المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وصلواته التامات الزاكيات على محمد عبده ورسوله خاتم النبيين وسيد المرسلين ، وعلى آله الطاهرين.

وبعد ف «إن هذا القرآن هو النور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى ، والدرجة العليا ، والشفاء الأشفى ، والفضيلة الكبرى ، والسعادة العظمى ، من استضاء به نوره ، ومن عقد به أموره عصمه الله ، ومن تمسك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ، ومن آثره على ما سواه هداه الله ، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوله الذي ينتهي إليه أداه الله إلى جنات النعيم والعيش السليم» ـ

ف «إنه هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة ، وضياء من الأحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار» ـ


«فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع ، وما حل مصدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل وليس بالهزل .. ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم (تخوم) وعلى نجومه (تخومه) نجوم (تخوم) ولا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل المعرفة لمن عرف الصفة» (الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

«نور لا تطفأ مصابيحه ، وسراج لا يخبؤ توقده ، وبحر لا يدرك قعره ، ومنهاج لا يضل نهجه ، وشعاع لا يظلم ضوئه ، وفرقان لا يخمد برهانه ، وتبيان لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعز لا تهزم أنصاره ، وحق لا تخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يفيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون وآكام لا يجوز عنها القاصدون ، جعله الله ريا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجا لطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزا لمن تولاه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتم به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاج به ، وحاملا لمن حمله ، ومطية لمن أعمله ، وآية لمن توسم ، وجنة لمن استلأم ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى» (أمير المؤمنين علي عليه السّلام) (٢).

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٦٠٠.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣ ص ٢٠٢.


المدخل

إن كلمة الله هي إله الكلمات ، فلا تفسر إلا بكلمات الله «والقرآن يفسر بعضه بعضا وينطق بعضه على بعض» (١) والتمسك بالكتاب في الأمور المشتبهة إصلاح لها ووصول للرشد فيها ، والقرآن أحق وأولى أن يمسّك في تفسيره بنفسه : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (٧ : ١٧) (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (٤٢ : ١٧).

وقد يفسّر بالسنة القطعية الصادرة عن النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم إطلاقا ، أو عن خلفائه المعصومين الاثنى عشر دون تقية ، والميزة الصالحة لتمييز الغث عن السمين كتاب الله ، يرد إليه ، ويقاس عليه كل حديث ، فيصدّق ما وافقه ويرد او يؤول ما خالفه او لم يوافقه ، كما نجده في آيات العرض (٢) وأحاديثه المتواترة (٣) : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٤ : ٥٦) ، «وأردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور.

__________________

(١) نهج البلاغة عن علي عليه السلام.

(٢) ومثلها الآية ٧ : ١٧ ـ الأمرة بالتمسك بالكتاب و ٤٢ : ١٧ ـ التي ترجع الاختلاف الى الله

(٣) راجع جامع أحاديث الشيعة لاستاذنا الأقدم الأعظم الامام السيد البروجردي قدس الله روحه


والرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه ، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة»(١).

وليس لأحد أن يضرب القرآن بعضه ببعض ، وينثر آياته البينات نثر الدقل دون رعاية لرباطاتها وقد رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قوما يتدارءون ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : هلك من كان قبلكم ، بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضا ، فلا تكذّبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه (٢) «وخرج صلى الله عليه وآله وسلم على قوم يتراجعون القرآن وهو مغضب فقال : بهذا ضلت الأمم باختلافهم على أنبيائهم وضرب الكتاب بعضه ببعض»(٣).

فعلى المفسر التدبر التام في آي الذكر الحكيم ، أن يستنطق كل آية بنظائرها في المغزى ، ويستفسر عنها من أشباهها ونظائرها فلا يجد أي اختلاف في القرآن : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤ : ٨٢) عبارات ومعاني ، قوانين ومباني ، إخبارات وإنشاءات فاختلاف الروايات في تفسير الآيات ، واختلاف المفسرين من جرّائه ومن اختلاف أفهامهم ، هذه الاختلافات تردّ على القرآن نفسه ، فلا يصدّق عليه إلا ما يصدّقه ، وإذا احتملت اللفظة والآية وجوها عدة متلائمة فلتصدّق كلها ، وإذا كانت متنافرة فأوجهها دلاليا ومعنويا.

لذلك لا تجد في هذا التفسير مجالا لاختلاف الأقوال ، إذ نحاول في تفسير الآيات الحصول على المعاني اللائقة بكتاب الله العزيز دون تأويل وتفسير إلا

__________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الدر المنثور ، أخرج أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه (ص).

(٣) الدر المنثور ، أخرج ابن سعد وابن الضريس في فضائله وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه (ص).


ما يصدقه الكتاب نفسه. ولا أدعي أنني أفسر كتاب الله كما يحق ، إنما كما أستطيع على ضوء الدلالات القرآنية ، وأتشرف بقبول أيّ نقد من أيّ ناقد خبير بصير ، علنّا نوفق للأحرى فالأحرى من معاني القرآن.

وقد ابتدأنا بالجزء الثلاثين ، لأن السور التي يضمها هي بداية الوحي الشامل لما يحتاجه البدائيون في معرفة الإسلام ، فلنبدأ بها كلنا ، علنا ندخل المدينة من بابها.

وسوف تصدر هذه الأجزاء تباعا ، نصدرها عما كتبناها سابقا من دراسات التفسير التي ألقيناها على طلّاب علوم الدين في الحوزتين المباركتين (قم والنجف الأشرف) على زيادات وتنقيحات لفظية ومعنوية ، تفسيرا للقرآن بالقرآن متنا وبالحديث هامشا ، وعلى الله قصد السبيل.

نصدرها بإذن الله تعالي وحسن توفيقه إجابة للمئات من طلبات طلاب علوم الدين في الحوزتين المباركتين ، والذين انتشروا منهم في مختلف البلاد لبث الدعوة القرآنية ، حفظهم الله وأيدهم الله جميعا لما يحبه ويرضاه.

ومما يجب أن يعرفه القراء الكرام أن الأرقام الأولى في هذا التفسير هي أرقام السور ، والثانية هي الآيات القرآنية ، وهي في سائر الكتب السماوية إشارة إلى الفصول ثم الآيات وقبلهما اسم الكتاب.

مكة المكرمة في ١٣ محرم الحرام ١٣٩٧

هجرية محمد الصادقي



سورة النبأ ـ مكية ـ وآياتها أربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) (٥)

تساؤلات مرت وتستمر مدى الأجيال عن أنباء الغيب ، و (يَتَساءَلُونَ) هنا يشمل كافة التساؤلات عن الأنباء العظيمة طوال الزمن ، فلم يقل : «تساءلوا» كي لا يختص بغابر الزمن ، وإنما (يَتَساءَلُونَ) لكي يعم الغابر والمستقبل والحاضر ، وفي القرآن إجابة عن كافة التساؤلات بما أنه كتاب الخلود.

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) :

مطلع يحمل تنديدا شديدا بالمتسائلين عن النبأ العظيم ، ليس لأنهم سألوا تعلما وتفهما ، فإنه موضع تبجيل لا تخجيل ، وإنما لأنهم حينما يصدّقون الأنباء غير العظيمة ، ما يصلح لحيونة الحياة ، وحينما يصدّقون ويهرولون إلى الخرافات اللامعقولة التي يستنكرها العقل والدين ، وحينما يصدقون ـ دون تساؤل وتراجع ـ كل ما يتلائم وشهواتهم ، فهؤلاء هم يتساءلون عن النبإ العظيم هزءا وإنكارا وتعنتا واستنكارا ، بعد فلجهم في إبطاله ، وفلح النبإ العظيم وأهله في


إحقاقه ، وبعد ما قامت البراهين من كل الصنوف وضح الشمس في رابعة النهار ، قامت لإثبات وإحقاق أنباء الغيب العظيمة.

والتساؤل هنا يشمل ما هو بينهم ، بعضهم مع بعض ، تفكها ، وما هو منهم عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين تعنتا وهزءا ، وما هو بينهم وقلوبهم المقلوبة التي زالت عنها نور المعرفة : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٣ : ١٤) فالتساؤلات هذه كلها حابطة ساقطة ما لم ترد بها استنباط الحق واستعلامه (عَمَّ يَتَساءَلُونَ)؟

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)

فما هو النبأ؟ وما هو عظمه؟ وما هو الاختلاف فيه؟

النبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غالب ظن ، والخبر الحق الذي يتعرى عن الكذب ، والنبيء هو الموحى إليه بأخبار الحق والصدق ، حاملة كافة البراهين المصدقة لهما

ثم إذا كان النبأ عظيما كانت الفائدة والعلم فيه أعظم ، دون أن يتطرق إليه أية شائبة وريبة اللهم إلا جهلا وعنادا ممن لا يهوى إلا هواه ، ولا يهدف هداه.

وأول الأنباء العظيمة ـ منذ بزوغ الإسلام ـ هو نبأ الرسالة الاسلامية التي حملها الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فنبأ الرسالة المحمدية هو أعظم الأنباء الرسالية في تاريخ الرسالات ، ولأنها تشملها كلها وفيها مزيد هو رمز الخلود.

ف «لما بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعلوا يتساءلون بينهم فنزلت (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)(١) (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٥٠ : ٢).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٠٥ ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال : ..


فهذه الرسالة السامية كانت نبأ عظيما تحمل كافة الأنباء العظيمة : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (٣٥ : ١٤) .. إنه نبأ ونبيء ونبيّ أمر بالإنباء : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (١٥ : ٤٩) ، فإنذار النبي وإنبائه نبأ التوحيد ، هما من الأنباء العظيمة ، وقد بدأ بنبإ التوحيد : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ. ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٣٨ : ٦٥ ـ ٧٠ (.

أجل ، وإن نبأ التوحيد هو الركيزة الأولى من أنباء هذه النبوة السامية.

ثم القرآن نبأ عظيم لأنه المعجزة الخالدة لهذه الرسالة السامية ، وأنه يحمل كافة أنباء الغيب (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١ : ٤٩) (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(١١ : ١٢٠) (١).

ونبإ المعاد نبأ عظيم بعد التوحيد ، وهما الهامتان في نبأي الرسالة والقرآن : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ. بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٣٤ : ٧ ـ ٨) (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١٠ : ٥٣).

هذه هي الدعائم الأربع من الأنباء العظيمة ، تشملها : (النَّبَإِ الْعَظِيمِ) جنس النبأ العظيم لمكان «ال» * لا شخصه لكي يفسر بخصوص المعاد ام ماذا ترى إن

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٥ ، أخرج ابن مردوية عن ابن عباس أنه القرآن.


المعاد نبأ عظيم وليس التوحيد؟ وليس القرآن؟ وليس نبي القرآن؟ وهي لا تنقص عنه وقد تزيد!

ومن الأنباء العظيمة هي استمرارية الولاية والحكم المحمدي المتمثل في أخيه ونفسه ووليه وخليفته علي أمير المؤمنين صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من ولده المعصومين ، وكما يخاطبه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنبإ العظيم :

«أنت حجة الله وأنت باب الله وأنت الطريق إلى الله وأنت النبإ العظيم وأنت الصراط المستقيم وأنت المثل الأعلى» (١). وكما يقول هو عن نفسه : «وإني النبأ العظيم»(٢).

وفي وجهة عامة هو الولاية ـ على حد تفسير الإمام الصادق صلّى الله عليه وآله وسلّم (٣) ـ : ولاية الله والرسول والأئمة بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقد تتلخص في حكم الله على العباد.

(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) :

كان الكفار مختلفين في هذه الأنباء العظيمة ، في أصولها وفي كيانها ، رغم اتفاقهم على عدم تصديقها كما يجب.

فمن تقولاتهم في نبإ النبوة : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥١ : ٥٢) (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٥٢ : ٣٠).

.. ساحر أو مجنون أو شاعر ، تقولات ثلاث حول نبإ النبوة الذي هم فيه مختلفون ، بين طرفي الإفراط «ساحر شاعر» والتفريط «مجنون» * بين فاقد العقل وراجح العقل.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٩١ ح ٨ عن عيون الأخبار عن الرضا (ع) عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي قال : قال رسول الله (ص) ..

(٢) نور الثقلين ٥ : ٤٩١ ح ٦ عن روضة الكافي خطبة الوسيلة.

(٣) نور الثقلين ٥ : ٤٩١ ح ٤ في اصول الكافي بالإسناد عنه (ع).


وفي نبإ القرآن : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦ : ١٠٣) (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥ : ٥) ، (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) ..

.. انحرافات ثلاث عن نبإ القرآن : ١ ـ أنه من تعليم بشر سواء أكان حقا أم باطلا. ٢ ـ أنه من أساطير الأولين وخرافاتهم. ٣ ـ أنه مجموعة من سائر الكتب السماوية. والمبطلون هنا لا يرتابون (١) وإنما يعاندون.

وفي نبأ التوحيد : «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق» (٣٨ : ٤ ـ ٧).

فهذا هو الإشراك ، ثم إلى سائر الاختلاقات والاختلافات عن صميم التوحيد من تثنية وتثليث وحلول وتجسيد.

وفي نبإ المعاد : من إنكاره إطلاقا : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٤٥ : ٢٤) ..

أو إنكاره جسدانيا : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٣٦ : ٧٨) ..

أو نكران الحساب بعد الموت بغفران شامل أو تكذيب الجنة والنار ، أو تخصيص الحياة بالجنة ، وغير ذلك من الإنكارات.

__________________

(١) لأن الارتياب ليس إلا في أمر مريب ، وأمر القرآن ليس مريبا بعد ان زالت : الاكتتاب والقراءة والجمع : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مهما شكوا فيه دونما حجة!.


(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)

إن كون النبإ متساءلا عنه ، واختلاف المتسائلين أنفسهم ـ إنهما يوحيان بسفه التساؤل هنا وسقوطه ، فلو كانوا على بينة من نكرانه لكانوا متوافقين في مدى نكرانه .. لكنه كلا ـ إنه نبأ عظيم : خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم عظيم ، يملك من البراهين كل أنواعها : العقلية والواقعية ، الآفاقية والأنفسية.

فلقد يكفيهم اختلافهم ، ويكفيهم نصوع النبإ ، يكفيانهم لدحض افهامهم وتسفيه أحلامهم ، وهكذا إجابة في الإيحاء ، دون إدلاء بحقيقة المتساءل عنه ، تلويحا بالتهديد الملفوف ، وتوصيفا للنبأ ، إنه أوقع من الجواب المباشر ، وأعمق في التخويف وأعرق في التبكيت.

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)

إنه ليس كما يزعمون ـ فسيعلمون بعد إذ كشف الغطاء بالموت ، بعد إذ قضي على حياة الجسد. (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) في الحياة الثالثة والأخيرة ، يوم الفزع الأكبر ، يوم القيامة الكبرى ، علم ثم علم ، بعد جهل على جهل ، تجاهلا سفيها مارقا.

إن هذا الجهل أو التجاهل المتمادي سيزول قريبا بالموت ، ولا نقول : سوف يزول ، بل إنه سيزول : «سيعلمون» * إذ إن كل آت قريب ، و : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) (٧٠ : ٧) قريب في التصور ، وقريب في التصديق ، وقريب في الواقع ، وقريب في الوقوع ، رغم استبعادهم له لحد الإحالة.

فالمتسائلون هنا المستهزئون بالنبإ العظيم ، إنهم محكوم عليهم في حياة التكليف بالآيات البينات ، ومحكوم عليهم في حياة الجزاء إذ يرونهم في الأمر الواقع الذي استنكروه وتساءلوا عنه : سيعلمون بعد الموت : الحياة البرزخية ، ثم بعدها في الحياة الآخرة ، علما أوسع وأثبت منها ، كما العلم البرزخي أوسع مما في الحياة الأولى.


(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (١٦)

.... تكريس للكون ، من آفاقه الأرضية والسماوية ، ومن الأنفسية برهانا لنبإ التوحيد الذي هو أصل الأنباء ومبدأ الأنباء .. ثم آيات أخرى تكرس نبأ المعاد وهو يتلو نبأ التوحيد ، وبينهما نبأ النبوة والقرآن ـ المبينان لهما ـ ، يدمجهما في أصلي المبدإ والمعاد كما هو دأب القرآن ،

الجبال الأوتاد :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) :

إنها كانت أرضا ولم تكن مهدا ولا مهادا : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) (٢٠ : ٥٤) ، ولا ذلولا : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٦٧ : ١٥) ، كانت شماسا لا تذل الراكب ولا تحنّ لعائش (١).

إن جعل الأرض مهدا ومهادا وذلولا يوحي بحقائق عدة كانت مجهوله لدى الإنسان حتى زمن نزول القرآن ، منها حراك الأرض دائبا منذ خلقت إلا أنها

__________________

(١) «جعل» * المتعدي إلى مفعولين ، يفيد الجعل المركب ، أي جعل الشيء شيئا آخر لا جعله بمعنى خلقه ـ ف «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً» ، أي جعل حالة التذلل لها بعد ما كانت شماسا.


كانت شماسا مجنونة الحراك ، فجعل الجبال أوتادا لهذا المهد لكي تسكن من الميدان.

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً) :

فإنها كانت جبالا ولم تكن أوتادا ، فأرساها الله تعالى في قطع أديمها : «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشم من صياخيدها فسكنت من الميدان برسو الجبال في قطع أديمها» «فسكنت على حركاتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها ، فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها وأجمدها بعد رطوبة أكنافها فجعلها لخلقه مهادا وبسطها لهم فراشا فوق بحر لجي لا يجري وقائم لا يسري ، تكركره الرياح العواصف ، وتمخضه الغمام الذوارف ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» (١).

فهنا مسألتان هامتان من أهم مسائل التكوين هما : الأرض المهاد المتحركة ، والجبال الأوتاد. ومن الضروري لهذه المهاد المضطربة الشموس أن توتّد. لكي تسكن عن الاضطراب على حركتها ، فإن بها مساك الأرض وقوامها واعتدالها وثباتها كما يثبت البيت بأوتاده والخباء على أعماده ، مساكا عن اضطرابها وميدانها لا عن حركاتها «أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال وأرساها على غير قرار وأقامها بغير قوائم ورفعها بغير دعائم وحصنها من الأود والاعوجاج ومنعها من التهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ...» (٢)

فالأرض المهاد ، هي مهاد للحياة عامة ، وللحياة الإنسانية بصورة خاصة ، تمهد الحياة للإنسان بسهلها وجبلها ومائها وفضائها وحركاتها ، مهاد كالمهد ، ومهد تريح الإنسان عن أعباء الحياة بحركاتها المعتدلة المتناسقة المتلائمة.

__________________

(١) نهج البلاغة في مواضيع عدة عن امير المؤمنين علي عليه السلام.

(٢) من خطب أمير المؤمنين علي (ع) ، وسوف نأتي على بحث فصل حول حركات الأرض في سورة المرسلات وسواها ، وحول أوتاد الجبال في أنسب مواضيعها.


فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض وخلق الحياة على الأرض ، هذا الاختلال يخرجها عن الأرض المهاد إلى الأرض الشموس العتاد.

وجبال الأرض ـ الأوتاد ـ هي أشبه شيء بأوتاد مهد الطفل ، تحفظ توازنها في حراكها ، وتعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال ، وتعادل بين التقلصات الجوفية للأرض وتقلصاتها السطحية ، ولأسباب أخرى نجهلها ، أشار القرآن الكريم إليها ، ثم عرف الإنسان طرفا منها يسيرا ، على جهوده العلمية المتواصلة ، وبعد مئات السنين.

هذه الأرض المهاد والجبال الأوتاد ، هي من البراهين الساطعة على وجود مدبّر واحد عظيم عليم قدير حكيم ، وإنها من أدلة النبإ الأول من الأنباء العظيمة : «نبأ التوحيد» إذ ليس بالإمكان أن يحصل هذا التدبير دون مدبر ، أو يدبره أرباب متشاكسون.

خلق الأزواج :

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) :

الزوج هو المماثل الملائم ، فكما خلق الله الأرض والجبال متلائمين مع بعض ، كذلك الإنسان خلقه الله أزواجا : أزواجا مع الأرض التي يعيشون عليها ، ملائمة طباعهم معها ، وأزواجا بعضهم مع بعض في كافة النواحي الجسدانية والحيوية ، دون منافرة ذاتية هنا وهناك .. أجل : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) : منافرة ذاتية ، اللهم إلا أن يتنافروا بينهم بسوء الإختيار .. ثم أزواجا مع نبات الأرض وحيوانها ، إذ يعيش معها مفيدا لها مستفيدا منها .. فالكون كله أزواج رغم اختلاف الأشكال. ف (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦ : ٣٦). (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (٤٣ : ١٢)

الفرقان في تفسير القرآن(٢)


.. فهنا تزويج بين الإنسان والفلك والأنعام ، وهناك بين الكون كله ، وإن كان الإنسان هو من أهم الأزواج ، وله خلقت سائر الأزواج (١).

وهذه الملاءمة الذاتية بين أجزاء الكون ، والازدواجية الخلقية بينها ، إنها برهان آخر على نبإ التوحيد ، توحي لنا وحدانية الخالق المدبّر ، لا سيما زوجية الذكورة والأنوثة الكافلة لرغد العيش ، ولبقاء النسل وكثرته.

فقد خلق الله الإنسان ذكرا وأنثى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) (٤٢ : ٥٠).

وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما ، وكل إنسان يدرك ما وراءها من لذة وراحة ومتعة وتجدد ، ولأهمية ازدواجية الحياة نرى الآيات تترى في المنّ والتذكير بها.

فهل يا ترى أنها الفوضى : أن تصبح النطفة ذكرا ، وأخرى مثلها أنثى ـ على وحدتهما في الصورة والمنشأ؟ سبحان الخلاق العظيم

النوم السبات :

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) :

إن مهاد الأرض وأوتاد الجبال وازدواجية الكون بأنساله ـ على كونها من أهم النعم الدالة على نبإ التوحيد ـ إنها تبقى منفية الأثر عديمة الثمر لو لا أن الإنسان ينام ، فكما أن حراك الإنسان في الحياة من النعم ، كذلك سباته : (قطعه) عن الحراك نعمة ، لولاها لما استقامت للإنسان حياة ، واندثر كيانه قبل قيامه بصالح الحياة ..

__________________

(١) سوف نبحث عن زوجية الكون أجمع على ضوء الآيات في أقرب المناسبات ، وإن ذلك من معجزات القرآن ـ العلمية.


جلّ من لا تأخذه سنة ولا نوم ، فالكون كله في سنة ونوم ـ مما يدل على ضعفه وعدم استقلاله ـ إلا الله الواحد القهار.

إن النوم من رحمات الله وآياته : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٣٠ : ٢٣) : آية العلم والحكمة والقدرة الإلهية ، وآية للموت والحياة بعد الموت: (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٩ : ٤٤) (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦ : ٦٠).

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) : سكنا عن حركات التعب ونهضات النصب ، لتجديد قوى الحياة ، وجعل الليل لباسا لهذا السكن ، سكنا على سكن : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ..) (١٠ : ٦٧) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) (٢٥ : ٤٧) ، فلو لم يكن الليل لم يكن سكن ، ولو لم يكن النوم لم يكن سبات : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢٨ : ٧١ ـ ٧٢) نوم سبات في ليل سكن على مهد الأرض ، ويا لها من نعم لا تحصى.

مهد مهّد الله لنا فيه كل حاجيات الحياة حتى الممات ، وسبات يقطعنا عن زعزعات الحياة وينقل بنا إلى حياة البرزخ لنسكن مع الأحياء فترة هناك ، ثم نرجع علنا نجدّد الحياة ، وسكن يمهد لنا حراكا أقوى وأبقى مما لو لم يكن سبات ولا سكن .. فهل يا ترى أنها فوضى وصدفة عمياء؟ سبحان الخلاق العظيم!

ثم لنعرف ما هو مدى هذا السبات ، هل إنه سبات عن الحياة كل الحياة؟ أم سبات عن العمل مع بقاء الحياة كما كانت ، أم سبات قسري عن أعمال الحياة


الاختيارية : عقلانية وجسدانية ، وتبقى الأعمال والحركات القسرية الضرورية لإبقاء الحياة حالة المنام ، فحالة السبات حالة لا موت ولا حياة ، موت شيئا مّا وحياة شيئا مّا ، إنه اندفاع الروح الإنساني مع الحيواني الإرادي إلى عمق الحياة ، وانصراف لهما مؤقتا عن الحياة الدنيا ببدنها وهذه الحالة تتكفل بإراحة الإنسان نفسيا وجسدانيا ، وتعويضه عن الجهد الذي بذله حالة الصحو والانشغال بأمور الحياة .. وإنه هدنة للروح من صراع الحياة العنيف ، تلمّ بالإنسان ليلقي سلاحه ويستسلم لفترة من السلام ، وهذا هو الصحيح عن واقع النوم.

فإنه قفزة مؤقتة إلى حياة أعمق وكيان أعرق ، سوف يقفز الإنسان إليه دون رجوع : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .. وما أشبه المنام بالممات ، إذ يذكّر الإنسان بحالة الممات : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦ : ٦٠).

هذا السبات المؤقت عن كامل الحياة ثم الرجوع إليها ، إنه من البراهين الواقعية لنبإ المعاد إضافة إلى نبإ التوحيد : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٩ : ٤٢).

فمن هنا تأخذ ازدواجية البرهان موقفها الحاسم ، بعد وحدتها لنبأ التوحيد ، ازدواجية تضم نبأ المعاد إلى نبإ التوحيد ، ومن ضمن النبأين الأصيلين توحي إلى نبأي النبوة المحمدية والقرآن ، حيث البراهين تسبر أغوار الكون الخفية وحتى الآن ، فضلا عن زمن نزول القرآن.

فمهاد الأرض ، وأوتاد الجبال ، وكائنات الأزواج ، والنوم السبات ، والليل اللباس ، إلى سائر الحالات المسرودة هنا من الكائنات ، إنها إنباءات غيبية ليست من حصائل التفكير لإنسان الأرض كإنسان ، ولا سيما الأمي الذي لم يدرس


شيئا : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٦) .. إنما هي من وحي السماء ، سبحان الخلاق العظيم!

النوم في منطق العلم والحديث :

من مقالات الإمام جعفر الصادق عليه السّلام حول المنام : «ما من حي إلا وهو ينام خلا الله وحده عز وجل» (١) .. هذا ـ والواقع العلمي والكوني يبرهنان على الضرورة الحيوية إلى النوم لكل حي : نبات وحيوان وإنسان :

«إن ظاهرة النوم في الكائن النباتي تظهر ـ على الأكثر ـ في اختلاف حالة التنفس وتصاعد الدبوس النباتية ، فهي تعاكس عملية التنفس بين الليل والنهار ، ففي النهار تأخذ الكربون وتدفع الأوكسجين ، وفي الليل تأخذ الأوكسجين وتدفع الكربون ، ولذلك نراها تصعد دبوسها في الليل أكثر مما في النهار ـ

وفي البعض من النباتات نرى حالة تشبه حالة الحيوان ، كوردة الأبريسم وأقاقيا ، فإنهما تجمعان أوراقهما ليلا» (٢).

«ثم نرى في الكائن الحيواني أن حالتي النوم واليقظة لزام له دون استثناء ، وكلما تكامل مخ الحيوان نرى الاختلاف بين حالتيه أكثر ، والنظم فيهما أظهر.

ولقد دلت الفحوص حول مختلف الحيوان أن لوضح النهار وظلم الليل ـ على الأكثر ـ تأثيرا عميقا في نومها ويقظتها.

فقد نرى الطير تأخذ في دورها الفعال منذ إشراق الشمس ، وتلجأ إلى أكنانها عند غروبها .. وأثبتت التجربة أن النور الشديد في ظلم الليل يجعل الطير تأخذ في دور النهار.

__________________

(١) سفينة البحار ٢ ص ٥٤٧.

(٢) النوم والرؤيا ص ١٥.


ثم نرى فريقا آخر من الحيوان أن نومها لا يناط بالليل ، فتجعل الليل نهارا والنهار ليلا كالعكس ، دون تمييز بينهما للنوم والعمل.

