الفن الثاني من الطبيعيّات
وهو مقالة واحدة فى عشرة فصول
فى
السّماء
والعالم
الفصل الأول
فصل فى
قوى الأجسام البسيطة والمركبة وأفعالهما
الأجسام من جهة
قواها لا تعقل إلاّ على أحد أقسام ثلاثة :
إما أن يكون الجسم
واحدا لا تركيب فيه من جسمين ، وله قوة واحدة فقط ؛
وإما أن يكون
الجسم واحدا لا تركيب فيه ، وله قوتان ؛
وإما أن يكون
الجسم ذا تركيب من الأجسام تمازجت ، ويختص كل واحد منها بقوة ، سواء تفاعلت ، فحصل
منها قوة واحدة مزاجية مشتركة ، أو لم تتفاعل .
وغرضنا أن نتكلم
فى القسم الثاني أنه كيف يمكن أن يوجد فنقول :
__________________
إن هذا أيضا يعقل
على أقسام :
منها أن يكون
القوتان أمرين غير صورة الجسم ، بل تابعان لها ، أو عارضان من خارج.
ومنها أن يكون
أحدهما صورة ، والآخر لازما أو عارضا.
ومنها أن لا يكونا
عرضيين بل أمران يحصل من مجموعهما صورة واحدة للجسم ، بها الجسم نوع واحد.
فلنجوز الآن وجود القسمين الأولين ، ولنتأمل حال القسم الثالث.
وهذا القسم الثالث
أيضا يعقل على وجوه :
أما أن يكون كل
واحد منهما مليئا بإقامة مادته بالفعل جوهرا قائما أو يكون أحدهما كذلك ، أو لا
يكون إلا مجموعهما كذلك. فإن كان كل واحد منهما مليئا بإقامة المادة لو انفرد لزم من ذلك أن يكون المادة قد تقومت بأي واحد منهما شئت ،
ويكون الآخر خارجا عن تقويم المادة ، فيكون عرضا ، فيكون كل واحد منهما صورة وعرضا ،
هذا خلف. وإن كان المقوم أحدهما وحده كان الثاني عارضا ، فلحق الأمر بأحد
القسمين الأولين. وأما إن كان تقويمها للمادة أمرا ، يحصل عنهما بالشركة ، فمجموعهما ، بالحقيقة ، هو الصورة ، وكل واحد منهما جزء الصورة. وكل واحد منهما لا يخلو إما أن يكون جزءا متميزا
بنفسه لا كمعانى الجنس والفصل في الأمور البسيطة التي لا يتميز كل
واحد منهما أمرا منفصلا بنفسه ؛ بل يكون كأجزاء المركبات ، أو لا يكون
كذلك. فإن لم يكن كذلك لم يكن واحد منهما يصدر عنه ، وحده ، فعل خاص
__________________
نوعى ؛ بل عسى أن
يصدر عن المعنى الجنسى فعل جنسى تتم نوعيته بالمعنى الفصلى ، مثلا أن يكون الصادر عنه حركة
مطلقة ، ويتخصص نوعها بشركة الفصل ؛ وهذا مما لا ننكره.
وأما الوجه الأول فهو محال ؛ وذلك لأن كل واحد منهما ليس ، وحده ، مقوما للمادة ، ولا أيضا يتقوم بقرينه ، وإلا فقرينه أقدم منه ذاتا ، وهو تابع لقرينه.
وهذا مما لا ننكره
، أعنى أن يكون شىء من الهيئات يتقوم به هيئة أخرى هو بعده
فى الجسم البسيط ؛ بل هذا داخل فى أحد القسمين المذكورين. وإنما ننكر
أن يكون كل واحد منهما يتقوم بالآخر ، فيكون أقدم منه ،
وأشد تأخرا عنه.
فبقى لا محالة أن
الواحد منهما لا يتقوم إلا بالمادة ؛ إذ فرضنا أنها لا توجد إلا فيها.
وهو على ما فرضناه
أيضا غير مقوم له ، فالمادة أقدم منه ، لكنه أقدم من المركب منهما ، أعنى من مجموع الهيئتين. وهذا المجموع هو المقوم للمادة
بالفعل ، كما فرض.
فيكون ، بالحقيقة
أقدم من شىء هو مقوم للمادة ، فيكون أقدم من المادة ،
وكانت المادة أقدم منه ؛ هذا خلف.
فقد ظهر استحالة
هذا القسم ، فلا يجوز أن يكون صورتان ، ليست إحداهما أقدم من الأخرى ، يقيمان المادة بالشركة. فإن كان قد يجوز أن
يكون طبيعة واحدة بسيطة يصدر عنها ، بما هى صورة ، قوة فعلية ، كما عن طبيعة الماء
البرد المحسوس ، ويكون عنها ، من جهة مادتها لمادتها قوة أخرى انفعالية ، كما
للماء من الرطوبة. ويجوز أن يكون قد تفيض عنها بحسب أين الجسم قوة مميلة ، وبحسب
كيف الجسم قوة سخنة ، وتكون
__________________
إحداهما أقدم من
الأخرى ؛ فإن المسخنة قبل المميلة ، حتى أن المكتسب سخونة بالعرض
يميل إلى فوق ، أو يكونان معا ، ولكن إحداهما سببها تلك الصورة لذاتها ، كالسخونة للنار ، والبرودة للماء ، والأخرى سببها الصورة مع عارض عرض لها مثل الميل ، إذا كان الجسم عرض له مفارقة مكانه
الطبيعى. وإما أن يكونا معا ، ولا سبب إلا الصورة الواحدة ، فلا يمكن. وأنت قد
علمت الفرق بين الصورة وبين هذه الأحوال قبل هذا الموضع.
وأنت تعلم من هذا
أن الجسم فى مكانه الطبيعى لا يكون سبب حركته موجودا من حيث هو سبب حركته ؛ إذ لم
يكن السبب صورته فقط ؛ بل صورته وشىء ، فلا يكون ، بالحقيقة ، شىء واحد هو سبب
الحركة إلى المكان الطبيعى ، وسبب السكون. ويزول عنك الشك الذي يورده بعضهم. ويجب أن لا يشك فى استحالة وقوع الأفعال المختلفة ؛
إذ كانت المادة واحدة والقوة واحدة ، والسبب الفاعلى واحدا.
فتعلم أن القوة
الواحدة يصدر عنها فعل واحد ، وأن الفاعل الطبيعى الواحد لا يصدر إلا عن قوة
واحدة. فإن كان ذلك الفعل الطبيعى واحدا بالجنس ، كحركة الماء والأرض إلى
أسفل ، فإن هاتين الحركتين واحدة بالجنس ، لا بالنوع ؛ لأنهما يشتركان ويفترقان فى
أمر ذاتى لهما.
أما الاشتراك
فلأنهما يتوجهان من حيز الهواء إلى البعد عن الفلك.
وأما التباين فلأن نهاية كل واحدة منهما ليست نهاية الأخرى بالنوع ، وكانت القوة واحدة بالجنس لا بالنوع. فإن القوة الواحدة بالنوع إنما تحصل غاية واحدة بالنوع. [و] إذا كان الفعل الطبيعى واحدا بالنوع. فإنما
تحصل غاية
__________________
واحدة بالنوع.
وأيضا إذا كان الفعل الطبيعى واحدا بالنوع فمبدؤه واحد بالنوع.
ولو كان مبدأه
واحدا بالجنس لكان البسيط الذي يشاركه فى نوع تلك الحركة لا يشاركه فى العلة النوعية ؛ بل فى العلة الجنسية والقوة الجنسية ، ويخالفه فى زيادة فصل لقوته. فذلك الفصل إما أن يخصص فعل
القوة ، أو لا يخصص. فإن خصص فليست الشركة فى نوعية الفعل ؛ وإن
لم يخصص فليس ذلك فصلا للقوة من حيث هى قوة توجب حكما فى القوة ، من حيث هى قوة ، فيكون أمرا عرضيا لا فصليا.
__________________
الفصل الثاني
فصل فى
أصناف القوى والحركات البسيطة الأول وإبانة أن الطبيعة
الفلكية خارجة
عن الطبائع العنصرية
قد عرف مما سلف أنه إذا كانت حركة طبيعية مستقيمة افترض للحركات الطبيعية أجناس ثلاثة : جنس المتحرك من الوسط وجنس المتحرك إلى
الوسط ، وجنس المتحرك على الوسط.
فلنعلم أنه ليس يجب أن يكون المتحرك من الوسط لا محالة إنما يتحرك من عين الوسط ؛
فإنه إذا كان من موضع آخر لكنه يبعد بحركته عن الوسط فهو يتحرك إلى
الوسط ، ولا المتحرك إلى الوسط هو الذي ينتهى لا محالة بحركته إلى عين الوسط.
فإنه ، وإن لم يكن
يقرب بحركته إلى الوسط فهو متحرك إلى الوسط ، وليس كل ما يتحرك إلى شىء يصل.
والمتحرك على
الوسط ليس يجب ، لا محالة ، أن يكون الوسط مركزا له ، فإنه ، وإن لم يكن مركزا له ، وكان فى ضمنه ، فهو متحرك على الوسط ؛ إذ يتحرك حوله بوجه ما
إلا واحدا بعينه ، هو من جملة المتحركات على الوسط ، وهو المحدّد للكل. فإن الوسط
__________________
يجب أن يكون مركزا
له. وأما غير ذلك الواحد فربما كان المستدير المتحرك على الوسط ليس مركزه وسط حركة
المتحرك إلى الوسط ، وعن الوسط ، فلا يكون هو الذي بالقياس إليه يتحدد الوسط الفاعل للجهات الطبيعية للحركات المستقيمة. وإذا كان المتحرك متحركا حول هذا الوسط ، وليس هو مركزه ، فيعرض له تارة أن يكون أقرب منه ، وتارة أن يكون أبعد منه. وليس ذلك لأنه يتحرك إلى الوسط أو عن الوسط ؛ لأنه ليس يتوجه بحركته إلى ذلك القرب والبعد
توجها ذاتيا ؛ بل إنما يتحرك ، وهو على مداره ، لكن عرض أن يكون جزء من مداره أقرب من الوسط المذكورة وجزء أبعد ، كما أن الأجزاء
مداره قربا وبعدا من أشياء يكاد لا ينتهى بالقوة ، وليس حركته إليها بالقصد الأول ، بل القصد الأول فى حركته حفظ مداره ، ثم يعرض منه ذلك.
ولو كان بالقصد
الأول لكان يقف عند حصول المقصود ولا يفارقه ، ولكان يتحرك
إليه من أقرب المسافات ، وهو المستقيم ، لا على انحراف. وعلى أن هذا القرب والبعد
ليس يعرض لجملة المتحرك على الوسط ؛ إنما يعرض لجزء من المتحرك على الوسط ، ليس هو
جزءا منفصلا متحركا بنفسه ؛ بل هو جزء موهوم متحرك بالعرض ، لو كان أيضا غير موهوم. وأما الكلية فإنما تتحرك فى الوضع.
فإذا كان ذلك كذلك ولم يكن هناك متحرك ، ولا حركة بالذات إلى
جهة يتحرك إليها بالقصد الأول ، فكيف يكون حركة حقيقية إلى الوسط ، أو عن الوسط ، حتى يشنع بذلك بعض المتقربين إلى العامة من
النصارى وهو يشعر؟
فالمتحرك بالطبايع
إلى الوسط هو الذي يسمى ثقيلا ، والمرسل منه هو الذي من
__________________
شأنه ، إذا فارق
مكانه الطبيعى ، ولم يعرض له مفسد ولا مانع ، أن يبلغ الوسط ، فيكون راسبا تحت الأجسام
كلها.
والمتحرك بالطباع عن الوسط هو الذي يسمى خفيفا ، والمرسل منه هو الذي من شأنه ، إذا فارق مكانه الطبيعى ، وحصل فى ناحية الوسط ، ولم يعرض
له مفسد ولا مانع ، أن يعود فيتحرك حتى يبلغ أبعد حدود حركات الأجسام الطبيعية من فوق
، فيكون طافيا فوق الأجسام المستقيمة الحركة كلها. وأما الثقيل على الإضافة ،
والخفيف على الإضافة ، فكل على قسمين.
ولنذكر قسمى
الثقيل بالإضافة :
فأحدهما الذي هو بطباعه متحرك فى أكثر المسافة الممتدة من حدى الحركة
المستقيمة حركة إلى الوسط لكنه لا يبلغه. وقد يعرض له أن يتحرك عن الوسط ولا يكون تانك الحركتان متضادين ، كما ظنه بعضهم ؛ لأنهما ينتهيان إلى طرف واحد ونهاية واحدة ، وهذا مثل الماء. فإنه إذا حصل فى حيز النار
والهواء ، تحرك بينهما إلى الوسط ، ولم يبلغه ؛ وإذا حصل فى حيز الأرض
بالحقيقة ، وهو الوسط ، مثلا ، تحرك عنه بالطبع ليطفو عليه ، فهو من هذه الجهة
ثقيل مضاف ، ومن جهة أنه إذا قيس إلى الأرض نفسها ، فكانت الأرض سابقة له إلى الوسط وأشد ميلا إلى الوسط ، فيصير عند
الأرض خفيفا ؛ وهى أيضا ثقيلة بالإضافة من هذا
الوجه. وهذا الوجه يقرب من الأول ، وليس به ؛ فإن هذا باعتباره ، وهو يشارك الأرض
فى حركتها إلى الوسط. ولكنه يبطئ ، ويتخلف عنها. وأما ذلك فباعتباره من حيث لا يريد من الوسط الحد الذي تريده الأرض بعينه. وهذا الاعتبار غير ذلك. وكيف لا ، وربما شارك
__________________
البطيء السريع فى
الغاية ، إذا كان اختلاف ما بينها للصغر والكبر؟
وهكذا يجب أن
يتحقق ، فى جنبه ، الخفيف المضاف أيضا.
ولفظيا الخفة والثقل قد يعنى بكل واحدة منهما أمران.
أحدهما : أن يكون
الشىء من شأنه أنه إذا كان فى غير الحيز الطبيعى تحرك بميل فيه طبيعى إلى إحدى الجهتين. وإذا عنى بالثقل والخفة ذلك كانت الأجسام المستقيمة الحركة دائما ثقيلة أو خفيفة.
والثاني : أن يكون
ذلك الميل لها بالفعل. فإذا كان ذلك كذلك لم تكن الأجسام ،
فى مواضعها الطبيعية ، بثقيلة ولا خفيفة.
وأما الجسم
المتحرك بالطبع على الاستدارة فإنه لا ثقيل ولا خفيف. لا بالوجه المقول بالفعل ،
ولا بالوجه المقول بالقوة. وهذا الجسم قد سلف منا
إثباته بالوجه البرهانى ، وبينا أنه أقدم وجودا من هذه الأجسام الأخرى. فإن هذه
الأجسام طبائعها لا توجد مطبوعة على أيون يريدها إلا بعد أن توجد
أماكنها الطبيعية.
ويكون ذلك لا على أنها علل لاحداث أماكنها الطبيعية فإنه لا يصير طبيعية ، أو يكون لها
أحياز طبيعية ؛ وإنما يتحدد أماكنها بهذا الجسم. فهذا الجسم أقدم بالذات من معنى هو مع هذه الأجسام لا يتأخر عنها. وما هو أقدم من مع فهو أقدم. والأولى أن
يكون أتم البسطين أقدم ، وأتم الحركتين البسيطيتين هو المستدير ، والأولى أن يكون أقدم البسيطين لأقدم الجسمين ، وذلك لأن الحركات الطبيعية البسيطة يجب أن تكون للأجسام البسيطة. فإن المركبة إن كان لها مبدأ حركة بسيطة طبيعية لم يخل :
إما أن
__________________
يكون إنما يصدر
ذلك عن قوة تحدث عن امتزاج قوى ، فيكون مقتضاها
ممتزجا عن مقتضيات القوى البسيطة ، فإما أن تتمانع ، وأما أن يغلب واحد ، وإما أن تتناوب. فإن تمانعت فلا
حركة ، وإن غلب واحد فذلك الواحد هو قوة الجسم البسيط المتقدم ، لا قوة المركب ؛ لكن حركة مشوبة
بإبطاء لا محالة لمقاومة القوى الأخرى ، والمشوبة بالإبطاء غير صرفة ، ولا بسيطة مطلقا. وإن تناوبت فالحركة مركبة من حركات. وكل
بسيطة منها فهى عن بسيطة ، هى علتها وقتاما.
وإما أن لا يكون من
قوة ممتزجة من قواها ، بل يكون المزاج يلزمه استعداد أن يقبل قوة يصدر عنها نوع من
التحريك آخر ، فلا تكون هذه الحركة ، بالحقيقة ، طبيعية ؛ وذلك لأنها قاهرة لمقتضى
القوى الطبيعية الأولية فى الجسم ، فإن تلك القوى تقتضى جهة أو تقتضى تمانعا وسكونا ، كما بيناه الآن.
وهذا إنما يصدر عن ذلك ويصرف عنه قسرا ؛ فتكون هذه القوه دخيلة على القوى الطبيعية كما تدخل الحرارة على الأرض والماء فتصعدهما. وهناك قوة يرجحن بها. لكنها تغلب ، كما
أن الإرادة أيضا توجب خلاف مقتضى الجسم من الحركة.
وإذا كان كذلك
فتكون هذه القوة الطارئة لا تفعل حركة طبيعية ؛ بل تفعل حركة مضادة للطبيعية. وليس علينا الآن أن نتكلم فى أن
هذا يجوز وجوده أو لا يجوز.
فإنه من حيث يجوز
حدوث قوى بعد المزاج الأول هى صورته لا غريبة عرضية ، فيستحيل أن هذا يجوز وجوده. ومن حيث يظن أنه لا يجوز أن يكون الشىء يعد لضده ولمخالفه بالطبع ، فيظن أن هذا لا يجوز وجوده ، وخصوصا على سبيل ما يستكمل الجسم
الطبيعى به نوعا ؛ بل إن كان ولا بد فلسبب من
خارج ولمبدإ غريب وغير
__________________
مكمل النوع ؛ بل
طارئ بعد استكمال النوع ، وعلى أن تحريك
هذه القوة يتوجه إلى مكان ما ، ويكون لذلك المكان جسم طبيعى وبسيط. وهذه القوة تحرك إليه أيضا جسما بالطبع. فإن كان الجسم الطبيعى الذي لذلك
المكان موجودا فى هذا المركب فالحركة بحسب البسيط ؛ وإن لم يكن موجودا كان مكان
واحد تقتضيه بالطبع أجسام كثيرة ، وهذا محال ؛ اللهم إلا أن يكون ذلك
التحريك هو فى حيز غير مختلف بالطبع ، مثل حركتنا فى الهواء. ومثل هذه الحركة لا تكون طبيعية ؛ لأن الطبيعية لا تخرج عن ميل بالطبع إلى ميل بالطبع.
وأما الإرادة فلها غايات غير طبيعية ، وإذا كانت الحركات البسيطة الطبيعية يكون للأجسام
البسيطة ، كانت الحركات البسيطة إما مستقيمة وإما مستديرة ؛ إذ المسافات البسيطة إما مستقيمة وإما مستديرة ؛ وأما المنحنية ، وإن كانت محصلة النهايات
، فليس تحصل النهايات بها تحصلا واجبا ، إذ يجوز أن تكون تلك النهايات لمنحنيات أخرى لا نهاية لها ؛ وأما المستقيمة فليست كذلك. وإذا كان كذلك فلا يتعين لطبيعة البسائط سلوك بين نهايتين للمنحنيات على نوع منها ،
دون نوع. وأما المستقيمة فيتعين منها ذلك ، وإن كانت غير
متعينة النهايات ، من حيث هى مستقيمة. غير أن لك أخذ المنحنى غير بسيط ؛ لأن المنحنى لا يكون فى نفسه أيضا متشابه
الأجزاء ، كان محيطا أو مقطوعا والبسيط متشابه.
فبين أن الحركات
المستديرة والمستقيمة البسيطة هى للأجسام البسيطة ، كما أن الأجسام البسيطة
حركاتها الطبيعية إما مستقيمة وإما مستديرة.
__________________
ولما كان لا يمكن
أن تكون مستقيمة إلا كانت جهة ، ولا تكون جهة إلا كان محيط بالطبع ، ولا
يكون محيط بالطبع إلا أن يوجد المستدير المتحرك على الاستدارة ، على ما سلف لك من
جميع ذلك ، والمستقيمة الطبيعية موجودة فالمستديرة موجودة.
والأجسام التي لها
فى طباعها ميل مستدير ، كانت كثيرة أو واحدة ، فإنها جنس يخالف الأجسام المستقيمة الحركة بالطبع خلافا طبيعيا ، كما قد وقفت عليه من
الأقاويل السالفة. ولكنها إذا اقتضت بعد ذلك ، مواضع فى الطبع مختلفة ، وجهات فى
الحركة مختلفة ، فبالحرى أن تختلف بالنوع.
والأجسام التي إذا حصلت مع أجسام أخرى بالتوهم ، وفى حيز واحد ، فتحركت هذه
إلى الوسط ميلا ، وتلك لم تتحرك ؛ بل سكنت ، أو تحركت عن الوسط ، أو سكن بعضها وتحرك الآخر عن الوسط ، وذلك لها بالطبع ؛
فإنها متخالفة الطبائع بالذات.
فتكون المتحركات إلى الوسط جنسا ، والمتحركات عن الوسط جنسا يخالف ذلك الجنس الآخر. لكنها ، إن وجدت بعد ذلك ، مختلفة بالطبع ، حتى يكون الواحد
يقتضى موضعا طبيعيا فوق أو تحت الآخر ، وواحد يتحرك أبعد ، وواحد يتحرك أقرب ،
وواحد يبقى ميله ، وآخر يزول ميله ، وذلك لها بالطبع ؛ فهى مختلفة الأنواع بالطبع ؛ فيسقط بهذا مناقضة من قال : لم أوجبتم اختلاف طبائع الأجسام باختلاف حركاتها ، ثم جعلتم الأفلاك طبيعة واحدة خامسة؟ فإنا لم نجعلها واحدة بالنوع.
وكذلك إذا كانت
الحركة عن الوسط ، أو إلى الوسط ، معنى كالجنس فلا تصير الأجسام بها متفقة إلا فى معنى جنسى. وأما
التخصيص بموضع بعينه طبيعى فهو المعنى النوعى.
__________________
وعلى هذا ، ما
يخالف الماء الأرض فى الطبع ؛ لأن حركتيهما ليستا إلى حقيقة المركز إلا للقهر أو لوقوع الخلاء
، لو لم ينجذب الماء إذا زال عنه الأرض ، ولتلازم الصفائح على النحو المذكور ، وإلا فحركة الماء إلى حيز غير حيز حركة الأرض ، فهما واحد بالجنس ، لا بالنوع.
وإذا عرض لجسم
واحد ، باعتبار مكانين ، حركتان إحداهما عن الوسط ، والأخرى إلى الوسط مثلا ،
كالهواء ، على مذهب المشائين ، لو أدخل فى حيز النار لهبط ، وإذا أدخل فى حيّز الماء صعد ، فليس يجب أن يكون مخالفا لطبيعته ؛ لأن ذلك له عند حيزين مختلفين ، وغايته حيز واحد هو الطبيعى له.
وأما أنه هل إذا
كانت حركة توجد غير طبيعية لجسم ، فيجب أن تكون طبيعية لجسم آخر ، فهو شىء لم يبرهن عندى بعد إلى هذه الغاية ، ولا أراه واجبا. وعسى أن يقول فيه غيرى ما ليس
عندى.
ويسقط ، بمعرفة هذه الأصول ، سؤال من ظن أنه يقول شيئا ، فقال : إن كان اختلاف الحركات يوجب
اختلاف الأجسام فى الطبائع ، فاتفاقها يوجب الاتفاق ،
فالأرض على طبيعة الماء.
أما أولا فلأن
اتفاق الحركات فى الجنس إنما يوجب اتفاق الطبائع فى الجنس فقط ، إن أوجب اتفاقا ، وهاتان الحركتان متفقتان فى الجنس ، فيجب أن
توجبا اتفاق الطبائع فى الجنس لا فى النوع.
وأما ثانيا فلأن
اختلاف الأشياء فى معانيها الذاتية واللازمة للذاتية يوجب الاختلاف
__________________
فى النوع ؛
والاتفاق فى ذلك لا يوجب الاتفاق ، وإلا لكانت المتجانسات متفقة النوع.
ومع ذلك ، فقد قاس
هذا الإنسان قياسا رديا فقال : إن أمكن فى الأجرام البسيطة ، التي
ليس نوع طبيعتها نوعا واحدا ، أن تتحرك حركة بسيطة نوعها
بالطبع نوع واحد ، انعكس انعكاس النقيض ، فأمكن أن يكون للأشياء التي لا تتحرك حركة طبيعية واحدة بالنوع بسيطة نوع واحد طبيعى.
فجعل ما ظنه عكس النقيض تاليا لمقدمة هى عكس نقيضها.
وإنما غلط فى هذا العكس ؛ لأنه أخذ القضية ممكنة ، وظنها
وجودية أو ضرورية ، فأوجب عكسها. وهذا النوع من عكس النقيض لا يصح فى
المقدمات الممكنة ، إذا جعلت الممكنة جهة ، ولم تجعل جزءا من المحمول ، كما لو قال قائل : إن أمكن الجواهر
المختلفة التي ليست طبيعة نوعها طبيعة واحدة ، أن تشترك
فى ماهية مشتركة واحدة ، أو صفة واحدة ، أمكن للأشياء التي لا
تشترك فى ماهية واحدة وصفة واحدة أن تكون طبيعتها ونوعها واحدا.
وإذا كان هذا
العكس لا يصح فاعلم أن ما قاله لا يجب. وأما إن جعل الممكن جزءا من المحمول صح العكس. ولكن لم يكن ما يريده ، وكان عكس نقيض تلك المقدمة أن ما ليس يمكن أن يتحرك حركة بسيطة واحدة نوعها واحد ، فليس من الأجرام البسيطة التي ليس
نوع طبيعتها نوعا واحدا. وهذا حق. فقد علم من هذا أن الطبيعة السماوية مخالفة لهذه
الطبائع في مبادئ الحركات ، فيجب أن تكون مخالفة لها فى الأمور النوعية التي تتعلق بما يتعلق به
الاختلاف. ولكن الحرارة والبرودة لازمتان منعكستان
__________________
على الخفة والثقل.
فالمادة إذا أمعن فيها التسخين خفت. فإذا خفت سخنت.
فلا خفيف إلا وهو
حار. ويعرض لها إذا بردت بشدة أن تثقل. وإذا ثقلت بشدة أن تبرد. فلا ثقيل إلا وهو
بارد. فيكون الحر والبرد منعكسين على الثقل والخفة ، كالإشقاف وغير ذلك مما يوجد فى الثقيل والخفيف.
فالجسم ، الذي فيه
مبدأ حركة مستديرة ، لا حار ولا بارد. فيسقط بذلك سؤال من يرى مشاركات بين الطبيعة
الخامسة وغيرها ليست مما ينعكس على الثقل والخفة. والذي ظن ، وقال إن الهواء يصعد
من حيّز الماء ، ويهبط من حيّز النار ، فيكون جسم واحد متضاد الحركة ، ومع ذلك لا يضاد ذاته ، فتضاد الحركات لا يوجد
تضاد الطبائع ـ فأول ما فيه أنّا قد بيّنا أن هاتين الحركتين غير متضادتين
بالحقيقة. وأما بعد ذلك فقد يعرض عن شىء واحد أفعال متقابلة لأحوال متقابلة. فتارة يسكن ، وتارة يتحرك.
إنما يوجب التضاد
إذا كان الحال واحدة فيصدر عنها حركات متضادة ، فنعلم أن فيها مبادئ متضادة. وأما إذا كانت الأحوال متقابلة فيجوز أن يكون مبدأ مثل هاتين الحركتين
جميعا صورة واحدة ، وقوة واحدة هى الطالبة لمكان بعينه ، فيوجب حركتين متخالفتين أو متضادتين نحو مكان واحد بحالين متضادين فيها وليست هذه الأجسام تكون متضادة الصور بأن تعرض لها فى أحوال متضادة ؛ بل أن تكون
متضادة فى حركاتها التي بالطبع عن حيّز ، فيكون بين حركاتها غاية
الخلاف.
__________________
الفصل الثالث
فصل فى
الإشارة إلى أعيان الأجسام البسيطة
وترتيبها وأوصافها وأشكالها التي لها بالطبع ومخالفة الفلك لها
والآن فليس يخفى
عليك فيما تشاهده أن الحركة الصاعدة بالطبع تتجه نحو السماء ، وأن الهابطة بالطبع تتجه نحو الأرض ، وتعلم أن الأرض ليس تنزل
من السماء منزلة المحيط ، والسماء لا تنزل عند الأرض منزلة المركز. ولو كان كذلك
لكان لك أن توقع بنظرك أو تارا على قسىّ من الأرض تعدو السماء ولا تناله ، كما لك أن تفعله بالسماء.
وإذا لم تكن الأرض بمنزلة المحيط ، ولا بد على القوانين التي علمتها ، من أن يكون
أحدهما بمنزلة المحيط. فالسماء هو الجرم الذي بمنزلة المحيط ، وهو أيضا يتحرك على الاستدارة ، شارقا بالكواكب ، وغاربا. فتكون السماء هو
الجرم البسيط المتقدم المتحرك بالاستدارة المذكورة حاله ، وليس فى طباعه أن يتحرك على الاستقامة. وحركته هذه المستديرة هى التي له بطباعه.
وأما التي للنار
فيها فليست ، كما علمت ، حركة قسرية ولا طبيعية ، ولا حركة فى ذات النار ؛ بل حركة
المحمول ، وحركة ما بالعرض لكون الشىء ملازما للمتحرك.
__________________
والسماوات قد
يلحقها مثل هذه الحركة. وأنت تعلم هذا إذا تحققت علم الهيئة الذي يظن من أمر
السماء أنها مركبة من أرض ونار ، ويتبع تضاد نقيضيهما فى الحركة أن يستدير ؛ إذ يقتضى أحد عنصريه التصعد ويقتضى الآخر التهبط ،
فيحصل منه جذب ودفع ، فتحصل حركة مستديرة ، كما للسبيكة المذابة. فإن الحرارة الغريبة
فى السبيكة تتكلف التصعد ، والثقل يقاومها ، فتحدث هناك حركة مستديرة ـ فهو ظن باطل.
وذلك لأن الجسم
الواحد إذا حدث فيه ميلان إلى جهتين فإما أن يتمانعا ، وإما أن يغلب أحدهما ، وإما
أن تختلف الأجزاء فى ذلك ، كما فى السبيكة ؛ فإن الجزء المستقر منه يغلبه الحر ، فيصعده بالإغلاء. فإذا علا حدث فيه ميل إلى
حيزه الطبيعى ، وإنما يشتد عند مقاربة المستقر. ولأجل
اشتداد القوة عند المقاربة ما كان منع الحجر النازل أصعب من إشالة المستقر ، على ما أشرنا إليه قبل.
وإذا حدث هذا الميل بقوة قاوم مقتضى التسخين فنزل إلى أسفل ونحا مستقره. وقد عرض لما كان أسفل مثل ما عرض له من التصعد ، وأعانه مزاحمة النازل الحامى المتوقف ، وقد
عرفت التوقف ، فحدثت حركة مستديرة تكون استدارتها
لا على المستقر ؛ بل فيما بين المستقر وبين العلو.
وأما السماوية فلو
حدثت فيها استدارة ، للسبب المذكور ، لكان بذلك يقع منها فيما بين جهتى العلو والسفل ، لا على الوسط ؛ إذ نسبة الوسط إلى
المتحرك عنه والمتحرك إليه واحد.
__________________
وأيضا فنرى أن النار التي فى جوهر الفلك تطلب تصعيدا إلى أى حد
، وإلى أى غاية ، وكيف تحدد ذلك الحد قبل الجسم المستدير الحركة ، ويلزم جميع ما قيل للجاهل بالجهات فيما
سلف.
والذين قالوا أيضا
إنها قد حدث فيها قوة مزاجية محركة هذه الحركة البسيطة فقد أخطئوا ؛ وذلك لأن القوة المزاجية توجب من جنس يوجب ما عنه امتزجت بحسب الغالب ، أو يمنع الطرفين.
وليست المستديرة
البسيطة من جنس المستقيمة ، ولا هى امتزاج من مستقيمين متقابلين. فيعرف من هذا خطأ قول من ظن
أنه يقول شيئا ، فقال : إن السماء يلزمها أن تتحرك على الاستدارة ، وإن كانت مركبة
من نار وأرض ؛ إذ لا يمكنها أن تتحرك ، على الاستقامة
لاتصال كريتها ، ولا أن تسكن لتجاذب قواها ؛ والذين قالوا إنها ليست مزاجية بل قوة أخرى
استعد لها الجسم بالمزاج ، فهى تتحرك على الاستدارة ، وقد عرفت استحالة ما قالوه ، حين علمت أن مثل هذه القوة لا تكون بسيطة التحريك.
فالذين قالوا إن لها نفسا تحركها حركة خلاف مقتضى طباعها فقد جعلوا الجرم السماوى فى
تعب دائم ؛ إذ كان جمعه يقتضى ، عن الحركة الصادرة عن تحريك نفسه ، حركة أو سكونا.
وهؤلاء كلهم جعلوا
السماء فى غير الموضع الطبيعى. وذلك لأنه ليس فى الحيز المشترك بين بسائطه ، الذي هو حيز المركب ، على ما علمت ، ولا فى حيز غالب ، فقد جعلوا حصوله هناك لقاسر ضرورة.
__________________
هذا ولما كان الحق
هو أن السماء بسيطة ، وأنها متناهية ، فالواجب أن يكون شكلها
الطبيعى كريا. والواجب أن يكون الطبيعى موجودا لها ، وإلا لو وجد لها غير الطبيعى لكان يقبل جرمها الإزالة عن الشكل الطبيعى ، وكان يقبل التمديد
والتحريك على الاستقامة ، إلى جهات الاستقامة ، وبالقسر. وكل ما قسر عن موضعه
الطبيعى بالاستقامة فله أن يتحرك إليه بالاستقامة ، كما علمت فى الأصول التي
أخذتها ، فيكون فى طبيعة الفلك حركة مستقيمة.
وقد قيل إنه ليس كذلك. فيجب أن يكون الشكل الموجود للفلك مستديرا فيحيط به سطوح
مستديرة ، والجسم الذي يتحرك إلى الفلك بالطبع يجب أن يتحرك
إليه بميل متشابه ، ومع ذلك هو بسيط ، ويقتضى شكلا
بسيطا مستديرا ، ويجد مكانا مستديرا ، فيجب أن يجد هذا الجسم أيضا الشكل البسيط
الذي له ، وكذلك ما فى ضمنه على الترتيب ، إلا أن يكون تحت من شأنه أن يقبل الكون والفساد ؛ وأن يتصل به ما استحال إليه ، وينفصل
منه ما استحال عنه. ثم يكون بحيث يعتبر فى طبيعته المصير إلى الشكل الذي يقتضيه طبعه أو غيره بسهولة ، كالأرض لأنها
، بيبس طبيعتها ، عسرة القبول للشكل ، بطيئة الترك له ؛ ومع ذلك فهى قابلة للكون والفساد.
فإذا انثلم منها شىء بقى الباقى على غير شكله الطبيعى ، لو كان عليه ، أو
شكله القسرى إذا كان عارضا له ؛ وكذلك الذي ينضاف إليه
مما هو كائن أرضا ، ولم يكن أرضا. وقد أوجبوا لأسباب أن لا يكون شكله طبيعيا. ويجب أن تتذكر الشبهة المذكورة
فى باب كون كل جسم بسيط ذا شكل طبيعى وحلّها ؛ فإن ذلك يحتاج إليه فى هذا الموضع.
__________________
وإذا كان كذلك جاز
أن ينثلم شكله الطبيعى بهذا السبب. لكن الجوهر ليس بهذه الصفة. ويشبه أن يكون ما يلى الفلك من العناصر لا يستحيل إلى طبيعة
أخرى ؛ لأن الفلك لا يحيله أو يحيل كله. وأما جرم آخر غريب فلا يبلغ أن يبعد عن مكانه
الطبيعى هذا البعد كله ، حتى تحصل هناك جرمية ، فتغير الجسم الموجود هناك. وإن بلغ ذلك الحد جزء منه كان بأن ينفعل أولى منه
بأن يفعل فيه ؛ بل الواجب أن لا يمهل إلى أن يبلغ الحد
الأقصى ، بل ينفعل دون ذلك ، ولا ينثلم بمخالطته الجنبة التي تلى الفلك ، فيكون سطحه ذلك سطح جسم كرى.
وأما أن ذلك ليس
يجوز أن يكون أزليا باقيا دائما ؛ بل يدخل فى الكون والفساد ، فليس على سبيل أن يقبلها هناك ؛ بل على وجه آخر يذكر فى موضعه.
وأما السطح الذي
يلى الأرض ، أو يلى جسما يلى الأرض ، فيشبه أن يعرض له
هذا الانثلام بالمخالطة المضرسة.
وما كان رطبا
سيالا فإن سطحه الذي يلى رطبا مثله يجب أن يحفظ شكله الطبيعى
المستدير. ولو لم يكن سطح الماء مستديرا لكانت السفن إذا ظهرت من بعد تظهر بجملتها ، لكن ترى أصغر ، ولا يظهر منها أولا جزء دون جزء.
وليس الأمر كذلك ؛ بل إنما يظهر أولا طرف السكان ثم صدر السفينة. ولو كان الماء
مستقيم السطح لكان الجزء الوسط منه أقرب إلى المركز المتحرك إليه بالطبع من الجزءين الطرفين ؛ فكان يجب أن يميل الجزءان الطرفان
إلى الوسط ، وإن لم يكن ذلك ليصلا إليه ، كما قلنا ؛ بل ليكون لهما إليه النسبة
المتشابهة المذكورة. وتلك النسبة لا مانع لها ،
__________________
فى طباع الماء عن أن تنال بتدافع أجزائه إلى المركز ، تدافعا مستويا. فحينئذ يكون بعد سطحه عن المركز بعدا واحدا ، فيكون مستديرا.
وأما الجسم اليابس
فينثلم ، ولا يستوى عن انثلامه بالسيلان. والذي ينطبق عليه من الرطب يتشكل بشكله. فيكون
الجسم اليابس يلزمه أن تنثلم استدارة سطحه.
وأما الرطب فيلزمه
ذلك من حيث يلى اليابس وينطبق عليه ، ولا يلزمه من حيث لا يلى اليابس.
لكن اليابس ، وإن
كان كذلك ، فليس يبلغ أن يخرج جملته ، عن كرية تلحقها ، خارجا عنها ، هذه التضاريس. وهذا سيتضح فى العلم الرصدى من التعاليم.
فهذه الأجسام كرات
بعضها فى بعض ، أو فى أحكام كرات ، وجملتها كرة واحدة. وكيف لا ، والميل إلى
المحيط متشابه ، والهرب عنه إلى الوسط متشابه. والوسط
المتشابه يوجب شكلا مستديرا ، كما أن اللقاء المتشابه المستدير يوجب شكلا
مستديرا ، ولو كان بيضيا وعدسيا فيتحرك البيضى ، لا على قطره الأطول ، والعدسى لا على قطره الأقصر ، حركة وضعية ، وجب من ذلك أن يكون متحركا فى
خلاء موجود ضرورة ، ولو تحركا على القطرين المذكورين لم تكن حركتهما فى الخلاء. ولكن كان فرض حركة لهما غير تلك الحركة ، وفرض إزالة قطريهما عن وضعه ، يقتضى
خلاء ضرورة.
وأما الحركة
المستديرة فى جسم مستدير فلا توجب ذلك بإيجاب ولا
يوجبه فرض. ونحن فى هذا الحيز الذي نحن فيه نجد الأجسام بالقسمة الأولى على قسمين :
__________________
جسم يميل إلى أسفل
من حيزنا ، ويثقل علينا.
وجسم لا يميل إلى أسفل ، بل ، إن كان ، يميل إلى فوق.
ونجد المائل إلى
أسفل إما متماسكا مفرط الثقل ، أو الغالب عليه ذلك المتماسك غير القابل للتشكيل بسهولة ، فيكون هذا أرضا أو الغالب فيه أرض ، وإما رطبا سيالا ، أو الغالب فيه ذلك ، فيكون هذا ماء ، أو الغالب فيه الماء.
فلا نجد غير هذين. ولا نجد البسيط الثقيل غير أرض وماء. وما سواهما فهو مركب. وأحدهما غالب فى جوهره.
وأما الجسم الآخر
فنجده قسمين :
منه ما يحرق ويحمى أو الغالب فيه ذلك. ومنه ما هو غير
محرق أو الغالب فيه.
فنجد البسيط
المشتمل علينا ، من جهة ، جوا محرقا ، وجوا غير محرق ، أو الغالب فيه ذلك.
وأما سائر ذلك
فمركبات. فالجو المحرق نسميه نارا ، والغير المحرق نسميه هواء.
ولا يمكن أن يكون
فى القسمة شىء غير هذه الأجسام الأربعة الخارجة من قسمين :
أحدهما : مائل إلى
أسفل بذاته : إما متكاثف وإما سيّال.
والثاني : مائل
إلى فوق إما محرق وإما غير محرق.
فنجد الأجسام
البسيطة بهذه القسمة أربعة. ولا يمنع أن تكون قسمة أخرى
__________________
توجب عددا آخر. ولا أيضا ندعى أن قسمتنا هذه هى بفصول حقيقية ، بل أردنا بهذا نوعا من
التعريف ، وتركنا الاستقصاء إلى ما بعد فإن لقائل أن يقول : بل الأجسام الصاعدة منها ما هى متكاثفة ، ومنها ما هى سيّالة ،
والأجسام النازلة منها ما هى محرقة ، ومنها ما هى غير محرقة.
فإن قال قائل هذا
فنحن إلى أن نتكلف الاستقصاء فى هذا المعنى نجيبه ، فنقول :
إن المحرق النازل
كحجارة محماة لا نجد الحمى فيه إلا غريبا ، وذلك الحمى يحاول تصعيده لكنه لا يطاوق ثقله. ألا ترى أنه لو جزئ أجزاء صغارا لصعد ، وإن تكلف الزيادة فى إحمائه فإنه يصعد أيضا ، وإن كان كثيرا فإنه إذا ترك وفارقته العلة المسخنة ، لم يبق حاميا ؛ بل برد ونزل ، مع أنه يبقى جوهره.
والمتكاثف الصاعد
لا يلبث صاعدا إذا زال القسر عنه أو فارقه الحمى ؛ بل ينزل. فيكون حمى النازل
وصعود المتماسك أمرين غريبين عنهما.
ونحن نتكلم فى
المعانى التي تصدر عن طبائع الأشياء أنفسها ، وكذلك إذا تأملت
سائر الأقسام التي نورد تجدها بأمور عارضة غريبة لا فصلية ، ولا عوارض لازمه. فلنقنع بما ذكرناه فى أن نارا ، وأرضا ، وماء ، وهواء ، فنجد
الأرض ترسب تحت الماء ، ويطفو عليها طبعا ؛ ونجد الهواء يميل ميلا شديدا ما دام تحت الماء ، وإذا علاه وقف فلم يمل إلى جهة. ونجد النار ، سواء كانت صرفة لا تحس ، أو مخالطة للأرضية ، فتشف ، تكون صاعدة. والصرفة لا تشف. ولهذا ما يكون الذي على الذبالة من الشعلة كأنه
__________________
خلاء أو هواء. وهو
أشد إحراقا وقوة ؛ إذ هو أقرب إلى الصرافة والقوة ، فيفعل إشفافا أكثر. فإذا لم يقدر أن يفعل إشفافا فعل نورا وإضاءة. وكثير من الأشياء
المشفة إذا أزيل عنها الإشفاف بالسحق والدق وإحداث سطوح كثيرة يبطل بها الاتصال المعين على الإشفاف ابيضت أو أشرقت ، مثل
الزجاج المدقوق والماء المزبد والجمد المحرور ، وإن كان هذا ليس حجة على ما نقوله من أمر النار ، فنرجع فنقول :
فالنار الصرفة والدخانية متحركة فى الهواء إلى فوق ، ونجدها كلما كانت أكبر حركة كانت حركتها أشد وأسرع ، ولو كان ذلك لضغط ما يحويها قسرا
مرجحنا إلى أسفل كان الأكبر أبطأ قبولا لذلك وأضعف. وكذلك إن كانت العلة جذبا. ويخص الدفع أن
المدفوع لا يشتد أخيرا والطبيعة يشتد أخيرا. ولو كانت الحركة بالضغط لما كان ، رجحان النار أشد من ، رجحان الهواء ، فى حيزه ، فإن المضغوط لا تكون قوة حركته أقوى من قوة حركة الضاغط ، مع علمك أنه لا يصلح أن يكون للجسمين
المتخلفين بالطبع مكان واحد بالطبع. ويجتمع من هذه الجملة أن الحار أميل إلى فوق ،
والبارد أميل إلى أسفل ، وما هو أيبس أشد فى جهته إمعانا. فقد علمت أن ما هو أيبس
من الحارين فهو أسخن. وستعلم هل الأمر فى جنبة البرد
كذلك ، أم ليس كذلك ، علما عن قريب.
وما أعجب قول من
ظن أن النار البسيطة فى مكانها الطبيعى هادية لا تحرق ، وإنما هى كالنار التي تكون فى المركبات ، وأما اللهيب فهو إفراط ، وليس يعلم أن
__________________
الاشتداد المحرق
فى حرارة اللهيب لا بد أن تكون له علة. فإن كانت تلك
العلة هى الحركة فيجب أن يكون الماء النازل بالسرعة
قد يسخن.
وأما إن قالوا إن هناك شيئا مسخنا من خارج فليدل عليه ، فإنه لا
شىء يبلغ من إسخانه بسخونة أن يسخن جوهر النار ؛ بل إن كان لا بد فبتحريكه. ثم مع ذلك ، فإن اللهيب ليس نارا صرفة ، بل مركبة مع اسطقس بارد ، ويكتنفها مبردات. ثم مع ذلك فقد نسى أن تلك النار العالية لو كانت غير محرقة لما اشتعلت الأدخنة مستحيلة إلى الرجوم وإلى الشهب والعلامات الهايلة.
وهذه الأجسام
الأربعة سيتضح من أمرها أنها قابلة للكون والفساد. وإنما الواجب أن نبحث عن حال
الجسم الخامس أنه هل هو كذلك أو ليس.
__________________
الفصل الرابع
فصل فى
أحوال الجسم المتحرك بالاستدارة
وما يجوز عليه من أصناف التغير وما لا يجوز
نقول أولا إن
الجسم الذي ليس فيه مبدأ حركة مستقيمة بالطبع ، فليس من شأنه أن ينخرق ؛ وذلك لأن الانخراق لا يمكن أن يوجد
إلا بحركة من الأجزاء على استقامة ، أو مركبة من
استقامات من جهات النافذ الخارق ، وبالجملة من جهات
الخرق. وكل جسم قابل للحركة المستقيمة قسرا ففيه مبدأ حركة
مستقيمة طبعا ؛ إذ قد عرفت أن ما لا ميل له
فلا يقبل القسر البتة.
وإذا كانت الأجزاء
، التي تقسر عن ميل لها ممانع للقسر ، مايلة إلى جهة الالتئام عن الخرق ، أو أمكن لها
ذلك ، فيكون فيها مبدأ ميل إلى الالتئام. وذلك على الاستقامة ضرورة. فكل جسم منخرق
ففيه مبدأ ميل مستقيم. فما
ليس فيه مبدأ ميل مستقيم فليس قابلا للخرق. فالجسم المحدد
للجهات الذي فيه مبدأ ميل مستدير فقط ليس قابلا للخرق.
ومن هذا يعلم أنه
ليس برطب ولا يابس ، فإن الرطب هو الذي يتشكل وينخرق بسرعة ، واليابس هو الذي يقبل
ذلك ببطء.
__________________
ثم نقول إن كل جسم
قابل للكون والفساد ففيه مبدأ حركة مستقيمة ، وذلك لأنه إذا حصل متكونا لم يخل إما أن يكون تكوّنه فى الحيز الذي يخصه بالطبع ، أو فى حيز آخر. فإن كان تكونه فى حيز آخر فإما أن يقف فيه بالطبع ، فيكون غير حيزه الطبيعى
طبيعيا له ، وهذا محال ؛ وإما أن يتحرك عنه بالطبع إلى حيزه ، وذلك ، كما علمت ،
بميل مستقيم ؛ إذ لا يجتمع الميل إلى الشىء مع الميل عنه ، وفى كل انتقال إلى حيز ما ، سوى الانتقال المستقيم ، ميل عن ذلك الحيز.
وإن كان تكونه في
حيزه الطبيعى فلا يخلو إما أن يصادف الحيز ، وفيه جسم غيره
بالعدد ، أو يصادفه ولا جسم آخر فيه غيره.
فإن ورد على حيزه
فشغله هو بكليته ، أو هو ومعه جسم آخر من
طبيعته ، فكان حيزه ، قبل ذلك ، خاليا ، وذلك محال.
وإن صادفه مشغولا
بجسم آخر ، ودفعه هو عنه وأخرجه ، ثم استحال هو إلى مكانه ، يكون حيزه ذلك مما يصار إليه ويشغل بالحركة ، فيكون من الأحياز التي إليها حركة شاغلة ، فيكون من الأحياز التي
إليها حركات مستقيمة ، فإما أن تكون ، حينئذ ، غاية الجهة ، أو دون الغاية. وفى
الحالين يكون محتاجا فى أن يتحدد ، على ما علمت ، بجسم غير الجسم الذي يشغله ، وفى حيز غيره ، فيكون من شأن حيز هذا الجسم أن
يكون حيزا يشغله بالطبع جسم من شأنه أن يصرف عنه ، فيكون من
شأنه أن يتحرك إليه بالاستقامة ، كما علمت.
وهذا الجسم
المتكون هو الجسم الذي هذا مكانه الذي يشغله
بالطبع. وهذا الجسم فيه مبدأ حركة مستقيمة.
__________________
وبقى وجه داخل فى بعض هذه ، الأقسام ، وهو أن يكون هذا الجسم ، بعد تكونه ، خارقا
، بحصوله ، للجسم الشاغل
لهذا الحيز الذي هو كالكل له أى إلى المتكون.
فيكون الجسم الذي
خرقه قابلا للحركة على الاستقامة. وهذا مشارك له من طبيعته بعد التكون. فهذا أيضا قابل للحركة على الاستقامة.
وإذا كانت الأقسام
هى هذه ، وكان بعضها محالا
وبعضها يوجب مبدأ حركة مستقيمة ، فكل جسم متكون ففيه مبدأ حركة مستقيمة ، وكل جسم ليس فيه مبدأ
حركة مستقيمة فليس بمتكون.
فالجسم الذي فيه مبدأ حركة مستديرة بالطبع ليس بمتكون من جسم
آخر وفى حيز جسم آخر ، بل هو مبدع ، ولذلك يحفظ الزمان فلا
يخل. ولذلك لا يحتاج إلى جسم يحدد جهته ؛ بل هو يحدد الجهات ، فلا يزول عن حيزه. ولو زال لم يكن هو المحدد بالذات للجهة.
ونقول إن طبيعته
لا ضد له ، وإلا لكان لنوعية الأمر اللازم عن طبيعته ضد ؛ فإن اللازم النوعى عن الضد ضد اللازم النوعى للضد ،
ولو لم يكن ضدا له لكان إما موافقا لا مقابلة بينهما ؛ فيكون
معنى عاما ليس لزومه عن أحد الضدين ، من حيث هو ضد. فإنه لو كان لزومه متعلقا
بخصوصية الضد ، التي هو بها ضد ، لكان لا يعرض ، ولا يلزم للضد الآخر. فإذن لا
يكون تعلقه بخصوصية ، فبقى أن يكون إنما يتعلق بمعنى ، أو يلزم معنى ذلك المعنى
غير المعنى الذي يخصه ؛ وهو لا حق للمعنى العام ، واللاحق للعام
عام يتخصص بتخصيص العام.
__________________
فالنوعى المتخصص
لا يجوز أن يكون لازما للضدين. والحركة المستديرة المشار
إليها هى نوعية ؛ بل شخصية ، فلا تكون لازمة لطبيعته ولضدها. فبقى أن يكون اللازمان متقابلين ، ومحال أن يتقابلا كالمضافين ؛ إذ
فعل الضد وعارضه لا يشترط فى وجوده له أن يكون مفعولا بالقياس إلى ماهية ما يعرض عن ضده
، ولا مشترطا فى وجوده أن يكون معه. ومحال أن يكون يتقابل كالعدم والملكة ، حتى يكون أحدهما لازما ، وهو الحركة المستديرة ، والآخر إنما يلزمه عدم هذه الحركة ، ولا يلزم عنه حركة أصلا ، التي لو لزمت لكانت مقابلة له. فيكون الآخر إذا وجد القوة المضادة للقوة الفاعلة المستديرة حاصلة فى المادة ، فكانت المادة المتجسمة
بها لا مبدأ حركة فيها البتة ، وهذا محال ؛ أو يكون مبدأ حركته قوة وصورة غير تلك القوة المضادة للصورة التي هى مبدأ المستديرة ، ويكون فى جسم واحد مبدأ مسكن ومبدأ محرك ، وهذا محال ؛ بل يكون
الجسم البسيط إنما يتقوم بصورتين. وهذا ، كما بيناه ، محال.
فإذا لم يكن ضدها
يفعل فعلا عدميا ولا مضافا ، والإيجاب والسلب لا يليق بهذا
الموضع ، بقى أن يفعل فعلا مضادا أو متوسطا ، وإذا كان متوسط موجودا كان مضاد لا محالة موجودا وكان له مبدأ ؛ فكان الضد فى الطبيعة عن القوة المحركة على الاستدارة. فكان ذلك أولى أن يكون ضدا.
على أنه لا واسطة
بين حركة مستديرة وبين كل ما يفرض ضدا لها وقد تبين هذا من قبل. فبين أن الصورة الفلكية البسيطة لا مضاد لها. فبالحرى أن لا يكون
الفلك متكوّنا من بسيط ؛ بل هو مبدع ؛ وذلك لأنه إن كان متكوّنا عن جسم آخر ،
__________________
ولا محالة أن لذلك الجسم مادة ، لم يخل : إما أن تكون تلك المادة ، قبل حدوث صورة جوهر الفلك ، خالية ، أو تكون لابسة لصورة أخرى.
فإن كانت خالية
كانت مادة بلا صورة البتة ، وهذا محال.
وإن كانت لابسة لصورة أخرى ، فلا تخلو إما أن تكون مضادة لهذه الصورة لا تجامعها ، وترتفع بحدوثها ،
فيكون للصورة الفلكية ضد ، وليس لها ضد ، أن تكون تلك الصورة لا تنافى الصورة
الفلكية ؛ بل تجامعها ، فنكون تلك هى الصورة الفلكية المقوّمة لمادة الفلك ، وهذا
أمر طارئ ولا حق مما تتقوم مادة الفلك دونه بتلك الصورة ، فلا تكون هذه صورة الفلك. والقوة الأولى فيه لا يكون حدوثها كونا للفلك ؛ بل استكمالا للجوهر الفلكى.
ثم ننظر أنه هل تكون المادة الفلكية ، مع تلك الصورة قابلة للحركة المستقيمة
وغير ذلك ، أو لا تكون. فإن لم تكن ؛ بل كانت ، مع تلك
الصورة ، لازمة لحيز التحديد غير منخرقة ، ولا قابلة
للعوارض التي تتعلق بالحركة المستقيمة ، فقد كان الفلك موجودا قبل تكونه. وإن لم يكن كذلك ؛ بل كان فى ذلك الوقت ، غير لازم لحيز التحديد ، وقابلا للمستقيمات ، ولم يكن مع وجود الحركات المستقيمة
وإمكانها ، يحدد حيز ، وهذا خلف.
وبالجملة ، فإن الذي تتحدد به الجهات للحركات المستقيمة لا يجوز أن لا يكون موجودا وتكون المستقيمات موجودة ؛ بل الحق أن مادة الصورة الفلكية
موقوفة
__________________
على صورتها. فلهذا قيل ليس لها عنصر أى شىء قابل للضدين ، لا أنه لا مادة هناك قابلة للصورة. وبهذا حكم الأكثرون ، واتفقوا على أنه ليس عنصر الفلك عنصر الأجرام الكائنة الفاسدة.
وليس إذا اتفقا فى أن السماوية ذات جسمية ، والأرضية كذلك ، يلزم أن يكونا قد اتفقا فى
العنصر ، كما ظن بعضهم. فإنه ليس إذا اشترك شيئان فى معنى جامع يجب أن يكون استعداد ذلك المعنى فى كليهما واحدا ، وإلا
كانت الحيوانية تستعد فى الناس لمثل ما
تستعد فى الحمير ، ولكانت طبيعة اللونية تستعد فى البياض لمثل ما تستعد له فى السواد. وهب أن طبيعة المقدار فيها نوع واحد مستعد لأشياء متفقة ، فليس المقدار نفسه هو الموضوع والمادة ؛ بل هناك طبيعة
ومقدار. فإن صح أن المقدار واحد لا تختلف طبيعته فيهما لم يصح أن المادتين الحاملتين للمقدار طبيعتهما واحدة فى النوع.
وليس إذا اشتركا
فى قبول المقدار يجب أن يشتركا فى كل استعداد.
فليس إذا اتفق
شيئان فى أمر وجب أن يتفقا فى كل أمر ؛ بل لا استعداد فى هذه المادة لغير هذه الصورة. ولو كان لها استعداد صورة أخرى لكان فى طبيعة
هذا الجسم أن يقبل الكون والفساد إلى المستقيمات ، وعرض ما ذكرناه من المحالات.
والذي ظن أنه يناقض هذا بأن أرى أشياء لا تتكون عن أضداد ، وصورا
جوهرية تتكون عن الإعدام كالإنسانية والفرسية ، وأشياء أخرى ، فإنه لم يعلم أولا أنه ليس المراد بقولنا إن الجوهر يكون عن
ضده جملة الجواهر ؛ بل معناه أن الصورة الجوهرية تبطل عن هيولاها بضدها ، وتحدث بعد ضدها. ولم
يعلم أنا لسنا نقول هذا
__________________
فى كل جوهر ، بل
إنما نقول فى الجواهر المركبة من مادة
وصورة ؛ ولا كل الجواهر المركبة بهذه الصفة ؛ بل جواهر الأجسام البسيطة التي لا شىء هناك إلا مادة وصورة بسيطتان ؛ فإن المادة قبل
تكوّن الجسم البسيط عن مادته لا يخلو إما أن يكون لا صورة فيها ، وهذا محال ؛ أو
يكون لها صورة لم تبطل فيكون إما أن الثاني ليس ببسيط بل مركب الصورة ، وإما إن
كان بسيطا كانت بساطته مما قد تم بالصورة الأولى ؛ وهذا الثاني لازم عارض لا حاجة إليه فى تقومه. فليس هناك تكون ؛ بل استحالة
واستكمال.
فأما إن كانت هناك صورة فبطلت بوجود هذا ، فتلك الصورة هى الضد لها ، وليس الضد كل
ما ليس الشىء. فقد يجتمع مع الشىء فى المادة ما ليس هو ، مثل الطعم مع اللون ، ولا
كل ما لا يجتمع بمضاد ؛ فإن كثيرا مما لا تجتمع ليست بمتضادة ؛ بل أن يكون فى المادة قبول لهما. ولا كل ما ليس الشىء ولا يجتمع ، وفى المادة قبول لهما ؛ فإن الصورة الإنسانية والفرسية بهذه الصفة وليستا بمتضادتين. وذلك لأن المادة ، وإن كانت قابلة لهما ، فليس
قبولا أوليا بقوة للقبول مشتركة أو قوتين متوافيتين معا ؛ بل كل واحد
منهما مما يحتاج المادة ، فى أن يتم استعدادها له ، إلى أمور توجد له. فإذا حصل استعداد أحدهما بطل استعداد الآخر ؛ بل يجب أن يكون الاستعداد لهما معا استعدادا أوليا ، حتى يكون ضدا ، ويكون لقوة واحدة مشتركة فمضاد الواحد واحد ، على ما يصح فى الفلسفة الأولى.
وبعد هذا كله ،
فلا يجب أن يكون خلاف أبعد من خلافه. والذي يدعيه هذا
__________________
المتكلف من أن فى
الفلك طبيعة تضاد مثل التقبيب والتقعير فقد أجيب عنه. ومع ذلك ، فلا كثير منع منا لأن تكون لعوارض الفلك ولواحقه أضداد لا تستحيل إليها ، ما دامت طبيعته موجودة كالحلاوة للعسل. فإن الحلاوة وإن
كان لها ضد ، فإن العسل غير قابل له فى ظاهر الأمر ، وإنما كلامنا فى صورته ، وأنه لا ضد لها ، وأنها لا تتغير ولا تتغير الأمور
اللاحقة لها ، وإن كان لها أضداد ، كما أنه لو كان طبيعة العسل بحيث لا تفسد صورته لبقيت الحلاوة فيه دائمة لا تستحيل.
