) عطف على : (بِشَيْءٍ) أو على الخوف ، بمعنى : وشيء من نقص الأموال. والخطاب في :
(وَبَشِّرِ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يتأتى منه
البشارة. وعن الشافعي رحمه الله في الخوف : خوف الله. والجوع : صيام شهر رمضان ؛
والنقص من الأموال : الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس : الأمراض ، ومن الثمرات ؛ موت
الأولاد . وعن النبي صلى الله
__________________
عليه وسلم ، إذا
مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدى؟ فيقولون : نعم ، فيقول
: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله تعالى : ما ذا قال عبدى؟ فيقولون
: حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد . والصلاة : الحنو والتعطف ، فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها
وبين الرحمة. كقوله تعالى : (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). والمعنى : عليهم رأفة بعد رأفة. ورحمة أىّ رحمة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر الله.
(إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ
شاكِرٌ عَلِيمٌ)(١٥٨)
والصفا والمروة :
علمان للجبلين ، كالصمان والمقطم ، والشعائر : جمع شعيرة وهي العلامة ، أى من
أعلام مناسكه ومتعبداته : والحج : القصد. والاعتمار : الزيارة ، فغلبا على قصد
البيت وزيارته للنسكين المعروفين ، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان.
وأصل (يَطَّوَّفَ) يتطوّف فأدغم. وقرئ (أن يطوف) من طاف. فإن قلت : كيف قيل
إنهما من شعائر الله ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ قلت : كان على الصفا أساف
، وعلى المروة نائلة ، وهما صنمان ، يروى أنهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة ،
فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدّة عُبدا من دون الله ،
فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره
المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن لا يكون عليهم جناح في ذلك ، فرفع
عنهم الجناح. واختلف في السعى ، فمن قائل : هو تطوّع بدليل رفع الجناح وما فيه من
التخيير بين الفعل والترك ، كقوله : (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) وغير ذلك ، ولقوله (وَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً) كقوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ). ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير ، وتنصره قراءة
ابن مسعود : فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما. وعن أبى حنيفة رحمه الله أنه واجب
وليس بركن وعلى تاركه دم. وعند الأوّلين لا شيء عليه. وعند مالك والشافعي : هو ركن
، لقوله عليه السلام «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعى» وقرئ : ومن يطوّع بمعنى : ومن يتطوّع ، فأدغم.
__________________
وفي قراءة عبد
الله : ومن يتطوّع بخير.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللاَّعِنُونَ)(١٥٩)
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ) من أحبار اليهود (ما أَنْزَلْنا) في التوراة (مِنَ الْبَيِّناتِ) من الآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم (وَالْهُدى) والهداية بوصفه إلى اتباعه والإيمان به (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ) ولخصناه (لِلنَّاسِ فِي
الْكِتابِ) في التوراة ، لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد
منهم ، فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) الذين يتأتى منهم اللعن عليهم وهم الملائكة والمؤمنون من
الثقلين.
(إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٦٠)
(وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أحوالهم ، وتداركوا ما فرط منهم (وَبَيَّنُوا) ما بينه الله في كتابهم فكتموه ، أو بينوا للناس ما أحدثوه
من توبتهم ليمحوا سمة الكفر عنهم ، ويعرفوا بضدّ ما كانوا يعرفون به ، ويقتدى بهم
غيرهم من المفسدين.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)
خالِدِينَ
فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(١٦٢)
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) يعنى الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا ، ذكر
لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً. وقرأ الحسن : والملائكة والناس أجمعون ، بالرفع
عطفاً على محل اسم الله ، لأنه
__________________
فاعل في التقدير ،
كقولك : عجبت من ضرب زيد وعمرو ، تريد من أن ضرب زيد وعمرو ، كأنه قيل : أولئك
عليهم أن لعنهم الله والملائكة. فإن قلت : ما معنى قوله (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وفي الناس المسلم والكافر. قلت : أراد بالناس من يعتدّ
بلعنه وهم المؤمنون. وقيل : يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً (خالِدِينَ فِيها) في اللعنة. وقيل في النار إلا أنها أضمرت تفخيما لشأنها
وتهويلا (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) من الإنظار أى لا يمهلون ولا يؤجلون ، أو لا ينتظرون
ليعتذروا. ولا ينظر إليهم نظر رحمة.
(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١٦٣)
(إِلهٌ واحِدٌ) فرد في الإلهية لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غيره
إلها. و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ، ولا شيء سواه بهذه
الصفة ، فإن كلّ ما سواه إمّا نعمة وإمّا منعم عليه. وقيل كان للمشركين حول الكعبة
ثلاثمائة وستون صنما ، فلما سمعوا بهذه الآية تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقاً فأت
بآية نعرف بها صدقك فنزلت.
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤)
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) واعتقابهما لأنّ كلّ واحد منهما يعقب الآخر ، كقوله : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً)(بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس. فإن قلت : قوله
(وَبَثَّ فِيها) عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل داخل
تحت حكم الصلة ، لأنّ قوله : (فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ) عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشىء الواحد ،
فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبثّ فيها من كل دابة. ويجوز عطفه على أحيا
على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبثّ فيها من كل دابة ؛ لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون
بالحيا . (وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ) في مهابها : قبولا ، ودبورا ، وجنوبا ، وشمالا. وفي
__________________
أحوالها : حارّة ،
وباردة ، وعاصفة ، ولينة ، وعقما ، ولواقح. وقيل تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ) سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله يمطر حيث شاء (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون ، لأنها دلائل على عظيم
القدرة وباهر الحكمة. وعن النبىّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم «ويل لمن قرأ هذه
الآية فمجّ بها» أى لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. وقرئ : والفلك ، بضمتين. وتصريف
الريح ، على الإفراد
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥)
إِذْ
تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا
مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(١٦٧)
(أَنْداداً) أمثالا من الأصنام. وقيل من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم
ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم. واستدلّ بقوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا). ومعنى : (يُحِبُّونَهُمْ) يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب (كَحُبِّ اللهِ) كتعظيم الله والخضوع له ، أى كما يحب الله تعالى ، على أنه مصدر من
المبنى للمفعول. وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس. وقيل : كحبهم الله ،
أى يسوّون بينه وبينهم في محبتهم ، لأنهم كانوا يقرّون بالله ويتقرّبون إليه ،
فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين (أَشَدُّ حُبًّا
لِلَّهِ) لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره ؛ بخلاف المشركين فإنهم
يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط
بينهم وبينه ، فيقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويعبدون الصنم زماناً ثم
يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة (الَّذِينَ ظَلَمُوا) إشارة إلى متخذي الأنداد أى لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا
الظلم العظيم بشركهم أنّ القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون
أندادهم ويعلمون شدّة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم
__________________
ما لا يدخل تحت
الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم ، فحذف الجواب كما في قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا) ، وقولهم : لو رأيت فلانا والسياط تأخذه. وقرئ : ولو ترى ،
بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب ، أى ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيما. وقرئ :
إذ يرون ، على البناء للمفعول. وإذ في المستقبل كقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ). (إِذْ تَبَرَّأَ) بدل من (إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذابَ) أى تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء من الأتباع. وقرأ مجاهد
الأوّل على البناء للفاعل والثاني على البناء للمفعول ، أى تبرأ الأتباع من
الرؤساء (وَرَأَوُا الْعَذابَ) الواو للحال ، أى تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب (وَتَقَطَّعَتْ) عطف على تبرأ. و (الْأَسْبابُ) الوصل التي كانت بينهم : من الاتفاق على دين واحد ، ومن
الأنساب ، والمحاب ، والأتباع ، والاستتباع ، كقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (لو) في معنى
التمني. ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني ، كأنه قيل : ليت لنا كرّة فنتبرأ
منهم (كذلك) مثل ذلك الإراءة الفظيع (يُرِيهِمُ اللهُ
أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ) أى ندامات وحسرات ، ثالث مفاعيل أرى : ومعناه أنّ أعمالهم
تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم (وَما هُمْ
بِخارِجِينَ) هم بمنزلته في قوله :
هُمْ
يَفْرِشُونَ اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّةٍ
في دلالته على
قوّة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) (١٦٩)
__________________
(حَلالاً) مفعول كلوا ، أو حال مما في الأرض (طَيِّباً) طاهرا من كل شبهة (وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فتدخلوا في حرام ، أو شبهة ، أو تحريم حلال ، أو تحليل
حرام. و «من» للتبعيض ؛ لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول. وقرئ خطوات بضمتين ،
وخطوات بضمة وسكون ، وخطؤات بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كأنها على الواو ؛
وخطوات بفتحتين ، وخطوات بفتحة وسكون. والخطوة : المرة من الخطو. والخطوة : ما بين
قدمي الخاطي. وهما كالغرفة والغرفة ، والقبضة والقبضة. يقال : اتبع خطواته ، ووطئ
على عقبه. إذا اقتدى به واستن بسنته (مُبِينٌ) ظاهر العداوة لا خفاء به (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ) بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته. أى لا يأمركم
بخير قط إنما يأمركم (بِالسُّوءِ) بالقبيح (وَالْفَحْشاءِ) وما يتجاوز الحدّ في القبح من العظائم ، وقيل : السوء ما
لا حدّ فيه. والفحشاء : ما يجب الحدّ فيه (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهو قولكم : هذا حلال وهذا حرام ، بغير علم. ويدخل فيه كل
ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه. فإن قلت : كيف كان الشيطان آمرا مع قوله
: (لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)؟ قلت : شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر ، كما تقول :
أمرتنى نفسي بكذا. وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم
وساوسه ؛ ولذلك قال : (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللهِ) وقال الله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ
آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٧٠)
(لَهُمُ) الضمير للناس. وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات
للنداء على ضلالهم ، لأنه لا ضال أضل من المقلد ، كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى
هؤلاء الحمقى ما ذا يقولون. قيل : هم المشركون. وقيل : هم طائفة من اليهود دعاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا : (بَلْ نَتَّبِعُ ما
أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم. وألفينا : بمعنى وجدنا ،
بدليل قوله : (بَلْ نَتَّبِعُ ما
وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا). (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ) الواو للحال ، والهمزة بمعنى الردّ والتعجيب ، معناه : أيتبعونهم
ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب.
(وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٧١)
لا بدّ من مضاف
محذوف تقديره. ومثل داعى الذين كفروا (كَمَثَلِ الَّذِي
يَنْعِقُ) أو : ومثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق. والمعنى : ومثل
داعيهم إلى الإيمان ـ في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوى الصوت ، من
غير إلقاء أذهان ولا استبصار ـ كمثل الناعق بالبهائم ، التي لا تسمع إلا دعاء
الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعى ، كما يفهم
العقلاء ويعون. ويجوز أن يراد بما لا يسمع : الأصم الأصلخ ، الذي لا يسمع من كلام
الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير ، من غير فهم للحروف. وقيل معناه :
ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم ، كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر
الصوت ولا تفهم ما تحته ، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على
حق أم باطل؟ وقيل معناه : ومثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع ، إلا
أنّ قوله (إِلَّا دُعاءً
وَنِداءً) لا يساعد عليه ، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئا. والنعيق :
التصويت. يقال : نعق المؤذن ، ونعق الراعي بالضأن. قال الأخطل :
فَانْعِقْ
بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإنّمَا
|
|
مَنَّتْكَ
نَفْسُكَ فِى الخَلَاءِ ضَلَالا
|
وأما «نغق الغراب»
فبالغين المعجمة (صُمٌ) هم صم ، وهو رفع على الذمّ.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١٧٢)
(مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ) من مستلذاته ، لأنّ كل ما رزقه الله لا يكون إلا حلالا (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الذي رزقكموها (إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن صح أنكم تخصونه بالعبادة. وتقرّون أنه مولى النعم. وعن
النبي صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى : إنى والجنّ والإنس في نبأ عظيم ،
أخلق ويُعبد غيرى وأرزق ويُشكر غيرى .
__________________
(إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(١٧٣)
قرئ (حَرّم) على
البناء للفاعل ، وحُرِّم على البناء للمفعول ، وحَرُم بوزن كرم (أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أى رفع به الصوت للصنم ، وذلك قول أهل الجاهلية : باسم
اللات والعزى (غَيْرَ باغٍ) على مضطرّ آخر بالاستيثار عليه (وَلا عادٍ) سدّ الجوعة. فإن قلت : في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أحلت لنا ميتتان ودمان» .؟ قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا
ترى أنّ القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد ، كما
لو قال : أكل دما ، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا :
من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث ـ وإن أكل لحما في الحقيقة ، قال الله
تعالى : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
لَحْماً طَرِيًّا) وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا لم يحنث ـ وإن
سماه الله تعالى دابة في قوله : (إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا). إن قلت : فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت : لأنّ
الشحم داخل في ذكر اللحم ، لكونه تابعا له وصفة فيه ، بدليل قولهم : لحم سمين ،
يريدون أنه شحيم.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً
قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا
يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى
النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)
(١٧٦)
(فِي بُطُونِهِمْ) ملء بطونهم. يقال : أكل فلان في بطنه ، وأكل في بعض بطنه (إِلَّا النَّارَ) لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه ، فكأنه
أكل النار. ومنه قولهم : أكل فلان الدم ، إذا أكل الدية التي هي بدل منه. قال : أَكَلْتُ
دَماً إنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ
__________________
وقال :
يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا
أراد ثمن الإكاف ،
فسماه إكافا لتلبسه بكونه ثمنا له (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه
وتزكيتهم بالثناء عليهم. وقيل : نفى الكلام عبارة عن غضبه عليهم كمن غضب على صاحبه
فصرمه وقطع كلامه. وقيل : لا يكلمهم بما يحبون ، ولكن بنحو قوله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ). (فَما أَصْبَرَهُمْ
عَلَى النَّارِ) تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة
منهم ، كما تقول لمن يتعرّض لما يوجب غضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن ،
تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب. وقيل : فما أصبرهم ، فأى
شيء صبرهم. يقال : أصبره على كذا وصبره بمعنى.
__________________
وهذا أصل معنى فعل
التعجب. والذي روى عن الكسائي أنه قال : قال لي قاضى اليمن بمكة. اختصم إلىّ رجلان
من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له : ما أصبرك على الله ، فمعناه : ما
أصبرك على عذاب الله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
نَزَّلَ) أى ذلك العذاب بسبب أنّ الله نزل ما نزل من الكتب بالحق (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل وهم أهل
الكتاب (لَفِي شِقاقٍ) لفي خلاف (بَعِيدٍ) عن الحق ، والكتاب للجنس. أو كفرهم ذلك بسبب أنّ الله نزّل
القرآن بالحق كما يعلمون ، وإن الذين اختلفوا فيه من المشركين ـ فقال بعضهم : سحر
، وبعضهم : شعر ، وبعضهم : أساطير ـ لفي شقاق بعيد. يعنى أنّ أولئك لو لم يختلفوا
ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا.
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ) (١٧٧)
(الْبِرَّ) اسم للخير ولكل فعل مرضىّ (أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الخطاب لأهل الكتاب لأن اليهود تصلى قِبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنصارى
قِبل المشرق. وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّل رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى الكعبة ، وزعم كل واحد من الفريقين أنّ البرّ التوجه إلى قبلته ،
فردّ عليهم. وقيل : ليس البرّ فيما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البرّ ، ولكن
البرّ ما نبينه. وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر
__________________
القبلة ، فقيل :
ليس البرّ العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ أمر القبلة ، ولكن
البرّ الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمة برّ من آمن وقام بهذه الأعمال. وقرئ : وليس
البرّ ـ بالنصب على أنه خبر مقدم ـ وقرأ عبد الله : بأن تولوا ، على إدخال الباء
على الخبر للتأكيد كقولك : ليس المنطلق بزيد (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ) على تأويل حذف المضاف ، أى برّ من آمن ، أو يتأول البرّ
بمعنى ذى البرّ ، أو كما قالت :
فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ
وعن المبرّد : لو
كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت : ولكنّ البرّ ، بفتح الباء. وقرئ : ولكن البارّ. وقرأ
ابن عامر ونافع : ولكنّ البر بالتخفيف (وَالْكِتابِ) جنس كتب الله ، أو القرآن (عَلى حُبِّهِ) مع حب المال والشح به ، كما قال ابن مسعود «أن تؤتيه وأنت
صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان
كذا ولفلان كذا ». وقيل :
__________________
على حب الله. وقيل
: على حب الإيتاء ، يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه. وقدم ذوى القربى لأنهم
أحق. قال عليه الصلاة والسلام : «صدقتك على المسكين صدقة. وعلى ذى رحمك اثنتان
لأنها صدقة وصلة » وقال عليه الصلاة والسلام : «أفضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح ». وأطلق (ذَوِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى) والمراد الفقراء منهم لعدم الإلباس. والمسكين : الدائم
السكون إلى الناس ، لأنه لا شيء له ، كالمسكير : للدائم السكر (وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع. وجُعل ابنا للسبيل لملازمته له ، كما
يقال للص القاطع : ابن الطريق. وقيل : هو الضيف ، لأنّ السبيل يرعف به (وَالسَّائِلِينَ) المستطعمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، للسائل حق
وإن جاء على ظهر فرسه (وَفِي الرِّقابِ) وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل
__________________
في ابتياع الرقاب
وإعتاقها. وقيل في فك الأسارى. فإن قلت : قد ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه ثم
قفاه بإيتاء الزكاة فهل دلّ ذلك على أنّ في المال حقا سوى الزكاة؟ قلت : يحتمل
ذلك. وعن الشعبي : أنّ في المال حقاً سوى الزكاة ، وتلا هذه الآية. ويحتمل أن يكون
ذلك بيان مصارف الزكاة ، أو يكون حثا على نوافل الصدقات والمبارّ. وفي الحديث «نسخت
الزكاة كلَّ صدقة» يعنى وجوبها. وروى «ليس في المال حق سوى الزكاة» (وَالْمُوفُونَ) عطف على من آمن. وأخرج. (الصَّابِرِينَ) منصوباً على الاختصاص والمدح ، إظهار الفضل الصبر في
الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. وقرئ : والصابرون. وقرئ. والموفين ،
والصابرين. و (الْبَأْساءِ) الفقر والشدّة (وَالضَّرَّاءِ) المرض والزمانة (صَدَقُوا) كانوا صادقين جادّين في الدين.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧٩)
عن عمر بن عبد
العزيز ، والحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمة الله عليهم : أنّ الحر لا يقتل بالعبد ، والذكر لا
يقتل بالأنثى ، أخذا بهذه الآية. ويقولون : هي مفسرة لما أبهم في قوله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ولأن تلك واردة
لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها ، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها.
وعن سعيد ابن المسيب ، والشعبي والنخعي ، وقتادة ، والثوري ، وهو مذهب أبى حنيفة
وأصحابه : أنها منسوخة بقوله : (النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) والقصاص ثابت بين العبد والحرّ ، والذكر والأنثى. ويستدلون
بقوله صلى الله عليه وسلم
__________________
«المسلمون تتكافأ
دماؤهم » وبأنّ التفاضل غير معتبر في الأنفس ، بدليل أنّ جماعة لو
قتلوا واحداً قتلوا به. وروى «أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية ،
وكان لأحدهما طول على الآخر ، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منا ، والذكر
بالأنثى ، والاثنين بالواحد ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء
الله بالإسلام فنزلت ، وأمرهم أن يتباوؤا » (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) معناه : فمن عفى له من جهة أخيه شيء من العفو. على أنه كقولك : سير بزيد بعض السير ،
وطائفة من السير. ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به ، لأن «عفا» لا يتعدّى
إلى مفعول به إلا بواسطة. وأخوه : هو ولىّ المقتول ، وقيل له أخوه ، لأنه لابسه ،
من قبل أنه ولى الدم ومطالبه به ، كما تقول للرجل : قل لصاحبك كذا ، لمن بينه
وبينه أدنى ملابسة أو ذكره بلفظ الأخوة ، ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت
بينهما من الجنسية والإسلام فإن قلت : إن عفى يتعدّى بعن لا باللام ، فما وجه قوله
: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، فيقال : عفوت عن
فلان وعن ذنبه. قال الله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) وقال : (عَفَا
__________________
اللهُ
عَنْها) فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معا قيل : عفوت لفلان عما
جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه. وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل :
فمن عفى له عند جنايته ، فاستغنى عن ذكر الجناية. فإن قلت : هلا فسرت عفى بترك حتى
يكون شيء في معنى المفعول به؟ قلت : لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس بثبت ، ولكن
أعفاه. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «وأعفوا اللحى» فإن قلت. فقد ثبت قولهم : عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا
جعلت معناه : فمن محى له من أخيه شيء؟ قلت : عبارة قلقة في مكانها ، والعفو في باب
الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها
إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها ، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترئ ـ إذا
أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله ـ على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا
تعرفه ، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها. فإن قلت؟ لم قيل : شيء من العفو؟ قلت : للإشعار
بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم ، أو عفا عنه بعض
الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية (فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ) فليكن اتباع ، أو فالأمر اتباع. وهذه توصية للمعفو عنه
والعافي جميعا. يعنى فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا
مطالبة جميلة ، وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان ، بأن لا يمطله ولا يبخسه
(ذلِكَ) الحكم المذكور من العفو والدية (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ
الدية ، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية ، وخيرت هذه الأمّة بين
الثلاث : القصاص والدية والعفو ، توسعة عليهم وتيسيراً (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) التخفيف ، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل ، أو القتل بعد أخذ الدية. فقد كان الولي في الجاهلية
يؤمّن القاتل بقبوله الدية ، ثم يظفر به فيقتله (فَلَهُ عَذابٌ
أَلِيمٌ) نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة. وعن قتادة : العذاب
الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية ، لقوله عليه السلام «لا أعافى أحداً
قتل بعد أخذه الدية» (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكانا وظرفا
للحياة ، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة ؛ لأنّ المعنى : ولكم
في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، وذلك أنهم كانوا
__________________
يقتلون بالواحد
الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل ، وكان يقتل
بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر ، فلما جاء الإسلام بشرع
القصاص كانت فيه حياة أىّ حياة ، أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع
عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا همّ بالقتل فعلم أنه يقتصّ
فارتدع منه سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود ، فكان القصاص سبب حياة نفسين.
وقرأ أبو الجوزاء : ولكم في القصاص حياة : أى فيما قص عليكم من حكم القتل.
والقصاص. وقيل القصص : القرآن ، أى ولكم في القرآن حياة للقلوب : كقوله تعالى : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ، (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ). (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أى أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به.
وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة.
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ
بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ
اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ
مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨٢)
(إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) إذا دنا منه وظهرت أماراته (خَيْراً) مالا كثيراً. عن عائشة رضى الله عنها أنّ رجلا أراد الوصية
وله عيال وأربعمائة دينار ، فقالت : ما أرى فيه فضلا. وأراد آخر أن يوصى فسألته : كم مالك؟ فقال : ثلاثة آلاف.
قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة. قالت : إنما قال الله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإنّ هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك ، وعن علىّ رضى الله عنه : أنّ مولى له أراد أن يوصى وله
سبعمائة فمنعه . وقال : قال الله تعالى
__________________
(إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير هو المال ، وليس لك مال. والوصية فاعل كتب ، وذكر
فعلها للفاصل ، ولأنها بمعنى أن يوصى ، ولذلك ذكر الراجع في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) والوصية للوارث كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث ،
وبقوله عليه السلام «إنّ الله أعطى كلّ ذى حق حقه ألا لا وصية لوارث » وبتلقى الأمّة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر وإن كان من
الآحاد ، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا الثبت الذي صحت روايته. وقيل : لم تنسخ ،
والوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. وقيل : ما هي بمخالفة لآية
المواريث. ومعناها : كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) أو كتب على المحتضر أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما
أوصى به الله لهم عليهم ، وأن لا ينقص من أنصبائهم (بِالْمَعْرُوفِ) بالعدل ، وهو أن لا يوصى للغنى ويدع الفقير ولا يتجاوز
الثلث (حَقًّا) مصدر مؤكد ، أى حق ذلك حقاً (فَمَنْ بَدَّلَهُ) فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء
والشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وتحققه (فَإِنَّما إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل إلا على مبدّليه دون
غيرهم من الموصى والموصى له ، لأنهما بريان من الحيف (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) وعيد المبدّل (فَمَنْ خافَ) فمن توقع وعلم ، وهذا في كلامهم شائع يقولون : أخاف أن
ترسل السماء ، يريدون التوقع والظنّ الغالب الجاري مجرى العلم (جَنَفاً) ميلا عن الحق بالخطإ في الوصية (أَوْ إِثْماً) أو تعمداً للحيف (فَأَصْلَحَ
بَيْنَهُمْ) بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق
الشرع (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) حينئذ ، لأنّ تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدّل
بالباطل ثم من يبدّل بالحق ليعلم أنّ كل تبديل لا يؤثم .
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٤)
__________________
(كَما كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال علىّ رضى
الله عنه : أوّلهم آدم ، يعنى أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من
افتراضها عليهم ، لم يفرضها عليكم وحدكم (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) بالمحافظة عليها وتعظيمها لأصالتها وقدمها ، أو لعلكم
تتقون المعاصي ، لأنّ الصائم أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء. قال عليه السلام : «فعليه
بالصوم فإنّ الصوم له وجاء » أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين ، لأنّ الصوم شعارهم.
وقيل معناه : أنه كصومهم في عدد الأيام وهو شهر رمضان ، كتب على أهل الإنجيل
فأصابهم موتان ، فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده. فجعلوه خمسين يوماً. وقيل : كان
وقوعه في البرد الشديد والحرّ الشديد ، فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم فجعلوه بين
الشتاء والربيع ، وزادوا عشرين يوما كفارة لتحويله عن وقته. وقيل : الأيام
المعدودات : عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر. كتب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم صيامها حين هاجر. ثم نسخت بشهر رمضان. وقيل : كتب عليكم كما كتب عليهم أن
يتقوا المفطر بعد أن يصلوا العشاء وبعد أن يناموا ، ثم نسخ ذلك بقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) ... الآية. ومعنى (مَعْدُوداتٍ) موقتات بعدد معلوم. أو قلائل ، كقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) وأصله أنّ المال القليل يقدّر بالعدد ويتحكر فيه. والكثير
يهال هيلا ويحثى حثيا. وانتصاب أياماً بالصيام ، كقولك : نويت الخروج يوم الجمعة (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أو راكب سفر (فَعِدَّةٌ) فعليه عدّة. وقرئ بالنصب بمعنى : فليصم عدّة وهذا على سبيل
الرخصة. وقيل : مكتوب عليهما أن يفطرا ويصوما عدّة (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) واختلف في المرض المبيح للإفطار ، فمن قائل : كل مرض ،
لأنّ الله تعالى لم يخص مرضا دون مرض كما لم يخص سفراً دون سفر ، فكما أنّ لكل
مسافر أن يفطر ، فكذلك كل مريض. وعن ابن سيرين أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل
فاعتلّ بوجع أصبعه. وسئل مالك عن الرجل يصيبه الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس
به مرض يضجعه ، فقال : إنه في سعة من الإفطار. وقائل : هو المرض الذي يعسر معه
الصوم ويزيد فيه ، لقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ) وعن الشافعي : لا يفطر حتى يجهده الجهد غير المحتمل.
واختلف أيضاً في القضاء فعامّة العلماء على التخيير. وعن أبى عبيدة بن الجرّاح رضى
الله عنه : «إنّ الله لم يرخص لكم في
__________________
فطره وهو يريد أن
يشق عليكم في قضائه ، إن شئت فواتر ، وإن شئت ففرّق» وعن علىّ وابن عمر والشعبي وغيرهم أنه يقضى كما فات
متتابعاً . وفي قراءة أبىّ : فعدّة من أيام أخر متتابعات. فإن قلت : فكيف
قيل (فَعِدَّةٌ) على التنكير ولم يقل : فعدّتها ، أى فعدة الأيام المعدودات؟
قلت : لما قيل : فعدّة ، والعدّة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة مكانها
، علم أنه لا يؤثر عدد على عددها ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) نصف صاع من برّ أو صاع من غيره عند أهل العراق ، وعند أهل
الحجاز مدّ ، وكان ذلك في بدء الإسلام : فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتدّ
عليهم ، فرخص لهم في الإفطار والفدية. وقرأ ابن عباس : يطوّقونه ، تفعيل من الطوق
إما بمعنى الطاقة أو القلادة ، أى يكلفونه أو يقلدونه ويقال لهم صوموا. وعنه :
يتطوّقونه بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه. ويطوقونه بإدغام التاء في الطاء. ويطيقونه
ويطيقونه بمعنى يتطوقونه ، وأصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه ، على أنهما من فيعل
وتفعيل من الطوق ، فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم : تدير المكان وما
بها ديار. وفيه وجهان : أحدهما نحو معنى يطيقونه. والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على
جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز ، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية ، وهو على هذا
الوجه ثابت غير منسوخ. ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه ، أى يصومونه جهدهم وطاقتهم
ومبلغ وسعهم (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً) فزاد على مقدار الفدية (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) فالتطوع أخير له أو الخير. وقرئ فمن يطوّع ، بمعنى يتطوّع (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون أو المطوقون وحملتم على أنفسكم وجهدتم
طاقتكم (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية وتطوّع الخير. ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض
والمسافر أيضاً. وفي قراءة أبىّ : والصيام خير لكم.
(شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى
وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٨٥)
الرمضان : مصدر
رمض إذا احترق ـ من الرمضاء ـ فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ، ومنع الصرف للتعريف
والألف والنون كما قيل «ابن داية» للغراب بإضافة الابن إلى داية البعير ،
__________________
لكثرة وقوعه عليها
إذا دبرت. فإن قلت : لم سمى (شَهْرُ رَمَضانَ)؟ قلت : الصوم فيه عبادة قديمة ، فكأنهم سموه بذلك
لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ومقاساة شدّته ، كما سموه ناتقا لأنه كان ينتقهم أى
يزعجهم إضجاراً بشدّته عليهم. وقيل لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها
بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر. فإن قلت : فإذا كانت
التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً ، فما وجه ما جاء في الأحاديث من نحو
قوله عليه الصلاة والسلام : «من صام رمضان إيماناً واحتساباً » «من أدرك رمضان فلم يغفر له» . قلت : هو من باب الحذف لأمن الإلباس كما قال : بمَا
أعْيَا النِّطَاسِى حِذْيَمَا أراد ابن حذيم ، وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أو على أنه بدل من الصيام في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) أو على أنه خبر مبتدإ محذوف. وقرئ بالنصب على : صوموا شهر
رمضان ، أو على الإبدال من (أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) ، أو على أنه مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا). ومعنى (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ابتدئ فيه إنزاله ، وكان ذلك في ليلة القدر. وقيل : أنزل
جملة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل إلى الأرض نجوما. وقيل : أنزل في شأنه القرآن ، وهو
قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ) كما تقول أنزل في عمر كذا ، وفي علىّ كذا. وعن النبي عليه
السلام «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ،
والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين مضين » (هُدىً لِلنَّاسِ
وَبَيِّناتٍ) نصب على الحال ، أى أنزل وهو هداية للناس إلى الحق ، وهو
آيات واضحات مكشوفات مما يهدى إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل. فإن قلت : ما معنى
قوله : (وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى) بعد قوله : (هُدىً لِلنَّاسِ)؟ قلت : ذكر أوّلا أنه هدى ، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما
هدى به الله ، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة
بين الهدى والضلال (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فمن كان
__________________
شاهداً ، أى
حاضراً مقيما غير مسافر في الشهر ، فليصم فيه ولا يفطر. والشهر : منصوب على الظرف
وكذلك الهاء في : (فَلْيَصُمْهُ) ولا يكون مفعولا به كقولك : شهدت الجمعة ، لأن المقيم
والمسافر كلاهما شاهدان للشهر (يُرِيدُ اللهُ) أن ييسر عليكم ولا يعسر ، وقد نفى عنكم الحرج في الدين ،
وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها ، وجملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة
الفطر في السفر والمرض. ومن الناس من فرض الفطر على المريض والمسافر ، حتى زعم أنّ
من صام منهما فعليه الإعادة. وقرئ : اليسر ، والعسر ـ بضمتين. الفعل المعلل محذوف
مدلول عليه بما سبق تقديره (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) شرع ذلك يعنى جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر
المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : (لِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدّة (وَلِتُكَبِّرُوا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا
يكاد يهتدى إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. وإنما عدّى فعل التكبير
بحرف الاستعلاء لكونه مضمنا معنى الحمد ، كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما
هداكم. ومعنى (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) وإرادة أن تشكروا. وقرئ (ولتكملوا) بالتشديد. فإن قلت : هل
يصح أن يكون (وَلِتُكْمِلُوا) معطوفا على علة مقدرة ، كأنه قيل لتعملوا ما تعلمون ،
ولتكملوا العدة. أو على اليسر ، كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ، ويريد بكم
لتكملوا ، كقوله : (يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا)؟ قلت : لا يبعد ذلك والأوّل أوجه. فإن قلت : ما المراد
بالتكبير؟ قلت : تعظيم الله والثناء عليه. وقيل : هو تكبير يوم الفطر. وقيل : هو
التكبير عند الإهلال .
(وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(١٨٦)
(فَإِنِّي قَرِيبٌ) تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة
من سأله بحال من قرب مكانه ، فإذا دعى أسرعت تلبيته ، ونحوه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ) وقوله عليه الصلاة والسلام : «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم
» وروى أنّ أعرابيا قال لرسول الله
__________________
صلى الله عليه
وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت. (فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أنى أجيبهم إذا دعوني
لحوائجهم. وقرئ يرشدون ويرشدون ، بفتح الشين وكسرها.
(أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ
لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ
حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ)(١٨٧)
كان الرجل إذا
أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلى العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها
أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة ، ثم إنّ عمر رضى
الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه ،
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله ، إنى أعتذر إلى الله وإليك من
نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما كنت جديرا بذلك
يا عمر . فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء ، فنزلت.
وقرئ : أحل لكم ليلة الصيام الرفث ، أى أحل الله. وقرأ عبد الله :
__________________
الرفوث ، وهو
الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ النيك ، وقد أرفث الرجل. وعن ابن عباس رضى
الله عنه أنه أنشد وهو محرم :
وَهُنَّ
يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا
|
|
إنْ تَصْدُقِ
الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
|
فقيل له : أرفثت؟
فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء . وقال الله تعالى : فلا رفث ولا فسوق ، فكنى به عن الجماع
، لأنه لا يكاد يخلو من شيء من ذلك. فإن قلت : لم كنى عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال
على معنى القبح بخلاف قوله : (وَقَدْ أَفْضى
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) ، (فَلَمَّا تَغَشَّاها) ، (بَاشِرُوهُنَّ) ، (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) ، (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) ، (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ) ، (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) ، (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ)؟ قلت : استهجانا لما وجد منهم قبل الإباحة ، فقيل له : أرفثت؟
فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء . وقال الله تعالى : فلا رفث ولا فسوق ، فكنى به عن الجماع
، لأنه لا يكاد يخلو من شيء من ذلك. فإن قلت : لم كنى عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال
على معنى القبح بخلاف قوله : (وَقَدْ أَفْضى
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) ، (فَلَمَّا تَغَشَّاها) ، (بَاشِرُوهُنَّ) ، (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) ، (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) ، (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ) ، (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) ، (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ)؟ قلت : استهجانا لما وجد منهم قبل الإباحة ، كما سماه
اختيانا لأنفسهم. فإن قلت : لم عدى الرفث بإلى؟ قلت : لتضمينه معنى الإفضاء. لما
كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه ، شبه باللباس
المشتمل عليه. قال الجعدي :
إذَا مَا
الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا
|
|
تَثَنَّتْ
فَكَانَتْ عَليْهِ لِبَاسَا
|
فإن قلت : ما موقع
قوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ)؟ قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا
كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم
اجتنابهنّ ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهنّ (تَخْتانُونَ
أَنْفُسَكُمْ) تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة ،
كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد
بالمباشرة ، أى لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح
من التناسل.
__________________
وقيل : هو نهى عن
العزل لأنه في الحرائر. وقيل : وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله دون ما لم
يكتب لكم من المحل المحرّم. وعن قتادة : وابتغوا ما كتب الله لكم من الإباحة بعد
الحظر. وقرأ ابن عباس (واتبعوا) وقرأ الأعمش (وأتوا) وقيل معناه : واطلبوا ليلة
القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها ، وهو قريب من بدع
التفاسير (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) هو أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط
الممدود. و (الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ) ما يمتدّ معه من غبش الليل ، شبها بخيطين أبيض وأسود. قال
أبو داود :
فَلَمَّا
أضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ
|
|
وَلَاحَ مِنَ
الصُّبْحِ خَيْطٌ أنَارَا
|
وقوله (مِنَ الْفَجْرِ) بيان للخيط الأبيض ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود. لأنّ
بيان أحدهما بيان للثاني. ويجوز أن تكون «من» للتبعيض : لأنه بعض الفجر وأوّله.
فإن قلت : أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟ قلت : قوله : (مِنَ الْفَجْرِ) أخرجه من باب الاستعارة ، كما أن قولك : رأيت أسداً مجاز.
فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيها. فإن قلت : فلم زيد (مِنَ الْفَجْر) حتى كان تشبيها؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ
من التشبيه وأدخل في الفصاحة؟ قلت : لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو
الكلام ، ولو لم يذكر (مِنَ الْفَجْرِ) لم يعلم أن الخيطين مستعاران ، فزيد (مِنَ الْفَجْرِ) فكان تشبيها بليغا وخرج من أن يكون استعارة. فإن قلت :
فكيف التبس على عدىّ بن حاتم مع هذا البيان حتى قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلا
يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبرته ، فضحك وقال : «إن كان وسادك لعريضا» ، وروى : «إنك لعريض القفا» إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل»؟ قلت : غفل عن البيان ،
ولذلك عرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه ، لأنه مما يستدل به على بلاهة
الرجل وقلة فطنته. وأنشدتنى بعض البدويات لبدوى :
__________________
عَرِيضُ القَفَا
مِيزَانُهُ فِى شِمَالِهِ
|
|
قَدِ انْحَصَّ
مِنْ حَسْبِ القَرَارِيِط شَارِبُهْ
|
فإن قلت : فما
تقول فيما روى عن سهل بن سعد الساعدي : أنها نزلت ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط
الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، فنزل بعد ذلك (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه إنما يعنى بذلك الليل والنهار؟ وكيف جاز تأخير
البيان وهو يشبه العبث ، حيث لا يفهم منه المراد ، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة ،
ولا بتشبيه قبل ذكر الفجر ، فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة وهي غير مرادة؟ قلت :
أما من لم يجوّز تأخير البيان ـ وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين ، وهو مذهب أبى علىّ
وأبى هاشم ـ فلم يصح عندهم هذا الحديث. وأما من يجوّزه فيقول : ليس بعبث. لأن
المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد منه (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ) قالوا : فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى
نفى صوم الوصال (عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) معتكفون فيها. والاعتكاف أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد
فيه. والمراد بالمباشرة الجماع لما تقدم من قوله (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ، (فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ) وقيل معناه : ولا تلامسوهنّ بشهوة ، والجماع يفسد الاعتكاف
، وكذلك إذا لمس أو قبل فأنزل. وعن قتادة كان الرجل إذا اعتكف خرج فباشر امرأته ثم
رجع إلى المسجد ، فنهاهم الله عن ذلك. وقالوا : فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون
إلا في مسجد ، وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد. وقيل : لا يجوز إلا في مسجد نبىّ
وهو أحد المساجد الثلاثة. وقيل : في مسجد جامع. والعامة على
__________________
أنه في مسجد
جماعة. وقرأ مجاهد : في المسجد (تِلْكَ) الأحكام التي ذكرت (حُدُودُ اللهِ فَلا
تَقْرَبُوها) فلا تغشوها فإن قلت : كيف قيل (فَلا تَقْرَبُوها) مع قوله : (فَلا تَعْتَدُوها
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ)؟ قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في
حيز الحق فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ثم بولغ في ذلك فنهى أن
يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزى الحق والباطل لئلا يدانى الباطل ، وأن يكون في
الواسطة متباعداً عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم «إنّ لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه » فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد. ويجوز أن يريد بحدود
الله محارمه ومناهيه خصوصا ، لقوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) وهي حدود لا تقرب.
(وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١٨٨)
ولا يأكل بعضكم
مال بعض (بِالْباطِلِ) بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه. ولا (تُدْلُوا بِها) ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم (فَرِيقاً) طائفة (مِنْ أَمْوالِ
النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بشهادة الزور ، أو باليمين الكاذبة ، أو بالصلح ، مع العلم
بأن المقضى له ظالم.
وعن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال للخصمين. «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلىّ ، ولعلّ بعضكم
ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه
فلا يأخذنّ منه شيئا ، فإن ما أقضى له قطعة من نار» فبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي.
فقال «اذهبا فتوخيا ، ثم استهمل ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» وقيل (وَتُدْلُوا بِها) وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. وتدلوا :
مجزوم داخل في حكم النهى ، أو منصوب بإضمار أن ، كقوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ). (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أنكم على الباطل ، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح ،
وصاحبه أحق بالتوبيخ.
__________________
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ
تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٨٩)
وروى أن معاذ بن
جبل وثعلبة بن غنم الأنصارى قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل
الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على
حالة واحدة؟ فنزلت (مَواقِيتُ) معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم
وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدد حملهنّ وغير ذلك ، ومعالم للحج يعرف
بها وقته. كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا داراً ولا
فسطاطا من باب ، فإذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، أو
يتخذ سلما يصعد فيه ؛ وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم : (لَيْسَ الْبِرُّ) بتحرّجكم من دخول الباب (وَلكِنَّ الْبِرَّ) برّ (مَنِ اتَّقى) ما حرّم الله. فإن قلت : ما وجه اتصاله بما قبله ؟ قلت : كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في
نقصانها ـ وتمامها معلوم ـ : أنّ كل ما يفعله الله عز وجل لا يكون إلا حكمة بالغة
ومصلحة لعباده ، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر
في شيء وأنتم تحسبونها برّا. ويجوز أن يجرى ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها
مواقيت للحج ، لأنه كان من أفعالهم في الحج. ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في
سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى : ليس
البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البرّ برّ من اتقى
ذلك وتجنبه
__________________
ولم يجسر على
مثله. ثم قال (وَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ أَبْوابِها) أى وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا
تعكسوا. والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب
، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه ؛ لما في السؤال من
الابهام بمقارفة الشك (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).
(وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى
يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ
الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا
عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)(١٩٣)
المقاتلة في سبيل
الله : هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين (الَّذِينَ
يُقاتِلُونَكُمْ) الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين. وعلى هذا يكون
منسوخا بقوله : (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً). وعن الربيع بن أنس رضى الله عنه : هي أول آية نزلت في
القتال بالمدينة فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقاتل من قاتل
ويكف عمن كف. أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ
والصبيان الرهبان والنساء. أو الكفرة كلهم لأنهم جميعا مضادّون للمسلمين قاصدون
لمقاتلتهم ، فهم في حكم المقاتلة ، قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل : لما صدّ المشركون
رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من
قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء ، خاف المسلمون أن لا يفي لهم
قريش ويصدّوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام وكرهوا ذلك نزلت وأطلق لهم
قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم والشهر الحرام ، ورفع عنهم الجناح في ذلك (وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء
والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)
__________________
حيث وجدتموهم في
حل أو حرم. والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة. ومنه : رجل ثقف ، سريع الأخذ
لأقرانه. قال :
فَإمَّا
تَثْقَفُونِى فَاقْتُلُونِى
|
|
فَمَنْ أثْقَفْ
فَلَيْسَ إلَى خُلُودِ
|
(مِنْ
حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أى من مكة وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم
يسلم منهم يوم الفتح (وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أى المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه
من القتل. وقيل لبعض الحكماء : ما أشد من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت ، جعل
الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت. ومنه قول القائل :
لَقَتْلٌ
بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعاً
|
|
عَلى النَّفْسِ
مِنْ قَتْلٍ بحَدِّ فِرَاقِ
|
وقيل (الْفِتْنَةُ) عذاب الآخرة (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) وقيل : الشرك أعظم من القتل في الحرم ، وذلك أنهم كانوا
يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين ، فقيل : والشرك الذي هم عليه أشد
وأعظم مما يستعظمونه. ويجوز أن يراد : وفتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشد
من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم. وقرئ
: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم ، فإن قتلوكم : جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم.
يقال : قتلتنا بنو فلان. وقال : فإن تقتلونا نقتلكم (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك والقتال ، كقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ). (حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ) أى شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ) خالصا ليس للشيطان فيه نصيب (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك (فَلا عُدْوانَ إِلَّا
عَلَى الظَّالِمِينَ) فلا تعدوا على المنتهين لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ،
فوضع قوله : (إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ) موضع على المنتهين. أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير
المنتهين ، سمى جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة ، كقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ) أو أريد أنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين
فيسلط عليكم من يعدو عليكم.
(الشَّهْرُ الْحَرامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٩٤)
__________________
قاتلهم المشركون
عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء
وكراهتهم القتال وذلك في ذى القعدة : (الشَّهْرُ الْحَرامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أى هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه ، يعنى تهتكون حرمته
عليهم كما هتكوا حرمته عليكم (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أى وكل حرمة يجرى فيها القصاص من هتك حرمة أىّ حرمة كانت ،
اقتص منه بأن تهتك له حرمة ، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا
تبالوا ، وأكد ذلك بقوله (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا
اللهَ) في حال كونكم منتصرين ممن اعتدى عليكم ، فلا تعتدوا إلى ما
لا يحل لكم.
(وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٩٥)
الباء في (بِأَيْدِيكُمْ) مزيدة مثلها في أعطى بيده للمنقاد. والمعنى : ولا تقبضوا
التهلكة أيديكم ، أى لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل (بأيديكم) بأنفسكم :
وقيل تقديره : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، كما يقال : أهلك فلان نفسه بيده ، إذا
تسبب لهلاكها. والمعنى : النهى عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك ، أو
عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله. أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس
، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدوّ. وروى أن رجلا من المهاجرين حمل على صف
العدوّ فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصارى : نحن أعلم
بهذه الآية ، وإنما أنزلت فينا ، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه ،
وشهدنا معه المشاهد ، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا ، فلما فشا الإسلام
وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها ، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها
ونقيم فيها ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد . وحكى أبو على في الحلبيات عن أبى عبيدة ، التهلكة والهلاك
والهلك واحد. قال : فدلّ هذا من قول أبى عبيدة على أن
__________________
التهلكة مصدر.
ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان : التنضبة
والتنفلة. ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما ، على أنها
مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار في الجوار.
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا
تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ
لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١٩٦)
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله
من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. قال :
تَمَامُ
الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا
|
|
عَلى خَرْقَاءَ
وَاضِعَةِ اللِّثَامِ
|
جعل الوقوف عليها
كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به. وقيل : إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك ،
روى ذلك عن علىّ وابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم. وقيل : أن تفرد لكل واحد
منها سفراً كما قال محمد : حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل. وقيل : أن تكون النفقة
حلالا. وقيل : أن تخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشيء من التجارة والأغراض
الدنيوية. فإن قلت : هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت : ما هو إلا أمر بإتمامهما
، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين ، فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع
جميعا ، إلا أن تقول : الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما ، بدليل قراءة من قرأ :
وأقيموا الحج والعمرة. والأمر للوجوب في أصله ، إلا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب
، كما دلّ في قوله : (فَاصْطادُوا) ، (فَانْتَشِرُوا)
__________________
ونحو ذلك ، فيقال
لك : فقد دلّ الدليل على نفى الوجوب ، وهو ما روى أنه قيل : يا رسول الله : العمرة
واجبة مثل الحج؟ قال : «لا ، ولكن أن تعتمر خير لك» وعنه «الحج جهاد والعمرة تطوّع» . فإن قلت : فقد روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال : إن
العمرة لقرينة الحج . وعن عمر رضى الله عنه أنّ رجلا قال له : إنى وجدت الحجّ
والعمرة مكتوبين علىّ ، أهللت بهما جميعاً فقال : «هديت لسنة نبيك» وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة مثل الحج؟
قلت : كونها قرينة للحج أنّ القارن يقرن بينهما ، وأنهما يقترنان في الذكر فيقال :
حجّ فلان واعتمر والحجاج والعمار ، ولأنها الحجّ الأصغر ، ولا دليل في ذلك على
كونها قرينة له في الوجوب. وأمّا حديث عمر رضى الله عنه فقد فسر الرجل كونهما
مكتوبين عليه بقوله : أهللت بهما ، وإذا أهلّ بالعمرة وجبت عليه كما إذا كبر
بالتطوّع من الصلاة. والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقى الحجّ
وحده فيها ، فهما بمنزلة قولك : صم شهر رمضان وستة من شوّال ، في أنك تأمره بفرض
وتطوّع. وقرأ علىّ وابن مسعود والشعبي رضى الله عنهم (والعمرة لله) بالرفع ، كأنهم
قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحجّ وهو الوجوب (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) يقال : أُحصر فلان ، إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز.
قال الله تعالى (الَّذِينَ أُحْصِرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ). وقال ابن ميادة :
وَمَا هجْرُ
لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ
|
|
عَليْكَ وَلَا
أَنْ أحْصَرَتْكَ شَغُولُ
|
__________________
وحُصر : إذا حبسه
عدوّ عن المضىّ ، أو سجن. ومنه قيل للمحبس : الحصير. وللملك ، الحصير ، لأنه
محجوب. هذا هو الأكثر في كلامهم ، وهما بمعنى المنع في كل شيء ، مثل صدّه وأصدّه.
وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني ، وعليه قول أبى حنيفة رحمهم الله تعالى ،
كل منع عنده من عدوّ كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار. وعند مالك
والشافعي منع العدوّ وحده. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم : «من كسر أو عرج فقد
حلّ وعليه الحج من قابل» (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ) فما تيسر منه. يقال : يسر الأمر واستيسر ، كما يقال : صعب
واستصعب. والهدى جمع هدية ، كما يقال في جدية السرج جدي. وقرئ (من الهدىّ) بالتشديد جمع هدية كمطية ومطىّ.
يعنى فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، فعليكم إذا أردتم التحلل
ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاة ، فإن قلت : أين ومتى ينحر هدى المحصر؟
قلت : إن كان حاجا فبالحرم متى شاء عند أبى حنيفة يبعث به ، ويجعل للمبعوث على يده
يوم أمار وعندهما في أيام النحر وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت
عندهم جميعاً. و «ما استيسر» رفع بالابتداء ، أى فعليه ما استيسر. أو نصب على :
فاهدوا ما استيسر (وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ) الخطاب للمحصرين : أى لا تحلوا حتى تعلموا أنّ الهدى الذي
بعثتموه إلى الحرم بلغ (مَحِلَّهُ) أى مكانه الذي يجب نحره فيه. ومحل الدين وقت وجوب قضائه ،
وهو ظاهر على مذهب أبى حنيفة رحمه الله. فإن قلت : إنّ النبىّ صلى الله عليه وآله
وسلم نحر هديه حيث أحصر ؟ قلت : كان محصره طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة وهو من
الحرم ، وعن الزهري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم. وقال
الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال
__________________
من مكة (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) فمن كان به مرض يحوجه إلى الحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) وهو القمل أو الجراحة ، فعليه إذا احتلق فدية (مِنْ صِيامٍ) ثلاثة أيام (أَوْ صَدَقَةٍ) على ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من برّ (أَوْ نُسُكٍ) وهو شاة. وعن كعب بن عجرة أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال له ، «لعلك أذاك هو امّك»؟ قال : نعم يا رسول الله. قال : «احلق رأسك وصم
ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك شاة » وكان كعب يقول : فىّ نزلت هذه الآية ، وروى أنه مرّ به
وقد قرح رأسه فقال : «كفى بهذا أذى» وأمره أن يحلق ويطعم ، أو يصوم. والنسك مصدر ، وقيل جمع
نسيكة. وقرأ الحسن : أو نسك ، بالتخفيف (فَإِذا أَمِنْتُمْ) الإحصار ، يعنى فإذا لم تحصروا وكنتم في أمن وسعة (فَمَنْ تَمَتَّعَ) أى استمتع (بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِ) واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج : انتفاعه بالتقرّب بها
إلى الله تعالى قبل الانتفاع بتقرّبه بالحج. وقيل : إذا حلّ من عمرته انتفع
باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يحرم من الحج (فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) هو ، هدى المتعة ، وهو نسك عند أبى حنيفة ويأكل منه. وعند
الشافعي يجرى مجرى الجنايات ولا يأكل منه. ويذبحه يوم النحر عندنا. وعنده يجوز
ذبحه إذا أحرم بحجته (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدى فعليه (فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أى في وقته وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة
وإحرام الحج ، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله. والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة
ويوماً قبلهما ، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم. وعند الشافعي : لا تصام إلا
بعد الإحرام بالحج تمسكا بظاهر قوله : (فِي الْحَجِ
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) بمعنى إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبى حنيفة ،
وعند الشافعي : هو الرجوع إلى أهاليهم. وقرأ ابن أبى عبلة (وسبعة) بالنصب عطفا على
محل ثلاثة أيام ، وكأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام ، كقوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) فإن قلت فما فائدة الفذلكة؟ قلت : الواو قد تجيء للإباحة
في نحو قولك : جالس الحسن وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعا أو واحداً
منهما كان ممتثلا ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة. وأيضا ففائدة الفذلكة في كل حساب أن
يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ليحاط به ، ومن جهتين ، فيتأكد العلم. وفي أمثال
العرب : علمان خير من علم ، وكذلك (كامِلَةٌ) تأكيد آخر. وفيه
__________________
زيادة توصية
بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام
بأمر تأمره به وكان منك بمنزل : الله الله لا تقصر. وقيل : كاملة في وقوعها بدلا
من الهدى. وفي قراءة أبىّ : فصيام ثلاثة أيام متتابعات (ذلِكَ) إشارة إلى التمتع ، عند أبى حنيفة وأصحابه. لا متعة ولا
قران لحاضري المسجد الحرام عندهم ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم وهو دم جناية
لا يأكل منه ؛ وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق فدمهما دم نسك يأكلان منه. وعند
الشافعي : إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدى أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئا . وحاضرو المسجد الحرام : أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة
عند أبى حنيفة. وعند الشافعي : أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها
الصلاة (وَاتَّقُوا اللهَ) في المحافظة على حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج
وغيره (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالف ليكون علمكم بشدّة عقابه لطفاً لكم في التقوى.
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا
جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٧)
أى وقت الحج (أَشْهُرٌ) كقولك : البرد شهران. والأشهر المعلومات : شوال وذو القعدة
وعشر ذى الحجة عند أبى حنيفة. وعند الشافعي : تسع ذى الحجة وليلة يوم
النحر. وعند مالك : ذى الحجة كله. فإن قلت : ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت
: فائدته أن شيئا من أفعال الحج لا يصح إلا فيها ، والإحرام بالحج لا ينعقد أيضا
عند الشافعي في غيرها. وعند أبى حنيفة ينعقد إلا أنه مكروه. فإن قلت : فكيف كان
الشهران وبعض الثالث أشهر؟ قلت : اسم الجمع
__________________
يشترك فيه ما وراء
الواحد. بدليل قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) فلا سؤال فيه إذن ، وإنما كان يكون موضعا للسؤال لو قيل :
ثلاثة أشهر معلومات. وقيل : نزّل بعض الشهر منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا
، أو على عهد فلان ، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر ، وإنما رآه في ساعة منها. فإن
قلت : ما وجه مذهب مالك وهو مروىّ عن عروة بن الزبير؟ قلت : قالوا إنّ العمرة غير
مستحبة فيها عند عمر وابن عمر ؛ فكأنها مخلصة للحج لا مجال فيها للعمرة. وعن عمر
رضى الله عنه : أنه كان يخفق الناس بالدّرة وينهاهم عن الاعتمار فيهنّ. وعن عمر رضى الله عنه قال لرجل : إن أطعتنى انتظرت حتى إذا أهللت
المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. وقالوا : لعل من مذهب
عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر (مَعْلُوماتٌ) معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم. وفيه أنّ الشرع لم يأت
على خلاف ما عرفوه. وإنما جاء مقرّرا له (فَمَنْ فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَ) فمن ألزمه نفسه بالتلبية أو بتقليد الهدى وسوقه عند أبى
حنيفة وعند الشافعي بالنية (فَلا رَفَثَ) فلإجماع ؛ لأنه يفسده. أو فلا فحش من الكلام (وَلا فُسُوقَ) ولا خروج عن حدود الشريعة وقيل. هو السباب والتنابز
بالألقاب (وَلا جِدالَ) ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين : وإنما أمر باجتناب ذلك. وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة ؛ والتطريب في
قراءة القرآن. والمراد بالنفي وجوب انتفائها ، وأنها حقيقة بأن لا تكون. وقرئ
المنفيات الثلاث بالنصب وبالرفع. وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأوّلين بالرفع ؛
والآخر بالنصب ؛ لأنهما حملا الأوّلين على معنى النهى ، كأنه قيل : فلا يكونن رفث
ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل : ولا شك
__________________
ولا خلاف في الحج
وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون
بعرفة ؛ وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرّد إلى وقت واحد
وردّ الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج. واستدلّ
على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم «من حج
فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه » وأنه لم يذكر الجدال (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) حث على الخير عقيب النهى عن الشر ؛ وأن يستعملوا مكان
القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البرّ والتقوى ؛ ومكان الجدال الوفاق
والأخلاق الجميلة. أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا
عنه ، وينصره قوله تعالى (وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أى اجعلوا زادكم
إلى الآخرة اتقاء القبائح فإنّ خير الزاد اتقاؤها. وقيل : كان أهل اليمن لا
يتزوّدون ويقولون : نحن متوكلون ، ونحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا فيكونون كلًّا
على الناس ، فنزلت فيهم. ومعناه : وتزوّدوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم ، فإن خير الزاد التقوى (وَاتَّقُونِ) وخافوا عقابي (يا أُولِي
الْأَلْبابِ) يعنى أن قضية اللب تقوى الله ، ومن لم يتقه من الألباء
فكأنه لا لب له.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ
فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ
وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠)
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٢٠٢)
__________________
(فَضْلاً مِنْ
رَبِّكُمْ) عطاء منه وتفضلا ، وهو النفع والربح بالتجارة ، وكان ناس
من العرب يتأثمون أن يتجروا أيام الحج ، وإذا دخل العشر كفوا عن البيع والشراء فلم
تقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج بالتجارة الداجّ . ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاج. وقيل : كانت عكاظ
ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم. وكانت معايشهم
منها ، فلما جاء الإسلام تأثموا ، فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم ، وإنما يباح
ما لم يشغل عن العبادة ، وعن ابن عمر رضى الله عنه : أن رجلا قال له : إنا قوم
نكرى في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا ، فقال : سأل رجل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عما سألت فلم يردّ عليه ، حتى نزل (ليس عليكم جناح) فدعا به فقال :
أنتم حجاج . وعن عمر رضى الله عنه أنه قيل له : هل كنتم تكرهون
التجارة في الحج؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج . وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما : فضلا من ربكم في مواسم
الحج. إن تبتغوا في أن تبتغوا (أَفَضْتُمْ) دفعتم بكثرة ، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة ، وأصله
أفضتم أنفسكم ، فترك ذكر المفعول كما ترك في دفعوا من موضع كذا وصبوا. وفي حديث
أبى بكر رضى الله عنه : صب في دقران ، وهو يخرش بعيره بمحجنه» ويقال : أفاضوا في الحديث وهضبوا فيه . و (عَرَفاتٍ) علم للموقف سمى بجمع كأذرعات. فإن قلت : هلا مُنعت الصرف
وفيها السبيان : التعريف والتأنيث؟
__________________
قلت : لا يخلو من
التأنيث إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدرة كما في سعاد ، فالتي
في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ولا يصح
تقدير التاء فيها ، لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما لا
يقدر تاء التأنيث في بنت ، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء
التأنيث فأبت تقديرها. وقالوا : سميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما
أبصرها عرفها. وقيل إن جبريل حين كان يدور به في المشاعر أراه إياها فقال : قد
عرفت. وقيل : التقى فيها آدم وحوّاء فتعارفا. وقيل : لأنّ الناس يتعارفون فيها
والله أعلم بحقيقة ذلك ، وهي من الأسماء المرتجلة لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء
الأجناس إلا أن تكون جمع عارف. وقيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ
الإفاضة لا تكون إلا بعده. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة فمن أدرك عرفة
فقد أدرك الحج» (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات. وقيل :
بصلاة المغرب والعشاء و (الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة. وقيل
المشعر الحرام : ما بين جبل المزدلفة من مأزمى عرفة إلى وادى محسر ، وليس المأزمان ولا وادى محسر من المشعر
الحرام. والصحيح أنه الجبل ، لما روى جابر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما صلى الفجر يعنى بالمزدلفة بغلس ، ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا
وكبر وهلل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر . وقوله تعالى : (عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرامِ) معناه مما يلي المشعر الحرام قريبا منه ، وذلك للفضل ،
كالقرب من جبل الرحمة ، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادى محسر. أو جعلت أعقاب
المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر. والمشعر : المعلم ، لأنه
معلم العبادة. ووصف بالحرم لحرمته. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه نظر إلى الناس
ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون. وقيل : سميت المزدلفة
وجمعا ؛ لأنّ آدم صلوات الله عليه اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها ، أى دنا منها.
وعن قتادة : لأنه يجمع فيها بين الصلاتين. ويجوز أن يقال : وصفت بفعل أهلها ،
لأنهم يزدلفون إلى الله أى يتقرّبون بالوقوف فيها (كَما هَداكُمْ)
__________________
ما مصدرية أو
كافة. والمعنى : واذكروه ذكراً حسنا كما هداكم هداية حسنة واذكروه كما علمكم كيف
تذكرونه ، لا تعدلوا عنه (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ) من قبل الهدى (لَمِنَ الضَّالِّينَ) الجاهلين ، لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه. وإن هي مخففة
من الثقيلة واللام هي الفارقة (ثُمَّ أَفِيضُوا) ثم لتكن إفاضتكم (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ
النَّاسُ) ولا تكن من المزدلفة ، وذلك لما كان عليه الخمس من الترفع على الناس والتعالي عليهم وتعظمهم عن أن يساووهم في
الموقف. وقولهم : نحن أهل الله وقطان حرمه فلا نخرج منه ، فيقفون بجمع وسائر الناس
بعرفات؟ فإن قلت : فكيف موقع ثم؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا
تحسن إلى غير كريم ، تأتى بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره
وبعد ما بينهما ؛ فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال : ثم أفيضوا لتفاوت
ما بين الإفاضتين ، وأن إحداهما صواب والثانية خطأ. وقيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض
الناس وهم الخمس ، أى من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات. وقرئ : من حيث
أفاض الناس ـ بكسر السين ـ أى الناسي وهو آدم ، من قوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ
فَنَسِيَ) يعنى أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تخالفوا عنه (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أى فإذا فرغتم من عباداتكم الحجية ونفرتم (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ
آباءَكُمْ) فأكثروا ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم
ومفاخرهم وأيامهم. وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل.
فيعدّدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم. (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) في موضع جرّ عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : (كَذِكْرِكُمْ) كما
__________________
تقول كذكر قريش
آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكراً. أو في موضع نصب عطف على آباءكم ، بمعنى أو أشدّ
ذكراً من آبائكم ، على أن ذكراً من فعل المذكور (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ) معناه أكثروا ذكر الله ودعاءه فإنّ الناس من بين مقل لا
يطلب بذكر الله إلا أعراض الدنيا ، ومكثر يطلب خير الدارين ، فكونوا من المكثرين (آتِنا فِي الدُّنْيا) اجعل إيتاءنا أى إعطاءنا في الدنيا خاصة (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أى من طلب خلاقى وهو النصيب. أو ما لهذا الداعي في الآخرة
من نصيب ، لأنّ همه مقصور على الدنيا.
والحسنتان ما هو
طلبة الصالحين في الدنيا من الصحة والكفاف والتوفيق في الخير ، وطلبتهم في الآخرة
من الثواب. وعن على رضى الله عنه : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة
الحوراء. وعذاب النار : امرأة السوء : (أُولئِكَ) الداعون بالحسنتين (لَهُمْ نَصِيبٌ
مِمَّا كَسَبُوا) أى نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة ، وهو الثواب
الذي هو المنافع الحسنة. أو من أجل ما كسبوا ، كقوله : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا). أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم ما يستوجبونه بحسب
مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة. وسمى الدعاء كسبا لأنه من الأعمال ،
والأعمال موصوفة بالكسب : بما كسبت أيديكم. ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) للفريقين جميعاً ، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد. فبادروا إكثار الذكر
وطلب الآخرة ، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ
على كمال قدرته ووجوب الحذر منه.
__________________
روى أنه يحاسب
الخلق في قدر حلب شاة : وروى في مقدار فواق نافة. وروى في مقدار لمحة.
(وَاذْكُرُوا اللهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٠٣)
الأيام المعدودات.
أيام التشريق ، وذكر الله فيها : التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار. وعن عمر
رضى الله عنه : أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله ، حتى يكبر الناس في
الطريق وفي الطواف (فَمَنْ تَعَجَّلَ) فمن عجل في النفر أو استعجل النفر. وتعجل ، واستعجل : يجيئان
مطاوعين بمعنى عجل. يقال : تعجل في الأمر واستعجل : ومتعديين ، يقال : تعجل الذهاب
واستعجله. والمطاوعة أوفق لقوله : (وَمَنْ تَأَخَّرَ) كما هي كذلك في قوله :
قَدْ يُدْرِكُ
الْمُتَأَنِّى بَعْضَ حَاجَتِهِ
|
|
وَقَدْ يَكُونُ
مَعَ الْمُسْتَعجِلِ الزَّلَلُ
|
لأجل المتأنى (فِي يَوْمَيْنِ) بعد يوم النحر يوم القرّ وهو اليوم الذي يسميه أهل مكة يوم الرؤوس ، واليوم بعده
ينفر إذا فرغ من رمى الجمار كما يفعل الناس اليوم وهو مذهب الشافعي ويروى عن
قتادة. وعند أبى حنيفة وأصحابه ينفر قبل طلوع الفجر (وَمَنْ تَأَخَّرَ) حتى رمى في اليوم الثالث. والرمي في اليوم الثالث يجوز
تقديمه على الزوال عند أبى حنيفة. وعند الشافعي
__________________
لا يجوز. فإن قلت
: كيف قال (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) عند التعجل والتأخر جميعاً؟ قلت : دلالة على أنّ التعجل
والتأخر مخير فيهما ، كأنه قيل : فتعجلوا أو تأخروا. فإن قلت : أليس التأخر بأفضل؟
قلت : بلى ، ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم
والإفطار وإن كان الصوم أفضل وقيل : إنّ أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من جعل
المتعجل آثما ، ومنهم من جعل المتأخر آثما فورد القرآن بنفي المأثم عنهما جميعاً (لِمَنِ اتَّقى) أى ذلك التخيير. ونفى الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل
الحاج المتقى : لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام
في الإقدام عليه ، لأنّ ذا التقوى حذر متحرّز من كل ما يريبه ، ولأنه هو الحاج على
الحقيقة عند الله. ثم قال (وَاتَّقُوا اللهَ) ليعبأ بكم. ويجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج
وغيره لمن اتقى ، لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ
وَجْهَ اللهِ).
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى
سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا
يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ
الْمِهادُ)(٢٠٦)
(مَنْ يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ) أى يروقك ويعظم في قلبك. ومنه : الشيء العجيب الذي يعظم في
النفس. وهو الأخنس بن شريق كان رجلا حلو المنطق ، إذا لقى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال : يعلم الله أنى صادق. وقيل :
هو عامّ في المنافقين ، كانت تحلولي ألسنتهم ، وقلوبهم أمرّ من الصبر ، فإن قلت :
بم يتعلق قوله (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا)؟ قلت :
__________________
بالقول ، أى يعجبك
ما يقوله في معنى الدنيا ؛ لأنّ ادّعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظا من حظوظ
الدنيا ولا يريد به الآخرة ، كما تراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول :
فكلامه إذاً في الدنيا لا في الآخرة. ويجوز أن يتعلق بيعجبك ، أى قوله حلو فصيح في
الدنيا فهو يعجبك ، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة ،
أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أى يحلف ويقول : الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام.
وقرئ : ويشهد الله. وفي مصحف أبىّ : ويستشهد الله : (وَهُوَ أَلَدُّ
الْخِصامِ) وهو شديد الجدال والعداوة للمسلمين. وقيل : كان بينه وبين
ثقيف خصومة فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم. والخصام : المخاصمة. وإضافة
الألدّ بمعنى في ، كقولهم : ثبت الغدر. أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة. وقيل
الخصام : جمع خصم ، كصعب وصعاب ، بمعنى وهو أشد الخصوم خصومة (وَإِذا تَوَلَّى) عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) كما فعل بثقيف. وقيل (وَإِذا تَوَلَّى) وإذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في
الأرض بإهلاك الحرث والنسل. وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر
فيهلك الحرث والنسل. وقرئ : ويهلك الحرث والنسل ، على أن الفعل للحرث والنسل.
والرفع للعطف على سعى. وقرأ الحسن بفتح اللام ، وهي لغة. نحو : أبى يأبى. وروى عنه
: ويهلك ، على البناء للمفعول (أَخَذَتْهُ
الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) من قولك : أخذته بكذا ، إذا حملته عليه وألزمته إياه ، أى
حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه ، وألزمته ارتكابه ،
وأن لا يخلى عنه ضرارا ولجاجا. أو على ردّ قول الواعظ.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢٠٧)
(يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيعها أى يبذلها في الجهاد. وقيل : يأمر بالمعروف وينهى
عن المنكر حتى يقتل ، وقيل : نزلت في صهيب بن سنان : أراده المشركون على ترك
الإسلام وقتلوا نفرا كانوا معه ، فقال لهم : أنا شيخ كبير ، إن كنت معكم لم أنفعكم
وإن كنت عليكم لم أضرّكم ، فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالى. فقبلوا منه ماله وأتى
المدينة (وَاللهُ رَؤُفٌ
بِالْعِبادِ) حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ
__________________
لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٠٩)
السلم) بكسر السين
وفتحها. وقرأ الأعمش بفتح السين واللام ، وهو : الاستسلام والطاعة ، أى استسلموا
لله وأطيعوه (كَافَّةً) لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته. وقيل هو الإسلام. والخطاب
لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم ، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم. ويجوز
أن يكون كافة حالا من السلم ، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب. قال :
السِّلْمُ
تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ
|
|
وَالْحَرْبُ
يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
|
على أنّ المؤمنين
أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها. وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. أو في شعب
الإسلام وشرائعه كلها ، وأن لا يُخلوا بشيء منها. وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن
رسول الله
__________________
صلى الله عليه
وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل وكافة من الكف ، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) عن الدخول في السلم (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أى الحج والشواهد على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق
(فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه الانتقام منكم (حَكِيمٌ) لا ينتقم إلا بحق. وروى أنّ قارئا قرأ غفور رحيم ، فسمعه
أعرابى فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم ،
لا يذكر الغفران عند الزلل ، لأنه إغراء عليه. وقرأ أبو السمال : زللتم بكسر اللام
وهما لغتان ، نحو : ظللت وظللت.
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٢١٠)
إتيان الله إتيان
أمره وبأسه كقوله : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ) ، (جاءَهُمْ بَأْسُنا) ويجوز أن يكون المأتى به محذوفا ، بمعنى أن يأتيهم الله
ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله : (فَإِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ). (فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة وهي ما أظلك. وقرئ : ظلال وهي جمع ظلة ، كقلة
وقلال أو جمع ظل. وقرئ (وَالْمَلائِكَةُ) بالرفع كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) وبالجر عطف على ظلل أو على الغمام. فإن قلت : لِمَ يأتيهم
العذاب في الغمام؟ قلت : لأنّ الغمام مظنة الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر
أفظع وأهول ، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ، كما أن الخير إذا جاء من
حيث لا يحتسب كان أسرّ ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ، ولذلك كانت
الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث. ومن ثمة اشتد على
المتفكرين في
__________________
كتاب الله قوله
تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ
اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وأتم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه. وقرأ معاذ بن جبل رضى
الله عنه : وقضاء الأمر ، على المصدر المرفوع عطفا على الملائكة. وقرئ : ترجِع ،
وترجَع ، على البناء للفاعل والمفعول بالتأنيث والتذكير فيهما.
(سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ
اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)
(٢١١)
(سَلْ) أمر للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد. وهذا السؤال
سؤال تقريع كما تسئل الكفرة يوم القيامة (كَمْ آتَيْناهُمْ
مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) على أيدى أنبيائهم وهي معجزاتهم ، أو من آية في الكتب
شاهدة على صحة دين الإسلام ، و (نِعْمَةَ اللهِ) آياته ، وهي أجل نعمة من الله ، لأنها أسباب الهدى والنجاة
من الضلالة. وتبديلهم إياها : أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم ، فجعلوها أسباب
ضلالتهم. كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً
إِلَى رِجْسِهِمْ) أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت : كم
استفهامية أم خبرية؟ قلت : تحتمل الأمرين.
ومعنى الاستفهام
فيها للتقرير. فإن قلت : ما معنى (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُ). قلت : معناه من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها ، كقوله
: ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه؟ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها ،
فكأنها غائبة عنه : وقرئ : (وَمَنْ يُبَدِّلْ) بالتخفيف.
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ
حِسابٍ)(٢١٢)
المزين هو الشيطان
زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها.
ويجوز أن يكون
الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها ، أو جعل إمهال المزين له
تزيينا ، ويدل عليه قراءة من قرأ (زين الذين كفروا الحياة الدنيا) على البناء
للفاعل (وَيَسْخَرُونَ
__________________
مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا)كانت الكفرة يسخرون من المؤمنين الذين لا حظ لهم من الدنيا
كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم ، أى لا يريدون غيرها. وهم يسخرون ممن لا حظ له
فيها ، أو ممن يطلب غيرها (وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم في عليين من السماء ، وهم في سجين من الأرض أو حالهم عالية لحالهم ؛ لأنهم في كرامة وهم في هوان. أو
هم عالون عليهم متطاولون يضحكون منهم كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا ويرون
الفضل لهم عليهم ، (فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ). (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير ، يعنى أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة
عليه كما وسع على قارون وغيره ، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من
الحكمة وهي استدراجكم بالنعمة. ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها
منكم. فإن قلت : لم قال : (مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا) ثم قال : (وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا)؟ قلت : ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقى ، وليكون
بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك.
(كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ
ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢١٣)
(كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على دين الإسلام (فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ) يريد : فاختلفوا فبعث الله. وإنما حذف لدلالة قوله : (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ) عليه. وفي قراءة عبد الله : كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا
فبعث الله. والدليل عليه قوله عز وعلا (وَما كانَ النَّاسُ
__________________
إِلَّا
أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)
وقيل : كان الناس
أمة واحدة كفاراً ، فبعث الله النبيين ، فاختلفوا عليهم. والأوّل الوجه. فإن قلت :
متى كان الناس أمة واحدة متفقين على الحق؟ قلت : عن ابن عباس رضى الله عنهما : أنه
كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا. وقيل : هم نوح ومن
كان معه في السفينة (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ) يريد الجنس ، أو مع كل واحد منهم كتابه (لِيَحْكُمَ) الله ، أو الكتاب ، أو النبىّ المنزل عليه (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) في الحق (إِلَّا الَّذِينَ
أُوتُوهُ) إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف ، أى
ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب ، وجعلوا نزول الكتاب سببا في شدّة
الاختلاف واستحكامه (بَغْياً بَيْنَهُمْ) حسداً بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم. و (مِنَ الْحَقِ) بيان لما اختلفوا فيه ، أى فهدى الله الذين آمنوا للحق
الذي اختلف فيه من اختلف.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ
قَرِيبٌ)(٢١٤)
(أَمْ) منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. ولما ذكر ما كانت
عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات ـ تشجيعاً لرسول الله صلى الله
عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل
الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له ـ قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ :
أم حسبتم (وَلَمَّا) فيها معنى التوقع ، وهي في النفي نظيرة «قد» في الإثبات.
والمعنى أن إتيان ذلك متوقع منتظر (مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا) حالهم التي هي مثل في الشدّة. و (مَسَّتْهُمُ) بيان للمثل وهو استئناف ، كأن قائلا قال : كيف كان ذلك
المثل؟ فقيل : مستهم البأساء (وَزُلْزِلُوا) وأزعجوا إزعاجا شديداً شبيها بالزلزلة بما أصابهم من
الأهوال والأفزاع (حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ) إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها (مَتى نَصْرُ اللهِ) أى بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه
طلب الصبر وتمنيه ، واستطالة زمان الشهدة. وفي هذه الغاية دليل على تناهى الأمر في
الشدة وتماديه في العظم ، لأنّ الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم
لأنفسهم ، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان
__________________
ذلك الغاية في
الشدة التي لا مطمح وراءها (أَلا إِنَّ نَصْرَ
اللهِ قَرِيبٌ) على إرادة القول ، يعنى فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم
من عاجل النصر. وقرئ (حتى يقول) بالنصب على إضمار أن ومعنى الاستقبال ؛ لأنّ «أن»
علم له. وبالرفع على أنه في معنى الحال ، كقولك : شربت الإبل حتى يجيء البعير يجرّ
بطنه ، إلا أنها حال ماضية محكية.
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢١٥)
فإن قلت : كيف
طابق الجواب السؤال في قوله : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ) وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلت
: قد تضمن قوله ما أنفقتم (مِنْ خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم
وهو بيان المصرف ؛ لأنّ النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها. قال الشاعر :
إنَّ
الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً
|
|
حَتَّى يُصَابَ
بهَا طَرِيقُ الْمصنَعِ
|
وعن ابن عباس رضى
الله عنهما : أنه جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ هِمّ وله مال عظيم فقال : ما ذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟
فنزلت. وعن السدى : هي منسوخة بفرض الزكاة. وعن الحسن : هي في التطوّع.
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى
أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ)(٢١٦)
(وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) من الكراهة بدليل قوله (وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً) ثم إما أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف
مبالغة ، كقولها :
فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ
__________________
كأنه في نفسه لفرط
كراهتهم له. وإما أن يكون فعلا بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز ، أى وهو مكروه
لكم. وقرأ السلمى ـ بالفتح ـ على أن يكون بمعنى المضموم ، كالضعف والضعف ، ويجوز
أن يكون بمعنى الإكراه على طريق المجاز ، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له
ومشقته عليهم. ومنه قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) ، وعلى قوله تعالى
: (وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً) جميع ما كلفوه ، فإن النفوس تكرهه وتنفر عنه وتحب خلافه (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما يصلحكم وما هو خير لكم (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ذلك.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ
يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢١٨)
بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم عبد الله بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصد عيراً لقريش فيها عمرو بن عبد
الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة
الطائف ، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : قد
استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويبذعرّ فيه الناس إلى معايشهم فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم
العير ، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، وردّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى ، وعن ابن عباس رضى الله عنه : لما نزلت
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة. والمعنى : يسألك الكفار أو المسلمون عن
القتال في الشهر الحرام. و (قِتالٍ فِيهِ) بدل الاشتمال من الشهر. وفي
__________________
قراءة عبد الله :
عن قتال فيه ، على تكرير العامل ، كقوله : (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) وقرأ عكرمة : قتل فيه قل قتل فيه كبير ، أى إثم كبير. وعن
عطاء : أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام؟ فحلف بالله ما يحل للناس أن يغزوا في
الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه ، وما نسخت. وأكثر الأقاويل على
أنها منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ) مبتدأ وأكبر خبره ، يعنى وكبائر قريش من صدّهم عن سبيل
الله وعن المسجد الحرام ، وكفرهم بالله وإخراج أهل المسجد الحرام وهم رسول الله والمؤمنون
(أَكْبَرُ عِنْدَ
اللهِ) مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل
الخطأ والبناء على الظن (وَالْفِتْنَةُ) الإخراج أو الشرك. والمسجد الحرام : عطف على سبيل الله ،
ولا يجوز أن يعطف على الهاء في : (بِهِ). (وَلا يَزالُونَ
يُقاتِلُونَكُمْ) إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها
حتى يردّوهم عن دينهم ، وحتى معناها التعليل كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل
الجنة ، أى يقاتلونكم كى يردّوكم. و (إِنِ اسْتَطاعُوا) استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوّه : إن ظفرت بى فلا
تبق علىَّ. وهو واثق بأنه لا يظفر به (وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ) ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ويطاوعهم على ردّه إليه (فَيَمُتْ) على الردّة (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لما يفوتهم بإحداث الردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات
الإسلام ، وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة. وبها احتج الشافعي على أن
الردّة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها. وعند أبى حنيفة أنها تحبطها وإن رجع
مسلماً. (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) روى أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي ، ظنّ
قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر ، فنزلت (أُولئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَتَ اللهِ) وعن قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمّة ، ثم جعلهم الله أهل
رجاء كما تسمعون. وإنه من رجا طلب ، ومن خاف هرب.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ
تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ
وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٠)
نزلت في الخمر
أربع آيات نزلت بمكة : (وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
__________________
سَكَراً)
فكان المسلمون
يشربونها وهي لهم حلال. ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا ؛ يا رسول الله
، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ
لِلنَّاسِ) فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً
منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت :
«لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» فقل من يشربها. ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم
سعد بن أبى وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار
فضربه أنصارى بلحى بعير فشجه موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال
عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) فقال عمر رضى الله عنه : انتهينا يا رب . وعن علىّ رضى الله عنه : لو وقعت قطرة في بئر فبنيت
مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ
__________________
لم أرعه. وعن ابن
عمر رضى الله عنهما : لو أدخلت أصبعى فيه لم تتبعني . وهذا هو الإيمان حقاً ، وهم الذين اتقوا الله حق تقاته.
والخمر : ما غلى واشتدّ وقذف بالزبد من عصير العنب ، وهو حرام ، وكذلك نقيع الزبيب
أو التمر الذي لم يطبخ ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم غلى واشتدّ ذهب خبثه ونصيب
الشيطان ، وحلّ شربه ما دون السكر إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب عند أبى حنيفة.
وعن بعض أصحابه : لأن أقول مراراً هو حلال ، أحبّ إلىّ من أن أقول مرة هو حرام ،
ولأن أخرّ من السماء فأتقطع قطعاً أحبّ إلىّ من أن أتناول منه قطرة. وعند أكثر
الفقهاء هو حرام كالخمر ، وكذلك كل ما أسكر من كل شراب. وسميت خمراً لتغطيتها
العقل والتمييز كما سميت سكراً لأنها تسكرهما ، أى تحجزهما ، وكأنها سميت بالمصدر
من «خمره خمراً» إذا ستره للمبالغة. والميسر : القمار ، مصدر من يسر ، كالموعد
والمرجع من فعلهما. يقال : يسرته ، إذا قمرته ، واشتقاقه من اليسر ، لأنه أخذ مال
الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب ، أو من اليسار. لأنه سلب يساره. وعن ابن
عباس رضى الله عنهما : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال :
أقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِى
أى يفعلون بى ما
يفعل الياسرون بالميسور. فإن قلت : كيف صفة الميسر؟ قلت : كانت لهم عشرة أقداح ،
وهي : الأزلام والأقلام ، والفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل
، والمعلى والمنيح والسفيح ، والوغد. لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها
ويجزءونها عشرة أجزاء. وقيل : ثمانية وعشرين إلا لثلاثة ، وهي المنيح والسفيح
والوغد. ولبعضهم :
لِىَ فِى
الدُّنْيَا سِهَامٌ
|
|
لَيْسَ فِيهِنَّ
رَبِيحُ
|
وَأسَامِيهِنَّ
وَغْدٌ
|
|
وَسَفِيحٌ
وَمنِيحُ
|
__________________
للفذ سهم ،
وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ؛
وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطة ، ويضعونها على يدي عدل ، ثم يجلجلها
ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ
النصيب الموسوم به ذلك القدح. ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم
ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها.
ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ، ويسمونه البرم. وفي حكم الميسر : أنواع
القمار ، من النرد والشطرنج وغيرهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إياكم
وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم » وعن علىّ رضى الله عنه : أنّ النرد والشطرنج من الميسر . وعن ابن سيرين : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر. والمعنى :
يسألونك عما في تعاطيهما ، بدليل قوله تعالى (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ
كَبِيرٌ) ، (وَإِثْمُهُما) وعقاب الإثم في تعاطيهما (أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِما) وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار ، والطرب فيهما ، والتوصل
بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم ، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم ،
وسلب الأموال بالقمار ، والافتخار على الأبرام . وقرئ : إثم كثير ـ بالثاء ـ وفي قراءة أبىّ : وإثمهما
أقرب. ومعنى الكثرة : أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة (الْعَفْوَ) نقيض الجهد ؛ وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد
واستفراغ الوسع ، قال :
خُذِى الْعَفْوَ مِنِّى تَسْتَدِيمِى مَوَدَّتِى
ويقال للأرض
السهلة : العفو. وقرئ بالرفع والنصب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنّ رجلا
أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال : خذها منى صدقة ، فأعرض عنه رسول
الله صلى
__________________
الله عليه وسلم ؛
فأتاه من الجانب الأيمن فقال مثله فأعرض عنه ، ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه
؛ فقال : هاتها مغضبا ، فأخذها فخذفه بها خذفا لو أصابه لشجه أو عقره ، ثم قال : «يجيء
أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى » (فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) إمّا أن يتعلق بتتفكرون ، فيكون المعنى : لعلكم تتفكرون
فيما يتعلق بالدارين ؛ فتأخذون بما هو أصلح لكم ؛ كما بينت لكم أنّ العفو أصلح من
الجهد في النفقة ، وتتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن
يكون إشارة إلى قوله : (وَإِثْمُهُما
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا. حتى لا تختاروا
النفع العاجل على النجاة من العقاب العظيم. وإمّا أن يتعلق بيبين على معنى : يبين
لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون ، لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً) اعتزلوا اليتامى وتحاموهم وتركوا مخالطتهم والقيام
بأموالهم والاهتمام بمصالحهم ، فشق ذلك عليهم وكاد يوقعهم في الحرج ، فقيل (إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أى مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من
مجانبتهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) وتعاشروهم ولم تجانبوهم (فهم) (فَإِخْوانُكُمْ) في الدين ، ومن حق الأخ أن يخالط أخاه ، وقد حملت المخالطة
على المصاهرة (وَاللهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أى لا يخفى على الله من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على
حسب مداخلته ، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَعْنَتَكُمْ) لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم
مداخلتهم. وقرأ طاوس : قل إصلاح إليهم. ومعناه إيصال الصلاح وقرئ : لعنتكم ، بطرح
الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وكذلك (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) . (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه (حَكِيمٌ) لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم.
(وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
__________________
مِنْ
مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا
إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٢٢١)
(وَلا تَنْكِحُوا) وقرئ بضم التاء ، أى لا تتزوّجوهنّ أو لا تزوّجوهن. و (الْمُشْرِكاتِ) الحربيات ، والآية ثابتة. وقيل المشركات الحربيات
والكتابيات جميعاً ، لأن أهل الكتاب من أهل الشرك ، لقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله تعالى: (سُبْحانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ) ، وهي منسوخة بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط ، وهو قول
ابن عباس والأوزاعى. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبى مرثد
الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها
عناق ، فأتته وقالت : ألا نخلو؟ فقال : ويحك! إن الإسلام قد حال بيننا. فقالت :
فهل لك أن تتزوّج بى؟ قال : نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستأمره ، فاستأمره فنزلت (وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ) ولامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة ، وكذلك (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) لأنّ الناس كلهم عبيد الله وإماؤه (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبونها ، فإنّ المؤمنة
خير منها مع ذلك (أُولئِكَ) إشارة إلى المشركات والمشركين ، أى يدعون إلى الكفر فحقهم
أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) يعنى وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة (وَالْمَغْفِرَةِ) وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم ، وأن
يؤثروا على غيرهم (بِإِذْنِهِ) بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة.
وقرأ الحسن : والمغفرة بإذنه ـ بالرفع ـ أى والمغفرة حاصلة بتيسيره.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
__________________
التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(٢٢٣)
(الْمَحِيضِ) مصدر. يقال : حاضت محيضا ، كقولك : جاء مجيئا وبات مبيتا (قُلْ هُوَ أَذىً) أى الحيض شيء يستقذر ويؤذى من يقربه نفرة منه وكراهة له (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) فاجتنبوهنّ ؛ يعنى فاجتنبوا مجامعتهنّ. روى أنّ أهل
الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش
ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس ، فلما نزلت أخذ المسلمون بظاهر
اعتزالهنّ فأخرجوهنّ من بيوتهم ، فقال ناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد
والثياب قليلة ، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت ؛ وإن استأثرنا بها هلكت
الحيض : فقال عليه الصلاة والسلام : إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ،
ولم يأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم . وقيل : إنّ النصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض ،
واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين ، وبين
الفقهاء خلاف في الاعتزال ، فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه
الإزار ، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج ، وروى محمد حديث عائشة رضى
الله عنها : أنّ عبد الله بن عمر سألها : هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت :
تشدّ إزارها على سفلتها ، ثم ليباشرها إن شاء . وما روى زيد بن أسلم أنّ رجلا سأل النبىّ صلى الله عليه
وسلم : ما يحلّ لي من امرأتى وهي حائض؟ قال : لتشدّ عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها ، ثم قال : وهذا قول أبى حنيفة. وقد جاء ما هو أرخص من هذا
عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك . وقرئ (يطهرن) بالتشديد ، أى يتطهرن ، بدليل قوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) وقرأ عبد الله : حتى يتطهرن. ويطهرن بالتخفيف. والتطهر :
الاغتسال. والطهر : انقطاع دم الحيض. وكلتا
__________________
القراءتين مما يجب
العمل به ، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن
لم تغتسل ، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضى عليها وقت صلاة. وذهب
الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتطهر ، فتجمع بين الأمرين ، وهو قول واضح.
ويعضده قوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ). (مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ) من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى يندر منهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) المتنزهين عن الفواحش. أو إنّ الله يحبّ التوّابين الذين
يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب ، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار : كمجامعة
الحائض والطاهر قبل الغسل ، وإتيان ما ليس بمباح ، وغير ذلك (حَرْثٌ لَكُمْ) مواضع الحرث لكم. وهذا مجاز ، شبهن بالمحارث تشبيها لما
يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور. وقوله (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تمثيل ، أى فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن
تحرثوها من أى جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى : جامعوهن من أى شق
أدرتم بعد أن يكون المأتى واحداً وهو موضع الحرث. وقوله : (هُوَ أَذىً ، فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) ، (مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ) ، (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ) من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة. وهذه وأشباهها
في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدّبوا بها ويتكلفوا مثلها في
محاورتهم ومكاتبتهم. وروى أن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته وهي مجبية من
دبرها في قبلها كان ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال
كذبت اليهود ونزلت. (وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ) ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتكم
عنه. وقيل : هو طلب الولد ، وقيل : التسمية على الوطء (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تجترئوا على المناهي (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) فتزوّدوا ما لا تفتضحون به (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات. فإن
قلت : ما موقع قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) مما قبله؟ قلت : موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللهُ) يعنى أنّ المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث ، ترجمة
له وتفسيراً ، أو إزالة للشبهة ، ودلالة على أنّ الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب
النسل لا قضاء الشهوة. فلا تأتوهنّ إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض. فإن
قلت : ما بال (يَسْئَلُونَكَ) جاء بغير واو ثلاث مرات ، ثم مع الواو ثلاثاً؟
__________________
قلت : كان سؤالهم
عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرّقة ، فلم يؤت بحرف العطف لأنّ كل واحد من
السؤالات سؤال مبتدأ. وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع لذلك
، كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر ، والسؤال عن الإنفاق ،
والسؤال عن كذا وكذا.
(وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٢٥)
العرضة : فعلة
بمعنى مفعول ، كالقبضة والغرفة ، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على
الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه. تقول : فلان عرضة دون الخير.
والعرضة أيضاً : المعرض للأمر. قال :
فَلَا تَجْعَلُونِى عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ
ومعنى الآية على
الأولى : أنّ الرجل كان يحلف على بعض الخيرات ، من صلة رحم ، أو إصلاح ذات بين ،
أو إحسان إلى أحد ، أو عبادة ، ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يمينى ، فيترك
البرّ إرادة البرّ في يمينه ، فقيل لهم : (وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) أى حاجزاً لما حلفتم عليه. وسمى المحلوف عليه يميناً
لتلبسه باليمين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : «إذا
حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك» أى على شيء مما يحلف عليه. وقوله : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا) عطف بيان لأيمانكم ، أى للأمور المحلوف عليها التي هي البر
والتقوى والإصلاح بين الناس. فإن قلت : بم تعلقت اللام في لأيمانكم؟ قلت : بالفعل
، أى ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً وحجازاً. ويجوز أن يتعلق ب : (عُرْضَةً) لما فيها
__________________
من معنى الاعتراض
، بمعنى لا تجعلوه شيئا يعترض البر ، من اعترضني كذا. ويجوز أن يكون اللام للتعليل
، ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة ، أى ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة
لأن تبروا. ومعناها على الأخرى : ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة
الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه (وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلَّافٍ مَهِينٍ) بأشنع المذامّ
وجعل الحلاف مقدّمتها. وأن تبروا علة للنهى ، أى إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ،
لأن الحلاف مجترئ على الله ، غير معظم له ، فلا يكون براً متقياً ، ولا يثق به
الناس فلا يدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم. اللغو : الساقط الذي لا يعتد به
من كلام وغيره. ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل «لغو» واللغو من
اليمين : الساقط الذي لا يعتدّ به في الأيمان ، وهو الذي لا عقد معه. والدليل عليه
(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) ، (بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ) واختلف الفقهاء فيه ، فعند أبى حنيفة وأصحابه هو أن يحلف
على الشيء يظنه على ما حلف عليه ، ثم يظهر خلافه. وعند الشافعي : هو قول العرب :
لا والله ، وبلى والله ، بما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف. ولو قيل
لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك ، ولعله قال : لا والله
ألف مرة. وفيه معنيان : أحدهما (لا يُؤاخِذُكُمُ) أى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن ، ولكن
يعاقبكم بما كسبت قلوبكم ، أى اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين ، وهو أن
يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس. والثاني (لا يُؤاخِذُكُمُ) أى لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ، ولكن
يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم ، أى بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان ، ولم يكن
كسب اللسان وحده (وَاللهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ) حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ
اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ
أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٨)
قرأ عبد الله :
آلوا من نسائهم. وقرأ ابن عباس : يقسمون من نسائهم : فإن قلت : كيف عدى بمن ، وهو
معدى بعلى؟ قلت : قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون
من نسائهم مؤلين
أو مقسمين. ويجوز أن يراد لهم (مِنْ نِسائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) كقوله : لي منك كذا. والإيلاء من المرأة أن يقول : والله
لا أقربك أربعة أشهر فصاعداً على التقليد بالأشهر. أو لا أقربك على الإطلاق. ولا
يكون في مادون أربعة أشهر ، إلا ما يحكى عن إبراهيم النخعي. وحكم ذلك : أنه إذا
فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكنه أو بالقول إن عجز : صح الفيء ، وحنث
القادر ، ولزمته كفارة اليمين ، ولا كفارة على العاجز. وإن مضت الأربعة بانت
بتطليقة عند أبى حنيفة. وعند الشافعي : لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر
ثم يوقف المولى ، فإما أن يفيء وإما أن يطلق وإن أبى طلق عليه الحاكم. ومعنى قوله (فَإِنْ فاؤُ) فإن فاءوا في الأشهر ، بدليل قراءة عبد الله : فإن فاءوا
فيهن (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء
بالإيلاء وهو الغالب ، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد
من الغيل ، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) فتربصوا إلى مُضىِّ المدة (فَإِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعلى قول الشافعي رحمه
الله معناه : فإن فاءوا ، وإن عزموا بعد مضى المدة. فإن قلت : كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة
قبل انتهاء مدّة التربص؟ قلت : موقع صحيح لأن قوله : (فَإِنْ فاؤُ) ، (وَإِنْ عَزَمُوا) تفصيل لقوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ) والتفصيل
__________________
يعقب المفصل ، كما
تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر ، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره ، وإلا لم أقم إلا
ريثما أتحوّل. فإن قلت : ما تقول في قوله : (فَإِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت : الغالب أن العازم
للطلاق وترك الفيئة والضرار ، لا يخلو من مقاولة ودمدمة ولا بد له من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك ، وذلك حديث لا
يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان (وَالْمُطَلَّقاتُ) أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء. فإن قلت : كيف جازت
إرادتهن خاصة واللفظ يقتضى العموم؟ قلت : بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله
وبعضه ، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. فإن قلت : فما معنى الإخبار عنهن
بالتربص؟ قلت : هو خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام : وليتربص المطلقات ، وإخراج
الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر ، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى
امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص ، فهو يخبر عنه موجوداً. ونحوه قولهم في
الدعاء : رحمك الله ، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة ، كأنما وجدت الرحمة فهو
يخبر عنها ، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد. ولو قيل : ويتربص
المطلقات ، لم يكن بتلك الوكادة. فإن قلت : هلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء ، كما قيل
__________________
تربص أربعة أشهر؟
وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت : في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن
فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن ، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال
، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص. والقروء : جمع
قرء أو قرء ، وهو الحيض ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : «دعى الصلاة أيام
أقرائك» وقوله : «طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان» ولم يقل طهران. وقوله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ) فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار. ولأن الغرض الأصيل
في العدة استبراء الرحم ، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر ، ولذلك كان
الاستبراء من الأمة بالحيضة. ويقال : أقرأت المرأة ، إذا حاضت. وامرأة مقرئ. وقال
أبو عمرو بن العلاء : دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها ، أى تمسكها عندها حتى
تحيض للاستبراء. فإن قلت : فما تقول : في قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) والطلاق الشرعي ، إنما هو في الطهر؟ قلت : معناه :
مستقبلات لعدتهن ، كما تقول : لقيته لثلاث بقين من الشهر ، تريد مستقبلا لثلاث ،
وعدتهنّ الحيض الثلاث. فإن قلت : فما تقول في قول الأعشى :
لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا؟
قلت : أراد : لما
ضاع فيها من عدّة نسائك ، لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن ، أى من مدّة طويلة
كالمدة التي تعتد فيها النساء ، استطال مدة غيبته عن أهله كل عام لاقتحامه في
الحروب والغارات. وأنه تمرّ على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها ، أو
أراد من أوقات نسائك ،
__________________
فإنّ القرء
والقارئ جاءا في معنى الوقت ، ولم يرد لا حيضاً ولا طهراً. فإن قلت : فعلام انتصب (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)؟ قلت : على أنه مفعول به كقولك : المحتكر يتربص الغلاء ،
أى يتربصن مضىّ ثلاثة قروء ، أو على أنه ظرف ، أى يتربصن مدة ثلاثة قروء. فإن قلت
: لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت : يتسعون في ذلك
فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية. ألا ترى إلى قوله
: (بِأَنْفُسِهِنَّ) وما هي إلا نفوس كثيرة ، ولعل القروء كانت أكثر استعمالا
في جمع قرء من الأقراء ، فأوثر عليه تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل ، فيكون
مثل قولهم : ثلاثة شسوع. وقرأ الزهري : ثلاثة قرو ، بغير همزة. (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) من الولد أو من دم الحيض. وذلك إذا أرادت المرأة فراق
زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك
تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض : قد طهرت ، استعجالا للطلاق. ويجوز أن
يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك ،
فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تعظيم لفعلهن ، وأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على
مثله من العظائم. والبعولة : جمع بعل ، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في الحزونة
والسهولة. ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك : بعل حسن البعولة ، يعنى : وأهل
بعولتهن (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) برجعتهن. وفي قراءة أبىّ : بردّتهن (فِي ذلِكَ) في مدة ذلك التربص. فإن قلت : كيف جُعلوا أحق بالرجعة ،
كأن للنساء حقاً فيها؟ قلت : المعنى أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب
إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها ، إلا أن لها حقاً في الرجعة (إِنْ أَرادُوا) بالرجعة (إِصْلاحاً) لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارّتهنّ (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) ويجب لهنّ من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهنّ (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما
ليس لهنّ ولا يكلفونهنّ ما ليس لهم ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه. والمراد بالمماثلة
مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة ، لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت
ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ، ولكن يقابله بما يليق بالرجال (دَرَجَةٌ) زيادة في الحق وفضيلة. قيل المرأة تنال من اللذة ما ينال
الرجل ، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها.
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما
حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ
يُقِيما
حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ
فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٢٣٠)
(الطَّلاقُ) بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ، أى التطليق الشرعي
تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ، ولم يرد بالمرتين
التثنية ولكن التكرير ، كقوله : (ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أى كرّة بعد كرّة ، لا كرّتين اثنتين. ونحو ذلك من التثانى
التي يراد بها التكرير قولهم : لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك ودواليك. وقوله تعالى (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ) تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون ، بين أن يمسكوا النساء
بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم. وقيل
: معناه الطلاق الرجعى مرّتان ، لأنه لا رجعة بعد الثلاث ، فإمساك بمعروف أى برجعة
، أو تسريح بإحسان أى بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة ، أو بأن لا يراجعها مراجعة
يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها. وقيل : بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث.
وروى أنّ سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة
والسلام : «أو تسريح بإحسان» وعند أبى حنيفة وأصحابه : الجمع بين التطليقتين والثلاث
بدعة ، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه ، لما روى في
حديث ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «إنما السنة أن تستقبل
الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة » وعند الشافعي. لا بأس بإرسال الثلاث ، لحديث العجلاني
الذي
__________________
لا عن امرأته
فطلقها ثلاثاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه . روى أنّ جميلة بنت عبد الله بن أبىّ كانت تحت ثابت بن قيس
بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا
رسول الله ، لا أنا ولا ثابت ، لا يجمع رأسى ورأسه شيء ، والله ما أعيب عليه في
دين ولا خلق ، ولكنى أكره الكفر في الإسلام ، ما أطيقه بغضاً ، إنى رفعت جانب
الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً.
فنزلت ، وكان قد أصدقها حديقة فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام . فإن قلت : لمن الخطاب في قوله (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا)؟ إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللهِ) وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا
بمؤتيهن؟ قلت : يجوز الأمران جميعاً : أن يكون أوّل الخطاب للأزواج ، وآخره للأئمة
والحكام ، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره ، وأن يكون الخطاب كله للأئمة
والحكام ، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم ، فكأنهم الآخذون
والمؤتون (مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَ) مما أعطيتموهنّ من الصدقات (إِلَّا أَنْ يَخافا
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من
مواجب الزوجية ، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما)
__________________
فلا جناح على
الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت (فِيمَا افْتَدَتْ
بِهِ) فيما فدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر.
والخلع بالزيادة على المهر مكروه وهو جائز في الحكم. وروى أن امرأة نشزت على زوجها
فرفعت إلى عمر رضى الله عنه ، فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال : كيف
وجدت مبيتك؟ قالت : ما بت منذ كنت عنده أقرّ لعيني منهن. فقال لزوجها : اخلعها ولو
بقرطها . قال قتادة : يعنى بمالها كله ، هذا إذا كان النشوز منها ،
فإن كان منه كره له أن يأخذ منها شيئا. وقرئ إلا أن يخافا ، على البناء للمفعول
وإبدال أن لا يقيما من ألف الضمير ، وهو من بدل الاشتمال كقولك : خيف زيد تركه
إقامة حدود الله. ونحوه (وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ويعضده قراءة عبد الله (إلا أن تخافوا) وفي قراءة أبىّ :
إلا أن يظنا. ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن.
يقولون : أخاف أن
يكون كذا ، وأفرق أن يكون ، يريدون أظن (فَإِنْ طَلَّقَها) الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) واستوفى نصابه. أو فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرّتين (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) من بعد ذلك التطليق (حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ) حتى تتزوّج غيره ، والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى
الرجل كما التزوج. ويقال : فلانة ناكح في بنى فلان. وقد تعلق من اقتصر على العقد
في التحليل بظاهره وهو سعيد ابن المسيب. والذي عليه الجمهور أنه لا بد من الإصابة
، لما روى عروة عن عائشة رضى الله عنها أنّ امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني فبت طلاقى وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوّجنى ،
وإنما معه مثل هدبة الثوب وإنه طلقني قبل أن يمسني ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك . وروى أنها لبثت ما شاء الله ، ثم رجعت فقالت : إنه كان قد
مسنى ، فقال لها : كذبت في قولك الأوّل ، فلن أصدّقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر رضى الله عنه فقالت : أأرجع إلى زوجي الأوّل
، فقال : قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال ، فلا ترجعى
إليه ، فلما قبض أبو بكر رضى الله عنه قالت مثله لعمر رضى الله عنه فقال : إن
أتيتينى بعد مرّتك هذه لأرجمنك ، فمنعها. فإن قلت :
__________________
فما تقول في
النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت : ذهب سفيان والأوزاعى وأبو عبيد ومالك وغيرهم
إلى أنه غير جائز ، وهو جائز عند أبى حنيفة مع الكراهة. وعنه أنهما إن أضمرا
التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه لعن المحلل
والمحلل له . وعن عمر رضى الله عنه : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا
رجمتهما . وعن عثمان رضى الله عنه : لا إلا نكاح رغبة غير مدالسة . (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني. (أَنْ يَتَراجَعا) أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج (إِنْ ظَنَّا) إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل : إن
علما أنهما يقيمان ، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله عز وجل. ومن فسر
الظن هاهنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى ، لأنك لا تقول : علمت أن يقوم
زيد ، ولكن : علمت أنه يقوم ، ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنما يظن ظنا.
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا
تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢٣٢)
__________________
(فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) أى آخر عدتهن وشارفن منتهاها. والأجل يقع على المدّة كلها
، وعلى آخرها ، يقال لعمر الإنسان : أجل ، وللموت الذي ينتهى به : أجل ، وكذلك الغاية
والأمد ، يقول النحويون «من» لابتداء الغاية ، و «إلى» لانتهاء الغاية. وقال :
كُلُّ حَىٍ
مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْرِ
|
|
وَمُودٍ إذَا
انْتَهَى أمَدُهْ
|
ويتسع في البلوغ
أيضاً فيقال : بلغ البلد إذا شارفه وداناه. ويقال : قد وصلت ، ولم يصل وإنما شارف
، ولأنه قد علم أنّ الإمساك بعد تقضى الأجل لا وجه له ، لأنها بعد تقضيه غير زوجة
له في غير عدّة منه ، فلا سبيل له عليها (فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ) فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وإما أن يخليها حتى تنقضي عدّتها وتبين من غير ضرار (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ، ثم
يراجعها لا عن حاجة ، ولكن ليطوّل العدة عليها ، فهو الإمساك ضراراً (لِتَعْتَدُوا) لتظلموهنّ. وقيل : لتلجئوهن إلى الافتداء (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها لعقاب الله (وَلا تَتَّخِذُوا
آياتِ اللهِ هُزُواً) أى جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها ، وارعوها حق
رعايتها ، وإلا فقد اتخذتموها هزواً ولعباً. ويقال لمن لم يجدّ في الأمر : إنما
أنت لاعب وهازئ. ويقال : كن يهودياً وإلا فلا تلعب بالتوراة. وقيل : كان الرجل
يطلق ويعتق ويتزوّج ويقول : كنت لاعباً. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «ثلاث
جدّهن جدّ وهزلهن جدّ : الطلاق والنكاح والرجعة (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ
وَالْحِكْمَةِ) من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها (يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم (فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) إما أن يخاطب به الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء
العدة ظلماً وقسراً ، ولحمية الجاهلية لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج.
والمعنى : أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ ، وإما أن يخاطب به
الأولياء في عضلهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ. روى أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل
أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل. وقيل : في جابر
__________________
ابن عبد الله حين
عضل بنت عم له. والوجه أن يكون خطاباً للناس ، أى لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه
إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين. والعضل : الحبس والتضييق. ومنه : عضلت
الدجاجة إذا نشب بيضها فلم نخرج. وأنشد لابن هرمة :
وَإنَّ
قَصَائِدِى لَكَ فَاصْطَنِعْنِى
|
|
عَقَائِلُ قَدْ
عَضُلْنَ عَنِ النِّكَاحِ
|
وبلوغ الأجل على
الحقيقة. وعن الشافعي رحمه الله : دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين (إِذا تَراضَوْا) إذا تراضى الخطاب والنساء (بِالْمَعْرُوفِ) بما يحسن بالدين والمروءة من الشرائط وقيل : بمهر المثل.
ومن مذهب أبى حنيفة رحمه الله أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فللأولياء أن
يعترضوا. فإن قلت : لمن الخطاب في قوله (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ)؟ قلت : يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل
أحد. ونحوه (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ). (أَزْكى لَكُمْ
وَأَطْهَرُ) من أدناس الآثام : وقيل (أَزْكى لَكُمْ
وَأَطْهَرُ) أفضل وأطيب (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في ذلك من الزكاء والطهر (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ، أو والله يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وأنتم
تجهلونه.
(وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ
أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ
أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا
سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٣)
(يُرْضِعْنَ) مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد (كامِلَيْنِ) توكيد كقوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ) لأنه مما يتسامح فيه فتقول : أقمت عند فلان حولين ، ولم
تستكملهما. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما : أن يكمل الرضاعة : وقرئ الرِّضاعة.
بكسر الراء. والرضعة. وأن تتم الرضاعة وأن يتم الرضاعة ، برفع الفعل تشبيهاً ل «أن»
ب «ما» لتأخيهما في التأويل. فإن قلت : كيف
__________________
اتصل قوله (لِمَنْ أَرادَ) بما قبله؟ قلت : هو بيان لمن توجه إليه الحكم ، كقوله
تعالى : (هَيْتَ لَكَ) لك بيان للمهيت به ، أى هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع.
وعن قتادة : حولين كاملين ، ثم أنزل الله اليسر والتخفيف فقال (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أراد أنه يجوز النقصان ، وعن الحسن : ليس ذلك بوقت لا ينقص
منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل : اللام متعلقة بيرضعن ، كما تقول : أرضعت
فلانة لفلان ولده ، أى يرضعن حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة من الآباء ، لأنّ
الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم
بإرضاعه ، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم عند أبى حنيفة
رحمه الله ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح. وعند الشافعي يجوز. فإذا انقضت عدّتها
جاز بالاتفاق. فان قلت : فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت : إما
أن يكون أمراً على وجه الندب ، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبى إلا ثدي أمه
، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار. وقيل : أراد الوالدات
المطلقات ، وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع (وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ) وعلى الذي يولد له وهو الوالد. و (لَهُ) في محل الرفع على الفاعلية ، نحو (عَلَيْهِمْ) في : (الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) فإن قلت لم قيل (الْمَوْلُودِ) له دون الوالد. قلت : ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم ،
لأن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد
:
فَإنَما
أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَةٌ
|
|
مُسْتَوْدَعَاتٌ
وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ
|
فكان عليهم أن
يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم ، كالأظآر. ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم
يكن هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : (وَاخْشَوْا يَوْماً
لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ، (بِالْمَعْرُوفِ) تفسيره ما يعقبه ، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في
وسعه ولا يتضارّا. وقرئ (لا تكلف) بفتح التاء ؛ و (لا نكلف) بالنون. وقرئ : (لا تُضَارَّ) بالرفع على
__________________
الإخبار ، وهو
يحتمل البناء للفاعل والمفعول ، وأن يكون الأصل : تضارر بكسر الراء ، وتضارر
بفتحها. وقرأ (لا تُضَارَّ) بالفتح أكثر القراء. وقرأ الحسن بالكسر على النهى ، وهو
محتمل للبناءين أيضاً. ويبين ذلك أنه قرئ لا تضارَرْ ، ولا تضارِرْ ، بالجزم وفتح
الراء الأولى وكسرها. وقرأ أبو جعفر : لا تضارّ ، بالسكون مع التشديد على نية
الوقف. وعن الأعرج (لا تضارْ) بالسكون والتخفيف ، وهو من ضاره يصيره. ونوى الوقف
كما نواه أبو جعفر ، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا. وعن كاتب عمر بن الخطاب :
لا تضرر. والمعنى : لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها ، وهو أن تعنف به وتطلب منه
ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول
بعد ما ألفها الصبى : اطلب له ظئراً ، وما أشبه ذلك ؛ ولا يضارّ مولود له امرأته
بسبب ولده ، بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ؛ ولا يأخذه منها وهي
تريد إرضاعه ، ولا يكرهها على الإرضاع. وكذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهى عن
أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج ، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب
الولد : ويجوز أن يكون (تُضَارَّ) بمعنى تضر ، وأن تكون الباء من صلته ، أى لا تضرّ والدة
بولدها ، فلا تسيء غذاءه وتعهده ، ولا تفرط فيما ينبغي له ، ولا تدفعه إلى الأب
بعد ما ألفها. ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في
حق الولد. فان قلت : كيف قيل بولدها وبولده؟ قلت : لما نهيت المرأة عن المضارة
أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه وأنه ليس بأجنبىّ منها ، فمن حقها أن تشفق
عليه وكذلك الوالد (وَعَلَى الْوارِثِ) عطف على قوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) ، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف
عليه. فكان المعنى : وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة ، أى
إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي
ذكرت من المعروف وتجنب الضرار. وقيل : هو وارث الصبى الذي لو مات الصبى ورثه.
واختلفوا ، فعند ابن أبى ليلى كل من ورثه ، وعند أبى حنيفة من كان ذا رحم محرم
منه. وعند الشافعي : لا نفقة فيما عدا الولاد. وقيل من ورثه من عصبته مثل الجد
والأخ وابن الأخ والعم وابن العمّ. وقيل : المراد وارث الأب وهو الصبى نفسه ، وأنه
إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له
مال أجبرت الأم على إرضاعه. وقيل (عَلَى الْوارِثِ) على الباقي من الأبوين من قوله : «واجعله الوارث منا» (فَإِنْ أَرادا
فِصالاً) صادراً (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما
وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك ، زادا على الحولين أو نقصا ، وهذه توسعة بعد
التحديد. وقيل : هو في غاية الحولين لا يتجاوز ، وإنما اعتبر تراضيهما
__________________
في الفصال
وتشاورهما : أمّا الأب فلا كلام فيه ، وأمّا الأمّ فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم
بحال الصبى. وقرئ (فإن أراد). استرضع : منقول من أرضع. يقال : أرضعت المرأة الصبى
، واسترضعتها الصبى ، لتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة ، واستنجحته
الحاجة. والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء
عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن
أحدهما عبارة عن الأوّل (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المراضع (ما آتَيْتُمْ) ما أردتم إيتاءه ، كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وقرئ : ما أتيتم ، من أتى إليه إحساناً إذا فعله. ومنه
قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ
وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أى مفعولا. وروى شيبان عن عاصم : ما أوتيتم ، أى ما آتاكم
الله وأقدركم عليه من الأجرة ، ونحوه (وَأَنْفِقُوا مِمَّا
جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) وليس التسليم بشرط للجواز والصحة ، وإنما هو ندب إلى
الأولى. ويجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون
، لتكون طيبة النفس راضية ، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبى واحتياطاً في أمره ،
فأمرنا بإيتائه ناجزاً يداً بيد ، كأنه قيل : إذا أدّيتم إليهن يداً بيد ما
أعطيتموهن (بِالْمَعْرُوفِ) متعلق بسلمتم ، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشرى
الوجوه ، ناطقين بالقول الجميل ، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن ، حتى يؤمن
تفريطهن بقطع معاذيرهن.
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي
أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا
تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ)(٢٣٥)
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) على تقدير حذف المضاف ، أراد : وأزواج الذين يتوفون منكم
يتربصن. وقيل : معناه يتربصن بعدهم ، كقولهم : السمن منوان بدرهم. وقرئ : يَتوفون
بفتح الياء
__________________
أى يستوفون آجالهم
، وهي قراءة على رضى الله عنه. والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشى خلف
جنازة ، فقال له رجل : من المتوفى ـ بكسر الفاء ، فقال الله تعالى. وكان أحد
الأسباب الباعثة لعلى رضى الله عنه على أن أمره بأن يضع كتابا في النحو ، تناقضه
هذه القراءة (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) يعتددن هذه المدّة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام ، وقيل عشراً
ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها ، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين
إلى الأيام.
تقول : صمت عشراً ، ولو ذكرت خرجت من كلامهم. ومن البين فيه قوله تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ثم (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا يَوْماً)(فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) فإذا انقضت عدّتهن (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة وجماعة المسلمين (فِيما فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَ) من التعرّض للخطاب (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى أنهن لو فعلن ما هو
منكر كان على الأئمة أن يكفوهنّ. وإن فرّطوا كان عليهم الجناح (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) هو أن يقول لها إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة ومن غرضي أن
أتزوّج ، وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة ، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد
نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، ولا يصرح بالنكاح ، فلا يقول : إنى أريد
أن أنكحك ، أو أتزوجك ، أو أخطبك. وروى ابن المبارك عن عبد الله بن سليمان عن
خالته قالت : دخل علىَّ أبو جعفر محمد بن على وأنا في عدتي فقال : قد علمت قرابتي
من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّى علىّ وقدمي في الإسلام ، فقلت : غفر
الله لك! أتخطبنى في عدّتى وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : أو قد فعلت! إنما أخبرتك بقرابتي
من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعى ، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبى سلمة فتوفى عنها ، فلم يزل يذكر لها منزلته من
الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها ، فما كانت
تلك خطبة . فإن قلت : أى فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت : الكناية أن
تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، كقولك : طويل النجاد والحمائل لطول القامة
__________________
وكثير الرماد
للمضياف. والتعريض أن تذكر شيأ تدل به على شيء لم تذكره ، كما يقول المحتاج
للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم. ولذلك قالوا :
وَحَسْبُكَ بِالتَّسلِيمِ مِنِّى تَقَاضِيَا
وكأنه إمالة
الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا
معرّضين ولا مصرحين (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهنّ ولا تصبرون
عنه ، وفيه طرف من التوبيخ كقوله : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ). فإن قلت : أين المستدرك بقوله (وَلكِنْ لا
تُواعِدُوهُنَ)؟ قلت : هو محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه ، تقديره : علم
الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ ، ولكن لا تواعدوهنّ سراً. والسر وقع كناية عن
النكاح الذي هو الوطء ، لأنه مما يسرّ. قال الأعشى :
وَلَا
تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إنَّ سِرَّهَا
|
|
عَلَيْكَ
حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أوْ تَأَبَّدَا
|
ثم عبر به عن
النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح (إِلَّا أَنْ
تَقُولُوا قَوْلاً
__________________
مَعْرُوفاً)
وهو أن تعرّضوا
ولا تصرحوا. فإن قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت : بلا تواعدوهنّ ، أى لا
تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة. أى لا تواعدوهنّ إلا بأن تقولوا
، أى لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض. ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من (سِرًّا) لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض. وقيل معناه :
لا تواعدوهن جماعا ، وهو أن يقول لها إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجرى بينهما
تحت اللحاف. إلا أن تقولوا قولا معروفا يعنى من غير رفث ولا إفحاش في الكلام. وقيل
لا تواعدوهن سراً : أى في السر على أنّ المواعدة في السرّ عبارة عن المواعدة بما
يستهجن ، لأن مسارّتهنّ في الغالب بما يستحيا من المجاهرة به. وعن ابن عباس رضى
الله عنهما (إِلَّا أَنْ
تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، هو أن يتواثقا أن لا تتزوّج غيره (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) من عزم الأمر وعزم عليه ، وذكر العزم مبالغة في النهى عن
عقدة النكاح في العدّة ، لأن العزم على الفعل يتقدّمه ، فإذا نهى عنه كان عن الفعل
أنهى ومعناه : ولا تعزموا عَقد عُقدة النكاح. وقيل : معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح
: وحقيقة العزم : القطع ، بدليل قوله عليه السلام «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من
الليل» وروى «لمن لم يبيت الصيام » (حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتابُ أَجَلَهُ) يعنى ما كتب وما فرض من العدّة (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على ما لا يجوز (فَاحْذَرُوهُ) ولا تعزموا عليه. (غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة.
(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ
إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ
فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٣٧)
(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا تبعة عليكم من إيجاب مهر (إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) ما لم تجامعوهنّ (أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلا أن تفرضوا لهن فريضة ، أو حتى تفرضوا ، وفرض الفريضة :
تسمية المهر. وذلك أن المطلقة غير المدخول بها إن سمى لها مهر فلها نصف المسمى ،
وإن لم يسم لها فليس لها نصف مهر المثل ولكن المتعة. والدليل على أن الجناح تبعة
المهر قوله :
__________________
(وإن طلقتموهن)
إلى قوله : (فَنِصْفُ ما
فَرَضْتُمْ) فقوله : فنصف ما فرضتم : إثبات للجناح المنفي ثمة ،
والمتعة درع وملحفة وخمار على حسب الحال عند أبى حنيفة ، إلا أن يكون مهر مثلها
أقل من ذلك. فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة ، ولا ينقص من خمسة دراهم ؛
لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها. و (الْمُوسِعِ) الذي له سعة. و (الْمُقْتِرِ) الضيق الحال. (وَقَدَّرَهُ) مقداره الذي يطيقه ، لأنّ ما يطيقه هو الذي يختص به. وقرئ
بفتح الدال. والقدْر والقدَر لغتان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل من
الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها مهراً ، ثم طلقها قبل أنّ يمسها : «أمتعتها»؟ قال
: لم يكن عندي شيء. قال : «متعها بقلنسوتك ». وعند أصحابنا لا تجب المتعة إلا لهذه وحدها ، وتستحب
لسائر المطلقات ولا تجب. (مَتاعاً) تأكيد لمتعوهن ، بمعنى تمتيعاً (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة (حَقًّا) صفة لمتاعا ، أى متاعا واجبا عليهم. أو حق ذلك حقاً (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع ، وسماهم قبل
الفعل محسنين كما قال صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه » (إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ) يريد المطلقات. فإن قلت : أى فرق بين قولك : الرجال يعفون.
والنساء يعفون؟ قلت : الواو في الأوّل ضميرهم ، والنون علم الرفع. والواو في
الثاني لام الفعل والنون ضميرهنّ ، والفعل مبنى لا أثر في لفظه للعامل وهو في محل
النصب «ويعفو : عطف على محله. و (الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ) الولىّ
__________________
يعنى إلا أن تعفو
المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر ، وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته
ولا استمتع بى فكيف آخذ منه شيئا ، أو يعفو الولىّ الذي يلي عقد نكاحهن ، وهو مذهب
الشافعي. وقيل هو الزوج ، وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملا ، وهو مذهب أبى حنيفة
والأوّل ظاهر الصحة. وتسمية الزيادة على الحق عفواً فيها نظر ، إلا أن يقال كان
الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوّج ، فإذا طلقها استحقّ أن يطالبها
بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها. أو سماه عفواً على طريق
المشاكلة. وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل لها
الصداق وقال : أنا أحق بالعفو. وعنه أنه دخل على سعد بن أبى وقاص فعرض عليه بنتاً
له فتزوّجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملا ، فقيل له : لم تزوّجتها؟
فقال : عرضها علىّ فكرهت ردّه ، قيل : فلم بعثت بالصداق؟ قال : فأين الفضل؟ و (الْفَضْلَ) التفضل. أى ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض وتتمرؤا ولا
تستقصوا : وقرأ الحسن : أن يعفو الذي ، بسكون الواو. وإسكان الواو والياء في موضع
النصب تشبيه لهما بالألف لأنهما أختاها. وقرأ أبو نهيك : وأن يعفو ، بالياء. وقرئ
: ولا تنسو الفضل ، بكسر الواو.
__________________
(حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(٢٣٩)
(الصَّلاةِ الْوُسْطى) أى الوسطى بين الصلوات ، أو الفضلى ، من قولهم للأفضل :
الأوسط.
وإنما أفردت وعطفت
على الصلاة لانفرادها بالفضل وهي صلاة العصر. وعن النبىّ صلى الله
عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله
بيوتهم ناراً » وقال عليه السلام «إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن
داود حتى توارت بالحجاب» وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف : إذا بلغت هذه
الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ،
فأملت عليه : والصلاة الوسطى صلاة العصر وروى عن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم : والصلاة الوسطى
وصلاة العصر ؛ بالواو.
__________________
فعلى هذه القراءة
يكون التخصيص لصلاتين : إحداهما الصلاة الوسطى ، إمّا الظهر ، وإمّا الفجر وإمّا
المغرب ، على اختلاف الروايات فيها ، والثانية : العصر ، وقيل : فضلها لما في
وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم. وعن ابن عمر رضى الله عنهما : هي صلاة
الظهر ، لأنها في وسط النهار ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهاجرة
، ولم تكن صلاة أشدّ على أصحابه منها. وعن مجاهد : هي الفجر لأنها بين صلاتي
النهار وصلاتي الليل. وعن قبيصة بن ذؤيب : هي المغرب ، لأنها وتر النهار ولا تنقص
في السفر من الثلاث : وقرأ عبد الله : وعلى الصلاة الوسطى : وقرأت عائشة رضى
الله عنها (والصلاة الوسطى) بالنصب على المدح والاختصاص. وقرأ نافع : الوصطى ،
بالصاد (وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة (قانِتِينَ) ذاكرين لله في قيامكم. والقنوت : أن تذكر الله قائما : وعن
عكرمة : كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا. وعن مجاهد : هو الركود وكف الأيدى والبصر.
وروى أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره أو يلتفت ، أو
يقلب الحصا ، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا (فَإِنْ خِفْتُمْ) فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره (فَرِجالاً) فصلوا راجلين ، وهو جمع راجل كقائم وقيام ، أو رجل. يقال :
رجل رجل ، أى راجل. وقرئ : فرجالا. بضم الراء ، ورجالا. بالتشديد ، ورجلا. وعند
أبى حنيفة رحمه الله : لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف : وعند
الشافعي رحمه الله : يصلون في كل حال ، والراكب يومئ ويسقط عنه التوجه إلى القبلة (فَإِذا أَمِنْتُمْ) فإذا زال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللهَ
كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من صلاة الأمن ، أو فإذا أمنتم فاشكروا الله على الأمن ،
واذكروه بالعبادة ، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع ، وكيف تصلون في حال
الخوف وفي حال الأمن.
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً
إِلَى الْحَوْلِ
__________________
غَيْرَ
إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٤٠)
تقديره فيمن قرأ
وصية بالرفع : ووصية الذين يتوفون ، أو وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم ، أو
والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم. وفيمن قرأ بالنصب : والذين يتوفون يوصون وصية ،
كقولك : إنما أنت سير البريد ، بإضمار تسير. أو والزم الذين يتوفون وصية. وتدل
عليه قراءة عبد الله : كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول ، مكان قوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) وقرأ أبىّ : متاع لأزواجهم متاعا. وروى عنه : فمتاع
لأزواجهم. ومتاعا نضب بالوصية ، إلا إذا أضمرت يوصون ، فإنه نصب بالفعل. وعلى
قراءة أبىّ متاعا نصب بمتاع ، لأنه في معنى التمتيع ؛ كقولك : الحمد لله حمد
الشاكرين ، وأعجبنى ضرب لك زيداً ضربا شديداً. و (غَيْرَ إِخْراجٍ) مصدر مؤكد ، كقولك : هذا القول غير ما تقول. أو بدل من
متاعاً. أو حال من الأزواج ، أى غير مخرجات. والمعنى أن حق الذين يتوفون عن
أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا ، أى ينفق
عليهنّ من تركته ولا يخرجن من مساكنهن ، وكان ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخت المدة
بقوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً) وقيل : نسخ ما زاد منه على هذا المقدار ، ونسخت النفقة
بالإرث الذي هو الربع والثمن. واختلف في السكنى ، فعند أبى حنيفة وأصحابه : لا
سكنى لهن (فِيما فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَ) من التزين والتعرض للخطاب (مِنْ مَعْرُوفٍ) مما ليس بمنكر شرعاً. فإن قلت : كيف نسخت الآية المتقدمة
المتأخرة؟ قلت : قد تكون الآية متقدّمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل ، كقوله
تعالى : (سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ) مع قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّماءِ).
(وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٢٤٢)
(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن
وهي المطلقة غير المدخول بها ، وقال (حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ) كما قال ثمة : حقاً على المحسنين. وعن سعيد بن جبير وأبى
العاليه والزهري : أنها واجبة لكل مطلقة. وقيل قد تناولت التمتيع الواجب والمستحب
جميعاً. وقيل : المراد بالمتاع نفقة العدة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ
لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٤٤)
(أَلَمْ تَرَ) تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين ،
وتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع ، لأنّ هذا الكلام جرى مجرى
المثل في معنى التعجيب. روى أنّ أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيهم الطاعون
فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم الله
وقضائه. وقيل : مرّ عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرّقت أوصالهم
فلوى شدقه وأصابعه تعجبا مما رأى ، فأوحى إليه : ناد فيهم أن قوموا بإذن الله ،
فنادى ، فنظر إليهم قياما يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وقيل : هم
قوم من بنى إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت ، فأماتهم الله
ثمانية أيام ثم أحياهم (وَهُمْ أُلُوفٌ) فيه دليل على الألوف الكثيرة. واختلف في ذلك ، فقيل عشرة ،
وقيل ثلاثون ، وقيل سبعون. ومن بدع التفاسير (أُلُوفٌ) متألفون ، جمع آلف كقاعد وقعود. فإن قلت : ما معنى قوله (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا)؟ قلت : معناه فأماتهم ، وإنما جيء به على هذه العبارة
للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك ميتة خارجة عن
العادة ، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف ، كقوله تعالى :
(إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأنّ
الموت إذا لم يكن منه بدٌّ ولم ينفع منه مفر ، فأولى أن يكون في سبيل الله (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون ، كما بصر أولئك ،
وكما بصركم باقتصاص خبرهم. أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا
، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على
الجهاد : ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ سَمِيعٌ) يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون (عَلِيمٌ) بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء.
(مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ
يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢٤٥)
إقراض الله : مثل
لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه. والقرض الحسن : إما المجاهدة في نفسها ،
وإما النفقة في
سبيل الله (أَضْعافاً كَثِيرَةً) قيل : الواحد بسبعمائة. وعن السدى : كثيرة لا يعلم كنهها
إلا الله (وَاللهُ يَقْبِضُ
وَيَبْصُطُ) يوسع على عباده ويقتر ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا
يبدلكم الضيقة بالسعة (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدّمتم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ)(٢٤٦)
(لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو يوشع أو شمعون أو اشمويل (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه
وننتهي إلى أمره ، طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها ، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره. وروى
أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم (نُقاتِلْ) قرئ بالنون والجزم على الجواب. وبالنون والرفع على أنه حال
، أى ابعثه لنا مقدّرين القتال. أو استئناف كأنه قال لهم : ما تصنعون بالملك؟
فقالوا : نقاتل. وقرئ : يقاتل بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة
لملكا. وخبر عسيتم (أَلَّا تُقاتِلُوا) والشرط فاصل بينهما. والمعنى : هل قاربتم أن لا تقاتلوا؟
يعنى هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول : عسيتم أن لا تقاتلوا ،
بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال ، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون. وأراد
بالاستفهام التقرير ، وتثبيت أنّ المتوقع كائن ، وأنه صائب في توقعه ، كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ) معناه التقرير. وقرئ (عسيتم) بكسر السين وهي ضعيفة (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) وأىّ داع لنا إلى ترك القتال ، وأى غرض لنا فيه (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا
وَأَبْنائِنا) وذلك أنّ قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر
وفلسطين ، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين (إِلَّا قَلِيلاً
مِنْهُمْ) قيل كان القليل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد.
__________________
(وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ
بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ
واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٤٧)
(طالُوتَ) اسم أعجمى كجالوت وداود. وإنما امتنع من الصرف لتعريفه
وعجمته ، وزعموا أنه من الطوال لما وصف به من البسطة في الجسم. ووزنه إن كان من
الطول «فعلوت» منه ، أصله طولوت ، إلا أنّ امتناع صرفه يدفع أن يكون منه ، إلا أن
يقال : هو اسم عبراني وافق عربيا ، كما وافق حنطا حنطة ، وبشمالا لها رخمانا رخيما
بسم الله الرحمن الرحيم ، فهو من الطول كما لو كان عربيا ، وكان أحد سببيه العجمة
لكونه عبرانيا (أَنَّى) كيف ومن أين ، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له. فإن
قلت : ما الفرق بين الواوين في : (وَنَحْنُ أَحَقُّ) ، (وَلَمْ يُؤْتَ)؟ قلت : الأولى للحال ، والثانية لعطف الجملة على الجملة
الواقعة حالا ، قد انتظمتهما معا في حكم واو الحال. والمعنى : كيف يتملك علينا
والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك ، وأنه فقير ولا بدّ للملك من
مال يعتضد به. وإنما قالوا ذلك لأنّ النبوّة كانت في سبط لاوى بن يعقوب والملك في
سبط يهوذا ولم يكن طالوت من أحد السبطين ، ولأنه كان رجلا سقاء أو دباغا فقيراً.
وروى أنّ نبيهم دعا الله تعالى حين طلبوا منه ملكا ، فأتى بعصا يقاس بها من يملك
عليهم ، فلم يساوها إلا طالوت (قالَ إِنَّ اللهَ
اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) يريد أنّ الله هو الذي اختاره عليكم ، وهو أعلم بالمصالح
منكم ولا اعتراض على حكم الله. ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال
وهما العلم المبسوط والجسامة. والظاهر أنّ المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله
من أمر الحرب. ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها. وقيل : قد أوحى إليه ونبئ ،
وذلك أنّ الملك لا بدّ أن يكون من أهل العلم ، فإنّ الجاهل مزدرى غير منتفع به ،
وأن يكون جسيما يملأ العين جهارة لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب. والبسطة :
السعة والامتداد. وروى أن الرجل القائم كان يمدّ يده فينال رأسه (يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أى الملك له غير منازع فيه ، فهو يؤتيه من يشاء : من
يستصلحه للملك (وَاللهُ واسِعٌ)
__________________
الفضل والعطاء ، يوسع
على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر (عَلِيمٌ) بمن يصطفيه للملك.
(وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢٤٨)
(التَّابُوتُ) صندوق التوراة. وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدّمه
فكانت تسكن نفوس بنى إسرائيل ولا يفرّون. والسكينة : السكون والطمأنينة ، وقيل :
هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت ، لها رأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه وجناحان ،
فتئن فيزف التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه ، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل
النصر ، وعن علىّ رضى الله عنه : كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة (وَبَقِيَّةٌ) هي رضاض الألواح وعصى موسى وثيابه وشيء من التوراة ، وكان
رفعه الله تعالى بعد موسى عليه السلام فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ،
فكان ذلك آية لاصطفاء الله طالوت. وقيل : كان مع موسى ومع أنبياء بنى إسرائيل بعده
يستفتحون به ، فلما غيرت بنو إسرائيل غلبهم عليه الكفار فكان في أرض جالوت ، فلما
أراد الله أن يملك طالوت أصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن ، فقالوا : هذا بسبب
التابوت بين أظهرنا ، فوضعوه على ثورين ، فساقهما الملائكة إلى طالوت. وقيل كان من
خشب الشمشار مموّها بالذهب. نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين. وقرأ أبىّ وزيد بن
ثابت : التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار. فإن قلت : ما وزن التابوت؟ قلت : لا يخلو
من أن يكون فعلوتا أو فاعولا ، فلا يكون «فاعولا» لقلته ، نحو : سلس وقلق ،
ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه ، فهو إذاً «فعلوت» من التوب ،
وهو الرجوع ؛ لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه
، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته. وأمّا من قرأ بالهاء فهو «فاعول»
عنده ، إلا فيمن جعل هاءه بدلا من التاء ، لاجتماعهما في الهمس وأنهما من حروف
الزيادة. ولذلك أبدلت من تاء التأنيث. وقرأ أبو السمال : سكينة ، بفتح السين
والتشديد وهو غريب. وقرئ : يحمله ، بالياء. فإن قلت : مَن (آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ)؟ قلت : الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما.
__________________
لأن عمران هو ابن
قاهث بن لاوى بن يعقوب فكان أولاد يعقوب آلهما. ويجوز أن يراد : مما تركه موسى
وهرون. والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
(فَلَمَّا فَصَلَ
طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ
مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ
اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا
جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ
بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ
مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ)(٢٤٩)
(فَصَلَ) عن موضع كذا : إذا انفصل عنه وجاوزه ، وأصله : فصل نفسه ،
ثم كثر محذوف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل. وقيل : فصل عن البلد
فصولا. ويجوز أن يكون : فصله فصلا ، وفصل فصولا كوقف وصدّ ونحوهما. والمعنى :
انفصل عن بلده (بِالْجُنُودِ) روى أنه قال لقومه : لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه
، ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا رجل متزوّج بامرأة لم يبن عليها ، ولا أبتغى إلا
الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفا ، وكان الوقت قيظا
وسلكوا مفازة ، فسألوا أن يجرى الله لهم نهراً ، ف (قالَ إِنَّ اللهَ
مُبْتَلِيكُمْ) بما اقترحتموه من النهر (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه (فَلَيْسَ مِنِّي) فليس بمتصل بى ومتحد معى ، من قولهم : فلان منى ، كأنه
بعضه ؛ لاختلاطهما واتحادهما. ويجوز أن يراد فليس من جملتي وأشياعى (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) ومن لم يذقه ، من طعم الشيء ، إذا ذاقه. ومنه طعم الشيء ،
لمذاقه. قال :
وَإنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نَقَاخًا وَلَا بَرْدَا
ألا ترى كيف عطف
عليه البرد وهو النوم. ويقال : ما ذقت غماضا. ونحوه من الابتلاء :
__________________
ما ابتلى الله به
أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرَّعا ، بل هو أشد منه وأصعب. وإنما عرف
ذلك طالوت بإخبار من النبي. وإن كان نبيا ـ كما يروى عن بعضهم ـ فبالوحى. وقرئ (بنهر)
بالسكون. فإن قلت : ممَّ استثنى قوله (إِلَّا مَنِ
اغْتَرَفَ)؟ قلت : من قوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي) والجملة الثانية في حكم المتأخرة ، إلا أنها قدّمت للعناية
كما قدم (وَالصَّابِئُونَ) في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) ومعناه : الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع ،
والدليل عليه قوله (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أى فكرعوا فيه (إِلَّا قَلِيلاً
مِنْهُمْ) وقرئ (غرفة) بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف.
وقرأ أبىّ والأعمش : إلا قليل ، بالرفع. وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن
اللفظ جانباً ، وهو باب جليل من علم العربية. فلما كان معنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معنى فلم يطيعوه ، حمل عليه ، كأنه قيل : فلم يطيعوه
إلا قليل منهم. ونحوه قول الفرزدق :
............... لمْ يَدَعْ
|
|
مِنَ الْمَالِ
إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ
|
كأنه قال : لم يبق
من المال إلا مسحت أو مجلف. وقيل : لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر
__________________
رجلا (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعنى القليل (قالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ) يعنى الخلص منهم الذين نصبوا بين أعينهم لقاء الله وأيقنوه.
أو الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله ، والمؤمنون مختلفون في قوة
اليقين ونصوع البصيرة. وقيل : الضمير في : (قالُوا لا طاقَةَ
لَنَا) للكثير الذين انخذلوا ، والذين يظنون هم القليل الذين
ثبتوا معه ، كأنهم تقاولوا بذلك والنهر بينهما. يظهر أولئك عذرهم في الانخذال ،
ويرد عليهم هؤلاء ما يعتذرون به. وروى أنّ الغرفة كانت تكفى الرجل لشربه وإداوته
والذين شربوا منه اسودّت شفاههم وغلبهم العطش.
(وَلَمَّا بَرَزُوا
لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ
أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(٢٥١)
و (بِجالُوتَ) جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد ، وكانت بيضته
فيها ثلاثمائة رطل (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحر من قوّة القلوب وإلقاء
الرعب في قلب العدو ونحو ذلك من الأسباب. كان أيشى أبو داود في عسكر طالوت مع ستة
من بنيه ، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحى إلى اشمويل أنّ داود بن
أيشى هو الذي يقتل جالوت ، فطلبه من أبيه ، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار
دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت ، فحملها في مخلاته
ورمى بها جالوت فقتله ، وزوّجه طالوت بنته. وروى أنه حسده وأراد قتله ثم تاب (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) في مشارق الأرض المقدّسة ومغاربها ، وما اجتمعت بنو
إسرائيل على ملك قط قبل داود (وَالْحِكْمَةَ) والنبوّة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يَشاءُ) من صنعة الدروع ، وكلام الطير والدواب وغير ذلك (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) ولو لا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم ،
لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما
يعمر الأرض. وقيل : ولو لا أن الله ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث
الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل
أهل الأرض.
(تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٢٥٢)
(تِلْكَ آياتُ اللهِ) يعنى القصص التي اقتصها ، من حديث الألوف وإماتتهم
وإحيائهم ،
وتمليك طالوت
وإظهاره بالآية التي هي نزول التابوت من السماء ، وغلبة الجبابرة على يد صبى (بِالْحَقِ) باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار.
(تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ)(٢٥٤)
(تِلْكَ الرُّسُلُ) إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في السورة ، أو
التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ) لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه
السلام.
وقرئ (كلم الله)
بالنصب. وقرأ اليماني : كالم الله ، من المكالمة ، ويدل عليه قولهم : كليم الله ،
بمعنى مكالمه (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجاتٍ) أى ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، فكان بعد تفاوتهم في
الفضل أفضل منهم درجات كثيرة. والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم ، حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات
المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا
منفياً على سائر ما أوتى الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر
المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى ، لما فيه من
الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل : من
فعل هذا؟ فيقول :
__________________
أحدكم أو بعضكم ،
يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال ، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه
بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت
الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يفخم أمره. ويجوز أن يريد
: إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولى العزم من الرسل. وعن ابن عباس رضى الله عنه :
كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء ، فذكرنا نوحا بطول عبادته ، وإبراهيم بخلته ،
وموسى بتكليم الله إياه ، وعيسى برفعه إلى السماء ، وقلنا : رسول الله أفضل منهم ،
بعث إلى الناس كافة ؛ وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء. فدخل
عليه السلام فقال : فيم أنتم؟ فذكرنا له. فقال : لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من
يحيى بن زكريا ، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهمَّ بها . فإن قلت : فلمَ خصّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟
قلت : لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة. ولقد بين الله وجه التفضيل
حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات ، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما
أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل. وهذا دليل بين أنّ من زيد تفضيلا
بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتى
منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها. كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير
مدافع ، اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مشيئة إلجاء وقسر (مَا اقْتَتَلَ
الَّذِينَ) من بعد الرسل ، لاختلافهم في الدين ، وتشعب مذاهبهم ،
وتكفير بعضهم بعضا (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) لالتزامه دين الأنبياء (وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ) لإعراضه عنه (وَلَوْ شاءَ اللهُ
مَا اقْتَتَلُوا) كرّره للتأكيد
__________________
ـ
(وَلكِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من الخذلان والعصمة (أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْناكُمْ) أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه (لا بَيْعٌ فِيهِ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه (وَلا خُلَّةٌ) حتى يسامحكم أخلاؤكم به. وإن أردتم أن يحط عنكم ما في
ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأنّ الشفاعة
ثمة في زيادة الفضل لا غير (وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، فقال (وَالْكافِرُونَ) للتغليظ ، كما قال في آخر آية الحج (مَنْ كَفَرَ) مكان : ومن لم يحج ، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار
في قوله : (وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وقرئ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ، بالرفع.
(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٢٥٥)
(الْحَيُ) الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء ، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم
__________________
ويقدر. و (الْقَيُّومُ) الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. وقرئ : القيام ،
والقيم. والسنة : ما يتقدّم النوم من الفتور الذي يسمى النعاس. قال ابن الرقاع
العاملي :
وَسْنَانُ
أقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ
|
|
فِى عَيْنِهِ
سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
|
أى لا يأخذه نعاس
ولا نوم وهو تأكيد للقيوم ؛ لأنّ من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوما.
ومنه حديث موسى :
أنه سأل الملائكة وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية : أينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن
يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام ، ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوءتين. فأخذهما ،
وألقى الله عليه النعاس فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا ، ثم أوحى إليه : قل
لهؤلاء إنى أمسك السموات والأرض بقدرتي ، فلو أخذنى نوم أو نعاس لزالتا (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ) بيان
__________________
لملكوته وكبريائه
، وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، كقوله
تعالى (لا يَتَكَلَّمُونَ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ)(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَما خَلْفَهُمْ) ما كان قبلهم وما يكون بعدهم. والضمير لما في السموات
والأرض لأنّ فيهم العقلاء ، أو لما دل عليه (مَنْ ذَا) من الملائكة والأنبياء (مِنْ عِلْمِهِ) من معلوماته (إِلَّا بِما شاءَ) إلا بما علم. الكرسي : ما يجلس عليه ، ولا يفضل عن مقعد القاعد.
وفي قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) أربعة أوجه : أحدها أنّ كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته
، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط ، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد ، كقوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ) من غير تصوّر قبضة وطىّ ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه
وتمثيل حسىّ. ألا ترى إلى قوله (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ). والثاني : وسع علمه وسمى العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي
هو كرسي العالم. والثالث : وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك والرابع : ما
روى أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض ، وهو إلى العرش كأصغر
شيء. وعن الحسن : الكرسي هو العرش (وَلا يَؤُدُهُ) ولا يثقله ولا يشق عليه (حِفْظُهُما) حفظ السموات والأرض (وَهُوَ الْعَلِيُ) الشأن (الْعَظِيمُ) الملك والقدرة. فإن قلت : كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف؟ قلت : ما منها جملة إلا وهي واردة على
سبيل
__________________
البيان لما ترتبت
عليه والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب : بين
العصا ولحائها ، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه.
والثانية لكونه مالكا لما يدبره. والثالثة لكبرياء شأنه. والرابعة لإحاطته بأحوال
الخلق ، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة ، وغير المرتضى. والخامسة لسعة علمه
وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو لجلاله وعظم قدره. فان قلت : لم فضلت هذه الآية حتى
ورد في فضلها ما ورد منه قوله صلى الله عليه وسلم : ما قرئت هذه الآية في دار إلا
اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ، يا علىّ
علمها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها وعن علىّ رضى الله عنه : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم
على أعواد المنبر وهو يقول : «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه
من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا
__________________
أخذ مضجعه أمّنه
الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله وتذاكر الصحابة رضوان الله عليهم أفضل ما في القرآن ، فقال
لهم علىّ رضى الله عنه : أين أنتم عن آية الكرسي ، ثم قال : قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم «يا علىّ ، سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس
سلمان ، وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام
يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي » قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص لاشتمالها على توحيد الله
وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذكراً له كان
أفضل من سائر الأذكار. وبهذا يعلم أنّ أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم أهل
العدل والتوحيد ولا يغرّنك عنه كثرة أعدائه :
ف إنَّ
الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً
|
|
وَلَا تَرَى
لِلِئَامِ النَّاسِ حُسَّادَا
|
(لا
إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا
انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٥٦)
(لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) أى لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على
التمكين والاختيار. ونحوه قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أى لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر
على الاختيار (قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)
__________________
فمن اختار الكفر
بالشيطان أو الأصنام والإيمان بالله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) من الحبل الوثيق المحكم ، المأمون انفصامها ، أى انقطاعها.
وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوّره السامع
كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن به. وقيل : هو إخبار في معنى النهى
، أى لا تتكرهوا في الدين. ثم قال بعضهم : هو منسوخ بقوله (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) وقيل : هو في أهل الكتاب خاصة لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء
الجزية. وروى أنه كان لأنصارىّ من بنى سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما
حتى تسلما ، فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصارى :
يا رسول الله أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت ، فخلاهما
(اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥٧)
(اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا) أى أرادوا أن يؤمنوا يلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من
الكفر إلى الإيمان. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أى صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك. أو الله ولىّ المؤمنين
يخرجهم من الشبه في الدين ـ إن وقعت لهم ـ بما يهديهم ويوفقهم له من حلها ، حتى
يخرجوا منها إلى نور اليقين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ) الشياطين (يُخْرِجُونَهُمْ) من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ
إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي
مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى
__________________
يُحْيِي
هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ
كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ
مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى
حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ
نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٥٩)
(أَلَمْ تَرَ) تعجيب من محاجة نمروذ في الله وكفره به (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) متعلق بحاج على وجهين :
أحدهما حاجّ لأن
آتاه الله الملك ، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتوّ فحاجّ لذلك
، أو على أنه وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه
الله الملك ، فكأن المحاجة كانت لذلك ، كما تقول : عاداني فلان لأنى أحسنت إليه ،
تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ونحوه قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ). والثاني : حاجّ وقت أن آتاه الله الملك. فان قلت : كيف
جاز أن يؤتى الله الملك الكافر؟ قلت : فيه قولان : آتاه ما غلب به وتسلط من المال
والخدم والأتباع ، وأما التغليب والتسليط فلا. وقيل : ملكه امتحانا لعباده . و (إِذْ قالَ) نصب بحاج أو بدل من آتاه إذ جعل بمعنى الوقت (أَنَا
__________________
أُحْيِي
وَأُمِيتُ) يريد أعفو عن القتل وأقتل. وكان الاعتراض عتيداً ولكن إبراهيم لما سمع جوابه
الأحمق لم يحاجه فيه ، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته
أول شيء. وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. وقرئ (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أى فغلب إبراهيم الكافر. وقرأ أبو حيوة : فبهت ، بوزن قرب.
وقيل : كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ ، ثم أخرجه من السجن ليحرقه
فقال له : من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال : ربى الذي يحيى ويميت. (أَوْ كَالَّذِي) معناه : أو أرأيت مثل الذي مرَّ فحذف لدلالة (أَلَمْ تَرَ) عليه ؛ لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب. ويجوز أن يحمل على المعنى
دون اللفظ ، كأنه قيل : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية. والمارّ
كان كافراً بالبعث ، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك
__________________
ولكلمة الاستبعاد
التي هي : أنى يحيى. وقيل هو عزيز أو الخضر ، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد
بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام. وقوله : (أَنَّى يُحْيِي) اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء ، واستعظام لقدرة
المحيي. والقرية : بيت المقدس حين خربه بخت نصر. وقيل : هي التي خرج منها الألوف (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) تفسيره فيما بعد. (يَوْماً أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ) بناء على الظن. روى أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل
غيبوبة الشمس ، فقال قبل النظر إلى الشمس : يوماً ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس
فقال : أو بعض يوم. وروى أن طعامه كان تينا وعنبا. وشرابه عصيراً أو لبنا ، فوجد
التين والعنب كما جنيا ، والشراب على حاله (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتغير ، والهاء أصلية أو هاء سكت. واشتقاقه من السنة
على الوجهين ، لأن لامها هاء أو واو ، وذلك أن الشيء يتغير بمرور الزمان. وقيل :
أصله يتسنن ، من الحمأ المسنون ، فقلبت نونه حرف علة ، كتقضى البازي. ويجوز أن
يكون معنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم تمرّ عليه السنون التي مرت عليه ، يعنى هو بحاله كما
كان كأنه لم يلبث مائة سنة. وفي قراءة عبد الله : فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم
يتسن. وقرأ أبىّ : لم يسنه ، بإدغام التاء في السين (وَانْظُرْ إِلى
حِمارِكَ) كيف تفرّقت عظامه ونخرت ، وكان له حمار قد ربطه. ويجوز أن
يراد : وانظر إليه سالما في مكانه كما ربطته ، وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة
عام من غير علف ولا ماء ، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقيل : أتى
قومه راكب حماره وقال : أنا عزير ، فكذبوه ، فقال : هاتوا التوراة فأخذ يهذها
هذًّا عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب ، فما خرم حرفا ، فقالوا : هو ابن الله.
ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير ، فذلك كونه آية. وقيل : رجع إلى منزله فرأى
أولاده شيوخا وهو شاب ، فإذا حدّثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) هي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم (كَيْفَ نُنْشِزُها) كيف نحييها. وقرأ الحسن : ننشرها ، من نشر
__________________
الله الموتى ،
بمعنى : أنشرهم فنشروا ، وقرئ بالزاي ، بمعنى تحرّكها ونرفع بعضها إلى بعض
للتركيب. وفاعل (تَبَيَّنَ) مضمر تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كما في قولهم : ضربني
وضربت زيداً. ويجوز : فلما تبين له ما أشكل عليه ، يعنى أمر إحياء الموتى. وقرأ
ابن عباس رضى الله عنهما : فلما تبين له على البناء للمفعول. وقرئ : قال اعلم ،
على لفظ الأمر : وقرأ عبد الله : قيل اعلم. فإن قلت : فإن كان المارّ كافراً فكيف
يسوغ أن يكلمه الله؟ قلت : كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافراً.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ
بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
(٢٦٠)
(أَرِنِي) بصرني ، فإن قلت : كيف قال له (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟
__________________
قلت : ليجيب بما
أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. و (بَلى) إيجاب لما بعد النفي ، معناه بلى آمنت (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال
وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين ، ولأن علم الاستدلال يجوز معه
التشكيك بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه
للتشكيك. فإن قلت : بم تعلقت اللام في : (لِيَطْمَئِنَّ)؟ قلت : بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب
(فَخُذْ أَرْبَعَةً
مِنَ الطَّيْرِ) قيل طاوسا وديكا وغرابا وحمامة (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد وكسرها بمعنى فأملهنّ واضممهنّ إليك قال :
وَلَكِنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا
وقال :
وَفَرْعٍ يَصيرُ
الْجِيدَ وَحْفٍ كَأنَّهُ
|
|
عَلَى اللَّيْتِ
قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ
|
__________________
وقرأ ابن عباس رضى
الله عنه (فصرّهن) بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء ، من صره يصره ويصره إذا جمعه ،
نحو ضره ويضره ويضره. وعنه (فَصُرْهُنَّ) من التصرية وهي الجمع أيضاً (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى
كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) يريد : ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال. والمعنى : على
كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك. وقيل : كانت أربعة أجبل. وعن السدّى : سبعة
(ثُمَّ ادْعُهُنَ) وقل لهن : تعالين بإذن الله (يَأْتِينَكَ سَعْياً) ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن : فان
قلت : ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟ قلت : ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ولذلك
قال : يأتينك سعياً. وروى أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها
ويخلط ريشها ودماءها ولحومها ، وأن يمسك رءوسها ، ثم أمر أن يجعل بأجزائها على
الجبال ، على كل جبل ربعا من كل طائر ، ثم يصيح بها : تعالين بإذن الله ، فجعل كل
جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رءوسهن ، كل جثة إلى
رأسها. وقرئ (جزأ) بضمتين. وجزّا ، بالتشديد. ووجهه أنه خفف بطرح همزته ، ثم شدد
كما يشدد في الوقف ، إجراء للوصل مجرى الوقف.
(مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ
وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٦١)
(مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ) لا بد من حذف مضاف ، أى مثل نفقتهم كمثل حبة ، أو مثلهم
كمثل باذر حبة. والمنبت هو الله ، ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات
كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل ، أن تخرج ساقا يتشعب
منها سبع شعب ، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف ، كأنها ماثلة بين
عينى الناظر : فإن قلت : كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت : بل هو
موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق البرة في الأراضى القوية المقلة
فيبلغ حبها هذا المبلغ ، ولو لم يوجد لكان صحيحا على سبيل الفرض والتقدير : فإن
قلت : هلا قيل : سبع سنبلات ، على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال : (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ)؟ قلت : هذا لما قدمت عند قوله : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أى يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء ، لا لكل منفق ،
__________________
لتفاوت أحوال
المنفقين. أو يضاعف سَبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك.
(الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢٦٢)
المنّ أن يعتدّ
على من أحسن إليه بإحسانه ، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له : وكانوا يقولون :
إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم :
وَإنّ امْرَأً
أَسْدَى إلَىَّ صَنِيعَةً
|
|
وَذَكّرَنِيهَا
مَرَّةً لَلئِيمُ
|
وفي نوابغ الكلم :
صنوان من منح سائله ومنّ ، ومن منع نائله وضنّ. وفيها : طعم الآلاء أحلى من المنّ وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ. والأذى : أن
يتطاول عليه بسبب ما أزال إليه : ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ
والأذى ، وأنّ تركهما خير من نفس
__________________
الإنفاق ، كما جعل
الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا). فإن قلت : أىّ فرق بين قوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) وقوله فيما بعد : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ)؟ قلت : الموصول لم يضمن هاهنا معنى الشرط. وضمنه ثمة.
والفرق بينهما من جهة المعنى أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر
، وطرحها عار عن تلك الدلالة.
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي
يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ
صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ)(٢٦٤)
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ردّ جميل (وَمَغْفِرَةٌ) وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسئول أو نيل
مغفرة من الله بسبب الرد الجميل ، أو عفو من جهة السائل لأنه إذا ردّه ردّا جميلا
عذره (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُها أَذىً) وصح الإخبار عن المبتدإ النكرة لاختصاصه بالصفة (وَاللهُ غَنِيٌ) لا حاجة به إلى منفق يمنّ ويؤذى (حَلِيمٌ) عن معاجلته بالعقوبة ، وهذا سخط منه ووعيد له ، ثم بالغ في
ذلك بما أتبعه (كَالَّذِي يُنْفِقُ
مالَهُ) أى لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كابطال المنافق الذي
ينفق ماله (رِئاءَ النَّاسِ) لا يريد بإنفاقه رضاء الله ولا ثواب الآخرة (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بصفوان بحجر أملس
عليه تراب. وقرأ سعيد بن المسيب : صفوان بوزن كروان (فَأَصابَهُ وابِلٌ) مطر عظيم القطر (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه. ومنه صلد جبين الأصلع
إذا برق (لا يَقْدِرُونَ عَلى
شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) كقوله : (فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً) ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال : أى لا
تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق. فإن قلت : كيف قال : (لا يَقْدِرُونَ) بعد قوله : (كَالَّذِي يُنْفِقُ)؟ قلت : أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ، ولأن «من»
و «الذي» يتعاقبان ، فكأنه قيل : كمن ينفق.
(وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ
فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٦٥)
(وَتَثْبِيتاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح. وبذله أشق
شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان ؛ لأن النفس إذا ريضت
بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه
لشهواتها ، وبالعكس ، فكان إنفاق المال تثبيتا لها على الإيمان واليقين. ويجوز أن
يراد : وتصديقا للإسلام ، وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم ؛ لأنه إذا أنفق المسلم
ماله في سبيل الله ، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه. «ومن»
على التفسير الأوّل للتبعيض ، مثلها في قولهم : هز من عطفه ، وحرك من نشاطه. وعلى
الثاني لابتداء الغاية ، كقوله تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ). ويحتمل أن يكون المعنى : وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين
أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه. وتعضده قراءة مجاهد : وتبيينا من أنفسهم. فإن قلت :
فما معنى التبعيض؟ قلت : معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن
بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها (وَتُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) والمعنى : ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) وهي البستان (بِرَبْوَةٍ) بمكان مرتفع. وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً (أَصابَها وابِلٌ) مطر عظيم القطر (فَآتَتْ أُكُلَها) ثمرتها (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها. أو مثل حالهم عند
الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطلّ ، وكما أن كل
واحد من المطرين يضعف أكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة ـ بعد أن يطلب
بها وجه الله ويبذل فيها الوسع ـ زاكية عند الله ، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم
عنده. وقرئ : كمثل حبة ، وبربوة ـ بالحركات الثلاث ـ وأكلها بضمتين.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(٢٦٦)
الهمزة في (أَيَوَدُّ) للإنكار. وقرئ : له جنات ، وذرية ضعاف. والإعصار : الريح
التي تستدير في الأرض ، ثم تسطع نحو السماء كالعمود. وهذا مثل لمن يعمل الأعمال
الحسنة لا يبتغى بها وجه الله. فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة ، فيتحسر عند ذلك
حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار فبلغ الكبر ، وله أولاد ضعاف
والجنة معاشهم ومنتعشهم ، فهلكت
بالصاعقة. وعن عمر
رضى الله عنه أنه سأل عنها الصحابة فقالوا : الله أعلم ، فغضب وقال : قولوا نعلم
أو لا نعلم ، فقال ابن عباس رضى الله عنه : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . قال : قل يا ابن أخى ولا تحقر نفسك. قال : ضربت مثلا
لعمل. قال : لأى عمل؟ قال : لرجل غنى يعمل الحسنات ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل
بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها . وعن الحسن رضى الله عنه : هذا مثلٌ قلّ والله من يعقله من
الناس : شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته ، وإن أحدكم والله
أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا. فإن قلت : كيف قال (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ثم قال : (لَهُ فِيها مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ) قلت : النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع
، خصهما بالذكر ، وجعل الجنة منهما ـ وإن كانت محتوية على سائر الأشجار ـ تغليباً
لهما على غيرهما ، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع
التي كانت تحصل له فيها كقوله : (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) بعد قوله : (جَنَّتَيْنِ مِنْ
أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ). فإن قلت : علام عطف قوله (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ)؟ قلت : الواو للحال لا للعطف. ومعناه أن تكون له جنة وقد
أصابه الكبر. وقيل يقال : وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا ، فحمل العطف على
المعنى ، كأنه قيل : أيودّ أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٢٦٧)
(مِنْ طَيِّباتِ ما
كَسَبْتُمْ) من جياد مكسوباتكم (وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ) من الحب والثمر والمعادن وغيرها. فإن قلت : فهلا قيل : وما
أخرجنا لكم ، عطفا على : (ما كَسَبْتُمْ) حتى يشتمل الطيب على المكسوب والمخرج من الأرض؟ قلت :
معناه : ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) ولا تقصدوا المال الرديء (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) تخصونه بالإنفاق ، وهو في محل الحال. وقرأ عبد الله : ولا
تأمموا. وقرأ ابن عباس : ولا تيمموا ، بضم التاء. ويممه
__________________
وتيممه وتأممه ،
سواء في معنى قصده (وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ) وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك : أغمض
فلان عن بعض حقه ، إذا غضّ بصره. ويقال للبائع : أغمض ، أى لا تستقص ، كأنك لا
تبصر. وقال الطرمّاح :
لَمْ
يَفُتْنَا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ
وَلِلضَّيْمِ رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بِالإِغْمَاضِ
وقرأ الزهرىّ :
تغمضوا. وأغمض وغمض بمعنى. وعنه : تغمضوا ، بضم الميم وكسرها. من غمض يغمض ويغمض.
وقرأ قتادة : تغمضوا ، على البناء للمفعول ، بمعنى إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا
إليه. وقيل : إلا أن توجدوا مغمضين. وعن الحسن رضى الله عنه : لو وجدتموه في السوق
يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : كانوا
يتصدّقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه.
(الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٦٨)
أى يعدكم في
الإنفاق (الْفَقْرَ) ويقول لكم إنّ عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا. وقرئ : الفقر ،
بالضم. والفقر ـ بفتحتين ـ والوعد يستعمل في الخير والشر. قال الله تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا). (وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشاءِ) ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور. والفاحش
عند العرب : البخيل (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) في الإنفاق (مَغْفِرَةً) لذنوبكم وكفارة لها (وَفَضْلاً) وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثوابا عليه في
الآخرة
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما
يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢٦٩)
__________________
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) يوفق للعلم والعمل به. والحكيم عند الله : هو العالم
العامل. وقرئ (وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ) بمعنى ومن يؤته الله الحكمة. وهكذا قرأ الأعمش. و (خَيْراً كَثِيراً) تنكير تعظيم ، كأنه قال : فقد أوتى أىّ خير كثير (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) يريد الحكماء العلام العمال. والمراد به الحثّ على العمل
بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.
(وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(٢٧٠)
(وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ) في سبيل الله ، أو في سبيل الشيطان (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) في طاعة الله ، أو في معصيته (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو
لا يفون بالنذور ، أو ينذرون في المعاصي (مِنْ أَنْصارٍ) ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه.
(إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ)(٢٧١)
«ما» في : (نعما)
نكرة غير موصولة ولا موصوفة. ومعنى (فَنِعِمَّا هِيَ) فنعم شيئا إبداؤها. وقرئ بكسر النون وفتحها (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَراءَ) وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فالإخفاء خير لكم. والمراد الصدقات المتطوّع بها ، فإنّ
الأفضل في الفرائض أن يجاهر بها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : «صدقات السر في
التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة
وعشرين ضعفا» وإنما كانت المجاهرة بالفرائض أفضل ، لنفى التهمة ، حتى
إذا كان المزكى ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل ، والمتطوّع إن أراد أن يقتدى
به كان إظهاره أفضل (يُكَفِّرُ) وقرئ بالنون مرفوعا عطفا على محل ما بعد الفاء ، أو على
أنه خبر مبتدإ محذوف ، أى ونحن نكفر. أو على أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأة ،
ومجزوما عطفا على محل الفاء وما بعده ، لأنه جواب الشرط. وقرئ : ويكفر ، بالياء
مرفوعا ، والفعل لله أو للإخفاء. وتكفر بالتاء ، مرفوعا ومجزوما ، والفعل للصدقات.
وقرأ الحسن رضى الله عنه بالياء والنصب بإضمار أن. ومعناه : إن تخفوها يكن خيراً
لكم ، وأن يكفر عنكم.
__________________
(لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٢٧٢)
(لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ) لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المنّ والأذى
والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه فينتهى عما نهى عنه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) من مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا
تؤذوهم بالتطاول عليهم (وَما تُنْفِقُونَ) وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه الله ولطلب ما عنده ، فما
بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ) ثوابه أضعافا مضاعفة ، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه
، وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها. وقيل : حجت أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما
فأتتها أمها تسألها وهي مشركة ، فأبت أن تعطيها ، فنزلت. وعن سعيد بن جبير رضى
الله عنه : كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين. وروى أنّ ناسا من
المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام ،
فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم . وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله ، لكان لك ثواب
نفقتك. واختلف في الواجب ، فجوز أبو حنيفة رضى الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل
الذمة ، وأباه غيره.
(لِلْفُقَراءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا
يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ
عَلِيمٌ)(٢٧٣)
__________________
الجار متعلق
بمحذوف. والمعنى : اعمدوا الفقراء ، واجعلوا ما تنفقون للفقراء ، كقوله تعالى (فِي تِسْعِ آياتٍ) ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف ، أى صدقاتكم للفقراء. و (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) هم الذين أحصرهم الجهاد (لا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم به (ضَرْباً فِي
الْأَرْضِ) للكسب. وقيل هم أصحاب الصفة ، وهم نحو من أربعمائة رجل من
مهاجرى قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفة المسجد ـ وهي
سقيفته ـ يتعلمون القرآن بالليل ، ويرضخون النوى بالنهار. وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وعن ابن عباس رضى الله
عنهما : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم
وطيب قلوبهم فقال «أبشروا يا أصحاب الصفة ، فمن بقي من أمتى على النعت الذي أنتم
عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي في الجنة» (يَحْسَبُهُمُ
الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ) مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) من صفرة الوجه ورثاثة الحال. والإلحاف : الإلحاح ، وهو
اللزوم ، وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه. من قولهم : لحفنى من فضل لحافه ، أى أعطانى
من فضل ما عنده. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تعالى يحبّ الحيىّ الحليم
المتعفف ، ويبغض البذىّ السئال الملحف» ومعناه : أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا وقيل : هو
نفى للسؤال والإلحاف جميعاً ، كقوله :
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ
يريد نفى المنار
والاهتداء به.
__________________
(الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢٧٤)
(بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما
نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال. وقيل :
نزلت في أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه حين تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل
، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السرّ ، وعشرة في العلانية. وعن ابن عباس رضى الله
عنهما : نزلت في علىّ رضى الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلا ،
وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية. وقيل نزلت في علف الخيل وارتباطها
في سبيل الله. وعن أبى هريرة رضى الله عنه ، كان إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ
مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا
وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)
يَمْحَقُ
اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(٢٧٦)
الربوا كتب بالواو
على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها
__________________
تشبيها بواو الجمع
(لا يَقُومُونَ) إذا بعثوا من قبورهم (إِلَّا كَما يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) أى المصروع. وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن
الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء ، فورد على
ما كانوا يعتقدون. والمس : الجنون. ورجل ممسوس ، وهذا أيضاً من زعماتهم ، وأن
الجنىَّ يمسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل : معناه ضربته الجنّ ، ورأيتهم لهم في
الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. فإن قلت : بم يتعلق
قوله (مِنَ الْمَسِ)؟ قلت : بلا يقومون ، أى لا يقومون من المسّ الذي بهم إلا
كما يقوم المصروع. ويجوز أن يتعلق بيقوم ، أى كما يقوم المصروع من جنونه. والمعنى
أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين ، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل
الموقف. وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون ، إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون
ويسقطون كالمصروعين ، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم ، فلا
يقدرون على الإيفاض (ذلِكَ) العقاب بسبب قولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا). فإن قلت : هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأنّ الكلام في
الربا لا في البيع ، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه ، وكانت
شبهتهم
__________________
أنهم قالوا : لو
اشترى الرجل ما لا يساوى إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟
قلت : جيء به على طريق المبالغة ، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم
جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع. وقوله (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبا) إنكار لتسويتهم بينهما ، ودلالة على أنّ القياس يهدمه النص
، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهى عن الربا (فَانْتَهى) فتبع النهى وامتنع (فَلَهُ ما سَلَفَ) فلا يؤخذ بما مضى منه ، لأنه أخذ قبل نزول التحريم (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يحكم في شأنه يوم القيامة ، وليس من أمره إليكم شيء فلا
تطالبوه به (وَمَنْ عادَ) إلى الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذا دليل بين على تخليد الفساق . وذكر فعل الموعظة لأنّ تأنيثها غير حقيقى ، ولأنها في
معنى الوعظ. وقرأ أبىٌّ والحسن : فمن جاءته. (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا) يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود رضى
الله عنه : الربا وإن كثر إلى قلّ. (وَيُرْبِي
الصَّدَقاتِ) ما يتصدّق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي
أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه. وفي الحديث «ما نقصت زكاة من مال قط» (كُلَّ كَفَّارٍ
أَثِيمٍ) تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل
المسلمين.
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) (٢٨١)
أخذوا ما شرطوا
على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا ، فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها. وروى
أنها نزلت في ثقيف وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال
والربا. وقرأ الحسن رضى الله عنه : ما بقي ، بقلب الياء ألفا على لغة طيئ : وعنه
ما بقي بياء ساكنة. ومنه قول جرير :
هُوَ
الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِى لَكُمُو
|
|
مَاضِى
الْعَزِيمَةِ مَا فِى حُكْمِهِ جَنَفُ
|
(إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن صح إيمانكم ، يعنى أنّ دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما
أمرتم به من ذلك (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به. وقرئ : فآذنوا ،
فأعلموا بها غيركم ، وهو من الإذن وهو الاستماع ، لأنه من طرق العلم. وقرأ الحسن :
فأيقنوا ، وهو دليل لقراءة العامّة. فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت : كان
هذا أبلغ ، لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم عند الله ورسوله. وروى أنها
لما نزلت قالت ثقيف : لا يدىْ لنا بحرب الله ورسوله. (وَإِنْ تُبْتُمْ) من الارتباء (فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) المديونين بطلب الزيادة عليها (وَلا تُظْلَمُونَ) بالنقصان منها. فإن قلت : هذا حكمهم إن تابوا ، فما حكمهم
لو لم يتوبوا قلت : قالوا : يكون مالهم فيئا للمسلمين ، وروى المفضل عن عاصم : لا
تظلمون ولا تظلمون (وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ) وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة أو ذو إعسار : وقرأ عثمان
رضى الله عنه :
__________________
ذا عسرة على : وإن
كان الغريم ذا عسرة. وقرئ : ومن كان ذا عسرة (فَنَظِرَةٌ) أى فالحكم أو فالأمر نظرة وهي الإنظار. وقرئ : فنظرة بسكون
الظاء. وقرأ عطاء : فناظره. بمعنى فصاحب الحق ناظره : أى منتظره ، أو صاحب نظرته
على طريقة النسب كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أى ذو عشب وذو بقل. وعنه : فناظره ،
على الأمر بمعنى فسامحه بالنظرة وياسره بها (إِلى مَيْسَرَةٍ) إلى يسار. وقرئ بضم السين ، كمقبرة ومقبرة ومشرقة ومشرقة.
وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله :
وَأخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا
وقوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ). (وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر من غرمائهم
أو ببعضها ، كقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وقيل : أريد بالتصدق الإنظار لقوله صلى الله عليه وسلم «لا
يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أنه خير لكم فتعملوا به ، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه
لا يعلمه. وقرئ (تصدّقوا) بتخفيف الصاد على حذف التاء (تُرْجَعُونَ) قرئ على البناء للفاعل والمفعول : وقرئ : يرجعون بالياء
على طريقة الالتفات. وقرأ عبد الله : تردّون : وقرأ أبىّ : تصيرون. وعن ابن عباس
أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من
البقرة. وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما. وقيل أحدا
وثمانين. وقيل سبعة أيام. وقيل ثلاث ساعات.
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ
كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ
فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا
يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً
أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ
لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها
وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ
تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ
عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ
رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٢٨٣)
(إِذا تَدايَنْتُمْ) إذا داين بعضكم بعضا. يقال : داينت الرجل عاملته (بِدَيْنٍ) معطيا أو آخذا كما تقول : بايعته إذا بعته أو باعك. قال رؤبة
:
دَايَنْتُ
أرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى
|
|
فَمَطَلَتْ
بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا
|
__________________
والمعنى : إذا
تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه. فإن قلت : هلا قيل : إذا تداينتم إلى أجل مسمى وأى حاجة إلى ذكر الدين كما قال : داينت أروى ، ولم يقل :
بدين؟ قلت : ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله (فَاكْتُبُوهُ) إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن
النظم بذلك الحسن. ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ. فإن قلت : ما فائدة
قوله (مُسَمًّى). قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت
بالسنة والأشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع الحاج ، لم
يجز لعدم التسمية. وإنما أمر بكتبة الدين ، لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد
من الجحود ، والأمر للندب. وعن ابن عباس أن المراد به السلم وقال لما حرم الله
الرّبا أباح السلف. وعنه : أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في
كتابه وأنزل فيه أطول آية . (بِالْعَدْلِ) متعلق بكاتب صفة له ، أى كاتب مأمون على ما يكتب ، يكتب
بالسوية والاحتياط. لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص. وفيه : أن يكون الكاتب
فقيها عالما بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع. وهو أمر للمتداينين بتخير
الكاتب ، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير كاتب (أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير. وقيل هو
قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أى ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها. وعن الشعبي
: هي فرض كفاية ، وكما علمه الله : يجوز أن يتعلق بأن يكتب ، وبقوله فليكتب. فإن
قلت : أى فرق بين الوجهين؟ قلت : إن علقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من
الكتابة المقيدة ، ثم قيل له (فَلْيَكْتُبْ) يعنى فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد ، وإن علقته
بقوله فليكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيدة
(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُ) ولا يكن المملى إلا من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود
على ثباته في ذمته وإقراره به. والإملاء والإملال لغتان قد نطق بهما القرآن (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ). (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) من الحق (شَيْئاً) والبخس : النقص. وقرئ شيا ، بطرح الهمزة : وشيا ، بالتشديد
(سَفِيهاً) محجورا عليه لتبذيره
__________________
وجهله بالتصرف (أَوْ ضَعِيفاً) صبيا أو شيخا مختلا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ
أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعىّ به أو خرس (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) الذي يلي أمره من وصىّ إن كان سفيها أو صبيا ، أو وكيل إن
كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه. وقوله تعالى (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) فيه أنه غير مستطيع ولكن بغيره ، وهو الذي يترجم عنه (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين (مِنْ رِجالِكُمْ) من رجال المؤمنين. والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند
عامة العلماء. وعن على رضى الله عنه : لا تجوز شهادة العبد في شيء. وعند شريح وابن
سيرين وعثمان البتىّ أنها جائزة ، ويجوز عند أبى حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض
على اختلاف الملل (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) فإن لم يكن الشهيدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتانِ) فليشهد رجل وامرأتان ، وشهادة النساء مع الرجال مقبولة عند
أبى حنيفة فيما عدا الحدود والقصاص (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) ممن تعرفون عدالتهم (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما) أن لا تهتدى إحداهما للشهادة بأن تنساها ، من ضل الطريق
إذا لم يهتد له. وانتصابه على أنه مفعول له أى إرادة أن تضل. فإن قلت : كيف يكون
ضلالها مرادا لله تعالى؟ قلت لما كان الضلال سببا للإذكار ، والإذكار مسببا عنه ،
وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما ، كانت
إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار ، فكأنه قيل : إرادة أن تذكر
إحداهما الأخرى إن ضلت. ونظيره قولهم : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ،
وأعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه. وقرئ (فَتُذَكِّرَ) بالتخفيف والتشديد ، وهما لغتان. وفتذاكر. وقرأ حمزة : إن
تضل إحداهما ، على الشرط. فتذكر : بالرفع والتشديد ، كقوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وقرئ أن تضل إحداهما على البناء للمفعول والتأنيث. ومن بدع
التفاسير : فتذكر ، فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا ، يعنى أنهما إذا اجتمعتا كانتا
بمنزلة الذكر (إِذا ما دُعُوا) ليقيموا الشهادة. وقيل : ليستشهدوا. وقيل لهم شهداء قبل
التحمل ، تنزيلا لما يشارف منزلة الكائن. وعن قتادة : كان الرجل يطوف الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت. كنى بالسأم
عن الكسل ، لأنّ الكسل صفة المنافق. ومنه الحديث : لا يقول المؤمن كسلت» ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته ؛ فاحتاج أن يكسب لكل دين
صغير أو كبير كتابا ، فربما مل كثرة الكتب. والضمير في (تَكْتُبُوهُ) للدين أو الحق (صَغِيراً أَوْ
كَبِيراً) على أى حال كان الحق من صغر أو كبر. ويجوز أن يكون الضمير
للكتاب ؛ وأن يكتبوه مختصراً أو مشبعاً لا يخلوا بكتابته (إِلى أَجَلِهِ) إلى وقته الذي اتفق
__________________
الغريمان على
تسميته (ذلِكُمْ) إشارة إلى أن تكتبوه ، لأنه في معنى المصدر ، أى ذلكم
الكتب (أَقْسَطُ) أعدل من القسط (وَأَقْوَمُ
لِلشَّهادَةِ) وأعون على إقامة الشهادة (وَأَدْنى أَلَّا
تَرْتابُوا) وأقرب من انتفاء الريب. فإن قلت : مِمَّ بنى أفعلا التفضيل
، أعنى : أقسط ، وأقوم؟ قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام
، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذى قسط ، وأقوم من قويم. وقرئ :
ولا يسأموا أن يكتبوه بالياء فيهما. فإن قلت : ما معنى (تِجارَةً حاضِرَةً) وسواء أكانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة؟ وما
معنى إدارتها بينهم؟ قلت. أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها
بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد. والمعنى : إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا
بأس أن لا تكتبوه ، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين. وقرئ : تجارة حاضرة بالرفع
على كان التامّة. وقيل : هي الناقصة على أنّ الاسم «تجارة حاضرة» والخبر «تديرونها»
وبالنصب على : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب :
بَنِى أسَدٍ
هَلْ تَعْلَمُونَ بلَاءَنَا
|
|
إذَا كانَ
يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
|
أى إذا كان اليوم يوما
(وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ) أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ، ناجزا أو كالئا لأنه
أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا
التبايع يعنى التجارة الحاضرة ، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. وعن الحسن :
إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد. وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل (وَلا يُضَارَّ) يحتمل البناء للفاعل والمفعول. والدليل عليه قراءة عمر رضى
الله عنه : ولا يضارر ، بالإظهار والكسر. وقراءة ابن عباس رضى الله عنه : ولا
يضارر ، بالإظهار والفتح. والمعنى نهى الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب
منهما. وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهى عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم
، ويلزا ، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد . وقرأ الحسن : ولا يضار ، بالكسر (وَإِنْ تَفْعَلُوا) وإن تضارّوا (فَإِنَّهُ) فإنّ الضرار (فُسُوقٌ
__________________
بِكُمْ)
وقيل : وإن تفعلوا
شيئا مما نهيتم عنه (عَلى سَفَرٍ) مسافرين. وقرأ ابن عباس وأبىّ رضى الله عنهما كتابا. وقال
ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة. وقرأ أبو العالية :
كتبا. وقرأ الحسن : كتابا ، جمع كاتب (فرهن) فالذي يستوثق به رهن. وقرئ فرهن بضم
الهاء وسكونها ، وهو جمع رهن ، كسقف وسقف. وفرهان. فإن قلت : لم شرط السفر في
الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر وقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في غير سفر . قلت : ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة ، ولكن
السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد ، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال
من كان على سفر ، بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد. وعن
مجاهد والضحاك أنهما لم يجوّزاه إلا في حال السفر أخذا بظاهر الآية. وأما القبض
فلا بدّ من اعتباره. وعند مالك يصح الارتهان
__________________
بالإيجاب والقبول
بدون القبض (فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به. وقرأ أبىّ : فإن أومن ، أى آمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان
من مثله (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه
وائتمانه له ، وأن يؤدّى إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه. وسمى الدين
أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه. والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة
بعد الذال أو ياء ، فتقول : الذي اؤتمن ، أو الذي تمن. وعن عاصم أنه قرأ : الذي
اتمن ، بإدغام الياء في التاء ، قياساً على اتسر في الافتعال من اليسر ، وليس
بصحيح ، لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة ، فهي في حكم الهمزة و «اتزر» عامىٌّ ، وكذلك
ريا في رؤيا (آثِمٌ) خبر إن. و (قَلْبُهُ) رفع بآثم على الفاعلية ، كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه. ويجوز
أن يرتفع قلبه بالابتداء. وآثم خبر مقدّم ، والجملة خبر إن. فإن قلت : هلا اقتصر
على قوله : (فَإِنَّهُ آثِمٌ)؟ وما فائدة ذكر القلب ـ والجملة هي الآثمة لا القلب وحده
ـ؟ قلت : كتمان الشهادة : هو أن يضمرها ولا يتكلم بها ، فلما كان إثما مقترفا
بالقلب أسند إليه ، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك
تقول إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عينى ، ومما سمعته أذنى ، ومما عرفه قلبي
، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء
__________________
والمضغة التي إن
صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل
نفسه ، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة
باللسان فقط ، وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه ، واللسان ترجمان عنه.
ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها.
ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر ، وهما من أفعال القلوب ، فإذا
جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب. وعن ابن عباس
رضى الله عنهما : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ) وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة. وقرئ : قلبه ، بالنصب ،
كقوله : (سَفِهَ نَفْسَهُ) وقرأ ابن أبىعبلة : أثم قلبه ، أى جعله آثما
(لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٨٤)
(وَإِنْ تُبْدُوا ما
فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) يعنى من السوء يحاسبكم به الله (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمره (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان
: الوساوس وحديث النفس ، لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده
وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه تلاها فقال : لئن آخذنا الله
بهذا لنهلكنّ ، ثم بكى حتى سمع نشيجه فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبى عبد الرحمن ، قد وجد
المسلمون منها مثل ما وجد فنزل (لا يُكَلِّفُ اللهُ) وقرئ : فيغفر ويعذب ، مجزومين عطفاً على جواب الشرط ،
ومرفوعين على : فهو يغفر ويعذب. فإن قلت : كيف يقرأ الجازم؟ قلت : يظهر الراء
ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ
مرّتين ، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في
نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط
نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش : يغفر ، بغير فاء مجزوما على البدل من
يحاسبكم ، كقوله :
__________________
مَتَى تَأْتِنَا
تُلْمِمْ بِنَا فِى دِيَارِنَا
|
|
تَجِدْ حَطَباً
جَزْلاً وَنَاراً تَأجَّجَا
|
ومعنى هذا البدل
التفصيل لجملة الحساب ، لأنّ التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من
الكل أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيداً رأسه ، وأحب زيداً عقله. وهذا البدل
واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان.
(آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢٨٥)
(وَالْمُؤْمِنُونَ) إن عطف على الرسول كان الضمير ـ الذي التنوين نائب عنه في
كل ـ راجعاً إلى الرسول والمؤمنين ، أى كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من
المذكورين . ووقف عليه. وإن كان مبتدأ كان الضمير للمؤمنين. ووحد ضمير
كل في آمن على معنى : كل واحد منهم آمن ، وكان يجوز أن يجمع ، كقوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). وقرأ ابن عباس : وكتابه ، يريد القرآن أو الجنس وعنه : الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت : كيف يكون الواحد
أكثر من الجمع؟ قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ـ والجنسية قائمة في وحدان
الجنس كلها ـ لم يخرج منه شيء. فأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من
الجموع (لا نُفَرِّقُ) يقولون لا نفرق. وعن أبى عمرو : يفرق بالياء ، على أن
الفعل لكل. وقرأ عبد الله : لا يفرقون. و (أَحَدٍ) في معنى الجمع ، كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ) ولذلك دخل عليه بين. (سَمِعْنا) أجبنا (غُفْرانَكَ) منصوب بإضمار فعله. يقال : غفرانك لا كفرانك ، أى نستغفرك
ولا نكفرك. وقرئ (وكتبه ورسله) بالسكون.
__________________
(لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا
طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)
الوسع : ما يسع
الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه ، أى لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر
عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلى أكثر من الخمس ،
ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة. وقرأ ابن أبى عبلة وسعها بالفتح (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا
اكْتَسَبَتْ) ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر ، لا يؤاخذ
بذنبها غيرها ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت : لم خص الخير بالكسب ، والشر
بالاكتساب؟ قلت : في الاكتساب اعتمال ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة
إليه وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولما لم
تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. أى لا تؤاخذنا
بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا. فإن قلت : النسيان والخطأ متجاوز عنهما ، فما معنى
الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت : ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه
من التفريط والإغفال. ألا ترى إلى قوله : (وَما أَنْسانِيهُ
إِلَّا الشَّيْطانُ) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان ، وإنما يوسوس فتكون
وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ، ولأنهم كانوا متقين الله حق تقاته ، فما
كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك
إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما
يؤاخذ به ، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما
__________________
علم أنه حاصل له
قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه. والإصر : العبء الذي
يأصر حامله أى يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله ، استعير للتكليف الشاقّ ، من نحو
قتل الأنفس ، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك. وقرئ : آصاراً على
الجمع. وفي قراءة أبىّ : ولا تحمل علينا بالتشديد. فإن قلت : أىّ فرق بين هذه
التشديدة والتي في : (وَلا تُحَمِّلْنا)؟ قلت : هذه للمبالغة في حمل عليه ، وتلك لنقل حمله من
مفعول واحد إلى مفعولين (وَلا تُحَمِّلْنا ما
لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات النازلة بمن قبلنا ، طلبوا الإعفاء عن
التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم
في المحافظة عليها. وقيل : المراد به الشاقّ الذي لا يكاد يستطاع من التكليف. وهذا
تكرير لقوله : (وَلا تَحْمِلْ
عَلَيْنا إِصْراً). (مَوْلانا) سيدنا ونحن عبيدك. أو ناصرنا. أو متولى أمورنا (فَانْصُرْنا) فمن حق المولى أن ينصر عبيده. أو فإنّ ذلك عادتك. أو فإنّ
ذلك من أمورنا التي عليك توليها. وعن ابن عباس «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما دعا بهذه الدعوات ، قيل له عند كل كلمة : قد فعلت» وعنه عليه السلام «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في
ليلة كفتاه» وعنه عليه السلام «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت
العرش لم يؤتهنّ نبىٌّ قبلي» وعنه عليه السلام «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما
الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن
قيام الليل»
__________________
فإن قلت : هل يجوز
أن يقال : قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة. قلت : لا بأس بذلك. وقد جاء في حديث
النبي صلى الله عليه وسلم «من آخر سورة البقرة» و «خواتيم سورة البقرة» و «خواتيم
البقرة.
وعن علىّ رضى الله
عنه «خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش».
وعن عبد الله بن
مسعود رضى الله عنهما أنه رمى الجمرة ثم قال «من هاهنا ـ والذي لا إله غيره ـ رمى
الذي أنزلت عليه سورة البقرة» .
ولا فرق بين هذا
وبين قولك سورة الزخرف وسورة الممتحنة وسورة المجادلة. وإذا قيل : قرأت البقرة ،
لم يشكل أنّ المراد سورة البقرة كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). وعن بعضهم أنه كره ذلك وقال : يقال قرأت السورة التي تذكر
فيها البقرة.
عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنّ تعلمها
بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة. قيل : وما البطلة؟ قال : السحرة»
__________________
سورة آل عمران
مدنية وهي مائتا آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١)
اللهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)(٤)
(م) حقها أن يوقف
عليها كما وقف على ألف ولام ، وأن يبدأ ما بعدها كما تقول : واحد اثنان : وهي
قراءة عاصم. وأما فتحها فهي حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت للتخفيف. فإن قلت: كيف
جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام فلا تثبت حركتها لأنّ
ثبات حركتها كثباتها؟ قلت : هذا ليس بدرج ، لأنّ (م) في حكم الوقف والسكون والهمزة
في حكم الثابت. وإنما حذفت تخفيفاً وألقيت حركتها على الساكن قبلها ليدل عليها.
ونظيره قولهم : واحد اثنان ، بإلقاء حركة الهمزة على الدال. فإن قلت : هلا زعمت
أنها حركة لالتقاء الساكنين؟ قلت : لأنّ التقاء الساكنين لا يبالى به في باب الوقف
، وذلك قولك : هذا إبراهيم وداود وإسحاق. ولو كان التقاء الساكنين في حال الوقف
يوجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم ، لالتقاء الساكنين. ولما انتظر ساكن
آخر. فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف
وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء اسكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا. قلت :
الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن أنه كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان
، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فيجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ، ومديق.
فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وليست لالتقاء
الساكنين. فإن قلت : فما وجه قراءة عمرو بن عبيد بالكسر؟ قلت : هذه القراءة على
توهم التحريك لالتقاء الساكنين وما هي بمقولة. و (التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) اسمان أعجميان. وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ووزنهما
بتفعلة وأفعيل ، إنما يصح بعد كونهما عربيين. وقرأ الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة
،
وهو دليل على
العجمة ، لأن أفعيل ـ بفتح الهمزة ـ عديم في أوزان العرب. فإن قلت : لم قيل (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ)؟ قلت : لأن القرآن نزل منجماً ، ونزل الكتابان جملة. وقرأ
الأعمش : نزَل عليك الكتابُ بالتخفيف ورفع الكتاب (هُدىً لِلنَّاسِ) أى لقوم موسى وعيسى. وقال نحن متعبدون بشرائع من قبلنا
فسره على العموم. فإن قلت : ما المراد بالفرقان؟ قلت : جنس الكتب السماوية ، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل ، أو الكتب التي
ذكرها ، كأنه قال بعد ذكر الكتب الثلاثة : وأنزل ما يفرق به بين الحق والباطل من
كتبه ، أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور ، كما قال : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) وهو ظاهر. أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح من كونه
فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس ، تعظيما لشأنه وإظهاراً لفضله (بِآياتِ اللهِ) من كتبه المنزلة وغيرها (ذُو انْتِقامٍ) له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم.
(إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥)
هُوَ
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٦)
(لا يَخْفى عَلَيْهِ
شَيْءٌ) في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض ، فهو مطلع على كفر من
كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه (كَيْفَ يَشاءُ) من الصور المختلفة المتفاوتة. وقرأ طاوس : تصوّركم،
__________________
أى صوّركم لنفسه
ولتعبده ، كقولك : أثلت مالا ، إذا جعلته أثلة ، أى أصلا. وتأثلته ، إذا أثلته
لنفسك. وعن سعيد بن جبير : هذا حجاج على من زعم أنّ عيسى كان ربا ، كأنه نبه بكونه
مصورا في الرحم ، على أنه عبد كغيره ، وكان يخفى عليه ما لا يخفى على الله.
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧)
(مُحْكَماتٌ) أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه (مُتَشابِهاتٌ) مشتبهات
__________________
محتملات (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أى أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها ، ومثال
ذلك (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) ، (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) ، (لا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشاءِ). (أَمَرْنا مُتْرَفِيها). فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكما؟ قلت : لو كان كله
محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل
من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله
وتوحيده إلا به ، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق
والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه
إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله ، ولأنّ
المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف ، إذا رأى فيه ما يتناقض في
ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح
الله عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في
إيقانه (الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) هم أهل البدع (فَيَتَّبِعُونَ ما
تَشابَهَ مِنْهُ) فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما
لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق (ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ) طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) وطلب أن يأوّلوه التأويل الذي يشتهونه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أى لا يهتدى إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا
الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أى ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع.
ومنهم من يقف على قوله إلا الله ، ويبتدئ والراسخون في العلم يقولون. ويفسرون
المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، وبمعرفة الحكمة فيه من آياته ، كعدد الزبانية
ونحوه : والأوّل هو الوجه. ويقولون : كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء
العالمون بالتأويل (يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ) أى بالمتشابه (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنا) أى كل واحد منه ومن المحكم من عنده ، أو بالكتاب كل من
متشابهه ومحكمه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمّل. ويجوز أن يكون
__________________
(يَقُولُونَ) حالا من الراسخين. وقرأ عبد الله : إن تأويله إلا عند
الله. وقرأ أبىّ : ويقول الراسخون.
(رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٩)
(لا تُزِغْ قُلُوبَنا) لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا (بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنا) وأرشدتنا لدينك. أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا (مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة. وقرئ لا تزغ قلوبنا ،
بالتاء والياء ورفع القلوب (جامِعُ النَّاسِ
لِيَوْمٍ) أى تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) : وقرئ : جامع الناس ، على الأصل (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) معناه أنّ الإلهية تنافى خلف الميعاد كقولك : إن الجواد لا
يخيب سائله والميعاد : الموعد. قرأ على رضى الله عنه. لن تغنى بسكون الياء ، وهذا
من الجدّ في استثقال الحركة على حروف اللين.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
الْمِهادُ (١٢))
(مِنَ) في قوله (مِنَ اللهِ) مثله في قوله : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) والمعنى : لن تغنى عنهم من رحمة الله أو من طاعة الله (شَيْئاً) أى بدل رحمته وطاعته وبدل الحق : ومنه «ولا ينفع ذا الجدّ
منك الجدّ» أى لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بدلك ، أى بدل طاعتك وعبادتك وما عندك
__________________
وفي معناه قوله
تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) وقرئ : وقود ، بالضم بمعنى أهل وقودها. والمراد بالذين
كفروا من كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس : هم قريظة والنضير.
الدأب : مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله ،
والكاف مرفوع المحل تقديره : دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم.
ويجوز أن ينتصب محل الكاف بلن تغنى ، أو بالوقود. أى لن تغنى عنهم مثل ما لم تغن
عن أولئك أو توقد بهم النار كما توقد بهم ، تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك تريد
كظلم أبيك ومثل ما كان يظلمهم ، وإنّ فلانا لمحارف كدأب أبيه ، تريد كما حورف أبوه (كَذَّبُوا بِآياتِنا) تفسير لدأبهم ما فعلوا وفعل بهم ، على أنه جواب سؤال مقدّر
عن حالهم (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا) هم مشركو مكة (سَتُغْلَبُونَ) يعنى يوم بدر. وقيل : هم اليهود. ولما غلب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم بدر قالوا : هذا والله النبىّ الأمىّ الذي بشرنا به موسى ،
وهموا باتباعه. فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى ، فلما كان يوم أحد
شكوا. وقيل : جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في سوق بنى قينقاع
فقال يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أنى نبى
مرسل ، فقالوا لا يغرّنك أنك لقيت قوما أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة
، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ، فنزلت وقرئ : سيغلبون ويحشرون ، بالياء ،
كقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) على قل لهم قولي لك سيغلبون. فإن قلت : أى فرق بين
القراءتين من حيث المعنى؟ قلت : معنى القراءة بالتاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجرى
عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم. فهو إخبار بمعنى سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من
نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ : ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم
ما أخبره به من وعيدهم بلفظه ، كأنه قال : أدّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك
سيغلبون ويحشرون.
(قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى
كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(١٣)
__________________
(قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ) الخطاب لمشركي قريش (فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا) يوم بدر (يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ) يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين. أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً
وعشرين ، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ، وكان
ذلك مدداً لهم من الله كما أمدّهم بالملائكة. والدليل عليه قراءة نافع : ترونهم ،
بالتاء أى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة ، أو مثلي أنفسهم. فإن
قلت : فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ). قلت : قللوا أوّلا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم ، فلما
لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين.
ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) وقوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة
وإظهار الآية. وقيل يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله
تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) بعد ما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ولذلك وصف ضعفهم بالقلة لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف وكان الكافرون
ثلاثة أمثالهم. وقراءة نافع لا تساعد عليه. وقرأ ابن مصرف : يرونهم ، على البناء
للمفعول بالياء والتاء ، أى يريهم الله ذلك بقدرته. وقرئ : فئة تقاتل وأخرى كافرة
، بالجرّ على البدل من فئتين ، وبالنصب على الاختصاص. أو على الحال من الضمير في
التقتا (رَأْيَ الْعَيْنِ) يعنى رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها ، معاينة كسائر
المعاينات (وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ) كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ.
__________________
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ
وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
قُلْ
أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ
النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)(١٧)
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ) المزين هو الله سبحانه وتعالى للابتلاء ، كقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ) ويدل عليه قراءة مجاهد : زين للناس ، على تسمية الفاعل.
وعن الحسن : الشيطان. والله زينها لهم ، لأنا لا نعلم أحداً أذم لها من خالقها (حُبُّ الشَّهَواتِ) جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها. والوجه
أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات ، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها
شاهد على نفسه بالهيمية ، وقال : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ) ثم جاء بالتفسير ، ليقرر أوّلا في النفوس أن المزين لهم
حبه ما هو إلا شهوات لا غير ، ثم يفسره بهذه الأجناس ، فيكون أقوى لتخسيسها ،
وأدلّ على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله.
والقنطار : المال الكثير. قيل : ملء مسك ثور. وعن سعيد بن جبير : مائة ألف دينار.
ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا.
__________________
و (الْمُقَنْطَرَةِ) مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم : ألف مؤلفة ، وبدرة
مبدرة. و (الْمُسَوَّمَةِ) المعلمة ، من السومة وهي العلامة. أو المطهمة أو المرعية من أسام الدابة وسوّمها (وَالْأَنْعامِ) الأزواج الثمانية (ذلِكَ) المذكور (مَتاعُ الْحَياةِ).
(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم ، كما
تقول : هل أدلك على رجل عالم؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يتعلق اللام
بخير. واختص المتقين ، لأنهم هم المنتفعون به. وترتفع (جَنَّاتٌ) على : هو جنات. وتنصره قراءة من قرأ (جنات) بالجرّ على
البدل من خير (وَاللهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ) يثيب ويعاقب على الاستحقاق ، أو بصير بالذين اتقوا
وبأحوالهم ، فلذلك أعدّ لهم الجنات
(الَّذِينَ يَقُولُونَ) نصب على المدح ، أو رفع. ويجوز الجرّ صفة للمتقين أو
للعباد. والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كما لهم في كل واحدة منها. وقد
مرّ الكلام في ذلك. وخص الأسحار لأنهم كانوا يقدّمون قيام الليل فيحسن طلب الحاجة
بعده (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وعن الحسن : كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر
أخذوا في الدعاء والاستغفار ، هذا نهارهم ، وهذا ليلهم.
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ
اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٩)
شبهت دلالته على
وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة
بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما بشهادة الشاهد في البيان والكشف ،
وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه (قائِماً بِالْقِسْطِ) مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ، ويثيب ويعاقب
، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. وانتصابه
على أنه حال مؤكدة منه كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً). فإن قلت : لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه؟
ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكباً لم يجز؟ قلت : إنما جاز هذا لعدم الإلباس كما جاز
في قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أن انتصب نافلة حالا
__________________
عن يعقوب. ولو قلت
: جاءني زيد وهند راكباً جاز لتميزه بالذكورة ، أو على المدح. فإن قلت : أليس من
حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة كقولك : الحمد لله الحميد. «إنا معشر الأنبياء
لا نورث» . إنا بنى نهشل لا ندعى لأب؟ قلت : قد جاء نكرة كما جاء
معرفة. وأنشد سيبويه فيما جاء منه نكرة قول الهذلي :
وَيَأْوِى إلَى
نِسْوَةٍ عُطْلٍ
|
|
وَشُعْثاً
مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِى
|
فإن قلت : هل يجوز
أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو؟ قلت : لا يبعد ، فقد
رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف. فإن قلت : قد جعلته حالا من فاعل شهد
، فهل يصح أن ينتصب حالا عن «هو» في : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)؟ قلت : نعم ، لأنها حال مؤكدة والحال المؤكدة لا تستدعى أن
يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها ، كقولك : أنا عبد الله
شجاعاً. وكذلك لو قلت : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً. وهو أوجه من انتصابه عن فاعل
شهد ، وكذلك انتصابه على المدح. فإن قلت : هل دخل قيامه بالقسط في حكم شهادة الله
والملائكة وأولى العلم كما دخلت الوحدانية؟ قلت : نعم إذا جعلته حالا من هو ، أو
نصباً على المدح منه ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : شهد الله والملائكة وأولو العلم
أنه لا إله إلا هو ، وأنه قائم بالقسط. وقرأ عبد الله : القائم بالقسط ، على أنه
بدل من هو ، أو خبر مبتدإ محذوف. وقرأ أبو حنيفة : قيما بالقسط (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان مقرّرّتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل ،
يعنى أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر ، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في
أفعاله. فإن قلت : ما المراد بأولى العلم الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه
ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ قلت : هم الذين يثبتون وحدانيته
وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل والتوحيد. وقرئ (أنه) بالفتح ، و (إِنَّ الدِّينَ) بالكسر على أنّ الفعل واقع على أنه
__________________
بمعنى شهد الله
على أنه ، أو بأنه. وقوله (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى. فإن قلت : ما فائدة هذا
التوكيد؟ قلت : فائدته أن قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) توحيد ، وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) تعديل ، فإذا أردفه قوله : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس عنده في
شيء من الدين. وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدّى إليه كإجازة الرؤية أو ذهب
إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام ، وهذا بين
جلى كما ترى. وقرئا مفتوحين ، على أن الثاني بدل من الأوّل ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله
الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بيانا صريحاً ، لأن دين الله هو
التوحيد والعدل. وقرئ الأوّل بالكسر والثاني بالفتح ، على أن الفعل واقع على إنّ ، وما بينهما اعتراض مؤكد. وهذا أيضا شاهد على أن دين
الإسلام هو العدل والتوحيد ، فترى القراءات كلها متعاضدة على ذلك. وقرأ عبد الله :
أن لا إله إلا هو. وقرأ أبىّ : إن الدين عند الله للإسلام ، وهي مقوية لقراءة من
فتح الأولى وكسر الثانية. وقرئ : شهداء لله ، بالنصب على أنه حال من المذكورين
قبله ، وبالرفع على هم شهداء الله. فإن قلت : فعلام عطف على هذه القراءة (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ)؟ قلت : على الضمير في شهداء ، وجاز لوقوع الفاصل بينهما.
فإن قلت : لم كرر قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)؟ قلت : ذكره أوّلا للدلالة على اختصاصه بالوحدانية ، وأنه
لا إله إلا تلك الذات
__________________
المتميزة ، ثم
ذكره ثانيا بعد ما قرن بإثبات الوحدانية إثبات العدل ، للدلالة على اختصاصه
بالأمرين ، كأنه قال : لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين ، ولذلك قرن به قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لتضمنهما معنى الوحدانية والعدل (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أهل الكتاب من اليهود والنصارى. واختلافهم أنهم تركوا
الإسلام وهو التوحيد والعدل (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فثلثت النصارى ، وقالت اليهود
عزير ابن الله ، وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوّة فينا من قريش لأنهم أمّيون
ونحن أهل كتاب ، وهذا تجويز لله (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أى ما كان ذلك الاختلاف وتظاهر هؤلاء بمذهب وهؤلاء بمذهب
إلا حسداً بينهم وطلبا منهم للرئاسة وحظوظ الدنيا ، واستتباع كل فريق ناسا يطؤن
أعقابهم ، لا شبهة في الإسلام. وقيل : هو اختلافهم في نبوّة محمد صلى الله عليه
وسلم ، حيث آمن به بعض وكفر به بعض. وقيل : هو اختلافهم في الإيمان بالأنبياء ،
فمنهم من آمن بموسى ، ومنهم من آمن بعيسى. وقيل هم اليهود ، واختلافهم أن موسى
عليه السلام حين احتضر استودع التوراة سبعين حبراً من بنى إسرائيل ، وجعلهم أمناء
عليها ، واستخلف يوشع ، فلما مضى قرن بعد قرن واختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم
علم التوراة بغيا بينهم وتحاسداً على حظوظ الدنيا والرياسة. وقيل : هم النصارى
واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله
(فَإِنْ حَاجُّوكَ
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)(٢٠)
(فَإِنْ حَاجُّوكَ) فإن جادلوك في الدين (فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِيَ لِلَّهِ) أى أخلصت نفسي وجملتي
__________________
لله وحده لم أجعل
فيها لغيره شركا بأن أعبده وأدعوه إلها معه ؛ يعنى أن دينى التوحيد وهو الدين
القديم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي ، وما جئت بشيء بديع حتى تجادلونى فيه.
ونحوه (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو حق
اليقين الذي لا لبس فيه ؛ فما معنى المحاجة فيه؟ (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على التاء في أسلمت وحسن للفاصل. ويجوز أن تكون الواو
بمعنى مع فيكون مفعولا معه (وَقُلْ لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى
حصوله لا محالة ؛ فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وهذا كقولك لمن لخصت له
المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته : هل فهمتها لا أم لك ،
ومنه قوله عزّ وعلا (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر. وفي هذا الاستفهام
استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له
الحجة لم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاندة بعد تجلى الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين
الإذعان ، وكذلك في : هل فهمتها؟ توبيخ بالبلادة وكلة القريحة. وفي
: (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطى المنهي عنه (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) فقد نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى ومن
الظلمة إلى النور (وَإِنْ تَوَلَّوْا) لم يضروك فإنك رسول منبه عليك أن تبلغ الرسالة وتنبه على
طريق الهدى.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٢)
قرأ الحسن :
يقتلون النبيين. وقرأ حمزة : ويقاتلون الذين يأمرون. وقرأ عبد الله : وقاتلوا وقرأ
أبىّ. يقتلون النبيين ، والذين يأمرون. وهم أهل الكتاب. قتل أولوهم الأنبياء
وقتلوا أتباعهم وهم راضون بما فعلوا ، وكانوا حول قتل رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين لو لا عصمة الله. وعن أبى عبيدة بن الجراح : قلت يا رسول الله ، أى
الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال : «رجل قتل نبيا ؛ أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن
منكر» ثم قرأها ثم قال : «يا أبا عبيدة ، قتلت
__________________
بنو إسرائيل ثلاثة
وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى
إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار » (فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) لأنّ لهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. فإن
قلت : لم دخلت الفاء في خبر إن؟ قلت : لتضمن اسمها معنى الجزاء ، كأنه قيل : الذين
يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم ، و «إنّ» لا تغير معنى الابتداء «فكأنّ
دخولها كلا دخول ، ولو كان مكانها «ليت» أو «لعل» لامتنع إدخال الفاء لتغير معنى
الابتداء.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا
جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٥)
(أُوتُوا نَصِيباً
مِنَ الْكِتابِ) يريد أحبار اليهود ، وأنهم حصلوا نصيبا وافراً من التوراة.
و «من» إما للتبعيض وإما للبيان ، أو حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح
التوراة وهي نصيب عظيم (يُدْعَوْنَ إِلى
كِتابِ اللهِ) وهو التوراة (لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ) وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مدارسهم فدعاهم
فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أى دين أنت؟ قال : على ملة إبراهيم.
قالا : إنّ إبراهيم كان يهوديا. قال لهما : إنّ بيننا وبينكم التوراة ، فهلموا
إليها» فأبيا. وقيل نزلت في الرجم ، وقد اختلفوا فيه. وعن الحسن
وقتادة : كتاب الله القرآن ؛ لأنهم قد علموا أنه كتاب الله لم يشكوا فيه (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم. وقرئ (ليحكم) على البناء
للمفعول. والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين
من لم يسلم : وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة
ليحكم بين المحق والمبطل منهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم الذين لم يسلموا. وذلك أنّ
قوله : (لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ) يقتضى أن يكون اختلافا واقعا فيما بينهم ، لا فيما بينهم
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________________
(ذلِكَ) التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام
قلائل كما طمعت المجبرة والحشوية (وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أنّ آباءهم هم الأنبياء يشفعون لهم كما غرت أولئك شفاعة
رسول الله صلى الله عليه وسلم في كبائرهم (فَكَيْفَ إِذا
جَمَعْناهُمْ) فكيف يصنعون فكيف تكون حالهم ، وهو استعظام لما أعدّ لهم وتهويل لهم ، وأنهم
يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه والمخلص منه ، وأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه
عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون. وروى أنّ أوّل راية ترفع لأهل الموقف من
رايات الكفار راية اليهود ، فيفضحهم الله على رؤس الأشهاد ، ثم يأمر بهم إلى النار
(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يرجع إلى كل نفس على المعنى ، لأنه في معنى كل الناس كما
تقول : ثلاثة أنفس ، تريد ثلاثة أناسى.
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ
حِسابٍ)(٢٧)
الميم في (اللهُمَ) عوض من يا ، ولذلك لا يجتمعان. وهذا بعض خصائص هذا الاسم
كما اختص بالتاء في القسم ، وبدخول حرف النداء عليه ، وفيه لام التعريف ، وبقطع
همزته في يا الله ، وبغير ذلك (مالِكَ الْمُلْكِ) أى تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرّف الملاك فيما يملكون (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) تعطى من تشاء النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك من الملك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) النصيب الذي أعطيته منه ، فالملك الأوّل عام شامل ،
والملكان
__________________
الآخران خاصان
بعضان من الكل : روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك
فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات ، من أين لمحمد ملك فارس
والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون ،
خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدّعتها «وبرق
منها برق أضاء ما بين لابتيها ، لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، وكبر وكبر المسلمون
وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال :
أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور
صنعاء ، وأخبرنى جبريل عليه السلام أن أمّتى ظاهرة على كلها ، فأبشروا. فقال
المنافقون : ألا تعجبون ، يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور
الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا
تستطيعون أن تبرزوا ، فنزلت. فإن قلت : كيف قال (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فذكر الخير دون الشر؟ قلت : لأنّ الكلام إنما وقع في الخير
الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك
على رغم من أعدائك ، ولأن كل أفعال الله تعالى من نافع وضارّ صادر عن الحكمة
والمصلحة ، فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه. ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل
والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحىّ والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف
عليه رزقه بغير حساب على أنّ من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ثم
قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم
ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم وفي بعض الكتب : أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك
ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعونى جعلتهم لهم رحمة ، وإن العباد عصوني جعلتهم
عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن
__________________
توبوا إلىّ أعطفهم
عليكم» وهو معنى قوله عليه السلام «كما تكونوا يولى عليكم» .
(لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٢٨)
نهوا أن يوالوا
الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق
بها ويتعاشر ، وقد كرّر ذلك في القرآن. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، (لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) ، (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ... الآية. والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل
من أصول الإيمان (مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ) يعنى أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين
فلا تؤثروهم عليهم (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) ومن يوالى الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم
الولاية ، يعنى أنه منسلخ من ولاية الله رأساً ، وهذا أمر معقول فإنّ موالاة
الولىّ وموالاة عدوّه متنافيان ، قال :
تَوَدُّ
عَدُوِّى ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِى
|
|
صدِيقُكَ لَيْسَ
النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ
|
(إِلَّا
أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه. وقرئ : تقية.
قيل للمتقى تقاة وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه. رخص لهم في موالاتهم إذا
خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة
والبغضاء ، وانتظار زوال المانع من قشر العصا ، كقول عيسى صلوات الله عليه «كن
وسطا وامش جانبا» (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه ، وهذا وعيد شديد. ويجوز
أن يضمن (تَتَّقُوا) معنى تحذروا وتخافوا ، فيعدى بمن وينتصب (تُقاةً) أو تقية على المصدر ، كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).
__________________
(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما
فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٩)
(إِنْ تُخْفُوا ما فِي
صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله (يَعْلَمْهُ) ولم يخف عليه وهو الذي (يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لا يخفى عليه منه شيء قط ، فلا يخفى عليه سركم وعلنكم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو قادر على عقوبتكم. وهذا بيان لقوله (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) لأنّ نفسه وهي ذاته المميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم
ذاتى لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص
بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا
يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلا حق به العقاب
، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله ، فوكل همه بما يورد
ويصدر ، ونصب عليه عيونا ، وبث من يتجسس عن بواطن أموره : لأخذ حذره وتيقظ في أمره
، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به ، فما بال من علم أنّ العالم الذات الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهم إنا نعوذ
بك من اغترارنا بسترك.
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ
وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٣٠)
(يَوْمَ تَجِدُ) منصوب بتودّ. والضمير في بينه لليوم ، أى يوم القيامة حين
تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين ، تتمنى لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً
بعيداً. ويجوز أن ينتصب (يَوْمَ تَجِدُ) بمضمر نحو : اذكر ، ويقع على ما عملت وحده ، ويرتفع (وَما عَمِلَتْ) على على الابتداء ، و (تَوَدُّ) خبره ، أى : والذي عملته من سوء تودّ هي لو تباعد ما بينها
وبينه. ولا يصح أن تكون ما شرطية لارتفاع تودّ. فإن قلت : فهل يصح أن تكون شرطية
على قراءة عبد الله ودّت؟ قلت : لا كلام في صحته ، ولكن الحمل على الابتداء والخبر
أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم وأثبت لموافقة قراءة العامّة.
ويجوز أن يعطف (وَما عَمِلَتْ) على : (ما عَمِلَتْ) ويكون (تَوَدُّ) حالا ، أى يوم تجد عملها محضراً وادّة تباعد ما بينها وبين
اليوم
__________________
أو عمل السوء
محضراً ، كقوله تعالى : (وَوَجَدُوا ما
عَمِلُوا حاضِراً) يعنى مكتوبا في صحفهم يقرءونه ونحوه (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ
اللهُ وَنَسُوهُ). والأمد المسافة كقوله تعالى : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ) وكرّر قوله (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) يعنى أن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من
الرأفة العظيمة بالعباد لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروه دعاهم ذلك إلى طلب رضاه
واجتناب سخطه. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. ويجوز أن يريد أنه مع كونه
محذوراً لعلمه وقدرته ، مرجوّ لسعة رحمته كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو
عِقابٍ أَلِيمٍ).
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا
اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)(٣٢)
محبة العباد لله
مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها. ومحبة الله عباده
أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم. والمعنى : إن كنتم مريدين لعبادة الله على الحقيقة (فَاتَّبِعُونِي) حتى يصحّ ما تدعونه من إرادة عبادته ، يرض عنكم ويغفر لكم.
وعن الحسن : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله
فأراد أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل ، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب
وكتاب الله يكذبه. وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكرها ويطرب وينعر
ويصعق فلا تشك في أنه لا يعرف ما الله ولا يدرى ما محبة الله. وما تصفيقه وطربه
ونعرته وصعقته إلا أنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله
بجهله ودعارته ، ثم صفق وطرب ونعر وصعق على تصوّرها ، وربما رأيت المنىَّ قد ملأ
إزار ذلك المحب عند صعقته ، وحمقى العامة على حواليه قد ملؤوا أدرانهم بالدموع لما
رققهم من حاله. وقرئ : تحبون. ويحببكم. ويحبكم ، من حبه يحبه. قال :
أُحِبُّ أبَا
ثَرْوَانَ مِنْ حُبِّ تَمْرِهِ
|
|
وَأَعْلَمُ أنّ
الرِّفْقَ بِالْجَارِ أَرْفَقُ
|
وَوَاللهِ لَوْ
لَا تَمْرُهُ ما حَبَبْتُهُ
|
|
وَلَا كَانَ
أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ وَمُشْرِقُ
|
__________________
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل أن يكون ماضياً ، وأن يكون مضارعاً بمعنى : فإن
تتولوا ، ويدخل في جملة ما يقول الرسول لهم.
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها
قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ
وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا
مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٧)
(آلَ إِبْراهِيمَ) إسماعيل وإسحاق وأولادهما. و (آلَ عِمْرانَ) موسى وهرون ابنا عمران ابن يصهر. وقيل عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان
، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة. و (ذُرِّيَّةً) بدل من آل إبراهيم وآل عمران (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) يعنى أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض :
موسى وهرون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من فاهث ، وفاهث من لاوى ، ولاوى من
يعقوب ، ويعقوب من إسحاق. وكذلك عيسى ابن مريم
__________________
بنت عمران بن
ماثان بن سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق. وقد دخل في آل
إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل بعضها من بعض في الدين ، كقوله تعالى (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ). (وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) يعلم من يصلح للاصطفاء ، أو يعلم أنّ بعضهم من بعض في
الدين. أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها. و (إِذْ) منصوب به. وقيل : بإضمار اذكر. وامرأة عمران هي امرأة
عمران بن ماثان ، أمّ مريم البتول ، جدّة عيسى عليه السلام ، وهي حنة بنت فاقوذ.
وقوله (إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ) على أثر قوله : (وَآلَ عِمْرانَ) مما يرجح أنّ عمران هو عمران بن ماثان جدّ عيسى ، والقول
الآخر يرجحه أن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر. فإن قلت : كانت لعمران بن
يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهرون ، ولعمران بن ماثان مريم البتول ، فما
أدراك أن عمران هذا هو أبو مريم البتول دون عمران أبى مريم التي هي أخت موسى وهرون؟
قلت : كفى بكفالة زكريا دليلا على أنه عمران أبو البتول ، لأن زكريا بن آذن وعمران
بن ماثان كانا في عصر واحد ، وقد تزوّج زكريا بنته إيشاع أخت مريم فكان يحيى وعيسى
ابني خالة. روى أنها كانت عاقراً لم تلد إلى أن عجزت ، فبينا هي في ظل شجرة بصرت
بطائر يطعم فرخاً له فتحرّكت نفسها للولد وتمنته ، فقالت : اللهم إن لك علىّ نذراً
شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه ، فحملت
بمريم وهلك عمران وهي حامل (مُحَرَّراً) معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يدَ لي عليه ولا أستخدمه ولا
أشغله بشيء ، وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم. وروى أنهم كانوا ينذرون هذا
النذر ، فإذا بلغ الغلام خير بين أن يفعل وبين أن لا يفعل. وعن الشعبي (مُحَرَّراً) مخلصاً للعبادة ،
وما كان التحرير إلا للغلمان ، وإنما بنت الأمر على التقدير ، أو طلبت أن ترزق
ذكراً (فَلَمَّا وَضَعَتْها) الضمير لما في بطني ، وإنما أنث على المعنى لأن ما في بطنها كان أنثى في علم
الله ، أو على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة. فإن قلت : كيف جاز انتصاب (أُنْثى) حالا من الضمير في وضعتها وهو كقولك وضعت الأنثى أنثى؟ قلت
: الأصل : وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأن الحال وذا الحال لشيء واحد ،
كما أنث الاسم في ما كانت أمّك لتأنيث الخبر. ونظيره قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) وأمّا على تأويل الحبلة أو النسمة فهو ظاهر ، كأنه قيل :
إنى وضعت الحبلة أو النسمة
__________________
أنثى. فإن قلت :
فلم قالت : إنى وضعتها أنثى وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت : قالته تحسراً على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها ، فتحزنت إلى ربها
لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكراً ، ولذلك نذرته محرّراً للسدانة. ولتكلمها بذلك
على وجه التحسر والتحزن قال الله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما وَضَعَتْ) تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه. ومعناه
: والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آية
للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا ، فلذلك تحسرت. وفي قراءة ابن عباس : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) على خطاب الله تعالى لها أى أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب
وما علم الله من عظم شأنه وعلوّ قدره. وقرئ : وضعت. بمعنى : ولعلّ لله تعالى فيه
سراً وحكمة ، ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها. فإن قلت : فما معنى
قوله (وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثى)؟ قلت : هو بيان لما في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) من التعظيم للموضوع والرفع منه ، ومعناه : وليس الذكر الذي
طلبت كالأنثى التي وهبت لها ، واللام فيهما للعهد. فإن قلت : علام عطف قوله (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ)؟ قلت : هو عطف على إنى وضعتها أنثى ، وما بينهما جملتان
معترضتان ، كقوله تعالى : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. فإن قلت : فلم ذكرت تسميتها
مريم لربها؟ قلت : لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة ، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون
فعلها مطابقاً لاسمها ، وأن يصدق فيها ظنها بها. ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة
لها ولولدها من الشيطان وإغوائه. وما يروى من الحديث «ما من مولود يولد
__________________
إلا والشيطان يمسه
حين يولد فيستهلّ صارخاً من مس الشيطان إياه ، إلا مريم وابنها» فالله أعلم بصحته. فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان
في إغوائه إلا مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين ، وكذلك كل من كان في صفتهما
كقوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنه
يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لِمَا تُؤْذِنُ
الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا
|
|
يَكُونُ بُكَاءُ
الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ
|
وأما حقيقة المس
والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا
صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه (فَتَقَبَّلَها
رَبُّها) فرضي بها في النذر مكان الذكر (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) فيه وجهان : أحدهما أن يكون القبول اسم ما تقبل به الشيء
كالسعوط واللدود ، لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في
النذر ، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك ، أو بأن تسلمها من أمّها عقيب الولادة قبل أن
تنشأ وتصلح للسدانة. وروى أن حنة حين ولدت مريم ، لفتها في خرقة وحملتها إلى
المسجد ، ووضعتها عند الأحبار أبناء هرون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ،
فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم
، وكانت بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق
بها ، عندي خالتها . فقالوا : لا حتى نقترع عليها ، فانطلقوا ـ وكانوا سبعة
وعشرين ـ إلى نهر ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت
أقلامهم ، فتكفلها. والثاني : أن يكون مصدراً على تقدير حذف المضاف بمعنى :
فتقبلها بذي قبول حسن ،
__________________
أى بأمر ذى قبول
حسن وهو الاختصاص. ويجوز أن يكون معنى (فتقبلها) فاستقبلها ، كقولك : تعجله بمعنى
استعجله ، وتقصاه بمعنى استقصاه ، وهو كثير في كلامهم ، من استقبل الأمر إذا أخذه
بأوّله وعنفوانه. قال القطامي :
وَخَيْرُ
الأَمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ
|
|
وَلَيْسَ بِأَنْ
تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا
|
ومنه المثل «خذ
الأمر بقوابله» أى فأخذها في أوّل أمرها حين ولدت بقبول حسن (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع
أحوالها. وقرئ : وكفلها زكرياء ، بوزن وعملها (وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا) بتشديد الفاء ونصب زكرياء ، الفعل لله تعالى بمعنى : وضمها إليه وجعله كافلا لها
وضامناً لمصالحها. ويؤيدها قراءة أبىّ : وأكفلها ، من قوله تعالى (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) وقرأ مجاهد : فتقبلها ربها ، وأنبتها ، وكفلها ، على لفظ
الأمر في الأفعال الثلاثة ، ونصب ربها ، تدعو بذلك ، أى فاقبلها يا ربها وربها ،
واجعل زكريا كافلا لها. قيل بنى لها زكريا محرابا في المسجد ، أى غرفة يصعد إليها
بسلم. وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدّمها ، كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت
المقدس. وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب. وروى أنه كان لا يدخل عليها إلا هو
وحده ، وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب (وَجَدَ عِنْدَها
رِزْقاً) كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثديا قط ، فكان
يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء (أَنَّى لَكِ هذا) من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في
غير حينه والأبواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به إليك؟ (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فلا تستبعد. قيل تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في
المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضى الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها
، فرجع بها إليها وقال : هلمى يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً
، فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله ، فقال لها صلى الله عليه وسلم : أنى لك هذا؟
فقالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال عليه الصلاة
والسلام : الحمد لله الذي
__________________
جعلك شبيهة سيدة
نساء بنى إسرائيل ، ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب والحسن
والحسين وجميع أهل بيته ، فأكلوا عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت
فاطمة على جيرانها. (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ) من جملة كلام مريم عليها السلام ، أو من كلام رب العزّة
عزّ من قائل (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير لكثرته ، أو تفضلا بغير محاسبة ومجازاة على عمل
بحسب الاستحقاق.
(هُنالِكَ دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ
بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ
اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ
رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٤١)
(هُنالِكَ) في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك
الوقت ، فقد يستعار هنا وثم وحيث للزمان. لما رأى حال مريم في كرامتها على الله
ومنزلتها ، رغب في أن يكون له من ايشاع ولد مثل ولد أختها حنة في النجابة والكرامة
على الله ، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أختها كذلك. وقيل لما رأى الفاكهة في
غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر (ذُرِّيَّةً) ولداً. والذرية يقع على الواحد والجمع (سَمِيعُ الدُّعاءِ) مجيبه. قرئ : فناداه الملائكة. وقيل : ناداه جبريل عليه
السلام ، وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) بالفتح على بأن الله ، وبالكسر على إرادة القول. أو لأن
النداء نوع من القول. وقرئ : يبشرك ، ويبشرك ، من بشره وأبشره. ويبشرك ، بفتح الياء من بشره. ويحيى إن كان أعجمياً وهو الظاهر
فمنع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى ، وإن كان عربياً فللتعريف
__________________
ووزن الفعل كيعمر (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) مصدّقا بعيسى مؤمناً به. قيل هو أول من آمن به ، وسمى عيسى
«كلمة» لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها ، وهي قوله : (كُنْ) من غير سبب آخر. وقيل : مصدّقا بكلمة من الله ، مؤمناً
بكتاب منه. وسمى الكتاب كلمة ، كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته. والسيد : الذي يسود
قومه ، أى يفوقهم في الشرف. وكان يحيى فائقا لقومه وفائقا للناس كلهم في أنه لم
يركب سيئة قط ، ويا لها من سيادة. والحصور : الذي لا يقرب النساء حصراً لنفسه أى
منعا لها من الشهوات. وقيل هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال الأخطل :
وَشَارِبٍ
مُرْبِحٍ بِالكأْسِ نَادَمَنِى
|
|
لَا
بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَئَّارِ
|
فاستعير لمن لا يدخل
في اللعب واللهو. وقد روى أنه مرّ وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب
خلقت (مِنَ الصَّالِحِينَ) ناشئا من الصالحين ، لأنه كان من أصلاب الأنبياء ، أو
كائنا من جملة الصالحين كقوله : (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). (أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلامٌ) استبعاد من حيث العادة كما قالت مريم (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) كقولهم : أدركته السنّ العالية. والمعنى أثر فىّ الكبر
فأضعفنى ، وكانت له تسع وتسعون سنة ، ولامرأته ثمان وتسعون (كَذلِكَ) أى يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل ، وهو
خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر ، أو كذلك الله مبتدأ وخبر ، أى على
نحو هذه الصفة الله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، أى يفعل ما يريد من الأفاعيل
الخارقة للعادات (آيَةً) علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر (قالَ آيَتُكَ أَلَّا) تقدر على تكليم الناس (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على
تكليمهم خاصة ، مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ، ولذلك قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) يعنى في أيام عجزك عن تكليم الناس ، وهي من الآيات
الباهرة. فإن قلت : لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت : ليخلص المدّة لذكر الله لا
يشتغل لسانه بغيره ، توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة ،
__________________
وشكرها الذي طلب
الآية من أجله ، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من
السؤال. ومنتزعا منه (إِلَّا رَمْزاً) إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما وأصله التحرّك. يقال ارتمز
: إذا تحرّك. ومنه قيل للبحر الراموز. وقرأ يحيى بن وثاب (إلا رمزاً) بضمتين ، جمع
رموز كرسول ورسل. وقرئ (رمزاً) بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم ، وهو حال منه ومن
الناس دفعة كقوله :
مَتَى مَا
تَلْقَنِى فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ
|
|
رَوَانِفُ
ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا
|
بمعنى إلا
مترامزين ، كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم. والعشىّ : من حين تزول الشمس
إلى أن تغيب. و (الْإِبْكارِ) من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. وقرئ : والأبكار ، بفتح
الهمزة جمع بكر ، كسحر وأسحار. يقال : أتيته بكراً بفتحتين. فإن قلت : الرمز ليس
من جنس الكلام ؛ فكيف استثنى منه؟ قلت : لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم
منه سمى كلاما ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.
(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ
يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ
الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)(٤٣)
(يا مَرْيَمُ) روى أنهم كلوها شفاها معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوّة عيسى (اصْطَفاكِ)
__________________
أوّلا حين تقبلك
من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية (وَطَهَّرَكِ) مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود (وَاصْطَفاكِ) آخرا (عَلى نِساءِ
الْعالَمِينَ) بأن وهب لك عيسى من غير أب ؛ ولم يكن ذلك لأحد من النساء.
أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود ؛ لكونهما من هيآت الصلاة وأركانها ؛ ثم قيل لها
(وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ) بمعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة ؛ أو انظمى
نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم. ويحتمل أن
يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع ، فأمرت بأن
تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)(٤٤)
(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبإ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم
السلام ، يعنى أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي. فإن قلت : لم نفيت
المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة؟ وترك نفى استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟
قلت : كان معلوما عندهم علما يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين
للوحى ، فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة ، فنفيت على سبيل
التهكم بالمنكرين للوحى مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ) ، (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الطُّورِ) ، (وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ)(أَقْلامَهُمْ) أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين. وقيل :
هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة ، اختاروها للقرعة تبركا بها (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأنها تنافسا في التكفل بها. فإن قلت : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) بم يتعلق؟ قلت : بمحذوف دلّ عليه يلقون أقلامهم ، كأنه قيل
: يلقونها ينظرون أيهم يكفل ، أو ليعلموا ، أو يقولون.
(إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
وَرَسُولاً
إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ
طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى
بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي
بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَمُصَدِّقاً
لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٥١)
(الْمَسِيحُ) لقب من الألقاب المشرفة ، كالصدّيق والفاروق ، وأصله مشيحا
بالعبرانية ، ومعناه المبارك ، كقوله : (وَجَعَلَنِي
مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) وكذلك (عيسى) معرب من أيشوع ، ومشتقهما من المسح والعيس ،
كالراقم في الماء. فإن قلت : (إِذْ قالَتِ) بم يتعلق؟ قلت : هو بدل من (وَإِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ) ويجوز أن يبدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع ، كما تقول :
لقيته سنة كذا. فإن قلت : لم قيل : عيسى ابن مريم والخطاب لمريم ؟ قلت : لأنّ الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات ،
فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه ، وبذلك فضلت
واصطفيت على نساء العالمين. فإن قلت : لم ذكر ضمير الكلمة؟ قلت لأن المسمى بها مذكر.
فإن قلت : لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، وهذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى ، وأما المسيح
والابن فلقب وصفة؟ قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره ، فكأنه قيل
: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة
__________________
(وَجِيهاً) حال من (بِكَلِمَةٍ) وكذلك قوله : ومن المقربين ، ويكلم ، ومن الصالحين. أى
يبشرك به موصوفا بهذه الصفات. وصح انتصاب الحال من النكرة لكونها موصوفة. والوجاهة
في الدنيا : النبوّة والتقدم على الناس. وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة.
وكونه (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة. والمهد : ما يمهد للصبي
من مضجعه ، سمى بالمصدر. و (فِي الْمَهْدِ) في محل النصب على الحال (وَكَهْلاً) عطف عليه بمعنى : ويكلم الناس طفلا وكهلا. ومعناه : يكلم
الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال
الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء. ومن بدع التفاسير أن قولها
(رَبِ) نداء لجبريل عليه السلام بمعنى يا سيدي (ونعلمه) عطف على
يبشرك ، أو على وجيها أو على يخلق ، أو هو كلام مبتدأ. وقرأ عاصم ونافع : ويعلمه ،
بالياء. فإن قلت : علام تحمل : ورسولا ، ومصدّقا ، من المنصوبات المتقدّمة ، وقوله
: (أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ) و (لِما بَيْنَ يَدَيَّ) يأبى حمله عليها؟ قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان :
أحدهما أن يضمر له «وأرسلت» على إرادة القول ؛ تقديره : ونعلمه الكتاب والحكمة ،
ويقول أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم. ومصدقا لما بين يدي. والثاني أن الرسول والمصدّق
فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقا بأنى قد جئتكم ، وناطقا بأنى أصدق ما بين
يدي وقرأ اليزيدي : ورسول : عطفاً على كلمة (أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ) أصله أرسلت بأنى قد جئتكم ، فحذف الجار وانتصب بالفعل ، و (أَنِّي أَخْلُقُ) نصب بدل من (أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ) أو جرّ بدل من آية ، أو رفع على : هي أنى أخلق لكم ، وقرئ
: إنى ، بالكسر على الاستئناف ، أى أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف ، أى في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير (فَيَكُونُ طَيْراً) فيصير طيراً كسائر الطيور حياً. وقرأ عبد الله : فأنفخها.
قال :
كَالْهَبْرَقِىِّ
تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْمَا
وقيل : لم يخلق
غير الخفاش (الْأَكْمَهَ) الذي ولد أعمى ، وقيل هو الممسوح العين. ويقال : لم يكن في
هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وروى أنه ربما اجتمع
عليه خمسون ألفا من المرضى ، من أطاق منهم أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى ، وما كانت
مداواته إلا بالدعاء وحده. وكرر (بِإِذْنِ اللهِ) دفعاً لوهم من توهم فيه اللاهوتية. وروى أنه أحيا
__________________
سام بن نوح وهم
ينظرون ، فقالوا هذا سحر فأرنا آية : فقال يا فلان أكلت كذا ، ويا فلان خبئ لك
كذا. وقرئ تذخرون ، بالذال والتخفيف (وَلِأُحِلَ) ردّ على قوله : (بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) أى جئتكم بآية من ربكم ، ولأحل لكم ويجوز أن يكون (مُصَدِّقاً) مردودا عليه أيضا ، أى جئتكم بآية وجئتكم مصدقا. وما حرم
الله عليهم في شريعة موسى : الشحوم والثروب ولحوم الإبل ، والسمك ، وكل ذى ظفر ، فأحل لهم عيسى بعض
ذلك. وقيل : أحل لهم من السمك والطير ما لا صيصية له. واختلفوا في إحلاله لهم السبت. وقرئ (حرم عليكم) على
تسمية الفاعل ، وهو ما بين يدىّ من التوراة ، أو الله عزّ وجلّ ، أو موسى عليه
السلام ؛ لأن ذكر التوراة دل عليه ، ولأنه كان معلوما عندهم. وقرئ : حرم ، بوزن
كرم (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ) شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه :
وقرئ بالفتح على البدل من (بِآيَةٍ). وقوله (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) اعتراض ، فإن قلت : كيف جعل هذا القول آية من ربه؟ قلت
لأنّ الله تعالى جعله له علامة يعرف منها أنه رسول كسائر الرسل ، حيث هداه للنظر
في أدلة العقل والاستدلال. ويجوز أن يكون تكريراً لقوله : (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أى جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم ، من خلق الطير ،
والإبراء ، والإحياء ، والإنباء بالخفايا ، وبغيره من ولادتي بغير أب ، ومن كلامى
في المهد ، ومن سائر ذلك. وقرأ عبد الله. وجئتكم بآيات من ربكم ، فاتقوا الله لما
جئتكم به من الآيات ، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه. ثم ابتدأ فقال : إن الله ربى
وربكم. ومعنى قراءة من فتح : ولأنّ الله ربى وربكم فاعبدوه ، كقوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ .....
فَلْيَعْبُدُوا) ويجوز أن يكون المعنى : وجئتكم بآية على أن الله ربى وربكم
وما بينهما اعتراض.
(فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ
نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
رَبَّنا
آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ
(٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ
خَيْرُ الْماكِرِينَ)(٥٤)
(فَلَمَّا أَحَسَ) فلما علم منهم (الْكُفْرَ) علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس. و (إِلَى
__________________
اللهِ) من صلة أنصارى
مضمنا معنى الإضافة ، كأنه قيل : من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ، ينصرونني كما
ينصرني ، أو يتعلق بمحذوف حالا من الياء ، أى من أنصارى ، ذاهبا إلى الله ملتجئا
إليه (نَحْنُ أَنْصارُ
اللهِ) أى أنصار دينه ورسوله. وحوارىّ الرجل : صفوته وخالصته.
ومنه قيل للحضريات الحواريات ؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن ، قال :
فَفُلْ
لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا
|
|
وَلَا تَبْكِنَا
إلّا الْكِلَابُ النَّوَابِحُ
|
وفي وزنه الحوالى
، وهو الكثير الحيلة. وإنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيداً لإيمانهم ، لأنّ الرسل
يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم (مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم أو مع الذين يشهدون
بالوحدانية. وقيل : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم شهداء على الناس (وَمَكَرُوا) الواو لكفار بنى إسرائيل الذين أحس منهم الكفر ، ومكرهم
أنهم وكلوا به من يقتله غيلة (وَمَكَرَ اللهُ) أن رفع عيسى إلى السماء وألفى شبهه على من أراد اغتياله
حتى قتل (وَاللهُ خَيْرُ
الْماكِرِينَ) أقواهم مكراً وأنفذهم كيدا وأقدرهم على العقاب من حيث لا
يشعر المعاقب.
(إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما
لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ)(٥٧)
(إِذْ قالَ اللهُ) ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أى مستوفى أجلك. معناه : إنى عاصمك من أن يقتلك الكفار ؛ ومؤخرك إلى أجل كتبته لك. ومميتك حتف
أنفك لا قتيلا بأيديهم (وَرافِعُكَ إِلَيَ) إلى سمائي ومقرّ ملائكتي (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم وخبث صحبتهم. وقيل متوفيك : قابضك من الأرض
، من توفيت مالى على
__________________
فلان إذا استوفيته
: وقيل : مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن : وقيل : متوفى نفسك
بالنوم من قوله : (وَالَّتِي لَمْ
تَمُتْ فِي مَنامِها) ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في
السماء آمن مقرب (فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ، ومتبعوه هم
المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع ، دون الذين كذبوه
وكذبوا عليه من اليهود والنصارى (فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ) تفسير الحكم قوله (فَأُعَذِّبُهُمْ ...) (فنوفيهم أجورهم) وقرئ فيوفيهم بالياء.
(ذلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)(٥٨)
(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبإ عيسى وغيره وهو مبتدأ خبره (نَتْلُوهُ) و (مِنَ الْآياتِ) خبر بعد خبر أو خبر مبتدإ محذوف. ويجوز أن يكون ذلك بمعنى
الذي ، ونتلوه صلته. ومن الآيات الخبر : ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر تفسيره نتلوه (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) القرآن ، وصف بصفة من هو سببه ، أو كأنه ينطق بالحكمة
لكثرة حكمه.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٥٩)
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى) إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم. وقوله (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم أى خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم ،
وكذلك حال عيسى. فإن قلت : كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب ، ووجد آدم من غير أب
وأم؟ قلت : هو مثيله في إحدى الطرفين ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من
تشبيهه به ، لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شبه به لأنه وجد وجودا
خارجا عن العادة المستمرة ، وهما في ذلك نظيران ، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب
وأخرق للعادة من الوجود بغير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ؛ ليكون أقطع للخصم وأحسم
لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم
فقال لهم : لِمَ تعبدون عيسى ، قالوا : لأنه لا أب له. قال. فآدم أولى لأنه لا
أبوين له. قالوا : كان يحيى الموتى. قال : فحزقيل أولى ، لأن عيسى أحيا أربعة نفر ،
وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص. قال : فجرجيس أولى ،
لأنه طبخ وأحرق
__________________
ثم قام سالما. (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) قدّره جسداً من طين (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أى أنشأه بشراً كقوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ). (فَيَكُونُ) حكاية حال ماضية.
(الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(٦٠)
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر مبتدإ محذوف ، أى هو الحق كقول أهل خيبر : محمد
والخميس .
ونهيه عن الامتراء
ـ وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممتريا ـ من باب التهييج لزيادة
الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفا لغيره.
(فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)(٦١)
(فَمَنْ حَاجَّكَ) من النصارى (فِيهِ) في عيسى (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أى من البينات الموجبة للعلم (تَعالَوْا) هلموا. والمراد المجيء بالرأى والعزم ، كما نقول تعال نفكر
في هذه المسألة (نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ) أى يدع كل منى ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم.
والبهلة بالفتح ، والضم : اللعنة. وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته من قولك «أبهله»
إذا أهمله. وناقة باهل : لاصرار عليها وأصل الابتهال هذا ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن
لم يكن التعانا. وروى «أنهم لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر ، فلما
تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ فقال والله لقد
عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبىٌّ مرسل ، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ،
والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكنّ فإن
أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى
بلادكم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذاً بيد
الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلىٌّ خلفها وهو يقول : «إذا أنا دعوت فأمّنوا» فقال أسقف
نجران : يا معشر النصارى ، إنى لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا
__________________
من مكانه لأزاله
بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ،
فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا
قال «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا.
قال : «فإنى أناجزكم» فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا
تغزونا ولا تخيفنا ولا ترددنا عن ديننا على أنّ نؤدي إليك كل عام ألفى حلة : ألف
في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعا عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال : «والذي نفسي بيده ، إن الهلاك قد تدلى على أهل
نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل
الله نجران وأهله حتى الطير على رؤس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى
يهلكوا» وعن عائشة رضى الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط
مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ، ثم على
، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فإن قلت. ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه
ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت : ذلك
آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته
وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى
ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة.
وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه
وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم
من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم
__________________
في الذكر على
الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون
بها. وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام. وفيه برهان
واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف
أنهم أجابوا إلى ذلك.
(إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٦٣)
(إِنَّ هذا) الذي قص عليك من نبأ عيسى (لَهُوَ الْقَصَصُ
الْحَقُ) قرئ بتحريك الهاء على الأصل وبالسكون ، لأن اللام تنزل من (هو)
منزلة بعضه ، فخفف كما خفف عضد. وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها ، وإما مبتدأ
والقصص الحق خبره ، والجملة خبر إن. فإن قلت : لم جاز دخول اللام على الفصل؟ قلت :
إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز ، لأنه أقرب إلى المبتدإ منه
، وأصلها أن تدخل على المبتدإ. و «من» في قوله (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ) بمنزلة البناء على الفتح في : (إِلهٍ إِلَّا اللهُ) في إفادة معنى الاستغراق ، والمراد والردّ على النصارى في
تثليثهم (فَإِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ
بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
(٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ
فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ
أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(٦٨)
(يا أَهْلَ الْكِتابِ) قيل هم أهل الكتابين. وقيل : وفد نجران. وقيل : يهود
المدينة (سَواءٍ
بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمْ) مستوية بيننا وبينكم ، لا يختلف فيها القرآن والتوراة
والإنجيل. وتفسير الكلمة قوله (أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) يعنى تعالوا إليها حتى لا نقول : عزيز ابن الله ، ولا
المسيح ابن الله ، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا ، ولا نطيع أحبارنا فيما
أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله ، كقوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) وعن عدى بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله ، قال : أليس
كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم. قال : هو ذاك. وعن الفضيل :
لا أبالى أطعت مخلوقا في معصية الخالق ، أو صليت لغير القبلة. وقرئ (كلمة) بسكون
اللام. وقرأ الحسن (سواء) بالنصب بمعنى استوت استواء (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد (فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أى لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا
مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما. اعترف بأنى
أنا الغالب وسلم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا
واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. زعم كل فريق من اليهود
والنصارى أن إبراهيم كان منهم ، وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
فيه فقيل لهم : إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة ، والنصرانية بعد نزول
الإنجيل ، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يكون
إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ها للتنبيه ، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره. و (حاجَجْتُمْ) جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعنى أنتم هؤلاء
الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) مما نطق به التوراة والإنجيل (فَلِمَ تُحَاجُّونَ
فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم. وعن الأخفش : ها
أنتم هو آأنتم على الاستفهام ، فقلبت الهمزة هاء. ومعنى الاستفهام التعجب من
حماقتهم. وقيل (هؤُلاءِ) بمعنى الذين و (حاجَجْتُمْ) صلته (وَاللهُ يَعْلَمُ) علم ما حاججتم فيه (وَأَنْتُمْ) جاهلون به ثم أعلمهم بأنه بريء من دينكم وما كان إلا (حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) كما لم يكن منكم. أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى
لإشراكهم به عزيراً والمسيح (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في زمانه وبعده (وَهذَا النَّبِيُ) خصوصا (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أمته. وقرئ : وهذا النبىَّ ، بالنصب عطفاً على الهاء في
اتبعوه ، أى اتبعوه واتبعوا هذا النبي. وبالجر عطفاً على إبراهيم.
(وَدَّتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ
وَما
يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ)(٧١)
(وَدَّتْ طائِفَةٌ) هم اليهود ، دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهودية (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم
بضلالهم وإضلالهم. أو وما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنما يضلون أمثالهم من
أشياعهم (بِآياتِ اللهِ) بالتوراة والإنجيل. وكفرهم بها : أنهم لا يؤمنون بما نطقت
به من صحة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها. وشهادتهم : اعترافهم بأنها
آيات الله. أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوّة الرسول (وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) نعته في الكتابين. أو تكفرون بآيات الله جميعاً وأنتم
تعلمون أنها حق. قرئ (تَلْبِسُونَ) بالتشديد. وقرأ يحيى بن وثاب (تَلْبِسُونَ) بفتح الباء أى تلبسون الحق مع الباطل. كقوله : كلابس ثوبي
زور. وقوله :
إذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا
(وَقالَتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا
إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى
أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٧٤)
__________________
(وَجْهَ النَّهارِ) أوّله. قال :
مَنْ كانَ
مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ
|
|
فَلْيَأْتِ
نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
|
والمعنى : أظهروا
الإيمان بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار (وَاكْفُرُوا) به في آخره لعلهم يشكون في دينهم ويقولون : ما رجعوا وهم
أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم. وقيل : تواطأ اثنا عشر من
أحبار يهود خيبر وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أوّل النهار من غير اعتقاد
، واكفروا به آخر النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا
محمداً ليس بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه
في دينهم. وقيل : هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة قال كعب بن الأشرف
لأصحابه : آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها في أوّل النهار
، ثم اكفروا به في آخره وصلوا إلى الصخرة ، ولعلهم يقولون : هم أعلم منا وقد رجعوا
فيرجعون (وَلا تُؤْمِنُوا) متعلق بقوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) وما بينهما اعتراض. أى : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا : أسرّوا تصديقكم بأنّ المسلمين
قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون
المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على أن يؤتى . والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع ، بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم ، أنّ المسلمين
يحاجونكم
__________________
يوم القيامة بالحق
ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة. فإن قلت : فما معنى الاعتراض؟ قلت : معناه أنّ
الهدى هدى الله ، من شاء أن يلطف به حتى يسلم ، أو يزيد ثباته على الإسلام ، كان
ذلك ، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله
تعالى (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يريد الهداية والتوفيق. أو يتمَّ الكلام عند قوله : (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) على معنى : ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه
النهار إلا لمن تبع دينكم : إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم لأن
رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. وقوله : (أَنْ يُؤْتى) معناه لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه ، لا
لشيء آخر ، يعنى أن ما بكم من الحسد والبغي ـ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل
العلم والكتاب ـ دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ، والدليل عليه قراءة ابن كثير : أأن
يؤتى أحد بزيادة همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ ، بمعنى : إلا أن يؤتى أحد. فإن
قلت : فما معنى قوله أو يحاجوكم على هذا؟ قلت : معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم ولما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم. ويجوز أن يكون (هُدَى اللهِ) بدلا من الهدى ، و (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) خبر إن ، على معنى
: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم
فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم. وقرئ : إن يؤتى أحد ، على إن النافية ، وهو
متصل بكلام أهل الكتاب. أى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم : ما يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، يعنى ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم. ويجوز أن
ينتصب (أَنْ يُؤْتى) بفعل مضمر يدل عليه قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) كأنه قيل : قل إن الهدى هدى الله ، فلا تنكروا ان يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم ؛ لأن قولهم (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا.
(وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧٦)
عن ابن عباس (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي
أوقية ذهبا فأدّاه إليه. و (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينارٍ) فنحاص بن عازوراء استودعه رجل
من قريش ديناراً
فجحده وخانه. وقيل : المأمونون على الكثير النصارى ، لغلبة الأمانة عليهم. والخائنون
في القليل اليهود ، لغلبة الخيانة عليهم (إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً) إلا مدّة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه متوكلا
عليه بالمطالبة والتعنيف ، أو بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة عليه. وقرئ (يؤده)
بكسر الهاء والوصل ، وبكسرها بغير وصل ، وبسكونها. وقرأ يحيى بن وثاب : تئمنه ،
بكسر التاء. ودمت بكسر الدال من دام يدام (ذلِكَ) إشارة إلى ترك الأداء الذي دلّ عليه لم يؤدّه ، أى تركهم
أداء الحقوق بسبب قولهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أى لا يتطرّق علينا عتاب وذم في شأن الأميين ، يعنون الذين
ليسوا من أهل الكتاب ، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم ، لأنهم ليسوا
على ديننا ، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ويقولون : لم يجعل لهم في كتابنا حرمة.
وقيل : بايع اليهود رجالا من قريش ، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا
حق حيث تركتم دينكم ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وعن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال عند نزولها «كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت
قدمىَّ ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر» وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال : إنا نصيب في الغزو من
أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال : فتقولون ما ذا؟ قال : نقول ليس علينا في
ذلك بأس. قال : هذا كما قال أهل الكتاب : ليس علينا في الأميين سبيل. إنهم إذا
أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أكل أموالهم إلا بطيبة أنفسهم . (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) بادعائهم أن ذلك في كتابهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون (بَلى) إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين ، أى بلى عليهم
سبيل فيهم. وقوله (مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ) جملة مستأنفة مقرّرة للجملة التي سدّت بلى مسدّها ،
والضمير في بعهده راجع إلى من أوفى ، على أنّ كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله
في ترك الخيانة والغدر ، فإنّ الله يحبه. فإن قلت ، فهذا عام يخيل أنه لو وفي أهل
الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله. قلت : أجل ، لأنهم إذا وفوا
بالعهود وفوا أول شيء بالعهد الأعظم ، وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان
برسول مصدق لما معهم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على
الله وتحريف كلمه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى ، على أن كل من وفى بعهد
الله واتقاه فإنّ الله يحبه ، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب
اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء. فإن قلت : فأين الضمير الراجع من الجزاء إلى من؟
قلت :
__________________
عموم المتقين قام
مقام رجوع الضمير. وعن ابن عباس : نزلت في عبد الله بن سلام وبحيرا الراهب
ونظرائهما من مسلمة أهل الكتاب
(إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٨)
(يَشْتَرُونَ) يستبدلون (بِعَهْدِ اللهِ) بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدّق لما معهم (وَأَيْمانِهِمْ) وبما حلفوا به من قولهم. والله لنؤمنن به ولننصرنه (ثَمَناً قَلِيلاً) متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك. وقيل : نزلت في
أبى رافع ولبابة بن أبى الحقيق وحيىّ بن أخطب ، حرفوا التوراة وبدلوا صفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا الرشوة على ذلك. وقيل : جاءت جماعة من اليهود
إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين ، فقال لهم : هل تعلمون أن هذا الرجل
رسول الله؟ قالوا : نعم. قال : لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيراً
كثيراً. فقالوا : لعله شبه علينا فرويداً حتى نلقاه. فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته
، ثم رجعوا إليه وقالوا : قد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ، ففرح ومارهم.
وعن الأشعث بن قيس : نزلت فىّ ، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «شاهداك أو يمينه» فقلت إذن يحلف ولا يبالى
فقال «من حلف على يمين يستحق بها ما لا هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان» وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها
ما لم يعطه. والوجه أن نزولها في أهل الكتاب. وقوله : (بِعَهْدِ اللهِ) يقوّى رجوع الضمير في بعهده إلى الله (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم تقول : فلان لا ينظر
إلى فلان ، تريد نفى اعتداده به وإحسانه إليه (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ولا يثنى عليهم. فإن قلت : أى فرق بين استعماله فيمن يجوز
عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت : أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من
اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد
والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى
الإحسان
__________________
مجازاً عما وقع
كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر (لَفَرِيقاً) هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيىّ بن أخطب وغيرهم (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف وقرأ أهل المدينة :
يلوّون ، بالتشديد ، كقوله : لووا رؤسهم. وعن مجاهد وابن كثير : يلون. ووجهه أنهما
قلبا الواو المضمومة همزة ، ثم خففوها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها. فإن
قلت : إلام يرجع الضمير في : (لتحسبوه)؟ قلت : إلى ما دلّ عليه يلوّون ألسنتهم
بالكتاب وهو المحرف. ويجوز أن يراد : يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك
الشبه من الكتاب وقرئ : ليحسبوه بالياء ، بمعنى : يفعلون ذلك ليحسبه المسلمون من
الكتاب (وَيَقُولُونَ هُوَ
مِنْ عِنْدِ اللهِ) تأكيد لقوله : هو من الكتاب ، وزيادة تشنيع عليهم ، وتسجيل
بالكذب ، ودلالة على أنهم لا يعرضون ولا يورون وإنما يصرحون بأنه في التوراة هكذا
، وقد أنزله الله تعالى على موسى كذلك لفرط جرامتهم على الله وقساوة قلوبهم ويأسهم
من الآخرة. وعن ابن عباس : هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة
وكتبوا كتابا بدّلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذت قريظة ما
كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم.
(ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
وَلا
يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(٨٠)
(ما كانَ لِبَشَرٍ) تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى. وقيل : إنّ أبا رافع القرظي
والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريد أن نعبدك
ونتخذك ربا؟ فقال معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو أن نأمر بعبادة غير الله! فما
بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرنى فنزلت. وقيل : قال رجل : يا رسول الله ، نسلم عليك كما
يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال :
__________________
لا ينبغي أن يسجد
لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله (وَالْحُكْمَ) والحكمة وهي السنة (وَلكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ) ولكن يقول كونوا. والربانىّ : منسوب إلى الرب بزيادة الألف
والنون ؛ كما يقال : رقبانى ولحياني ، وهو الشديد التمسك بدين الله وطاعته. وعن
محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس : اليوم مات ربانىّ هذه الأمّة. وعن
الحسن ربانيين علماء فقهاء. وقيل علماء معلمين. وكانوا يقولون : الشارع الرباني :
العالم العامل المعلم (بِما كُنْتُمْ) بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم أوجب أن تكون الربانية التي هي
قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعى من
جهد نفسه وكدّ روحه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثله مثل
من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها : وقرئ : تعلمون ، من التعليم.
وتعلمون من التعلم (تَدْرُسُونَ) تقرءون. وقرئ تدرسون ، من التدريس. وتدرسون على أن أدرس
بمعنى درّس كأكرم وكرّم وأنزل ونزَّل. وتدرّسون ، من التدرّس. ويجوز أن يكون معناه
ومعنى تدرسون بالتخفيف : تدرسونه على الناس كقوله : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ) فيكون معناهما معنى تدرسون من التدريس. وفيه أن من علم
ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع ،
حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته. وقرئ (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالنصب عطفا على : (ثُمَّ يَقُولَ) وفيه وجهان أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي
في قوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى
اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) كما تقول : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بى.
والثاني أن تجعل «لا» غير مزيدة. والمعنى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
ينهى قريشا عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح. فلما
قالوا له : أنتخذك ربا؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثم يأمر الناس
بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء. والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام
أظهر ، وتنصرها قراءة عبد الله ولن يأمركم. والضمير في : (وَلا يَأْمُرَكُمْ) و (لا يَأْمُرَكُمْ) لبشر. وقيل الله ، والهمزة في أيأمركم للإنكار (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، وهم الذين استأذنوه
أن يسجدوا له
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
__________________
رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
فَمَنْ
تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ
اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً
وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٨٣)
(مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ) فيه غير وجه : أحدها أن يكون على ظاهره من أخذ الميثاق على
النبيين بذلك. والثاني أن يضيف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا إلى
الموثق عليه ، كما تقول : ميثاق الله وعهد الله ، كأنه قيل : وإذ أخذ الله الميثاق
الذي وثقه الأنبياء على أممهم ، والثالث : أن يراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو
إسرائيل على حذف المضاف. والرابع : أن يراد أهل الكتاب وأن يرد على زعمهم تهكما
بهم ، لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب ومنا كان
النبيون. وتدل عليه قراءة أبىّ وابن مسعود : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب واللام في (لَما آتَيْتُكُمْ) لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف وفي لتؤمنن لام جواب القسم ، و «ما» يحتمل أن تكون
المتضمنة لمعنى الشرط ، ولتؤمنن سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعاً ، وأن تكون
موصولة بمعنى : للذي آتيتكموه لتؤمنن به. وقرئ : لما آتيناكم وقرأ حمزة : لما
آتيتكم. بكسر اللام ومعناه : لأجل إيتائى إياكم بعض الكتاب والحكمة ؛ ثم لمجيء
رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ، على أن «ما» مصدرية ، والفعلان معها أعنى «آتيتكم»
و «جاءكم» في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ الله ميثاقهم
لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه ، لأجل أنى آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي آمركم
بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. ويجوز أن تكون «ما» موصولة. فإن قلت :
كيف يجوز ذلك والعطف على آتيتكم وهو قوله (ثُمَّ جاءَكُمْ) لا يجوز أن يدخل تحت حكم الصفة ، لأنك لا تقول : للذي
جاءكم رسول مصدق لما معكم؟ قلت : بلى ، لأنّ ما معكم في معنى ما آتيتكم ، فكأنه قيل : للذي
آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له. وقرأ سعيد بن جبير «لما» بالتشديد ، بمعنى حين
آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ،
__________________
ثم جاءكم رسول
مصدّق له وجب عليكم الإيمان به ونصرته. وقيل : أصله لمن ما ، فاستثقلوا اجتماع
ثلاث ميمات وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم ، فحذفوا إحداها
فصارت لما. ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في
المعنى (إِصْرِي) عهدى. وقرئ : أصرى ، بالضم. وسمى إصراً ، لأنه مما يؤصر ،
أى يشدّ ويعقد. ومنه الإصار ، الذي يعقد به. ويجوز أن يكون المضموم لغة في أصر ،
كعبر وعبر ، وأن يكون جمع إصار (فَاشْهَدُوا) فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) من إقراركم وتشاهدكم (مِنَ الشَّاهِدِينَ) وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله
وشهادة بعضهم على بعض. وقيل : الخطاب للملائكة (فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق والتوكيد (فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) أى المتمردون من الكفار دخلت همزة الإنكار على الفاء
العاطفة جملة على جملة. والمعنى : فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون ، ثم
توسطت الهمزة بينهما. ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره (أ) يتولون (فَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله لأنه أهم من
حيث أنّ الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل. وروى : أن أهل
الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم
عليه السلام ؛ وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به ، فقال صلى الله عليه وسلم :
«كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. فنزلت : وقرئ :
يبغون ، بالياء : وترجعون ، بالتاء وهي قراءة أبى عمرو ، لأنّ الباغين هم المتولون
، والراجعون جميع الناس. وقرئا بالياء معا ، وبالتاء معا (طَوْعاً) بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه (وَكَرْهاً) بالسيف ، أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على
بنى إسرائيل ، وإدراك الغرق فرعون ، والإشفاء على الموت فلما رأوا بأسنا قالوا : آمنا بالله وحده. وانتصب طوعا
وكرها على الحال ، بمعنى طائعين ومكرهين
(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ
وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ)(٨٥)
أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان ، فلذلك وحد الضمير
__________________
في (قُلْ) وجمع في (آمَنَّا) ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا
من الله لقدر نبيه. فإن قلت : لم عدّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما
تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلت : لوجود المعنيين جميعا ، لأن الوحى ينزل من فوق
وينتهى إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر. ومن قال : إنما قيل (عَلَيْنا) لقوله : (قُلْ) ؛ و (إلينا) لقوله (قولوا) تفرقة بين الرسل والمؤمنين ،
لأن الرسول يأتيه الوحى على طريق الاستعلاء ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، فقد
تعسف. ألا ترى إلى قوله : (بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) ، (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) وإلى قوله : (آمِنُوا بِالَّذِي
أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا). (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتها ؛ ثم
قال (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ) يعنى التوحيد والإسلام الوجه لله تعالى (دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) من الذين وقعوا في الخسران مطلقا من غير تقييد للشياع.
وقرئ : ومن يبتغ غير الإسلام بالإدغام.
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧)
خالِدِينَ
فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨٩)
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً) كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف ، لما علم الله من
تصميمهم على كفرهم ، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم وبعد ما شهدوا بأن
الرسول حق ، وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها
النبوّة ـ وهم اليهود ـ كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به ؛
وذلك حين عاينوا ما يوجب قوّة إيمانهم من البينات : وقيل : نزلت في رهط كانوا
أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة ، منهم طعمة ابن أبيرق ، ووحوح بن الأسلت
، والحرث بن سويد بن الصامت. فإن قلت : علام عطف قوله (وَشَهِدُوا)؟ قلت : فيه وجهان : أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى
الفعل ؛ لأن معناه بعد أن آمنوا ، كقوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ مِنَ) وقول الشاعر :
... لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً
|
|
وَلَا ناعِبٍ
........ ....
|
__________________
ويجوز أن تكون
الواو للحال بإضمار «قد» بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق (وَاللهُ لا يَهْدِي) لا يلطف بالقوم الظالمين المعاندين الذين علم أن اللطف لا
ينفعهم (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الكفر العظيم والارتداد (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا أو ودخلوا في الإصلاح. وقيل : نزلت في الحرث بن
سويد بعد أن ندم على ردّته وأرسل إلى قومه أن سلوا : هل لي من توبة ، فأرسل إليه
أخوه الجلاس بالآية ، فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
توبته.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما
لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٩١)
(ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى
والتوراة ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن. أو كفروا برسول الله بعد ما
كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم في كل وقت ،
وعداوتهم له ، ونقضهم ميثاقه ، وفتنتهم للمؤمنين ، وصدهم عن الإيمان به ، وسخريتهم
بكل آية تنزل. وقيل : نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، ازديادهم الكفر أن قالوا
نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون ، وإن أردنا الرجعة تافقنا بإظهار التوبة. فإن
قلت : قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)؟ قلت : جعلت عبارة عن الموت على الكفر ، لأنّ الذي لا تقبل
توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل : إن اليهود أو المرتدين الذين
فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر ، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم. فإن قلت :
فلم قيل في إحدى الآيتين (لَنْ تُقْبَلَ) بغير فاء ، وفي الأخرى (فَلَنْ يُقْبَلَ)؟ قلت : قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بنى على الشرط والجزاء.
وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر. وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر
ولا دليل فيه على التسبيب ، كما تقول : الذي جاءني له درهم ، لم تجعل المجيء سببا
في استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك : فله درهم. فإن قلت : فحين كان المعنى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)
__________________
بمعنى الموت على
الكفر ، فهلا جعل الموت على الكفر مسببا عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك
من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت : لأنه كم من مرتد
مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فإن قلت : فأى فائدة في هذه
الكناية ، أعنى أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟ قلت : الفائدة
فيها جليلة ، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم في صورة
حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها : ألا ترى أنّ الموت على
الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة (ذَهَباً) نصب على التمييز. وقرأ الأعمش : ذهب ، بالرفع ردا على ملء
، كما يقال : عندي عشرون نفسا رجال. فإن قلت : كيف موقع قوله (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) ؟ قلت : هو كلام محمول على المعنى ،
__________________
كأنه قيل : فلن
تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله ، كقوله : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربته ضرب زيد ،
تريد مثل ضربه. وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله ولا هيثم الليلة للمطىّ ، وقضية ولا
أبا حسن لها ، تريد : ولا مثل هيثم ، ولا مثل أبى حسن ، كما أنه يراد في نحو قولهم
: مثلك لا يفعل كذا ، تريد أنت. وذلك أنّ المثلين يسدّ أحدهما مسدّ الآخر فكانا في
حكم شيء واحد ، وأن يراد : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا كان قد تصدق به ، ولو
افتدى به أيضاً لم يقبل منه. وقرئ : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ، على
البناء للفاعل وهو الله عزّ وعلا ، ونصب ملء. ومل لرض بتخفيف الهمزتين
(لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٩٢)
(لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ) لن تبلغوا حقيقة البرّ ، ولن تكونوا أبراراً. وقيل : لن
تنالوا بر الله وهو ثوابه (حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ) حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها كقوله
: (أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله. وروى
أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله. إن أحبّ أموالى إلىّ بيرحا فضعها
يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ بخ ذاك مال
رابح أو مال رائح وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة : افعل يا رسول
الله فقسمها في أقاربه. وجاء زيد ابن حارثة بفرس له كان يحبها فقال : هذه في سبيل
الله ، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، فكأن زيداً وجد في
نفسه وقال : إنما أردت أن أتصدق به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن
الله تعالى قد قبلها منك. وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعرى أن يبتاع
له جارية من سبى جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما جاءت أعجبته فقال : إن الله
تعالى يقول (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فأعتقها. ونزل بأبى ذرّ ضيف فقال للراعي
__________________
ائتني بخير إبلى
فجاء بناقة مهزولة. فقال : خنتني ، قال : وجدت خير الإبل فحلها ، فذكرت يوم حاجتكم
إليه فقال : إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. وقرأ عبد الله : حتى تنفقوا
بعض ما تحبون. وهذا دليل على أنّ «من» في : (مِمَّا تُحِبُّونَ) للتبعيض. ونحوه : أخذت من المال. ومن في (مِنْ شَيْءٍ) لتبيين ما تنفقوا ، أى من أى شيء كان طيبا تحبونه أو
خبيثاً تكرهونه (فَإِنَّ اللهَ) عليم بكل شيء تنفقونه فمجازيكم بحسبه.
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ
حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٩٤)
(كُلُّ الطَّعامِ) كل المطعومات أو كل أنواع الطعام. والحل مصدر. يقال : حل
الشيء حلا كقولك : ذلت الدابة ذلا ، وعزّ الرجل عزاً ، وفي حديث عائشة رضى الله عنها
: كنت أطيبه لحله وحرمه ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع.
قال الله تعالى : لا هنّ حلٌّ لهم. والذي حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام على
نفسه لحوم الإبل وألبانها وقيل العروق. كان به عرق النسا ، فنذر إن شفى أن يحرّم
على نفسه أحب الطعام إليه ، وكان ذلك أحبه إليه فحرّمه. وقيل : أشارت عليه الأطباء
باجتنابه ، ففعل ذلك بإذن من الله ، فهو كتحريم الله ابتداء والمعنى أن المطاعم
كلها لم تزل حلالا لبنى إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها
لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم
إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه ، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم ، حيث أرادوا
براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) إلى قوله تعالى (عَذاباً أَلِيماً) وفي قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) إلى قوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِبَغْيِهِمْ) وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم ،
فقالوا : لسنا بأوّل من حرّمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرّمة على نوح
وعلى إبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا ،
فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم
والصدّ عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل ،
__________________
وما عدّد من
مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن
تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم ، لا تحريم قديم كما يدعونه ،
فروى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين ، وفي ذلك الحجة
البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بزعمه أن ذلك كان محرما على بنى إسرائيل قبل إنزال التوراة
من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة (فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى
البينات.
(قُلْ صَدَقَ اللهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٩٥)
(قُلْ صَدَقَ اللهُ) تعريض بكذبهم كقوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أى ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً) وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه ، حتى
تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم ، حيث اضطرتكم إلى تحريف
كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن
تبعه.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٩٧)
(وُضِعَ لِلنَّاسِ) صفة لبيت ، والواضع هو الله عز وجلّ ، تدل عليه قراءة من
قرأ (وُضِعَ لِلنَّاسِ) بتسمية الفاعل وهو الله. ومعنى وضع الله بيتا للناس ، أنه
جعله متعبداً لهم ، فكأنه قال : إن أوّل متعبد للناس الكعبة. وعن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه سئل عن أوّل مسجد وضع للناس فقال : «المسجد الحرام ، ثم بيت
المقدس» وسئل كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة». وعن علىّ رضى الله عنه أن رجلا قال له : أهو أوّل
بيت؟ قال : لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى
والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من
__________________
العرب من جرهم ثم
هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش. وعن ابن عباس : هو أوّل بيت حُجَّ بعد
الطوفان. وقيل : هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه قبل
الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته. وقيل : هو أوّل
بيت بناه آدم في الأرض. وقيل : لما أهبط آدم قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت
فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح ، فرفع في
الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) البيت الذي ببكة ، وهي علم للبلد الحرام : ومكة وبكة لغتان
فيه ، نحو قولهم : النبيط والنميط ، في اسم موضع بالدهناء : ونحوه من الاعتقاب :
أمر راتب وراتم. وحمى مغمطة ومغبطة . وقيل : مكة : البلد ، وبكة : موضع المسجد. وقيل :
اشتقاقها من «بكه» إذا زحمه لازدحام الناس فيها. وعن قتادة : يبك الناس بعضهم
بعضاً الرجال والنساء ، يصلى بعضهم بين يدي بعض ، لا يصلح ذلك إلا بمكة كأنها سميت
ببكة وهي الزحمة. قال :
إذَا الشَّرِيبُ
أَخَذَتْهُ الأَكَّهْ
|
|
فَخَلِّهِ حَتَّي
يَبُكَّ بَكَّهْ
|
وقيل : تبك أعناق
الجبابرة أى تدقها. لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى (مُبارَكاً) كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله
من الثواب وتكفير الذنوب ، وانتصابه على الحال من المستكن في الظرف ، لأن التقدير
للذي ببكة هو ، والعامل فيه المقدر في الظرف من فعل الاستقرار (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) لأنه قبلتهم ومتعبدهم (مَقامُ إِبْراهِيمَ) عطف بيان لقوله (آياتٌ بَيِّناتٌ). فإن قلت : كيف صح بيان الجماعة بالواحد ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة
لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد ،
كقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً) والثاني : اشتماله على آيات لأنّ أثر
__________________
القدم في الصخرة
الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة
بعض الصخر دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية
لإبراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة
آية. ويجوز أن يراد : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، لأنّ الاثنين
نوع من الجمع كالثلاثة والأربعاء. ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما.
دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قبل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله
، وكثير سواهما. ونحوه في طىِّ الذكر قول جرير :
كَانَتْ
حَنِيفَةُ أثْلَاثاً فَثُلْثُهُمُو
|
|
مِنَ الْعَبِيدِ
وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
|
ومنه قوله عليه
السلام «حبب إلىّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عينى في الصلاة وقرأ ابن عباس وأبىّ ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية
قتيبة : آية بينة ، على التوحيد. وفيها دليل على أنّ مقام إبراهيم واقع وحده عطف
بيان. فإن قلت : كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات؟ وقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية؟ قلت : أجزت ذلك من
حيث المعنى ، لأن قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) دلّ على أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات : مقام
إبراهيم ، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، من دخله كان آمنا صحّ
، لأنه في معنى قولك : فيه آية بينة ، أمن من دخله. فإن قلت : كيف
__________________
كان سبب هذا الأثر؟
قلت : فيه قولان : أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة
قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه. وقيل : إنه جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت
له امرأة إسماعيل : انزل حتى يغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على
شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت
الشق الآخر ، فبقى أثر قدميه عليه. ومعنى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) معنى قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن
عمر رضى الله عنه «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» وعند أبى حنيفة : من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو
زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع
حتى يضطر إلى الخروج. وقيل : آمنا من النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من مات
في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا» وعنه عليه الصلاة والسلام «الحجون والبقيع يؤخذ
بأطرافهما وينثران في الجنة » وهما مقبرتا مكة والمدينة. وعن ابن مسعود : وقف رسول الله
صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة ، فقال «يبعث
الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر ،
يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة
البدر » وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار ، تباعدت
منه جهنم مسيرة مائتي عام» (من)
__________________
استطاع بدل من
الناس. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ، وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء. وعن ابن
الزبير : هو على قدر القوّة. ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه. وعنه : ذلك
على قدر الطاقة ، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من
لا زاد له ولا راحلة ، وعن الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع. وقيل له في
ذلك فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبوا
فكذلك يجب عليه الحج. والضمير في (إِلَيْهِ) للبيت أو للحج. وكل مأتىّ إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا
الكلام أنواع من التوكيد والتشديد ؛ ومنها قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) يعنى أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه
والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلا ، وفيه
ضربان من التأكيد : أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له ، والثاني أن
الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين. ومنها
قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ؛ ولذلك قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» ونحوه من التغليظ «من ترك الصلاة متعمدا
__________________
فقد كفر» ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط
والخذلان ، ومنها قوله (عَنِ الْعالَمِينَ) وإن لم يقل عنه ، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه
ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على
الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه. وعن سعيد بن المسيب
نزلت في اليهود ، فإنهم قالوا : الحج إلى مكة غير واجب وروى أنه لما نزل قوله
تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال ، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمنت به ملة
واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجه ،
فنزل (وَمَنْ كَفَرَ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم «حجوا قبل أن لا تحجوا ،
فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» وروى «حجوا قبل أن لا تحجوا ، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه»
وعن ابن مسعود : حجوا هذا البيت قبل أن تنبت
__________________
في البادية شجرة
لا تأكل منها دابة إلا نفقت . وعن عمر رضى الله عنه : لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما
نوظروا . وقرئ حج البيت بالكسر.