ثم نرى ثالثا تعكس الأمر تماما فتجعل النهار ليلا فتأخذ كلا كعكسه كالخفاش»: ـ

«فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها ، وجاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس أرزاقها ، فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا والنهار سكنا وقرارا» (١).

ثم نرى البعض من الحشرات أنها لا تعرف النوم طوال أشغالها الطويلة الزمن كالنمل ، فهي تدور في تهيئة أرزاقها في غير الشتاء ، ثم تستريح وتنام في الشتاء.

هذا «ولكن الإنسان لا يستطيع الإدمان في الشغل وترك النوم لأكثر من عشرة أيام ، ثم الموت قطعا» (٢).

وعلى أية حال لا تجد حيا في الكون إلا وهو بحاجة ملحة إلى النوم ، مهما اختلفت أوقاته ومقاديره ، ومن ثم نرى القرآن يمن فيما يمنّ على الإنسان بجعل النوم سباتا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٧ : ٨٦) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة : ١٥.

(٢) النوم والإنامة ـ أو ـ هيبنوتيزم ص ١٢.


وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٢٥ : ٤٧) (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) (٤٠ : ٦١).

توحي لنا هذه الآيات البينات أن الليل لصالح الراحة والمنام ، والنهار لصالح الإبصار فالنشور لابتغاء فضل الله ورحمته ، وهذا هو الأصل الأول في قرار الليل والنهار ، وإن كان للإنسان أن يلفق بينهما ويعكسهما : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٣٠ : ٢٣) (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٨ : ٧٣).

وهذا جعل ثان ينوب عن الأول شيئا ما عند الحاجة ، وفيما لزم عكس الأمر ، وإن كان الالتزام بالأول أحرى وأصلح لراحة الإنسان ، وهذه الحرية في تبديل وقت المنام للإنسان هي في عداد فضائله على سائر الحيوان الملزمة خلقيا بأوقات خاصة لا تتبدل.

ترى في الآيات الأولى فكاكا بين الليل والنهار للنوم والشغل ، حينما الآيات الأخيرة تجمع بينهما للأمرين ، لكيلا يظن أن في نوم النهار وشغل الليل محظورا ، بعد ما نعلم أفضلية المنام في الليل والشغل في النهار ، والواقع الملموس يشهد أن قليل النوم في الليل أريح بكثير من كثير النوم بالنهار ، وأن نوم النهار يأتي بالكسل والفشل.

الليل اللباس والنهار المعاش :

اللباس ما يلبس الإنسان ويستره ، ستر الجسد للجسد كلباسه من عورته او الروح من طغواها كتقواها : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) (٧ : ٢٦) وسترا له عما يصطدمه من حر أو برد أو بأس دون ذلك : (وَجَعَلَ لَكُمْ ... سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) (١٦ : ٨١) ، أو سترا للروح من طغيانها وتخلّفها عن شريعة الله : «يا بني*


آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٧ : ٢٦).

ومما يقي الإنسان لباس الجنس : لباس النساء للرجال والرجال للنساء : (.. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ..) (٢ : ١٨٧) يلبس البعض البعض من حملة الجنس الشاذة ، ومن حيرة الحياة ووحدتها.

أو سترا للإنسان روحيا وجسديا عن عبء الأشغال ، وسباتا عن حراب الحياة في محراب المعاركات وهذا الأخير هو لباس الليل ينير بظلمه على الإنسان درب الحياة جديدة ، هدنة للروح والجسد من صراع الحياة العنيف ، لباس هدنة تلم بلابسه فيلقي سلاحه وجنته ويستسلم لفترة السلام الآمن ، الذي يحتاجه الإنسان تبقية وتنشيطا لحياته .. فهذا هو الليل اللباس : لباس على الإنسان كما هو لباس على النهار وكما النهار لباس الليل : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٦ : ٣٨) سلخ لباس النهار عن الجو ، وإلباس الجو لباس الليل ، وكما هو لباس على لباس النساء في ضجعة الجنس : «يلايل الرجال من النساء» (١).

ثم النهار هو معاش : زمن العيش التمام حيث اليقظة التامة ، وزمن المعيشة وتحصيلها رغدا (٢).

والليل اللباس والنهار المعاش آيتان لنبإ التوحيد والمعاد : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٩٢ ج ١٤ عن علل الشرايع باسناده إلى عبد الله بن يزيد بن سلام أنه سئل رسول الله (ص) فقال : أخبرني لم سمي الليل ليلا؟ قال (ص) : لأنه يلايل الرجال من النساء ، جعله الله عز وجل ألفة ولباسا ، وذلك قول الله عز وجل (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ، قال : صدقت يا محمد! ..

(٢) المعاش : هو المعيش ، مصدر ميمي واسم زمان ومكان ، فهو كما في المتن : زمن العيش واقعيا وتحصيلا لوسائل العيش ، وهو نفس العيش.


وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (١٧ : ١٢) ليل الموت كما هو للنوم «فالنوم أخ الموت» ونهار النشور كما هو للحياة التمام ، فهما آيتان دائبتان للحياة بعد الموت كما اليقظة بعد النوم.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) :

.. سبع شداد هي السماوات والأجواء السبعة ، وأقربها إلينا هي السماء الدنيا ، سماء الكواكب.

لقد بنيت هذه السبع الشداد من الدخان الصاعد من الماء المضطرم : المادة الاولية لخلق الكون أجمع ، إذ فجّرها ربها وأضرمها فصعد منها دخان هي مادة السماء والسماوات السبع ، وأزبدت زبدا هي مادة الأرض والأرضين السبع (١).

فمم بني السبع؟ وما هو السبع؟ وما هو الشداد؟

إنها بنيت من الدخان الصاعد من اضطرام المادة الأولية لخلق الكون : «الماء» (٢) :

(.. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا

__________________

(١) البحث الفصل حول خلق السماوات السبع والأرضين السبع محول إلى مجالها الأنسب فالأنسب كالآيات من «فصلت» * و «النازعات» وأمثالها ، وهنا نشير شيئا ما الى بناء السماوات وشدادها من دخانها.

(٢) لا نعني الماء المعروف عندنا فإنه أيضا مخلوق من مادة أولية ، إنما هو تعبير عن كيان تلك المادة وأنها مسانخة الأجزاء وكأبسط تركيب من كائنات العالم ، والبحث الفصل تجده في سورة هود عند قوله تعالى : .. وكان عرشه على الماء ، وشاهدا على ذلك ـ إضافة إلى الواقع الملموس ـ روآيات عدة عن مصادر الوحي :

منها ما رواه الكليني عن محمد بن مسلم قال : قال لي أبو جعفر (ع) كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر الله تعالى الماء فاضطرم نارا ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان فخلق السماوات من ذلك الدخان وخلق الأرض من الرماد» .. وفي آخر عنه (ع): «فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إلى شيء» ، ومعلوم أن ماءنا المشروب ، له نسب هما ذرتا الهيدروجين والأوكسجين ، وهما أبواه.


طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١١ ـ ١٢).

والدخان هو المستصحب للهيّب ، وليس للماء المغلي لهيب ، وإنما هو لما يصعد من احتراقه نار ملتهبة ، من حطب وفحم حجري وبترول .. ومن الذرات وفوق الذرات المتفجرة ، وقد يصل الالتهاب إلى ٧٠ مليون درجة كمركز الشمس الذي لا يبقى فيه أي تركب جسماني إلا ما يحافظ على كيان المادة لحدّ مّا ، ولذلك فإن مركز الشمس لا يحمل إلا الئيدروجينات التي هي أبسط الذرات فيما نعرف.

وهناك غازات لها ٢٨٠ مليون درجة من الحرارة كمركز الشعرى ، وإنها بعيدة عنا ٠٠٠ ، ٥٠٠ أضعاف بعد الشمس ، ولو كانت على بعد الشمس لكانت درجة الحرارة في كوكبنا الأرضي ٤٠ ضعف الآن.

وهناك غازات لم يعرفها العلم حتى الآن ، وكل هذه الحرارات والغازات هي ولائد الغاز (الدخان) الأول ، الناتج عن التفجّر الأول للمادة الأولية ، وهي أم الكائنات.

إنها تفجرت فأولدت دخانا ساطعا إلى الجو العالي ، وأزبدت زبدا ربّتها عندها ، ثم الولد المتخلف الفرار ظل دخانا إلى أن قضاه الله سبع سماوات.

ثم من هذا الدخان خلقت السبع الشداد ، أجواء سبعة متداخلة : (.. الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ..) (٦٧ : ٣) أدناها إلينا سماء الأنجم : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٣٧ : ١٠) (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) (٦٧ : ٥).


أجل إنها : السماء الدنيا ، لا سماء الدنيا ، إنما السماء الموصوفة بأنها الدنيا : أدنى السماوات السبع إلينا ، وكرتنا الأرضية هي من أصغر كواكب السماء الدنيا إذا فليست السبع عددا دون مفهوم (١) ولا عددا للأجواء السبعة للسيارات السبع (٢) فإنها مع المليارات من المجرات الحاملة للكواكب ، هي كلها في السماء الدنيا ، ثم لا ندري ما هو في الست الباقية.

وإنها شداد ، فالسماء هنا لا تعني الفضاء والجو الخالي ، او بما فيه من كواكب بل هي جو يحمل أجراما غازية ـ خفيفة وثقيلة ـ من النوع الذي خلقت منه الكواكب ،

وكما عرفنا من الآيات في «فصلت»: أن السماوات السبع ـ والكواكب في دنياها ، إنها كلها ـ خلقت من الدخان الأمّ : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١١ ـ ١٢).

وكما القرآن يوحي أن المملكة السماوية في توسع دائم في بلادها : «الكواكب» * (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٥١ : ٤٧) : لموسعون بناءها بما فيها من كواكب وأنجم وبروج ، من الدخان الأمّ.

تسمع لفظة الدخان وعلك تظنه غازا رقيقا ، رغم أن اللهيب الذي يستصحب الدخان ليس نوعا واحدا كلهيب الحطب ، فقد يكون لهيب التفجرات الذرية وما فوقها ، يتبعها في الثقل والخفة ، فكل ذرة تتحمل حرارة أكثر ـ دون أن تتجزأ ـ فثقلها أكثر ، فإذ قد نرى أن الحديد يذوب ويتجزأ في

__________________

(١) كما يصر به ويكرره الشيخ الطنطاوي دون تفكير في الآيات المعنية.

(٢) وكما يقوله السيد هبة الدين الشهرستاني في كتابه الهيئة والإسلام ، وتجد البحث الفصل في طيات التفسير عند الأنسب من الآيات فالأنسب ، وهنا آيات تسع تصرح بعدد السبع ولا مبرر في تأويلها إلا الجهل.


ألف درجة ، فليكن الغاز الموجود في مركز الشمس ٠٠٠ ، ٧٠ ضعف الحديد ثقلا وصلابة ، والموجود في مركز الشعرى ٠٠٠ ، ٢٨٠ ضعفه ، ثم لدينا مزيد.

أجل : إن هذه السبع شداد كأشد ما يتصور : شداد في البناء كأتقن البناء ، لا تنفطر إلا بمفطّر إلهي ، شداد في الصلابة وإن لم تكن في كل جوانبها ، شداد بأبوابها فلا تفتح إلا بفاتح إلهي : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (٧٨ : ١٩) (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (٥٤ : ١١).

سبع شداد نرى من شدة الأولى منها أن علقت فيها بليارات البليارات من قناديل الكواكب ، ودون أن تؤثر في سقفها فتورا وفطورا ، فهي معلقة بعمد لا ترى : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢) «فثم عمد ولكن لا ترونها» (١).

نرى سيارات الكواكب في أفلاكها وراقصاتها في مراقصها ، لا تنزلق عن مداراتها .. فيا لها من عمد تدعمها ، ويا لهذا السقف الرفيع المحفوظ من صلابة واستقامة!

إنها سبع شداد ، متينة التكوين ، قوية البناء ، خارقة البنّاء ، بقوة تمنعها من التفكك والانثناء.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ) وبما أن «كم» * تعني كافة سكنة الأرض ، فلزامه كون السبع الشداد أيضا فوق الكل ، وهنا إيحاء لطيف إلى كروية الأرض ومعها السماوات ، فالسماء الدنيا فوق الأرض كلها ، ثم مقتضي طباق السماوات كون الباقيات كمثلها سواء.

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) :

شمسنا التي نستضيء بها ونتدفأ ، هي سراجنا الوهاج ، بين الملائين من السرج الوهاجة في المملكة السماوية.

__________________

(١) كما يروى عن الامام محمد بن علي الباقر (ع)


إن الوهاج هو ما يجمع بين الضوء والحرارة ، وجعل الشمس وهاجا ، إنما هو بعد بناء السبع الشداد ، خلقت من ضمن ما خلق من مصابيح السماء الدنيا : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ..) ومصباحنا الوهاج الذي ينتج وضح النهار هي شمسنا ، فهي ضياؤنا كما القمر نورنا في ظلم الليل ، وسوف تعلمون أن خلق الكرة الأرضية أسبق من خلق الشمس وسائر الأنجم.

فالشمس السراج الوهاج ، والقمر النور المنير : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٢٥ : ٦١) (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (٧١ : ١٦) .. إنهما من الآيات البينات لنبأي التوحيد والمعاد ، بما أن (الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٦ : ٣٨ ـ ٣٩).

وهذا السراج الوهاج هو الباعث للحرارة التي تعيش بها الأرض وما عليها وما فيها ، وهو الذي يكوّن السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو ، فهي من المعصرات

وهو المشرق علينا بأنواره ، إشراق الحياة ، وراحة الحياة ، وتقدّم الحياة ..

والشمس بحرارتها ونورها هي من المعصرات التي ساعدت على تروية الأرض بالماء الثجاج.

المعصرات والماء الشجاج :

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) :

استعراض لبداية نزول الماء من السماء على كرتنا الأرضية الشموس العطشى فإنها كانت منذ بدايتها محترقة ، إذ كانت زبدا : حصيلة التفجر الأول للمادة


الأم «الماء» * حيث أزبدت زبدا فكانت أرضا ، وصعّدت دخانا فكان سماء ثم سماوات : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨) .. ولو أن مياه الأرض أو بعضها كانت منها نفسها ، لم يكن للتهديد بذهاب مياه السماء منها معنى!

أجل إن حياة الأرض (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٢ : ١٦٤) وحياة الأحياء فيها كلها ، إنها من ماء السماء : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٢١ : ٣٠) .. وقد جعلت الأرض ذلولا بعد شماسها بأوتادها وبماء السماء : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٦٧ : ١٥).

وبطبيعة الحال ما كان بالإمكان نزول الماء من السماء على هذه الكرة المحترقة إلا بالإعصار والصب ، إعصار ينتج الصبّ والماء الغزير الثجّاج.

وهناك للماء الثجاج مراحل عدة ، أولاها وأقواها الصب الأول الذي أنتجته معصرات عدة :

من الرياح التي أعصرت أنفسها حتى وصلت إلى الأجواء الأرضية ، وأعصرت السحاب فأوصلتها إلى أجوائها.

ومن السحاب التي أعصرت بعضها البعض وتضاغطت حتى استقرت هناك.

ومن التفريغات الكهربائية هنا وهناك التي ساعدت هذه الإعصارات وأعصرت (١).

فلقد تناصرت معصرات رياحية وسحابية وتفريغات كهربائية ـ ومن

__________________

(١) «من» * في معصرات الرياح والتفريغات الكهربائية ـ تكون سببية ، وفي السحاب نشوية أو تبعيضية ولا بأس بقصد معاني عدة من كلمة واحدة في القرآن فيما إذا تتحملها اللفظة لغويا ومن حيث المقام.


ورائها ومعها الإعصار الإلهي ـ حتى كافحت حرارة الأرض وروّتها ماء وبرّدت ظاهرها رغم ذوبان باطنها نتيجة الحرارة الزائدة.

إنها أعصرت فأنزل الله بها ماء ثجاجا : غزيرا كثيرا يصبه صبا : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٨٠ : ٢٥ ـ ٣٢).

إنه تعالى روّى كرتنا العطشى المحترقة بما فتح من أبواب السماء بماء منهمر ، وبمعصرات عدة ، فجعل من الأرض بحرا متلاطما ، ثم يبست شيئا مّا لكي : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

وهنا صب ثان في طوفان نوح : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤ : ١١ ـ ١٥) .. كما الأرض أصبحت كأنها بحر لجّي ، إلى أن أقلعت السماء ماءها وابتلعت الأرض : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١١ : ٤٤).

وصب ثالث هو أخفها وطئا وأكثرها عددا ، هي السيول التي تجري على الأرض ، بمعصرات الرباح والسحاب والتفريغات الكهربائية : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ..) (٣٠ : ٤٨).

إن معصرات الرياح هنا تزجي السحاب من أبخرة مياه الأرض : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) (٢٤ : ٤٣).

وهذا بخلاف الرياح المعصرات في الإعصار الأول والثاني ، أنها كانت تعصر أبخرة مياه السماء ، وتفتح أبواب السماء بماء منهمر ..


ولقد كانت المعصرات الأولى أقواها ، ولكي تكافح حرارة الأرض ، وتسيل وتصبّ عليها سيلا وتجعلها بحرا بعد أن كانت قفرا :

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً).

والد السماء أمطر على رحم أم الأرض بنطف المياه لتخرج منها ـ بإذن ربها ـ حبها ونباتها وجناتها الألفاف ، لإخراج نوعي المأكول والملبوس : ما يؤكل هو ذاته حبا كسائر الحبوب ، ونباتأ كبعض النبات ، وما يؤكل منه كالبعض الآخر من النبات وكسائر الجنات.

«وجنات» * : أشجار كثيرة تجنّ بعضها البعض وتجن الأرض ، وتجنها من السماء «ألفافا» : تلف بعضها البعض ، وتلتف بعضها بالبعض.

بالفعل تتزاوج وتتمازج أموات وأموات لتلد أحياء وأحياء : نباتية وحيوانية ، أفلا يدل هذا الصنع البارع المتقن على وحدة الصانع ، وعلى إمكانية الحياة بعد الموت ، سبحان الخلاق العظيم!

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠)

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) :

فصل الخلافات ، والفصل بين المختلفين : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٣٢ : ٢٥)


والفصل بين المتصلين يوم الدنيا بالقرابات : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) (٦٠ : ٣).

والفصل عن الآمال والأعمال : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٧٧ : ٣٨ : ٣٩).

وفصل الحق عن الباطل والمحق عن المبطل ، وفصل كل مجمل ومجهول ..

(كانَ مِيقاتاً) :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٤ : ٤٠) .. كان ميقاتا : منذ خلق الكون والمكلفون ، ويكون ميقاتا يوم ينفخ في الصور.

«ميقاتا» : فالوقت نهاية الزمن المفروض للعمل ، والميقات مكانه وزمانه (١) عرصات المحشر ميقات ، وزمن المحشر ميقات ، إذ انقطعت الأعمال بانقطاع دار التكليف وزمن التكليف ، بالنسبة للمجموع لا الجميع ، فإن الميت تقوم قيامته الشخصية بانقطاع عمله بالموت ، ولكنما الميقات للمجموع ككل ليس إلا يوم الفصل.

فيوم فصل القضاء ـ وهو من عظيم الأنباء ـ كان في علم الله يوم خلق الأرض والسماء ، حدا مضروبا إليه ينتهي دار التكليف ككل.

يوم الفصل ويوم العزل ، يوم الحساب ولا عمل ، كما الدنيا عمل ولا حساب ، إنه ميقات المكلفين أجمعين ، لا يغادر منهم أحدا ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

__________________

(١) فميقات الحج يجمع بين نهاية المكان والزمان المسموح فيهما للعمل الحر ، ثم يقيد المحرم آنذاك وعند ذاك بترك الكثير مما كان مسموحا له قبل الإحرام.

وميقات القيامة كذلك ـ نهاية المكان والزمان الممكن فيهما العمل.


إنه يوم ينقلب فيه نظام الكون الحالي وينفرط عقده إلى نظام أرقى وأبقى!

من هنا نرى سردا منسقا لنبإ المعاد بعد نبإ التوحيد ، فما أن ثبت التوحيد بأدلته فلا حاجة لاستعراض براهين للمعاد إلا أحيانا ، وإنما العرض هنا لواقع المعاد ولمّا يقع ، وتحصل يوم الفزع الأكبر ، ولكي يتذكره المتذكرون ويتحذره الحاذرون.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) :

هناك نفختان يوم الفزع الأكبر : نفخة الإماتة ونفخة الإحياء ، نفخة تدمّر وأخرى تعمّر ، قد تجمعان كيوم واحد لاتصالهما وأنهما في نهاية يوم الدنيا : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٧ ـ ٦٨) : نفخة الصعقة المميتة ثم نفخة القيام.

وقد تجمعان كذلك إلا بتقديم الأخرى على الأولى كما هنا : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) فهو في النفخة الثانية : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) وهو في الأولى ، تقديما لما هو أهمّ وأحرى وهو الغاية القصوى من نفخة الإماتة.

وقد تفرد إحداهما بالذكر كالأولى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَة) ثم تتبع بواقع الثانية : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٦٩ : ١٣ ـ ١٨ ، وكالثانية وهي الأكثر ذكرا من الأولى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣٦ : ٥١) (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٢٣ : ١٠١) ..


وكلمة الجمع عن النفختين وعما يحصل فيهما وبعدهما لغير النهاية ، أنها : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وإن كان يعتبر ـ حسب مختلف الأحداث فيه ـ يعتبر أحيانا أياما.

فما هي النفخة؟ وما هو الصور؟ ومن هم الأفواج؟

إن الصور ليس هو الصور والأبدان لكي يعنى بالنفخ فيها نفخ الأرواح في الأبدان ، لأنه لا يستقيم إلا في نفخة الإحياء دون الإماتة ، والتعبير بالأخرى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) يوحي بأنها تشبه الأولى ، فهل هنا من شبه بين الإماته والإحياء؟ كذلك ورجوع ضمير المذكر إلى الصور : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) رغم أن جمع الصورة مؤنث ، وأن الصور هي المناسبة لجمع الصورة كما في آيات (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (٤٠ : ٦٤ و ٦٤ : ٣) .. هذه شهود صادقة على أن الصور بوق وليس جمع الصورة (١).

ثم التعبير عن النفخة الثانية بالنقر في الناقور : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (٧٣ : ٨ ـ ١٠) وهو قرع الشيء المفضي إلى النقر ، هذا شاهد ثان على أن الصور غير الصور.

إن الصور بوق لا كالأبواق التي نعرفها ، كما النفخة فيه لا تشبه نفخاتنا ، ونحن لا نتصور هنا أو نفهم من نفخ الصور شيئا إلا أنها النفخة المميتة ، والنفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجا ، التي تبعثر القبور وما في القبور فيأتون من كل فج إلى حيث يحشرون.

وبطبيعة الحال نستوحي من أحوالها وأهوالها الشاملة للكائنات أنها سوف

__________________

(١) في اللسان : الصور جمع الصورة ، والصور القرن ـ أقول وهذا شاهد راجع على ما نروم ـ إذ لو عني بالصورة جمع الصور لكان بحاجة إلى قرينة معينة لمكان الاشتراك ، وترك الخاص بالمشترك خلاف الفصيح.


تكون في الأرض والسماوات أجمع ، وبصرختها تفزع الكائنات وتميتها ، وبوقعتها تجددها وتحييها ، وإنها الهول البادي في انقلاب الكون المنظور ، كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور ، وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير.

ومما نعرفه ، على جهلنا بالصور ونفخه : أنه ليس بوقا ينفخ فيه ، إنما هو كناية وإيحاء إلى بسبب التدمير والتعمير ، أنه صيحة ما أقواها وأفزعها ، يسمعها الكائنات في أعماقها ، سمعا في كيانها ، استمع سامعوها أم لم يستمعوا ، كان لها سمع أم لم يكن ، فإنما الصرخة هذه تؤثر هكذا تدمير وتعمير ، إماتة مرة وإحياء أخرى بزجرتها .. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (٧٩ : ١٤ ـ ١٥) فنفخة الإحياء زجرة واحدة تنقل الموتى إلى أرض القيامة : الساهرة : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) (٣٧ : ١٩).

والزجرة هذه والصيحة تلك والدعوة ، على سواء : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٣٠ : ٢٥).

وبما أن للكل نصيب منها على حد سواء : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) نستوحي أنها بمقربة من الكل ، بجنب الكل ، أو كأن الكائنات هي الصور كلها ينفخ فيها مرة لإزهاق أرواحها ، ومرة أخرى فتنفج لإعادة أرواحها.

(فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) :

أفواج الأخيار وأفواج الأشرار ، كل مع زميله وكل مع رتيبه ، فكما الأخيار أفواج لأنهم درجات ، كذلك الأشرار أفواج فهم أيضا درجات : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٩٩ : ٦).


والفوج هو الجماعة المارّة المسرعة ، تسرع كل إلى ما أعده لنفسه ، من نحسه ونفيسه.

يقول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أفواج المجرمين ، تفسيرا ل (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) :

«هم عشرة أصناف من أمتي أشتاتا ، قد ميزهم الله من جماعة المسلمين ، وبدل صورهم : فبعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكبين (منكسين) أرجلهم فوق ووجوههم أسفل ، يسحبون عليها ، وبعضهم عمي يترددون ، وبعضهم صم بكم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا ، يقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم يلبسون جبابا سابغات من قطران لازقة بجلودهم .. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس (النمامون). وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت. وأما المنكسون على رؤوسهم فأكلة الربا. والعمي من يجور في الحكم. والصم البكم ، المعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقضاة من الذين تخالف أقوالهم أعمالهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان. والذين أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله وحق الفقراء من أموالهم. والذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٠٧ ، أخرج ابن مردوية عن البراء بن عازب ان معاذ بن جبل قال : يا رسول الله (ص)! ما قول الله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)؟ فقال : يا معاذ! سألت عن أمر عظيم ، ثم أرسل عينيه ثم قال : .. وفي مجمع البيان مثله إلا يسيرا أشرنا إليه ، والأفواج المذكورون هنا هم المتخلفون من المسلمين ، فما هو ـ إذا ـ أحوال الكفار؟


(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) :

هل للسماء أبواب مغلقة قبل قيامتها فهي تفتح عندها؟ أو أنها بمجموعها تصبح أبوابا؟ علّهما معا مقصودان هنا.

نحن نعرف من أبواب السماء أبواب الماء : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (٥٤ : ١١) فهذه أبواب كانت مغلقة ولكنها فتحت على الأرض مرتين ، كما مرّتا ، وأما عند قيامتها فليست لها مياه لكي تفتح بها أبوابها ، وإنما تمور مورا وتنفطر وتنفجر وتحترق ، فأين ـ إذا ـ الماء؟

وأبواب أخرى تفتح للمؤمنين لكي يدخلوا الجنة : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٧ : ٤٠) .. إيحاء لطيف أن النار ليست في السماء ، أو ليست في سماء الجنة.

إذا فغلق أبواب السماء من هذين النوعين لا يمنع الأسفار الجوية مهما بلغت من العمق ، اللهم إلا ما يعلمه الله من أعماق السماء.

ثم الأبواب من النوع الثاني ليس فتحها للمؤمنين فتحا للسماء ككل ، ففرق بين فتح أبواب السماء وبين فتح السماء حتى تصبح أبوابا.

علّ المعنيّ من السماء الأبواب أنها إذا انفطرت ، وكواكبها إذا انتثرت ، وشمسها مع قمرها إذا جمعت ، كانت جنود السماء وقتئذ منهزمة ، فلا تمنع موانع المجرات بكواكبها ولا سائر الأجرام الجوية بأثقالها ، لا تمنع من صعود الصاعدين من المؤمنين ، ولا نزول النازلين من الملائكة : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨).

تدمّر السماء وتفطّر وترجع دخانا كما كانت بلا بروج ولا مدن ولا أبواب ولها فروج وكلها فروج ، وإلى حيث كأنها كلها أبواب ، فقد كانت بلا فروج :


(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٥٠ : ٦) ثم تصبح وكلها فروج : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٧٧ : ٩).

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) :

وعلى حد تفسير أمير المؤمنين علي عليه السّلام : «وتذل الشم الشوامخ والصم الرواسخ فيصير صلدها سرابا رقراقا ومعهدها قاعا سملقا».