والذي قيل إنكم إنما تستدلون على أن طبيعة السماء لا ضد لها لأجل حركتها ، ثم تقولون إن طبيعتها نفس ، وإن حركتها صادرة عن الاختيار ، وتارة تقولون إن تحركها أمر مباين للمادة أصلا غير متناهى القوة ، فإن كان محركها نفسا أو أمرا مباينا فليس محركها طبيعيا. فما تنكرون أن يكون لطبيعتها ضد فإنه لا سبيل إلى إبانة ذلك من حركة تصدر عن نفس أو مباين آخر ، لا عن طبيعة.
فالجواب عن ذلك أن
جوهر السماء صورته وطبيعته هى هذه النفس اللازم لها هذا الاختيار بالطبع. فإنك ستعلم فى العلوم الكلية أن كل اختيار فما لم
يلزم لم يكن اختيارا صادقا. لكن ربما لزم عن أسباب خارجة تبطل وتكون. وربما كان مبدأه بعقل ذاتى طبيعى.
وقد علم أن النفس لا ضد لها ، وأنها إذا كانت صورة مادة ، ولم يكن لها ضد يبطلى
بالنفس ، ولم يصح أن تتعرى المادة عن صورة أصلا ـ استحال أن
تكون هذه الصورة من شأن المادة أن تفارقها.
__________________
فهذا التشنيع ،
وهو أن مبدأ هذه الحركة نفس ، هو الذي يؤكد أن مبدأ هذه الحركة لا ضد له.
وأما المحرك غير المتناهى القوة فليس هو المحرك الذي فيه كلامنا هاهنا ؛ بل هو المحرك المصرف للنفس تحت مثاله الكلى تصريف المتشوق إلى التقبل به والاستكمال
بالتشبه به ، كما ستعلمه.
فقد بان أن هذا
الجرم لا يقبل الكون والفساد ، فلا يقبل النمو. فإن قابل النمو فى طبعه الكون ، فهو غير قابل للاستحالات المؤدية إلى تغير الطبيعة ، فإن من الاستحالات ما هو سبيل إلى تغير
الجوهر ، مثل تسخن الماء ، فإنه لا يزال يشتد حتى يفقد الماء صورته.
وإذ قد عرفنا هذا الجسم وأنه غير متكون ، فقد ظهر أنه غير فاسد ؛ إذ قد ظهر أن صورته موقوفة على مادته.
على أنا نقول : إن
كل فاسد متكون ، وكل متكون جسمانى فاسد فلا يجوز أن يكون شىء جسمانى متكونا ولا يفسد البتة ، وشىء
جسمانى تفسد صورته عن مادته ، ثم لا يتكون البتة. وذلك لأن المادة الموضوعة للصورة لا يخلو إما أن يجب مقارنتها لتلك
الصورة أو لا يجب. فإن لم يجب كانت المادة ، باعتبار طباعها ، جائزا عليها أن توجد لها الصورة وأن
لا توجد. فإن وجدت لها الصورة ، وليس تجب لطباعها أن تكون لها لا محالة ، ولا أيضا يمتنع ، فهى ممكن فى طباعها أن يوجد لها الصورة
وأن لا يوجد لها.
__________________
فلتنظر الآن أنه
هل يكون فى قوتها أن تكون لها هذه الصورة دائما أم لا.
فنقول : إن كان
يمكن ذلك فلا يخلو إما أن يمكن لا كون هذه الصورة لها دائما أو
لا يمكن.
فإن كان فى قوتها أن يكون لها الصورة دائما ، وليس فى قوتها أن لا يكون لها الصورة دائما ؛ بل تكون قوتها على عدم
الصورة محدودة ، وجب أن يكون ما يتعدى ذلك الحد يجب فيه
وجود الصورة ويمتنع لا وجودها ، والمادة والأحوال
تلك بعينها ، وهذا محال ، وهذا خلاف الوضع. فبقى أنها ، إن كانت
تقوى على وجود الصورة لها دائما فتقوى أيضا على عدم الصورة لها
دائما. وما يقوى عليه الشىء فإنه إذا فرض موجودا أمكن أن يعرض منه
كذب. وأما المحال فلا يعرض. لكن هذا المعنى الممكن موجود ، ويعرض منه المحال على ما
نبينه. فلنفرض أنّ ما يقوى عليه يكون ، وهو وجود الصورة دائما ، وهو مع ذلك يقوى على عدم الصورة دائما ؛ فلا يستحيل أن يكون مما يقوى عليه
وقتا ما. فإن استحال أن يكون ما يقوى عليه لم يكن ما يقوى عليه مقويا عليه. فإن
المقوى عليه إنما يكون مقويا عليه عند فرض مقابله موجودا. فإن كان
كون مقابله موجودا يمنع القوة عليه ، فلا قوة عليه البتة. لكنه
يستحيل ، بعد فرض القوة الأولى ، أن يفرض القوة الثانية بالفعل ، وإلا لكانت الصورة ، فى زمان غير متناه ، موجودة ولا موجودة معا. فإذا كان
هذا محالا ، فالوضع ليس يكذّب غير محال ، بل هو محال.
فمحال أن تكون المادة يقوى على أن يكون لها صورة زمانا بلا نهاية ، وهى مع ذلك
تقوى على أن يكون لها تلك الصورة.
__________________
فبيّن أنه لا مادة من المواد تقوى على حفظ صورة لها
إمكان عدم زمانا بلا نهاية. وبهذا تبين أنه لا يقوى على أنه يعدم لها صورة زمانا
بلا نهاية ، فليس شىء مما يفسد لا يتكون البتة ، ولا شىء مما يتكون يفسد البتة.
وليس لقائل أن
يقول إنه إنما عرض المحال لأنك فرضت للمقابل وجودا مع المقابل.
قيل له : إنما عرض المحال لأنه وجب فرض المقابل موجودا مع المقابل ، حين فرضنا المشكوك
فيه موجودا ، ليتبين لنا الخلف.
__________________
الفصل الخامس
فصل فى
أحوال الكواكب ومحو القمر
إن هذا الجسم السماوى يدل الحس على أنه يتضمن أجراما مخالفة له فى النسبة إلى الرؤية. فإن عامته مشف ينفذ فيه البصر. وفيه أجسام مرئية
لذاتها مضيئة ، كالشمس والقمر والكواكب. وبعضها فى الترتيب فوق بعض ؛ إذ نشاهد بعضها منها يكسف بعضا ، ونشاهد بعضها بفعل اختلاف المنظر ، على ما تشهد به صناعة الرصد ، وبعضها لا يفعل ذلك. ونجد لطائفة من الكواكب ، مع الحركة
التي تخصها ، وضعا محفوظا لبعضها ، عند بعض ، وطائفة
تخالف ذلك. ونجدها تتحرك من المشرق إلى المغرب ثم تتحرك أيضا من المغرب إلى المشرق.
وذلك مما لا يتحقق إلا على وجوه ستعد فى صناعة بعد هذه
الصناعة ، فيتحقق من هذا أن هناك حركات مختلفة.
فتبين بهذا
الاعتبار أن الكواكب أجرام غير الأفلاك التي تحملها. ثم نعلم أنها لا محالة من جنس
الجوهر الذي لا يتكون ؛ بل من جنس الجوهر المبدع ؛ إذ قد قلنا إن المتكونات ما حالها ، واتضح من ذلك أن المتكونات لا تتخلل الأجسام غير المتكونة تخللا كالشىء الغريب
فتكون ، لا محالة ، بسيطة ؛ إذ المركبات متكونة ، فتكون أشكالها
كرية ، على ما يرى بالحقيقة.
__________________
والقمر من جملة
هذه الأجرام ، له لون غير الضوء يتبين له إذا انقطع عنه النور الذي يوجب
الحدس ، فى أول الأمر ، أن مبدأ وقوعه عليه من الشمس ، حتى إنه يتقدر
ويتسمت بحسب ما يوجبه وضعه من الشمس ، قربا وبعدا. ثم يحقق التأمل ذلك الحدس وإذا
توسطت الأرض بينهما انكسف.
وأما سائر الكواكب
فكثيرا ما يظن أنها تقتبس النور من الشمس. وأنا أحسب أنها مضيئة بأنفسها
وإلا لتبدل شكل الضوء المقتبس فيها بحسب الأوضاع ، وخصوصا فى الزهرة ، وعطارد ، اللهم إلا أن نجعل ذلك الضوء نافذا فيها. فإن كانت ذات لون لم ينفذ
فيما أدى فى كلتيهما على السواء ، بل أقام على الوجه الذي
يلى الشمس. وإن لم يكن لها لون كانت مشفة لا تضىء ،
كلتيهما ، بل من حيث تنعكس عنه. وهذا الرأى
منى يكاد يقارب اليقين.
وأما القمر فلا
نشك فى أن ضوءه ونوره مقتبسان من
الشمس ، وأنه فى جوهره ، ذو لون إلى العتمة المشبعة سوادا. أما هو فإن كانت تلك العتمة ذات نور أيضا فليس نورها بذلك النور الذي يحس به من بعيد. ويشبه أن يكون جوهره بحيث إذا وقع عليه ضوء
الشمس فى جهة استضاء سائر سطحه استضاءة ما. وإن كان ليس بذلك التلمع. فلذلك ليس يشبه لونه عند الكسوف لونه ، وهو بعد هلال. فإن ماوراء المستهل منه ، أعنى ما يصل إليه ضوء الشمس يكون أكثر
إضاءة منه إذا كان كاسفا. وقد توصل بعض الناس من
ثبوت اللون لبعض الأجرام السماوية ، أو تسليمنا أنها مبصرة ،
__________________
أن أوجب من ذلك أن
تكون ملموسة ، وأورد قياسا يشبه القياسات التعليمية وما أبعده منها فقال : إن المشائين يسلمون أنه لا مبصر إلا وهو لامس ، ولا ينعكس. فقوة
اللمس أقدم من قوة البصر. لكن نسبة قوة البصر إلى المبصرات كنسبة قوة اللمس إلى الملموسات. فإذا بدّلنا يكون نسبة الملموس إلى المبصر
كنسبة اللمس إلى البصر ، لكن اللمس أقدم وجودا فى كل شىء من البصر ، فالملموس أقدم من المبصر. وكما أنه لا يكون
الشىء ذا بصر إلا إذا كان ذا لمس ، فكذلك لا يكون مبصرا إلا وهو ملموس.
فالذى نقوله فى
جواب هذه المغالطة المفتعلة ، التي لا شك أنّ صاحبها كان يقف على أنه يتكلفها
متعسفا ، أنه لو كان بيّنا أنه ، إذا كانت أشياء متناسبة ، وإذا بدلت تكون متناسبة ، لم
يحتج إلى أن يقام عليه برهان ، وقد احتيج. وإن كان إذا أقيم عليه البرهان ، على جنس منه ، قام على نظائره من الأمور الداخلة فى جنس آخر ، لكان لما أقيم عليه البرهان فى الهندسة ، أغنى عن أن يقام عليه البرهان فى العدد. وليس كذلك بل احتيج إلى استئناف برهان عليه فى صناعة العدد. وكذلك إذ أقيم عليه البرهان فى الهندسة والعدد ، ولم يقم عليه فى الأشياء الطبيعية ، لم يلزم
قبوله.
وبعد ذلك ، فإن
إبدال النسبة إنما يكون فى الأشياء التي تكون من جنس واحد تكون فيها النسبة محفوظة
فى حالتى الأصل والإبدال ، وتكون نسبة فى معنى
واحد بعينه محصّل ، وللنسبة حقيقة معقولة مشتركة فيها. مثال ذلك
أنه لما علم أن لكل مقدار إلى كل مقدار نسبة النسبة التي هى محدودة فى خامسة كتاب الأسطقسات لأوقليدس ؛ ولكل عدد إلى كل عدد نسبة
النسبة التي هى محدودة فى سابعة كتاب الأسطقسات
__________________
لأوقليدس ، وعلم
أنه كما أن للأول عند الثاني نسبة ، وللثالث عند الرابع نسبة ؛ فكذلك لا شك أن للأول عند الثالث نسبة من ذلك الجنس ، وللثانى عند الرابع نسبة من ذلك
الجنس. ثم بعد ذلك وقع الاشتغال بتكلف أن نبين أن
هذه النسبة مقايسة لتلك النسبة لا تخالفها.
لكن الأمور
الطبيعية ليس يجب أن يكون فيما بينها النسبة المعتبرة فى المقادير
والأعداد ، من حيث هى طبيعته ، لا من حيث هى مقدرة أو معدودة. فإن كان لبعضها إلى بعض نسبة ما فليس يجب أن يكون تلك النسبة محفوظة فى جميع الطبيعيات فى
الجنس ، فضلا عن النوع. فنسبة البصر إلى
المبصر هى أنه قوة تدرك اللون الذي فيه ، وليست هذه النسبة نسبة اللمس إلى الملموس
فى النوع ؛ بل فى الجنس من حيث أنهما مدركتان إدراكا حسيا. ثم ليست هذه النسبة
موجودة بين البصر واللمس ، لا جنسيا ولا نوعيا ؛ بل هناك نسبة أخرى لا تشابه هاتين ، وهى نسبة وجودهما فى
الحيوان ، وأحدهما قبل. وليست هذه النسبة مما يوجد بين المبصر
والملموس على النحو الذي ينفع هذا المتشكك ، لأنه ، وإن تكلفنا أن نجعل النسبة من جنس واحد ، وهى النسبة إلى الحيوان بأنه للحيوان ، كان الإبدال فيه
أن وجود الملموس للحيوان متقدم على وجود المبصر له ؛ إذ يجوز أن لا يبصر الحيوان
شيئا ، مع جواز أن يلمس ، ولا ينعكس.
وهذا مسلم لا ينفع
فى أن ما من طباعه أن يلمس مطلقا قبل ما من طباعه أن يبصر.
وإن احتال فلم
ينسب واحد واحدا نسبة مطلقة ، بل زاد ، فقال : إن وجود اللمس
__________________
قبل وجود البصر ؛
لأنه فى الحيوان كذا ، ولا وجود لها إلا فى الحيوان ،
فيكون ذلك أقدم من هذا مطلقا ، ويكون إنما ذكر الحيوان
لا لأن يكون معتبرا فى المحمول ، بل مأخوذا وسطا حتى تكون النسبة بين
البصر والمبصر مشاكلة للنسبة بين اللامس والملموس ـ سلّمنا مثلا ذلك. لكن لم يكن من جنسها النسبة المبدلة ، التي لو كان من جنسها
أيضا ، لم يكن الإبدال بيّنا ما لم يبرهن على أن من الناس من لا يسلم ذلك ؛ إذ يرى
أن فى بعض الأجسام إبصارا ، ولا لمس ، وهو الفلك. فإنه إنما يتقدم اللمس الإبصار فى الحيوان المركب. وصاحب هذا
الاعتراض يميل إلى هذا الرأى ميلا ظاهرا.
ونعود إلى ما كنا
فيه فنقول : وأما المحو الذي فى وجه القمر فهو مما بالحرى أن يقع فيه إشكال. وعسى الظنون التي يمكن أن ترى فيه هى أنه لا يخلو إما أن
يكون ذلك فى جوهره أو خارجا عن جوهره. فإن كان فى جوهره
فلا يخلو إما أن يكون امتناعه عن قبول الضوء قائما عليه هو بسبب أنه مشف ، أو ليس هو بسبب أنه مشف ، ولكنه إنما لا يقبله
لأنه غير مستعد لذلك بسبب خشونة مقابلة للصقالة ، أو ثلمه ، أو كيفية أخرى مانعة لقبول النور إما فى جوهره وإما لأمر عرض له
خارجا.
فإن لم يكن فى
جوهره لم يخل إما أن يكون بسبب ستر ساتر إياه عن البصر ، أو بسبب تشكل يعرض له ، كما يعرض للمرآة من وقوع أشباح أشياء فيها ، إذا رؤيت تلك الأشياء فيها لم تر معها براقة ؛ وإن كان
بسبب ستر ساتر إياه عن البصر لم يخل : إما أن يكون الساتر شيئا من
الأجسام الموجودة تحت الأجرام السماوية فى حيز العناصر ، أو من
الأجسام السماوية.
__________________
فيكاد أن تكون هذه الأجسام هى التي تصلح أن تكون ظنونا فى هذا الأمر ، وإن كان كل قسم رأيا رآه فريق. والأقسام المتشعبة من كون ذلك شيئا فى جوهره تفسد كلها بما قدمنا
من القول فيه من أن الأجسام السماوية لا تركيب فيها ، وأن كل جرم منها بسيط متفق الطبائع على
أتم أحواله التي يمكن أن تكون له فى جوهره والقسم المنسوب إلى انطباع الأشياء فيه.
وما قيل إن البحار
والجبال يتصور فيه فيبطل بأن الأشباح لا تحفظ فى المرائى هيئاتها مع حركة المرائى ، طولا وعرضا ، ومع اختلاف مقامات
الناظرين ، والخيال الذي فى القمر محفوظ. وعلى أن المرائى ، التي تصلح لأن ترى مضيئة ينعكس عنها الضوء ، لا تصلح للتخييل ، ولا يجتمعان فيه. فإن ما ينعكس عنه الضوء إلى البصر لا يؤدى الخيال ، وما يؤدى الخيال لا ينعكس عنه الضوء إلى البصر.
والقسم المنسوب
إلى ستر ساتر واقف تحت فلك القمر يفسد مما يجب من ذلك من حصول اختلاف المنظر ، ولزوم أن يكون الساتر تارة يرى ساترا ، وتارة غير ساتر ، وأن يكون الموضع الذي يستره من جرم القمر
مختلفا بحسب اختلاف مقامات الناظرين.
وإن كان من جوهر
الدخان والبخار ، كما يظن ، لم يحفظ على الدوام صورة واحدة لا محالة.
فبقى القسم الأخير
، وهو أن السبب فى ذلك قيام أجسام من جوهر الأجسام
السماوية قريبة المكان جدا من القمر ، فى طبيعتها أن تحفظ بحركتها وضعا واحدا من القمر فيما بينه وبين المركز ، وأنها من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها ؛ بل ترى جملتها
__________________
على نحو مخصوص من
الشكل المجتمع لها ، وأنها إما أن تكون عديمة الضوء أو تكون أضعف إشراقا من القمر ، فترى بالقياس إليه ، فى حال إضاءته ، مظلمة غير مضيئة.
والعجب ممن ظن أن
ذلك انمحاق وانفعال عرض للقمر من مماسة النار ، ولم يعلم أن جرم القمر لا يماس
النار البتة ، وأنه فى فلك تدويره وفى فلك حامل ، وبين حامله وبين حيز العناصر بعد معتد به ؛
وأن قطعا من قطوع كرته التي تتحرك بخلاف حركة حامله
هو الذي يلى النار ، وهو الذي حركته شبيهة بحركة الكل ؛ وأنه لو كان حامل تدويره
الخارج المركز مماسا للنار لكانت النار والهواء
الأعلى يتبعه فى الحركة. لكن ليس كذلك ؛ بل إنما يتبع
حركة موافقة لحركة الكل ، والدليل على ذلك حركات الشهب الثاقبة. ذوات الذوانب ، التي علمنا من أحوالها أنها فى الهواء الأعلى ، وأنها تتحرك بحركة ذلك الهواء إلى الغرب. وليست تلك الحركة للهواء بذاته ، ولا للنار ؛ إذ لهما مبدأ حركة مستقيمة. فذلك لهما بالعرض ، على ما علمت.
فيكون الجسم
السماوى الذي يماس الهواء الأعلى حركته تلك الحركة ، فلا يكون حامل تدوير القمر
وجرمه هو ذلك المماس ؛ بل يكون ذلك الجرم الأخير حجابا ثخينا بين النار وبين القمر ، وعلى أن ذلك الجرم مصون عن أن يسحقه ساحق
، وأن يمحق صقالته ما حق.
ولو كانت النار هى
السبب فيه لكان مرور الدهر الطويل مما يزيد فيه ، ويؤدى آخر الأمر ، إلى انمحاق القمر على التمام. وهذا مما تكذبه الأرصاد
المتوالية.
__________________
والشأن أن ذلك
الانمحاق لا يكون شيئا عرض ابتداء فى زمان ؛ بل ما دام القمر فيجب أن يكون من حكمه
ما تعلم.
وقد حسب بعض من
أدرك زماننا ممن شاخ فى الفلسفة العامية الموجودة فى
نصارى بغداد أن هذا السواد هو تأد من السواد الذي
يكون فى القمر من الجانب الذي لا يلى الشمس ، ولا يستضيء بها ، ولم يشعر هذا
القائل أنه لو كان كذلك لكان ذلك الخيال مما لا ينقطع ويتفرق فى صفحة القمر ،
بل يكون لبابه عند المركز ، ثم لا يزال يتدرج إلى البياض. ولم يعلم أن ذلك مما يكون فى أوائل الاستهلال ، وحيث ذلك الجانب
مضىء كونه عند تبدر القمر. ونحن نرى القمر إذا أخذ يزيد ضوؤه ، فإن
تلك الثلم من صورة المحو فيه تكون محفوظة ؛ ويكون ظهور شكل المحو وشكل الضوء على نسبة محفوظة إلى التبدر. ولم
يعلم أن السواد والظلمة لا يشف من جانب الجسم الأسود إلى جانب له آخر ؛ بل ظن أنه خرّج وجها وأبدع قولا.
هذا وأقول ، على سبيل الظن ، أنه يشبه أن يكون لكل كوكب ، مع الضوء
المشرق منه ، لون بحسب ذلك اللون ، يختلف أيضا الضوء
المحسوس لها ، فيوجد إشراق بعضها إلى الحمرة ، وبعضها إلى الرصاصية ، وبعضها إلى الخضرة. وكأن الشعاع والنور لا يكون إلا فى جرم له خاصية لون. فإن النار إنما يشرق دخانه ، وهو فى جوهره ذو لون ما.
ويختلف المرئى من
اللهيب باختلاف اللون الذي يخالطه النور النارى. وليس هذا شيئا أجزم به
جزما.
فإذ قد تكلمنا فى جواهر الكواكب ومخالفتها للأفلاك فى لونها ،
فحرىّ بنا أن نتكلم فى حركاتها التي تخصها.
__________________
الفصل السادس
فصل فى
حركات الكواكب
الظنون المظنونة
فى هذا المعنى ، بعد القول بأن فى الأجرام السماوية حركة ، ثلاثة :
ظنّ من يرى أن الجرم الفلكى ساكن ، والحركة للكواكب خارقة متدحرجة أو غير متدحرجة.
وظن من يرى أن
الجرم الفلكى متحرك والكواكب متحركة خلاف حركة الجرم خارقة له.
ظن من يرى أن
الكواكب مغروزة في الجرم الفلكى لا يخرق البتة ؛ بل إنما يتحرك بحركتها ، على أنه لا حركة فى الأجرام السماوية إلا الحركة
التي جعلناها الوضعية ؛ ولا انتقالية هناك البتة.
وأصحاب هذا الرأى
أيضا قد تشعبوا شعبا :
فمنهم من زعم أن
الكوكب ، مع ذلك هو المبدأ الأول لفيضان قوة التحريك عنه ، كالقلب
مثلا أو الدماغ فى الحيوان مع سكونه ؛ ومنهم من رأى مبدأ الحركة
فى جرم السماء ؛ إذ كان المتحرك نفسه هو بالذات.
__________________
ومنهم من رأى أن
بعض الأجسام السماوية تنبعث قوى حركاتها عن كواكبها ، وهى التي تكون الحركة الملتئمة لها إنما تلتئم من عدة أكر وكوكب واحد ، مثل أكر الكواكب التي يسمونها المتحيرة ، وأن بعض الأجسام السماوية بخلاف ذلك ، وهى
التي تكون الحركة الملتئمة إنما تلتئم من كرة واحدة وكواكب عدة ، مثل كرة الكواكب التي يسمونها الثابتة. على أنى لم يتبين لى بيانا واضحا أن الكواكب الثابتة في كرة واحدة ، أو فى كرات ، منطبق بعضها على بعض إلا بإقناعات. وعسى أن يكون ذلك واضحا لغيرى.
وهؤلاء الذين
جعلوا الكواكب غير مفارقة لمواضعها ظنوا ، مع ذلك ، فيها ظنونا :
فمنهم من قال إنها
لا حظّ لها في الحركة أصلا.
ومنهم من قال إن
لها حظّا فى الحركة ، إلا أن الجسم ، الذي تتحرك هى فيه الحركة التي بها ، يتحرك هو أيضا مثل حركتها ، فيعرض أن لا تفارق مكانها ، مثل السابح فى الماء إذا سبح مواجها سمت مسيل الماء. فإن له أن يسكن سكونا يعرض منه أن يسبقه السيل ، ويقف هو فى
موضعه. وله أن يفعل خلاف هذا. فإن كان هذا التوقف منه سكونا لا محالة ، فمخالفه ، وهو مجاراته للسيلان ، حركة ، مع أنه لا يخرق الماء ولا يفارق ما يلقاه منه ، وكذلك حال
الكواكب.
وأما نحن فقد فرغنا عن إبانة امتناع انخراق الجسم
السماوى ، فكفينا أن نتكلف أمرا ليس بذلك المعتاد والمسلم ، وهو أنه ، إن تحرك ، فحركته إما أن تكون بتدحرج أو على استمرار ؛ وأن نقول إن القول بالدحرجة يكذبه ثبات المحو فى القمر إلى
جهتنا ، بعد
__________________
القول بأنه ليس فى وجه القمر ذلك المحو ، إنما هو لأجل ساتر ، وأن القول بالاستمرار
ردىء ، يؤدى إلى أنه لو كان استمرار لأعطت الطبيعة آلات ؛ كأنه قد صحّ أن هذه الحركة لا تكون إلا بآلات ، أو
لا تسهل إلا بالآلات ، أو صح أن كل حركة تحتاج أن يعطى لها آلة.
فحينئذ يجب أن
تكون الطبيعة أعطت لهذه الحركة أيضا آلات. أو نقول : إنه لو كانت
الثوابت تتحرك لكان يجب أن تكون سرعتها وبطؤها
بقدر كبر مداراتها وصغرها ، فيصير ذلك علة ؛ كأنه لا يمكن أن يكون كل كوكب إنما
رتب فى دائرة تليق بسرعته وبطئه يتوافى معا ، من غير أن كان ذلك علة السرعة والبطء ؛ كأنه لا يمكن أن تكون السرعة
والبطء لعلة أخرى. ثم يجعل مركز كل كوكب فى مدار يليق بسرعته ، أو يتفق ذلك من غير أن يكون علة.
فنحن لا نحتاج أن
نقول شيئا من هذا الجنس ؛ فإنه كله ضعيف ، أو هو غاية فى القوة ، إلا أنا لم نفهم وجه كونه قويا ، ولا معلّمونا تشمروا لإبانة ذلك إبانة يعتد بها ؛ بل يكفينا أن نقول إن جرم السماء لا ينخرق.
ويجب أن يعتقد
أيضا أن الكوكب نفسه يجب أن يدور
على نفسه ، لما عرف من أحوال الأجرام السماوية.
وأما أن للكواكب
والأفلاك حركة مخالفة للحركة الكلية ، وأن ذلك كيف يلتئم وكيف يمكن ، فيجب أن يؤخر الأمر فيه إلى أن نقتبس
من الصناعة المنسوبة إلى المجسطى ، صورة هذه الحركات. ثم
نكر ونوضح أن ذلك كيف يمكن ، مع منع الخرق ، وأن الميول التي
يظن أنها تتحرك عليها الكرات ، ثم تنعطف ، راجعة من غير تمام الدور ، وكيف
يمكن.
__________________
فإن الذي يرى من حركة الكواكب حتى تكون تارة بطيئة الحركة ، لا التي بسبب الرجوع
والاستقامة والإقامة ، وبسبب الأوج والحضيض من الخارج المركز ، بل الذي ينسب إلى مركز فلك التدوير ، وأنه ليس يقطع من
الدائرة المائلة فى أزمنة سواء قسيا سواء ؛ بل إنما يقطع ذلك
بالقياس إلى دائرة أخرى ومركز آخر. أما للقمر فالدائرة المائلة ومركز الأرض. وأما للأخرى
فالفلك المعدل للمسير ومركزه الذي هو
غير مركز الحامل والأرض كيف هو.
وبين أن جميع ذلك بالعرض ، لا بالذات ؛ إذ لا يجوز أن يختلف تحريك قوة بسيطة جسما
بسيطا فى حد واحد لغاية واحدة مختلفا إلا الذي إذا أوجبت الطبيعة اختلافا
فيه استمر على اختلافه مشتدا فيه بالحمية ، كما تختلف الأجسام البسيطة المستقيمة
الحركة ، حتى تكون فى ابتدائها أبطأ وفى آخرها أسرع.
فذلك أول شىء ليس
فى حد واحد ؛ بل فى حدود مختلفة. وتلك الحمية لا تعود وهنا البتة. على أن لتلك
الحمية أسبابا عرفتها لا يمكن أن تكون موجودة فى الأجرام السماوية.
ومما جرت العادة
أن نتكلم فيه فى مثل هذا الموضع أنه لم صار النّيران أقل أفلاكا
وسائر الكواكب أكثر أفلاكا ؛ ولم كانت كرة الكواكب الثابتة كثيرة الكواكب وكرة
غيرها واحدية الكوكب؟
فيقولون فى الأول
إن الأشرف والأفضل لا يحتاج ، فى تتميم فعله إلى آلات ، وإن احتاج ، احتاج
إلى الأقل ؛ وفى الثاني إن الطبيعة عدلت ، فجعلت حيث الحركة واحدة
__________________
أجساما كثيرة ،
وحيث الحركات كثيرة جسما واحدا ، لئلا يجتمع مؤونة حركات كثيرة مع مؤونة ثقل أجسام كثيرة.
وهذان الجوابان
كالمقنعين ، وثانيهما أضعف كثيرا ؛ بل هو ردىء جدا. فإن هذا إنما يكون حيث يكون الحمل أو الحركة متعبا. وهناك الحركة ،
كما يتضح لك بعد ، لذيذة مربحة جدّا ، والمحمول لا ثقل له ولا خفة ، ولا ميل بوجه من
الوجوه ، ولا ممانعة للتحريك. فلو اجتمعت حركات كثيرة وأجسام كثيرة منقولة ما كان يعرض هناك مؤونة وتعب لا يعرض مع التخفيف بتوحيد أحدهما.
هذا هو الذي يلوح
لى. ويشبه أن يكون عند غيرى فيه بيان لا يلزمه ما قلته. وعلى أن القمر قد بان من
أمره ، فى البحث المستقصى الذي حاوله بطليموس ، أنه أكثر أفلاكا من كثير من
الخمسة.
ويجب أن تعلم أن وجود كل واحد من الأفلاك والكواكب ، على ما هى عليه من الكثرة والقلة ، والموضع والمجاورة ، والصغر والكبر ، هو على ما ينبغى فى نظام الكل ولا يجوز
غيره ، إلا أن القوة البشرية قاصرة عن إدراك جميع ذلك ، وإنما تدرك من غايات ذلك ومناقبه أمورا يسيرة ؛ مثل الحكمة فى الميل والأوج والحضيض ، وأحوال القمر عند الشمس فى الميل ، وغير ذلك ،
ممّا نذكره فى مواضع أخرى.
وقد وجب علينا الآن أن نتكلم فى أوضاع العناصر تحت السماء.
__________________
الفصل السابع
فصل فى
حشو الجسم السماوى وما قاله الناس فى أحوال الأرض
وسائر العناصر
نقول إن الجرم
المتحرك بالاستدارة حركة وضعية يلزم ضرورة أن يكون
فيه اختلاف حال عند الحركة. فإن ثبات الأحوال كلها
مدافع للحركة مقابل لها ؛ إذ هذه الحركة لا تتعلق بالكيف والكم وغير ذلك ؛ بل لا يتوهم له تعلق إلا
بمكان أو جهات ، والمكان والجهات لا يكون لجسم منفرد وحده.
أما المكان فلا
بدّ ، فى وجوده ، من الجسم الذي المكان نهايته.
وأما الجهات فلا
بدّ من أن تكون مقيسة إلى حدود ،
كما بينا ، قائمة إما فى خلاء أو فى ملاء. والخلاء مستحيل ؛ فالملاء واجب.
ثم هذا الجسم هو
المحدد لجهات الحركات المستقيمة ، وسنبين فضل بيان بعد ، أن مثل هذا الجسم لا يوجد ، خارجا عنه ، جسم متحرك بالاستقامة ، ولا جسم آخر إلا محيطا به ومن حكمه ، فيكون ، لا محالة ، فيه مبدأ حركة مستديرة ، ويكون من جنس هذا الجسم ، ويكون من
الطبيعة التي الكلام فيها.
__________________
فإذا كان كذلك لم يكن الجسم فى نسبته المتبدلة فى
الحركة متصورا بالقياس إلى جسم خارج عنه ، فبقى أن يكون إلى جسم داخل
فيه. وينبغى أن يكون ذلك الجسم ساكنا يتحرك هذا عليه ، حتى يصح اختلاف نسبته إليه.
فإنه إن كان متحركا جاز أن تختلف النسبة إليه ، مع سكون من الجسم الآخر. وأما الساكن فلا تختلف النسبة إليه إلا للمتحرك.
فالنسبة المحتاج إليها ، حتى يصح أن تكون نسبتها للمتحرك اختلاف نسبة خاصية ، هى النسبة إلى الساكن.
فلهذا ينبغى أن
يكون دور هذه الأجسام على جسم فى الحشو ساكن بطبعه ، لكنا قلنا إنه من المستحيل أن يكون جسم لا مبدأ حركة فيه. وهذا الجسم الذي كلامنا فيه
يجب أن يكون ساكنا. فكيف يستمر ذلك؟
فنقول : إن كون الجسم ساكنا لا يمانع كونه وفيه مبدأ حركة ، بمعنى أنه لو فارق مكانه الطبيعى ، إما بكليته أو بأجزائه ، لتحرك بالطبع ، لكن الكلية فرض ؛ بل وجد ساكنا وبالطبع ، ولو كان أمرا قسريا لم يكن عليه ، فى الأمر الذي أومأنا إليه ، اعتماد ، فيجب ، لا محالة ، أن يكون فى
موضعه الطبيعى ، ويكون من شأن أجزائه أن تتحرك إليه بالاستدارة
لو فارقت. وهذا هو الأرض لا محالة. وليس يجوز أن يكون حاشى الجرم
السماوى بالاستدارة حشوا ما مالئا ، بحيث يتشابه فيه ما يماس الحركة السريعة وما يبعد
عنها. فإنه لو كان مثلا جوهرا واحدا لتخلخل منه ما يماس الحركة وتحلل وسخن ولطف ، على طول الأيام ، واستحال جوهره عن المشابهة ، كما يعرض من
__________________
أفعالنا لو أتينا
على جزء من الأجسام التي قبلنا بسحق أو حك أو تمخض وخضخضه ، ولم نزل نفعل ذلك حتى يسحق ، ثم لم نزل نداوم عليه ، لم يلبث أن يستحيل نارا. فكيف ما تعرض له أشد من الذي فى مقدورنا.
فإن كان الجسم
الطبيعى الموجود هناك ، فى طبعه الأول ، من جنس الذي فى الوسط ، فيلزم أن لا يكون ثابتا على نفسه وجوهره ، ولا يجوز أن يكون
وقت من الأوقات هو الأول الذي استحال فيه إلى جنس وجوهر آخر نارى ؛ لأن كل وقت نفرضه نجده ، وقد تقدم عليه ، فى قدرة الله تعالى ، زمانى طويل ، فيلزم من ذلك أن يكون دائما الأعلى جنس المتوسط وجوهره ، وهذا
محال. فيكون كأنه إن كان من جنسه وجوهره ولم يكن البتة من جنس
جوهره ، فلا يصح أن يقال : إنه إن كان من جنسه ، واستحال عنه ؛ بل يلزم من ذلك
ضرورة أن يكون ذلك الجرم المماس ليس من جنس الأرض ، ولا من جوهره ؛ بل يجب
أن يكون ذلك الجرم ناريا حيث كان. ولا يجوز أن يكون ، فى موضوع آخر فى المواضع
الداخلة فى الفلك ، أسطقس للنار ، فيعرض أن يكون الأسطقس النارى أكبر من القدر الذي تفى العناصر بمعادلته ؛ إذ أسطقس النار
إنما يكون أسطقس النار إذا كان ، هو نفسه ، وحده معادلا
لعنصر عنصر فى القوة ، فإن زاد عليه نار أخرى كان فوق المعادلة. والذي هو فوق المعادلة هو غير معادل ، وغير المعادل
إما بالضعف والنقصان فيستحيل ؛ وإما بالزيادة والفضل ، فيحيل واحدا من المعادلة
التي تلزم من تقريرنا أن يكون للنار هو
بالزيادة فيكون سائر العناصر مبتلاة منه بالإحالة وليس تختلف.
__________________
فإذا الحشو مختلف ، والجرم الدائم السكون بالحرى أن يكون عادما ، فى طباعه ، الجزء ، وأن يكون مستحقا لكماله ذلك بدوام سكونه. والمبتلى بمرافقة جرم آخر دائم الحركة بالحرى أن يكون واحدا بطباعه للجزء ،
وأن يكون مستحفظا لكماله ذلك بدوام حركته. وبالحرى أن يكون تالى كل واحد منهما جرما يقارنه فى الطبيعة ، وليس هو ، فتكون النار متلوة إلى الوسط بالهواء ، والأرض متلوة إلى فوق بالماء ،
وأن تكون صورة الهواء بحيث يفيض عنها بعض الكيفيات مشابهة للنار ،
وبعضها غير مشابهة ، حتى لا تكون الصورة الهوائية هى هى النارية. ولهذا ما كان الهواء حارا رطبا ، وأن يكون حال الماء عند الأرض كذلك. ولهذا ما كان الماء باردا رطبا ، وأن يكون المتجاوران
متناسبين فى كيفية ، وأن يكون الأضداد متباعدة فى المكان.
فهذا هو الوصف المحكم ، وعليه الوجود. لكن الناس قد اختلفوا
أيضا ، وخالفوا الحق في أمر هذا الحشو ، وخصوصا فى أمر
الأرض من جملتها. فإن الأرض اختلف فى عددها ، وفى شكلها ، وفى حركتها ، وفى سكونها
، وفى موضعها.
فطبقات من القدماء المائلين إلى القول بالأضداد ، وبأن الضدين مبدءان للكل ،
الواقفين من ذلك إلى جنبة القول بالخير والشر ، والنور والظلمة ، أفرطوا فى
تمجيد النار ، وتعظيم شأنها ، وأهلوها للتقديس والتسبيح ، وكل ذلك لنورها وإضاءتها
ورأوا الأرض مظلمة لا يستضيء باطنها بالفعل ، ولا بالقوة ،
فأهلوها للتحقير والذم.
ثم رأوا أن الوحدة
والثبات والتوسط من المعانى الواقعة فى حيز الخير والفضيلة ،
وأضدادها
__________________
من المعانى
الواقعة فى حيز الشر والرذيلة ، فجعلوا النار موصوفة بالوحدة وبالسكون وبالتوسط فى
المكان ، وجعلوا الأرض موصوفة بالكثرة والحركة والوقوع فى الطرف.
وقالوا إن فى
العالم أرضين كثيرة ، وإنها هى التي تتوسط بين أبصارنا وبين النيّرين ، فيكسفهما بالستر ، لا بالمحو.
وهؤلاء قد تكلفوا
ما لا يستقيم لهم. وكيف السبيل إلى أن يوجد فى النار كل معنى واقع فى حيز الخير ، وفى الأرض كل معنى واقع فى حيز الشر ، ومتى يمكن هذا؟ فإن النار مفرطة الكيفية مفسدة ، والأرض معتدلة ولا تفسد ؛ والنار أسرع حركة فى المكان القريب من الأرض ، وأقبل
للعدم أو التفرق فلا يظهر للحس. والأرض أبطأ حركة ، وأثبت وجودا فى الحيز القريب. ثم حيز الأرض حيز الحياة وحيز النشوء للنبات والحيوان. وحيز النار مضاد لذلك.
ولا يبعد أن نجد للأرض من الأوصاف المحمودة عدد ما نجد للنار. وهب أن الحس البصرى يثنى على النار ؛ فلنسمع ما يقوله الحس اللمسى. وليس الاستحسان أشرف من الاستنفاع ، كما أنه ليس الحسن
غير النافع أفضل من النافع غير الحسن ، أعنى بالحسن الحسن المنظرىّ.
على أنه لا القول
الذي قالوه ، ولا الجواب الذي أجبنا به من جنس الكلام البرهانى. لكن الأصول توجب علينا أن نعتقد أن الأرض واحدة إلى أن نوضح ذلك.
فنقول إن الأرضين
كلها صورتها الطبيعية واحدة ، وقد علم من قبل أن الأشياء التي
__________________
صورتها واحدة فإن
الحيز الطبيعى لها واحد ، بحيث يجوز أن تجتمع كلها فيه ـ علما على وجه بالغ فى
التحقيق والتبيين.
فيعلم من ذلك أن الأرضين الأخرى لا تثبت فى مواضع أخرى
بالطبع ، ولا عائق لها غير الحيز الطبيعى.
ونقول أيضا إن
الأرض الحاصلة فى مكانها الطبيعى لا تتحرك بالاستقامة لما
علم قبل ، ولا تتحرك بالطبع على
الاستدارة ؛ إذ الأرض لها في طبيعتها مبدأ حركة مستقيمة.
وقد بيّنا أنه ولا
جسم واحد يجتمع فيه مبدأ حركتى الاستقامة والاستدارة.
والأعجب قول من
قال إن الأرض دائمة الهبوط فما بال المدرة تلحقها ؛ والجوهر الأرضى كلما كان أكبر كان أسبق وأسرع حركة ، إن تحرك ، فما ظنك بكلية الأرض؟ على أنا قد فرغنا من إيضاح تناهى الجهات التي إليها
الحركة بالطبع.
فأما القائلون إنها تتحرك بالاستدارة ، والفلك ساكن ، وإن الشمس والكواكب تشرق
عليها وتغرب ، بسبب اختلاف محاذيات أجزاء الأرض المتحركة إياها ، وهى ساكنة ، وأما هى فى أنفسها فلا تشرق ولا تغرب ـ فيفسد قولهم بما
بيّناه من سكون الأرض ، وبأن المدرة تقع على الأرض على عمود ، وهو مسقط محاذ لمحاذيه.
ولو كان ما قالوه
حقا لوجب فى المدرة أن لا تنزل على عمود وشاقول البتة ؛ بل إن كان ولا بد فتنزل منحرفة. ولو كانت الأرض تتحرك
هذه الحركة السريعة لكانت المدرة تتأخر عن المحاذاة ، ولما كان بعد مسقط السهم المرمى إلى المغرب من الرامى بعد مسقط
السهم المرمى إلى المشرق من الرامى.
وأما ما قاله
الفرقة المذكورة فى أمر توسط النار دون الأرض فنعم ما أجابهم عنه العلم
__________________
الأول ؛ إذ قال : هب أن النار متقدمة بالشرف ، وهب أن الشرف يقتضى التوسط ، وهب أنه قد لزم من ذلك أن النار فى الوسط ، أليس إنما يلزم الوسط الشرفى. وأما الوسط المقدارى فلا مزية له ، إنما المزية للوسط فى الترتيب ، فالنار قابلة للتوسط فى الترتيب.
فإن رتبتها فى أواسط مراتب الأجسام ، ومرتبة الأرض فى آخر الترتيب.
فهذا يعطيكم
مرادكم مع التقابل بما عليه الوجود ، حتى تطيب أنفسكم بتوسط
النار ، ولا تحوجون ، لذلك ، إلى مخالفة الكل.
وأما القائلون
بسكون الأرض فقد اختلفوا فى سببه.
فقائل إنها فى
خلاء ، وجهه مستقرها غير متناهية ، فلا محيط لها.
وقائل إنها مجوفة
محمولة على ماء غمر يقلها.
وقائل إنها طبلية
لشكل مسطحة القعر منبسطة ، وذلك سبب سكونها ، وإن الثقيل إذا انبسط اندغم ، مثل الرصاصة إذا بسطتها طفت على الماء ، وإن جمعتها رسبت ، وكذلك حال الأرض على الماء والهواء.
وقائل إنها ، وإن كانت طبلية ، فحدبتها إلى أسفل وبسطتها إلى فوق. ولذلك ما يكون القطع المشترك بين الأفق وبين الشمس خطا مستقيما فى الرؤية ، ولا قوسا.
وقائل إنها كرية ،
وإنها ساكنة لا تتحرك ، وإنما لا تتحرك لأن الفلك يجذبها إلى الجهات جذبا متشابها ، فلا تكون جهة أولى بأن تنجذب إليها من جهة ، كما يحكى عن صنم كان فى بيت مغناطيسى الحيطان والقرار والسقف ، وكان قد قام فى وسط البيت منجذبا إلى السطوح الستة بالسوية.
__________________
وقائل إن السبب فى
قيامها تساوى استحقاق الجهات أن يكون إليها ميل ، وإن لم يكن جذب.
وقائل إن السبب فى
قيامها التفاف الحركات السماوية بها ، كما يعرض لمدرة
أو جفنة تراب تجعل فى قنينة ، ثم تدار على
قطبين إدارة سريعة ، فيعرض أن يثبت الجسم الثقيل فى الوسط لالتفاف
الدفع المتشابه عليه من كل جانب.
وهذه المذاهب كلها
رديئة ، وكلها تجتمع فى أن تجعل الأرض
مقسورة على القيام فى الوسط. وكيف يكون الشىء مقسورا إلا فى غير موضعه الطبيعى؟
وكيف يكون الجسم محبوسا فى موضع غير طبيعى إلا وله موضع
إليه يحن؟ وما كان يكون حال الأرض لو حصل فى ذلك الموضع الطبيعى وهل كان يقف أيضا
، أو يهبط الهبوط المتوهم؟
فإن كان يقف ولا
يهبط ، ولا يستنكر ذلك ، ولا يطلب له علة من العلل المذكورة ، فلم صار الموضع ، الذي هو فيه مذ كان وإليه تتحرك أجزاؤه يطلب لوقوفه فيه علة ، غير أنه مكانه الطبيعى الذي تشتاقه أجزاؤه إذا فارقته.
وإن كان لا يقف
أيضا هناك ، أعنى فى الوضع الآخر له ؛ بل ويهرب عنه. فالموضع الطبيعى ليس بموضع طبيعى ، بل موضع مهروب عنه ، هذا خلف.
ثم يلزم كل قول
خاص محال خاص.
__________________
الفصل الثامن
فصل فى
مناقضة الآراء الباطلة المذكورة فى تعليل سكون الأرض
فأما الجاعل سبب
قيام الأرض وسكونها كونها غير متناهية ، وأنها يدغم نفسها ، فقد عرف فساد مذهبه لما عرف من استحالة وجود
جسم غير متناه.
وأما الجاعل سبب
ذلك إقلال الماء إياها ، وثباتها عليه لتجوفها ، فيوضح بطلان قوله إحواجه إيانا
إلى أن نكر ، راجعين ، فى تعرف سبب قيام ما ليس قيامه ووقوفه أبعد من الشبهة من قيام الأرض ووقوفها ، وذلك هو الماء. فإن الإشكال قائم فى سبب
قيام الماء واستقراره ، حتى يتبع ذلك استقلاله بحمل الأرض ، اللهم إلا أن يلتجأ فى أمر الماء إلى مثل المحال الذي التجئ إليه فى أمر الأرض من كونه غير متناه من الجهة التي بيننا.
فيكون الجواب ما
قدمناه. ومع ذلك ، فما السبب الحاقن والممكن للهواء
فى الأرض؟ وما السبب المجوف للأرض؟ وهل هذه الأشياء لوازم طبيعية لجوهر الأرض ،
أعنى أن يكون فيه الهواء ، أو لجوهر الهواء أن يكون فى الأرض ، أو لجوهر الأرض أن يكون مجوف الشكل؟ أما الهواء فطلبه ، لمكانه الطبيعى ، هو من حيث يحوجه إلى الانفصال عن الأرض ، ولو بالزلزال والخسف. وأما الأرض فهى تهبط دائما عن معدن
الهواء ، وشكلها شكل البساطة. وقد علمت أنه مستدير.
__________________
فإن لم يكن ذلك
لازما طبيعيا فهو عارض بعد الأمر الطبيعى. فما كان يرى أنه يكون إن لم يعرض هذا
العارض أو وقوف ، حيث الأرض فيه ، أو حركة.
فإن كان وقوف قبل
هذا السبب فما الحاجة إلى هذا السبب.
وإن كان حركة فكيف جاءت القوة الهوائية فنفذت فيه وأقامته؟ وكيف كان تكون تلك الحركة ، وإلى أى غاية كانت تكون؟
وكذلك الكلام على
جاعل الأرض مسطحة البسيط مقابل للبسيط الحامل إيانا.
فأما القائل بجذب
الفلك للأرض من الجهات بالسواء فيفسد مذهبه وقوله من وجوه.
أحدها : أنا نتوهم
أن هذا الجذب قد زال ، فلا يخلو إما أن يقف حينئذ الأرض فى الوسط ، أو يتحرك :
فإن تحرك فلا محالة أنه يتحرك إلى الفلك. فإن هؤلاء يرون أيضا أن الفلك محيط ، وأن الأرض فى المركز. فإن تحرك إلى الفلك ، فقد انقلبت حركتها صاعدة بالطبع ، وهذا محال.
وإن وقف صارت العلة التي أعطوها لوقوف الأرض ، هى بحيث لو لم تكن لكان وقوف أيضا. والشىء الذي لا يحتاج فى أن يكون نفسه إلى أن يكون ذلك الشىء فليس ذلك الشىء بعلة للشىء المستغنى عنه البتة. فهذا الجذب إذا ليس بعلة لسكون
الأرض.
وأيضا فإن الشىء
الأصغر أسرع انجذابا من الشىء الأكبر ، فمال بال المدرة لا تنجذب إلى الفلك ، بل
تهرب عنه إلى المركز؟
__________________
وأيضا فإن الشىء
الأقرب أولى بالانجذاب من الشىء الأبعد ، إذا كان من طبعه ؛ والمدرة المقذوفة إلى
فوق أقرب إلى الفلك ، فهى أولى بأن تنجذب إلى جهة قربها من
كلية الأرض.
وأيضا فإن الحركة
الطبيعية المستقيمة ، كما قد علمت ، إنما تكون إلى جهة القرار بالطبع ، والمدرة إنما تتحرك لتستقر ؛ ومستقرها إما إلى الفلك ، وإما إلى حيث يتوهم المركز ، لكن
ليس إلى الفلك ، وإلا لكانت الجهة المخالفة لحركتها أولى بها ، فإنها أقرب.
فهى إذن إنما تتحرك إلى المركز لتسكن بالطبع. ويقرب من هذا مناقضة من جعل السبب تساوى الجهات فى الاستحقاق ، كأنها لو كانت مختلفة لكان واحد منها أولى مما كان يكون ذلك الأولى الذي ليس هو جهة مكان طبيعى موجود أو غير ذلك. فإن كان جهة هى مكان طبيعى فيكون للأرض شىء ، لو كان ،
لكان مكانا طبيعيا ، فتكون الأرض موجودة وليس لها مكان طبيعى موجود. فإلى أين تتحرك أجزاء الأرض؟ وأجزاء
الأرض كيف لا تصير جهة من السماء أولى بها من جهة ، لأنها أقرب من جهة؟ ولم لا تقف النار فى الوسط
لهذه العلة بعينها؟ فعسى أن يقول القائل لأنها لا توجد فى الوسط الحقيقى. فكذلك
المدرة يجب ألا تميل إلى الوسط.
ثم مما ينبغى أن
يعطوه لنا هو سبب حصول الأرض فى هذا الوسط إلى أن صار بحيث تكافأت الجهات عليه ، فأبطلت ميله ، وأوجبت سكونه. أطبيعة توجب ذلك أو قسر أو اختيار وبخت؟ فإن كانت المحصلة
إياها فيه هو مقتضى طبيعته فالسكون فيه مقتضى طبيعته.
__________________
وإن قالوا سبب قاسر لم يمكنهم أن يشيروا إلى هذا السبب ،
فإن الأجسام المكتنفة للأرض ليس لها أن تفسر ميل الأرض دفعا. ولو كان المصير إلى هنالك لكلية الأرض قسرا لكان لجزئياتها قسرا. ولو كان هبوط المدرة قسرا ودفعا من الهواء
المكتنف لما كانت ترجحن على الموانع من الحركة ، والهواء الذي يكتنفه لا يرجحن
البتة ، حتى يجعل الهواء دافعا فيدفعها ، ولكان الأصغر أشد اندفاعا ، ولكان كلما بعد من مبدأ الحركة صار أبطأ. فإن القسرى
كذلك. فإذ ليس شىء من هذه التوالى ، فليست كلية الأرض محصلة هناك قسرا ، وأيضا لا
اختيارا ؛ إذ لا اختيار لها.
وأما البخت فليس
أمرا يعتد بدوامه ؛ بل الأمور البختية لها أسباب متقدمة ،
إما طبيعية ، وإما قسرية ، وإما اختيارية ؛ وعلى ما علمت ، وهذا المعنى لا يتقدمه
سبب من هذه. وليس يصح من هذه الأقسام إلا حصوله هناك بالطبع. فإن كانت الطبيعة
حصلته فيه ثم لا تهربه عنه ، فكفى بذلك بيانا لصدور الأمر عن الطبيعة
، وكونه سكونا طبيعيا.
وأما جواب من ظن
أن سكونها فى الوسط على نحو سكون التراب وسط قنينة مدارة فقريب من هذا. فإن مصير الأرض إلى الوسط لو كان يقسره لكان حكم المدرة فى أن يكون أصغرها أسرع اندفاعا ، وأبعدها عن المحيط أبطأ حركة
، هو الحكم المذكور.
وأيضا فإن القنينة
ما بالها توسط التراب ، دون الهواء والماء الذي فيها؟ فإن جعل السبب فى
ذلك الثقل بقى السؤال فى الثقل ، وبقى أن يطلب
السبب فى أن كان
__________________
الثقيل يتوسط دون
الخفيف ، إلا أن يقال إن الثقيل فى القنينة ينحدر من الجهة الفوقانية بالطبع وبالدفع. فإذا توسط دفع أيضا من الهواء المدار ،
ولم يمكن أن يخرق ذلك الهواء. فان الهواء ، وبالجملة كل دقيق متخلخل ، يعرض له عند شدة الحركة من المقاومة ألا ينخرق بل ربما حرق. فإذا اكتنف
التراب ، من فوق ومن تحت ، هذان السببان تحير ووقف.
فإن كان السبب فى
الأرض هذا ، وهو أن بعض الجهات له أن يفارقه بالطبع ، وبعضها ليس يمكنه أن يخرقه ،
فتكون الجهات المتشابهة تختلف عليه ، فى أن جهة يهرب عنها ، جهة مثلها يشتاقها بالطبع ،
لكن بمنع لمقاوم ؛ وهذا خلاف ما ادعوه.
وإن كان السبب ليس
يعاون هرب ودفع من جهة دون جهة بل ليس الا الدفع.
فما ذا كان يكون لو لا الدفع؟ أكان يميل إلى ناحية من
نواحى الفلك بعينها ميلا مطلقا ، حتى كان يختلف استحقاق جهات متشابهة للميل إليها
، وهذا محال ، أو غير مطلق ، بل متخصصة بالقرب على ما قلناه فى جزئيات العناصر ، فتكون ، بالجملة ، طبيعة الأرض خفيفة ، فلا يكون الثقل سبب اندفاعها بالقسر إلى الوسط ، ويكون حكم النار حكمها ؛
فيلزم أن تكون النار إذا وسطت التف عليها الدفع
، فلم يقدر على الصعود أو ما بال هذا الدفع لا يحس به وقوته هذه القوة؟ وما بال
هذا الدفع لا يجعل حركة السحب والرياح إلى جهة بعنيها ، ولا يجعل انتقالنا الى المغرب أسهل علينا من انتقالنا إلى المشرق؟
__________________
والذي ظن أن ظاهر
الأرض مسطح ، لما رآه من استقامة الفصل المشترك بين جرم
الشمس وبين الأفق ، فلم يشعر بأن القسى الصغار من الدوائر الكبار ترى فى الحس خطوطا مستقيمة ؛ بل لم يشعر أن الدائرة المرتسمة على كرة إذا قطعت
كرة ونظر إليها لا من قطب تلك الدائرة بل من نقطة ، على تلك الدائرة ، رؤى القطع مستقيما ، ومع ذلك فإن علم الرصد يكذبه ، وموجب
الطبيعة البسيطة يخالفه.
وكما قد اختلفت الآراء فى سبب قيام الأرض وغير ذلك ؛ فكذلك قد اختلفت فى
حركات النار والهواء إلى فوق ، وما يرسب فى الماء ، وما لا يرسب. والمدخل إلى
تعرفها معاودة جمل من أحكام الثقيل والخفيف.
__________________
الفصل التاسع
فصل فى
ذكر اختلاف الناس فى الخفيف والثقيل
واستنباط الرأى الحق من بين آرائهم
الخفيف المطلق هو
الذي فى طباعه أن يتحرك إلى غاية البعد عن المركز ؛ ويقتضى طبعه أن يقف طافيا بحركته فوق الأجرام كلها. وأعفى بالطافى ليس كل وضع فوق
جسم ؛ بل وضعا يصلح أن يكون منتهى حركة.
والثقيل المطلق ما
يقابله حق المقابلة ، فتكون حركته أسرع حركة ، لميله إلى غاية
البعد عن المحيط خارقا كل جسم غيره ؛ فيقتضى أن يقف راسبا تحت الأجسام كلها.
لكن للخفيف وأيضا للثقيل ، أحوال ثلاثة :
حال حصوله فى
المكان الذي يؤمه.
وحال حركته مرسلة إليه.
وحال وقوفه ممنوعا
دونه.
ففى حال حصوله فى
المكان الذي يؤمه هو غير مائل عنه بالفعل ، ولا بالقوة.
ولو كان مائلا عنه
بالفعل لما كان ذلك المكان مستقره الطبيعى. ولو كان مائلا عنه بالقوة لكان يجوز أن
يخرج إلى الفعل ، فيميل بالفعل عن موضعه الطبيعى ، اللهم إلا أن يجعل القوة
بالقياس إلى القاسر ، وإلى ميل قسرى ، لا إلى ميل طبيعى. فالجسم
__________________
الثقيل أو الخفيف
لا يوجد فيه ، حال حصوله فى الحيز الطبيعى ميل البتة.
وأما فى الحالين
الآخرين ففيه ميل لا محالة. لكنه ، فى حال صدور الحركة عن ميله ، هو ذو ميل مرسل عامل. وفى الحالة الأخرى هو ذو ميل ممنوع عن
أن يكون عاملا.
فإن عنى بالخفيف
مثلا ما له ميل عامل إلى فوق بالفعل ، فلا الممنوع خفيف بالفعل ، ولا الحاصل فى
مكانه خفيف بالفعل. وإن عنى بالخفيف ما له ميل بالفعل إلى فوق ، كيف كان ،
فالمتحرك والممنوع كلاهما خفيفان بالفعل ، والحاصل فى مكانه الطبيعى غير خفيف بالفعل. وإن عنى بالخفيف ما له فى ذاته الصورة الطبيعية التي هى مبدأ
الحركة ، والميل إلى فوق حال ما يجب الحركة إلى فوق ،
والسكون هناك حال ما يجب ذلك ، فهذا الجسم فى جميع الأحوال خفيف بالقوة.
ولأن اسم الخفيف
يطلق على هذه المعانى الثلاثة اطلاق الاسم المتشابه فحرى أن يقع منه غلط لا يقع إذا فصل هذا التفصيل وكذلك الحال فى جنبه الثقيل.
ويجب أن يكون
استعمالنا للفظة الخفيف والثقيل ، إذا أردنا أن نميز به صور الأجرام الطبيعية ، استعمالا يدل به على المعنى الثالث الجامع ، وأن يكون استعمالنا دينك إذا
دللنا على أفعالهما إنما هو على المعنى الثاني.
فنقول. إنه قد عرض
للناس اختلاف فى حركة الهواء فى الماء إلى فوق ، وحركة النار فى الهواء إلى فوق ،
وحركة الخشبة وما أشبهها فى الهواء إلى أسفل ، على حكم ماله وزن وثقل ، وطفوها فى
الماء ، بحيث لو أرسبت فيه قسرا لطفت على حكم ما له خفة وعدم وزن.