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً
وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٩)
(وَاللهُ شَهِيدٌ) الواو للحال. والمعنى : لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم
على صدق محمد صلى الله عليه وسلم والحال أن الله شهيد على أعمالكم فمجازيكم عليها
، وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته. قرأ الحسن : تصدّون ، من أصدّه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام
، وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدّهم عنه ، ويمنعون من أراد الدخول فيه
بجهدهم. وقيل : أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من
العداوات والحروب ليعودوا لمثله (تَبْغُونَها عِوَجاً) تطلبون لها اعوجاجاً وميلا عن القصد والاستقامة. فإن قلت : كيف تبغونها عوجا وهو محال؟ قلت فيه معنيان : أحدهما أنكم تلبسون على الناس
حتى توهموهم أنّ فيها عوجا بقولكم : إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك. والثاني : أنكم تتبعون أنفسكم في
إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أنها سبيل الله لا يصدّ عنها إلا ضال مضل ، أو وأنتم شهداء
بين أهل دينكم ، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم ، وهم الأحبار (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) وعيد ، ومحل تبغونها نصب على الحال.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)(١٠٠)
__________________
قيل مرَّ شاس بن
قيس اليهودي ـ وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم
ـ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون ، فغاظه ذلك حيث
تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال : ما لنا معهم
إذا اجتمعوا من قرار ، فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار ، وكان يوما اقتتلت فيه
الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس. ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا
وقالوا : السلاح السلاح ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من
المهاجرين والأنصار فقال : أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم
أمر الجاهلية وألف بينكم. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم ،
فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فما كان يوم أقبح أوّلا وأحسن آخراً من ذلك اليوم.
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ
وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٠١)
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب ، والمعنى : من أين
يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز (تُتْلى عَلَيْكُمْ) على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم
ويزيح شبهكم (وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ) ومن يتمسك بدينه. ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه
في دفع شرور الكفار ومكايدهم (فَقَدْ هُدِيَ) فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول : إذا جئت فلانا فقد
أفلحت ، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا. ومعنى التوقع في «قد» ظاهر لأنّ
المعتصم
__________________
بالله متوقع للهدى
، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١٠٣)
(حَقَّ تُقاتِهِ) واجب تقواه وما يحق منها ، وهو القيام بالمواجب واجتناب
المحارم ، ونحوه (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) يريد : بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها
شيئا. وعن عبد الله : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى » وروى مرفوعا. وقيل : هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ،
ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه. وقيل : لا يتقى الله عبد حق تقاته حتى
يخزن لسانه ، والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد (وَلا تَمُوتُنَ) معناه : ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم
الموت ، كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ : لا تأتنى إلا وأنت على حصان ،
فلا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان.
قولهم اعتصمت بحبله : يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بحمايته ، بامتساك
المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه ، وأن يكون الحبل استعارة لعهده
والاعتصام لوثوقه بالعهد ، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه. والمعنى : واجتمعوا
على استعانتكم بالله ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه. أو واجتمعوا على التمسك بعهده إلى
عباده وهو الإيمان والطاعة ؛ أو بكتابه لقول النبي صلى الله عليه وسلم «القرآن حبل
الله المتين لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الردّ ، من قال به صدق ؛ ومن عمل
به رشد ، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم» . (وَلا تَفَرَّقُوا) ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف
__________________
بينكم كما اختلفت
اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادى بعضكم بعضا
ويحاربه ، أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم
عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم ، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام. كانوا
في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ، فألف الله بين قلوبهم
بالإسلام. وقذف فيها المحبة فتحابوا وتوافقوا وصاروا (إِخْواناً) متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد قد نظم بينهم
وأزال الاختلاف ، وهو الأخوة في الله : وقيل : هم الأوس والخزرج ، كانا أخوين لأب
وأم ، فوقعت بينهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك
بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا
حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالإسلام. والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة وهو منها كما قال :
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
__________________
وشفا الحفرة
وشفتها : حرفها ، بالتذكير والتأنيث ، ولامها واو ، إلا أنها في المذكر مقلوبة وفي
المؤنث محذوفة ، ونحو الشفا والشفة الجانب والجانبة. فإن قلت : كيف جعلوا على حرف
حفرة من النار؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار ، فمثلت حياتهم
التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها (كَذلِكَ) مثل ذلك البيان البليغ (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إرادة أن تزدادوا هدى.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١٠٤)
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ) من للتبعيض ، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات ،
ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر ، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته
وكيف يباشر ، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم في مذهبه
وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ، ويلين في موضع
الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا ، أو على مَن الإنكار عليه عبث
،
__________________
كالإنكار على
أصحاب المآصر والجلادين وأضرابهم. وقيل «من» للتبيين ، بمعنى : وكونوا
أمّة تأمرون ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ). (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم. وعن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه سئل وهو على المنبر : من خير الناس؟ قال : آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن
المنكر ، وأتقاهم لله وأوصلهم ». وعنه عليه السلام : «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو
خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه » وعن على رضى الله عنه : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر. ومن شنئ الفاسقين وغضب لله ، غضب الله له . وعن حذيفة : يأتى على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحمار
أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وعن سفيان الثوري. إذا كان
الرجل محببا في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع
للمأمور به ، إن كان واجبا فواجب ، وإن كان ندبا فندب. وأما النهى عن المنكر فواجب
كله ، لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح. فإن قلت : ما طريق الوجوب؟ قلت
: قد اختلف فيه الشيخان ، فعند أبى على : السمع والعقل ، وعند أبى هاشم : السمع
وحده. فإن قلت : ما شرائط النهى؟ قلت : أن يعلم الناهي أن ما ينكره قبيح ، لأنه
إذا لم يعلم لم يأمن أن ينكر الحسن ، وأن لا يكون ما ينهى عنه واقعا ، لأن الواقع
لا يحسن النهى عنه ، وإنما يحسن الذم عليه والنهى عن أمثاله ، وأن لا يغلب على ظنه
أن المنهي يزيد في منكراته ، وأن لا يغلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر لأنه عبث. فإن
قلت : فما شروط الوجوب؟ قلت : أن يغلب على ظنه وقوع المعصية نحو أن يرى الشارب
__________________
قد تهيأ لشرب
الخمر بإعداد آلاته ، وأن لا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة. فإن قلت
: كيف يباشر الإنكار؟ قلت : يبتدئ بالسهل ، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب ، لأنّ
الغرض كف المنكر. قال الله تعالى : فأصلحوا بينهما ، ثم قال : فقاتلوا ، فإن قلت :
فمن يباشره؟ قلت : كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه ، وقد أجمعوا أن من رأى غيره
تاركا للصلاة وجب عليه الإنكار ، لأنه معلوم قبحه لكل أحد. وأما الإنكار الذي
بالقتال ، فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها. فإن قلت : فمن
يُؤمر ويُنهى؟ قلت : كل مكلف ، وغير المكلف إذا همَّ بضرر غيره مُنع ، كالصبيان
والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعوّدوها ، كما يؤخذون بالصلاة
ليمرنوا عليها. فإن قلت : هل يجب على مرتكب المنكر أن ينهى عما يرتكبه قلت : نعم
يجب عليه ، لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه ؛ فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه
الواجب الآخر. وعن السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن
عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل ، فقال : وأينا يفعل ما يقول؟ ودّ الشيطان لو
ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر. فإن قلت. كيف قيل (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ)؟ قلت : الدعاء إلى الخير عامّ في التكاليف من الأفعال والتروك والأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر خاص ، فجيء بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذانا بفضله ، كقوله : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
__________________
وَأَمَّا
الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١٠٧)
(كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) وهم اليهود والنصارى (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق. وقيل : هم
مبتدعو هذه الأمة ، وهم المشبهة والمجبرة والحشوية وأشباههم (يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ) نصب بالظرف وهولهم ، أو بإضمار اذكر ، وقرئ : تبيض وتسود ،
بكسر حرف المضارعة. وتبياض وتسوادّ ، والبياض من النور ، والسواد من الظلمة ، فمن
كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته وأشرقت ،
وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه
وكمده ، واسودّت صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ بالله وبسعة
رحمته من ظلمات الباطل وأهله (أَكَفَرْتُمْ) فيقال لهم : أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم. والظاهر
أنهم أهل الكتاب. وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
اعترافهم به قبل مجيئه. وعن عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسودّ وجوه بنى
قريظة والنضير. وقيل هم المرتدون. وقيل أهل البدع والأهواء ، وعن أبى أمامة : هم
الخوارج ، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت
أديم السماء. وخير قتلى تحت أديم السماء : الذين قتلهم هؤلاء ، فقال له أبو غالب :
أشىء تقوله برأيك ، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : بل سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة. قال : فما شأنك دمعت عيناك ، قال : رحمة
لهم ، كانوا من أهل الإسلام فكفروا. ثم قرأ هذه الآية ، ثم أخذ بيده فقال : إن
بأرضك منهم كثيراً. فأعاذك الله منهم . وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما أوجبه الإقرار حين
أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) ففي نعمته وهي الثواب المخلد ، فإن قلت : كيف موقع قوله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) بعد قوله : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ)؟ قلت : موقع الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقيل
: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
(تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
__________________
وَلِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(١٠٩)
(تِلْكَ آياتُ اللهِ) الواردة في الوعد والوعيد (نَتْلُوها عَلَيْكَ) ملتبسة (بِالْحَقِ) والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً) فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ثواب
محسن. ونكر ظلما وقال (لِلْعالَمِينَ) على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه ، فسبحان من
يحلم عمن يصفه بإرادة القبائح والرضا بها.
(كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(١١١)
«كان» عبارة عن
وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على
انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) ومنه قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ) كأنه قيل : وجدتم خير أمّة ، وقيل : كنتم في علم الله خير
أمّة. وقيل : كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمّة ، موصوفين به (أُخْرِجَتْ) أظهرت ، وقوله (تَأْمُرُونَ) كلام مستأنف بين به كونهم خير أمّة ، كما تقول زيد كريم
يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم (وَتُؤْمِنُونَ
بِاللهِ) جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله ، لأنّ من
آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو
غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله (وَيَقُولُونَ
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ
ذلِكَ سَبِيلاً ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) والدليل عليه قوله تعالى (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتابِ) مع إيمانهم بالله (لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ) لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه ، لأنهم إنما آثروا
دينهم على دين الإسلام حبا للرئاسة واستتباع العوام ، ولو آمنوا لكان لهم من
الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله ، مع الفوز
بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين (مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَأَكْثَرُهُمُ
الْفاسِقُونَ) المتمرّدون في الكفر (لَنْ
__________________
يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذىً)
إلا ضرراً مقتصراً
على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم. وفيه تثبيت
لمن أسلم منهم ، لأنهم كانوا يؤذنونهم بالتلهى بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم
بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يبالى به ، مع أنه وعدهم الغلبة
عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل. فإن قلت : هلا جزم المعطوف
في قوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)؟ قلت عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه
قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت : فأى فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت
: لو جزم لكان نفى النصر مقيداً بمقاتلتهم ، كتولية الأدبار. وحين رفع كان نفى
النصر وعدا مطلقا ، كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد
التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم
لهم أمر وكان كما أخبر من حال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع ويهود خيبر. فإن قلت
: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت : جملة الشرط والجزاء كأنه قيل : أخبركم أنهم
إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت : فما معنى التراخي في
ثمَّ؟ قلت : التراخي في المرتبة لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من
الإخبار بتوليتهم الأدبار. فإن قلت : ما موقع الجملتين أعنى (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) و (لَنْ يَضُرُّوكُمْ)؟ قلت : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء
ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإنّ من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاءا
من غير عاطف.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(١١٢)
(بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) في محل النصب على الحال ، بتقدير : إلا معتصمين أو متمسكين
أو ملتبسين بحبل من الله وهو استثناء من أعم عام الأحوال. والمعنى : ضربت عليهم
الذلة في عامّة الأحوال إلا في
__________________
حال اعتصامهم بحبل
الله وحبل الناس ، يعنى ذمّة الله وذمّة المسلمين ، أى لا عز لهم قط إلا هذه
الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من الجزية (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) استوجبوه (وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) كما يضرب البيت على أهله ، فهم ساكنون في المسكنة غير
ظاعنين عنها ، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب الله
أى ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، ثم قال (ذلِكَ بِما عَصَوْا) أى ذلك كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده ليعلم أنّ
الكفر وحده ليس بسبب في استحقاق سخط الله ، وأنّ سخط الله يستحق بركوب المعاصي كما
يستحق بالكفر. ونحوه (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا) ، (وَأَخْذِهِمُ
الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ).
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١٦)
الضمير في (لَيْسُوا) لأهل الكتاب ، أى ليس أهل الكتاب مستوين. وقوله (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) كلام مستأنف لبيان قوله : (لَيْسُوا سَواءً) كما وقع قوله : (تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ) بيانا لقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ) ، أمّة قائمة : مستقيمة عادلة ، من قولك : أقمت العود فقام
، بمعنى استقام ، وهم الذين أسلموا منهم. وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات
الليل مع السجود ، لأنه أبين لما يفعلون ؛ وأدل على حسن صورة أمرهم. وقيل عنى صلاة
العشاء ، لأن أهل الكتاب لا يصلونها. وعن ابن مسعود رضى الله عنه : أخر رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة ،
فقال : أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم ، وقرأ هذه الآية. وقوله (يَتْلُونَ) و (يُؤْمِنُونَ) في محل الرفع صفتان لأمّة ، أى أمّة قائمة تالون مؤمنون ،
وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل
__________________
ساجدين ، ومن
الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عزيراً ، وكفرهم ببعض الكتب
والرسل دون بعض. ومن الإيمان باليوم الآخر ، لأنهم يصفونه بخلاف صفته. ومن الأمر
بالمعروف والنهى عن المنكر ، لأنهم كانوا مداهنين. ومن المسارعة في الخيرات ،
لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها. والمسارعة في الخير : فرط الرغبة فيه
لأن من رغب في الأمر سارع في توليه والقيام به وآثر الفور على التراخي (وَأُولئِكَ) الموصوفون بما وصفوا به (مِنَ) جملة (الصَّالِحِينَ) الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم.
ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) لما جاء وصف الله عز وعلا بالشكر في قوله : (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) في معنى توفيه الثواب نفى عنه نقيض ذلك. فإن قلت : لم عدى
إلى مفعولين. وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد ، تقول شكر النعمة وكفرها؟ قلت :
ضمن معنى الحرمان ، فكأنه قيل : فلن تحرموه ؛ بمعنى فلن تحرموا جزاءه. وقرئ يفعلوا
، ويكفروه ، بالياء والتاء (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ) بشارة للمتقين بجزيل الثواب ، ودلالة على أنه لا يفوز عنده
إلا أهل التقوى.
(مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ
حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ
وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١١٧)
الصرُّ : الريح
الباردة نحو : الصرصر. قال :
لَا تَعْدِلَنَّ
أَتَاوِيِّينَ تَضْرِبُهُمْ
|
|
نَكْبَاءَ صِرً
بِأصْحَابِ الْمَحَلَّاتِ
|
__________________
كما قالت ليلى
الأخيلية :
وَلَمْ يَغْلِبِ
الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلَإِ
|
|
الْجِفَانَ
سَدِيفاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ
|
فإن قلت : فما
معنى قوله (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها
صِرٌّ)؟ قلت : فيه أوجه : أحدهما أنّ الصرٌّ في صفة الريح بمعنى
الباردة ، فوصف بها القرّة بمعنى فيها قرة صرّ ، كما تقول : برد بارد على
المبالغة. والثاني:
أن يكون الصر
مصدراً في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله. والثالث : أن يكون من قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ومن قولك : إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل. قال :
وَفِى الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِى
__________________
شبه ما كانوا
ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا
يبتغون به وجه الله ، بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما. وقيل : هو ما كانوا
يتقربون به إلى الله مع كفرهم. وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فضاع عنهم ، لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله. وشبه بحرث (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم ، لأنّ الهلاك عن سخط أشدّ
وأبلغ. فإن قلت : الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر ، والكلام غير مطابق للغرض
حيث جعل ما ينفقون ممثلا بالريح. قلت : هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير
قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) ويجوز أن يراد : مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح ، أو
مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ : تنفقون ، بالتاء (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) الضمير للمنفقين على معنى : وما ظلمهم الله بأن لم يقبل
نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول ، أو لأصحاب الحرث
الذين ظلموا أنفسهم ، أى : وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم
بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ (ولكن) بالتشديد ، بمعنى ولكنّ أنفسهم
يظلمونها هم. ولا يجوز أن يراد : ولكن أنفسهم يظلمون ، على إسقاط ضمير الشأن ،
لأنه إنما يجوز في الشعر.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً
__________________
وَدُّوا
ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا
لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١١٩)
بطانة الرجل
وولجيته : خصيصه وصفيه الذي يفضى إليه بشقوره ثقة به شبه ببطانة الثوب كما يقال : فلان شعاري. وعن النبي
صلى الله عليه وسلم «الأنصار شعار والناس دثار » (مِنْ دُونِكُمْ) من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون. ويجوز تعلقه بلا تتخذوا
، وببطانة على الوصف ، أى بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) يقال : ألا في الأمر يألو ، إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدّى
إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحا ، ولا آلوك جهدا ، على التضمين. والمعنى : لا
أمنعك نصحا ولا أنقصكه. والخبال : الفساد (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) ودّوا عنتكم ، على أنّ «ما» مصدرية. والعنت : شدّة الضرر
والمشقة. وأصله انهياض العظم بعد جبره ، أى تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشدّ
الضرر وأبلغه (قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن
ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين. وعن قتادة : قد بدت البغضاء
لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وفي قراءة عبد الله قد
بدأ البغضاء (قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله
ومعاداة أعدائه (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ) ما بين لكم فعملتم به. فإن قلت : كيف موقع هذه الجمل؟ قلت
يجوز أن يكون (لا يَأْلُونَكُمْ) صفة للبطانة وكذلك (قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضاءُ) كأنه قيل : بطانة غير آليكم خبالا بادية بغضاؤهم. وأما (قَدْ بَيَّنَّا) فكلام مبتدأ ، وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على
وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة (ها) للتنبيه. و (أَنْتُمْ) مبتدأ. و (أُولاءِ) خبره. أى أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل
الكتاب. وقوله (تُحِبُّونَهُمْ وَلا
يُحِبُّونَكُمْ) بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء.
وقيل (أُولاءِ) موصول (تُحِبُّونَهُمْ) صلته. والواو في (وَتُؤْمِنُونَ) للحال ، وانتصابها من لا يحبونكم
__________________
أى لا يحبونكم
والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم. فما بالكم تحبونهم وهم لا
يؤمنون بشيء من كتابكم. وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. ونحوه
(فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) ويوصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان والإبهام. قال
الحرث بن ظالم المري :
فَأقْتُلُ
أقْوَاماً لِئَاماً أَذِلَّةً
|
|
يَعُضُّونَ مِنْ
غَيْظٍ رُؤُسَ الْأبَاهِمِ
|
(قُلْ
مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد بزيادة
الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوّة الإسلام وعز أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي
والتبار (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء ، وما
يكون منهم في حال خلوّ بعضهم ببعض ، وهو كلام داخل في جملة المقول أو خارج منها.
فإن قلت : فكيف معناه على الوجهين؟ قلت : إذا كان داخلا في جملة المقول فمعناه :
أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا ، وقل لهم إنّ الله عليم بما هو
أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أنّ شيئا من أسراركم يخفى
عليه. وإذا كان خارجا فمعناه : قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعى إياك على
ما يسرون فإنى أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه
بألسنتهم. ويجوز أن لا يكون ثمَّ قول ، وأن يكون قوله : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أمراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفس وقوة
الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه
قيل : حدث نفسك بذلك.
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(١٢٠)
الحسنة : الرخاء
والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع. والسيئة : ما كان ضدّ ذلك. وهذا بيان
لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير ويشمتون بهم فيما أصابهم من
الشدّة. فإن قلت : كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ قلت : المس
__________________
مستعار لمعنى
الإصابة فكان المعنى واحداً. ألا ترى إلى قوله : (إِنْ تُصِبْكَ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) ، (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، (إِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً). (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم (وَتَتَّقُوا) ما نهيتم عنه من موالاتهم. أو وإن تصبروا على تكاليف الدين
ومشاقه وتنقوا الله في اجتنابكم محارمه كنتم في كنف الله فلا يضركم كيدهم. وقرئ (لا يَضُرُّكُمْ) من ضاره يضيره. ويضركم على أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد
، كقولك مدّ يا هذا. وروى المفضل عن عاصم (لا يَضُرُّكُمْ) بفتح الراء ، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على
كيد العدو بالصبر والتقوى. وقد قال الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من الصبر والتقوى وغيرهما (مُحِيطٌ) ففاعل بكم ما أنتم أهله. وقرئ بالياء بمعنى أنه عالم بما
يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه.
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٢٢)
(وَ) اذكر (إِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ) بالمدينة وهو غدوّه إلى أحد من حجرة عائشة رضى الله عنها.
روى أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه ودعا عبد الله بن أبىّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها ، فاستشاره ، فقال عبد
الله وأكثر الأنصار :
يا رسول الله ،
أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا
ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ، فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر
محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن
رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا
يرون أنا قد جبنا عنهم. فقال صلى الله عليه وسلم : إنى قد رأيت في منامي بقراً
مذبحة حولي ، فأوّلتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة ، ورأيت
كأنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة
وتدعوهم. فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى
أعدائنا. فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته. فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا
: بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحى يأتيه ، وقالوا :
اصنع يا رسول ما رأيت ، فقال : لا ينبغي لنبىّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ،
فخرج يوم الجمعة بعد صلاة
الجمعة وأصبح
بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال فمشى على رجليه فجعل يصف أصحابه للقتال
كأنما بقوّم بهم القدح . إن رأى صدراً خارجا قال : تأخر ، وكان نزوله في عدوة
الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد ؛ وأمّر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم : «انضحوا
عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا» (تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ) تنزلهم. وقرأ عبد الله للمؤمنين ، بمعنى تسوى لهم وتهيئ (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) مواطن ومواقف. وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار.
واستعمل المقعد والمقام في معنى المكان. ومنه قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) ، (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ
مِنْ مَقامِكَ) من مجلسك وموضع حكمك (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم (إِذْ هَمَّتْ) بدل من (إِذْ غَدَوْتَ) أو عمل فيه معنى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ). والطائفتان حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو
حارثة من الأوس ، وهما الجناحان. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف ، وقيل
في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف ووعدهم الفتح إن صبروا ، فانخزل عبد
الله بن أبىّ بثلث الناس وقال : يا قوم ، علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو
بن حزم الأنصارى فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم ، فقال عبداك : لو نعلم قتالا
لاتبعناكم ، فهمّ الحيان باتباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم . وعن ابن عباس رضى الله عنه : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم
الله لهم على الرشد فثبتوا. والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس ، وكما لا تخلو
النفس عند الشدة من بعض الهلع ، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على
احتمال المكروه ، كما قال عمرو بن الأطنابة :
أَقُولُ لَهَا
إذَا جَشَأتْ وَجَاشَتْ
|
|
مَكَانَكِ
تُحْمَدِى أوْ تَسْتَرِيحِى
|
__________________
حتى قال معاوية :
عليكم بحفظ الشعر ، فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين ، فما ثبت منى إلا قول
عمرو بن الأطنابة. ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية ، والله تعالى يقول (وَاللهُ وَلِيُّهُما) ويجوز أن يراد : والله ناصرهما ومتولى أمرهما ، فما لهما
تفشلان ولا تتوكلان على الله فإن قلت ، فما معنى ما روى من قول بعضهم عند نزول
الآية. والله ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا؟ قلت
: معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله وإنزاله فيهم آية ناطقة
بصحة الولاية ، وأن تلك الهمة غير المأخوذ بها ـ لأنها لم تكن عن عزيمة وتصميم ـ كانت
سببا لنزولهما. والفشل : الجبن والخور. وقرأ عبد الله : والله وليهم كقوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا).
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ
بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ
مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ)(١٢٧)
أمرهم بألا
يتوكلوا إلا عليه ولا يفوّضوا أمورهم إلا إليه ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل
__________________
مما يسر لهم من
الفتح يوم بدر وهم في حالة قلة وذلة. والأذلة : جمع قلة والذلان جمع الكثرة ، وجاء
بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا ، وذلتهم : ما كان بهم من ضعف
الحال وقلة السلاح والمال والمركوب ، وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر
منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد. وقلتهم أنهم كانوا ثلاثمائة
وبضعة عشر ، وكان عدوّهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس والشكة
والشوكة . وبدر : اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً
فسمى به (فَاتَّقُوا اللهَ) في الثبات مع رسوله (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته. أو لعلكم ينعم الله
عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له (إِذْ تَقُولُ) ظرف لنصركم ، على أن يقول لهم ذلك يوم بدر ، أو بدل ثان من
(إِذْ غَدَوْتَ) على أن يقوله لهم يوم أحد. فإن قلت. كيف يصح أن يقول لهم
يوم أحد ولم تنزل فيه الملائكة؟ قلت : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى ، فلم
يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا ، حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فلذلك لم تنزل الملائكة ؛ ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت. وإنما قدم لهم الوعد
بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله. ومعنى (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة.
وإنما جيء بلن الذي هو لتأكيد النفي ، للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة
عدوّهم وشوكته كالآئسين من النصر. و (بَلى) إيجاب لما بعد لن ، بمعنى : بل يكفيكم الإمداد بهم ، فأوجب
الكفاية ثم قال (إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا) يمددكم بأكثر من ذلك العدد مسوّمين للقتال (وَيَأْتُوكُمْ) يعنى المشركين (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) من قولك : قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى ، وجاء
فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبى حنيفة رحمه الله : الأمر على الفور لا على التراخي
، وهو مصدر من : فارت القدر ، إذا غلت ، فاستعير للسرعة ، ثم سميت به الحالة التي
لا ريث فيها ـ ولا تعريج على شيء من صاحبها ؛ فقيل : خرج من فوره ، كما تقول : خرج
من ساعته ، لم يلبث. والمعنى : أنهم إن يأتوكم من ساعتهم هذه (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم ،
يريد : أنّ الله يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم.
وقرئ (منزلين)
بالتشديد. ومنزلين بكسر الزاى ، بمعنى : منزلين النصر. و (مُسَوِّمِينَ) بفتح الواو وكسرها ، بمعنى : معلمين. ومعلمين أنفسهم أو
خيلهم. قال الكلبي : معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وعن الضحاك : معلمين
بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها. وعن مجاهد : مجزوزة أذناب خيلهم. وعن
قتادة : كانوا على حيل بلق. وعن عروة بن الزبير : كانت عمامة
__________________
الزبير يوم بدر
صفراء ، فنزلت الملائكة كذلك ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه «تسوّموا
فإنّ الملائكة قد تسوّمت» (وَما جَعَلَهُ اللهُ) الهاء لأن يمدكم. أى : وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا
بشارة لكم بأنكم تنصرون (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ) كما كانت السكينة لبنى إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة
لقلوبهم (وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من عند المقاتلة إذا تكاثروا ، ولا من عند الملائكة
والسكينة ، ولكن ذلك مما يقوى به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة ، ويربط به
على قلوب المجاهدين (الْعَزِيزِ) الذي لا يغالب في حكمه (الْحَكِيمِ) الذي يعطى النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر ، وهو ما كان يوم بدر من
قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة (فَيَنْقَلِبُوا
خائِبِينَ) غير ظافرين بمبتغاهم. ونحوه (وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) ويقال : كبته ، بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة.
وقيل في قول أبى الطيب :
لِأَكْبِتَ حَاسِداً وَأرِى عَدُوًّا
هو من الكبد
والرئة ، واللام المتعلقة بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ) أو بقوله : (وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ). (أَوْ يَتُوبَ) عطف على ما قبله.
(لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظالِمُونَ (١٢٨)
__________________
وَلِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٢٩)
و (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض. والمعنى أنّ الله مالك أمرهم ، فإما يهلكهم أو
يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر ، وليس لك من
أمرهم شيء ، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم. وقيل إنّ (يَتُوبَ) منصوب بإضمار «أن» و «وأن يتوب» في حكم اسم معطوف بأو على
الأمر أو على شيء ، أى ليس لك من أمرهم شيء ، أو من التوبة عليهم ، أو من تعذيبهم.
أو ليس لك من أمرهم شيء ، أو التوبة عليهم ، أو تعذيبهم ، وقيل «أو» بمعنى «إلا أن»
كقولك : لألزمنك أو تعطيني حقي ، على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله
عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم. وقيل : شجه عتبة ابن أبى وقاص يوم
أحد وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ، وسالم مولى أبى حذيفة يغسل عن وجهه
الدم ، وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ، فنزلت. وقيل : أراد أن يدعو الله عليهم فنهاه الله تعالى
، لعلمه أن فيهم من يؤمن. وعن الحسن (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين (وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) ولا يشاء أن يعذب إلا
__________________
المستوجبين
للعذاب. وعن عطاء : يغفر لمن يتوب إليه ويعذب من لقيه ظالما. وإتباعه قوله (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) تفسير بين لمن يشاء ، وأنهم المتوب عليهم ، أو الظالمون ،
ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامتون ويتعامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء ، ويطيبون أنفسهم بما
يفترون على ابن عباس من قولهم. يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على
الذنب الصغير.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢)
(لا تَأْكُلُوا
الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) نهى عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل
منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون . (وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) كان أبو حنيفة رحمه الله يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث
أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. وقد
أمدّ ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله.
ومن تأمّل هذه الآية وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على الله
تعالى ، وفي ذكره تعالى «لعلّ» و «عسى» في نحو هذه المواضع ـ وإن قال الناس ما
قالوا ـ ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى ، وصعوبة إصابة رضا الله
، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه.
(وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
__________________
تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ)
(١٣٧)
في مصاحف أهل المدينة
والشام سارعوا بغير واو. وقرأ الباقون بالواو. وتنصره قراءة أبىّ وعبد الله :
وسايقوا. ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة : الإقبال على ما يستحقان به (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أى عرضها عرض السموات والأرض ، كقوله : (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) والمراد وصفها بالسعة والبسطة ، فشبهت بأوسع ما علمه الناس
من خلقه وأبسطه. وخص العرض ، لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة ، كقوله : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ). وعن ابن عباس رضى الله عنه : كسبع سموات وسبع أرضين لو
وصل بعضها ببعض (فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ) في حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر ، لا يخلون بأن
ينفقوا في كلتا الحالتين ما قدروا عليه من كثير أو قليل ، كما حكى عن بعض السلف :
أنه ربما تصدّق ببصلة. وعن عائشة رضى الله عنها أنها تصدّقت بحبة عنب أو في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرّة ، لا
تمنعهم حال فرح وسرور ، ولا حال محنة وبلاء ، من المعروف. وسواء عليهم كان الواحد
منهم في عرس أو في حبس ، فإنه لا يدع الإحسان. وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء
على النفس وأدله على الإخلاص ، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه
في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين.
كظم القربة : إذا
ملأها وشد فاها. وكظم البعير : إذا لم يجتر. ومنه كظم الغيظ ، وهو أن يمسك على ما
في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم» من كظم
غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا » وعن عائشة رضى الله عنها : أن خادماً لها غاظها فقالت :
لله درّ التقوى ، ما تركت لذي غيظ شفاء. (وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ) إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه. وروى «ينادى مناد يوم
القيامة : أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه. وعن
النبي صلى
__________________
الله عليه وسلم : «إن
هؤلاء في أمّتى قليل إلا من عصم الله ، وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت «(وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته
هؤلاء المذكورون. وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء (وَالَّذِينَ) عطف على المتقين ، أى أعدت للمتقين وللتائبين. وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريقين. ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره
أولئك (فاحِشَةً) فعلة متزايدة القبح (أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) أو أذنبوا أى ذنب كان مما يؤاخذون به. وقيل : الفاحشة
الزنا. وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوهما. وقيل : الفاحشة الكبيرة.
وظلم النفس الصغيرة (ذَكَرُوا اللهَ) تذكروا عقابه أو وعيده أو نهيه ، أو حقه العظيم وجلاله
الموجب للخشية والحياء منه (فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ) فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين (وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإنّ التائب من الذنب
عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله يوجب
المغفرة للتائب ، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب
العفو والتجاوز وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها وردع عن
اليأس والقنوط وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. والمعنى : أنه وحده
معه مصححات المغفرة. وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه (وَلَمْ يُصِرُّوا) ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. وعن النبي صلى
الله عليه وسلم «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» وروى «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار » (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من فعل
__________________
الإصرار وحرف
النفي منصب عليهما معاً. والمعنى : وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها
وبالنهى عنها وبالوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وفي هذه
الآيات بيان قاطع أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات متقون وتائبون ومصرّون ، وأن
الجنة للمتقين والتائبين منهم ، دون المصرّين . ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه. قال (أَجْرُ الْعامِلِينَ) بعد قوله : (جَزاؤُهُمْ) لأنهما في معنى واحد. وإنما خالف بين اللفظين لزيادة
التنبيه على أنّ ذلك جزاء واجب على عمل ، وأجر مستحق عليه ، لا كما يقول المبطلون . وروى أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى : «ما أقلّ حياء من
يطمع في جنتي بغير عمل ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي» وعن شهر بن حوشب :
طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ،
وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة. وعن الحسن رضى الله عنه :
يقول الله تعالى
يوم القيامة «جوزوا الصراط بعفوي ، وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم»
وعن رابعة البصرية رضى الله عنها أنها كانت تنشد :
تَرْجُو
النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا
|
|
إنّ
السَّفِينَةَ لَا تَجْرِى عَلَى اليَبَسِ
|
والمخصوص بالمدح
محذوف تقديره : ونعم أجر العاملين ذلك. يعنى المغفرة والجنات (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) يريد ما سنه الله في الأمم المكذبين من وقائعه ، كقوله : (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ
فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً) ، (سُنَّةَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ).
(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ
وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
وَلا
تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣٩)
__________________
(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب ، يعنى : حثهم على
النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) يعنى أنه مع كونه بيانا وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة تثبيت
وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين : ويجوز أن يكون قوله : (قَدْ خَلَتْ) جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر
العاملين ، ويكون قوله : (هذا بَيانٌ) إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرّين
(وَلا تَهِنُوا وَلا
تَحْزَنُوا) تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين
عما أصابهم يوم أحد وتقوية من قلوبهم ، يعنى ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم ، أى
لا يورثنكم ذلك وهنا وجبنا ، ولا تبالوا به ، ولا تحزنوا على من قتل منكم وجرح (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب ، لأنكم أصبتم منهم يوم بدر
أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد. أو وأنتم الأعلون شأنا ، لأنّ قتالكم لله ولإعلاء
كلمته ، وقتالهم للشيطان لإعلاء كلمة الكفر ، ولأنّ قتلاكم في الجنة وقتلاهم في
النار. أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة ، أى وأنتم الأعلون في العاقبة (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) متعلق بالنهى بمعنى : ولا تهنوا إن صح إيمانكم على أن صحة
الإيمان توجب قوة القلب والثقة بصنع الله وقلة المبالاة بأعدائه. أو بالأعلون ، أى
إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(١٤١)
قرئ (قرح) بفتح
القاف وضمها ، وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل : هو بالفتح الجراح ، وبالضم ألمها.
وقرأ أبو السمال (قرح) بفتحتين. وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد. والمعنى : إن
نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم
يثبطهم عن معاودتكم بالقتال ، فأنتم أولى أن لا تضعفوا. ونحوه (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) وقيل : كان ذلك يوم أحد ، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت : كيف قيل (قَرْحٌ مِثْلُهُ) وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلت : بلى كان
مثله ، ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ
إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ). (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) تلك مبتدأ ، والأيام صفته. و (نُداوِلُها) خبره ، ويجوز أن يكون (تِلْكَ
الْأَيَّامُ) مبتدأ وخبراً ، كما تقول : هي الأيام تبلى كل جديد.
والمراد بالأيام : أوقات الظفر والغلبة ، نداولها : نصرفها بين الناس نديل تارة
لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كقوله وهو من أبيات الكتاب :
فَيَوْماً
عَلَيْنَا وَيَوماً لَنَا
|
|
وَيَوْماً
نُسَاءُ وَيَوما نُسَرّ
|
ومن أمثال العرب :
الحرب سجال. وعن أبى سفيان أنه صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال : أين ابن أبى
كبشة ، أين ابن أبى قحافة ، أين ابن الخطاب. فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا عمر. فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول
والحرب سجال. فقال عمر رضى الله عنه : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في
النار. فقال : إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذن وخسرنا ، والمداولة مثل المعاورة. وقال :
يَرِدُ
المِيَاهَ فَلَا يَزَالُ مُدَاوِلا
|
|
فِى النَّاسِ
بَيْنَ تَمَثُّلٍ وَسَمَاعِ
|
يقال : داولت
بينهم الشيء فتداولوه (وَلِيَعْلَمَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا) فيه وجهان : أحدهما أن يكون المعلل محذوفا معناه : وليتميز
الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف ، فعلنا ذلك وهو من باب التمثيل.
بمعنى : فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت
، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها. وقيل : معناه وليعلمهم
علماً يتعلق به الجزاء ،
__________________
وهو أن يعلمهم
موجوداً منهم الثبات ، والثاني أن تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه ، معناه : وفعلنا
ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست
بواحدة ، ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجرى عليه من
المصائب ، ولا يشعر أنّ لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) وليكرم ناسا منكم بالشهادة ، يريد المستشهدين يوم أحد. أو
وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد
، من قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ). (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) اعتراض بين بعض التعليل وبعض. ومعناه : والله لا يحب من
ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان ، المجاهدين في سبيل الله ، الممحصين من
الذنوب. والتمحيص : التطهير والتصفية (وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ) ويهلكهم. يعنى : إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز
والاستشهاد والتمحيص ، وغير ذلك مما هو أصلح لهم. وإن كانت على الكافرين ، فلمحقهم
ومحو آثارهم.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(١٤٢)
(أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار (وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ) بمعنى ولما تجاهدوا ، لأنّ العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفى العلم منزلة نفى متعلقه لأنه منتف بانتفائه. يقول
الرجل : ما علم الله في فلان خيراً ، يريد : ما فيه خير حتى يعلمه. ولما بمعنى لم
، إلا أن فيها ضربا من التوقع فدلّ على نفى الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما
يستقبل. وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل ، وأنا أتوقع فعله.
وقرئ (وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ) بفتح الميم. وقيل أراد النون الخفيفة ولما يعلمن
__________________
فحذفها (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع ، كقولك لا تأكل السمك
وتشرب اللبن. وقرأ الحسن بالجزم على العطف. وروى عبد الوارث عن أبى عمرو (ويعلم)
بالرفع على أنّ الواو للحال ، كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣)
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا
مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء
بدر ، وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين ،
وكان رأيه في الإقامة بالمدينة ، يعنى : وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه
وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أى رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل
إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت ، وعلى ما
تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه
وقلة ثباتهم عنده. فإن قلت : كيف يجوز تمنى الشهادة وفي تمنيها تمنى غلبة الكافر
المسلم؟ قلت : قصد متمنى الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ، ولا يذهب وهمه
إلى ذلك المتضمن ، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من
الشفاء ، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ الله وتنفيقا لصناعته.
ولقد قال عبد الله بن رواحة رضى الله عنه ـ حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم الله :
لكِنَّنِى
أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً
|
|
وَضَرْبَةً
ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
|
أو طَعْنَةً
بِيَدَىْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً
|
|
بِحَرْبَةٍ
تَنْفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا
|
حَتَّى
يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِى
|
|
أرشدَكَ اللهُ
مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدَا
|
__________________
وَما
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(١٤٤)
لما رمى عبد الله
بن قمئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، أقبل
يريد قتله فذب عنه صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم
أحد ، حتى قتله ابن قمئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قد
قتلت محمداً. وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل. وقيل : كان الصارخ الشيطان ، ففشا
في الناس خبر قتله فانكفؤا ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : «إلىّ عباد
الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم على هربهم ، فقالوا : يا رسول
الله ـ فديناك بآبائنا وأمهاتنا ـ أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين . فنزلت. وروى أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين :
__________________
ليت عبد الله بن
أبىّ يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان. وقال ناس من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ،
ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ : يا قوم ،
إن كان قتل محمد فإن رب محمد حىٌّ لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال :
اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شدّ
بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين : أنه مرّ بأنصارى يتشحط في دمه ، فقال يا
فلان ، أشعرت أن محمداً قد قتل ، فقال : إن كان قتل فقد بلغ ، قاتلوا على دينكم.
والمعنى (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم
بعد خلوهم ، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة ، لا وجوده بين أظهر قومه (أَفَإِنْ ماتَ) الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى
التسبيب ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم
بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أنّ خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب
أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، لا للانقلاب عنه. فإن قلت :
لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت : لكونه مجوّزا عند المخاطبين. فإن قلت :
أما علموه من ناحية قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ)؟ قلت : هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة. ألا ترى
أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا ، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذ لا لهم.
والانقلاب على الأعقاب : الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من
أمر الجهاد وغيره. وقيل : الارتداد. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما
كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من
الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلامه (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ
شَيْئاً) فما ضر إلا نفسه ، لأن الله تعالى لا يجوز عليه المضارّ
والمنافع (وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ) الذي لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه. وسماهم شاكرين ،
لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا. المعنى : أن موت الأنفس محال أن يكون إلا
بمشيئة الله ، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له
فيه تمثيلا ، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك ، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من
الله. وهو على معنيين : أحدهما تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدوّ
بإعلامهم أن الحذر لا ينفع ، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خوّض المهالك
واقتحم المعارك.
__________________
والثاني ذكر ما
صنع الله برسوله عند غلبة العدوّ والتفافهم عليه وإسلام قومه له ، نهزة للمختلس من
الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل
(وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(١٤٥)
(كِتاباً) مصدر مؤكد ، لأن المعنى : كتب الموت كتابا (مُؤَجَّلاً) موقتا له أجل معلوم لا يتقدّم ولا يتأخر (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا) تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد (نُؤْتِهِ مِنْها) أى من ثوابها (وَسَنَجْزِي) الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن
الجهاد. وقرئ : يؤته. وسيجزى ، بالياء فيهما.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ
قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي
أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ
ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٤٨)
قرئ ؛ قاتل. وقتل.
وقتل ، بالتشديد ، والفاعل ربيون ، أو ضمير النبي. و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) حال عنه بمعنى : قتل كائنا معه ربيون. والقراءة بالتشديد
تنصر الوجه الأوّل. وعن سعيد بن جبير رحمه الله : ما سمعنا بنبىّ قتل في القتال.
والربيون الربانيون. وقرئ بالحركات الثلاث ، فالفتح على القياس ، والضم والكسر من
تغييرات النسب. وقرئ : (فَما وَهَنُوا) بكسر الهاء. والمعنى : فما وهنوا عند قتل النبي (وَما ضَعُفُوا) عن الجهاد بعده (وَمَا اسْتَكانُوا) للعدوّ. وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند
الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين
واستكانتهم لهم ، حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبىّ في طلب الأمان
من أبى سفيان (وَما كانَ قَوْلَهُمْ
إِلَّا) هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم
ربانيين ، هضما لها واستقصاراً. والدعاء بالاستغفار منها مقدّما على طلب تثبيت
الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدوّ ، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاء وطهارة
وخضوع ، وأقرب إلى الاستجابة (فَآتاهُمُ اللهُ
ثَوابَ الدُّنْيا) من النصرة
والغنيمة والعز
وطيب الذكر. وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدّمه ، وأنه هو المعتدّ به
عنده (تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ
مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
(١٥٠) سَنُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)(١٥١)
(إِنْ تُطِيعُوا
الَّذِينَ كَفَرُوا) قال علىّ رضى الله عنه نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند
الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم. وعن الحسن رضى الله عنه : إن
تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم ، لأنهم كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبه
في الدين ، ويقولون : لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ،
وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما له ويوما عليه. وعن السدى : إن
تستكينوا لأبى سفيان وأصحابه وتستأمنوهم (يَرُدُّوكُمْ) إلى دينهم. وقيل هو عامّ في جميع الكفار ، وإنّ على
المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم في شيء ولا ينزلوا على حكمهم ولا على مشورتهم
حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم (بَلِ اللهُ
مَوْلاكُمْ) أى ناصركم ، لا تحتاجون معه إلى نصرة أحد وولايته. وقرئ
بالنصب على : بل أطيعوا الله مولاكم (سَنُلْقِي) قرئ بالنون والياء. و (الرُّعْبَ) ـ بسكون العين وضمها ـ. قيل : قذف الله في قلوب المشركين
الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة. وقيل : ذهبوا إلى
مكة فلما كانوا ببعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئا ، قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن
فاهرون ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب
في قلوبهم فأمسكوا. (بِما أَشْرَكُوا) بسبب إشراكهم ، أى كان السبب في إلقاء الله الرّعب في
قلوبهم إشراكهم به (ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً) آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة. فإن قلت : كان هناك حجة حتى ينزلها الله
__________________
فيصح لهم الإشراك؟
قلت : لم يعن أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم ، لأن الشرك لا يستقيم أن يقوم
عليه حجة ، وإنما المراد نفى الحجة ونزولها جميعا ، كقوله :
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِر
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ
وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ
غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(١٥٣)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ
الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ
لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ
لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ
إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)
(١٥٤) (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ) وعدهم الله النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله تعالى : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ) ويجوز أن يكون الوعد قوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ) فلما فشلوا وتنازعوا لم يرعبهم. وقيل : لما رجعوا إلى
المدينة قال ناس من
__________________
المؤمنين من أين
أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت. وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
جعل أحدا خلف ظهره ، واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل ، وأمرهم أن يثبتوا
في مكانهم ولا يبرحوا ـ كانت الدولة للمسلمين أو عليهم ـ فلما أقبل المشركون جعل
الرماة يرشقون خيلهم ، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على
آثارهم. يحسونهم أى يقتلونهم قتلا ذريعا. حتى إذا فشلوا. والفشل : الجبن وضعف
الرأى. وتنازعوا ، فقال بعضهم : قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا وقال بعضهم :
لا نخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فممن ثبت مكانه عبد الله بن جبير
أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ) ونفر أعقابهم ينهبون ، وهم الذين أرادوا الدنيا ، فكرّ
المشركون على الرماة ، وقتلوا عبد الله بن جبير رضى الله عنه ، وأقبلوا على
المسلمين ، وحالت الريح دبورا وكانت صبا ، حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا ، وهو قوله (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) لما علم من ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يتفضل عليهم بالعفو ، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال
سواء أديل لهم أو أديل عليهم ؛ لأنّ الابتلاء رحمة كما أنّ النصرة رحمة. فإن قلت :
أين متعلق (حَتَّى إِذا)؟ قلت : محذوف تقديره : حتى إذا فشلتم منعكم نصره. ويجوز أن
يكون المعنى : صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم (إِذْ تُصْعِدُونَ) نصب بصرفكم ، أو بقوله : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أو بإضمار «اذكر» والإصعاد. الذهاب في الأرض والإبعاد فيه.
يقال : صعد في الجبل وأصعد في الأرض. يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة : وقرأ
الحسن رضى الله عنه : تصعدون ، يعنى في الجبل. وتعضد الأولى قراءة أبىّ : إذ
تصعدون في الوادي. وقرأ أبو حيوة : تصعدون ، بفتح التاء وتشديد العين ، من تصعد في
السلم وقرأ الحسن رضى الله عنه : تلون ، بواو واحدة وقد ذكرنا وجهها. وقرئ :
يصعدون. ويلوون بالياء (وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ) كان يقول «إلىّ عباد الله ، إلىّ عباد الله ، أنا رسول
الله ، من يكرّ فله الجنة» (فِي أُخْراكُمْ) في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة. يقال : جئت في
آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أوّلهم وأولاهم ، بتأويل مقدمتهم وجماعتهم
الأولى (فَأَثابَكُمْ) عطف على صرفكم ، أى فجازاكم الله (غَمًّا) حين صرفكم عنهم وابتلاكم (ب) سبب (غم) أذقتموه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعصيانكم له ، أو غما مضاعفا ، غما بعد غم ، وغما متصلا بغم ، من
الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والجرح والقتل وظفر
المشركين وفوت الغنيمة والنصر (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) لتتمرنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا
تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار. ويجوز أن يكون
الضمير في : (فَأَثابَكُمْ) للرسول ، أى فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما
__________________
غمه ما نزل بكم ،
فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم
ومخالفتكم لأمره : وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من
نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدو. وأنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال
عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم. وعن أبى طلحة رضى الله عنه :
غشينا النعاس ونحن في مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط
فيأخذه. وما أحد إلا ويميل تحت حجفته . وعن ابن الزبير رضى الله عنه : لقد رأيتنى مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف ، فأرسل الله علينا النوم. والله إنى
لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. والأمنة :
الأمن. وقرئ (أمنة) بسكون الميم ، كأنها المرة من الأمن (نُعاساً) بدل من أمنة. ويجوز أن يكون هو المفعول ، وأمنة حالا منه
مقدمة عليه ، كقولك : رأيت راكبا رجلا ، أو مفعولا له بمعنى نعستم أمنة. ويجوز أن
يكون حالا من المخاطبين ، بمعنى : ذوى أمنة ، أو على أنه جمع آمن ، كبار وبررة (يَغْشى) قرئ بالياء والتاء ردا على النعاس ، أو على الأمنة (طائِفَةً مِنْكُمْ) هم أهل الصدق واليقين (وَطائِفَةٌ) هم المنافقون (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) ما بهم إلا هم أنفسهم لا هم الدين ولا هم الرسول صلى الله
عليه وسلم والمسلمين ، أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان ، فهم
في التشاكى والتباثّ (غَيْرَ الْحَقِ) في حكم المصدر. ومعناه : يظنون بالله غير الظن الحق الذي
يجب أن يظن به. و (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى : يظنون بالله ظن الجاهلية.
وغير الحق : تأكيد ليظنون ، كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك
وظن الجاهلية ، كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق : يريد الظن المختص بالملة
الجاهلية. ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية ، أى لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك
الجاهلون بالله (يَقُولُونَ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) معناه هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط ، يعنون
النصر والإظهار على العدو (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ) ولأوليائه المؤمنين وهو النصر والغلبة (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي) ، (وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ)(يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) معناه : يقولون لك فيما يظهرون : هل لنا من الأمر من شيء
سؤال المؤمنين المسترشدين وهم فيما يبطنون على النفاق ، يقولون في أنفسهم أو بعضهم
لبعض منكرين
__________________
لقولك لهم إن
الأمر كله لله (لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) أى لو كان الأمر كما قال محمد أن الأمر كله لله ولأوليائه
وأنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) يعنى من علم الله منه أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب
ذلك في اللوح لم يكن بد من وجوده فلو قعدتم في بيوتكم (لَبَرَزَ) من بينكم (الَّذِينَ) علم الله أنهم يقتلون (إِلى مَضاجِعِهِمْ) وهي مصارعهم ليكون ما علم الله أنه يكون. والمعنى أن الله
كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون ، لعلمه أن
العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله ، وأن ما ينكبون به
في بعض الأوقات تمحيص لهم وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على
الجهاد فتحصل الغلبة. وقيل : معناه هل لنا من التدبير من شيء ، يعنون لم تملك شيئا
من التدبير حيث خرجنا من المدينة إلى أحد ، وكان علينا أن نقيم ولا نبرح كما كان
رأى عبد الله بن أبىّ وغيره ، ولو ملكنا من التدبير شيئا لما قتلنا في هذه المعركة
، قل إن التدبير كله لله ، يريد أن الله عز وجل قد دبر الأمر كما جرى ، ولو أقمتم
بالمدينة ولم تخرجوا من بيوتكم لما نجا من القتل من قتل منكم. وقرئ : كتب عليهم
القتال. وكتب عليهم القتل ، على البناء للفاعل. ولبرِّز ، بالتشديد وضم الباء (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ) وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص ، ويمحص ما في
قلوبهم من وساوس الشيطان. فعل ذلك أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص. فإن
قلت : كيف مواقع الجمل التي بعد قوله وطائفة؟ قلت : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) صفة لطائفة. و (يَظُنُّونَ) صفة أخرى أو حال بمعنى : قد أهمتهم أنفسهم ظانين. أو استئناف
على وجه البيان للجملة قبلها. و (يَقُولُونَ) بدل من يظنون. فإن قلت : كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن
الأمر بدلا من الإخبار بالظن؟ قلت : كانت مسألتهم صادرة عن الظنّ ، فلذلك جاز إبداله
منه. ويخفون حال من يقولون. و (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ) اعتراض بين الحال وذوى الحال. و (يَقُولُونَ) بدل من (يُخْفُونَ) والأجود أن يكون استئنافا.
(إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ)
(١٥٥)
__________________
(اسْتَزَلَّهُمُ) طلب منهم الزلل ودعاهم إليه (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من ذنوبهم. ومعناه إنّ الذين انهزموا يوم أحد كان السبب في
توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبا ، فلذلك منعتهم التأييد وتقوية
القلوب حتى تولوا. وقيل : استزلال الشيطان إياهم هو التولي ، وإنما دعاهم إليه
بذنوب قد تقدمت لهم ، لأنّ الذنب يجرّ إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة
وتكون لطفا فيها. وقال الحسن رضى الله عنه : استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة.
وقيل : (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالثبات فيه. فجرّهم ذلك إلى الهزيمة. وقيل : ذكرهم تلك الخطايا فكرهوا لقاء الله
معها ، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية. فإن قلت : لم قيل (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا)؟ قلت : هو كقوله تعالى (وَيَعْفُوا عَنْ
كَثِيرٍ). (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ
عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا
وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
وَلَئِنْ
قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧)
وَلَئِنْ
مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)
(١٥٨)
(وَقالُوا
لِإِخْوانِهِمْ) أى لأجل إخوانهم ، كقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) ومعنى الأخوّة : اتفاق الجنس أو النسب (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز ، كعاف وعفى ، كقوله : عفى الحياض أجون . وقرئ : بتخفيف الزاى على حذف التاء من غزاة. فإن قلت :
كيف قيل : (إِذا ضَرَبُوا) مع (قالُوا)؟ قلت : هو على حكاية الحال الماضية ، كقولك : حين يضربون
في الأرض فإن قلت : ما متعلق ليجعل؟ قلت : قالوا ، أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) على أنّ اللام مثلها في : (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً). أو لا تكونوا ، بمعنى : لا تكونوا مثلهم في
__________________
النطق بذلك القول
واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم. فإن قلت : ما معنى
إسناد الفعل إلى الله تعالى؟ قلت : معناه أنّ الله عز وجل عند اعتقادهم ذلك
المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة في قلوبهم ، ويضيق صدورهم عقوبة ، فاعتقاده فعلهم
وما يكون عنده من الغم والحسرة وضيق الصدور فعل الله عز وجل كقوله : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً
كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلّ عليه النهى ، أى لا
تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، لأنّ مخالفتهم فيما
يقولون ويعتقدون ومضادّتهم مما يغمهم ويغيظهم (وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ) ردٌّ لقولهم. أى الأمر بيده ، قد يحيى المسافر والغازي ،
ويميت المقيم والقاعد كما يشاء. وعن خالد بن الوليد رضى الله عنه أنه قال عند موته
: ما فىّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت العير فلا
نامت أعين الجبناء (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا تكونوا مثلهم. وقرئ بالياء ، يعنى الذين كفروا (لَمَغْفِرَةٌ) جواب القسم ، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط ، وكذلك (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) كذب الكافرين أولا في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزى
لو كان في المدينة لما مات ، ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد ،
ثم قال لهم : ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت والقتل في سبيل الله ،
فإنّ ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا
ومنافعها لو لم تموتوا.
وعن ابن عباس رضى
الله عنهما : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. وقرئ بالياء ، أى يجمع الكفار (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لإلى الله الرحيم الواسع الرحمة ، المثيب العظيم الثواب
تحشرون ولوقوع اسم الله تعالى هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل
به ، شأن ليس بالخفي. قرئ (مُتُّمْ) بضم الميم وكسرها ، من مات يموت ومات يمات.
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(١٥٩)
«ما» مزيدة
للتوكيد والدلالة على أنّ لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله ونحوه (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
لَعَنَّاهُمْ) ومعنى الرحمة : ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم
حتى أثابهم غما بغم وآساهم بالمباثة بعد ما خالفوه وعصوا أمره وانهزموا وتركوه (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) جافيا (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيه (لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ) لتفرّقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما
__________________
يختص بك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يختص بحق الله إتماما للشفقة عليهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يعنى في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي لتستظهر
برأيهم ، ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم. وعن الحسن رضى الله تعالى
عنه ، قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ، ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده. وعن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» وعن أبى هريرة رضى الله عنه : ما رأيت أحداً أكثر مشاورة
من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم
فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استبداده
بالرأى دونهم. وقرئ : وشاورهم في بعض الأمر (فَإِذا عَزَمْتَ) فإذا قطعت الرأى على شيء بعد الشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح ، فإن ما هو أصلح لك لا
يعلمه إلا الله لا أنت ولا من تشاور. وقرئ (فَإِذا عَزَمْتَ) بضم التاء ، بمعنى فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه
فتوكل علىّ ولا تشاور بعد ذلك أحداً.
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ
مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ)(١٦٢)
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللهُ) كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كما خذلكم يوم أحد أحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ) فهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه.
ونحوه (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ). (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد خذلانه. أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد
فلان ؛ تريد إذا جاوزته. وقرأ عبيد بن عمير :
__________________
وإن يخذلكم ، من
أخذله إذا جعله مخذولا. وفيه ترغيب في الطاعة وفيما يستحقون به النصر من الله
تعالى والتأييد ، وتحذير من المعصية ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان (وَعَلَى اللهِ) وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا
ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه. يقال غلّ شيئا من المغنم غلولا وأغلّ
إغلالا ، إذا أخذه في خفية. يقال أغلّ الجازر ، إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد.
والغل : الحقد الكامن في الصدر. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «من بعثناه على عمل
فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه » وقوله صلى الله عليه وسلم «هدايا الولاة غلول » وعنه «ليس على المستعير غير المغل ضمان » وعنه «لا إغلال ولا إسلال » ويقال : أغله إذا وجده غالا ، كقولك : أبخلته وأفحمته . ومعنى (وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَ) وما صحّ له ذلك ، يعنى أن النبوة تنافى الغلول ، وكذلك من
قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى معنى الأوّل ، لأن معناه : وما صح له أن يوجد
غالا ، ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا. وفيه وجهان : أحدهما أن يبرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم من ذلك وينزه وينبه على عصمته
__________________
بأن النبوّة
والغلول متنافيان؟ لئلا يظن به ظانّ شيئا منه وألا يستريب به أحد ، كما روى أنّ
قطيفة حمراء فقدت يوم بدر. فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخذها . وروى أنها نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا : نخشى أن
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما
لم يقسم يوم بدر ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا
تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى ، فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا ، فقال صلى
الله عليه وسلم : بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم : والثاني أن يكون مبالغة في
النهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى : أنه بعث طلائع فغنمت غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع ، فنزلت. يعنى : وما
كان لنبىّ أن يعطى قوما ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض
الغزاة «غلولا» تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر ، ولو قرئ (أَنْ يَغُلَّ) من أغل بمعنى غل ، لجاز (يَأْتِ بِما غَلَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) يأت بالشيء الذي غله بعينه يحمله كما جاء في الحديث «جاء يوم القيامة
يحمله على عنقه » وروى : «ألا لا أعرفنّ أحدكم يأتى ببعير له رغاء وببقرة لها خوار وبشاة لها ثغاء ، فينادى يا
محمد ، يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا فقد بلغتك » وعن بعض جفاة العرب أنه سرق نافجة مسك ، فتليت عليه الآية
__________________
فقال : إذاً
أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. ويجوز أن يراد يأتى بما احتمل من وباله وتبعته
وإثمه فإن قلت : هلا قيل : ثم يوفى ما كسب ، ليتصل به؟ قلت : جيء بعامّ دخل تحته
كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أبلغ وأثبت ، لأنه إذا علم
الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزى فموفى جزاءه ، علم أنه غير متخلص من بينهم مع
عظم ما اكتسب (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) أى يعدل بينهم في الجزاء ، كلٌّ جزاؤه على قدر كسبه.
(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١٦٤)
(هُمْ دَرَجاتٌ) أى هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات كقوله :
أَنَصْبٌ
لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَرِيهِمْ
|
|
رِجَالِى أمْ
هُمُو دَرَجُ السُّيُولِ
|
وقيل : ذوو درجات.
والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين ، أو التفاوت بين الثواب
والعقاب (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) عالم بأعمالهم ودرجاتها فمجازيهم على حسبها (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) على من آمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه. وخص
المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) من جنسهم عربيا مثلهم. وقيل من ولد إسماعيل كما أنه من
ولده ، فإن قلت : مما وجه المنة عليهم في أن كان من أنفسهم؟ قلت : إذا كان منهم
كان اللسان واحداً ، فسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه وكانوا واقفين على أحواله في
الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به ، وفي كونه من أنفسهم
شرف لهم ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراءة فاطمة رضى
الله عنها : من أنفسهم ، أى من أشرفهم. لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة
نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ،
وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم. وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضى
الله عنها ـ وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر ـ : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية
إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معدّ وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة
__________________
بيته وسوّاس حرمه
، وجعل لنا بيتاً محجوجا وحرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن ابن أخى هذا
محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له
نبأ عظيم وخطر جليل. وقرئ : لمن منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم. وفيه وجهان :
أن يراد لمن منّ الله على المؤمنين منه أو بعثه إذ بعث فيهم ، فحذف لقيام الدلالة
، أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما ،
بمعنى لمن منّ الله على المؤمنين وقت بعثه (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ) بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحى (وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهرهم من دنس القلوب بالكفر ونجاسة سائر الجوارح بملابسة
المحرمات وسائر الخبائث. وقيل : ويأخذ منهم الزكاة (وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) القرآن والسنة بعد ما كانوا أجهل الناس وأبعدهم من دراسة
العلوم (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلُ) من قبل بعثة الرسول (لَفِي ضَلالٍ) إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين
النافية. وتقديره : وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال (مُبِينٍ) ظاهر لا شبهة فيه.
(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦)
وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ
ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
الَّذِينَ
قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا
عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٦٨)
(أَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ) يريد : ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين. و (لَمَّا) نصب بقلتم. و (أَصابَتْكُمْ) في محل الجرّ بإضافة (لَمَّا) إليه وتقديره : أقلتم حين أصابتكم. و (أَنَّى هذا) نصب لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع.
فإن قلت : علام
عطفت الواو هذه الجملة؟ قلت : على ما مضى من قصة أحد من قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، كأنه قيل : أفعلتم كذا
وقلتم حينئذ كذا ، أنى هذا : من أين هذا. كقوله تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا) لقوله (مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ) وقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ)
والمعنى : أنتم
السبب فيما أصابكم ، لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز. وعن علىّ
رضى الله عنه : لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو قادر على النصر وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة
ويصيب منكم أخرى (وَما أَصابَكُمْ) يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين (ف) هو كائن (بإذن
الله) أى بتخليته ، استعار الإذن لتخليته الكفار ، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم ،
لأنّ الآذن مخل بين المأذون له ومراده (وَلِيَعْلَمَ) وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون ، وليظهر إيمان هؤلاء
ونفاق هؤلاء (وَقِيلَ لَهُمْ) من جملة الصلة عطف على نافقوا ، وإنما لم يقل فقالوا لأنه
جواب لسؤال اقتضاه دعاء المؤمنين لهم إلى القتال ، كأنه قيل : فما ذا قالوا لهم.
فقيل : قالوا : لو نعلم. ويجوز أن تقتصر الصلة على : (نافَقُوا) ، ويكون (وَقِيلَ لَهُمْ) كلاما مبتدأ قسم الأمر عليهم بين أن يقاتلوا للآخرة كما
يقاتل المؤمنون ، وبين أن يقاتلوا إن لم يكن بهم غم الآخرة دفعا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، فأبوا القتال وجحدوا
القدرة عليه رأساً لنفاقهم ودغلهم وذلك ما روى أن عبد الله بن أبىّ انخزل مع حلفائه ، فقيل
له ، فقال ذلك. وقيل (أَوِ ادْفَعُوا) العدوّ بتكثيركم سواد المجاهدين وإن لم تقاتلوا لأنّ كثرة
السواد مما يروع العدو ويكسر منه. وعن سهل بن سعد الساعدي ـ وقد كف بصره ـ :لو
أمكننى لبعت دارى ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوهم. قيل : وكيف
وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله : (أَوِ ادْفَعُوا) أراد : كثروا سوادهم. ووجه آخر وهو أن يكون معنى قولهم (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا (لَاتَّبَعْناكُمْ) يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس
بشيء ، ولا يقال لمثله قتال ، إنما هو إلقاء بالأنفس إلى التهلكة ، لأنّ رأى عبد
الله كان في الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج (هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) يعنى أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت
منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخزلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا ،
تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر. وقيل : هم لأهل الكفر
أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأنّ تقليلهم سواد المسلمين بالانخزال تقوية
للمشركين (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ) لا يتجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم ولا تعى قلوبهم
منه شيئا. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأنّ إيمانهم موجود في أفواههم
معدوم في قلوبهم ، خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من النفاق ، وبما يجرى بعضهم مع بعض من ذمّ
__________________
المؤمنين وتجهيلهم
وتخطئة رأيهم والشماتة بهم وغير ذلك ، لأنكم تعلمون بعض ذلك علماً مجملا بأمارات ،
وأنا أعلم كله علم إحاطة بتفاصيله وكيفياته (الَّذِينَ قالُوا) في إعرابه أوجه : أن يكون نصبا على الذمّ أو على الردّ على
الذين نافقوا ، أو رفعا على هم الذين قالوا أو على الإبدال من واو يكتمون. ويجوز
أن يكون مجروراً بدلا من الضمير في بأفواههم أو قلوبهم ، كقوله :
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالماءِ حَاتِمُ
(لِإِخْوانِهِمْ) لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو
إخوانهم في النسب وفي سكنى الدار (وَقَعَدُوا) أى قالوا وقد قعدوا عن القتال : لو أطاعنا إخواننا فيما
أمرناهم به من القعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) معناه : قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل
سبيلا وهو القعود عن القتال ، فجدوا إلى دفع الموت سبيلا ، يعنى أن ذلك الدفع غير
مغن عنكم ، لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت ، لم تقدروا على دفع
سائر أسبابه المبثوثة ، ولا بد لكم من أن يتعلق بكم بعضها. وروى أنه مات يوم قالوا
هذه المقالة سبعون منافقاً. فإن قلت : فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن
أنفسهم بالقعود ، فما معنى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ)؟ قلت : معناه أن النجاة من القتل
__________________
يجوز أن يكون
سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره ، لأن أسباب النجاة كثيرة ، وقد يكون قتال
الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل ، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم
صادقون في مقالتكم؟ وما أنكرتم أن يكون السبب غيره. ووجه آخر : إن كنتم صادقين في
قولكم : لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ، يعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين
كما قتلوا مقاتلين. وقوله (فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) استهزاء بهم ، أى إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت ،
فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا.
(وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١)
(وَلا تَحْسَبَنَ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. وقرئ
بالياء على : ولا يحسبنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ولا يحسبنّ حاسب.
ويجوز أن يكون (الَّذِينَ قُتِلُوا) فاعلا ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا ،
أى ولا يحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟
قلت : هو في الأصل مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله (أَحْياءٌ) والمعنى : هم أحياء لدلالة الكلام عليهما. وقرئ : ولا
تحسبنّ بفتح السين ، وقتلوا بالتشديد. وأحياء بالنصب على معنى : بل احسبهم أحياء (عِنْدَ رَبِّهِمْ) مقرّبون عنده ذوو زلفى ، كقوله : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ). (يُرْزَقُونَ) مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون. وهو تأكيد
لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ) وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل
على غيرهم ، من كونهم أحياء مقرّبين معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها. وعن النبي صلى
الله عليه
__________________
وسلم «لما أصيب
إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من
ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش » (وَيَسْتَبْشِرُونَ) بإخوانهم المجاهدين (بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ) أى لم يقتلوا فيلحقوا بهم (مِنْ خَلْفِهِمْ) يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. وقيل :
لم يلحقوا بهم ، لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم (أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) بدل من الذين. والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من
تركوا خلفهم من المؤمنين ، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة. بشرهم الله بذلك
فهم مستبشرون به. وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على
ازدياد الطاعة ، والجد في الجهاد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ،
وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الله ، وبشرى للمؤمنين
بالفوز في المآب. وكرّر (يَسْتَبْشِرُونَ) ليعلق به ما هو بيان لقوله : (أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من ذكر النعمة والفضل ، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم يجب
في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع. وقرئ (وَأَنَّ اللهَ) بالفتح عطفاً على النعمة والفضل. وبالكسر على الابتداء
وعلى أنّ الجملة اعتراض ، وهي قراءة الكسائي. وتعضدها قراءة عبد الله. والله لا
يضيع.
(الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ
إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ
اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(١٧٤)
(الَّذِينَ
اسْتَجابُوا) مبتدأ خبره (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا) أو صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح. روى أنّ أبا سفيان
وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة ، فندب أصحابه للخروج في طلب أبى
سفيان وقال : لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال ،
__________________
وكان بأصحابه
القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب في قلوب
المشركين فذهبوا ، فنزلت. و «من» في (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) للتبيين مثلها في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) لأنّ الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا ،
لا بعضهم. وعن عروة بن الزبير : قالت لي عائشة رضى الله عنها «إن أبويك لمن الذين
استجابوا لله والرسول » تعنى أبا بكر والزبير (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) روى أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد. يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن شاء الله ؛ فلما كان القابل خرج أبو سفيان
في أهل مكة حتى نزل مر الظهران. فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع ، فلقى
نعيم بن مسعود الأشجعى وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم ، إنى واعدت محمداً أن
نلتقي بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه
اللبن ، وقد بدا لي ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة ، فالحق بالمدينة
فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل ، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما
هذا بالرأى. أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً ، فتريدون أن
تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم ، فو الله لا يفلت منكم أحد. وقيل : مرّ بأبى
سفيان ركب من عبد القبس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن
ثبطوهم ، فكره المسلمون الخروج. فقال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأخرجن
ولو لم يخرج معى أحد ، فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل ـ وقيل : هي الكلمة
التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار ـ حتى وافوا بدراً وأقاموا بها
ثماني ليال ، وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيراً ، ثم انصرفوا إلى المدينة
سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق. قالوا :
إنما خرجتم لتشربوا السويق. فالناس الأوّلون : المثبطون. والآخرون : أبو سفيان
وأصحابه. فإن قلت : كيف قيل (النَّاسُ) إن كان نعيم هو المثبط وحده؟ قلت : قيل ذلك لأنه من جنس
الناس ، كما يقال : فلان يركب الخيل ويلبس البرود ، وماله إلا فرس واحد وبرد فرد. أو
لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ، ويصلون جناح كلامه ،
ويثبطون مثل تثبيطه. فإن قلت : إلام يرجع المستكن في (فَزادَهُمْ)؟ قلت : إلى
__________________
المقول الذي هو (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ) كأنه قيل : قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيمانا ، أو إلى
مصدر قالوا ، كقولك : من صدق كان خيراً له. أو إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده. فإن
قلت : كيف زادهم نعيم أو مقوله إيمانا؟ قلت : لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية
والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام ، كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم ،
كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج ؛ ولأنّ خروجهم على أثر تثبيطه إلى وجهة العدو
طاعة عظيمة ، والطاعات من جملة الإيمان ؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل. وعن
ابن عمر : قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه
الجنة. وينقص حتى يدخل صاحبه النار» وعن عمر رضى الله عنه : أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم
بنا نزدد إيمانا . وعنه : لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمّة لرجح به (حَسْبُنَا اللهُ) محسبنا ، أى كافينا. يقال : أحسبه الشيء إذا كفاه. والدليل
على أنه بمعنى المحسب أنك تقول : هذا رجل حسبك ، فتصف به النكرة ؛ لأنّ إضافته
لكونه في معنى اسم الفاعل غير حقيقة (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ونعم الموكول إليه هو (فَانْقَلَبُوا) فرجعوا من بدر (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) وهي السلامة وحذر العدوّ منهم (وَفَضْلٍ) وهو الربح في التجارة ، كقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ). (لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ) لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدوّ (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بجرأتهم وخروجهم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ) قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا. وفي ذلك تحسير لمن
تخلف عنهم ، وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء. وروى أنهم قالوا
: هل يكون هذا غزوا ، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم.
(إِنَّما ذلِكُمُ
الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ)(١٧٥)
__________________
(الشَّيْطانُ) خبر ذلكم ، بمعنى : إنما ذلك المثبط هو الشيطان. ويخوّف
أولياءه : جملة مستأنفة بيان لشيطنته. أو الشيطان صفة لاسم الإشارة. ويخوّف الخبر.
والمراد بالشيطان نعيم ، أو أبو سفيان. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف ،
بمعنى إنما ذلكم قول الشيطان ، أى قول إبليس لعنه الله (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) يخوّفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه. وتدل عليه
قراءة ابن عباس وابن مسعود : يخوفكم أولياءه. وقوله : فلا تخافوهم. وقيل : يخوّف
أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت : فإلام رجع
الضمير في (فَلا تَخافُوهُمْ) على هذا التفسير؟ قلت : إلى الناس في قوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) فلا تخافوهم فتقعدوا عن القتال وتجبنوا (وَخافُونِ) فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى أنّ الإيمان يقتضى أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ).
(وَلا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(١٧٨)
(يُسارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ) يقعون فيه سريعاً ويرغبون فيه أشدّ رغبة ، وهم الذين
نافقوا من المتخلفين. وقيل : هم قوم ارتدّوا عن الإسلام. فإن قلت : فما معنى قوله
: (وَلا يَحْزُنْكَ)؟ ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتدّ؟
قلت : معناه : لا يحزنوك لخوف أن أن يضرّوك ويعينوا عليك. ألا ترى إلى قوله (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) يعنى أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ، وما
وبال ذلك عائداً على غيرهم. ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ
حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أى نصيباً من الثواب (وَلَهُمْ) بدل الثواب (عَذابٌ عَظِيمٌ) وذلك أبلغ ما ضرّ به الإنسان نفسه. فإن قلت : هلا قيل : لا
يجعل الله لهم حظاً في الآخرة ، وأىّ فائدة في ذكر الإرادة؟ قلت : فائدته الإشعار
بأنّ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط حين سارعوا في
الكفر ، تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أنّ أرحم
الراحمين يريد أن لا يرحمهم (إِنَّ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ) إمّا أن يكون تكريراً لذكرهم للتأكيد والتسجيل عليهم بما
أضاف إليهم. وإمّا أن يكون عاما للكفار ، والأوّل خاصاً فيمن نافق من المتخلفين ،
أو ارتدّ عن الإسلام أو على العكس. و (شَيْئاً) نصب على المصدر ؛ لأن المعنى : شيئا من الضرر وبعض الضرر (الَّذِينَ كَفَرُوا) فيمن قرأ بالتاء نصب و (أَنَّما نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) بدل منه : أى ولا تحسبنّ أنّ ما نملي للكافرين خير لهم ، و
«أن» مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين ، كقوله : أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون ، وما
مصدرية ، بمعنى : ولا تحسبنّ أنّ إملاءنا خير ، وكان حقها في قياس علم الخط أن
تكتب مفصولة. ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف ، وتتبع سنة الإمام في خط
المصاحف. فإن قلت : كيف صحّ مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز
الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ قلت : صحّ ذلك من حيث أنّ التعويل على
البدل والمبدل منه في حكم المنحى : ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض ، مع
امتناع سكوتك على متاعك. ويجوز أن يقدّر مضاف محذوف على : ولا تحسبنّ الذين كفروا
أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم. أو ولا تحسبنّ حال الذين كفروا أن الإملاء خير
لأنفسهم. وهو فيمن قرأ بالياء رفع ، والفعل متعلق بأن وما في حيزه. والإملاء لهم :
تخليتهم وشأنهم ، مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء. وقيل :
هو إمهالهم وإطالة عمرهم. والمعنى : ولا تحسبنّ أن الإملاء خير لهم من منعهم أو
قطع آجالهم (أَنَّما نُمْلِي
لَهُمْ) «ما» هذه حقها أن
تكتب متصلة ، لأنها كافة دون الأولى ، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ،
كأنه قيل : ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم ، فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا
إثما. فإن قلت : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً لله تعالى في إملائه لهم؟ قلت : هو علة للإملاء ، وما كل علة بغرض. ألا تراك
تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشر ، وليس شيء منها
بغرض لك. وإنما هي علل وأسباب ، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسبباً فيه.
فإن قلت : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟
قلت : لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما ، فكان الإملاء وقع
من أجله وبسببه على طريق المجاز. وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الأولى وفتح الثانية. ولا
يحسبنّ بالياء ، على معنى : ولا يحسبنّ الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم كما
يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. وقوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض بين الفعل ومعموله. ومعناه : أن إملاءنا خير
لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم
__________________
بتفسيح المدّة
وترك المعاجلة بالعقوبة. فإن قلت : فما معنى قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ) على هذه القراءة؟ قلت : معناه : ولا تحسبوا إن إملاءنا
لزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال ، كأنه قيل : ليزدادوا إثما معداً لهم عذاب
مهين.
(ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٧٩)
اللام لتأكيد
النفي (عَلى ما أَنْتُمْ
عَلَيْهِ) من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ) حتى يعزل المنافق عن المخلص. وقرئ : يميز. من ميز. وفي
رواية عن ابن كثير : يميز ، من أماز بمعنى ميز. فإن قلت : لمن الخطاب في : (أَنْتُمْ)؟ قلت : للمصدّقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه
قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها ـ من اختلاط
بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً ـ حتى
يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم ، ثم قال (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الْغَيْبِ) أى وما كان الله ليؤتى أحداً منكم علم الغيوب ، فلا
تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع
على ما في القلوب اطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها (وَلكِنَّ اللهَ) يرسل الرسول فيوحى إليه ويخبره بأنّ في الغيب كذا ، وأن
فلانا في قلبه النفاق وفلانا في قلبه الإخلاص ، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من
جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد : لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من
الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن
الله قلوبهم. كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيجعل ذلك
عياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق
الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإن ذلك مما استأثر
الله به. وما كان الله ليطلع أحداً منكم على الغيب ومضمرات القلوب حتى يعرف صحيحها
من فاسدها مطلعا عليها (وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيخبره ببعض المغيبات (فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ) بأن تقدروه حق قدره ، وتعلموه وحده مطلعا على الغيوب ، وأن
تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين ، لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا
يخبرون إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء. وعن السدى
قال الكافرون : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر. فنزلت.
(وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ
هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ
مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١٨٠)
(ولا تحسبن) من
قرأ بالتاء قدّر مضافا محذوفا ، أى ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم.
وكذلك من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول الله ، أو ضمير أحد. ومن جعل فاعله
الذين يبخلون كان المفعول الأوّل عنده محذوفا تقديره : ولا يحسبن الذين يبخلون
بخلهم (هُوَ خَيْراً لَهُمْ) والذي سوغ حذفه دلالة (يَبْخَلُونَ) عليه ، وهو فصل. وقرأ الأغمش بغير هو (سَيُطَوَّقُونَ) تفسير لقوله (هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق. وفي أمثالهم :
تقلدها طوق الحمامة ، إذا جاء بهنة يسب بها ويذم. وقيل : يجعل ما بخل به من الزكاة
حية يطوقها في عنقه يوم القيامة ، تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول : أنا
مالك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة «يطوق بشجاع أقرع » وروى بشجاع أسود. وعن النخعي سيطوقون بطوق من نار (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أى وله ما فيها مما يتوارثه أهلها من مال وغيره فما لهم
يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله. ونحوه قوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) وقرئ (بِما تَعْمَلُونَ) بالتاء والياء فالتاء على طريقة الالتفات ، وهي أبلغ في
الوعيد والياء على الظاهر.
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٨٢)
قال ذلك اليهود
حين سمعوا قول الله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ، فلا يخلو إمّا أن
يقولوه عن اعتقاد لذلك ، أو عن استهزاء بالقرآن ، وأيهما كان فالكلمة عظيمة لا
تصدر إلا عن متمردين في كفرهم. ومعنى سماع الله له : أنه لم يخف عليه ، وأنه أعدّ
له كفاءه من العقاب (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) في صحائف الحفظة. أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما
يثبت المكتوب فإن قلت : كيف قال : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) ثم قال : (سَنَكْتُبُ) وهلا قيل : ولقد كتبنا؟ قلت : ذكر وجود
__________________
السماع أوّلا
مؤكداً بالقسم ثم قال : سنكتب على جهة الوعيد بمعنى لن يفوتنا أبداً إثباته
وتدوينه كما لن يفوتنا قتلهم الأنبياء. وجعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذانا
بأنهما في العظم أخوان ، وبأن هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم ، وأنهم أصلاء في
الكفر ولهم فيه سوابق ، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا
القول. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب مع أبى بكر رضى الله عنه إلى
يهود بنى قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا
الله قرضاً حسناً ، فقال فنحاص اليهودي : إنّ الله فقير حين سألنا القرض
فلطمه أبو بكر في وجهه وقال : لو لا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله ، فنزلت. ونحوه قولهم (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)(وَنَقُولُ) لهم (ذُوقُوا) وننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة : ذوقوا (عَذابَ الْحَرِيقِ) كما أذقتم المسلمين الغصص. يقال للمنتقم منه : أحس ، وذق.
وقال أبو سفيان لحمزة رضى الله عنه : ذق عقق وقرأ حمزة : سيكتب ، بالياء على البناء للمفعول ، ويقول
بالياء. وقرأ الحسن والأعرج : سيكتب بالياء وتسمية الفاعل. وقرأ ابن مسعود : ويقال
ذوقوا (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم من عقابهم وذكر الأيدى لأن أكثر
الأعمال تزاول بهنّ ، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدى على سبيل التغليب فإن قلت : فلم
عطف قوله (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) على ما قدّمت أيديكم ، وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد
شريكا لاجتراحهم السيئات في استحقاق التعذيب؟ قلت : معنى كونه غير ظلام للعبيد أنه
عادل عليهم ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثيب المحسن.
(الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ
تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ
الْمُنِيرِ)(١٨٤)
__________________
(عَهِدَ إِلَيْنا) أمرنا في التوراة وأوصانا بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا
بهذه الآية الخاصة ، وهو أن يرينا قربانا تنزل نار من السماء فتأكله ، كما كان
أنبياء بنى إسرائيل تلك آيتهم ، كان يقرب بالقربان ، فيقوم النبي فيدعو ، فتنزل
نار من السماء فتأكله ، وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله ، لأن أكل النار القربان
لم يوجب الإيمان للرسول الآتي به إلا لكونه آية ومعجزة فهو إذن وسائر الآيات سواء
فلا يجوز أن يعينه الله تعالى من بين الآيات. وقد ألزمهم الله أن أنبياءهم جاءوهم
بالبينات الكثيرة التي أوجبت عليهم التصديق ، وجاءوهم أيضا بهذه الآية التي
اقترحوها فلم قتلوهم إن كانوا صادقين أن الإيمان يلزمهم بإتيانها وقرئ (بِقُرْبانٍ) بضمتين. ونظيره السلطان. فإن قلت : ما معنى قوله (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)؟ قلت : معناه ، وبمعنى الذي قلتموه من قولكم : قربان تأكله
النار. ومؤدّاه كقوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا) أى لمعنى ما قالوا. في مصاحف أهل الشام : وبالزبر وهي
الصحف (وَالْكِتابِ
الْمُنِيرِ) التوراة والإنجيل والزبور. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله
عليه وسلم من تكذيب قومه وتكذيب اليهود.
(كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ)(١٨٥)
وقرأ اليزيدي (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) على الأصل. وقرأ الأعمش (ذائقة الموت) بطرح التنوين مع
النصب كقوله :
وَلَا ذَاكِرَ اللهَ إلّا قَلِيلَا
فإن قلت : كيف
اتصل به قوله (وَإِنَّما
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ)؟ قلت : اتصاله به على أن كلكم تموتون ولا بدّ لكم من الموت
ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم ، وإنما توفونها يوم قيامكم من
القبور. فإن قلت فهذا يوهم نفى ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة
__________________
أو حفرة من حفر
النار . قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور. الزحزحة :
التنحية والإبعاد تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة (فَقَدْ فازَ) فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به ولا غاية
للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد.
اللهم وفقنا لما ندرك به عندك الفوز في المآب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «من
أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ،
ويأتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد. شبه
الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغرّ حتى يشتريه ثم يتبين له فساده
ورداءته. والشيطان هو المدلس الغرور. وعن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على
الآخرة فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ ، خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا
أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها ، حتى إذا لقوها
لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من يصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها
نفسه.
(لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(١٨٦)
والبلاء في الأنفس
: القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب. وفي الأموال :
الإنفاق في سبيل الخير وما يقع فيها من الآفات. وما يسمعون من أهل الكتاب المطاعن في الدين الحنيف ، وصدّ من أراد الإيمان ، وتخطئة
من آمن ، وما كان من كعب بن الأشرف من هجائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريض
المشركين ، ومن فنحاص ،
__________________
ومن بنى قريظة
والنضير (فَإِنَّ ذلِكَ) فإن الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من معزومات الأمور ، أى مما يجب العزم عليه من الأمور أو
مما عزم الله أن يكون ، يعنى أنّ ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا
وتتقوا.
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)(١٨٧)
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب (لَتُبَيِّنُنَّهُ) الضمير للكتاب. أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب
كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه وقيل له. آلله لتفعلنّ (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم ، يعنى لم يراعوه ولم
يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد. ونقيضه جعله نصب
عينيه وألقاه بين عينيه ، وكفى به دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا أحق
للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطيب
لنفوسهم. واستجلاب لمسارّهم ، أو لجرّ منفعة وحطام دنيا ، أو لتقية : مما لا دليل
عليه ولا أمارة أو لبخل بالعلم ، وغبرة أن ينسب إليه غيرهم. وعن النبي صلى الله
عليه وسلم «من كتم علما عن أهله ألحم بلجام من نار» وعن طاوس أنه قال
__________________
لوهب : إنى أرى
الله سوف يعذبك بهذه الكتب. وقال : والله لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت
أنّ الله سيعذبك ، وعن محمد بن كعب : لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وعن على رضى
الله عنه. ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا . وقرئ : ليبيننه. ولا يكتمونه ، بالياء ، لأنهم غيب.
وبالتاء ، على حكاية مخاطبتهم ، كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ)
(لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ)(١٨٨)
(لا تَحْسَبَنَ) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحد المفعولين (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) والثاني (بِمَفازَةٍ) وقوله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد تقديره : لا تحسبنهم ، فلا تحسبنهم فائزين. وقرئ: لا
تحسبن. فلا تحسبنهم ، بضم الباء على خطاب المؤمنين. ولا يحسبن. فلا يحسبنهم ،
بالياء وفتح الباء فيهما ، على أنّ الفعل للرسول. وقرأ أبو عمرو بالياء وفتح الباء
في الأوّل وضمها في الثاني ، على أن الفعل للذين يفرحون ، والمفعول الأوّل محذوف
على : لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة ، بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون
فائزين ، وفلا يحسبنهم ، تأكيد. ومعنى (بِما أُوتُوا) بما فعلوا. وأتى وجاء ، يستعملان بمعنى فعل. قال الله
تعالى : (إِنَّهُ كانَ
وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) ، (لَقَدْ جِئْتِ
شَيْئاً فَرِيًّا). ويدل عليه قراءة أبىّ : يفرحون بما فعلوا. وقرئ : آتوا ،
بمعنى أعطوا. وعن على رضى الله عنه : بما أوتوا. ومعنى (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) بمنجاة منه. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل
اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه ، وأروه أنهم قد صدقوه ، واستحمدوا إليه ، وفرحوا بما
فعلوا ، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم : أى : لا تحسبن
اليهود الذين يفرحون بما فعلوا ـ من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا
من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ـ ناجين من العذاب. ومعنى (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا)
__________________
بما أوتوه من علم
التوراة. وقيل يفرحون بما فعلوا من كتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم حيث ادعوا أن إبراهيم كان
على اليهودية وأنهم على دينه. وقيل : هم قوم تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فلما قفل اعتذروا إليه بأنهم رأوا المصلحة في التخلف ، واستحمدوا
إليه بترك الخروج. وقيل : هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين
ومنافقتهم وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم ، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه
على الحقيقة لإبطانهم الكفر. ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتى بحسنة فيفرح بها فرح
إعجاب ، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد وبما ليس فيه.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ
فَقِنا عَذابَ النَّارِ)(١٩١)
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أمرهم. وهو على كل شيء قدير ، فهو يقدر على
عقابهم (لَآياتٍ) لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) للذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار ، ولا
ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر. وفي النصائح الصغار :
املأ عينيك من زينة هذه الكواكب ، وأجلهما في جملة هذه العجائب ، متفكرا في قدرة
مقدّرها ، متدبرا حكمة مدبرها ، قبل أن يسافر بك القدر ، ويحال بينك وبين النظر :
وعن ابن عمر رضى الله عنهما : قلت لعائشة رضى الله عنها : أخبرينى بأعجب ما رأيت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت وأطالت ، ثم قالت : كل أمره عجب ، أتانى في ليلتي فدخل
في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ، ثم قال : يا عائشة ، هل لك أن تأذنى لي الليلة في
عبادة ربى؟ فقلت : يا رسول الله ، إنى لأحب قربك وأحب هواك ، قد أذنت لك. فقام إلى
قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ، ثم قام يصلى ، فقرأ من القرآن
فجعل يبكى حتى بلغ الدموع حقويه ، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكى ، ثم رفع
يديه فجعل يبكى
__________________
حتى رأيت دموعه قد
بلت الأرض ، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له : يا رسول الله ، أتبكي
وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبداً
شكورا. ثم قال : ومالى لا أبكى وقد أنزل الله علىّ في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وروى : «ويل لمن
لاكها بين فكيه ولم يتأمّلها» وعن على رضى الله عنه : أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان
إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) . وحكى أنّ الرجل من بنى إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين
سنة أظلته سحابة ، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله ، فقالت له أمّه : لعلّ فرطة
فرطت منك في مدّتك؟ فقال : ما أذكر. قالت : لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر؟
قال : لعلّ. قالت : فما أُتيت إلا من ذاك (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ) ذكراً دائباً على أى حال كانوا ، من قيام وقعود واضطجاع لا
يخلون بالذكر في أغلب أحوالهم. وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم
العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله ، فقال بعضهم : أما قال الله تعالى : (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) فقاموا يذكرون الله على أقدامهم. وعن النبي صلى الله عليه
وسلم «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله » وقيل : معناه يصلون في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين «صل قائما فإن لم تستطع
فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب ، تومئ إيماء » وهذه حجة للشافعي رحمه الله في إضجاع المريض على جنبه كما
في اللحد. وعند أبى حنيفة رحمه الله أنه يستلقى حتى إذا وجد خفة قعد. ومحل (عَلى جُنُوبِهِمْ) نصب على الحال عطفاً على ما قبله ، كأنه قيل : قياما
وقعوداً ومضطجعين (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما
دبر فيها بما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم شأن الصانع
__________________
وكبرياء سلطانه.
وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء ، فلما رأى
الكواكب غشى عليه ، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وعن النبىّ صلى الله عليه
وسلم «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال :
أشهد أنّ لك رباً وخالقاً ، اللهمّ اغفر لي ، فنظر الله إليه فغفر له» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا عبادة كالتفكر » وقيل : الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث
الماء للزرع النبات ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة. وروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل
يوم مثل عمل أهل الأرض» قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل
القلب ، لأن أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) على إرادة القول. أى يقولون ذلك وهو في محل الحال ، بمعنى
يتفكرون قائلين. والمعنى : ما خلقته خلقاً باطلا بغير حكمة ، بل خلقته لداعي حكمة
عظيمة ، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب
معصيتك ؛ ولذلك وصل به قوله (فَقِنا عَذابَ
النَّارِ) لأنه جزاء من عصى ولم يطع. فإن قلت : هذا إشارة إلى ما ذا؟
قلت : إلى الخلق على أن المراد به المخلوق ، كأنه قيل : ويتفكرون في مخلوق السموات
والأرض ، أى فيما خلق منها. ويجوز أن يكون إشارة إلى السموات والأرض ؛ لأنها في
معنى المخلوق. كأنه قيل : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا. وفي هذا ضرب من
التعظيم كقوله : (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ويجوز أن يكون باطلا حالا من هذا. وسبحانك : اعتراض
للتنزيه من العبث ، وأن يخلق شيئاً بغير حكمة.
(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا
سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ)(١٩٤)
__________________
(فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) فقد أبلغت في إخزائه. وهو نظير قوله فقد فاز. ونحوه في
كلامهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك ، ومن سبق فلانا فقد سبق (وَما لِلظَّالِمِينَ) اللام إشارة إلى من يدخل النار وإعلام بأنّ من يدخل النار
فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها ، تقول : سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم. فتوقع
الفعل على الرجل وتحذف المسموع ، لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالا عنه فأغناك
عن ذكره ، ولو لا الوصف أو الحال لم يكن منه بد ، وأن يقال سمعت كلام فلان أو
قوله. فإن قلت : فأىّ فائدة في الجمع بين المنادى وينادى؟ قلت : ذكر النداء مطلقاً
ثم مقيداً بالإيمان تفخيما لشأن المنادى ؛ لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادى
للإيمان. ونحوه قولك : مررت بهاد يهدى للإسلام. وذلك أنّ المنادى إذا أطلق ذهب
الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض
النوازل ، أو لبعض المنافع ، وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدى للطريق ويهدى لسداد
الرأى وغير ذلك ؛ فإذا قلت : ينادى للإيمان ، ويهدى للإسلام ، فقد رفعت من شأن
المنادى والهادي وفخمته. ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ، وندبه له وإليه ، وناداه له
وإليه. ونحوه : هداه للطريق وإليه ، وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص
واقعان جميعاً ، والمنادى هو الرسول (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ، (ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ). وعن محمد بن كعب : القرآن. (أَنْ آمِنُوا) أى آمنوا ، أو بأن آمنوا (ذُنُوبَنا) كبائرنا (سَيِّئاتِنا) صغائرنا (مَعَ الْأَبْرارِ) مخصوصين بصحبتهم ، معدودين في جملتهم. والأبرار : جمع برّ
أو بارّ ، كرب وأرباب ، وصاحب وأصحاب (عَلى رُسُلِكَ) على هذه صلة للوعد ، كما في قولك : وعد الله الجنة على
الطاعة. والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رسلك. ألا تراه كيف أتبع ذكر المنادى
للإيمان وهو الرسول وقوله آمنا وهو التصديق ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف ، أى ما
وعدتنا منزلا على رسلك ، أو محمولا على رسلك ، لأن الرسل محملون ذلك (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) وقيل : على ألسنة رسلك. والموعود هو الثواب. وقيل : النصرة
على الأعداء. فإن قلت : كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد؟ قلت :
معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد أو هو باب من اللجأ إلى
الله والخضوع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون مع علمهم أنهم
مغفور لهم ، يقصدون بذلك
__________________
التذلل لربهم
والتضرع إليه ، واللجأ الذي هو سيما العبودية.
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)(١٩٥)
يقال استجاب له
واستجابه :
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
(أَنِّي لا أُضِيعُ) قرئ بالفتح على حذف الياء ، وبالكسر على إرادة القول. وقرئ
: لا أضيع ، بالتشديد (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى) بيان لعامل (بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ) أى يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد ، فكل واحد منكم من الآخر
، أى من أصله ، أو كأنه منه لفرط اتصالكم واتحادكم. وقيل المراد وصلة الإسلام.
وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله عباده العاملين.
وروى أنّ أمّ سلمة قالت : يا رسول الله ، إنى أسمع الله تعالى يذكر الرجال في
الهجرة ولا يذكر النساء . فنزلت (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم ،
كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة ، وهي المهاجرة عن أوطانهم
فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة ، واضطرّوا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا
فيها ونشوّا بما سامهم المشركون من الخسف (وَأُوذُوا فِي
سَبِيلِي) من أجله وبسببه ، يريد
__________________
سبيل الدين (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) وغزوا المشركين واستشهدوا. وقرئ : وقتلوا ، بالتشديد.
وقتلوا وقاتلوا ـ على التقديم ـ بالتخفيف والتشديد. وقتلوا ، وقتلوا ، على بناء
الأول للفاعل والثاني للمفعول. وقتلوا ، وقاتلوا ، على بنائهما للفاعل (ثَواباً) في موضع المصدر المؤكد بمعنى إثابة أو تثويباً (مِنْ عِنْدِ اللهِ) لأن قوله : (لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ ....) (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) في معنى. لأثيبنهم. و (عِنْدَهُ) مثل : أن يختص به وبقدرته وفضله ، لا يثيبه غيره ولا يقدر
عليه ، كما يقول الرجل : عندي ما تريد ، يريد اختصاصه به وبملكه وإن لم يكن
بحضرته. وهذا تعليم من الله كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ويتضرّع. وتكرير (رَبَّنا) من باب الابتهال ، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن
الإثابة ، من احتمال المشاق في دين الله ، والصبر على صعوبة تكاليفه ، وقطع لأطماع
الكسالى المتمنين عليه ، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولا إليه ، بالعمل بالجهل والغباوة. وروى عن جعفر
الصادق رضى الله عنه : من حزبه أمر فقال خمس مرات (ربنا) أنجاه الله مما يخاف
وأعطاه ما أراد ، وقرأ هذه الآية. وعن الحسن : حكى الله عنهم أنهم قالوا خمس مرات (ربنا)
ثم أخبر أنه استجاب لهم ، إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به ، فلا بد من
تقديمه بين يدي الدعاء.
(لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ
ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٩٧)
(لا يَغُرَّنَّكَ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ، أى لا
تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا ، ولا
تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض ، وتصرفهم في البلاد يتكسبون ويتجرون
وبتدهقنون . وعن ابن عباس : هم أهل مكة. وقيل : هم اليهود. وروى أن
أناسا من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون :
إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد. فإن قلت : كيف جاز أن
يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار
__________________
به؟ قلت : فيه
وجهان أحدهما أن مدرة القوم ومتقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً
، فكأنه قيل : لا يغرنكم. والثاني : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير
مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه ، كقوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) ، (فَلا تُطِعِ
الْمُكَذِّبِينَ) وهذا في النهى نظير قوله في الأمر (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) وقد جعل النهى في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب ،
وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب ، لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به ، فمنع السبب
ليمتنع المسبب. وقرئ : لا يغرنك بالنون الخفيفة (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدإ محذوف ، أى ذلك متاع قليل وهو التقلب في البلاد
، أراد قلته في جنب ما فإنهم من نعيم الآخرة ، أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين من
الثواب ، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجْعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر
بم يرجع » (وَبِئْسَ الْمِهادُ) وساء ما مهدوا لأنفسهم.
(لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ)
(١٩٨)
النزل والنزل : ما
يقام للنازل. وقال أبو الشعراء الضبي :
وَكُنَّا إذَا
الْجَبَّارُ بِاْلْجَيْشِ ضَافَنَا
|
|
جَعَلْنَا
الْقَنَا وَالْمُرهِفَاتِ لَهُ نُزْلَا
|
وانتصابه إمّا على
الحال من جنات لتخصصها بالوصف والعامل اللام : ويجوز أن يكون بمعنى مصدر موّكد ، كأنه قيل : زرقاء ، أو عطاء (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ) من الكثير الدائم (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل ، وقرأ مسلمة بن
محارب والأعمش (نُزُلاً) بالسكون. وقرأ يزيد بن القعقاع : لكنّ الذين اتقوا ،
بالتشديد.
(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ
__________________
خاشِعِينَ
لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٩٩)
(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من مسلمة أهل
الكتاب. وقيل : في أربعين من أهل نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من
الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا. وقيل : في أصحمة النجاشي ملك
الحبشة ، ومعنى أصحمة «عطية» بالعربية. وذلك أنه لما مات نعاه جبريل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخرجوا فصلوا على أخ
لكم مات بغير أرضكم ، فخرج إلى البقيع ونظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي
وصلى عليه واستغفر له : فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلى على علج نصراني لم
يره قط وليس على دينه ، فنزلت. ودخلت لام الابتداء على اسم «إنّ» لفصل الظرف
بينهما ؛ كقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ). (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ) من الكتابين (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من فاعل يؤمن ، لأن من يؤمن في معنى الجمع (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً) كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) أى ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ) ، (يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ). (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ) لنفوذ عمله في كل شيء ، فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من
الأجر. ويجوز أن يراد : إنما توعدون لآت قريب بعد ذكر الموعد.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ)(٢٠٠)
__________________
اصبروا على الدين
وتكاليفه (وَصابِرُوا) أعداء الله في الجهاد ، أى غالبوهم في الصبر على شدائد
الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتا. والمصابرة : باب من الصبر ذكر بعد الصبر
على ما يجب الصبر عليه ، تخصيصا لشدته وصعوبته (وَرابِطُوا) وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها ، مترصدين مستعدين
للغزو. قال الله عز وجل : (وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من رابط يوما وليلة في سبيل
الله كان كعدل صيام شهر وقيامه ، لا يفطر ، ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة».
وعن رسول الله صلى
الله عليه وسلم «من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أمانا على جسر جهنم»
وعنه عليه الصلاة
والسلام : «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه
وملائكته حتى تحجب الشمس» .
__________________
سورة النساء
مدنية ، وهي مائة وست وسبعون آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)
(يا أَيُّهَا النَّاسُ) يا بنى آدم (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم . فإن قلت : علام عطف قوله (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها)؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يعطف على محذوف ، كأنه قيل :
من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها ، وخلق منها زوجها. وإنما حذف لدلالة المعنى عليه.
والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق زوجها حواء
من ضلع من أضلاعها (وَبَثَّ مِنْهُما) نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث ، فوصفها بصفة هي بيان
وتفصيل بكيفية خلقهم منها. والثاني : أن يعطف على خلقكم ، ويكون الخطاب في : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى :
خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء وبث
منهما (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) غيركم من الأمم الفائتة للحصر. فإن قلت : الذي يقتضيه سداد
نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعوا إليها ويبحث
عليها ، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجبا للتقوى
وداعيا إليها؟ قلت : لأنّ
__________________
ذلك مما يدل على
القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء ، ومن المقدورات عقاب
العصاة ، فالنظر فيه يؤدى إلى أن يتقى القادر عليه ويخشى عقابه ، ولأنه يدل على
النعمة السابغة عليهم ، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام
بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ،
فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله ، فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم ، حيث جعلكم
صنوانا مفرعة من أرومة واحدة. فيما يجب على بعضكم لبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا
عنه. وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة. وقرئ : وخالق منها زوجها. وباث منهما ،
بلفظ اسم الفاعل ، وهو خبر مبتدإ محذوف تقديره : وهو خالق (تَسائَلُونَ بِهِ) تتساءلون به ، فأدغمت التاء في السين. وقرئ (تساءلون) بطرح
التاء الثانية ، أى يسأل بعضكم بعضا بالله وبالرحم. فيقول : بالله وبالرحم أفعل
كذا على سبيل الاستعطاف. وأناشدك الله والرحم. أو تسألون غيركم بالله والرحم ،
فقيل «تفاعلون» موضع «تفعلون» للجمع ، كقولك : رأيت الهلال وتراءيناه. وتنصره
قراءة من قرأ : تسلون به. مهموز أو غير مهموز. وقرئ (وَالْأَرْحامَ) بالحركات الثلاث ، فالنصب على وجهين : إما على : واتقوا
الله والأرحام ، أو أن يعطف على محل الجار والمجرور ، كقولك : مررت بزيد وعمراً.
وينصره قراءة ابن مسعود : نسألون به وبالأرحام ، والجرّ على عطف الظاهر على المضمر
، وليس بسديد ؛ لأنّ الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ،
فكانا في قولك «مررت به وزيد» و «هذا غلامه وزيد» شديدي الاتصال ، فلما اشتد
الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة ، فلم يجز ووجب تكرير العامل ، كقولك : «مررت
به وبزيد» و «هذا غلامه وغلام زيد» ألا ترى إلى صحة قولك «رأيتك وزيدا» و «مررت
بزيد وعمرو» لما لم يقو الاتصال ، لأنه لم يتكرر ، وقد تمحل لصحة هذه القراءة
بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها.
فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
والرفع على أنه
مبتدأ خبره محذوف ، كأنه قيل : والأرحام كذلك ، على معنى : والأرحام مما يتقى أو
والأرحام مما يتساءل به. والمعنى أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقاً ، وكانوا
يتساءلون بذكر الله والرحم ، فقيل لهم : اتقوا الله الذي خلقكم ، واتقوا الذي
تتناشدون به واتقوا الأرحام
__________________
فلا تقطعوها. أو
واتقوا الله الذي نتعاطفون باذكاره وباذكار الرحم. وقد آذن عز وجل ـ إذ قرن
الأرحام باسمه ـ أن صلتها منه بمكان ، كما قال : (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وعن الحسن : إذا سألك بالله فأعطه ، وإذا سألك بالرحم
فأعطه. وللرحم حجنة عند العرش ومعناه ما روى عن ابن عباس رضى الله عنه «الرحم معلقة
بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته ، وإذا أتاها القاطع احتجبت منه». وسئل ابن عيينة عن قوله عليه الصلاة والسلام «تخيروا
لنطفكم» فقال : يقول لأولادكم. وذلك أن يضع ولده في الحلال. ألم
تسمع قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال ، فلا يقطع رحمه ولا
نسبه فإنما للعاهر الحجر ، ثم يختار الصحة ويجتنب الدعوة ، ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من الله.
(وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً)(٢)
(الْيَتامى) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم. الانفراد. ومنه :
الرملة اليتيمة والدرّة اليتيمة. وقيل : اليتم في الأناسى من قبل الآباء ، وفي
البهائم من قبل الأمهات. فإن قلت : كيف جمع اليتيم ـ وهو فعيل كمريض ـ على يتامى؟
قلت : فيه وجهان : أن يجمع على يتمى كأسرى ، لأنّ اليتم من وادى الآفات والأوجاع ،
ثم يجمع فعلى على فعالي كأسارى. ويجوز أن يجمع على فعائل لجرى اليتيم مجرى الأسماء
، نحو صاحب وفارس ، فيقال : يتائم ، ثم يتامى على القلب. وحق هذا
__________________
الاسم أن يقع على
الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنه قد غلب
أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال ، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم
عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم ، زال عنهم هذا الاسم. وكانت قريش
تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يتيم أبى طالب ، إمّا على القياس وإمّا
حكاية للحال التي كان عليها صغيراً ناشئاً في حجر عمه توضيعا له. وأمّا قوله عليه
السلام «لا يتم بعد الحلم» فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة ، يعنى أنه إذا احتلم لم تجر
عليه أحكام الصغار. فإن قلت : فما معنى قوله (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ)؟ قلت : إما أن يراد باليتامى الصغار ، وبإتيانهم الأموال :
أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم
الخاطفة ، حتى تأتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. وإمّا أن يراد الكبار
تسمية لهم يتامى على القياس ، أو لقرب عهدهم ـ إذا بلغوا ـ بالصغر ، كما تسمى
الناقة عشراء بعد وضعها. على أنّ فيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن
حد البلوغ ، ولا ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد ، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم
اليتامى والصغار. وقيل : هي في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ،
فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ،
نعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع ماله إليه ؛ فقال النبي عليه السلام : ومن يوق
شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره. يعنى جنته ، فلما قبض ألفوا ماله أنفقه في
سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ثبت الأجر ، ثبت الأجر وبقي الوزر :
قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا أنه ثبت الأجر
__________________
كيف بقي الوزر وهو
ينفق في سبيل الله؟ فقال : ثبت أجر الغلام ، وبقي الوزر على والده (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ) ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم
وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. أو لا
تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع
منها والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ، منه التعجيل بمعنى الاستعجال ، والتأخر
بمعنى الاستئخار. قال ذو الرمّة :
فَيَا كَرَمَ
السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا
|
|
عَنِ الدَّارِ
وَالْمُسْتَخْلَفِ الْمُتَبَدَّلِ
|
أراد : ويا لؤم ما
استخلفته الدار واستبدلته. وقيل : هو أن يعطى رديئا ويأخذ جيداً. وعن السدى : أن
يجعل شاة مهزولة مكان سمينة ، وهذا ليس بتبدل ، وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا
له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبى (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ولا تنفقوها معها. وحقيقتها : ولا تضموها إليها في الإنفاق ، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم
__________________
قلة مبالاة بما لا
يحل لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال. فإن قلت : قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده
ومع أموالهم ، فلمَ ورد النهى عن أكله معها؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن
أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ـ وهم على ذلك يطمعون فيها ـ كان القبح
أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعليهم وسمع بهم ، ليكون أزجر
لهم. والحوب : الذنب العظيم. ومنه قوله عليه السلام «إن طلاق أم أيوب لحوب » فكأنه قيل : إنه كان ذنبا عظيما كبيراً. وقرأ الحسن (حُوباً) بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا. وقرئ : حابا. ونظير الحوب
والحاب : القول والقال. والطرد والطرد.
(وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا)(٣)
__________________
ولما نزلت الآية
في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير ، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى ، وأخذوا
يتحرّجون من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان
والست فلا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق
اليتامى فتحرّجتم منها ، فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقالوا عدد المنكوحات
، لأنّ من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب ، لأنه
إنما وجب أن يُتحرج من الذنب ويُتاب عنه لقبحه ، والقبح قائم في كل ذنب. وقيل : كانوا
لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى ، فقيل : إن خفتم الجور في
حق اليتامى فخافوا الزنا ، فانكحوا ما حلّ لكم من النساء ، ولا تحوموا حول
المحرّمات. وقيل : كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها ، فيتزوجها
ضناً بها عن غيره ، فربما اجتمعت عنده عشر منهن ، فيخاف ـ لضعفهن وفقد من يغضب لهن
ـ أن يظلمهنّ حقوقهن ويفرط فيما يجب لهنَّ ، فقيل لهم : إن خفتم أن لا تقسطوا في
يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور
، وهو جمع يتيمة على القلب ، كما قيل : أيامى ، والأصل : أيائم ويتائم. وقرأ
النخعي (تُقْسِطُوا) بفتح التاء على أن لا مزيدة مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) يريد : وإن خفتم أن تجوروا (ما طابَ) ما حلّ (لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ) لأنّ منهن ما حرم كاللاتى في آية التحريم. وقيل (ما) ذهابا إلى الصفة. ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير
العقلاء : ومنه قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) معدولة عن أعداد مكررة ، وإنما منعت الصرف لما فيها من
العدلين : عدلها عن صيغها ، وعدلها عن تكررها ، وهي نكرات يعرّفن بلام التعريف.
تقول : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، ومحلهن
__________________
النصب على الحال
مما طاب ، تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثا
ثلاثا ، وأربعا أربعا. فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو
ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ (قلت) : الخطاب للجميع ،
فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له ، كما تقول
للجماعة : اقتسموا هذا المال ـ وهو ألف درهم ـ درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ،
وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت : فلم جاء العطف بالواو دون أو؟
قلت : كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال
درهمين درهمين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو أربعة أربعة : أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن
يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض
القسم على تثنية ، وبعضه على تثليث ، وبعضه على تربيع. وذهب معنى تجويز الجمع بين
أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره : أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ
الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع ، إن شاءوا مختلفين في تلك
الأعداد ، وإن شاءوا متفقين فيها ، محظوراً عليهم ما وراء ذلك. وقرأ إبراهيم :
وثلث وربع ، على القصر من ثلاث ورباع (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها (فَواحِدَةً) فالزموا ؛ أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا. فإن الأمر
كله يدور مع العدل ، فأينما وجدتم العدل فعليكم به. وقرئ (فَواحِدَةً) بالرفع على : فالمقنع واحدة ، أو فكفت واحدة ، أو فحسبكم
واحدة (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) سوّى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء ،
من غير حصر ولا توقيت عدد. ولعمري أنهنّ أقل تبعة وأقصر شغبا وأخف مؤنة من المهائر
، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم
لم تعزل. وقرأ ابن أبى عبلة. من ملكت (ذلِكَ) إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرى (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أقرب من أن لا تميلوا ، من قولهم : عال الميزان عولا ، إذا
مال. وميزان فلان عائل ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وروى أن أعرابيا حكم عليه
حاكم فقال له : أتعول علىّ. وقد روت عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه
وسلم «ألا تعولوا : أن لا تجوروا » والذي يحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) أن لا تكثر عيالكم ، فوجهه أن يجعل من قولك : عال الرجل
عياله يعولهم ، كقولهم : مانهم يمونهم ، إذا أنفق عليهم ، لأنّ من كثر عياله لزمه
أن يعولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحال
والرزق الطيب. وكلام مثله من أعلام العلم
__________________
وأئمة الشرع ورؤس
المجتهدين ، حقيقى بالحمل على الصحة والسداد ، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى
تعولوا ، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه : لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك
سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا . وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العىّ ، من كلام
الشافعي» شاهداً بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في علم كلام العرب ، من أن يخفى
عليه مثل هذا ، ولكن للعلماء طرفا وأساليب ، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة
الكنايات. فإن قلت : كيف يقل عيال من تسرّى ، وفي السرائر نحو ما في المهائر؟ قلت
: ليس كذلك ، لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل بخلاف التسرى ، ولذلك جاز العزل
عن السراري بغير إذنهنّ ، فكان التسرى مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوّج ،
كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقرأ طاوس : أن لا تعيلوا ، من أعال
الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه الله من حيث المعنى
الذي قصده.
(وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٤)
(صَدُقاتِهِنَ) مهورهن ، وفي حديث شريح : قضى ابن عباس لها بالصدقة. وقرئ
: (صَدُقاتِهِنَّ) بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن. وصدقاتهن بضم
الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة. وقرئ : صدقتهن ، بضم الصاد والدال على
التوحيد ، وهو تثقيل صدقة ، كقولك في ظلمة ظلمة (نِحْلَةً) من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة
ونحلا. ومنه حديث أبى بكر رضى الله عنه : إنى كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية . وانتصابها على المصدر
__________________
لأن النحلة
والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل : وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة ، أى أعطوهنّ
مهورهنّ عن طيبة أنفسكم ، أو على الحال من المخاطبين ، أى آتوهنّ صدقاتهن ناحلين
طيبي النفوس بالإعطاء ، أو من الصدقات ، أى منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل :
نحلة من الله عطية من عنده وتفضلا منه عليهن ، وقيل : النحلة الملة ، ونحلة
الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا : أى يدين به. والمعنى : آتوهن مهورهن ديانة ،
على أنها مفعول لها. ويجوز أن يكون حالا من الصدقات ، أى دينا من الله شرعه وفرضه.
والخطاب للأزواج. وقيل : للأولياء ، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ، وكانوا
يقولون : هنيئا لك النافجة ، لمن تولد له بنت ، يعنون : تأخذ مهرها فتنفج به مالك
أى تعظمه. الضمير في : (مِنْهُ) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك ، كما قال
الله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) بعد ذكر الشهوات ، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما
روى عن رؤبة أنه قيل له في قوله:
كَأنَّهُ فِى الْجِلدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
فقال : أردت كأن
ذاك. أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق ، لأنك لو قلت : وآتوا النساء
صداقهن ، لم تخل بالمعنى ، فهو نحو قوله : (فَأَصَّدَّقَ
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) كأنه قيل : أصدّق. و (نَفْساً) تمييز ، وتوحيدها لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه.
والمعنى : فإن وهبن لكم شيئا من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما
يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم (فَكُلُوهُ) فأنفقوه. قالوا : فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة ، علم
أنها لم تطب منه نفسا ، وعن الشعبي : أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها
إياه وهي تطلب أن ترجع ، فقال شريح : ردّ عليها. فقال الرجل : أليس قد قال الله
تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) قال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وعنه : أقيلها فيما
وهبت ولا أقيلة ، لأنهنّ يخدعن. وحكى أن رجلا من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار
صداقا كان لها عليه ، فلبث شهرا ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال
الرجل : أعطتنى طيبة بها نفسها ، فقال عبد الملك : فأين الآية التي بعدها فلا
تأخذوا منه شيئا؟ اردد عليها. وعن عمر رضى الله عنه أنه كتب إلى قضاته : إن النساء
يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها»
__________________
وعن ابن عباس أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال «إذا جادت لزوجها بالعطية
طائعة غير مكرهة لا يقضى به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله به في الآخرة» وروى أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحد منهم في شيء مما
ساق إلى امرأته ، فقال الله تعالى إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه
سائغا هنيئا. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط ، حيث بنى
الشرط على طيب النفس فقيل : فإن طبن ، ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن ، إعلاما بأنّ
المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب طيبة. وقيل : إن طبن لكم عن شيء منه ، ولم يقل
: فإن طبن لكم عنها ، بعثا لهن على تقليل الموهوب. وعن الليث بن سعد : لا يجوز
تبرعها إلا باليسير. وعن الأوزاعى : لا يجوز تبرعها ما لم تلد أو تقم في بيت زوجها
سنة. ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولا بعضه ،
ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله ، لأنّ بعض الصدقات واحدة منها فصاعدا.
الهنيء ، والمريء : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. وقيل
: الهنيء : ما يلذه الآكل. والمريء ما يحمد عاقبته. وقيل هو ما ينساغ في مجراه.
وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة «المريء» لمروء الطعام فيه وهو
انسياغه ، وهما وصف للمصدر ، أى أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير ، أى كلوه
وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على فكلوه ويبتدأ مريئا على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان
أقيمتا مقام المصدرين ، كأنه قيل : هنأ مرأ. وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في
الإباحة وإزالة التبعة.
(وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ
فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٥)
(السُّفَهاءَ) المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يدي
لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والخطاب للأولياء : وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم ، كما قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، (فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) الدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ). (جَعَلَ اللهُ لَكُمْ
قِياماً) أى تقومون بها وتنتعشون ، ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في
أنفسها قيامكم وانتعاشكم. وقرئ : قيما ، بمعنى قياما ، كما جاء عوذا بمعنى عياذا.
وقرأ عبد الله بن عمر : قواما ، بالواو. وقوام الشيء : ما يقام به ، كقولك هو ملاك
الأمر لما يملك به. وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك ما لا
يحاسبني
__________________
الله عليه ، خير
من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان ـ وكانت له بضاعة يقلبها ـ : لولاها لتمندل بى
بنو العباس . وعن غيره ـ وقيل له إنها تدنيك من الدنيا ـ : لئن أدنتنى
من الدنيا لقد صانتنى عنها. وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا ، فإنكم في زمان إذا
احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له : اذهب إلى
دكانك (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا ، حتى
تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق. وقيل : هو أمر لكل
أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء ، قريب أو أجنبى ، رجل أو امرأة ، يعلم
أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده (قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال ابن جريج : عدّة جميلة ، إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم
أموالكم. وعن عطاء : إذا ربحت أعطيتك ، وإن غنمت في غزاتى جعلت لك حظا. وقيل : إن
لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل : عافانا الله وإياك ، بارك الله فيك. وكل ما سكنت
إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل ، فهو معروف. وما أنكرته
ونفرت منه لقبحه ، فهو منكر.
(وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٦)
(وَابْتَلُوا
الْيَتامى) واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف ، قبل البلوغ
__________________
حتى إذا تبينتم
منهم رشداً ـ أى هداية ـ دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حدّ البلوغ. وبلوغ النكاح.
أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده ، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد والتناسل. والإيناس
: الاستيضاح فاستعير للتبيين. واختلف في الابتلاء والرشد ، فالابتلاء عند أبى
حنيفة وأصحابه : أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه. والرشد
: التهدى إلى وجوه التصرف. وعن ابن عباس : الصلاح في العقل والحفظ للمال. وعند
مالك والشافعي : الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء ، ويتبصر
مخايله وميله إلى الدين. والرشد : الصلاح في الدين ، لأن الفسق مفسدة للمال. فإن
قلت : فإن لم يؤنس منه رشد إلى حدّ البلوغ؟ قلت : عند أبى حنيفة رحمه الله ينتظر
إلى خمس وعشرين سنة ، لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسنّ ثماني عشرة سنة ، فإذا زادت
عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه السلام «مروهم
بالصلاة لسبع» دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وعند أصحابه : لا
يدفع إليه أبداً إلا بإيناس الرشد. فإن قلت : ما معنى تنكير الرشد؟ قلت : معناه
نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة ، أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله
حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فإن قلت : كيف نظم هذا الكلام؟ قلت : ما بعد (حَتَّى) إلى (فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ
__________________
أَمْوالَهُمْ)جعل غاية للابتلاء ، وهي «حتى» التي تقع بعدها الجمل ،
كالتي في قوله :
فَمَا زَالَتِ
الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا
|
|
بِدِجْلَةَ
حَتَّي مَاءُ دِجْلَهَ أشْكَلُ
|
والجملة الواقعة
بعدها جملة شرطية لأن إذا متضمنة معنى الشرط ، وفعل الشرط بلغوا النكاح وقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا
بلغوا النكاح ، فكأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، فاستحقاقهم دفع
أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم. وقرأ ابن مسعود : فإن أحسيتم بمعنى أحسستم
قال :
أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْه شُوسُ
وقرئ : رشداً ،
بفتحتين. ورشداً ، بضمتين (إِسْرافاً وَبِداراً) مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم ،
تفرطون في إنفاقها ، وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من
أيدينا. ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيراً ، فالغنى يستعف
من أكلها ولا يطمع ، ويقتنع بما رزقه الله من الغنى إشفاقا على
اليتيم ، وإبقاء على ماله. والفقير يأكل قوتا مقدراً محتاطا في تقديره على وجه
الأجرة ، أو استقراضا على ما في ذلك من الاختلاف ولفظ الأكل بالمعروف والاستعفاف ،
مما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه عليها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أن رجلا
قال له : إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال : «بالمعروف غير
__________________
متأثل مالا ولا واق مالك بماله» فقال : أفأضربه قال : «مما كنت
ضارباً منه ولدك » : وعن ابن عباس : أنّ ولىّ اليتيم قال له : أفأشرب من لبن
إبله؟ قال : إن كنت تبغى ضالتها ، وتلوط حوضها ، وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها ، فاشرب غير مضرّ بنسل ، ولا ناهك في
الحلب وعنه : يضرب بيده مع أيديهم ، فليأكل بالمعروف ، ولا يلبس عمامة فما فوقها.
وعن إبراهيم : لا يلبس الكتان والحلل ، ولكن ما سدّ الجوعة ووارى العورة. وعن محمد
بن كعب : يتقرّم تقرّم البهيمة وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بدّ منه. وعن الشعبي :
يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه. وعنه : كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضى. وعن
مجاهد : يستسلف ، فإذا أيسر أدّى. وعن سعيد بن جبير : إن شاء شرب فضل اللبن وركب
الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه ، وإن أعسر
فهو في حلّ. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه : إنى أنزلت نفسي من مال الله منزلة
والى اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، وإذا
__________________
أيسرت قضيت» واستعف أبلغ من عفّ ، كأنه طالب زيادة العفة (فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ) بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم ، وذلك أبعد من التخاصم
والتجاحد وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة. ألا ترى أنه إذا لم يشهد فادعى عليه صدق
مع اليمين عند أبى حنيفة وأصحابه. وعند مالك والشافعي لا يصدّق إلا بالبينة ، فكان
في الإشهاد الاستحراز من توجه الحلف المفضى إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم
يقم البينة (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) أى كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض ، أو محاسبا.
فعليكم بالتصادق ، وإياكم والتكاذب.
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)
(٨)
(الْأَقْرَبُونَ) هم المتوارثون من ذوى القرابات دون غيرهم (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل مما ترك بتكرير العامل. و (نَصِيباً مَفْرُوضاً) نصب على الاختصاص ، بمعنى : أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا
واجبا لا بدّ لهم من أن يحوزوه ولا يستأثر به. ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر
المؤكد كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) كأنه قيل : قسمة مفروضة. وروى أن أوس بن الصامت الأنصارى ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات ، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة
أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهنّ ، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والأطفال ،
ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة ، فجاءت أم كحة
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه ، فقال : «ارجعي حتى
أنظر ما يحدث الله «فنزلت ، فبعث إليهما «لا تفرّقا من مال أوس شيئا فإنّ الله قد
جعل لهنّ نصيبا ولم يبين حتى يبين» فنزلت (يُوصِيكُمُ اللهُ) فأعطى أم كحة
__________________
الثمن ، والبنات
الثلثين ، والباقي ابني العم (وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ) أى قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) ممن لا يرث (فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ) الضمير لما ترك الوالدان والأقربون ، وهو أمر على الندب
قال الحسن : كان المؤمنون يفعلون ذلك ، إذا اجتمعت الورثة حضرهم هؤلاء فرضخوا لهم
بالشيء من رثة المتاع . فحضهم الله على ذلك تأديبا من غير أن يكون فريضة. قالوا :
ولو كان فريضة لضرب له حدّ ومقدار كما لغيره من الحقوق ، وروى أن عبد الله بن عبد
الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنه قسم ميراث أبيه وعائشة رضى الله عنها حية؟ فلم يدع
في الدار أحداً إلا أعطاه ، وتلا هذه الآية. وقيل : هو على الوجوب. وقيل : هو
منسوخ بآيات الميراث كالوصية. وعن سعيد بن جبير : أن ناسا يقولون نسخت ، وو الله
ما نسخت ، ولكنها مما تهاونت به الناس. والقول المعروف أن يلطفوا لهم القول
ويقولوا : خذوا بارك الله عليكم ، ويعتذروا إليهم ، ويستقلوا ما أعطوهم ولا
يستكثروه ، ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي : أدركنا الناس وهم يقسمون على
القرابات والمساكين واليتامى من العين ، يعنيان الورق والذهب. فإذا قسم الورق
والذهب وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك ، قالوا لهم قولا معروفا ،
كانوا يقولون لهم : بورك فيكم.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)(٩)
__________________
«لو» مع ما في
حيزه صلة للذين. والمراد بهم : الأوصياء ، أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى ويشفقوا عليهم ،
خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا وشفقتهم عليهم وأن يقدّروا ذلك في أنفسهم
ويصوّروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. ويجوز أن يكون المعنى : وليخشوا
على اليتامى من الضياع. وقيل : هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون : إن ذريتك لا
يغنون عنك من الله شيئا ، فقدم مالك ، فيستغرقه بالوصايا ، فأمروا بأن يخشوا ربهم
، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولاد أنفسهم لو كانوا.
ويجوز أن يتصل بما قبله وأن يكون أمراً بالشفقة للورثة على الذين يحضرون القسمة من
ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين وأن يتصوّروا أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم
ضائعين محتاجين ، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخيبة؟ فإن قلت : ما معنى وقوع (لَوْ تَرَكُوا) وجوابه صلة للذين؟ قلت : معناه : وليخش الذين صفتهم وحالهم
أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا ، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم
الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم ، كما قال القائل :
لَقَدْ زَادَ
الْحَيَاةَ إلَىَّ حُبًّا
|
|
بَنَاتِى
إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
|
أُحَاذِرُ أَن
يَرَيْنَ الْبُؤْسَ بَعْدِى
|
|
وَأَنْ
يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِى
|
وقرئ : ضعفاء.
وضعافى ، وضعافى. نحو : سكارى ، وسكارى. والقول السديد من الأوصياء : أن لا يؤذوا
اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ، ويدعوهم بيا بنىّ
ويا ولدى ، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له إذا أراد الوصية : لا تسرف في
وصيتك فتجحف بأولادك ، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : «إنك إن تترك
ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » وكان الصحابة رضى الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية
الثلث وأن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. ومن المتقاسمين ميراثهم أن
__________________
يلطفوا القول
ويجملوه للحاضرين.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(١٠)
(ظُلْماً) ظالمين ، أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته (فِي بُطُونِهِمْ) ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه ، وفي بعض بطنه. قال :
كُلُوا فِى بَعْضِ بَطْنِكُمُوا تَعِفُّوا
ومعنى يأكلون نارا
: ما يجر إلى النار ، فكأنه نار في الحقيقة. وروى : أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم
القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا. وقرئ (وَسَيَصْلَوْنَ) بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها (سَعِيراً) ناراً من النيران مبهمة الوصف.
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ
__________________
فَلِأُمِّهِ
الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١١)
(يُوصِيكُمُ اللهُ) يعهد إليكم ويأمركم (فِي أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة. وهذا إجمال تفصيله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) فإن قلت : هلا قيل : للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر ؛ قلت : ليبدأ ببيان حظ الذكر
لفضله ، كما ضوعف حظه لذلك ، ولأنّ قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قصد إلى بيان فضل الذكر. وقولك : للأنثيين مثل حظ الذكر ،
قصد إلى بيان نقص الأنثى. وما كان قصداً إلى بيان فضله ، كان أدلّ على فضله من
القصد إلى بيان نقص غيره عنه ؛ ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية ، فقيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم
نصيب الإناث ، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون
به. فإن قلت : فإن حظ الأنثيين الثلثان ، فكأنه قيل للذكر الثلثان. قلت : أريد حال
الاجتماع لا الانفراد أى إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان ، كما أن لهما
سهمين. وأما في حال الانفراد ، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين.
والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع ، أنه أتبعه حكم الانفراد ، وهو قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) والمعنى للذكر منهم ، أى من أولادكم ، فحذف الراجع إليه
لأنه مفهوم ، كقولهم : السمن منوان بدرهم (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصاً. ليس معهن رجل
يعنى بنات ليس معهن ابن (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) يجوز أن يكون خبراً ثانياً لكان وأن يكون صفة لنساء أى
نساء زائدات على اثنتين (وَإِنْ كانَتْ
واحِدَةً) وإن كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى (فَلَهَا النِّصْفُ) وقرئ : واحدة بالرفع على كان التامّة والقراءة بالنصب أوفق
لقوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وقرأ زيد بن ثابت (النِّصْفُ)
__________________
بالضم. والضمير في
(تَرَكَ) للميت ؛ لأنّ الآية لما كانت في الميراث ، علم أن التارك
هو الميت. فإن قلت : قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد ، لا لبيان حظ
الأنثيين ، فكيف صح أن يردف قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وهو لبيان حظ الإناث؟ قلت : وإن كان مسوقا لبيان حظ الذكر
، إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين مع أخيهما ؛ كان كأنه مسوق للأمرين جميعا
، فلذلك صح أن يقال : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) : فإن قلت. هل يصح أن يكون الضميران في «كنّ» و «كانت»
مبهمين ، ويكون «نساء» و «واحدة» تفسيراً لهما ، على أن كان تامة؟ قلت : لا ابعد
ذلك. فإن قلت : لم قيل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) () ولم يقل : وإن كانت امرأة؟ قلت : لأنّ الغرض ثمة خلوصهن
إناثا لا ذكر فيهنّ ، ليميز بين ما ذكر من اجتماعهن مع الذكور في قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) وبين انفرادهن. وأريد هاهنا أن يميز بين كون البنت مع
غيرها وبين كونها وحدها لا قرينة لها. فإن قلت : قد ذكر حكم البنتين في حال
اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد ، ولم يذكر حكم البنتين في
حال الانفراد فما حكمهما ، وما باله لم يذكر؟ قلت : أما حكمهما فمختلف فيه ، فابن
عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة ، لقوله تعالى (فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فأعطاهما حكم الواحدة وهو ظاهر مكشوف. وأما سائر الصحابة
فقد أعطوهما حكم الجماعة ، والذي يعلل به قولهم : أن قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) قد دلّ على أن حكم الأنثيين حكم الذكر ، وذلك أن الذكر كما
يجوز الثلثين مع الواحدة ، فالأنثيان كذلك يجوزان الثلثين ، فلما ذكر ما دلّ على
حكم الأنثيين قيل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) على معنى : فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما
للأنثيين وهو الثلثان لا يتجاوزنه لكثرتهن
__________________
ليعلم أن حكم
الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت. وقيل : إن الثنتين أمس رحما بالميت من الأختين
فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين ، ولم يروا أن يقصروا بهما عن حظ من هو أبعد
رحما منهما. وقيل : إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها
الثلث إذا كانت مع أخت مثلها ، ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضا مع
أخيها لو انفردت معه ، فوجب لهما الثلثان (وَلِأَبَوَيْهِ) الضمير للميت. و (لِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا) بدل من (لِأَبَوَيْهِ) بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه
السدس ، لكان ظاهره اشتراكهما فيه. ولو قيل : ولأبويه السدسان ، لأوهم قسمة
السدسين عليها على التسوية وعلى خلافها. فإن قلت : فهلا قيل : ولكل واحد من أبويه
السدس : وأى فائدة في ذكر الأبوين أوّلا ، ثم في الإبدال منهما؟ قلت : لأنّ في
الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا ، كالذي تراه في الجمع بين المفسر
والتفسير. والسدس : مبتدأ ، وخبره : لأبويه. والبدل متوسط بينهما للبيان. وقرأ
الحسن ونعيم بن ميسرة (السُّدُسُ) بالتخفيف ، وكذلك الثلث والربع والثمن. والولد : يقع على
الذكر والأنثى ، ويختلف حكم الأب في ذلك. فإن كان ذكراً اقتصر بالأب على السدس ،
وإن كانت أنثى عصب مع إعطاء السدس. فإن قلت : قد بين حكم الأبوين في الإرث مع الولد ؛ ثم حكمهما مع
__________________
عدمه ، فهلا قيل :
فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث. وأى فائدة في قوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ)؟ قلت : معناه : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب ،
فلأمه الثلث مما ترك ، كما قال : (لِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين ، كان للأم ثلث ما بقي
بعد إخراج نصيب الزوج ، لا ثلث ما ترك ، إلا عند ابن عباس. والمعنى : أن الأبوين
إذا خلصا تقاسما الميراث : للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن قلت : ما العلة في أن كان
لها ثلث ما بقي دون ثلث المال؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أنّ الزوج إنما استحق ما
يسهم له بحق العقد لا بالقرابة ، فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه. والثاني : أن
الأب أقوى في الإرث من الأم ، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة
، وجامعا بين الأمرين ، فلو ضرب لها الثلث كملا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها. ألا
ترى أن امرأة لو تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب ،
حازت الأم سهمين والأب سهما واحدا ، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ
الذكرين (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب ،
فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس ، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعدا إلا عند ابن
عباس . وعنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم. فإن قلت : فكيف صحّ أن يتناول
الإخوة الأخوين ، والجمع خلاف التثنية؟ قلت : الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة
بغير كمية ، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية ، وهذا موضع الدلالة على
الجمع المطلق ، فدل بالإخوة عليه. وقرئ : فلإمّه ، بكسر الهمزة اتباعا للجرّة :
ألا تراها لا تكسر في قوله (وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً). (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ) متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها ، لا بما يليه وحده
، كأنه قيل قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها. وقرئ (يُوصِي بِها) بالتخفيف والتشديد. و (يُوصِي بِها) على البناء للمفعول مخففا : فإن قلت : ما معنى أو؟ قلت : معناها
الإباحة : وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما ، قدم على قسمة الميراث ، كقولك : جالس
الحسن أو ابن سيرين. فإن قلت : لم قدّمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت : لما
__________________
كانت الوصية مشبهة
للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم
ولا تطيب أنفسهم بها ، فكان أداؤها مظنة للتفريط ، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنة
إلى أدائه ، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين
، ولذلك جيء بكلمة «أو» للتسوية بينهما في الوجوب ، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) أى لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون
، أمّن أوصى منهم أمّن لم يوص؟ يعنى أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة
بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية ، فوفر عليكم عرض
الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ، ذهابا إلى حقيقة الأمر ، لأن
عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريباً في الصورة ، إلا أنه فان ، فهو في الحقيقة الأبعد
الأقصى. وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى.
وقيل : إن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك
الأب إن كان أرفع درجة من ابنه ، سأل أن يرفع إليه ابنه. فأنتم لا تدرون في الدنيا
أيهم أقرب لكم نفعا. وقيل : قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك
إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع ، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. وقيل: الأب
يجب عليه النفقة على الابن إذا احتاج ، وكذلك الابن إذا كان محتاجا
فهما في النفع بالنفقة لا يدرى أيهما أقرب نفعا. وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم
للمعنى ولا مجاوب له ، لأن هذه الجملة اعتراضية. ومن حق الاعتراضى أن يؤكد ما
اعترض بينه ويناسبه ، والقول ما تقدم (فَرِيضَةً) نصبت نصب المصدر
المؤكد ، أى فرض ذلك فرضاً (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً) بمصالح خلقه (حَكِيماً) في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.
(وَلَكُمْ نِصْفُ ما
تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
__________________
مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً
أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَلِيمٌ)(١٢)
(فَإِنْ كانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ) منكم أو من غيركم. جعلت المرأة على النصف من الرجل بحق
الزواج ، كما جعلت كذلك بحق النسب. والواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) يعنى الميت. و (يُورَثُ) من ورث ، أى يورث منه وهو صفة لرجل. و (كَلالَةً) خبر كان ، أى وإن كان رجل موروث منه كلالة ، أو يجعل يورث
خبر كان ، وكلالة حالا من الضمير في يورث. وقرئ يورث ويورّث بالتخفيف والتشديد على
البناء للفاعل ، وكلالة حال أو مفعول به. فإن قلت : ما الكلالة؟ قلت : ينطلق على
ثلاثة على من لم يخلف ولداً ولا والداً ، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين ،
وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم : ما ورث المجد عن كلالة ، كما
تقول : ما صمت عن عىّ ، وما كف عن جبن. والكلالة في الأصل : مصدر بمعنى الكلال ،
وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى :
فَآلَيْتُ لا أرثي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ
فاستعيرت للقرابة
من غير جهة الولد والوالد ، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كآلة ضعيفة ، وإذا جعل
صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذى كلالة. كما تقول : فلان من قرابتي ، تريد من ذوى
قرابتي. ويجوز أن تكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق . فإن قلت : فإن جعلتها اسما للقرابة في الآية فعلام تنصبها؟
قلت : على أنها مفعول له أى يورث لأجل الكلالة أو يورث غيره
__________________
لأجلها ، فإن قلت
: فان جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث ، فما وجهه؟ قلت : الرجل حينئذ هو
الوارث لا الموروث. فان قلت : فالضمير في قوله : (فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا) إلى من يرجع حينئذ؟ قلت : إلى الرجل وإلى أخيه أو أخته ،
وعلى الأول إليهما. فان قلت : إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة
السدس من غير مفاضلة الذكر الأنثى ، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت
: نعم ، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت
بين الذكر والأنثى. وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، أنه سئل عن الكلالة فقال : أقول
فيه برأيى ، فان كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان والله منه
بريء. الكلالة : ما خلا الولد والوالد . وعن عطاء والضحاك : أنّ الكلالة هو الموروث. وعن سعيد ابن
جبير : هو الوارث. وقد أجمعوا على أنّ المراد أولاد الأم. وتدل عليه قراءة أبىّ :
وله أخ أو أخت من الأمّ. وقراءة سعد بن أبى وقاص : وله أخ أو أخت من أم. وقيل :
إنما استدل على أن الكلالة هاهنا الإخوة للأم خاصة بما ذكر في آخر السورة من أنّ
للأختين الثلثين وأنّ للإخوة كل المال ، فعلم هاهنا ـ لما جعل للواحد السدس ،
وللاثنين الثلث ، ولم يزادوا على الثلث شيئاً ـ أنه يعنى بهم الإخوة للأم ، وإلا
فالكلالة عامة لمن عدا الولد والوالد من سائر الإخوة الأخياف والأعيان وأولاد
العلات وغيرهم (غَيْرَ مُضَارٍّ) حال ، أى يوصى بها وهو غير مضارّ لورثته وذلك أن يوصى
بزيادة على الثلث ، أو يوصى بالثلث فما دونه ، ونيته مضارّة ورثته ومغاضبتهم لا
وجه الله تعالى. وعن قتادة : كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه. وعن
الحسن : المضارة في الدين أن يوصى بدين ليس عليه ومعناه الإقرار (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد ، أى يوصيكم بذلك وصية ، كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) ويجوز أن تكون منصوبة بغير مضار ، أى لا يضار وصية من الله
وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث أو وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة
بإسرافه في الوصية. وينصر هذا الوجه قراءة الحسن : (غَيْرَ مُضَارٍّ
وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) بالاضافة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمن جار أو عدل في وصيته (حَلِيمٌ) عن الجائر لا يعاجله. وهذا وعيد. فإن قلت : في : (يُوصى) ضمير الرجل إذا جعلته الموروث ، فكيف تعمل إذا جعلته
الوارث؟ قلت: كما عملت في قوله تعالى : (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما
تَرَكَ) لأنه علم أن التارك والموصى هو الميت. فان قلت: فأين ذو
الحال فيمن قرأ (يُوصى بِها) على ما لم يسم فاعله؟ قلت : يضمر يوصى فينتصب عن فاعله
__________________
لأنه لما قيل (يُوصى بِها) علم أن ثم موصيا ، كما قال : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) على ما لم يسمّ فاعله ، فعلم أن ثم مسبحا ، فأضمر يسبح
فكما كان رجال فاعل ما يدل عليه يسبح ، كان غير مضارّ حالا عما يدل عليه يوصى بها.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ
مُهِينٌ)(١٤)
(تِلْكَ) إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا
والمواريث. وسماها حدوداً ، لأن الشرائع كالحدود المضروبة الموقتة للمكلفين ، لا
يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتخطوها إلى ما ليس لهم بحق (يُدْخِلْهُ) قرئ بالياء والنون ، وكذلك (يُدْخِلْهُ ناراً) وقيل : يدخله ، وخالدين حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب
خالدين وخالداً على الحال. فان قلت : هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات وناراً؟ قلت :
لا ، لأنهما جريا على غير من هما له ، فلا بدّ من الضمير وهو قولك : خالدين هم
فيها ، وخالداً هو فيها.
(وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما
إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً)(١٦)
(يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ) يرهقنها ، يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها بمعنى.
وفي قراءة ابن مسعود : يأتين بالفاحشة ، والفاحشة : الزنا لزيادتها في القبح على
كثير من القبائح (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ) قيل معناه : فخلدوهن محبوسات في بيوتكم ، وكان ذلك عقوبتهن
في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي ...) الآية ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه
معلوما بالكتاب والسنة ، ويوصى بإمساكهن في البيوت ، بعد أن يحددن صيانة لهن عن
مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح. وقيل : السبيل هو
الحد ، لأنه لم يكن مشروعا ذلك أوقت. فإن قلت : ما معنى يتوفاهن الموت ـ والتوفي
والموت بمعنى واحد ، كأنه قيل : حتى يميتهن الموت ـ؟ قلت : يجوز أن يراد حتى يتوفاهن
ملائكة الموت ، كقوله : (الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)
(إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفى أرواحهن (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) يريد الزاني والزانية (فَآذُوهُما) فوبخوهما وذمّوهما وقولوا لهما : أما استحييتما ، أما
خفتما الله (فَإِنْ تابا
وَأَصْلَحا) وغيرا الحال (فَأَعْرِضُوا
عَنْهُما) واقطعوا التوبيخ والمذمة ، فإن التوبة تمنع استحقاق الذم
والعقاب ، ويحتمل أن يكون خطاباً للشهود العاثرين على سرهما ، ويراد بالإيذاء
ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الإمام والحد ، فإن تابا قبل الرفع إلى
الإمام فأعرضوا عنهما ولا تتعرضوا لهما. وقيل : نزلت الأولى في السحاقات وهذه في
اللواطين. وقرئ : واللذانّ بتشديد النون. واللذانّ : بالهمزة وتشديد النون.
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ
عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ
قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١٨)
(التَّوْبَةُ) من تاب الله عليه إذا قبل توبته وغفر له ، يعنى إنما
القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء. (بِجَهالَةٍ) في موضع الحال أى يعملون السوء جاهلين سفهاء ، لأنّ ارتكاب
القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة ، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل. وعن مجاهد
: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته (مِنْ قَرِيبٍ) من زمان قريب. والزمان القريب :
__________________
ما قبل حضرة
الموت. ألا ترى إلى قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) فبين أنّ وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة
فبقى ما وراء ذلك في حكم القريب. وعن ابن عباس : قبل أن ينزل به سلطان الموت. وعن
الضحاك : كل توبة قبل الموت فهو قريب. وعن النخعي : ما لم يؤخذ بكظمه. وروى أبو
أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وعن عطاء : ولا قبل موته بفواق ناقة. وعن الحسن : أنّ
إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده. فقال
تعالى : وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر فإن قلت : ما معنى
(مِنْ) في قوله : (مِنْ قَرِيبٍ)؟ قلت : معناه التبعيض ، أى يتوبون بعض زمان قريب ، كأنه
سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا ، ففي أى جزء تاب من أجزاء
هذا الزمان فهو تائب من قريب ، وإلا فهو تائب من بعيد. فإن قلت : ما فائدة قوله (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) بعد قوله : إنما التوبة على الله لهم؟ قلت : قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) إعلام بوجوبها عليه كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله
: (فَأُولئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ) عدة بأنه يفي بما وجب عليه ، وإعلام بأن الغفران كائن لا
محالة كما يعد العبد الوفاء بالواجب (وَلَا الَّذِينَ
يَمُوتُونَ) عطف على الذين يعملون السيئات. سوّى بين الذين سوّفوا
توبتهم إلى حضرة الموت ، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم ، لأنّ
حضرة الموت أول أحوال الآخرة ، فكما أنّ المائت على الكفر قد فاتته التوبة على
اليقين ، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل واحد منهما أو ان التكليف
والاختيار (أُولئِكَ أَعْتَدْنا
لَهُمْ) في الوعيد نظير قوله : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ
اللهُ عَلَيْهِمْ) في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. فإن قلت : من
المراد بالذين يعملون السيئات ، أهم الفساق من أهل القبلة أم الكفار؟ قلت : فيه
وجهان : أحدهما أن يراد الكفار ، لظاهر قوله : (وَهُمْ كُفَّارٌ). وأن يراد الفساق ، لأن الكلام إنما وقع في الزانيين ،
والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا ، ويكون قوله : (وَهُمْ كُفَّارٌ) وارداً على سبيل التغليظ كقوله : (وَمَنْ كَفَرَ
__________________
فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)
وقوله «فليمت إن
شاء يهوديا أو نصرانيا» «من ترك الصلاة
متعمدا فقد كفر » لأن من كان مصدقا ومات وهو لم يحدث نفسه بالتوبة ، حاله
قريبة من حال الكافر ، لأنه لا يجترئ على ذلك إلا قلب مصمت.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(١٩)
كانوا يبلون
النساء بضروب من البلايا ويظلمونهن بأنواع من الظلم ، فزجروا عن ذلك : كان الرجل
إذا مات له قريب من أب أو أخ أو حميم عن امرأة ، ألقى ثوبه عليها وقال أنا أحق بها من كلّ أحد ، فقيل (لا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أى أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن
كارهات لذلك : أو مكرهات. وقيل : كان يمسكها حتى تموت ، فقيل : لا يحل لكم أن
تمسكوهنّ حتى ترثوا منهنّ وهنّ غير راضيات بإمساككم. وكان الرجل إذا تزوّج امرأة
ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر ، لتفتدى منه بمالها وتختلع ، فقيل :
ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ. والعضل : الحبس والتضييق. ومنه : عضلت
المرأة بولدها ، إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) وهي النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء
والسلاطة ، أى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع. ويدل عليه
قراءة أبىّ : إلا أن يفحشن عليكم. وعن الحسن : الفاحشة الزنا ، فإن فعلت حلّ
لزوجها أن يسألها الخلع. وقيل : كانوا إذا أصابت امرأة فاحشة أخذ منها ما ساق
إليها وأخرجها. وعن أبى قلابة ومحمد بن سيرين : لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على
بطنها. وعن قتادة : لا يحل أن يحبسها ضراراً حتى تفتدى منه ، يعنى وإن زنت. وقيل :
نسخ ذلك بالحدود ، وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وهو النصفة في
__________________
المبيت والنفقة ،
والإجمال في القول (فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَ) فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو
أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير ، وأحبت ما هو بضد ذلك ، ولكن للنظر في أسباب
الصلاح.
(وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً)(٢١)
وكان الرجل إذا
طمحت عينه إلى استطراف امرأة؟ بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى
تزوّج غيرها. فقيل : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) الآية. والقنطار : المال العظيم ، من قنطرت الشيء إذا
رفعته. ومنه القنطرة ، لأنها بناء مشيد. قال :
كَقَنْطَرَةِ
الرُّومِىِّ أقْسَمَ رَبُّهَا
|
|
لَتُكْتَنَفَنْ
حَتَّي تُشَادَ بِقِرْمِدِ
|
وعن عمر رضى الله
عنه أنه قام خطيباً فقال : أيها الناس ، لا تغالوا بصدق النساء ، فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنى عشر
أوقية ، فقامت إليه امرأة فقالت له : يا أمير المؤمنين ، لِمَ تمنعنا حقا جعله
الله لنا والله يقول (وَآتَيْتُمْ
إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال عمر : كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه : تسمعوننى
أقول مثل هذا القول فلا تنكرونه علىّ حتى تردّ علىّ امرأة ليست من أعلم النساء . والبهتان : أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء
منه ، لأنه يبهت
__________________
عند ذلك ، أى
يتحير. وانتصب (بُهْتاناً) على الحال ، أى باهتين وآثمين ، أو على أنه مفعول له وإن
لم يكن غرضاً ، كقولك : قعد عند القتال جبناً. والميثاق الغليظ : حق الصحبة
والمضاجعة ، كأنه قيل : وأخذن به منكم ميثاقا غليظاً ، أى بإفضاء بعضكم إلى بعض.
ووصفه بالغلظ لقوّته وعظمه ، فقد قالوا : صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف بما يجرى
بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ وقيل : هو قول الولىّ عند العقد : أنكحتك على
ما في كتاب الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
(وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً
وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٢٢)
وكانوا ينكحون
روابهم ، وناس منهم يمقتونه من ذى مروآتهم ، ويسمونه نكاح
__________________
المقت. وكان
المولود عليه يقال له المقتى. ومن ثم قيل (وَمَقْتاً) كأنه قيل : هو فاحشة في دين الله بالغة في القبح ، قبيح
ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين. وقرئ : لا تحل لكم بالتاء ، على
أنّ ترثوا بمعنى الوراثة. وكرها ـ بالفتح ، والضم ـ من الكراهة والإكراه. وقرئ (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) من أبانت بمعنى تبينت أو بينت ، كما قرئ (مُبَيِّنَةٍ) بكسر الياء وفتحها. و (يجعل الله) بالرفع ، على أنه في
موضع الحال : (وآتيتم إحداهن) بوصل همزة إحداهن ، كما قرئ (فلا اثم عليه). فإن قلت
: تعضلوهن ، ما وجه إعرابه؟ قلت : النصب عطفا على أن ترثوا. و (لا) لتأكيد النفي.
أى لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن. فإن قلت : أى فرق بين تعدية ذهب
بالباء ، وبينها بالهمزة؟ قلت : إذا عدى بالباء فمعناه الأخذ والاستصحاب ، كقوله
تعالى (فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ) وأما الإذهاب فكالإزالة. فإن قلت : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ) ما هذا الاستثناء؟ قلت : هو استثناء من أعم عام الظرف أو
المفعول له ، كأنه قيل : ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة. أو
: ولا تعضلوهنّ لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة. فإن قلت : من أى وجه صح قوله
: (فَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا) جزاء للشرط؟ قلت : من حيث أنّ المعنى : فإن كرهتموهن
فاصبروا عليهن مع الكراهة ، فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيراً ليس فيما تحبونه
فإن قلت كيف استثني ما قد سلف مما نكح آباؤكم؟ قلت : كما استثنى «غير أن سيوفهم»
من قوله «ولا عيب فيهم» يعنى : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف ، فانكحوه ، فلا يحل
لكم غيره. وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته ، كما
يعلق بالمحال في التأبيد نحو قولهم : حتى يبيض القار ، وحتى يلج الجمل في سم
الخياط.
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ
الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي
فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ
الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما
قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٢٣)
معنى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) تحريم نكاحهن لقوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ
__________________
النِّساءِ)
ولأن تحريم نكاحهن
هو الذي يفهم من تحريمهن ، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها ، ومن تحريم لحم
الخنزير تحريم أكله. وقرئ (وبنات الأخت) بتخفيف الهمزة. وقد نزل الله الرضاعة
منزلة النسب ، حتى سمى المرضعة أمّا للرضيع ، والمراضعة أختا ، وكذلك زوج المرضعة
أبوه وأبواه جداه ، وأخته عمته ، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده
فهم إخوته وأخواته لأبيه ، وأم المرضعة جدّته ، وأختها خالته ، وكل من ولد لها من
هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته
لأمه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وقالوا : تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين :
إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوّج أخت ابنه
من الرضاع ، لأن المانع في النسب وطؤه أمها. وهذا المعنى غير موجود في الرضاع
والثانية : لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب ، ويجوز في الرضاع ، لأن المانع في
النسب وطء الأب إياها ، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع (مِنْ نِسائِكُمُ) متعلق بربائبكم. ومعناه أن الربيبة من المرأة المدخول بها
محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها. فإن قلت : هل يصح أن يتعلق بقوله (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)؟ قلت : لا يخلو إمّا أن يتعلق بهن وبالربائب ، فتكون
حرمتهن وحرمة الربائب غير مبهمتين جميعاً. وإما أن يتعلق بهن دون الربائب ، فتكون
حرمتهنّ غير مبهمة وحرمة الربائب مبهمة ، فلا يجوز الأوّل ، لأن معنى «من» مع أحد
المتعلقين ، خلاف معناه مع الآخر. ألا تراك أنك إذا قلت : وأمّهات نسائكم من
نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فقد جعلت «من» لبيان النساء ، وتمييز المدخول بهنّ من
غير المدخول بهنّ. وإذا قلت وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإنك جاعل «من»
لابتداء الغاية ، كما تقول : بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة ، وليس
بصحيح أن يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيان مختلفان. ولا يجوز الثاني لأن
ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به ، ما لم يعترض أمر لا يرد ، إلا أن تقول : أعلقه
بالنساء والربائب ، وأجعل «من» للاتصال ، كقوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) فإنى لست منك ولست منى. ما أنا من دد ولا الدد منى :
وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهنّ أمهاتهنّ كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهنّ بناتهنّ. هذا وقد
__________________
اتفقوا على أن
تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب ، على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها
أنه قال «لا بأس أن يتزوج ابنتها ، ولا يحل له أن يتزوج أمها» وعن عمر وعمران بن الحصين رضى الله عنهما : أن الأم تحرم
بنفس العقد. وعن مسروق : هي مرسلة فأرسلوا ما أرسل الله. وعن ابن عباس : أبهموا ما
أبهم الله ، إلا ما روى عن على وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير : أنهم قرءوا
: وأمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن. وكان ابن عباس يقول : والله ما نزل إلا هكذا.
وعن جابر روايتان. وعن سعيد بن المسيب عن زيد : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها ، كره
أن يخلف على أمّها. وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل : أقام الموت مقام
الدخول في ذلك ، كما قام مقامه في باب المهر. وسمى ولد المرأة من غير زوجها ربيبا
وربيبة ، لأنه يربهما كما يرب ولده في غالب الأمر ، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم
يربهما. فإن قلت : ما فائدة قوله في حجوركم ؟ قلت : فائدته التعليل للتحريم ، وأنهن لاحتضانكم لهن أو
لكونهن بصدد احتضانكم ، وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمّهاتهن ، وتمكن
بدخولكم حكم الزواج وثبتت الخلطة والألفة ، وجعل الله بينكم المودة والرحمة ،
وكانت الحال خليقة بأن تجروا
__________________
أولادهن مجرى
أولادكم ، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم. وعن على رضى الله عنه :
أنه شرط ذلك في التحريم. وبه أخذ داود. فإن قلت : ما معنى (دَخَلْتُمْ بِهِنَ)؟ قلت : هي كناية عن الجماع ، كقولهم : بنى عليها وضرب
عليها الحجاب يعنى أدخلتموهن الستر. والباء للتعدية واللمس. ونحوه ؛ يقوم مقام
الدخول عند أبى حنيفة. وعن عمر رضى الله عنه أنه خلا بجارية فجردها ، فاستوهبها
ابن له فقال : إنها لا تحلّ لك. وعن مسروق أنه أمر أن تباع جاريته بعد موته وقال :
أما إنى لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدى من اللمس والنظر. وعن الحسن في الرجل
يملك الأمة فيغمزها لشهوة أو يقبلها أو يكشفها : أنها لا تحل لولده بحال وعن عطاء
وحماد بن أبى سليمان : إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمّها ولا ابنتها. وعن
الأوزاعى : إذا دخل بالأم فعرّاها ولمسها بيده وأغلق الباب وأرخى الستر ، فلا يحلّ
له نكاح ابنتها. وعن ابن عباس وطاوس وعمرو بن دينار : أن التحريم لا يقع إلا
بالجماع وحده (الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ) دون من تبنيتم. وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم
زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة ، وقال عزّ وجلّ (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ). (وَأَنْ تَجْمَعُوا) في موضع الرفع عطف على المحرمات ، أى وحرّم عليكم الجمع
بين الأختين. والمراد حرمة النكاح ، لأنّ التحريم في الآية تحريم النكاح وأما
الجمع بينهما في ملك اليمين ، فعن عثمان وعلى رضى الله عنهما أنهما قالا : أحلتهما
آية وحرّمتهما آية يعنيان هذه الآية وقوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) فرجح على التحريم ، وعثمانُ التحليل . (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)
__________________
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ
لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(٢٤)
(وَالْمُحْصَناتُ) القراءة بفتح الصاد. وعن طلحة بن مصرف أنه قرأ بكسر الصاد.
وهنّ ذوات الأزواج ، لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزويج ، فهنّ محصنات ومحصنات (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد : ما ملكت
أيمانهم من اللاتي سبين ولهنّ أزواج في دار الكفر فهنّ حلال لغزاة المسلمين وإن
كنّ محصنات. وفي معناه قول الفرزدق :
وَذَاتُ حَلِيلٍ
أنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا
|
|
حَلَالٌ لِمَنْ
يَبْنِى بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ
|
(كِتابَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) مصدر مؤكد ، أى كتب الله ذلك عليكم كتابا وفرضه فرضا ، وهو
تحريم ما حرّم. فإن قلت : علام عطف قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ)؟ قلت : على الفعل المضمر الذي نصب (كِتابَ اللهِ) أى كتب الله عليكم تحريم ذلك ، وأحلّ لكم ما وراء ذلكم.
ويدل عليه قراءة اليماني : كتب الله عليكم ، وأحلّ لكم. وروى عن اليماني : كتب
الله عليكم ، على الجمع والرفع أى هذه فرائض الله عليكم. ومن قرأ : وأحلّ لكم ،
على البناء للمفعول ، فقد عطفه على حرمت. (أَنْ تَبْتَغُوا) مفعول له بمعنى بين لكم ما يحلّ مما يحرم ، إرادة أن يكون
ابتغاؤكم (بِأَمْوالِكُمْ) التي جعل الله لكم قياما في حال كونكم (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم
فتخسروا دنياكم ودينكم ، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين. والإحصان : العفة
وتحصين النفس من الوقوع في الحرام ، والأموال : المهور وما يخرج في المناكح. فإن
قلت : أين مفعول تبتغوا؟ قلت : يجوز أن يكون مقدّراً وهو النساء. والأجود أن لا
يقدر ، وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم. ويجوز أن يكون (أَنْ تَبْتَغُوا) بدلا من (وَراءَ ذلِكُمْ) والمسافح الزاني ، من السفح وهو صبّ المنىّ. وكان الفاجر
يقول للفاجرة : سافحينى وماذينى من المذي (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو
عقد
__________________
عليهنّ (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) عليه ، فأسقط الراجع إلى «ما» لأنه لا يلبس ، كقوله : (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) بإسقاط منه. ويجوز أن تكون «ما» في معنى النساء ، و «من»
للتبعيض أو البيان ، ويرجع الضمير إليه على اللفظ في به ، وعلى المعنى في : (فَآتُوهُنَّ) وأجورهن مهورهن لأن المهر ثواب على البضع (فَرِيضَةً) حال من الأجور بمعنى مفروضة أو وضعت موضع إيتاء لأن
الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد ، أى فرض ذلك فريضة (فِيما تَراضَيْتُمْ
بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) فيما تحط عنه من المهر ، أو تهب له من كله أو يزيد لها على
مقداره. وقيل فيما تراضياه به من مقام أو فراق وقيل : نزلت في المتعة التي كانت
ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله عليه الصلاة والسلام ثم نسخت ،
كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو أسبوعا بثوب أو غير ذلك ،
ويقضى منها وطره ثم يسرحها. سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها.
وعن عمر : لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباحها ، ثم أصبح يقول «يا
أيها الناس إنى كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء : ألا إن الله حرّم ذلك إلى يوم
القيامة» وقيل : أبيح مرتين وحرّم مرتين. وعن ابن عباس هي محكمة يعنى لم تنسخ ، وكان يقرأ : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل
مسمى. ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال : اللهم إنى أتوب إليك من قولي بالمتعة
، وقولي في الصرف
__________________
(وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا
مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ
مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٥)
الطول : الفضل ،
يقال : لفلان على فلان طول أى زيادة وفضل. وقد طاله طولا فهو طائل. قال :
لَقدْ زَادَنِى
حُبًّا لِنَفْسِى أنَّنِى
|
|
بَغِيضٌ إلَى
كُلِّ امْرِىءٍ غيْرِ طَائِلِ
|
ومنه قولهم : ما
حلا منه بطائل ، أى بشيء يعتد به مما له فضل وخطر. ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة
فيه ، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. والمعنى : ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرّة فلينكح أمة. قال ابن عباس : من ملك
ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء وهو الظاهر ، وعليه مذهب الشافعي رحمه الله. وأمّا أبو
حنيفة رحمه الله فيقول : الغنىّ والفقير سواء في جواز نكاح الأمة ، ويفسر الاية
بأن من لم يملك فراش الحرّة ، على أن
__________________
النكاح هو الوطء ،
فله أن ينكح أمة. وفي رواية عن ابن عباس أنه قال : ومما وسع الله على هذه الأمّة
نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً. وكذلك قوله (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) الظاهر أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، وهو مذهب أهل
الحجاز. وعند أهل العراق يجوز نكاحها ، ونكاح الأمة المؤمنة أفضل ، فحملوه على
الفضل لا على الوجوب ، واستشهدوا على أن الإيمان ليس بشرط بوصف الحرائر به ، مع
علمنا أنه ليس بشرط فيهن على الاتفاق ، ولكنه أفضل. فإن قلت : لم كان نكاح الأمة
منحطا عن نكاح الحرة؟ قلت : لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق ، ولثبوت حق
المولى فيها وفي استخدامها ، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله نقصان
راجع إلى الناكح ومهانة ، والعزة من صفات المؤمنين. وقوله (مِنْ فَتَياتِكُمُ) أى من فتيات المسلمين ، لا من فتيات غيركم وهم المخالفون
في الدين. فإن قلت : فما معنى قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ)؟ قلت : معناه أن الله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم
في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم ، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان
الحرة ، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل
الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب ، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أى أنتم وأرقاؤكم متواصلون متناسبون لاشتراككم في الإيمان
، لا يفضل حر عبداً إلا برجحان فيه (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) اشتراط لإذن الموالي في نكاحهن . ويحتج به لقول أبى حنيفة أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن
، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم (وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وأدّوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء
واللز. فإن قلت : الموالي هم ملاك مهورهن لا هن ، والواجب أداؤها إليهم لا إليهن ،
فلم قيل : وآتوهن؟ قلت : لأنهن وما في أيديهن مال الموالي ، فكان أداؤها إليهن
أداء إلى الموالي. أو على أن أصله : فآتوا مواليهن ، فحذف المضاف (الْمُحْصَناتِ) عفائف. والأخدان : الأخلاء في السرّ ، كأنه قيل : غير
مجاهرات بالسفاح ولا مسرات له (فَإِذا أُحْصِنَ) بالتزويج. وقرئ : أحصن (نِصْفُ ما عَلَى
الْمُحْصَناتِ) أى الحرائر (مِنَ الْعَذابِ) من الحدّ كقوله : (وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما) و (يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) ولا رجم عليهن ، لأن الرجم لا يتنصف (ذلِكَ) إشارة إلى نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ) لمن خاف الإثم الذي يؤدى إليه غلبة الشهوة. وأصل العنت :
انكسار العظم بعد الجبر ، فاستعير لكل مشقة وضرر ، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم.
وقيل : أريد به الحدّ ، لأنه إذا هويها خشي أن يواقعها فيحدّ فيتزوجها
__________________
(وَأَنْ تَصْبِرُوا) في محل الرفع على الابتداء ، أى وصبركم عن نكاح الإماء
متعففين (خَيْرٌ لَكُمْ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم «الحرائر صلاح البيت ،
والإماء هلاك البيت»
(يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ
تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)(٢٨)
(يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة
التبيين كما زيدت في : لا أبالك ، لتأكيد إضافة الأب. والمعنى : يريد الله أن يبين
لكم ما هو خفى عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ، وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من
الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ويرشدكم إلى طاعات إن قمتم بها كانت كفارات لسيئاتكم فيتوب
عليكم ويكفر لكم (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم (وَيُرِيدُ) الفجرة (الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) وهو الميل عن القصد والحق ، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم
وموافقتهم على اتباع الشهوات. وقيل : هم اليهود. وقيل : المجوس : كانوا يحلون نكاح
الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت ، فلما حرمهنّ الله قالوا : فإنكم تحلون
بنت الخالة والعمة ، والخالة والعمة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخ والأخت ،
فنزلت. يقول تعالى : يريدون أن تكونوا زناة مثلهم (يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) إحلال نكاح الأمة وغيره من الرخصّ (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات. وعن سعيد بن المسيب
: ما أيس الشيطان من بنى آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء ، فقد أتى علىّ ثمانون
سنة وذهبت إحدى عينىّ وأنا أعشو بالأخرى. وإن أخوف ما أخاف علىّ فتنة النساء. وقرئ
: أن يميلوا بالياء. والضمير للذين يتبعون الشهوات. وقرأ ابن عباس (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ) على البناء للفاعل ونصب الإنسان وعنه رضى الله عنه : ثمان
آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس
__________________
وغربت : (يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ، (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ، (يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)(إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ، (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ) ، (ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ
كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيراً)(٣٠)
(بِالْباطِلِ) بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب
والقمار وعقود الربا (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً) إلا أن تقع تجارة. وقرئ تجارة على : إلا أن تكون التجارة
تجارة (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) والاستثناء منقطع. معناه : ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض
منكم. أو ولكن كون تجارة عن تراض غير منهى عنه. وقوله : (عَنْ تَراضٍ) صفة لتجارة ، أى تجارة صادرة عن تراض. وخص التجارة بالذكر
، لأنّ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها. والتراضي رضا المتبايعين بما تعاقدا عليه في
حال البيع وقت الإيجاب والقبول ، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى. وعند
الشافعي رحمه الله تفرّقهما عن مجلس العقد متراضيين (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) من كان من جنسكم من المؤمنين. وعن الحسن : لا تقتلوا
إخوانكم ، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة. وعن عمرو بن العاصي : أنه
تأوله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله
وسلم . وقرأ على رضى الله عنه (وَلا تَقْتُلُوا)
__________________
بالتشديد (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ما نهاكم عما يضركم إلا لرحمته عليكم. وقيل : معناه أنه
أمر بنى إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم ، وكان بكم يا
أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة (ذلِكَ) إشارة إلى القتل ، أى ومن يقدم على قتل الأنفس (عُدْواناً وَظُلْماً) لا خطأ ولا اقتصاصا. وقرئ (عُدْواناً) بالكسر. و (نُصْلِيهِ) بتخفيف اللام وتشديدها. و (نُصْلِيهِ) بفتح النون من صلاه يصليه. ومنه شاة مصلية ، ويصليه بالياء
والضمير لله تعالى ، أو لذلك ، لكونه سببا للصلى (ناراً) أى ناراً مخصوصة شديدة العذاب (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لأنّ الحكمة تدعو إليه ، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه
(إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً)(٣١)
(كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وقرئ : كبير ما تنهون عنه ، أى ما كبر من المعاصي التي
ينهاكم الله عنها والرسول (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ) نمط ما تستحقونه من العقاب في كل وقت على صغائركم ،
وتجعلها كأن لم تكن ، لزيادة الثواب المستحق على اجتنابكم الكبائر وصبركم عنها ،
على عقاب السيئات. والكبيرة والصغيرة إنما وصفتا بالكبر والصغر بإضافتهما إما إلى
طاعة أو معصية أو ثواب فاعلهما . والتكفير : إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد ، أو
بتوبة. والإحباط : نقيضه ، وهو إماطة الثواب المستحق بعقاب أزيد أو بندم على
الطاعة. وعن على رضى الله عنه : الكبائر سبع : الشرك ، والقتل ، والقذف ، والزنا ،
وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة . وزاد ابن عمر : السحر ، واستحلال البيت الحرام. وعن ابن
عباس : أن رجلا قال له : الكبائر سبع؟ فقال : هي إلى سبعمائة أقرب ، لأنه لا صغيرة
مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار . وروى إلى سبعين. وقرئ : يكفر ، بالياء. و (مُدْخَلاً) بضم الميم وفتحها ، بمعنى المكان والمصدر فيهما.
__________________
(وَلا تَتَمَنَّوْا ما
فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ
اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٣٢)
(وَلا تَتَمَنَّوْا) نهوا عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على
بعض من الجاه والمال ، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم
بأحوال العباد ، وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ
لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ما قسم له هو
مصلحته ، ولو كان خلافه لكان مفسدة له ، ولا يحسد أخاه على حظه (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من
حاله الموجبة للبسط أو القبض كسباً له (وَسْئَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ) ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل ، ولكن سلوا الله من
خزائنه التي لا تنفد. وقيل : كان الرجال قالوا : إن الله فضلنا على النساء في
الدنيا : لنا سهمان ولهن سهم واحد ، فنرجو أن يكون لنا أجران في الآخرة على
الأعمال ولهنّ أجر واحد ، فقالت أم سلمة ونسوة معها : ليت الله كتب علينا الجهاد
كما كتبه على الرجال ، فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم. فنزلت.
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)
(٣٣)
(مِمَّا تَرَكَ) تبيين لكل ، أى : ولكل شيء مما ترك (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) من المال جعلنا موالي وراثا يلونه ويحرزونه : أو ولكل قوم
جعلناهم موالي ، نصيب مما ترك الوالدان والأقربون على أن (جَعَلْنا مَوالِيَ) صفة لكل ، والضمير الراجع إلى كل محذوف ، والكلام مبتدأ
وخبر ، كما تقول : لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله ، أى حظ من رزق الله ، أو
: ولكل أحد جعلنا موالي مما ترك ، أى ورّاثا مما ترك ، على أن «من» صلة موالي ،
لأنهم في معنى الورّاث ، وفي : (تَرَكَ) ضمير كلّ ، ثم فسر الموالي بقوله : (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كأنه قيل : من هم؟ فقيل : الوالدان والأقربون (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) مبتدأ ضمن معنى الشرط. فوقع خبره مع الفاء وهو قوله (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ويجوز أن يكون منصوباً على قولك : زيداً فاضربه. ويجوز أن
يعطف على الوالدان ، ويكون المضمر في : (فَآتُوهُمْ) للموالي ، والمراد بالذين عاقدت أيمانكم : موالي الموالاة
كان الرجل يعاقد
الرجل فيقول : دمى دمك ، وهدمي هدمك ، وثأرى ثأرك ، وحربى حربك ، وسلمى سلمك ، وترثني وأرثك ،
وتطلب بى وأطلب بك ، وتعقل عنى وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ،
فنسخ. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب يوم الفتح فقال «ما كان من حلف في
الجاهلية فتمسكوا به ، فإنه لم يزده الإسلام إلا شدة ، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام
» وعند أبى حنيفة : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا
صح عنده وورث بحق الموالاة خلافا للشافعي. وقيل : المعاقدة التبني. ومعنى عاقدت
أيمانكم : عاقدتهم أيديكم وماسحتموهم. وقرئ (عَقَدَتْ) بالتشديد والتخفيف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم.
(الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما
أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما
حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)(٣٤)
(قَوَّامُونَ عَلَى
النِّساءِ) يقومون عليهن آمرين ناهين ، كما يقوم الولاة على الرعايا.
وسموا قوّما لذلك. والضمير في (بَعْضَهُمْ) للرجال والنساء جميعاً ، يعنى إنما كانوا مسيطرين عليهن
بسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال ، على بعض وهم النساء. وفيه دليل على أنّ
الولاية إنما تستحق بالفضل ، لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وقد ذكروا في فضل
الرجال : العقل ، والحزم ، والعزم ، والقوّة ، والكتابة ـ في الغالب ، والفروسية ،
والرمي ، وأنّ منهم الأنبياء والعلماء ، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى ، والجهاد ،
والأذان ، والخطبة ، والاعتكاف ، وتكبيرات التشريق عند أبى حنيفة ، والشهادة في
الحدود ، والقصاص ، وزيادة السهم ، والتعصيب في الميراث ، والحمالة ، والقسامة ،
والولاية في النكاح والطلاق والرجعة ، وعدد الأزواج ، وإليهم الانتساب ، وهم أصحاب
اللحى والعمائم (وَبِما أَنْفَقُوا) وبسبب ما أخرجوا في نكاحهنّ من أموالهم في المهور
__________________
والنفقات. وروى
أنّ سعد بن الربيع وكان نقيبا من نقباء الأنصار نشرت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن
أبى زهير ، فلطمها ، فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أفرشته
كريمتي فلطمها فقال : «لتقتصّ منه» فنزلت ، فقال صلى الله عليه وسلم : «أردنا
أمراً وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله خير» ، ورفع القصاص. واختلف في ذلك ، فقيل لا قصاص بين الرجل
وامرأته فيما دون النفس ولو شجها ، ولكن يجب العقل. وقيل : لا قصاص إلا في الجرح
والقتل. وأما اللطمة ونحوها فلا (قانِتاتٌ) مطيعات قائمات بما عليهنّ للأزواج (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) الغيب خلاف الشهادة ، أى حافظات لمواجب الغيب إذا كان
الأزواج غير شاهدين لهنّ حفظهن ما يجب عليهنّ حفظه في حال الغيبة ، من الفروج
والبيوت والأموال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «خير النساء امرأة إن نظرت
إليها سرّتك ، وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» وتلا الآية
وقيل (لِلْغَيْبِ) لأسرارهم (بِما حَفِظَ اللهُ) بما حفظهنّ الله حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه وأمر
رسوله عليه الصلاة والسلام فقال : «استوصوا بالنساء خيراً» أو بما حفظهنّ الله وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب ، أو بما
حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب ، وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على
الخيانة. و «ما» مصدرية. وقرئ (بِما حَفِظَ اللهُ) بالنصب على أنّ ما موصولة ، أى حافظات للغيب بالأمر الذي
يحفظ حق الله وأمانة الله ، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم.
وقرأ ابن مسعود : فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهنّ. نشوزها
ونشوصها : أن تعصى زوجها ولا تطمئن إليه وأصله الانزعاج (فِي الْمَضاجِعِ) في المراقد. أى لا تدخلوهن تحت اللحد أو هي كناية عن
الجماع. وقيل : هو أن يوليها ظهره في المضجع وقيل : في المضاجع : في بيوتهن التي
يبتن فيها. أى
__________________
لا تبايتوهن. وقرئ
: في المضجع ، وفي المضطجع. وذلك لتعرّف أحوالهن وتحقق أمرهن في النشوز. أمر
بوعظهن أوّلا ، ثم هجرانهن في المضاجع ، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن
الوعظ والهجران. وقيل : معناه أكرهوهن على الجماع واربطوهن ، من هجر البعير إذا شدّه بالهجار. وهذا
من تفسير الثقلاء. وقالوا : يجب أن يكون ضربا غير مبرِّح لا يجرحها ولا يكسر لها
عظما ويجتنب الوجه. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم : «علق سوطك حيث يراه أهلك» وعن أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما : كنت رابعة
أربع نسوة عند الزبير بن العوّام ، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها . ويروى عن الزبير أبيات منها :
وَلَوْ لَا بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا
(فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني ، وتوبوا
عليهن واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة والانقياد وترك
النشوز (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا
كَبِيراً) فاحذروه واعلموا أنّ قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من
تحت أيديكم. ويروى أن أبا مسعود الأنصارى رفع سوطه ليضرب غلاما له ، فبصر به رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فصاح به : أبا مسعود ، لله أقدر عليك منك عليه ، فرمى
بالسوط وأعتق الغلام . أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه
وكبرياء سلطانه ، ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجيء عليكم إذا رجع.
__________________
(وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً
خَبِيراً)(٣٥)
(شِقاقَ بَيْنِهِما) أصله : شقاقا بينهما ، فأضيف الشقاق إلى الظرف على طريق
الاتساع ، كقوله : (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وأصله : بل مكر في الليل والنهار. أو على أن جعل البين
مشاقا والليل والنهار ماكرين ، على قولهم : نهارك صائم. والضمير للزوجين. ولم يجر
ذكرهما لجرى ذكر ما يدل عليهما ، وهو الرجال والنساء (حَكَماً مِنْ
أَهْلِهِ) رجلا مقنعاً رضياً يصلح لحكومة العدل والإصلاح بينهما ،
وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما ، لأنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب
للصلاح ، وإنما تسكن إليهم نفوس الزوجين ، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب
والبغض وإرادة الصحبة والفرقة ، وموجبات ذلك ومقتضياته وما يزويانه عن الأجانب ولا
يحبان أن يطلعوا عليه. فإن قلت : فهل يليان الجمع بينهما والتفريق إن رأيا ذلك؟
قلت : قد اختلف فيه ، فقبل : ليس إليهما ذلك إلا بإذن الزوجين. وقيل : ذلك إليهما
، وما جعلا حكمين إلا وإليهما بناء الأمر على ما يقتضيه اجتهادهما. وعن عبيدة
السلماني : شهدت علياً رضى الله عنه وقد جاءته امرأة وزوجها ومع كل واحد منهما
فئام من الناس ، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما . فقال علىّ رضى الله عنه للحكمين : أتدريان ما عليكما؟ إن
عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. فقال الزوج : أما
الفرقة فلا. فقال علىّ : كذب والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك. فقالت
المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلىّ. وعن الحسن : يجمعان ولا يفرقان. وعن الشعبي :
ما قضى الحكمان جاز. والألف في (إِنْ يُرِيدا
إِصْلاحاً) للحكمين. وفي (يُوَفِّقِ اللهُ
بَيْنَهُما) للزوجين أى إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة
وقلوبهما ناصحة لوجه الله ، بورك في وساطتهما ، وأوقع الله بطيب نفسهما وحسن
سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة ، وألقى في نفوسهما المودّة والرحمة. وقيل :
الضميران للحكمين ، أى إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين يوفق الله بينهما
، فيتفقان على الكلمة الواحدة ، ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم
المراد. وقيل : الضميران للزوجين. أى : إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلبا الخير وأن
يزول عنهما الشقاق يطرح الله بينهما الألفة ، وأبدلهما بالشقاق وفاقا وبالبغضاء
مودة. (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً خَبِيراً) يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
(وَاعْبُدُوا اللهَ
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى
__________________
وَالْمَساكِينِ
وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ
مُخْتالاً فَخُوراً)(٣٦)
(وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) وأحسنوا بهما إحسانا (وَبِذِي الْقُرْبى) وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) الذي قرب جواره (وَالْجارِ الْجُنُبِ) الذي جواره بعيد. وقيل الجار : القريب النسيب ، والجار
الجنب : الأجنبى. وأنشد لبلعاء ابن قيس :
لَا
يَجْتَوِينَا مُجَاوِرٌ أَبَداً
|
|
ذُو رَحِمٍ أَوْ
مُجاوِرٌ جُنُبُ
|
وقرئ : والجار ذا
القربى ، نصبا على الاختصاص. كما قرئ (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) تنبيها على عظم حقه لإدلائه بحق الجوار والقربى (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك ، إما رفيقا في سفر ، وإما
جاراً ملاصقاً ، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة ، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس
أو مسجد أو غير ذلك ، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه. فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا
تنساه ، وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل : الصاحب بالجنب : المرأة (ابْنِ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع به. وقيل الضيف ، والمختال : التياه
الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه ، فلا يتحفى بهم ولا يلتفت إليهم. وقرئ : والجار الجنب ، بفتح الجيم وسكون
النون.
(الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(٣٧)
(الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ) بدل من قوله : (مَنْ كانَ مُخْتالاً
فَخُوراً) أو نصب على الذم. ويجوز أن يكون رفعاً عليه ، وأن يكون
مبتدأ خبره محذوف ، كأنه قيل : الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون ، أحقاء بكل ملامة.
وقرئ (بِالْبُخْلِ) بضم الباء وفتحها. وبفتحتين. وبضمتين : أى يبخلون بذات
أيديهم ، وبما في أيدى غيرهم. فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد. وفي
أمثال العرب : أبخل من الضنين بنائل غيره. قال :
__________________
وَإن امْرَا
ضَنَّتْ يَدَاهُ عَلَى امْرِىءٍ
|
|
بِنَيْلِ يَدٍ
مِنْ غَيْرِهِ لَبَخِيلُ
|
ولقد رأينا ممن
بلى بداء البخل ، من إذا طرق سمعه أنّ أحدا جاد على أحد ، شخص به وحلّ حبوته ، واضطرب ، ودارت عيناه في رأسه ، كأنما نهب
رحله وكسرت خزانته ، ضجراً من ذلك وحسرة على وجوده. وقيل : هم اليهود ، كانوا
يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم ويقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم
الفقر ولا تدرون ما يكون. وقد عابهم الله بكتمان نعمة الله وما آتاهم من فضل الغنى
والتفاقر إلى الناس. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أنعم الله على عبد نعمة
أحب أن ترى نعمته على عبده» وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره ، فنمّ به عنده. فقال
الرجل : يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته ، فأحببت أن أسرك
بالنظر إلى آثار نعمتك ، فأعجبه كلامه. وقيل : نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________________
(وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ
وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً)(٣٩)
(رِئاءَ النَّاسِ) للفخار ، وليقال : ما أسخاهم وما أجودهم ، لا ابتغاء وجه
الله. وقيل : نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله
عليه وسلم (فَساءَ قَرِيناً) حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر. ويجوز أن يكون وعيداً
لهم بأنّ الشيطان يقرن بهم في النار (وَما ذا عَلَيْهِمْ) وأى تبعة ووبال عليهم في الايمان والإنفاق في سبيل الله ؛
والمراد الذم والتوبيخ. وإلا فكل منفعة ومفلحة في ذلك. وهذا كما يقال للمنتقم : ما
ضرك لو عفوت. وللعاق : ما كان يرزؤك لو كنت بارا ، وقد علم أنه لا مضرة ولا مرزأة
في العفو والبر. ولكنه ذم وتوبيخ وتجهيل بمكان المنفعة (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) وعيد.
(إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا
جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا
يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)(٤٢)
الذرّة : النملة
الصغيرة. وفي قراءة عبد الله : مثقال نملة. وعن ابن عباس : أنه أدخل يده في التراب
فرفعه ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل : كل جزء من أجزاء الهباء في
الكوّة ذرة. وفيه دليل على أنه لو نقص من الأجر أدنى شيء وأصغره ، أو زاده في العقاب
لكان ظلما ، وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) وإن يكن مثقال ذرّة حسنة وإنما أنث ضمير المثقال لكونه مضافا إلى مؤنث. وقرئ ـ بالرفع ـ على كان التامة (يُضاعِفْها) يضاعف ثوابها لاستحقاقها عنده الثواب في كل وقت من الأوقات
المستقبلة غير
__________________
المتناهية. وعن
أبى عثمان النهدي أنه قال لأبى هريرة : بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول «إن الله تعالى يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة» قال
أبو هريرة : لا ، بل سمعته يقول «إن الله تعالى يعطيه ألفى ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية. والمراد : الكثرة لا التحديد (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً
عَظِيماً) ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل عطاء عظيما وسماه (أَجْراً) لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. وقرئ : يضعفها
بالتشديد والتخفيف ، من أضعف وضعف : وقرأ ابن هرمز : نضاعفها بالنون (فَكَيْفَ) يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
بِشَهِيدٍ) يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم ، كقوله : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ
فِيهِمْ). (وَجِئْنا بِكَ عَلى
هؤُلاءِ) المكذبين (شَهِيداً) وعن ابن مسعود : أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى بلغ قوله : (وَجِئْنا بِكَ عَلى
هؤُلاءِ شَهِيداً) فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : «حسبنا» (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ) لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. وقيل :
يودّون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء وقيل : تصير البهائم تراباً ،
فيودّون حالها (وَلا يَكْتُمُونَ
اللهَ حَدِيثاً) ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. وقيل الواو
للحال ، أى يودون أن يدفنوا تحت الأرض وأنهم لا يكتمون الله حديثا. ولا يكذبون في
قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم ، ختم الله
على أفواههم عند ذلك ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك
فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض : وقرئ : تسوى ، بحذف التاء من تتسوى.
يقال : سويته فتسوّى نحو : لوّيته فتلوى. وتسوى بإدغام التاء في السين ، كقوله :
يسمعون ، وماضيه أسوى كأزكى.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ
__________________
أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ
اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)(٤٣)
روى أن عبد الرحمن
بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم
ليصلى بهم ، فقرأ : أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، فنزلت. فكانوا لا
يشربون في أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم
السكر وعلموا ما يقولون. ثم نزل تحريمها . ومعنى (لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ) لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها. كقوله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ، (لا تَقْرَبُوا
الْفَواحِشَ). وقيل معناه : ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد ، لقوله
عليه الصلاة والسلام : «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم » وقيل : هو سكر النعاس وغلبة النوم ، كقوله :
............ وَرَانُوا
|
|
بِسُكْرِ سِنَاتِهِمْ
كُلَّ الرُّيُونِ
|
وقرئ : سكارى ،
بفتح السين. وسكرى ، على أن يكون جمعا ، نحو : هلكى ، وجوعى ،
__________________
لأن السكر علة
تلحق العقل. أو مفرداً بمعنى : وأنتم جماعة سكرى ، كقولك : امرأة سكرى ، وسكرى بضم
السين كحبلى. على أن تكون صفة للجماعة. وحكى جناح بن حبيش : كسلى وكسلى ، بالفتح
والضم (وَلا جُنُباً) عطف على قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال ، كأنه قيل : لا
تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا. والجنب : يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث
، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب (إِلَّا عابِرِي
سَبِيلٍ) استثناء من عامة أحوال المخاطبين. وانتصابه على الحال. فإن
قلت : كيف جمع بين هذه الحال والحال التي قبلها؟ قلت : كأنه قيل : لا تقربوا
الصلاة في حال الجنابة ، إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها ، وهي حال السفر. وعبور
السبيل : عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالا ولكن صفة ، لقوله (جُنُباً) أى ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل ، أى جنبا
مقيمين غير معذورين. فإن قلت : كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت : أريد
بالجنب : الذين لم يغتسلوا كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين ، حتى تغتسلوا
، إلا أن تكونوا مسافرين. وقال : من فسر الصلاة بالمسجد معناه : لا تقربوا المسجد
جنبا إلا مجتازين فيه ، إذا كان الطريق فيه إلى الماء ، أو كان الماء فيه أو
احتلمتم فيه. وقيل إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فتصيبهم الجنابة
ولا يجدون ممرّا إلا في المسجد ، فرخص لهم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمرّ فيه وهو جنب إلا لعلى رضى الله عنه ، لأن
بيته كان في المسجد فإن قلت : أدخل في حكم الشرط أربعة : وهم المرضى ،
والمسافرون ، والمحدثون ، وأهل الجنابة فيمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم
عند عدم الماء منهم. قلت : الظاهر أنه تعلق بهم جميعاً وأنّ المرضى إذا عدموا
الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتيمموا ، وكذلك السفر إذا عدموه
، لبعده. والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب. وقال الزجاج :
الصعيد وجه الأرض ، ترابا كان أو غيره. وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب
__________________
المتيمم يده عليه
ومسح. لكان ذلك طهوره ، وهو مذهب أبى حنيفة رحمة الله عليه. فإن قلت : فما يصنع
بقوله تعالى في سورة المائدة (فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أى بعضه ، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلت.
قالوا إنّ «من» لابتداء الغاية. فان قلت : قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف ،
ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب
، إلا معنى التبعيض. قلت : هو كما تقول. والإذعان للحق أحق من المراء (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) كناية عن الترخيص والتيسير ، لأنّ من كانت عادته أن يعفو
عن الخطائين ويغفر لهم ، آثر أن يكون ميسرا غير معسر. فان قلت : كيف نظم في سلك
واحد بين المرضى والمسافرين ، وبين المحدثين والمجنبين ، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة ، والحدث سبب لوجوب
الوضوء. والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ قلت : أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم
التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب ، فخص أوّل من بينهم مرضاهم وسفرهم ،
لأنهم المتقدّمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على
سائر الأسباب الموجبة للرخصة ، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو
أو سبع أو عدم آلة استقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك بما لا يكثر كثرة
المرض والسفر. وقرئ : من غيط ، قيل هو تخفيف غيط ، كهين في هين. والغيط بمعنى
الغائط
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ
أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً)(٤٥)
(أَلَمْ تَرَ) من رؤية القلب ، وعدى بإلى ، على معنى : ألم ينته علمك
إليهم؟ أو بمعنى : ألم تنظر إليهم؟ (أُوتُوا نَصِيباً
مِنَ الْكِتابِ) حظا من علم التوراة ، وهم أحبار اليهود (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) يستبدلونها بالهدى ، وهو البقاء على اليهودية ، بعد وضوح
الآيات لهم على صحة نبوّة رسول الله
__________________
صلى الله عليه
وآله وسلم ، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه ، وتنخرطوا في
سلكهم لا تكفيهم ضلالتهم ؛ بل يحبون أن يضل معهم غيرهم. وقرئ : أن يضلوا ، بالياء
بفتح الضاد وكسرها (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِأَعْدائِكُمْ) وقد أخبركم بعداوة هؤلاء ، وأطلعكم على أحوالهم وما يريدون
بكم ؛ فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم ولا تستشيروهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ
نَصِيراً) فثقوا بولايته ونصرته دونهم. أو لا تبالوا بهم ، فإن الله
ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم.
(مِنَ الَّذِينَ
هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي
الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا
يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(٤٦)
(مِنَ الَّذِينَ
هادُوا) بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ؛ لأنهم يهود ونصارى.
وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ) ، (وَكَفى بِاللهِ) ، (وَكَفى بِاللهِ) جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان
لأعدائكم ، وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيراً ، أى ينصركم من الذين هادوا ، كقوله (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا) ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ ، على أن (يُحَرِّفُونَ) صفة مبتدأ محذوف تقديره : من الذين هادوا قوم يحرفون.
كقوله :
وَمَا الدَّهْرُ
إلّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا
|
|
أَمُوتُ
وَأُخْرَى أَبْتَغِى الْعَيْشَ أَكْدَحُ
|
أى فمنهما تارة
أموت فيها (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) يميلونه عنها ويزيلونه ؛ لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه
كلما غيره ، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعها الله فيها ، وأزالوه عنها. وذلك نحو
تحريفهم «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طوال» مكانه ، ونحو تحريفهم «الرجم»
__________________
بوضعهم «الحدّ»
بدله : فإن قلت : كيف قيل هاهنا (عَنْ مَواضِعِهِ) وفي المائدة (مِنْ بَعْدِ
مَواضِعِهِ) قلت : أمّا (عَنْ مَواضِعِهِ) فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله
وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأمّا (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) فالمعنى : أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين
حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه ، والمعنيان متقاربان.
وقرئ : يحرّفون الكلام. والكلم ـ بكسر الكاف وسكون اللام ـ : جمع كلمة تخفيف كلمة.
قولهم (غَيْرَ مُسْمَعٍ) حال من المخاطب . أى اسمع وأنت غير مسمع ، وهو قول ذو وجهين ، يحتمل الذمّ
أى اسمع منا مدعوا عليك ـ بلا سمعت ـ لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع ، فكان
أصم غير مسمع. قالوا ذلك اتكالا على أنّ قولهم ـ لا سمعت ـ دعوة مستجابة أو اسمع
غير مجاب إلى ما تدعو إليه. ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئا. أو اسمع غير مسمع كلاما
ترضاه ، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون (غَيْرَ مُسْمَعٍ) مفعول اسمع ، أى اسمع كلاما غير مسمع إياك ، لأن أذنك لا
تعيه نبوّاً عنه. ويحتمل المدح ، أى اسمع غير مسمع مكروهاً ، من قولك : أسمع فلان
فلانا إذا سبه. وكذلك قولهم (راعِنا) يحتمل راعنا نكلمك ، أى ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة
عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها ، وهي : راعينا ، فكانوا ـ سخرية
بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يكلمونه بكلام محتمل ، ينوون به
الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام (لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ) فتلا بها وتحريفا ، أى يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل ،
حيث يضعون (راعِنا) موضع (انْظُرْنا)
__________________
و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) موضع : لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من
الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. فان قلت : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذى
الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه
بالكفر والعصيان. ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم.
ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به. وقرأ أبىّ
: وأنظرنا ، من الإنظار وهو الإمهال. فان قلت : إلام يرجع الضمير في قوله (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)؟ قلت : إلى (أَنَّهُمْ قالُوا) لأن المعنى. ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا. لكان قولهم ذلك
خيراً لهم (وَأَقْوَمَ) وأعدل وأسدّ (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ
اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أى خذلهم بسبب كفرهم ، وأبعدهم عن ألطافه (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا) إيماناً (قَلِيلاً) أى ضعيفاً ركيكا لا يعبأ به ، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع
كفرهم بغيره ، أو أراد بالقلة العدم ، كقوله :
قَلِيلُ التَّشَكِّى لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ
أى عديم التشكي ،
أو إلا قليلا منهم قد آمنوا.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ
نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(٤٧)
(أَنْ نَطْمِسَ
وُجُوهاً) أى نمحو تخطيط صورها ، من عين وحاجب وأنف وفم (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) فنجعلها على هيئة أدبارها ، وهي الأقفاء مطموسة مثلها.
والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين : أحدهما عقيب الآخر
، ردها على أدبارها بعد طمسها ؛ فالمعنى
__________________
أن نطمس وجوها
فننكسها ، الوجوه إلى خلف ، والأقفاء إلى قدّام. ووجه آخر : وهو أن يراد بالطمس
القلب والتغيير ، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة. وبالوجوه ، رؤسهم ووجهاؤهم أى
من قبل أن نغير أحوال وجهائهم ، فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ، ونكسوهم صغارهم
وإدبارهم أو نردهم إلى حيث جاءوا منه. وهي : أذرعات الشام ، يريد : إجلاء بنى
النضير. فإن قلت : لمن الراجع في قوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ)؟ قلت : للوجوه إن أريد الوجهاء ، أو لأصحاب الوجوه. لأن
المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع إلى (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) على طريقة الالتفات (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) أو نجزيهم بالمسخ ، كما مسخنا أصحاب السبت. فإن قلت : فأين
وقوع الوعيد. قلت : هو مشروط بالايمان . وقد آمن منهم ناس. وقيل : هو منتظر ، ولا بدّ من طمس ومسخ
لليهود قبل يوم القيامة ، ولأنّ الله عز وجلّ أوعدهم بأحد الأمرين ، بطمس وجوه
منهم ، أو بلعنهم فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم ، أو إجلائهم إلى الشام ، فقد كان
أحد الأمرين وإن كان غيره فقد حصل اللعن ، فإنهم ملعونون بكل لسان ، والظاهر اللعن
المتعارف دون المسخ ألا ترى إلى قوله تعالى : (قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ). (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) فلا بدّ أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.
(إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)(٤٨)
فإن قلت : قد ثبت
أن الله عزّ وجلَّ يغفر الشرك لمن تاب منه ، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر
إلا بالتوبة . فما وجه قول الله تعالى (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ؟ قلت : الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين
إلى
__________________
قوله تعالى : (لِمَنْ يَشاءُ) كأنه قيل إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء
ما دون الشرك على أنّ المراد بالأول من لم يتب ، وبالثاني من تاب. ونظيره قولك :
إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء. تريد : لا يبذل الدينار لمن
لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله (فَقَدِ افْتَرى
إِثْماً) أى ارتكبه وهو مفتر مفتعل ما لا يصح كونه.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا
يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)(٥٠)
(الَّذِينَ يُزَكُّونَ
أَنْفُسَهُمْ) اليهود والنصارى ، قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ،
وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى. وقيل : جاء رجال من اليهود إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب؟ قال : لا.
قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل ، وما
عملناه بالليل كفر عنا بالنهار . فنزلت. ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل
وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله. فإن قلت : أما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : «والله إنى لأمين في السماء أمين في الأرض» ؟ قلت : إنما قال ذلك حين قال له المنافقون : اعدل في
القسمة ، إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه. وشتان من شهد الله له
بالتزكية ، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم (بَلِ اللهُ يُزَكِّي
مَنْ يَشاءُ) إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتدّ بها ، لا تزكية غيره
لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. ومعنى يزكى من يشاء : يزكى المرتضين من عباده
الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) أى الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق
جزائهم. أو
__________________
من يشاء يثابون
على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم. ونحوه (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) : (كَيْفَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في زعمهم أنهم عند الله أزكياء (وَكَفى) بزعمهم هذا (إِثْماً مُبِيناً) من بين سائر آثامهم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً
(٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ
وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً)(٥٢)
الجبت : الأصنام
وكل ما عبد من دون الله : والطاغوت : الشيطان. وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف
اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا ،
فلا نأمن مكركم ، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم (بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا. وقال أبو
سفيان : أنحن أهدى سبيلا أم محمد. فقال كعب : ما ذا يقول محمد؟ قالوا يأمر بعبادة
الله وحده وينهى عن الشرك. قال : وما دينكم؟ قالوا : نحن ولاة البيت ، ونسقي الحاج
، ونقرى الضيف ، ونفك العاني. وذكروا أفعالهم ، فقال : أنتم أهدى سبيلا.
(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤)
فَمِنْهُمْ
مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(٥٥)
وصف اليهود بالبخل
والحسد وهما شرّ خصلتين : يمنعون ما أوتوا من النعمة ويتمنون أن تكون لهم نعمة
غيرهم فقال (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ) على أن أم منقطعة ومعنى الهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ثم قال (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ) أى لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً مقدار
نقير لفرط بخلهم : والنقير : النقرة في ظهر النواة
__________________
وهو مثل في القلة
، كالفتيل والقطمير. والمراد بالملك : إما ملك أهل الدنيا ، وإما ملك الله كقوله تعالى
: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) وهذا أوصف لهم بالشح ، وأحسن لطباقه نظيره من القرآن.
ويجوز أن يكون معنى الهمزة في أم : لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك ، وكانوا
أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك. وأنهم لا يؤتون أحداً مما
يملكون شيئا. وقرأ ابن مسعود : فإذاً لا يؤتوا ، على إعمال إذا عملها الذي هو
النصب ، وهي ملغاة في قراءة العامة ، كأنه قيل : فلا يؤتون الناس نقيرا إذاً (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على
إنكار الحسد واستقباحه. وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة
وازدياد العزّ والتقدّم كل يوم (فَقَدْ آتَيْنا) إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة (آلَ إِبْراهِيمَ) الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه ليس ببدع
أن يؤتيه الله مثل ما آتى أسلافه. وعن ابن عباس : الملك في آل إبراهيم ملك يوسف
وداود وسليمان. وقيل : استكثروا نساءه فقيل لهم : كيف استكثرتم له التسع وقد كان
لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ (فَمِنْهُمْ) فمن اليهود (مَنْ آمَنَ بِهِ) أى بما ذكر من حديث آل إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) وأنكره مع علمه بصحته. أو من اليهود من آمن برسول الله صلى
الله عليه وسلم ، ومنهم من أنكر نبوّته. أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، ومنهم
من كفر ، كقوله : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً
حَكِيماً)(٥٦)
(بَدَّلْناهُمْ
جُلُوداً غَيْرَها) أبدلناهم إياها. فإن قلت : كيف تعذب مكان الجلود العاصية
جلود لم تعص؟ قلت : العذاب للجملة الحساسة ، وهي التي عصت لا للجلد. وعن فضيل : يجعل
النضيج غير نضيج. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «تبدّل جلودهم كل يوم سبع
مرّات» وعن الحسن : سبعين مرّة يبدّلون جلوداً بيضاء كالقراطيس (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع ، كقولك للعزيز : أعزّك الله ،
أى أدامك على عزّك وزادك فيه
__________________
(عَزِيزاً) لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين (حَكِيماً) لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ
وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ
اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)(٥٨)
(ظَلِيلاً) صفة مشتقة من لفظ الظلّ لتأكيد معناه. كما يقال : ليل أليل
، ويوم أيوم ، وما أشبه ذلك. وهو ما كان فينانا لا جوب فيه ، ودائما لا تنسخه
الشمس ، وسجسجاً لا حرّ فيه ولا برد ، وليس ذلك إلا ظل الجنة. رزقنا الله
بتوفيقه لما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل. وفي قراءة عبد الله : سيدخلهم بالياء (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) الخطاب عامّ لكل أحد في كل أمانة. وقيل نزلت في عثمان بن
طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة. وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح ، وأبى أن يدفع المفتاح إليه
وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه ، فلوى على ابن أبى طالب رضى الله عنه يده
، وأخذه منه وفتح ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين. فلما خرج سأله
العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة. فنزلت ، فأمر علياً أن يردّه
إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلىّ : أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال : لقد
أنزل الله في شأنك قرآنا ، وقرأ عليه الآية ، فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا
الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، فهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن السدانة في أولاد عثمان أبداً . وقيل هو خطاب للولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل. وقرئ
: الأمانة ، على التوحيد (نِعِمَّا يَعِظُكُمْ
بِهِ) «ما» إما أن تكون
منصوبة موصوفة بيعظكم به. وإما أن تكون مرفوعة موصولة به ، كأنه قيل : نعم شيئا
يعظكم به. أو نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف ، أى نعما يعظكم به
ذاك ، وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم. وقرئ (نعما) بفتح النون.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ
__________________
تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(٥٩)
لما أمر الولاة
بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل ، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على
قضاياهم. والمراد بأولى الأمر منكم : أمراء الحق ؛ لأن ـ أمراء الجور ـ الله
ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم ، وإنما يجمع
بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما
والنهى عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون :
أطيعونى ما عدلت فيكم ، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبى حازم أن مسلمة بن
عبد الملك قال له : ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) قال : أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) وقيل : هم أمراء السرايا وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من
أطاعنى فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع أميرى فقد أطاعنى ومن يعص
أميرى فقد عصاني» وقيل : هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين
ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ) فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في شيء من أمور الدين ،
فردّوه إلى الله ورسوله ، أى : ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة. وكيف تلزم طاعة
أمراء الجور وقد جنح الله الأمر بطاعة أولى الأمر بما لا يبقى معه شك ، وهو أن
أمرهم أولا بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم وأمرهم آخراً بالرجوع إلى الكتاب
والسنة فيما أشكل ، وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بعدل ، ولا يردون
شيئا إلى كتاب ولا إلى سنة ، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم ، فهم منسلخون عن
صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله ، وأحق أسمائهم : اللصوص المتغلبة (ذلِكَ) إشارة إلى الرد إلى الكتاب والسنة (خَيْرٌ) لكم وأصلح (وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) وأحسن عاقبة. وقيل : أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ
__________________
وَإِلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً
(٦١)
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ
يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ
فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)
(٦٣)
روى أن بشراً
المنافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه
المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال : تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب. فقال اليهودي
لعمر : قضى لنا رسول الله فلم يرض بقضائه. فقال للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم. فقال
عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق
المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت. وقال
جبريل : إنّ عمر فرق بين الحق والباطل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أنت الفاروق . والطاغوت : كعب بن الأشرف ، سماه الله «طاغوتا» لإفراطه
في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو على التشبيه بالشيطان
والتسمية باسمه. أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على
التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان ، بدليل قوله : (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ). وقرئ (بما أنزل ... وما أنزل) على البناء للفاعل. وقرأ
عباس بن الفضل : أن يكفروا بها ، ذهابا بالطاغوت إلى الجمع ، كقوله : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ) وقرأ الحسن (تعالوا) بضم اللام على أنه حذف اللام من
تعاليت تخفيفاً ، كما قالوا : ما باليت به بالة ، وأصلها بالية كعافية ،
وكما قال الكسائي في : (آية) إن أصلها «آيية» فاعلة ، فحذفت اللام ، فلما حذفت
وقعت واو الجمع بعد اللام من تعال فضمت ، فصار (تعالوا) ، نحو : تقدموا. ومنه قول
أهل مكة : تعالى ، بكسر اللام للمرأة. وفي شعر الحمداني :
__________________
تَعَالِى أُقَاسِمْك الْهمُومَ تَعَالِى
والوجه فتح اللام (فَكَيْفَ) يكون حالهم ، وكيف يصنعون؟ يعنى أنهم يعجزون عند ذلك فلا
يصدرون أمراً ولا يوردونه (إِذا أَصابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم (ثُمَّ جاؤُكَ) حين يصابون فيعتذرون إليك (يَحْلِفُونَ) ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك (إِلَّا إِحْساناً) لا إساءة (وَتَوْفِيقاً) بين الخصمين ، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك ، ففرج
عنا بدعائك وهذا وعيد لهم على فعلهم ، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم.
ولا يغنى عنهم الاعتذار عند حلول بأس الله. وقيل : جاء أولياء المنافق
__________________
يطلبون بدمه وقد
أهدره الله فقالوا : ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة
العدل والتوفيق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم ، ولا تزد على كفهم
بالموعظة والنصيحة عما هم عليه (وَقُلْ لَهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) بالغ في وعظهم بالتخفيف والإنذار. فإن قلت : بم تعلق قوله
: (فِي أَنْفُسِهِمْ) ؟ قلت : بقوله : (بَلِيغاً) أى : قل لهم قولا بليغاً في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون
به اغتماما ، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن
نجم منهم النفاق وأطلع قرنه ، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند
الله ، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين ، وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان
وإسراركم الكفر وإضماره ، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف. أو
يتعلق بقوله : (قُلْ لَهُمْ) أى قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على
النفاق قولا بليغا ، وأنّ الله يعلم ما في قلوبكم لا يخفى عليه فلا يغنى عنكم
إبطانه. فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق ، وإلا أنزل الله بكم
ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه ، وشراً من ذلك وأغلظ. أو قل لهم في أنفسهم
ـ خاليا بهم ، ليس معهم غيرهم ، مسارّا لهم بالنصيحة ، لأنها في السر أنجع ، وفي
الإمحاض أدخل ـ قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٦٥)
__________________
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ) وما أرسلنا رسولا قط (إِلَّا لِيُطاعَ
بِإِذْنِ اللهِ) بسبب إذن الله في طاعته ، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن
يطيعوه ويتبعوه ، لأنه مؤدّ عن الله ، فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ) ويجوز أن يراد بتيسير الله وتوفيقه في طاعته (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) بالتحاكم إلى الطاغوت (جاؤُكَ) تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) من ذلك بالإخلاص ، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك
بردّ قضائك ، حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله ومستغفراً (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً) لعلموه توابا ، أى لتاب عليهم. ولم يقل : واستغفرت لهم ،
وعدل عنه إلى طريقة الالتفات ، تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتعظيما لاستغفاره ، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان (فَلا وَرَبِّكَ) معناه فو ربك ، كقوله تعالى (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ) و «لا» مزيدة
__________________
لتأكيد معنى القسم
، كما زيدت في : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) لتأكيد وجود العلم. و (لا يُؤْمِنُونَ) جواب القسم فإن قلت : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر (فَلا) في : (لا يُؤْمِنُونَ)؟ قلت : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه ، وذلك قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا
تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) فيما اختلف بينهم واختلط ، ومنه الشجر لتداخل أغصانه (حَرَجاً) ضيقاً ، أى لا تضيق صدورهم من حكمك ، وقيل : شكا ، لأنّ
الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين (وَيُسَلِّمُوا) وينقادوا ويذعنوا لما تأتى به من قضائك ، لا يعارضوه بشيء
، من قولك : سلم الأمر لله وأسلم له ، وحقيقة سلم نفسه وأسلمها ، إذا جعلها سالمة
له خالصة ، و (تَسْلِيماً) تأكيد للفعل بمنزلة تكريره. كأنه قيل : وينقادوا لحكمه
انقياداً لا شبهة فيه ، بظاهرهم وباطنهم. قيل : نزلت في شأن المنافق واليهودي.
وقيل : في شأن الزبير وحاطب بن أبى بلتعة ؛ وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم في شراج من الحرّة ، كانا يسقيان بها النخل ، فقال «اسق يا زبير ثم
أرسل الماء إلى جارك» فغضب حاطب وقال : لأن كان ابن عمتك؟ فتغير وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر
واستوف حقك ، ثم أرسله إلى جارك» كان قد أشار على الزبير برأى فيه السعة له ولخصمه
؛ فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استوعب للزبير حقه في صريح
الحكم ، ثم خرجا فمرا على المقداد ، فقال : لمن كان القضاء؟ فقال الأنصارى : قضى
لابن عمته ، ولوى شدقه. ففطن يهودى كان مع المقداد فقال : قاتل الله هؤلاء ،
يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم ، وايم الله ، لقد أذنبنا
ذنبا مرّة في حياة موسى ، فدعانا إلى التوبة منه وقال : اقتلوا أنفسكم ، ففعلنا ،
فبلغ قتلانا
__________________
سبعين ألفا في
طاعة ربنا حتى رضى عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إنّ الله ليعلم منى
الصدق ، لو أمرنى محمد أن أقتل نفسي لقتلتها. وروى أنه قال ذلك ثابت وابن مسعود
وعمار بن ياسر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنّ من أمتى
رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» . وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال : والله لو
أمرنا ربنا لفعلنا ، والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك ، فنزلت الآية في شأن حاطب ،
ونزلت في شأن هؤلاء.
(وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ
ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ
بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً
لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ
صِراطاً مُسْتَقِيماً)(٦٨)
(وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أى لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بنى إسرائيل من
قتلهم أنفسهم ، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل (ما فَعَلُوهُ إِلَّا) ناس (قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهذا توبيخ عظيم. والرفع على البدل من الواو في : (فَعَلُوهُ). وقرئ : إلا قليلا ، بالنصب على أصل الاستثناء ، أو على
إلا فعلا قليلا (ما يُوعَظُونَ بِهِ) من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته ، والانقياد
لما يراه ويحكم به ، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) في عاجلهم وآجلهم (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لإيمانهم وأبعد من الاضطراب فيه (وَإِذاً) جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل وما ذا يكون لهم أيضاً بعد
التثبيت ، فقيل : وإذاً لو ثبتوا (لَآتَيْناهُمْ) لأن إذاً جواب وجزاء (مِنْ لَدُنَّا
أَجْراً عَظِيماً) كقوله : (وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) في أنّ لمراد العطاء المتفضل به من عنده وتسميته أجراً ،
لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته (وَلَهَدَيْناهُمْ) وللطفنا بهم ووفقناهم لازدياد الخيرات.
(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى
بِاللهِ عَلِيماً)(٧٠)
الصديقون : أفاضل
صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم كأبى بكر الصديق رضى الله
__________________
عنه وصدقوا في
أقولهم وأفعالهم. وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة ، حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد
الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده (وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً) فيه معنى التعجب كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقا
ولاستقلاله بمعنى التعجب. قرئ : وحسن ، بسكون السين. يقول المتعجب : حسن الوجه
وجهك! وحسن الوجه وجهك! بالفتح والضم مع التسكين. والرفيق : كالصديق والخليط في
استواء الواحد والجمع فيه ، ويجوز أن يكون مفرداً ، بين به الجنس في باب التمييز. وروى
أنّ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله
عليه وسلم قليل الصبر عنه ، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في
وجهه فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله ، فقال : يا رسول الله ، ما بى
من وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، فذكرت
الآخرة ، فخفت أن لا أراك هناك ، لأنى عرفت أنك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة
كنت في منزل دون منزلك ، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا ، فنزلت ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه
وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين .» وحكى ذلك عن جماعة من الصحابة (ذلِكَ) مبتدأ و (الْفَضْلُ) صفته و (مِنَ اللهِ) الخبر ، ويجوز أن يكون ذلك مبتدأ ، والفضل من الله خبره ،
والمعنى : أنّ ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم
__________________
ومرافقة المنعم
عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم (وَكَفى بِاللهِ
عَلِيماً) بجزاء من أطاعه أو أراد أنّ فضل المنعم عليهم ومزيتهم من
الله ، لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه وكفى بالله عليما بعباده فهو يوفقهم على حسب
أحوالهم
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً)(٧١)
(خُذُوا حِذْرَكُمْ) الحذر والحذر بمعنى ، كالإثر والأثر ، يقال : أخذ حذره ،
إذا تيقظ واحترز من المخوف ، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها
روحه. والمعنى : احذروا واحترزوا من العدوّ ولا تمكنوه من أنفسكم (فَانْفِرُوا) إذا نفرتم إلى العدوّ. إما (ثُباتٍ) جماعات متفرّقة سرية بعد سرية ، وإما (جَمِيعاً) أى مجتمعين كوكبة واحدة ، ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى
التهلكة. وقرئ : فانفروا بضم الفاء
(وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢)
وَلَئِنْ
أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)(٧٣)
اللام في : (لَمَنْ) للابتداء بمنزلتها في قوله : (إِنَّ اللهَ
لَغَفُورٌ) وفي (لَيُبَطِّئَنَ) جواب قسم محذوف تقديره : وإنّ منكم لمن أقسم بالله ليبطئن
، والقسم وجوابه صلة من ، والضمير الراجع منها إليه ما استكن في : (لَيُبَطِّئَنَّ) والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمبطئون
منهم المنافقون لأنهم كانوا يغزون معهم نفاقا. ومعنى (لَيُبَطِّئَنَّ) ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد وبطأ. بمعنى : أبطأ كعتم
بمعنى : أعتم ، إذا أبطأ ، وقرئ (لَيُبَطِّئَنَّ) بالتخفيف يقال : بطأ على فلان وأبطأ علىّ وبطؤ
__________________
نحو : ثقل ، ويقال
: ما بطأ بك ، فيعدى بالباء ، ويجوز أن يكون منقولا من بطؤ ، نحو؟ ثقل من ثقل ،
فيراد ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو ، وكان هذا ديدن المنافق عبد الله ابن أبىّ ،
وهو الذي ثبط الناس يوم أحد (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ) من قتل أو هزيمة (فَضْلٌ مِنَ اللهِ) من فتح أو غنيمة (لَيَقُولَنَ) وقرأ الحسن (ليقولن) بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى (من)
لأن قوله (لَمَنْ
لَيُبَطِّئَنَّ) في معنى الجماعة وقوله (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل الذي هو (لَيَقُولَنَّ) وبين مفعوله وهو (يا لَيْتَنِي) والمعنى كأن لم تتقدم له معكم موادّة ، لأن المنافقين
كانوا يوادّون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر ، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في
الباطن. والظاهر أنه تهكم. لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم ،
فكيف يوصفون بالمودّة إلا على وجه العكس تهكما بحالهم. وقرئ : فأفوز بالرفع عطفاً
على كنت معهم لينتظم الكون معهم ، والفوز معنى التمني ، فيكونا متمنيين جميعاً ،
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، بمعنى فأنا أفوز في ذلك الوقت
(فَلْيُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ
يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ
أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ
نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)(٧٦)
(يَشْرُونَ) بمعنى يشترون ويبيعون قال ابن مفرغ :
وَشَرَيْتُ
بُرْداً لَيْتَنِى
|
|
مِنْ بَعْدِ
بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
|
__________________
فالذين يشترون
الحياة الدنيا بالآخرة هم المبطئون ، وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا
الإيمان بالله ورسوله ، ويجاهدوا في سبيل الله حق الجهاد ، والذين يبيعون هم
المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها ، والمعنى : إن صدّ
الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون ووعد المقاتل
في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين
الله (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) فيه وجهان أن يكون مجروراً عطفا على سبيل الله أى في سبيل
الله وفي خلاص المستضعفين ، ومنصوبا على اختصاص يعنى واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين لأنّ
سبيل الله عام في كل خير ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدى الكفار من أعظم
الخير وأخصه والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة فبقوا
بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد ، وكانوا يدعون الله بالخلاص
ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل
الله لهم من لدنه خير ولى وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي
ونصرهم أقوى النصر ، ولما خرج استعمل على أهل مكة عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية
والنصرة كما أرادوا ، قال ابن عباس : كان ينصر الضعيف من القوى حتى كانوا أعز بها
من الظلمة. فإن قلت : لم ذكر الولدان؟ قلت : تسجيلا بإفراط ظلمهم ، حيث بلغ أذاهم
الولدان غير المكلفين ، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم ، ولأن
المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم
الذين لم يذنبوا ، كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء ، وعن
ابن عباس : كنت أنا وأمى من المستضعفين من النساء والولدان ، ويجوز أن يراد
بالرجال والنساء الأحرار والحرائر ، وبالولدان العبيد والإماء ، لأنّ العبد والأمة
يقال لهما الوليد والوليدة ، وقيل للولدان
__________________
والولائد «الولدان»
لتغليب الذكور على الإناث كما يقال الآباء والإخوة. فإن قلت : لم ذكر الظالم
وموصوفه مؤنث ؟ قلت : هو وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها ، فأعطى
إعراب القرية لأنه صفتها ، وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول من هذه القرية التي
ظلم أهلها ، ولو أنث فقيل : الظالمة أهلها ، لجاز لا لتأنيث الموصوف ، ولكن لأن
الأهل يذكر ويؤنث. فإن قلت : هل يجوز من هذه القرية الظالمين أهلها؟ قلت : نعم ،
كما تقول : التي ظلموا أهلها ، على لغة من يقول أكلونى البراغيث ، ومنه (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا). رغب الله المؤمنين ترغيبا وشجعهم تشجيعا بإخبارهم أنهم
إنما يقاتلون في سبيل الله. فهو وليهم وناصرهم ، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان
فلا ولىّ لهم إلا الشيطان ، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى جنب كيد الله للكافرين أضعف
شيء وأوهنه.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ
الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(٧٧)
(كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أى كفوها عن القتال وذلك أن المسلمين كانوا مكفوفين عن
مقاتلة الكفار ما داموا بمكة ، وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) بالمدينة كع فريق منهم لا شكا في الدين ولا رغبة عنه ، ولكن نفوراً عن الإخطار
بالأرواح وخوفا من الموت (كَخَشْيَةِ اللهِ) من إضافة المصدر إلى المفعول ، فإن قلت : ما محل (كَخَشْيَةِ اللهِ)
__________________
من الإعراب؟ قلت :
محله النصب على الحال من الضمير في (يَخْشَوْنَ) أى يخشون الناس مثل أهل خشية الله ، أى مشبهين لأهل خشية
الله (أَوْ أَشَدَّ
خَشْيَةً) بمعنى أو أشد خشية من أهل خشية الله ، وأشد معطوف على
الحال. فإن قلت : لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدر يخشون خشية مثل
خشية الله ، بمعنى مثل ما يخشى الله؟ قلت : أبى ذلك قوله : (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) لأنه وما عطف عليه في حكم واحد ، ولو قلت يخشون الناس أشد
خشية؟ لم يكن إلا حالا عن ضمير الفريق ولم ينتصب انتصاب المصدر ، لأنك لا تقول خشي
فلان أشد خشية ، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر ، إنما تقول أشد خشية فتجرّها ، وإذا
نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالا منه ، اللهم إلا أن تجعل الخشية
خاشية وذات خشية ، على قولهم جد جده فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية
الله ، أو خشية أشد خشية من خشية الله ، ويجوز على هذا أن يكون محل (أَشَدَّ) مجروراً عطفاً على : (كَخَشْيَةِ اللهِ) تريد كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ) استزادة في مدة الكف ، واستمهال إلى وقت آخر ، كقوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ). (وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتال فلا ترغبوا
عنه ، وقرئ : ولا يظلمون ، بالياء.
(أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما
لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨)
__________________
ما
أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٧٩)
قرئ (يُدْرِكْكُمُ) بالرفع وقيل : هو على حذف الفاء ، كأنه قيل : فيدرككم الموت ، وشبه بقول القائل
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
ويجوز أن يقال :
حمل على ما يقع موقع (أَيْنَما تَكُونُوا) ، وهو أينما كنتم ، كما حمل «ولا ناعب» على ما يقع موقع «ليسوا
مصلحين» وهو ليسوا بمصلحين ، فرفع كما رفع زهير :
يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِى وَلَا حَرِمُ
__________________
وهو قول نحوى
سيبوى. ويجوز أن يتصل بقوله : (وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) أى ولا تنقصون شيئاً مما كتب من أجالكم. أينما تكونوا في
ملاحم حروب أو غيرها ، ثم ابتدأ قوله : (يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) والوقف على هذا الوجه على أينما تكونوا والبروج : الحصون.
مشيدة مرفعة. وقرئ (مُشَيَّدَةٍ) من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجصّ. وقرأ
نعيم بن ميسرة (مُشَيَّدَةٍ) بكسر الياء وصفا لها بفعل فاعلها مجازاً كما قالوا : قصيدة
شاعرة ، وإنما الشاعر فارضها. السيئة تقع على البلية والمعصية. والحسنة على النعمة
والطاعة. قال الله تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ
بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ). والمعنى : وإن تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى الله ،
وإن تصبهم بلية من قحط وشدة أضافوها إليك وقالوا : هي من عندك ، وما كانت إلا
بشؤمك ، كما حكى الله عن قوم موسى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) وعن قوم صالح : (قالُوا اطَّيَّرْنا
بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) وروى عن اليهود ـ لعنت ـ أنها تشاءمت برسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالوا : منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها ، فردّ الله عليهم (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يبسط الأرزاق ويقبضها على حسب المصالح (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فيعلموا أن الله هو الباسط القابض ، وكل ذلك صادر عن حكمة
وصواب ثم قال (ما أَصابَكَ) يا إنسان خطابا عاما (مِنْ حَسَنَةٍ) أى من نعمة وإحسان (فَمِنَ اللهِ) تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أى من بلية ومصيبة فمن عندك ، لأنك السبب فيها بما اكتسبت
يداك (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وعن عائشة رضى الله عنها : ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب ،
حتى الشوكة يشاكها ، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب ، وما
__________________
يعفو الله أكثر (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) أى رسولا للناس جميعا لست برسول العرب وحدهم ، أنت رسول
العرب والعجم ، كقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) ، (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً). (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) على ذلك ، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك.
(مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً)(٨٠)
(مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به ولا ينهى إلا عما نهى
الله عنه فكانت طاعته في امتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه طاعة لله. وروى
أنه قال : «من أحبنى فقد أحبّ الله ، ومن أطاعنى فقد أطاع الله» فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل ، لقد
قارف الشرك وهو ينهى أن يعبد غير الله! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما
اتخذت النصارى عيسى ، فنزلت (وَمَنْ تَوَلَّى) عن الطاعة فأعرض عنه (فَما أَرْسَلْناكَ) إلا نذيرا ، لا حفيظا ومهيمنا عليهم تحفظ عليهم أعمالهم
وتحاسبهم عليها وتعاقبهم ، كقوله : (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ).
(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ
فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ
وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٨١)
(وَيَقُولُونَ) إذا أمرتهم بشيء (طاعَةٌ) بالرفع أى أمرنا وشأننا طاعة. ويجوز النصب بمعنى أطعناك
طاعة. وهذا من قول المرتسم : سمعا وطاعة ، وسمع وطاعة. ونحوه قول سيبويه : وسمعنا
بعض العرب الموثوق بهم يقال له : كيف أصبحت؟ فيقول : حمد الله وثناء عليه ، كأنه
قال : أمرى وشأنى حمد الله. ولو نصب حمد الله وثناء عليه. كان على الفعل والرفع
يدل على ثبات الطاعة واستقرارها (بَيَّتَ طائِفَةٌ) زورت طائفة وسوت (غَيْرَ الَّذِي
تَقُولُ) خلاف ما قلت وما أمرت به. أو خلاف ما قالت وما ضمنت من
الطاعة ، لأنهم أبطلوا الرد لا القبول ، والعصيان لا الطاعة. وإنما ينافقون بما
يقولون ويظهرون. والتبييت : إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل ،
يقال : هذا أمر بيت بليل. وإما من أبيات الشعر ، لأن الشاعر يدبرها ويسويها (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) يثبته في صحائف أعمالهم ، ويجازيهم عليه على سبيل الوعيد.
أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن إبطانهم يغنى
عنهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تحدّث نفسك بالانتقام منهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في شأنهم ، فإنّ
__________________
الله يكفيك
معرّتهم وينتقم لك منهم إذا قوى أمر الإسلام وعز أنصاره. وقرئ (بَيَّتَ طائِفَةٌ) بالإدغام وتذكير الفعل ، لأنّ تأنيث الطائفة غير حقيقى ،
ولأنها في معنى الفريق والفوج.
(أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً)(٨٢)
تدبُّر الأمر :
تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤل إليه في عاقبته ومنتهاه ، ثم استعمل في كل تأمل
؛ فمعنى تدبر القرآن : تأمل معانيه وتبصر ما فيه (لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً) لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته
ومعانيه ، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز ، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته ، وبعضه
إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالا
على معنى صحيح عند علماء المعاني. وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم ، فلما
تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار ، علم أنه
ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره ، عالم بما لا يعلمه أحد سواه. فإن
قلت : أليس نحو قوله : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ
مُبِينٌ) ، (كَأَنَّها جَانٌّ) ، (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) من الاختلاف؟ قلت : ليس باختلاف عند المتدبرين.
(وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ
أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ
تَنْكِيلاً)(٨٤)
هم ناس من ضعفة
المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان للأمور.
__________________
كانوا إذا بلغهم
خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل (أَذاعُوا بِهِ) وكانت إذاعتهم مفسدة ، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وإلى أولى الأمر منهم ـ وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو
الذين كانوا يؤمرون منهم ـ (لَعَلِمَهُ) لعلم تدبير ما أخبروا به (الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ) الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور
الحرب ومكايدها. وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر
على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار ، فيذيعونه فينتشر
فيبلغ الأعداء ، فتعود إذاعتهم مفسدة. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر
وفوّضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا ، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما
يأتون ويذرون فيه. وقيل : كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن
السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه ، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه
إلى الرسول وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو
لا يذاع ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع
هؤلاء المذيعون ، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر ، أى يتلقونه منهم
ويستخرجون علمه من جهتهم. يقال : أذاع السر ، وأذاع به. قال :
أَذَاعَ بِهِ
فِى النَّاسِ حتَّى كَأَنَّهُ
|
|
بِعَلْيَاءَ
نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوب
|
ويجوز أن يكون
المعنى فعلوا به الإذاعة ، وهو أبلغ من أذاعوه. وقرئ (لَعَلِمَهُ) بإسكان اللام كقوله :
فَإنْ أَهْجُهُ
يَضجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ
|
|
مِنَ الْأُدْمِ
دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وَغَارِبُهْ
|
والنبط : الماء
يخرج من البئر أول ما تحفر ، وإنباطه واستنباطه : إخراجه واستخراجه ، فاستعير لما
يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
__________________
وَرَحْمَتُهُ) وهو إرسال الرسول
، وإنزال الكتاب ، والتوفيق (لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطانَ) لبقيتم على الكفر (إِلَّا قَلِيلاً) منكم. أو إلا اتباعا قليلا ، لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم
عن القتال ، وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها. قال : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللهِ) إن أفردوك وتركوك وحدك (لا تُكَلَّفُ إِلَّا
نَفْسَكَ) غير نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد ، فإنّ الله هو
ناصرك لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل : دعا الناس في
بدر الصغرى إلى الخروج ، وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء
فيها ، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت ، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ،
ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده ، وقرئ (لا تكلف) بالجزم على النهى. ولا نكلف : بالنون
وكسر اللام ، أى لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها (وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ) وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب ، لا التعنيف بهم (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم قريش ، وقد كف بأسهم فقد بدا لأبى سفيان وقال : هذا
عام مجدب ، وما كان معهم زاد إلا السويق ، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من قريش (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تعذيبا.
__________________
(مَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً
يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً)(٨٥)
الشفاعة الحسنة :
هي التي روعي بها حق مسلم ، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير. وابتغى بها وجه الله
ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز لا في حدّ من حدود الله ولا في حق من
الحقوق. والسيئة : ما كان بخلاف ذلك. وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع
جارية ، فغضب وردها وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ، ولا أتكلم
فيما بقي منها وقيل : الشفاعة الحسنة : هي الدعوة للمسلم ، لأنها في معنى الشفاعة
إلى الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب
له قال له الملك : ولك مثل ذلك ، فذلك النصيب» والدعوة على المسلم بضد ذلك (مُقِيتاً) شهيداً حفيظاً. وقيل : مقتدراً. وأقات على الشيء ، قال الزبير بن عبد المطلب :
وَذِى ضِغْنٍ
نَفَيْتُ السُّوءَ عَنْهُ
|
|
وَكُنْتُ عَلَى
إسَاءَتِهِ مُقِيتَا
|
وقال السموأل :
أَلِى الْفَضْلُ
أَمْ عَلَىّ إذَا حُو
|
|
سِبْتُ إنِّى
عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
|
واشتقاقه من القوت
لأنه يمسك النفس ويحفظها.
__________________
(وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً)(٨٦)
الأحسن منها أن
تقول «وعليكم السلام ورحمة الله» إذا قال «السلام عليكم» وأن تزيد «وبركاته» إذا
قال «ورحمة الله» وروى أنّ رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السلام عليك
، فقال «وعليك السلام ورحمة الله» وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله ، فقال «وعليك
السلام ورحمة الله وبركاته» وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال «وعليك»
فقال الرجل : نقصتنى ، فأين ما قال الله؟ وتلا الآية ، فقال «إنك لم تترك لي
فضلا فرددت عليك مثله. (أَوْ رُدُّوها) أو أجيبوها بمثلها. ورد السلام ورجعه : جوابه بمثله ، لأن المجيب
يرد قول المسلم ويكرره ، وجواب التسليمة واجب ، والتخيير إنما وقع بين الزيادة
وتركها. وعن أبى يوسف رحمه الله : من قال لآخر : أقرئ فلانا السلام ، وجب عليه أن
يفعل. وعن النخعي : السلام سنة والردّ فريضة. وعن ابن عباس : الردّ واجب. وما من
رجل يمرّ على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردّون عليه إلا نزع عنهم روح القدس
وردّت عليه الملائكة. ولا يرد السلام في الخطبة ، وقراءة القرآن ، جهراً ورواية
الحديث ، وعند مذاكرة العلم ، والأذان ، والإقامة. وعن أبى يوسف : لا يسلم على
لاعب النرد والشطرنج ، والمغني ، والقاعد لحاجته ، ومطير الحمام ، والعاري من غير
عذر في حمام أو غيره. وذكر الطحاوي : أن المستحب ردّ السلام على طهارة. وعن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه تيمم لردّ السلام . قالوا : ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته ، ولا يسلم على
أجنبية. ويسلم الماشي على القاعد ، والراكب على الماشي ، وراكب الفرس على راكب
الحمار ، والصغير على الكبير ، والأقل على الأكثر. وإذا التقيا ابتدرا. وعن أبى
حنيفة : لا تجهر بالرد يعنى الجهر الكثير. وعن النبي صلى الله عليه وسلم
__________________
«إذا سلم عليكم
أهل الكتاب فقولوا : وعليكم » أى وعليكم ما قلتم ؛ لأنهم كانوا يقولون : السام عليكم.
وروى «لا تبتدئ اليهودىّ بالسلام ، وإن بدأك فقل. وعليك». وعن الحسن : يجوز أن
تقول للكافر : وعليك السلام ، ولا تقل : ورحمة الله ، فإنها استغفار. وعن الشعبي
أنه قال لنصراني سلم عليه : وعليك السلام ورحمة الله. فقيل له في ذلك ، فقال : أليس
في رحمة الله يعيش؟ وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى
ذلك حادثة تحوج إليهم. وروى ذلك عن النخعي. وعن أبى حنيفة : لا تبدأه بسلام في
كتاب ولا غيره. وعن أبى يوسف لا تسلم عليهم ولا تصافحهم ، وإذا دخلت فقل : السلام
على من اتبع الهدى. ولا بأس بالدعاء له بما يصلحه في دنياه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أى يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها.
(اللهُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثا)(٨٧)
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إما خبر للمبتدإ. وإما اعتراض والخبر (لَيَجْمَعَنَّكُمْ). ومعناه : الله والله ليجمعنكم (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أى ليحشرنكم إليه. والقيامة والقيام ، كالطلابة والطلاب ،
وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال الله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ). (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ حَدِيثاً) لأنه عز وعلا صادق لا يجوز عليه الكذب. وذلك أنّ الكذب
مستقل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه. ووجه قبحه ، الذي هو كونه كذبا وإخباراً عن
الشيء بخلاف ما هو عليه ، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب ليجرّ منفعة
أو يدفع مضرة. أو هو غنى عنه إلا أنه يجهل غناه. أو هو جاهل بقبحه. أو هو سفيه لا
يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالى بأيهما نطق ، وربما كان الكذب أحلى على
حنكه من الصدق. وعن بعض السفهاء أنه عوتب على الكذب فقال : لو غرغرت لهواتك به ما
فارقته. وقيل لكذاب : هل صدقت قط؟ فقال : لو لا أنى صادق في قولي «لا» لقلتها.
فكان الحكيم الغنى الذي لا يجوز عليه الحاجات العالم بكل معلوم ، منزها عنه ، كما
هو منزه عن سائر القبائح.
(فَما لَكُمْ فِي
الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)(٨٨)
(فِئَتَيْنِ) نصب على الحال ، كقولك : مالك قائما؟ روى أنّ قوما من
المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين
باجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا
__________________
راحلين مرحلة
مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون فيهم ، فقال بعضهم : هم كفار. وقال
بعضهم : هم مسلمون. وقيل : كانوا قوما هاجروا من مكة ، ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة
والاشتياق إلى بلدنا. وقيل. هم قوم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد
ثم رجعوا. وقيل : هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا بساراً. وقيل هم قوم
أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. ومعناه : ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا
نفاقا ظاهراً وتفرقتم فيه فرقتين وما لكم لم تبتوا القول بكفرهم (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) أى ردهم في حكم المشركين كما كانوا (بِما كَسَبُوا) من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم. أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى أركسوا فيه ، لما علم من
مرض قلوبهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَهْدُوا) أن تجعلوا من جملة المهتدين (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) من جعله من جملة الضلال ، وحكم عليه بذلك أو خذله حتى ضلّ. وقرئ :
ركسهم. وركسوا فيها.
(وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ
آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا
إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)(٩١)
(فَتَكُونُونَ) عطف على : (تَكْفُرُونَ) ولو نصب على جواب التمني لجاز. والمعنى : ودّوا
__________________
كفركم فكونكم معهم
شرعاً واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء. فلا تتولوهم وإن آمنوا حتى
يظاهروا إيمانهم بهجرة صحيحة هي لله ورسوله ـ لا لغرض من أغراض الدنيا ـ مستقيمة
ليس بعدها بداء ولا تعرّب. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة ، فحكمهم
حكم سائر المشركين يقتلون حيث وجدوا في الحلّ والحرم ، وجانبوهم مجانبة كلية ، وإن
بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم (إِلَّا الَّذِينَ
يَصِلُونَ) استثناء من قوله (فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ) ومعنى (يَصِلُونَ إِلى
قَوْمٍ) ينتهون إليهم ويتصلون بهم. وعن أبى عبيدة : هو من الانتساب.
وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتميت إليه. وقيل : إن الانتساب لا أثر له في منع
القتال ، فقد قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من هو من أنسابهم ،
والقوم هم الأسلميون ، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، وذلك
أنه وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على أن لا يعينه ولا يعين عليه
، وعلى أنّ من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقيل : القوم
بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح (أَوْ جاؤُكُمْ) لا يخلو من أن يكون معطوفا على صفة قوم ، كأنه قيل : إلا
الذين يصلون إلى قوم معاهدين ، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم ، أو على
صلة الذين ، كأنه قيل : إلا الذين يتصلون بالمعاهدين ، أو الذين لا يقاتلونكم
والوجه العطف على الصلة لقوله : (فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما
جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) بعد قوله : (فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فقرّر أن كفهم عن القتال أحد سببى استحقاقهم لنفى التعرض
عنهم وترك الإيقاع بهم. فإن قلت : كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء
، واستحقاق إزالة التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالمكافين ، لأنّ الاتصال
بهؤلاء أو هؤلاء دخول في حكمهم ، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قوم ، ويكون
قوله : (فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ) تقريراً لحكم اتصالهم بالمكافين واختلاطهم بهم وجريهم على
سننهم؟ قلت : هو جائز ، ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام. وفي قراءة أبىّ :
بينكم وبينهم ميثاق جاؤكم حصرت صدورهم ، بغير أو. ووجهه أن يكون (جاؤُكُمْ) بياناً ليصلون ، أو بدلا أو استئنافا ، أو صفة بعد صفة
لقوم. حصرت صدورهم في موضع الحال بإضمار قد. والدليل عليه قراءة من قرأ : حصرة
صدورهم. وحصرات صدورهم. وحاصرات صدورهم. وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف على : أو
جاؤكم قوماً حصرت صدورهم. وقيل : هو بيان لجاؤكم ، وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين. والحصر الضيق والانقباض (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) عن أن يقاتلوكم. أو كراهة أن يقاتلوكم. فإن قلت : كيف يجوز
أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين؟ قلت : ما كانت مكافتهم إلا
__________________
لقذف الله الرعب
في قلوبهم ، ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه ، فكانوا متسلطين
مقاتلين غير مكافين ، فذلك معنى التسليط. وقرئ : فلقتلوكم ، بالتخفيف والتشديد (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) فإن لم يتعرضوا لكم (وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أى الانقياد والاستسلام. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سَبِيلاً) فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) هم قوم من بنى أسد وغطفان ، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا
وعاهدوا ليأمنوا المسلمين ، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين (أُرْكِسُوا فِيها) قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه ، وكانوا شراً فيها من كل عدوّ
(حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ) حيث تمكنتم منهم (سُلْطاناً مُبِيناً) حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر ،
وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهراً حيث أذنا لكم في قتلهم.
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)(٩٣)
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله ، كقوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) ، (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ
نَعُودَ فِيها). (أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِناً) ابتداء غير قصاص (إِلَّا خَطَأً) إلا على وجه الخطإ. فإن قلت : بم انتصب خطأ؟ قلت : بأنه
مفعول له ، أى ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطإ وحده. ويجوز أن يكون
حالا بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطإ ، وأن يكون صفة للمصدر
إلا قتلا خطأ. والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء
البتة ، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد ، بأن يرمى كافراً فيصيب مسلما ، أو يرمى
شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقرئ : خطاء ـ بالمد ـ وخطا ، بوزن عمى ـ بتخفيف
الهمزة ـ وروى أنّ عياش بن أبى ربيعة ـ وكان أخا أبى جهل لأمّه ـ أسلم وهاجر خوفا
من قومه إلى المدينة ، وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقسمت أمه
لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى
أنيسة فأتياه
وهو في أطم فقتل منه أبو جهل في الذروة والغارب ، وقال : أليس محمد
يحثك على صلة الرحم ، انصرف وبرّ أمك وأنت على دينك ، حتى نزل وذهب معهما ، فلما
فسحا عن المدينة كتفاه ، وجلده كل واحد مائة جلدة ، فقال للحارث : هذا أخى ، فمن
أنت يا حارث؟ لله علىّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك ، وقدما به على أمه ، فحلفت لا يحل
كتافه أو يرتد ، ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم ، وأسلم الحارث وهاجر ، فلقيه عياش
بظهر قباء ـ ولم يشعر بإسلامه ـ فأنحى عليه فقتله ، ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه ، فنزلت (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فعليه تحرير رقبة. والتحرير : الإعتاق. والحر والعتيق :
الكريم ، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه : عتاق الخيل ، وعتاق
الطير لكرامها. وحرّ الوجه : أكرم موضع منه. وقولهم للئيم «عبد» وفلان عبد الفعل :
أى لئيم الفعل. والرقبة : عبارة عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان
يملك كذا رأساً من الرقيق. والمراد برقبة مؤمنة : كل رقبة كانت على حكم الإسلام
عند عامة العلماء. وعن الحسن : لا تجزئ إلا رقبة قد صلت وصامت ، ولا تجزئ الصغيرة.
وقاس عليها الشافعي كفارة الظهار ، فاشترط الإيمان. وقيل : لما أخرج نفسا مؤمنة عن
جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأنّ إطلاقها من قيد
الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث ، لا فرق
بينها وبين سائر التركة في كل شيء ، يقضى منها الدين ، وتنفذ الوصية وإن لم يبق
وارثا فهي لبيت المال ، لأن المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم «أنا وارث من لا وارث له» وعن عمر رضى الله عنه أنه قضى بدية المقتول ، فجاءت امرأته
تطلب ميراثها من عقله فقال : لا أعلم لك شيئاً ، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون
عنه. فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال : كتب إلىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمرنى أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. فورّثها عمر ، وعن ابن مسعود:
__________________
يرث كل وارث من
الدية غير القاتل. وعن شريك : لا يقضى من الدية دين ، ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة :
الغرة لأم الجنين وحدها ، وذلك خلاف قول الجماعة. (فان قلت) : على من تجب الرقبة
والدية؟ قلت : على القاتل إلا أن الرقبة في ماله ، والدية تتحملها عنه العاقلة ،
فإن لم تكن له عاقلة فهي في بيت المال ، فإن لم يكن ففي ماله (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) إلا أن يتصدقوا عليه بالدية ومعناه العفو ، كقوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ونحوه (وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة » ، وقرأ أبىّ : إلا أن يتصدقوا. فإن قلت : بم تعلق أن
يصدقوا ، وما محله؟ قلت : تعلق بعليه ، أو بمسلمة ، كأنه قيل : وتجب عليه الدية أو
يسلمها ، إلا حين يتصدقون عليه. ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان ،
كقولهم : اجلس ما دام زيد جالسا. ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) من قوم كفار أهل حرب وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار وهو
بين أظهرهم لم يفارقهم ، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على عاقلته لأهله
شيء. لأنهم كفار محاربون. وقيل : كان الرجل يسلم ؛ ثم يأتى قومه وهم مشركون فيغزوهم
جيش المسلمين ، فيقتل فيهم خطأ لأنهم يظنونه كافراً مثلهم (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ) كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة
من الكتابيين ، فحكمه حكم مسلم من مسلمين (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة ، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها (ف) عليه (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ
تَوْبَةً مِنَ اللهِ) قبولا من الله ورحمة منه ، من تاب الله عليه إذا قبل توبته
يعنى شرع ذلك توبة منه ، أو نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه. هذه الآية فيها
من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ. ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن
توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة . وعن سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا :
__________________
لا توبة له ، وذلك
محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد ، وإلا فكل ذنب ممحو
بالتوبة. وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل
امرئ مسلم وفيه «لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك في
دمه » وفيه «إن هذا الإنسان بنيان الله. ملعون من هدم بنيانه» وفيه «من أعان على
قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ». والعجب من قوم يقرؤن هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة ،
وقول ابن عباس بمنع التوبة. ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم
هواهم وما يخيل إليهم مناهم ، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة ، أفلا
يتدبرون القرآن ، أم على قلوب أقفالها؟ ثم ذكر الله سبحانه وتعالى التوبة في قتل
الخطأ ، لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ
__________________
فيه حسم للأطماع
وأى حسم ، ولكن لا حياة لمن تنادى. فإن قلت : هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت : ما أبين الدليل وهو تناول قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ) أىَّ قاتل كان ، من مسلم أو كافر ، تائب أو غير تائب ، إلا
أن التائب أخرجه الدليل. فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(٩٤)
(فَتَبَيَّنُوا) وقرئ : فتثبتوا ، وهما من التفعل بمعنى الاستفعال ـ أى
اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه من غير روية . وقرئ : السلم. والسلام وهما الاستسلام. وقيل : الإسلام.
وقيل : التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام (لَسْتَ مُؤْمِناً) وقرئ (مؤمنا) بفتح الميم من آمنه ، أى لا نؤمنك ، وأصله أن
مرادس بن نهيك رجلا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره ، فغزتهم سرية
لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليها غالب بن فضالة الليثي ، فهربوا وبقي
مرداس لثقته بإسلامه ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد ، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال : لا
إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه ،
فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجداً شديدا وقال : قتلتموه إرادة ما
معه ، ثم قرأ الآية على أسامة ، فقال : يا رسول الله استغفر لي. قال فكيف بلا إلا
إلا الله ، قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم
استغفر لي وقال : أعتق رقبة (تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) تطلبون الغنيمة
__________________
التي هي حطام سريع
النفاد ، فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوّذ به من
التعرض له لتأخذوا ماله (كَذلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ) أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة ،
فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم ، وإن صرتم أعلاما
فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في
المكافة ، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية ، فتجعلوه سلما إلى
استباحة دمه وماله وقد حرّمهما الله وقوله (فَتَبَيَّنُوا) تكرير للأمر بالتبين ليؤكد عليهم (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً) فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
(لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ
الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ
وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٩٦)
(غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ) قرئ بالحركات الثلاث ، فالرفع صفة للقاعدون ، والنصب
استثناء منهم أو حال عنهم ، والجرّ صفة للمؤمنين. والضرر : المرض ، أو العاهة من
عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها. وعن زيد بن ثابت : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فغشيته السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ، ثم سرى عنه
فقال : اكتب فكتبت في كتف (لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) فقال ابن أمّ مكتوم وكان أعمى : يا رسول الله ، وكيف بمر
لا يستطيع الجهاد من المؤمنين. فغشيته السكينة كذلك ، ثم قال : اقرأ يا زيد ،
فقرأت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فقال غير أولى الضرر. قال زيد : أنزلها الله وحدها ،
فألحقتها. والذي نفسي بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع في الكتف . وعن ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون
إليها. وعن مقاتل : إلى تبوك. فإن قلت : معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا
يستويان ، فما فائدة نفى الاستواء؟ قلت : معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت
العظيم والبون البعيد ، ليأنف القاعد ويترقع بنفسه عن انحطاط
__________________
منزلته ، فيهتز
للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته ، ونحوه (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلم ، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) جملة موضحة لما نفى من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه
قيل : ما لهم لا يستوون ، فأجيب بذلك. والمعنى على القاعدين غير أولى الضرر لكون
الجملة بيانا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف (وَكُلًّا) وكل فريق من القاعدين والمجاهدين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أى المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على
القاعدين درجة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم
مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد ، وبهم ما يمنعهم من المسير
من ضرر أو غيره. فإن قلت : قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات ، فمن هم؟
قلت : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء وأما
المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم
، لأن الغزو فرض كفاية. فإن قلت : لم نصب (دَرَجَةً) و (أَجْراً) و (دَرَجاتٍ)؟ قلت : نصب قوله : (دَرَجَةً) لوقوعها موقع المرة من التفضيل ، كأنه قيل فضلهم تفضيلة
واحدة. ونظيره قولك : ضربه سوطا ، بمعنى ضربه ضربة. وأما (أَجْراً) فقد انتصب بفضل ، لأنه في معنى أجرهم أجرا ودرجات ، ومغفرة
، ورحمة : بدل من أجر. أو يجوز أن ينتصب (دَرَجاتٍ) نصب درجة ، كما تقول : ضربه أسواطا بمعنى ضربات ، كأنه قيل
: وفضله تفضيلات. ونصب (أَجْراً عَظِيماً) على أنه حال عن النكرة التي هي درجات مقدمة عليها ، وانتصب
مغفرة ورحمة بإضمار فعلهما بمعنى : وغفر لهم ورحمهم ، مغفرة ورحمة.
(إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى
اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)(٩٩)
__________________
(تَوَفَّاهُمُ) يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ : توفتهم. ومضارعا بمعنى
تتوفاهم ، كقراءة من قرأ : توفاهم ، على مضارع وفيت ، بمعنى أن الله يوفى الملائكة
أنفسهم فيتوفونها ، أى يمكنهم من استيفائها فيستوفونها (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في حال ظلمهم أنفسهم (قالُوا) قال الملائكة للمتوفين (فِيمَ كُنْتُمْ) في أى شيء كنتم من أمر دينكم. وهم ناس من أهل مكة أسلموا
ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة. فإن قلت : كيف صح وقوع قوله (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) جواباً عن قولهم (فِيمَ كُنْتُمْ)؟ وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟
قلت : معنى (فِيمَ كُنْتُمْ) للتوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين ، حيث قدروا على
المهاجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا
بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء ، فبكتتهم الملائكة
بقولهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد
التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا
يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب ، لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا
تنحصر ، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة ـ حقت عليه المهاجرة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض
استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام» . اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني
فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجوّ من فضلك والمبتغى من رحمتك وصل جواري لك
بعكوفى عند بيتك ، بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة. ثم استثنى من أهل الوعيد
المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج لفقرهم وعجزهم ولا معرفة لهم
بالمسالك. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة ،
فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني ، فإنى لست من المستضعفين ،
وإنى لأهتدى الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة. فحملوه على سرير متوجها إلى
المدينة وكان شيخا كبيراً فمات بالتنعيم . فإن قلت : كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل
الوعيد ، كأنهم كانوا يستحقون الوعيد مع الرجال والنساء
__________________
لو استطاعوا حيلة
واهتدوا سبيلا؟ قلت : الرجال والنساء قد يكونون مستطيعين مهتدين وقد لا يكونون
كذلك. وأما الولدان فلا يكونون إلا عاجزين عن ذلك ، فلا يتوجه عليهم وعيد ؛ لأن
سبب خروج الرجال والنساء من جملة أهل الوعيد إنما هو كونهم عاجزين ، فإذا كان
العجز متمكنا في الولدان لا ينفكون عنه ، كانوا خارجين من جملتهم ضرورة. هذا إذا
أريد بالولدان الأطفال ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال
والنساء فيلحقوا بهم في التكليف. وإن أريد بهم العبيد والإماء البالغون فلا سؤال.
فإن قلت : الجملة التي هي (لا يَسْتَطِيعُونَ) ما موقعها؟ قلت : هي صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء
والولدان. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات ، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس
لشيء بعينه ، كقوله :
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِى
فإن قلت : لم قيل (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بكلمة الإطماع؟ قلت : للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق
لا توسعة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى الله أن يعفو عنى
، فكيف بغيره.
(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ
مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) (مُراغَماً) مهاجراً وطريقا يراغم بسلوكه قومه ، أى يفارقهم على رغم
أنوفهم. والرغم :الذلّ والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام ـ وهو التراب ـ يقال :
راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك. قال النابغة الجعدي :
كَطَوْدٍ
يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ
|
|
عَزِيزِ
الْمَرَاغِمِ وَالْمَذْهَبِ
|
__________________
وقرئ : مرغما.
وقرئ (ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقيل : رفع الكاف منقول من الهاء
كأنه أراد أن يقف عليها ، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف ، كقوله :
مِنْ عَنَزِيّ سَبَّنِى لَمْ أضْرِبْهُ
وقرئ (يُدْرِكْهُ) بالنصب على إضمار أن ، كقوله :
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
(فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فقد وجب ثوابه عليه : وحقيقة الوجوب : الوقوع والسقوط (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) ووجبت الشمس : سقط قرصها. والمعنى : فقد علم الله كيف
يثيبه وذلك واجب عليه . وروى في قصة جندب بن ضمرة : أنه لما أدركه الموت أخذ يصفق
بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك ، وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك عليه
رسولك. فمات حميدا فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لو توفى
بالمدينة لكان أتم أجرا ، وقال المشركون وهم يضحكون : ما أدرك هذا ما طلب. فنزلت.
وقالوا : كل هجرة لغرض دينى ـ من طلب علم ، أو حج ، أو جهاد ، أو فرار إلى بلد
يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا ، أو ابتغاء رزق طيب ـ فهي هجرة إلى
الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه ، فأجره واقع على الله
__________________
وَإِذا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ
كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً)(١٠١)
الضرب في الأرض :
هو السفر. وأدنى مدة السفر الذي يجوز فيه القصر عند أبى حنيفة : مسيرة ثلاثة أيام
ولياليهنّ سير الإبل ومشى الأقدام على القصد ، ولا اعتبار بإبطاء الضارب وإسراعه. فلو
سار مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ في يوم ، قصر. ولو سار مسيرة يوم في ثلاثة أيام ،
لم يقصر. وعند الشافعي. أدنى مدة السفر أربعة برد مسيرة يومين. وقوله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ظاهره التخيير بين القصر والإتمام ، وأن الإتمام أفضل.
وإلى التخيير ذهب الشافعي. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم في السفر . وعن عائشة رضى الله عنها : اعتمرت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت يا رسول الله ، بأبى أنت وأمى
، قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت. فقال : أحسنت يا عائشة وما عاب علىّ . وكان عثمان رضى الله عنه يتم ويقصر . وعند أبى حنيفة رحمه الله : القصر في السفر عزيمة غير
رخصة لا يجوز غيره. وعن عمر رضى الله عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على
لسان نبيكم . وعن عائشة رضى الله عنها : أول ما فرضت الصلاة فرضت
ركعتين ركعتين ، فأقرت في السفر ، وزيدت في الحضر . فإن قلت : فما تصنع بقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) قلت : كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن
عليهم نقصانا في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وقرئ
: تقصروا من أقصر. وجاء في الحديث إقصار الخطبة بمعنى تقصيرها . وقرأ الزهري (تقصروا) بالتشديد. والقصر
__________________
ثابت بنص الكتاب
في حال الخوف خاصة ، وهو قوله (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وأمّا في حال الأمن فبالسنة ، وفي قراءة عبد الله : من
الصلاة أن يفتنكم ليس فيها (إِنْ خِفْتُمْ) على أنه مفعول له ، بمعنى : كراهة أن يفتنكم. والمراد
بالفتنة : القتال والتعرّض بما يكره
(وَإِذا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ
تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتاباً مَوْقُوتاً)(١٠٣)
(وَإِذا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) يتعلق بظاهره من لا يرى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، حيث شرط كونه فيهم : وقال من رآها بعده : إن الأئمة نواب عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في كل عصر ، قوّام بما كان يقوم به فكان الخطاب له متناولا لكل
إمام يكون حاضر الجماعة في حال الخوف ، عليه أن يؤمّهم كما أمّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم الجماعات التي كان يحضرها. والضمير في : (فِيهِمْ) للخائفين (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ) فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصل بهم (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) الضمير إمّا للمصلين وإمّا لغيرهم فإن كان للمصلين فقالوا : يأخذون من السلاح
ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ونحوهما. وإن
__________________
كان لغيرهم فلا
كلام فيه (فَإِذا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا) يعنى غير المصلين (مِنْ وَرائِكُمْ) يحرسونكم وصفة صلاة الخوف عند أبى حنيفة : أن يصلى الإمام
بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين ـ والأخرى بإزاء العدو ـ ثم تقف هذه
الطائفة بإزاء العدو وتأتى الأخرى فيصلى بها ركعة ويتم صلاته. ثم تقف بإزاء العدوّ
، وتأتى الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تحرس ، وتأتى الأخرى فتؤدي
الركعة بقراءة وتتم صلاتها. والسجود على ظاهره عند أبى حنيفة. وعند مالك بمعنى
الصلاة ، لأن الإمام يصلى عنده بطائفة ركعة ويقف قائما حتى تتم صلاتها وتسلم وتذهب
، ثم يصلى بالثانية ركعة ويقف قاعداً حتى تتم صلاتها ، ويسلم بهم. ويعضده (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ). وقرئ : وأمتعاتكم : فإن قلت : كيف جمع بين الأسلحة وبين
الحذر في الأخذ . قلت : جعل الحذر وهو التحرّز والتيقظ آلة يستعملها الغازي
، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ ، وجعلا مأخوذين. ونحوه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
وَالْإِيمانَ) جعل الإيمان مستقراً لهم ومتبوأ لتمكّنهم فيه فلذلك جمع
بينه وبين الدار في التبوّء (فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ) فيشدون عليكم شدة واحدة. ورخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل
عليهم حملها بسبب ما يبلهم في مطر أو يضعفهم من مرض ، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر
لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو. فإن قلت : كيف طابق الأمر بالحذر قوله (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً)؟ قلت : الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبته واعتزازه ،
فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ الله يهين عدوهم ويخذله وينصرهم عليه ، لتقوى
قلوبهم ، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك ، وإنما هو تعبد من الله كما قال : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ). (فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ) فإذا صليتم في حال الخوف والقتال (فَاذْكُرُوا اللهَ) فصلوها (قِياماً) مسايفين ومقارعين (وَقُعُوداً) جاثين على الركب مرامين (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) مثخنين بالجراح (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ) حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق
والانزعاج (إِنَّ الصَّلاةَ
__________________
كانَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) محدوداً بأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أى حال
كنتم ، خوف أو أمن. وهذا ظاهر على مذهب الشافعي رحمه الله في إيجابه الصلاة على
المحارب في حالة المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها ، فإذا اطمأن
فعليه القضاء. وأما عند أبى حنيفة رحمه الله فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن.
وقيل : معناه فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر الله مهللين مكبرين مسبحين داعين
بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع ، فإن ما أنتم فيه من خوف
وحرب جدير بذكر الله ودعائه واللجأ إليه (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ) فإذا أقمتم (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) فأتموها.
(وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً)(١٠٤)
(وَلا تَهِنُوا) ولا تضعفوا ولا تتوانوا (فِي ابْتِغاءِ
الْقَوْمِ) في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم ، ثم ألزمهم الحجة
بقوله : (إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ) أى ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم ،
إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم يصيبهم كما يصيبكم ، ثم إنهم يصبرون عليه ويتشجعون
، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم ، مع أنكم أولى منهم بالصبر لأنكم (تَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) من إظهار دينكم على سائر الأديان ، ومن الثواب العظيم في
الآخرة. وقرأ الأعرج : أن تكونوا تألمون ، بفتح الهمزة ، بمعنى : ولا تهنوا لأن
تكونوا تألمون. وقوله : (فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) تعليل. وقرئ : فإنهم ييلمون كما تيلمون. وروى أن هذا في
بدر الصغرى ، كان بهم جراح فتواكلوا (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) لا يكلفكم شيئاً ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا لما هو عالم به
مما يصلحكم.
(إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ
إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(١٠٦)
روى أنّ طعمة بن
أبيرق أحد بنى ظفر سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق ، فجعل
الدقيق ينتثر من خرق فيه ، وخبأها عند زيد بن السمين رجل من اليهود ، فالتمست
الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها ، وما له بها علم ، فتركوه واتبعوا أثر
الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها ، فقال : دفعها إلىّ طعمة ، وشهد له
ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا إن لم تفعل هلك وافتضح وبريء اليهودي ، فهمَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب
اليهودي. وقيل :
هم أن يقطع يده فنزلت. وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة
ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله (بِما أَراكَ اللهُ) بما عرفك وأوحى به إليك. وعن عمر رضى الله عنه : لا يقولنّ
أحدكم قضيت بما أرانى الله ، فإنّ الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم
، ولكن ليجتهد رأيه ، لأن الرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
مصيباً ، لأن الله كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكلف (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبرآء ، يعنى لا تخاصم
اليهود لأجل بنى ظفر (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما هممت به من عقاب اليهودي.
(وَلا تُجادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً
رَحِيماً)(١١٠)
(يَخْتانُونَ
أَنْفُسَهُمْ) يخونونها بالمعصية. كقوله : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما لها :
لأنّ الضرر راجع إليهم. فإن قلت : لم قيل (لِلْخائِنِينَ) و (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) وكان السارق طعمة وحده؟ قلت : لوجهين ، أحدهما : أنّ بنى
ظفر شهدوا له بالبراءة ونصروه ، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني : أنه جمع
ليتناول طعمة وكل من خان خيانته ، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه. فإن قلت : لم
قيل (خَوَّاناً أَثِيماً) على المبالغة؟ قلت : كان الله عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة
وركوب المآثم ، ومن كانت تلك
__________________
خاتمة أمره لم يشك
في حاله. وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر رضى الله
عنه أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكى وتقول : هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه.
فقال : كذبت ، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة (يَسْتَخْفُونَ) يستترون (مِنَ النَّاسِ) حياء منهم وخوفا من ضررهم (وَلا يَسْتَخْفُونَ
مِنَ اللهِ) ولا يستحيون منه (وَهُوَ مَعَهُمْ) وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خاف من سرهم ، وكفى
بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم
إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح
والافتضاح (يُبَيِّتُونَ) يدبرون ويزوّرون وأصله أن يكون بالليل (ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ) وهو تدبير طعمة أن يرمى بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه
ويحلف ببراءته. فإن قلت : كيف سمى التدبير قولا ، وإنما هو معنى في النفس؟ قلت :
لما حدّث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز. ويجوز أن يراد بالقول : الحلف الكاذب
الذي حلف به بعد أن بيته ، وتوريكه الذنب على اليهودي (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ها للتنبيه في أنتم. وأولاء : وهما مبتدأ وخبر. و (جادَلْتُمْ) جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا ، كما تقول لبعض الأسخياء :
أنت حاتم ، تجود بمالك ، وتؤثر على نفسك. ويجوز أن يكون (أولاء) اسما موصولا بمعنى
الذين ، وجادلتم صلته. والمعنى : هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا ، فمن
يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه. وقرأ عبد الله : عنه ، أى عن طعمة (وَكِيلاً) حافظا ومحاميا من بأس الله وانتقامه (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) قبيحا متعدّيا يسوء به غيره ، كما فعل طعمة بقتادة
واليهودي (أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ) بما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل : ومن يعمل سوءا من ذنب
دون الشرك ، أو يظلم نفسه بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه
الحجة ، مع العلم بما يكون منه. أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه.
(وَمَنْ يَكْسِبْ
إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
وَإِثْماً مُبِيناً)(١١٢)
(فَإِنَّما يَكْسِبُهُ
عَلى نَفْسِهِ) أى لا يتعدّاه ضرره إلى غيره فليبق على نفسه من كسب السوء
__________________
(خَطِيئَةً) صغيرة (أَوْ إِثْماً) أو كبيرة (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
بَرِيئاً) كما رمى طعمة زيداً (فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتاناً وَإِثْماً) لأنه بكسب الإثم «آثم» وبرمي البريء «باهت» فهو جامع بين
الأمرين. وقرأ معاذ بن جبل رضى الله عنه : ومن يكسب ، بكسر الكاف والسين المشددة
وأصله يكتسب.
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما
يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ
عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(١١٣)
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) أى عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرّهم (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) من بنى ظفر (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن القضاء بالحق وتوخى طريق العدل ، مع علمهم بأن الجاني
هو صاحبهم ، فقد روى أن ناسا منهم كانوا يعلمون كنه القصة (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن وباله عليهم (وَما يَضُرُّونَكَ
مِنْ شَيْءٍ) لأنك إنما عملت بظاهر الحال ، وما كان يخطر ببالك أن
الحقيقة على خلاف ذلك (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ) من خفيات الأمور وضمائر القلوب ، أو من أمور الدين
والشرائع. ويجوز أن يراد بالطائفة بنو ظفر ، ويرجع الضمير في : (مِنْهُمْ) إلى الناس. وقيل : الآية في المنافقين.
(لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١١٤)
(لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) من تناجي الناس (إِلَّا مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ) إلا نجوى من أمر ، على أنه مجرور بدل من كثير ، كما تقول :
لا خير في قيامهم إلا قيام زيد. ويجوز أن يكون منصوبا على الانقطاع ، بمعنى : ولكن
من أمر بصدقة ، ففي نجواه الخير. وقيل : المعروف القرض. وقيل إغاثة الملهوف. وقيل
هو عامّ في كل جميل. ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل
التطوّع. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما
كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله» وسمع سفيان رجلا يقول : ما أشد هذا الحديث. فقال : ألم
تسمع الله يقول (لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ
__________________
مِنْ
نَجْواهُمْ) فهو هذا بعينه. أو
ما سمعته يقول (وَالْعَصْرِ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) فهو هذا بعينه وشرط في استيجاب الأجر العظيم أن ينوى فاعل
الخير عبادة الله والتقرّب به إليه ، وأن يبتغى به وجهه خالصاً ، لأن الأعمال
بالنيات. فإن قلت : كيف قال : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) ثم قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) قلت : قد ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله ، لأنه إذا
دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل. ثم قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم ، ويجوز أن يراد
: ومن يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر الأفعال ، وقرئ :
يؤتيه ، بالياء.
(وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً
(١١٥) إِنَّ
اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ
وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ
وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً)(١١٩)(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما
يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً)(١٢١)
(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وهو السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي القيم ، وهو
دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها ، كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة ،
لأنّ الله عز وعلا جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين ، وبين مشاقة الرسول في الشرط
، وجعل جزاءه الوعيد الشديد ، فكان اتباعهم واجبا كموالاة الرسول عليه الصلاة
والسلام. قوله (نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى) نجعله واليا لما تولى من الضلال ، بأن نخذله ونخلى بينه
وبين ما اختاره (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) وقرئ : ونصله ، بفتح النون ، من صلاه. وقيل : هي في طعمة
وارتداده وخروجه إلى مكة (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) تكرير للتأكيد ، وقيل : كرّر لقصة طعمة : وروى : أنه مات
مشركا. وقيل : جاء شيخ من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنى شيخ
منهمك في الذنوب ، إلا أنى لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ، ولم أتخذ من
دونه ولياً ، ولم أوقع المعاصي جرأة
على الله ولا
مكابرة له ، وما توهمت طرفة عين أنى أعجز الله هربا ، وإنى لنادم تائب مستغفر ،
فما ترى حالى عند الله؟ فنزلت. وهذا الحديث ينصر قول من فسر (لِمَنْ يَشاءُ) بالتائب من ذنبه (إِلَّا إِناثاً) هي اللات والعزى ومناة. وعن الحسن لم يكن حىّ من أحياء
العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بنى فلان. وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم
هنّ بنات الله. وقيل : المراد الملائكة. لقولهم : الملائكة بنات الله. وقرئ أنثا ،
جمع أنيث أو أناث. ووثناً. وأثنا ، بالتخفيف والتثقيل جمع وثن ، كقولك أسد وأسد
وأسد. وقلب الواو ألفا نحو «أُجوه» في وجوه. وقرأت عائشة رضى الله عنها : أوثاناً (وَإِنْ يَدْعُونَ) وإن يعبدون بعبادة الأصنام (إِلَّا شَيْطاناً) لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه فجعلت طاعتهم له
عبادة. و (لَعَنَهُ اللهُ
وَقالَ لَأَتَّخِذَنَ) صفتان بمعنى شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا
القول الشنيع (نَصِيباً مَفْرُوضاً) مقطوعاً واجباً فرضته لنفسي من قولهم : فرض له في العطاء ،
وفرض الجند رزقه. قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعين إلى النار (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأمانى الباطلة من طول الأعمار ، وبلوغ الآمال ، ورحمة الله للمجرمين بغير
توبة والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ونحو ذلك. وتبتيكهم الآذان فعلهم
بالبحائر ، كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً ، وحرموا
على أنفسهم الانتفاع بها. وتغييرهم خلق الله : فقء عين الحامى وإعفاؤه عن الركوب.
وقيل : الخصاء ، وهو في قول عامة العلماء مباح في البهائم. وأما في بنى آدم
فمحظور. وعند أبى حنيفة : يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم ، لأن الرغبة
فيهم تدعو إلى خصائهم. وقيل : فطرة الله التي هي دين الإسلام. وقيل للحسن : إن
عكرمة يقول هو الخصاء ، فقال : كذب عكرمة ، هو دين الله. وعن
__________________
ابن مسعود : هو
الوشم. وعنه : لعن الله الواشرات والمتنمصات والمستوشمات المغيرات خلق الله . وقيل التخنث.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً)(١٢٢)
(وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران : الأول مؤكد لنفسه ، والثاني مؤكد لغيره (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) توكيد ثالث بليغ. فإن قلت : ما فائدة هذه التوكيدات؟ قلت :
معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وأمانيه الباطلة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه
، ترغيباً للعباد في إيثار ما يستحقون به تنجز وعد الله ، على ما يتجرعون في
عاقبته غصص إخلاف مواعيد الشيطان.
(لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً)(١٢٤)
في (لَيْسَ) ضمير وعد الله ، أى ليس ينال ما وعد الله من الثواب (بِأَمانِيِّكُمْ وَلا) ب (أَمانِيِّ أَهْلِ
الْكِتابِ) والخطاب للمسلمين لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به ،
وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد الله. وعن مسروق والسدى
: هي في المسلمين. وعن الحسن : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه
العمل ، إن قوما ألهتهم أمانى المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا
: نحسن الظنّ بالله وكذبوا ، لو أحسنوا الظنّ بالله لأحسنوا العمل له. وقيل : إنّ
المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل
كتابكم. وقال المسلمون : نحن أولى منكم ، نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضى على
الكتب التي كانت قبله. فنزلت. ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم : إن كان
الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالا (لَأُوتَيَنَّ مالاً
وَوَلَداً) ، (إِنَّ لِي عِنْدَهُ
لَلْحُسْنى) وكان أهل الكتاب يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه. لن
تمسنا النار إلا أياماً معدودة. ويعضده
__________________
تقدم ذكر أهل
الشرك قبله. وعن مجاهد : إن الخطاب للمشركين. قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ) بعد ذكر تمنى أهل الكتاب ، نحو من قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ
بِهِ خَطِيئَتُهُ) وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عقيب قوله : (وَقالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وإذا أبطل الله الأمانى وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل ،
وأن من أصلح عمله فهو الفائز. ومن أساء عمله فهو الهالك : تبين الأمر ووضح ، ووجب
قطع الأمانى وحسم المطامع ، والإقبال على العمل الصالح. ولكنه نصح لا تعيه الآذان
ولا تلقى إليه الأذهان. فإن قلت : ما الفرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت :
الأولى للتبعيض ، أراد : ومن يعمل بعض الصالحات ؛ لأنّ كلا لا يتمكن من عمل كل
الصالحات لاختلاف الأحوال ، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه. وكم من مكلف
لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة ، وتسقط عنه الصلاة في بعض الأحوال. والثانية لتبيين
الإبهام في : (مَنْ يَعْمَلْ) فإن قلت : كيف خص الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم
في ذلك ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون الراجع في : (وَلا يُظْلَمُونَ) لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً. والثاني أن يكون ذكره
عند أحد الفريقين دالا على ذكره عند الآخر ، لأن كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا
تفاوت بينهم ، ولأن ظلم المسيء أن يزاد في عقابه ، وأرحم الراحمين معلوم أنه لا
يزيد في عقاب المجرم ، فكان ذكره مستغنى عنه وأما المحسن فله ثواب وتوابع للثواب
من فضل الله هي في حكم الثواب ، فجاز أن ينقص من الفضل لأنه ليس بواجب ، فكان نفى
الظلم دلالة على أنه لا يقع نقصان في الفضل
(وَمَنْ أَحْسَنُ
دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)(١٢٥)
(أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ) أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا تعرف لها ربا ولا
معبوداً سواه
__________________
(وَهُوَ مُحْسِنٌ) وهو عامل للحسنات تارك للسيئات (حَنِيفاً) حال من المتبع ، أو من إبراهيم كقوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما
كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو الذي تحنف أى مال عن الأديان كلها إلى دين الإسلام (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند
خليله. والخليل : المخال ، وهو الذي يخالك أى يوافقك في خلالك ، أو يسايرك في
طريقك ، من الخل : وهو الطريق في الرمل ، أو يسدّ خللك كما تسدّ خلله ، أو يداخلك
خلال منازلك وحجبك. فإن قلت : ما موقع هذه الجملة؟ قلت : هي جملة اعتراضية لا محل
لها من الإعراب ، كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم :
......... وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ
فائدتها تأكيد
وجوب اتباع ملته ، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا ، كان جديراً بأن
تتبع ملته وطريقته. ولو جعلتها معطوفة على الجملة قبلها لم يكن لها معنى. وقيل :
إن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه. فقال
خليله : لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ، ولكنه يريدها للأضياف ، فاجتاز
غلمانه ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائر حياء من الناس. فلما أخبروا إبراهيم عليه
السلام ساءه الخبر ، فحملته عيناه وعمدت امرأته إلى غرارة منها فأخرجت أحسن حوّارى
، واختبزت واستنبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز ، فقال : من أين لكم؟ فقالت
امرأته : من خليلك المصري. فقال : بل من عند خليلي الله عز وجل ، فسماه الله
خليلا.
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)(١٢٦)
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) متصل بذكر العمال الصالحين والصالحين. معناه : أن له ملك
أهل السموات والأرض ، فطاعته واجبة عليهم (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطاً) فكان عالما بأعمالهم فمجازيهم على خيرها وشرها ، فعليهم أن
يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها.
(وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
__________________
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً)(١٢٧)
(ما يُتْلى) في محل الرفع. أى الله يفتيكم والمتلوّ (فِي الْكِتابِ) في معنى اليتامى ، يعنى قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) وهو من قولك : أعجبنى زيد وكرمه. ويجوز أن يكون. (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مبتدأ و (فِي الْكِتابِ) خبره على أنها جملة معترضة ، والمراد بالكتاب اللوح
المحفوظ تعظيما للمتلو عليهم ، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور
المرفوعة الدرجات عند الله التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها ، والمخل بها ظالم
متهاون بما عظمه الله. ونحوه في تعظيم القرآن : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ويجوز أن يكون مجروراً على القسم ، كأنه قيل : قل الله
يفتيكم فيهنّ ، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب. والقسم أيضا لمعنى التعظيم ، وليس
بسديد أن يعطف على المجرور في : (فِيهِنَّ) ، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى ، فإن قلت بم تعلق قوله (فِي يَتامَى النِّساءِ)؟ قلت : في الوجه الأوّل هو صلة (يُتْلى) أى يتلى عليكم في معناهن. ويجوز أن يكون (فِي يَتامَى النِّساءِ) بدلا من (فِيهِنَّ) وأما في الوجهين الآخرين فبدل لا غير. فإن قلت : الإضافة
في : (يَتامَى النِّساءِ) ما هي؟ قلت : إضافة بمعنى «من» كقولك : عندي سحق عمامة. وقرئ
: في ييامى النساء ، بياءين على قلب همزة أيامى ياء (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما
كُتِبَ لَهُنَ) وقرئ : ما كتب الله لهنّ ، أى ما فرض لهن من الميراث. وكان
الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه وما لها . فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال ، وإن كانت دميمة عضلها
عن التزوج حتى تموت فيرثها (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَ) يحتمل في أن تنكحوهن لجمالهن ، وعن أن تنكحوهن لدمامتهن.
وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان إذا جاءه ولى اليتيمة نظر ، فإن كانت
جميلة غنية قال : زوّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة ولا مال
لها قال : تزوجها فأنت أحق بها (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) مجرور معطوف على يتامى النساء ، وكانوا في الجاهلية إنما
يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء. ويجوز أن يكون خطابا للأوصياء
كقوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)(وَأَنْ تَقُومُوا) مجرور كالمستضعفين بمعنى : يفتيكم في يتامى النساء ، وفي
المستضعفين. وفي أن تقوموا. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى : ويأمركم أن تقوموا ، وهو
خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم ، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم.
__________________
(وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ
يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ
الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً)(١٢٨)
(خافَتْ مِنْ بَعْلِها) توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأماراته. والنشوز :
أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي بين الرجل والمرأة ،
وأن يؤذيها بسب أو ضرب والإعراض : أن يعرض عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها ، وذلك
لبعض الأسباب من طعن في سنّ ، أو دمامة ، أو شيء في خَلق أو خُلق ، أو ملال ، أو
طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك فلا بأس بهما في أن يصلحا بينهما. وقرئ : يصالحا.
ويصلحا ، بمعنى : يتصالحا ، ويصطلحا. ونحو أصلح : أصبر في اصطبر (يُصْلِحا) في معنى مصدر كل واحد من الأفعال الثلاثة. ومعنى الصلح : أن
يتصالحا على أن تطيب له نفسا عن القسمة أو عن بعضها ، كما فعلت سودة بنت زمعة حين
كرهت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت مكان عائشة من قلبه ، فوهبت
لها يومها . وكما روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان
لها منه ولد ، فقالت : لا تطلقني ودعني أقوم على ولدى وتقسم لي في كل شهرين ، فقال
: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلىّ ، فأقرّها. أو تهب له بعض المهر ، أو كله ، أو
النفقة ؛ فإن لم تفعل فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة. أو هو خير
من الخصومة في كل شيء. أو الصلح خير من الخيور ، كما أن الخصومة شر من الشرور وهذه
الجملة اعتراض ، وكذلك قوله (وَأُحْضِرَتِ
الْأَنْفُسُ الشُّحَ) ومعنى إحضار الأنفس الشح أن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب
عنها أبداً ولا تنفك عنه ، يعنى أنها مطبوعة عليه والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح
بقسمتها وبغير قسمتها ، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا
رغب عنها وأحب غيرها (وَإِنْ تُحْسِنُوا) بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن ، وتصبروا
على ذلك مراعاة لحق الصحبة (وَتَتَّقُوا) النشوز والإعراض وما يؤدى إلى الأذى والخصومة (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الإحسان والتقوى (خَبِيراً) وهو يثيبكم عليه. وكان عمران بن حطان الخارجي من أدمّ بنى
آدم ، وامرأته من أجملهم ،
__________________
فأجالت في وجهه
نظرها يوما ثم تابعت الحمد لله ، فقال : مالك؟ قالت : حمدت الله على أنى وإياك من
أهل الجنة ، قال : كيف؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ، ورزقت مثلك فصبرت ، وقد وعد
الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين
(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(١٢٩)
(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) ومحال أن تستطيعوا العدل (بَيْنَ النِّساءِ) والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما
يجب لهن ، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته ، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط
أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم ؛ لأنّ تكليف ما لا يستطاع داخل في حدّ الظلم (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وقيل : معناه أن تعدلوا في المحبة. وعن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول «هذه قسمتى فيما أملك فلا تؤاخذني
فيما تملك ولا أملك » يعنى المحبة ؛ لأن عائشة رضى الله عنها كانت أحب إليه.
وقيل : إن العدل بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع ، لأنه
يجب أن يسوى بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة
والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتى من ورائه ، فهو كالخارج من حدّ
الاستطاعة. هذا إذا كن محبوبات كلهن ؛ فكيف إذا مال القلب مع بعضهن (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من
غير رضى منها ، يعنى : أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة ؛ فلا تفرطوا
فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله. وفيه ضرب من التوبيخ (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة قال :
هَلْ هِىَ إلّا
حَظَّةٌ أَوْ تَطْلِيقْ
|
|
أوْ صَلَفٌ أَوْ
بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقْ
|
وفي قراءة أبىّ :
فتذروها كالمسجونة. وفي الحديث : «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء
__________________
يوم القيامة وأحد
شقيه ماثل» وروى أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث إلى أزواج رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمال ، فقالت عائشة رضى الله عنها : أإلى كل أزواج رسول
الله بعث عمر مثل هذا؟ قالوا : لا ، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره
، «فقالت : ارفع رأسك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة
بماله ونفسه. فرجع الرسول فأخبره ، فأتم لهن جميعاً وكان لمعاذ امرأتان ، فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في
بيت الأخرى ، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد (وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة (وَتَتَّقُوا) فيما يستقبل ، غفر الله لكم.
(وَإِنْ يَتَفَرَّقا
يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))
وقرئ : وإن
يتفارقا ، بمعنى وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) يرزقه زوجا خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشه. والسعة
الغنى. والمقدرة : والواسع : الغنى المقتدر.
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١)
وَلِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ
قَدِيراً)(١٣٣)
(مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق بوصينا ، أو بأوتوا (وَإِيَّاكُمْ) عطف على (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) اسم للجنس يتناول الكتب السماوية (أَنِ اتَّقُوا) بأن اتقوا. وتكون أن المفسرة ، لأنّ التوصية في معنى القول
: وقوله (وَإِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ) عطف على اتقوا : لأنّ المعنى :
__________________
أمرناهم وأمرناكم
بالتقوى ، وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا فإنّ لله. والمعنى : إن لله الخلق كله وهو
خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها ، فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير
معصىّ. يتقون عقابه ويرجون ثوابه. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة
ووصيناكم أن اتقوا الله ، يعنى أنها وصية قديمة ما زال يوصى الله بها عباده ، لستم
بها مخصوصين ، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده ، وبها ينالون النجاة في العاقبة ، وقلنا
لهم ولكم : وإن تكفروا فإنّ لله في سماواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحده
ويعبده ويتقيه (وَكانَ اللهُ) مع ذلك (غَنِيًّا) عن خلقه وعن عبادتهم جميعاً ، مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه
وإن لم يحمده أحد منهم وتكرير قوله (لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه فيطيعوه ولا يعصوه ، لأن
الخشية والتقوى أصل الخير كله (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ) يفنكم ويعدمكم كما أوجدكم وأنشأكم (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) ويوجد إنساً آخرين مكانكم أو خلقا آخرين غير الإنس (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) من الإعدام والإيجاد (قَدِيراً) بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده ، وهذا غضب عليهم
وتخويف وبيان لاقتداره. وقيل : هو خطاب لمن كان يعادى رسول الله صلى الله عليه
وسلم من العرب. أى : إن يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه. ويروى أنها لما نزلت
ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال : «إنهم قوم هذا» يريد أبناء فارس.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ
سَمِيعاً بَصِيراً)(١٣٤)
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
ثَوابَ الدُّنْيا) كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما ، لأن من
جاهد لله خالصاً لم تخطئه الغنيمة ، وله من ثواب الآخرة ما الغنيمة إلى جنبه كلا
شيء. والمعنى : فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده حتى يتعلق الجزاء
بالشرط.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١٣٥)
__________________
(قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ) مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا (شُهَداءَ لِلَّهِ) تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. فإن
قلت : الشهادة على الوالدين والأقربين أن تقول : أشهد أن لفلان على والدىّ كذا ،
أو على أقاربى. فما معنى الشهادة على نفسه؟ قلت : هي الإقرار على نفسه ، لأنه في
معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها. ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة
وبالأعلى أنفسكم ، أو على آبائكم وأقاربكم ، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من
سلطان ظالم أو غيره (إِنْ يَكُنْ) إن يكن المشهود عليه (غَنِيًّا) فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه (أَوْ فَقِيراً) فلا تمنعها ترحما عليه (فَاللهُ أَوْلى
بِهِما) بالغنى والفقير أى بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما ، ولو لا
أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها ، لأنه أنظر لعباده من كل ناظر. فإن قلت :
لم ثنى الضمير في : (أَوْلى بِهِما) وكان حقه أن يوحد ، لأن قوله إن يكن غنياً أو فقيراً في
معنى إن يكن أحد هذين؟ قلت : قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) لا إلى المذكور ، فلذلك ثنى ولم يفرد ، وهو جنس الغنىّ
وجنس الفقير ، كأنه قيل : فالله أولى بجنسى الغنىّ والفقير ، أى بالأغنياء
والفقراء ، وفي قراءة أبىّ : فالله أولى بهم وهي شاهدة على ذلك. وقرأ عبد الله :
إن يكن غنىٌ أو فقير ، على «كان» التامة (أَنْ تَعْدِلُوا) يحتمل العدل والعدول ، كأنه قيل : فلا تتبعوا الهوى ،
كراهة أن تعدلوا بين الناس ، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل ، أو
تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها. وقرئ : وإن تلوا ، أو تعرضوا ، بمعنى : وإن
وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وبمجازاتكم عليه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى
رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
بَعِيداً)(١٣٦)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمسلمين. ومعنى (آمَنُوا) اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه وازدادوه (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ
قَبْلُ) المراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب ،
والدليل عليه قوله : (وَكُتُبِهِ) قرئ : وكتابه على إرادة الجنس. وقرئ : نزل. وأنزل ، على
البناء للفاعل. وقيل : الخطاب لأهل الكتاب ، لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا
ببعض. وروى أنه لعبد الله بن سلام ، وأسد وأسيد ابني كعب. وثعلبة
ابن قيس ، وسلام
بن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة ابن أخيه ، ويامين بن يامين ، أتوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ، إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير
ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال عليه السلام : «بل آمنوا بالله ورسوله محمد
وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» فقالوا : لا نفعل ، فنزلت ، فآمنوا كلهم . وقيل : هو للمنافقين ، كأنه قيل : يا أيها الذين آمنوا
نفاقا آمنوا إخلاصا. فإن قلت : كيف قيل لأهل الكتاب (وَالْكِتابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وكانوا مؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ قلت : كانوا مؤمنين بهما
فحسب ، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب ، فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كله ،
ولأن إيمانهم ببعض الكتب لا يصح إيماناً به ، لأن طريق الإيمان به هو المعجزة ،
ولا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض ، فلو كان إيمانهم بما آمنوا به لأجل المعجزة
لآمنوا به كله ، فحين آمنوا ببعضه علم أنهم لم يعتبروا المعجزة ، فلم يكن إيمانهم
إيمانا. وهذا الذي أراد عز وجلّ في قوله : (وَيَقُولُونَ
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ
ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا). فإن قلت : لم قيل (نَزَّلَ عَلى
رَسُولِهِ) و (أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)؟ قلت : لأن القرآن نزل مفرّقا منجما في عشرين سنة ، بخلاف
الكتب قبله ، ومعنى قوله (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللهِ) الآية : ومن يكفر بشيء من ذلك (فَقَدْ ضَلَ) لأن الكفر ببعضه كفر بكله. ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان
به جميعاً.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً
لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)(١٣٧)
(لَمْ يَكُنِ اللهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) نفى للغفران والهداية وهي اللطف على سبيل
__________________
المبالغة التي
يعطيها اللام ، والمراد بنفيهما نفى ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت.
والمعنى : إنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه ،
يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف ، من إيمان صحيح
ثابت يرضاه الله ، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على
الردّة ، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه ، حيث يبدو لهم فيه كرّة بعد أخرى
وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردّة ونصحت توبتهم لم يقبل منهم
ولم يغفر لهم ، لأنّ ذلك مقبول حيث هو بذل للطاقة واستفراغ للوسع ، ولكنه استبعاد
له واستغراب ، وأنه أمر لا يكاد يكون ، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم
يتوب ثم يرجع ، لا يكاد يرجى منه الثبات. والغالب أنه يموت على شرِّ حال وأسمج
صورة. وقيل : هم اليهود ، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بالإنجيل وبعيسى. ثم
ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(بَشِّرِ
الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)(١٣٩)
(بَشِّرِ
الْمُنافِقِينَ) وضع (بَشِّرِ) مكان : أخبر ، تهكما بهم. و (الَّذِينَ) نصب على الذمّ أو رفع بمعنى أريد الذين ، أو هم الذين.
وكانوا يمايلون الكفرة ويوالونهم ويقول بعضهم لبعض : لا يتم أمر محمد فتولوا
اليهود. (فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) يريد لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود
وغيرهم ، وقال (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).
(وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ
وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً)(١٤١)
__________________
(أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ) هي أن المخففة من الثقيلة. والمعنى أنه إذا سمعتم ، أى نزل
عليكم أنّ الشأن كذا والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها ، و «أن» مع ما في
حيزها في موضع الرفع بنزل ، أو في موضع النصب بنزّل ، فيمن قرأ به. والمنزل عليهم
في الكتاب : هو ما نزل عليهم بمكة من قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم
فيستهزءون به ، فنهى المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه. وكان أحبار
اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن
مجالسة المشركين بمكة. وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم
المنافقون ، فقيل لهم إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ
وَالْكافِرِينَ) يعنى القاعدين والمقعود معهم. فإن قلت : الضمير في قوله (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) إلى من يرجع؟ قلت : إلى من دل عليه (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) كأنه قيل : فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها.
فإن قلت : لم يكونوا مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟ قلت : لأنهم إذا لم
ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضي بالكفر كافر. فإن قلت : فهلا كان المسلمون بمكة
ـ حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين ـ منافقين؟ قلت : لأنهم كانوا لا ينكرون
لعجزهم وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم ، فكان ترك الإنكار لرضاهم (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ) إما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين أو نصب على
الذم منهم (يَتَرَبَّصُونَ
بِكُمْ) أى ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق (أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ) مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بأن ثبطناهم عنكم ، وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ومرضوا
في قتالكم ، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم ، فهاتوا نصيباً لنا بما أصبتم. وقرئ (وَنَمْنَعْكُمْ) بالنصب بإضمار أن ، قال الحطيئة :
أَلَمْ أَكُ
جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِى
|
|
وَبَيْنَكُمُ
الْمَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ
|
فإن قلت : لم سمى
ظفر المسلمين فتحاً ، وظفر الكافرين نصيبا؟ قلت : تعظيما لشأن المسلمين وتخسيساً
لحظ الكافرين ؛ لأن ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح لهم أبواب
__________________
السماء حتى ينزل
على أوليائه. وأمّا ظفر الكافرين ، فما هو إلا حظ دنىّ ولمظة من الدنيا يصيبونها.
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢)
مُذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣)
(يُخادِعُونَ اللهَ) يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر (وَهُوَ خادِعُهُمْ) وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم معصومى
الدماء والأموال في الدنيا وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة ، ولم يخلهم
في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. والخادع : اسم فاعل من خادعته
فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه. وقيل : يعطون على الصراط نوراً كما يعطى المؤمنون
فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين ، فينادون : انظرونا نقتبس من
نوركم (كُسالى) قرئ بضم الكاف وفتحها ، جمع كسلان ، كسكارى في سكران ، أى
يقومون متثاقلين متقاعسين ، كما ترى من يفعل شيئاً على كره لا عن طيبة نفس ورغبة (يُراؤُنَ النَّاسَ) يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة (وَلا يَذْكُرُونَ
اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) ولا يصلون إلا قليلا لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون
الناس إلا ما يجاهرون به ، وما يجاهرون به قليل أيضاً لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف
ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو ولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا
قليلا في الندرة ، وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام
__________________
والليالي لم تسمع
منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة ، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر
عنه. ويجوز أن يراد بالقلة العدم. فإن قلت : ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من
الرؤية؟ قلت : فيها وجهان ، أحدهما : أن المرائى يريهم عمله وهم يرونه استحسانه.
والثاني : أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل ، فيقال : راءى الناس. يعنى رآهم ،
كقولك : نعمه وناعمه ، وفنقه وفانقه وعيش مفانق. روى أبو زيد : رأت المرأة المرأة الرجل ، إذا
أمسكتها لترى وجهه. ويدل عليه قراءة ابن أبى إسحاق : يرأونهم بهمزة مشدّدة : مثل.
يرعونهم ، أى يبصرونهم أعمالهم ويراءونهم كذلك (مُذَبْذَبِينَ) إمّا حال نحو قوله : (وَلا يَذْكُرُونَ) عن واو يراؤن ، أى يراءونهم غير ذاكرين مذبذبين ، أو منصوب
على الذم. ومعنى (مُذَبْذَبِينَ) ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر ، فهم متردّدون
بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أى يذاد ويدفع فلا يقرّ
في جانب واحد ، كما قيل : فلان يرمى به الرحوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى :
كلما مال إلى جانب ذب عنه. وقرأ ابن عباس (مُذَبْذَبِينَ) بكسر الذال ، بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم. أو
بمعنى يتذبذبون. كما جاء : صلصل وتصلصل بمعنى. وفي مصحف عبد الله. متذبذبين. وعن
أبى جعفر : مدبدبين ، بالدال غير المعجمة وكأن المعنى : أخذ بهم تارة في دبة وتارة
في دبة ، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة : الطريقة ومنها : دبة قريش. و (ذلِكَ) إشارة إلى الكفر والإيمان (لا إِلى هؤُلاءِ) لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونون مؤمنين (وَلا إِلى هؤُلاءِ) ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسمون مشركين.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً
مُبِيناً)(١٤٤)
(لا تَتَّخِذُوا
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء
الإسلام أولياء (سُلْطاناً) حجة بينة ، يعنى أن موالاة الكافرين بينة على النفاق. وعن
صعصعة ابن صوحان أنه قال لابن أخ له : خالص المؤمن ، وخالق الكافر والفاجر ؛ فان
الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن ، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.
__________________
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً
عَظِيماً)(١٤٦)
(الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ) الطبق الذي في قعر جهنم ، والنار سبع دركات ، سميت بذلك لأنها
متداركة متتابعة بعضها فوق بعض ، وقرئ بسكون الراء ، والوجه التحريك ، لقولهم :
أدراك جهنم. فإن قلت : لِمَ كان المنافق أشدّ عذابا من الكافر؟ قلت ؛ لأنه مثله في
الكفر ، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ومداجاتهم (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه (فَأُولئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ) فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً) فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. فإن قلت : مَن المنافق؟ قلت.
هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به
بالمنافق فللتغليظ ، كقوله «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق
، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان
» وقيل لحذيفة رضى الله عنه : مَن المنافق؟ فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل
به. وقيل لابن عمر : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال
: كنا نعدّه من النفاق. وعن الحسن : أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه ، فأصبح وقد عمم وقلد وأعطى سيفاً ، يعنى الحجاج.
(ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً)(١٤٧)
(ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ) أيتشفى به من
الغيظ ، أم يدرك به الثار ، أم يستجلب به نفعاً ، أم يستدفع به ضرراً كما يفعل
الملوك بعذابهم ، وهو الغنىّ الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما
__________________
هو أمر أوجبته
الحكمة أن يعاقب المسيء ، فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم
استحقاق العذاب (وَكانَ اللهُ شاكِراً) مثيبا موفيا أجوركم (عَلِيماً) بحق شكركم وإيمانكم. فإن قلت : لم قدم الشكر على الإيمان؟
قلت : لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع ،
فيشكر شكراً مبهما ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً
مفصلا ، فكان الشكر متقدما على الايمان ، وكأنه أصل التكليف ومداره.
(لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً
عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)(١٤٩)
(إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم. وهو أن
يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل : هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على
الشاتم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ) وقيل : ضاف رجل قوما فلم يطعموه ، فأصبح شاكيا ، فعوتب على
الشكاية فنزلت ، وقرئ (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل للانقطاع. أى ولكن الظالم راكب ما لا
يحبه الله فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (مَنْ ظُلِمَ) مرفوعا ، كأنه قيل : لا يحب الله الجهر بالسوء ، إلا
الظالم على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو ، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ثم حث على العفو ، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على
وجه الانتصار ، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوبا ، حثا على الأحب إليه والأفضل
عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية ، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيبا للعفو ، ثم عطفه عليهما اعتدادا به وتنبيها على منزلته ،
وأن له مكانا في باب الخير وسيطا . والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير
وإخفائه قوله (فَإِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا قَدِيراً) أى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام ، فعليكم أن
تقتدوا بسنة الله.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ
وَرُسُلِهِ
__________________
وَيَقُولُونَ
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ
ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(١٥١)
جعل الذين آمنوا
بالله وكفروا برسله أو آمنوا بالله وببعض رسله وكفروا ببعض كافرين بالله ورسله
جميعا لما ذكرنا من العلة ، ومعنى اتخاذهم بين ذلك سبيلا : أن يتخذوا دينا
وسطا بين الإيمان والكفر كقوله : (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أى طريقا وسطا في القراءة وهو ما بين الجهر والمخافتة. وقد
أخطؤا ، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان ولذلك قال (أُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ حَقًّا) أى هم الكاملون في الكفر. و (حَقًّا) تأكيد لمضمون الجملة ، كقولك : هو عبد الله حقا ، أى حق
ذلك حقا ، وهو كونهم كاملين في الكفر ، أو هو صفة لمصدر الكافرين ، أى هم الذين
كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه ،
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٥٢)
فإن قلت : كيف جاز
دخول (بَيْنَ) على (أَحَدٍ) وهو يقتضى شيئين فصاعدا؟ قلت : إن أحدا عام في الواحد
المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما ، تقول : ما رأيت أحدا ، فتقصد العموم ، ألا
تراك تقول : إلا بنى فلان ، وإلا بنات فلان ؛ فالمعنى : ولم يفرقوا بين اثنين منهم
أو بين جماعة ومنه قوله تعالى : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِنَ النِّساءِ) ، (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ
أُجُورَهُمْ) معناه : أنّ إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به
توكيد الوعد وتثبيته لا كونه متأخرا ،
(يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣)
وَرَفَعْنا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً
وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً
(١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
وَكُفْرِهِمْ
__________________
بِآياتِ
اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ
بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ
اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)
(١٥٩)
روى أنّ كعب بن
الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت
نبيا صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى . فنزلت. وقيل : كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان أنك رسول
الله ، وقيل : كتابا نعاينه حين ينزل. وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت ، قال
الحسن : ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم ، وفيما آتاهم كفاية (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى) جواب لشرط مقدر . معناه : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى (أَكْبَرَ
__________________
مِنْ
ذلِكَ) وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى
وهم النقباء السبعون ، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في
التعنت (جَهْرَةً) عيانا بمعنى أرناه نره جهرة (بِظُلْمِهِمْ) بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين
ولما أخذتهم الصاعقة ، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه
ظالما ولا رماه بالصاعقة ، فتبا للمشتبهة ورميا بالصواعق (آتَيْنا مُوسى
سُلْطاناً مُبِيناً) تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم
حتى يتاب عليهم فأطاعوه ، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطان
مبين (بِمِيثاقِهِمْ) بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه (وَقُلْنا لَهُمُ) والطور مطل عليهم (ادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً) ولا تعدوا في السبت ، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك ،
وقولهم سمعنا وأطعنا ، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد. وقرئ : لا
تعتدوا. ولا تعدّوا ، بإدغام التاء في الدال (فَبِما نَقْضِهِمْ) فبنقضهم. «وما» مزيدة للتوكيد. فإن قلت : بم تعلقت الباء؟
وما معنى التوكيد؟ قلت : إما أن يتعلق بمحذوف ، كأنه قيل : فبما نقضهم
ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا ، وإما أن يتعلق بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أنّ قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ) وأما التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم
يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك. فإن قلت : هلا
زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) فيكون التقدير :
__________________
فبما نقضهم
ميثاقهم طبع الله على قلوبهم ، بل طبع الله عليها بكفرهم. قلت : لم يصح هذا
التقدير لأنّ قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ
عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ردّ وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقاً به ، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أنّ الله خلق قلوبنا غلفاً ، أى في أكنة لا يتوصل إليها
شيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة أخزاهم الله ، فقيل لهم : بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب
كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا أن تخلق غلفاً غير قابلة للذكر ولا متمكنة من
قبوله. فإن قلت : علام عطف قوله (وَبِكُفْرِهِمْ)؟ قلت : الوجه أن يعطف على : (فَبِما نَقْضِهِمْ) ويجعل قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ
عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلاماً تبع قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا
غُلْفٌ) على وجه الاستطراد ، يجوز عطفه على ما يليه من قوله : (بِكُفْرِهِمْ). فإن قلت : ما معنى المجيء بالكفر معطوفاً على ما فيه ذكره
، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) وقوله : (بِكُفْرِهِمْ)؟ قلت : قد تكرّر منهم الكفر ، لأنهم كفروا بموسى ، ثم
بعيسى ، ثم بمحمد صلوات الله عليهم ، فعطف بعض كفرهم على بعض ، أو عطف مجموع
المعطوف على مجموع المعطوف عليه ، كأنه قيل : فيجمعهم بين نقض الميثاق ، والكفر
بآيات الله ، وقتل الأنبياء ، وقولهم قلوبنا غلف ، وجمعهم
__________________
بين كفرهم وبهتهم مريم ، وافتخارهم بقتل عيسى ، عاقبناهم. أو بل طبع الله
عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. والبهتان العظيم : هو التزنية. فإن قلت
: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام ، أعداء له ، عامدين لقتله ، يسمونه الساحر بن
الساحرة ، والفاعل بن الفاعلة ، فكيف قالوا (إِنَّا قَتَلْنَا
الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ)؟ قلت : قالوه على وجه الاستهزاء ، كقول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية
عنهم رفعاً لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً). روى أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم «اللهم
أنت ربى وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي» فمسخ الله من سبهما قردة
وخنازير ، فأجمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من
صحبة اليهود ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل
الجنة؟ فقال رجل منهم : أنا فألقى عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل : كان رجلا ينافق
عيسى ، فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه ، فدخل بيت عيسى فرفع عيسى وألقى
شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى ، ثم اختلفوا فقال
بعضهم : إنه إله لا يصح قتله. وقال بعضهم : إنه قتل وصلب. وقال بعضهم إن كان هذا عيسى
فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء. وقال
بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا. فإن قلت : (شُبِّهَ) مسند إلى ما ذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح ، فالمسيح
مشبه به وليس بمشبه ، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر قلت : هو
مسند إلى الجار والمجرور وهو (قَوْلِهِمْ) كقولك خيل إليه ، كأنه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز
أن يسند إلى ضمير المقتول ؛ لأنّ قوله : إنا قتلنا يدل عليه ، كأنه قيل : ولكن شبه
لهم من قتلوه (إِلَّا اتِّباعَ
الظَّنِ) استثناء منقطع لأنّ اتباع الظن ليس من جنس العلم ، يعنى :
ولكنهم يتبعون الظن. فإن قلت : قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين ، ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون
شاكين ظانين؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن إن لاحت لهم أمارة
فظنوا ، فذاك (وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً) وما قتلوه قتلا يقيناً. أو ما قتلوه متيقنين ، كما ادّعوا
__________________
ذلك في قولهم (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) أو يجعل (يَقِيناً) تأكيداً لقوله : (وَما قَتَلُوهُ) كقولك : ما قتلوه حقا أى حق انتفاء قتله حقا. وقيل : هو من
قولهم : قتلت الشيء علماً ونحرته علماً إذا تبلغ فيه علمك. وفيه تهكم ، لأنه إذا
نفى عنهم العلم نفياً كليا بحرف الاستغراق. ثم قيل : وما علموه علم يقين وإحاطة لم
يكن إلا تهكما بهم (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإن من أهل
الكتاب أحد إلا ليؤمننّ به. ونحوه : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ، (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) والمعنى : وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمننّ قبل
موته بعيسى ، وبأنه عبد الله ورسوله ، يعنى : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف. وعن شهر بن حوشب
: قال لي الحجاج : آية ما قرأتها إلا تخالج في نفسي شيء منها يعنى هذه الآية ، وقال إنى أوتى بالأسير من اليهود
والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك ، فقلت : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت
الملائكة دبره ووجهه وقالوا يا عدوّ الله ، أتاك موسى نبيا فكذبت به فيقول : آمنت
أنه عبد نبىّ. وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله ،
فيؤمن أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال : وكان متكئاً فاستوى جالساً
فنظر إلىّ وقال : ممن؟ قلت : حدثني محمد بن علىّ بن الحنفية ، فأخذ ينكت الأرض
بقضيبه ثم قال : لقد أخذتها من عين صافية ، أو من معدنها. قال الكلبي : فقلت له :
ما أردت إلى أن تقول حدثني محمد بن علىّ بن الحنفية. قال : أردت أن أغيظه ، يعنى
بزيادة اسم علىّ ، لأنه مشهور بابن الحنفية. وعن ابن عباس أنه فسره كذلك ، فقال له
عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال : لا تخرج نفسه حتى يحرّك بها شفتيه. قال :
وإن خرّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال : يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه
حتى يؤمن به. وتدل عليه قراءة أبىّ : إلا ليؤمننّ به قبل موتهم ،
بضم النون على معنى : وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم ، لأنّ أحداً يصلح
للجمع. فإن
__________________
قلت : ما فائدة
الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت : فائدته الوعيد ، وليكون علمهم بأنهم لا
بدّ لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم ، بعثا لهم
وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاما للحجة لهم ،
وكذلك قوله (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يشهد على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه
ابن الله. وقيل : الضميران لعيسى ، بمعنى : وإن منهم أحد إلا ليؤمننّ بعيسى قبل
موت عيسى ، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روى أنه ينزل من السماء في
آخر الزمان ، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة وهي
ملة الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود
مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات ، ويلبث
في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه . ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا
ليؤمننّ به ، على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ، ويعلمهم نزوله وما
أنزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم. وقيل : الضمير في : (بِهِ) يرجع إلى الله تعالى. وقيل : إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
(فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ
الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً
عَظِيماً) (١٦٢)
(فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا) فبأى ظلم منهم. والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم
عظيم ارتكبوه ، وهو ما عدّد لهم من الكفر والكبائر العظيمة. والطيبات التي حرّمت
عليهم : ما ذكره
__________________
في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وحرّمت عليهم الألبان ، وكلما أذنبوا ذنبا صغيراً أو
كبيراً حرّم عليهم بعض الطيبات من المطاعم وغيرها (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) ناسا كثيراً أو صدّاً كثيراً (بِالْباطِلِ) بالرشوة التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) يريد من آمن منهم ، كعبد الله بن سلام وأضرابه ، والراسخون
في العلم الثابتون فيه المتقنون المستبصرون (وَالْمُؤْمِنُونَ) يعنى المؤمنين منهم ، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار. وارتفع
الراسخون على الابتداء. و (يُؤْمِنُونَ) خبره. و (الْمُقِيمِينَ) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع ، وقد كسره
سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف.
وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على
الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة
ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه ، من أن
يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم. وقيل : هو
عطف على : (بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي
مصحف عبد الله : والمقيمون ، بالواو ، وهي قراءة مالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى
الثقفي.
(إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا
إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)
وَرُسُلاً
قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ
يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)
(١٦٦)
(إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحى إليه كشأن سائر
الأنبياء الذين سلفوا. وقرئ (زبورا) بضم الزاى جمع زبر وهو الكتاب (وَرُسُلاً) نصب بمضمر في معنى : أوحينا إليك وهو : أرسلنا ، ونبأنا ،
وما أشبه ذلك. أو بما فسره قصصناهم. وفي قراءة أبىّ : ورسل
قد قصصناهم عليك
من قبل ورسل لم نقصصهم. وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب : أنهما قرءا (وَكَلَّمَ اللهُ) بالنصب. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم ، وأن معناه وجرّح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الأوجه أن ينتصب على المدح. ويجوز انتصابه على التكرير.
فإن قلت : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل ، وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها
موصل إلى المعرفة ، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك
الأدلة ، ولا عرف أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت : الرسل منبهون عن الغفلة ،
وباعثون على النظر ، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال
التكليف وتعليم الشرائع ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة ، لئلا
يقولوا :لو لا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه
له. وقرأ السلمى :
__________________
لكنّ الله يشهد ،
بالتشديد. فإن قلت : الاستدراك لا بدّ له من مستدرك فما هو في قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ)؟ قلت : لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنتوا
بذلك واحتج عليهم بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) قال : لكن الله يشهد ، بمعنى أنهم لا يشهدون لكن الله
يشهد. وقيل : لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) قالوا : ما نشهد لك بهذا ، فنزل (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه : إثباته لصحته بإظهار المعجزات
، كما تثبت الدعاوى بالبينات. وشهادة الملائكة :شهادتهم بأنه حق وصدق. فإن قلت :
بم يجابون لو قالوا : بم يعلم أن الملائكة يشهدون بذلك؟ قلت : يجابون بأنه يعلم
بشهادة الله ، لأنه لما علم بإظهار المعجزات أنه شاهد بصحته علم أن الملائكة
يشهدون بصحة ما شهد بصحته ؛ لأنّ شهادتهم تبع لشهادته. فإن قلت : ما معنى قوله (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) وما موقعه من الجملة التي قبله؟ قلت : معناه أنزله ملتبسا
بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ
وصاحب بيان ، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة ، وأن شهادته
بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة. وقيل : أنزله وهو عالم بأنك أهل
لإنزاله إليك وأنك مبلغه. وقيل : أنزله مما علم من مصالح العباد مشتملا عليه. ويحتمل
: أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة ،
والملائكة يشهدون بذلك ، كما قال في آخر سورة الجنّ. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) والإحاطة بمعنى العلم (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) وإن لم يشهد غيره ، لأنّ التصديق بالمعجزة هو الشهادة حقاً
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ).
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ
طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(١٦٩)
(كَفَرُوا وَظَلَمُوا) جمعوا بين الكفر والمعاصي ، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين
__________________
أصحاب كبائر ،
لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ
طَرِيقاً) لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم. أو لا يهديهم
يوم القيامة طريقا إلا طريقها (يَسِيراً) أى لا صارف له عنه.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ
لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١)
(فَآمِنُوا خَيْراً
لَكُمْ) وكذلك (انْتَهُوا خَيْراً
لَكُمْ) انتصابه بمضمر ، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى
الانتهاء عن التثليث ، علم أنه يحملهم على أمر فقال : (خَيْراً لَكُمْ) أى اقصدوا ، أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر
والتثليث. وهو الإيمان والتوحيد (لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ) غلت اليهود في حط المسيح عن منزلته ، حيث جعلته مولودا
لغير رشدة . وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا
الْحَقَ) وهو تنزيهه عن الشريك والولد. وقرأ جعفر بن محمد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) بوزن السكيت. وقيل لعيسى (كلمة الله) (وكلمة منه) لأنه وجد
بكلمته وأمره لا غير ، من غير واسطة أب ولا نطفة. وقيل له : روح الله ، وروح منه ،
لذلك ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذى روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحىّ
وإنما اخترع اختراعا من عند الله وقدرته خالصة. ومعنى (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أوصلها إليها وحصلها فيها (ثَلاثَةٌ) خبر مبتدإ محذوف ، فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون : هو
جوهر واحد ثلاثة أقانيم ، أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس. وأنهم
يريدون بأقنوم الأب : الذات ، وبأقنوم الابن : العلم ، وبأقنوم روح القدس : الحياة
، فتقديره الله ثلاثة ؛ وإلا فتقديره : الآلهة ثلاثة. والذي يدل عليه القرآن
التصريح منهم بأن الله والمسيح
__________________
ومريم ثلاثة آلهة
، وأنّ المسيح ولد الله من مريم. ألا ترى إلى قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، (وَقالَتِ النَّصارى
الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون : في المسيح لاهوتية
وناسوتية من جهة الأب والأم. ويدل عليه قوله : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فأثبت أنه ولد لمريم اتصل بها اتصال الأولاد بأمّهاتها ،
وأن اتصاله بالله تعالى من حيث أنه رسوله ، وأنه موجود بأمره وابتداعه جسدا حيا من
غير أب ، فنفى أن يتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) وحكاية الله أوثق من حكاية غيره. ومعنى (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) سبحه تسبيحا من أن يكون له ولد. وقرأ الحسن : إن يكون ،
بكسر الهمزة ورفع النون : أى سبحانه ما يكون له ولد. على أنّ الكلام جملتان (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) بيان لتنزهه عما نسب إليه ، يعنى أنّ كل ما فيهما خلقه وملكه
، فكيف يكون بعض ملكه جزأ منه ، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو متعال عن
صفات الأجسام والأعراض (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) يكل إليه الخلق كلهم أمورهم ، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء
إليه.
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ
جَمِيعاً)(١٧٢)
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ) لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة من نكفت الدمع. إذا
__________________
نحيته عن خدك
بإصبعك (وَلَا الْمَلائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ) ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً
__________________
وهم الملائكة
الكروبيون الذين حول العرش ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، ومن في طبقتهم. فإن قلت :
من أين دلّ قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ) على أنّ المعنى : ولا من فوقه؟ قلت : من حيث أنّ علم
المعاني لا يقتضى غير ذلك. وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في
رفع المسيح عن منزلة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يترفع عيسى عن العبودية ،
ولا من هو أرفع منه درجة ، كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقرّبون من العبودية ،
فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة ، تخصيص المقرّبين لكونهم أرفع الملائكة
درجة وأعلاهم منزلة. ومثاله قول القائل :
وَمَا مِثْلُهُ
مِمَّنْ يُجَاوِدُ حَاتِمٌ
|
|
وَلَا الْبَحْرُ
ذُو الْأَمْوَاجِ يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ
|
لا شبهة في أنه
قصد بالبحر ذى الأمواج : ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه
الآية قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) حتى يعترف بالفرق البين. وقرأ علىّ رضى الله عنه : عُبيداً
لله ، على التصغير. وروى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________________
لم تعيب صاحبنا؟
قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى. قال : وأى شيء أقول؟ قالوا : تقول : إنه عبد الله
ورسوله. قال : إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله. قالوا : بلى ، فنزلت : أى لا يستنكف
عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه ، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف
لأنّ العار ألصق به. فإن قلت : علام عطف قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ)؟ قلت : لا يخلو إمّا أن يعطف على المسيح ، أو على اسم «يكون»
أو على المستتر في : (عَبْداً) لما فيه من معنى الوصف ، لدلالته على معنى العبادة ، كقولك
: مررت برجل عبد أبوه ، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض
انحراف عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين
بالعبودية ، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه. فإن قلت : قد جعلت الملائكة وهم جماعة
عبداً لله في هذا العطف ، فما وجهه؟ قلت : فيها وجهان : أحدهما أن يراد : ولا كل
واحد من الملائكة أو ولا الملائكة المقرّبون أن يكونوا عباداً لله ، فحذف ذلك
لدلالة (عبد الله) عليه إيجازاً. وأمّا إذا عطفتهم على الضمير في : (عَبْداً) فقد طاح هذا السؤال. قرئ (فَسَيَحْشُرُهُمْ) بضم الشين وكسرها وبالنون.
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)
يا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ
نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ
وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(١٧٥)
فإن قلت : التفصيل
غير مطابق للمفصل ؛ لأنه اشتمل على الفريقين ، والمفصل على فريق واحد. قلت :
هو مثل قولك : جمع الإمام الخوارج ، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ، ومن خرج عليه
نكل به ، وصحة ذلك لوجهين ، أحدهما : أن يحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل
عليه ،
__________________
ولأنّ ذكر أحدهما
يدل على ذكر الثاني ، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ
وَاعْتَصَمُوا بِهِ) والثاني ، وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم ، فكان
داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، فسيعذب
بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله. البرهان والنور المبين :
القرآن. أو أراد بالبرهان دين الحق أو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالنور
المبين : ما يبينه ويصدقه من الكتاب المعجز (فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ
وَفَضْلٍ) في ثواب مستحق وتفضل (وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ) إلى عبادته (صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو طريق الإسلام. والمعنى : توفيقهم وتثبيتهم.
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ
فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٧٦)
روى أنه آخر ما
نزل من الأحكام . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة عام حجة
الوداع ، فأتاه جابر بن عبد الله فقال : إنّ لي أختا ، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟
وقيل : كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنى كلالة فكيف
أصنع في مالى؟ فنزلت (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر. ومحل (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) الرفع على الصفة لا النصب على الحال. أى : إن هلك امرؤ غير
ذى ولد. والمراد بالولد الابن وهو اسم مشترك يجوز إيقاعه على الذكر وعلى الأنثى ؛
لأن الابن يسقط الأخت ، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس ، وبالأخت التي هي
لأب وأم دون التي لأم ، لأنّ الله تعالى فرض لها النصف وجعل أخاها عصبة وقال (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) وأما الأخت للأم فلها السدس
__________________
في آية المواريث
مسوّى بينها وبين أخيها (وَهُوَ يَرِثُها) وأخوها يرثها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه
بعدها (إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَها وَلَدٌ) أى ابن ؛ لأن الأبن يسقط الأخ دون البنت. فإن قلت : الابن
لا يسقط الأخ وحده فإن الأب نظيره في الإسقاط ، فلم اقتصر على نفى الولد؟ قلت : بين
حكم انتفاء الولد ، ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة ، وهو قوله عليه السلام
«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» والأب أولى من الأخ ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب
والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد ، لأن الولد
أقرب إلى الميت من الوالد ، فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب ، فأولى أن يرث عند
انتفاء الأبعد : ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعا ، فكان ذكر
انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر. فإن قلت : إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله (فَإِنْ كانَتَا
اثْنَتَيْنِ) وإن كانوا إخوة؟ قلت : أصله : فان كان من يرث بالأخوة
اثنتين ، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً : وإنما قيل : فان كانتا ، وإن
كانوا ، كما قيل : من كانت أمّك. فكما أنت ضمير «من» لمكان تأنيث الخبر ، كذلك ثنى
وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا ، لمكان تثنية الخبر وجمعه ، والمراد بالإخوة.
الإخوة لا الأخوات ، تغليباً لحكم الذكورة (أَنْ تَضِلُّوا) مفعول له. ومعناه : كراهة أن تضلوا. عن النبي صلى الله
عليه وسلم «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدّق على كل مؤمن ومؤمنة ورث ميراثاً ،
وأعطى من الأجر كمن اشترى محرّراً ، وبريء من الشرك وكان في مشيئة الله من الذين
يتجاوز عنهم .
__________________
سورة المائدة
مدنية [إلا آية ٣ فنزلت بعرفات في حجة الوداع]
وهي مائة وعشرون آية [نزلت بعد الفتح
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ
إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ
اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)(١)
يقال وفى بالعهد
وأوفى به ومنه : والموفون بعهدهم. والعقد : العهد الموثق ، شبه بعقد
الحبل ونحوه ، قال الحطيئة :
قَوْمٌ إذَا
عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمِ
|
|
شَدُّوا
الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
|
وهي عقود الله
التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. وقيل : هي ما يعقدون بينهم
من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويتماسحون من المبايعات ونحوها. والظاهر
__________________
أنها عقود الله
عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل
وهو قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ) وما بعده. البهيمة : كلّ ذات أربع في البرّ والبحر ،
وإضافتها إلى الأنعام للبيان ، وهي الإضافة التي بمعنى «من» كخاتم فضة. ومعناه :
البهيمة من الأنعام (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) إلا محرّم ما يتلى عليكم من القرآن ، من نحو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، وإلا ما يتلى عليكم آية تحريمه. والأنعام : الأزواج
الثمانية. وقيل «بهيمة الأنعام» الظباء وبقر الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل
الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام
لملابسة الشبه (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ) نصب على الحال من الضمير في : (لَكُمْ) أى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد. وعن الأخفش أن
انتصابه عن قوله : (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) وقوله (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال عن محلى الصيد ، كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في
حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون ، لئلا تحرج عليكم (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من الأحكام ، ويعلم أنه حكمة ومصلحة. والحرم : جمع حرام
وهو المحرم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا
الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢)
الشعائر جمع شعيرة
وهي اسم ما أشعر ، أى جعل شعاراً وعلما للنسك ، من مواقف الحج ومرامي الجمار ،
والمطاف ، والمسعى ، والأفعال التي هي علامات الحج يعرف بها من الإحرام ، والطواف
، والسعى ، والحلق ، والنحر. والشهر الحرام : شهر الحج. والهدى : ما أهدى إلى
البيت وتقرب به إلى الله من النسائك. وهو جمع هدية ، كما يقال جدي في جمع جدية
السرج . والقلائد : جمع قلادة ، وهي ما قلد به الهدى من نعل أو عروة مزادة ، أو لحاء
شجر ، أو غيره. وآمّوا المسجد الحرام : قاصدوه ، وهم الحجاج والعمار. وإحلال هذه
الأشياء أن يتهاون بحرمة
__________________
الشعائر وأن يحال
بينها وبين المتنسكين بها ، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدّون به الناس عن الحج ،
وأن يتعرض للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله. وأما القلائد ففيها وجهان ،
أحدهما : أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن ، وتعطف على الهدى للاختصاص
وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى ، كقوله : (وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ) كأنه قيل : والقلائد منها خصوصا. والثاني أن ينهى عن
التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهى عن التعرض للهدى ، على معنى : ولا تحلوا
قلائدها فضلا أن تحلوها ، كما قال : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ) فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهى عن إبداء مواقعها (وَلَا آمِّينَ) ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) وهو الثواب (وَرِضْواناً) وأن يرضى عنهم ، أى لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم ، تعظيما
لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم. قيل : هي محكمة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «المائدة
من آخر القرآن نزولا ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها » وقال الحسن : ليس فيها منسوخ. وعن أبى ميسرة : فيها ثماني
عشرة فريضة وليس فيها منسوخ. وقيل : هي منسوخة. وعن ابن عباس : كان المسلمون
والمشركون يحجون جميعا ، فنهى الله المسلمين أن يمنعوا أحدا عن حج البيت بقوله (لا تُحِلُّوا) ثم نزل بعد ذلك (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، (ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) وقال مجاهد والشعبي : (لا تُحِلُّوا) نسخ بقوله : (وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وفسر ابتغاء الفضل بالتجارة ، وابتغاء الرضوان بأنّ
المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على سداد من دينهم ، وأنّ الحج يقربهم إلى
الله ، فوصفهم الله بظنهم. وقرأ عبد الله : ولا آمى البيت الحرام ، على الإضافة.
وقرأ حميد بن قيس والأعرج : تبتغون ، بالتاء على خطاب المؤمنين (فَاصْطادُوا) إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم ، كأنه قيل : وإذا حللتم
فلا جناح عليكم أن تصطادوا. وقرئ بكسر الفاء. وقيل : هو بدل من كسر الهمزة عند
الابتداء. وقرئ : وإذا أحللتم ، يقال حلّ المحرم وأحلّ. «جرم» يجرى مجرى «كسب» في
تعديه إلى مفعول واحد واثنين. تقول : جرم ذنبا ، نحو كسبه. وجرمته ذنبا ، نحو
كسبته إياه. ويقال : أجرمته ذنبا ، على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين
، كقولهم : أكسبته ذنبا. وعليه قراءة عبد الله : ولا يجرمنكم بضم الياء ، وأوّل
المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين ، والثاني (أَنْ تَعْتَدُوا). و (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح الهمزة ، متعلق بالشنآن بمعنى العلة ، والشنآن : شدّة
البغض. وقرئ بسكون النون. والمعنى : ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدّوكم الاعتداء ،
ولا يحملنكم عليه. وقرئ : إن صدوكم ، على «إن»
__________________
الشرطية. وفي
قراءة عبد الله. إن يصدوكم. ومعنى صدّهم إياهم عن المسجد الحرام : منع أهل مكة
رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة ، ومعنى الاعتداء
: الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى) على العفو والإغضاء (وَلا تَعاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) على الانتقام والتشفي. ويجوز أن يراد العموم لكل برّ وتقوى
وكل إثم وعدوان ، فيتناول بعمومه العفو والانتصار.
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما
أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ)(٣)
كان أهل الجاهلية
يأكلون هذه المحرمات : البهيمة التي تموت حتف أنفها ، والفصيد وهو الدم في المباعر
، يشوونها ويقولون : لم يحرم من فزد له (وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أى رفع الصوت به لغير الله ، وهو قولهم : باسم اللات
والعزى عند ذبحه (وَالْمُنْخَنِقَةُ) التي خنقوها حتى ماتت ، أو انخنقت بسبب (وَالْمَوْقُوذَةُ) التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر حتى ماتت (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) التي تردّت من جبل أو في بئر فماتت (وَالنَّطِيحَةُ) التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) بعضه (إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ) إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب
أوداجه. وقرأ عبد الله : والمنطوحة. وفي رواية عن أبى عمرو (السَّبُعُ) بسكون الباء. وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون
اللحم عليها ، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها ، تسمى الأنصاب ، والنصب واحد. قال
الأعشى :
وَذَا النَّصْبِ
الْمَنْصُوبِ لَا تَعْبُدَنَّهُ
|
|
لِعَاقِبَةٍ
وَاللهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا
|
__________________
وقيل : هو جمع ،
والواحد نصاب. وقرئ (النُّصُبِ) بسكون الصاد (وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أى بالقداح. كان أحدهم إذا
أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحا أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح ،
وهي مكتوب على بعضها : نهاني ربى ، وعلى بعضها : أمرنى ربى ، وبعضها غفل ؛ فإن خرج
الآمر مضى لطيته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أجالها عوداً.
فمعنى الاستقسام بالأزلام : طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام. وقيل :
هو الميسر. وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة (ذلِكُمْ فِسْقٌ) الإشارة إلى الاستقسام : أو إلى تناول ما حرّم عليهم ؛
لأنّ المعنى حرّم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا. فإن قلت : لم كان استقسام المسافر
وغيره يا لأزلام لتعرف الحال فسقاً؟ قلت : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به
علام الغيوم وقال : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) واعتقاد أنّ إليه
طريقاً وإلى استنباطه ، وقوله : أمرنى ربى ، ونهاني ربى : افتراء على الله. وما
يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب
الصنم ـ فقد روى أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم ـ فأمره ظاهر (الْيَوْمَ) لم يرد به يوماً بعينه ، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما
يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، كقولك : كنت بالأمس شابا ، وأنت
اليوم أشيب ، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك. ونحوه «الآن»
في قوله :
الآنَ لمَّا
ابْيَضَّ مَسْرُبَتِى
|
|
وَعَضَضْتُ مِنْ
نَابِى عَلَى لَجذَمِ
|
__________________
وقيل : أريد يوم
نزولها ، وقد نزلت يوم الجمعة ، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
دِينِكُمْ) يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث بعد
ما حرّمت عليكم. وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه ؛ لأن الله عز وجل وفي بوعده من
إظهاره على الدين كله (فَلا تَخْشَوْهُمْ) بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين
مقهورين بعد ما كانوا غالبين (وَاخْشَوْنِي) وأخلصوا لي الخشية (أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ) كفيتكم أمر عدوّكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول
الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد ، إذا كفوا من ينازعهم الملك
ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم. أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم
الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية
ومناسكهم وأن لم يحجّ معكم مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان. أو أتممت نعمتي عليكم
بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
بذلك ، لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام (وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً) يعنى اخترته لكم من بين الأديان ، وآذنتكم بأنه هو الدين
المرضى وحده (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً). فإن قلت : بم اتصل قوله (فَمَنِ اضْطُرَّ)؟ قلت : بذكر المحرّمات. وقوله : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) اعتراض أكد به معنى التحريم ، وكذلك ما بعده ؛ لأن تحريم
هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون
غيره من الملل. ومعناه : فمن اضطرّ إلى الميتة أو إلى غيرها (فِي مَخْمَصَةٍ) في مجاعة (غَيْرَ مُتَجانِفٍ
لِإِثْمٍ) غير منحرف إليه ، كقوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ). (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ) لا يؤاخذه بذلك.
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوارِحِ
__________________
مُكَلِّبِينَ
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ
سَرِيعُ الْحِسابِ)(٤)
في السؤال معنى
القول ، فلذلك وقع بعده (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) كأنه قيل : يقولون لك ما ذا أحلّ لهم. وإنما لم يقل : ما
ذا أحلّ لنا ، حكاية لما قالوه لأنّ يسألونك بلفظ الغيبة ، كما تقول أقسم زيد
ليفعلنّ. ولو قيل : لأفعلنّ وأُحِلَّ لنا ، لكان صوابا. و «ما ذا» مبتدأ ، و (أُحِلَّ لَهُمْ) خبره كقولك : أى شيء أحل لهم؟ ومعناه : ما ذا أحل لهم من
المطاعم كأنهم حين تلا عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحلّ لهم
منها ، فقيل : (أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ) أى ما ليس بخبيث منها ، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب
أو سنة أو قياس مجتهد. (وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ) عطف على الطيبات أى أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف. أو تجعل (ما) شرطية ، وجوابها (فَكُلُوا) والجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد
والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. والمكلب : مؤدّب الجوارح ومضريها بالصيد
لصاحبها ، ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف ، واشتقاقه من
الكلب ، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتقّ من لفظه لكثرته من جنسه. أو
لأن السبع يسمى كلباً. ومنه قوله عليه السلام «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك » فأكله الأسد. أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال :
هو كلب بكذا ، إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مُكَلِّبِينَ) على الحال من علمتم. فإن قلت. ما فائدة هذه الحال وقد
استغنى عنها بعلمتم؟ قلت : فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه
مدرّبا فيه ، موصوفا بالتكليب. و (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال ثانية أو استئناف. وفيه فائدة جليلة وهي أن على كلّ آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله
علماً وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه
أكباد الإبل. فكم من آخذ عن غيره متقن ، قد ضيع أيامه وعضّ عند لقاء النحارير
أنامله (مِمَّا عَلَّمَكُمُ
اللهُ) من علم التكليب ، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو
مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه ، وانزجاره بزجره. وانصرافه
بدعائه ، وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه.
__________________
وقرئ (مُكَلِّبِينَ) بالتخفيف. وأفعل وفعل يشتركان كثيراً. والإمساك على صاحبه
أن لا يأكل منه ، لقوله عليه السلام لعديّ بن حاتم «وإن أكل منه فلا تأكل إنما
أمسك على نفسه» وعن على رضى الله عنه : إذا أكل البازي فلا تأكل . وفرق العلماء ، فاشترطوا في سباع البهائم ترك الأكل لأنها
تؤدّب بالضرب ، ولم يشترطوه في سباع الطير. ومنهم من لم يعتبر ترك الأكل أصلا ولم
يفرق بين إمساك الكل والبعض. وعن سلمان ، وسعد بن أبى وقاص ، وأبى هريرة رضى الله
عنهم : إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وذكرت اسم الله عليه فكل . فإن قلت : إلام رجع الضمير في قوله (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ)؟ قلت. إما أن يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا
أدركتم ذكاته ، أو إلى ما علمتم من الجوارح. أى سموا عليه عند إرساله.
(الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ)
(٥)
(طَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) قيل : هو ذبائحهم. وقيل : هو جميع مطاعمهم. ويستوي في ذلك
جميع النصارى. وعن على رضى الله عنه : أنه استثنى نصارى بنى تغلب وقال : ليسوا على
النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ، وبه أخذ الشافعي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى
العرب فقال : لا بأس . وهو قول عامة التابعين ، وبه أخذ أبو حنيفة
__________________
وأصحابه. وحكم الصابئين
حكم أهل الكتاب عند أبى حنيفة. وقال صاحباه : هم صنفان : صنف يقرؤن الزبور ويعبدون
الملائكة. وصنف لا يقرؤن كتابا ويعبدون النجوم ؛ فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وأما
المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح
نسائهم. وقد روى عن أبى المسيب أنه قال : إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن
يذكر اسم الله ويذبح فلا بأس. وقال أبو ثور : وإن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وقد
أساء (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ) فلا عليكم أن تطعموهم ، لأنه لو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم.
(الْمُحْصَناتُ) الحرائر أو العفائف. وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين
لنطفهم والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق ، وكذلك نكاح غير العفائف منهن ،
وأما الإماء الكتابيات ، فعند أبى حنيفة : هن كالمسلمات ، وخالفه الشافعي ، وكان
ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات ، ويحتج بقوله «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ»
ويقول : لا أعلم شركا أعظم من قولها : إن ربها عيسى. وعن عطاء : قد أكثر الله
المسلمات ، وإنما رخص لهم يومئذ (مُحْصِنِينَ) أعفاء (وَلا مُتَّخِذِي
أَخْدانٍ) صدائق ، والخدن يقع على الذكر والأنثى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) بشرائع الإسلام وما أحلّ الله وحرّم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ
عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ)(٦)
__________________
(إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ) كقوله «فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله» وكقولك : إذا ضربت غلامك فهوّن عليه ، في أن المراد إرادة
الفعل. فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد
بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه ، فكما عبر عن
القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أى لا
يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى : (نُعِيدُهُ وَعْداً
عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) يعنى إنا كنا قادرين على الإعادة ، كذلك عبر عن إرادة
الفعل بالفعل ، وذلك لأنّ الفعل مسبب عن القدرة والإرادة ، فأقيم المسبب مقام
السبب للملابسة بينهما ، ولإيجاز الكلام ونحوه من إقامة المسبب مقام السبب قولهم :
كما تدين تدان ، عبر عن الفعل المبتدأ الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو
مسبب عنه. وقيل : معنى قمتم إلى الصلاة قصدتموها ؛ لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه
كان قاصداً له لا محالة ، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. فإن قلت : ظاهر الآية
يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث وغير محدث ، فما وجهه؟ قلت : يحتمل أن يكون الأمر
للوجوب ، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة ، وأن يكون للندب. وعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم والخلفاء بعده ، أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من توضأ على طهر كتب الله
له عشر حسنات . وعنه عليه السلام : أنه كان يتوضأ لكل صلاة . فلما كان يوم الفتح مسح
__________________
على خفيه وصلى
الصلوات الخمس بوضوء واحد ، فقال له عمر : صنعت شيئاً لم تكن تصنعه. فقال : «عمداً
فعلته يا عمر» يعنى بياناً للجواز؟ فإن قلت : هل يجوز أن يكون الأمر شاملا
للمحدثين وغيرهم ، لهؤلاء على وجه الإيجاب ، ولهؤلاء على وجه الندب. قلت : لا ،
لأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وقيل : كان الوضوء
لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض ، ثم نسخ. (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقاً. فأما
دخولها في الحكم وخروجها ، فأمر يدور مع الدليل ، فمما فيه دليل على الخروج قوله :
(فَنَظِرَةٌ إِلى
مَيْسَرَةٍ) لأن الإعسار علة الإنذار. وبوجود الميسرة تزول العلة ، ولو
دخلت الميسرة فيه لكان مُنظراً في كلتا الحالتين معسراً وموسراً. وكذلك (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ) لو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك
: حفظت القرآن من أوله إلى آخره لأنّ الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله
تعالى : (مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن
يدخله. وقوله (إِلَى الْمَرافِقِ) و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء
بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. وعن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه . (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) المراد إلصاق المسح بالرأس. وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح ،
كلاهما ملصق للمسح برأسه. فقد أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف
الرواية ، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة
ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روى : أنه مسح على ناصيته . وقدر الناصية بربع الرأس. قرأ جماعة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب ، فدل على أن الأرجل مغسولة
__________________
فإن قلت : فما
تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة
المغسولة تغسل بصب الماء عليها ، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت
على الثالث الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.
وقيل (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فجيء بالغاية إماطة لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة ، لأن المسح
لم تضرب له غاية في الشريعة. وعن على رضى الله عنه : أنه أشرف على فتية من قريش
فرأى في وضوئهم تجوزاً ، فقال : ويل للأعقاب من النار ، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها
غسلا ويدلكونها دلكا. وعن ابن عمر : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ
قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال : «ويل للأعقاب من النار » وفي رواية جابر «ويل للعراقيب » وعن عمر أنه رأى رجلا يتوضأ فترك باطن قدميه ، فأمره أن
يعيد الوضوء ، وذلك للتغليظ عليه . وعن عائشة رضى الله عنها لأن تقطعا أحب إلىّ من أن أمسح
على القدمين بغير خفين . وعن عطاء : والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين . وقد ذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح. وعن الحسن
: أنه جمع بين الأمرين. وعن الشعبي : نزل القرآن بالمسح والغسل سنة. وقرأ الحسن : وأرجلكم
، بالرفع بمعنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين. وقرئ (فَاطَّهَّرُوا) أى
__________________
فطهروا أبدانكم ،
وكذلك ليطهركم. وفي قراءة عبد الله : فأمّوا صعيداً (ما يُرِيدُ اللهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) في باب الطهارة ، حتى لا يرخص لكم في التيمم (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) وليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمته فيثيبكم.
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا
وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٧)
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) وهي نعمة الإسلام (وَمِيثاقَهُ الَّذِي
واثَقَكُمْ بِهِ) أى عاقدكم به عقداً وثيقاً هو الميثاق الذي أخذه على
المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر
والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا : سمعنا وأطعنا. وقيل : هو الميثاق ليلة
العقبة وفي بيعة الرضوان.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(٨)
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١٠)
عدّى (يَجْرِمَنَّكُمْ) بحرف الاستعلاء مضمنا معنى فعل يتعدّى به ، كأنه قيل : ولا
يحملنكم. ويجوز أن يكون قوله : (أَنْ تَعْتَدُوا) بمعنى على أن تعتدوا ، فحذف مع أن ونحوه قوله عليه السلام
:
«من اتبع على مليء
فليتبع » لأنه بمعنى أحيل. وقرئ (شَنَآنُ) بالسكون. ونظيره في المصادر «ليان» والمعنى : لا يحملنكم
بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو
قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك (اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) نهاهم أوّلا أن تحملهم البغضاء
__________________
على ترك العدل ،
ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه
الأمر بالعدل وهو قوله : (هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوى) أى العدل أقرب إلى التقوى ، وأدخل في مناسبتها. أو أقرب
إلى التقوى لكونه لطفا فيها. وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين
هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة ، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين
هم أولياؤه وأحباؤه؟ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله ، كأنه قال : قدّم لهم
وعداً فقيل : أى شيء وعده لهم؟ فقيل : لهم مغفرة وأجر عظيم. أو يكون على إرادة
القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة. أو على إجراء وعد مجرى قال : لأنه ضرب من
القول. أو يجعل وعد واقعاً على الجملة التي هي لهم مغفرة ، كما وقع (تركنا) على
قوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) كأنه قيل : وعدهم هذا القول وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد
هذا القول ، فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم.
وهذا القول يتلقون
به عند الموت ويوم القيامة ، فيسرون به ويستروحون إليه ويهوّن عليهم السكرات
والأهوال قبل الوصول إلى الثواب.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ
يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا
اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١١)
روى أن المشركين
رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا ، وذلك
بعسفان في غزوة ذى أنمار. فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم ، فقالوا : إنّ
لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعنون صلاة العصر وهموا بأن
يوقعوا بهم إذا قاموا إليها. فنزل جبريل بصلاة الخوف . وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بنى قريظة ومعه
الشيخان وعلىّ رضى الله عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ
يحسبهما مشركين ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، اجلس حتى نطعمك ونقرضك ، فأجلسوه
في
__________________
صفة وهموا بالفتك
به ، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحا عظيمة يطرحها عليه ، فأمسك الله يده ونزل جبريل
فأخبره ، فخرج . وقيل : نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون بها ،
فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابى فسلّ سيف رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك منى؟ قال : الله ، قالها ثلاثا ،
فشام الأعرابى السيف فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم ، وأبى
أن يعاقبه . يقال : بسط إليه لسانه إذا شتمه ، وبسط إليه يده إذا بطش
به (وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) ومعنى «بسط اليد» مدّها إلى المبطوش به. ألا ترى إلى قولهم
: فلان بسيط الباع ، ومديد الباع ، بمعنى. (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ) فمنعها أن تمدّ إليكم.
(وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً
وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ
عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
(١٣)
__________________
لما استقر بنو
إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها
الكنعانيون الجبابرة ، وقال لهم : إنى كتبتها لكم داراً قراراً ، فاخرجوا إليها
وجاهدوا من فيها ، وإنى ناصركم ، وأمر موسى عليه السلام بأن يأخذ من كل سبط نقيباً
يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقه عليهم ، فاختار النقباء وأخذ
الميثاق على بنى إسرائيل ، وتكفل لهم به النقباء وسار بهم ، فلما دنا من أرض كنعان
بعث النقباء يتجسسون ، فرأوا أجراماً عظيمة وقوّة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدّثوا
قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم ، فنكثوا الميثاق ، إلا كالب بن
يوفنا من سبط يهوذا ، ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف ، وكانا من النقباء. والنقيب
: الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها ، كما قيل له : عريف ، لأنه يتعرفها (إِنِّي مَعَكُمْ) أى ناصركم ومعينكم (عَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم ومنعتموهم من أيدى العدوّ. ومنه التعزير ، وهو
التنكيل والمنع من معاودة الفساد. وقرئ بالتخفيف يقال : عزرت الرجل إذا حطته
وكنفته. والتعزير والتأزير من واد واحد. ومنه : لأنصرنك نصراً مؤزراً ، أى قويا.
وقيل معناه : ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والتوحيد وبعثنا منهم اثنى عشر ملكا
يقيمون فيهم العدل ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. واللام في (لَئِنْ أَقَمْتُمُ) موطئة للقسم وفي (لَأُكَفِّرَنَ) جواب له ، وهذا الجواب سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعا (بَعْدَ ذلِكَ) بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم. فإن قلت : من
كفر قبل ذلك أيضا فقد ضلّ سواء السبيل. قلت : أجل ، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم ،
لأنّ الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة ، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر
وتمادى (لَعَنَّاهُمْ) طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا. وقيل : مسخناهم. وقيل :
ضربنا عليهم الجزية (وَجَعَلْنا
قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم. أو أملينا لهم
ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست. وقرأ عبد الله : قسية ، أى ردية مغشوشة ، من قولهم
: درهم قسىّ وهو من القسوة ؛ لأنّ الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه
يبس وصلابة ، والقاسي والقاسح ـ بالحاء ـ أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة
وقرئ : قسية ، بكسر القاف للإتباع (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ) بيان لقسوة قلوبهم ، لأنه لا قسوة أشدّ من الافتراء على
الله وتغيير وحيه (وَنَسُوا حَظًّا) وتركوا نصيبا جزيلا وقسطا وافيا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) من التوراة ، يعنى أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ
عظيم ، أو قست قلوبهم وفسدت فحرّفوا التوراة وزالت أشياء منها عن حفظهم. وعن ابن
مسعود رضى الله عنه : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية . وتلا هذه الآية. وقيل تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا
__________________
به من الإيمان
بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته (وَلا تَزالُ
تَطَّلِعُ) أى هذه عادتهم وهجيراهم وكان عليها أسلافهم كانوا يخونون
الرسل وهؤلاء يخونونك ينكثون عهودك ويظاهرون المشركين على حربك ويهمون بالفتك بك
وأن يسموك (عَلى خائِنَةٍ) على خيانة ، أو على فعلة ذات خيانة ، أو على نفس ، أو فرقة
خائنة. ويقال : رجل خائنة ، كقولهم : رجل راوية للشعر للمبالغة. قال :
حَدَّثْتَ
نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ
|
|
لِلْغَدْرِ
خَائِنَةً مَضَلَّ الْأُصْبُعِ
|
وقرئ على خيانة (مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين آمنوا منهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ) بعث على مخالفتهم. وقيل هو منسوخ بآية السيف. وقيل : فاعف
عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم.
(وَمِنَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)(١٤)
(أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى ، أى مثل
ميثاقهم بالإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير. وأخذنا من النصارى ميثاق أنفسهم
بذلك. فإن قلت : فهلا قيل : من النصارى؟ قلت : لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله ، وهم
الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله ، ثم اختلفوا بعد : نسطورية ، ويعقوبية ،
وملكانية. أنصارا
__________________
للشيطان (فَأَغْرَيْنا) فألصقنا وألزمنا من غرى بالشيء إذا لزمه ولصق به وأغراه
غيره. ومنه الغراء الذي يلصق به (بَيْنَهُمُ) بين فرق النصارى المختلفين. وقيل : بينهم وبين اليهود. ونحوه
(وَكَذلِكَ نُوَلِّي
بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) ، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ
مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ
مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٦)
(يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى (مِمَّا كُنْتُمْ
تُخْفُونَ) من نحو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن نحو الرجم (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) مما تخفونه لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية ، ولم
يكن فيه فائدة إلا اقتضاء حكم وصفته مما لا بدّ من بيانه ، وكذلك الرجم وما فيه إحياء شريعة
وإماتة بدعة. وعن الحسن : ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ
وَكِتابٌ مُبِينٌ) يريد القرآن ، لكشفه ظلمات الشرك والشك ، ولإبانته ما كان
خافياً عن الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز (مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ) من آمن به (سُبُلَ السَّلامِ) طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله.
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ)(١٧)
قولهم (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) معناه بت القول ، على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير.
قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل : ما صرّحوا به ولكن مذهبهم يؤدّى إليه
، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيى ويميت ويدبر أمر العالم (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئا (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ) من دعوه إلها من
المسيح وأمّه دلالة على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد. وأراد بعطف (مَنْ فِي الْأَرْضِ) على : (الْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما
__________________
وبينهم في البشرية
(يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أى يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى من غير ذكر كما خلق
عيسى ، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم. أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد
عيسى معجزة له ، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك. فيجب أن ينسب
إليه ولا ينسب إلى البشر المجرى على يده.
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(١٨)
(أَبْناءُ اللهِ) أشياع ابني الله عزير والمسيح ، كما قيل لأشياع أبى خبيب وهو عبد الله بن الزبير «الخبيبون»
وكما كان يقول رهط مسيلمة : نحن أنبياء الله. ويقول أقرباء الملك وذووه وحشمه :
نحن الملوك. ولذلك قال مؤمن آل فرعون : لكم الملك اليوم (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فإن صحّ أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تذنبون وتعذبون
بذنوبكم فتمسخون وتمسكم النار أياما معدودات على زعمكم. ولو كنتم أبناء الله ،
لكنتم من جنس الأب ، غير فاعلين للقبائح ولا مستوجبين للعقاب. ولو كنتم أحباءه ،
لما عصيتموه ولما عاقبكم (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) من جملة من خلق من البشر (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) وهم أهل الطاعة (وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) وهم العصاة .
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ
تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٩)
(يُبَيِّنُ لَكُمْ) إما أن يقدّر المبين وهو الدين والشرائع ، وحذفه لظهور ما
ورد الرسول
__________________
لتبيينه. أو يقدّر
ما كنتم تخفون ، وحذفه لتقدّم ذكره. أو لا يقدر ويكون المعنى. يبذل لكم البيان ،
ومحله النصب على الحال ، أى مبيناً لكم. و (عَلى فَتْرَةٍ) متعلق بجاءكم ، أى جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل
وانقطاع من الوحى (أَنْ تَقُولُوا) كراهة أن تقولوا (فَقَدْ جاءَكُمْ) متعلق بمحذوف ، أى لا تعتذروا فقد جاءكم. وقيل : كان بين
عيسى ومحمد صلوات الله عليهما خمسمائة وستون سنة. وقيل : ستمائة. وقيل : أربعمائة
ونيف وستون. وعن الكلبي : كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبى وبين عيسى
ومحمد صلوات الله عليهم أربعة أنبياء. ثلاث من بنى إسرائيل ، وواحد من العرب :
خالد بن سنان العبسي. والمعنى : الامتنان عليهم ، وأن الرسول بعث إليهم حين انطمست
آثار الوحى أحوج ما يكون إليه ، ليهشوا إليه ويعدّوه أعظم نعمة من الله ، وفتح باب
إلى الرحمة ، وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم عن
غفلتهم.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى
إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا
مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ
فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى
إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤))
(جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ) لأنه لم يبعث في أمّة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء
(وَجَعَلَكُمْ
__________________
مُلُوكاً) لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه ، وبعد الجبابرة ملكهم ؛ ولأنّ
الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء. وقيل : كانوا مملوكين في أيدى القبط فأنقذهم
الله ، فسمى إنقاذهم ملكا. وقيل : الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار. وقيل : من
له بيت وخدم. وقيل : من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق (ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ) من فلق البحر ، وإغراق العدوّ ، وتظليل الغمام ، وإنزال المنّ
والسلوى ، وغير ذلك من الأمور العظام ، وقيل : أراد عالمى زمانهم (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) يعنى أرض بيت المقدس. وقيل : الطور وما حوله. وقيل : الشام.
وقيل : فلسطين ودمشق وبعض الأردن. وقيل : سماها الله لإبراهيم ميراثا لولده حين
رفع على الجبل ، فقيل له. انظر ، فلك ما أدرك بصرك ، وكان بيت المقدس قرار
الأنبياء ومسكن المؤمنين (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قسمها لكم وسماها ، أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبناً
وهلعاً ، وقيل : لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا :
ليتنا متنا بمصر. وقالوا : تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر. ويجوز أن
يراد : لا ترتدوا على أدباركم في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم :
فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة. الجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره
عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد (قالَ رَجُلانِ) هما كالب ويوشع (مِنَ الَّذِينَ
يَخافُونَ) من الذين يخافون الله ويخشونه ، كأنه قيل : رجلان من
المتقين. ويجوز أن تكون الواو لبنى إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف تقديره : من
الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون ، وهما رجلان منهم (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالإيمان فآمنا ، قالا لهم : إن العمالقة أجسام لا قلوب
فيها ، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم ، يشجعانهم على قتالهم. : وقراءة
من قرأ : يخافون ، بالضم شاهدة له : وكذلك أنعم الله عليهما ، كأنه قيل : من
الخوفين. وقيل : هو من الإخافة ، ومعناه من الذين يخوفون من الله بالتذكرة
والموعظة. أو يخوّفهم وعيد الله بالعقاب. فإن قلت : ما محل أنعم الله عليهما؟ قلت
: إن انتظم مع قوله «من الذين يخافون» في حكم الوصف لرجلان فمرفوع.
__________________
وإن جعل كلاما
معترضاً فلا محلّ له. فإن قلت : من أين علما أنهم غالبون؟ قلت : من جهة إخبار موسى
بذلك. وقوله تعالى (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) وقيل ، من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة
رسله ، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه ، وما عرفا من حال الجبابرة. والباب
: باب قريتهم (لَنْ نَدْخُلَها) نفى لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس. و (أَبَداً) تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول. و (ما دامُوا فِيها) بيان للأبد (فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ) يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب ولكن كما تقول : كلمته فذهب يجيبنى ، تريد معنى الإرادة
والقصد للجواب ، كأنهم قالوا : أريدا قتالهم. والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة
بالله ورسوله وقلة مبالاة بهما واستهزاء ، وقصدوا ذهابهما حقيقة بجهلهم وجفاهم
وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل وسألوا بها رؤية الله عز وجل جهرة. والدليل
عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم ويحكى أنّ موسى وهرون عليهما السلام خرّا لوجوههما
قدّامهم لشدّة ما ورد عليهما ، فهموا برجمهما. ولأمر مّا قرن الله اليهود
بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا).
(قالَ رَبِّ إِنِّي لا
أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢٦)
لما عصوه وتمرّدوا
عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق به إلا
هرون (قالَ رَبِّ إِنِّي لا
أَمْلِكُ) لنصرة دينك (إِلَّا نَفْسِي
وَأَخِي) وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله والحسرة ورقة القلب
التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة
__________________
ونحوه قول يعقوب
عليه السلام (إِنَّما أَشْكُوا
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ). وعن على رضى الله عنه أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة
إلى قتال البغاة ، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء . ودعا لهما وقال : أين تقعان مما أريد؟ وذكر في إعراب «أخى»
وجوه : أن يكون منصوبا عطفا على نفسي أو على الضمير في «إنى» ، بمعنى : ولا أملك
إلا نفسي وإن أخى لا يملك إلا نفسه. ومرفوعا عطفاً على محل إن
واسمها ، كأنه قيل : أنا لا أملك إلا نفسي ، وهرون كذلك لا يملك إلا نفسه أو على
الضمير في لا أملك. وجاز للفصل. ومجروراً عطفا على الضمير في نفسي ، وهو ضعيف لقبح
العطف على ضمير المجرور إلا بتكرير الجار. فإن قلت : أما كان معه الرجلان
المذكوران؟ قلت : كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ولم يطمئن إلى ثباتهما ، لما ذاق على
طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم ، فلم يذكر إلا
النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره. ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم
تقليلا لمن يوافقه. ويجوز أن يريد : ومن يؤاخينى على دينى (فَافْرُقْ) فافصل (بَيْنَنا) وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون
، وهو في معنى الدعاء عليهم. ولذلك وصل به قوله : (فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) على وجه التسبيب ، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم
«كقوله : (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ)(فَإِنَّها) فإن الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ
عَلَيْهِمْ) لا يدخلونها ولا يملكونها ، فان قلت : كيف يوفق بين هذا
وبين قوله (الَّتِي كَتَبَ اللهُ
لَكُمْ)؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد كتبها لكم بشرط أن
تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل : فإنها محرمة عليهم. والثاني : أن يراد فإنها
محرمة عليهم أربعين سنة ، فإذا مضت الأربعون كان ما كتب ، فقد روى أن موسى سار بمن
بقي من بنى إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء الله ثم
قبض صلوات الله عليه. وقيل : لما مات موسى بعث يوشع نبياً ، فأخبرهم بأنه نبىّ
الله ، وأن الله أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء وقتل
الجبارين وأخرجهم ، وصار الشام كله لبنى إسرائيل. وقيل : لم يدخل الأرض المقدسة
أحد ممن قال : (إِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها) وهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذرّياتهم فقاتلوا الجبارين
ودخلوها والعامل في الظرف إما (مُحَرَّمَةٌ) وإما (يَتِيهُونَ) ومعنى (يَتِيهُونَ فِي
الْأَرْضِ) يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً. والتيه : المفازة
التي يتاه فيها. روى أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين ،
حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظللهم
__________________
من حرّ الشمس ،
ويطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم ، وينزل عليهم المنّ والسلوى ، ولا تطول
شعورهم ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله. فإن قلت : فلم كان
ينعم عليهم بتظليل الغمام وغيره وهم معاقبون؟ قلت : كما ينزل بعض النوازل على
العصاة عركا لهم ، وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة. ومثل ذلك مثل الوالد
المشفق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولا يقطع عنه معروفه وإحسانه. فإن قلت : هل
كان معهم في التيه موسى وهرون عليهما السلام؟ قلت : اختلف في ذلك ، فقيل لم يكونا
معهم لأنه كان عقابا ، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم. وقيل : كانا
معهم إلا أنه كان ذلك روحا لهما وسلامة ، لا عقوبة ، كالنار لإبراهيم ، وملائكة
العذاب. وروى أن هرون مات في التيه ، ومات موسى بعده فيه بسنة. ودخل يوشع أريحاء
بعد موته بثلاثة أشهر. ومات النقباء في التيه بغتة ، إلا كالب ويوشع (فَلا تَأْسَ) فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم ، فقيل : إنهم
أحقاء لفسقهم بالعذاب ، فلا تحزن ولا تندم.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما
يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ
إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ
غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ
يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ
أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ
كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ
__________________
أَحْياها
فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا
بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ)(٣٢)
هما ابنا آدم
لصلبه قابيل وهابيل ، أوحى الله إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأمة الآخر ،
وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها «إقليما» فحسد عليها أخاه وسخط. فقال لهما آدم :
قرّبا قربانا ، فمن أيكما تقبل زوّجها ، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته ؛
فازداد قابيل حسدا وسخطا ، وتوعده بالقتل. وقيل : هما رجلان من بنى إسرائيل (بِالْحَقِ) تلاوة ملتبسة بالحق والصحة. أو اتله نبأ ملتبسا بالصدق
موافقا لما في كتب الأوّلين ، أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد ؛ لأن المشركين
وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه. أو اتل
عليهم وأنت محق صادق. و (إِذْ قَرَّبا) نصب بالنبإ ، أى قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت. ويجوز أن يكون
بدلا من النبأ ، أى اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت ، على تقدير حذف المضاف. والقربان
: اسم ما يتقرّب به إلى الله من نسيكة أو صدقة ، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى أى
يعطى. يقال : قرّب صدقة وتقرّب بها ، لأن تقرّب مطاوع قرّب : قال الأصمعى : تقربوا
قرف القمع فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب. فإن قلت : كيف كان قوله (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ) جوابا لقوله : (لَأَقْتُلَنَّكَ)؟ قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله
على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا
من قبلي ، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي
السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أنّ الله
تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن
عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة ، فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت؟
قال إنى أسمع الله يقول (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). (ما أَنَا بِباسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) قيل : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ، ولكنه تخرج عن قتل
أخيه واستسلم له خوفا من الله ؛ لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت. قاله مجاهد
وغيره (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي. فإن قلت :
كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت : المراد بمثل إثمى على الاتساع
في الكلام ، كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع
فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره.
__________________
ونحوه قوله عليه
الصلاة والسلام «المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم » على أنّ البادي عليه إثم سبه ، ومثل إثم سب صاحبه ؛ لأنه
كان سببا فيه ، إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفوّ عنه ، لأنه مكافئ مدافع عن
عرضه. ألا ترى إلى قوله «ما لم يعتد المظلوم» لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى
لم يسلم. فإن قلت : فحين كف هابيل قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظورا في
شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت : هو
مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدّر ، كأنه قال : إنى أريد أن تبوء بمثل إثمى لو
بسطت يدي إليك. وقيل (بِإِثْمِي) بإثم قتلى (وَإِثْمِكَ) الذي من أجله لم يتقبل قربانك. فإن قلت : فكيف جاز أن يريد
شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار؟ قلت : كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد. ألا
ترى إلى قوله تعالى (وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ) وإذا جاز أن يريده الله ، جاز أن يريده العبد ؛ لأنه لا
يريد إلا ما هو حسن . والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب.
فإن قلت : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله : (لَئِنْ بَسَطْتَ .....
__________________
ما
أَنَا بِباسِطٍ)؟ قلت : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع.
ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي ، (فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) فوسعته له ويسرته ، من طاع له المرتع : إذا اتسع. وقرأ
الحسن : فطاوعت. وفيه وجهان : أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل ، وأن يراد أنّ
قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع ، وله لزيادة الربط
كقولك : حفظت لزيد ماله. وقيل : قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء
، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم (فَبَعَثَ اللهُ
غُراباً) روى أنه أوّل قتيل قتل على وجه الأرض من بنى آدم. ولما
قتله تركه بالعراء لا يدرى ما يصنع به ، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره
سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ،
فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ
أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) ويروى أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن
أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا ؛ فقال بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. وروى أنّ آدم
مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك» وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا
منحول ملحون. وقد صحّ أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. (لِيُرِيَهُ) ليريه الله. أو ليريه الغراب ، أى ليعلمه ؛ لأنه لما كان
سبب تعليمه ، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز (سَوْأَةَ أَخِيهِ) عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. والسوأة :
الفضيحة لقبحها. قال :
يَا لَقَوْمِ لِلسَّوْأةِ السَّوْآء
أى للفضيحة
العظيمة فكنى بها عنها (فَأُوارِيَ) بالنصب على جواب الاستفهام. وقرئ بالسكون على : فأنا
أوارى. أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف (مِنَ النَّادِمِينَ) على قتله ، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ، وتبين له
من عجزه ، وتلمذه للغراب ، واسوداد لونه وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) بسبب ذلك وبعلته. وقيل : أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله
أجلا. ومنه قوله :
وَأَهْلِ
خِبَاءٍ صَالحٍ ذَاتُ بَيْنِهِمْ
|
|
قَدم
احْتَرَبُوا فِى عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ
|
__________________
كأنك إذا قلت : من
أجلك فعلت كذا ، أردت من أن جنيت فعله وأوجبته ، ويدل عليه قولهم : من جراك فعلته
، أى من أن جررته بمعنى جنيته. وذلك إشارة إلى القتل المذكور ، أى من أن جنى ذلك
القتل الكتب وجرّه (كَتَبْنا عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ) و «من» لابتداء
الغاية ، أى ابتدأ والكتب نشأ من أجل ذلك. ويقال : فعلت كذا لأجل كذا. وقد يقال :
أجل كذا ، بحذف الجار وإيصال الفعل قال : أجل أنّ الله قد فضلكم. وقرئ : من اجل
ذلك ، بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها. وقرأ أبو جعفر : من إجل ذلك ،
بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسرة الهمزة عليها (بِغَيْرِ نَفْسٍ) بغير قتل نفس ، لا على وجه الاقتصاص (أَوْ فَسادٍ) عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد (فِي الْأَرْضِ) وهو الشرك. وقيل : قطع الطريق (وَمَنْ أَحْياها) ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو
هدم أو غير ذلك. فإن قلت : كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت : لأن كل
إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة ، فإذا قتل فقد
أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس ، فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع
في ذلك. فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت : تعظيم قتل النفس وإحيائها في
القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها ، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها ؛ لأنّ
المتعرّض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه ،
وكذلك الذي أراد إحياءها. وعن مجاهد : قاتل النفس جزاؤه جهنم ، وغضب الله ،
والعذاب العظيم. ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك. وعن الحسن : يا ابن آدم ، أرأيت
لو قتلت الناس جميعاً أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازى ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه
شيء سوّلته لك نفسك والشيطان ، فكذلك إذا قتلت واحداً (بَعْدَ ذلِكَ) بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات (لَمُسْرِفُونَ) يعنى في القتل لا يبالون بعظمته
(إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ)(٣٤)
__________________
(يُحارِبُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحاربة المسلمين
في حكم محاربته (وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) مفسدين ، أو لأنّ سعيهم في الأرض لما كان على طريق الفساد
نزل منزلة : ويفسدون في الأرض فانتصب فسادا. على المعنى ، ويجوز أن يكون مفعولا له
، أى للفساد. نزلت في قوم هلال بن عويمر وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم عهد وقد مرّ بهم قوم يريدون رسول الله فقطعوا عليهم. وقيل : في العرنيين ،
فأوحى إليه أنّ من جمع بين القتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أفرد القتل قتل. ومن
أفرد أخذ المال قطعت يده لأخذ المال ، ورجله لإخافة السبيل. ومن أفرد الإخافة نفى
من الأرض. وقيل : هذا حكم كل قاطع طريق كافرا كان أو مسلما. ومعناه (أَنْ يُقَتَّلُوا) من غير صلب ، إن أفردوا القتل (أَوْ يُصَلَّبُوا) مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ. قال أبو حنيفة ومحمد
رحمهما الله ، يصلب حيا ، ويطعن حتى يموت (أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) إن أخذوا المال (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إذا لم يزيدوا على الإخافة. وعن جماعة منهم الحسن والنخعي
: أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق من غير تفصيل. والنفي : الحبس
عند أبى حنيفة ، وعند الشافعي : النفي من بلد إلى بلد ، لا يزال يطلب وهو هارب
فزعا ، وقيل : ينفى من بلده ، وكانوا ينفونهم إلى «دهلك» وهو بلد في أقصى تهامة ، و
«ناصع» وهو بلد من بلاد الحبشة (خِزْيٌ) ذلّ وفضيحة (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) استثناء من المعاقبين عقاب قطع الطريق خاصة. وأما حكم
القتل والجراح وأخذ المال فإلى الأولياء ، إن شاءوا عفوا ، وإن شاءوا استوفوا. وعن
على رضى الله عنه : أنه الحرث بن بدر جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق ، فقبل توبته ودرأ عنه
العقوبة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣٥)
الوسيلة : كل ما
يتوسل به أى يتقرّب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك ، فاستعيرت لما يتوسل به إلى
الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي. وأنشد للبيد :
أَرَى النَّاسَ
لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أمْرِهِمْ
|
|
أَلَا كُلُّ ذّ
لُبٍ إلىَ اللهِ وَاسِلُ
|
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٧)
(لِيَفْتَدُوا بِهِ) ليجعلوه فدية لأنفسهم. وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم ، وأنه
لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يقال للكافر يوم
القيامة : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدى به ، فيقول : نعم ، فيقال
له : قد سئلت أيسر من ذلك » و «لو» مع ما في حيزه خبر «أن». فإن قلت : لم وحد الراجع
في قوله : (لِيَفْتَدُوا بِهِ) وقد ذكر شيئان؟ قلت : نحو قوله :
فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
__________________
أو على إجراء
الضمير مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل : ليفتدوا بذلك. ويجوز أن يكون الواو في : (مِثْلَهُ) بمعنى «مع» فيتوحد المرجوع إليه. فإن قلت : فبم ينصب
المفعول معه؟ قلت : بما يستدعيه «لو» من الفعل ، لأن التقدير : لو ثبت أن لهم ما
في الأرض. قرأ أبو واقد (أن يخرجوا) بضم الياء من أخرج. ويشهد لقراءة العامّة قوله
: (بِخارِجِينَ). وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس : يا
أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : (وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنْها) فقال : ويحك ، اقرأ ما فوقها. هذا للكفار. فمما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وفراهم. وكفاك بما فيه من مواجهة ابن
الأزرق ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش
وأنضاده من بنى عبد المطلب وهو حبر الأمّة وبحرها ومفسرها ،
بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا ، ويرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين
أن الحديث فرية ما فيها مرية.
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٠)
__________________
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ) رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه ، كأنه قيل : وفيما فرض عليكم السارق والسارقة
أى حكمهما. ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء ، والخبر (اقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط ، لأنّ المعنى : والذي
سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما ، والاسم الموصول يضمن معنى الشرط. وقرأ عيسى بن
عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر لأنّ «زيداً فاضربه» أحسن
من «زيد فاضربه» (أَيْدِيَهُما) يديهما ، ونحوه (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف. وأريد باليدين
__________________
اليمينان ، بدليل
قراءة عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ، والسارق في الشريعة : من
سرق من الحرز : والمقطع. الرسغ. وعند الخوارج : المنكب. والمقدار الذي يجب به
القطع عشرة دراهم عند أبى حنيفة ، وعند مالك والشافعي رحمهما الله ربع دينار. وعن
الحسن درهم وفي مواعظه : احذر من قطع يدك في درهم (جَزاءً) و (نَكالاً) مفعول لهما (فَمَنْ تابَ) من السرّاق (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) من بعد سرقته (وَأَصْلَحَ) أمره بالتفصى عن التبعات (فَإِنَّ اللهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ) ويسقط عنه عقاب الآخرة. وأمّا القطع فلا تسقطه التوبة عند
ابى حنيفة وأصحابه وعند الشافعي في أحد قوليه تسقطه (مَنْ يَشاءُ) من يجب في الحكمة تعذيبه والمغفرة له من المصرين
والتائبين. وقيل : يسقط حدّ الحربي إذا سرق بالتوبة ، ليكون أدعى له إلى الإسلام
وأبعد من التنفير عنه ، ولا يسقطه عن المسلم : لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). فإن قلت : لم قدّم التعذيب على المغفرة ؟ قلت : لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة.