سيّرت عن قواعدها لحد تصبح القواعد سرابا لا ماء فيها ولا كلاء ، وترى من صقلها أنها ماء يلمع : (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ)(٢٤ : ٣٩).

إن منشار الزلزال تنشرها عن قواعدها بسرعة لامعة محيرة لحد السراب.

والترتيب المفهوم من القرآن حول قيامة الجبال : أنها على أثر الرجفة المدمرة الأرضية تصبح كأتلال الحصى من شدة سيرها ووقعها : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (٧٣ : ١٤) ثم على أثر اصطدامات متواصلة في مسيرها تتبدل كالخمير ، ثم كالغبار المنبثّ : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٥٥ : ٥) وكالعهن المنفوش : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (١٠١ : ٤) ثم تنسف فلا يبقى إلا سراب وقاع صفصف : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (٢٠ : ١٠٦ ـ ١٠٧)؟ أرضا أملس مستوية دون انخفاض ولا ارتفاع.

فهذه الجبال الراسيات الأوتاد الشامخات تصبح هباء كالسراب ثم ماذا تكون حال الإنسان الضعيف الضعيف ـ سبحان الغفور الرحيم!

* * *


(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً) (٣٠) ..

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) :

كانت قبل القيامة منذ حلقت ، كانت مرصادا : والرصد هو الاستعداد للترقب ، فالمرصاد آلة ووسيلة مستعدة تترقب أهلها الذين يتهيئون لها بما قدمت أنفسهم ، ثم منهم وقود لها تتّقد بهم ، كأصول الكفر والضلالة : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢ : ٢٤) ثم أتباعهم الماشين على هوامش الضلالة ، هم يتّقدون بهم في مرصادهم ، و : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (٨٩ : ١٤).

فكما أنهم ـ طول حياتهم ـ مرصاد للطغيان ، كذلك جهنم مرصاد لهم : تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فتستقبلهم.

(لِلطَّاغِينَ مَآباً) :

مرجعا يرجعون إليه ، حيث كانوا يوم الدنيا في جحيم الأفكار والعقائد والأعمال والآمال دون أن تظهر لهم نارها ، ثم في رحلتهم إلى عمق الحياة يرجعون إلى ما كانوا فيه ، ظاهرة نارها : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢).


ليست النار يوم القرار شيئا جديدا ، إنما هي النار التي أوقدوها بما عملوا من قبل «واليوم يجزون عذاب الهون بما كانوا يعملون».

الخالدون في النار والجنة :

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) :

.. آية فريدة في نوعها تقرر أمد الخلود المؤبد للذين يخلدهم الله في النار آبدين ، ومنهم المذكورون هنا : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) طاغون طغوا على الله وطغوا على أنبياء الله ، وطغوا على سائر عباد الله ، عاشوا الطغيان حياتهم دون إبقاء وإن كانوا هم أيضا درجات. وليس فوق الأبد من عذاب النار عذاب ، وهو للذين كفروا وظلموا وصدوا عن سبيل الله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً. إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٤ : ١٦٧ ـ ١٦٩) (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤٣ : ٦٤ ـ ٦٥) ولمن يعصي الله ورسوله عصيانا عقديا وعمليا : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٧٢ : ٢٠ ـ ٢٣).

هذه جماع الآيات في أبد الخلود ، من عامة في الكافرين ، ومن خاصة في الظالمين منهم والمكذبين بآيات الله ، الصادين عن سبيل الله ، وتجمعهم لفظة : «الطاغين» وهم الناكرون لوجود الله أو المشركون به ـ المنكرون للقيامة المكذبون به ، والصادون الظالمون .. أولئك هم المؤبدون في النار : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) على سواء في طول أمد العذاب وهو الأبد ، وهم درجات في كيفية


العذاب : (جَزاءً وِفاقاً) يوافق قدر الكفر والجحود ، كما المؤمنون في الجنة درجات (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) (٣ : ١٦٣).

فلنعرف إذا : ما هي الأحقاب وما هو الجزاء الوفاق؟

الأحقاب : في غريب القرآن : «قيل هو جمع الحقب أي الدهر ، قيل : والحقبة ثمانون عاما وجمعها حقب ، والصحيح أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة».

أقول : وقد يؤيد : الدهر والزمن المبهم في الحقب حقب موسى عليه السّلام : (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (١٨ : ٦٠) فلا يناسب إلا زمنا مبهما ، فلو كان على علم بزمن البلوغ ما كان يتردد بين الحقب ودونه من بلوغ المجمع ، والحقب والحقب بمعنى ، وقد تؤيده مجموعة أحاديث مروية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته الكرام (ع).

فقد تذكر له معاني أخرى تحده بحدّ خاص كسنة أو سبعين أو أربعين أو بضع وثمانين وقد روي الأخيران عن النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

__________________

(١) الدر المنثور (٦ : ٢٠٨) أخرج البراز وابن مردوية والديلمي عن ابن عمر عن النبي (ص) قال : والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا ، والحقب بضع وثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم ألف سنة مما تعدون ، وأخرج ابن مردوية عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله (ص): الحقب أربعون سنة.

وقد تناسب الروايتان دهرا من الزمن ، فلكل كافر أحقاب من الخلود حسب كفره ، جزاء وفاقا ، أربعون عاما أو ثمانون أو .. وكما الأحقاب قد يفسر بثمانية ـ فيما روي عن الصادق (ع) قال : الأحقاب ثمانية أحقاب والحقب ثمانون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة مما تعدون» (نور الثقلين ٥ : ٤٩٥ ح ٢٤).

وفي نور الثقلين (٥ : ٤٩٤ ح ٢٣) القمى بالإسناد إلى حمران بن أعين قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) ، قال : هذه في الذين لا يخرجون من النار ، وفيه عن الباقر (ع) مثله.

والخروج من النار بعد مكوث الأحقاب يعني هنا خروج النار عن كيانها وفناءها بفناء أهلها ، فهو خروج عن الوجود ، وهذا هو معنى «لا يخرجون من النار» ، أي : خروجا مع بقاءها.


ومهما يكن من شيء فالذي لا يريبه شك أن الحقب زمن محدود ، عرفناه أم جهلناه ، فجمعه أيضا محدود لا تتصور فيه اللانهاية الزمنية ، التي تدّعي للمكوث في النار ، إضافة إلى سائر المشاكل الدلالية والعقلية في المكوث اللانهائي الحقيقي في النار ، وإلى أن هذه اللانهاية في العذاب ليست جزءا وفاقا ، وكيف الوفاق بين العصيان المحدود والجزاء اللامحدود؟

وهنا في معنى خلود النار وواقعه أقوال عدة بين علماء الإسلام وسواهم ، لا يوافق النقل والعقل منها إلا فناء الآبدون في النار مع النار ، ثم لا نار ولا أهل نار (١).

__________________

(١) وهي ثمانية : ١) «كل من دخلها مخلد فيها أبد الآباد بإذن الله» ذهب إليه الخوارج والمعتزلة وطائفة من الشيعة الامامية.

٢) «أهلها يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم ثم تبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم الثانوية» ابن العربي في فصوص الحكم.

٣) «أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم قوم آخرون» (عن اليهود) كما ادعوه وأجابهم القرآن (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢ : ٨٠).

٤) «يخرجون منها وتبقى نارا على حالها ليس فيها أحد يعذب» حكاه شيخ الإسلام.

٥) «تفنى النار بنفسها لأنها حادثة بعد أن لم تكن وما ثبت حدوثه استحال بقائه وأبديته» جهم بن صفوان وأتباعه دون فرق بين الجنة والنار.

٦) «تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جمادا لا يتحركون ولا يحسون بألم» أبو الهزيل العلاف إمام المعتزلة طردا لامتناع حوادث لا نهاية لها.

٧) «يفنيها ربها تبارك وتعالى ، فإنه جعل لها أمدا» ابن مسعود وأبو سعيد وعمرو و.. وهو القول المرضي لدينا على تفصيل تذكره.

٨) «يخرجون منها وينعمون بعد الخروج» ، عدة من الفلاسفة مثل الصدر والكاشاني وغيرهما.


وفيما روي عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن حفيديه الصادق والباقر عليهما السلام تلميح وتصريح أن أبد النار محدود وإن طال الزمن.

وما يروى أن آية الأحقاب في الذين يخرجون من النار يتنافى وكونهم من المكذبين المنكرين للحساب الذين تصرح الآيات بأبديتهم في النار ، فهي إذا من المجعولات مع كونها معارضة برواية أخرى عن نفس الراوي (١).

الماكثون في النار .. المخلدون :

أدلة النقل والعقل والعدل تتناصر في استنكار اللانهاية الفلسفية في العذاب مهما كانت درجة الكفر والطغيان.

فالنقل ـ قرآنيا وفي السنة ـ لا يساعد الخلود اللانهائي في النار ، والمروي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه أجاب في السؤال عن الخلود في الجنة والنار : إنما خلّد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ما بقوا فالنيات تخلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلا قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال : على نيته (٢).

هذا الحديث مضروب عرض الحائط ، على وحدته ومعارضته القرآن : أن النية السوء لا تحقق الجزاء السوء ، فلا عقاب إلا على الكفر والعمل السوء : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٤ : ١٢٣) (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

__________________

(١) نور الثقلين (٥ : ٤٩٥ ـ ٢٦) روى العياشي باسناده عن حمران قال : سألت أبا جعفر (ع) عن هذه الآية (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) فقال : هذه في الذين يخرجون من النار ، وروى الأحول مثله ويعارضه ما رواه حمران نفسه قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية قال : هذه في الذين لا يخرجون من النار.

أقول : ولعل النقل الأول خطأ بزيادة «لا» *.

(٢) بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٩٢ ج ٣٤ عن علي بن ابراهيم القمي.


(٢٧ : ٩٠) (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٢ : ١٦) .. ولأن العقوبة على النية السوء ظلم : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٦ : ٥٤) ثم هو إضافة إلى ذلك ليس جزاء وفاقا.

وأما اللانهاية في الثواب فهي رحمة من الله وفضل فوق العدل ، والواجب في العقاب هو العدل ، وفضله يتطلب إما الغفران أو تقليل العقاب ، عكس الثواب.

ثم نظرة عميقة في آيات الخلود ـ أبديا أم سواه ـ توضّح لنا أنها لا تعني اللانهاية في العذاب ، حيث اللغة والقرآن يتوافقان في أنّ الخلود محدود!

فاللغة تقول : «الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقائه على الحالة التي هو عليها ، وكلما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقاءها ثم استعير للمبقى دائما» (١).

والقرآن يصدق القسم الأول من معناه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٤ : ٥٦).

فلا يعني الخلود إلا طول المكوث ، أو أبد المكوث إذا كان أبديا ، ووصف الخلود بالأبد أحيانا ، وتركه أخرى ، يشهد أنه ليس المكوث الأبد ، وكما أن الأبد لا يعني اللانهاية الفلسفية ، وإنما البقاء طوال الحياة كما الآيات تشهد : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) (٩ : ٨٤) (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (٢ : ٩٥) (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها)

__________________

(١) غريب القرآن للراغب ، وفي لسان العرب أن الخلود هو دوام البقاء في دار لا يخرج منها ، والإبطاء عن الشيء كما يقال : خلد : أبطأ عنه الشيب ، ويقال للرجل إذا بقي سواد رأسه ولحيته على كبره : إنه لمخلد ، وللذي يسقط أسنانه من الهرم : مخلد ، والخوالد الجبال والصخور لطول بقاءها بعد دروس الاطلال ، وأخلد الرجل بصاحبه إذا لزمه.


(٥ : ٢٤) (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) (٩ : ٨٣) (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) (٩ : ١٠٨) فلا يعنى من الأبد هنا إلا مدى الحياة ، هذه حال الأبد فكيف الخلود؟

فهل يعقل أن الكافر ـ أي كافر ـ يزعم بقاءه على الأرض حيا لغير النهاية ، أو طوال عمر الأرض؟ : «ولكنه أخلد إلى الأرض (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٧ : ١٧٦) (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (١٠٤ : ٣).

فهل نكذّب القرآن هنا وهناك لكي نصدق زعم اللانهاية الفلسفية في الخلود ، دون أي سناد ، إلا شهرة سوقية متحللة عن أي برهان؟

فمن الخالدين في النار من يخرج منها بعد زمن طويل أو أطول حسب ما يستحقه من العذاب (١) ، ومنهم من يحبس فيه ويعذّب مدى الحياة المعبّر عنه بالخلود الأبد : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) (٣٥ : ٣٦) (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) (٢٢ : ٣١) (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) (٤ : ١٢١) (.. وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٤٣ : ٧٧).

فهؤلاء هم المؤبدون بدوام النار ثم يقضى عليهم مع النار ، فلا تبقى نار ولا أهل نار.

__________________

(١) كما في الآيات : ١٠ : ٥٢ و ٣٢ : ١٤ و ٤١ : ٢٨ و ٤ : ٩٣ و ٩ : ٦٣ و ٥٩ : ١٧ و ٢ : ٣٩ و ٨١ و ٢١٧ و ٢٥٧ و ٣ : ١١٦ و ٥ : ٨٠ و ٧ : ٣٦ و ٩ : ١٧ و ١٠ : ٢٧ و ١٣ : ٥ و ٢١ : ٩٩ و ٢٣ : ١٠٣ و ٤٣ : ٧٤ و ٥٨ : ١٧ و ٢ : ١٦٢ و ٣ : ٨٨ و ٩ : ٦٨ و ١٦ : ٢٩ و ٢٠ : ١٠١ و ٣٩ : ٧٢ و ٤٠ : ٧٦ و ٦٤ : ١٠ و ٩٦ : ٦.

وهذه هي موارد الخلود غير المؤبد ، إما لاختصاصها بغير الآبدين أو اعتبارا بجمعهم مع الآبدين ثم لا تجد أبد الخلود في النار إلا في ٤ : ١٦٩ و ٢٣ : ٦٥ و ٧٢ : ٢٣ و ٢ : ١٦٧.


ولاختلاف أمد الخلود ترى فرقا من الكفار ينص على خلودهم بالأبد ، كالمشركين المكذبين الصادين عن سبيل الله ، وفرقا أخرى بالخلود دون الأبد ، كفساق المسلمين وأهل الكتاب غير المشركين : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ..) (٩٨ : ٦ ـ ٧).

هنا ـ رغم تأبيد الخلود للمؤمنين ، لا يؤيده لأهل الكتاب والمشركين ، رعاية للأولين إذ لا يخلد أهل الكتاب أجمعين ، ثم آيات أخرى تخص الخلود الأبد بالمشركين ومن نحى منحاهم.

ولمحة أخرى لحد الخلود توحيها الآيات التي تحده ما دامت السماوات والأرض وبمشيئة الله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦ : ١٢٨) (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١١ : ١٠٥ ـ ١٠٧).

فإنها تقيّد وتحدّ الخلود بدوام السماوات والأرض مرة ، ثم بأقل منه حسب مشيته الله تعالى ـ أخرى.

وبعد هذه الدلالات القرآنية واللغوية لا نجد ما يعارضها دلالة على المكوث اللانهائي فلسفيا في النار ، لا كتابا ولا سنة ولا عقليا ، بل العقل حجة قاطعة على تزييف أسطورة اللانهاية في العذاب ، فهل تجد عاقلا مهما بلغ من الظلم والبربرية والوحشية والخشونة أن يحكم بعذاب اللانهاية على من عصاه طوال عمره؟ كلا! فغاية الأمر تعذيبه لزمن ثم إعدامه بالمرة ، فما ذا تظن إذا برب العالمين الذي سبقت رحمته غضبه ، وليس عذابه انتقاما ، وإنما جزاء وفاقا ناتجا عن ذات العمل ، إلى حيث يعتبر الجزاء نفس العمل : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٦ : ٥٤).


ولأن العمل ـ أي عمل ـ محدود بطبيعة الحال ، زمنيا وفي كيانه وأثره ، فليكن الجزاء الذي لا يزيد عن العمل ـ بل هو نفس العمل بملكوته وذاته ـ ليكن ذلك الجزاء أيضا محدودا ومماثلا له في السوء : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٤٠ : ٤٠).

فهل يا ترى أن اللانهاية في عذاب الخالدين أبديا ـ أنها الجزاء المثل الوفاق ، وهل إنها هي العمل بذاته؟ فكيف بالإمكان عقليا جعل المحدود غير محدود ، وكيف بالإمكان في عدل الله تعالى أن يزيد على العمل السوء المحدود زيادة لا محدودة ولو أمكن عقليا؟ وكيف نسمح لأنفسنا كموحدين أن نظن هكذا ظلم وقساوة برب العالمين؟ إن هذا إلا افتراء على الله أن يخالف العقل والعدل والرحمة التي كتبها على نفسه ، وكتابه الدال على حدود العذاب.

إننا نصدق إمكانية اختلاف السيئة وعذابها في الزمن ، فلا اعتبار بالزمن ، فكم من عصيان في زمن قليل له من الأثر السوء ما لا يساويه إلا آلاف أضعافه من الزمن ، وكم من عصيان في زمن طويل يقل عن الأول بكثير ، فالحد الزمني ليس هو المقياس في حد العذاب ، وإنما الآثار هي المدار في الجزاء.

نحن نصدق هكذا اختلاف ولكننا نحيل الاختلاف بالنهاية في العصيان واللانهاية في العذاب ، إحالة بسناد العدل والعقل والنقل.

ثم لنفرض إمكانية اللانهاية في العذاب وأنها عدل توافق العقل ، فأين رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه؟ «ولذلك (الرحمة) خلقهم»!

من موانع المكوث اللانهاني في النار :

أنّ الرحمة هي المقصودة في الخلق مبدئيا دون الغضب ، ومن سبق الرحمة وأصالتها لا نهائيتها في الجنة للمؤمنين ، فليس الغضب المسقوق ـ العدل ـ هو اللانهاية ولو كان فلتقتض الرحمة للغصب أمدا ، فما كان بالرحمة وللرحمة فهو


مقصود لذاته قصد الغايات ، وما كان من موجب الغضب فهو مقصود لغيره قصد الوسائل ، فالعذاب مسبوق مغلوب ، والرحمة سابقة غالبة ورحمته وسعت كل شيء دون غضبه ، فلتشمل أهل النار ، رحمة مكتوبة على الله للصالحين من عباده ، وأخرى راجحة للطالحين منهم : «ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين آمنوا وكانوا يتقون» فليعذب الآخرون دون استحقاقهم.

ثم النار إنما خلقت تخويفا للمؤمنين وتطهيرا للخاطئين أو تدميرا وإفناء لهم أخيرا ، فهي ـ إذا ـ طهرة من الخبث الذي اكتسبته النفس في عالم التكليف ، فإن تطهرت منه هنا بالتوبة النصوح والحسنات الماحية والمصائب المكفّرة ، لم تحتج إلى تطهير هناك في عالم الحساب ، وقيل لها في جملة الطيبين : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ، وإن لم تتطهر هنا ووافت البرزخ بدرنها أدخلت نار البرزخ طهرة لها ، وإن بقيت دنسة لم تتحلل عن كامل خبثها دخلت نار الآخرة وعذّبت لحد الطهارة ، فإن الدرن الناتج عن العصيان له حد أيا كان ، وفيما إذا أصبحت النفس درنا لا يزول فمقتضى العدل أو الفضل والرحمة ، إفناءها بنارها ، إذ ليست العقوبة إلا للتطهير ولم يحصل ، أو للفرق بين المسلمين والمجرمين وقد حصل : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٦٨ : ٣٥) (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٣٢ : ١٨) (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨ : ٢٧ ـ ٢٨).

ويكفي فرقا بين الفريقين عقوبة الفجار لحد ما ، جزاء وفاقا ، حيث يحرمون الرحمة زمن العقوبة ، ثم ليست مواصلة العذاب لغير النهاية ضرورة أو رجحانا تنتج الفرق بين الفريقين ـ اللهم إلا عبثا وظلما ـ تعالى الله عنهما علوا كبيرا.


٣ ـ إن الله تعالى لم يك يعامل الخلق إلا بفضله دون عدله ، فالجنة الخالدة اللانهائية للصالحين ليست إلا من فضله ، إذ هم لم يعملوا الصالحات إلا لصالحهم دون استحقاق للجزاء إلا فضلا وإحسانا من الله في أصل الجنة وخلودها اللانهائي.

ونرى أنه يجازي بالحسنة عشرا وأعشارا ويزيد ، ولا يجازي على السيئة إلا مثلها ويعفو عن كثير ، بتوبة أو شفاعة أو تكفير : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١١ : ١١٤) (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢٥ : ٧٠).

ولو أن الله عامل خلقه بعدله دون فضاء لم ينج أحد من عذابه أو لم يستحقوا رحمته.

٤ ـ إن العفو أحب إليه من الانتقام ـ لو كان العذاب انتقاما ـ وكما أمرنا بالعفو عمّن ظلمنا : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢ : ٢٣٧).

إذا فكيف لا يخفف عن أهل النار عذابهم اللانهائي ، لو كان هو الحق العدل؟! هذه مما يبرهن لنا فناء النار بأهلها ، وخروج غير الآبدين قبل استحقاقهم ، وكما يغفر المذنبين فضلا منه ورحمة.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. جَزاءً وِفاقاً) :

هناك حرمان من ذوق البرد والشراب إلا حميما وغساقا .. بدل البرد حميم ، وبدل الشراب غساق.


فما هو البرد وما هو الشراب؟

البرد كل ما يبرد الجسم ـ ظاهره وباطنه ـ من هواء بارد ، وريح ناعمة ، وظل ظليل ، ومن ماء يغمسه أو يغسل به بدنه أو يشربه .. لا يذوقونه ذوقا ، في أيّ من هذه ، فضلا عن أن يستفيدوا منه بشرب أم سواه.

بردا يعم الشراب وسواه ـ (وَلا شَراباً) يبرد الباطن فيريح الظاهر ، شرابا ينوب البرد في التبريد ـ أيّ تبريد ـ لا يذوقونه فضلا عن شربه.

ليس للطاغين برد ولا شراب إلا حميم وغساق : الماء الساخن الذي يشوي الوجوه والخلوق والبطون : (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) .. فهذا هو بردهم ، والغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل ، ويغسق على الإنسان حياته كغسق الليل ، وهذا هو شرابهم : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (١٨ : ٢٩).

جزاء وفاقا : إن جهنم المرصاد المآب ، ولبثها الأحقاب ، وعدم ذوق البرد ولا الشراب ، كل ذلك جزاء وفاق ، لا يزيد عما قدموا لأنفسهم أو قد ينقص.


(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً. فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً).

إن مهمة اعتناق عقيدة الحياة بعد الموت ، تنحو نحو الحساب ، وإذ لا تصديق بالحساب الحق فلا يجدي الاعتراف بالحياة الأخرى نفعا.

لذلك تركّز الآية على (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) وإن كانوا يرجون حياة أو لا يرجون ، فإن رجاء الحساب هو أقل ما يدفع الإنسان إلى الصالحات رجاء الثواب ، ويمنعه عن محارم الله رجاء العقاب (١) ، ثم فوقه الإيقان بالحساب ، والموقنون أيضا درجات.

هؤلاء الطاغون لم يكن الحساب عندهم حتى ولأدنى ما يجب ، أن يرجوا حساب الله الذي وعده وأكّد عليه .. كانوا يعيشون نكران الحساب ، فأخذوا حريتهم في حيونة الحياة كأنهم يعلمون ألّا حساب! ..

(كانُوا لا يَرْجُونَ) : لا يأملون ولا يخافون حسابا ، أي حساب ، قليلا ولا كثيرا ، فقد تركوا ما فيه أمل الثواب واقترفوا ما فيه خوف العقاب ، ولو أنهم أملوا الثواب لأقبلوا إلى الطاعات ، ولو أنهم خافوا العقاب لأدبروا عن موجبات العقاب ، ولكنهم كانوا لا يرجون حسابا أي حساب : رجاء الثواب أو خوف العقاب ، ثم وكذبوا بآيات الله الكذاب.

(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) : كذبوا بالآيات الآفاقية والأنفسية ، التكوينية والتشريعية ، إذ كذبوا بآيات الله الواقعية والعقلية والفطرية ، التي تدل على وجوده وتوحيده ، وكذبوا بآيات النبوات : معجزات الأنبياء ، فكذبوا الرسل وكذبوا بآيات الوحي في كتابات السماء ، ومن ضمنها كذبوا بآيات الحساب.

__________________

(١) الرجاء من اللغات المتضادة جاءت بمعنى الأمل والخوف وقد نعنيهما معا كما هنا.


كذبوا بهذه الآيات الإلهية رغم أنها آيات : علامات قاطعة تدل على أنها إلهية ، لمن أبصر بها وتذرع لمعرفة ما وراءها ومعها من حقائق إلهية.

كذبوا بها كذابا : تكذيبا عجيبا في أصله وفي كيفيته ، في أصله أن كذبوا ما أحاطت به بينات الصدق ، وفي كيفيته أن كرّسوا كافة طاقاتهم وإمكانياتهم في تكذيبها ، فأصبح تكذيبهم عجبا على عجب : «كذابا» *! فجرس اللفظ يوحي بشدة التكذيب كما المعنى يسانده في جرسه .. (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً)!

كتب الأعمال الضوئية والصوتية :

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) :

الإحصاء هو الضبط أيا كان ، والكتاب هو المكتوب الثابت منه واقعيا ، فكل شيء : من أقوال وأعمال وأفكار ، أحصاه الله تعالى إحصائا كتابيا ، لئلا تذهب هدرا ، ولكي تبقى حجة تنطق على العاملين : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٥ ـ ١٦) فهذا كتاب في عمق الذات. يكتب الله تعالى على جوانح المكلفين وعلى جوارحهم صور الأعمال وأصوات الأقوال ـ الصادرة عنها ـ ويا له من كتاب لا سبيل إلى نكرانه ، لأن الله هو الذي استنسخ كل شيء في عنق الإنسان : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٨ ـ ٢٩) فهل يا ترى إن الاستنساخ الإلهي يكون عن أسماء الأعمال؟ فليس هذا استنساخا! إنما هو عن أصول الأعمال بصورها وأقوالها وأحوالها .. استنساخا في كتاب الذات وفي الأرض وجوّها ، وفيما لا نعلمه والله يعلمه.

هذه الأرض التي نعيش عليها هي كتاب آخر لأعمالنا وسوف (تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ).


كتاب وكتب إلهية تضبط كل شيء دون مغادرة ولا مثقال ذرة : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٨ : ٤٨) (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٣٠).

وكل شيء أحصيناه كتابا : إحصائا كتابيا في إمام مبين : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٣٦ : ١٢) وعلّه كتب الأعمال أو تشملها وما في اللوح المحفوظ .. كتب الأعمال : النفسية والأرضية ، وشهود الأعمال ملائكية ورسالية ورسولية .. شهود وشهود تشهد بالحق دون إمكانية النكران بحقهم ، فإنهم يشهدون علينا معنا : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٤ : ٢٥ ـ ٢٦).

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) : ذوقوا أعمالكم لا أقل ولا أكثر ، فنفس الأعمال بظهورها في حقائقها ، هي الجزاء لا سواها : و (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٧ : ٩٠) فلن نزيدكم باستدعاء الغفران إلا عذابا تستحقونه ، جزاء وفاقا ، إذ إنكم ما كنتم تزدادون ـ على ضوء الآيات البينات ـ إلا كذابا (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).

فأصل العذاب بأصل الطغيان ، وازدياده بازدياده ، كل على حسبه ولا ظلم اليوم.

فهؤلاء هم الطاغون ، ثم ما هي حال المتقين؟ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ..).

* * *


(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠)

. لما كانت جهنم مرصادا ومآبا للطاغين ، دون انفلات منها ولا جواز عنها ، فإن المتقين ، الذين اتقوا وتحذروا عن الجحيم يوم الدنيا ، إن لهم هناك مفازا : ظفرا بالخير على سلامة في كيانهم من الشر : خيرا على خير يوم الآخرة ، كما كانوا خيرا على خير يوم الدنيا .. إنهم ينتهون إلى مفازة ومنجاة عن الجحيم إلى الجنة : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٦ : ١٦) (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) (٣٩ : ٦١) (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) (٤٨ : ٥) (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥٠ : ٩) ، فالمفاز كيانه ازدواجية الخير : بعدا عن النار ودخولا في الجنة.