__________________
فقائل إن الأجسام كلها ثقال ، ومتفاوتة فى ذلك ، وتتحرك هابطة ، لكن الأثقل يسبق ، ويضغط
الأخف إلى فوق ، حتى يتمهد له الاستقرار في السفل أو الاستمرار إليه.
وقائل إن المقل هو
التخلخل ، والتخلخل علته الخلاء.
وقائل إن المقل هو
اللين ، كما أن المهبط هو الصلابة.
وقائل إن كثرة
الملاء واندماج الأجزاء هو المرسب ، وإن قلة ذلك ،
كان لخلاء أو غير خلاء ، هو علة ضد ذلك.
وقائل إن الأشكال
المتحددة الصنوبرية هى مبدأ الحركة إلى فوق لسهولة الخرق والتمكن من النفوذ ، وإن التكعيب ، وبالجملة انفراج الزوايا واستعراض السطوح هو السبب فى
الثقل.
ومنهم من جعل
النفوذ إلى فوق الكرة كأن كل نقطة من الكرة زاوية حادة.
وقائل إن الخلاء
يجذب إليه الأجسام جذبا يسبق بالأثقل ، فيترتب فيه الأجسام على الترتيب الذي يتوسط فيه الأثقل ، ثم يحيط به الأخف فالأخف.
وأما ما يرسب فى
الهواء ، ولا يرسب فى الماء ، فمنهم من جعل السبب في طفو الشىء فى الماء ، وفى
الهواء أيضا ، إقلال الناريات المصعدة إياه من تحته ، كما أن الرطوبة
الغالية تقل من الأجسام ما لا تقله الهادئة.
قالوا : على أن كل
رطوبة فإن فيها غليانا ما غير محسوس. وما يتصعد من الغليان هو مقل الثقيل ، حتى
أن المنبسط من الرصاصة تتناوله مقلات أكثر عددا مما يتناوله المجتمع منها فتقله.
__________________
قالوا : ولهذا ما
استقلت السحب فى علو الهواء وهى مائية ثقيلة.
فنقول : إن هذه
المذاهب كلها تجعل حركة هذه الأجسام حركة عرضية قسرية ، فإن كان ذلك لدفع أو جذب
كان الأكبر لا محالة أبطأ حركة ، وليس كذلك ، وكان المندفع كلما بعد
عن المبدأ وهنت سرعته ، وليس كذلك. وكان إذا اتخذنا جسما مجوفا من ذهب يزن وزن مصمت من أبنوس كان رسوبهما فى الماء سواء ، ولم
يكن المجوف الذهبى يطفو إن كان الطفو قسريا ، لضغط الماء لما هو أخف منه ،
واجتماعه / تحته فيزعجه.
وأما الخلاء فلا
شىء منه أولى بالتحلية ، عن الثقيل منه بالحبس له ، فلا حيز فيه هو أولى بوقوف الأرض عنده من حيز آخر. ولو كان كثرة الخلاء وحدها علة للحركة إلى فوق لكانت الأرض الكبيرة أخف من الصغيرة ، أو لو كان كثرة الملاء
وحدها علة للحركة إلى أسفل لكانت النار الكبيرة أبطأ حركة إلى فوق. ولو كان السبب فى ذلك ـ أما فى الخفة فيكون الخلاء أكثر من الملاء ، وأما فى الثقل فيكون الملاء أكثر من الخلاء ـ لكانت العلة ، فى أيهما كان إنما هى سبب للنقصان موجب الكثرة ، لا سبب لفضاء يوجب الكثرة. فإن عدم السبب سبب لعدم المسبب ، لا سبب لمضاده.
فإذا زاد الخلاء
مثلا على الملاء لم يخل إما أن يكون الزيادة مانعة عن أمر لو
كثر الملاء لفعله ، أو موجبا بنفسه أمرا. فإن كل زيادة توجب المنع ، فيكون أقصى ما توجبه أن تمنع الحركة إلى أسفل ، أو تبطئ بها. وإن كان هناك
زيادة الخلاء موجبة للحركة
__________________
إلى فوق كالعلة
المحركة ، والملاء موجبا للحركة إلى أسفل كالعلة المحركة ، ويكون الحكم للغالب منهما ، عرض ما لا يحتاج أن نكرره من استحالة كون الخلاء علة محركة ، فقد
أبطلنا ذلك فى بعض الفصول المشتمل عليها الفن الأول ، فليقرأ من هناك.
ومع هذا ، فكان
يجب أن تكون النار الصغيرة والكبيرة متساويتى الخفة ، وكذلك
الأرض الصغيرة والكبيرة ، إذ النسبة بين الخلاء والملاء فى كلتيهما محفوظة.
ولو كان اللين سبب
الخفة لكان الحديد أثقل من الآنك ، بل من الزئبق.
وأما الأشكال
المتحددة فإنها تصلح أن تكون مواتية للحركة ، وإما سببا للحركة فكيف يكون؟ وما
هذا إلا أن يقول قائل إن السيف إنما قطع لأنه كان حادا. وليس تكفى حدة السيف فى أن يقطع ، بل يحتاج إلى محرك غير الحدة يقطع بالحدة. ثم صارت الأشكال المتحدة ، لأنها متحددة تختص حرفها بجهة دون جهة؟ ولم لم يكن عدم الحدة علة لعدم هذا النفاذ. بل صار علة للثقل ،
والنفاد إلى جهة أخرى ، كما قالوا فى المدرة على أن نفاد المدرة ليس بدون هذا النفاد. فان اعتبروا سكون كلية الأرض فليعتبروا من جهة النار سكون كليتها
، ولا يلتفتوا إلى حركة النيران الجزئية أو يلتفتوا أيضا إلى الأرضين
الجزئية. ولم لم يرسب الخشبة فى الهواء والناريات المقلة فيها أكثر؟ ولم إذا جعلت الخشبة فى قعر الماء ، حيث تماس الأرض ولا يتوهم هناك الغليان
المذكور تندفع طافية؟
فواضح من جميع ما
أومأنا إليه أن هذه الوجوه كلها فاسدة. وأما نحن فنقول إن
__________________
كل حركة من هذه
فإنما هى تتم للمكان الطبيعى ، وإن كل جسم إذا حصل فى حيزه
الطبيعى لم يبق له ميل. فإذا كان الخشب يرسب فى الهواء لم يكن
للهوائية التي فيه ميل البتة ؛ فلم يكن فيه مقاومة للأرضية والمائية التي فيه
البتة ، فغلبت تلك بميلها الموجود بالفعل. فإذا حصل فى الماء انبعث الميل الطبيعى للهواء إلى فوق ، فإن قوى
وقاوم دفع الخشب إلى فوق ، وإن عجز أذعن للهبوط قسرا.
والذهب المجوف ، الذي حكينا أمره ، إنما يقله الهواء الذي فيه إباء أن يستقر فى الحيز الغريب ، وهو فى الأبنوس
أقل والعمام والرصاصة المنبسطة إنما لا يرسب ، لأنه
يحتاج أن ينحى من تحته هواء ـ أو ماء كثيرا ؛ وذلك لا يطيعه. فإن اجتمع
كان ما تحته مما يدفعه أقل ، وثقله المنحى ، على ذلك
القدر من الماء ، أكثر من ثقل ما يخص مثل ذلك الماء من المنبسط الرقيق.
فعلى هذا ينبغى أن
يتصور حكم الثقيل والخفيف.
إذ قد تكلمنا فى الأركان التي تتفق منها كلية العالم
، فحرى بنا أن نعلم أن العالم الجسمانى هو واحد أو هاهنا عوالم كثيرة.
__________________
الفصل العاشر
فصل فى
أن جملة
الأجسام الملاقى بعضها لبعض ، إلى آخر
ما يتناهى
إليه ، جملة واحدة
قد قال كثير من الناس إن العوالم كثيرة.
فمنهم من انساق
إليه من أصول فاسدة ، لكنها مناسبة للعلم الطبيعى.
ومنهم من انساق
إليه من أصول فاسدة ، وغير مناسبة للعلم الطبيعى ؛ بل هى فلسفية ومنطقية.
فأما الطبقة الأولى فقد كان عندهم أن هاهنا خلاء بغير نهاية وأجزاء لا تتجزأ ، وأنها تتحرك فى الخلاء حركات
غير مضبوطة ، وأنها يعرض لها اجتماعات فى أحياز غير محصاة ، وأن اجتماعاتها تؤدى
إلى ائتلاف هيئات عوالم غير معدودة. وهذا المذهب ينفسخ عن قريب إذا تذكرت ما عرفته من الأصول المقررة فى تناهى الجهات
وتحددها وتحدد أصناف الحركات ، فيمتنع بذلك انسياق هذه الأصول بهم إلى إثبات عوالم
غير متناهية.
وأما المذهب الآخر
فقد قال متقلدوه : إن قولنا عالم غير قولنا هذا العالم فى المعنى ، كما أن قولنا
__________________
إنسان غير قولنا
هذا الإنسان فى المعنى ، ولا حقيقة لهذه الغيرية إلا أن يكون قولنا هذا الإنسان.
يفارق قولنا
الإنسان فإن قولنا هذا الإنسان يدل على شخص واحد
بالعدد بعينه ، وإذا كانت المخالفة بهذا كان قولنا الإنسان يدل على معنى جائز فى
طباعه أن يحمل على كثيرين.
وكذلك قولنا
العالم يدل على معنى جائز فى طباعه أن يحمل على كثيرين. لكن
العالم ليس من المعانى التي ، إذا فرضت الكثرة موجودة فيه فرض
أمر جايز ، كان ذلك على سبيل التكون واحدا بعد آخر ، لأنه عندهم غير مكون من شىء ، بل هو عندهم أبدى ؛ فيكون ، إذا فرض كثرة فرض أبديات
، وإذا كانت أبديات استحال ألا تكون موجودة فى وقت من الأوقات ، واذا استحال لا كونه ،
وجب كونه.
قالوا : وهذا حكم
عام فى جميع الأمور الأبدية ؛ إذا الممكن وجوده أزليا فى
الأبديات واجب. فإن الممكن لا يعرض من فرضه محال وإذا فرض موجودا فرض ما هو غير
موجود ، لكنه ممكن ، وجب أن يكون والأزلى ممتنع العدم ، فإذا فرض موجودا فرض ما هو
غير موجود لكنه ممكن وجب أن يكون موجودا دائما. فاذا فرض ذلك الفرض وجب أن يكون مع
ذلك الفرض ليس ذلك الفرض ، وهذا خلف. ولزم الخلف من فرض وجوده ممكنا
غير موجود فإذن الممكن فى الأزليات واجب.
فإذا كان كذلك لم
يجز أن نقول إن العالم واحد ، إذ كان يصح فرض
الكثرة فيه صحة وجوب.
فهذه طريقة المذهب الثاني ، وهى فاسدة المأخذ ، وإنما أتى هؤلاء من قبل ظنهم
__________________
أن كل ما يخالف
الجزئى الشخصى فهو كلى بمعنى واحد ، وهو الذي يصح وجود الكثرة فيه.
ونحن فقد بينا فى
صناعة أخرى أن الجزئى هو الشىء الذي يمتنع تعقل ماهيته محمولة على كثيرين ، والذي بإزائه هو الذي لا يمتنع ذلك فيه. وليس إذا لم يمتنع ذلك من جهة صورته ، أو من جهة ما تعقل صورته ، لم
يمتنع من جهة أخرى. فإن الصورة الصالحة ، من حيث هى صورة ، تعقل لأن يكون منها عدد فى مواد والمعقول والمفهوم الصالح
، من حيث هو معقول ومفهوم ، أن يطابق به عدة ، تتوقف أمور فى حصول ما هو مجوز ومستصلح حصولا بالفعل ، إلى أن يكون من
المواد ما يفصل عن حمل صورة واحدة ، ولو أنه امتنع وجود الحديد إلا القدر المطبوع
منه سيف واحد لم يغن كون صورة السيف صالحة لأن تتشكل بها مواد حديدية كثيرة فى أن توجد سيوف فوق ذلك
السيف الواحد. أوهب أن المعقول من الإنسان ممكن أن يطابق عدة ناس فإن اتفق أن يكون لا إنسان إلا الواحد لم يغن ذلك فى أن تجعل هذه المطابقة للكثرة موجودة بالفعل.
وكذلك الحكم فى أمر العالم. فمن المسلم أن صورته صورة لا يمتنع كونها هى هى ، أو
كونها معقولة من أن تكون محمولة على كثرة. لكنه يمتنع وجود مادة مستعدة لذلك.
أليس يعرض مع ذلك
أن يمتنع وجود عوالم كثيرة؟ نعم لو كان كل ما هو ممكن باعتبار نفسه لا يعرض له أن
يصير ممتنعا بسبب ، وواجبا بسبب ، لكان الأمر كذلك. لكن الأمور التي هى بطبائعها ممكنة فإنها ممنوة بأسباب منها ما يفرض عليها الامتناع ،
ومنها ما يفرض عليها الوجوب.
__________________
فهذا ما نقوله فى بيان أن هذه الحجج غير موجبة لما
يذهبون إليه. وبقى أن نوضح أن الدعوى بنفسها كاذبة ؛ بل باطلة.
ولنقدم لذلك حال التعرف للأحياز الطبيعية للأجسام البسيطة ؛ إذ المركبات تتلوها فى الأحكام ، ولنبين أنها كيف يجب أن تكون.
فنقول إن الأحياز
الطبيعية للأجسام البسيطة هى الأحياز التي تقتضيها هذه الأجسام حالة ما هى غير
ممنوعة فى أوضاعها وأشكالها عن الأمر الطبيعى. فاختلاف الوضع والشكل قد يحوج الجرم إلى أن لا يطابق مكانه الطبيعى ، فإذا كان كذلك فالأحياز الطبيعية للأجسام البسيطة مرتبة بعضها على بعض ، بحسب
المجاورات الطبيعية ، ترتيب مستدير على مستدير مثلا ، إن كان يصح فيه توهم أبعاد
مفطورة.
فإذا كانت الأحياز الطبيعية على هذه الجملة ، وكانت الأحياز الغير الطبيعية
للأجسام هى أحياز أجسام أخرى بالطبع إذ لا حيز إلا وله جسم طبيعى ، كما لا جسم
طبيعى إلا وله حيز طبيعى.
وهذا كله مفروغ
منه فيما سلف فلا يوجد حيز غير الواقع فى هذا النمط من
الترتيب.
فإن كانت العوالم
كثيرة وجب أن تكون الأحياز الطبيعية لكل طبقة أجسام عوالم ، بحيث يجتمع منها
، لو فرضت أبعاد مفطورة ، ما يحكى الكرة ، فتكون جماعة أحياز كرية تحمل جماعة أجسام عالم.
فإما أن يكون
بينها خلاء ، أو ملاء ويحشو ما بينها جسم ،
والخلاء ممتنع ضرورة
__________________
والجسم الحاشى
يكون ، لا محالة ، إما فى حيز طبيعى له أو غير طبيعى له ؛ بل طبيعى لغيره ، فيكون ، على كل حال ، حيزه مستديرا. لكن ذلك محال ؛
إذ فرضنا المجموع غير منحصر فى كرة واحدة ، فلا أحياز كرية كثيرة لطبقات أجسام مختلفة. فالحيز الجامع واحد. والمتحيز المجموع واحد.
هذا هو البيان
المطلق. وأما إن جعل كل عالم فى الصورة كالعالم الآخر حتى تكون فى كل عالم أرض ونار وماء وهواء وسماء كما فى الآخر ، عرض أن تكون
الأجسام المتفقة فى النوع تأوى إلى أماكن طبيعية متباينة فى الوضع أو بالطبع وهذا قد دللنا
على بطلانه ؛ بل يجب ، كما أوضحناه فى الأصول الكلية أن يكون مكان الأرضين
مكانا يصح أن تجتمع فيه جملتها كرة واحدة وتملأه ، وكذلك مكان كل واحد من العناصر. وإذا كان كذلك كان الأرض مثلا إما مقسورة
الحصول فى الجميع ، فلا موضع طبيعى لها ، وهذا محال ؛ أو يكون أينها طبيعيا فى الجميع ، وقد بينا إحالة ذلك ؛ أو يكون موضعها الطبيعى
واحدا بعينه ، وقد قسرت إلى مواضع أخرى. فكيف خلصت عن الأجسام المحددة للجهات التي لا تنخرق؟ وما الذي ميز بينها؟ ويعرض أن تكون طبيعة واحدة تتحرك بالطبع إلى جهات متضادة.
وليس يعذر فى هذا الباب كون الأرض كثيرة بالعدد ، حتى تكون لها أمكنة كثيرة بالعدد كلها
تشترك فى أنها وسط ، كما أن الأرضين كلها
تشترك فى أنها أرض ؛ وذلك أنه ، وإن كان لا شك فى أن الأجسام
الكثيرة بالعدد لها أمكنة كثيرة العدد ،
__________________
ولكن يجب أن تكون
كثيرة على نحو يجعل الكل ـ لو اجتمع كان المتمكن شيئا واحدا ومكانا واحدا بالعدد ، على ما بيناه. وهذا الاجتماع مما لا مانع له عنه فى طبعه. فإن الطبيعة الواحدة المتشابهة لا تقتضى الافتراق والتباين. ثم كيف صارت السماوات مختلفة الأمكنة وما الذي فرق بين أحيازها ، حتى صارت الأوساط كثيرة بالعدد؟
وقد تقرر من الأصول المتقدمة أن السماوات علة تحدد سائر الأمكنة ، فلا تكون سائر الأمكنة علة تحدد حيزها. فينبغى أن يكون لاختلاف أحيازها ، بحيث لا تتجاوز ولا تحصل فى حيز مشترك علة غير طبيعتها ، وغير الأجسام الأخرى التي
إنما تتحدد أمكنتها بها. ولا محاله أن ذلك قسر إن لم يكن أمرا طبيعيا ، لا طبيعيا
من جهة الجرم ، ولا طبيعيا من جهة الأجسام الأخرى. وقد منعتا أن ينقسر هذا الجرم فى الانتقال
المكانى.
فإذا استحال أن
يكون للمحددات المتشابهة الطباع أحياز متباينة بالطبع
لا بالقسر ، الذي هو أيضا مستحيل ، استحال أوساط كثيرة.
فبهذه الأشياء ، نوضح
أن لا عوالم كثيرة متجانسة طبائع البسائط. وإذ قد بينا أن الجسم السماوى هو الجسم المحدد للحركات المستقيمة مشتملا عليها ،
ولا جسم خارجا عنه مباينا له فى عالم آخر ، فبقى أنه ، إن كان جسم آخر فيكون محيطا
به ، فلا يخلو إما أن يكون ساكنا لا مبدأ حركة فيه ، وقد قلنا إن كل جسم
ففيه مبدأ حركة ، وإما أن يكون فيه مبدأ حركة مستقيمة ، وقد قلنا إن الأجسام التي فيها مبادئ حركة مستقيمة إنما وجودها فى ضمن الجسم المحدد للجهات
__________________
لا خارجا عنه ؛
وإما أن يكون فيه مبدأ حركة مستديرة ، فتكون مشاركة لها فى
الجنس.
ونحن لا نمنع كثرة
الأجسام المستديرة الحركة ، فيجب أن يكون آخر هذا العالم بالقياس منا لأجسام كثيرة
مستديرة الحركة ، والعالم متناه ، لا بد له من جسم هو آخر الأجسام
وتكون جملة ما بين الوسط وذلك الجسم هو كلية العالم ، ولا جسم خارجا عنه ، ولا هيولى غير متجسمة ؛ إذ لا وجود للهيولى ، بلا صورة. فلا تكون إذن مادة خارجة تتصور بصورة العالمية ،
فتكون صورة العالمية مخصوصة بمادة واحدة يلتئم منها أمور محصورة فى عالم واحد ، فلا يكون فى الإمكان وجود
عوالم كثيرة ، فيكون العالم واحدا تاما محصلا فيه أصناف الطبائع البسيطة الممكن
وجودها ، والحركات المستديرة والمستقيمة مستمرة إلى الأكوان والتراكيب منها ، ويكون صانعها مليا بأن يبلغ بالواحد كمال الواجب في
الحكمة على مقتضى الإمكان فى طباع الوجود من غير
حاجة إلى تكثير له.
آخر كتاب السماء
والعالم. والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد النبي وعلى
آله وأصحابه أجمعين ، وسلم تسليما دائما كثيرا.
__________________
الفن الثالث من الطبيعيّات
فى الكون والفساد
وهو مقالة واحدة فى خمسة عشر فصلا
الفصل الأول
فصل فى
اختلاف آراء الأقدمين فى الكون والاستحالة وعناصرهما
قد فرغنا من تحديد
الأمور العامة للطبيعيات وتعريفها ، وفرغنا من تحديد
الأجسام التي هى أجزاء أولية للعالم ، ومنها ينتظم هذا الكل الذي هو واحد ،
والأجزاء الأولية للعالم بسائط لا محالة ؛ وبينا أن بعض هذه البسائط لا يقبل الكون
والفساد ، وهى البسائط التي فى جواهرها مبادئ حركات مستديرة. ولم يتضح لنا من حال
الأجسام المستقيمة الحركة أنها قابلة للكون والفساد أو غير قابلة. نعم قد أوضحنا
أن الأجسام التي فى طباعها أن تقبل
__________________
الكون والفساد فى
طباعها أن تتحرك على الاستقامة. فيجب من ذلك لمن حسن النظر أن بعض الأجسام المتحركة على الاستقامة يقبل الكون والفساد فيكون بعض الأجسام البسيطة قابلة للكون والفساد.
وأما أن ذلك كيف يجب فلأن الأجسام المستقيمة الحركة لا مبدأ للحركة المستديرة فيها ، وهى فى
أمكنتها الطبيعية ساكنة فى الأين والوضع ، جميعا ، واختصاص الجزء المفروض بجهة مفروضة يكون إما لأمر عارض قاسر وإما للطبع. والأمر العارض القاسر إما أن يكون قد اتفق ابتداء الحدوث هناك ، أو بالقرب منه ، فاختص به ؛ أو اتفق أن نقله ناقل إليه ، ولا يجوز أن يكون ذلك الأمر بالطبع ، فقد عرفته. ولا يجوز أن يكون ذلك كله لنقل ناقل ، حتى لو
لم يكن ناقل لما كان لجزء منه اختصاص البتة.
وبالجملة فإن
القسرى يعرض على طبيعى. فلو كانت الأرض أو غيرها
من الاسطقات أزلية لم يجب أن يكون مصروفة الأجزاء كلها دائما تحت نقل قاسر ، ووجب أن يكون لها وضع يقتضيه أمر غير القاسر الناقل
؛ بل يجوز أن يكون ذلك في بعض الأجزاء ، فبقى أن يكون العمدة
فيه أن الجزء إن كان ، فى ابتداء
تكونه ، حاصلا فى حيز يخصص حدوثه فيه عن بعض العلل
لوجود ما يكون عنه به فلما كان أول حدوثه فى ذلك الحيز ، أو فى حيز يؤديه
التحريك الطبيعى منه إلى ذلك الموضع من موضع كليته ، صار ذلك الموضع مختصا به على ما علمته سالفا.
__________________
وأما المركبة فلا شك أنها من حيث هى مركبة فقد تكونت بعد ما لم تكن ، فيجب أن يكون فى طباعها ، لا محالة ، أن تفسد ؛ إذ قد بينا لك أن كل كائن جسمانى فاسد.
فقد اتضح من هذا
أن الكون والفساد موجود. وقد كان اتضح لك قبل ذلك
الفرق بين الكون وبين الاستحالة ، وبين النمو والذبول فى ماهياتها. وإنما بقى لك الآن تعرف وجود كل واحد منها.
فمن الناس من منع
وجود جميع ذلك ؛ بل منع وجود الحركة.
أما من أبطل
الحركة المكانية والوضعية فلا كثير فائدة لنا فى الاشتغال بمناقضته ، وإن كانت العادة قد جرت بها. فإن لنا ، بمناقضيه آراء قيلت فى أمور ليس الحكم فيها يبين ، شغلا شاغلا عن تكلف ما بين وجوده يغنى عن
إبانته. وأما هذه الباقية فإن الشغل فى إبانة وجودها مما ينبغى أن يعتد به.
فقد منع قوم الكون
، وزعموا أن البسائط ، مثل الأرض والنار والهواء والماء ، فإن جواهرها لا تفسد ، بل لا شىء منها
يوجد صرفا فى طبيعته ، بل هو مركب من الطبيعه التي ينسب إليها ومن طبائع أخرى. لكنه إنما يسمى بالغالب. فلا أرض صرفا ولا نار صرفا ، ولا ماء صرفا ، ولا هواء صرفا ؛ بل كل واحد منها مختلط من الجميع ، ويعرض
له فى وقت ملاقاة غيره إياه مما الغالب فيه غير الغالب فيه ، أن يبرز ويظهر
فيه ما هو مغلوب لملاقاة الذي من جنس المغلوب فيه غالب ، وظهوره بأن يتحرك إلى
مقاومة ما غلبه وعلاه ، فيستعلى عليه. وإذا تحرك إلى ذلك عرض
للنظام الذي كان يحصل باجتماع الغوالب والمغلوبات أن يحيل
ويستحيل.
__________________
والحس إنما يشاهد
من جملة ذلك غالب الأجزاء التي تبرز وتظهر فيحسب أن جميعه استحال إلى
الغالب ، بأن صارت مثلا ، الخشبة أو غيرها نارا. ولا يشاهد الأجزاء التي
تتفرق من الجوهر الآخر كالدخان مثلا ، نعم إنما يشاهد بقية بقيت من الأول بحالها ،
أو يشاهد ما يبقى من الأول ـ وقد تفرق وتشتت ، أو بطلت تلك الصورة التي كانت
له ـ بقاء الرماد.
وأما جوهر الماء فلن يصير نارا البتة ، ولا جوهر النار يصير ماء البتة ، بل يتفرق ، ويغيب عن
الحس فيرى ما يظهر ويبرز للحس ، فيظن أنه
بجملته استحال.
فهؤلاء الطبقة
يرون أن النار لا تكون من شىء بل الكائن منها يبرز ويستعلى للحس ليس على أنه
حدث ، بل على أنه ظهر ، ويرون أنه لا استحالة
البتة ، وإن الماء ليس يسخن بالحقيقة من النار ، بل تخالطه أجزاء نارية فإذا لقيتها إليه فى أول ما يظنها يستحيل لقاء
أجزاء محرقة وأجزاء مبردة لقاء لا يميز الحس بين
أفرادها ، فيتخيل هناك أمرا بين الحر الشديد والبرد الشديد ، وهو الفتور.
فان كثرت الأجزاء النارية بلغ الأمر إلى أن يحرق.
قالوا : وليست الشعرة الواحدة تسود بعينها وتبيض ، بل مرة تجرى فيها ، ومن غذائها ، أجزاء يغلب عليها فى ظاهرها سواد يخالطها ويعلوها فيبيضها. وإن الدكنة ليست لونا متوسطا
بين السواد والبياض ، بل مختلطا فيهما ، بل تكون أجزاء
تسود
__________________
وأجزاء بيضا
فيختلطان ويبرزان ، فلا يميز الحس بينهما ، وإذا لم يميز الحس تخيل المجتمع لونا واحدا.
ومن هؤلاء من يرى
أن الجزء الحار مثلا ليس فيه حامل ومحمول ، حتى يكون هناك
جوهر وحرارة محمولة فيه ؛ بل يجعل الحرارة جزءا بنفسها.
ومنهم من يرى أن هناك حاملا ومحمولا ، ولكنه ليس من شأن الحامل أن يفارقه المحمول البتة.
ويشبه أن يكون
بإزاء هؤلاء قوم يرون ما يسمى كونا ، ولا يرون للاستحالة وجودا البتة ، حتى يمنعوا أن يكون الماء يسخن ، وهو ماء ، البتة ؛ بل إذا سخن
فقد استحال ذاته ، وأنه ما دام ماء ، ويرى أنه سخن ، فهو مختلط.
وقد ألجأ بعض
المطالبات واحدا من المتفلسفة ، على مذهب نصارى بغداد ، إلى أن قال بذلك.
وهنا قوم يرون
الاستحالة ، ولا يرون كونا البتة ، وأكثر هؤلاء هم الذين يقولون بعنصر واحد ، إما
نار. وإما ماء ، وإما هواء ، وإما شىء متوسط بين هواء ونار
وماء.
فإن رأوا أن العنصر نار مثلا كونوا عنه الأشياء بالتكاثف
فقط ؛ حتى أنه إذا تكثف حدا من التكاثف صار هواء. فإن تعداه إلى حد
آخر صار ماء. وإن تعداه إلى آخر حدود التكاثف صار أرضا ، ولا يجوزون ،
مع ذلك ، أن تكون جوهرية
__________________
النارية الذاتية تبطل ؛ بل عندهم أن الأرض نار محفوظة فى جوهرها مسلوب عنها عارض التخلخل المفرط.
وإن رأوا أن
العنصر أرض أقاموا التخلخل بدل التكاثف ، وعملوا بالعكس. وإن رأوه شيئا آخر عملوا فيه الضدين من التكاثف والتخلخل ، فجعلوه بحيث ، إذا تكاثف ، عنصرا
أكثف منه ، وإذا تخلخل صار عنصرا ألطف منه وأخف ، من غير بطلان جوهريته.
وهاهنا أيضا قوم ينكرون وجود الكون ويثبتون الاستحالة ، مع فرضهم عناصر فوق واحد. فمنهم من يفرض العنصر الأرض والنار ؛ ومنهم من يفرضه الأرض والماء ؛ ومنهم من يفرضه الأرض والهواء والنار ، ويلغى الماء ، فإن الماء عنده ليس إلا هواء قد تكاثف.
ومنهم من يقول
بالأربع ومع ذلك فيقول بالاستحالة : ولا
يرى العناصر تقبل كونا البتة.
لكن القائلين بهذا القول قد ينقضون قول أنفسهم ؛ إذ يبدو لهم أن يجعلوا القوة المسماة عندهم محبة وألفة قوة من شأنها أن
تتسلط مرة على العناصر الأربعة فتوحدها جسما متشابه الجوهر يسمونه الكرة. ثم إذا عاد سلطان القوة
المضادة لها ، وهى التي يسمونها تارة عداوة وتارة غلبة ، وتارة بغضة ، فرقها طبائع أربع ،
فتكون العناصر الأربعة إذا حصلت فى سلطان المحبة قد فسدت صورها التي بها هذه الأربع ، وقد منع من ذلك.
__________________
وبالجملة فإن
طبيعة قوة قبول الانسلاخ وهذا اللبس موجودة فى العناصر ، وموقوفة
، فى الخروج إلى العقل ، على غلبة من محبة موجودة ، أو غلبة مفرقة. وهذا شأن القابل للكون والفساد.
وأكثر من قال
بالعناصر الكثيرة يلزمه أن ينكر الاستحالة فى الكيفيات الفاعلة والمنفعلة ، لأن
منهم من لا يرى لها وجودا ، ومنهم من يراها نفس العناصر أو لازمة للعناصر لا تفارقها ، فكيف تستحيل فيها ، وهو لا يرى أن شيئا من العناصر يستحيل؟
وهاهنا قوم يريدون
أن يميزوا بين الكون والاستحالة بوجه لا يتميز ؛ وذلك لأنهم يضعون
مبادئ الأجسام كلها أجراما ، غير متجزئة ، أو سطوحا.
فأما جاعلوها أجراما غير متجزئة فيقولون إنها غير متخالفة إلا بالشكل ، وإن جوهرها جوهر واحد بالطبع ، وإنها لا تنقسم ، لا لأنها لا تقبل القسمة
الإضافية ؛ بل لا تقبل قسمة الانفصال لصلابتها التي هى عدم تخلل الخلاء عندهم ؛ إذ الانفصال بين الملاء والملاء
إنما هو عندهم بالخلاء.
قالوا ، وإن هذه
إنما تصدر عنها أفعال مختلفة لأجل أشكال مختلفة. لكن ليس من شأن شىء منها أن ينسلخ عن شكله. ولا يتحاشون أن يجعلوها مختلفة بالصغر والكبر.
ثم منهم من يرى
الأشكال متناهية ، ومنهم من يراها غير متناهية ، ويفتنون فى أن الأجزاء غير
متناهية ، وأنها تتحرك حركات كيف اتفق.
__________________
فمنهم من يرى
حركاتها حادثة عن حركات قبلها بلا نهاية ، كل حركة عن صدمة عن حركة عن صدمة ،
وأنها ربما ارتبكت واجتمعت فتحابست عن الحركة.
ومنهم من يرى لبعض
أشكالها خفة ، ولبعضها ثقلا. وكلهم لا يرون لطبائع هذه الأجرام كونا ولا فسادا. ولكنهم يرون أن للمركبات منها كونا وفسادا ، وأن كونها عنها وفسادها إليها ، وأن الكون هو باجتماعها ، وأن فسادها بافتراقها ، وأن استحالتها باختلاف الوضع والترتيب لتلك الأجزاء فى المجتمع منها.
أما الترتيب
فمثاله أن هذه الأجزاء لو كانت حروفا مثلا ، فوقع منها ترتيب فى الجهات على مثال هجاء مليك ، ثم حال التركيب ، فصار على هجاء كليم. فحينئذ لم يكن عندهم قد فسد ؛ إذ لم يتفرق. ولكن يكون
عندهم قد استحال.
وأما الوضع فأن
يكون مثلا كلاهما مليكا ، لكن أحدهما قد كتب فيه الحروف
على الترتيب المكتوب وجهات رءوس الحروف تلك الجهات لها ، والآخر إن حرفت أوضاع الحروف عن ذلك ، فكتب مثلا هكذا ميك ، حتى صارت اللام جهتها إلى غير جهة الكاف.
وهؤلاء قد تعدوا
هذا إلى أن جعلوا الاستحالة أمرا بالقياس إلى الإدراك والإحساس ، لا على أنها
موجودة فى طبائع الأمور. وقالوا ، وذلك كاللون المحسوس
فى طوق الحمامة. فإنه إذا كان على وضع ما من الناظر
إليه رؤى أسود ، وإذا صار له منه وضع آخر رؤى أرجوانيا
، وأنه ليس فى نفسه سوادا ولا أرجوانية ؛ بل ذلك له بالقياس إلى الناظر.
__________________
فهؤلاء أصحاب
الأجرام غير المتجزئة. وأما أصحاب السطوح فإنهم يرون الكون باجتماعها والاستحالة
لشىء قريب مما يقوله هؤلاء. ويجعلون مبادئ السطوح سطوحا مثلثة.
فهؤلاء بالجملة يرون أنهم أثبتوا كونا ، ولم يثبتوه. وذلك لأن الطبائع إذا كانت محفوظة فى
البسائط متشاكلة فى الجواهر ، فلا يفعل الاجتماع والافتراق أمرا غير زيادة حجم وعظم ومخالفة هيئة شكل. وذلك إما تغير فى الكم أو فى الكيف.
وأما النمو فلم يبلغنا فيه مذهب نذكره خارج عن مذهب الفرقة المنكرة للحركة أصلا ، وإن كان النمو من حقة أن تنبعث فيه شكوك.
ويكفينا فى عرضنا هذا من تعديد هذه المذاهب ما عددناه. فبالحرى أن نشتغل الآن بتعديد القياسات الفاسدة التي دعت هؤلاء إلى اعتقاد
هذه المذاهب ، ثم نقبل على فسخها وفسخ نتائجها من أنفسها.
__________________
الفصل الثاني
فصل فى
اقتصاص حجة كل فريق
أما أصحاب الكمون فقد دعاهم إلى ذلك أنه من المستحيل أن يتكون شىء من لا شىء ، إذ اللاشىء لا يكون موضوعا للشىء. فإذا كان كذلك فالمتكون ، إن كان موجودا ،
فتكونه عن شىء. فقد كان الشىء قبل تكونه. والمتكون هو ما لم يكن قبل تكونه. فالمتكون غير متكون ، هذا خلف.
وإذ قد صح بالعيان أنه قد يكون شىء عن شىء فليس التكون ما يذهب إليه ؛ بل هو البروز عن الكمون. وحسب بعضهم أن الاستعداد لأكوان بلا نهاية يحوج إلى أن يكون العنصر المستعد له بغير نهاية ،
فجعل الأجزاء المتشابهة عنده لما يكون عنه أجزاء بلا نهاية ، كيلا يضطر تناهى المادة إلى انقطاع الكون.
وأما أصحاب
الأسطقس الواحد فإن جميعهم اشتركوا ، أول شىء ، فى حجة واحدة.
فقالوا : لما رأينا الأشياء الطبيعية يتغير بعضها إلى بعض ،
وكل متغير فإن له سببا ثابتا فى التغير هو الذي يتغير من حال إلى حال ، فيجب من ذلك أن
يكون لجميع الأجسام الطبيعية شىء مشترك محفوظ ، وهو عنصرها.
__________________
ثم مال كل واحد
منهم إلى اختيار عنصر واحد. فيشبه أن يكون أقدمهم
من رأى أن العنصر الواحد هو الماء. ودعاه إلى ذلك ظنه أن العنصر ينبغي أن يكون
مطاوعا للتشكل والتخليق حتى يكون منه ما هو عنصر له. فكل ما هو أشد مطاوعة لذلك فهو أولى بالعنصرية. ثم وجد هذه المطاوعة كأنها فصل خاص بالرطوبة ؛ والناس كلهم يعتقدون أن الرطوبة ماء ، أو شىء الغالب عليه
الماء ، فجعل الماء البسيط هو العنصر.
قال ولهذا ما نرى الحيوانات لا تتخلق إلا من الرطب ، وهو المنى.
والذين رأوا أن
الاسطقس هو الأرض ، وهم قليل وغريب ، فقد
دعاهم إلى ذلك وجود جلّ الكائنات الطبيعية مستقرة على الأرض متحركة إلى مكان الأرض بالطبع ، فحكموا من ذلك أن الأرضية هى جوهر الكائنات كلها.
وأما الذين رأوا
أن الأسطقس نار فقد دعاهم إلى ذلك ما ظنوه من كبر جوهره ، كأنهم استحقروا حجم الأرض والماء والهواء فى جنبته ؛ إذ السماوات المشعّة والكواكب المضيئة كلها عندهم نارية.
وحكموا بأن الجرم الأكبر مقدارا هو الأولى أن يكون عنصرا ، وخصوصا ولا جسم
أصرف فى طبيعته من النار ، وأن الحرارة هى المدرة فى الكائنات كلها ، وما الهواء إلا نار مفترة ببرد البخار ، وما البخار إلا ماء متحلل. وما الماء إلا نار مكثفة ، وهواء مكشفا ماء. ولو كان للبرد عنصر يتصور به ، ولم يكن البرد أمرا عرضيا يعرض لذلك العنصر الواحد ، لكان فى العناصر بارد ، برده فى
وزن شدة حر النار.
__________________
وأما القائلون
بالهواء فقد دعاهم إلى ذلك مثل ما دعا القائلين بالماء
إلى القول به.
وقالوا إن معنى
الرطوبة أثبت فى الهواء منه فى الماء ، وذلك لأن مطاوعته للمعنى المذكور أشد. وما
الماء إلا هواء متكاثف ، والمتكاثف أقرب إلى اليبس منه إلى التخلخل.
وأما الأرض فهى ما عرض له التكاثف الشديد ، كما نراه من انعقاد كثير
من المياه السائلة حجارة. وأما النار فليست إلا هواء اشتدت به الحرارة ، فرام سموا.
وأما القائلون
بالبخار فدعاهم إلى ذلك أنهم رأوا جرما نسبته إلى العناصر نسبة
الوسط ، وأنه تفضى به درجة من التخلخل إلى الهوائية ، ودرجة أخرى إلى النارية
، ثم تفضى به درجة من التكاثف إلى المائية ، ودرجة أخرى إلى الأرضية ، وأنه ليست هذه الخاصية لغيره ، وأن العنصر هو الذي تتساوى نسبته إلى غيره لا غير.
وهؤلاء كلهم فقد اشتركوا فى حجة واحدة هى التي ذكرناها.
وأما القائلون
بالأرض والنار فدعاهم إلى ذلك أن سائر الأسطقسات تستحيل آخر الأمر إلى هذين الطرفين ، والطرفان لا يستحيلان إلى أسطقسات أخرى خارجة عنهما.
فهما اللذان ينحل
سائرهما إليهما ، ولا ينحلان إلى شىء آخر.
فهما الأسطقسان. ولذلك هما البالغان فى طبيعة الخفة والثقل ، والآخران يقصران عنهما. وإذ لا
حركة أسطقسية إلا اثنتان فالأغلب فى الاثنتين هو الأسطقس. والنار والأرض بالقياس إلى غيرهما أغلبان ، ولا شىء أغلب معهما. ثم الهواء نار خامدة مفترة مثقلة بالماء المتبخر ،
والماء أرض متحللة سيالة خالطتها نارية ، فهى أخف من
الأرض.
__________________
وأما القائلون
بالأرض والماء فقد دعاهم إلى ذلك تساوى حاجة المركبات إلى الرطب واليابس. فكما
أنها تحتاج إلى الرطب لتقبل التخليق ، كذلك
تحتاج إلى اليابس ليحفظ التخليق. فإن الرطب كما أنه سهل القبول لذلك فهو أيضا سهل الخلع له. واليابس كما أنه صعب القبول لذلك فهو أيضا صعب الخلع له. وإذا تخمر اليابس
بالرطب استفاد المركب من الرطب حسن مطاوعته للتخليق ، ومن اليابس شدة استحفاظه له. واليابس والرطب فى المشاهدة هما الأرض والماء لا غير. وأما الهواء فبخارى مائى. وأما
النار فهواء أسخنته الحركة.
وأما القائل بالأربعة مع الغلبة والمحبة فقد دعاه إلى القول بالأربعة أنه لا شىء منها
أولى بأن يجعل عنصرا لصاحبه من صاحبه أن يجعل عنصرا له
، وأن القوى الأولى هى الأربع ، والمزاوجات الصحيحة منها هى أربع ، على ما سنحقق القول فيه بعد.
ثم هذه الأربعة لا
تتكون منها الكائنات ولا تفسد إليها إلا باجتماع من أجزائها إلى المركب ، وافتراق من المركب إليها. ولن
يجتمع منها المركب إلا بافتراق يقع فيها ؛ وأنه لا سبيل إلى الظن بأن شيئا ينفعل بنفسه إلى اجتماع أو افتراق ؛ إذ كل منفعل فإنما يخرجه من القوة إلى الفعل فاعل ؛ وأنه من المستحيل أن تكون طبيعة واحدة بسيطة يصدر عنها فى موضوعات بأعيانها جمع وتفريق معا ، وإن كانت الطبيعة المركبة لا يبعد أن يصدر ذلك عنها. ولكن إنما يصدر حينئذ كل واحد منهما عن جزء من المركب خاص
، فيكون الجمع يصدر عنه عن جزء ، والتفريق عن آخر. ويكون المصدران الأوليان لذينك
الفعلين هما الجزءان اللذان يجب أن يكونا مختلفين فى الطباع
__________________
لأن فعليهما
مختلفان فى الطباع ، ويكون كل واحد إما قوة مجردة ،
وإما قوة فى جسم.
وأحرى ما تسمى به القوة الجماعة هى الألفة
والمحبة ، وأولى ما تسمى به القوة المفرقة المشتته الموجبة تباعدا بين المتشاكلات هو الغلبة والبغضة والعداوة.
قالوا فيجب ضرورة
أن يكون هاهنا أسطقسات أربعة تتصرف فيها الغلبة والمحبة ، وإذ التصرف إنما هو بالجمع والتفريق ، وذلك لا يوجب تغيرا فى الجوهر ، فلا سبب لإيقاع تغير فى جوهر العناصر. فلذلك ما لا يرى هذا القائل أن العناصر يستحيل بعضها إلى بعض البتة ، ولا يراها تقبل كونا وفسادا. وليس يقتصر من فصولها على الكيفيات الأربع
فقط ؛ بل يرى لها في ذواتها الفصول من جميع الكيفيات الأخرى. لكنه يراها
أربعا لا غير. فهى عنده متناهية
العدد والمقدار.
وأما أصحاب السطوح
فيشبه أن يكون داعيهم إلى ذلك هو ما اعتقدوه من أن تكوّن الأشياء عن العناصر إنما هو بنوع التركيب ، وذلك التركيب إنما هو نتيجة الفعل
والانفعال ، وأن ذلك الفعل والانفعال باللقاء والتماس ؛ وأن التماس الأول للأجسام إنما هو بالسطوح. فيكون أول فعل وانفعال عند التركيب إنما هو
للسطوح. وما كان أول ذينك فيه فهو العنصر. فالسطوح هى العناصر. ولأن العناصر ينبغى
أن تكون بحيث تتركب منها الكائنات تركيبا لا يؤدى إلى المحال ، والسطوح التي تحيط بها غير الخطوط المستقيمة يؤدى تأليفها لا
محالة إلى فرج تبقى بينها ، فينبغى أن يكون السطوح الأولى مستقيمة الضلوع. وليس فى
المستقيم الأضلاع شىء أقدم من المثلث. ويمكن أن
__________________
يؤلف من المثلث
سائر الأشكال المستقيمة الخطوط ، كما يمكن أن يحل إليها ، فتكون السطوح العنصرية هى السطوح المثلثة ، ثم يؤلف منها
تأليف يكون منه شكل مائى ، وشكل
هوائى ، وشكل نارى ، وشكل أرضى.
فأما النارى فهو الذي يحيط به أربع قواعد ومثلثات ، فتكون صنوبرية نفاذة قطاعة مستعدة للحركة.
وأما الهوائى
فالذى يحيط به عشرون قاعدة مثلثات ، فكون شديد الانبساط للإحاطة.
وأما المائى فالذى
يحيط به ثمانى قواعد مثلثات.
وأما الأرضى فهو مكعب ، والمكعب أضلاعه مربعات تأتلف بالقوة من مثلثات ، وهو لتكعيبه غير
نافذ ، ولا ثاقب. فلذلك هو غير مسخن.
فإن جعلوا تأليفه
بالفعل أيضا من مثلثات وجب أن يوجدوا للنار جزءا من الأرض. وكذلك إن جعلوا هذه
السطوح منقسمة ، وجب أن يمكنوا من إيجاد كل عنصر فى
العنصر الآخر.
قالوا : وأما
السماوى فيحيط به اثنتا عشرة قاعدة مخمسات ، كل مخمس مؤلف من خمسة مثلثات.
ويشبه أن يكون
داعيهم إلى ذلك شدة حرصهم على العلوم الرياضية وإيضاح المذاهب فيها لهم ، وانغلاق الطبيعة عليهم ؛ إذ كان نظرهم فى الطبيعيات ، والزمان
__________________
ذلك الزمان والفلسفة فى الابتداء نظر المبتدى والشادى. والذي لم يتمرن ويتدرب فهو بعد فى الأمانى ، فراموا أن يتأولوا المشكل من الواضح.
وهذه المخمسات الخمسة ستقف عليها فى إحدى الجمل الرياضية فى هذا الكتاب.
ويشبه أن يكون فى
تكثير العناصر وتوحيدها مذاهب كثيرة غير ما ذكرناها لم تحضرنا فى الحال.
وأما أصحاب
الأجرام الغير المتجزئة فإن الفيلسوف الذي هذب مبادئ هذه الصنائع فقد أسهب يثنى عليهم ، ويقرظهم ، على تخطئته إياهم ، ويقدمهم على سائر الطوائف ، وخصوصا على أصحاب السطوح ،
قائلا إنهم أخذوا مبادئ محسوسة مقرا بها ونسقوا عليها القول نوعا من النسق ، ثم
حافظوا على أصولهم ، ولم يزيغوا عنها فى أكثر الأمر. وذلك لأنهم
اعترفوا بوجود الحركة ، ثم صاروا إلى إثبات الخلاء ، لا كالذين أخذوا أخذا مسلما أن لا خلاء ، وأوجبوا منه أن لا حركة. وذلك أن هؤلاء ساعدوا أولئك على ما وضعوه مسلما من أن الحركة والقسمة متعلقة بالخلاء.
ثم كان وجود الحركة أظهر وأعرف من عدم الخلاء ؛ لأن هذا لا يشك فيه صحيح الرأى ، وفى ذلك
موضع شك كثير. فتشبث هؤلاء إنما هو بجنبته أوضح من جنبه تشبث أولئك. فقد فاقوا أولئك فى هذا الاختيار. ومن هناك قالوا : إن ما لا خلاء فيه فلا يتكثر ، ولا ينقسم. فكل جزء لا ينقسم ، وفاقوا أصحاب السطوح بأن
أصحاب السطوح قد تذبذبوا ، وانبتوا فى الوسط : وذلك
__________________
لأن نسبة الأجرام
إلى السطوح هى كنسبة السطوح إلى الخطوط ، وكنسبة الخطوط إلى النقط ، وإنه إن صح تركيب الأجسام من السطوح فلا مانع من تركيب السطوح من الخطوط والخطوط من النقط. فإما أن يبطل تركيب المتصل من الغير المتجزئات ، وإما أن يقال بالتركيب من النقط. فإن بطل التركيب من النقط ، فقد
بطل التركيب من سائر ما لا يتجزأ ، من النحو الذي تركب عليه. وبقى أن الجسم يتناهى
فى القسمة إلى أجسام لا تتجزأ ، وإن صح ذلك النحو من التركيب فالنقط هى الأوايل
لا السطوح.
ولأن تؤلف الأجسام من أجسام لا تتجزأ صلابة ، لا فقدان اتصال ومساحة
، أقرب إلى الصواب من أن تؤلف عما لا اتصال له فى
جهة التأليف.
وهؤلاء أيضا فقد
بذوا عنده سائر الآخرين فى أن كان لهم سبيل إلى التفرقة بين الكون والفساد والاستحالة ، ولم يكن لأولئك
المذكورين.
فأما حجة هؤلاء
فقد ذكرناها فيما سلف ، وأومأنا إلى سبب الغلط فيها.
__________________
الفصل الثالث
فصل فى
نقض حجج المخطئين منهم
قد بقى الآن أن نشير إلى سبب الغلط فى حجة حجة من الحجج المقتضية. أما القائلون بالكون والتداخل ، وأن الكون ظهور الكامن ، فالسبب فى غلطهم هو
ظنهم أنه إذا كان مسلما أن الشىء لا يكون عن لا شىء فقد صح أن كل شىء يكون عن مشابهه فى الطبع ، وأنه
إذا كان مسلما أن لا شىء لا يكون موضوعا لشىء استحال أن يكون الشىء عن لا شىء.
أما الأول فلنضعه مسلما ، فيجوز أن يكون الشىء لم يتكون عن لا شىء ، ولكن تكون عن الشىء ، لكن عن شىء ليس مثله فى النوع ولا مشابهه فى الطبع ، ويكون مع ذلك لم يتكون عن لا شىء.
وما قوله فى اليد والرجل وفى البيت وفى الكرسى؟ هل هذه الأشياء متكونة عن لا شىء؟ فإن كانت عن لا شىء فقد بطلت المقدمة. وإن كانت عن شىء ، فهل ذلك الشىء مثل أم ليس بمثل؟ وليس يمكن أن يقال إن الوجه متكون عن الوجه ، والكرسى عن الكرسى ، تكونا بالحقيقة إلا بالعرض ، وعلى أن الشىء عن الشىء يقال كما يقال إن الكرسى
__________________
عن الخشب ، وهو
غير شبيه. وكيف يكون الموضوع شبيها بالمركب منه ومن الصورة ، وقد تكوّن كما تكوّن عن شىء قبله بطلت صورته لقبول صورة هذا ، كما
يتخذ من الباب كرسى ، فيكون ليس أيضا عن الشبيه.
وأما المقدمة
الأخرى ، وهى أن لا شىء لا يكون موضوعا للشىء فإنما يصح هذا إذا قيل إنه كان عنه ، وهو موجود فيه. وأما إذا كان الوضع أن الشىء كان
من لا شىء ، أى بعد لا شىء لم يصر لا شىء موضوعا للشىء ، والأولى أن يقال حينئذ لا عن شىء ، حتى لا تقع هذه الشبهة. على أنه
ليس نقيض قولنا إن الشىء كان عن الشىء هو أن الشىء كان لا عن شىء ،
أو كان لا عن شىء ؛ بل إن الشىء لم يكن عن شىء. وهذا إذا كان
الشىء مرادا به أمرا بعينه. وأما إن كان مهملا فلا
نقيض حقيقيا له ، وإن كان بمعنى العموم ، حتى يكون كأنه قال كل شىء
يكون عن شىء ، فليس نقيضه أن الشىء لا يكون عن شىء.
وذلك لأن معنى هذا أن كل شىء لا يكون عن شىء. وهذه المقدمة ضد
الأولى ، لا نقيضها.
وأما الحجة التي يشترك فيها مثبتوا أسطقس واحد ، وهى أن
هذه المسماة بالأسطقسات يتغير بعضها إلى
بعض ، فلا بد من شىء ثابت ، فإنما أثبتت لهم أن شيئا
مشتركا ، ولم تثبت أنه جسم طبيعى ذو صورة مقيمة إياه بالفعل ، حتى يطلب بعد ذلك أنه أى الأجسام ، وترجم فيه الظنون ؛ بل يجوز أن يكون ذلك الشىء جوهرا قابلا لصورة واحد من العناصر
يصير جسما طبيعيا بتلك الصورة ، وإذا سلخها اكتسب أخرى.
__________________
ثم مرجح الماء من
بينهم ، لما فيه من قبول الشكل ، يفسد اختياره الماء لما فيه من
التخلية عن الشكل. فإن جعل تكاثفه حافظا للشكل فقد جعل تكاثفه مزيلا عنه الصفة التي
لها صلحت للأسطقسية ، ومرجّح الهواء
مخاطب بمثل ذلك. ومرجح الأرض يفسد مقدمته لما فى
الأرض من امتناع الاجتماع بعد الافتراق والامتناع عن قبول الشكل ، وأنه ليس كل متكون فإنما الأرضية غالبة عليه.
فههنا متكونات
هوائية ومتكونات مائية. وكثير من المتكونات لا يرسب فى الماء ، ولو كانت الأرضية غالبة لرسب جميعها. ومع ذلك فليس إذا
رسب كل متكون دل على ذلك أكثر من أن الأرضية غالبة فيه ؛ ولم
يدل على أن لا خليط للأرض فيه. فإن الغالب غير المنفرد فربما كان امتزاج من عدة ، وواحد منها غالب بالقوة أو بالكمية.
وأما القائلون
بترجيح النار فقد اعتمدوا فيه الكبر ، وظنوا أنهم صححوا الكبر بكبر السماوات وعظمها. فما يدرينا أن السماوات كلها
نارية حتى عسى أن يصح ما يقولونه؟ وما الذي يوجب اختصاص النار بالعنصرية لحاجة
الكائنات إلى الحرارة. كأنها لا نحتاج إلى الرطوبة ، وكأنها لا تحتاج إلى اعتدال من الحرارة بمزاج البرودة؟ وأما فى أن النار قد تمخض نارا من أنها هى العنصر ، فإنه إن كان
الما. نارا مستحيلة ، أو كانت الأرض نارا غير محضة ، فيكون من النار ما ليس بمحض.
وأما إذا أخذت النار التي هى مجاورة للفلك فالذى يدل على محوضتها يدل أيضا على
محوضة الأرض المجاورة للمركز. ومع هذا كله ، فما المانع من أن يكون كل واحد من هذه أسطقسا ،
__________________
لكن الواقع فى
جوار الفلك لا يرتفع إليه من البواقى ما يشوبه ، وأما التي عند
المركز فإن الشعاعات الفلكية والتأثيرات السماوية تمزج بعضها ببعض بما يفيض من المياه ، وما يصعد من الأبخرة والأدخنة الدائمة الحدوث ، فلا تبقى صرفه. وهذا لا يستبين من أمره أنه ممتنع محال.
وأما القائلون
بالبخار لأنه متوسط بين العناصر ونسبته إلى الأطراف البعيدة نسبة واحدة ، وإن كانت
مختلفة ، بالتخلخل والتكاثف ، فمن سلم لهم أن الشىء ، إذا كانت
نسبته إلى أشياء أخرى هذه النسبة كان أولى أن يكون عنصرا. ولو كان هذا حقا لكان كل
واحد من العناصر بهذه الصفة ؛ وذلك لأن الهواء أيضا إذا يبس كان نارا ، وإذا يبس
أشد كان أرضا ، وإذا برد كان بخارا ، وإذا برد أشد كان
ماء. ولا فرق إلا أن الانتقال هناك بمتقابلين ، وهما التكاثف
والتخلخل ، والانتقال هاهنا بغير متقابلين. إلا أنه ليس بينا بنفسه
أنه يجب أن يكون المتوسط الذي ينتقل إلى الأطراف بمتقابلين هو الأسطقس الأول ، لا غير.
على أن البخار ليس
شيئا إلا ماء قد تفرق وانبسط ، كما أنه ليس الغبار والدخان إلا أرضا تفرق
وانبسط. وليس هو عنصرا خامسا ، أو بعنصر خامس ؛ بل هو فتات بعض العناصر
وبثاثته ، مع بقاء نوعه. وإنه لو انسلخ نوعه فى ذلك الطريق لا نسلخ
إلى الهوائية لا غير ، ولم ينسلخ إلى البخارية.
ولا يلتفت إلى ما
يقوله من يظن أن الأسطقس لا يستحيل إلى
آخر إلا بتوسط ،
__________________
فلا بد من بخار. فإن المسألة مع البخارية قائمة. ويلزم أن يكون بين كل أسطقسين وسط آخر ، وليس كذلك ؛ بل الكون أمر يكون دفعه بلا توسط ؛ بل البخار مثل الغبار إلا أن البخار والدخان إنما تفرقا عن سبب حار ، والغبار عن سبب ساهك. فإذا جعل البخار متوسطا فبالحرى أن يجعل الدخان متوسطا ، إن لم يجعل
البخار متوسطا من العناصر ، لأنه ظاهر من حاله أنه متفرق فقط ، وتصير حينئذ الأجسام المعتبر فيها هذه المناسبات ستة. فلا يكون البخار وسطا بين
العناصر ؛ بل ليس البخار من حيث هو بخار وسطا بين الماء والهواء ، وإلا لكان مكانه الطبيعى فوق مكان
الماء دون مكان الهواء ، فلا يكون خارقا بحركته للهواء ، والهواء نفسه لا يتحرك فى
الهواء ؛ بل يقف بالطبع ، ولو فى أقرب حيزه من الهواء.
فإن قيل : فلأن لا
يخرق الهواء ، وهو ماء ، أولى.
فنقول : إن الماء
يعرض له أن يقسره الحرّ بالتحريك إلى فوق ، وربما قسر أجراما ثقل من الماء ، كقطع خشب راسبة إذا اشتعلت أصعدتها النار القوية فى الجو.
وليس هذا حكم
البخار فإنه ليس يكون البخار ، على قولهم ، شيئا عرض له عارض حرارة
مصعدة ؛ بل جوهر البخار هذا الجوهر ، ومعنى اسمه هذا المعنى ، حتى إذا بطل
عنه هذا المعنى لم يكن إلا ماء قد كان قسر على التصعد.
فإن لم يكن ذلك له بالقسر كان بالطبع. فكان يجب أن لا يكون مكانه الطبيعى إلا فوق الماء دون الهواء ؛ فما كانت حركته الطبيعية تجاوز ذلك الحد ، وتخرق الهواء ، فإن كان
هذا التصعد والسخونة عارضين للبخار ، بحيث لو زالا بقى البخار ، فالقول ما قلناه
من أن البخار ماء مبثوث.
__________________
وأما القائل
بالمحبة والغلبة فلأنه لا يرى كونا ، ولا فسادا للعناصر ، ثم ينسى ذلك ، فيجعل العناصر
قد تستحيل عند غلبة المحبة وتأحيدها إياها ، وجمعها لها كرة هى مخالفة فى الطباع للعناصر. وكذلك تستحيل الكرة ، فتتفرق إلى العناصر. فيكون الاجتماع عنده يردها إلى المادة
المشتركة لا محالة ، ويفسخ عنها صورة العناصر. ويكسوها صورة الكرة ؛ والافتراق
يخلع صورة الكرة عنها إلى صورة العناصر. ويلزم من وجه أن يجعل المحبة محركة حركة
خارجة عن الطبع ، وهى طبيعة التحريك عنده.
أما أنه كيف تصير علة لذلك فلأن الطبيعى من حركات العناصر عند الجميع ، وعند قائل هذا
القول ، يوجب تباعد بعضها عن بعض ، ومفارقتها بأن تنزل الأرض ، وتصعد النار ؛ وإذا تحركت إلى الاتحاد فقد أخرجت عن طبيعتها. والمحبة أيضا ، تصير عنده مفرقة ، ويتحاشى من ذلك.