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ
قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
عَذابٌ عَظِيمٌ)(٤١)
قرئ (لا يحزنك)
بضم الياء. ويسرعون. والمعنى : لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين (فِي الْكُفْرِ) أى في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن
موالاة المشركين ، فإنى ناصرك عليهم وكافيك شرّهم. يقال : أسرع فيه الشيب ، وأسرع
فيه الفساد ، بمعنى : وقع
__________________
فيه سريعاً ،
فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه ، أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم
يخطؤها. و (آمَنَّا) مفعول قالوا : و (بِأَفْواهِهِمْ) متعلق بقالوا لا بآمنا (وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا) منقطع مما قبله خبر لسماعون ، أى : ومن اليهود قوم سماعون.
ويجوز أن يعطف على : (مِنَ الَّذِينَ
قالُوا) ويرتفع سماعون على : هم سماعون. والضمير للفريقين. أو
للذين هادوا. ومعنى (سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ) قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله
وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان. ومنه «سمع الله لمن حمده» (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ) يعنى اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله
عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدة البغضاء وتبالغ من العداوة ، أى
قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك.
وقيل : سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمسخوا
ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير ، سماعون من رسول الله لأجل قوم
آخرين من اليهود وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه. وقيل : السماعون : بنو
قريظة. والقوم الآخرون : يهود خيبر (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ) يميلونه ويزيلونه (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) التي وضعه الله تعالى فيها ، فيهملونه بغير مواضع بعد أن
كان ذا مواضع (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) المحرف المزال عن مواضعه (فَخُذُوهُ) واعلموا أنه الحق واعملوا به (وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ) وأفتاكم محمد بخلافه (فَاحْذَرُوا) وإياكم وإياه فهو الباطل والضلال. وروى أن شريفاً من خيبر
زنى بشريفة وهما محصنان وحدّهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا
رهطا منهم إلى بنى قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وقالوا :
إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا ، وأرسلوا الزانيين
معهم ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل : اجعل بينك وبينهم ابن
صوريا ، فقال هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا :
نعم وهو أعلم يهودى على وجه الأرض ورضوا به حكما. فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم : أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور
وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه ، هل تجدون فيه
الرجم على من أحصن؟ قال : نعم ، فوثب عليه سفلة اليهود ، فقال : خفت إن كذبته أن
ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من
أعلامه فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمى العربي الذي بشر
به المرسلون ، وأمر رسول الله صلى
__________________
الله عليه وسلم
الزانيين فرجما عند باب مسجده (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ
فِتْنَتَهُ) تركه مفتوناً وخذلانه (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ
مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئا (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ) أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم ؛ لأنهم ليسوا من
أهلها ، لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع (إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمانِهِمْ).
(سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)(٤٣)
(لِلسُّحْتِ) كل ما لا يحل كسبه ، وهو من ـ سحته ـ إذا استأصله لأنه
مسحوت البركة كما قال تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا) والربا باب منه. وقرئ (لِلسُّحْتِ) بالتخفيف والتثقيل. والسحت بفتح السين على لفظ المصدر من
سحته. والسحت ، بفتحتين. والسحت ، بكسر السين. وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام
وتحليل الحرام. وعن الحسن : كان الحاكم في بنى إسرائيل إذا أتاه
__________________
أحدهم برشوة جعلها
في كمه فأراها إياه وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيأكل الرشوة
ويسمع الكذب. وحكى أن عاملا قدم من عمله فجاءه قومه ، فقدم إليهم العراضة وجعل يحدّثهم بما جرى له في عمله ، فقال أعرابى من القوم :
نحن كما قال الله تعالى : (سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «كل لحم أنبته السحت
فالنار أولى به» قيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً ـ إذا
تحاكم إليه أهل الكتاب ـ بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم. وعن عطاء والنخعي
والشعبي : أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين ، فإن شاءوا حكموا وإن شاءوا
أعرضوا. وقيل : هو منسوخ بقوله : (وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وعند أبى حنيفة رحمه الله : إن احتكموا إلينا حملوا على
حكم الإسلام ، وإن زنى منهم رجل بمسلمة أو سرق من مسلم شيئا أقيم عليه الحدّ. وأما
أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم ، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على
شركهم وهو أعظم الحدود. ويقولون : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل
نزول الجزية (فَلَنْ يَضُرُّوكَ
شَيْئاً) لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون
عليهم ، كالجلد مكان الرجم. فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم ، شق عليهم وتكرهوا
إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضاروه ، فأمن الله سربه (بِالْقِسْطِ) بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) تعجيب من تحكيمهم
__________________
لمن لا يؤمنون به
وبكتابه ، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا
يرضون به (وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم كما يدّعون. أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان
على سبيل التهكم بهم. فإن قلت : (فِيها حُكْمُ اللهِ) ما موضعه من الإعراب؟ قلت : إمّا أن ينتصب حالا من التوراة
وهي مبتدأ خبره عندهم وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك : وعندهم التوراة ناطقة بحكم
الله وإمّا أن لا يكون له محل وتكون جملة مبينة ، لأنّ عندهم ما يغنيهم عن التحكيم
، كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب ، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت : لم
أنثت التوراة؟ قلت : لكونها نظيرة لموماة ودوداة ونحوها في كلام العرب. فإن قلت :
علام عطف ثم يتولون؟ قلت : على يحكمونك.
(إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا
مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ
وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما
أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٤٤)
(فِيها هُدىً) يهدى للحق والعدل (وَنُورٌ) يبين ما استبهم من الأحكام (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح ، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة
__________________
والتوضيح ، وأريد
بإجرائها التعريض باليهود ، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم
في القديم والحديث ، وأنّ اليهودية بمعزل منها. وقوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) مناد على ذلك (وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ) والزهاد والعلماء من ولد هارون ، الذين التزموا طريقة
النبيين وجانبوا دين اليهود (بِمَا اسْتُحْفِظُوا
مِنْ كِتابِ اللهِ) بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة ، أى بسبب سؤال
أنبيائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل. و (مِنْ) في : (مِنْ كِتابِ اللهِ) للتبيين (وَكانُوا عَلَيْهِ
شُهَداءَ) رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين
موسى وعيسى ، وكان بينهما ألف نبىّ وعيسى للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة
لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على
حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد. وكذلك حكم الربانيون
والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب الله والقضاء بأحكامه ،
وبسبب كونهم عليه شهداء. ويجوز أن يكون الضمير في : (اسْتُحْفِظُوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا ويكون الاستحفاظ من
الله ، أى كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء (فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ) نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها وإمضائها على
خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء
والأصدقاء (وَلا تَشْتَرُوا) ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا (بآيات الله) وأحكامه (ثَمَناً قَلِيلاً) وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرّف أحبار
اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرئاسة فهلكوا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ) مستهينا به (فَأُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ) والظالمون والفاسقون : وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا
آيات الله بالاستهانة. وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما :
أنّ الكافرين والظالمين والفاسقين : أهل الكتاب.
__________________
وعنه : نعم القوم
أنتم ، ما كان من حلو فلكم ، ومن كان من مرّ فهو لأهل الكتاب ، من جحد حكم الله
كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقرّ فهو ظالم فاسق. وعن الشعبي : هذه في أهل الإسلام ،
والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى. وعن ابن مسعود : هو عام في اليهود
وغيرهم. وعن حذيفة : أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل : لتركبن طريقهم حذو النعل
بالنعل والقذة بالقذة ، غير أنى لا أدرى أتعبدون العجل أم لا؟
(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ
فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٤٥)
في مصحف أبىّ :
وأنزل الله على بنى إسرائيل فيها. وفيه : وأن الجروح قصاص. والمعطوفات كلها قرئت
منصوبة ومرفوعة ، والرفع للعطف على محل أن النفس ، لأن المعنى وكتبنا عليهم النفس
بالنفس ، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفس
بالنفس مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة. تقول : كتبت الحمد لله ، وقرأت
سورة أنزلناها. ولذلك قال الزجاج : لو قرئ : إن النفس بالنفس ، بالكسر ؛ لكان
صحيحاً. أو للاستئناف. والمعنى : فرضنا عليهم فيها (أَنَّ النَّفْسَ) مأخوذة (بِالنَّفْسِ) مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق (وَ) كذلك (الْعَيْنَ) مفقوءة (بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ) مجدوع (بِالْأَنْفِ
وَالْأُذُنَ) مصلومة (بِالْأُذُنِ
وَالسِّنَ) مقلوعة (بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) ذات قصاص ، وهو المقاصة ، ومعناه : ما يمكن فيه القصاص
وتعرف المساواة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة
فنزلت (فَمَنْ تَصَدَّقَ) من أصحاب الحق (بِهِ) بالقصاص وعفا عنه (فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ) فالتصدق به كفارة للمتصدق يكفر الله من سيئاته ما تقتضيه
الموازنة كسائر طاعاته ، وعن عبد الله بن عمرو يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به
، وقيل : فهو كفارة للجاني ، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه ، وفي قراءة
أبىّ : فهو كفارة له يعنى فالمتصدق كفارته له أى الكفارة التي يستحقها له لا ينقص
منها ، وهو تعظيم لما فعل ، كقوله تعالى : (فَأَجْرُهُ عَلَى
اللهِ) وترغيب في العفو.
(وَقَفَّيْنا عَلى
آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً
__________________
وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧)
قفيته مثل عقبته ،
إذا أتبعته ، ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء فإن
قلت : فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت ، هو محذوف والظرف الذي هو (عَلى آثارِهِمْ) كالسادّ مسدّه ؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه
، والضمير في آثارهم للنبيين في قوله : (يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا). وقرأ الحسن : الإنجيل بفتح الهمزة ؛ فإن صح عنه فلأنه
أعجمى خرج لعجمته عن زناة العربية ، كما خرج هابيل وآجر (وَمُصَدِّقاً) عطف على محل (فِيهِ هُدىً) ومحله النصب على الحال (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً) يجوز أن ينتصبا على الحال. كقوله : (مُصَدِّقاً) وأن ينتصبا مفعولا لهما ، كقوله : (وَلْيَحْكُمْ) كأنه قيل. وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل ، وللحكم بما
أنزل الله فيه من الأحكام. فإن قلت : فإن نظمت (هُدىً وَمَوْعِظَةً) في سلك مصدقا ، فما تصنع بقوله وليحكم قلت : أصنع به ما
صنعت بهدى وموعظة حين جعلتهما مفعولا لهما ، فأقدّر : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل
الله آتيناه إياه. وقرئ : وليحكم على لفظ الأمر بمعنى : وقلنا ليحكم. وروى في
قراءة أبى : وأن ليحكم ، بزيادة «أن» مع الأمر على أنّ «أن» موصولة بالأمر ، كقولك
: أمرته بأن قم كأنه قيل : وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل. وقيل :
إن عيسى عليه السلام كان متعبداً بما في التوراة من الأحكام ؛ لأن الإنجيل مواعظ
وزواجر والأحكام فيه قليلة. وظاهر قوله (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) يردّ ذلك ، وكذلك قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وإن ساغ لقائل أن يقول : معناه : وليحكموا بما أنزل الله
فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة.
(وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٤٨)
فإن قلت : أى فرق
بين التعريفين في قوله (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) وقوله (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتابِ)؟ قلت : الأول تعريف العهد ، لأنه عنى به القرآن. والثاني
تعريف الجنس ، لأنه
غنى به جنس الكتب
المنزلة : ويجوز أن يقال : هو للعهد ؛ لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على
الإطلاق ؛ وإنما أريد نوع معلوم منه ، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن (وَمُهَيْمِناً) ورقيبا على سائر الكتب ؛ لأنه يشهد لها بالصحة والثبات.
وقرئ (وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ) بفتح الميم ، أى هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل ،
كما قال : (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) والذي هيمن عليه الله عزّ وجلّ أو الحفاظ في كل بلد ، لو
حُرِّف حَرْف منه أو حركة أو سكون لتنبه عليه كل أحد ، ولاشمأزوا رادّين ومنكرين.
ضمن (وَلا تَتَّبِعْ) معنى ولا تنحرف ؛ فلذلك عدّى بعن كأنه قيل : ولا تنحرف عما
جاءك من الحق متبعا أهواءهم (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ) أيها الناس (شِرْعَةً) شريعة. وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الشين (وَمِنْهاجاً) وطريقا واضحا في الدين تجرون عليه. وقيل : هذا دليل على
أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا (لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) جماعة متفقة على شريعة واحدة ، أو ذوى أمة واحدة أى دين
واحد لا اختلاف فيه (وَلكِنْ) أراد (لِيَبْلُوَكُمْ فِي
ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة ، هل تعملون بها مذغنين معتقدين أنها
مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات ، معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها
إلا ما اقتضته الحكمة؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل؟ (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فابتدروها وتسابقوا نحوها (إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ) استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات (فَيُنَبِّئُكُمْ) فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم
ومبطلكم ، وعاملكم ومفرطكم في العمل.
(وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ)(٤٩)
فإن قلت : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) معطوف على ما ذا؟ قلت : على : (الْكِتابَ) في قوله (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ) كأنه قيل : وأنزلنا إليك أن احكم على أنّ «أن» وصلت بالأمر
، لأنه فعل كسائر الأفعال : ويجوز أن يكون معطوفا على : (بِالْحَقِّ) أى أنزلناه بالحق وبأن احكم (أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أن يضلوك عنه ويستزلوك : وذلك أن كعب بن أسيد وعبد الله بن
صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه ،
فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود ، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم
ولم يخالفونا ، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضى لنا عليهم ، ونحن
نؤمن بك ونصدّقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ)
يعنى بذنب التولي
عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) موضع ذلك وأراد أنّ لهم ذنوباً جمة كثيرة العدد ، وأنّ هذا
الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها ، وهذا الإيهام لتعظيم التولي واستسرافهم في
ارتكابه. ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد :
أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
أراد نفسه : وإنما
قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفسا كبيرة ، ونفساً أىّ نفس ، فكما أن
التنكير يعطى معنى التكبير وهو معنى البعضية ، فكذلك إذا صرح بالبعض (لَفاسِقُونَ) المتمرّدون في الكفر معتدون فيه ، يعنى أنّ التولي عن حكم
الله من التمرّد العظيم والاعتداء في الكفر.
(أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٥٠)
(أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) فيه وجهان ، أحدهما : أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه أن
يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى : وروى أنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لهم «القتلى بواء» فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت : والثاني : أن يكون تعبيراً لليهود بأنهم أهل كتاب
وعلم ، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل ، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع
إلى وحى من الله تعالى : وعن الحسن : هو عامّ في كل من يبغى غير حكم الله : والحكم
حكمان : حكم بعلم فهو حكم الله ، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل طاوس عن الرجل
يفضل بعض ولده على بعض ، فقرأ هذه الآية : وقرئ : تبغون ، بالتاء والياء : وقرأ
السلمى : أفحكم الجاهلية يبغون ، برفع الحكم على الابتداء ، وإيقاع يبغون خبراً
وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في : (أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وعن الصفة في : الناس رجلان : رجل أهنت ، ورجل أكرمت. وعن
الحال في «مررت بهند يضرب زيد» وقرأ قتادة (أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ) على أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنما
__________________
يحكم به أفعى
نجران ، أو نظيره من حكام الجاهلية ، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين
حكما كأولئك الحكام. اللام في قوله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) للبيان كاللام في : (هَيْتَ لَكَ) أى هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون ، فإنهم الذين
يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا
دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ
فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)(٥٣)
لا تتخذوهم أولياء
تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل
النهى بقوله (بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أى إنما يوالى بعضهم بعضا لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر
، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ) من جملتهم وحكمه حكمهم. وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب
مجانبة المخالف في الدين واعتزاله ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا
تراءى ناراهما» ومنه قول عمر رضى الله عنه لأبى موسى في كاتبه النصراني :
لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم
الله : وروى أنه قال له أبو موسى : لا قوام للبصرة إلا به ، فقال : مات النصراني
والسلام ، يعنى هب أنه قد مات ، فما كنت تكون صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة ، واستغن
عنه بغيره (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعنى الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ويخذلهم مقتا لهم (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) ينكمشون في موالاتهم
__________________
ويرغبون فيها
ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان ، أى صرف من صروفه
ودولة من دوله ، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم. وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه
أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ لي موالي من يهود كثيراً عددهم ،
وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم وأُوالى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبىّ :
إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالىّ وهم يهود بنى قينقاع (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين
(أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ) يقطع شأفة اليهود ويجلبهم عن بلادهم ، فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا
به أنفسهم : وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون :
ما نظن أن يتم له أمر ، وبالحرى أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء. وقيل أو أمر من
عنده : أو أن يؤمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم
فيندموا على نفاقهم. وقيل : أو أمر من عند الله لا يكون فيه للناس فعل كبني النضير
الذين طرح الله في قلوبهم الرعب ، فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا
ركاب (وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا) قرئ بالنصب عطفاً على أن يأتى ، وبالرفع على أنه كلام
مبتدأ ، أى : ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت : وقرئ : يقول ، بغير واو ، وهي في
مصاحف مكة والمدينة والشأم كذلك على أنه جواب قائل يقول : فما ذا يقول المؤمنون حينئذ؟
فقيل : يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا. فإن قلت : لمن يقولون هذا القول؟
قلت : إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما منّ الله عليهم من
التوفيق في الإخلاص (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا) لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار.
وإمّا أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة ، كما حكى الله عنهم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ). (حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) من جملة قول المؤمنين ، أى بطلت أعمالهم التي كانوا
يتكلفونها في رأى أعين الناس. وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم! فما
أخسرهم! أو من قول الله عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجباً من سوء حالهم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
__________________
وَلا
يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ
واسِعٌ عَلِيمٌ)(٥٤)
وقرئ (مَنْ يَرْتَدَّ) ومن يرتدد ، وهو في الإمام بدالين ، وهو من الكائنات التي
أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقيل : بل كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة : ثلاث
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : بنو مدلج ، ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود
العنسي ، وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده ، وأخرج عمال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات
اليمن ، فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بقتله ليلة قتل ، فسرّ المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الغد. وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول . وبنو حنيفة ،
__________________
قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة
رسول الله إلى محمد رسول الله. أمّا بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب عليه
الصلاة والسلام : «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد ، فإن الأرض لله
يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» فحاربه أبو بكر رضى الله عنه بجنود
المسلمين ، وقتل على يدي وحشى قاتل حمزة. وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية
، وشرّ الناس في الإسلام ، أراد في جاهليتى وإسلامى. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد
تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبع في
عهد أبى بكر رضى الله عنه : فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرّة بن سلمة
القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل ، وبنو يربوع قوم
__________________
مالك بن نويرة
وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب ، وفيها
يقول أبو العلاء المعرى في كتاب استغفر واستغفري :
أمَّتْ سجَاحٌ
وَوَالاهَا مُسَيْلِمَةٌ
|
|
كَذَّابَةٌ فِى
بَنِى الدُّنْيَا وَكَذَّابُ
|
وكندة قوم الأشعث
بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم بن زيد ، وكفى الله أمرهم على يد
أبى بكر رضى الله عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر رضى الله عنه : غسان قوم جبلة ابن
الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) قبل لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى
موسى الأشعرى فقال : «قوم هذا » وقيل هم ألفان من النخع ، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ،
وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية. وقيل : هم الأنصار. وقيل : سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال : «هذا وذووه» ثم قال
: لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس (يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ) محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته ، وأن لا يفعلوا
ما يوجب سخطه وعقابه. ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على
طاعتهم ويعظمهم ويثنى
__________________
عليهم ويرضى عنهم
: وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة ،
وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً ، وهم الفرقة المفتعلة
المتفعلة من الصوف ، وما يدينون به من المحبة والعشق ، والتغني على كراسيهم خربها
الله ، وفي مراقصهم عطلها الله ، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم
شهداء ، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دكّ الطور ، فتعالى الله عنه علواً
كبيراً ، ومن كلماتهم : كما أنه بذاته يحبهم ، كذلك يحبون ذاته ، فإنّ الهاء راجعة
إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها : الحب شرطه أن تلحقه
__________________
سكرات المحبة ،
فإذا لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة. فإن قلت : أين الراجع من الجزاء إلى الاسم
المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت : هو محذوف معناه : فسوف يأتى الله بقوم مكانهم أو بقوم
غيرهم ، أو ما أشبه ذلك (أَذِلَّةٍ) جمع ذليل. وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذلّ الذي
هو نقيض الصعوبة ، فقد غبي عنه أنّ ذلولا لا يجمع على أذلة. فإن قلت : هلا قيل
أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما أن يضمن الذلّ معنى
الحنوّ والعطف «كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني : أنهم
مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. ونحوه قوله عز وجل
: (أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) وقرئ : أذلة. وأعزة ، بالنصب على الحال (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) يحتمل أن تكون الواو للحال ، على أنهم يجاهدون وحالهم في
المجاهدة خلاف حال المنافقين ، فإنهم كانوا موالين لليهود ـ لعنت ـ فإذا خرجوا في
جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود ، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه
لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط.
وأن تكون للعطف ، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله ، وأنهم صلاب في دينهم ،
إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف ، مضوا فيه كالمسامير
المحماة ، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم ، يشق عليه جدهم في
إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. واللومة : المرّة من اللوم ، وفيها وفي التنكير
مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام. و (ذلِكَ) إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة
والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة (يُؤْتِيهِ) يوفق له (مَنْ يَشاءُ) ممن يعلم أنّ له لطفاً (واسِعٌ) كثير الفواضل والألطاف (عَلِيمٌ) بمن هو من أهلها.
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(٥٥)
عقب النهى عن
موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) ومعنى «إنما» وجوب اختصاصهم بالموالاة. فإن قلت : قد ذكرت
جماعة ، فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت : أصل الكلام : إنما وليكم الله ، فجعلت
الولاية لله على طريق الأصالة ، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله صلى
الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التبع ، ولو قيل : إنما أولياؤكم الله ورسوله
والذين آمنوا ، لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد الله : إنما مولاكم. فإن
قلت : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ) ما محله؟ قلت : الرفع على البدل من الذين آمنوا ، أو على :
هم الذين يقيمون. أو النصب على المدح. وفيه تمييز للخلص من الذين
آمنوا نفاقا ، أو
واطأت قلوبهم ألسنتهم إلا أنهم مفرطون في العمل (وَهُمْ راكِعُونَ) الواو فيه للحال ، أى يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع
والإخبات والتواضع لله إذا صلوا وإذا زكوا. وقيل : هو حال من يؤتون الزكاة ، بمعنى
يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة ، وإنها نزلت في علىّ كرم الله وجهه حين سأله
سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه ، كأنه كان مرجا في خنصره ، فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.
فإن قلت : كيف صح أن يكون لعلىّ رضى الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت : جيء به على
لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحداً ، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل
ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على
البرّ والإحسان وتفقد الفقراء ، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخروه إلى الفراغ منها.
(وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)(٥٦)
(فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ) من إقامة الظاهر مقام المضمر . ومعناه : فإنهم هم الغالبون ، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاما
لكونهم حزب الله. وأصل الحزب؟ القوم يجتمعون لأمر حزبهم. ويحتمل أن يريد بحزب الله
: الرسول والمؤمنين. ويكون المعنى : ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا
يغالب.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً
وَلَعِباً مِنَ
__________________
الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَعْقِلُونَ)(٥٨)
روى أن رفاعة بن
زيد وسويد بن الحرث كانا قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين
يوادّونهما ، فنزلت. يعنى أن اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصح أن يقابل باتخاذكم
إياهم أولياء ، بل يقابل ذلك بالبغضاء والشنآن والمنابذة. وفصل المستهزئين بأهل
الكتاب والكفار ـ وإن كان اهل الكتاب من الكفار ـ إطلاقا للكفار على المشركين
خاصة. والدليل عليه قراءة عبد الله : ومن الذين أشركوا. وقرئ : والكفار بالنصب
والجرّ. وتعضد قراءة الجر قراءة أُبىّ : ومن الكفار (وَاتَّقُوا اللهَ) في موالاة الكفار وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) حقاً ؛ لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين (اتَّخَذُوها) الضمير للصلاة أو للمناداة. قيل كان رجل من النصارى
بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول «أشهد أنّ محمداً رسول الله» قال : حرّق الكاذب ،
فدخلت خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم ، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت ،
واحترق هو وأهله. وقيل : فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا
بالمنام وحده (لا يَعْقِلُونَ) لأنّ لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة ، فكأنه لا
عقل لهم.
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)(٥٩)
قرأ الحسن. هل
تنقمون بفتح القاف. والفصيح كسرها. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان
بالكتب المنزلة كلها (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فاسِقُونَ). فإن قلت : علام عطف قوله (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فاسِقُونَ)؟ قلت : فيه وجوه : منها أن يعطف على أن آمنا ، بمعنى : وما
تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان ، كأنه قيل :
وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه. ويجوز أن
يكون على تقدير حذف المضاف ، أى واعتقاد أنكم فاسقون. ومنها أن يعطف على المجرور ،
أى وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل وبأنّ أكثركم فاسقون. ويجوز أن
تكون الواو بمعنى مع ، أى وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أنّ أكثركم
__________________
فاسقون. ويجوز أن
يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف ، كأنه قيل : وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة
إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات. ويدل عليه تفسير الحسن : بفسقكم نقمتم ذلك
علينا.
(قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ
الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ
(٦٠)
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا
بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) (٦١)
وروى أنه أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال «أو من
بالله وما أنزل إلينا إلى قوله : ونحن له مسلمون» فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه
السلام : ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شراً من
دينكم . فنزلت. وعن نعيم بن ميسرة : وإنّ أكثركم ، بالكسر. ويحتمل أن ينتصب (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون ، أى : ولا تنقمون أن
أكثركم فاسقون ، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوف ، أى وفسقكم ثابت معلوم عندكم
، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل ، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا
يدعكم فتنصفوا (ذلِكَ) إشارة إلى المنقوم ، ولا بدّ من حذف مضاف قبله ، أو قبل
«من» تقديره : بشرّ من أهل ذلك ، أو دين من لعنه الله. و (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) في محل الرفع على قولك : هو من لعنه الله ، كقوله تعالى : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
ذلِكُمُ النَّارُ) أو في محل الجر على البدل من شرّ. وقرئ : مثوبة. ومثوبة.
ومثالهما : مشورة ، ومسورة. فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف جاءت في
الإساءة؟ قلت : وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله :
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
__________________
ومنه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). فإن قلت : المعاقبون من الفريقين هم اليهود ، فلم شورك
بينهم في العقوبة؟ قلت : كان اليهود ـ لعنوا ـ يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون
للعقاب ، فقيل لهم : من لعنه الله شر عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في
زعمكم ودعواكم (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على صلة «من» كأنه قيل :
ومن عبد الطاغوت. وفي قراءة أبىّ وعبدوا الطاغوت ، على المعنى. وعن ابن مسعود :
ومن عبدوا. وقرئ وعابد الطاغوت ، عطفاً على القردة. وعابدى. وعباد. وعبد. وعبد.
ومعناه : الغلوّ في العبودية ، كقولهم ، رجل حذر وفطن ، للبليغ في الحذر والفطنة.
قال :
أَبَنِى
لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ
|
|
أَمَةٌ وَإنَّ
أبَاكُمُو عَبْدُ
|
وعبد ، بوزن حطم.
وعبيد. وعبد ـ بضمتين ـ جمع عبيد : وعبدة بوزن كفرة. وعبد ، وأصله عبدة ، فحذفت
التاء للإضافة. أو هو كخدم في جمع خادم. وعبد وعباد. وأعبد. وعبد الطاغوت ، على البناء للمفعول ، وحذف
الراجع ، بمعنى : وعبد الطاغوت فيهم ، أو بينهم. وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت
معبوداً من دون الله ، كقولك «أمر» إذا صار أميراً. وعبد الطاغوت ، بالجر عطفاً
على: (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ). فإن قلت : كيف جاز أن يجعل الله منهم
__________________
عباد الطاغوت؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوه. والثاني
: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) وقيل الطاغوت : العجل ؛ لأنه معبود من دون الله ، ولأن
عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان ، فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو
الطاغوت. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنه : أطاعوا الكهنة ، وكل من أطاع أحداً في
معصية الله فقد عبده. وقرأ الحسن : الطواغيت. وقيل : وجعل منهم القردة أصحاب السبت
، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى. وقيل : كلا المسخين من أصحاب السبت ، فشبانهم
مسخوا قردة ، ومشايخهم مسخوا خنازير. وروى أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون
اليهود ويقولون يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم (أُولئِكَ) الملعونون الممسوخون (شَرٌّ مَكاناً) جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله. وفيه مبالغة ليست في قولك
: أولئك شر وأضل ، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز. نزلت في ناس من
اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يظهرون له الإيمان
نفاقا ، فأخبره الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا ، لم يتعلق بهم
شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك. وقوله : (بِالْكُفْرِ) و (بِهِ) حالان ، أى دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وتقديره : ملتبسين بالكفر. وكذلك قوله : (وَقَدْ دَخَلُوا) (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) ولذلك دخلت (قَدْ) تقريبا للماضي من الحال. ولمعنى آخر : وهو أن أمارات
النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار الله
ما كتموه ، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله : (قالُوا آمَنَّا) أى قالوا ذلك وهذه حالهم.
(وَتَرى كَثِيراً
مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)(٦٣)
الإثم الكذب بدليل قوله تعالى : (عَنْ قَوْلِهِمُ
الْإِثْمَ). (وَالْعُدْوانِ) الظلم. وقيل :
الإثم
__________________
كلمة الشرك.
وقولهم عزيز ابن الله. وقيل : الإثم : ما يختص بهم. والعدوان : ما يتعداهم إلى
غيرهم. والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة (لَبِئْسَ ما كانُوا
يَصْنَعُونَ) كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى
يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه ، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة
التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره
، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالا من المواقع. ولعمري إن هذه الآية مما يقذ
السامع وينعى على العلماء توانيهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما :
هي أشدّ آية في القرآن. وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(٦٤)
غل اليد وبسطها
مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق
عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة
واحدة ، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير
استعمال يد وبسطها وقبضها ، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما
أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد
__________________
وقبضها عبارتان
وقعتا متعاقبتين للبخل والجود ، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقوله :
جَادَ الْحِمَى
بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلِ
|
|
شَكَرَتْ
نَدَاهُ تِلَاعُه وَوِهَادُهُ
|
ولقد جعل لبيد
للشمال يدا في قوله :
إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا
ويقال بسط اليأس
كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان. ومن لم ينظر
في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من
يد الطاعن إذا عبثت به. فإن قلت : قد صح أن قولهم (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) عبارة عن البخل . فما تصنع بقوله (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟
قلت : يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق
الله وأنكدهم ، ونحوه بيت الأشتر :
__________________
بَقِيتُ وَفْرى
وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا
|
|
وَلَقِيتُ أضْيَافِى
بِوَجْهِ عَبُوسِ
|
ويجوز أن يكون
دعاء عليهم بغل الأيدى حقيقة ، يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بأغلال
جهنم : والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز ، كما تقول : سبني سب الله دابره
، أى قطعه ؛ لأنّ السب أصله القطع. فإن قلت : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو
قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ،
فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم ، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من
لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم. فإن قلت : لم ثنيت اليد
في قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) وهي مفردة في : (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) ؟ قلت : ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية
السخاء له ونفى البخل عنه. وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه
بيديه جميعاً فبنى المجاز على ذلك. وقرئ (وَلُعِنُوا) بسكون العين. وفي مصحف عبد الله : بل يداه بسطان.
يقال : يده بسط
بالمعروف. ونحوه مشية شحح وناقة صرح (يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشاءُ) تأكيد
__________________
للوصف بالسخاء ،
ودلالة على أنه لا يتفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة. روى أن الله تبارك وتعالى
كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس ما لا ، فلما عصوا الله في محمد
صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله تعالى ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال
فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ، ورضى بقوله الآخرون فأشركوا فيه (وَلَيَزِيدَنَ) أى يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود
وكفراً بآيات الله (وَأَلْقَيْنا
بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) فكلمهم أبداً مختلف ، وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم
ولا تعاضد (كُلَّما أَوْقَدُوا
ناراً) كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من
الله على أحد قط ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل : خالفوا حكم
التوراة فبعث الله عليهم بخت نصر ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومىّ ، ثم
أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين. وقيل : كلما
حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم. وعن قتادة رضى الله عنه لا تلقى
اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس (وَيَسْعَوْنَ) ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله
عليه وسلم من كتبهم.
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦)
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتابِ) مع ما عددنا من سيئاتهم (آمَنُوا) برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وقرنوا
إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ) تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها (وَلَأَدْخَلْناهُمْ) مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصى اليهود والنصارى
وكثرة سيئاتهم ، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن
عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى ، وأن الإيمان لا ينجى
__________________
ولا يسعد إلا
مشفوعاً بالتقوى ، كما قال الحسن : هذا العمود فأين الأطناب (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ) من سائر كتب الله ، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها ، فكأنها
أنزلت إليهم ؛ وقيل : هو القرآن. لوسع الله عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا. وقوله (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) عبارة عن التوسعة. وفيه ثلاث أوجه : أن يفيض عليهم بركات
السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة وأن يرزقهم الجنان
اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت
أرجلهم (مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ) طائفة حالها أمم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل هي الطائفة
المؤمنة عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى ، و (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم ،
وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٦٧)
(بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) جميع ما أنزل إليك وأى شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه
أحداً ، ولا خائف أن ينالك مكروه (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك
__________________
(فَما بَلَّغْتَ
رِسالَتَهُ) وقرئ : رسالاته ، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات
، ولم تؤدّ منها شيئاً قط ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض ، وإن لم تؤدّ
بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها
، لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونها كذلك في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ ،
مؤمنا به غير مؤمن به. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : إن كتمت آية لم تبلغ
رسالاتي. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثني الله برسالاته فضقت بها
ذرعا ، فأوحى الله إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك. وضمن لي العصمة فقويت . فإن قلت : وقوع قوله (فَما بَلَّغْتَ
رِسالَتَهُ) جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه
إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا كان
أمراً شنيعاً لا خفاء بشناعته ، فقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة
واحدة ، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله
: (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعاً) والثاني : أن يراد : فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحى
كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام «فأوحى
الله إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك» (وَاللهُ يَعْصِمُكَ) عدة من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى : والله يضمن لك
العصمة من أعدائك ، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت : أين ضمان العصمة وقد شجّ في
وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته صلوات الله عليه؟ قلت : المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه :
أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات الله ، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ، وقيل : نزلت بعد يوم أحد ، والناس الكفار بدليل قوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
__________________
الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ)
ومعناه أنه لا
يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك. وعن أنس : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يحرس حتى نزلت ، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال : انصرفوا يا أيها الناس فقد
عصمنى الله من الناس .
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ)(٦٨)
(لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أى على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه ، كما
تقول : هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم : أقل من لا شيء (فَلا تَأْسَ) فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم ، فإن ضرر ذلك راجع
إليهم لا إليك ، وفي المؤمنين غنى عنهم.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٩)
(وَالصَّابِئُونَ) رفع على الابتداء وخبره محذوف ، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها
، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك ،
وأنشد سيبويه شاهداً له :
__________________
وَإلّا
فَاعْلمُوا أنَّا وأنْتُمْ
|
|
بُغَاةٌ مَا
بَقِينَا فِى شِقَاقِ
|
أى فاعلموا أنا
بغاة وأنتم كذلك ، فإن قلت : هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟ قلت :
لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : إن زيدا وعمرو منطلقان. فان قلت لم لا
يصح والنية به التأخير ، فكأنك قلت : إنّ زيدا منطلق وعمرو؟ قلت : لأنى إذا رفعته
رفعته عطفا على محل إن واسمها ، والعامل في محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو
العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمها «إن» في عملها ،
فلو رفعت الصابئون المنوىّ به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأنّ ، لأعملت
فيهما رافعين مختلفين. فان قلت : فقوله والصابئون معطوف لا بد له من معطوف عليه
فما هو؟ قلت : هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ... ولا محل لها ، كما لا محل للتي عطفت عليها ، فان
قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت : فائدته
التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح ، فما الظن
بغيرهم. وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدّهم غيا ، وما سموا
صابئين إلا لأنهم صبؤا عن الأديان كلها ، أى خرجوا ، كما أن الشاعر قدم قوله «وأنتم»
تنبيها على أن المخاطبين أو غل في الوصف بالبغاة من قومه ، حيث عاجل به قبل الخبر
الذي هو «بغاة» لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم ، مع كونهم أو غل فيه منهم وأثبت
قدما فان قلت : فلو قيل والصابئين وإياكم لكان التقديم حاصلا. قلت : لو قيل هكذا
لم يكن من التقديم في شيء ، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه ، وإنما يقال مقدّم ومؤخر
للمزال لا للقارّ في مكانه. ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام. فان قلت :
كيف قال : (الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال : (مَنْ آمَنَ)؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد بالذين آمنوا : الذين
آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن. من ثبت على الإيمان واستقام ولم
يخالجه ريبة فيه. فان قلت : ما محل من آمن
__________________
قلت : إما الرفع
على الابتداء وخبره (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ثم الجملة كما هي خبر إن
، وإما النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه ، أو من المعطوف عليه. فان قلت :
فأين الراجع إلى اسم إن؟ قلت : هو محذوف تقديره من آمن منهم ، كما جاء في موضع
آخر. وقرئ : والصابيون ، بياء صريحة ، وهو من تخفيف الهمزة ، كقراءة من قرأ : يستهزيون.
والصابون. وهو من صبوت ، لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا
أدلة العقل والسمع. وفي قراءة أبىّ رضى الله عنه : والصابئين ، بالنصب. وبها قرأ
ابن كثير. وقرأ عبد الله : يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون.
(لَقَدْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)(٧٠)
(لَقَدْ أَخَذْنا) ميثاقهم بالتوحيد (وَأَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) جملة شرطية وقعت صفة لرسلا ، والراجع محذوف أى رسول منهم (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من مشاق التكليف والعمل
بالشرائع. فإن قلت : أين جواب الشرط فإن قوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا
وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ناب عن الجواب ، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه
لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخى أخاك أكرمت؟ قلت : هو محذوف يدل عليه قوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً
يَقْتُلُونَ) كأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه ، وقوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) جواب مستأنف لقائل يقول : كيف فعلوا برسلهم؟ فإن قلت : لم
جيء بأحد الفعلين ماضيا وبالآخر مضارعا؟ قلت : جيء يقتلون على حكاية
__________________
الحال الماضية
استفظاعا للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها. قرئ : أن لا يكون ،
بالنصب على الظاهر. وبالرفع على «أن» هي المخففة من الثقيلة ، أصله : أنه لا يكون
فتنة فخففت «أن» وحذف ضمير الشأن.
(وَحَسِبُوا أَلاَّ
تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا
وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٧١)
فإن قلت : كيف دخل
فعل الحسبان على «أن» التي للتحقيق؟ قلت : نزل حسبانهم لقوّته في صدورهم منزلة
العلم : فإن قلت : فأين مفعولا حسب؟ قلت : سدّ ما يشتمل عليه صلة أن وأنّ من
المسند والمسند إليه مسدّ المفعولين ، والمعنى : وحسب بنو إسرائيل أنه لا يصيبهم
من الله فتنة ، أى بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة (فَعَمُوا) عن الدين (وَصَمُّوا) حين عبدوا العجل ، ثم تابوا عن عبادة العجل ف (تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا
وَصَمُّوا) كرة ثانية بطلبهم المحال غير المعقول في صفات الله وهو الرؤية. وقرئ : عموا وصموا ، بالضم على تقدير عماهم الله
وصمهم ، أى رماهم وضربهم بالعمى والصمم ، كما يقال : تركته إذا ضربته بالنيزك وركبته إذا ضربته بركبتك (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير : أو على قولهم : أكلونى البراغيث ، أو هو
خبر مبتدإ محذوف أى أولئك كثير منهم.
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(٧٢)
لم يفرق عيسى عليه
الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم ، وهو احتجاج على النصارى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) في عبادته ، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ) التي هي دار الموحدين أى حرّمه دخولها ومنعه منه ، كما
يمنع المحرّم من المحرّم عليه (وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصارٍ) من كلام الله على أنهم ظلموا وعدلوا
__________________
عن سبيل الحق فيما
يقولوا على عيسى عليه السلام ، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ردّه وأنكره
، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره. أو من قول عيسى عليه السلام ، على
معنى : ولا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول.
أو ولا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله.
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ
واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ
إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ
انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٧٥)
من في قوله (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) للاستغراق وهي القدرة مع «لا» التي لنفى الجنس في قولك (لا
إله إلا الله) والمعنى : وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثانى
له ، وهو الله وحده لا شريك له : و «من» في قوله (لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) للبيان كالتي في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ) فإن قلت : فهلا قيل (لَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ). قلت ؛ في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة وهي تكرير
الشهادة عليهم بالكفر في قوله : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا) وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير والذين كفروا
منهم أنهم بمكان من الكفر. والمعنى : ليمسنّ الذين كفروا من النصارى خاصة (عَذابٌ أَلِيمٌ) أى نوع شديد الألم من العذاب كما تقول : أعطنى عشرين من
الثياب ، تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها
عشرون. ويجوز أن تكون للتبعيض ، على معنى : ليمسنّ الذين بقوا على الكفر منهم ،
لأنّ كثيراً منهم تابوا من النصرانية (أَفَلا يَتُوبُونَ) ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر. وهذا
الوعيد الشديد مما هم عليه. وفيه تعجب من إصرارهم (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة لرسول ، أى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من
قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها ، أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على
يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى ، وفلق بها البحر ، وطمس على يد موسى . وإن خلقه من غير ذكر ، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى
__________________
(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أى وما أمه أيضاً إلا كصديقة كبعض النساء المصدّقات
للأنبياء المؤمنات بهم ، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبى ، والآخر
صحابى. فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء
وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه. ثم صرح ببعدهما
عما نسب إليهما في قوله (كانا يَأْكُلانِ
الطَّعامَ) لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم
والنفض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة
وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام (كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أى الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله. فإن قلت : ما معنى
التراخي في قوله ثم انظر؟ قلت : معناه ما بين العجبين ، يعنى أنه بين لهم الآيات
بياناً عجيباً ، وأنّ إعراضهم عنها أعجب منه.
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٧٦)
(ما لا يَمْلِكُ) هو عيسى ، أى شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به
الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به
من صحة الأبدان والسعة والخصب ، ولأنّ كل ما يستطيعه البشر من المضارّ والمنافع
فبإقدار الله وتمكينه ، فكأنه لا يملك منه شيئاً. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف
للربوبية ، حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً. وصفة الرب أن يكون قادراً على كل
شيء لا يخرج مقدور على قدرته (وَاللهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) متعلق ب أتعبدون ، أى أتشركون بالله ولا تخشونه ، وهو الذي
يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون أو أتعبدون العاجز والله هو السميع العليم الذي
يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، ولن يكون كذلك إلا وهو حى قادر.
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ
قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ)(٧٧)
__________________
(غَيْرَ الْحَقِ) صفة للمصدر أى لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق أى غلواً باطلا ؛ لأنّ الغلو في الدين غلوّ ان غلوّ حق ،
وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل
المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان الله عليهم. وغلوّ باطل وهو أن يتجاوز الحق
ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه ، كما يفعل أهل الأهواء والبدع (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) هم أئمتهم في النصرانية ، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) ممن شايعهم على التثليث (وَضَلُّوا) لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.
(لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
تَرى
كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)
وَلَوْ
كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٨١)
نزّل الله لعنهم
في الزبور (عَلى لِسانِ داوُدَ) وفي الإنجيل على لسان عيسى. وقيل إن أهل أيلة ، لما اعتدوا
في السبت قال داود عليه السلام : اللهم العنهم واجعلهم آية ، فمسخوا قردة. ولما
كفر أصحاب عيسى عليه السلام بعد المائدة قال عيسى عليه السلام اللهم عذب من كفر
بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين ، والعنهم كما لعنت
أصحاب السبت ، فأصبحوا خنازير
__________________
وكانوا خمسة آلاف
رجل ، ما فيهم امرأة ولا صبىّ (ذلِكَ بِما عَصَوْا) أى لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ ، إلا لأجل
المعصية والاعتداء ، لا لشيء آخر ، ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ) لا ينهى بعضهم بعضاً (عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ) ثم قال (لَبِئْسَ ما كانُوا
يَفْعَلُونَ) للتعجيب من سوء فعلهم ، مؤكداً لذلك بالقسم ، فيا حسرة على
المسلمين في إعراضهم عن باب التناهى عن المناكير ، وقلة عبثهم به ، كأنه ليس من
ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب.
فان قلت : كيف وقع ترك التناهى عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت : من قبل أنّ الله تعالى
أمر بالتناهى ، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء ، لأنّ في التناهى حسبما للفساد
فكان تركه على عكسه. فإن قلت : ما معنى وصف المنكر بفعلوه ، ولا يكون النهى بعد
الفعل؟ قلت : معناه لا يتناهون عن منكر فعلوه ، أو عن مثل منكر فعلوه ، أو عن منكر
أرادوا فعله ، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر. ويجوز أن
يراد : لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه ، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله.
يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) هم منافقو أهل الكتاب ، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو المخصوص بالذمّ ، ومحله الرفع ، كأنه قيل : لبئس زادهم
إلى الآخرة سخط الله عليهم. والمعنى : موجب سخط الله. (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ) إيماناً خالصاً غير نفاق ما اتخذوا المشركين (أَوْلِياءَ) يعنى أنّ موالاة المشركين كفى بها دليلا على نفاقهم ، وأنّ
إيمانهم ليس بإيمان (وَلكِنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ فاسِقُونَ) متمرّدون في كفرهم ونفاقهم. وقيل معناه : ولو كانوا يؤمنون
بالله وموسى كما يدّعون ، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون.
__________________
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا
نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ
بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ
الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ
(٨٤) فَأَثابَهُمُ
اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٨٦)
وصف الله شدّة
شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام ،
وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين ، بل نبه على تقدّم قدمهم
فيها بتقديمهم على الذين أشركوا ، وكذلك فعل في قوله (وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ولعمري إنهم لكذلك وأشدّ. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «ما
خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين (بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَرُهْباناً) أى علماء وعباداً (وَأَنَّهُمْ) قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم ، واليهود على خلاف
ذلك. وفيه دليل بين على أنّ التعلم أنفع
__________________
شيء وأهداه إلى
الخير وأدله على الفوز حتى علم القسيسين ، وكذلك غم الآخرة والتحدّث بالعاقبة وإن
كان في راهب ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني. ووصفهم الله برقة القلوب
وأنهم يبكون عند استماع القرآن ، وذلك نحو ما يحكى عن النجاشىّ رضى الله عنه أنه
قال لجعفر بن أبى طالب ـ حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون لعنوا
وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده ـ : هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر : فيه
سورة تنسب إليها ، فقرأها إلى قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ) وقرأ سورة طه إلى قوله : (وَهَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ مُوسى) فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس ، فبكرا.
فإن قلت : بم تعلقت اللام في قوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا)؟ قلت : بعداوة ومودّة ، على أنّ عداوة اليهود التي اختصت
المؤمنين أشدّ العداوات وأظهرها ، وأن مودّة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب
المودّات ، وأدناها وجوداً ، وأسهلها حصولا. ووصف اليهود بالعداوة والنصارى
بالمودّة مما يؤذن بالتفاوت ، ثم وصف العداوة والمودّة بالأشدّ والأقرب. فإن قلت :
ما معنى قوله : (تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ) قلت : معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض أن يمتلئ
الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع
الامتلاء ، وهو من إقامة
__________________
المسبب مقام السبب
، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها ، أى تسيل
من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً فإن قلت : أى فرق بين من ومن في
قوله (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الْحَقِ)؟ قلت الأولى لابتداء الغاية ، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ
من معرفة الحق ، وكان من أجله وبسببه. والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا.
وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا
عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ وقرئ (ترى أعينهم) على البناء للمفعول (رَبَّنا آمَنَّا) المراد به إنشاء الإيمان ، والدخول فيه (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر
الأمم يوم القيامة (لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ) وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في
إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين : وقيل : لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم
بذلك. أو أرادوا : وما لنا لا نؤمن بالله وحده لأنهم كانوا مثلثين ، وذلك ليس
بإيمان بالله : ومحل (لا نُؤْمِنُ) النصب على الحال ، بمعنى : غير مؤمنين ، كقولك مالك قائما.
والواو في (وَنَطْمَعُ) واو الحال. فإن قلت : ما العامل في الحال الأولى والثانية؟
قلت : العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أى شيء حصل لنا
غير مؤمنين : وفي الثانية معنى هذا الفعل ، ولكن مقيداً بالحال الأولى ؛ لأنك لو
أزلتها وقلت : وما لنا ونطمع ، لم يكن كلاما. ويجوز أن يكون (وَنَطْمَعُ) حالا من لا نؤمن ، على أنهم أنكروا على نفوسهم أنهم لا
يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين ، وأن يكون معطوفا على لا نؤمن
على معنى : وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين ، أو على معنى :
وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام ، لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في
صحبة الصالحين. قرأ الحسن : فآتاهم الله (بِما قالُوا) بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص ، من قولك : هذا قول فلان
، أى اعتقاده وما يذهب إليه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ (٨٨))
(طَيِّباتِ ما أَحَلَّ
اللهُ لَكُمْ) ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى (لا تُحَرِّمُوا) لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم. أو لا تقولوا حرّمناها
على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً
منكم وتقشفاً وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوماً
لأصحابه ، فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار ، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون
، واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين ، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا
اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض ، ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال لهم : إنى لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا
وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإنى أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ،
وآتى النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منى ونزلت. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل
الدجاج والفالوذ ، وكان يعجبه الحلواء والعسل. وقال : «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة » وعن ابن مسعود أن رجلا قال له : إنى حرمت الفراش فتلا هذه
__________________
الآية وقال : ثم
على فراشك وكفر عن يمينك. وعن الحسن أنه دعى إلى طعام ومعه فرقد السنجىّ وأصحابه ،
فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك ، فاعتزل
فرقد ناحية ، فسأل الحسن : أهو صائم؟ قالوا : لا ، ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل
الحسن عليه وقال : يا فرقد ، ترى لعاب النحل بلباب البرّ بخالص السمن يعيبه مسلم.
وعنه أنه قيل له. فلان لا يأكل الفالوذ ويقول : لا أؤدّى شكره. قال : أفيشرب الماء
البارد؟ قالوا : نعم. قال : إنه جاهل ، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من
نعمته عليه في الفالوذ. وعنه أن الله تعالى أدّب عباده فأحسن أدبهم. قال الله
تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا ، ولا
عذر قوما زواها عنهم فعصوه (وَلا تَعْتَدُوا) ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم. أو
ولا تسرفوا في تناول الطيبات. أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلماً ، فنهى عن
الاعتداء ليدخل تحته النهى عن تحريمها دخولا أوليا لوروده على عقبه أو أراد ولا
تعتدوا بذلك (وَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ) أى من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا (حَلالاً) حال مما رزقكم الله (وَاتَّقُوا اللهَ) تأكيد للتوصية بما أمر به. وزاده تأكيداً بقوله (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر وعما
نهى عنه.
(لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ)(٨٩)
اللغو في اليمين :
الساقط الذي لا يتعلق به حكم : واختلف فيه ، فعن عائشة رضى الله عنها أنها سئلت
عنه فقالت : هو قول الرجل «لا والله ، بلى والله» وهو مذهب الشافعي. وعن مجاهد : هو الرجل يحلف على الشيء
يرى أنه كذلك وليس كما ظن. وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية. وروى أن
الحسن رضى الله عنه سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال : يا أبا سعيد ،
دعني أجب عنك فقال :
__________________
وَلَسْتُ
بِمَأْخُوذٍ بِلَغوٍ تَقُولُهُ
|
|
إذَا لَمْ
تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ
|
وقرئ : عقدتم ،
بالتخفيف. وعاقدتم. والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت
المؤاخذة. لأنه كان معلوما عندهم ، أو بنكث ما عقدتم ، فحذف المضاف (فَكَفَّارَتُهُ) فكفارة نكثه. والكفارة : الفعلة التي من شأنها أن تكفر
الخطيئة أى تسترها (مِنْ أَوْسَطِ ما
تُطْعِمُونَ) من أقصده ، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله ، ومنهم من
يقتر ، وهو عند أبى حنيفة رحمه الله نصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين ، أو
يغديهم ويعشيهم. وعند الشافعي رحمه الله : مدّ لكل مسكين. وقرأ جعفر بن محمد :
أهاليكم ، بسكون الياء ، والأهالى : اسم جمع لأهل : كاللئالي في جمع ليلة ،
والأراضى في جمع أرض. وقولهم «أهلون» كقولهم «أرضون» بسكون الراء. وأما تسكين
الياء في حال النصب فللتخفيف ، كما قالوا : رأيت معديكرب ، تشبيها للياء بالألف (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) وقرئ بضم الكاف ، ونحوه : قدوة في قدوة ، وأسوة في إسوة ،
والكسوة ثوب يغطى العورة ، وعن ابن عباس رضى الله عنه كانت العباءة تجزئ يومئذ.
وعن ابن عمر : إزار أو قميص أو رداء أو كساء. وعن مجاهد : ثوب جامع. وعن الحسن :
ثوبان أبيضان. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني : أو كأسوتهم ، بمعنى : أو مثل ما
تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا. لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ، ولكن تواسون
بينهم وبينهم. فإن قلت : ما محل الكاف؟ قلت : الرفع ، تقديره : أو طعامهم كأسوتهم
، بمعنى : كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط (أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ) شرط الشافعي رحمه الله الإيمان قياسا على كفارة القتل.
وأما أبو حنيفة وأصحابه ، فقد جوّزوا تحرير الرقبة الكفارة في كل كفارة سوى كفارة
القتل. فإن قلت : ما معنى أو؟ قلت : التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث على
الإطلاق ، بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) إحداها (فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ) متتابعات عند أبى حنيفة رحمه الله ، تمسكا بقراءة أبىّ
وابن مسعود رضى الله عنهما : فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وعن مجاهد : كل صوم متتابع
إلا قضاء رمضان. ويخير في كفارة اليمين (ذلِكَ) المذكور (كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ) ولو قيل : تلك كفارة أيمانكم ، لكان صحيحا بمعنى تلك
الأشياء
__________________
أو لتأنيث الكفارة.
والمعنى (إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم. فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفارة إنما تجب
بالحنث في الحلف ، لا بنفس الحلف ، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند أبى حنيفة
وأصحابه ويجوز عند الشافعي بالمال إذا لم يعص الحانث (وَاحْفَظُوا
أَيْمانَكُمْ) فبروا فيها ولا تحنثوا أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية ، لأن الأيمان اسم جنس
يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله. وقيل : احفظوها بأن تكفروها. وقيل : احفظوها
كيف حلفتم بها ، ولا تنسوها تهاونا بها (كَذلِكَ) مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ آياتِهِ) أعلام شريعته وأحكامه (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ
الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ)(٩١)
أكد تحريم الخمر
والميسر وجوها من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما ، ومنها أنه قرنهما بعبادة
الأصنام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «شارب الخمر كعابد الوثن» ومنها أنه
__________________
جعلهما رجسا ، كما
قال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتى منه
إلا الشر البحت ، ومنها أنه أمر بالاجتناب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح ،
وإذا كان الاجتناب فلاحا ، كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما
من الوبال ، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله ، وعن
مراعاة أوقات الصلاة. وقوله (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) من أبلغ ما ينهى به ، كأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيهما من
أنواع الصوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون. أم أنتم على ما كنتم
عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : (فَاجْتَنِبُوهُ)؟ قلت : إلى المضاف المحذوف ، كأنه قيل : إنما شأن الخمر
والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك. ولذلك قال : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ) فإن قلت لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا ثم
أفردهما آخراً ؟ قلت : لأن الخطاب مع المؤمنين. وإنما نهاهم عما كانوا
يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر ، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر
والميسر ، وإظهار أنّ ذلك جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك ، فوجب اجتنابه
بأسره ، وكأنه لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب
خمراً أو قامر ، ثم أفردهما بالذكر ليرى أن المقصود بالذكر الخمر والميسر. وقوله (وَعَنِ الصَّلاةِ) اختصاص للصلاة من بين الذكر كأنه قيل : وعن الصلاة خصوصاً.
[سورة المائدة (٥)
: آية ٩٢]
(وَأَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما
عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٩٢)
__________________
(وَاحْذَرُوا) وكونوا حذرين خاشين ، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى
اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة. ويجوز أن يراد : واحذروا ما عليكم في الخمر والميسر ،
أو في ترك طاعة الله والرسول (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا) أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول ، لأنّ الرسول ما كلف إلا
البلاغ المبين بالآيات ، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم.
(لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا
اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا
وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
(٩٣)
رفع الجناح عن
المؤمنين في أى شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها (إِذا مَا اتَّقَوْا) ما حرم عليهم منها (وَآمَنُوا) وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ثم ثبتوا على التقوى والإيمان (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم ، أو أحسنوا
إلى الناس : واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات. وقيل لما نزل تحريم الخمر قالت
الصحابة : يا رسول الله ، فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال
الميسر فنزلت. يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من
المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، على معنى :
أنّ أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الإيمان والتقوى
والإحسان. ومثاله أن يقال لك : هل على زيد فيما فعل جناح؟
__________________
فتقول ـ وقد علمت
أن ذلك أمر مباح ـ : ليس على أحد جناح في المباح ، إذا اتقى المحارم ، وكان مؤمناً
محسناً ، تريد : أن زيداً تقىّ مؤمن محسن ؛ وأنه غير مؤاخذ بما فعل.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ
أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ
اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٤)
نزلت عام الحديبية
ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون ، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون
من صيده ، أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم (لِيَعْلَمَ اللهُ
مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقى
الصيد ، ممن لا يخافه فيقدم عليه (فَمَنِ اعْتَدى) فصاد (بَعْدَ ذلِكَ) الابتلاء فالوعيد لاحق به ، فإن قلت : ما معنى التقليل
والتصغير في قوله : (بِشَيْءٍ مِنَ
الصَّيْدِ)؟ قلت : قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي
تدحض عندها أقدام الثابتين ، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال ، وإنما هو شبيه بما
ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو
أشدّ منه. وقرأ إبراهيم : يناله ، بالياء.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ
__________________
أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ
عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ
ذُو انْتِقامٍ)(٩٥)
(حُرُمٌ) محرمون ، جمع حرام ، كردح في جمع رداح. والتعمد : أن يقتله
وهو ذاكر لإحرامه ، أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله ، فإن قتله وهو ناس
لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فإذا هو صيد ، أو قصد برميه غير صيد
فعدل السهم عن رميته فأصاب صيدا فهو مخطئ. فإن قلت : فمحظورات الإحرام يستوي فيها
العمد والخطأ ، فما بال التعمد مشروطاً في الآية؟ قلت : لأن مورد الآية فيمن تعمد
؛ فقد روى أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش ، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه
برمحه فقتله ، فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الأصل فعل التعمد ،
والخطأ لاحق به للتغليظ. ويدل عليه قوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ
أَمْرِهِ) (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وعن الزهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطإ وعن
سعيد بن جبير : لا أرى في الخطإ شيأ أخذا باشتراط العمد في الآية. وعن الحسن
روايتان (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ) برفع جزاء ومثل جميعاً ، بمعنى : فعليه جزاء يماثل ما قتل
من الصيد ، وهو عند أبى حنيفة قيمة المصيد يقوّم حيث صيد ، فإن بلغت قيمته ثمن هدى
، تخير بين أن يهدى من النعم ما قيمته قيمة الصيد ، وبين أن يشترى بقيمته طعاماً ،
فيعطى كل مسكين نصف صاع من برّ أو صاع من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين
يوماً ، فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين صام عنه يوماً أو تصدّق به. وعند محمد
والشافعي رحمهما الله مثله نظيره من النعم ، فإن لم يوجد له نظير من النعم عدل إلى
قول أبى حنيفة رحمه الله. فإن قلت : فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله (مِنَ النَّعَمِ) وهو تفسير للمثل ، وبقوله : هدياً بالغ الكعبة؟ قلت : قد
خير من أوجب القيمة بين أن يشترى بها هدياً أو طعاماً أو يصوم ، كما خير الله
تعالى في الآية ، فكان قوله : (مِنَ النَّعَمِ) بياناً للهدى المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير ؛ لأن
من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه ، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم. على أن
التخيير الذي في الآية بين أن يجزى بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم ، إنما
يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف إذا قوّم ونظر بعد التقويم أىّ الثلاثة يختار ،
فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير ـ فإذا كان شيئاً لا نظير
له قوّم حينئذ ، ثم يخير بين الإطعام والصوم ـ ففيه نبوّ عما في الآية. ألا ترى
إلى قوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) كيف خير بين الأشياء الثلاثة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم.
وقرأ عبد الله : فجزاؤه مثل ما قتل ، وقرئ. فجزاء مثل ما قتل ، على الإضافة ،
وأصله. فجزاء مثل ما قتل ، بنصب مثل بمعنى : فعليه أن يجزى مثل ما قتل ، ثم أضيف
كما تقول :
عجبت من ضرب زيد ،
وقرأ السلمىّ على الأصل وقرأ محمد بن مقاتل ، فجزاء مثل ما قتل ، بنصبهما ، بمعنى
: فليجز جزاء مثل ما قتل. وقرأ الحسن : من النعم ، بسكون العين ، استثقل الحركة
على حرف الحلق فسكنه (يَحْكُمُ بِهِ) بمثل ما قتل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) حكمان عادلان من المسلمين. قالوا : وفيه دليل على أن المثل
القيمة ، لأنّ التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة. وعن
قبيصة أنه أصاب ظبياً وهو محرم فسأل عمر ، فشاور عبد الرحمن بن عوف ، ثم أمره بذبح
شاة ، فقال قبيصة لصاحبه : والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره ، فأقبل عليه
ضرباً بالدرّة وقال : أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم. قال الله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأنا عمر ، وهذا عبد الرحمن . وقرأ محمد بن جعفر ذو عدل منكم ، أراد يحكم به من يعدل
منكم ولم يرد الوحدة. وقيل أراد الإمام (هَدْياً) حال عن جزاء فيمن وصفه بمثل ، لأنّ الصفة خصصته فقرّبته من
المعرفة ، أو بدل عن مثل فيمن نصبه ، أو عن محله فيمن جرّه. ويجوز أن ينتصب حالا
عن الضمير في به. ووصف هدياً ب (بالِغَ الْكَعْبَةِ) لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم
، فأما التصدّق به فحيث شئت عند أبى حنيفة ، وعند الشافعي في الحرم. فإن قلت : بم
يرفع (كَفَّارَةٌ) من ينصب جزاء؟ قلت : يجعلها خبر مبتدإ محذوف ، كأنه قيل :
أو الواجب عليه كفارة. أو يقدر : فعليه أن يجزى جزاء أو كفارة. فيعطفها على أن
يجزى. وقرئ : أو كفارة طعام مساكين على الإضافة. وهذه الإضافة مبينة ، كأنه قيل :
أو كفارة من طعام مسكين ، كقولك : خاتم فضة ، بمعنى خاتم من فضة. وقرأ الأعرج : أو
كفارة طعام مساكين. وإنما وحد ، لأنه واقع موقع التبيين ، فاكتفى بالواحد الدال
على الجنس. وقرئ : أو عدل ذلك ، بكسر العين. والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله
من غير جنسه ، كالصوم والإطعام. وعدله ما عدل به في المقدار ، ومنه عدلا الحمل ،
لأن كل واحد منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا ، كأن المفتوح تسمية بالمصدر ، والمكسور
بمعنى المفعول به ، كالذبح ونحوه ، ونحوهما الحمل والحمل. و (ذلِكَ) إشارة إلى الطعام (صِياماً) تمييز للعدل كقولك : لي مثله رجلا. والخيار في ذلك إلى قاتل
الصيد عند أبى حنيفة وأبى يوسف. وعند محمد إلى الحكمين (لِيَذُوقَ) متعلق بقوله : (فَجَزاءٌ) أى فعليه أن يجازى أو يكفر ، ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة
الإحرام. والوبال : المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه ،
كقوله تعالى : (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً
وَبِيلاً) ثقيلا. والطعام الوبيل : الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وتسألوه عن جوازه. وقيل : عما سلف لكم في الجاهلية منه ، لأنهم
كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً (وَمَنْ عادَ) إلى قتل الصيد وهو محرم بعد
__________________
نزول النهى (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ينتقم : خبر مبتدإ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه ،
ولذلك دخلت الفاء. ونحوه (فَمَنْ يُؤْمِنْ
بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) يعنى ينتقم منه في الآخرة. واختلف في وجوب الكفارة على
العائد ، فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن : وجوبها ، وعليه عامة العلماء.
وعن ابن عباس وشريح : أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر ، وأنه لم يذكر الكفارة
(أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٩٦)
(صَيْدُ الْبَحْرِ) مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل (وَطَعامُهُ) وما يطعم من صيده والمعنى : أحل لكم الانتفاع بجميع ما
يصاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبى حنيفة.
وعند ابن أبى ليلى جميع ما يصاد منه ، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان
البحر وأن تطعموه (مَتاعاً لَكُمْ) مفعول له ، أى أحل لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له
بمنزلة قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) في باب الحال ، لأن قوله (مَتاعاً لَكُمْ) مفعول له مختص بالطعام ، كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب ،
يعنى أحل لكم طعامه تمتيعاً لتنائكم يأكلونه طريا ، ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً ، كما تزوّد
موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام. وقرئ : وطعمه. وصيد
البر : ما صيد فيه ، وهو ما يفرّخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات ،
كطير الماء عند أبى حنيفة. واختلف فيه فمنهم من حرّم على المحرم كل شيء يقع عليه اسم الصيد ، وهو
قول عمرو ابن عباس ، وعن أبى هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير : أنهم أجازوا
للمحرم أكل ما صاده الحلال ، وإن صاده لأجله ، إذا لم يدل ولم يشر ، وكذلك ما ذبحه
قبل إحرامه وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه رحمه الله ، وعند مالك والشافعي وأحمد
رحمهم الله : لا يباح له ما صيد لأجله. فإن قلت : ما يصنع
__________________
أبو حنيفة بعموم
قوله : صيد البر؟ قلت قد أخذ أبو حنيفة رحمه الله بالمفهوم من قوله : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ
ما دُمْتُمْ حُرُماً) لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم ، لأنهم هم
المخاطبون فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صدتم في البر ، فيخرج منه مصيد غيرهم ،
ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل عليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وقرأ ابن عباس رضى الله عنه : وحرّم عليكم صيد البرّ ، أى
الله عزّ وجلّ. وقرئ (ما دُمْتُمْ) بكسر الدال ، فيمن يقول دام يدام.
(جَعَلَ اللهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ
وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(٩٨)
(الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح ، لا على جهة التوضيح ، كما تجيء
الصفة كذلك (قِياماً لِلنَّاسِ) انتعاشاً لهم في أمر دينهم ودنياهم ، ونهوضاً إلى أغراضهم ومقاصدهم في
معاشهم ومعادهم ، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم ، وأنواع منافعهم. وعن
عطاء ابن أبى رباح : لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) الشهر الذي يؤدى فيه الحج ، وهو ذو الحجة ، لأنّ لاختصاصه
من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد عرّفه الله تعالى. وقيل عنى به جنس
الأشهر الحرم (وَالْهَدْيَ
وَالْقَلائِدَ) والمقلد منه خصوصاً
__________________
وهو البدن ، لأن
الثواب فيه أكثر ، وبهاء الحج معه أظهر (ذلِكَ) إشارة إلى جعل الكعبة قياماً للناس ، أو إلى ما ذكر من حفظ
حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره (لِتَعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ) كل شيء وهو عالم بما يصلحكم وما ينعشكم مما أمركم به
وكلفكم (شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن انتهك محارمه (غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن حافظ عليها.
(ما عَلَى الرَّسُولِ
إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٩٩)
(ما عَلَى الرَّسُولِ
إِلَّا الْبَلاغُ) تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما
وجب عليه من التبليغ ، وقامت عليكم الحجة ، ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم في
التفريط.
(قُلْ لا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ
يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٠٠)
البون بين الخبيث
والطيب بعيد عند الله تعالى وإن كان قريبا عندكم ، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه
لكثرته على القليل الطيب ، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل ، لا يوازى
النقصان في الخبيث ، وفوات الطيب ، وهو عام في حلال المال وحرامه ، وصالح العمل
وطالحه ، وصحيح المذاهب وفاسدها ، وجيد الناس ورديهم (فَاتَّقُوا اللهَ) وآثروا الطيب ، وإن قل ، على الخبيث وإن كثر. ومن حق هذه
الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة إذا افتخروا بالكثرة كما قيل :
__________________
وَكَاثِرْ
بِسَعْدٍ إنَّ سَعْداً كَثِيرَةٌ
|
|
و ، لَا تَرْجُ
مِنْ سَعْدٍ وَفَاء وَلَا نَصْرَا
|
وكما قيل :
لَا
يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ
|
|
فَإنَّ جُلَّهُمُ
بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ
|
وقيل : نزلت في
حجاج اليمامة ، حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم ، فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا
مشركين.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ
عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)
قَدْ
سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)(١٠٢)
الجملة الشرطية
والمعطوفة عليها أعنى قوله (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) صفة للأشياء. والمعنى : لا تكثروا مسألة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم ، إن أفتاكم بها وكلفكم
إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها. وذلك نحو ما روى أن سراقة بن
مالك أو عكاشة بن محصن قال : يا رسول الله ، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مسألته ثلاث مرّات ، فقال صلى الله عليه وسلم : «ويحك!
ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو
تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن
شيء فاجتنبوه» (وَإِنْ تَسْئَلُوا
عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) وإن تسألوا عن هذه
__________________
التكاليف الصعبة
في زمان الوحى وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه ، تبد لكم. تلك التكاليف
الصعبة التي تسؤكم ، وتؤمروا بتحملها ، فتعرّضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها (عَفَا اللهُ عَنْها). عفا الله عما سلف. من مسألتكم ، فلا تعودوا إلى مثلها (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته. فإن قلت : كيف قال : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ثم قال : (قَدْ سَأَلَها) ولم يقل. قد سأل عنها؟ قلت : الضمير في : (سَأَلَها) ليس براجع إلى أشياء حتى تجب تعديته بعن ، وإنما هو راجع
إلى المسألة التي دل عليها (لا تَسْئَلُوا) يعنى قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها) أى بمرجوعها أو بسببها (كافِرِينَ) وذلك أنّ بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء ،
فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.
(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)
(١٠٣)
كان أهل الجاهلية
إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، بحروا أذنها ، أى شقوها
__________________
وحرّموا ركوبها ،
ولا تطرد عن ماء ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيى لم يركبها ، واسمها البحيرة. وكان
يقول الرجل : إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضى فناقتى سائبة ، وجعلها كالبحيرة في
تحريم الانتفاع بها. وقيل : كان الرجل إذا أعتق عبداً قال : هو سائبة فلا عقل
بينهما ولا ميراث. وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم ،
فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وإذا نتجت
من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع
من ماء ولا مرعى. ومعنى (ما جَعَلَ) ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك ، ولكنهم
بتحريمهم ما حرّموا (يَفْتَرُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فلا ينسبون التحريم إلى الله حتى يفتروا ، ولكنهم يقلدون
في تحريمها كبارهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا
عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا
يَهْتَدُونَ)(١٠٤)
الواو في قوله (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار. وتقديره : أحسبهم
ذلك ولو كان آباؤهم (لا يَعْلَمُونَ
شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) والمعنى أنّ الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى ، وإنما
يعرف اهتداؤه بالحجة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ)(١٠٥)
كان المؤمنون تذهب
أنفسهم حسرة على أهل العتوّ والعناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإسلام ، فقيل
لهم (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى (لا يَضُرُّكُمْ) الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال عز وجل لنبيه
عليه الصلاة والسلام (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ،
ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم. فهو مخاطب به ، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر ، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد ، وإنما هو بعض
الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه ، وعن ابن مسعود : أنها قرئت عنده فقال : إن
هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة. ولكن يوشك أن يأتى زمان تأمرون فلا
يقبل منكم ، فحينئذ عليكم أنفسكم ،
__________________
فهي على هذا تسلية
لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه ، وبسط لعذره. وعنه : ليس هذا زمان تأويلها. قيل :
فمتى؟ قال : إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن. وعن أبى ثعلبة الخشني أنه سئل عن
ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيرا. سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال
: ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى
متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى رأى برأيه ، فعليك نفسك ودع أمر العوام. وإنّ من
ورائكم أياما الصبر فيهنّ كقبض على الجمر ، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون
مثل عمله . وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ، ولاموه
، فنزلت (عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ) عليكم : من أسماء الفعل ، بمعنى : الزموا إصلاح أنفسكم ،
ولذلك جزم جوابه. وعن نافع : عليكم أنفسكم ، بالرفع. وقرئ (لا يَضُرُّكُمْ) وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعا وتنصره قراءة أبى حيوة ، لا يضيركم.
وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً. وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة
إليها من الراء المدغمة. والأصل : لا يضروكم. ويجوز أن يكون نهيا ، ولا يضركم ،
بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ
أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا
نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ
إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ
اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ
مِنْ شَهادَتِهِما
__________________
وَمَا
اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ
أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ)(١٠٨)
ارتفع اثنان على
أنه خبر للمبتدإ الذي هو (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) على تقدير : شهادة بينكم شهادة اثنين. أو على أنه فاعل
شهادة بينكم على معنى : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان : وقرأ الشعبي. شهادة بينكم
بالتنوين. وقرأ الحسن : شهادة ، بالنصب والتنوين على : ليقم شهادة اثنان. و (إِذا حَضَرَ) ظرف للشهادة. و (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه ، إبداله منه دليل على وجوب الوصية ، وأنها من
الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن يتهاون بها مسلم ويذهل عنها. وحضور الموت :
مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل (مِنْكُمْ) من أقاربكم. و (مِنْ غَيْرِكُمْ) من الأجانب (إِنْ أَنْتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) يعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم ،
فاستشهدوا أجنبيين على الوصية ، جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو
أصلح وهم له أنصح. وقيل (مِنْكُمْ) من المسلمين ، و (مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الذمة. وقيل : هو منسوخ لا تجوز شهادة الذمي على
المسلم ، وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر.
وعن مكحول : نسخها قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ) وروى أنه خرج بديل بن أبى مريم مولى عمرو بن العاصي وكان
من المهاجرين ، مع عدى بن زيد وتميم بن أوس ـ وكانا نصرانيين ـ تجاراً إلى الشام ،
فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه ، وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه ، وأمرهما
أن يدفعاً متاعه إلى أهله ، ومات ففتشا متاعه ، فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة
مثقال منقوشاً بالذهب ، فغيباه ، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء ،
فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت (تَحْبِسُونَهُما) تقفونهما وتصبرونهما للحلف (مِنْ بَعْدِ
الصَّلاةِ) من بعد صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع الناس. وعن الحسن :
بعد صلاة العصر أو الظهر ؛ لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وفي حديث
بديل : أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________________
صلاة العصر ودعا
بعدىّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر ، فحلفا ، ثم وجد الإناء بمكة ، فقالوا :
إنا اشتريناه من
تميم وعدى. وقيل : هي صلاة أهل الذمّة ، وهم يعظمون صلاة العصر (إِنِ ارْتَبْتُمْ) اعتراض بين القسم والمقسم عليه. والمعنى : إن ارتبتم في
شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما. وقيل : إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف
الشاهدين ، وإن أريد الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما. وعن علىّ رضى الله عنه : أنه
كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما والضمير في (مُصِيبَةُ) للقسم. وفي (كانَ) للمقسم له يعنى : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من
الدنيا ، أى لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم له قريباً منا ، على
معنى : أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً ، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). (شَهادَةَ اللهِ) أى الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها. وعن الشعبي أنه
وقف على شهادة ، ثم ابتدأ الله بالمدّ ، على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام
منه. وروى عنه بغير مدّ على ما ذكر سيبويه أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه
همزة الاستفهام ، فيقول : الله لقد كان كذا. وقرئ : لملاثمين بحذف الهمزة وطرح
حركتها على اللام وإدغام نون من فيها ، كقوله : عاد لولى : فإن قلت : ما موقع
تحبسونهما؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما ، فكيف
نعمل إن ارتبنا بهما ، فقيل : تحبسونهما فإن قلت : كيف فسرت الصلاة بصلاة العصر
وهي مطلقة؟ قلت : لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها ، أغنى ذلك عن التقييد ،
كما لو قلت في بعض أئمة الفقه : إذا صلى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر. ويجوز
أن تكون اللام للجنس ، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفاً في
النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). (فَإِنْ عُثِرَ) فإن اطلع (عَلى أَنَّهُمَا
اسْتَحَقَّا إِثْماً) أى فعلا مّا أوجب إثما ، واستوجبا أن يقال إنهما لمن
الآثمين (فَآخَرانِ) فشاهدان آخران (يَقُومانِ مَقامَهُما
مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أى من الذين استحق عليهم الإثم. معناه من الذين جنى عليهم
وهم أهل الميت وعشيرته. وفي قصة بديل : أنه لما ظهرت خيانة الرجلين ، حلف رجلان من
ورثته أنه إناء صاحبهما ، وأنّ شهادتهما أحق من شهادتهما. و (الْأَوْلَيانِ) الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما. وارتفاعهما على :
هما الأوليان كأنه قيل ومن هما؟ فقيل : الأوليان. وقيل : هما بدل من الضمير في
يقومان ، أو من آخران.
__________________
ويجوز أن يرتفعا
باستحق ، أى من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على
حقيقة الحال. وقرئ الأوّلين على أنه وصف للذين استحق عليهم ، مجرور ، أو منصوب على
المدح. ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها. وقرئ :
الأولين ، على التثنية ، وانتصابه على المدح. وقرأ الحسن : الأولان ،
ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعى. وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك ، فوجهه
عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا ، فلما ظهر كذبهما
ادعيا الشراء فيما كتما ، فأنكر الورثة فكانت اليمين على الورثة ، لإنكارهم
الشراء. فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ استحق عليهم الأوليان على البناء للفاعل ،
وهم على وأبىّ وابن عباس؟ قلت : معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من
بينهم بالشهادة ، أن يجرّدوهما للقيام بالشهادة ، ويظهروا بهما كذب الكاذبين (ذلِكَ) الذي تقدم من بيان الحكم (أَدْنى) أن يأتى الشهداء على نحو تلك الحادثة (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ
يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) أن تكرّ أيمان شهود آخرين بعد إيمانهم «فيفتضحوا بظهور كذبهم كما
جرى في قصة بديل (وَاسْمَعُوا) سمع إجابة وقبول.
(يَوْمَ يَجْمَعُ
اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ
عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ
أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ
عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها
فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي
وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(١١٠)
(يَوْمَ يَجْمَعُ) بدل من المنصوب في قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) وهو من بدل الاشتمال ، كأنه
__________________
قيل : واتقوا الله
يوم جمعه. أو ظرف لقوله : (لا يَهْدِي) أى لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم. أو ينصب
على إضمار اذكر. أو يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت. و (ما ذا) منتصب بأجبتم انتصاب مصدره ، على معنى : أى إجابة أجبتم. ولو أريد
الجواب لقيل : بماذا أجبتم. فإن قلت : ما معنى سؤالهم؟ قلت : توبيخ قومهم ، كما
كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد. فإن قلت : كيف يقولون (لا عِلْمَ لَنا) وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال
توبيخ أعدائهم ، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهاراً للتشكى واللجإ إلى ربهم
في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم وأجلب لحسرتهم وسقوطهم
في أيديهم ، إذا اجتمع توبيخ الله وتشكى أنبيائه عليهم. ومثاله أن ينكب بعض
الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم
على الانتصار له منه ، فيجمع بينهما ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم
بما فعل به ، يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بى تفويضاً للأمر
إلى علم سلطانه ، واتكالا عليه ، واظهاراً للشكاية ، وتعظيما لما حل به منه. وقيل
: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة
على أممهم. وقيل : معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به ، لأنك علام الغيوب. ومن
علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم ، فكأنه لا علم لنا
إلى جنب علمك. وقيل : لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة. وكيف
يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين. وقرئ (علام الغيوب)
بالنصب على أنّ الكلام قد تم بقوله (إِنَّكَ أَنْتَ) أى إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب
علام الغيوب على الاختصاص ، أو على النداء ، أو هو صفة لاسم أنّ (إِذْ قالَ اللهُ) بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ) والمعنى : أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم
، وبتعديد
__________________
ما أظهر على
أيديهم من الآيات العظام ، فكذبوهم وسموهم سحرة. أو جاوزوا حدّ التصديق إلى أن
اتخذوهم آلهة ، كما قال بعض بنى إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى عليه السلام من
البينات والمعجزات (هذا إِلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ) واتخذه بعضهم وأمه إلهين (أَيَّدْتُكَ) قويتك. وقرئ أيدتك ، على أفعلتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالكلام الذي يحيا به الدين ، وأضافه إلى القدس ، لأنه سبب
الطهر من أو ضار الآثام. والدليل عليه قوله تعالى (تُكَلِّمُ النَّاسَ) و (فِي الْمَهْدِ) في موضع الحال ، لأنّ المعنى تكلمهم طفلا (وَكَهْلاً) إلا أن في المهد فيه دليل على حدّ من الطفولة. وقيل روح
القدس : جبريل عليه السلام ، أيد به لتثبيت الحجة. فإن قلت : ما معنى قوله : (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)؟ قلت : معناه تكلمهم في هاتين الحالتين ، من غير أن يتفاوت
كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد والحدّ
الذي يستنبأ فيه الأنبياء (وَالتَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة ، لأن المراد بهما
جنس الكتاب والحكمة. وقيل (الْكِتابَ) الخط. و (الْحِكْمَةَ) الكلام المحكم الصواب (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) هيئة مثل هيئة الطير (بِإِذْنِي) بتسهيلى (فَتَنْفُخُ فِيها) الضمير للكاف ، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى
عليه السلام وينفخ فيها ، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها ؛ لأنها ليست من خلقه
ولا من نفخه في شيء. وكذلك الضمير في فتكون (تُخْرِجُ الْمَوْتى) تخرجهم من القبور وتبعثهم. قيل : أخرج سام بن نوح ورجلين
وامرأة وجارية (وَإِذْ كَفَفْتُ
بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) يعنى اليهود حين هموا بقتله. وقيل : لما قال الله تعالى
لعيسى (اذْكُرْ نِعْمَتِي
عَلَيْكَ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول : مع
كل يوم رزقه ، لم يكن له بيت فيخرب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات.
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ
إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ
بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ
الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ
يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ
نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا
وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ
لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي
مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ
عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١١٥)
(أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوارِيِّينَ) أمرتهم على ألسنة الرسل (مُسْلِمُونَ) مخلصون ، من أسلم وجهه لله (عِيسَى) في محل النصب على إتباع حركة الابن ، كقولك : يا زيد بن
عمرو ، وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموما كقولك : يا زيد بن عمرو. والدليل
عليه قوله :
أَحَارِ بْنَ
عَمْرٍو كَأَنِّى خَمِرْ
|
|
وَيَبْدُو عَلّ
الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرْ
|
لأنّ الترخيم لا
يكون إلا في المضموم. فإن قلت : كيف قالوا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) بعد إيمانهم وإخلاصهم ؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى
ادعاءهم لهما ، ثم أتبعه
__________________
قوله : (إِذْ قالَ) فإذن إنّ دعواهم كانت باطلة ، وإنهم كانوا شاكين ، وقوله :
(هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ، وكذلك قول عيسى
عليه السلام لهم معناه : اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا
عليه ، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة. وقرئ : هل تستطيع ربك ، أى
هل تستطيع سؤال ربك ، والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله.
والمائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام ، وهي من «مادّه» إذا أعطاه ورفده
كأنها تميد من تقدّم إليه (وَنَكُونَ عَلَيْها
مِنَ الشَّاهِدِينَ) نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل ، أو نكون
من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوّة ، عاكفين عليها ، على أن عليها في موضع
الحال ، وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الايمان والإخلاص. وإنما سأل عيسى
وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا. وقرئ : ويعلم ،
بالياء على البناء للمفعول. وتعلم. وتكون ، بالتاء. والضمير للقلوب (اللهُمَ) أصله يا الله ، فحذف حرف النداء ، وعوضت منه الميم. و (رَبَّنا) نداء ثان (تَكُونُ لَنا عِيداً) أى يكون يوم نزولها عيدا. قيل : هو يوم الأحد. ومن ثم
اتخذه النصارى عيداً ، وقيل : العيد السرور العائد ، ولذلك يقال : يوم عيد ، فكأنّ
معناه : تكون لنا سروراً وفرحا. وقرأ عبد الله : تكن ، على جواب الأمر. ونظيرهما ،
يرثني ، ويرثني (لِأَوَّلِنا
وَآخِرِنا) بدل من لنا بتكرير العامل ، أى لمن في زماننا من أهل ديننا
، ولمن يأتى بعدنا. وقيل : يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم : ويجوز المقدّمين
منا والأتباع. وفي قراءة زيد : لأولانا وأخرانا ، والتأنيث بمعنى الأمّة والجماعة (عَذاباً) بمعنى تعذيباً. والضمير في : (لا أُعَذِّبُهُ) للمصدر. ولو أريد بالعذاب ما يعذب به ، لم يكن بدّ من
الباء. وروى أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا ، ثم قال : اللهم أنزل
علينا ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون
إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه السلام وقال : اللهم اجعلنى من
الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، وقال لهم : ليقم أحسنكم
عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها. فقال شمعون رأس الحواريين : أنت
أولى بذلك ، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير
الرازقين ، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما. وعند
__________________
رأسها ملح ، وعند
ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد
منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس
قديد. فقال شمعون : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس
منهما ، ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم
الله ويزدكم من فضله : فقال الحواريون : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية
أخرى ، فقال يا سمكة احيى بإذن الله ، فاضطربت. ثم قال لها : عودي كما كنت ، فعادت
مشوية. ثم طارت المائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير. وروى أنهم لما سمعوا
بالشريطة وهي قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ
بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) قالوا لا نريد فلم تنزل. وعن الحسن : والله ما نزلت ، ولو
نزلت لكان عيداً إلى يوم القيامة ، لقوله : (وَآخِرِنا). والصحيح أنها نزلت.
(وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ
مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما
فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)
(١١٦)
(سُبْحانَكَ) من أن يكون لك شريك (ما يَكُونُ لِي) ما ينبغي لي (أَنْ أَقُولَ) قولا لا يحق لي أن أقوله (فِي نَفْسِي) في قلبي : والمعنى : تعلم معلومى ولا أعلم معلومك ، ولكنه
سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه ، فقيل (فِي نَفْسِكَ) لقوله في نفسي (إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تقرير للجملتين معاً ، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة
الغيوب ، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهى إليه علم أحد.
(ما قُلْتُ لَهُمْ
إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ
عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ)
(١١٨)
«أن» في قوله (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر. والمفسر إما
__________________
فعل القول وإما
فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له. أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يتوسط
بينهما حرف التفسير ، لا تقول : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله. ولكن : ما قلت لهم
إلا اعبدوا الله. وأما فعل الأمر ، فمسند إلى ضمير الله عز وجل. فلو فسرته باعبدوا
الله ربى وربكم لم يستقم ؛ لأن الله تعالى لا يقول : اعبدوا الله ربى وربكم ، وإن
جعلتها موصولة بالفعل لم تخل من أن تكون بدلا من ما أمرتنى به ، أو من الهاء في به ، وكلاهما غير مستقيم ؛ لأن البدل هو الذي يقوم مقام
المبدل منه. ولا يقال : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله ، بمعنى ما قلت لهم إلا
عبادته ؛ لأن العبادة لا تقال. وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء لأنك لو أقمت (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مقام الهاء ، فقلت : إلا ما أمرتنى بأن اعبدوا الله ، لم
يصح ، لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته. فإن قلت : فكيف يصنع؟ قلت يحمل فعل
__________________
القول على معناه ؛
لأن معنى (ما قُلْتُ لَهُمْ
إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ). ما أمرتهم إلا بما أمرتنى به ، حتى يستقيم تفسيره يأن
اعبدوا الله ربى وربكم. ويجوز أن تكون «أن» موصولة عطف بيان للهاء لا بدلا (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً) رقيباً كالشاهد على المشهود عليه ، أمنعهم من أن يقولوا
ذلك ويتدينوا به (فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة ، وأنزلت عليهم
من البينات ، وأرسلت إليهم من الرسل (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ) القوى القادر على الثواب والعقاب (الْحَكِيمُ) الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن قلت :
المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال : (وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ) ؟ قلت : ما قال إنك تغفر لهم ، ولكنه بنى الكلام على : إن
غفرت ، فقال : إن عذبتهم عدلت ، لأنهم أحقاء
__________________
بالعذاب ، وإن
غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول.
بل متى كان الجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن.
(قالَ اللهُ هذا
يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١٩)
قرئ (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) بالرفع والإضافة. وبالنصب إما على أنه ظرف لقال. وإما على
أنّ (هذا) مبتدأ ، والظرف خبر. ومعناه ، هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى
واقع يوم ينفع. ولا يجوز أن يكون فتحا ، كقوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) لأنه مضاف إلى متمكن ، وقرأ الأعمش : يوم ينفع ، بالتنوين
، كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ) فإن قلت : ما معنى قوله (يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)؟ إن أريد صدقهم في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل ، وإن أريد صدقهم في
الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه ؛ لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق
فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت : معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم
وآخرتهم. وعن قتادة : متكلمان تكلما يوم القيامة. أمّا إبليس فقال : إنّ الله
وعدكم وعد الحق ، فصدق يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا ، فلم ينفعه صدقه. وأما عيسى عليه
السلام فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه.
(لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٢٠)
فإن قلت : في
السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فهلا غلب العقلاء ، فقيل : ومن فيهنّ؟ قلت : «ما»
يتناول الأجناس كلها تناولا عاما. ألا تراك تقول إذا رأيت شبحاً من بعيد : ما هو؟ قبل
أن تعرف أعاقل هو أم غيره ، فكان أولى بإرادة العموم.
عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم «من قرأ سورة المائدة أعطى من الأجر عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات
ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودى ونصراني يتنفس في الدنيا»
__________________
تم بعون الله تعالى الجزء الأول
ويليه ـ إن شاء الله تعالى ـ الجزء الثاني
وأوله : سورة الأنعام
فهرست
الجزء الأول
من تفسير الكشاف الزمخشري
ص
|
|
ج
|
مقدمة الطبع
|
ه
|
ترجمة المصنف
|
ي
|
المقدمات
|
١
|
تفسير سورة الفاتحة
|
١٩
|
تفسير سورة البقرة
|
٣٣٥
|
تفسير سورة آل عمران
|
٤٦١
|
تفسير سورة النساء
|
٦٠٠
|
تفسير سورة المائدة
|
|