مفازا روحانيا إلى جنة الرضوان : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ١١١) .. ومفازا جسدانيا إلى جنة النعيم : (حَدائِقَ وَأَعْناباً. وَكَواعِبَ أَتْراباً. وَكَأْساً دِهاقاً) .. فائزين كلتا الجنتين : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥ : ٤٦ ـ ٤٧).

إن للمتقين مفازا ، يتمثل ـ جسدانيا ـ في أفضل المناظر : حدائق وأعنابا ـ وجنسيا ـ في أجمل البنات : وكواعب أترابا .. وجوا بعيدا عن كل أذى : لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا .. حياة مصونة من اللغو ومن التكذيب الذي يصاحبه الجدل وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود.

حدائق ذات بهجة .. غلبا ، لا كغلب الدنيا وبهجتها فإنها مثال ضئيل عما في الجنة ، والحديقة قطعة من الأرض ذات ماء وكلاء ، محصورة بجدران وأبواب تحدق بها من أطرافها ، إيحاء إلى صلوحها للسكن دون فوضى ولا تدخل لغير صاحبها فيها ، مستورة عن الناظرين إليها.

حدائق تضم من كافة الأشجار والفواكه والوردان ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ومن أعمها نفعا ، وأتمها فائدة ، وأقواها غذاء ، وألذها طعما هي الأعناب.

(وَأَعْناباً) :

تستحق التخصيص بالذكر أكثر من كل الفواكه لجمعها فوائدها وزيادة .. تذكر في عشر مواضع دون سواها من الفواكه (١).

فهي شراب وإدام وطعام ودواء وفاكهة ، تأتي إلى السوق قبل الفواكه وتخرج بعدها ، ويابسها تحفظ خواص رطبها ، فهي مثال تام عن عالم الفواكه.

__________________

(١) كما في الآيات التالية : ٢ : ٢٦٦ ، ٦ : ٩٩ ، ١٣ : ٤ ، ١٦ : ١١ و ٦٧ ، ١٨ : ٣٢ ، ٢٣ : ١٩ ، ٣٦ : ٣٤ ، ٧٨ : ٣٢ ، ١٧ : ٩١ ، ٨٠ : ٢٨.


(وَكَواعِبَ أَتْراباً) :

إن دور الجنس يأتي بعد مهمة المسكن والغذاء وإن كان قبلهما في الاندفاع ، إلا أنه ناقص ما لم تتم معداته ، وقد يجرف بالإنسان إلى شفا جرف الهلكات النفسية والاقتصادية إذا لم تكمل الظروف.

والكواعب جمع كاعب : هن الفتيات النواهد (١) : المستدارة ثديهن مع ارتفاع يسير ، والملتحمة أفخاذهن وصدورهن ووجوههن ، فلهن الكعاب المطلوبة في النساء في مختلف المواضع من أبدانهن.

والأتراب هي المماثلات المتوافيات السن والجمال مع لداتهن (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) (٢٨ : ٥٢) (عُرُباً أَتْراباً) (٥٦ : ٣٧) وعلّه مع أزواجهن أيضا : أترابا مع اللدات وأترابا مع الأزواج. في الكفاءة لا في العمر (٢).

إن الثدي الليمونجية ومماثلة اللدات جعلت هذه الفتيات كأجمل ما يتصور ، فكعب الثدي بداية لسن البلوغ ، وهي أفضل سنيّ التمتع ، وترب العمر والجمال يقضي على التفاضل والتفاخر بينهن ، وعلى التسابق والتحاسد في تخيرهن ، فقد زودت وزينت الجنة لأهلها بما لا يأتي بحرمان ولا نقصان أو عقد نفسية ، فهي دار التواسع لا التضايق ، رغم الحياة الدنيا التي هي دنيا مهما بلغت من السعة والجمال.

__________________

(١) كما عن الامام الباقر (ع) نور الثقلين ٥ : ٤٩٥ ح ٢٨.

(٢) وقد يستفاد من قوله تعالى :«إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً» أنه مماثلتهن مع لداتهن ، أو ومماثلتهن مع الأزواج في الكفائة ، وأما في العمر فالأمر فيه بالعكس كلما كانت الزوجة أصغر كانت ألذ.


(وَكَأْساً دِهاقاً) :

هي الممتلئة المترعة المتتابعة (١) تقدّم إلى المتقين بأيدي الكواعب الأتراب.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) :

.. لا بصورة عامة إذ الجو جو الجد والصدق .. ولا عن الكأس الدهاق بما فيها الخمر ، فما هي إلا : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٣٧ : ٤٦ ـ ٤٧) : لذة لأذواقهم ، ولذة لعقولهم وأرواحهم ، تزيدهم عقلا إذ ليس فيها غول «فساد» * ، ولا هم عنها ينزفون «لا يسكرون» فهي تجمع لذات الخمر وزيادة فوق الوصف ، وليس فيها غولها ونزفها ، لا جسدانيا ولا روحيا : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٥٢ : ٢٣).

فخمر الدنيا تخمر العقل وتستره عن إنارته ، وخمر الآخرة تخمر الجهل وتزيد العقل إنارة ، فهم يخمرون والهين في معرفة الله وحبه.

.. هذه مناعم محسوسة الظاهر مجهولة الحقيقة لأهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها المحدودة.

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) :

إذا كان جهنم للطاغين جزاء وفاقا لا تزيد عما قدموا لأنفسهم ، فالجنة للمتقين أيضا جزاء ، ولكنها جزاء العطاء لا الجزاء الوفاق ، لو لا العطاء هنا لم يكن جزاء ، أو هكذا جزاء ، ونفس التعبير بالجزاء أيضا عطاء ، فما هو جزاء من عمل لصالحه في نضد الحياة ، دون أن يرجع لفائدة وعائدة لرب العالمين : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٩٢ : ١٩ ـ ٢٠).

__________________

(١) ابن عباس فيما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير ـ وهو المعنى الجامع لمعاني اللفظة.


إنه ليس الجزاء للمتقين إلا بالوعد الإلهي عن فضل وعطاء ، لا العدل الذي هو الجزاء الوفاق ، ولكنه للطاغين جزاء وفاق كأكثر الجزاء ، اللهم إلا أن يشملهم بعض الغفران أو بعضهم.

عطاء حسابا : عطاء محسوبا كجزاء فضلا من الله وإحسانا ، وعطاء على حساب الوعد دون الاستحقاق ، وعطاء وفق الحساب ، فلكل عطاء حساب ، لأن المتقين درجات ، وحساب البعض منهم هو الرزق بلا حساب (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) : لا يدخل تحت حسابنا وإن كان عند الله مقدرا معلوما.

عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام : «.. حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً)(١).

إن جزاء الطاغين جزاء وفاق لم ينسب إلى الرب : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً. لِلطَّاغِينَ مَآباً) ، ولأنه ليس انتقاما ، وإنما ظهور لحقائق الطغيان ، فالجزاء هو الأعمال ، منهم لا من ربك (جَزاءً وِفاقاً).

لكنما جزاء المتقين هو من ربك جزاء العطاء ، لو لا فضل الربوبية ووعد العطاء لم يكن لهم ذلك الجزاء ، ولكنه الرب المعطي يعطي الجزاء العطاء الحساب (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً).

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) :

ربك .. رب السماوات : لو لم يكن ربك لما كان رب السماوات ، فإذ قدّر

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٩٥ ح ٢٩ ، أمالى الطوسي باسناده إليه (ع) في حديث طويل.


أن يكون ربك ، قدر أن يكون رب السماوات أيضا ، وكما قال : «لولاك لما خلقت الأفلاك» : إن ربك طوى فيك ما طواه من خيرات في الأرض والسماوات وما بينهما ، وفيك مزيد ، تستحق به أن تكون غاية لخلق الكون.

ربك رب السماوات ، دون أن تكون للسماوات والأرض أرباب سواه زعم المشركين ، ولك رب تزعمه! انما هو رب واحد لا رب سواه ولا معبود إلا إياه.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) : بالرحمة العامة الشاملة لكائنات العالم ، وربك : بالرحمة الرحيمية الخاصة للصالحين من خلقه ، وأنت مجمع الرحمتين : الرحيمية برسالتك المحمدية العظمي ، والرحمانية بما أودع فيك ما في الكائنات كلها.

«الرحمان» : ومن رحمته الثواب وكذلك العقاب ، فمن الرحمة أن يجد الشر جزائه ، وألّا يتساوى مع الخير في مصيره ، كما من العذاب مساواة المصير.

(الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) : رحمة يصاحبها الجلال والهيبة في ذلك اليوم المهيب الرهيب ، يغمر الجو بالروعة والجلال والرهبة والوقار.

(لا يَمْلِكُونَ) : الكائنون في المحشر كلهم ، من الملائكة والروح والإنس والجن ، الصالحون منهم والطالحون.

(لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) : لا خطابا يخاطبوه به فيما فعل أو يفعل بحق المؤمنين والمجرمين ، ف (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢١ : ٢٣).

ولا خطابا يطلبون به منه شفاعة وغفرانا أو مزيدا أو نقصانا (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٢٠ : ١٠٩) (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (١٩ : ٨٧).


ولا خطابا منه يخاطبهم به ، لا يملكون أي كلام وخطاب من الله لهم أو منهم إليه ، فله الأمر وله الحكم ، لا مدخل لأحد في أمره إلا بإذنه ، ولا يشفعون إلا بإذنه.

فليس كما يزعم : أن لأولياء الله هناك ما يشاءون ، فما يشاءون إلا أن يشاء الله كما كانوا يوم الدنيا.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) :

إنه يوم القيامة والقيام : يوم يقوم الموتى عن أجداثهم ، يوم يقوم الأشهاد ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم يقوم الروح والملائكة : يوم القيامة الكبرى!

مقابلة الروح وردفه بالملائكة هنا توحي أنه من غير الملائكة : إنه عظيمهم وزعيمهم الآمر الناهي فيهم ، وكما في آيات عدة تستعرض عروجهم : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٧٠ : ٤) ونزولهم على منزل القدر والرحمة : قلب محمد أو قلب محمدي : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (٩٧ : ٤) وكما في المروي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : سبوح قدوس رب الملائكة والروح(١).

إذا فالروح هو خلق أعظم من الملائكة ومن جبرئيل كما يروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام (٢) وعن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إنه جند من جنود

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٩ ، أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة أن رسول الله (ص) كان يقول في ركوعه : ..

(٢) نور الثقلين ٥ : ٦٣٨ ح ١٠٤ ، أبو بصير قال : قلت للإمام جعفر الصادق (ع): جعلت فداك الروح ليس هو جبرئيل؟ قال : الروح أعظم من جبرئيل ، إن جبرئيل من الملائكة وإن الروح هو خلق أعظم من الملائكة ، أليس الله يقول : تنزل الملائكة والروح؟ وعن ـ


الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل ثم قرأ : يوم يقوم الروح ..» (١).

هذا الروح العظيم وهؤلاء الملائكة الكروبيون يقومون ـ يوم الطامة الكبرى ـ صفا ، لا يتكلمون في شفاعة وسواها ، إذ لا يملكون من الله خطابا ، إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا ، فالكلام المأذون مقيد بالصواب ، كما الصواب أيضا مقيد بالإذن.

هذا الموقف الرهيب الذي لا يتكلم فيه المقربون إلا بإذن وحساب وصدق وصواب ، إنه يغمر جو المحشر بالروعة والوقار ، وعندئذ تنطلق صيحة الإنذار للسادرين في الغفوة والخمار :

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) :

مآبا ومرجعا إلى ربه ، حسب ما تصبّغ بصبغته أو تخلف ، إما مآبا إلى جهنم المرصاد ، أو الجنة العطاء الحساب (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢).

(فَمَنْ شاءَ) يوم الدنيا وحقق مآبه «اتخذ» * بما قدمته يداه (إِلى رَبِّهِ مَآباً) جزاء وفاقا أو عطاء حسابا.

__________________

ـ الباقر (ع) مثله ح ١١٠ ويلمح إليه ح ١٠٨ ص ٦٣٩ المصدر. وقد يروى أنه ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل كما عن تفسير القمى عن الصادق (ع) في الآية : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ..) قال : «الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل وكان مع رسول الله وهو مع الأئمة».

ومقتضى العرض على القرآن ترجيح السابقة لملائمتها المقابلة بين الروح والملائكة في آيات ثلاث ، إضافة إلى أن الروح الذي يتنزل مع الملائكة ليلة القدر لا يمكن أن يكون مع المعصومين دائما ، فكيف الملائمة بين التنزل عليهم ليالي القدر والمقام معهم طوال الزمن؟

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٩ ، أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (ص) قال : ..


(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) :

«أنذرناكم» بالنذر : نذر القول والفكر والفطر ، ونذر الرسل ووحي السماء.

(عَذاباً قَرِيباً) : محتوما ، فإن كل آت قريب ، قريبا في العقول ، وقريبا في واقعه إذ يبتدأ به منذ تفارق الروح جسدها ، ثم (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (٤٢ : ١٧) (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (١٧ : ٥١). (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) (٧٠ : ٧).

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) : ينظر أعماله بصورها إذ تحضر عنده : (يَوْمَتَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠) .. وبحقايقها التي هي جزاؤها ، نظرا في أعماقها وفي أعماق ذاته نفسه : ف (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٧ : ٩٠).

(وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) : ١ ـ كنت ترابا كما كنت قبل أن أخلق ، ٢ ـ أو كما صرت ترابا بعد الموت ، فكنت كما كنت دون أن أحشر ، ٣ ـ أو كما تصبح غير المكلفين من الحيوان ـ ترابا ـ بعد حساب قصير يسير ، ٤ ـ أو كنت ترابا لرب الأرباب خاضعا غير متخلف عن أوامره (١) .. يا ليتني كنتها ،

__________________

(١) كما يروى عن النبي (ص) ففي العلل باسناده إلى عباية بن ربعي قال : قلت لعبد الله بن عباس لم كنى رسول الله (ص) عليا أبا تراب؟ قال : لأنه صاحب الأرض وحجة الله على أهلها بعده ، وبه بقاءها وإليه سكونها ، ولقد سمعت رسول الله (ص) يقول : إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعد الله تبارك وتعالى لشيعة علي من الثواب والزلفى والكرامة قال : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي من شيعة علي (ع) وذلك قول الله عز وجل : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) وعن الصادق (ع) في الآية «يعني علويا يوالي أبا تراب» (البرهان ج ، ص ٤٢٣ ح ١). أقول : وهذا من الجري والتطبيق والتأويل وليس تفسيرا ، إنما مثال لأكمل ما يجب على المسلم ، أن يضيف ولاية علي إلى ولاية الرسول (ص) وكما عن شرف الدين النجفي بعد نقله الرواية الأخيرة : «وجاء في باطن تفسير أهل البيت ما يؤيد هذا التأويل».


ف (لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٦٩ : ٢٦ ـ ٣٢).

فقد يعنى من (كُنْتُ تُراباً) كل هذه المعاني الأربعة ، وتأوّه الكافر وتحسره عما قصر أمر واقع لا مرية فيه يوم الطامة الكبرى.

إنه يرى انعدامه وصيرورته إلى عنصر مهمل زهيد ، يراه أهون من مواجهة هذا الموقف الرعيب الرهيب يوم النبإ العظيم.

أو يرى لو أنه كان ترابا لرب الأرباب دون عصيان وطغيان ، لكان في هذا اليوم العصيب من زمرة الناجحين.

فيا ليت كان لا يحشر وظل ترابا من البداية ، أو لا يحشر بعد ما صار ترابا ، أو حشر ترابا لرب الأرباب.


سورة النازعات ـ مكية ـ وآياتها أربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤)

.. آيات تخلق هزة في الحس وتوجسا في الشعور ، وتوقعا لشيء مجهول يروع ويهول من أمر الراجفة والرادفة والطامة الكبرى ، يقسم بها الله بطاقات أعدها لما يريده ليوم الزجرة الواحدة فإذا هم بالساهرة.

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) :

القوات النازعات ، ملائكية وبشرية ونجومية وسواها ، دون اختصاص


بالملائكة كما يظن ويتوهم ، ولأنهم ليسوا مؤنثين : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) (٥٣ : ٢٧)(١).

«غرقا» النازعات التي تنزع وتجذب الغرقى من الغرق ـ ١ ـ الأرواح الغريقة في الأبدان ، الراسبة الثابتة فيها كأنها هي هي بعينها ، إذ الغرق هو الرسوب في الماء وفي البلاء ـ ٢ ـ والأرواح مع الأجساد الغريقة في أكناف العالم وأعماقه بعد الموت ـ ٣ ـ والأرواح الكافرة الغريقة في حيونة الحياة ـ ٤ ـ والأرواح المؤمنة الغريقة في مرضاة الله رغم طبائع الأبدان الدافعة إلى خلافها (٢).

«غرقا» : القوات الغارقة في الأبدان لانتزاع أرواحها ، والغارقة في العالم لنزع أمانات الأرواح والأبدان ، والغارقة في الأعماق لتنزع الرواسب إلى الساهرة.

__________________

(١) إن الملائكة ليسوا إناثا ولا ذكورا ، ولا يؤتى بضمير التأنيث إلا للأنثى ، ويؤتى بضمير التذكير لغيرها ، ذكرا ، أم لا ذكرا ولا أنثى كما الله تعالى وملائكته ، ولم يأت القرآن للملائكة بضمير التأنيث بتاتا ، إذا فالمناسب هنا كون النازعات هي القوات الشاملة للملائكة وسواهم.

وفي الدر المنثور ٦ : ٣١٠ ، أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي (ع) في قوله : «وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً» قال : هي الملائكة تنزع أرواح الكفار ، والناشطات نشطا هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها ، والسابحات سبحا هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض ، فالسابقات سبقا هي الملائكة يسبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله ، فالمدبرات أمرا قال هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة.

أقول : هذا من باب الجري والتطبيق على المصاديق البارزة في بعض أفعالها. فهو بعض من بعض من المذكورات في هذه الآيات ، واختصاصها بالملائكة تشبه مقالة الكفار (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) كما قاله أبو مسلم بن بحر الأصفهاني.

(٢) كل هذا إذا كان غرقا مفعولا به وبمعنى المفعول للنازعات أي غريقا ، ثم الأخير على كونه حالا من النازعات بمعنى الفاعل ، والظاهر قصدهما معا.


(النَّازِعاتِ غَرْقاً) : التي تنزع الرواسب الغرقى ، وهي تغرق لكي تنزع الغرقى :

١ ـ من الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة ، كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المد ، كما يروى عن علي أمير المؤمنين عليه السّلام.

٢ ـ والموت الذي ينزع النفوس إلى البرزخ ، من المؤمنين ومن الكفار ، كما يروى عن جعفر الصادق عليه السّلام.

٣ ـ والملك الذي يتوفى الأرواح والأجساد دون أن تضل في الأرض فتضيع : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١٠ ـ ١١).

٤ ـ والقدرة الإلهية النازعة للأعمال والأقوال ، الغريقة في فضاء العالم ، فإنها تنتزعها وتحافظ عليها لتشهد يوم يقوم الأشهاد.

٥ ـ والطاقات الإيمانية التي تنزع الأرواح الغريقة في الأبدان ولكي تعكس أمر الحياة الدنيا الجسدانية إلى الحياة العليا الايمانية.

٦ ـ والنجوم التي تنزع من أفق لتغيب في آخر : تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها.

٧ ـ والقسيّ النازعة بأسهمها ، إذ تمد يجذب وترها إغراقا في المد ، قسي المجاهدين في سبيل الله التي تنزع غرقا ، تنزع بأسهمها فتنتزع أرواح الكفار الغارقة في حيونة الحياة.

قسما بهذه النازعات غرقا ، الغارقات في نزعها ، الجاذبات الغرقى :

(أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (لِتُجْزى كُلُ


نَفْسٍ بِما تَسْعى) فإنها محضرة بسعيها ، منزوعة عن رسوبها المزعوم إلى دار الجزاء.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) :

في غريب القرآن : ثور ناشط أي خارج من بلد إلى بلد ، والنشط هو العقد الذي يسهل حله ، وفي غيره أنه حل العقد أيضا ، فالنشط إذا هو التنقل في البلاد لعقد يسهل حلّه أو حلّ عن العقد.

القوات الملائكية التي تحل عقد الأرواح عن أبدانها ، وتحل الأجزاء المعقدة من أبدان بأبدان ، تحلها وتجمعها لكل روح على حدة ، نشطا وتنقلا في مختلف أكناف الأرض لتجمع وتضم هذه المتفرقات المتحللات .. والتي تعقد الأرواح بالأجساد وتنفخها فيها بإذن ربها ، وتعقد أجزاء الأجساد المتفرقة ، على نشاط بالغ دون إهمال ولا إبطال.

والموت الذي كأنه مؤمّر في تجوال ، لتحل الأرواح من أبدانها الدنيوية ، ولتعقدها بأبدانها البرزخية ، ثم الموت عن الحياة البرزخية الذي يحل أيضا ويعقد ، يعقد الأرواح بالأجساد المعادة في المعاد.

والنجوم الناشطات في تجولاتها عقدا لأحيان وحلا لأخرى.

والناشطات الإنسية والجنية في مختلف مجالات الحياة : حلا وعقدا.

والناشطات الحيوانية تنشط العظم واللحم وكما هي «كلاب النار» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١١ ، أخرج ابن مردوية عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله (ص) لا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار ، قال الله والناشطات نشطا أتدري ما هو؟ قلت : يا بني الله ما هو؟ قال : كلاب في النار تنشط العظم واللحم.


(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) :

السبح هو المر السريع في الماء وفي الهواء ، ويجمعه المر السريع أيا كان.

والسابحات هي القوات المسرعات في بحر الكون ، في الماء وفي الفضاء وفي الأرض ، سبحا جسدانيا أو روحانيا ، فالكون كله مسبح للسابحات : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢١ : ٣٣).

السابحات الكوكبية من الأرض والشمس والقمر وزملائها التي تسبح ـ حسب تصريحات الآيات ـ في أفلاكها ومداراتها الجوية.

والسابحات البشرية التي تسيح وتسبح غائصة في بحر الحياة بغية الصيود التي تبغيها ، وهي مغلوبة بقضاء الله كما تسعى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) دون أن تملك من الكون ما يريد ، إلا ما قضاه الله نتيجة السعي.

والسابحات الملكية التي تسبح لتحقيق أوامر الله ، من إيصال وحي وتصوير الأجنة في الأرحام وتقريب الأرزاق.

وسابحات الفكر والعقول التي تسبح في الآفاق وفي الأنفس حتى يتبين لها أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) :

في هذه النازعات الناشطات السابحات ، سابقات في مأمورياتها تسبق سائر القوات التي قد تمانعها في تحقيق ما أمرت به ، تسبقها في معارك الموت والحياة ، في معارك تنازع البقاء إذ تنزع الأرواح أجسادها متمنّعة عن موتها ، فتسبقها ملائكة الموت ، وتأخذ الأبدان إلى التناثر والتفرق ، والأرواح إلى الاختفاء ، فيسبقها ملك الموت الذي وكلّ بها فيتوفاها ويحافظ عليها وينزعها إلى محفظات الأرواح والأجساد.


فالسابقات من هذه النازعات وأمثالها ، تسبقها فيما تريد في ميادين السباق ، وكما في الناشطات والسابحات سابقات ، كلها تنحو منحى تدبير الكون إلهيا وتدميره إلهيا.

هذه السابقات هي المدبّرات أمرا : إذ تنزع ما أمرت بنزعها من أرواح ، ثم تدبّر أمر الله فيها ، برجع الأبدان إلى حيث كانت ـ وكما يناسب الحياة الآخرة ـ ثم رجع الأرواح إليها وجمعها يوم الجمع.

إنها نشيطة في سبحها وسابحة في نشطها ، سابقة سائر القوات في تحقيق أمر الله في جو الحياة ومعداتها ، والموت ومعداته .. ولأنها مدبرات لأمر الله (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ).

هذه المدبرات أمرا ، تدبّر بما سبقت سائر القوات ، فهي مدبّرة وتلك مدبّرة ، بما سبقت في نضالها ، في نزعها ونشطها وسبحها.

لا يمكن ولا يكون إلا ما أراد الله في دنيا الحياة وعقباها ، إلا ما فيه الاختيار ، دون أن يملك الاختيار أيضا جبرا في إرادة الله.

إن ملائكة الله ينزعون ـ نازلين ـ عن أمر الله : غرقا في أعماق الكون لتحقيق أمره ، وينشطون محللين وعاقدين كذلك ، ويسبحون في بحر الوجود ابتغاء تلقي الأوامر الإلهية تحقيقا وتطبيقا ، ويرجعون إلى مقام العز نشيطين منبسطين سابقين مناوئيهم في ميادين السباق ، مدبرين أمر الله بما أراده الله «يدبرون ذكر الرحمن وأمره» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١١ ، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب ان ابن الكوا سأله عن المدبرات أمرا قال : الملائكة يدبرون ذكر الرحمان وأمره.

أقول : ذكر الرحمان إشارة إلى الأمر التشريعي وأمره هو التكويني.


هل يدبر الأمر إلا الله؟

من الضروري عقليا وقرآنيا أن الله هو المدبر ولا مدبر سواه في التكوين وفي التشريع وفي الجزاء يوم الجزاء : (.. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠ : ٣) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١٣ : ٢) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٣٢ : ٥).

وهذه الآيات توحي أصالة التدبير الإلهي ، دون أن تنافي وساطة التدبير الملائكي أو البشري أو الكوني في الأسباب الطبيعية التي سخرها الله تعالى.

فالملائكة المدبّرون لا يدبّرون إلا أمر الله بإذنه وبأمره : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢١ : ٢٧) (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١٦ : ٥٠).

حركات الأرض :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) :

آخر المطاف في هذه النزعات والنشاطات والسبحات ، وفي سبقها وتدبيرها أمر الله ، آخره هو يوم الرجفة والردفة.

(تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) : توحي أن الأرض راجفة قبل قيامتها ، وراجفة عندها : مرة رجفة الإماتة ، وأخرى رجفة الإحياء وهي الرادفة ، فهذه رجفات ثلاث وتسبقها رجفة مجنونة قبل أن تجعل ذلولا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) (٦٧ : ١٥) .. رجفات شاملة مجنونة مرة ، ومعمرة أخرى تحافظ على الحياة والأحياء ، ومدمرة ثالثة ، وراجعة الأموات من أجداثهم أخيرا (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) رجفات أربع تتلاحق!

تتسمى الأرض راجفة لحركاتها المتداخلة المعتدلة المعدّلة ، حيث الرجفة تعبير


بليغ عن الحركات المتداخلة ، فما هي حركات أرضنا التي كنا نحسبها جامدة؟

إن أرضنا من السابحات في بحر الجو في فلكها كزملائها السابحات : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ .. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها .. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ .. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٦ : ٣٣ ـ ٤٠) سبّاحة في أعماق الفضاء ، دائرة حول نفسها وعلى جادتها الفضائية كأنها تعقل كيف تسبح : «يسبحون» *.

تسيّرها على مداراتها القوة الجاذبية العمومية ، فهي تسير وتطير دون انزلاق عن أفلاكها ولا انفلات وتناثر عنها ، بعمد لا ترونها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢) فثمّ ـ في السماوات المرفوعة بأنجمها ـ ثم عمد ولكن لا ترونها ، وعلها ـ أو منها ـ القوة الجاذبية العمومية.

وتكفينا آية الكفات إيحاء صريحا لطيران الأرض وحركاتها : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٧٧ : ٢٥ ـ ٢٧) حيث الكفات هو سرعة الطيران على تقبّض فيه (١) ، فأرضنا هذه مسرعة في طيرانها متقبّضة ـ على ظهرها وفي حضنها ـ أطفالها : أحياء وأمواتا ، لو لا انضباط حركاتها والقوة الجاذبية المتحكّمة عليها لانفلتت أطفالها وتساقطت إلى أعماق الأجواء النازلة .. ولكنها كفات ويا لها من بركات في حركات ، وعلى حد تعبير علي أمير المؤمنين ـ عليه أفضل السلام والصلاة ـ حين يعطف إلى عطف الأرض على أولادها : «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشم من صياخيدها فسكنت من الميدان برسو الجبال في قطع أديمها» «.. فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا وبسطها لهم فراشا ..».