أما كيف يلزم أن
تكون مفرقة فلأنها تفرق بين المادة وصور العناصر ، فتكون قد فرقت بين ما هو أشد مجاورة من
مجاورة الأجسام المتلاقية أو المتصلة بعضها ببعض. وأيضا
فلأنها لا تجتمع إلا فرقت أى جمع نسب إليها.
وأما القائلون
بالأرض والنار فقد أضلهم ظنهم أنه لا استحالة إلا على طريق الاستقامة. وهم ، مع
ذلك ، يسلمون أن الماء له استحالة إلى جهة الأرض ، وأخرى إلى جهة الهواء والنار.
فلو كان اعتبار الاستحالة مقصورا على استقامة من جهة إلى جهة ، من غير انعكاس ،
لكانت المائية إنما تتجه فى استحالتها مثلا إلى الهوائية
وإلى النارية ، ولا تنعكس ، حتى تكون الهوائية تتجه إلى المائية ، والمائية إلى
الأرضية.
__________________
فإذا كان كذلك فلا
واجب أن تكون النار تأخذ فى استحالتها ، لو كانت مستحيلة إلى
عنصر آخر أخذا مستمرا فى استقامة استحالة الهوائية إليها ؛ بل يجوز
أن يكون بعكس ذلك ، وهو الذي يتصل باستمرار استقامة استحالة الهوائية إلى المائية
، حتى تكون النار منعكسة باستحالتها إلى الهوائية.
وأما المقتصرون
على الأرض والماء فقد جعلوا العنصر هو البرد. ومعلوم أنه لا متكون عن مجرد ماء وأرض إلا الطين ، وأن أصناف الطين لن يستغنى فى تميز بعضها عن بعض عن مخالطة الحار الطابخ. وليس إذا كان للمركب شىء به يقبل الصورة ، وشىء به يحفظ فقد كفى ذلك ؛ فإن أقل ما يحتاج إليه المركب هو
الشكل والتخطيط ، بل قد يحتاج إلى قوى وأحوال أخرى ، خصوصا فى النبات والحيوان. ولا
شىء كالحار الغريزى فى إعانة القوى على حفظ النوع والشخص.
فأما أصحاب السطوح
فقد غلطوا ؛ إذ ظنوا أن الانفعال أولا هو فيما يلى
الشيء أولا ؛ بل الانفعال فيما من شأنه أن ينفعل. ولو كان كذلك لكان السطح يتحرك
من محرك الجسم بالملاقاة قبل الجسم ، وكان
البياض أيضا يسخن قبل الجسم ، ولكان يجوز أن تكون نفس المماسة منفعلة بالسخونة ؛ إذ هى مؤدية إلى ذلك ، وبها تنفعل.
__________________
الفصل الرابع
فصل فى
إبطال قول أصحاب الكمون ومن يقرب منهم
ويشاركهم
فى نفى الاستحالة
وإذ ليس نقض
القياس المنتج لمطلوب ما كافيا فى نقض المطلوب نفسه. وكيف وربما أنتج صادق عن مواد كواذب ، وربما أنتج صادق
لا عن قياس صحيح فى صورته؟ فبالحرى أن نشتغل بنقض مذهب نفسه لنتوصل من ذلك إلى تحقيق التفرقة بين الكون والفساد وبين سائر
الحركات ، ونستعد لتحقيق القول فى عدد العناصر وطبائعها ، وفى الفعل والانفعال ،
والامتزاج.
ولنبدأ بمذهب
أصحاب الكمون :
أما الطبقة القائلة منهم إن فى كل جسم مزجا من أجزاء كامنة لا تتناهى ، فيكذبهم ما علم قبل من امتناع وجود جرم متناه مؤلف من أجزاء فيه بلا نهاية ، كانت أجراما أو غير أجرام ، كانت متساوية الكبر ، إن كانت أجراما ، أو مختلفة.
وأما القائلة منهم بتناهى ذلك ، مجوزة أن يكون عن كل ماء نار أو أرض أو غير ذلك ، على سبيل الانتقاض ، فيفسد مذهبها أحاطتنا بأن الماء إذا انتقضت عنه الأجزاء
__________________
النارية المتناهية
بقى هناك ماء ، إن استحال نارا لم يكن كون كل نار عن ماء إنما هو
بسبيل الانتقاض والتميز ، بل على سبيل سلخ
الصورة ؛ وإن امتنع عن الاستحالة لم يكن كل ماء من شأنه أن يكون عنه نار أو هواء. وأن اضطر إلى أن يقول إن هذا الاختلاط بحيث لا يتأتى كمال التميز فيه ، لم يخل إما أن يكون جميع الأجزاء النارية التي فى الماء والهواء سواء فى شدة الملازمة للأجزاء المائية ، أو بعضها ألزم ، وبعضها أسلس طاعة للتميز. فإن كان الجميع سواء فى ذلك ، وجازت المفاصلة على جزء
جازت أيضا على كل جزء. وإن كان بعض الأجزاء ليس من شأنه أن
يفاصل فإن كان ذلك لطبيعة النارية فالآخر مثله ؛ وإن كان لطبيعة مضافة إليها فهو غلط آخر ، والكلام
عليه ، وفى مخالطته ومفاصلته ثابت. ومع ذلك ، فيبقى الذي لا يفاصل فى
طائفة من الماء تصير به تلك الطائفة ماء لا يتكون عنه نار.
وأما إن قيل أن الماء يتكون عنه نار أو هواء إلى أن تتميز الأجزاء المائية ، ويبقى
ماء صرفا لا يتكون عنه نار بعد ذلك ـ وهو قول غير قول المخاطبين فى هذا الوقت ـ فلا
يلزم هؤلاء شىء مما قلنا البتة ، وكانت مخاطبتهم من وجه آخر ، وبالكلام المشترك المخاطبة جميع من رأى أن الأشياء التي نسميها نحن الاستحالة ، إنما هى بروز من الكوامن ، أو مداخلة مبتدأة. وذلك لأن الماء إذا سخن
لمجاورة النار ففيه ظن من يرى أن ناريات فيه قد برزت ، وظن من يرى أن ناريات قد نفذت فيه ، وداخلته من النار المجاورة.
والشركة بين
المذهبين إنما هى فى شىء واحد ، وهو أن الماء لم يستحل حارا
__________________
ولكن الحار نار
يخالطه والفرق بينهما أن أحدهما يرى أن النار قد كانت فى الماء ، لكنها كانت كامنة ، والثاني أن النار لم تكن فيه ، ولكن الآن قد خالطته. فيجب أن نوضح
فساد كل واحد من المذهبين.
فأما المذهب الأول فمما يوضح فساده تأمل حال هذا الكمون وما معناه. فإن جوزوا فيه تداخل
الأجسام فقد ارتكبوا المحال الذي بان فساده من كل وجه. وإن لم يجوزوا ذلك ، ولكن
أومأوا إلى مجاورة ، ومخالطة تكون ، ويكون الكامن هو المستبطن من الأجزاء ، وهذا الاستبطان لا يعقل منه إلا انحصارها فى باطن الجسم
وبعدها عن بسيطه وظاهره ، فيجب أن يكون باطن الماء مكانا للكامن من النيران
، وتكون كيفية ذلك المكان مثل كيفيته الماء المسخن الذي لا يفعل تسخينه
أمرا غير إبراز الكامن فيه إلى ظاهره ؛ بل يجب أن يكون أسخن من ذلك بكثير ، وذلك لأن الانحصار فى الباطن أجمع من الانتشار فى الظاهر. والمعوّل على تصديق هذه القضية وتكذيبها هو على الحس . فإن ظاهر الماء وباطنه ، وأى حد وجزء أخذت منه ، هو من طبيعة واحدة متشابهة.
وكذلك حال الأجسام
السود والبيض ، والحلوة والمرة وغير ذلك ؛ فإنها يوجد منها ما يقبل الاستحالة إلى الضد ، مع دلالة الحس على تشابه أجزائه ، وأنه إذا استحال
أيضا إلى الضد لا يكون ذلك بأن يبرز شىء إلى الظاهر ، ويكمن ضده فى الباطن ، بل يكون إذا سخن أيضا ظاهر البارد فإن باطنه أيضا سخين. فإن كان الكامن كافيا
__________________
بالمداخلة التي هى
محالة ، فيجب أنها إذا انفكت حتى يخلص البارد من الحار ، والحار من البارد ، أن تأخذ فى كل حال مكانا أعظم وليس كذلك. فإن الانفكاك الذي يخلص الحار ظاهرا من البارد قد يتبعه ويلزمه العظم. وأما الانفكاك الذي يميز البرد فإنه ينقص الحجم نقصانا بيّنا للحس : فإن كان ظهور البرد يوجب فرط مداخلة ، والمداخلة توجب زيادة خفاء ، فيكون الاستعلان استخفاء.
على أن المداخلة
تقضى على المتداخلين بحكم واحد. فإن حكم كل واحد منهما من الآخر حكم
الآخر منه.
وإن كان الكامن كامنا بالمجاورة فلا محالة أن للكامن حيزا يختص به ، وأن الكامن باطنه ضد ظاهره ، أعنى باطنه الجرمى وليس هذا بموجود فى الحس ، وليس هذا الوجود إلا وجودا حسيا. فليس هذا بموجود أصلا. ثم ما بال
الماء مثلا إذا أراد أن يبرز الكامن منه من الهواء احتاج
ذلك الهواء إلى مكان أعظم من المكان الذي احتاج إليه وهو فى الماء؟ ومعلوم أنه إذا
كان على حجمه وقدره المتقدم لم يحتج إلا إلى مثل مكانه. فلا يخلو إما أن تزداد
تلك الأجزاء حجما ، أو يحدث هواء جديد ، أو يقع خلاء.
لكنها إن ازدادت
حجما فقد يعرض للأجزاء المذكورة أن ينفعل بغير التميز ، وهذا خلاف أصل
المذهب. ولا محالة أن ازدياد حجمها تابع لانفعال يعرض لها ، أو مقارن يقارنها.
وظاهر أن العلة لذلك هو التسخين ، وهذا إثبات للاستحالة. وليس للاستحالة عندهم وجه إثبات.
وإن صار الهواء
أكبر هواء مضاف إليه حدث فقد حدث هواء جديد ؛ ولزم
__________________
القول بالكون مع
القول بالاستحالة. وكذلك الاعتبار العكسى إذا حدث
من الحار بارد ، وطلب حجما أصغر.
وأما الخلاء
ووقوعه فلا هو حق ، ولا هم يقولون به. ونحن نشاهد مشاهدة لا يمكن
دفعها من استحالة الماء اللطيف حجرا صلدا وهو أرض أو أرضى. فإن
كانت هذه الأجزاء الصلبة موجودة فى الماء كامنة فكان يجب أن تفعل فى الماء من الخثورة ما يفعله سحقنا هذا الحجر وتهييئنا إياه وفرجنا إياه بقدر من الماء المقطر المصعد الصافى قدره أضعاف ذلك. وكلما
أمعن هذا المزج وزادت الأجزاء تصغرا ازداد الماء
خثورة. فكان يجب أن يكون فى شىء من الماء الأول ، ظاهره أو باطنه ،
خثورة ما لا أقل من الخثورة التي نجدها عند مزجنا إياها به.
وكذلك قد يمكن أن
تتخذ مياه حارة محل الحجارة مياها سيالة فى الحال. ولم لا والمادة مشتركة قابلة لكلا الأمرين؟
فأين هذه الأجزاء السيالة من الحجر فى باطنه أو ظاهره؟ وهل أكبر ما يظن بالكامن أنه مغلوب ، فكيف صار غالبا ولم تحدث له زيادة باستحالة أو كون. فإن كانت الأجزاء الرطبة المقدار فى الحجم ، فكيف صار مقدارها غالبا عند الانحلال ولم يحدث شىء؟
وإن كانت مساوية معادلة ، وكانت مغلوبة فى الظاهر فلم ليست غالبة فى الباطن. وإن كانت النار الباطنة هى الجسم الذي لا
يحرق ولا يسخن ، ثم إذا جاوزه فغلب فأبرزه صار محرقا مسخنا ، والماء الباطن على صفة أخرى فقد
ثبتت الاستحالة له ؛
__________________
إذ صار ما لا يحرق بكيفيته محرقا بكيفيته ، اللهم إلا أن يلتجئوا إلى أن الحركة تحرق بالشكل النافذ
، فيتركوا قولهم.
وأيضا فإن كل واحد
من الأجزاء البسيطة فى الخليط لا يخلو إما أن يكون
مما لا يتجزأ أصلا كالنقطة ، فيلزم أن لا ينتظم منه ومن غيره متصل ، وقد فرغ من
هذا. وإن كان جسما فيلزمه لا محالة شكل ؛ فإن لكل جسم طبيعى شكلا طبيعيا.
ويلزمه أن يكون
شكله مستديرا ؛ لأنه بسيط ضرورة ، ولأنه لا ينفعل ، فلا يغلب على شكله البتة. وإذا كانت أشكالها مستديرة لزم أن يقع هناك فرج خالية. وهذا مخالف للحق ، ولمذهبهم جميعا.
ومما يجب أن
يؤاخذوا به حال الكامن ، وأنه ما الذي يوجب بروزه ، أقوة طبيعية له ، فيجب أن لا يتأخر إلى وقت ، أو سبب من خارج؟ وذلك السبب من خارج إن كان حركة فلا يخلو إما أن يؤثر فيه أثر أو يحدث فيه قوة حركة وانبعاث يتبع ذلك الأثر وتلك القوة حركة منه ، فيكون قد انفعل عندهم الشىء انفعالا فى الأثر ، واستحال
فيه ، وصحت الاستحالة ، أو يكون تحرك بلا أثر ينفذ من المحرك إلى المتحرك ، بل
إنما يحرك بجذب أو دفع ، أو غير ذلك. فإن كان الجذب أو الدفع بحماسة وجب أن يكون المحرك إلى خارج قد نفذ أولا إلى غور الجسم فلاقى كل جزء من الكامن الذي يبرز. فيجب أن يكون كل مستحيل عند ما يستحيل يعظم حجمه لنفوذ الجاذب أو
الدافع فيه ، وإن كان لا يحتاج إلى مماسة ؛ بل إلى حد ما من المجاورة.
__________________
ونحن نشاهد أن
مجاورة الحار تسخن ، ومجاورة البارد تبرد. ونعلم أن الكامن ممكنه ، قوى كثيرة ، وإنما تقل فى الظاهر. فإن كان المبرز هو مجاورة الشبيه ، كيف كانت ، فلم لا تحرك الأجزاء الكامنة
المتجانسة المتجاورة بعضها بعضا إلى البروز ، إن كان سبب البروز والظهور مجاورة
الشبيه؟ وإن كان المجالس ليس سببا للبروز لأنه مجانس فقط ؛ بل لأنه
مجانس بارز فهو محرك نحو جهته ويميل نحو مقاربه ، فلأن ينجذب
الكامن إلى مجاورة الأقرب إليه الكامن ، أولى من أن ينجذب
إلى مجاور تحول بينه وبينه بالضد الآخر ، اللهم إلا إن قيل
إن السبب فى ذلك أمران :
أحدهما : هرب الضد
الظاهر إلى خلاف جهة الضد.
والثاني : انتقال
الضد الآخر الباطن إلى شبيهه الذي هو ضد الهارب.
فيجب أيضا أن يكون
الظاهر البارز يهرب من الكامن اللهم ، إلا أن يجعل الأغلب أجذب. ومعلوم أن الذي يلى جسما
من جهة واحدة يتحرك إليها بالاستقامة هو ما يساويه. تم إن فصل شىء فهو مباين لذلك خارج عنه لا ينفع أن يقال باشتداد القوى عند ازدياد المجاورات وهو استحالة ثم إن لم يكن الضد
عند الاستحالة. يمكن ، ولكنه يكون مخالطا لضده مخالطة غالبة ، فإذا أراد أن يستحيل المستحيل تحلل هو ، وفارق ظاهر المستحيل. أو
ظاهره وباطنه ، فيبقى الضد الآخر صرفا ـ لم يخل إما أن يكون مع تحلله يسد ضده مسده أولا يسد مسده. فإن لم يسد مسده وجب أن
يكون كل مستحيل ينقص حجمه أو يكون كل مستحيل يتخلخل وينتفش. وإن كان قد يسد ضده مسده ، على سبيل
__________________
الورود من خارج ،
لا على سبيل البروز ، فلم صار الشىء الذي يبرد بعد الحرارة ينقص حجمه ، اللهم إلا أن يكون الذي يتحلل حاره ، ويظهر بارده لا يسد ضده مسده ، ويكون الذي يتحلل بارده ، بالضد وهذا تحكم. ومع هذا كله ، فإن ذلك البارد يسخن مرة أخرى ، والحار يبرد مرة أخرى ، كل ليس دون الأول ، ويجب أن يكون دونه ؛ لأن التحلل صرفه ومحضه ، أو ترك فيه من الضد شيئا يسيرا.
وأما المذهب الذي
يخالف الكمون ، ومع ذلك يشابهه فى أحكام ، وهو أن الحار مثلا لن
يبرد بالانكشاف عن بارد كمين ، ولكن يرد عليه من خارج ما يخالطه ، وهو بارد ، فيغلب عليه البارد ؛ والبارد لن يسخن بالانكشاف عن حار كمين ، لكن يرد عليه من خارج ما يخالطه وهو حار ؛ وأنه ربما كان بعض الأجسام قوى القوة فى كيفيته ، فيكون القليل منه فى المقدار
يظهر قوة كثيرة ، كمن يورد عفرانا قليلا على لبن كثير فيصبغه. فربما لم يكن للوارد كبير أثر فى زيادة الحجم ، وكان له كبير أثر فى زيادة الأثر.
وقد يجوز أن يكون
الضد الوارد طاردا لضده ، وربما احتاج إلى أن يطرد ما يساويه فى المقدار. وربما احتاج أن يطرد ما هو أكثر منه. وربما بقى أن يطرد ما هو أقل منه ، حتى يظهر أثره.
وربما لم يحتج أن يطرد شيئا البتة ؛ بل جاء بزيادة. وهذا المذهب ليس بمذهب ضعيف.
فمما يدل على فساد
هذا المذهب أن جبلا من كبريت تمسه نار صغيرة قدر
شعلة
__________________
مصباح ثم تنحى عنه بعجلة مبعدة ، فيشتعل كله نارا. فإن كانت الاستحالة إنما هى ورود المخالط من المجاور ، فيجب أن يكون الوارد عليه لا
أكثر من جميع تلك الشعلة ؛ بل نعلم أن المماسة لن
تقع إلا فى زمان غير ذى قدر. والمنفعل عن الشعلة المداخل للكبريت لن يكون ، إن كان ، إلا
جزءا لا قدر له و. فهذا الآخر كله إما أن يكون حادثا عن الاستحالة ، أو يكون على سبيل
الكمون المذكور. وقد بطل الكمون فبقيت الاستحالة.
وإن كانت النار
اليسيرة القدر تفعل تسخينا وإحراقا شديدا لشدة قوتها فعود الشىء إلى البرد لا يخلو إما أن يكون بمفارقة تلك النار اليسيرة ، فيجب أن لا يكون نقصان الحجم الكائن عند البرد أمر محسوسا ؛ بل بقدر ما
انفصل. وإن كان بورود البارد ، ويحتاج ضرورة إلى بارد
كثير حتى يغلب تلك النار اليسيرة أو يخرجها ، فيجب أن يكون المقدار محفوظا ، إن لم
يكن زائدا ، اللهم إلا أن تجعل النارية إذا انفصلت استصحبت شيئا كثيرا من
الجسم. فما بالها ، إذا سخنت مرة أخرى وجاءت يسيرة صرفة ، وليس معها الرقيق
المستصحب أعادت ذلك الحجم بحاله؟ وإن كان الجمد إذا وضع عليه شىء فبرد ذلك الشىء تتحل جزاء مه ومخالطته إياه ، وكان المداخل يطرد مثل نفسه وجب أن تحفظ الحجم أو يطرد أكثر من نفسه وجب أن يكون المعيد إلى الحالة الأولى بالمخالطة حارا أكثر من البارد الداخل ؛ فكان الحار أضعف ، فى القوة ، من البارد.
__________________
وهذا لا يستمر على هذا الأصل. فإنهم يحوجون إلى أن يجعلوا
قليل النارية كثير القوة. ومع ذلك ، فما السبب فى انفصال أجزاء الحار عن الحار فى جهة ما يجاوره ، وانفصال أجزاء البارد عن البارد فى
مثلها؟ فإن كان السبب فيه حركة طبيعية ، فيجب أن يكون فى جهة
واحدة لا غير. وإن كان السبب فيه أمرا من خارج يسلب تلك
الأجزاء عن مقرها فلأن يسلبها عن غير الجنس أولى. فلم لا ينسلب عن المجاور ؛ بل يتمكن فيه
وينسلب عن الأصل؟ وكيف يتسخن الهواء بالحركة الصرفة ، أو الماء بالخضخضة ويزداد حجمه ، حتى إن المخضخض ينشق ، وليس هناك وارد البتة؟
وكيف يرد هناك وارد ، والجسم يشاهد أنه متحرك عن مركزه ، منبسطا بحيث يرى متدافعا من كل جهة ، لا من جهة واحدة ، بحيث يقوى على أن يدفع شيئا إذا أراد أن ينفذ فيه؟ وكيف ينفذ جسم في جسم وهو مملوء دافع عن نفسه ، إلا بقوة شديدة أقوى من قوته فى
مستقره ، فيقدر على تفريق اتصاله ونفوذه فيه ،
وليس يحيط بالجسم المحرّك الممخوض أو المخضخض شىء حاله هذه الحالة؟
وجملة النار
المسخن بها ما يسخن أيضا ضعيفة المقاومة تدفع بأدنى قوة. فكيف يكون لها ، لو كان التسخين بها لا بالمخض
، أن تقدر أجزاؤها على خرق الجسم المجتمع فى الإناء الصلب وتحريكه والنفود فيه ، حتى تختلط به ، ثم تبلغ أن توجب تموّجه بالمداخلة تمويجا انبساطيا يقاوم كل صلب؟ ثم
كيف يدخل منه فى الإناء الصلب إلا قدر ما يسع ، إما فى
خلاء أو فى مكان أخلاه عن غيره لنفسه؟ فإذا امتلأ لم يكن يدخل ،
فلم يجب انشقاق ؛ لأنه الانشقاق هو بسبب أن المحشو فى الإناء ليس يسع الإناء
__________________
وما لم يدخل فى حشوه ، بعد ذلك ، شىء فمن المحال أن يكون باطنه لا يسع غيره ، بحيث
ينشق عنه ؛ بل إنما يكون لا يسعه ، بحيث لا يدخل فيه. فإن دافع فإنما يدافع
المداخل. فيجب إما أن يقل الإناء ، وإما أن يشقه حيث المدخل. وربما
كان الإقلال أيسر مؤونة من شق آنية من حديد أو نحاس. فلم لا يقل ، بل يشق فى موضع غير مدخله؟
وأنت إذا تأملت
تولّد نفاخات الغليان المحشوة جرما مندفعا إلى فوق ينشق عنه الغالى ، ويتفشى هو فى الجو ، تولدا بعد تولد ، بحيث لو جمع حجم الجميع لبلغ أمرا عظيما ، صدقت بأن ذلك ليس لنار
تداخله ، وصدقت بصحة القول
بالاستحالة في الكيف ، والاستحالة فى الكم ، ورأيت
الشىء يصير أضعافا مضاعفة بنفسه من غير زيادة جرم عليه.
__________________
الفصل الخامس
فصل فى
مناقضة أصحاب المحبة والغلبة ، والقائلين إن الكون والفساد
بأجزاء غير الأجزاء الغير المتجزئة من السطح
واجتماعها وافتراقها
وأما مذهب صاحب القول بالمحبة والغلبة فالحق ينقضه بما يشاهد من استحالة العناصر بعضها
إلى بعض ، وهو نفسه ينقض قوله ؛ إذ يرى أن للمحبة سلطانا عليها يجمعها إلى طبيعة واحدة ؛ فلا تكون نارا ولا هواء ولا ماء ، ولا أرضا. ثم إذا عادت الغلبة متسلطة فرقت ، فأحدثت العناصر فتكون صور هذه العناصر من شأنها أن تنسلخ عنها باستيلاء المحبة.
ثم يجب أن تكون ، على مذهبه ، الألوان لا أكثر من أربعة ؛ لأنها تكون بعدد العناصر. وكذلك
الطعوم ، وكذلك سائر القوى النباتية والحيوانية.
وأما مذهب من يرى أن عنصرا واحدا ، يوجب الاستحالة بالفعل
والانفعال ، ولا يوجب كونا ، فقد يبطل بما نتحققه من أن اليابس وحده لا يتكون منه الكائنات
__________________
إن لم يخالطه رطب
، ولا الرطب وحده ، إن لم يخالطه يابس ؛ ولا الرطب واليابس ولا حرّ هناك ، ولا برد
؛ وأنه لا كون للمتولدات لا عن بارد صرف ، ولا عن حار
صرف. فإن الكائنات لو كانت إحدى هذه لم يكن إلا نارا ، أو
أرضا ، أو هواء ، أو ماء فى طبيعته. وليس الأمر كذلك.
فإذا «كانت هذه العناصر والأصول نسبتها إلى الكائنات النسبة وأما نسبة بعضها إلى
بعض ، كما يعترفون به ، كافتهم ، أو يلزمهم ، وإن لم يعترفوا به ـ أن كل واحد
منها إذا فرض الاسطقس الأول كان راجعا إلى الآخر بالاستحالة ، ومرجوعا إليه ـ فلا يكون كونه أصلا أولى من كونه فرعا.
فإن كانت نسبة بعضها إلى بعض ، فى كون بعضها عن بعض ، وبطلان كيفية الكائن عنه عند
وجود كيفية الكائن الآخر ، نسبة واحدة ، ونسبتها إلى الكائنات نسبة
واحدة ـ فليس بعضها أقدم فيما بينها من بعض ، ولا بالقياس إلى الكائن.
فكفى بهذا المذهب خطأ أن يجعل النار عارضة للماء ،
وهو ماء ، أو المائية عارضة للنار ، وهى نار.
فلننقض الآن مذهب
القائلين بالأجرام الغير المتجزئة.
أما مذهب السطوح فهو أرك وأضعف. وقد سلف من
أقاويلنا ما هو كفاية فى إبطاله.
وأما ما قيل في
مناقضتهم إن السطح ، لو كان له ثقل ، لكان يجب له أن يكون
__________________
للخط. ثم للنقطة ثقل. ثم اشتغل بأن النقطة لا ثقل لها ، بأنها لا تنقسم وبغير ذلك مما لا يوضح عدمها للثقل ـ فليس ذلك بيانا برهانيا ، بل نوعا من التمثيل والأخرى والأولى. فلا حاجة بنا إلى سلوك ذلك
المسلك.
وأما مذهب
القائلين بالأجرام الغير المتجزئة وأشكالها فنقض مذهبهم من وجوه :
من ذلك أنهم إذا جعلوا هذه الأجرام متشابهة الطبع وفى غاية الصلابة
، حتى لا تنقسم ، فلا يخلو ، بعد وضعهم ذلك ، أن يقولوا
: إن أشكال هذه الأجرام ومقاديرها أمور لا تقتضيها طبيعتها ؛ بل تعرض لها من خارج. فإن كانت تقتضيها طبيعتها ، وطبيعتهما واحدة ، فيجب أن تكون أشكالها ومقاديرها واحدة غير مختلفة. وإن كان ذلك قد عرض لها من خارج فطباعها مستعدة لأن تقبل التقطيع والتشكيل
من خارج ، فطباعها بحيث تقبل القسمة والاتصال ، فيجب أن يكون كل جزء منها بحيث
يجوز عليه الفصل فى نفسه والوصل بغيره.
وأيضا ، إذا كانت
هذه الأجزاء مختلفة بالصغر والكبر فغير مستحيل أن تنقسم سطوحها المحيطة بمماسات سطوح أخرى ؛ فتكون حينئذ سطوح من
جسم واحد غير سطوح أحدهما لا محالة ، ويكون المحاط بسطوح أحدهما ، لا محالة ، غير
المحاط بسطوح التي هى غير لها. وتكون متصلة مع الغيرية بأن لها حدا مشتركا. وطبيعة كل جسم طبيعة جرم
منها خارج عنها. فتكون الجائرات عليها واحدة ؛ فيكون من طبيعة ذلك
__________________
الخارج جواز
الاتصال بما اتصل به منها من طبيعته. فإن لم يتصل به فلعائق قسرى غريب.
وقد قالوا أيضا :
إن هذه الأجرام يتألف منها أولا الهواء والماء والأرض والنار. ثم بعد ذلك تتألف
منها سائر المركبات بتأليف ثان ، وإن الهواء والماء والأرض والنار تتكون بعضها من بعض
على سبيل الافتراق والاجتماع ، وإن كان قوم منهم قالوا إن النار لا يتكون منها شىء
آخر.
وقالوا : إن هذه الأربعة العناصر قد تتقوم من أجرام متشاكلة
الشكل ، مختلفة فى العظم والصغر. فالمثلثات المقومة للهواء
مخالفة فى العظم للمثلثات المقومة
للماء ، وأنه ليس الأرض كلها من مكعبات ؛ بل قد يكون فيها مثلثات ،
لكنها كبيرة ، ولا الهواء كله من مثلثات ؛ بل قد يكون فيها مكعبات ، لكنها صغيرة. وبعضهم جعل للنار أجزاء
كرية ، وبعضهم جعلها من مثلثات صنوبرية تحفظ شكلها. وبعضهم لم
يجعل لها شكلا محفوظا منها ؛ بل جعلها متبدلة الأشكال بما فيها من لطافة تنبسط بها وتلتحم.
ومن جعل النار
كرية جعلها كربة ، لتتمكن من سرعة الحركة. ولم يعلم أن الكرية تعين فى التدحرج ، وأن الزاوية الحادة أعون منها
فى النفود سويا ، وأن النار لا تسمو متدحرجة.
ومن جعلها صنوبرية
جعل طرفها الذي يلى فوق حاد التقطع.
وجعلوا الأرض
مكعبة لتكون باردة وغير نافذة. ولم يعلموا أن الأرض أيضا
__________________
سريعة الحركة إذا
فارقت مكانها أسوة النار ، وأن النار تسكن أيضا. ولم يعلموا
أيضا أن الإحراق ، وإن كان بتفريق
الزاوية للاتصال ، والتكعب بعدم ذلك ، فيجب فى الأرض أن لا تحرق فقط ، لا أن توجب ضده
، وهو أن يبرد. ولم يعلموا أنه إن كان الإحراق بالزاوية فالتبريد يجب أن يكون بضد شكل الزاوية. ولا شكل يضاد شكلا. ولم يعلموا أن الصنوبرى يلاقى بتسطيحه أكثر مما يلاقى بزاويته.
وكان يجب أن يكون أكثر
أحوال النار أن لا يخرق ، وذلك بأن يلاقى بالبسيط.
وإذ قد حكينا صورة
مذهبهم فلنرجع إلى الوضع الذي فارقناه من إلزامهم بغير هذه الأجرام ، فنقول :
إنهم إذا كونوا من
الهواء ماء لزمهم ، ضرورة ، أن يصغروا المثلثات وينقصوها ، والنقصان عندهم لا يكون إلا بأخذ شىء وهضمه من المنقوص ، فيجب أن ينقسم بالانفصال.
وكيف جوّزوا أن يكون من الأرض ماء ، والأرض من مكعبات والماء من مثلثات. وكأنهم جوّزوا أن يتثلث المكعب. فقد وجب ، كما قلناه بديا.
وأيضا ، فإن ذا
العشرين قاعدة ، وهو الهواء إذا استحال ماء يتركب ثمانية
ثمانية من أجزائه ، وفضلت أربعة لا تستحيل ماء. وليس شىء من أجزائه أولى بأن ينبعث إلى تركيب الهوائية منه من الآخر ،
حتى يفضل أربعة بأعيانها يلزم أن يتركب منها لا محالة نار أو جسم آخر ، إن أمكن ، أو يتعطل تركيبه ولا يكون شيئا البتة. وعندهم
__________________
أن لا تركيب إلا
وهو أحد هذه العناصر أو المركبات منها. والماء إذا صار هواء صار أعظم حجما ، وصارت المثلثات أكبر. فكيف يكون ذلك إلا أن
يكون قد تخللها جسم غريب ، فلا يكون ذلك هواء بسيطا ، أو يكون قد تخللها خلاء
تباعدت به تباعدا يحصل به الحجم الهوائى؟ فيلزم من ذلك أن يكون نوع من الجمع
والتفريق يوجب أن يكون بين الأجرام بعد فلانى محدود ، ونوع آخر يوجب خلافه ، حتى يكون الجمع والنضد والتأليف نفسه مما يوجب فى طباع تلك الأجرام أن يهرب بعضها من بعض هربا إلى بعد غير محدود ؛ فيحدث لها حركات عن طبائعها ، لا عن قاسر هى حركات متضادة متخالفة
بها ينبسط إلى حد محدود ، وهذا كله محال.
فإن كان الماء
إنما كان ماء من قبل أن صار هواء بأشياء تخلفت الآن عند استحالته هواء ولم يستحل هواء ، وتلك
الأشياء المتخلفة كانت هى الجامعة المفرقة ما بين الأجزاء التي تباعدت عند
استحالتها هواء ، فلم يستحيل الهواء مرة أخرى من غير أن يكون فيه تلك المتخلفات ، ومن
غير أن يأتيها شىء من خارج؟
ثم إن كانت
التراكيب من هذه الأجرام من غير أحوال وشروط أخرى وحدود توجب الطبيعة تقديرها على حدود محدودة من القرب والبعد
توجب مغايرة فى الطبائع فواجب ، ضرورة ، أن يكون التغاير في الطباع غير متناه
ضرورة ؛ لأنه وإن كان لنا أن نجعل لكل طبيعة حدا فى اللطافة والتخلخل ، وفى وقوع
الخلاء فى خلله فلذلك الحد عرض إذا تعداه صار فى تخوم غيره. فيكون كل واحد من ذلك
متناهيا ، لا سيما إن كانت العناصر هى الأربعة على ما
سلموها ، وكان لكل منها فى ذلك منها حد لا يعدوه ، فكانت الحدود ، ولا محالة ، محدودة بين أطراف.
__________________
فإذا أخذنا بين الأجرام بعدا أكثر من البعد الذي بين أجزاء
النار مثلا وجب أن يحدث نوع آخر من التأليف خارجا عن تأليف الأربعة. وليس لازدياد حدود الأبعاد حد ونهاية ، اللهم إلا أن يجعلوا لبعض الأربعة حدا فى التخلخل. غير متناه ، حتى إذا كانت أجزاء أربعة
يكون منها الصنوبرية النارية ، وواحد منها بالحجاز والآخر بالعراق والباقيان على مثل ذلك من بعد ، ما كان من الجملة نار واحدة.
والعجب العجيب
تجويزهم أن يكون جسم واحد من أجزاء متباعدة متفرقة فى الخلاء ولو ببعد قريب. فإن
الافتراق إذا حصل لم تحصل منه نار واحدة ولا أرض واحدة إلا فى غلط
الحس. وإذا لم تكن نار واحدة موجودة
لم تكن نيران كثيرة بالفعل. فما معنى تأليف النار والهواء
من تلك الأجزاء ، والصورة هذه الصورة؟
ثم لو اضطر مضطر أجزاء المؤلف من أربع قواعد مثلثات ،
حتى اجتمعت وتلاقت ، لم يخل إما أن تبقى النارية ، فتكون النارية ليس التخلخل بالخلاء شرطا فى
وجودها ، أو تبطل ، فيكون تأليف موجود ، وليس عنصر أولى به من عنصر. وقد منعوه وبئس ما عملوا ؛ إذ كانت هذه الأجرام بأفرادها لا كيفية لها عندهم ، وتحدث كيفيتها بالاجتماع. وكان يجب أن يكون تأكيد الاجتماع أعمل فى تظاهرها على حدوث
الكيفية منها.
ثم من العجائب أن يكون الأجرام لا كيفية لواحد واحد منها فى مجموعها حرارة أو برودة. وليس
ذلك البتة فى فرد فرد من ذلك المجموع ،
حتى لو مست الجملة ،
__________________
ولم يشك أن كل واحد من أجزائها إنما يلاقى حينئذ ما يساويه ، فإن كان ذلك الواحد لا
يؤثر فيما يلاقيه ، وكذلك كل واحد آخر ، فيكون ليس عن آحاد المتماسات فعل وانفعال
؛ بل سلامة ، والجملة غير سالمة ولا مسلمة. وإن كان الاجتماع يوجب أن تحدث الحرارة سارية فى الجميع ، حتى تكون فى كل فرد أيضا لمجاورة قرينه ما لو انفرد عنه لم يكن. فيكون من
شأنها أن يستحيل فى الكيف. وقد امتنعوا من ذلك ، وهو يضاد متوخاهم فى مذهبهم.
ثم لا يشك فى أن للأجرام حركات طبيعية. فإن كانت الحركات الطبيعية تصدر عن جواهرها وجب أن تكون حركاتها متفقة ، وأن لا يكون فى العالم حركتان
طبيعيتان متضادتان. وإن كانت تصدر عنها لأشكالها ، وأشكالها غير متناهية عند
بعضهم ، فالحركات الطبيعية كثيرة جدا ، وليس كذلك على ما علمت ، وأيضا فإن الحركات
الطبيعية غير متناهية. وقد أوضحنا أنها لا تكون إلا متناهية. وهى
متناهية عند آخرين منهم ، ولكن كثيرة جدا ، فوجب أن تكون أصناف الحركات الطبيعية المتضادة موجودة. وقد عرف من حالها أنها إنما تصدر عن قوى متضادة ، فيجب أن يكون فى الأشكال أشكال
متضادة. وقد منع ذلك.
وأما ما ظنوه من أن عديم الزاوية ضد لذى الزاوية فيجب أن يكون للمستدير ضد ، وليس كذلك ؛ فإنه إن كان للمستدير ضد ففرضنا المستدير نوعا
واحدا ، أو فرضنا من المستدير نوعا واحدا وجب أن يكون
اصدار المستدير أنواعا من الأشكال بغير نهاية ، وأمرا جنسيا أعم من كل شكل مضلع منوع ، وضد الواحد فى
النوع واحد فى النوع.
__________________
وأما كون هذه
الأجزاء غير متناهية ، وخصوصا على قول من يقول إن صورها متناهية ، فإن ذلك بيّن
البطلان مما قيل فى أمر غير المتناهى.
فأما الذين
يعترضون على هؤلاء ، ويقولون أن الاجتماع والافتراق لا يغير الطبائع والصور ، كما أن الذهب إذا سحل ثم جمع فإن هذا ليس باعتراض صحيح. فإنهم يقولون إن السحل لا يرد الذهب إلى أول التأليف الذي يكون به ذهبا ؛ بل هذا الذهب المحسوس
عندهم ذهب كثير وهذا الماء المحسوس عندهم مياه كثيرة
متجاورة ، وإن أول اجتماع ذهبى ودمائى غير محسوس ، فكيف يحس بالتفريق إذا وقع فيه. وتركيب الترياق من أدوية مختلفة يحدث فيها صورة الترياقية بالاجتماع ، ثم لا يقدر
بعد امتزاجها على أن يقسمها الحس ، البتة ، قسمة
بحيث تخرج الأقسام عن الترياقية؟ وليس فى ذلك أن الترياقية لم تحدث عن اجتماع وامتزاج.
وكذلك الذي يقال
لهؤلاء إن الهواء لا شكل له والماء لا شكل له ، وإنه يقبل كل شكل. أما أولا فهو كاذب. فإن الماء إذا لم يعرض له عارض باللقاء تشكل كريا.
وكذلك الهواء
وجميع البسائط.
وأما ثانيا فإن
هؤلاء إنما يوجبون الشكل المذكور للماء الواحد بالتأليف الأول ،
وما بعد ذلك فلا يمنعون البتة أن تتألف الجملة الكثيرة منه على أشكال يتفق لها ،
ولا يوجبون لمجموع المياه شكلا يوجبونه لأول تأليف
المياه.
وكذلك ما قيل من
أن الجسم السائل ينعقد حجرا ، والمتحجر يستحيل ماء من غير
__________________
اجتماع ، ولا
افتراق ، ولا انقلاب من هيئة ووضع. فإنه إن زيد فى هذه المقدرة شرط الإدراك بالحس ، حتى يصدق
ويسلم ، لم يلزم شىء ؛ لأنه ليس يجب ، إذا لم يكن افتراق واجتماع
محسوس ، أن لا يكون البتة. وإن لم يشترط بل ادعى أنه لم يحدث فيها اجتماع وافتراق
واختلاف ترتيب ووضع ، ولا ما لا يدركه الحس ، لم يسلم.
فهذه الاعتراضات
عليهم أشبه بالتكلف والتعنت ، فلنرجع الآن إلى التفرقة بين الكون والاستحالة.
__________________
الفصل السادس
فصل فى
الفرق بين الكون والاستحالة
قد علم أن غرضنا
فى مناقضة هؤلاء إنما كان بسبب تفصيل أمر الكون
والاستحالة ، ثم أحوجنا ، لذلك ، إلى أن تكلمنا فى
أمر العناصر ، وناقضنا مذاهب فى العناصر بعين مناقضتنا إياها
على غرض لنا آخر ، وهو معرفة العناصر. والأولى بنا أن نقدم ، أول شىء ، أمر الكون والاستحالة فنقول :
إن المشاهدة تؤدى بنا إلى أن نحكم بأن ماء سيالا يتحجر. وقد دلت التجربة
على أن قوما يسيلون الحجارة ماء ، ويعقدون المياه حجارة ، وأن
الهواء الصافى من غير انجذاب بخارات إليه ينعقد سحابا ، فيسيل ماء وثلجا. وهذا شىء يشاهد فى
قمم الجبال الباردة ، وقد شاهدنا الهواء الصافى أصفى ما يكون. وبالجملة ، على ما
يكون فى الشتاء من الصفاء ، ينعقد دفعة من غير بخار يتصعد إليه ، أو ضباب ينساق نحوه ؛ فيصير سحابا أسحم ، ويلقى الأرض ويرتكم عليه ثلجا بكليته ، ومقدار ذلك مقدار رمية فى
رمية ، فيعود الهواء صافيا لحظة ، ثم
ينعقد. ويدوم هذا الدور حتى إنه ينتضد ، من هذا الوجه ، على تلك البقعة ثلج عظيم ، لو سال لغمر واديا كبيرا ، وليس إلا هواء
استحال ثلجا وماء
__________________
وقد يوضح القدح فى
الجمد مهندما فيه ، ويترك فلا يزال يجتمع على صفحته الباطنة من القطر ،
اجتماعا بعد اجتماع ، حتى يمتلئ ماء. وليس ذلك على سبيل الرشح. فإن الرشح من الماء الحار أولى. وأيضا فإن هذا القدح ، أو آلة أخرى تجرى مجراه ، إذا لم يهندم كله فى الجمد ؛ بل بقى منه طرف مجاوز
، لا على الجمد ، اجتمع أيضا على طرفه القطر ؛ لأن البرد
ينتهى إليه. فيكون ذلك على سبيل إحالة الهواء ماء على سبيل الرشح ؛ إذ الرشح تكون حيث يلاقى الإناء الراشح فقط. وربما كان ذلك الجمد لم يتحلل
منه شىء ولم يعدم ؛ بل كلما كان الجمد أبعد من التحلل كان هذا المعنى أغزر ، وبعكس هذا يستحيل الماء هواء بالتسخن.
وأما استحالة
الأجرام نارا فمثل الكير إذا ألح عليه بالنفخ وخنق الهواء ، فلم يترك أن يخرج ويدخل ؛ فإنه ، عن قريب ، يستحيل ما فيه نارا محرقة.
وقد علمت كيف
يستحيل دهن البلسان فى دفعة واحدة نارا. وليس ذلك إلا باستحالة ما فيه من العناصر. والحطب إذا كان رطبا عصى النار ، فاجتمع منه دخان كثير هو الأجزاء العاصية منه. وإذا كان يا بسالم يجتمع منه شىء ،
أو كان قليل الاجتماع بالنسبة إلى ما يجتمع من الرطب. وليس يمكن أن ينسب هذا إلى أن الأجزاء الأرضية فى الرطب أكثر ، فالثقيل الذي يصعد بالقسر فيه أغزر ، فإنه ربما كان اليابس أثقل ،
ويكون ما يندخن منه وما يترمد جميعا أقل ؛ بل المائية عسرة الاستحالة إلى النار لشدة المضادة ، ومانعة لما يقارنها من الاستحالة ، والأرضية اليابسة أشد استحالة
إلى النارية
__________________
ولو كانا لا
يستحيلان معا ؛ بل يتصعدان فقط لكان الدخان عنهما واحدا إذا جمع. فأذن الدخان فى أحدهما أقل ، مع أنه ليس فى الترمد أكثر. فقد استحال ما فيه من الأرضية إلى غير الأرضية ، ولا غالب هناك إلا
النار ، فقد استحال إلى النارية.
وظاهر بيّن من هذا وما أشبهه بأن هذا ، إذا لم يكن على سبيل الكمون ، ولا على سبيل
الاجتماع والافتراق ، لم يكن إلا على سبيل الاستحالة فى الجوهر. فالعناصر يستحيل بعضها إلى بعض. والمركبات قد تستحيل ما كان من هذا النوع
إلى نوع آخر. كالحنطة تستحيل دما ، والدم يستحيل عظما ودماغا وغير ذلك.
فما كان من هذه
الجملة يبقى نوع الجوهر من حيث هذا المشار إليه ثابتا ، كالماء يسخن ، وهو ثابت بشخصه فهو استحالة. وما كان لا يبقى نوعه عند تغيره ، كما
ضربناه من المثل ، فهو فساد.
فالكون المطلق هو
الكون الجوهرى ، والكون المفيد كقولهم كان أبيض أو كان أسود فهو استحالة ؛ أو شىء آخر من التغييرات التي ليست فى الظاهر وهذا شىء
بحسب المواضعة.
وقد كان بعضهم يرى كون أشرف الاسطقسين وأكثرهما وجودية
عن أحسنهما كونا مطلقا ، وعكسه كونا مقيدا. وقد رأوا أيضا آراء أخرى لا حاجة بنا إلى اقتصاصها ونقضها فإن إضاعة ... من
التبذير.
ثم لا يجوز أن
يكون كون الجرم واقعا عن لا جرم. فإنك تعلم أن ما يكون عنه الجسم لا يكون إلا
الجوهر المادى ، والجوهر المادى لا ينفرد مجردا.
__________________
وكل جرم يقبل كله
أو بعضه الكون والفساد فليس بأزلى أما إن قبل بكليته فلا شك فيه. وإن قبل جزء منه ، وهو مشارك له فى نوعه ، فطبيعة نوعه قابلة للكون والفساد.
وقد بينا من قبل
أن ما كان كذلك فليس غير كائن ؛ وما ليس غير كائن مما هو
موجود فليس بأزلى. فعناصر الكون والفساد غير أزلية ، بل وجودها عن كون بعضها من بعض.
فحرى بنا الآن أن نتعرف
الفعل والانفعال كيف يجرى بين هذه.
والفعل فى هذا
الموضع يعنى به تحريكا فى الكيف ويعنى بالانفعال تحركا فيه ، على نحو ما علمت من صورة ذلك فى مواضع أخرى. فنقول إن ذلك يكون بمماسة. فانه لو لم يكن بسبب مماسة لم يخل إما أن يكون بنسبة أخرى وضعية ، أو يكون كيف اتفق.
ولا يجوز أن يقال إن ذلك كيف اتفق ، وإلا لكان الجرم يسخن قبلنا مما يسخنه قبلنا بالمضادة ، كيف كان وضعه منه. فكان الجسم يسخن لأن نارا مثلا موجودة تبعد
عشرين فرسخا عنه.
فأما إن كان على
نسبة وضع آخر غير المماسة يقتضى نوعا من المحاذاة والقرب فإن المتوسط ، إذا كان لا يسخن ولا يبرد ، لم يسخن المنفعل إلا بعد أيضا ، ولم يبرد.
وإن سخن المتوسط
فهو المؤثر القريب ، ويؤثر بمماسة لا محالة.
فالفعل والانفعال
إنما يجرى بين الأجسام التي عندنا الفاعل بعضها فى بعض ،
__________________
إذا كانت بينهما مماسة ، ولأجل ذلك جرت العادة بأن يخص هذا المعنى فى هذا الوضع بالمماسة ،
حتى إذا التقى جسمان ، ولم يؤثر أحدهما فى الآخر ، لم يسم ، فى هذا الوضع ، مماسة.
وإن كان أحدهما لا يؤثر ولا يتأثر قيل إنه يماس المتأثر عنه ؛ ولا يماسه المتأثر.
فكأن المماسة فى هذا الوضع ملاقاة مؤثر. ولا بد من أن يكون له وضع. ويلزمه أن يكون ذا ثقل وخفة ؛ إذ قد تبين
أن الأجسام القابلة للتركيب والمزج. لهذه الصفة. وقد يطولون فى هذا المعنى بما لا
فائدة فيه.
فالفاعل من هذه الأجسام يفعل بالمماسة.
وقال قوم من
الأقدمين إن الفاعل ما لم ينفذ فى ثقب خالية من المنفعل لم يفعل فيه. ولم يدروا أن غاية ما تفيده هذه الثقب هى التمكن من زيادة اللقاء فإن حصل اللقاء من غير ثقب حصل الفعل فى
المنفعل ، وكان المغيّر بالذات هو اللقاء والمماسة. لكن الفاعل كلما
كان أكثر مخالطة. كان الانفعال أفشى. والأجسام العنصرية إذا تلاقت فعل بعضها فى
بعض فكان كل واحد منها يفعل بصورته ، وينفعل بمادته ، كالسيف يقطع بحدته ويفل وينثلم بحديده. ويغفل كل واحد منهما فى ضده فى النوع الشبيه له فى الجنس
المشارك فى قوة مادته. وهذا الانفعال لا يزال يستمر إلى أحد أمرين :
إما أن يغلب بعضها
بعضا ، فيحيله إلى جوهره ، فيكون كونا فى نوع الغالب وفسادا للمغلوب.
وإما أن لا يبلغ
الأمر بأحدهما. أن يغلب على الآخر حتى يحيل جوهره ؛ بل يحيل كيفيته إلى حد ليستقر
الفعل والانفعال عليه ، ويحدث كيفية متشابهة فيها تسمى
__________________
المزاج ، وهذا
الاجتماع يسمى الامتزاج. فإن وقع اجتماع كما بين دقيق
الحنطة والشعير ، ولم يجر فيما بينهما فعل أو انفعال فلم يسم ذلك امتزاجا ، بل تركيبا واختلاطا. ومن الناس من يستعمل فى هذا الموضع لفظة الاختلاط مكان لفظة الامتزاج.
ثم قد أجمع المشاءون
عن آخرهم أن الامتزاج لا يقع إذا كان البسيطان محفوظين ،
ولو كانت البسائط تحفظ على حالها لما كان يوجب اجتماعهما لحمية أو عظيمة ؛ بل
لكان المركب إنما تخفى بسائطه حسا ، وهى موجودة فيه ، حتى لو كان الحس البصرى في غاية القوة على الإدراك ، لكان
ذلك الإنسان يرى فى اللحم ماء وأرضا ونارا وهواء متميزات. فلا يكون حينئذ اللحم بالحقيقة لحما ؛ بل بحسب رؤية إنسان دون إنسان. قالوا : ولا إذا فسد أحدهما ، ولا إذا فسد كلاهما ؛ فإن
الفاسدين لا يصلح أن يقال لهما ممتزجين ، ولا الفاسد والباقى.
ثم قال المعلم الأول ، بعد ذلك ، فالممتزجات ثابتة بالقوة.
وقال ولكن الممتزجات قوتها ثابتة ،
وعنى بالقوة الفعلية التي هى الصورة ولم يعن أنها تكون موجودة بالقوة التي تعتبر فى الانفعالات التي تكون للمادة في ذاتها. فإن الرجل إنما أراد أن يدل على أمر يكون لها ،
مع أنها لا تفسد. وإنما يكون ذلك إذا بقيت لها قوتها التي هى صورتها الذاتية. وأما القوة التي بمعنى الاستعداد فى المادة فإنها تكون مع الفساد والرجوع إلى
المادة ، أو قد تكون مع الفساد. فإنها لو فسدت أيضا لكانت ثابتة بتلك القوة. فإن الفاسد هو ، بالقوة ،
بشيء الذي كان أولا ، ويرجع إليه.
ولكن المفسرون يتبلبلون فى ذلك بسبب اضطرارهم فى التفرقة بين الصور
__________________
والأعراض الدالة على التفرقة بين الصور الطبيعية لهذه الأجرام وبين كيفياتها. ولظنهم أن هذه
الكيفيات كلها أو بعضها صور لهذه الأجرام ، مع أنها تقبل الاشتداد والضعف ، فيقول أمثلهم طريقة : إن كيفياتها تكون
محفوظة ومكسورة السورات ، فتكون الأجسام بالقوة خوالص.
فلننظر فى قولهم
هذا ، فنقول : لا يخلو إما يعنوا بها ، وهى مثلا ماء وأرض ثابتة بالقوة ، ماء وأرضا ، أو على حكم كمالات الماء والأرض.
فإن جعلوها بالقوة
ماء وأرضا فقد فسدت. لسكنهم يقولون إنها لا تفسد ؛ بل سوراتها تنكسر وحمياتها تضعف. ومع ذلك فإن بعضهم يرى أن النار العنصرية غير ذات سورة. ولا
محالة أن سوراتها تنكسر بتغير. وذلك التغير إما أن يكون لسلخ الماء ، مثلا ،
الصورة المائية ، حتى يصير لا ماء ، أو مع بقاء الصورة المائية حتى يكون الماء ماء والأرض أرضا. فإن صارت بهذا التغير غير ماء وغير أرض فهذا فساد. وإن كان الماء ماء والأرض أرضا ، ولم تبطل عن كل واحد منهما صورته التي إذا بطلت لم يكن ذلك ماء ، وهذا أرضا ، لم تكن الاستحالة فى طبيعة النوع ،
وخصوصا وقد سلموا أن الصور الجوهرية لا تقبل الأشد
والأضعف ..
وإن كانت الأرض قد انتقصت أرضيتها حتى صارت أرضا ناقصة ، وكانت الأرضية تقبل الأشد والأضعف ، فإنما تنتقص أرضيتها لا محالة ، بدخول طبيعة أخرى ، لو لا دخولها كانت تلك الطبيعة خالصة.
والآن إنما دخل شطر منها ، فتكون مع أنها أرض
ناقصة ، شيئا آخر كنار أو ماء مثلا ناقصا ، فيكون شىء واحد نارا أو أرضا معا
__________________
ناقصتين. ويكون بالقياس إلى النار الصرفة أرضا ، وبالقياس إلى الأرض الصرفة نارا ،
وهذا محال. فإن النار فى عرض ناريتها ليست أرضا البتة ، والأرض فى عرض أرضيتها أرض ليست نارا البتة.
على أنهم يعترفون
أن هذا الانكسار ليس إلا فى الحر والبرد والرطوبة واليبوسة. وأنت تعلم أن الماء
لا تزول مائيته بأن يسخن شديدا ، ويغلى فضلا عن أن يفتر ، فيكون التغير ، الذي يعرض ، إنما هو فى الكمال الثاني
للماء ، لا الكمال الأول الذي هو به ماء.
فإذا كانت هذه الاستحالة لا تبطل طبيعة النوع فليست هذه هى الاستحالة التي فى الجوهر. فهى لا محالة فى كيف جوهر غير محفوظ فى أنه
مكيف.
وأما المعلم الأول
فقال إن قواها لا تبطل ، وعنى بها صورها وطبائعها التي هى مبادئ لهذه الكمالات الثانية التي ، إذا زال العائق ، صدرت عنها الأفعال التي لها.
فحسب هؤلاء أنه يعنى القوى الاستعدادية ، ولو أن الهيولى الأولى كان يجوز أن تبقى
مجردة لكانت قوى الأسطقسات الاستعدادية ، التي بها يقال للشىء إنه بالقوة نار أو أرض
أو غير ذلك ، لا تبطل ، فضلا عن المزاج الذي يصرح أنه ليس فيه فساد. فما تكون
الفائدة فى هذا الكلام؟.
فينبغى لنا أن
نصرح ، عن الذي يحومون [حوله] ، ولا يدركونه ،
أن كل واحد من الأسطقسات له صورة جوهرية بها هو ما هو ، ويتبع هذه الصورة الجوهرية
كمالات من باب الكيف ومن باب الكم ، ومن باب الأين ، فيتخصص كل جسم منها ببرد أو حر من جهة تلك الصورة ، ويبس ورطوبة من جهة المادة المقترنة بالصورة ، وبقدر من الكم
__________________
طبيعى ، وبحركة طبيعية وسكون طبيعى ، فتكون تلك الصورة يفيض عنها فى ذات ذلك الجسم قوى ، بعضها مما لها بالقياس إلى
المنفعل ، كالحرارة والبرودة الطبيعيتين ؛ وبعضها بالقياس إلى الفاعل للشكل كاليبوسة والرطوبة الطبيعيتين ؛
وبعضها بالقياس إلى الأجسام المكتنفة له ، كالحركة والسكون الطبيعيين.
وإن الماء إنما
يفيض ، فى جوهره ، عنه البرد إذا كان على طبيعته ، ولم يعق عائق كماء ينحدر إذا كان على طبيعته ولم يعق ، وإنه قد تفوته هذه الكيفية بقاسر فيسخن ، كما تفوته تلك الحركة
وميلها بقاسر راج إلى فوق محدث فيه ميلا غريبا.
وكما أن الماء إذا
سخن فتصعد بالسخونة ، أو سخنت الأجزاء الأرضية أيضا فتصعدت بالسخونة ، وكانت السخونة محدثة للميل إلى فوق ، لذلك إذا انبعثت السخونة عن الطباع أحدثت ذلك الميل عن الطباع . هذا إن سلم أن صعود الماء وصعود أجزاء الأرض إنما هو لتسخنها ، لا بمخالطة النارية المصعدة إياها. وسنوضح ذلك فى فن آخر. وإنما
أوردنا ما أوردناه من ذلك تمثيلا لا وضعا.
ولو كانت البرودة
المحسوسة صورة المائية لكانت المائية تفقد صورتها وهى مغلاة ، وليس كذلك ؛ بل هى
عند الغليان ماء بعد. ولو كانت الرطوبة المحسوسة أيضا صورة الماء لكان الجامد قد خرج عن طبيعة الماء وصورته ، وصار إما أسطقسا آخر ، وإما
مركبا. وليس أحدهما.
ولو كان الميل الذي بالفعل صورة الماء لكان الماء المرجوع إلى فوق ، وقد صحّ أنه
__________________
ينفذ ، بعد مفارقة
الراج ، بميل يحدث فيه ، إما فاقد الصورة المائية ، وإما مجتمعا فيه بالفعل ميلان : ميل مصعد وميل مهبط ، كل منهما بالفعل.
وقد بان ، مما سلف ، أن الطبيعة غير هذا الميل ؛ بل هى مبدأ لهذا
الميل. وكذلك فاعلم أن الطبيعة غير الكيف المذكور ؛ بل هى مبدأه. وقد علمت أن الطبيعة
، ليست مبدأ للحركة المكانية والسكون فيها فقط ؛ بل هى مبدأ
لجميع الحركات التي بالطبع ، والسكونات التي بالطبع. وكذلك فاعلم أن طبيعة الماء هى التي تغير الماء إلى هذا الكيف وتحفظه عليه ؛ وأن تلك
الطبيعة ، إذ لا اسم لها ، فيستعار لها من الفعل الصادر عنها اسم ، فتارة تسمى
ثقلا ، وتارة تسمى برودة ورطوبة. فإنها إذا اعتبر ما صدر عنها من الميل المهبط سميت ثقلا ، وإنما هى مبدأ للثقل. وإذا اعتبر ما يصدر عنها من الكيفية سميت بردا ، وإنما هى مبدأ البرد. وهذا كما يسمى قوة فى الإنسان نطقا أو ضحكا ، وإنما هى مبدأ النطق والضحك.