__________________

(١) تفصيل البحث عن الكفات إلى سورة المرسلات.


«وعدل حركاتها» : إن لأرضنا هذه حركات متداخلة استحقت بها اسم الراجفة ، أنهى علماء معرفة الأرض حركاتها إلى أربعة عشر ، وعلها أزيد.

.. هذه هي الرجفة المعمّرة ، ثم ترجف رجفتها المدمّرة ، رجفة الإماتة ، ثم الرجفة الرادفة هي رجفة الإحياء (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ).

أجل إن الراجفة هي التي ترجف ، لا الجامدة ، وما أحلى وأجلى هذا الاسم فيما كانت البشرية تنكره من حركات الأرض ، فللقرآن متشابهات يفسرها الزمن.

إن للأرض ـ عند قيامتها ومن عليها ـ نفختان وصيحتان ورجفتان ، كلّ رجفة إثر نفخة وصيحة ما لها من فواق ، ونتاجها زجرة إلى الساهرة أرض العرض والحساب.

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) :

وجفة لقلوب مقلوبة تتبع رجفة الأرض : حين الإماتة وحين الإحياء ، والوجفة هي سرعة السير والحركة ، فهي حراك في اضطراب لقلوب ، تلي رجفتي الأرض.

جوّ راجف وقلب واجف مبهور مذعور ، وجفة من الرجفة التي تنقلهم إلى الساهرة : أرض الحساب والعقاب ، وهناك ترى :

(أَبْصارُها خاشِعَةٌ) : أبصار القلوب وهي البصائر ، تتبعها أبصار العيون : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١٤ : ٤٢).

هذه هي القلوب المقلوبة المذعورة تتقلب يومذاك بأبصارها : (يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٤ : ٣٧)

«رب هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك» (علي عليه السّلام).


وهناك تخشع الأصوات (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (٢٠ : ١٠٨) وتخشع أبصار القلوب .. وتخشع من الإنسان ما لم تكن تخشع يوم الدنيا ، فيوم القيامة تخشع خشوع الذل عن تقصير (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) (٤٢ : ٤٥) (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (٧٠ : ٤٤) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ. تَصْلى ناراً حامِيَةً) (٨٨ : ٢ ـ ٤).

قلوب ووجوه وأبصار هناك خاشعة من الذل ينظرون من طرف خفي : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) .. فيما هي شديدة الاضطراب ، بادية الذل ، يجتمع عليها الخوف والانكسار ، والوجفة والانهيار ، وهذا هو الذي يتناوله القسم بالنازعات إلى السابقات سبقا والمدبرات أمرا.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) :

متحدثين عن وهلتهم وانبهارهم إذ يقومون من أجداثهم خشعا كأنهم جراد منتشر ، يقولونها في خبال وذهول. متسائلين سؤال الوحشة والدهشة ، عن رجوعهم إلى الحياة بعد نكرانها في حيونة الحياة الدنيا. ويقولون ـ هذه ـ علها جواب الأقسام الماضية.

فما هي الحافرة التي يخافونها؟ أهي القبر؟ ولا ترجع الأحياء يوم الإحياء إلى القبر! وليس في هكذا رجوع خوف ، بل هو ما يتمناه الكافر إذ يقول : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

أم هي القيامة ، وليس ورودها ردا إليها إذ ليست إلا مرة واحدة؟

أم هي الحياة كما كانت : «الخلق الجديد» كما عن باقر العلوم (ع) (١)

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٧٩ عن القمي عن الباقر (ع).


رجوعا إلى حياة كانت في الدنيا ، إلا دنياها وتكاليفها ، وإنما الجزاء على ما قدمت يداه وأن الله ليس بظلام للعبيد ، وإذا كانت الحافرة هي الخلق الجديد فما هي المناسبة في هكذا تعبير؟.

إن الحافرة من الحفر وهو التراب الذي يخرج من حفرة ، وحافر الفرس ما يحفر التراب من رجله ، والحافرة الأرض المحفورة ، فالرد إلى الحافرة على ما في المفردات : مثل يمثل به لمن يرد من حيث جاء ، يقال : رجع في حافرته : أي : في طريقه التي جاء منها ، فهم إذ يردون إلى حيث جاءوا ، إلى مثل الحياة الأولى ، قالوا عنه بالرد إلى الحافرة ، ثم (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) ، فإذ يموت الإنسان يبقى موضع وجوده خاليا كالحافرة من الأرض التي يراد ترابها ، فهم إذا حائرون مذعورون أن كيف رجعوا إلى الحياة بعد ما كانوا عظاما نخرة ، وتلك إذا كرة خاسرة.

كرّة خاسرة لمن خسروا أنفسهم في الحياة الدنيا ، وكرة رابحة للذين ربحوها فيها ، فليس الخسار إلا من أنفس الكفار ولا يظلمون فتيلا.

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) :

«أن صارت الأجساد شحبة بعد بضنها ، والعظام نخرة بعد قوتها» (١)

عظاما منخوبة بالية يصوت فيها الهواء لرخوتها ، بعد أن كانت قوية لا ينفذها الماء ولا الهواء .. عظاما بالية هبت بها الرياح فبثتها أيدي سبأ ، فكيف تجتمع أجزاؤها بعد تفرقها؟ وكيف ترجع إلى صلابتها بعد نحرتها؟ وكيف تحيى بعد موتها؟ (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٣٦ : ٧٨ ـ ٧٩).

__________________

(١) من خطب أمير المؤمنين علي (ع) عن نهج البلاغة.


(قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) :

قالوها بعد دهشتهم ووحشتهم في وهلتهم وذهولهم وهم يفيقون ويبصرون فيعلمونها كرة إلى الحياة ، ولكنها الحياة الأخرى ، فيشعرون بالخسار والوبال فتبتدر منهم كلمتهم الحاسرة : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) كرة لم يكونوا ليحسبوا لها حساب ، ولم يقدموا لها إلا كل تباب ، فهم في حسرتهم يعمهون وفي خسرتهم يتيهون.

هذا وجه في هذه المقالات ، ووجه آخر عله مقصود مع الأول أو أنه هو المقصود فقط : أنها مقالتهم يوم الدنيا في نكران الحياة بعد الموت ، ويتأيد بقولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) فإنها إلى الإنكار أقرب منها إلى الاندهاش والتصديق على عجب ، وبقول الله عنهم : (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) حكاية عن مقال مضى ، وأخيرا إن الحي بعد الموت وإن كان صحيحا قوله : إنها خاسرة ، لكنه لا يصح قوله (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) ، ولا قوله: (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أقولا هكذا بعد إذ قضي الأمر؟ اللهم إلا دهشة وتعجبا .. لذلك نقول عل الوجهين هنا مقصودان ، وأحرى بالثاني أن يعنى.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) :

إنما هي : الكرة ، زجرة واحدة ، صيحة خارقة تزجر عن الأجداث فإذا هم إلى ربهم ينسلون ، وإنها لا تكلّف مديدا من الزمن ، خلاف ما كانت الولادة في الدنيا ، إنما زجرة واحدة وصيحة ما لها من فواق.

إن الولادة يوم الدنيا كانت تتطلب زجرات ورحلات وتنقلات ، وهنا الولادة الثانية والخلق الجديد ليست إلا بزجرة واحدة ، واحدة فقط.

هذه هي زجرة الإحياء وقبلها زجرة الإماتة في النفخة الأولى ، زجرتان تختلفان في مفعوليهما ، وكما الزلزال والصيحة ونفخ الصور تختلف المرتان فيها.


(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) : فما هي الساهرة؟ أكيد أنها ليست هي القبور ، فقد انتقلوا بالزجرة عن أجداثهم إلى ربهم ينسلون ، فهل هي وجه الأرض بعد زلزالها : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) (١٤ : ٤٨) فإذا تبدلت أرضيتها استحقت تبدّل اسمها ، وهي هي أرض العرض والحساب ، وكما يروى عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وسلّم (١)؟ أم هي أرض في السماء ينتقلون بأجسادهم من أجداثهم إليها؟ أم إن الساهرة هي ساهرة الأرواح بعد الانتقام من الأبدان كما يروى عن الإمام الصادق عليه السّلام (٢)؟ أم ماذا؟.

أقول : إننا نصدّق ساهرة الأرواح يوم الحساب : خلودها في الجنة أو النار ، لكنها مع الأجساد المناسبة لها ، ولكنها إذا هي الساهرة ، لا بالساهرة ، عكس الآية (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ).

وفيما إذا كانت أرض المحشر هي الساهرة ، فباعتبار كثرة الوطء بها كأنها تسهر بمن يمشي عليها دون انقطاع ، وأرض الدنيا ليست هكذا ، فهذه ساهرة الأرض ، وهي الموطئ والموطن لساهرة الأرواح بالأبدان ، سهرة بالحياة الأخروية ، وهذه السهرة تزيد أرض الحساب سهرة حقّت بها أن تسمى بالساهرة .. ساهرة بعد أن كانت أرضا فانية دائرة .. ثم لا حجة لنا أن الساهرة هي أرض في السماء ، في حين التصديق أن الجنة فوق السماء السابعة والنار

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٩٩ ح ١٩ مجمع البيان ، روى أبو هريرة عن النبي (ص) : (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظمي (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ، ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان في ظهرها كان على ظهرها.

وفي البرهان ٤ : ٤٢٥ ح ٣ عن القمي عن الباقر (ع): والساهرة الأرض كانوا في القبور فلما سمعوا الزجرة خرجوا من قبورهم فاستووا على الأرض.

(٢) وفيه عن الصادق (ع): «إذا انتقم منهم وماتت الأبدان بقيت الأرواح ساهرة لا تنام ولا تموت.


تحتها ، حيث الانتقال إلى المآل ليس إلا بعد قضاء الحساب في موقف الحساب ، ثم لا دليل على وحدتهما.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٦) ..

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) :

هل أتاك بوحي السماء؟ فإنه المعتمد المؤكّد ، استفهام بدافع ترغيب النبي الأقدس لكي يستقيم في كفاح الطاغين ، وترهيب المشركين الناكرين لوجود الله والبعث والمعاد ، فسواء في ذلك الاستفهام أن أتاه حديث موسى مسبقا ـ كما أتاه في المزمل إجمالا ـ أم لم يأته ، كما لم يأته حتى الآن هكذا ، وإن لم تكن صورة منه مفصلة.

وقصة موسى هي أكثر القصص ذكرا في الذكر الحكيم ، وردت منها حلقات منوّعة وفي أساليب شتى كما تناسب مواضيعها ، وهنا ترد مختصرة سريعة المشاهد منذ ندائه بالواد المقدس إلى أخذ فرعون نكاله في الآخرة والأولى.


(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) :

من أولى النداءات الإلهية لموساه إذ ناداه : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى. إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى. قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. قالَ أَلْقِها يا مُوسى. فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى. قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى. لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٢٠ : ١٢ ـ ٢٤).

وهذه أولى النداءات الرسالية : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) بعد برهنة الرسالة ، وأنه كيف يواجه ويكافح فرعون الطاغية.

(ناداهُ رَبُّهُ) : الذي رباه تربية رسالية واصطنعه لنفسه فصنع على عينه ، ولكي يستأهل لتلقي وحي الرسالة وتطبيقها.

(بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) : الواد الذي قدسه الله بالوحي الموسوي ، وعلّه «طوى» * ، وقد تكون (طوى) إيحاء لما طواه موسى من الفلاة بينه وبين الواد المقدس حتى آنس من جانب الطور نارا ، فطوى أهله وتحلّل عنهم أيضا قاصدا وادي الوحي ، ثم طواه الله بالوحي بعد انتشاره وتفرق باله ، وبعد ما طوى نفسه عن غير الوحي وعما سوى الله ، إذ خلع نعليه ، نعل الأهلين ، ونعل نفسه وإنيته ، فحلّ بالوادي مجردا عما سوى الله فاحتل منزلة الوحي.

أو أن «طوى» * هي الأرض التي حلّ بها موسى ، سميت طوى لما عرفنا من طوى موسى وانطوائه إلى مطوى الوحي.


(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) :

أولى النداءات الرسالية الموسوية وبدايتها المحورية التي تدور عليها رحاها طوال الدعوة ، وهكذا يجب أن يكون موقف رجالات الوحي وجاه فراعنة التاريخ ، كفاحا متواصلا بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبالطاقات الجبارة الفولاذية ، استئصالا للفرعنات والنمردات ، ولكي تعيش الشعوب على رغد الأمن والصلاح.

وهكذا يجب للمصلحين أن يكرسوا حياتهم في معارضة الطاغين والدفاع عن المظلومين دون سكوت وخمول واستسلام وانظلام.

فعلى المصلحين الحراك الدائم والتجوال المتواصل في دفع الطغيان أيا كان ومن أي كان ، دون أن يعتبروا أنفسهم «بيتا يؤتى ولا يأتي» فإن الشر يبتغي ـ دوما ـ مجالات لنموه وتحقيقه ، فلا بد لدعاة الخير أن يضيّقوا كافة المجالات على دعاة العيث والشر (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢ : ٢٥١).

«اذهب» * : أنت إليه ، دون أن ترجو ذهابه إليك ، فإنه لا يأتيك إلا قاهرا ساهرا ساحرا ، ف «اذهب» * إليه ناصحا ومرهبا ، ولكي تزيله أو تخفف عن بأسه وبؤسه ..

(إِنَّهُ طَغى) : طغى على عباد الله إذ استعمرهم واستخفهم واستحمرهم ، وطغى على الله إذ قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) فأصبح حياته حياة الطغيان وما أسوأها حياة وما أخطرها نكالا على الشعوب!

إن الطغيان أمر لا ينبغي أن يترك ، ولا ينبغي أن يهمل فيبقى ، إنه يعيث الفساد في الأرض ، ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ، وما جور الجائرين وظلم الظالمين إلا نتيجة إهمال القادة الروحيين ، وفسح المجال للطائشين الظالمين ، وخمول المظلومين وإحنائهم ظهورهم لهؤلاء الشياطين.


(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) :

يعلّم الله رسوله كيف يواجه ويخاطب الطاغية بأحسن الأساليب وأقواها جاذبية ، جامعة برهان العاطفة والعقل والإحساس ، لعله يتذكر أو يخشى.

إنه أمر بالذهاب إلى فرعون ، فاستدعى من ربه أن يشرح له صدره وييسّر له أمره ويحلّ عقدة من لسانه ، ويجعل له وزيرا من أهله هارون أخاه ، فأوتي سؤله فضمّ إليه أخاه عمادا ومساندا وناصرا : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي. اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى. قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى. قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى. فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٢٠ : ٤١ ـ ٤٨).

لا نجد ألين من هذا الكلام عند ألعن حمقاء الطغيان : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) يبتدئ بالسؤال عن ميله إلى التزكي ، دون أن يحتّم عليه أنه قذر فيجب عليه التزكي (هَلْ لَكَ)؟! هل لك ميل ورغبة إلى ما يرغب إليه كل إنسان؟ (أَنْ تَزَكَّى) ولا يخلو من رغبته المتزكون أيضا فكيف بمن سواهم من الأدناس!

إن الإنسان كائنا من كان ، يشعر دوما بالنقصان ، لذلك يحاول فكريا وعمليا أن يزيل عن نفسه وصمة النقصان إلى الكمال والأكمل ، وما من أحد يرى نفسه بالغا إلى ذروة الكمال رغم «أن حب الشيء يعمي ويصم».

وهذه الحالة هي لزام الإنسان ككائن من الكائنات المخلوقة ، مهما كانت ادعاءاته الكاذبة أنه بالغ ذروة الكمال.


إذا فكل إنسان ـ بل وكلّ حيوان ـ له اندفاع إلى الكمال والأكمل ، وكل مرحلة تالية تزكّ بالنسبة للسابقة وإن كانت هي أيضا تزكيا لسابقتها.

إذا فهذا سؤال لا جواب له إلا الإيجاب : «بلى إن لي رغبة إلى أن أتزكى».

ثم شعور النقص هذا ، وأنه متدرج إلى الكمال ، يدفعه أن يعتنق عقيدة الإله ، الرب الذي لا ينقص شيئا ولا ينقصه شيء ، وهو الذي يدرج إلى مدارج الكمال دون أن يتدرج هو نفسه.

ففرعون هذا ، الذي ظن أنه الرب الأعلى ، عليه أن يشعر بهذا البرهان أنه ليس ربا ، وإنما عبد في نقصان ، عليه محاولة التزكي ، ثم عليه أن يهتدي إلى ربه فيخشاه فلا يطغى ، فما ألينه كلاما وأنعمه! وما أبلغه برهانا وأقومه!

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) العلماء بالله ، وما عدم الخشية من الله إلا لعدم العلم والمعرفة به وعدم الهداية إليه.

إن الهداية إلى الرب : «المالك المدبر» هي السبيل المنحصرة في التزكي ، فإنه يملك الإنسان فيدبر أمره كأحسن ما يكون دون حاجة منه إليه ، والمتزكي عند الرب المحتاج ـ الذي لا يملكه فلا يملك تزكيته ـ إنه ما يفسد أكثر مما يصلح.

إن مرض الطغيان المبتلى به فراعنة التأريخ لا علاج له إلا الشعور بالنقصان ثم محاولة التزكي بالهداية إلى الرب تبارك وتعالى ، فما أحلى دلالة تضم بيان المرض وعلاجه كأتقن وأحسن ما يتصور.

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى. فَكَذَّبَ وَعَصى) :

أراه الآية الكبرى ، الحسية ، بعد ما أراه الآية الكبرى العقلية ، ليجمع له الآيتين ويلزمه بالحجتين ، فما هي الآية الكبرى هنا؟!


إنها ليست هي الآية الكبرى بين الآيات ، وإنما هي منها وكما أراها موسى من قبل : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) (٢٠ : ٢٣) وإنها هي العصا التي انقلبت ثعبانا مبينا بعد ما انقلبت حية تسعى ، هذه العصا التي نتجت عنها آيات تترى : فقد فلق بها البحر (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٢٦ : ٦٣) وضرب بها الحجر : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) (٢ : ٦٠) ثم الآية الكبرى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٧ : ١٠٧ و ٢٦ : ٣٢) آية أراه ربه إياها إذ كان بالواد المقدس طوى ، ثم أراها فرعون فكذب وعصى : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٢٦ : ٤٥).

(فَكَذَّبَ وَعَصى) لم يزده هذا البلاغ إلا فرارا ، فلم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة قلبه المقلوب الخاوي من معرفة الله ، فكذب موسى واستمر في عصيانه لله ولموساه ، وتجاوز عن طغيانه الأول إلى أشرّ وأطغى (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) تلك الكلمة الوقحة المتطاولة المليئة بالغرور والجهالة.

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى. قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) (٢٠ : ٥٦ ـ ٥٧) أري آيات الله كلها بما فيها من آيات ربه الكبرى ، فكذب وعصى.

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى. فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) :

ثم ـ بعد ما كذب وعصى ـ أدبر عن موسى وعن آية الله الكبرى ، أدبر يسعى في كيده فحشر حشره وجمع جمعه فنادى نداءه كأحمق حمقاء التاريخ : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) (٢٠ : ٦٠) : إنه تولى وسعى وجمع كيده وجمعه وعله مرتين : مرة لدعواه: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وأخرى لمكافحة السحرة بسحرهم : آيات الله الكبرى ، أو عله مرة واحدة جمع فيها بين الكيدين : استخف قومه أنه ربهم الأعلى ، فأطاعوه فيما أراد.

(فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) : إنه تدرج في ربوبيته المزعومة المدعاة حتى إذا


وصل إلى ذروتها ، والتدرج بنفسه برهان لا مردّ له على كذبه في دعوى الربوبية.

يقولها الطاغية مخدوعا بغفلة جماهيره الحمقاء وغفوتهم وإذعانهم له وانقيادهم ، أجل وإنها الجماهير الذلول تحني له ظهورها كالحمير فيركبها ، وتمدّ له أعناقها فيجرها ، وتحني له رؤوسها فيستعلي عليها ، وتتنازل له عن حقوقها الإنسانية فيطغى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) .. وما كان له أن يتقول بهذه القولة الكافرة لو وجد أمة واعية أبيّة كريمة مؤمنة عارفة أنه عبد كسائر العباد ، إن يسلبه الذباب شيئا لا يستنقذه منه ضعف الطالب والمطلوب.

فرعون في تضاد الآلهة :

إنه قد يعبد آلهة كما يعبدها غيره (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (٧ : ١٢٨) آلهته اعتبارا أنه كان يعبدها ، أم آلهته لأن قومه كانوا يعبدونها ، أم بالاعتبارين.

وقد يدّعي هو الألوهية لأن له ملك مصر بما فيها الآلهة (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٤٣ : ٥١ ـ ٥٢).

ويهدد موسى إن اتخذ إلها غيره ، توحيدا لنفسه في الألوهية : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٦ : ٢٩) يعني إلها لا أرتضيه وهو الإله الحق ، فإنه كان يعترف بوجود أرباب وأنه أعلاهم : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) هناك أرباب متفرقون وأنا أعلاهم وربهم أيضا إذ أملكهم بمالي ملك مصر.

يبقى في طغيانه وغيّه هكذا : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١٠ : ٩٠ ـ ٩١).


(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) :

نكال الآخرة تتقدم هنا على الأولى ، ولأنها أشد وأبقى ، وأنها تشمل حياتي البرزخ والأخرى ، فأما نكال الأولى بما أنه يمثل نكال الآخرة تمثيلا ضئيلا ، فهو غرقه بمن معه في اليمّ على حين غرّة وغفلة وطغيان : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ. وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٢٠ : ٧٧ ـ ٧٩).

فلما غشيه اليم بما طغى (قالَ آمَنْتُ .. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ ..(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (١٠ : ٩٢).

هذا هو نكاله في الأولى ، بقي عذابا على روحه القذرة ما دام بدنه لمن خلفه آية ، ثم نراه حين الغرق يدخل جحيم البرزخ ، ثم يوم القيامة أشد العذاب : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٠ : ٤٥ ـ ٤٦) ، وعلى حد تعبير باقر العلوم عليه السّلام : «أملى الله لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠٠ عن الخصال عن زرارة عن أبي جعفر (ع) «قال : أملى الله لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة ثم أخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فكان بين أن قال الله تعالى لموسى وهارون : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وبين أن عرفه الإجابة أربعين سنة ثم قال : قال جبرئيل (ع) نازلت ربي في فرعون منازلة شديدة فقلت : يا رب تدعه وقد قال أنا ربكم الأعلى؟ فقال : إنما يقول هذا عبد مثلك» أقول والكلمتان قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وقوله (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ).


فإذا كان نكال الأولى عنيفا قاسيا دائبا على روحه ببدنه ، فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى وأبقى؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى).

عبرة ما أعظمها بما يرى بدنه القذر في الأهرام ، يراه السائحون الوافدون إلى مصر ، عبرة لمن يخشى الله ويخشى نكاله الآجل والعاجل ، وكلّ سائر على نهجه ، وكل إنسان يعمل على شاكلته.

* * *

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣)

.. جولة أخرى لها جرسها الصارخ في أعماق الأسماع ، تندّد بالمشركين الطغاة المعتدين المغترين بقوتهم ، ردا لهم إلى شيء من مظاهر القوة الإلهية الكبرى الملموسة المحسوسة ، التي لا تحسب قوّتهم بجنبها شيئا يذكر.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) :

قوة وصلابة ورموزا وغموضا ، بدءا وعودا.

(أَمِ السَّماءُ بَناها) :

بناها كسماء لا كسبع سماوات ، لأن دحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها ،


كل ذلك كان قبل خلق السماء سبعا كما تفصلها الآيات في «فصلت» * : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ٩ ـ ١٢).

فخلق السماوات السبع متأخر عن خلق الأرض وتعميرها بمرحلة ، وخلق أنجمها بما فيها الشمس متأخر عنه بمرحلتين.

بناها من مادتها المنبثقة عن المادة الأولية «ماء» * باضطرامها ، وهي الغاز «الدخان» (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) .. بناها وسواها من ذلك الغاز ، أن (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها).

فهنا بنا آن : بناء السماء ، وبناء السبع الشداد ، والآيات هذه بصدد بيان البناء الأول ، ولقد نبأتنا عن البناء الثاني ـ من قبل ـ سورة النبأ.

(رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) :

والسمك هو الطاق المسموك بما يسمكه ويمسكه من السقوط ، وهو هنا عمد لا ترونها ، كما السماوات أيضا بأنجمها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢). فسمك السماء قبل السبع ، وسمك السماوات السبع ، إنهما كليهما (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فثمّ عمد ولكن لا ترونها وعلى حد تفسير باقر العلوم عليه السّلام.

«فسواها» * سماء يرفع سمكها ، فلو لا سمكها لم تكن سماء ، بل كانت تتساقط إلى أعماق الأجواء كما سوف تتناثر الكواكب عند قيامتها واسترجاع سمكها وجاذبيتها.


«فسواها» * سماء عادلة الأطراف ، متساوية الجوانب والأكناف ، دون اختلاف بين أجزائها لأنها كانت كلها الغازات الأولية على حراراتها وظلماتها وإشراقاتها ، فتلك ليلها وهذه ضحاها ، إذ لم تخلق بعد شمسها المضحية وشموسها المشرقة وكراتها المستنيرة أحيانا والمظلمة أخرى.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) :

أصل الغطش من الأغطش وهو الذي في عينه شبه عمش ، والتغاطش هو التعامي عن الشيء ، فإغطاش ليل السماء هو جعله مظلما ، وعلّه يرمز إلى أن الدخان السماوي كان نيرا لما خلق من تفجر المادة الأولية «الماء» * فلما تصاعد دخانا أظلم : أن أحاطت الظلمة جوانبها المجاورة للفضاء ، والنور والضياء باطن في بطنها ، ثم الله أخرج ضحاها إذ نشر الدخان في الفضاء وقلبّه ظهر بطن فأصبح ليلا وضحى ، نورا وظلاما ف (أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها).

كل ذلك تؤيده السنة المهتدية بالكتاب وعلى حد تفسير باقر العلوم عليه السّلام (١) كما ترى تفاصيلها في البحث الفصل عن خلق السماوات والأرض عند مواضعها الأنسب.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠١ في روضته الكافي بالإسناد عن محمد بن عطية عن أبي جعفر (ع) أنه قال لرجل من أهل الشام : وكان الخالق قبل المخلوق ولو كان أول ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ولم يزل الله إذا ومعه شيء وليس هو يتقدمه ، ولكنه كان إذ لا شيء غيره وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه. وخلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور ، فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا ثقب ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة ثم طواها فوضعها فوق الماء ، ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء أن يثور ، فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا ثقب وذلك قوله : والسماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، قال : ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا سحاب ثم طواها فوضعها فوق الأرض ثم نسب الخلقتين فرفع السماء قبل دحو الأرض فذلك قوله عز ذكره : والأرض بعد ذلك دحاها ، يقول بسطها.


دحو الأرض وطحوها :

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) :

إن دحو الأرض وطحوها : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٩١ : ٦) إنه كان أيا كان ـ بعد خلق السماء ، لا بعد السماوات السبع ، لما درسناه في الآيات من «فصلت» * أن تسبيح السماء كان بعد خلق الأرض ببركاتها وجبالها ، فما هو دحوها وما هو تأثيره عليها؟

إن الدحو والطّحو هما : الرمي بقهر والإزالة والرحي والدحرجة (١) ، والأخيرة هي أشمل معانيها وأكفاها دلالة على أن دحوها هو الحركة المنظمة ، أو بدايتها المكمّلة بإرساء الجبال في أعماقها وعلى حد تعبير الأمير عليه السّلام «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشتاخيب الشم من صياخيدها فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو أن تسيخ بحملها» و «سكنت الأرض مدحوة في لجة تياره ، وردت من نخوة بأوه واعتلائه وشموخ أنفه وسمو غلوائه وكعمته على كظة جريئة فهمد بعد نزقانه ولبد بعد زيقانه وثباته» (٢) .. وسكون الدحو هنا هو السكون عن الاضطراب بانتظام حراكها في دحوها.