وإذ قدمنا هذه
المقدمات فنقول : إن الطبيعة المائية محفوظة فى الممتزج. وأما الكيفيات فهى منتقصة
، لا باطلة بطلانا تاما. فهذا القدر هو القدر من الاستحالة
التي يوجبها المزاج ، فتكون الكمالات التي تكون لكل نوع من العناصر معدومة بالفعل موجودة بالقوة القريبة ، كقوة النار على الضوء ، لا
قوة الماء على الضوء. فلا تكون العناصر موجودة
بحالها مطلقا ، محفوظة على ما هى عليه ، ولا فاسدة كلها ، ولا
فاسدة بعضها. فيكون كل اسطقس من جهة نوعه ، أنه ماء مثلا جسما طبيعيا بصفة ؛ ومن جهة
__________________
كماله الثاني ،
أنه مثلا بارد بالفعل ، ركنا من أركان العالم كاملا ؛
ومن جهة أنه انكسر بالمزاج أسطقسا فى المركب. وكلما كانت الأجزاء أشد تصغرا كان أقرب إلى المزاج ؛ لأن كل واحد يكون أذعن للانفعال عما يكيفه ، ويكون كل واحد أوصل فى التأثير إلى كل واحد. فلذلك ما كانت الرطوبة أسهل امتزاجا إذا لم تكن لزجة.
فإن اللزجة أعسر انفصالا وانقساما. وأما الكبير مع الكبير فمما يعسر وقوع الانفعال بينهما لضد ما قلناه فى الصغير. والكبير مع الصغير يفسد الصغير ، ولا يختلط به. وربما كان الصغير
يؤثر فى الكبير من غير أن يكون له قدر محسوس ، حتى يقال إنه قد اختلط به ، كما يفعله أصحاب دعوى الإكسير. فإنهم يبيضون نحاسا كثيرا برصاص مكلس يسير ، وبزرنيخ مصعد يسير ، فيكون كأنه يفعل فيه بلا زمان
ويختلط به.
__________________
الفصل السابع
فصل فى
إبطال مذهب محدث فى المزاج
ولكن قوما قد اخترعوا ، فى قرب زماننا ، مذهبا غريبا عجيبا ، وقالوا إن البسائط ، إذا امتزجت وانفعل بعضها ببعض ، تأدى ذلك بها إلى أن تخلع صورها ، فلا يكون لواحد منها صورته الخاصة ، وتلبس حينئذ صورة واحدة ، فيصير لها هيولى واحدة وصورة واحدة.
فمنهم من جعل تلك الصورة أمرا متوسطا بين صورها ذات الحمية ، ويرى أن الممتزج يستعد بذلك لقبول
الصورة النوعية التي للمركبات.
ومنهم من جعل تلك
الصورة صورة أخرى هى صورة النوعيات ، وجعل المزاج أمرا
عارضا لا صورة.
ولو كان هذا الرأى
حقا ، لكان المركب ، إذا تسلطت عليه النار ،
فعلت فيه فعلا متشابها ، فلم يكن القرع والإنبيق يميزه إلى شىء قاطر متبخر لا يثبت على النار البتة ، وإلى شىء أرضى لا يقطر البتة. فإنه ، إن كان كل جزء منه كالآخر ، تساوى
__________________
الاستعداد فى
جميعه ؛ أو إن اختلف فعسى أن يكون اختلافه بالأشد والأضعف ،
حتى كان بعض الأجزاء أسرع استعدادا ، وبعضها أبطأ استعدادا. ومع ذلك ، فما كان
يكون ذلك فيها ، وهى متلبسة صورة واحدة لا تمايز بينها ؛ بل لا بد من تمايز. وذلك التمايز لا يخلو إما أن يكون بأمور عرضية ، أو صور جوهرية.
فإن كانت أمورا
عرضية فإما أن تكون من الأعراض التي تلزم طبيعة الشىء ، أو
من الأعراض الواردة من خارج.
فإن كانت من الأعراض التي تلزم طبيعة الشىء فالطبايع التي تلزمها أعراض مختلفة هى مختلفة.
وإن كانت من أعراض وردت عليها من خارج فإما أن تكون الأجزاء الأرضية ، مثلا ،
تقتضى ، فى كل مثل ذلك التركيب ، أن تكون ، إذا امتزجت ، يعرض لها من خارج دائما مثل ذلك العارض ، أولا يقتضى. فإن كانت تقتضى وجب من ذلك أن يكون لها ، عند الامتزاج ، خاصية استعداد لقبول ذلك ، أو خاصية استعداد لحفظ ذلك ، ليس ذلك لغيرها.
وذلك الاستعداد
إما أن يكون أمرا جوهريا ، فيتمايز الجوهر ، فتكون البسائط
متميزة فى المركب بجواهرها ، أو أمرا عرضيا ، فيعود الكلام من رأس.
وإما أن لا تكون
الأجزاء الأرضية ، مثلا ، تقتضى ، فى كل مركب ، مثل
ذلك التركيب ، أن تكون إذا امتزجت يلزمها من خارج ؛ بل ذلك قد يتفق فى بعضها
__________________
اتفاقا. ولو كان
كذلك لكان ذلك الأقل ، ولم يكن كل مثل
ذلك التركيب موجبا لاختلاف ذلك التميز ، وكان يمكن أن يوجد من اللحوم لحم من
نوعه يقطر كله ، أو يرسب كله ، ولا يقطر. وكذلك كان يجب أن لا يكون التحليل معينا للحيوانات والنبات بإفناء مادة وإبقاء مادة ، أعنى فناء المتحلل
الرطب ، وإبقاء اليابس.
ثم لننظر أن هذه
العناصر ، إذا اجتمعت ، فما الذي يبطل صورها الجوهرية. فلا يخلو إما أن يظن أن النار ، مثلا ، تبطل صورة الأرض منها ، أو شىء خارج عنها
، يكون ذلك الشىء من شأنه أن يبطل صورتها إذا اجتمعت. فإن كانت النار تبطل صورة
الأرض ، فإما أن تكون مبطلة لصورة
الأرض وناريتها موجودة ، أو مبطلة وناريتها معدومة.
فإن أبطلت ،
والنار معدومة ، فيكون إبطالها الصورة الأرضية بعد عدم النارية أو مع عدم النارية.
وعدم ناريتها فى هذا الموضع إنما هو أيضا بسبب الأرض.
والكلام فى ذلك هو الكلام بعينه. فيكون حاصل ما ذكرناه أنه لما عدمت النارية
والأرضية أبطلت إحداهما صورة الأخرى ، وهذا محال.
وإمّا أن يكون شىء
آخر خارج هو الذي يبطل صورة كل واحد منهما إذا اجتمعت.
فإن كان يحتاج فى
أبطال الصورة النارية ، مثلا ، وإعطاء الصورة الأخرى ،
إلى الأرض ، والأرض موجودة ، أو الأرض معدومة ، فقد
دخلت الأرض فى هذه المعونة ، وعاد الكلام من رأس.
وإن كان لا يحتاج
فلا حاجة إلى المزاج فى سلب الصورة النارية وإعطاء الصورة الأخرى ؛ بل البسيط يجوز
أن تتكون عنه الكائنات بلا مزاج.
__________________
وأما الاستحالة
فلا يلزم فيها مثل هذا القول. فإن النار ، مثلا ، إذا كانت علة لتسخين مادة الأرض كانت علة ، وهى نار بالفعل ؛ وتسخن بسخونة موجودة فيها ، وإن انتقصت ؛ لأنها أيضا تقبل البرد بمادتها عن الأرض بالفعل. فتكون فاعلة بهيئة
ومنفعلة بمادة. و تكون الهيئة ، عند ما تفعل فى المادة ، موجودة ، والمادة
عند ما تنفعل موجودة ، فلا يعرض فيها هذا الشك.
لكن من الأمور
المشكلة التي بالحرى أن تورد شكا يؤيد القول الذي يختاره
ويورده أصحاب هذا المذهب المحدث هو أنه إن كان الممتزج لا تتغير جواهر بسائطه ، وإنما
تتغير كمالاتها ، فتكون النار فيه موجودة ولكنها مفترة قليلا ، والماء
موجودا ، ولكنه مسخن قليلا ، ثم يستفيد بالمزاج صورا زائدة على صور البسائط ، وتكون تلك الصور ليست من الصور ، التي لا تسرى فى الكل ، من الصور الاجتماعية ، مثل
صورة التأليف كالأشكال والأعداد. فإن المغناطيسية واللحمية مثلا ليست من الصور
التي تكون من هيئات اجتماع آحاد عدد أو آحاد مقادير ، حتى تكون للجملة ، أولا
لواحد من آحاد الجملة. وإذا كان كذلك كانت هذه الصورة سارية فى كل جزء ، وكان الجزء الموجود من الأسطقسات فى المركب ، وهو نار مستحيلة ولم تفسد ، قد اكتسب صورة اللحمية ، فيكون من شأن النار فى نفسها ، إذا عرض لها نوع من الاستحالة
، أن تصير لحما. وكذلك كل واحد من
البسائط ، فيكون نوع من الكيف المحسوس ، وحد من
__________________
حدود التوسط فيه بين الرطب واليابس ، والحار والبارد يعدّ الأجسام العنصرية لقبول اللحمية ، ولا تمنعها عن ذلك صورها ، كما لا يمنع صورة الأرض فى الجزء المتدخن أن تقبل حرارة مصعدة. فيكون حينئذ
من شأن البسائط أن تقبل صورة هذه الأنواع وإن لم تتركب ؛ بل إذا استحالت فقط. فلا يكون إلى التركيب والمزاج حاجة البتة ، فنقول :
أما أولا فليس
اعتراض هذه الشبهة على أحد المذهبين أولى من اعتراضها على الآخر. فإن صاحب هذا
المذهب المخترع أيضا يرى أن اجتماع العناصر شرط فى حصول الصورة للتركيب
بسبب ما يقع بينها من الفعل والانفعال ، وأنها أولا يعرض لها الفعل والانفعال
فى كيفياتها ، ثم يعرض لها أن تخلع صورة ، وتلبس
صورة ، ولو لا ذلك لما كان لتركيبها فائدة. وإذا تركبت فإنما يقع بينها تغير فى كيفياتها بالزيادة والنقصان ، حتى تستقر على الأمر الذي هو المزاج. ثم تحدث صورة أخرى يعد لها المزاج ؛ إذ لا يكون ما يظن أنه وارد بعد المزاج إلا المفرد. وكيف ما كان فذلك لاستحالتها فى فى كيفيتها ، فيجب أيضا من
ذلك أن تلك الاستحالة إذا عرضت للمفرد منها قبل المفرد وحده تلك الصورة ، أو إن
كان لا يقبلها ؛ لأن تلك الاستحالة يستحيل فيها إلا أن تتصغر أجزاؤها ، إلا أن تتجاور فاعلة ومنفعلة على أوضاع مخصوصة ، وأن تكون تلك الصورة مستحيلة أن تستحفظ إلا بتلك
المجاورة ، وأن الصورة لا تحل مادة لا تستحفظها ، أو
غير هذا من العلل والمعاذير ـ فهو جواب مشترك للطائفتين
معا.
على أنه يشبه أن
تكون الحدود المحتاج إليها من المزاج فى تهيئة المادة لقبول
الصورة
__________________
التركيبية لا تحصل
ولا تبقى إلا بالمزاج. فهذا هو الذي يجب أن يعقل من أمر وجود البسائط فى المركبات ؛ والذي يقع من الاضطراب
فى إعراب القدماء عنه هو ما لا يتميز
لبعضهم الصور التي بها النار نار والماء ماء عن هذه الكمالات التابعة.
على أن هؤلاء إذا
سئلوا فقيل لهم : ما تعنون بقولكم إن الماء بارد ورطب إذا حد؟ ثم الماء هل هو برد بالفعل أم برد بالقوة؟
فيقولون إنا نعنى بذلك بردا بالقوة ، ولسنا نعنى به البرد بالفعل. فيكون أخذهم البرد فى
حد الماء مصروفا إلى وجود معنى فى المائية يقوى الماء على
أن يبرد ؛ ومحال أن يبرد ، ولا يتبرد. فيكون المأخوذ فى حد الماء هو
القوة التي يصدر عنها التبريد بالفعل للماء ولما يجاوره . وليس هذه القوة على البرد بالفعل كقوة النار على البرد
بالفعل . وذلك لأن النار تحتاج إلى أن تنسلخ صورتها عن مادة وتلبس صورة
أخرى ، حتى تكون لها هذه القوة.
وأما الماء فهذه
القوة فيه قريبة جدا من الفعل لا تحتاج ، فى صدور الفعل منها ، إلا إلى زوال المانع. فهذه القوة ليست قوة الهيولى ؛ بل هى صورة زائدة على الهيولى ،
فاعلة للبرد فى الماء. وفيما ينفعل عنه بتوسطه.
وهم إذا قالوا إن
العناصر بالامتزاج تنكسر حمياتها ، وتصير بالقوة هى ما هى إنما يعنون هذه القوة القريبة. فهذه القوة
القريبة هى فصل حد كل واحد منهما . وإذا بقى للشىء
فصل حده لم تفسد صورته لا محالة.
__________________
فهم ، من وجه ، قد
يشيرون إلى هذا ، وإن لم يتفق لهم التصريح به.
ثم هذا المزاج على
وجوه :
إما أن يكون الحار
من البسائط يسخن البارد مقدار ما يبرد البارد الحار ، حتى يحصل أمر متوسط بين حميتى البرد والحر ، وكذلك بين حميتى الرطوبة واليبوسة ، فيسمى هذا الامتزاج معتدلا مطلقا.
فإن كان اعتدال
بين الحر والبرد ، ولم يكن بين الرطوبة واليبوسة ؛ بل غلبت الرطوبة ، قيل مزاج رطب
، أو غلبت اليبوسة ، قيل مزاج يابس.
وإن كان الأمر بالعكس ، فكان اعتدال بين الرطوبة
واليبوسة ، ولم يكن بين الحرارة والبرودة ؛ بل غلب الحر أو البرد قيل مزاج حار ، أو مزاج بارد.
فتكون هذه أمزجة خارجة عن الاعتدال خروجا بسيطا ، وذلك إذا استقر الفعل والانفعال
على غلبة من أحد طرفى مضاد وعلى اعتدال بين
الطرفين الآخرين ، وبإزائها أربعة أخرى مركبة ، وذلك عند ما لا يقع بين طرفى مضادة
من المضادين اعتدال ؛ بل يكون الاستقرار على غلبتين ، فيكون حار يابس ، وبارد يابس ، وحار رطب ، وبارد رطب ؛ فتكون جميع الأمزجة تسعة ، معتدلة ، وأربعة بسائط ، وأربعة مركبات.
فإذ قد قلنا فى
الكون والاستحالة وما يتصل بهما ، وفرغنا من جميع ذلك فبالحرى أن نتكلم فى النمو.
__________________
الفصل الثامن
فصل فى
الكلام
فى النمو
وأما النمو فإنه
لا يكون إلا بزيادة ما ، ولا كل زيادة. فإن المتكاثف ، كالماء ، إذا استحال هواء ،
فزاد حجمه ، فقد فسد وحدث شىء آخر مع حجمه ، ولم يكن موصوفا بحركه الازدياد التي عرضت ؛ ولا أيضا إذا كان الموصوف باقيا ولم ينضف إليه زيادة من خارج مثل الماء إذا تخلخل عند استحالته إلى السخونة ، وهو ماء بعد ؛
ولا كل زيادة منضمة فإنه إذا التصق بالجسم جسم ، أو زيد على ماء ماء ، وكل واحد من المزيد عليهما ساكن ، لم يستحل شيئا ؛
وإنما انضاف إليه زيادة ، فلا يكون ذلك حركة النمو ؛ بل يجب أن يكون
الشىء الباقى بالنوع تحرك بكليته إلى الازدياد بما يدخل عليه ، ولا كل ما كان
أيضا كذلك ؛ فإن الشيخ بعد وقوف النمو قد يسمن ، كما أن النامى فى سن النمو قد
يهزل. وليس زيادة السمن من النمو ، كما ليس نقصان الهزال من الذبول ؛
بل يجب أن يكون ذلك الازدياد مستمرا على تناسب مؤد إلى كمال النشوء ، ويكون الوارد قد فسد واستحال إلى مشاكلة
المورود عليه ، والمورود عليه قد نما ممتدا فى الأقطار
متجها إلى كمال النشوء. فيجب أن يكون هذا الوارد يداخل المورود عليه ، نافذا فى
خلل تحدثه فى جسمه
__________________
يندفع له المورد
عليه إلى أقطاره على نسبة واحدة فى نوعه ، والنوع باق في شخصه.
ولو كان نفوذه فى
الخلاء لما كان يحتاج الجسم ، فى أن يزداد ، إلى امتلاء ما فيه من الأبعاد الخالية
؛ بل كان حجمه واحدا ، كانت الأبعاد خالية أو لم تكن.
وهذه الحركة مما
تنسب إلى المتحرك بها من النبات والحيوان من جهة الحر . فإن الحيوان ، والنبات أيضا ، قوامه من نفس وبدن. وهذا
إنما يعرض العروض الأول للبدن ، ويعرض لبدنه من جهة مقداره.
فههنا هيولى النامى الحامل لصورة جسمية ، وهاهنا
المقدار الذي لتلك الهيولى ، وهاهنا الصورة الشكلية الخلقية
المحيطة بذلك المقدار. والهيولى دائمة التبدل ، فيشكل
من أمرها . ولا يبعد أن يظن بها أنها عساها أن تأبى التحلل على كل قديم منها ، ويحصل للشخص فى وقت من الأوقات جملة مادة غير الجملة الأولى. فلا
تكون مادته هى الباقية الثابتة ، حتى يكون النمو والزيادة
منسوبا إليها نسبة أولية.
فمن هذا لا يبعد
أن لا ينسب النمو إلى مادة واحدة بعينها. وأيضا ، فإن
المادة لا تنمو ، لأن مادة واحدة بعينها ، وإن
بقيت بقاء الدهر ، فإنها لا تصير بسبب النمو أعظم
؛ بل الأعظم هو المجتمع منها ومن الزيادة. وهى مع الزيادة على القدر الذي كانت عليه قبل الزيادة. وإنما الأزيد هو شىء آخر ، وهو هذا
المجموع ؛ وهذا المجموع من حيث هو مجموع إنما حدث الآن
بانضمام الزيادة إلى الأصل. فلا المادة نامية ولا الزيادة.
وأيضا فإن المقدار
المحمول فى المادة حكمه ، فى الأمرين جميعا ، هذا الحكم.
__________________
والصورة أيضا يقبح
ما يظن فيها من أنها تحفظ تبديل المادة ، حتى يكون البناء المركب من الآجر إذا انتزع منه آجرة آجرة ، حتى يبدل الآجر كله يكون هو بعينه البناء الأول بالعدد ، ويكون الشكل والصورة ،
تنتقل ، وهى واحدة بعينها بالعدد من مادة إلى أخرى. وهذا من المحال ؛ بل إنما يتم ذلك بأن تبطل الصورة الأولى من البناء مع انتقاض حاملها ، وتحدث صورة أخرى شبيهة بالأولى. وهذا شىء قد سلف منا بيانه.
وأيضا إن تبدل بعض المادة ، فيجب أن يعلم أن الصورة ليست واحدة بعينها.
ولا يلتفت إلى ما
يقولون. وذلك أن الباقى من الصورة فى بعض الباقى من المادة هو جزء الصورة. ولعمرى إنه لم يحدث إلا من جهة ليس كلامنا فى مثلها. وأما البعض الآخر من الصورة ، وهى التي فى المادة المتجددة ، فليس هو
الأول بعينه ، كما علمت فى متبدل المادة بأسرها ،
وإنما هو مثل الأول . وإذا كان صورة الكل فى هذا الموضع هى جملة الباقية والحادثة ، وليست هى الجملة الباقية ، والصورة الباقية بجملتها هى جملة باقية ، فليست الصورة باقية عند النمو.
فينبغى لنا أن نطلب المخلص من هذه الشبهة ، فنقول :
يجب أن نعلم أن أنواع النبات والحيوان لا يستبدل البتة منها جميع المادة ، ولا
يتحلل عنها جميع المادة ؛ بل يتحلل ، فى أول الأمر ، اللطيف المتحل منه ، ويستمد بدله. وإن تحلل الكثيف منه فإنما يتحلل آخر الأمر. ويتحلل القليل منه ، ويبقى فى الجملة على الاستمرار ما يستحفظ القوى
والصور الواجبة. والنفس إن كانت محتاجة فى قوامها إلى المادة ، أو
كانت محتاجة ، فى أفعالها الأول ، إلى المادة ، فإن انضم إليها
__________________
شىء استحال إليها
، وزاد فيها وفى كمالات القوة المستحفظة بالأولى التي هى قائمة بالمادة.
فيكون كأن في
كمالات تلك القوة شيئا قديما وشيئا منضافا إليه ، أو تكون الصورة والقوة هى تلك القديمة ، وإنما انضاف إليها كمالاتها ، وتكون الجملة ليست هى القديمة بل حادثة من القوى ، ويكون
الأول لم يبطل ؛ وإنما انضاف إليه ما صار به أكمل.
ولو كانت المادة
تتبدل لكانت الأنداب والشامات قد
تبدلت. فالباقى فى الشخص من مادته هو ما تستحفظ به الصورة الأولى الأصلية. ومن
الصور القائمة فى المادة التي لا تتبدل بتمامها صورة النوع. وأما
القوى التي هى الكمالات الثانية لصورة النوع فقد ينضاف إليها
الزيادة والمقادير. فقد تكون الأولى منها المحفوظة
بالمادة المحفوظة باقية ، وتنضاف إليها زيادة
تتميز عن الأول فى القوام والاستحكام لتأخره. فيكون هو أيضا معرضا
للتحلل قبل المادة الأولى.
وأما الشكل
والخلقة فمن جملة أمور عارضة لازمة للصورة النوعية ، أو عارضة غير لازمة.
فالباقى فى هذه
الحركة التي هى النمو ، هو الصورة النوعية ، والزائد هو المقدار فى أول الأمر ، ثم الصورة الشكلية والخلقية لأجل المقدار.
فإنها تصير أزيد لأن الصورة الواحدة الشكلية بعينها تصير أصغر وأكبر. فإنها تكون فى المقدار الذي هو أنقص أصغر ، وفى
الأزيد أكبر. والمقدار أيضا كذلك قد لا يكون أولا ناقصا ، ثم
إذا أضيف إليه الغذاء المنمى صار أعظم ؛ لأنه مجموع مقدارين ، لا أن المضاف إليه نفسه صار أعظم ؛ بل هو كما كان. إنما الأعظم هو المجموع. وأما الشىء الذي له
هذه المادة ،
__________________
حين له هذا الشكل ، فهو نوع الشىء ، وهو باق واحدا بعينه بلا
اختلاف ، وهو الذي تصير مادته مادة مضافا إليها زيادة ولا
ينمو. فإن النمو والازدياد فى الحجم ليس مما يعرض لمثلها من الصور الطبيعية التي ليست مقدارا ولا عرضا من الأعراض
الذاتية للمقدار.
ولا المقدار نفسه
ينمو. فإنه كما كان فى نفسه ، والزيادة لم تجعله أعظم ؛ بل أحدثت مجموعا منه ، ومعها عظيما.
وأما الصورة
الشكلية فهى التي تنمى ، أى أن كل جزء من
الصورة يصير أعظم مما كان ، ولا كذلك المادة ولا المقدار.
فالمتحرك أولا هو
النوع ، وحركته هى فى صورة الشكل والخلقة بوساطة المادة ثم المقدار النامى. فالنوع هو النامى ، أى هو الزائد فى مقدار خلقته بسبب مادته ومقدارها. فهكذا ينبغى أن
يعقل أمر النمو. والمنمى هو الغذاء. وهو غذاء ومنم . وهو غذاء من جهة ما هو شبيه بالشيء بالقوة يقوم بدل ما يتحلل منه.
وهو منم من جهة ما له مقدار يزيد فى مقدار النامى. والغذاء هو الذي
يقوم بدل ما يتحلل بالاستحالة إلى نوعه.
فقد يقال له غذاء ، وهو بعد بالقوة مثل الحنطة. وقد يقال له غذاء إذا لم يحتج إلى غير الالتصاق والانعقاد فقط ، وقد حصل له
التشبه فى الكيف. وقد يقال له غذاء ، وقد غذا وصار لحما. والغذاء تتم منفعته فى كونه
غذاء بأن يتشبه ويلتصق ، فأنمى بدل ما يتحلل. فإن لم يتشبه كمادة البرص ، كان غذاء ، لا
فى كمال أحواله. وإن تشبه
__________________
ولم يلتصق كمادة
الاستسقاء الزقى لم يكن غذاء بالفعل نافعا فى كمال
أحواله ؛ بل يجب أن يتشبه ويلتصق معا ، حتى يغذو غذاء طبيعيا.
والغذاء الأول ،
أعنى التشبه بالقوة هو جوهر لا محالة. فإنه يستحيل أن يكون غير الجوهر جوهرا
بالقوة. ويجب أن يكون جوهرا غير ممتنع عن أن يكون له مقدار طبيعى ، وإلا لم يتكون
عنه جسم طبيعى. فلا يخلو إما أن يكون ذلك له بالفعل عند ما
هو شبيه بالقوة ، أو يكون بالقوة. فإن كان بالقوة فهو هيولى مجردة ، ويستحيل
قوامها إلا مقارنا لصورة جسمانية. فهى إذن ، تكون مقارنة لصورة جسمانية ، وتلك الصورة الجسمية تزول عند قبولها هذه الصورة.
ولا نطول الكلام
فى بيان أن تلك الصورة تكون صورة جسمية له ، لا لغيره ، وإلا كان مع هذه الهيولى هيولى
أخرى فى صورة واحدة ، وصار جسمان فى جسم ، وغير ذلك.
فليس إلى ذلك للمحصلين حاجة ؛ بل يكفينا أن نعلم أن تلك الهيولى ، لمّا قارنتها صورة جسمية
، قبل هذه ، فقد كانت الجسمية موجودة لها قبل ، وكان الشبيه بالقوة جسما بالفعل ، ولا يجوز أن يكون الجسم الكلى العام ؛ فإن ذلك لا وجود له
إلا فى الوهم ؛ بل هو جسم ما شخصى. فغذاء كل جسم شخصى ، ومبدأ إحالة الغذاء موجود فى المغتذى ؛ لأن القوة المشبهة موجودة فيه ؛ ومبدأ النمو ، وهو الذي
يلصق بالنامى ما هو يزيد فى كميته ، هو أيضا فى النامى. لكن كمية الغذاء شىء
يصير أيضا كمية المغتذى أكبر . فهو أيضا مبدأ للنمو ، وهو فى الغذاء.
__________________
وقد يتفق أن يكون
الذي به يقع النمو محيلا. وذلك إذا لم تقدر القوة المشبهة أن
تكمل تشبيهه فى جوهره وكيفه ، أو يكون أول ما
يرد يؤثر فى البدن ، ثم يكر عليه البدن فيؤثر فيه ، ويحيله إذا كان قد استرخت قوته فى موافقة من المغتذى ، مثل الثوم ؛ فإنه يغذو النامى ويسخنه معا. والمربى بالفعل شبيه بالفعل ، والمربى الذي هو بعد غذاء لم يستحل شبيه بالقوة. وربما كان ضدا
أو متوسطا ، وربما لم يكن ضدا ؛ فإن الحنطة ليست ضدا للدم ،
وإنما هى غذاء من طريق ما هى حنطة ، لا من طريق ما هى حار وبارد فقط.
فليكن هذا كافيا
فيما يجب أن نقول فى أمر المربى والمنمى وهو الغذاء من حيث له مقدار يزيد فيما
يغذوه. فحرى بنا الآن أن ننتقل إلى إيضاح القول فى الاسطقسات وعددها.
__________________
الفصل التاسع
فصل فى
إبانة عدد الأسطقسات
وقد سبق منا القول إنه لا يصح أن يكون الأسطقس واحدا ، وكيف يكون ذلك. وقد علمت أرضا. أنه لا يصح أن يكون ما هو فى جوهره
نار ماء ، أو ماء نارا ، أو أرض هواء ، أو
هواء أرضا. وكيف يكون ذلك ، وهاهنا فعل وانفعال بقوى متضادة لا تنبعث عن صورة متفقة ؛ بل إنما تنبعث عن صورة مختلفة. والصورة المختلفة تستحق تنويعات مختلفة ، ولا فضل لصورة على أخرى ، حتى يجعل تركيبها مع العنصر اسطقسا
بالتخصيص دون غيره.
وإذا هذا من
المتضح الذي لا شك فيه فمتضح ، لا شك فيه ، أن الأسطقس ليس بواحد. فهو إذن كثير. ومعلوم أنه ليس بكثير غير متناه. فبقى أن تكون
الأسطقسات كثيرة متناهية.
وينبغى أن تكون
ذات صور يصدر عنها ، فيما بينها ، فعل وانفعال ، حتى تكون أسطقسات تتكون منها المركبات بالامتزاج ، وأن تكون الكيفيات الصادرة عن صورها أقدم الكيفيات
المتفاعلة ، ولأنها أسطقسات لهذه الأجسام المحسوسة ليست أسطقسات
__________________
للأجسام الموهومة
، فيجب أن تكون الكيفيات التي تخصها كيفيات محسوسة. ومن شأن الحاس أن يشعر بفعلها فيه.
والكيفيات
المحسوسة متصنفة بحسب تصنيف الحواس ، لكن الكيفيات التي تخص حس البصر كالألوان ، أو حس السمع كالأصوات ، أو حس الشم
كالروائح ، أو حس الذوق كالطعوم ، ليست من الكيفيات الأولى فى هذه الأجسام
العنصرية ، ولا من المشترك فيها. فإن المركبات أنفسها قد توجد خالية عن أطرافها ووسائطها. وإنما تحدث فى المركبات ، بعد تفاعل يقع منها فى كيفيات قبلها. وهذا يدل عليه الاستقراء الصناعى.
وأما الكيفيات
الملموسة فلا يخلو عنها وعن وسائطها جسم من الأجسام المستقيمة الحركة. ولا جسم
منها إلا وطرف من أطراف مضادتها موجود فيه ، أو ضده ،
أو هو قابل له أو لضده. فينبغى أن تكون الفصول الأولى للأجسام الأولى منها محصلة بهذه الكيفيات ، دون
الطعوم والروائح والألوان.
وأما الكيفيات
الأخرى المتقدمة لسائر الكيفيات مما لا يحس إحساسا أوليا باللمس مثل الشكل ، ومثل الخفة والثقل ، وأشياء سنعدها ، فإنها
لا تفيد الفصول التي نحن فى طلبها.
أما الشكل فلأن
الطبيعى فيه متشابه البسائط ، فلا ينفصل به ؛ ولو كان مختلفا
أيضا لما صلح أن يقع به فعل أو انفعال. والقسرى أبعد من ذلك.
وأما الخفة والثقل
فبالحرى أن تفيد الفصول للأجسام الأسطقسية. لكنه لا يفيد
__________________
ولا واحد منهما
الفصل الذي هو به أسطقس. فإن الفصل الذي به الأسطقس أسطقس هو الذي به يفعل وينفعل الفعل والانفعال الذي به يتم المزاج ، وذانك فى الكيف ، لأن الأسطقس إنما هو أسطقس للممتزج ، ولا فعل ولا انفعال ، فى باب الكيف ، يصدر عن الخفة والثقل.
وإنما توجب الخفة والثقل بالذات انفعالا فى الحركة المكانية. ويجب هاهنا أن نتذكر ما سلف من قولنا إن الماء ، مثلا ، ليس كونه ماء هو كونه
أسطقسا ، وليس كونه أسطقسا هو كونه جزءا من العالم ، وله قياس إلى تقويمه
العالم وله قياس إلى تقويمه المركب. ومن حيث هو ماء يجب أن يكون فى طباعه أن يرجحن ، وأن يكون باردا رطبا إذا لم يعق ، ومن حيث هو جزء من العالم فالأنفع له الثقل المحصل له فى حيزه الطبيعى ، وهو الأعون له على استكمال معنى كونه جزءا من العالم. ومن حيث هو جزء
من المركب وأسطقس فلا يعين فيه الثقل الذي له ، ولا الخفة التي له ، اللذان
بهما تصير ، إلى موضعه ، كل المعونة ؛ بل كأنهما يناقضان مناقضة ما
للمنفعة المطلوبة فى الأسطقس من حيث هو أسطقس عند كونه أسطقسا.
إنما يكون الأولى به مفارقته لمكانه الطبيعى ، ومصيره إلى مشابكة أضداده ؛ بل إنما يكون الأنفع له والأعون
إن كان ماء ، أن يكون باردا رطبا يفعل
بهما وينفعل ، حتى يستفيد المزاج. وإن كان نارا فضد ذلك ، وهو أن يكون حارا يابسا.
وأما ثقل ذاك وخفة
هذا فقليلا النفع أو مضادا النفع فيما يحتاج إليه فى المزاج ؛ لأنهما يدعوان إلى التباين
والتنائى ، لا إلى الاجتماع والتلازم ، ولا لهما فى الاجتماع تأثير فى المجتمع سار فيه.
__________________
وكذلك إن كانت من الكيفيات كيفيات ، مثل الثقل والخفة ، لا تقع فى الفعل والانفعال ، فلا تكون داخلة فى الفصول التي بها تصير الأجسام البسيطة
أسطقسات من حيث تصير أسطقسات.
ثم إن الكيفيات
المنسوبة إلى اللمس مختلفة المراتب. فليس كلها فى درجة واحدة ؛ بل بعضها أقدم من بعض. ويشتمل على جملتها هذا التعديد ؛ وذلك أن الكيفيات الملموسة هى
الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، واللطافة والغلظ ، واللزوجة والهشاشة
والجفاف والبلة ، والصلابة واللين ، والخشونة والملاسة.
واللطف يقع على
معنيين : أحدهما رقة القوام ، والآخر قبول القسمة إلى أجزاء صغيرة جدا. والغلظ
يقابلهما ويشبه أن يكون التخلخل مشابها للّطيف بالمعنى الأول ، إلا أن التخلخل يستدعى معنى زائدا على الرقة ، وإن كان تابعا
لها ، حتى تكون الرقة تدل عليه دلالة الملزوم.
والتخلخل يدل عليه
دلالة المتضمن. وذلك لأن التخلخل هو اسم واقع على معنيين.
أحدهما : أن تكون
المادة انبسطت فى الكم مترققة. فيتضمن هذا المعنى مع الرقة ازدياد حجم ، وتكون فيه إضافة إلى شىء آخر ، أو غير يكون أصغر حجما.
وأما الآخر فكالماء للهواء. أما الغير فكالماء الواحد لنفسه ، إذا كان اشد تكاثفا فصار
أشد تخلخلا ، ولو لم تكن هذه الإضافة لكان الأولى بالمعنى اسم اللطافة والرقة.
ويقال نخلخل
لتباعد أجزاء الجسم بعضها عن بعض على فرج يشغلها ما هو ألطف من الجسم ، وتكون جملة الاتصال بينها لم تفقد ؛ بل بين أجزائها تعلق ثابت ،
__________________
فلا يتبرأ بعضها من بعض تبرؤا تاما. وهذا غير مشتغل به فى هذا الغرض.
لكن اللطيف ،
والمتخلخل على أول الوجهين ، وفيه الكلام ، غير نافع فى الفعل والانفعال إلا بالعرض ،
وهما جاريان مجرى الخفة والثقل ؛ ويكادان يلازمانهما ، حتى
أن كل ما هو أثقل فهو أغلظ وأشد تكاثفا.
وأما اللزوجة
فإنها كيفية مزاجية لا بسيطة. وذلك أن اللزج هو ما يسهل تشكله
، بأي شكل أزيد ، ويعسر تفريقه ، بل يمتد متصلا. فهو مؤلف من رطب ويابس شديدى الالتحام والامتزاج. فإذ عانه من الرطب ، واستمساكه من اليابس ، وإنك إن أخذت ترابا وماء ، وجهدت فى جمعهما بالدق والتخمير ، حتى اشتد امتزاجهما ، حدث لك جسم لزج.
والهش ، والذي
يخالفه ، هو الذي يصعب تشكله. ويسهل تفريقه. وذلك لغلبة اليابس فيه ، وقلة الرطب ،
مع ضعف المزاج.
وأما البلة فمعلوم
أن سببها رطوبة جسم رطب يمازج غيره. فإن هاهنا رطب الجوهر ومبتلا ومنتقعا.
فرطب الجوهر هو الجسم الذي كيفية الرطوبة تقارن مادته ، ويكون
كونها له كونا أوليا ، مثل الماء.
وأما المبتل فهو
الذي إنما يرطب برطوبة جسم غيره. وتلك الرطوبة لذلك الجسم أولية. لكن ذلك الجسم قد قارنه ، فقيل إنه مبتل ، فيصلح
أن يخص باسم المبتل
__________________
ما كان هذا الاسم جاريا على ظاهره ويصلح أن يقال على التعميم ، حتى يكون المبتل هو كل جسم
مترطب رطوبة غريبة.
لكن المنتقع لا يكون منتقعا إلا بأن يكون الرطب الغريب جرى فيه ، ونفذ إلى باطنه.
فالمنتقع من الوجه الأول كالنوع من المبتل ، ومن الوجه الثاني هو مباين له ، غير داخل
فيه.
وقد يكون الجسم
اليابس رطبا أو منتقعا ، ولا سواء رطوبة
الغصن النضير ، ورطوبة الذاوى اليابس النقيع. فان جوهر هذا يابس ، وقد نفذ فيه رطب غريب
، وذلك جوهره رطب من نفسه ، فالجاف بازاء المبتل ،
كما أن اليابس بإزاء الرطب. والصلابة واللين أيضا من الكيفيات المزاجية. وذلك أن اللين
هو الذي يقبل الغمز إلى باطنه ، ويكون له قوام غير سيال ينتقل عن وضعه ، ولا يقبل امتداد اللزج ولا يكون له سرعة
تفرقه وتشكله. فيكون قبوله الغمز من الرطوبة ، وتماسكه من اليبوسة.
وأما الملاسة
فمنها ما هو طبيعى ؛ ومنها ما هو مكتسب. والطبيعى لازم لكل جسم بسيط ، لوجوب إحاطة
سطح واحد به تمييز مختلفة الأجزاء فى النتوء ، والانخفاض ، وبالجملة غير مختلفة
الوضع ، فلا تختلف به الأجسام
البسيطة.
لكن الملاسة قد
تعتبر فى طبيعة الأجسام من جهة أخرى. وذلك أن من الأجسام ما يسهل
تفريقه على الملاسة حتى يكون تمليسه سهلا على أن تفريق
كان. فتكون الفصول التي تقع فيه إما أملس وإما سهل الحركة إلى
الملاسة ، وهذا يتبع رطوبة جوهر الشىء.
__________________
والخشونة ، فى
الجملة ، تقابل ذلك. فالملاسة والخشونة بالجملة ، لا يدخلان فى الفعل
والانفعال.
وبعد ذلك ،
فالطبيعى لا تختلف به الأجسام ، والمواتى والعاصى يتبع الرطوبة
واليبوسة التي فيه. فيرجع أكثر هذه الأشياء إلى الرطوبة واليبوسة ، لكن الرطوبة قد
تقال للبلّة ، وقد تقال للكيفية ، وكلامنا فى رطوبة الكيفية.
ويتبع بعض الأجسام
الرطبة الجوهر أمر ، وهو الملاصقة والملازمة لما يمسه من جنسه كما للماء ، حتى أن الجمهور يظنون أن الرطوبة حقيقتها هذا. لكنهم
يشاهدون أن الجسم كلما كان أرق كان أقل التصاقا واستمساكا بما يلامسه ، وكلما كان
أغلظ كان أشد وأكثر ملازمة.
والماء اللطيف الجيد إذا غمر فيه الإصبع كان ما يلزم الأصبع منه أقل مما يلزم من الماء
الغليظ أو الدهن أو العسل. فإذن هذه الخاصية لا تلزم الجسم من جهة ما هو رطب مطلقا ، وإلا لكان ما هو أرطب وأرق من الرطوبات أشد
لزوما والتصاقا ؛ بل هو لازم للكثافة والغلظ إذا اقترن بالرطوبة ؛ بل تبقى للرطوبة سهولة التحدد بغيرها والتشكل بغيرها ، مع سهولة الترك وضعف الإمساك ، كما أن اليابس يلزمه الثبات على ما يؤتاه من الشكل ، مع معاوقة فى قبوله.
فيجب أن يتحقق أن الرطوبة هى الكيفية التي بها يكون الجسم قابلا النحو الأول من القبول ، واليبوسة هى التي بها يكون الجسم قابلا النحو الثاني من
القبول.
فلا يستبعد أن
يكون الهواء رطبا ، وإن كان لا يلتصق ؛ إذ الالتصاق ليس لنفس
__________________
كون الشىء رطبا ؛
بل للغلظ. والهواء إذا غلظ ، فصار ماء ، صار أيضا على صفة
الملازمة والالتصاق.
فالكيفيات الملموسة الأولى هى هذه الأربعة :
اثنتان منها
فاعلتان ، وهما الحرارة والبرودة ، ولكونهما فاعلتين ما تحدان بالفعل ، بأن يقال إن
الحرارة هى التي تفرق بين المختلفات ، وتجمع بين المتشاكلات ، كما تفعله النار. والبرودة هى التي تجمع بين المتشاكلات وغير المتشاكلات كما يفعل
الماء.
واثنتان منفعلتان
وهما الرطوبة واليبوسة. ولكونهما منفعلتين ما تحدان بالانفعال فقط. فيقال إن الرطوبة
هى الكيفية التي بها يكون الجسم سهل الانحصار والتشكل بشكل
الحاوى الغريب ، وسهل الترك له. واليبوسة هى الكيفية التي بها يعسر انحصار الجسم وتشكله من غيره ، وبها يعسر تركه لذلك . ولذلك فإن الجسمين الرطبين يسهل اتصالهما مع التماس ، ويصعب ، أو لا يمكن ، تفريقهما عن التماس المحفوظ إلى أن يتفرقا بل عن الاتصال
بسهولة جدا. واليابس بالخلاف من ذلك.
فلهذا ما تسمى تانك فاعلتين وهاتان منفعلتين ، وإن كان الحار والبارد كل واحد منهما يفعل فى الآخر. كما ينفعل منه. وكذلك كل واحد من الرطب واليابس يفعل فى الآخر ، وينفعل منه. لكنه إذا قيس
الحار والبارد إلى الرطب واليابس وجد الرطب واليابس لا
يؤثران فيهما ، ووجدا يؤثران فى الرطب واليابس ، مما نعلمه بعد من حال الحل والعقد وغير ذلك.
__________________
فهذه الأربعة هى
الأوايل. ويتركب منها أربع مزاوجات صحيحة. فيكون من
الأجرام البسيطة جرم تتبع طبيعته كيفية الحر واليبوسة ، وآخر
تتبع طبيعته الحر والرطوبة ؛ وآخر تتبع طبيعته
كيفية البرد والرطوبة ؛ وآخر تتبع طبيعته البرد واليبوسة. فتكون هذه الأسطقسات.
والأرض هى الجسم الظاهر من أمره أنه بسيط يابس. وبمخالطته يكون كل جسم يابسا. والماء ظاهر من أمره أنه بارد رطب ،
وبمخالطته ، يكون غيره باردا رطبا.
والهواء ظاهر من
أمره أنه بسيط رطب.
والنار ظاهر من
أمرها أنها بسيطة حارة.
لكن الأرض فى
طبيعتها البرد أيضا ، وذلك أنها إذا تركت وطباعها ، وأزيل عنها تسخين الشمس ، أو
سبب آخر ، وجدت باردة اللمس. وإنما تسخن بسبب غريب.
وكيف لا ، والثقل
لا يوافق الحرارة؟ وجميع الأجسام الغالب فيها الأرضية تبرد الأبدان.
والهواء إذا ترك
وطباعه ، ولم يبرد بسبب مخالطة أبخرة تزول عنها
الحرارة المصعدة ، وتعود إلى طبيعة الماء ، كان حارا. وكيف
لا يكون كذلك والماء إذا أريد أن يحال هواء سخن فضل تسخين؟ فإذا استحكم فيه التسخين كان هواء.
وأما النار فإنها ليست سهلة القبول للأشكال ؛ بل هى منحصرة بذاتها. فهى يابسة. لكن إثبات
حرّ الهواء ويبس النار ، وخصوصا يبس النار ، وإيضاح القول فيه
يصعب. وسنأتى فيه بالممكن.
__________________
وقد قيل إن اللهيب
والغليان لما كان كل واحد منهما إفراط حرارة ، وكان الجمود إفراط برد ، وكان الجمود خاصة
البارد والرطب ؛ فكذلك اللهيب والغليان خاصة الحار اليابس. وهذا قول لست أفهمه حق
الفهم ، وعسى أن يكون غيرى يحققه ويفهمه.
وذلك لأن الغليان فليس إفراط حر ؛ بل إن كان ولا بد فهو حركة تعرض للرطب عن الحر المفرط. ولا اللهيب إفراط الحر ؛ بل إضاءه تعرض عن إفراط الحر
فى الدخان فإن سمى اشتداد الحر لهيبا فلا مضايقة فيه. والجمود ليس إفراط يرد ؛ بل
أثر يعرض من إفراط البرد لا فى كل جسم ؛ بل فى الرطب. ولا الجمود ضد الغليان لأن
الغليان حركة إلى فوق. وتضادها الحركة إلى أسفل إذا كانت تضعه. فأما الجمود فليس هو حركة. فلعل الواجب أن يجعل الجمود اجتماع المادة إلى حجم صغير مع
عصيان على الحاصر المشكل ، والغليان انبساطها إلى حجم كبير مع ترقق وطاعة لحصر المشكل. فإن كان كذلك كان الخلاف بينهما ما بين التكاثف
والتخلخل.
ولم يستمر ما
يقولونه. ثم ليس مما يجب ضرورة أن يكون الضد يعرض للضد ؛ فإن
الأضداد قد تشترك فى أمور منها الموضوع.
وقد علمت فى كتب
المنطق أن مثل هذا الكلام كلام مقنع لا محقق ، وجدلى لا برهانى . ويشبه أن يكون لما تشككت به على هذا القول جواب ، لكنى لم أحصله بعد ، ولم أفهمه.
فالأولى أن نشتغل بتبيين يبس النار ،
ونجعل الطريق إليه إبانة أنها لا تقبل الحصر والتحديد. ويكون بياننا أنها لا تقبل الحصر والتحديد ، لا من جهة المحسوس ؛ وذلك لأن النار المحسوسة غير صرفة. ومع ذلك ، فإنه يعرض للأجسام فى
__________________
غير مواضعها
الطبيعية أن تحفظ أشكالها المواتية للحركة ، كالماء المصبوب فى انصبابه ؛ بل نجعل بياننا ذلك بضرب من القياس ، وهو أن النار لا يشك فى أنها حارة.
فلا يخلو إما أن تكون حارة رطبة أو حارة يابسة لا تسهل طاعة طباعها للحصر من غيرها.
فإن كانت حارة رطبة فهى من جوهر الهواء ، وإذا كانت من جوهر الهواء لزم أن يكون مكانها مكان الهواء ، فيلزم أن لا تكون النار هاربة عن حيز الهواء إلى حيز
آخر ، فهى إذن حارة يابسة.
وقد يقول على هذا
قائل إن الهواء نفسه ، إذا سخن ، ارتفع عن حيّز هذا الهواء المعتدل الحر ، والبخار
أيضا يرتفع ، ويطلب مكانا فوق مكان الهواء ، وهو بعد أشبه بالماء من الهواء بالماء
، وإنما يصعده الحر المفرط ، فالحر المفرط هو سبب أن
تكون النار هاربة عن حيّز هذا
الهواء ، الذي ليس حرّه بمفرط ، وإن كان من طبيعته كالماء ، الذي هو دونه فى المكان ، إذا سخن فإنه يهرب عن موضع الماء والهواء
جميعا هربا إلى فوق ، كالهواء نفسه إذا سخن ، فما كان من الهواء أسخن من سائر الهواء فهو
هارب عن حيزه المعتدل بسخونته.
فنقول مجيبين : إن
الحيز المطلوب إن كان من طبيعة الحيز المهروب
عنه لا يخالفه فطلب ذلك والهرب عن هذا محال.
وإن كان ليس من
طبيعته ، فهو ، لا محالة ، حيز لغير الهواء. وليس يمكن أن يكون حيزا إلا
لمفرط الحرارة إذا كان هذا المتصعد إنما يتصعد لأنه مفرط الحرارة.
فيكون حيز ما هو
مفرط الحرارة حيزا غير حيز الهواء. ولا شك أن ذلك هو حيز
__________________
النار ، فتكون
النار غير الهواء فى الطبع ، والهواء المتسخن هو يطلب غير حيز الهواء ، كما أن الماء المتسخن يطلب غير حيز
الماء. ولكن ذلك الحيز حيز لجرم آخر لا محالة ، بالغ فيه الكيفية المصعدة للهواء وللماء عن حيزهما ، وليس يطلب شىء منهما حيز نفسه. وفى طلبهما حيزا آخر إثبات حيز
آخر لجسم آخر ، وهو النار. ولا يجوز أن يكون الحيز واحدا
إلا أن الأسخن يطلب منه ما هو أرفع ؛ وذلك لأن الأرفع إما
أن يتحدد بحد جسم شامل ، أو حد جسم مشمول ؛ إذ لا وجه لإثبات الخلاء
، ولا لاثبات الأبعاد.
فإن كان ذلك الأرفع والأدون يتحدد بتحديد جسم شامل متعين ، أو مشمول متعين ليس هو حد جسم شامل للأدنى ، أو مشمول فى الأدنى ، فالأرفع والأدنى مكانان
مختلفان ، فلهما جسمان ، بالطبع ، مختلفان. وإن كان يتحدد بشامل واحد فى الطباع فلا مكان أرفع وأدون ؛ بل المكان ذلك أو أجزاؤه إن أخذت
على وجه التوسع ، وأجزاؤه متفقة فى القرب والبعد ، والعلو والسفل.
فبين من هذا أن النار حارة يابسة. لكن سلطان النار الحرارة ، وسلطان الهواء الرطوبة ، وسلطان الماء البرودة ، وسلطان الأرض اليبوسة. وبالحرى أن يكون الماء والأرض بالقياس
إلى الهواء يابسين. فإن البرد يقتضى الجمود والتكاثف. ولو لا الحرارة الخارجة لكان
الماء جامدا. لكنه بالقياس إلى الأرض رطب. فإنه إما سيال بذاته ، وإما شديد
الاستعداد للسيلان ، من أدنى سبب خارج ، والبرد الذي يجمد به الماء
__________________
إن أردت الحق وترك العادات فليس إلا بردا مستفادا فى الهواء من الماء والأرض. فإذا
صار الهواء بحيث لا يسيل الماء استولت طبيعة الماء والأرض على الماء ، وعاونهما الهواء ، إما بالتبريد وإما بإزالة التسخين ، فجمد من الماء ظاهره أولا
لاحتقان الحار فى باطنه ، ثم لا يزال يجمد حتى يستولى الجمود على جميعه لطبيعة البرد الذي أولى العناصر به الماء ، وأولى الآثار به الإجماد.
وطبيعة الماء
والأرض هما اللذان يحدثان بردا فى الهواء ، يعود ذلك البرد معينا
لطبيعة الماء على إحداث كيفية البرد فى نفس الماء على قدر يتأدى
إلى الإجماد.
والنار والهواء ، بالقياس إلى الجامدات ، متخلخلان رطبان ، لكن النار ، بالقياس إلى
الهواء ، يابسة ؛ لأنها أبعد عن قبول التشكيل والاتصال مع المماسة من الهواء. فهذا هو الحق الذي يجب أن يعتقد.
وقد يمتعض لسماع هذا الفصل الأخير قوم لا نشغل قلوبنا بهم.
ويزيدهم امتعاضا ما نريد أن نذكره من تحقيق ذلك
فيما يستقبلنا من الكلام. ثم هاهنا شكوك.
__________________
الفصل العاشر
فصل فى
ذكر شكوك تلزم ما قيل
بالحرى أن تبع هذا الفصل بذكر شكوك لم نتعرض لها ، ثم نعقبها بالكلام الفصل. من ذلك أمر حدود الكيفيات الأربع ورسومها.
فإن الحرارة ليست إنما تفرق المختلفات ؛ بل قد تفرق المتشاكلة ، كما تفعل بالماء. فإنها تفرقة تصعيدا. وأيضا فإن النار قد تجمع المختلفة. فإنها
تزيد بياض البيض وصفرتها تلازما ، ثم بالحقيقة. ولا
أحد الفعلين لها فعل أول وذلك لأن فعلها الأول تسييل الجامد من الرطوبات بالبرد وتحليله ، ثم تصعيده وتبخيره.
فإن كانت
المجتمعات مختلفة فى قبول التحليل والتبخر ، بأن كان بعضها أسرع فيه ، وبعضها أبطأ ، أو كان بعضها قابلا ، وبعضها غير
قابل ، عرض عن ذلك أن بادر الأسرع دون الأبطأ ، والقابل دون غير القابل إلى التصعد
والتبخر ، فيعرض منه الافتراق.
ولو كانت هذه
الأشياء متشاكلة فى الاستعداد لهذا المعنى لم يمكن النار أن تفرق
__________________
بينها. وأيضا فإن الحار يفعل فى البارد والبارد فى الحار ، ولا يفعل الحار فى الحار ولا البارد فى البارد. وكذلك
الرطب يفعل فى اليابس ، واليابس فى الرطب ، ولا يفعل الرطب فى الرطب ، ولا اليابس
فى اليابس. وإذا كان الحار والبارد يفعل كل منهما فى الآخر ، وكل واحد منهما أيضا ينفعل عن الآخر ، وكذلك الرطب
واليابس ، فليس إحدى الطبيعتين أولى بأن تخص بالفعل من الأخرى ، ولا أولى بأن تخص بالانفعال من الأخرى.
ومن ذلك الشك فى
أمر النار ويبسها ، والهواء وحره ، والأرض وبردها. فإن
لقائل أن يقول : إنه ليس يجب أن يكون جميع ما توجبه القسمة ، ولا ينكره العقل فى أول النظر ، حاضرا موجودا. فعسى أن لا يمكن أن يكون شىء هو حار رطب ، أو شىء هو بارد يابس ؛ ليس لأن العقل وحده يمنع عن اجتماع الحرارة والرطوبة ،
والبرودة واليبوسة ، منعه عن اجتماع الحار والبارد ،
والرطب واليابس ، ولكن الأمر ليس يعقل بديهة. فإن هاهنا أمور لا تمنع الازدواجات عن وجودها ، ولا بديهة العقل ، ويمنع الحق وجودها. فإنه ليس يمتنع ، فى أول العقل ، أن يكون حار ، بالطبع ، فى
غاية الثقل ، وليس هذا بموجود البتة.
ولو كانت القسمة
تعتبر ويلتفت إليها لكان يجوز أن نقول : إن من العناصر ما هو حار يابس خفيف ، ومنها ما هو حار يابس ثقيل ، ومنها ما هو حار رطب خفيف ، ومنها حار رطب ثقيل ، وكنا نحكم أن كل ما لا تمنع
القسمة الجمع بينه ، كما بين الحرارة والثقل فى أول العقل ، فإن المستحصل منه
بالقسمة موجود فى الأعيان. فكما أن الثقل لا يخالط
__________________
الحرارة ، مع كونه
غير مضاد للحرارة ، ولا مقابل ، ولا محكوم عليه ببديهة العقل أنه مناف ؛ فكذلك يجوز أن تكون الرطوبة واليبوسة
لا تخالط الحرارة ، ولا تخالط البرودة ، فيكون حينئذ ، الموجود أنقص من المقسوم.
ومع هذا ، فلم
يستوف أصحاب هذه القسمة قسمتهم ؛ بل بخسوا القسمة حقها ، وذلك
لأنه لا يخلو إما أن تكون الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة الأسطقسية لا تكون إلا خالصة صرفة ، أو قد تكون منكسرة.
فإن كانت لا تكون
إلا خالصة صرفة وجب أن تكون حرارة أسطقس أقل من حرارة أسطقس آخر. فإن الذي هو
أقل حرارة ليست حرارته خالصة بالقياس إلى حرارة ما هو أشد حرارة ؛ بل الأقل حرارة
يكون ، بالقياس إلى الخالص الحرارة ، فاترا أو باردا ،
وإن كان قد تكون فى الكيفيات الأول كيفية غير خالصة ، ويكون منها ما هو دون
النهاية.
وقد حصل هاهنا قسم قد ضيّع ، وذلك أن أصول المزاوجات حينئذ لا تكون أربعة ؛ بل تكون أكثر من ذلك. فيكون حار وبارد ومتوسط أو منكسر ، ورطب ويابس ومتوسط أو منكسر. فينبغى أن تتحدد المزاوجات من هناك. فتكون حينئذ الازدواجات أكثر من العدد المذكور. ثم يكون الهواء ، مثلا ، رطبا معتدلا
فى الحر والبرد ؛ والنار حارة معتدلة فى الرطوبة
واليبوسة ، والأرض يابسة معتدلة فى الحر والبرد. وعلى أن يكون
هاهنا عناصر أخرى منها ما هو بارد ومعتدل فى الرطوبة واليبوسة ، ويكون حار رطب غير
الهواء ، وكأنه البخار أو شىء آخر ؛ ويابس غير الأرض ، وكأنه الجمد أو شىء
آخر ؛ وحار شديد اليبوسة ، وكأنه الدخان أو شىء آخر.
__________________
ثم من الواجب أن
ننظر فى أمر النار التي يدعى أنها تحت الفلك ، وأنها فى هيئة الجو ، ولكنها شديدة الحر ، حتى أنها تحرق ما يصل إليها ،
هل تلك الحرارة لها من جوهرها ، أم تعرض لها بسبب تحريك الفلك؟
فإن كانت بسبب
تحريك الفلك ، فما جوهر ذلك الجسم فى نفسه الذي عرض له ما عرض؟ فإن كان جوهره هواء
لكنه سخن ، فيشبه أن تكون نسبة النار إلى الهواء هى بعينها نسبة الجمد إلى الماء ، فلا يكون مفارقا له بالفصل ؛ بل تكون مفارقته له بعرض من الأعراض.
وإن كان الحق ما
يدعى قوم من أنها فاترة لا تحرق ، فبما ذا تفارق الجو؟ وأما النار التي عندنا فهى بالاتفاق غير تلك النار.
فإن كانت هذه التي عندنا تلك ، وقد عرض لها اشتداد فى الحر للحركة ، وإضاءة للاشتعال فى الدخان ، فبما
ذا تخالف الهواء ، حتى تنسل عنه ، وتطفو عليه
حارة فى الحركة المسخنة ، فيسخن لذلك؟
وإن كان معنى
النار فى هذه غير معنى النار هناك فهذا إما أسطقس وإما مركب.
فإن كان أسطقسا
فقد زاد عدد الأسطقسات. وإن كان مركبا فلم صار المركب
فى كيفيته
أقوى من البسيط؟
ولم صار الحر يصعّد ما مكانه الطبيعى هو السفل ، كما يصعد الماء والدخان وفيهما
طبيعة مهبطة ، لكنها تغلب بهذه الكيفية؟
ثم البرد لا يفعل
ضد ذلك فى إهباط النار.
__________________
وهل يجوز من هذا
أن يقال : ليست النار إلا هواء سخن جدا ، فهو يرتفع عما هو أبرد منه كالبخار ؛ فإنه ماء سخن جدا ، فهو يرتفع عما هو أبرد منه ، وليس العنصر إلا
الهواء والماء والأرض؟ فالمسخن من الهواء نار ، والمسخن من الماء بخار ، والمسخن
من الأرض دخان. وكل مسخن فإنه يصعد إلى فوق ، لكن مسخن الماء شىء هو فى طبيعته قوى البرد ، سريع إليه التبرد ،
فيقصر عن مسخن الأرض الذي هو أقل تبردا ، فى الطبع ، وإبطاء. وكلاهما يقصر عن مسخن الهواء ، الذي هو إما معتدل وإما إلى ال حر. فمسخن الهواء يسبق ذينك إلى
الحيز الذي ليس فيه إلا الهواء المسخن جدا بالحركة ، حتى هو نار.
هذا ، وأيضا لم لا نقول إن الأجسام التي تحت الفلك كلها جسم واحد من مادة وصورة
توجب الكون تحت الفلك ، ثم تعرض
لها بعد ذلك هذه الكيفيات؟ فما يلى الفلك ، ويكون حيث الحركة ، يلطف ويسخن بسبب من خارج ، لا من جوهره ، وما يبعد ، ويكون حيث السكون يبرد ، ويثقل بضد
ذلك السبب. فيعرض من ذلك أن يختلف ذلك الواحد اختلافا بكيفيات تعرض له من خارج ، لا من طبيعته وصورته. فإن طبيعته وصورته هى التي صار بها جسما طبيعيا متحيزا فى ضمن الفلك ؛ لأنه لا يقتضى طبعا
غير ذلك الوضع.
ومما يحق أن نورد
شكا ، على ما قيل فى إثبات هذه الأربع ، أن الخلوص إلى إثبات الكيفيات الأربع
المذكورة ، حتى ظن بسببها أن المزاجات أربع ، وأن العناصر لذلك
أربعة ـ إنما كان بسبب الرجوع إلى الحس وتقديم اللمس على غيره ، ورجوع الكيفيات
__________________
الملموسة إلى هذه
الأربع. فيجب أن يكون المعنى الذي نسميه رطوبة هو المعنى
الملموس ، لا معنى آخر يشاركه فى هذا الاسم. ثم المعنى الذي يشترك فيه الماء والهواء ،
الذي يسمى رطوبة ، ليس هو الرطوبة الملموسة. وذلك لأن هذا المعنى ، الذي يسمونه الرطوبة ، ليس وجوده فى الهواء وجود الحرارة والبرودة المحسوستين ، فى أن هاتين قد يجوز أن يستحيل الهواء من كل واحدة منهما إلى أخرى ، ويكون الهواء هواء. فإن الهواء ، إذا سخن ، أو برد ، لم يجب بذلك أن يكون قد استحال فى جوهره وأما الهواء ، إذا بلغ من تكاثفه إلى
أن ييبس ، أو من تخلخله حتى يصير نارا عندكم ، لم يكن حينئذ هواء. فالهواء
الحاصر ، الذي نسميه هواء ، لا يباينه المعنى الذي نسميه رطوبة الذي يشارك
فيه الماء عندكم.
فإذا كانت الحال كذلك وجب أن يكون الهواء دائما بحيث تلمس رطوبته ، وإن كان لا يجب دائما أن تلمس حرارته أو برودته ؛ أإذا تانك تزايلانه ، وهذا يلازمه. ولو كانت هذه الرطوبة ملموسة لكان يجب ، إذا كان هواء معتدل ، لا حار ولا بارد ، وكان ساكنا لا حركة فيه ، أن يكون
اللامس تلمس رطوبته ؛ إذ الرطوبة لا تفارقه ، كما يلمس ما
تسميه العامة رطوبة من الماء.
ولو كان الهواء
دائما بحيث تلمس رطوبته لكان الهواء دائما محسوسا ، ولو كان الهواء دائما محسوسا لكان الجمهور لا يشكون فى وجوده ، ولا يظنون هذا الفضاء
، الذي بين الأرض والسماء ، خاليا إذا لم يوجد فيه ريح أو غيم ، وما ينسب
إليه حر وبرد. كما إذا برد أو سخن أحسوا به على أنه مؤثر
فى البدن بردا أو حرا ، أو أن هناك بردا أو حرا.
__________________
فبين أن سبيل هذه الرطوبة
، فى أنها الرطوبة ، فى أنها ملموسة ، خلاف سبيل الحرارة والبرودة فى أنها ملموسة
، فإذا كان كذلك لم يكن البناء على أمر صحيح.
ثم ما معنى قول
القائل إن الرطوبة سريعة كذا ، أو عسرة كذا وكذا ، وإن اليبوسة بالضد فى الأمرين؟ فإن
السريع والعسير وما يقابلهما إنما هو بالقياس إلى غيره ، وليس له حد
محدود. فيجب أيضا أن لا يكون الشىء مطلقا رطبا أو يابسا ؛ بل بالقياس إلى
غيره. على أن صناعة المنطق منعت أن توجد فى حدود الأمور غير المضافة معان مضافة ، على أنها أجزاء لحدها.
فهذه ، وما أشبهها
، شبه من حقها أن تحل ، أو يشعر بها ، حتى يكون القضاء
على الأمر بحسب مراعاة جانبها.
فلنتشغل الآن بما
يجب أن نعتمده.
__________________
الفصل الحادى عشر
فصل فى
حل شطر
من هذه الشكوك
نقول إن تحديدنا
الأمور التي هى محسوسة بالحقيقة تحديد بحدود ناقصة. وأعنى بالمحسوس بالحقيقة ما
ليس إحساسه بواسطه محسوس ، أو بالعرض. فإن تكلفنا لها حدودا ، أو شروح أسماء ، فربما حددناها أو رسمناها بإضافات أو اعتبارات لا يدل شىء منها ، بالحقيقة ، على ماهياتها ؛ بل على أمور تلزمها.
ولذلك من البعيد
أن يقدر على أن تحدّ الصفرة والحمرة
والخضرة ، بل السواد والبياض. لكنه إذا كان السواد والبياض طرفين رسما بسهولة لتأثيرهما فى الإبصار على
الاطلاق الذي يحتاج أن يقدر مثله من الأوساط ، فيعسر. وذلك
التأثير بالحقيقة أمر ليس هو مقوما لماهية السواد والبياض ؛
ولا من فهم ذلك فهم أن الشىء سواد وبياض ، اللهم إلا أن يكون قد أحس السواد وتخيله ، ثم أحس هذا الفعل منه فجعله علامة له.
ولذلك يجب أن يعرف حال البرودة والحرارة بالحقيقة ، وأن الحدود التي
قيلت حدود غير محققة ، ولا محكمة ؛ بل إنما تقال بقياسها إلى أفعال لهما فى أمور من المركبات عندنا أو فى البسائط ، وإلا فلا
اقتدار على تحديدهما تحديدا حقيقيا.
__________________
وبالحرى أن تكون الحرارة ، كما تجمع بعض المتجانسات ، فقد تفرق بعض المتجانسات ، كما ترمد الحطب ، وتفرقه. لكن يجب أن يفهم
ما قالوه على ما أقوله :
إن الحرارة تفعل فى الأجسام البسيطة وتفعل فى الأجسام المركبة ؛ والجسم الواحد البسيط يجتمع ،
فيستحيل أن يقال إن النار تجمعه ؛ لأن قولنا كذا يجمع كذا معناه أنه يجمع ما ليس بمجتمع. والبسيط المذكور مجتمع الأجزاء متشاكلها. وأما
أمر التفريق فلا مدخل له فى اعتبار البسيط ؛ وذلك لأن التفريق إنما قيل بالقياس
إلى الأشياء المختلفة
فهذا الفصل
المنسوب إلى الحار من جمع وتفريق إنما يقال بالقياس إلى جسم فيه متشاكلات متفرقة ،
ومختلفات مجتمعة.
والجسم الذي جعل
فعل الحار بالقياس إليه هو المركب القابل لفعل النار. وهذا
المركب لا يجوز أن تكون أجزاؤه متشابهة الانفعال التحريكى عن الحار. فإن الجسم المتشابه الانفعال عن تحريك قوة واحدة محركة ، كالحار ، هو بسيط من حيث الاستعداد لذلك الانفعال. وكيف لا يكون بسيطا ، ولو كان مركبا كانت أجزاؤه مختلفة فى استحقاق الأماكن
الطبيعية الخالصة بها. والحار إذا فرّق فإنما يفرّق بتحريك يحدث فى الأجزاء
المختلفة ؛ ولا سواء قبول الخفيف والثقيل للتحريك إلى الجهات. فإذن يجب أن يكون
هذا المركب مختلف الاستعداد. فيكون أول ما يستحيل أجزاؤه ؛ ويستحيل بالسخونة. وكل جزء أسرع فيه التسخن كان أسرع إلى
التصعد. فيعرض أن ينفصل بعض الأجزاء إلى حيز العلو أسرع ، وبعضها أبطأ ، أو لا
يقبل بعضها ما يتصعد به. فليس كل الأجسام
__________________
يقبل التصعيد والتبخير بالذات. نعم قد يتفق أن يكون ما لا يقبل التصعيد مخالطا لما يتصعد
مخالطة شديدة ، فيسبق تصعيد الحار بما يخالطه تفريقه
بينهما ؛ ويكون المتصعد أغلب ، فيصعد ذلك الآخر تبعا له. وإذا فعلت الحرارة هذا الفعل عرض أن تفاصلت المختلطات ضرورة ، وصار كل إلى حيز
واحد يليق به ، فيجتمع فيه. فإن كانت رطبة الجواهر قابلة للاتصال بسهولة كان اجتماعها
اتصالا ؛ وإن كانت يابسة لا تتصل بسرعة كان
اجتماعها حصولها فى حيز واحد ، وإن لم يكن اتصالا.
على أن النار فى
قوتها أن تسيل أكثر الأجسام حتى الرماد والطلق والنورة والملح والحديد
تسييل إذابة ، وخصوصا إذا أعينت بما يزيدها اشتعالا كالكبريت والزرنيخ والأملاح الحادة.
وأما ما ظن من أن النار تفرق الماء فليس كذلك.
فإن النار لا تفرق الماء ماء ؛ بل إذا أحالت جزءا منه هواء فرقت بينه وبين الماء الذي ليس من طبعه. ثم يلزم من ذلك أن
تختلط بذلك الهواء أجزاء مائية ، فتصعد مع الهواء ، ويكون مجموع ذلك بخارا.
على أن من الناس
من ظن أن البخار هو طبيعة أخرى غير الماء والهواء وغير المختلط منهما. وأما ما يتعلق به من عقد البيض فليس عقده جمعه ؛ بل هو إحالة له فى قوامه. ثم إن النار ستفرق ذلك عن قريب ، يعرف ذلك أصحاب حل التقطير.
وأما الذهب فإنه
ليس لا يفرقه النار إذا أذابته ، لأنه متشابه
الجوهر ، ولا لأنه متشابه الانفعال ، ولا لأن النار من شأنها أن لا تفرق المركبات ، ولكن لأن الامتزاج
__________________
فى جوهر الذهب
والتلازم بين بسائطه شديدان جدا ، فكلما مال شىء منه إلى التصعد حبسه المائل إلى التحدر ، فيحدث من ذلك حركة دوران وغليان ، فتكون النار قد أوجبت تأثيرا مختلفا. لكن هناك عائق آخر ، والأمور التي تنسب إلى القوى والكيفيات الطبيعية ، وخصوصا العنصرية ، تنسب
إليها بشرط ألا يكون عائق. فإن الخفة إنما يقال لها إنها تصعد بشرط الاّ يكون عائق ، والثقل كذلك إنما يقال له ينزل
بشرط أن لا يكون عائق ومانع. فكذلك المأخوذ فى حد النار من تفريق كذا ، وجمع كذا.
وأما ما قيل فى حديث الفعل والانفعال فلعمرى إن الاعتبار إذا توجه نحو الأضداد
كانت متفاعلة ، وكانت نسبة الحر إلى البرد فى الفعل والانفعال قريبة من نسبة الرطب إلى اليابس فى الفعل والانفعال ، وإن كان لقائل أن يقول : ليس يجب أن تكون الأضداد كلها متفاعلة ؛ بل من الأضداد ما يتبع أضدادا أخرى ، مثل
الأبيض والأسود. فإن اللون الأبيض لا يحيل الأسود إلى البياض ، ولا بالعكس ؛ بل
بالمخالطة ، فتكون استحالتهما تابعة لاستحالة الحال فى أضداد قبلهما. ولا يبعد أن يكون له أن يقول : يشبه أن يكون الرطب واليابس من ذلك القبيل.
فإنا لم نشاهد
رطبا رطّب اليابس ، أو يابسا يبس الرطب بالإحالة دون المخالطة ؛ أما الرطب فبلاّ ،
وأما اليابس فنشفا ، وأما الحار
والبارد فيفعل أحدهما فى الآخر بالإحالة ، من غير أن يتغير الجوهر فى نوعه أصلا ،
كما قد صححنا من إحالة الحار للبارد أنه ليس كله على
سبيل نفوذ ومخالطة. فيشبه أن يكون ، على قول هذا
القائل ، أن تكون استحالة الأجسام
__________________
البسيطة فى
الرطوبة واليبوسة تابعة لاستحالة أخرى ، أو لكون وفساد. ولا يكون للرطب أن يحيل إلى اليبوسة من
غير فساد الجوهر ، أو من غير استحالة تتقدمها ، ولا لليابس أن يحيل إلى الرطوبة من غير فساد أو استحالة ، كما للحار أن يحيل البارد. والبارد أن يحيل الحار ، وغير ذلك. فإن الماء إذا صار أرضا لم يكن ذلك لاستحالة أولية فى رطوبة أو يبوسة ؛ بل
لاستحالة الصورة الجوهرية التي تتبعها الكيفيات على ما بيناه. فيكون لما استحالت الصورة الجوهرية استحال ما يتبعها ؛ بأن فاض عن الصورة الجوهرية الحادثة ضد
ما كان فاض عن الصورة الجوهرية الفاسدة ، كما أن الهواء إذا استحال ماء ، فنزل ، لم تكن الحركة المتسفلة حادثة عن ضد الحركة
المتصعدة الأولى ؛ بل عن الصورة المعاندة للصورة الموجبة للتصعد.
وأما الماء إذا
جمد ، ويبس ، فليس ذلك له عن يبوسة فعلت فى رطوبة ؛ بل عن البرد. فيكون البرد هو
الذي أوجب اليبس. ويكون الحر بإزائه هو الذي يوجب الترطيب والتسييل.
فتكون هاتان الكيفيتان منفعلتين عن الحر والبرد ، ولا تنفعل إحداهما عن الأخرى انفعالا أوليا ، والحر والبرد ينفعل أحدهما عن الآخر انفعالا أوليا. فهذا قول ، إن أراد مريد أن يدفع الشك به ، عسرت مقاومته.
لكنا نسلم أن
الرطب من شأنه أن يرطب اليابس ، واليابس من شأنه أن ييبس الرطب. ونقول بعد ذلك أولا ، إلى أن نورد جوابا آخر ، إن هذا النحو من
الفعل والانفعال لا يصلح أن يلتفت إليه فى التحديدات ، وإنما تحد القوى بانفعال وانفعالات
__________________
على غير هذا النمط
، وذلك لأنا إذا أردنا أن نحد الرطب استحال أن نأخذه فى حد نفسه ،
واستحال أيضا أن نأخذ ضده فى حده ؛ وذلك لأن ضده ليس بأعرف منه ، فكيف نفسه؟ وإنما يجب أن يؤخذ فى الحدود
والرسوم ما هو أعرف من الشىء. وأيضا إذا أخذنا ضده فى حده ،
وكان ضده أيضا إذا حدّ على نحو حدّه ، حدّ به ، وأخذ هو
فى حده ـ نكون قد أدرنا التعريف ، وعاد الأمر إلى تعريف
الشىء بنفسه. مثاله إذا أردنا أن نحد الحرارة ، فقلنا هو الذي يسخن البارد ،
ونكون قد أخذنا التسخين وهو التحرير الذي هو إثارة الحرارة ، فى حد الحرارة ، فنكون قد أخذنا الحرارة فى حد الحرارة ، وأخذنا أيضا البارد فى حد الحرارة. وكذلك
الحال فى جانب البارد ، والبارد ليس بأعرف من الحر ، ولا الحر من البرد.
وإذا كان قانون
الحد ما ذكرناه ، وكنا نحد الحرارة من حيث فعلها ، أو نعرفها من حيث فعلها ذلك الفعل الذي فى ضدها ،
فقلنا إن الحار ما يسخن البارد ، واحتجنا أن نقول : والبارد ما يبرد الحار ، فنكون
قد أخذنا الحار فى حد البارد
المأخوذ فى حد الحار. وهذا أمر مردود.
فبين أن نحو هذه
الأفعال لا تؤخذ فى حدّ هذء القوى ، ولا فى تعريفاتها التي تناسب الحدود ؛ بل إنما تنسب القوى فى حدودها
إلى أفعال وانفعالات تصدر عنها يكون تفهمها ليس دائرا على
تفهم الحدود. فإن الحار والبارد تصدر عنهما أفعال ليست نفس التسخين والتبريد ، ولا دائرا عليهما. وتلك الأفعال مشهورة.
__________________
والرطب واليابس
ليسا كذلك البتة ، ولا يتصور الرطب إلا من جهة سهولة قبول الشكل
، وسهولة الاتصال ، وسهولة تركهما. واليابس من جهة عسر قبول
الأمرين وعسر الترك لهما. وهذه الأحوال منسوبة إلى الانفعال. فإن أريد أن يعرّف الفعل الذي لكل واحد منهما ، على حسب التضاد ، أو الانفعال الذي على حسب ذلك إن سلّم ذلك ، لم يكن تعريفا حقيقيا به.
وأما الحار
والبارد فإن عرّفا بالانفعال المذكور ، الذي يجرى بينهما ، لم يكن تعريفا حقيقيا ؛
يل يجب أن يكون تعريفهما على النحو الذي قيل فى الحار والبارد ؛ يقال لهما كيفيتان فاعلتان ليس بالقياس إلى كل شىء ؛ ولكن بالقياس إلى هذه الأجسام المركبة المشاهدة. فإنها تفعل فيها أفعالا ظاهرة مما قيل ، ولا تنفعل
انفعالا إلا عن الضد. وإذا قيل للرطب واليابس
انفعاليان فليس بالقياس إلى كل شىء ؛ بل بالقياس إلى هذه الأجسام المشاهدة. فإنها لا تفعل فيها إلا ما ينسب إلى الفعل والانفعال التضادى ، ولا تفعل فيها
شيئا آخر ؛ بل تنفعل منها بسهولة أو عسر.
وبعد هذا ، فالذى
يجب أن يعتمد فى هذا شىء آخر ، وهو أن قولنا كيفية انفعالية يعنى بذلك الكيفية
التي بها يكون الجوهر مستعدا لانفعال ما ، إما على سهولة أو على صعوبة. ونعنى بقولنا كيفية غير انفعالية ما ليس بها يكون هذا الاستعداد. ونعنى بالفعلية الكيفية التي بها يفعل فى المستعد فعلا ما.
وأما بالجملة فإن
الكيفية نفسها لا تنفعل البتة ، ووحدها لا تفعل ؛ إذ لا
توجد وحدها.
__________________
وإنما تفعل بأن
تماس أو تحاذى ، أو يكون لها النسبة [فى النصبة] التي بها يصح الفعل.
ثم الحرارة
والبرودة ليستا من الكيفيات التي بها يستعد الجوهر لانفعال ما ، خصوصا ما أورد فى الشك. وذلك لأن الحر ليس استعداده للبرد لأنه حار
، كيف والبرد يبطل الحر؟ وما دام هو حارا فيمتنع أن يصير باردا. فالحر يمنع وجود البرد ، لا أن يعدّ له المادة
؛ بل المادة مستعدة بنفسها لقبول البرد المعدوم فيها. لكنه
يتفق أن يقارن تلك الحالة وجود الحر الذي يضاد البرد
، ويمانعه ، ويستحيل وجوده معه.
وكذلك حال الرطوبة عند اليبس. وليست الرطوبة انفعالية ؛ لأن الرطب قد ينفعل إلى اليبس ، وهو رطب ؛ بل بأن تزول رطوبته. وهذا النمط لا يجعل الكيفية انفعالية ؛ بل نحو
النمط الذي للرطوبة فى قبول جسمها التشكيل والتوصيل بسهولة. فإن الجوهر يقبل بالرطوبة هذا التأثير ، وهو رطب ، ويبقى له ذلك ما بقيت الرطوبة.
ومع ذلك ، فإن
اليابس والرطب موضوعان للحر والبرد ، ويفعل كل واحد منهما فيه فعلا تابعا للتسخين والتبريد. والرطب واليابس لا يفعلان فى
الحار والبارد شيئا إلا بالعرض ، مثل الخنق المنسوب إلى
الرطوبة. والخنق هو إما على وجه يضطر الحار إلى هيئة من الاجتماع والتشكل مضادة لمقتضى طبيعته ، إذا كانت يابسة ، فلا يجيب
__________________
إلا إذا بطلت
طبيعته ، وإما على سبيل أن لا ينفعل الرطب لكثرته إذا قوبلت بالقوة المحيلة ، فلا يستحيل إلى مادة تحفظ الحار ، فلا يتولد حار بعد. وإذا انفصل الحاصل من
الحار ، صاعدا ، لم يكن مدد يحفظ اتصاله ، كما يعرض عند كثرة دهن السراج. وهذا فى
المركبات. وإذا شئت أن تتحقق فعلية الحار والبارد ، ولا فعلية الرطب واليابس ، فانظر ما يعتريك من ملامسة الطبيعتين.
__________________
الفصل الثاني عشر
فصل فى
حل قطعة أخرى من هذه الشكوك
وأما الشك ، الذي
أورد بعد هذا ، فالجواب عنه أن إيجابنا وجود عناصر أربعة ليس المعول فيه كله على القسمة ؛ بل على قسمة يتبعها وجود. فإن الشىء إذا
أورده العقل فى القسمة ، ثم دل عليه الوجود ، لم يكن أظهر منه.
وقد وجدنا الحر
والبرد يلائمان الكيفيتين المنفعلتين ، ليس إنما يلائم الواحد منهما الرطوبة دون
اليبوسة ، أو اليبوسة دون الرطوبة. فقد رأينا اليابس
يسخن ، ورأيناه يبرد. وكذلك رأينا الجسم الرطب يسخن ، ورأيناه
يبرد. فلم يكن اجتماع البرد مع الرطوبة واليبوسة ، أو اجتماع الحر مع الرطوبة واليبوسة ، مستنكرا ، فى العقل المفطور ، وفى
الوجود المحسوس ، إذا كانت المادة تحتمل ذلك ، وكانت ازدواجات ممكنة فى الوجود.
وأما حديث التكثير
بازدواجات تقع من مفرط ومعتدل ،
فنقول فى جوابه إن المادة البسيطة ، إذا كانت فيها قوة مسخنة ، وكان من شأنها أن تقبل السخونة ، فمن
المحال أن لا تسخن السخونة التي فى طباعها أن تقبلها إلا لعائق. وذلك لأن من شأن المسخن ، إذا بقى ما ليس فيه سخونة ، وهو يقبلها
، أن تحدث فيه سخونة.
والسخونة مسخنة ؛
إذ من شأن السخونة ، إذا لاقت مادة ، أن تحدث فيها سخونة
__________________
أخرى. فكيف إذا
كانت فى نفس المادة واحتملت سخونة أخرى؟ فهذه القوة المسخنة ، إذا أحدثت حدا من السخونة ، فبعد ذلك إذا لم تفد سخونة ، والسخونة الموجودة أيضا فى المادة إذا لم تفد سخونة بعد التي أفادت ، فإما لأصل أن طباعها ليس تفيد السخونة فى القابل إلا
وقتا ما ، وبحال ما ، وقد فرضنا القوة مسخنة بطباعها ، وكذلك السخونة الحاصلة منها التي تحدث عنها سخونة فيما
يلاقيها ؛ وإما لأن المادة لا تقبل ، وقد فرضنا أنها
تقبل أكثر من الحد الموجود فى الفاتر والمعتدل ؛ بل نحسها كذلك . وإذا كانت حارة كان إمعانها فى التسخن ، عند وجود ما بوجوده تكون السخونة ، أولى منها إذا
كانت باردة ؛ وأما لعائق. ونحن لا نمنع ذلك. إثما نتكلم على
مقتضى الطباع. فإن القوة المبردة فى الماء يجوز أن تعاق فى التبريد أصلا ، فضلا عن أن يبالغ فى التبريد ؛ فربما كان العائق داخلا ،
وربما كان خارجا. فإذ لا عائق ، ولا امتناع قبول فى المادة عن أن تسخن زيادة سخونة عن تلك القوة بعينها ،
وعن السخونة الحادثة فيها إلى الغاية التي من شأنها أن تبلغها حادئا فيها السخونة عن السخونة التي لا حائل
بينها وبينها ، التي هى أولى أن تحدث فيها سخونة من
سخونة خارجة قائمة فاعلة فى جسم ملاق إحداث الميل
الطبيعى للميل بعد الميل ، على سبيل الحتمية ، كما قد عرفته ـ فواجب أن يكون الأمر فيها بالغا الغاية. وليس هذا ، كما يعلم ، ما حال القوة المصعدة للنار الصغيرة فإنها لا
تبلغ الغاية الممكنة فى الإسراع. فإن ذلك لعائق من خارج ، وهو ما فيه الحركة ؛ فإنه يمتنع عن الانحراق له ، ويقاومه ، فلا يقدر مثل تلك القوة أن تحرق فوق ذلك.
__________________
فيعرض فى فعله من
العائق قصور لا يعرض لما هو أكثر وأقل قبولا للمقاومة. ولو لم تكن مقاومته من جهة المتوسط لكانت الحركات كلها متشابهة ، كما مر لك فى
مواضع أخرى.
وكذلك لو لم تكن
فى الماء مقاومة للتسخن لكان يسخن بلا فتور غاية
السخونة عند لقاء المسخن.
فيجب من هذا أنه
إذا لم يكن مانع كانت المواد المتسخنة عن القوة المسخنة الموجودة فيها تتسخن على السوية. فإذا كان بعض الأسطقسات لا يبلغ الغاية
فى التسخن الطبيعى عن طبيعته ، وليس عائق من خارج ، فهناك عائق من أمر فيه عن طبعه. وليس يجوز أن تكون الطبيعة وحدها عائقة ، وموجبة. فيجب أن يكون بوساطة أمر آخر يفيض عنها. فتكون
القوة ، إذا كان من شأنها أن تسخن وترطب معا عاقت الرطوبة المادة عن أن تقبل السخونة عن تلك القوة إلى غاية الحد ؛ بل قعدت بها وكانت المادة لا تبقى رطبة إذا أفرط فيها الحر ، فتكون الرطوبة التي تفيض عن القوة تجعل للمادة حدا
محدودا فى استعداد قبول الحرارة.
ولقائل أن يقول إن
المادة ، وإن كانت مستعدة ؛ فإنها لا تخرج إلى الفعل إلا عن
قوى تقوى على إخراجها إلى الفعل. فإن المتوسط مستعد أيضا للانحراق الأشد.
والماء مستعد للتسخن الأشد ، ولا يكفيه ذلك ما لم يكن
قوة تقوى عليه ، لأنه مستعد لأمر
__________________
عن علة فاعلة ذات
قوة محدودة. فإذا كانت القوة ليس لها أن تسخن أكثر من حد ، أو
يحرق أكثر من حد ، لم يكف استعداد المادة.
فنقول : إن تصور ما قلناه ، على الحقيقة ، يغنى عن إيراد هذا
الشك ؛ وذلك لأن القوة إذا كان من شأنها أن تسخن ، ووجد القابل
المستعد بلا معاوقة ، استحال أن لا يسخن ، وأن لا يقوى على
أن لا يسخن. فهذه القوة ، بعد أن وجدت منها السخونة ،
لم يبطل عنها أنها توجد السخونة فى القابل
للتسخن عنها كل وقت. ووجود ما وجد من السخونة المقدرة عنها لا يمنع القابل عن أن يكون قابلا للسخونة. وكذلك السخونة الموجودة فيها من
شأنها أن توجد السخونة فى أى مادة لاقتها قابلة للسخونة ولا مانع لها.
فإذا كانت المادة
الخارجة تسخن عن تلك السخونة فالمادة الملاقية
أولى لا محالة. فيجب أن يحدث عن القوة فى المادة ، بعد ما حدث من السخونة ، سخونة
زائدة ، فى طباعها أن تقبلها ، وفى طباع القوة والسخونة
أن تحدثها ، لا من حيث هى زيادة أولية ، بل من حيث هى سخونة .. فإن
تلك الزيادة سخونة ، لا شىء آخر ، كما أن لو سخنا آخر انضاف إليه لكان يفيد سخونة.
والقوة والسخونة
من شأنها أن توجد السخونة كل وقت لذاتها ، لا لسبب ، إن كان عنها سخونة أو لم يكن. والسخونة التي وجدت عنها لا تمنع أن تفيض عنها أيضا السخونة فى طبعها . ذلك والتأخر إلى
وقت ثان ، على سبيل الوقوف ، لا معنى له. فإن
__________________
فى الزمان الذي
بينهما لم يكن عائق زال ، فيجب أن يحدث ذلك بلا تأخير يفعله وقوف.
وليس حال الحرق كذلك. فإن الحرق وجوده أن يكون شيئا بعد شىء ؛ إذ لا قرار للحركة ، ولا لما
يجرى مجرى الحركة. ثم النحرق ، وإن كان قابلا بمادته فهو مقاوم بصورته مقاومة شديدة أو غير شديدة. ولهذا لا ينحرق الماء والهواء
عن الشوط إذا رام إسراع الحرق وترك طريق الرفق
، لأنه يقبل قليلا قليلا لما فيه من المقاومة وتسخين الماء
إنما يكون شيئا بعد شىء ؛ لأن فى أول الملاقاة يكون الماء باردا ، والبرد يمنع استعداد المادة للضد ما دام ثابتا ، فيحدث
أولا فى زمان تفرضه أولا حرارة ما بقدر الاستعداد المعوق.
ثم يكون الفاعل ،
بعد ذلك ، حرارة من خارج وحرارة فى الماء يتعاونان على الإحالة.
ويكون البرد
المعاوق أقل ، فيكون فى الزمان الثاني يستحيل أسرع وأشد ؛ وذلك لأن حال الفاعل
والقابل معا فى الزمانين مختلفان.
وليس هكذا الحال فى مسألتنا نحن. على أننا لا نناقش فى أن يستمر ازدياد التسخن فى مادة الهواء عن القوة وعن السخونة الحاصلة فى زمان على الاتصال. ولكن ذلك أيضا
غير موجود.
وقول القائل إن
السخونة تسخن إلى حد ما لا يقوى على أكثر من ذلك ، وإن كان ممكنا فى
الوجود وفى طباع المادة ، قول لا يلتفت إليه. فإن ذلك إنما يكون إذا قيس
إلى مقاوم. وأما إذا لم يكن مقاوم فهذا القول محال ؛ لأنه إذا حدثت فيه سخونة
__________________
لم تكن عائقة عن أن تحدث عنه أخرى إلى أن يستوفى الحد الذي فى قوة المادة قبوله ، إذا لم يكن مانع ، وهو الحد الذي للنار مثلا ، فلا يكون هناك تحدّد دون النهاية
البالغة.
وإذ قد بيّنا هذا
فبالحرى أن نعود إلى مسألتنا فنقول :
قد بان أن بعض
الأجسام البسيطة ، إذا كانت فيه قوة تسخن وترطب بالطبع ، وكان فى جسم آخر أيضا مثلها ، لم يجز أن يكون أحد الجسمين حارا رطبا على حد ،
والآخر أقل فى أحدهما أو كليهما ، أو أكثر ؛ بل يجب
أن لا يتشابها فى ذلك إلا لعائق فإن لم يتشابها ، ولا عائق من خارج ، فإنما يجوز أن لا يتشابها فى كيفية واحدة حين لا يكون
هناك عائق من خارج إلا لعوق من الكيفية الثانية ، فيكون العائق وجود الكيفية الثانية
التي تفيض عن تلك القوة بعينها. فإنها تمنع المادة منعا ما ، وتعاوقها عن الاستكمال ، وتنقص الاستعداد النقص
المنسوب إلى المعاوقة ، فتصير لها المادة غير قابلة إلا بشدة وعسر ، وإن كانت الطبيعة فاعلة.
لكن لقائل أن يقول
: إن العوق أيضا يجب أن يبلغ الغاية ، [أولا يكون أصلا ، فإن نسبة العوق إلى القوة
والمادة نسبة التسخين إليهما ، وكما أن التسخين يبلغ الغاية إذا لم يكن عوق ، كذلك العوق يجب أن يبلغ الغاية] :
فنقول : نعم إذا
لم يكن للعوق عائق. وأما القوة المسخنة فمعاوقة للعوق ، فلا تبلغ الحد الأقصى.
وإذا كان كذلك
انحل الشك المذكور.
__________________
ولقائل أن يقول :
إنه كيف يمكن أن ينبعث عن مبدأ واحد قوتان تعاوق إحداهما الأخرى ، وتتقابلان وتتنازعان ، والمادة واحدة غير مختلفة؟
فنقول : إن ذلك
ليس على سبيل المقابلة ؛ بل على سبيل تقدير استعداد المادة ،
ومعنى العوق هو هذا المعنى ، وهو أن وجوده يجعل المادة محدودة
الاستعداد. وذلك لأن الحرارة ، إذا أخذت مرة صرفة ، ومرة
متوسطة ، فلأن إحداهما تكون مع يبوسة ، والأخرى مع الرطوبة. وكذلك البرودة. فحينئذ تعود الأقسام إلى الأربع.
__________________
الفصل الثالث عشر
فصل فى
حل باقى الشكوك
وأما الشك المذكور
فى التماس البيان لإثبات كون النار مفارقة للهواء ، لا بأنها أشد منه سخونة ، وهى من طبعه ؛ بل بالفصل الذاتى ، فقد فرغ من ذلك.
وبين أن هناك
مكانا لجسم طبيعى غير الهواء وأنه حار.
وأما ما أخذ فى التشكك كالمتسلم من فتور النار البسيطة فأمر لا يقول به إلا المقصّر فى الصناعة. فلذلك لا يلزم إلا من قال إن المركب أقوى من البسيط
فى الكيفية.
على أن لقائل أن
يقول متأولا : إن المركب قد يعرض له أن يكون أقوى من البسيط فى الكيفية ، إذا كانت هناك أسباب أخرى.
توجب الازدياد فى الكيفية غير الذي فى الطبع ، فيتظاهر الطبع والوارد والمرفد إياه على تقوية الكيفية ، وإن كان هذا القول ربما لم يلتفت إليه.
وأما ما سئل عن
أمر النار التي هناك ، أعنى عند الفلك ، وهل السخونة أمر يعرض لها من حركة الفلك ، وهى فى نفسها غير حارة ، أم هى فى نفسها حارة فى طبيعتها؟ فقول :
__________________
إنه لا يمتنع أن
يكون التحريك يسخن ما ليس بسخين فى طبيعته وتكون مع ذلك ، طبيعته الذاتية محفوظة ، ويكون
ما تغير المتسخن إلا فى السخونة. ولا يمتنع أن يكون التحريك يحيل طبيعة المتحرك إلى الصورة النارية ابتداء ، لو وجد خاليا عنها ، أو يكون التحريك سبب دوامها مدة وجودها
، مثل الحك المشعل. فإنه لشدة التسخين يعدّ المادة لقبول الصورة النارية ، ويعاوق الاستعداد المقابل له فيكون الحك سببا ، بوجه ما ، للصورة النارية ، لا لتسخن أول شىء له طبيعة قائمة غير موجبة للسخونة. وإنما يسخن من
خارج فقط بل لإفادة الطبيعة التي هى مبدأ السخونة بنفسها ، حتى لو توهم الحك
زائلا ، والتحريك باطلا ، بقى الجسم على الصورة النارية ، إلا أن يرد شىء
مفسد للصورة النارية مقاوم لها. ولو كانت هذه النسبة من المحاكة والتحريك دائمة
لكان وجوب لبس الصورة النارية دائما.
فالمادة التي هناك
ملبسة صورة النارية بمعاضدة من حركة الفلك ،
ولا مضادة فى طباعها لذلك. ولو كان فى طبيعة ذلك الجسم شىء مضاد لذلك
لكان التحريك الذي هناك يبطل تلك الطبيعة المضادة بفرط التسخن الذي هناك. هذا إن كان التحريك مسخنا ، وإن لم يكن مسخنا فالشبهة زائلة من كل وجه ؛ إذ كانت الشبهة فى أن ذلك الجوهر الذي هناك ، إذ قد عرض له التسخن
من خارج ، فليس ذلك له طبيعيا. وذلك لأنه عرض له الحك
فسخنه . والحك عرضى فالسخونة عرضية.
فالمجيب عن ذلك
يقول :
إن السبب الخارج
العارض قد يكون سببا لصورة طبيعية يتنوع بها المادة.
__________________
ويتضح هذا فضل إيضاح فى الصناعة الحكمية الإلهية. ونعم ما أوجبت العناية الإلهية إسكان النار فى حيز الحركة ، وإلا لكان كل ما نتوهمه أنه يحصل هناك ، مما ليس بنار من الأجسام العنصرية ينقلب نارا فيتحرك إلى حيز النار الأخرى ، إن لم يكن حيزه تلك المجاورة ، ويعقبه غيره. فلا تزال النارية تتضاعف حتى تفسد ما ليس بنار.
وأما التشكك المبنى على أن الحار ما باله يصعد قبل استحالة صورته الطبيعية ، كما يصعد
البخار والدخان. والبارد لا يفعل ذلك ، فقد يمكن
أن يجاب عنه بوجوه من الأجوبة :
من ذلك أن الحار ،
فى الجملة ، أقوى من البارد. ولذلك ما لا يطاق النار. والماء والجمد لا يبلغ واحد منهما من برده الطبيعى أن لا يطاق ، وقد يبلغ ذلك
من حره العرضى ، فكيف الشىء الذي فى طبيعته حار! فيشبه أن يكون الحار لقوته يغلب مقتضى جوهر الشىء وطبيعته ، ولا يقدر
عليه البارد ؛ أو يشبه أن يكون البرد يهبط أيضا ما يعرض له ، وإن لم يحل المعروض له عن جوهره ، ولم يغيره ، كما إذا استحال الهواء ضبابا عن
برد فانحدر ، وهو بعد ضباب. فلا يبعد أن يقال إن الضباب هواء قد برد ، ومال إلى أسفل ، ولم تبطل صورته الذاتية ، كما لم تبطل صورة الماء فى الجمد ، أو يكون الشىء البارد الذي يتصعد بالتسخين هو أرض وماء
قد يقبلان حرا أشد من حر الهواء
، ولا يكونان قد فسدا بعد فسادا تاما. فيظهر صعودهما فى الهواء ، ومجاورتهما إياه.
__________________
ولعل الهواء
والنار ليسا يقبلان من البرد ما يصيران به أبرد من الماء ، حتى
يريا نافذين فى الماء هبوطا. ولعل ما يبرد من النار يعرض له أن ينحدر من حيزه إلى
حيز الهواء. لكنه إذا انحدر لم يكن ذلك محسوسا ؛ لأن النار البسيطة غير محسوسة.
ولعل الضباب هواء
متبرد متكاثف ، لكنه ليس مستحيلا بعد إلى المائية.
وأيضا فلقائل أن يقول إن البخار والدخان يصعدان على سبيل مرافقة
النارية وبالقسر على ما قلنا قبل.
وبالجملة إن صعدا
بالمرافقة لم يلزم السؤال ، وإن صعدا ، لا بالمرافقة ؛
بل للاستحالة فى الكيفية فقط ، فالفرق ما قيل.
وأما الشك المبنى
على استحالة أن يكون ما تحت الفلك طبيعة واحدة ،
وإنما يختلف بالأعراض ، فيبطله وجود الحركات الطبيعية متضادة لوجود المركز والمحيط. والجسم المتشاكل الطبيعية النوعية
لا تختلف حركاته الطبيعية ؛ إذ لا تختلف قواه الأصلية.
وأما ما نظن أن الكون يبرد الحركة ؛ إذ الحركة تسخن فذلك باطل. فإنا قد بينا أن السكون عدم
الحركة ، وعدم العلة علة لعدم المعلول ، لا لضد مقابل له ، فإن الحركة إذا كانت توجب حرارة ، كان لا يكون حركة هو أن لا توجد حرارة.
وأما أن توجد
برودة ، فيحتاج إلى علة ، فيشبه أن يكون الجسم الساكن البعيد
__________________
من الحركة قوى
الاستعداد لقبول القوة المبرزة من الأشياء الكاسية للمواد صورها ، ويكون ضعيف الاستعداد لقبول
الطبيعة المسخنة ، بل يحتاج إلى معاون من حرارة مماسة
أو حركة ، حتى يستعد ، فينال من واهب الصور ما يستعد له. وسنطنب فى هذا حين نتكلم فى الفلسفة الأولى.
وأما الشبهة
المبنية على حال اللمس فيجب أن نقدم لحلها مقدمة ، ونقول : إن قولنا إن الرطوبة سهلة القبول والترك هو على سبيل التجوز. فإن السهل والصعب يكاد أن يكون من المضاف. وليست
الرطوبة من المضاف.
ولكن يجب أن نعلم أن الرطب هو الذي لا مانع له ، فى طباعه ، البتة عن قبول الشكل والانحصار والاتصال ؛ وعن رفضه ، مع زوال القاسر راجعا إلى
الجهة التي له أن يتحرك إليها ، والشكل الذي له أن يتشكل بالطبع به.
واليابس هو الذي
فى طباعه مانع ، إلا أن فى طباعه إمكان قبول ذلك عند تكلف بجشمه القاسر
إياه ، فتكون نسبة الرطوبة ، من هذا الوجه ، ومن حيث هى هكذا ، إلى اليبوسة قريبا من نسبة الأمر العدمى إلى الأمر الوجودى. فيكون
الإحساس بالرطوبة ليس إلا أن لا يرى مانع ومقاوم ، وباليبوسة أن يرى مانع
ومقاوم.
فالرطوبة وحدها لا
تثبت عند الحس من جهة اللمس وحده جسما
، واليبوسة تثبت ذلك.
__________________
وإذا نسبنا أحد
الطرفين إلى الحس بالذات كفانا أمر مقابله العدمى فى أمر المزاوجة بل لو وجدنا
بالحس اللمسى كيفيتين لتمت المزاوجة الرباعية من مضادتين وبين قنية وعدم.
فليكن هذا مبلغ ما
نقوله فى حل الشكوك المذكورة على الاختصار.
__________________
صورة معقولة فى
شىء منقسم ، فإذا فرضنا فى الشىء المنقسم أقساما عرض للصورة أن تنقسم. فحينئذ لا
يخلو إما أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين ، فإن كانا متشابهين فكيف
يجتمع منهما ما ليس هما ، إذ الكل من حيث هو كل ليس هو الجزء ، إلا أن يكون ذلك الكل
شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة فى المقدار أو الزيادة فى العدد لا من جهة الصورة
، فحينئذ تكون الصورة المعقولة شكلا ما أو عددا ما ، وليس كل صورة معقولة بشكل أو عدد ، وتصير حينئذ الصورة خيالية لا معقولة.
وأنت تعلم أنه ليس
يمكن أن يقال ، إن كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل ، كيف والثاني داخل فى معنى الكل وخارج عن معنى الجزء الآخر. فمن البين الواضح أن
الواحد منهما وحده ليس يدل على نفس معنى التمام ، وإن كانا غير متشابهين.
فلينظر كيف يمكن
أن يكون ذلك ، وكيف يمكن أن تكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة. فإنه ليس
يمكن أن تكون الأجزاء غير المتشابهة إلا أجزاء الحد التي هى الأجناس والفصول ، وتلزم
من هذا محالات منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا فى القوة قبولا غير متناه
، فيجب أن تكون الأجناس والفصول فى القوة غير متناهية وهذا محال. وقد صح أن الأجناس والفصول الذاتية للشىء الواحد ليست فى القوة غير متناهية ،
ولأنه ليس يمكن أن يكون فيه توهم القسمة يفرز الجنس والفصل ،
بل مما لا نشك فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقان تميزا فى المحل أن ذلك
التميز لا يتوقف إلى توهم القسمة ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل أيضا غير
متناهية. وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد للشىء الواحد متناهية من كل وجه.
ولو كانت الأجناس والفصول يجوز لها أن تكون غير متناهية بالفعل ، لما كان يجوز أن
تجتمع فى الجسم اجتماعا على هذه الصورة ، فإن ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل
بأجزاء غير متناهية بالفعل. وأيضا
__________________
لتكن القسمة مما
قد وقع من جهة ، فأفرزت من جانب جنسا ومن جانب فصلا.
فلو غيرنا القسمة
لم يخل إما أن يقع منها فى كل جانب نصف جنس ونصف فصل أو يوجب انتقال الجنس والفصل إلى القسمين ، فيميل الجنس والفصل كل إلى قسم من القسمة
، فيكون فرضنا الوهمى أو قسمتنا الفرضية تدور بمكان الجنس والفصل ، وكان
يتحيز كل واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة مريد من خارج فيه.
على أن ذلك أيضا لا يغنى ، فإنه يمكننا أن نوقع قسما فى قسم.
وأيضا ليس كل
معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط منه ، فإن هاهنا معقولات هى أبسط المعقولات
، وهى مبادئ للتركيب فى سائر المعقولات ، وليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هى منقسمة
فى الكم ، ولا هى منقسمة فى المعنى.
فإذن ليس يمكن أن
تكون الأجزاء المفروضة متشابهة كل واحد منها هو فى معنى الكل ، وإنما يحصل الكل
بالاجتماع فقط ، ولا أيضا ، يمكن أن تكون غير متشابهة فليس يمكن أن
تنقسم الصورة المعقولة.
وإذا لم يمكن أن
تنقسم الصورة المعقولة ولا أن تحل طرفا من المقادير
غير منقسم ولا بد لها من قابل فينا ، فلا بد من أن نحكم أن محل المعقولات جوهر ليس
بجسم ، ولا أيضا متلقيها منا قوة فى جسم ، فإنها يلحقها ما يلحق الجسم من
الانقسام ثم يتبعه سائر المحالات ، بل متلقى الصورة المعقولة منا جوهر غير جسمانى.
ولنا أن نبرهن على
هذا ببرهان آخر فنقول : إن القوة العقلية هو ذا تجرد المعقولات عن الكم المحدود والأين والوضع وسائر ما قيل من
قبل ، فيجب أن ننظر فى ذات هذه الصورة المجردة عن الوضع كيف هى
مجردة عنه أبا لقياس إلى
__________________
الشىء المأخوذ منة
أو بالقياس إلى الشىء الآخذ ، أعنى أن وجود هذه الحقيقة المعقولة المتجردة عن
الوضع هل هو فى الوجود الخارجى أو فى الوجود المتصور فى الجوهر العاقل. ومحال أن
نقول : إنها كذلك فى الوجود الخارجى ، فبقى أن نقول : إنها إنما هى مفارقة للوضع
والأين عند وجودها فى العقل. فإذا وجدت فى العقل لم تكن ذات وضع وبحيث تقع إليها إشارة
أو تجزؤ أو انقسام أو شىء مما أشبه
هذا المعنى ، فلا يمكن أن تكون فى جسم. وأيضا إذا انطبعت الصورة الأحدية غير المنقسمة التي هى لأشياء غير منقسمة فى المعنى فى مادة منقسمة ذات جهات ، فلا
يخلو إما أن لا تكون ولا لشىء من أجزائها التي تفرض فيها بحسب جهاتها نسبة إلى
الشىء المعقول الواحد الذات غير المنقسم المجرد عن المادة ، أو تكون لكل واحد من أجزائها
التي تفرض نسبة أو تكون لبعض دون بعض.
فان لم تكن ولا
لشىء منها فلا لكلها ، فان ما يجتمع عن مباينات مباين وإن كان لبعضها دون بعض
فالبعض الذي لا نسبة له ليس هو من معناه فى شىء وإن كان لكل جزء يفرض فيه نسبة ما ، فإما أن يكون لكل جزء يفرض فيه نسبة إلى الذات كما هى أو إلى جزء من الذات ، فإن كان لكل جزء يفرض نسبة إلى
الذات كما هى فليست الأجزاء إذن أجزاء معنى المعقول ، بل كل واحد منها
معقول فى نفسه مفردا ؛ وإن كان كل جزء له نسبة غير نسبة الجزء الآخر إلى الذات ،
فمعلوم أن الذات منقسمة فى المعقول وقد وضعناها غير منقسمة ، هذا خلف ؛ وإن كان نسبة كل واحد إلى شىء من الذات غير ما إليه نسبة الآخر ، فانقسام الذات أظهر. ومن هذا تبين أن الصور المنطبعة فى المادة الجسمانية لا تكون
__________________
إلا أشباحا لأمور
جزئية منقسمة ، ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منه.
وأيضا فإن الشىء
المتكثر فى أجزاء الحد ، له من جهة التمام وحدة ما لا تنقسم. فلينظر أن ذلك الوجود الوحدانى ، من حيث هو واحد ما ، كيف يرتسم فى المنقسم ويكون الكلام فيها وفيما لا ينقسم بالحد واحدا.
وأيضا فإنه قد صح
لنا أن المعقولات المفروضة التي من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا
منها غير متناهية بالقوة. وقد صح لنا أن الشىء الذي يقوى على أمور غير متناهية
بالقوة لا يجوز أن يكون جسما ولا قوة فى جسم ، قد برهن على هذا فى الفنون الماضية. فلا يجوز إذن أن تكون الذات
المتصورة للمعقولات قائمة فى جسم البتة ، ولا فعلها كائن فى جسم ولا بجسم. وليس لقائل أن يقول : كذلك المتخيلات ، فذلك خطأ ، فإنه ليس للقوة الحيوانية أن تتخيل أى شىء اتفق مما لا نهاية له فى أى وقت كان ما
لم يقرن بها تصريف القوة الناطقة. ولا لقائل أن يقول : إن هذه
القوة أى العقلية قابلة لا فاعلة ، وأنتم إنما أثبتم تناهى القوة الفاعلة ، والناس
لا يشكون فى جواز وجود قوة قابلة غبر متناهية كما للهيولى. فنقول : إنك تعلم أن قبول النفس الناطقة فى كثير من أشياء لا نهاية لها
قبول بعد تصرف فعلى.
ولنستشهد أيضا على ما بيناه بالكلام الناظر فى جوهر النفس الناطقة وفى أخص فعل له بدلائل من
أحوال أفعال أخرى له مناسبة لما ذكرناه. فنقول : إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية
حتى يكون فعلها الخاص إنما يستتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية ، لكان يجب أن لا
تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة وأن
__________________
لا تعقل أنها عقلت
، فإنه ليس لها بينها وبين ذاتها آلة ، وليس لها بينها وبين آلتها آلة ،
وليس لها بينها وبين أنها عقلت آلة ، لكنها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى لها وإنها
عقلت فإذن تعقل بذاتها لا بآلة ، بل قد نحقق فنقول : لا يخلو إما أن يكون تعقلها آلتها لوجود ذات صورة آلتها تلك ، أو لوجود صورة أخرى مخالفة لها بالعدد ، وهى أيضا فيها وفى
آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك بالنوع ، وهى فيها وفى آلتها. فإن كانت لوجود صورة آلتها فصورة آلتها فى آلتها وفيها بالشركة دائما. فيجب أن
تعقل آلتها دائما. إذ كانت إنما تعقلها لوصول الصورة إليها ،
وإن كان لوجود صورة لآلتها غير تلك الصورة بالعدد فذلك باطل. أما أولا فلأن
المغايرة بين أشياء تدخل فى حد واحد ، إما لاختلاف المواد والأحوال والأعراض ،
وإما لاختلاف ما بين الكلى والجزئى والمجرد عن المادة والموجود فى
المادة. وليس هاهنا اختلاف مواد وأعراض ، فإن المادة واحدة والأعراض الموجودة
واحدة ؛ وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود فى المادة ، فإن
كليهما فى المادة ؛ وليس هاهنا اختلاف الخصوص والعموم لأن
إحداهما إن استفادت جزئية فإنما تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها.
وهذا المعنى لا يختص بإحداهما دون الأخرى ، ولا يلزم هذا على
إدراك النفس ذاتها ، فإنها تدرك دائما ذاتها ، وإن كانت قد تدركها فى الأغلب مقارنة للأجسام التي هى معها على ما بيناه. وأنت تعلم
أنه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها ، فإن هذا أشد استحالة ، لأن
الصورة المعقولة إذا حلت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته أو لما تلك الصورة مضافة إليه ،
__________________
فتكون صورة المضاف
داخلة فى هذه الصورة. وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا أيضا صورة شىء مضاف إليها بالذات ، لأن ذات هذه الآلة جوهر ونحن إنما نأخذ ونعتبر صورة ذاته ، والجوهر فى ذاته غير مضاف البتة.
فهذا برهان واضح على أنه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته فى الإدراك.
ولهذا فإن الحس
إنما يحس شيئا خارجا ولا يحس ذاته ، ولا آلته ولا إحساسه. وكذلك الخيال لا يتخيل
ذاته ولا فعله البتة ، بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصه وأنها لا محالة له دون غيره ، إلا أن يكون الحس يورد عليه صورة آلته لو أمكن ، فيكون حينئذ إنما يحكى خيالا
مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شىء حتى لو لم يكن هو آلته لم يتخيله.
وأيضا مما يشهد لنا بهذا ويقنع فيه أن القوى الدراكة بالآلات يعرض لها من إدامة العمل أن
تكمل ، لأجل أن الآلات تكلها إدامة الحركة وتفسد مزاجها الذي هو جوهرها وطبيعتها ،
والأمور القوية الشاقة الإدراك توهنها ، وربما أفسدتها ولا تدرك عقيبها الأضعف منها لانغماسها فى الانفعال عن الشاق ، كالحال فى
الحس فإن المحسوسات الشاقة والمتكررة تضعفه وربما أفسدته كالضوء للبصر والرعد
الشديد للسمع. ولا يقوى الحس عند إدراك القوى على إدراك الضعيف ، فإن المبصر ضوءا
عظيما لا يبصر معه ولا عقيبه نورا ضعيفا ، والسامع صوتا عظيما لا يسمع معه
ولا عقيبه صوتا ضعيفا ، ومن ذاق الحلاوة الشديدة
لا يحس بعدها بالضعيفة. والأمر فى القوة العقلية بالعكس ، فإن إدامتها للعقل وتصورها للأمور التي هى أقوى يكسبها
__________________
قوة وسهولة قبول
لما بعدها مما هو أضعف منها ؛ فإن عرض لها فى بعض الأوقات ملال أو كلال فذلك
لاستعانة العقل بالخيال المستعمل للآلة التي تكل فلا تخدم العقل ، ولو كان لغير
هذا لكان يقع دائما وفى أكثر الأمر والأمر بالضد.
وأيضا فإن أجزاء
البدن كلها تأخذ فى الضعف من قواها بعد منتهى النشوء والوقوف ، وذلك دون الأربعين أو عند الأربعين. وهذه القوة المدركة للمعقولات
إنما تقوى بعد ذلك فى أكثر الأمر ، ولو كانت من
القوى البدنية لكان يجب دائما فى كل حال أن تضعف حينئذ. لكن ليس يجب ذلك إلا فى أحوال وموافاة عوائق دون جميع الأحوال ، فليست هى إذن من القوة البدنية.
ومن هذه الأشياء
يتبين أن كل قوة تدرك بآلة فلا تدرك ذاتها ولا آلتها ولا إدراكها
، ويضعفها تضاعف الفعل ، ولا تدرك الضعيف إثر القوى ،
والقوى يوهنها ويضعف فعلها عن ضعف آلات فعلها ، والقوة العقلية
بخلاف ذلك كله.
وأما الذي يتوهم
من أن النفس إذا كانت تنسى معقولاتها ولا تفعل فعلها مع مرض البدن وعند الشيخوخة
فذلك لها بسبب أن فعلها لا يتم إلا بالبدن ، فظن غير ضرورى ولا حق ، وذلك أنه قد
يمكن أن يجتمع الأمران جميعا ، فتكون النفس لها فعل بذاتها إذا لم يعق عائق ولم
يصرف عنه صارف ، وأنها أيضا قد تترك فعلها الخاص مع حال يعرض للبدن فلا
تفعل حينئذ فعلها وتصرف عنه ، ويستمر القولان من غير تناقض. وإن كان كذلك لم يكن إلى هذا الاعتراض التفات. ولكنا نقول : ان جوهر النفس له
فعلان : فعل له بالقياس إلى البدن ، وهو السياسة ، وفعل له بالقياس إلى ذاته وإلى مبادئه وهو الإدراك بالعقل ؛ وهما متعاندان متمانعان ،
فإنه إذا اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر ، ويصعب
__________________
عليه الجمع بين
الأمرين. وشواغله من جهة البدن هى : الإحساس والتخيل والشهوات والغضب والخوف والغم والفرح
والوجع.
وأنت تعلم هذا
بأنك إذا أخذت تفكر فى معقول تعطل عليك كل شىء من هذه ، إلا أن تغلب هى النفس
وتقسرها رادة إياها إلى جهتها. وأنت تعلم أن الحس يمنع النفس عن
التعقل ، فإن النفس إذا أكبت على المحسوس شغلت عن المعقول من غير أن يكون أصاب آلة
العقل أو ذاته آفة بوجه ؛ وتعلم أن السبب فى ذلك هو اشتغال النفس بفعل
دون فعل ، فكذلك الحال والسبب إذا عرض أن تعطلت أفعال العقل عند المرض. ولو
كانت الملكة العقلية المكتسبة قد بطلت وفسدت لأجل الآلة ، لكان رجوع الآلة إلى
حالها يحوج إلى اكتساب من رأس. وليس الأمر كذلك ، فإنه قد تعود النفس إلى ملكتها وهيئتها
عاقلة بجميع ما عقلته بحالها إذا عاد البدن إلى سلامته ، فقد كان إذن ما كسبته
موجودا معها بنوع ما إلا أنها كانت مشغولة عنه. وليس اختلاف جهتى فعل النفس فقط
يوجب فى أفعالها التمانع ، بل تكثّر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك بعينه. فإن الخوف يغفل عن الوجع والشهوة
تسد عن الغضب ، والغضب يصرف عن الخوف ، والسبب فى جميع ذلك
واحد وهو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد.
فبين من هذا أنه
لبس يجب إذا لم يفعل شىء فعله عند اشتغاله بشيء أن لا يكون فاعلا فعله إلا عند
وجود ذلك الشىء المشتغل به. ولنا أن نتوسع فى بيان هذا الباب ، إلا أن الإمعان فى
المطلوب بعد بلوغ الكفاية منسوب إلى التكلف لما لا يحتاج إليه. فقد ظهر من أصولنا
التي قررنا أن النفس ليست منطبعة فى البدن ولا قائمة به ، فيجب أن يكون اختصاصها
به على سبيل مقتضى هيئة فيها جزئية جاذبة إلى الاشتغال بسياسة
البدن الجزئى ، لعناية ذاتية مختصة به ، صارت النفس عليها كما وجدت مع وجود بدنها
الخاص بهيئته ومزاجه.
__________________
الفصل الثالث
يشتمل على مسألتين
: إحداهما كيفية انتفاع النفس الإنسانية بالحواس ، والثانية إثبات حدوثها.
إن القوى
الحيوانية تعين النفس الناطقة فى أشياء منها : أن يورد الحس من جملتها عليها
الجزئيات فتحصل لها من الجزئيات أمور أربعة : أحدها انتزاع الذهن الكليات المفردة
عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائق المادة ولواحقها ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتى وجوده والعرضى
وجوده ، فتحدث للنفس من ذلك مبادئ التصور وذلك بمعاونة استعماله للخيال والوهم. والثاني إيقاع النفس مناسبات
بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب أو إيجاب ،
فما كان التأليف فيها بسلب أو إيجاب أوليا بينا بنفسه أخذه ، وما كان ليس كذلك تركه إلى مصادفة الواسطة. والثالث تحصيل المقدمات التجربية
، وهو أن نجد بالحس محمولا لازم الحكم لموضوع ما كان حكمه إيجابا أو سلبا أو تاليا
موجب الاتصال أو مسلوبه أو موجب العناد أو مسلوبه ، وليس ذلك فى بعض الأحايين دون
بعض ولا على سبيل المساواة ، بل دائما وجودا يسكن النفس إلى أن بين طبيعة هذا
الموضوع وهذا المحمول هذه النسبة ، وأن طبيعة هذا التالى
تلزم هذا المقدم أو تنافيه لذاته لا بالاتفاق ، فيكون ذلك اعتقادا حاصلا من حس
وقياس كما هو مبين فى الفنون المنطقية. والرابع لأخبار التي يقع بها التصديق لشدة
التوتر.
فالنفس الإنسانية
تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادي للتصور والتصديق ،
__________________
ثم إذا حصلتها
رجعت إلى ذاتها ، فإن تعرض لها شىء من القوى التي دونها شاغلة إياها بما يليها من
الأحوال شغلتها عن فعلها فأضربت عن فعلها ، وإن لم تشغلها
فلا تحتاج إليها بعد ذلك فى خاص أفعالها إلا فى أمور تحتاج فيها خاصة إلى أن تعاود
القوى الخيالية مرة أخرى وذلك لاقتناص مبدأ غير الذي
حصل أو معاونة بتمثيل الغرض فى الخيال ليستحكم تمثله بمعونته فى العقل ، وهذا مما يقع فى الابتداء ولا يقع بعده
إلا قليلا. فأما إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على
الإطلاق ، وتكون القوى الحسية والخيالية وسائر القوى البدنية صارفة إياها عن فعلها
، مثل أن الإنسان قد يحتاج إلى دابة وآلات ليتوصل بها إلى مقصد ما ، فإذا وصل إليه ثم عرض من من الأسباب ما يعوقه عن مفارقتها صار السبب الموصل بعينه عائقا. ونقول : إن الأنفس الإنسانية لم تكن قائمة
مفارقة للأبدان ثم حصلت فى الأبدان ، لأن الأنفس الإنسانية متفقة فى النوع
والمعنى ، فإذا فرض أن لها وجودا ليس حادثا مع حدوث الأبدان ، بل هو وجود مفرد ،
لم يجز أن تكون النفس فى ذلك الوجود متكثرة. وذلك لأن تكثر الأشياء إما أن يكون من جهة الماهية والصورة ، وإما أن يكون من جهة النسبة
إلى العنصر والمادة المتكثرة بما تتكثر به من الأمكنة التي تشتمل على كل مادة فى
جهة والأزمنة التي تختص بكل واحد منها فى حدوثه والعلل
القاسمة إياها ، وليست متغايرة بالماهية والصورة ، لأن صورتها واحدة. فإذن
إنما تتغاير من جهة قابل الماهية أو المنسوب إليه الماهية
بالاختصاص ، وهذا هو البدن. وأما إذا أمكن أن تكون النفس موجودة ولا بدن ، فليس
يمكن أن تغاير نفس نفسا بالعدد وهذا مطلق فى كل شىء ، فإن الأشياء التي ذواتها معان فقط وقد تكثرت نوعياتها بأشخاصها
__________________
فإنما تكثرها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو بنسبة ما إليها وإلى أزمنتها
فقط وإذا كانت مجردة أصلا لم تتفرق بما قلنا. فمحال
أن يكون بينها مغايرة وتكثر ، فقد بطل أن تكون الأنفس قبل دخولها الأبدان متكثرة الذات بالعدد.