__________________

(١) في تاج العروس «دحى السيل بالبطحاء رمى ، والمطر الداحي الذي يدحو الحصى عن وجه الأرض بنزعه ، والدحو الحجارة المراماة بها ، ويقال للفرس : مر يدحو إذا رمى بيده رميا.

وفي غريب القرآن للراغب الأصبهاني «دحى المطر الحصى من وجه الأرض ، أي جرفها ثم ذكر بقية المعاني المسبقة» والحركة المنظمة والدحرجة ظاهرة هنا وهناك.

(٢) وبداية الخطبة «كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ولجج بحار زاخرة يلتطم أواذي أمواجها وتصطفق متقاذفات أثباجها وترغو زبدا كالفحول عند هياجها فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها وسكن هيج ارتمائه إذ وطأته بكلكلها وذل مستحذيا إذ تمعكت عليه بكواهلها ، فأصبح بعد اصطحاب أمواجه ساجيا مقهورا وفي حكمة الذل منقادا أسيرا» ..

أقول : والظاهر هنا ومن غيره أن الأرض رويت لأول مرة بالغرق ولم يكن سبيل لترويتها إلا هذا ، ثم ابتلعت الماء ثم أخرج الماء منها بدحوها.


وقد ذكرنا مسبقا ـ سنادا إلى آيات ـ أن الأرض كانت متحركة منذ خلقت ، ثم جعلها الله تعالى ذلولا بعد شماسها ، وهنا تعرفنا على بدايتها في انتظام حركاتها أنها بعد خلق السماء قبل تسبيعها.

وفي روايات مستفيضة أن الدحو كان من تحت الكعبة ـ زادها الله شرفا ـ.

فعن إمام المتقين علي عليه السّلام : «إن شاميا سأله عن مكة المكرمة لم سميت مكة؟ قال : لأن الله مك الأرض من تحتها ، أي دحاها».

والمك هو الدحرجة كما في القاموس ، وعنه عليه السّلام أيضا : «فلما خلق الله الأرض دحاها من تحت الكعبة ثم بسطها على الماء».

وهذه كرامة لمكة المكرمة أنها نقطة الابتداء لانتظام حركات الأرض الناتجة عنه مختلف ألوان الحياة ، وكما أن حج البيت قيام في الحياة وانتظام للحركات الإنسانية في مختلف مجالاتهما (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) أي نقطة تلاق وانطلاق لكافة المتطلبات الحيوية الجماعية الإسلامية السامية.

هذا ، وإن تفسير الدحرجة لدحو الأرض ما تصرّح به اللغات الصراح والأحاديث المفسرة لحق المعني منه ، ولا تنافيه اللغة والأحاديث التي تفسره بالبسط ، لأن انبساط الأرض في نفسها وللحياة هو لزام حراكها المنظمة المعقولة الدورانية ، إذ كانت لينة تتأثر بالحراك على أثر قانون الفرار عن المركز ، ولم يفسره ب «البسط» إلا لغة التفسير ، وكما نراه في الكثير من كتب التفسير ، وكذلك الأحاديث التي تعني تفسير النتيجة الهامة من دحوها وحراكها ، ومن الشاهد عليه أننا لا نرى البسط في معنى الدحو إلا بالنسبة للأرض لا سواها!

وإن أهم ما أنتجه دحو الأرض وطحوها هو بسطها وإخراج مائها ومرعاها وإرساء جبالها في أعماقها ، بعد أن كان ماؤها مخبوا فيها ، وجبالها لينة دون رسوّ في قطع أديمها.

إن بداية ظهور الجبال هي من حصيلة الأمواج التي ظهرت على سطح الأرض


نتيجة الحركات والاصطدامات بالجو البارد ، وقانون الفرار عن المركز ، وكما عن علي عليه السّلام حين يسئل : «مم خلقت الجبال؟ قال : من الأمواج» : أي أمواج السطح المذاب ، الضارب إلى الانجماد في المواضع المستعدة.

فلقد مدّت الأرض وسطحت على أثر حركاتها الأولية ، ثم على أثر دحوها ، فألقي فيها رواسي شهقت من فوقها وأرسيت في بطنها : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) (١٥ : ١٩) (هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) (١٣ : ٣).

والرواسي الملقاة تعم المخلوقة الممتدة على سطح الأرض إلى باطنها ، والتي انبثقت من تفجرات البراكين ، والتي سقطت من نجوم السماء.

ومن أهم ما نذكره هنا كأبلغ نموذج روائي بعد الآيات ما عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام بشأن الجبال : «وجبل جلاميدها ونشوز متونها وأطوادها فأرساها في مراسيها فألزمها قرارتها فمضت رؤوسها في الهواء ورست أصولها في الماء ، فأنهد جبالها عن سهولها وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها فأشهق قلالها وأطال أنشازها وجعلها للأرض عمادا وأرزها فيها أوتادا فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها».

فقد سطحت الأرض ومدت بما دحيت (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فهيئت لرسوّ الجبال وإرسائها في قطع أديمها ، ثم (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها).

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها) :

عرفنا مسبّقا أن مياه الأرض كلها من السماء ، وهنا نعرف أنها نزلت عليها قبل دحوها وقبل تسبيع السماء وخلق أنجمها ، فما كان الماء ليخرج من كبد الأرض ـ وهي مجنونة الحراك والحرارة ، يتصاعد منها بخارا إلى السماء ـ لو كانت على حرارتها ، أو كان بخارا مكنونا في جوفها لكي لا يفر عنها لو ظهر


على سطحها ، حتى إذا دحاها ربّها ، فأرسى جبالها المتكونة من الأمواج على سطحها الذائب ، أرساها في قطع أديمها بعد ما كانت ليّنة غير راسية ، ثم إرساء الجبال ـ ولزامه برودة الأرض شيئا مّا ـ هيّأ الأرض لإخراج مائها ومن ثم مرعاها : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

وإرساء الجبال يوحي بتكوّنها قبل إرسائها ، وكما الآيات المسبّقة تدل أنها نصبت ثم أرسيت (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) ..

فلقد خلقت الأرض محترقة مذابة لا ماء فيها ولا كلاء ولا جبال ، ثم الله أنزل عليها من السماء ماء بعد ما بردت شيئا مّا ، ولكنها ابتلعت ماءها خوف ارتجاعه إلى السماء نتيجة الحرارة الزائدة ، وأخذت الجبال تظهر عليها من الأمواج ، ثم دحاها فأرسى جبالها وأخرج منها ماءها ومرعاها (١).

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) :

كل ذلك ليمتّعكم وأنعامكم ، يمتّع أنعامكم لكي تتنعموا منها ، ويمتعكم إلى أجل مسمى لتذكروا نعمة ربكم وتشكروه عليها.

* * *

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ

__________________

(١) في الدر المنثور بالإسناد عن قيس بن عبادة قال : إن الله لما خلق الأرض جعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا ، فأصبحت صبحا وفيها رواسي فلم يدروا من أين خلقت.


خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) (٤٢)

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) :

هي الداهية الغامرة المتفاقمة التي تنسي الدواهي كلها ، ولا تطاق لمن وافاها (١) ، وهكذا سوف تكون الساعة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وما أمر الساعة إلا كلمح البصر» (١٦ : ٧٧).

إن هناك طامات ، داهيات غامرات ، والقيامة الكبرى كبراها ، فطامة الموت (٢) ، وطامة قيام القائم (٣) ، وطامة الرجفة والصيحة ، إنها كلها طامات ، إلا أنها غير تامات ، إلا الأخيرة الآخرة ، فالصيحة والرجفة الثانية هي الطامة الكبرى التي تغمر الكون أجمع فلا تبقي ولا تذر ، لوّاحة للبشر ، (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ).

إن الحياة الدنيا ومتعها كلّها متاع ينتهي إلى أجل ، فإذا جاءت الطامة الكبرى غطّت كل شيء ، على المتاع وعلى إنسان المتاع ، وعلى الأرض والسماء

__________________

(١) طمه : ملأه ، والماء غمر والشيء كثر والأمر عظم وتفاقم ، والعدد الكثير والداهية ، والقيامة تطم ، أي تغمر كل شيء ، والطمطام وسط البحر ، والطامة الداهية التي لا تستطاع وأصله من طم الفرس إذا استفرغ جهده في الجري ، وطم الماء إذ أملأ النهر كله.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٠٦ ، القمي عن النبي (ص) «كفى بالموت طامة يا جبرائيل! فقال جبرائيل : إن ما بعد الموت أطم وأطم من الموت».

(٣) المصدر في كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن أمير المؤمنين (ع) بعد ما يذكر الدجال ومن يقتله وأين يقتل «ألا أن بعد ذلك الطامة الكبرى ، قلنا : وما ذلك يا أمير المؤمنين! قال : خروج دابة الأرض من عند الصفا معها خاتم سليمان .. وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها ..».


المتاع ، إنها تطمّ وتعمّ الكون بمن فيه وبما فيه ، ولكي تبدأ الحياة جديدة داخرة ، ثم لا يبرز هناك إلا ما سعاه الإنسان وقدّمه لأخراه.

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) :

يتذكر ما نسيه أو تناساه ، وما لم يكن ليتذكره يوم الدنيا لغفلته : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٨ : ٦) : يتذكره ما هو؟ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٨٢ : ٥) (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (٨١ : ١٤) إذ كان حين الدنيا يعلم ظاهره دون باطنه ومصيره ، كما ويتذكر بما يسمعه ويراه من أقواله وأعماله ، من حلّه وتر حاله ، التي كان ربه يستنسخها في ذاته وفي أرضه .. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠) (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) (٧٨ : ٤٠).

صحيح أن الإنسان يتذكر ما سعاه يوم البرزخ أيضا ، ولكنه برزخ وليس تاما ، وكما أن طامته ليست تامة ، فيوم الطامة الكبرى سوف يكون تذكر الأعمال تاما كما الجزاء (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) (٨٩ : ٢٣) وأنى! ولات حين مناص ، ولا تنفعه الذكرى.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) :

بروزا للرؤية للناظرين ، من أهله وسواهم ، وبروزا لصلي الغاوين : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٢٦ : ٩١). تسعّر الجحيم بمن يدخلها من أصول الضلالة ، بعد أن كانت خامدة : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (٨١ : ١٢) (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) (٨٣ : ١٦).

والجحيم هي نار شديدة التأجج بوقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. وتبريز الجحيم هو إظهارها بعد خفائها ، ولقد كانت الجحيم مع أهلها يوم الدنيا ،


غافلين عنها ، جحيم الذوات والأفكار والأعمال ، وهي تبرز يوم يقوم الاشهاد : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) وما الجحيم يوم الطامة الكبرى إلا بروزا لحقائق الأعمال ، مهما كانت أرضها حاضرة.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) :

تقسيم ثنائي للناس أجمعين من أهل الجنة والجحيم بمن فيهما من درجات ، ويذكر لكلّ مرجعه بما قدمت يداه.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) : على ربه وعلى المربوبين ، تجاوز عن طوره وعن الهدى ، فمدى الطغيان هذا أوسع مما لذوي الجبروت والسلطان ، شاملا لكل مجاوز حده ، الذي يحيا حياة الطغيان ، التي هي ممات للحق وذوي الحق ، وليس الطغيان إلا نتيجة عدم المعرفة بالله ، وعدم الشعور بالمسئولية ، وأن يحسب الإنسان نفسه كأنه الكل : مدار رحى الكون.

(وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) : إن الطغيان يدفعه إلى إيثار الحياة الدنيا على الحياة العليا ، وكما الإيثار يدفعه إلى الطغيان : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٩٦ :٦).

ليست الحياة الدنيا هي الحياة في دار التكليف ، فإن الدنيا مدرسة الآخرة ، وإنما أن يعيشها الإنسان حيوانا لا يعرف القيم الإنسانية ، فإذا أهملت الحياة العليا ، المناسبة للآخرة والأولى ، اختلت كل الموازين والقيم في تقدير الإنسان ، واختلت كل ضوابط الإدراك الحق والسلوك العدل في حياته ، وأصبح حيوانا وحشيا على صورة الإنسان.

(فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) : لا في أخراه فحسب ، بل وفي أولاه أيضا ،


فبما أن المأوى هو الملجأ والمسكن ، فالذي يعيش الحياة الشريرة ، فحياته جحيم لنفسه ومن سواه ، مهما كان غافلا عن جحيم الحياة ، وسوف تظهر حقيقة هذا الجحيم يوم الطامة الكبرى.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) :

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) : خاف مقامه ، دون أن يخافه : (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤ : ١٤) فليس خوف المقام هنا إلا لخوف الوعيد الناتج عن مقام الرب .. فما هو المقام؟

مقام الرب هنا هو قيامه بالعدل والجزاء الوفاق للحسنات والسيئات (١) ، هذا هو مقامه وكما شهد : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣ : ١٨).

ومن قيامه بالقسط هو الجزاء العدل على الحسنات والسيئات وإن كانت الحسنات فيها فضلا بعد العدل.

فالله تعالى لا يحيف حتى يخاف من جوره : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٢٤ : ٥٠) وإنما يخاف من الجائر الفاجر (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) (٨ : ٢٦).

إذا فلا يخاف الرب ، وإنما يخاف مقام الرب العاصي لعصيانه ، والعادل فلا يعصي : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٠ : ١٥).

فخوف الله ليس لألوهيته ، وإنما لعدله بربوبيته : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ

__________________

(١) فإن المقام بين كونه اسم مصدر واسم زمان واسم مكان والأخيران لا يناسبان مقام الربوبية إذ لا زمان له ولا مكان.


الْعالَمِينَ) (٥ : ٢٨) ، فالذين يخافونه فلا يعصونه : (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٤١ : ٣٠). (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٥٥ : ٤٦).

والجنتان هما الجسدانية والروحانية وهي أكبر : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ٧٢) (.. لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ١٥).

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) : إن خوف مقام الرب لا يثمر إلا بنهي النفس عن الهوى (.. إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) (١٢ : ٥٣) فالنفس البهيمية هي التي تدفع الإنسان إلى خطوات الشيطان وإلى الطغيان على الرحمان وإلى أن يؤثر الإنسان الحياة الدنيا ، فليعش الإنسان حياته بجناحي السلب والإيجاب : أن يسلب عنه هوى النفس الطائشة الطاغية تنزيها وتزكية ، وأن يفرض على نفسه خوف مقام ربه تحلية له وتجلية ، فيطير بجناحيه إلى معراج المعرفة والعبودية الكاملة : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

«فمن علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى» (١)

«فلا تدع النفس وهواها فإن هواها في رداها وترك النفس وما تهوى داؤها ، وكف النفس عما تهوى دواؤها» (٢) «واحذروا أهواءكم

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠٧ ح ٤٤ عن الصادق (ع) في الآية.

(٢) في ح ٤٥ عن أبي الحسن الرضا (ع): اتق المرتقى السهل إذا كان منحدره وعرا ، قال : وكان أبو عبد الله (ع) يقول : لا تدع النفس ..


كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم» (١).

هذه هي الطريقة المثلى في تزكية النفس إذ ألهمت طغواها وتقواها : أن أن يتقي فجورها ويقوّيها في تقواها : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٩١ : ٩ ـ ١٠).

والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام نزعات النفس وهوساتها ، كما أن نهيها عن الهوى يساعد على خوف أكثر وأتم فهما متناصران في هذا الميدان.

وإنما الإنسان إنسان بهذا النهي وهذا الخوف دون أن يترك نفسه لهواها فتأخذ حريتها فتعيث في الأرض فسادا.

(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) : في الأولى بحياة سعيدة آمنة أمينة ، وفي الأخرى بحياة خالدة هي أسعد وأبقى ، فهناك جنة في الحياتين وهناك جحيم فيهما.

إن الأول يرتفع ويتهيأ لحياة رفيعة طليقة ، والآخر يرتكس وينتكس في درك الجحيم إذ هدر إنسانيته فانهدرت ، فيرجع أخيرا وقودا للنار كما بدأ الحياة وقودا لمشاكل الحياة الجهنمية الغادرة.

فالمؤمن جنة أينما حل ، والكافر نار حيثما دار ، وإلى دار القرار.

والدواء الأول والأخير لأدواء الإنسان ككل ، ما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم «إن الله يقول : وعزتي وجلالي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أوته منها إلا ما قدرت له ، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع

__________________

(١) في ح ٤٩ باسناده إلى أبي محمد الدابشي عن الصادق (ع).


مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا واستحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة» (١).

* * *

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)(٤٦)

. مرسى الساعة ومنتهاها :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) :

يسألونك المتعنتون عن مرسى الساعة ، كما وعن الساعة نفسها : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) (٣٣ : ٦٣) فما هي الساعة؟ وما هو مرساها؟ وما هو منتهاها؟

أصل الساعة من ساع الشيء إذا ضاع وزال ، وساعت الإبل : سرحت وتخلت بلا راع ، فالساعة. هنا وفي سواها من آيات إلا القليل ، هي وقت ضياع الكائنات وزوالها بأسرها وكأنها سرحت بلا راع يرعاها ، ويقال لجزء من الزمان ساعة ، لتصرّمه وضياعه ، وكما الزمان كذلك بأسره.

وبما أن زوال الكائنات تستقبله القيامة الكبرى ، قيامة الأموات ، اعتبرت

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠٧ ح ٤٨ باسناده إلى أبي جعفر (ع) قال : قال رسول الله (ص) :


هي أيضا ساعة ، فالرجفتان : رجفة الإماتة ورجفة الإحياء ، كلتا هما الساعة ، والأولى أولاها والثانية منتهاها ، و (يَوْمَ يَرَوْنَها) : الساعة ، توحي إلى الثانية لقوله (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) فهي إذا ساعة الإحياء. كما أن هنا آيات توحي إلى الأولى وإليهما أيضا.

فالساعة هنا هي زوال الزمان وضياعه بكائناته ، والانتقال إلى زمان لا زوال له ولا انتهاء ..

فما هو مرساها؟ إنه من الإرساء وهو مقابل الجريان : (قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (١١ : ٤١) (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (٣٤ : ١٣) (وَالْجِبالَ أَرْساها) ثبّتها ووتّدها في كبد الأرض.

فمرسى الساعة ثباتها أو زمن الثبات (١) ثباتها واقعيا ، أم ثبات الاختلال والزوال المعنيّ من الساعة ، أم وقفة الزمان لهذا الكون ، تبدلا إلى زمان دون وقفة وانتهاء.

(أَيَّانَ مُرْساها) :

أي زمان يكون إثباتها أم ثباتها؟ ..

كل ما نعرف عن الساعة ـ بما عرفنا الله ـ أنها قريب : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (٥٤ : ١) (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (٤٢ : ١٧) ولا معنى لقربها ، إلا أن الكائنات تجاوزت عن النصف من عمرها حين نزول القرآن ـ إذ يعتبر انشقاق القمر من أشراط الساعة وآيات قربها ـ وإلا أن كل آت قريب.

__________________

(١) لكونها مصدرا ميميا أو اسم زمان لا اسم المكان إذ لا معنى لمكان رسو الساعة.


هذا ـ ثم لا نعرف ـ ولا يعرف وحتى النبيين ـ عن زمن الساعة شيئا ، إلا عن علاماتها حينها بما أوحى الله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (١٦ : ٧٧).

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) :

أنت بعيد عن ذكرى الساعة كلّ البعد ، وهي خفيّة لحدّ يكاد الله يخفيها حتى عن نفسه المقدسة : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٢٠ : ١٥).

رغم أنه من المستحيل خفاء أمر عن الله ، ولذلك قال : (أَكادُ أُخْفِيها) لا «أخفيها» إخبارا بشدة خفائها عمن سواه إلى حيث يكاد يخفيها حتى عن نفسه المقدسة وليس بمخفيها عنها ، وإنها من اختصاصات الربوبية علمها وإقامتها : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٤١ : ٤٧) (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٤٣ : ٨٥).

وفي أحاديث عدة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يسأل الله عن الساعة ، إذ كثرت أسئلة المشركين حول الساعة فنزلت الآية (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها)(١).

(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) :

منتهاها علما وإقامة ، ومنتهى زمن الدنيا والبرزخ المتداخل معها ، وهو الساعة أيضا إذ تضمحل الكائنات ، لا منتهى زمن الآخرة إذ لا منتهى لها ،

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١٤ ، أخرجه ابن مردوية عن علي بن أبي طالب عنه (ص) وابن أبي حاتم وابن مردوية عن ابن عباس والبزاز وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة ، وأخرجه عبد بن حميد والنسائي وابن جرير الطبراني وابن مردوية عن طارق بن شهاب عنه (ص).


وإن الساعة ليست هي اليوم الآخر كله ، إنما ساعة منه لها بداية : «الرجفة الأولى» ولها نهاية : «الرجفة الثانية» رجفة الإماتة والإحياء ، فإلى ربك منتهاها كما منه مبتدأها.

من هنا وهناك نستوحي أن السؤال عن الساعة كان عن مرساها ومنتهاها ، عن زمن رجفة الإماتة والإحياء ، والثانية هي الأصل وهي المعاد ، فمنتهى الساعة التي هي الإحياء إنما هو إلى الله ، لا يشاركه فيه أحد ، ولا يعلمه غيره أحد ، كما ورجفة الإماتة منه لا سواه ، وإنهاء الكائنات إلى ساعة الضياع أيضا منه لا سواه.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) :

ليس لك إلا الإنذار بشأنها ، دون أن تعلم أو تقدر على شيء منها ، ولا يؤثر إنذارك إلا فيمن يخشاها : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٢ : ٤٦) وأما الناكرون لها والشاكون فيها فليس لك إلا إلقاء الحجة عليهم ، وإن كانوا : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢ : ٦) سواء عليهم إذ لا يتذكرون ، لا سواء لك ـ (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (١٣ : ٤٠).

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (٣٦ : ١١).

فهذه من حدودك الرسالية أن تنذر بها من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ويعمل لها ويتوقعها في موعدها الموكول إلى صاحبها.


زمن لبث البرزخ :

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) :

يخيّل إلى الناكرين الشاكين في اليوم الآخر وساعته ، يخيل إليهم يوم يرون الساعة : صيحة الإحياء ـ فإنها من ساعة ذلك اليوم ـ أنهم لم يلبثوا في الحياة قبلها ـ برزخ وسواه ـ لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ، يحسبونهم لبثوا هذا القليل القليل من الزمن ، لضخامة وقعة الساعة وقرعة القارعة ، بحيث تتضاءل إلى جواره ما لبثوه قبلها بأشيائها وأشياعها وأحداثها ، فتبدو في حسّهم كأنها (عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) وهو ليس كما يزعمون.

أو أنه ساعة من نهار : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) (١٠ : ٤٥) بل ويقسمون عليه أيضا : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٣٠ : ٥٥).

أو يوما أو بعض يوم : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ. قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٣ : ١١٥ ـ ١١٧).

أو عشر ليال أو سنين : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (٢٠ : ١٠٣ ـ ١٠٥).

إن المجرمين ـ على مختلف دركاتهم ـ يحسبونهم لبثوا في الأرض ـ أرض التكليف وأرض البرزخ ـ : لبثوا ساعة من نهار ، أو يوما أو بعض يوم ، أو عشية أو ضحاها أو عشر ليال أو سنين ، وكلهم على خطأ فيما حسبوه من تحديد زمن مكثهم ، إلا في أنه كان قليلا بجنب الحياة الآخرة الخالدة ، وقد يصدقهم الله


تعالى في أصل القلة : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ويكذبهم في هذه التي زعموها من الزمن ، إذ يجيب عن زعمهم (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٥٦).

والقلة لمكث الدنيا هنا قلتان : ١ ـ القلة بجنب الآخرة من كافة الجهات غير التكليفية ، وقد صدقها الله تعالى تنديدا بمن كان يؤصّلها ويكثرها بنكران الآخرة ، أو أنها كمثل الدنيا : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٣ : ١١٧) ، فإن الحياة الدنيا مهما طالت وازدهرت فهي قليلة بجنب الحياة الخالدة.

٢ ـ وقلة يزعمها المتخلفون أننا ما أمهلنا في حياة التكليف إلا قليلا لا يكفي لأداء الواجب ، فهذا ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٥٢).

وهم الذين يلتمسون من الله الرجوع إلى الدنيا لكي يعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملون ، كأن الوقت ما كان كافيا لما هم يأملون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧).

أجل وإن حياة التكليف كثيرة ـ مهما قلت ـ لمن أراد أن يتذكر ، إذ إنها ـ كلها ـ ذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد .. مهما كانت هي وحياة البرزخ قليلة بجنب الحياة الآخرة الخالدة.

ولبث البرزخ يحسب قليلا وهو صادق بما عاشوها من حياة أكثرها النوم ، وبما قاسوها إلى الآخرة ، وهو كاذب على ما حددوه من ساعة أو يوم أو بعض يوم أو عشر.


فأهل البرزخ أغلب أوقاتهم في غفوة ونوم إلى حيث سمي البرزخ مرقدا : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ..) (٣٦ : ٥٢) وإنما يقظتهم في الغدو والعشي (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٤٠ : ٤٦) (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١٩ : ٦٢).

.. فمن قائل من المجرمين أنه لبث ساعة من نهار ، ومن قائل : عشية أو ضحاها ، وكما يناسب يقظتهم ، وعلّ المسلمين أيضا يجيبون عن قدر مكثهم أنه أحد الجديدين : ليل أو نهار ، فإنهم ـ ومعهم غيرهم : «لا يتعارفون لليل صباحا ولا لنهار مساء ، أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا» (١) فإن ذهبوا في نهار لم يعرفوا له ليلا ، أو في ليل لم يعرفوا له نهارا .. لذلك يترددون في قدر مكثهم بين عشية أو ضحاها ، أو ساعة من نهار أو عشر ، لكن الصادقين في إيمانهم منهم ، الذين أوتوا العلم والإيمان ، إنهم لا يحددون موقف البرزخ بهذا وذاك ، وإنما مقالتهم (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٥٦) .. ولئن قالوا إنهم لبثوا قليلا فقد صدق الله مقالتهم : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً ..) (١٧ : ٥٢) ، فإنه ـ حقا ـ كان قليلا بجنب الحياة الآخرة ، ولأنهم كانوا في البرزخ رقادا نوّما إلا قليلا ، فهم ـ إذا ـ ينظرون إلى أصل القلة لا حدّها ، كما ويصدّق المجرمون أيضا في أصلها وقد يروى عن الرسول الأقدس في تفسير الآية قوله : «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، قال لأهل الجنة : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ،) قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي ، اسكنوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول : يا أهل النار كم لبثتم

__________________

(١) عن علي أمير المؤمنين في نقل السيد الشريف الرضي في نهج البلاغة.


في الأرض عدد سنين ، قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي ، امكثوا فيها خالدين» (١).

(.. لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) إن هذه الحياة الدنيا التي يتنافس لأجلها المتنافسون ويتطاحنون ، والتي يرتكبون لأجلها ما يرتكبون ، إنها تنطوي في نفوس أصحابها فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها.

هذه القصيرة العاجلة ، والزهيدة الهزيلة التافهة ، أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة .. إنها الحماقة الكبرى ، لا يرتكبها ذو حجى.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٧ ، أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي عنه (ص).


سورة عبس ـ مكية ـ وآياتها اثنان وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١٦)

عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) :

من هذا العبوس القمطرير؟

العبوس قطوب الوجه من ضيق الصدر لمن كان له صدر ، والقطوب المعمّق لسواه : (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (٧٦ : ١٠) وبنفس الإعتبار قيل العبس لما يبس على هلب الذنب من البعر والبول ، وعبس الوسخ على وجهه ، وقد وصف


الله ألدّ أعدائه المعارض لكتابه ، بالعبوس : (ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (٧٤ : ٢١ ـ)٢٦.

فمن هذا العبوس ، ضيّق الصدر ، القذر الخلق كالبعر اليابس والبول على هلب الذنب؟ والذي يعده الله صلي سقر لأنه عبس وبسر ثم أدبر واستكبر؟ ..

من هذا العبوس القمطرير الذي يعبس في وجه المؤمن الأعمى الضرير الفقير؟ في حين ينصدى لعميان القلوب من الكفار الأقذار الأشرار؟

من هذا الأحمق الذي يتلهى عمن يسعى إلى الحق وهو يخشى الله ، ويتصدى لمن استغنى عن الله ، وهو يسعى ليعيث الفساد في الأرض ويهلك الحرث والنسل.

من هذا الغبي البعيد البعيد الذي يردعه الله تعالى بهذا العنف عن فعلته السخيفة ويسوقه إلى التذكرة التي هي في صحف مكرّمة. مرفوعة مطهّرة. بأيدي سفرة. كرام بررة؟

هل يجرأ مسلم أن يتقول القولة الجاهلة الفاتكة : أنه الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ وهو على خلق عظيم! والعظيم عند الله إله العظمة ، فما للخلق العظيم أصبح كالأم اللئيم؟ فما لمن شرح الله صدره يضيق صدره لما شرحه الله به : يضيق لمن يستعلمه شيئا من القرآن ، أإكراما لألعن الخلق المحاربين للقرآن؟

إن نقلة الأخبار هنا أنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحاشاه ، لم يراعوا كيان الرسالة المحمدية حق رعايتها ولا شيئا منها ، أم جهلوا أو تجاهلوا مدى التنديد الشديد في هذه الآيات بشأن الذي عبس وتولى أن جاءه الأعمى ، وهم لم ينقلوها إلا عن الهوى ، ولم يسندوا فيها إلى ركن وثيق من كتاب أو سنة ، إلا نقلا عن هذا وذاك ، عن الذين لا تسمن أقوالهم ولا تغني من جوع.


في حين أن الرواية عن أهل بيت الرسالة المحمدية تكذّب هذه الوقيعة بشأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، تصديقا لطبع الرسالة القدسية ، وللقرآن هنا وفي سواها من آيات.

فعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قوله : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال : جاء ومرحبا مرحبا ، والله لا يعاتبني الله فيك أبدا وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي مما يفعل» (١).

فالرسول الأقدس يقسم بالله أنه ليس هو المعاتب بشأن الأعمى ، ثم حفيده الصادق عليه السّلام يقول : «إنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه ابن أم مكتوم ، فلما جاءه تقذر منه وعبس في وجهه وجمع نفسه وأعرض بوجهه عنه» (٢).

وفي نقل آخر عنه عليه السّلام : «نزلت في عثمان وابن أم مكتوم ، وكان ابن أم مكتوم مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أعمى فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أصحابه وعثمان عنده فقدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عثمان ، فعبس عثمان في وجهه وتولى عنه» (٣).

إذا فلا يعبأ بما يتقوّل أو ينقل أنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٤) ، إذ يتنافى والكيان

__________________

(١) البرهان ٤ : ٤٢٨ ـ ٢ ، الطبرسي عنه (ع).

(٢) البرهان ٤ : ٤٢٨ ـ ١ ، الطبرسي عنه (ع).

(٣) البرهان ٤ : ٤٢٧ ـ ١ ، علي بن ابراهيم عنه (ع).

(٤) كما في الدر المنثور ٦ : ٣١٤ ـ ٣١٥ ، وليس شيء منها عن المعصوم ، وحاصلها بإلقاء المكررات «أن النبي (ص) كان عنده رجل أو رجال من عظماء المشركين يدعوهم إلى الإسلام فجاء ابن ام مكتوم ـ وهو مؤذن الرسول ـ يسترشده ويستقرئه شيئا من القرآن قائلا : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، فأعرض عنه وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه وأقبل على الآخرين ، فلما قضى رسول الله (ص) نجواه وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ثم خفق برأسه ثم أنزل الله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) عن عائشة وأنس وأبي مالك والحكم وابن زيد وابن عباس».


الرسالي ، والقرآن الحاكي عن كيان الرسول وخلقه العظيم ، والآيات في هذه السورة نفسها.

فالآيتان الأوليان تنقلان العبوس والتولي عن غائب : «عبس ـ تولى ـ جاءه» ، والقرآن موجّه بالذات إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو المخاطب في آياته الكريمة لا سواه ، إلا بدليل قاطع ، وفيما إذا خوطب غيره ، فإنما هو بواسطته ، إذ إنّ وحي القرآن ليس إلا إليه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٢٦ : ١٩٤ ـ ١٩٥).

لا يقول : عبست وتوليت أن جاءك الأعمى ، وإنما (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فمن هذا الذي يشكو إليه الله تعالى عنه ، هل هو غير من يوحي إليه بالقرآن؟ وإذ كان هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فهل يشكو إليه عن نفسه المقدسة شكاة منه إليه؟

ثم نرى هنا التفاتا من الغيبة إلى الحضور ، فالمخاطب ثانيا هو الغائب أولا ، وليست الغيبة في البداية إلا لأنّ العابس هو البعيد البعيد ، لا يستحق الخطاب لبعده بعبوسه عن ساحة القرب ، يشكوه ربه إلى نبيه ، ثم يخاطبه بعناد وعتاب قاس : (وَما يُدْرِيكَ ..)؟ إضافة إلى نسبته إلى الكفر أو الكفران : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) ولم يسبق هنا من الكفران إلا العبوس والتولي.

ومن وجهة النظرة العامة إلى القرآن فيما يعرّف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو يكلّفه ، نرى من المستحيل أن يكون العابس هو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : فقد سبقت آية العبس

__________________

ـ والاعتذار مما يظنونه من عبس النبي (ص) أنه (ص) كان مستخليا بصنديد من صناديد قريش وهو يدعوه إلى الله وهو يرجو أن يسلم إذ أقبل ابن أم مكتوم ، فلما رآه النبي (ص) كره مجيئه وقال في نفسه : يقول هذا القرشي إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فعبس فنزل الوحي ، كما عن مجاهد.

هذا الاعتذار يتنافى والقرآن القائل : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) إذ لو رجا إيمانه لكان مكلفا بالتصدي له ، ويتنافى وخلق الرسول من إكرامه للمؤمنين ، فليضرب بهذه الأخبار عرض الجدار.


آية الخلق العظيم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٦٨ : ٤) ولزمته آية خفض الجناح للمؤمنين : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (١٥ : ٨٨ ـ ٨٩) أفتحسب الرسول يترك أمر الله وهو (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٤٣ : ٨١) ويترك الخلق العظيم ، تكذيبا لما قرره رب العالمين : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، كل ذلك تصديا وإكراما للطغاة اللئام المستغنين ، فيعبس في وجه مؤذّنه الفقير الضرير لأنه استقرأه آيا من الذكر الحكيم ، فيتولى عنه توليا عما أمر أن يعيشه طوال حياته المنيرة؟ (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)!

إن العبوس لم يكن من شيم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين ، وقد أمر أن يصبر نفسه معهم : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١٨ : ٢٨).

وألا يطردهم : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٦ : ٥٢).

وأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ٢١٥).

وألا يكون فظا غليظ القلب : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٣ : ١٥٩).

وأن يعرض عن المشركين : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (١٥ : ٩٤ ـ ٩٥).

هذه وما إليها من أوامر وتعليمات ربانية ، وإنها من أوليات الشروط الرسالية من بدايتها ، أفهل يتركها الرسول فيعامل مؤذنه الضرير الفقير بهذه الفظاظة والغلظة فيطرده فيكون من الظالمين التاركين لأوليات شروط الدعوة؟


أمن العقل والعدل أن يهتك الرسول العظيم صلّى الله عليه وآله وسلّم ويفتك به هكذا ذودا عن فرع من فروع الشجرة الملعونة في القرآن : وكما نراه كثيرا (١)؟ وليس اختلاق هذه الروايات إلا من التعصب الأعمى واللامبالاة بالدين وعدم الاكتراث بشأن الرسول الكريم ، الذي كان يجابه من يهينه بكل لين واحترام ، فكيف يواجه هذا المؤمن بكل شقوة واخترام؟ فهل لأنه سأله عن شيء من القرآن ، أو لأنه لا يملك من زخارف الحياة شيئا؟! أو لمجرد أنه جاءه كما الآية تشير : (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) لا «أن كلمه» فاستنكر مجيئه وقال في نفسه : يقول هذا القرشي إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد فعبس فنزل الوحي كما عن مجاهد! وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يمارس طوال حياته ورسالته عشرة الفقراء المؤمنين كما أمره الله ، وبطبعه الرسالي! ..

(عَبَسَ وَتَوَلَّى) : عثمان الأموي الارستقراطي الفخور (أَنْ جاءَهُ

__________________

(١) في كتابنا «علي والحاكمون» تجد الكثير من هذه الاختلاقات في تفضيل الخلفاء الثلاثة على الرسول الأقدس (ص) نرويها عن مسانيد إخواننا السنة :

ففي نزهة المجالس أن اسم أبي بكر نقش على خاتم النبي بخط الله تعالى.

وعن انس بن مالك كان أبو بكر شيخا يعرف والنبي شاب لا يعرف.

هذه وأمثالها تفصيلا لأبي بكر على النبي (ص) قبل النبوة وبعدها ، فيا لها من فضيحة فاتكة هائكة! ثم نرى الخليفة عمر لا يحب الباطل والله والنبي يحبان الباطل!

فعن الأسود بن سريع قال : أتيت النبي (ص) فقلت : قد حمدت ربي بمحامد ومدح وإياك ، فقال : إن ربك يحب الحمد فجعلت أنشده فاستأذن رجل طويل أصلع فقال لي رسول الله (ص): اسكت ، فدخل فتكلم ساعة ثم خرج فأنشدته ثم جاء فسكتني النبي (ص) فتكلم ثم خرج ففعل مرتين أو ثلاثا ، فقلت : يا رسول الله من هذا الذي أسكتني له ، فقال : هذا عمر لا يحب الباطل.

نرى أمثال هذه المختلقات الزور بين الروآيات عن عالم من الجهل وسوء الأدب ، ومنها ما وردت في أن العبوس هو الرسول دون عثمان! حفاظا على عثمان الأموي وإزراء بالرسول الألمعي (ص)! فيا له مراما ما أبعده وزورا ما أغفله!


الْأَعْمى) .. جاءه ابن أم مكتوم مؤذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك المؤمن الهرم الفقير الضرير ، جاءه بأمر النبي ليحلّ محله ويجلس مجلسه إذ قدّمه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على عثمان في مجلسه :

فقد جاء النبيّ ليستقرأه آيا من الذكر الحكيم ، وعنده صناديد قريش وإلى جانبه عثمان ، فأكرمه النبي وأجلسه بجانبه وأخّر عثمان ، فضاق صدره منه وعبس في وجهه وتولى عنه وتقذر وجمع نفسه عنه ، سخطا على عماه وفقره ، وردا على حكم الله ورسوله ، فنزلت الآيات بالتنديد الشديد على عثمان ، وردعته أخيرا عن فعلته المشئومة ارجاعا إلى تذكرة : في صحف مكرمة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة ، والرسول الأقدس من أكرم السفرة والبررة ، وقد حدث ما حدث بمحضره الشريف .. لذلك نرى الآيات تقتل عثمان بعد ما تندد به : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ..).

هكذا يبدأ الرسول دعوته ورسالته ، وبكلمة جامعة لا محيص عنها : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فلا موضع ـ هنا ـ للأمجاد العائلية ، والفخفخات المالية ، والطنطنات القومية ، والادعاءات الجوفاء ، ففي حين نرى سورة فذة تلعن أبا لهب عم النبي وهو من أعرق قريش ، نجد سلمان الفارسي يحتل من الكرامة ما يغبطه بها العالمون : «سلمان من أهل البيت» «لا تقولوا سلمان الفارسي بل قولوا سلمان المحمدي».

ولذلك نراه صلّى الله عليه وآله وسلّم يكرم عبد الله ابن أم مكتوم ـ بعد ما هتكه عثمان ـ أكثر مما كان يكرمه قبله : «فلما نزلت الآية دعاه فأكرمه واستخلفه على المدينة مرتين» (١) ، «وكانت عائشة تكرمه بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تقطع له الأترج وتطعمه إياه بالعسل» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١٥ ، أخرجه ابن سعد وابن المنذر عن الضحاك.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣١٥ ، أخرجه الحاكم وصححه وابن مردوية في شعب الايمان عن مسروق.


كل ذلك إكراما لمن أهانه ابن عفان وإعلانا لمهانة عثمان جبرانا للمهان.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) :

ما يدريك أيها الأعمى القلب ، لعل هذا الأعمى العين يتزكى أكثر مما تتزكى ، بما يستقرئه ويستعلمه النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم أو ـ على الأقل ـ يتذكر بما يذكّره النبي فتنفعه ذكراه في أن يتزكى بها ، يتزكى معرفيا ثم عمليا ، فما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكثير ، أن يتطهر هذا الرجل الضرير الفقير الذي جاء الرسول راغبا فيما عنده من الخير الغزير!

ما يدريك أن يشرق هذا القلب المنير بما هو أنور بقبس من نور الله ، فيزداد نورا على نور فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ .. أفهكذا تواجه المؤمن الفقير؟!

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) :

هنا تعلو نبرة الخطاب وتشتد لهجة العتاب أن كيف تقتسم هكذا قسمة ضيزى بين من استغنى ولا يزّكّى ومن جاءك يسعى وهو يخشى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٩٦ : ٦ ـ ٧) فهؤلاء الطواغيت المستغنون المتأنفون المتعنتون الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢ : ٦) الذين لا يتزكون وليسوا بصدد التحري عن الهدى .. فهؤلاء الحمقاء الطواغيت أنت لهم تتصدى! إن التصدي

أن يقابل الشيء مقابلة الصدى ، أي الصوت ، الراجع من الجبل. (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) : تتصوت له كالبوق وكأنه إله يعبد .. إنه يستغني عن شرعة الله ويطغى ، ثم أنت له ولتبجيله تتصوت وتتعربد .. ليس إلا لأنك من زمرتهم دون استحياء من النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم.


(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) : ما كلّفت أنت بتزكيته ، إذ لست رسولا ، ولو كنته فإذ هو لا يتزكى فسواء إنذاره وعدم إنذاره ، فليس هذا التصدي الباطل يبرره رجاء أن يتزكى ، فليس عليك بأس ألا يتزكى ، لا سيما إذا كان التصدي له بقيمة إبطال قيم الإيمان والعبس في وجه المجرب الصامد في الإيمان. أو ماذا عليك ألا يتزكى؟ ماذا يضرك بعد ألّا يهتدي رغم المحاولات في هدايته ، في حين أن العبس في وجه المؤمن هو عليك وعلى كرامة الإيمان! أو : لا يهمك انه ليس بصدد التزكي ، وإنما تهمك الظواهر المغرية! (١).

فهذه حالتك الإيجابية وجاه الطغاة الذين لا يرجى خيرهم وهواهم ، ثم سلبيتك لمن يسعى وهو يخشى.

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) :

من جاءك ساعيا إلى رسول الهدى ، جاءك ليجلس مجلسك بمقربة من الرسول ، يسعى إلى الخير ليستزيد منه ، إلى منار الهدى ليستنير منه ، وإلى مدينة العلم ليستعلمه ويستقرئه.

جاء يسعى ، مسرعا في مشيه رغم عماه ، ومتسرعا إلى الاستزادة ابتغاء كل الفرص ، مطبقا أمر الله في سعيه وسرعته : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) (٣ : ١٣٣).

من جاء بهذا النمط اللطيف (وَهُوَ يَخْشى) : يخشى الوقوع على الأرض لعماه وسرعته في سعيه ، ويخشى الكفار أن يخدعوه أو يغتالوه ، ولكنه لا يبالي كل ذلك لأنه يخشى الله ، دون كبرياء واستغناء ودون أنفة ورياء ، وإنما يسعى إلى

__________________

(١) هذه احتمالات ثلاث في «ما» * أن تكون نافية أو استفهامية ، وعلى الأول أن تكون أخبارية أو تنديدية أنه لا تفرق عندك تزكيته وعدمها.


الرسول ، ويقترب إليه منحيا إياك يا عثمان! بأمر الرسول ، يسعى بدافع الخشية و : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٣٥ : ٢٨) والقرآن تذكرة لمن يخشى دون من يطغى : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٠ : ٣ ـ ٥) (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) (٨٧ : ١٠).

(فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) : أنت الذي تتصدى وتهتم بمن يطغى ولا يزكى ، أنت تلهى عمن يسعى ويخشى ويزكى ، تلهّى عنه عابسا في وجهه موليا عنه إلى الطواغيت ، أفعبسا في وجه الإيمان وتلهيا عنه إلى وجه الطغيان؟

هنا نسأل ذوي الضمائر الصافية ، هل من المحتمل ـ إذا ـ أن يكون العابس المولي وجهه عن الأعمى ، اللاهي عنه إلى الطواغيت ، المتصدي لهم ولا يرجى إيمانهم ، أنه الرسول الذي هو خير العابدين وهو على خلق عظيم؟! فبذلك تتهدم دعائم رسالته وأساس دعوته.

كلا ـ إنه من أرذل الناس وأسوأهم أدبا وأجهلهم بالأدب الإسلامي والإنساني ، إنه فرع من الشجرة الملعونة في القرآن.

«كلا» * : ليس هذا هو الأدب ، ليست هذه هي الشيمة الإسلامية ، ليس الإسلام بالذي يقرّك على هذه الحالة الرديئة ، وليس الرسول بالذي يسكت عن التذكرة ، وليس بالذي يقدمك على الأعمى ولى في مجلسك ..

«كلا» * : بعدا لخلقك اللئيم ، البعيد البعيد عما جاءت به الصحف المكرمة بأيدي سفرة ، كرام بررة.

إنّ عليك أن ترجع إلى رسالة السماء ، إلى كتب السماء ، إلى الكرام البررة ، لتخرج من هذه اللئامة ، لتخرجك من الظلمات إلى النور ، إلى صراط العزيز الحميد.

«كلا» * لا يكون هذا هو النبي البار الكريم ، وعلى حد قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «والله لا يعاتبني الله فيك أبدا» ..


«كلا» * فإنه تذكرة للغافلين ، وتنبيه للجاهلين.

(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) :

«كلا ..» * إنها تذكرة رسالات السماء ، بأيدي سفراء السماء رجالات الوحي ، يقدمهم الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ميثاقا ووثاقا ، وهو آخرهم مبعثا.

هذه الدعوة المقدسة مكرمة مطهرة ، مستغنية عن كل أحد وعن كل سند ، وإنما هي لمن يريدها لأنها دعوة السماء ، ولأنها كريمة في كل اعتبار ، عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين ، ولا يتلهى بها عن المؤمنين.

(إِنَّها تَذْكِرَةٌ) : آي الذكر الحكيم هي تذكرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) : ذكر ما تذكّره به الآيات (١) تذكرة حاصلها الذكر لمن شاء أن يتذكر .. تذكرة لما سجله الله تعالى في كتاب الفطرة والعقل ، فإنها لا تجانب الفطر والعقول ، وليست جديدة لا صلة لها بأعماق ذواتنا وما تتطلبه حيوياتنا ، وإنما كيانها أن تذكّرنا بما غفلنا عنه واستغفلناه ، بما ران على قلوبنا ، وستر على عقولنا «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى».

فمن الآيات ما تعرفها عقولنا إذ تتذكر بها ما نسيته ، ومنها ما لا تنكرها لأنها لا تنافيها ، فالكل ـ إذا ـ تذكرة.

(إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) :

__________________

(١) ضمير المذكر في «ذكره» * لا يرجع إلى «تذكرة» * فإن الذاكر لا يذكر التذكرة وإنما يتذكر به أمرا آخر كان عنه غافلا ، ف (ه) يرجع إلى حاصل التذكرة وهو الأمر الآخر ، ذكره : أي ما تذكره التذكرة.


الصحيفة هي المبسوط من الشيء دون خفاء وخباء ، وإنها صحف القرآن في القرآن وفي صحف النبيين أجمعين ، فإن القرآن يحمل الوحي الصادق النازل عليهم من قبل ، وفيه زيادات خالدة ، وأنه بينة ما في الصحف الأولى : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (٢٠ : ١٣٣) أتتهم في خاتمة الوحي ، في القرآن.

وإنها مكرمة عند الله وعند ملائكة الله ورسل الله ولمن ألقى السمع وهو شهيد ، مكرمة عند من يكرم عقله وضميره ويهدف إكرام نفسه في الحياة.

وهي مرفوعة عن وحي الأرض ، فإنها وحي السماء ، مترفعة عن تدخل الأرض وتحريفها ، مرفوعة عن أن تنالها أيدي الدس والتحريف والنسخ والتزييف.

وهي مطهرة من قذارة الباطل ولغو القول والريبة والتناقض : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢) (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (٨٦ : ١٤) (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤ : ٨٢).

وجماع القول في تلكم الصحف أنها لا ينقصها شيء من الكمال والجلال والبهاء والجمال ، فهي الحجة البالغة الدامغة على من تصله ، هذه ذاته وطبيعته اللمّاعة.

ثم نرى وسائطها الملائكية والبشرية أنهم كرام بررة ، لا يزيدونها إلا جلاء ونورا وبهورا.

(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) : سفرة ربانيون مرسلون ، سماويون وأرضيون ، أرسلهم الله تعالى للبلاغ : من جبريل أمين الوحي وملائكته الأعوان ، إذ ينزل بها على قلب الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتمة الوحي وأفضله : (نَزَلَ


بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٢٦ : ١٩٤) (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٨١ : ٢١).

وإذ يوحي ملائكته الأعوان معه إلى سائر النبيين ما نجده خالصا موجزا خالدا في الذكر الحكيم ..

وأنهم سفرة : مرسلون سافرون ، دائمو الحركة في البلاغ ، بوجوه سافرة : بشّاشة ، وصدور سافرة ، وقلوب سافرة ، وألسنة ناطقة بالحق سافرة ، كيانهم السفور في الحق لا يختبون عن أمر أمروا ببلاغه ، يعيشون حياتهم السفارة الإلهية كما الله أراد.

فالسفارة هي الكشف والحركة والتنقل بالكشف ، فهم يكشفون الستر عن الحقائق بما أوحي إليهم ، ويتنقلون مناكب الأرض لتحقيق هذه السفارة الإلهية ، جماعة كشافة وهم كرام بررة (١).

إنهم كرام بررة في رسالاتهم وبلاغاتهم ، وليسوا لئاما خبثاء ، وأكرمهم وأبرّهم في بلاغ الوحي هو الرسول الألمعي الأبطحي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كما الأكرم في الملائكة هو جبرائيل ومن فوقهم الروح زعيمهم العظيم.

فلينح نحوهم ونحوه في مواجهة المؤمنين أمثال ذلك العابس المتولي اللئيم ليخرج عن عبوسه ولؤمه تخلقا بخلقه العظيم ، وليذّكّر بذكراهم المستغنون الكافرون.

__________________

(١) وقد يقال أن السفرة من السافرة بمعنى الكتبة ولكنه بعيد إذ أن الكتبة هنا أماهم كتبة الأعمال الكرام الكاتبون ـ ولا يناسب المقام من عدة جهات ـ أو أنهم كتبة الوحي فليسوا هم الملائكة ولا النبيون ، والكتبة غير المعصومين ليست لهم تلك الأهمية البالغة التي تخصهم بالذكر دون المرسلين.

وقد يحتمل أن السفرة بمعنى المصلحين ، ولا بأس أن يعنى مع المعنى الظاهر ، المرسلين. فإنهم هم المصلحون الكرام البررة.


فهذه هي الرحلة الثانية في توجيه ابن عفان العابس ومن تصدى هوله ، من الطواغيت ، بعد تأنيبه أولا ، توجيها له إلى الصحف المكرمة بأيدي سفرة وأكرمهم هو الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أساء الأدب بمحضره الشريف.

ثم تأنيب ثالث يقتله وأمثاله بالكفران ونسيان نعم الرب المنان ، ويقتل من استغنى ولا يتزكى.

* * *

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣)

.. (قُتِلَ الْإِنْسانُ) : إخبار أنه مقتول هواه وغبائه ، قتلته نفسه الأمارة بالسوء ، قتلت روحه وضميره وقلبه ، فالمثل العليا فيه مقتولة ميتة مقبورة ، ومثل الحيونة والطغيان فيه حية ماثلة ، وكما عرفناه من ابن عفان ، وأحرى منه في من استغنى ولا يريد أن يزكى ، تنديدا بالمتصدي والمتصدّى له ، كل على حدّه.

هذه هي اللعنة التي يستجرها الإنسان إلى نفسه بأخلاقه وأعماله الملعونة ، وعلى حد تفسير الإمام عليه السّلام : «لعن الإنسان» (١).

أجل إنه إخبار من الله بهذه اللعنة ، وليس دعاء وكيف يدعو الله! اللهم إلا عن ألسنة السفرة الكرام البررة يدعون لهكذا إنسان بالقتل ، أن يقتله الله ختما على قلبه ويزيغه (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٠ ح ١٠ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين علي (ع).


وإنه يستحق القتل على فظيع تصرفه ، فإنها صيغة تقبيح وتفضيح ، وإفادة إنه يستوجب القتل لشناعته وبشاعته ، إن قتلا لأخلاقه التي قتلت انسانيته ، أو قتلا وازهاقا لروحه الجهنمية التي سواء عليها الإنذار وعدم الإنذار :

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى).

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) :

استفهام انكاري : ما الذي ستره؟ ستر عقله وضميره وفطرته وبصيرته فأعماه! .. أم فعل التعجب : عجب منه كيف يكفر بربه ناس؟؟؟ ا كيانه؟ كيف كان وكيف صار؟ ..

علام يستغني ويستكبر؟ ولم يتصدى له من يدعي الإيمان ، عابسا في وجه المؤمن؟!

والكفر هنا يعم كل ستر وحجاب على بصيرة الإنسان بجنب ربه ، شاملا دافة ألوان العصيان ودرجاته تجاه رب العالمين (١).

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (٧٦ : ١) كان شيئا لا يذكر لتفاهته وقذارته لحدّ كان يستحى من ذكره باسمه وقتذاك «مني» * .. خلقه من هذا الذي لم يكن يذكر ، أصل لا قوام له ولا قيمة ، عفن نتن رجس مهين ، نطفة من منيّ يمنى.

نطفة عجيبة في خلقها وشكلها على حين مهانتها ، نطفة أمشاج من بحر لجي من علق. (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) : الدودات الصغيرة السابحة في البحر المنوي

__________________

(١) من كفران النعم وإن كان من الموحد المسلم ، ومن كفر العصيان كذلك ، إلى آخر درجات الكفر ، فللشيطان خطوات في الإضلال كلها كفر وظلام.


(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) : نطفة في وحدتها أمشاج : أخلاط من عناصر عدة ، ومن أشكال عدة من اخرياتها الخلط الثنوي بين الحيوان المنوي والبويضة (١) ، فلما ذا يستغني وأوله نطفة قذرة ، وآخره جيفة مذرة ، وهو بينهما حمال عذرة؟! ولماذا يستغني وأوله دليل على قدرة الله وحكمته أن كيف خلق النطفة؟ وتقديره وتيسره وإلى نهاية أمره ، كل ذلك دليل على إتقان الصنع وإحكامه.

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٤) .. هكذا خلقه من نطفة وهكذا قدره جسدانيا وروحيا دون أن يكون خلقه فوضى ، دون تقدير ولا غاية.

خلقه من نطفة فقدّره إنسانا ، بدّله من دودة تافهة نتنة إلى أحسن المخلوقين ، ولأنه أحسن الخالقين .. قدّره وهيأه لتفهم السبيل وتقبّل السبيل.

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) :

يسر السبيل ذاته لا أنه يسره لها أو يسرها له. ليت السبيل منفصلة عن ذاته ، إنما هي في ذاته ـ فطرته وعقله ـ ومن ثم يتزود زيادة الهدى من آفاقه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٤١ : ٥٣).