وأقول : ولا يجوز أن تكون واحدة الذات بالعدد ، لأنه إذا حصل
بدنان حصل فى البدنين نفسان. فإما أن تكونا قسمى تلك النفس الواحدة ، فيكون الشىء
الواحد الذي ليس له عظم وحجم منقسما بالقوة ، وهذا ظاهر البطلان بالأصول المتقررة
فى الطبيعيات وغيرها. وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد فى بدنين ، وهذا لا يحتاج
أيضا إلى كثير تكلف فى إبطاله. ونقول بعبارة أخرى : إن هذه الأنفس إنما تتشخص نفسا واحدة من جملة نوعها بأحوال تلحقها ليست لازمة لها بما هى نفس ، وإلا لاشترك فيها جميعها. والأعراض اللاحقة تلحق عن ابتداء لا محالة زمانى لأنها تتبع سببا عرض لبعضها دون بعض ، فيكون تشخص الأنفس أيضا أمرا حادثا ، فلا تكون قديمة لم تزل ويكون حدوثها مع بدن. فقد صح
إذن أن الأنفس تحدث كما تحدث مادة بدنية صالحة لاستعمالها إياها ، فيكون البدن الحادث مملكتها وآلتها ، ويكون فى جوهر النفس
الحادثة مع بدن ما ذلك البدن استحق حدوثها من المبادي الأولى هيئة نزاع طبيعى إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحواله والانجذاب إليه
تخصها وتصرفها عن كل الأجسام غيره ، فلا بد أنها إذا وجدت متشخصة فإن
مبدأ تشخصها يلحق بها من الهيئات ما تتعين به شخصا وتلك الهيئات تكون مقتضية لاختصاصها بذلك البدن ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر ، وإن خفى علينا تلك الحالة وتلك المناسبة ، وتكون مبادئ الاستكمال
__________________
متوقعة لها بوساطته ، ويكون هو بدنها . ولكن لقائل أن
يقول : إن هذه الشبهة تلزمكم فى النفوس إذا فارقت الأبدان ، فإنها إما أن تفسد ولا تقولون به ، وإما أن تتحد وهو عين ما شنعتم به ، وإما
أن تبقى متكثرة ، وهى عندكم مفارقة للمواد ، فكيف تكون متكثرة. فنقول : أما بعد مفارقة الأنفس للأبدان ، فإن
الأنفس قد وجدت كل واحدة منها ذاتا منفردة
باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف
هيئاتها التي لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة. فإنا نعلم يقينا أن موجد المعنى
الكلى شخصا مشارا إليه لا يمكنه أن يوجده شخصا أو يزيد له معنى على نوعيته به يصير شخصا من المعانى التي تلحقه عند حدوثه وتلزمه ، علمناها أو لم نعلم.
ونحن نعلم أن النفس ليست واحدة فى الأبدان كلها ، ولو كانت واحدة وكثيرة
بالإضافة لكانت عالمة فيها كلها أو جاهلة ، ولما خفى على زيد ما فى نفس عمرو ، لأن
الواحد المضاف إلى كثيرين يجوز أن يختلف بحسب الإضافة.
وأما الأمور الموجودة له فى ذاته فلا يختلف فيها ، حتى إذا كان أب لأولاد كثيرين وهو شاب لم يكن شابا إلا بحسب الكل ، إذ الشباب له فى نفسه فيدخل فى
كل إضافة ؛ وكذلك العلم والجهل والظن وما أشبه ذلك إنما تكون فى ذات النفس وتدخل
مع النفس فى كل إضافة.
فإذن ليست النفس
واحدة ، فهى كثيرة بالعدد ، ونوعها واحد ، وهى حادثة ، كما بيناه. فلا شك أنها
بأمر ما تشخصت وأن ذلك الأمر فى النفس الإنسانية ليس هو الانطباع فى المادة ، فقد
علم بطلان القول بذلك ، بل ذلك الأمر لها هيئة من الهيئات ، وقوة من القوى ، وعرض من الأعراض الروحانية ، أو جملة منها
تشخصها باجتماعها وإن جهلناها. وبعد أن تشخصت مفردة فلا يجوز أن تكون هى والنفس
الأخرى بالعدد ذاتا واحدة ، فقد أكثرنا القول فى امتناع هذا فى عدة
__________________
مواضع ، لكنا
نتيقن أنه يجوز أن تكون النفس إذا حدثت مع حدوث مزاج ما أن تحدث لها هيئة بعده فى الأفعال النطقية والانفعالات النطقية تكون على جملة متميزة عن الهيئة
الناظرة لها فى أخرى تميز المزاجين فى البدنين وأن تكون الهيئة المكتسبة التي تسمى
عقلا بالفعل أيضا على حد ما تتميز به عن نفس أخرى ، وأنها يقع لها شعور بذاتها
الجزئية ، وذلك الشعور هيئة ما فيها أيضا خاصة ليست لغيرها.
ويجوز أن تحدث
فيها من جهة القوى البدنية هيئة خاصة أيضا ، وتلك الهيئة تتعلق بالهيئات الخلقية ،
أو تكون هى هى ، أو تكون أيضا خصوصيات أخرى تخفى علينا تلزم النفوس مع حدوثها
وبعده ، كما تلزم من أمثالها أشخاص الأنواع الجسمانية فتمايز بها ما بقيت ، وتكون
الأنفس كذلك تتميز بمخصصاتها فيها ، كانت الأبدان
أو لم تكن أبدان ، عرفنا تلك الأحوال أو لم نعرف أو عرفنا بعضها.
__________________
الفصل الرابع
فى أن الأنفس
الانسانية لا تفسد
ولا تتناسخ
أما أن النفس لا
تموت بموت البدن ، فلأن كل شىء يفسد بفساد شىء آخر فهو متعلق به نوعا من التعلق ،
وكل متعلق بشيء نوعا من التعلق فإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر عنه فى الوجود ، أو
تعلق المتقدم له فى الوجود الذي هو قبله فى الذات لا فى الزمان ، أو تعلق المكافئ
فى الوجود. فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافئ فى الوجود ، وذلك أمر ذاتى له
لا عارض ، فكل واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه وليس لا النفس ولا البدن
بجوهر ، لكنهما جوهران ، وإن كان ذلك أمرا عرضيا لا ذاتيا. فإن فسد أحدهما ، بطل
العارض الآخر من الإضافة ، ولم تفسد الذات بفساده من حيث هذا التعلق. وإن كان
تعلقها به تعلق المتأخر عنه فى الوجود ، فالبدن علة النفس فى
الوجود.
والعلل أربع :
فإما أن يكون البدن علة فاعلية للنفس معطية لها الوجود ، وإما أن يكون علقة قابلية
لها بسبيل التركيب كالعناصر للأبدان أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم ، وإما أن
يكون علة صورية ، وإما أن يكون علة كمالية. ومحال أن يكون علة فاعلية ، فإن الجسم
بما هو جسم لا يفعل شيئا ، وإنما يفعل بقوة. ولو كان يفعل
بذاته لا بقوة ، لكان كل جسم يفعل ذلك الفعل. ثم إن القوى الجسمانية كلها إما أعراض وإما صور مادية. ومحال أن تفيد الأعراض
والصور القائمة بالمواد وجود ذات قائمة بنفسها لا فى مادة ووجود جوهر مطلق. ومحال
أيضا أن يكون علة
__________________
قابلية ، فقد
برهنا وبينا أن النفس ليست منطبعة فى البدن بوجه من الوجوه ، فلا يكون البدن إذن متصورا
بصورة النفس لا بحسب البساطة ولا بحسب التركيب بأن تكون أجزاء البدن تتركب وتمتزج تركيبا ما وامتزاجا ما فتنطبع فيها النفس.
ومحال أن يكون
الجسم علة صورية للنفس أو كمالية ، فإن الأولى أن يكون بالعكس.
فإذن ليس تعلق
النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية. وإن كان المزاج والبدن علة بالعرض للنفس ،
فإنه إذا حدثت مادة بدن تصلح أن تكون آلة للنفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية أو حدث عنها ذلك. فإن إحداثها بلا سبب مخصص إحداث واحد دون واحد محال ،
ومع ذلك فإنه يمنع وقوع الكثرة فيها بالعدد ، لما قد بيناه ، ولأنه لا بد لكل كائن بعد ما لم يكن من أن تتقدمه مادة يكون فيها تهيؤ قبوله أو
تهيؤ نسبة إليه ، كما تبين فى العلوم الأخرى ، ولأنه لو كان يجوز أيضا أن تكون نفس جزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل
لكانت معطلة الوجود ولا شىء معطل فى الطبيعة. وإذا كان ذلك ممتنعا فلا قدرة عليه ،
ولكن إذا حدث التهيؤ للنسبة والاستعداد للآلة يلزم حينئذ أن يحدث من العلل
المفارقة شىء هر النفس وليس ذلك فى النفس فقط بل كل ما يحدث بعد ما لم يكن من الصور فإنما يرجح وجوده عن لا وجوده استعدادا للمادة له وصيرورتها خليفة به. وليس إذا وجب حدوث شىء عند
حدوث شىء وجب أن يبطل مع بطلانه ، إنما يكون ذلك إذا كانت ذات الشىء قائمة بذلك الشىء وفيه. وقد تحدث أمور عن أمور ،
__________________
وتبطل تلك الأمور
، وتبقى تلك الأمور إذا كانت ذاتها
غير قائمة فيها ، وخصوصا إذا كان مفيد الوجود لها شيئا آخر غير الذي إنما تهيأ إفادة وجودها مع وجوده. ومفيد وجود النفس هو غير جسم ولا هو
قوة فى جسم ، بل هو لا محالة ذات قائمة برية عن المواد وعن المقادير. فإذا كان وجودها من ذلك الشىء ومن
البدن يحصل وقت استحقاقها للوجود فقط فليس له تعلق فى نفس الوجود بالبدن ، ولا البدن
علة له إلا بالعرض. فلا يجوز إذن أن يقال إن التعلق بينهما على نحو يوجب أن يكون
الجسم متقدما تقدم العلية على النفس.
وأما القسم الثالث
مما ذكرنا فى الابتداء وهو أن يكون تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم فى الوجود ،
فإما أن يكون التقدم مع ذلك زمانيا فيستحيل أن يتعلق وجودها به فقد تقدمته فى الزمان ، وإما أن يكون التقدم بالذات لا بالزمان ، وهذا
النحو من التقدم هو أن تكون الذات المتقدمة فى الوجود كما توجد يلزم أن تستفاد عنها ذات المتأخر فى الوجود. وحينئذ لا يوجد أيضا
هذا المتقدم فى الوجود إذا فرض المتأخر قد عدم ، لا أن فرض عدم المتأخر أوجب عدم المتقدم ، ولكن لأن المتأخر لا يجوز أن يكون عدم إلا وقد عرض أولا للمتقدم فى طبعه ما أعدمه ، فحينئذ عدم المتأخر ، فليس
فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم ، ولكن فرض عدم المتقدم نفسه لأنه إنما فرض المتأخر معدوما بعد أن عرض للمتقدم أن عدم فى
نفسه ، وإذا كان كذلك فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض فى جوهر النفس فيفسد معه البدن. وأن لا يكون
البدن البتة
__________________
الفصل الثاني
فصل فى
أحوال كلية
من أحوال البحر
ماء البحر ليس
حكمه حكم سائر العناصر فى أن له طبقات مختلفة ظاهرة الاختلاف فى ترتيب العلو
والسفل. وذلك لأن الماء سريع الاختلاط بما يخالطه ؛ لأنه ليس عمقه وثخنه مثل عمق الهواء وثخنه. فلذلك يشتد
اختلاط الآثار بكليته وتنفذ فيه. وجذب الشمس
لما فى باطن الأرض وتحريكها إياه يفى بتبليغه وجه البحر وإخراجه عنه. ولو لا ذلك لكان
ظاهر البحر ، وما يلى وجهه ، أقرب ماء إلى طبيعة الهواء
، وكان لا كثير تأثير فيه للأرضية. وليس كذلك ؛ بل ماء البحر كله مالح أو زعاق.
والماء لا يتغير
التغيرات التي بعد الكيفيات الأول ، بنفسه ،
إنما يتغير لمخالطة شىء آخر. والهواء إذا خالطه جعله أرق وأعذب ، ولم يجعله ملحا. إنما يصير ملحا
بسبب الأرضية المحترقة المرة إذا خالطته. فلم يخطئ من زعم أن ملوحة ماء البحر لأرضية خالطته ، إذا اعتقد ، مع
ذلك ، شرط الاحتراق والمرارة.
وأنت فيمكنك أن
تتخذ الملح من رماد كل محترق ، ومن كل حجر يفيده التكليس حدة ومرارة ، إذا طبخته فى الماء ، وصفيته ، ولم تزل تطبخ ذلك الماء أو تدعه فى الشمس ،
__________________
فإنه ينعقد ملحا. ولهذا ما يتخذ قوم من القلى ومن النورة ومن الرماد ملحا متى شاؤوا.
وسبب ملوحة العرق
والبول مخالطة المرارة المحترقة المائية
فيملح. ولما أعوز الملح فى بعض البلاد كانوا يتخذونه من رماد قصب
وشجر يكون لهم بهذا التدبير. وليس ما ظن قوم من أن ملوحة ماء البحر إنما هى بسبب أن الكثيف منه يبقى محتبسا فيه بعد تبخر البخارات اللطيفة ، فيكون بسببه مرا. ومعلوم أن كثافته باختلاط الأرضية به. فإن لم تزد شرطا ،
وقلت بمجرد الكثافة ، فهلا كان الطين مرا أو ملحا؟ ولم ، إذا عاد إليه ماء يتبخر عنه فى الأودية العذبة والأمطار الجود ، لا يعود البتة مرة أخرى عذبا؟ فمن المعلوم أن البحر ، وإن أنفق صيفا ، فإنه يسترجع شتاء.
والماء بنفسه ليس
فيه كثيف ولطيف ؛ بل هو متشابه الأجزاء. إنما الكثيف منه ما خالطته أرضية ؛ لأنه لا شىء أكثف من الماء إلا الأرض ، والأرضى إذا خالطه أرضية لا كيفية لها لم يتكيف ، وإنما يتكيف من
كيفية الأرض. فإن كانت الأرضية شديدة المرارة لم يتملح ؛ بل يزعق ، وإن كانت قليلة المرارة ، بحيث إذا تحلل فى الماء ، قبل
نوعا من الاستحالة عن مرارته ، ملح. وأى ماء ملح
طبخته انعقد منه ، آخر الطبخ لا محالة ، ملح ، وحتى من البول والعرق ومياه أنهار
ملحة.
والدليل على أن
ماء البحر يتملح بمخالطته الأرضية ، وليس ذلك طبيعيا له ، أنه يقطر ويرشح فيكون عذبا ، وقد تتخذ كرة من شمع فترسل فيه ، فيرشح العذب إلى باطنه رشحا.
__________________
والبحر أيضا قد تكون فى مواضع منه مياه عذبة ، وقد تمده مياه عذبة ، إلا أنها ألطف من ماء البحر المجتمع فيه قديما ، فيسبق إليها التحلل. فإن اللطيف يسبق إليه ، وخصوصا فى حال الانتشار. فإن الانتشار ، يعين على ذلك ،
كما لو بسط الماء على البر.
وإذا كان كذلك صار
العذب يتحلل بخارا ويصير سحبا وغير ذلك ، والمالح الكثيف يبقى.
وقد يتفق أن يصعد منه بخار ، إلا أنه لكثافته لا يجاوز البحر ؛ بل ينزل عن قريب مطرا مالحا.
وهذا فى النوادر ويطيب بمخالطة الهواء.
فمن المعلوم أن
الملح إذا طبخ فى الماء ، فيصعد بخار الماء ، وكان الملح لطيفا
، يصعد معه أيضا.
فالبحر بالحقيقة
هو كما قيل من أنه يعطى الصفو لغيره ، ويحبس الكدر لنفسه ، مع أنه يأخذ الصفو
أيضا.
والبحر لملوحة
مائيته ، وكثرة أرضيته أثقل من المياه الأخرى وزنا . ولذلك فقل ما يرسب فيه البيض. وأما بحيرة فلسطين فلا يرسب فيها شىء ،
حتى الحيوان المكتوف. ولا يتولد فيها الحيوان ، ولا يعيش.
وهاهنا نهر عذب أيضا لا يتولد فيه حيوان لبرده من منبعه إلى مصبه.
على أن فى البحر مواضع يعذبها ما ينبع إليها من عيون تحتها.
وقد قال «أنبادقليس»
: إن ملوحة البحر بسبب أن البحر عرق الأرض. وهذا كلام شعرى ليس بفلسفى. لكنه مع ذلك يحتمل التأويل. فإن العرق رطوبة من
البدن
__________________
تملحت بما يخالطها
من المادة المحترقة من البدن. وماء البحر قد يملح بقريب من ذلك.
فإذا كانت ملوحة البحر لهذه العلة ولغاية هى حفظ مائة عن الأجون ، ولولاه لأجن ، وانتشر فساد أجونه فى الأرض ، وأحدث
الوباء العام. على أن ماء البحر يأجن إذا خرج من البحر
أيضا ، وإنما ينحفظ بعضه بمجاورة بعض وبمدد التمليح الذي يصل إليه.
فلهذه الأسباب كان
الغالب فى البحر مالحا. إنما العذب منه قليل. وطبيعته حارة تلهب النار فوق أن تطفئها ، ثقيلة لذاعة
للمغتسل به ، أكالة . وإذا تميز منه العذب فليس بسبب الأرض ؛ بل بسبب عيون ذكرناها ، وإلا لأصلحتها الأرض الطيبة إذا جعل فيها له مصانع.
فبين من هذا أن
جميع أجزاء الماء قابل للاختلاط بما يتصعد من الأراضى ، ومنفذ لما ينفذ من القوى
السماوية. فليس للبحر طبقات.
وأما اختصاص البحر
فى طباعه بموضع دون موضع فأمر غير واجب ؛ بل الحق أن البحر ينتقل فى مدد لا يضبطها
الأعمار ، ولا تتوارث فيها التواريخ والآثار المنقولة من
قرن إلى قرن إلا فى أطراف بسيرة وجزائر صغيرة ؛ لأن البحر لا محالة
مستمد من أنهار وعيون تفيض إليه ، وبها قوامه. ويبعد أن يكون تحت البحر عيون ومنابع هى التي تحفظه دون الأنهار. وذلك لأنها لو
كانت لوجب أن يكثر عددها جدا ، وأن لا تخفى على ركاب البحر ؛ بل إنما تستحفظ البحار بالأنهار
التي مصبها من نواحى مشرفة عالية بالقياس إلى البحر.
__________________
ومن شأن الأنهار
أن تستقى من عيون ، ومن مياه السماء. ومعولها القريب إنما هو على
العيون. فإن مياه السماء أكثر جدواها فى فصل بعينه دون فصل. ثم لا العيون ولا مياه
السماء يجب أن تتشابه أحوالها فى بقاع واحدة بأعيانها تشابها مستمرا. فإن كثيرا من
العيون يغور وينضب ماؤها. وكثيرا ما تقحط السماء فلا بد من
أن تجف أودية وأنهار ، وربما طمت الأنهار ، بما يسيل من أجزاء
الأرض ، جوانب من النجاد.
وأنت ترى آثار ذلك
فى كثير من المسالك ، وفى أودية الجبال والمفاوز ، وتتيقن أنها كانت وقتا من الزمان غائرة المياه ، وقد انقطع الآن مواردها.
وإذا كان كذلك
فستنحسم مواد أودية وأنهار ، ويعرض للجهة التي تليها من البحار أن تنضب ، وستستجد عيون وأودية وأنهار من جهات أخرى ، فتقوم بدل ما نضب. ويفيض الماء فى تلك الجهة على البر. فإذا مضت الأحقاب ، بل
الأدوار ، يكون البحر قد انتقل عن حيز إلى حيز ، وليس يبعد أن يحدث الاتفاق أو الصناعة خلجان ، إذا طرقت فى سد بين البحر وبين غور نتوءا ، وهدمته ، أو بين أنهار كبار وبين مثله.
وقد يعرف من أمر النجف الذي بالكوفة أنه بحر ناضب ، وقد قيل إن أرض مصر هذه سبيلها ، ويوجد فيها رميم حيوان البحر. وقد حدّثت عن بحيرة خوارزم أنها حالت من
المركز الذي عهدها به مشايخ الناحية المسنون حوولا ، إلا أن أعمارنا لا تفى بضبط أمثال ذلك فى البحار الكبار ، ولا التواريخ التي يمكن ضبطها ، تفى بالدلالة على الانتقالات
العظيمة فيها. وربما هلكت أمم من سكان ناحية دفعة بطوفان أو وباء ، أو انتقلوا دفعة
، فتنوسى ما يحدث بها بعدهم.
__________________
وهكذا حال الجبال.
فإن بعضها ينهال ويتفتت ، وبعضها يحدث ويشمخ بأن تتحجر مياه تسيل عليها أنفسها وما يصحبها من الطين. ولا
محالة أنها تتغير عن أحوالها يوما من الدهر. ولكن التاريخ فيه لا يضبط. فإن الأمم
يعرض لهم آفات من الطوفانات والأوبئة ، وتتغير لغتهم وكتاباتهم
فلا يدرى ما كتبوا وقالوا. وهو ذا يوجد فى كثير من الجبال. وبالهرمين اللذين بمصر ، على ما بلغنى ، كتابات منها ما لا يمكن إخراجه ،
ومنها ما لا تعرف لغته.
وأعلم أن البحر
ساكن فى طباعه ، وإنما يعرض ما يعرض من حركته بسبب رياح تنبعث من قعره ، أو رياح تعصف فى وجهه ، أو لمضيق يكون فيه ينضغط فيه الماء من الجوانب لثقله ، فيسيل مع أدنى تحرك ، ثم يلزم ذلك لصدم الساحل والنبوّ عنه إلى الناحية التي هى أغور. أو
لاندفاع أودية فيه مموجة له بقوة ، وخصوصا إذا ضاقت
مداخلها وارتفعت وقل عمقها ، فيعرض أن يتحرك إلى المغار.
وإذا كان فى البحر
موضع مشرف ، ووقع أدنى سبب محرك للماء ، فسال عنه إلى الغور ، فلا يزال يجذب مقدمه مؤخره على الاستتباع فيدوم سيالا. والبحر
الموضوع في الوهاد الغائرة أسلم من تمويج الرياح ، حتى
يخيل من الجريان ما يخيله نظيره فى موضع عال.
قالوا إن البحر
الموضوع فى داخل منار هر قل لقلة عمقه وضيق مواضع منه وكثرة ما يسيل إليه من الأنهار
يخيل جريانا ، والبحر الذي من الجانب الآخر بالخلاف لكبره ، وقلة ما ينصب فيه وشدة عمقه.
__________________
الفصل الثالث
فصل فى
تعريف سبب تعاقب
الحر والبرد
قد يعرض فى هذه العناصر ؛ بل وفى المركبات منها ، شىء يسمى التعاقب ، وهو أنه إذا
استولى حر على ظاهر بارد اشتد برد باطنه وبالعكس. ولهذا ما توجد مياه الآبار والقنى فى الشتاء حارة ، وفى الصيف باردة.
وقد اختلفت
الأقاويل فى هذا.
فقائل إن الحرارة
والبرودة تنهزم إحداهما من الأخرى ، كأنها تهرب من عدوها. فإذا استولت عليها من الظاهر انهزمت غائرة ؛ وإن استولت عليها من الباطن انهزمت ظاهرة ،
وكما يظن من هرب الماء من النار. وهذا المذهب يوجب أن يكون العرض من شأنه أن ينتقل من جزء موضوع إلى جزء موضوع ؛ بل من موضوع إلى موضوع.
فإنه كثيرا ما
يكون الباطن من الجسمين جسما منفصلا بنفسه ، فيعرض هذا
العرض له فى ذاته ؛ إذ المشتمل عليه منهما ، يستحيل استحالة مفرطة ، عن حر مثلا ، فيستحيل هو استحالة مفرطة عن برد ، كأنه
انتقل من المحيط به ، وهو موضوع مفرد ، إليه وهو موضوع غير
مفرد.
__________________
وقد علمنا أن
انتقال الأعراض مما لا يقول به المحصلون.
وقوم آخرون أبوا
أن يكون لهذا المعنى حقيقة إلا فيما يكون الجسم الواقع فيه هذا الشأن
إنما يسخنه جسم لطيف حار هو سار فيه ، أو يبرده جسم لطيف بارد هو سار فيه. فإن كان ذلك الجسم بخارا ، فاستولى البرد على ظاهره ، احتقن البخار فى داخل الجسم المستولى على ظاهره ، ولم يتحلل ، فازداد سخونة ؛ أو
كان المستولى حرا فجفف الظاهر ، فكثفه ، فإن ذلك الجسم
اللطيف لا يتحلل ؛ بل يبقى داخلا محتقنا ، ويزداد لا محالة قوة ؛ إذ لو لا الاحتقان لكان يتحلل.
وأكثر هؤلاء لم
يصدقوا أمر القنى والآبار ؛ بل ذكروا أن ذلك غلط من الحس كما يعرض لداخل الحمام.
فإنه أول ما يدخل عن هواء بارد شتوى يتسخن ما يفيض على رأسه من ماء فاتر ، ثم إذا استحم بالحمام الداخل استبرد ذلك الماء بعينه ، وذلك لأنه أول ما دخل كان بارد البشرة ،
وكان الماء بالقياس إليه حارا ، ثم لما أقام فى الحمام الداخل سخنت بشرته بالتدريج ، حتى
صارت أسخن من ذلك الماء. فلما أعاد ذلك الماء على بشرته كان باردا بالقياس إليها. وأما الانتقال المتدرج فيه فلا يحس به ، كما يحس عن المغافص دفعة ذلك الذي يسميه الأطباء سوء المزاج المختلف.
قالوا : وكذلك حال
الأبدان فى الشتاء ، فإنها تكون أبرد من مياه القناة ، وفى الصيف أسخن من تلك المياه ، والمياه فى الفصلين على حال متقاربة ، لكن الحس يغلط
فيها الغلط المشار إليه.
__________________
وهذا الذي قالوه
ليس مما لا يمكن. لكن ليست الصورة فى الآبار والقنى على نحو ما ذكروا بوجه من الوجوه. فإنا قد امتحنا تلك المياه فوجدناها فى
الشتاء تذيب الجمد فى الحال ، ولا تذيبه فى الصيف. وليس يصعب علينا فى الشتاء أن نسخن أبداننا سخونة تعادل سخونة الصيف. فإذا فعلنا ذلك ، وجربنا تلك المياه صادفناها حارة ، وفى الصيف جربناها فصادفناها باردة ، وكثير منها يقارب المياه المبردة بالثلج والجمد.
وهاهنا أمور جزئية
من الأحوال الطبيعية تكذب هذا الرأى وتبطله سنحصيها خلال ما نحن شارحو أمره من جزئيات الطبيعيات ، لكن الحق فى هذا شىء آخر.
نقول إن الجسم الذي له طبيعة مبردة أو مسخنة فإنه يبرد ذاته ، أو يسخنها ، بطبيعته ، ويبرد أيضا ما يجاوره ويتصل به ، أو يسخنه.
وأيضا نقول إن القوة الواحدة إذا فعلت فى موضوع عظيم وفعلت فى موضوع صغير فإن تأثيرها فى الموضوع الصغير أكثر وأقوى من تأثيرها فى الموضوع العظيم. وهذا أمر قد تحققته من أمور سلفت. وتوجدك التجربة مصداقه. فلا سواء إحراق خشبة صغيرة وإحراق خشبة كبيرة ، ولا سواء إضاءة مشكاة من سراج واحد بعينه ، وإضاءة صحراء
رحيبة منه.
فإذا كان فى جسم ما ، من نفسه ، أو من شىء فيه ، مبدأ تسخين ، وكان ذلك المبدأ يسخنه
كله ، كان تسخينه له كله أضعف من تسخينه لما هو أصغر من كليته.
وإذا استولى البرد على الأجزاء الظاهرة منه ، فامتنع فعلها فيه وبقى المنفعل عنه
__________________
الأجزاء الباطنة ،
وهو أقل من كليته ، كان ، تسخنها وانفعالها من المؤثر أشد بكثير من تسخن الكلية وانفعالها
عن تلك القوة بعينها ، كمن كان عليه ثقل يحمله فنقص بعضه ، وتسلطت قوته على شطر منه ، فيكون تأثيره فيه أسرع وأقوى ، وكذلك الحال فى
التبريد.
فيجب أن نعتقد حال التعاقب على هذه الجملة ، لا على سبيل اختلاف مقايسة ، ولا على سبيل
انتقال عرض ، أو انهزام ضد من ضد. فالماء ليس إنما ينهزم من النار على ما يظنونه ؛ بل يتبخر دفعة بخارات شأنها أن ترتفع إلى فوق دفعة ، مع مخالطة الماء الذي لم يستحل
، فتحدث من ذلك حركة مضطربة وصوت ينبعث عن شدة حركة هوائية تعرض هناك ، لا على سبيل أن الماء يستغيث
من النار بوجه من الوجوه. وهذه الحركة إنما يقصد الماء فيها كالمساعدة للنار ،
والمصير نحو جهتها لما قبله من السخونة. فربما لم يمكنه لثقله
ولبطلان الكيفية المكتسبة له عند مفارقة مستوقد النار بالغليان ، وربما قسره
الهواء الذي يحدث فيه منه على التفرق ، وقذفه إلى بعيد تطريقا لنفسه ، كما يغليه ويحبسه ، وكما يحدث عن إغلائه من التموج.
__________________
الفصل الرابع
فصل فى
تعريف
ما يقال من أن
الأجسام كلما ازدادت
عظما
ازدادت شدة وقوة
ولهذه العناصر بل وللمركبات شىء آخر نظير ما ذكرناه ، وهو أن
الكمية إذا ازدادت ازدادت الكيفية. فإن النار إذا
عظمت ؛ وأدخل فيها حديدة ، فإنما تماس الحديدة منها
سطحا مثل السطح الذي تماسه من النار الصغيرة. لكن سطح النار الكبيرة يحمى فى زمان غير
محسوس ، وسطح النار القليلة يحمى بعد حين.
وكذلك الشىء الذي
يلقى فى ملح قليل فإنه لا يتملح ، كما يتملح إذا ألقى فى الملاحة فى مدة قليلة.
فبين أن كيفية
الأعظم أشد كيفية من الأصغر. فمن الناس من يظن أن السبب فى ذلك ليس هو لأن
الأعظم أشد كيفية ، ولكن الأعظم تتدارك أجزاؤه البعيدة ما يعرض للأجزاء القريبة من
المنفعل. فإن هذا المنفعل لا محالة ، كما تأثر بمادته فقد يؤثر بصورته. فإن الفاعل فى
الطبيعيات منفعل. فإذا انفعلت الأجزاء القريبة من الفاعل الكبير عن
__________________
المنفعل المكنوف الضعيف أعادت الأجزاء التي تليه إياها إلى قوتها ، فحفظت قوتها.
وهذا مثل المنغمس فى الماء الغمر. فإنه يصيبه من البرد ما لا يصيبه لو انغمس فى ماء
يسير.
وذلك لأن الماء
اليسير إذا برد البدن تسخن أيضا من البدن. فإذا تسخن لم يجد مما يطيف به ما يتداركه فيبرد. وأما الماء الغمر
فإنه إذا سخن ما يلى البدن من تداركه ما يلى ما يليه ، فبرده ، فعاد
يبرد البدن. فلا يزال يتضاعف تبريده.
فهؤلاء يكاد أن يكون احتجاجهم يناقض مذهبهم. أما أولا فلأنهم يجعلون الأجزاء تبرد من الأجزاء
: وليس يجب أن يسخن الشىء حتى يبرد. فإن البارد إذا لم يكن الجامد فى الغاية ؛ بل كان من شأنه أن يقبل
زيادة برد ، كان من شأنه أن يبرد مما هو مبرد زيادة تبريد :
وهذا يوجب أن تكون الأجزاء كلما تجاورت أكثر ، زاد كل
واحد منها فى برد صاحبه ؛ لأن صاحبه يبرد من طبيعته ، ويبرد أيضا من
مجاورته لأنه مبرد.
فيجب من هذا أن
يكون كلما ازداد عظما ازداد تبردا ، وإن لم يكن هناك مسخن.
وليس لقائل أن
يقول إن الماء كله متشابه ، فيستحيل أن يفعل جزء منه فى جزء ، قائلا إن الشىء ،
كما قد علم ، لا يفعل فى شبيهه. وإذا كان كذلك فما دام مجاوره
باردا مثله لم يصح أن يؤثر فيه ؛ بل يجب أن يتسخن هو أولا ، حتى يصير ضده ، فيفعل
ذلك فيه البرد.
وإنما ليس له أن
يقول ذلك لأن المجاور البارد ليس ينفعل عن مجاوره من حيث هو بارد ؛ بل من حيث
ذلك مبرد ، وهو ناقص البرد ، مستعد لزيادة التبرد.
فهو من جهة ما هو مستعد مقابل للبارد بالفعل.
__________________
ومعني قولهم إن
الشىء لا يفعل فى شبيهه هو أن الشىء الحاصل بالفعل من المستحيل أن يقال إنه مستفاد
عن طارئ من شأنه أن يحدث عنه مثل ذلك الحاصل ، بخلاف ما يعرض إذا
كان الطارئ بهذه الصفة ، والمطروء عليه عادم لذلك
الشىء الذي فرضناه ، فيما كلامنا فيه ، حاصلا ، بل فيه ضده. وأما الزيادة عن الحاصل فقد تقع من الطارئ إذا كان بطبعه فاعلا لها ، وكان فى المجاور بقية استعداد لقبولها ، كيف كان الطارئ فى كيفيته ، كان قويا أو ضعيفا ؛ إلا أن يكون ضعفه فى تلك الكيفية يجعله إلى ضدها أقرب
، فيكون السلطان فى التأثير لضدها.
فهذا هو الذي يجب
أن يسلم من قول الناس إن الشىء لا يفعل فى شبيهه. فإنه إن لم يفهم على هذه الصورة فليس بواجب أن يسلم. فالبارد إذا جاوره البارد عرض من ذلك أن يكون تبرده من قوته المبردة
التي فى طبعه أقوى كثيرا من تبرده عنها ، لو كان مجاوره شيئا حارا ، يكون ذلك الحار كاسرا من البرد الفائض من طبيعته. وإذا كان مجاور الماء فإنه ، مع أنه لا يكسر تبريد قوته ، فهو يبرد أيضا ؛ لأن القوة التي
فى الماء ، على ما علمت ، تبرد الماء الذي هى فيه ، وما يجاوره
معا من كل فاعل للتبريد ؛ وهذه القوة بالحقيقة ليست شبيهة للجرم البارد ، فيقال إنها لا تفعل فى شبيهها . فإن هذه القوة
مبردة ، وليست بباردة ، وهى الطبيعة المائية ، وهى أيضا محركة ، وليست متحركة.
فهى إذا وجدت مادة
مبردة محتملة لأن تبرد صار ما فيها لا يعوق عن
التبريد الذي
__________________
يفيض منه ، لأنها
مجانسة مشاكلة. والشىء الذي لا يبطل شكله وجب
أن تحصل هناك زيادة زائدة فى تبرد المادة.
فإن كانت تلك
المادة التي فيه زادته تبردا ، وتعدى ذلك أيضا إلى تبريد ما يجاورها فيكون ، بالمجاورة ، كل واحد من الجزءين
يزداد كيفية ؛ لأن طبيعته لا تجد عائقا عن تكميل الفعل ، ولأنه يفعل أيضا فى
مجاوره وكلما كثرت هذه الزيادة التي فى الكم ازداد هذا التأثير ، إلى أن يبلغ الحد الذي لا وراءه.
ولو كان جائزا أن
تذهب الزيادة إلى غير نهاية لكان يجب أن يذهب هذا الاشتداد إلى
غير نهاية للعلة المذكورة. ولهذا ليس بحق ما يشكك به بعض المتشككين على ما ذكر فى علوم المشائين أنه ، لو كان الفلك ، مع عظمه
، نارا لكان يجب أن يفسد ما تحته. فقال لا أرى ذلك يجب ، فإن المفسد بالحقيقة هو
السطح المماس. وهذا السطح يكون على طبيعة واحدة ، وإن كان للجسم الذي وراءه أى عظم شئت ؛ فإنه لم يعلم أن هذا السطح لا تثبت كيفيته على مبلغ واحد ، حالتى عظم جسمه وصغره.
وقد سأل أيضا ،
وقال : لو كان الازدياد فى العظم يوجب الاشتداد فى الكيف لكان يجب أن
تكون نسبة برد ماء البحر إلى برد ماء آخر كنسبة عظمه إلى عظمه ـ قال وليس كذلك ؛ فإن ماء البحر ، وإن كان أشد تبريدا ، وكان الشارع فيه لا يحتمل من تطويل المكث فيه ما يحتمله الشارع فى ماء قليل ، فليس يبلغ أن تكون نسبة بردى
الماءين نسبة الماءين فى مقداريهما.
__________________
فنقول إن هذه أيضا
مغالطة ، وذلك لأنه ليس قولنا «كلما زاد الجسم البارد مثلا قدرا ازدادت كيفيته شدة»
يوجب أن تكون نسبة القدرين نسبة الكيفية فى المزيد عليه ، على الكيفية
الأولى. وذلك أنا إنما قلنا إنه إذا زيد على هذا الماء ماء مثله ، صار برد المزيد عليه أشد ، ولم نقدر قائلين إنه صار
برد المزيد عليه صار ضعف برده الأول ، فإنا لم ننقل إليه برد المضاعف عليه بكليته حتى يتضعف. وليس إذا كان انضمام
ذلك إليه يوجب زيادة برد فيه ، يجب أن تكون تلك الزيادة مثل الأصل الأول ، أو مثل الذي فى المضام. نعم لو كان برد الماء المبرد كله ينتقل إليه
لكان بالحرى أن يظن هذا الظن ، وأن يقال إن البرد
إذا كان مثله تضاعف برده. وليس كذلك ؛ بل برد الماء المزيد عليه المضاف إليه يلزمه
، ولا يفارق جوهره. إنما يتعدى عنه إلى هذا أثر زيادة قليلة.
وإذا أضيف آخر إلى المضاف زادت زيادة أخرى قليلة [فلعلها تكون] أقل من تلك ؛ لأن المضاف الثاني أبعد.
فليس يجب فى
الزيادات أن تتضاعف الكيفية فيها بتضاعف الأقدار ، وإذ ليس يجب أن تكون الزيادة مثل الأصل ؛ بل يجوز أن تكون أقل منه بكثير ، وبحيث لا تحس فى الأضعاف
اليسيرة ، فلا يجب أن يكون ما اعترض به حقا. نعم لو كان جملة البردين اللذين
فى الماءين يمكن أن يفعل فى موضوع كان يفعل فيه برد الجزء الأول لكان يكون تبريده ضعف تبريد ذلك. ولكن هذا محال وغير نافع لهذا
المتعنت.
أما أنه محال فذلك
لأن الأول إنما كان يبرد بالمماسة. وإنما
كان يماس مثل مثلا.
__________________
وذلك الذي كان
يماسه لا يمكن أن يماس مجموع الجزءين ؛ بل إنما يماس
مجموع الجزءين ضعف ذلك. وعند ذلك يكون فعله فعلا مشابها لفعله ؛ لأن المنفعل ضعف المنفعل إلا ما يزيده زيادة اشتداد الكيفية للاجتماع.
وهذا الباب أصل
فاصل ينبغى أن يحصل ويحقق.
وأما أنه غير نافع
للمتعنت فلأن المسألة فى تغير سطح واحد.
وبعد هذا ، فيجب
أن يعلم أن النسبة فى الزيادة تصغر ، وتصغر دائما على ترتيب واحد.
__________________
الفصل الخامس
فصل فى
تعديد الأفعال والانفعالات المنسوبة
إلى هذه الكيفيات الأربع
إن هذه الكيفيات الأربع أفعالا وانفعالات منسوبة إليها
مشتركة فى جميع الأجسام.
فمنها ما هى
للفاعلتين ومنها ما هى للمنفعلتين.
فأما التي للفاعلتين فمنها ما ينسب إلى الحر. ومنها ما ينسب إلى البرد ، ومنها ما
ينسب إليهما جميعا.
فالمنسوب إلى الحر
مثل النضج ، والطبخ والشيء ، والتبخير والتدخين ، والإشعال والإذابة والعقد. والمنسوب إلى البرد مثل التفجيج ، ومنع الطبخ ، ومنع الشيء
، ومنع التبخير والتدخين ، ومنع الإشعال ، ومنع الذوبان الذي هو الإجماد
، ومنع الانعقاد ، وهو الحل والتكرج.
وأما الأمر
المشترك بينهما فمثل التعفين ، ومثل تجميد كثير من الأجسام
، كالحديد والقرن. فإن كل واحد منهما يجمد بالحر والبرد ، ومثل العقد والتبخير.
__________________
وأما الأمور
المنسوبة إلى الكيفيتين المنفعلتين فهى انفعالات لا غير. فمنها ما هى بإزاء هذه الأفعال الصادرة من الكيفيتين الفاعلتين ، مثل قبول النضج ، وقبول الطبخ ، ومثل الانقلاء والانشواء ، والتبخر والتدخن ،
والاشتعال ، والذوبان ، والانعقاد.
ومنها ما ليس
بإزاء هذه الأفعال. فمن ذلك ما بقياس إحدى الكيفيتين
إلى الأخرى. أما لليابس فمثل الابتلال والنشف والانتقاع والميعان ؛
وللرطب مثل الجفوف والإجابة إلى النشف. وما ليس بقياس أحدهما إلى الآخر ؛ فمن ذلك
ما هو للرطب وحده. ومنه ما هو لليابس وحده ، ومنه ما هو للمركب منهما.
فأما الذي للرطب
وحده فمثل الانحصار ، وسرعة الاتصال والانخراق.
والذي لليابس فمثل
الانكسار والانرضاض والتفتت والانشقاق وامتناع الاتصال بمثله ، أو الالتصاق بغيره. والذي للمختلط فمثل الانشداخ والانطراق
والانعجان والانعصار والتلبد والتلزج والامتداد والترقق.
فهذه هى الأفعال والانفعالات التي تصدر عن بساطة هذه
الكيفيات وتركبها صدورا أوليا. فما كان من هذه الأحوال بفعل وانفعال مشترك
جمعنا القول فيه فى باب واحد ؛ وما كان من هذه الأحوال مشتركا بين الفاعلة والمنفعلة فسبيلنا أن لا نكرره فى باب المنفعلة.
__________________
الفصل السادس
فصل فى
النضج والنهوة والعفونة والاحتراق
فنقول إن النضج إحالة من الحرارة للجسم ذى الرطوبة إلى موافقة الغاية المقصودة. وهذا على أصناف :
منه نضج نوع الشىء ، ومنه نضج الغذاء ، ومنه نضج الفضل. وقد يقال لما كان بالصناعة أيضا نضج.
فأما نضج نوع
الشىء فمثل نضج الثمرة. والفاعل لهذا النضج موجود فى جوهر النضيج ، ويحيل رطوبته إلى قوام موافق للغاية المقصودة فى كونه. وإنما يتم ، فيما يولد المثل ، أن يصير
بحيث يولد المثل.
وأما نضج الغذاء
فليس هو على سبيل النضج الذي لنوع الشىء. وذلك لأن نضج الغذاء يفسد جوهر الغذاء ، ويحيله إلى مشاكلة طبيعة المتغذى. وفاعل هذا النضج
ليس موجودا فى جوهر ما ينضج ؛ بل فى جوهر ما يستحيل إليه. لكنه مع ذلك إحالة من
الحرارة للرطوبة إلى موافقة الغاية المقصودة التي هى إفادة
بدل ما يتحلل. والاسم الخاص بهذا النضج هو الهضم.
وأما نضج الفضل من
حيث هو فضل ، أعنى من حيث لا ينتفع به فى أن يغذو فهو
__________________
مفارق للنوعين
الأولين. فإن هذا النضج إحالة للرطوبة إلى قوام ومزاج يسهل به دفعها ، إما بتغليظ قوامه ، إن كان المانع عن دفعه شدة سيلانه ورقته ؛ وإما بترقيقه ، إن كان المانع عن دفعه شدة غلظه ؛ وإما بتقطيعه وبتفشيشه ، إن كان المانع عن الدفع شدة لزوجته.
لكن هذا النضج ،
مع ذلك ، إحالة من الحرارة للرطوبة إلى موافقة الغاية المقصودة.
وكذلك النضج
الصناعى ، وهو بالطبخ أو التطحين أو القلى ، أو غير ذلك مما نذكره. ويعارض هذا النضج أمران : أحدهما كالعدم ، وهو
النهوة والفجاجة ، والثاني كالضد ، وهو العفونة.
فأما النهوة فأن
تبقى الرطوبة غبر مبلوغ بها الغاية
المقصودة ، مع أنها لا تكون قد استحالت إلى كيفية منافية للغاية المقصودة ، مثل أن تبقى الثمرة نية ، أو
يبقى الغذاء بحالة لا يستحيل إلى مشاكلة المغتذى ، ولا أيضا يتغير ، أو يبقى الخلط
بحاله لا يستحيل إلى موافقة الاندفاع ، ولا أيضا يفسد فسادا آخر. فإن استحالت
الرطوبة هيئة رديئة ، تزيل صلوحها للانتفاع بها فى الغاية المقصودة ، فذلك هو العفونة.
والنهوة يفعلها
بالعرض مانع فعل الحر ، ومانع فعل الحر هو البرودة. وأما العفونة فتفعلها. أما فيما سبيله أن ينضج على القسم الأول لضعف الحرارة الغريزية ، وقوة الحرارة الغريبة ، فإن الحرارة الغريزية لو كانت
قوية لكانت تحسن إحالة الرطوبة أو
حفظهما. ولو لم تكن حرارة غريبة لما
كان هذا يستحيل إلى كيفية حارة ردية ؛ بل يبقى فجا ،
__________________
ولهذا ما يكون الميت
أسرع إلى التعفن بالحرارة الغريبة من الحى بكثير ، والساكن من المتحرك ،
واللحم البنى من المطبوخ ، وأبرد الجنسين من أسخنهما ؛ فإن السخين الحار
لا يقبل من العفونة ما يقبله مضاده ؛ مثل ماء البحر ومياه الحمامات فإنها أقل عفونة
من مياه الآجام. وجميع ذلك إنما يصير أسرع تعفنا لأن حرارته الغريزية تبطل ، وقد يبطئ التعفن إذا لم تكن حرارة غريبة ، وإن بطلت الحرارة الغريزية ، لأن عدم الحرارة الغريزية لا يكفى فى ذلك. وإذا أردنا أن تحفظ العصير من أن يعفن
وينتن فإنا نجعل فيه الخردل أو قثاء الكبر ، فإن ذلك يورثه تسخينا غريزيا ، أو يقوى حرارته الغريزية ، فيقاوم بها الحار الفاعل فيه.
فكأن الرطوبة
الغريزية تتداول تدبيرها حرارة غريزية وحرارة غريبة ، وتكون اليد للغالب منهما. فإن استولت عليه الحرارة الغريزية وجهت التدبير إلى الجهة
الموافقة للغاية المقصودة ، وإن استولت عليه الحرارة الغريبة انصرف التدبير عن الجهة الموافقة ؛ بل صارت الرطوبة ذات
كيفية غريبة غير ملائمة للنوع ، ولأنها ليست موجودة فى شىء آخر حتى تصير ملائمة له ؛ وتكون تلك الحرارة
حرارة منافية للوجود ، كما الغذاء إذا انهضم عن حرارة غريبة لشىء آخر ، فإنها تبقى معطلة عن موافقة الوجود.
ومنتهى العفونة
التنتين. فللعفونة فى الكائنات عن الرطوبة ، طريق مضادة لطريق الكون. فإن الكون يصرف الرطوبة ، على المصلحة ، إلى الكمال ،
والعفونة تصرفها ، على المفسدة ، إلى البوار. والبرد يعين على
العفونة ، بما يضعف من الحرارة
__________________
الغريزية أولا ،
وبما يحقن من الغريبة ثانيا ، وهذا هو العفونة.
وربما استعد الشىء
بالعفونة لقبول صورة أخرى ، فيتولد منه شىء آخر :
نبات أو حيوان. وهذه الحرارة الغريبة إن كانت قوية ، بحيث تسرع فى تحليل الرطوبة المذكورة ، لم تكن عفونة ؛ بل احراق أو تجفيف. وإنما تكون
العفونة إذا بقيت الرطوبة مدة تستحيل عن الموافقة وهى رطوبة.
فقد عرف من هذا
القول حال النضج النافع فى تكميل الصورة النوعية. وأما النضج الثاني والثالث فإن
السبب فيهما حرارة غريبة أيضا لكنها غريزية للشىء الذي لأجله ما ينضج
النضج المذكور. فإذا فعلت هذه الحرارة فعلها ، وبلغت به الغاية المقصودة فقد نضج ؛ وإن قصرت وعاوقها برد كانت فجاجة ؛ وإن استولت عليها حرارة غريبة أخرى أفسدت على الغريزية فعلها ، وقهرت
الحرارة التي في الغذاء ، فزال الغذاء عن طبيعته ، ولم يستحل إلى طبيعة البدن ،
وصار معطلا لا ينتفع به. وذلك هو العفونة. وكذلك الخلط إذا لم يبق بحاله ، ولم
يستحل إلى النضج ، بقى عفنا. لكن الخلط العفن قد يلحقه النضج ، فيجعله بحيث يندفع ؛ لأن غاية هذا النضج هى هذا .
فالنضج مادته جسم
رطب ليس بيابس صلب ، ولا أيضا بنحيف لا يحفظ الرطوبة التي له كالخشب. والفاعل فيه حرارة غريزية ، وصورته تكيف الرطوبة بكيفية موافقة لغرض الطبيعة ، وغايته تتمة نشء الأشخاص الجزئية.
والنهوة مادتها
جسم رطب ، وفاعلها برد أو عدم حر ، وصورتها بقاء الرطوبة
__________________
غير مسلوك بها إلى
الغاية الطبيعية. فصورتها عدم
النضج ، وغايتها الغاية العرضية التي تسمى الباطل ، وقد بينا حكمه.
والتكرج يشاكل من
وجه ، العفونة ، إلا أن التكرج يبتدئ من حرارة عفنية فى الشىء تفعل تبخرا فيه لا يبلغ إلى أن ينفصل عنه بالتمام ؛ بل يحبسه البرد
على وجه الشىء وظاهره ، فيداخل جرمه أو ما يغشى جرمه. ويحدث منه لون أبيض من اختلاط الهوائية بتلك الرطوبة ، كما يعرض للتبريد ، ويبقى على وجهه. فإن لم تكن هناك حرارة البتة
لم يكن تكرج ، وإن كانت الحرارة أقوى كانت عفونة ؛ وإن كانت أشد من ذلك كان تجفيف وإحراق.
__________________
الفصل السابع
فصل فى
الطبخ والشيء والقلى ، والتبخير ، والتدخين ، والتصعيد
والذوب والتليين والاشتعال ،
والتجمير
والتفحم
وما يقبل
ذلك وما لا يقبله
وأما الطبخ
فالفاعل القريب له حرارة رطبة تسخن وتخلخل المطبوخ بما هو حار ، ولذلك تحلل من جوهره ورطوبته شيئا ، ولكنها
ترطبه بما هو رطب أكثر مما يحلل
منه. ومع ذلك فإن رطوبته الطبيعية تتحلل من ظاهره أكثر من تحللها من باطنه.
ويقبل الرطوبة
الغريبة أيضا من ظاهره أكثر من قبوله إياها من باطنه. ومادته جوهر فيه رطوبة. فإن
اليابس المحض لا ينطبخ إلا باشتراك الاسم. فإنه قد يقال للذهب وما أشبهه ، قد انطبخ ؛ وذلك إذا نفت الحرارة النارية ما فيه من الجوهر الغريب ، وخلصته نقيا.
وأما الشيء فالفاعل القريب له حرارة خارجة يابسة. ولذلك يأخذ من رطوبة
__________________
ظاهر المشوى بالتحليل أكثر مما يأخذ من رطوبة باطنه ، فيكون باطنه أرطب من ظاهره وبخلاف المنطبخ ، وتكون الرطوبة الموجودة فى المشوى رطوبة جوهرية ، وقد لطفت وأذيبت فى المطبوخ. فقد تكون رطوبته ممتزجة من الشىء الطبيعى ومن الغريب.
والشيء أصناف ، فمنه ما تكون الحرارة الملاقية هواء ناريا ، ويسمى مشويا على الاطلاق ؛
ومنه ما تكون الحرارة الملاقية حرارة أرضية. فإن كان مستقره نفس النار الجمرى سمى تكبيبا ، وإن كان مستقره جسما آخر أرضيا تسخن من نار خارجة منه ، ثم سخن ذلك الجسم ، سمى قليا.
وقد يكون منه ما
يشبه الشيء من جهة ، والطبخ من جهة ، وهو الذي يكون التأثير فيه بحرارة
لزجة دهنية ، وهذا يسمى تطحينا. فلأن هذه الحرارة
رطبة فهذا التأثير قد يشبه الطبخ ، ولأنها لزجة لا تنفذ فى جوهر الشىء نفوذا يخلخله ويلينه ، بل يجمعه ويحصر
رطوبته فى باطنه بتشديد اللزوجة فهذا التأثير يشبه الشيء.
وقد يقال للهضم
والنضج أيضا باشتراك الاسم.
وأما التبخير فهو
تحريك الأجزاء الرطبة متحللة من شىء رطب إلى فوق ، بما يفاد من مبدأ ذلك بالتسخين.
والتدخين هو كذلك للأجزاء الغالب فيها اليابس. فمادة التبخير مائية ومادة التدخين أرضية.
والبخار ماء متحلل والدخان أرض متحللة. وكل ذلك من حرارة مصعدة. فالجسم الرطب
، كالماء ، لا يدخن ، والجسم اليابس ، كالأرض ، لا يبخر.
__________________
وقد يكون جسم مركب
من رطب ويابس يبخر ولا يدخن. وذلك إذا كانت الرطوبة فيه غير شديدة الامتزاج
باليابس ، وكان اليابس عاصيا لا يتصعد ، كمن يعجن الطلق
والحديد ، ويخمره بالماء ، ثم يقطره ، فإنه لا يقطر منه إلا الماء ، اللهم إلا أن يتولى فى ذلك الباب حيل. ولا يجوز أن يكون جسم ممتزج هذا
الامتزاج ويدخن ولا يبخر ، وذلك لأن الرطوبة
أطوع لتصعيد الحرارة من اليبوسة. وكل ما يتصعد ويتبخر ويتدخن فأول ما يتصعد منه
بخار ساذج لا محالة ، أو شىء الغالب فيه المائية ثم يصعد غير ذلك. فإن كانت فيه دهنية صعدت الدهنية بعد المائية. وإن كان جوهر اليبوسة فيه مما يقبل التصعد صعد حينئذ الدخان. وذلك لأن الرطوبة أطوع ، ثم المختلط من رطوبة ويبوسة كالدهنية اللزجة ، ثم شىء آخر. فإنه ، وإن كانت مادة التبخير والتدخن ما قلنا فليس يجب من ذلك أن يكون كل مركب متبخرا أو
متدخنا. وذلك لأن الرطب واليابس إذا امتزجا فربما امتزجا امتزاجا شديدا ، حتى تعسر مفارقة أحدهما
الآخر ، وانفصاله عنه.
وربما كان
الامتزاج أسلس من ذلك. فإن كان المزاج سلسا أمكن أن ينفصل بعض الأجزاء عن بعض
فيتبخر ويتدخن. وإن كان محكما لم يكن لبعض الأجزاء أن يفارق بعضا.
فإن كان الرطب
جامدا فربما أثر فيه الحر حتى يذوب ؛ وربما لم يؤثر أثرا يذوب به ولكن يلين
كالحديد. وربما لم يؤثر ، إذابة ولا تليينا ، كالطلق والياقوت. ويجوز أن يكون جوهر الغالب فيه المائية ، وقد جمد جمودا لا يؤثر فيه النار كالياقوت. وكل
__________________
ما كان كذلك فهو
رزين ثقيل لشدة تلاحم أجزائه. وإذا كان من هذه الأجساد ما قد يتحلل منه شىء يسير
بالتسخين من النار ، إلا أن جوهره لا يفسد ، فقد يعرض أن تفيده النار رزانة
واجتماع أجزاء يصغر به ، كالنحاس والفضة وغير ذلك. فإن هذه إذا عمل فيها النار كثيرا انفصل عنها شىء من جوهر الكباريت والزرانيخ والمسك ، وازدادت ثقلا ، وذلك لأن الذي ينفصل منها هو شىء هوائى ،
والهوائية تجفف. وإذا زالت وبقيت الأرضية وحدها كان الشىء أثقل منه إذا كان مخلوطا بهوائية وأصغر. فالجسم المبخر وحده هو الرطب ، الصرف ، أو الذي لا تشتد ملازمة رطوبته يبوسته . فهو غير محكم
تلازم الأجزاء.
والجسم المدخن هو اليابس المحض القابلة أجزاؤه للتلطيف أو المركب الذي التزم رطوبته ويبوسته ، إلا أن جملة تركيبية مخلخل غير محكم ، فتقبل أجزاؤه
الانفصال ، وتعين رطوبته على تصعد يبوسته. فإن كثيرا من الأجسام التي لا تتصعد بالحرارة ، أو التي يعسر تصعيدها ، إذا اختلطت بالأجسام التي تتصعد خلطا
شديدا تصعدت.
فإن قوما يرومون أن يصعدوا الحديد والزجاج والطلق وغير ذلك ، فلا يزالون يصغرون أجزاءه ، ويخلخلونها بالتربية فى النوشادر المحلول. فحينئذ يوقدون عليه بقوة فيتصعد الجميع. وكثيرا ما لا يحتاج إلى أن يخلط به ما يصعد فى نفسه ؛ بل يلطف وتصغر أجزاؤه تصغيرا مفرطا ، فإنه
حينئذ يقبل التصعيد مثل النحاس. فإنه مما يذوب ولا يصعد. فإذا زنجر زنجرة محكمة جدا بالغة صعد عن أدنى حرارة.
__________________
وكذلك كثير من
الأجسام التي تتصعد بسهولة يجعل بحيث لا يتصعد ؛ إما بأن يغلب عليه ما لا يصعد
بمزاج قوى ، مثل النوشادر يحل ويحل الملح الحجرى ، ويخلطان خلطا يغلب فيه الملح ،
ثم يترك المخلوط مدة حتى يشتد امتزاجه ، ثم يعقد ، فلا يدع الملح النوشادر أن يصعد
؛ لأنه ينوء به ويثقله ، وشدة الامتزاج لا تمكنه من الافتراق.
لكن ذلك المجموع يذوب. فإن جعل النوشادر أغلب صعد ، واستصحب الملح.
كما إذا جعل الملح
أغلب ثبت واستصحب النوشادر ، وإما بأن تجمع أجزاؤه جميعا
مدمجا ، حتى يصغر الحجم ، ويشتد الاجتماع ، وتتلازم الأجزاء ، فلا تتفرق ، ولا تتصعد.
وقد يحاول قوم أن
يجعلوا النوشادر وما يجرى مجراه بهذه الصفة.
وأما الإذابة
فيحتاج الجوهر القابل لها إلى رطوبة تلازم اليبوسة. وإذا تحللت عن جمودها ، وسالت ، بقيت بعد التحلل والسيلان متلازمة.
فإن لم تبق فهى متبخرة ، وإن بقيت قليلا ،
ثم انفصلت ، فهو مما يذوب ويتبخر معا كالشمع.
وأما التليين
بالنار كالحديد والزجاج. فيشبه أن لا تكون الرطوبة التي فيه بحيث تسيل بعد التحلل ،
وهذا قلّما يتبخر . والرطوبة فى الذائب أكثر منها فى المتلين . وجميع ما يلين ولا يذوب ، بل ما لا يلين ولا يذوب فإنه إذا أفيد كيفية حادة دسمة من شىء نارى
مشوّى به ، أو يلقى عليه ، سهل قبوله لفعل النار ، فاستولت عليه النار
، وحللت اليابس العاصى فيه ، وخلخلت جوهره ، حتى يسيل للتخلخل مثل الحديد والطلق والمارقيشيثا والملح.
__________________
فإن جميع ذلك إذا
شوى بالكبريت ، أو الزرنيخ أو النوشادر وزبد البحر ، أو الملح المتخذ بالقلى ، أو أشياء أخر من هذا الجنس ، ذاب.
وأما الجسم
المشتعل فهو الذي ينفصل عنه بخار ليس من الرطوبة والبرودة ، بحيث لا يستحيل نارا ؛
بل هو رطب حار دهنى أو يابس لطيف. فإن كان يابسا كثيفا أو رطبا لا دهنية فيه لم يشتعل. وجميع البخار المنفصل عن الدهنيات ، وعن الأشربة الحارة المزاج ، والمياه البحرية ، يشتعل. وكل مشتعل فهو الذي من شأنه أن يتصعد عنه دخان قابل للاستحالة إلى النارية ، إشراقا وإضاءة وحرارة.
وأما المتجمر غير المشتعل فهو الذي تستحيل أجزاؤه إلى النارية إشراقا وإضاءة وحميا ، لكنه لا ينفصل
عنه شىء ، إما ليبوسته مثل الصخر والحجر ؛ وإما لشدة رطوبته
، حتى يكون ما يتحلل منه بخارا مائيا لطيفا لا يشتعل. واليابس منه يبقى فى جوهره ، فيحترق.
وأما المشتعل
الغير المتجمر فهو الذي ليس من شأن أجزائه ، ما لم تتبخر ، أن تستحيل إلى
النارية مثل الدهن ، فإنه لا يتجمر البتة ؛ بل يشتعل.
والمشتعل المتجمر هو الذي يجتمع فيه الأمران جميعا.
والفحم من جوهر
أرضى قابل للاشتعال بطل تجمره قبل فناء ما فى جوهره من المادة المستعدة للاشتعال.
والرماد هو بقية
جوهر أرضى قد تفرق أجزاؤه ، لتصعد جميع ما فى
أجزائه من
__________________
الدخان المتصعد.
فإن كان جوهر الشىء مشتعلا كان رمادا ، وإن كان غير مشتعل ، بل متحجرا فقط ، أو
ذائبا ، سماه قوم كلسا.
وقد يتفق أن يكون شىء واحد قابلا للذوب والتدخن والاشتعال جميعا كالشمع. ومثل هذا الشىء لا يكون عسر الإذابة كما تدرى.
__________________
الفصل الثامن
فصل فى
الحل والعقد
ينبغى أن يستقصى القول فى أمر الحل والعقد. فليس كل شىء ينحل عن إذابة الحر. فقد تنحل أشياء من البرد والرطوبة ، بل قد
تنعقد أشياء من الحر. فإن الملح يعسر انحلاله بالنار ، وينحل بالماء والنداوة بالسهولة ، حتى يصير ماء
من غير أن يكون داخله من جوهر الماء زيادة يعتد بها ، أو يكون بحيث لو خلط مثلها بجسم يابس سيّله. والبيض ينعقد بالنار حتى يصلب بعد سيلانه ، وانحلاله. وكثير من الأشياء
يعرض له أن لا ينعقد بالحر ؛ بل يخثر. وكثير منها ما يعرض له ذلك من البرد كالزيت. وكثير من الأشياء يخثر بها جميعا ، كالعسل.
وأما المنى فإنه يرق لا محالة بالبرد.
فنقول أولا : إن
من شأن المائية أن تخثر بالمخالطة ، وأن تجمد بالبرد ، وأن
تنعقد أيضا باليبوسة. فلذلك يصير الماء أرضا
، لا بزيادة برد تلحقه. وإذا جمد البرد فربما كان ذلك بمشاركة من ضغط الحار أولا ،
ومعونة منه حتى يحدث بخارا حارا ، ويتحلل فيتبعه الجمود.
وأيضا فإن من شأن المائية أن تتحلل وترق بالحر ، وذلك معلوم. ومن شأنها أن
__________________
تخثر بالمخالطة : إما بالحقيقة فبمخالطة الأرضية ، كما
يحدث عنه الطين ، وإما بالحس فلمخالطة الهوائية ، كما يحدث عنه الزيد ، وذلك بكثرة ما يحدث من
السطوح التي ينعكس عنها البصر ، فلا ينفذ نفوذه فى المشف. ومع ذلك ، فيكون الهواء لشدة اجتماعه في المحتقن إياه المنحنى عليه بثقله يعرض له من المقاومة ما يعرض له فى الزق المنفوخ فيه إذا
دفع باليد وراء الزق.
ومن شأن الأرضية
أن يشتد جفوفها بالحر. فيجب أن يكون بحيث يتندى ويسيل بالبرد ، فيكون البرد من شأنه أن يجمد
السيال ويلين ضده.
والحر من شأنه أن
يدمج ويجفف اليابس وأن يرق ضده.
ومن شأن الهوائية
والنارية الاّ يجمد الماء فى طباعهما من اللطف ، وإن
صارا بحيث يجمدان فقد استحالا عن جوهرهما.
وأينما رطوبة حصلت فيها أرضية وهوائية لم تجمد بسبب الهوائية ،
ولكنها تخثر من الحر والبرد جميعا. أما من الحر فبسبب ما فيها من الأرضية ، وأما من
البرد فبسبب استحالة ما فيها من الهوائية إلى المائية. وهذا
كالزيت.
واليبس من طباعه
أن يحيل الضد إلى مشاكلته. فاليبس من شأنه أن يجمد.
وكذلك الرطوبة من
شأنها أن تذيب وتحل. وهذا هو الحق.
والحرارة تعين كلا
من اليبوسة والرطوبة على فعله فالرطب الحار أشد تحليلا لما يحل به. واليبوسة
الحارة أشد عقدا لما يعقد بها .
__________________
وأما العسل فيجعله
الحر أولا أرق فى قوامه. وذلك
لما يتحلل من لطيفه ، فيكون هو أرق بالقياس إلى ما كان قبل أن مسه الحر. لكنه إن أصابه البرد لم يكن أولا أرق بالقياس إلى ما كان من قبل. وذلك لأن فى هذه الحال يجمد أشد مما كان قبل.
فالبرد يجمده لأن فيه رطوبة ، والحر يجمده لأن فيه يبوسة.
فتغلب بالحر على ما علمت ، ويعينها تحلل ما يتحلل من الرطوبة .
وأما الزيت فعسيرا
ما يجمد ، وذلك للزوجته ، ولما فيه من الهوائية ،
وإن كان قد يخثر لاستحالة هوائية إلى الضبابية. والطبخ لا يخثره كثير تخثير ، لأنه لا يقدر على التفصيل بين رطوبته ويبوسته
، لأنه شديد الاختلاط جدا. ولذلك هو لزج. وإنما ينقص قدره
لتبخر ما يتبخر عنه. لكن المتبخر يكون فى صفة ما يبقى فيه من حيث إنه يتصعد ممتزجا
من الجوهرين ، لا ألطف كثيرا منه ، وذلك كما يتبخر الصاعد عن الماء ، ويترك الباقى بحاله. والزيت يعسر تصعيده لأنه لزج مشتعل.
وأما البيض فإن
الحر يعقده عن سيلانه ، ثم يحله بالتفرين لا بالتسيل. وإنما ينعقد البيض بالحر
لأن المنبث فى جوهره يبوسة رققها النضج فى
الرطوبة. فإذا ما سخن استعانت اليبوسة بالحرارة ، على ما قد وقفت عليه ، فغلبت
الرطوبة وعقدت.
ومادة الملح ماء
عقدة يبس أرضى خالطه بمعاونة حرارة. فلذلك ينحل بالبرد ، وخصوصا إن كان مع
الرطوبة. وقد ينحل أيضا برطوبة حارة ، إن لم تكن الرطوبة لزجة. فإن اللزج لا يفعل رطوبته حلا ، ويزيد حرارته عقدا. وأغلب ما يحل الملح
هو
__________________
الرطوبة ، لأن
انعقاد مادة رطوبته هو بسبب اليابس الأرضى الذي فيه ، ولو لم يكن
هناك رطوبة انعقدت ، بل يبوسة أرضية ، لكان يعسر انحلالها بالرطوبة.
وأما البرد فيحله لإيهانه قوة اليبوسة التي فيه المستفادة من الحر الذي يسببه ما قدر
اليابس على عقد تلك الرطوبة المقتضية للسيلان فى مثل حالها.
ومن الأشياء ما
يجمد بالبرد وينحل بالرطوبة كالدم فهو مائى أرضى. فلمائيته يجمده البرد ، ولأرضيته تحله الرطوبة. والشظايا التي فى الدم تعين على إجماد الدم ليبسها. وإن كانت الشظايا قليلة أبطأ انعقاده. وأما المنى فإنما تخثره الريح
المخالطة ، وهى الهوائية ، فإذا كسرها البرد وأحالها ، أو انفصل ، رقّ. والدم قد ينعقد ، لكنه إن كان رقيقا جمد ولم يخثر كالماء. وإن كان غليظا
خثر أولا ، لاختلاف جمود أجزائه. والجبنية هى علة انعقاد اللبن لأرضيتها وتجفيفها.
وكل لبن قليل الجبنية فهو لا ينعقد. وكذلك إذا نزع
جبنه لم ينعقد.
والدم أيضا فإن
ثقله والليفية التي فيه سبب من أسباب انعقاده. فإن قل
ثقله وليفه ، كدم بعض الحيوان ، أو الدم الغير النضج المائى من كل حيوان ، إذا نزع عنه ليفه ، لم يجمد.
وكل ما ينحل بالحر
فهو الذي جمد بالبرد ، والغالب عليه الرطوبة وكل ما ينحل بالبرد فهو الذي جمد بالحر والغالب عليه اليبوسة. وقد يجتمع الحر والبرد على إجماد
الشىء فيصعب حله ، وإذابته. وذلك الشىء هو الذي أعان
الحار على جموده بما حلل من الرطوبة ، وبما غلب من سلطان اليبوسة ، وأعان البرد على جموده بكره على ما بقى
__________________
رطبا منه ،
فيشاركان على إجماده. وهذا مثل الحديد ومثل الخزف. فإن كانت قد بقيت فيه رطوبة صالحة أمكن أن يذاب بالاحتيال ؛ وإلا
فبالقسر. فإن الخزف أيضا يلين ويسيل فى شدة الحر.
واعلم أن الحر إذا
اشتد سلطانه خلخل المادة وسيّل الرطوبة ، فأبطل معه
إجماد اليابس الذي يستعين به ، وربما يحدث منه فى تلك اليبوسة أيضا من تخلخل.
والملح والخزف قد
يذوب آخر الأمر. لكن الملح إذا أراد أن يذوب لم يكن ؛ لأن اليابس فيه قليل فى الكم
، كثير فى القوة. وكذلك حاله إذا انحل فى الماء. وأما أشياء أخرى فأولا لا تلين ونخثر ، ثم تذوب.
والرطوبات القابلة
للخثورة منها أرضية كالعسل ، ومنها هوائية أرضية مثل الزيت.
وكل ما يخثر
بالبرد ، وفيه هوائية ، فإنه يبيض أولا لجمود هوائيته وقربه من
المائية. وكثير من الرطوبات إذا طبخت في النار ابيضت أيضا كالزيت. وذلك لتحلل الوسخ
منه وتحلل ، شىء من المائية والهوائية التي خالطته. وكثيرا ما تسوّد لما يخالطها وينحصر فيها من الدخان بسبب الاحتراق.
والمدوف فى
الرطوبة منه ما ينحل ومنه ما يختلط. والذي ينحل فهو الذي لا يرسب ،
وهو الذي يرجع إلى أجزاء صغار ليس فى قوتها أن تخرق جرم الرطوبة وتنفذ فيه كالملح والنوشادر. ومنه ما يرسب كالطين إذا حلل فى
الماء. فإنه لا تفعل الرطوبة فى تحليله
__________________
ما تفعل فى تحليل الملح ، لأن مسام الملح كثيرة ومستقيمة ، وأجزاءه لطيفة. وليس كذلك
حال الخزف ، ولا تنفذ فيها الرطوبة نفوذا مفرقا.
ومن أراد أن يمزج
أشياء مختلفة مزاجا يشتد تلازمه فهو يحتال في حل تلك الأشياء ثم جمعها ، ثم عقدها.
لكن أكثر ما يفعل به ذلك يبطل خاصيته. وكثير منها يبقى خاصيته كالملح
والسكر.
والرطوبة ، إذا كانت مغلوبة ، جمدت بأدنى برد ، وانحلت بحرارة شديدة. فإن كانت
غالبة فبالضد. فلذلك ما كان الرصاص يسهل ذوبه ، ويبطئ جموده ، والحديد بالعكس.
__________________
الفصل التاسع
فصل فى
أصناف انفعالات الرطب واليابس
وأما الابتلال
والانتقاع والنشف والميعان فلنتكلم فيها ، فنقول.
إن من الأجسام ما
يبتل ، ومنها ما لا يبتل. أما الذي يبتل فهو الذي إذا
ماسه جسم مائى لزمه منه رطوبة غريبة
؛ والذي لا يبتل فهو الذي إذا ماسه ذلك لم يعرض له هذا العرض. وذلك إما لشدة
صقالته ، وإما لشدة دهنيته. على أن الدهنية تفعل ذلك بما يحدث هناك من الصقالة. فإن الصقيل ، لاستواء سطحه ، تزلق عنه الرطوبة إلى جهة تميل إليها بالتمام. وأما غير الصقيل فتلزم الرطوبة ما فيه من المسام ، ثم يتصل ذلك اللزوم ،
فيحصل منه شىء كثير على وجهه.
وأما الانتقاع فأن يغوص الرطب فى جوهره ، فيحدث فيه لينا
، مع تماسك. فإنه إن لم يحدث فيه لينا لم يقل منتقع. وإن انحل لم يكن أيضا منتقعا. وكل منتقع مبتل. وليس كل
مبتل منتقعا.
والأجسام الرطبة
إما رطبة برطوبة هى لها فى أنفسها ، مثل الغصن الناضر ، وإما رطبة
رطوبة غريبة. وتلك إما لازمة لسطح الجسم ، كالحب المبلول ، وإما غائصة فى عمقه ،
كالجسم المنقوع فى الماء.
__________________
وإذا نفذت الرطوبة
فى العمق ، ولم يحدث العارض المذكور ، كما فى حال النشف
الذي لا يبلغ الترطيب البالغ ، فلا يسمى نقيعا.
والنشف يحدث لدخول
الرطوبة المائية إثر ما ينفش من مسام الجسم اليابس من الأجزاء الهوائية المحصورة
فيه المحتبسة فى مجاريه بالقسر لضرورة الخلاء. فإذا وجدت ما ينفذ ، ويقوم مقامها ،
أمكنها أن تتحلل بالطبع الذي
يقتضى مفارقتها له. فإن انحصار الهوائية فى الأرضية وفى المائية انحصار قسرى. فإذا
تحلل وانفصل وجرى الماء فى مجاريه فربما عرض لما يجرى فى المسام ، وخالط الجسم ، أن ينعقد من اليبوسة للمخالطة لمثل السبب الذي
ينعقد له الملح ، وما يجرى مجراه. فيعرض له ما يعرض فى الجص إذا خلط به الماء ـ وكذلك
فى النورة وغيره. وربما لم يعرض.
وكثير مما ينشف يعرض له أن يجف فى الحال. وذلك لأن الرطوبة إذا كانت قليلة ،
وانجذبت بالقوة إلى باطن لم يجب أن تحتبس على الظاهر إذا
لم تجد الهواء الآخر المماس للرطوبة يتبعها منجذبا عن انجذابها من الهواء المنفصل. ويكون جذب الهواء الآخر للمقسور أشد من ممانعة الهواء الذي فى موضعه الطبيعى ، لأن
المقسور المحبوس المضيق ذو ميل بالفعل.
والذي فى موضعه
الطبيعى لا ميل له بالفعل ، إلا إذا تحرك وزال عن
موضعه.
وإنما ينفعل من
الهواء الحادث فيما نحن فيه من الهواء ما هو ساكن فى موضعه لا
ميل له. وإذا تحرك غلب ميله الطبيعى أيضا ، فلم يكن ميل الساكن
الذي لم ينزعج من ذاته ميلا طبيعيا.
__________________
وإذا كانت الرطوبة
المنشوفة مائية رقيقة أسرع نفوذها. وكثيرا ما تكون سرعة الحركة سببا لتسخين الرطوبة ، حتى تتبخر وتتحلل. وإن لم
تكن الرطوبة مائية ؛ بل كانت دهنية ، أبطأ نفوذها. ولا ينشف من الأجسام
اليابسة إلا ذو مسام موجودة بالفعل لطيفة. وأما المصمت فلا ينشف ، وكذلك مسامه مملوءة من غير الهواء. وقد بقى مما نحن نتكلم فيه الانحصار والاتصال
والانخراق.
فالانحصار هو قبول
الرطب وضعا يلزمه شكل مساو لشكل باطن ما يحويه. فإن كان ما يحويه مشتملا على جميعه تشكل
جميعه بشكله ؛ وإن كان أعظم منه ، فإن كان الجسم الرطب مائيا ، وينقص من الحاوى
سطحه الأعلى ، تشكل علوه بتقبيب. والسبب فى ذلك التقبيب أن ذلك السطح لا يلزمه شكل
غريب. وإذا لم يلزمه كان له الشكل الذي عن طبعه. والشكل الذي عن
طبعه هو الكرى.
والجسم الرطب إن
كان مخلى عنه امتد فى وضعه نافذا ؛ وإن كان محصورا
أو ممنوعا تشكل فى الحاصر والمانع بمثل شكله.
وأما الاتصال فهو
أمر يخص الرطب ، وهو أن الرطب ، إذا لاقى ما يماسه ، بطل السطح بينها بسهولة ، وصار مجموعها واحدا بالاتصال. واليابس لا يسهل ذلك
فيه.
والرطوبات
المختلفة إذا اجتمعت ، فما كان منها مثل الماء والدهن ، ظهر تميز السطوح فيها ؛
وما لم يكن كذلك ؛ بل كان مثل دهنين ، أو مثل شراب وخل وماء ، لم يظهر. فيشبه أن
تتحد فى بعضها السطوح اتحادا ، وأن تخفى فى بعضها عن الحس. وتحقيق الأمر فى ذلك وتفصيله فى كل شىء مما يصعب.
__________________
وأما الانخراق فهو
خاصية الرطب ، وهو سهولة انفصاله بمقدار جسم النافذ فيه ، مع التئامه عند زواله. وأنواع تفرق الاتصال هى الانخراق والانشقاق والانكسار ، والانرضاض والتفتت.
فالانخراق يقال
لما قلنا ، وقد يقال لما يكون من تفرق الاتصال للأجسام اللينة ، لا لحجم ينفذ فيها
؛ بل يجذب بعض أجزائها عن جهة بعض ، فينفصل.
وأما الانقطاع فهو
انفعال بسبب فاصل بنفوذه ، يستمر مساويا لحجم
النافذ فى جهة حركة نفوذه لا يفضل عليه. وإنما قلنا
من جهة الحركة لأنه يجوز أن يفضل على الحجم من الجهة التي عنها الحركة.
وأما الانشقاق فهو
تفرق اتصال عن سبب تفريقه فى جهة حركته أكثر من الموضع الذي تأتيه قوة السبب أولا. وهذا على وجهين :
فيكون تارة
بمداخلة جسم ذى حجم ، فيزيد تفرق الاتصال فى الجهة التي إليها الحركة على حجمه.
والثاني أن لا يكون لأجل حجم نافذ ؛ بل لجذب يعرض للأجزاء
بعضها لبعض. والسبب فى ذلك أن الجزءين المفصولين يكون بينهما جسم
مستطيل ؛ ويكون الجزءان يابسين وإلى الصلابة ما
هما. فإذا حمل عليهما بالتفريق لم يجب الأجزاء الطولية المحمول
بالقوة عليها وحدها للتباعد ، مع بقاء الاتصال ، كأنها لا تنحنى ؛ بل هو ذا يجب أن يكون تباعدها مستتبعا لأجزاء كثيرة. وأكثر ما ينشق
طولا لا ينقطع عرضا.
__________________
ومن أنواع القطع
الحرد والخرط والنقر والنشر والثقب والحفر ، وغير ذلك مما لا
نطيل الفصل بتحديده.
وأما الانكسار فهو
انفصال الجسم الصلب بدفع دافع قوى من غير نفوذ حجمه إلى أجزاء كبار ؛ والانرضاض كذلك إلى أجزاء صغار.
أما التفتت فكالانرضاض ، إلا أنه مما يتهيأ رضه لقوة ضعيفة.
والمنكسر والمنرض والمتفتت هو الذي له منافذ خالية عن غير الهواء. فالمنكسر منافذه أقل وأعظم. والمنرض منافذه أكثر وأصغر. وكلاهما منافذهما
يتصل عند حدود محكمة يتماسك بها. والمتفتت منافذه كثيرة صغيرة ضعيفة التئام
الحدود.
ونقول أيضا إن من الأجسام المركبة ما هى لينة ، ومنها ما هى صلبة. واللين هو الذي
يتطامن سطحه عن الدفع بسهولة ، ة ويمكن أن يبقى
بعد مفارقته مدة طويلة أو قصيرة ؛ وبهذا يفارق السيال. فإن السيال لا يحفظ الحجم إلا زمانا يجب ضرورة بين كل حركتين مختلفتين ، وفى ذلك الزمان يكون ملاقيا لفاعل الحجم ، ولا يمكن أن يحفظ الحجم والشكل مع مفارقة الفاعل البتة.
والصلب هو الذي لا
يتطامن سطحه إلا بعسر.
ثم إن أنواع اللين
تقبل أنحاء من التشكيل والوضع لا يقبلها أنواع الصلب. فمنه ما ينشدخ ، ومنه ما ينحنى.
والمنشدخ أعم من المنطرق. وذلك لأن المنشدخ هو الذي تتحرك أجزاؤه إلى باطنه. فمنه ما يبقى على ما يعمل به من ذلك ، وهو المنطرق . ومنه ما لا يبقى ؛ بل يعود مثل الإسفنجة التي تعتصر فتعود.
__________________
وبين المنعصر
والمنطرق فرق ؛ لأن المنطرق متصل الأجزاء غير مشوب بجسم غريب. وإنما
يتطامن جزء منه مجيبا للدافع ، لا بخروج شىء منه.
والمنعصر يتطامن بخروج شىء منه ، ويخرج منه دائما ، إما مائية وإما هوائية . ثم يجوز أن يبقى على حاله ، ويجوز أن لا يبقى. فالمنطرق هو المندفع إلى عمقه بانبساط يعرض له في
القطرين الآخرين ، قليلا قليلا ، وهو يحفظ ذلك فى
نفسه ، ويكون من غير انفصال شىء منه.
والمنعصر يخالفه
فى كلا الشرطين أو أحدهما. والمنعصر الذي يبقى على الهيئة التي يفيدها
العصر ، إن كان يابسا يسمى متلبدا ؛ وإن كان رطبا يسمى منعجنا. ويقال انعجان أيضا لاندفاع الأجزاء اليابسة فيما يخالطها من الرطوبة المائية
ليشتد بذلك تداخلها.
ويعرض لكل منطرق أن يترقق ، فيكون من حيث يندفع فى عمقه منطرقا ، ومن حيث ينعصر فى عمقه أو يزيد ، فى قطريه الآخرين ، مترققا.
وأما المنحنى فهو
الذي من شأنه أن يصير أحد جانبيه الطوليين أزيد ، والآخر
أنقص بزواله عن الاستقامة إلى غيرها. وذلك يكون للين فيه مطاوع. ويكون
ذلك لرطوبة فيه.
والتمدد هو حركة
الجسم مزدادا فى طوله منتقصا فى قطريه الآخرين. وذلك الجسم إما لزج وإما لين جدا. والأولى أن يسمى هذا لدنا ، وهو الذي يقبل التمدد والعطف ، ولا يقبل الفصل
بسرعة. وإنما يكون الحال كذلك في جميع ذلك ؛ لأنه يكون قد اشتد مزاج رطوبته ويبوسته ، حتى إن رطوبته لا تسيل ؛ بل تتماسك لشدة ما خالطها من اليبوسة.
__________________
ويبوسته لا تتفرك
، ولا تتفتت ؛ بل تتماسك لشدة ما جمعها من الرطوبة ؛ إذ الرطب يتماسك متقوما باليابس ، واليابس يتماسك مجتمعا بالرطب.
فمن الممتدد ما يلزم المادّ له بالالتصاق ، وهو اللزج ، ومنه ما يلزمه
بتعلقه به كالقير. وهذا الصنف لا يسمى لزجا ؛ بل لدنا. فإن اللزج ما يسهل
تشكيله وحصره ، ويلزم جرمه ما يماسه. وذلك بسبب أن الغالب فيه الرطوبة. لكن اللزج ألزم من الرطب ؛ لأن الرطب سيال جدا. وأما اللزج فإن أجزاءه التي
تلزم الشىء أكثر من أجزاء الرطب ؛ لأن اللزج لا ينفصل بسهولة إلى أجزاء صغار
انفصال الرطب ، فتكون حركته أبطأ ، وزواله أعسر.
وليس كل لزج يمتد.
فإن الدهن لا يتمدد. ولكن كل لزج له قوام صالح. وإنما يقبل التمدد من اللزج ما لا يجف. وذلك هو اللزج الحقيقى. فإن اللزج التام اللزوجة لا يجف ؛ بل إنما
يجف لزج لم يبلغ مزاج رطبه ويابسه مبلغا لا يتميزان بعد. لكنه مع ذلك امتزاج متداخل جدا لا ينفصل إلا بقوة محللة لطيفة. والأجسام التي فى طباعها رطوبة يعتد بها
، فإما أن تكون بكليتها جامدة ،
فلا تتطرق ولا تمتد ولا تنحنى ، كما يعرض للياقوت
والبلّور ، وكثير من الحجارة التي تتكون عن مياه تجمد ؛
بل كنفس الجمد ؛ وإما أن يكون فيها بكليتها فضل من رطوبة ليس يجمد. وإنما ليس يجمد لدهانته. فذلك الشىء ينطرق
، وخصوصا إذا حمى ، فسال أيضا شىء مما هو جامد. فإن سيّل الجميع عاد
ذائبا.
__________________
والنار ، وإن كانت
تعقد بمعونة اليابس فذلك إلى حد ، ما دام لم يشتد فعلها فى اليابس ، ولم تخرجه عن كونه يابسا كثيفا. فإذا أفرط فعلها فى اليابس خلخلت اليابس أيضا.
فإذا تحلل اليابس تحلل الجميع.
__________________
المقالة الثانية من الفن الرابع
فى الطبيعيات
هذه المقالة نصف فيها جملة القول فيما يتبع المزاج من الأحوال المختلفة ، وهى فصلان.
__________________
الفصل الأول
فصل فى
ذكر اختلاف الناس فى حدوث الكيفيات المحسوسة
التي بعد الأربع ،
وفى
نسبتها إلى المزاج
، ومناقضة المبطلين منهم
أما المزاج وما هو
، وكيف هو فقد قلنا فيه. فيجب أن يتذكر جميع ما قيل من
ذلك.
والذي يجب علينا
أن نستقصى الكلام فيه حال الأمور التي توجد فى هذه المركبات عند
المزاج ، فنقول :
إن هذه العناصر
الأربعة لا يوجد فيها من الكيفيات إلا الأربع ، وإلا الخفة والثقل ، ما خلا الأرض.
فقد يشبه أن يكون لها لون. لكن لمانع أن يمنع ذلك ، فيقول : إن
اللون الموجود للأرض إنما يوجد لها بعد ما يعرض لها من امتزاج المائية ، وغير ذلك.
ويصلح لذلك المزاج أن تكون ملونة. ويقول إنه لو كان لنا سبيل إلى مصادفة الأرض الخالصة
لكنا نجدها خالية عن الألوان ، وكنا نجدها شافة. فإن الأخلق بالأجسام البسيطة الاّ يكون لها لون. والأحرى عندى ، بعد الشك الذي يوجبه
الإنصاف ، وبعد وجوب ترك القضاء البت فيما لا سبيل فيه إلى قياس يستعمل ، وإنما
المعول فيه على تجربة تتعذر ـ هو أن الأرض لها فى ذاتها لون ، وأن الامتزاج الذي وقع لا
يقعدنا عن وجود
__________________
ما فيه أرضية
غالبة. فكان يجب أن نرى فى شىء من أجزاء التربة الأرضية ، مما ليس متكونا تكونا
معدنيا ، شيئا فيه إشفاف ما أفكان لا تكون هذه الكيفية فاشية فى جميع أجزاء الأرض ، ولكان حكم الأرض حكم الماء أيضا
والهواء. فإنها ، وإن امتزجت ، فلا يعدم فيها مشف. فالأحرى أن تكون الأرض ملونة لا ينفذ فيها البصر. فإنا نعنى باللون ما إذا جعل وراءه مرآة لم تؤده إلى البصر.
والبساطة لا تمنع أن يكون الجرم ملونا غير شفاف ؛ فإن القمر ، على مذهب
الجمهور من الفلاسفة ، هذا شأنه. ثم إن أنكر ذلك منكر كان حاصل الأمر أنه لا كيفية
للعناصر خلا ما ذكر. وإن اعترف لم يكن لها إلا اللون لبعضها. وأما الطعم والرائحة فلا يوجد لشىء منها إلا بالمزاج. فإن كان من ذلك شىء لشىء فعسى أن يظن أنه للأرض.
وبالحقيقة لا رائحة لأرض لم تستحل بالمزاج.
والأرض الصحيحة
كالأرض التي يتولد فيها الذهب ، لا يوجد لها رائحة البتة. وكذلك
فى غالب حال الأرض. ومما يعلم أن ذلك محدث بالمزاج ما نراه يشتد بالامتزاج. ثم إن كان للأرض طعم أو رائحة ، وكان للأشياء الأخرى بسبب
الأرض ، فإنما يجب أن يحصل للمركب من الأرض وغيرها ذلك الطعم ، وقد انكسر ، وتلك الرائحة وقد
انكسرت. وأما طعم ورائحة غريبة فلا. فكيف تكون الطعوم والروائح المتضادة إلا أن تكون الرائحة قد تتولد
بالامتزاج ، وليست إنما تستفاد من الأرضية على ما ظنه بعضهم ، وكذلك الألوان.
__________________
ونحن نشاهد فى
المركبات طعوما وأراييح وألوانا ليست فى البسائط.
ونشاهد أيضا أفعالا تصدر عنها ليست فى البسائط ، لا صرفة ، ولا مكسورة ، وذلك مثل
جذب المغناطيس للحديد والكهربا للتبن ، والسقمونيا للصفراء ؛ وأفعالا وأحوالا أخرى
للجمادات والنبات ، بل للحيوانات. والحياة أيضا من هذه الجملة.
فمعلوم أن هذه
الأشياء إنما تحصل لهذه الأجسام بعد المزاج. فمن الناس من ظن أن هذه الأفعال نسب
تقع بين الممتزجات ؛ بل بين المجتمعات ، عند الذين لا يقولون
بالمزاج ، وبين أمور أخرى. فيقولون إنه لا لون بالحقيقة ، وإن اللون الذي يرى هو
وضع وترتيب مخصوص يكون للأجرام الغير المتجزئة بعضها عند بعض ، وعند الأجسام الشعاعية التي تقع عليها ؛ وإن الطعوم أيضا هى انفعالات تعرض من تقطيع حدة تلك الأجسام وزواياها على نظم مخصوص ، فيكون الذي يقطع تقطيعا إلى عدد كثير ، صغار مقادير الآحاد ، شديد النفوذ يرى محرقا حريفا ؛ والذي يتلافى تقطيعا مثل ذلك يسمى حلوا. وكذلك فى الروائح ، وإنه لا طعم فى
الحقيقة ولا لون ولا رائحة. ولو كان لون حقيقى لكان طوق الحمامة لا يختلف حكمه عند
البصر ، مع اختلاف مقامات الناظر ، إذا انتقل الناظر ، وجعل يستبدل بالقياس إليه
وإلى الشمس ، وضعا بعد وضع.
ولو كان طعم حقيقى
لكان الممرور لا يستمرئ العمل. فهذا مذهب قوم. وقوم يرون أن الأمر بالضد ، وأن العناصر موجود فيها اللون والرائحة والطعم ، إلا أنها كامنة مغمورة بما لا لون له ولا رائحة له ، وأن المزاج لا فائدة له فى حصول ما ليس من ذلك ؛ بل فى ظهوره. وهؤلاء أصحاب
الكمون.
__________________
وقوم يرون أن
المزاج ، الذي كيفيته متوسطة حدا من المتوسط ، إذا كان حده بحال
ما كان لونا وطعما ، وإن كان بحال أخرى كان لونا وطعما
آخر ؛ وأنه ليس الطعم واللون ، وسائر الأمور التي تجرى مجراها ، شيئا والمزاج شيئا آخر ؛ بل كل واحد منها مزاج خاص يفعل فى اللمس شيئا ، وفى البصر شيئا.
وقال قوم آخرون إنه ليس الأمر على أحد هذه الوجوه ؛ بل المزاج ، على التقدير الذي يتفق له ،
أمر يهيئ المادة لقبول صورة وكيفية مخصوصة. فما
كان قبوله ذلك إنما هو من علل فاعلة لا تحتاج إلى أن يكون لها
وضع محدود قبله مع استكمال الاستعداد ، مثل النفس والحياة وغير ذلك. وما كان قبوله ذلك إنما هو من علل محتاجه إلى
وضع محدود قبله إذا صار له مع غلية ذلك الوضع ، كنضج التين مثلا من الشمس إذا أشرقت عليه. فهذه هى المذاهب التي يعتد
بها فى هذا الباب.
فأما المذهب
المبنى على الأجرام التي لا تتجزأ ، وعلى أن سبب حدوث الكيفيات اختلاف أحوالها
، بحسب اختلاف الترتيب والوضع الذي يعرض لها ، فما قدمناه يغنى عن إعادتنا قولا كثيرا في رده ؛ بل نحن نعلم أن هذه الأجسام متصلة ، وأن
الأسود منها أسود ، كيف كان شكله ووضعه ، والأبيض أبيض كيف كان وضعه.
وكذلك قولنا فى
الطعوم والروائح ، وإن ذلك لا يختلف بحسب وضع وترتيب ،
وإنه لو لا خاصية لكل واحد من الأجسام
المختلفة لاستحال أن تتخيل منها الحواس تخيلات مختلفة ، أو تنفعل انفعالات مختلفة.
__________________
وأما طوق الحمامة
فليس المرئى منها شيئا واحدا ؛ بل هناك أطراف للريش ذات جهتين أو جهات ، كل جهة لها لون ، وكل جهة تستر الجهة الأخرى بالقياس إلى القائم. وذلك بالجملة على مثل سدى ولحمة «أبو قلمون» من الثياب والفرش.
ومذهب الكمون فقد
بالغنا فى نقضه فى موضعه.
وأما مذهب القائلين إن كل واحد منها مزاج ، ليس أنه
يتبع المزاج ، فهو مذهب خطأ. فإن كل واحد من الأمزجة
على التفاوت الذي بينها ، لا يخرج عن حد ما بين الغايات ،
ويكون ملموسا لا محالة إن كان أخرج من اللامس إلى الطرف ، أو يكون مساويا للامس لا ينفعل عنه ، إما أن يكون المزاج لا يدرك باللمس ؛ بل بالبصر أو بالشم ـ فهذا باطل ؛ لأن المزاج كيفية ملموسة ، واللون ليس
بملموس. وكذلك الطعم وغيره.
وليس لقائل أن يقول إن الإبصار لمس ما لمزاج مخصوص لا
يضبطه سائر آلات اللمس. وذلك لأن كل ملموس فيحس. وله إضافة إلى برد أو إلى حر ، أو إلى رطوبة أو إلى يبوسة. واللون لا يدرك
النفس منه شيئا من ذلك ، ولا الطعم ولا الرائحة. وهذه الكيفيات
يوجد منها غايات فى التضاد. والأمزجة متوسطة ليست بغايات البتة. فهذه إذن أشياء غير
المزاج.
لكن الأمزجة
المختلفة تختلف فى الاستعداد لقبول شىء منها دون شىء ، فيستعد بعضها للاحمرار ، وبعضها للاصفرار ، وبعضها للابيضاض
، وبعضها لطعم ما ، وبعضها لرائحة ما ، وبعضها للنمو ، وبعضها للمس ، وبعضها للنطق ؛ بل قد تحصل بالأمزجة
__________________
فى المركبات
استعدادات لقوى فعالة أفعالا تصدر عنها بالطبع ليست
من جنس أفعال البسائط مثل جذب الحديد للمغناطيس ، وغير ذلك. فتكون هذه القوى التي تحدث بالحقيقة ، منها ما هى طبائع لأنها
مبادئ حركات لما هى فيه بالذات ، ومنها ما هى مبادئ تحريكات لأشياء خارجة عنها يفعل فيها بالاختيار.
والناس قد يقعون
فى شغل شاغل إذا أخذوا يفحصون عن علل هذه الأحوال والقوى ، يرومون أن ينسبوا ذلك إلى كيفيات أو أشكال أو غير ذلك مما للبسائط. ويشق عليهم الأمر ،
فيدفعون إلى تكلف يخرجهم عن الجادة المستقيمة. فلا
سبيل إلى إدراك المناسبات التي بين الأمزجة الجزئية وبين هذه القوى والأحوال التي تتبعها ، وتوجد بعد وجودها.
ومن شأن الناس أن
لا يبحثوا عن علل الأمور المتقاربة الظاهرة ؛ لأن كثرة مشاهدتهم إياها يزيل عنهم التعجب ؛ وزوال
التعجب عنهم يسقط الاشتغال بطلب العلة ، ولا يعنى أكثرهم بأن يعلموا أنه لم كانت النار تحرق فى ساعة واحدة بلدة كبيرة ، أو لم البرد ييبس الماء ، ويعنيهم بأن يعلموا لم المغناطيس يجذب الحديد. ولو كانت النار شيئا عزيز
الوجود ينقل من قطر بعيد من أقطار العالم ، ثم يشعل من شعلة منها شعل كثيرة لدهش الإنسان من العجب الموجود فيها ، ولكان طلبه لسبب
فعلها أكثر من طلبه لسبب فعل المغناطيس. وكذلك لو كان البرد مما
يجلب من بلاد إلى بلاد ، فيسلط على الماد فييبسه ، لكان الناس يتعجبون. لكن كثرة مشاهدتهم ما يشاهدون من
__________________
ذينك يسقط عنهم
الاشتغال به ، حتى إن سأل سائل لم يفعل البرد ذلك استنكروا ، وقالوا : لأن طبيعته ذلك ، ولأنه برد ؛ وكذلك فى جانب النار
يقولون إنها إنما تفعل ذلك ، لأنها نار. والبصير منهم الذي يرتفع عن درجة الغاغة يقول : لأن المادة التي للنار اكتسبت صورة تفعل هذا الفعل لذاتها ، ولأن البرد طبيعته أن يكثف
الجسم ويجمده. ثم لا يقنعه مثل هذا فى حجر
مغناطيس أن يقال : لأن المزاج سبب لأن حصل فى هذا المركب قوة هى لذاتها وطباعها
تجذب الحديد ، لا لشىء آخر. وليس أمر جذب مغناطيس بأعجب من أمر نبات ما ينبت ، وإحساس ما يحس ، وحركة ما يتحرك
بالإرادة. لكن جميع ذلك أسقط فيه التعجب كثرته وغلبة وجوده.
والقول فى جميع
ذلك قول واحد ، وهو أن الجسم المركب استعد ، بمزاجه ، لقبول هيئة ، أو صورة ، أو
قوة مخصوصة ، يفاض عليه ذلك من واهب الصور والقوى ، دون
غيره. أما فيضانه عنه فلجوده ، ولأنه لا يقصر عنه
مستحق مستعد.
وأما اختصاص ذلك
الفيض به دون غيره فلاستعداده التام الذي حصل بمزاجه. فجميع
هذه الأشياء تفعل أفاعيلها ؛ لأن
لها تلك القوة الفعالة. وإنما لها تلك القوة هبة من الله تعالى. فيجب أن يتحقق أن المزاج هو المعد لذلك.
على أن كثيرا من
الأعراض يعرض أيضا بسبب مخالطة غير مزاجية. فإن كل جسم شاف ، إذا خالطه الهواء
فصار أجزاء صغار ، ابيضّ ، كالماء إذا صار زبدا ، أو كالزجاج إذا دقّ ، وغير ذلك.
ويكون ذلك لأن النور الذي ينفذ فيه يقع على سطوح
__________________
كثيرة صغار لا ترى أفرادها وترى مجتمعة ، فيتصل رؤية شىء منير باطنه لنفوذ
الضوء فى المشف إلى السطوح الباطنة ، وانعكاسه عنها مستقرا عليها ، ولا ينفذ البصر فيها لكثرة ما ينعكس عنها من الضوء . فإن المشف الذي يشف ، وينعكس عنه الضوء جميعا ، لا يشف
حين ينعكس الضوء عنه. فإذا صار لا يشف رؤى ذا لون. ويكون هو البياض. وكذلك الشىء اليابس إذا عملت فيه النار عملا
كثيرا وأخرجت عن منافذه الرطوبة وأودعته الهوائية ، بيّضته.
وأما أنه هل يكون
بياض غير هذا ، وفى جسم متصل ، فمما لم أعلم بعد امتناعه ووجوده. وسيأتى لى كلام
فى هذا المعنى أشد استقصاء.
وأما فى الطعوم
والروائح فليس الأمر فيها على هذه الجملة. وذلك لأنه ليس فيها شىء مذوق أو مشموم
بذاته ينفذ فى الأجسام ، فيجعلها بحال من الطعم
والرائحة ، كما أن الضوء شىء مرئى بذاته. فإذا خالط الأجسام جاز أن يجعلها على حال
من الرؤية.
فههنا يفترق حال
اللون وحال الطعم والرائحة ؛ إذ اللون يصير مرئيا ؛ بمرئى بذاته هو غيره ، وهو الضوء. وليس الطعم والرائحة كذلك . وكما أن المرئى بذاته ، وهو الضوء ، على ما نحقق الأمر فيه من بعد ، هو كيفية حقيقية ، كذلك الطعم والرائحة.
وأما القوى فإنها
ليست من هذا القبيل. فإنها ليست بحسب إدراك الحس ، أو نسبة غير الشىء الذي ينفعل عنها. فإن لم يكن الجسم الذي يصدر عنه فعل مخصوص مخصوصا مميزا مما ليس يصدر عنه الفعل
الذي كان مخصوصا به ، لم يصدر عنه فعل مخصوص.
__________________
وإذ ليس الاختصاص بالجسمية فهو بغير الجسمية. وإذ ليس الفعل صادرا عن المزاج صدورا أوليا ، لأن الفعل الصادر عن المزاج هو ما يصدر عن حار وبارد ورطب
ويابس مكسور ، وليس هذا الفعل ذلك ، فهو إذن عن قوة غير المزاج.
لكن لقائل أن يقول
: إنكم تقولون إن المزاج ، وليس إلا كيفيات مكسورة ، قد يوجب إعدادا لم تكن للبسائط ، وليس هو كسر إعداد البسائط. وكذلك سيوجب صدور أفعال لم تكن للبسائط ، ولا هو
كسر أفعال لها.
فنقول إن هذا غلط.
فإن الأفعال إنما تنسب نسبة أولية إلى الكيفيات ، ولا يكون للمواد فيها شركة ،
وتكون كل قوة إنما هى ما هى لأجل فعلها. ويكون معنى قولنا إن
هذه القوة قوية صرفة أن فعلها يصدر عنها قويا صرفا ؛
ومعنى قولنا هذه القوة ضعيفة مكسورة أن الفعل الذي يصدر عنها يصدر ضعيفا.
فلا مفهوم لقولنا حرارة ضعيفة إلا أن الفعل الذي للحرارة يصدر عنها ضعيفا. ثم لا
ننكر أن تكون الأفعال عن الحرارات المختلفة فى
الضعف والقوة تختلف اختلافا كثيرا ، حتى يكون بعضه إحراقا وبعضه إنضاجا. لكنها تشترك فى المعنى الذي يكون للحرارة. فالذى يقع ذلك المعنى منه
شديدا وقويا يقع منه إحراق ، والذي يقع منه ذلك إلى حد يكون إنضاجا.
ولا ننكر أيضا أن تحدث أمور مشتركة من بين الحرارة
واليبوسة ، ومن بين الحرارة والرطوبة ، ويكون عنها اختلافات ؛ إلا أنها ترجع ، آخر الأمر ، إلى ما تقتضيه الحرارة واليبوسة ، أو الحرارة والرطوبة. وأما شىء خارج جملة عن طبيعة الحرارة ، أو عن الطبيعة المشتركة التي تتألف عن الحرارة وشىء آخر ، فلا يكون ذلك فعل الحرارة بالذات ، وذلك مثل
__________________
جذب المغناطيس ،
أو مثل شىء آخر مما هو خارج عن أن يكون ملموسا بوجه. فلا هو ذات حرارة ممزوجة أو
صرفة. فليس هو من قبيل المزاج ، وذلك كاللون. وكيف ، والمزاج يلمس ويحس به ، ولا يشعر بلون
أصلا ، واللون يدرك ويبصر ، ولا يشعر بمزاج أصلا؟ فيكون لا محالة ما أدرك غير ما
لم يدرك. وليس يلزم من هنا أن لا تكون أمور تلحق هذه الكيفيات باختلاف أحوالها ، مما ليست هى أفاعيل هذه الكيفيات ؛ بل أمور
أخرى تتبعها.
وأما ما كنا فيه
من أمر الاستعداد فيجب أن نعلم أن الاستعداد بالحقيقة أمر للمادة ، ويكاد تكون المادة مستعدة لكل شىء. وفيها قوة قبول كل شىء. لكن الأمور
التي توجد فيها منها ما من شأنه أن لا يجتمع مع بعض ما هو فى قوة قبول المادة. فإذا وجد ذلك لم يوجد هو ، فيقال حينئذ إنه لا استعداد فى
المادة لذلك الأمر.
ومنها ما من شأنه أن يجتمع معه اجتماعا. وكل ذلك لا لأن الكيفية فعلت فى ذلك فعلا ما ، ولكن
لأن المادة فى نفسها هذا شأنها.
ولا يمتنع أن يكون
بعض مقادير الكيفيات بحيث لا يصلح لبعض الأمور ، وبعضها يصلح. فإنا ندرى أنه لا
يستوى الغالب والمعتدل ، وإن كنا ندرى أن فعل الغالب والمنكسر من جنس واحد ، لكنه
تارة قوى ، وتارة منكسر ، وليس صلوحه لشىء من الأشياء هو فعله. وليس إذا كان فعله متجانسا
يجب أن يكون صلوحه متجانسا. فأنت تعلم أن الحرارة القوية جدا لا تصلح لإنضاج الخبز ، وإنما تصلح له الحرارة بقدر
__________________
دون الغالب.
فالمزاج إذن لا يوجب إعدادا لم يكن ؛ بل الاستعداد قائم فى المادة. فربما حيل بين
المادة وبين ما هى مستعدة له بكيفية. وربما دفعت تلك
الكيفية بضدها ، فخلص الاستعداد عن العوق ، لا لأنه حدث فى أمر المادة استعداد لم يكن.
فالمزاج علة عرضية
للاستعداد ، بمعنى أنه يميط المانع. وليس يلزم من ذلك أن يكون فعلا الحرارتين مختلفين إلا بالأشد والأضعف.
فبين أن قياس ما
قيل ليس قياس الاستعداد.
__________________
الفصل الثاني
فصل فى
تحقيق القول فى توابع المزاج
يجب أن تعلم أن الأجسام إذا اجتمعت ، وامتزجت ، فربما لم يعرض لبعضها من المزاج إلا المزاج نفسه. فليس يلزم أن يكون كل مزاج بحيث يصلح لصورة نوع وخاصيته ،
وأن يكون كل امتزاج إنما يؤدى إلى مزاج يصلح لصورة النوع وخاصيته ، حتى لا يتفق
امتزاج من الامتزاجات المؤدية إلى خروج عن ذلك. فإن هذا ، كما أقدر ، تحكم حائف.
ثم من الممتزجات ، التي تستفيد بالمزاج زيادة أمر ، منها ما يستفيد بذلك زيادة كيفية ساذجة ، لا يتم بها فعل أو انفعال طبيعى ، كلون ما ، وشكل ، وغير ذلك.
ومنها ما يستفيد
زيادة قوة انفعالية أو فعلية ، أو صورة نوعية.
فمن ذلك ما يكون المستفاد فيه قوة نفسانية. ومنها ما يكون المستفاد فيه قوة تفعل
فعلها على غير سبيل الفعل النفسانى. وقد علمناك ذلك فى الفنون الماضية.
وما كان من هذه
القوى الفعلية والانفعالية ليست بنفسانية يسمى خواص.
على أن من الناس
من يطلق لفظة الخاصة فى مثل هذا الموضع على جميع ذلك وهذه الخواص تابعة لنوعيات المركبات الكائنة ، أو هى نفس فصول نوعياتها.
__________________
فإذا قيل مثلا إن
دواء كذا يفعل بجوهره ، فيعنى أنه يفعل بهذه الصورة التي تنوع بها. وإذا قيل إنه يفعل بكيفيته ، فيعنى أنه يفعل بما استفاده من العناصر ، أو بمزاجه. فالسقمونيا يسخن بما فيه من
الجوهر النارى. لكنه ليس يسهل الصفراء بذلك ؛ بل بالقوة المستفادة التي له فى نوعيته التي استعد لقبولها بالمزاج.
وكثيرا ما تكون هذه القوة فصلا للنوع ، وكثيرا ما تكون خاصة. ويعسر علينا إعطاء علامة نميز بها بين ذينك ، ولكن لفظة الخاصة فى هذا الموضع ، فى
استعمال الطبيعيين ، تطلق على الشىء الذي
يدعى فى المنطق فصلا ، وعلى الشىء الذي يدعى خاصة.
وكثير من القوى
التي تكون فى المركبات لا تفعل فعلها ما لم يرد
بدن حيوان أو نبات ، فتنفعل عن البدن ، وتنهض فيه القوة الغالبة فيه. فكثيرا ما يكون الشىء هنالك قد سخن تسخينا ، والغالب فى جوهره الشىء البارد.
وذلك إذا كان الجوهر البارد فيه لا ينفعل عن الحار الغريزى انفعال الجوهر الحار ؛
لأن ذلك غليظ كثيف ، فلا يستحيل ، أو لا ينفذ فى المسام. ويفعل الجوهر الحار فعله ، فيكون ذلك الشىء حارا بالقياس إلى فعله فى البدن ، ويكون باردا فى
أغلب جوهره. وربما كان الأمر بالعكس.
فكثيرا ما يكون
الحار غالبا عليه ، لكنه يكون شديد الامتزاج باليابس الغليظ الذي فيه ، ويكون
البارد أسلس مزاجا ، ويسرع إلى الانفصال.
وربما كان أحد
هذين من طبيعته أن لا ينفعل عن الحار الغريزى ، وكان الآخر بحيث ينفعل عنه. وربما
كان الشىء حارا فى الغالب ، ولم يسخن تسخين شىء آخر فى حكمه ، إذا كان سريع الانفشاش ، أو الانحلال كدهن البلسان إذا استعمل فى المروخات.
__________________
ويشبه أن يكون
الشراب الطرى أسخن فى نفسه من العتيق المنحل عنه
ناريته ، الباقى فيه مائيته وأرضيته. لكن ذلك أبقى فى البدن ، وأبطأ تحللا ، فيسخن أكثر ، وهذا أشد تحللا . ومثال ذلك الجمر ؛ فإنه إذا مس أحرق أشد مما تحرق النار الصرفة إذا مست ؛ لأن ذلك الجمر كثيف متشبث والنار لطيفة متخلخلة.
وكثير من الأشياء
يبرد فى وقت ، ويسخن فى وقت ، لاختلاف زمان انفعال ما فيه من
الجوهر البارد والحار ، فيفعل أحدهما فى البدن بعد الآخر. وربما
كان المبرد يستحيل غذاء ، فيسخن من حيث هو غذاء
ودم. وربما كان المسخن مركبا من جوهر لطيف وجوهر غليظ ، فيسبق اللطيف إلى فعله ،
ثم يتفشى ، ثم يليه الغليظ ، فيفعل فعله من بعد ، مثل البصل فإن فيه جوهرا حريفا يسخن ، لكن جرمه الذي يبقى بعد ذلك يبرد ويرطب ؛ ويحدث بلغما خاما.
والاستقصاء فى جزئيات هذه الأشياء يجب أن يوكل إلى صناعة أخرى.
لكنك قد علمت أن المزاج لا يخلو من أحد أقسام : إما أن تكون الكيفيات كلها متساوية فيه ، وهذا هو الذي يسمى بالمعتدل ؛ وإما أن تكون مضادة متكافئة ، ومضادة ليست كذلك.
فيكون مثلا الرطب
واليابس متعادلين فيه ، لكن الحار أكثر من البارد ، أو البارد أكثر من الحار ، أو يكون الحار والبارد متعادلين فيه ، لكن اليابس
أكثر من الرطب ، أو الرطب أكثر من اليابس ، أو يكون الحر والرطوبة غالبين معا ،
__________________
أو الحر واليبوسة
، أو البرد والرطوبة ، أو البرد واليبوسة ، فتكون الأقسام تسعة.
وأما أنه أيها يمكن أن يوجد ، وأيها لا يمكن أن يوجد
، فينبغى أن يكون ما تقدم من الأصول التي أعطيناكها مغنيا إياك عن بسطنا الكلام
فيه ، ومعطيا لك قدرة على تحصيل الأمر فيه.
لكن هاهنا شىء آخر
، وهو أن الأمزجة أيضا تختلف بحسب أجساد الحيوانات والنبات وأجزائها وسائر الكائنات. فيكون منها ما هو كما ينبغى لسلامة الفاصل من ذلك النوع ، وإن كان فيه ، مثلا ، من الماء ضعف الأرض. فإن كان كذلك فهو معتدل بالقياس إليه وعدل له. وإن خرج عن هذا الحد المحدود فإما أن
يخرج خروجا مجاوزا للحد الذي هو طرف مزاج
ذلك النوع ـ فإن لمزاج كل نوع عرضا يحتمله إذا جاوز أقصى كل واحد من حديه بطل نوعه ـ فحينئذ
لا يجوز أن يكون مزاجا لذلك الشىء. وإما أن يخرج خروجا محتملا ، فتكون الغلبة إما مفردة ، على ما قلنا ، وإما مركبة.
وهذه الأمزجة تدل عليها الكيفيات التي تتبعها دلالة قوية ؛
وذلك بأن الروائح الحارة تدل على حرارة غالبة ، والهادئة الرائحة تدل على مزاج بارد.
والطعوم أيضا تدل على القوى. وذلك لأن رءوس الطعوم تسعة تتركب من الأمزجة الحارة واليابسة والمعتدلة مع الأجسام اللطيفة والكثيفة والمعتدلة ، على ما يمكنك أن تعرفه من كتب الأطباء. فيدل
الحريف والمر والمالح على الحار ؛ ويدل الحامض والعفص على البارد.
وللألوان أيضا
دلالة. فإن الأجساد التي تكتسب لونا إلى السواد والحمرة ، وما يجرى
__________________
مجراهما ، بعد أن
لا يكون لها ذلك فى جواهرها ، فإن ذلك يدل على ميل طباعها إلى الحر ؛ بل نقول : إن ما فيه رطوبة فالحمرة والسواد يدلان فيه على الحرارة
، والبياض على البرودة. واليابسان فالأمر فيهما بالضد ؛ لأن الحرارة تبيض اليابس ،
وتسود الرطب المائى.
لكنه قد يعرض أمر
يبطل أحكام دلالة هذه الألوان ، وربما أبطل أحكام غيرها. وذلك لأنه كثيرا ما يتفق أن يكون دواء قوى
القوة ، مع قلة المقدار ، كما تعرفه. فإذا خلط يسيره بكثير من الأدوية التي ليست شديدة القوة جدا كان الغالب ، بحسب الرؤية ، غير
الغالب بحسب القوة. فإن الغالب بحسب الرؤية غير الغالب بحسب القوة. ثم يكون الفعل للمغلوب فى الرؤية ، دون الغالب فى الرؤية ، ويكون طابع الغالب
فى الرؤية ، فى ذاته ، باقيا على ما كان قديما. وإن كان هذا مما يجوز أن يقع بالصناعة ، كذلك قد يجوز أن يكون بعض الأجسام فى الطبع مركبا من أجسام مركبة أيضا ، ويكون المغلوب فيها قوى القوة قليل المقدار ، ومضادا بالطبع للغالب
المقدار الضعيف القوة. فيكون الظاهر عند الحس هو كيفية الغالب فى الرؤية ، ويكون
الظاهر فى القوة كيفية المغلوب فى الرؤية ؛ مثلا أن يكون الجسم
مركبا فى الطبيعة ، على نحو تركيبك بالصناعة ، لو ركبت وزن نصف درهم فربيون مع رطل من الماست ، فلا يحس هناك
للفربيون لون ولا طعم ، ويكون لون الماست وطعمه ظاهرين. لكنك إذا استعملت هذا
المركب ظهر للفربيون فيه فعل ظاهر من التسخين . فلا يكون حينئذ الأبيض الرطب هو المسخن ، ولكن الذي خالطه. فلا يكون
ما قيل من أن الأبيض الرطب بارد قولا كاذبا ؛ لأن هاهنا أيضا
__________________
الأبيض الرطب بارد
، ولكن الذي يسخن هو شىء آخر.
وإذا وقع فى
الخلقة الطبيعية مثل هذه الحال لم تصح دلالات هذه
الكيفيات على الكيفيات الأولى فى جملة المركبات ، وإن كانت الكيفية منها تلزم قوة كيفية منها فى المزاج ؛ إذ ذلك التركيب لا يفصله الحس. فإن من الأجسام
المركبة ما تركيبه من العناصر أول ، والحس يراه متشابه
الأجزاء. فقد جعله المزاج شيئا واحدا على الوجه الذي قلنا إن للمزاج أن يفعله. ومن الأجسام ما تركيبه بعد تركيب أول ، كالذهب على رأى قوم
يرون أنه دائما يخلق من زئبق قد تولد أولا بمزاج متقدم وكبريت حاله هذه الحالة ، ثم عرض لهما مزاج ، وكالإنسان من الأخلاط ، وهذا على قسمين :
قسم منه ما يكون
الامتزاج الثاني حاله فى تأحيد الممتزج حال الامتزاج الأول. ومما له ذلك الترياق
والمعجونات المخمرة.
ومنه ما ليس كذلك
، فإنه مركب من أجزاء حقها أن لا تتحد فى الطبع كشىء
واحد ؛ بل أن تكون مختلفة متباينة. فأكثر الجمادات والمعدنيات بالصفة الأولى
؛ وأكثر النبات والحيوان ، من جهة تركيبه من أعضائه ، بل جلها ، على الصفة الثانية.
ومن المعلوم أن
المركبات عن أجزاء متميزة بالفعل تنتهى إلى أجزاء بسيطة
لا تقسمها بالفعل أجزاء متخالفة. فلذلك كان أعضاء الحيوان وأجزاء النبات لا محالة تنتهى إلى أجزاء أولى
بسيطة ، وهى التي تسمى المتشابهة الأجزاء ، مثل اللحم والعظم اللذين كل جزء منهما محسوس لا يحتاج إلى إفساده فى تجزئته إليه ، وهو محسوس مثله لحما وعظما. ثم
__________________
تتألف منها الأجزاء الآلية ، مثل الورق واللحاء والثمرة للشجر ، ومثل اليد والرجل للحيوان. ثم تتألف من الآلية جملة البدن.
فهذه مسائل
متناسبة من العلم الطبيعى ؛ وهى بعينها أصول ومبادئ لصنائع جزئية تحت العلم الطبيعى.
تم الفن الرابع من الطبيعيات بحمد الله وحسن تيسيره
والحمد لله رب العالمين
__________________
|