إن السبيل هي الدين : المعرفة فالطاعة لله لا سواه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ

__________________

(١) تجد تفصيل البحث عن كيان المني والنطفة في مناسبات أخرى.


حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠).

كذلك ويسره سبيل الشر ليجتنبه كما يسره سبيل الخير ليسلكه : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٩٠ : ١٠).

والتيسير هنا وهناك علمي وتطبيقي ، يسرهما الله تعالى له في ذاته (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٩).

والهدف الأصيل هو سلوك سبيل الخير على بصيرة (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣).

وأي تيسير أقرب وأسهل من كون السبيل المقصودة مندغمة في ذوات المكلفين ، دون حاجة في ابتغائها إلى طي مسافة وغور مفازة ، وإنها لهي النعمة الكبرى والحجة العظمى الربانية أن زوّدنا بسفراء في ذواتنا ، ومن ثمّ سفراؤهم كرام بررة يذكروننا بما فطرنا ربنا عليه ، ثم الكائنات كلها شهود صدق لهؤلاء السفراء في أنفسنا وفي الآفاق.

يسره سبيله تعالى وسبل الحياة كلها ، لرحلات الحياة وللاهتداء فيها : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٨٧ : ٣ ـ ٤).

إنه ليس تقديره الإنسان بالذي ينافيه اهتداء السبيل التي يسره : فإنه تقدير لخلقه ، ثم تقدير لأفعاله أن يحصل عديد منها دون اختياره وهي التي لا يثاب عليها ولا يعاقب ، وأخرى باختياره وهي التي يعاقب عليها ويثاب ، تقديرا وقضاء بالاختيار ، ونفس الاختيار من التقدير.

يسره السبيل وأمره بسلوك السبيل وأمهله وعمّره ما يتذكر فيه من تذكر حتى إذا قضى نحبه.


(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) :

فكما الخلق والتقدير في الحياة الدنيا نعمة ، كذلك الموت فإنه قفزة إلى حياة أوسع وأرقى ، حياة البرزخ التي تظهر لنا حقائق أعمالنا : رحمه للمؤمنين إذ انتقلوا إلى رحمة الله ، ولمن سواهم أيضا إذا انقطع بموتهم المزيد من دوافع وأسباب العذاب ، ورحمة للباقين أن يتخلصوا من أذاه ، ورحمة بصورة عامة إذ لو لا الموت لأصبحت الحياة عذابا فوق العذاب ، كيف لا ومع واقع الموت نرى كيف يظلم بعضهم البعض؟ وكيف يفترسون؟! فالموت إذا من رحمات الله كما الحياة الدنيا ولأنها مدرسة الآخرة.

وكما الموت له نعمة كذلك قبره بعد الموت ـ وعلى حدّ تعبير الإمام الرضا عليه السّلام : «لئلا يظهر الناس على فساد جسده وقبح منظره وتغير ريحه ولا تتأذى به الأحياء بريحه وبما يدخل به الآفة والدنس والفساد ، وليكون مستورا عن الأولياء والأعداء فلا يشمت عدو ولا يحزن صديق» (١).

«فأقبره» : ينسب قبره إلى نفسه تعالى إذ هو علّمنا كيف نواري سوآت موتانا ، «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين» (٥ : ٣١) فهذه بداية معرفة الإنسان كيف يواري سوآت الأموات تحت التراب ، ومن ثم أمر الله تعالى بدفن الأموات كرامة لهم ورعاية ، فلم يجعل السنة أن يتركوا على ظهر الأرض للجوارح والكواسر ، والأمر بالقبر هو الإقبار كما الدفن وهو فعل الإنسان هو القبر ، فلذلك نسب الإقبار إلى نفسه لا القبر.

ثم نعمة أخيرة هي مفتاح نعمة الخلود لمن عرف قيمة الحياة ولم يمهلها سدى.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٠ علل الشرائع فضل بن شاذان سمع الرضا (ع) فإن قال فلم أمر بدفنه؟ قيل : لئلا يظهر ..


(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) :

بمشيئته خلقه وقدّره ثم السبيل يسره ثم أماته وأقبره ، ثم بمشيئته ينشره مرة أخرى ، قفزة إلى الحياة الأخيرة الخالدة ، و (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى).

«أنشره» : بجسمه وروحه وحيث يجمع أجزاءه الأصلية المتوفاة المكفولة عنده وعند ملك الموت وملائكته : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١) توفّيا في الأجساد والأرواح ، فلا تضل عن رب العالمين وعن ملائكة الموت مهما ضلت عنّا (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ ..).

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٧٥ : ٣٦) كلا : إنه سوف ينشر للحساب بمشيئة من إليه الحساب.

أنشره للحساب بعد طيّه في التراب ، والإنشار هو الإحياء للتصرف : تصرف رب العالمين في الحساب ، وتصرف المربوبين فيما قدموه لأنفسهم ، فليس هو الإحياء دون قيد وكما يدلنا قرنه بالحياة : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣٠ : ٢٥). وإذا (جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) فبما أنه حياة التصرف ، وإن كان ليس كاملا كحياة النشور يوم النشور ، وكما لا ترى الآيات في خلق الإنسان تعبر عنه بالنشور.

ثم ـ وبعد هذه النعم ، وبعد هذه الحجج ، هل يا ترى الإنسان قاضيا ما أمره ربه ، أمره لصالحه في مختلف مراحل الحياة ، لا لصالحه سبحانه.

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) :

الإنسان ككلّ ، الإنسان كعامة النوع ، إن كيانه هو كونه. «كلا» * :


ليس كما اراده الله فيما هداه .. «لما» * : وحتى قبره .. وحتى نشره (لَمَّا يَقْضِ) لم يؤدّ (ما أَمَرَهُ) الله ربه ، لم يقض هذه المرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب .. وهو هكذا بطبعه الثاني المتخلف ، رغم خطوته المهتدية ، فهو هكذا في مجموعه ، فوق أن الكثرة تستغني ولا تتزكى ، وتتكبر على الهدى ، ومعها من يعبس في وجه الهدى ، ثم لمن استغنى تتصدى.

فيا له مراما ما أبعده (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ)! (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١٤ : ٣٤) وأكفر من كل كفّار : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣٣ : ٧٢) .. فالأمانة قد تؤدّى وقد تحمل ، وليس الإنسان بمؤدّ للأمانات الإلهية لأنه ظلوم جهول ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقليل ما هم ، والباقون يحملون أمانة الله ولا يؤدونها.

* * *

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢)

.. فلكي ينتبه الإنسان لشكر الخالق ، لينظر إلى طعامه كيف خلق ، وما هو الجدير بطعمه لصالحه ، نظرات عدة من جهات عدة لكي يصبح طعامه طعام الإنسان.

فلينظر الإنسان إلى طعامه : هنا الآيات تنبهنا على كيفية خلق طعام الأبدان


ثم يتلوها ـ وبالأحرى ـ وجوب النظر إلى كيفية تحصيله من حلاله وحرامه ، من ضاره ونافعه ، جسدانيا.

فثم إذا ما كان النظر إلى طعام الأبدان واجبا شرعيا ، فهل يا ترى النظر إلى طعام الأرواح ليس واجبا ، والبدن مدرسة الروح وقنطرة لكماله؟! .. لذلك ترى الإمامين الصادقين يسألان عن معنى الطعام يجيبان : «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه» (١) تفسيرا موسّعا وبالمصداق الخفي ، أو تأويلا وما أحسنه تنبيها لغير الخالدين إلى الأرض.

إن الطعام ألصق شيء بالإنسان بعد خلقه ، وألزمه له استبقاء لكيانه كحيوان. فهلّا يلصق به كإنسان طعام الإنسان ، طعام الروح : المعرفة والعلم ، وغذاء القلب : الإيمان ، فإذ «لا» * فإنه قسمة ضيزى ، وإلا فلينظر الإنسان إلى طعام الروح ماذا يجب أن يكون وممن؟ .. إنه من الله ، من وحيه وإلهامه ، من مصادر الوحي والإلهام ، حيث لا يخالطه مثوب الأرض ، طعام من الصحف المكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة.

فلو لم ينظر الإنسان إلى طعامه المادي وفي صلوحه لغذائه ، مرض ، أو أنه مسموم ، مات ، أو في أنه من حل أو حرام عصى ربه ، وكل ذلك قابل للجيران وغايته فيما سوى الأخير فناء الجسم وما عليه لو سلّم القلب من كدر الكفر والعصيان.

وأما إذا لم ينظر في طعام الروح في أصله فيبقى الروح جائعا ، أو في نوعه فسمّ الروح أو قتل ، فهناك الطامة الكبرى مهما كان الجسم قويا صحيحا ناضجا.

__________________

(١) تفسير البرهان ٤ : ٤٢٩ محمد بن يعقوب بسنده عن زيد الشحام عن الصادق (ع) والشيخ المفيد في الاختصاص بسنده عنه عن الباقر (ع).


قد تؤخذ المعرفة من مصدر الضلالة على غرة الجهالة دون نظرة عميقة فتصبح الروح جهنمية شاردة عن مصدر المعرفة ، فتقتل بسمها القاتل طول الحياة وإلى الخلود ، كهؤلاء الذين يتبعون كل ناعق وناطق بهواه ، همج رعاع ، لا ينظرون إليهم نظر العقل ، يميلون مع كل ريح ولا يستضيئون بنور العلم ، هؤلاء هم المقتولون بذات أيديهم إذ لا ينظرون إلى طعامهم.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) :

هنا نستوحي من النظر إلى طعام الجسم ، إلى أصوله ومهيئاته ، نستوحي نظرا إلى طعام الروح.

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) : عله أو أنه هو الصب الأوّل على كرتنا الأرضية ، إذ كانت محترقة عطشانة ، صبّ عليها ماء ثجاجا ، ليخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا.

إن درجة حرارة الكرة الأرضية ـ بداية ترسبها زبدا عن التفجر الأول للمادة الأولية «الماء» * ـ إنها كانت هائلة جدا ، لم تكن لتقبل الماء ولا أن يتحد جزءاه «الأوكسجين والهيدروجين» إلا بعد أن هبطت حرارتها إلى زهاء أربعة آلاف درجة حرارية ، حينذاك تكوّن الماء في الفضاء الخارجي البعيد عن كرتنا فصب عليها صبا ثجاجا لحدّ غرقت الأرض في ثجاجها ، ثم يبست بعد ما؟؟؟ من الماء وأبخرت الباقي فشقت الأرض شقا.

فانشقاق الأرض ، المهيأ لخروج النبات فيها ، كان متراخيا بزمن عن صب الماء عليها المشار إليه ب «ثم» *.

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) :

بعد موجان ذائبها ، وموجان مياهها ، وبعد انجمادها شيئا مّا ، انشقت الأرض في ظواهرها.


فشقّ الأرض هو المرحلة التالية لصب الماء ، فما لم تشق لم ينفذ فيها الماء ولم يخرج منها الكلاء ، وبما أن الشق هو الخرم في الشيء ، فقد يشمل تفتت صخور القشرة الأرضية بسبب الفيضانات ومختلف العوامل الجوية التي تفرض انشقاقات الصخور الصلبة الكاسية وجه الأرض ، ولكي توجد الطبقة الطمية الصالحة للزرع.

ولا شك أن هذه الانشقاقات ابتدأت من دحو الأرض وقد عدّلت حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشم من صياخيدها ، وفي الدور الرابع من الأدوار الأرضية حسب التفصيل في الآيات من «فصلت» *.

(فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) :

صبّ ثم شقّ فإنبات الحبّ ، أول ما نبت على وجه الأرض وهو من أوليات ضرورات الحياة وأشملها.

الحب هو أصل المأكولات كلّها ، تنبت عنه ثم تنبته أيضا استبقاء لها ، لكي يبذر مرّ الحياة ، فينبت مختلف النبات.

فقد خلق الله تعالى حبوب النباتات أولا بعد شق الأرض ، ثم أنبت منها نبات الحبوب ونبات الفواكه والأشجار ، وكل نابتات الأرض :

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (٨٧ : ١٤ ـ ١٦).

(وَعِنَباً وَقَضْباً) :

عنبا وخضروات : بقولات تقضب ، أي تقطع مرة بعد أخرى ، خضروات متواصلة النبات ، تقطع فروعها وتترك أصولها.


(وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً) :

(شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) (٢٤ : ٣٥) (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٣ : ٢٠) .. إنها مباركة لحدّ يقسم بها ربها فيما يقسم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (٩٥ : ١) (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (٥٠ : ١٠) شجرتان مباركتان تختصان بالذكر من بين الشجر ، ولأنهما أهمها وأعمها وأتمها نفعا.

(وَحَدائِقَ غُلْباً) :

البساتين المحوطة ذات الأشجار العظيمة الغليظة.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا) :

«فاكهة» * يتفكه بها الإنسان بعد إدام الطعام ، عونا على انهضام الطعام ، وتصليحا وتغزيرا للحياة.

«وأبا» : عشبا وكلاء ، يتمتع بها أنعامكم ، وكما تتمتعون أنتم بالفواكه والحدائق الغلب والنخل والزيتون والحب وسائر النبات.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) :

هذه كلها لكم ، ولأنعامكم التي هي أيضا لكم ، والتعرف إلى المعني من الأب لا يكلّفنا أكثر من أن نميز بين أكلنا وأكل أنعامنا بين المذكورات ، فما هي أكل الأنعام منها؟ وما هي أكلنا؟ معلوم أن الفاكهة لنا فللأنعام الأب .. فهل الأنعام تتمتع إلّا بالأعشاب ، فلتكن هي الأبّ ، ثم للإنسان الفاكهة ، مهما اشتركا في البعض من هذه وتلك.

وهنا العجب العجاب من الجهالة المتواضعة! ممن تصدّروا أمور المسلمين ،


وادّعوا أنهم من خلفاء الإسلام ، كيف لا يعرفون ـ فيما لا يعرفون ـ معنى «الأب» كأنهم بدافع التواضع والحائطة على القرآن جهلوه!

وكما عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام إذ بلغه جهل أبي بكر بالأب : «سبحان الله!أما علم أن الأب هو الكلاء والمرعى وأن قوله تعالى (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) اعتداد من الله بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم»(١).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١١ في ارشاد المفيد ، ينقل الرواية التالية دون الذيل الذي نقلناه في المتن ، وقصة «الأب» مشهورة متضافرة عن خليفتي المسلمين «أبي بكر وعمر» : فقد «سئل الخليفة أبو بكر عن قوله تعالى (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : أية سماء تظلني أو أية أرض تقلني أم أين أذهب؟ أم كيف أصنع إذا قلت في كتاب الله بما لم أعلم؟ أما الفاكهة فأعرفها وأما الأب فالله أعلم فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليا (ع) فقال : إن الأب هو الكلأ والمرعى».

ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ : ٢٥٣ ، والقرطبي ١ : ٢٩ ، وابن تيمية في مقدمة أصول التفسير ٣٠ ، وابن كثير في تفسيره ١ : ٥ وصححه في ٦ ، وابن القيم ١٥٨ ـ ١٥٩ ، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني ٤٢٠ وحلية الأولياء ٢ : ٤٠ ، والبيهقي في إعلام الموقعين ٢٩ وصححه ، والخازن في تفسيره ٤ : ٣٧٤ ، والنسفي في هامش الرازي ٨ : ٣٨٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣١٧ ، وابن حجر في فتح الباري ١٣ : ٢٣ ، والكلبي في تفسيره ٤ : ١٨. وقد قرأ الخليفة عمر على المنبر : «فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وفاكهة وأبا» قال : كل هذا عرفناه فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأب ، اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه».

أخرجه سعيد بن منصور في سننه وأبو نعيم في المستخرج وابن سعد وعبد بن حميد وابن الأنباري وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وابن جرير في تفسيره ٣٥ : ٣٨ والحاكم في المستدرك ٢ : ٥١٤ وصححه هو وأقره الذهبي في تلخيصه والخطيب في تاريخه ١١ : ٤٦٨ والزمخشري في الكشاف ٣ : ٢٥٣ ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة ٢ : ٤٩ والشاطبي في الموافقات ١ : ٢١ و ٢٥ وابن الجوزي في تفسيره ٤٥ : ٣٧٤ والسيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣١٧ وكنز العمال ١ : ٢٢٧ وابن سعد في طبقاته والبيهقي في شعب الايمان وأبو السعود في تفسيره والقسطلاني في ارشاد الساري ١٠ : ٢٩٨ والعيني في عمدة القاري ١١ : ٤٦٨ وابن حجر في فتح الباري ١٣ : ٢٣.


نرى هنا وهناك كيف نؤمر بالنظر إلى الكون ، نظر البصر والبصيرة ، النظرة العلمية والاعتبارية ، كل نظر ممكن لنا فيما وهبه الله إيانا ، ولكننا مع الأسف ، تركنا النظرات العلمية في الكائنات لغيرنا ، ثم ولم نعتبر بالعبر ، عبر هذه الكائنات ، ومن الناحية الروحية لأنفسنا.

.. إن النباتات التي أنبتها الله من حبوبها ، لا تحصى عددا وأنواعا ، مهما يعددها علم النبات اليوم إلى نصف مليون صنفا ، إضافة إلى الأصناف المنقرضة المحفوظ بعضها في المتاحف دون أن يسميها الإنسان باسم (١).

ثم منها ما هو للتغذية ، وما هو للبس ، أو للدواء ، أو فاكهة ، أو ما هو للبهائم.

وإذا ما فتحنا القلع المغلقة علينا في مختلف الحبوب ؛ لوجدنا عالما من مختلف العناصر ، ليس اختلاف الأصناف فيها إلا لاختلاف المقادير ، فالكل متشابهة العناصر.

لنأخذ مثالا حبة القمح التي لا يهمنا إلا أكلها ، فإذ نحلل ألف غرام منها نجد الماء فيها ١٣٤ غراما والنشاء ٦٦٣ غ وملح النوشادر ٦٠ غ والخشب ٣٠ غ والزيت ١٥ غ والمانيزيا ٢ و ٢ غ والبوتاسا الكاوية ٦ و ٦ غ والسفور المائي ٢٧ و ٩ غ وكبريت العمود المائي ١٥ غ وإلى عناصر أخرى كالصوديوم .. ثم ونجد أكثر هذه المواد باختلاف المقادير في القطن ، فأصبح من الملابس بعد أن كانت في القمح مطاعم ، وهكذا في الفواكه : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ).

إن النظر التام إلى الطعام لا يتم إلا بدراسة علم الكيمياء وعلم النبات وهما أيضا لا يتمان إلا بدراسة علوم عدة ، وهذه هي النظرة الأدنى إلى الطعام ،

__________________

(١) من مقالات «اللوود أفبرأ» في كتابه «محاسن الطبيعة».


قنطرة لما هو أعلى نطاقا وهو الوصول إلى معرفة أعلى في الحكمة والقدرة الإلهيه ، ومنه النظرة العميقة الأنيقة إلى طعام الروح : العلم ـ وكما عن باقر العلوم عليه السّلام «إلى علمه الذي يأخذه عمن يأخذه».

* * *

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) :

الصاخة هي الصاكّة ـ بشدة صوتها ـ الآذان ؛ فتصمّها ، وكما أن لفظها أيضا ذو جرس صاكّ يخرق صماخ الآذان ، تناصر اللفظ والمعنى ، ولكي نشهد المشهد الهائل ، مشهد الفرار دون قرار ، للذين تربطهم يوم الدنيا روابط لا تنفصم ، ولكن الصاخة تمزقها تمزيقا بما أن لكلّ يومئذ شأن يغنيه ، ولحدّ كأنه ينسى حتى نفسه.

إنها يوم الفصل ، ومنه فصل الأنساب والأحساب ، روابط القرابات والصداقات ، لا يحكم فيها حاكم الأنساب ولا يتساءلون عنها : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٢٣ : ١٠١) وإنما العداء هي التي تنوب كل هذه وتلك إلا للمتقين : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧).


إنها هي الساعة الصاخة (صيحة الإحياء) فإذا هم إلى ربهم ينسلون ، صيحة تصخّ الأسماع وتقرعها ، وتجعل الإنسان يفر من ذويه ، لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه.

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ...) :

ولأن الهول هناك هول نفسي يفزع النفس ويفصلها عن محيطها وعنها أيضا : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢٢ : ٢) ، لذلك تراه ـ وبالأحرى ـ يفر من ذويه الأقربين والأنسبين (مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).

فهل يا ترى لماذا الفرار (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٤٠ : ٣٩)؟

فهل لأن كلّا ظالم بحقوقهم فيفر ؛ كيلا يطالبوه بظلمهم؟ وليس كل امرء ظالما!

أم مخافة أن يطالبوه بشفاعة ولأنه من أهلها؟ وليسوا إلا قلة قليلة!

أم لأنهم لا ينفعونه شيئا؟ وهذا لا يستوجب الفرار.

أم لأنهم لا يعرفونهم (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)؟ فكذلك الأمر!

أم مخافة أن يتعلقوا به لماذا قصرت تجاهنا؟ وليس الكل هكذا!

إذا فلما ذا؟ لا نجد أخصر وأشمل من هذا التعبير الذي يشغل الحس والضمير :

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) :

يكفيه ـ شأنه الشائن ، وهوله الكائن إثر الصاخة القارعة ، هذا يكفيه عما سواه وعمن سواه.


هول أول مفاجئ لا يدع الإنسان ـ أيا كان ـ أن يفكر في غيره ، فهو يفرّ وحتى عن أقاربه ، فرارا فكريا فبالأقدام ، ولحدّ لا يكاد يرى بعضهم البعض ، وكما يروى عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان ، قيل : يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ، الرجال إلى النساء؟ قال : شغل الناس عن ذلك نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(١).

شأن يغنيه ، إضافة إلى المحتملات المسبّقة حسب الدرجات : فرارا عن المطالبة بالتبعات ، يقول الأخ : ما واسيتني ، والأبوان : قصرت في حقنا ، والصاحبة : لم تصاحبني كما يجب ، والبنون : ما ربيتنا كما يحق.

أو فرارا عن الشفاعات ، والأصل الشامل هو الذي قال الله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) :

تقسيم ثنائي لوجوه الناس إلى مسفرة ، والتي عليها غبرة : مسفرة مشرقة بعد الهول العام ، إذ نعرف نجاحها يومذاك ، مسفرة لأنها سافرت مع السفرة ، كرام بررة ، فتلت صحفهم المطهرة ، وطبّقتها وعاشتها حياتها ، ولأنها اتجهت حياتها إلى الوجهات الربانية وأعرضت عن الشيطانية.

فكما الصبح يسفر بعد الظلام بخرقه ، فينير ، كذلك هذه الوجوه تسفر بعد ظلام الصاخة ، العام ، منيرة متهللة مشرقة ، تتغير شأنها الذي كان يهمّها ويغنيها ، ثم ـ علّها ـ تنعطف إلى الذين يلتصقون بها لشفاعتهم ، إن قريبا أو بعيدا ، ف (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١٧ ، عن سودة بنت زمعة وسهل بن سعد وأم سلمة وعائشة عن النبي (ص) نقلنا المجموع كرواية واحدة رعاية للإضافات.


إنها مسفرة ضاحكة فرحة مستبشرة ، تتطلب بشارات الرحمة كما الله بشرها يوم الدنيا لهذا اليوم ، ولأنها عرفت مصيرها وتبيّن لها مكانها ومكانتها بعد حريتها من هول الصاخة المذهل المبكي.

وإنها الوجوه الناعمة الراضية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ) (٨٨ : ٧ ـ ٨).

والناضرة الناظرة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٧٥ : ٢١ ـ ٢٢).

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) :

تعلوها غبرة الحزن والحسرة وسواد الذل والانقباض والانكماش ، فهي إذا : (باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٧٥ : ٢٥ ـ ٢٤) وهي : (خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٨٨ : ٢ ـ ٣).

وجوه مغبرة عليها غبرة الحزن والأسى ، ترهقها : تغشاها ـ قترة : هي سواد الذل ـ وترغمها ، يبقى عليها هول الصاخة ، ويزيد إذ عرفت ما قدمت لأنفسها ـ من سخط شديد وعذاب عتيد.

إن هذه الغبرة الظاهرة على تلك الوجوه هي شيء من فوضى الحياة المغبرة التي عاشوها ، وهنا يعرفون بها (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٥٥ : ٤١) وكما المؤمنون (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (٤٨ : ٢٩).

(أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) : كفروا بالله وأنعمه ، وفجروا حرمات الله وما راعوها.


سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) :

أحداث كونية ضخام جسام تشير إلى أن هذه الكائنات المنسّقة في نظامها وحركاتها سوف ينفرط عقد نظامها وتتناثر أجزاؤها.

فهذه الشمس التي هي نور كل ظلام ، وحياة الأحياء مع الماء ، هذه النبعة


الحيوية النورية الحرارية سوف تموت وتنقرض ، تكوّر وتدوّر ، فما هو كورها؟ وما هو دورها؟

فهل إنّ كورها أن يحاط عليها؟ كما : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩ : ٧) إحاطة الليل على النهار بظلامه ، والنهار على الليل بضوئه ، إحاطة ماحية لكيان كلّ منهما بكل منهما ، فكذلك يحاط على الشمس بما يدمرها ويظلم عليها ، وهذا هو كور الطاقات المدمّرة للشمس؟

أو كورها في نفس ذاتها بضم بعضها إلى بعض ككور العمامة ولفّها بنحو الإدارة؟

أو انه جمعها وصرعها ، بنقص كيانها ونورها؟

أو زيادتها في حرارتها وسرعتها عند احتضارها كما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «أعوذ من الحور بعد الكور» ، أي من النقص بعد الزيادة.

أو كورها على أخيها الأصغر : القمر ، بشمولها عليه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٧٥ : ٨) (١)؟

كلّ محتمل (٢) ، أو أنها مرادة جمعاء ، فإن قيامة الشمس تضم ضمها ولفها وجمعها وصرعها ونقصها في كيانها وزيادة سرعتها ونورها في اللحظات الأخيرة من عمرها (٣) ، ثم برودتها وانطفاء شعلتها وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد الآن

__________________

(١) وفي كور القمر أخرج البخاري عن النبي (ص) قوله : الشمس والقمر مكوران يوم القيامة(الدر ٦ : ٣١٨).

(٢) هذه المعاني اللغوية للكور المستفاد بعضها من القرآن والحديث ، ذكرت في لسان العرب. وعن ابن عباس تفسير الكور بالانظلام والاغورار وكما عن مجاهد وسعيد بن جبير الأخير وعن أبي صالح «نكست» وعن مجاهد اضمحلت وعن الضحاك وقتادة ذهب ضوؤها ، ومرجع الكل واحد كما عرفناه.

(٣) ولعلها المعنية مما روي عن الرسول (ص) «كورت في جهنم (المصدر)» إن اللحظات الأخيرة من عمرها تصبح كأنها جهنم من شدة حرارتها ، إذ تنقبض إلى النهاية فتحترق إلى النهاية.


من جوانبها إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء ، فسوف تكوّر لا ألسنة لها حداد لها ولا امتداد ولا جريان ولا ضياء ، وهذا هو مصير الشموس كلها ، إذا جاء أجلها فتتّت ورجعت لحالها الأولى ، وأحيلت إلى المصانع الإلهية في العوالم الأثيرية ليصاغ منها عالم جديد.

نرى بعض علماء الفلك يؤكدون أن منبع الطاقة الحرارية للشمس ليس إلّا انقباضها وانكماشها وكورها التدريجي ، وهذا هو الأثر الملموس في كل انضغاط وانكماش ولا سيما في الجسم الحار في نفسه كالشمس.

وحسب قانون الجاذبيه ل (نيوتون) نتأكد أن التشعشعات الشمسية هي إلى النقصان المستمر ، زهاء كيلو مترين في كل قرنين ، وبهذا تتأكد نظرية الإنقاض ل (هلمولتز) ، وبالإمكان ألّا يدرك هكذا نقصان في الشمس طول تاريخ الإنسان ، لكنه قياسا إلى الزمان في أدوار معرفة الأرض ، يظهر كثيرا وملحوظا ، فالقدر الناقص عن جرم الشمس حتى الآن زهاء (١٠٤٧ / ٢) أرجا ، وهي أقل بآلاف المرات من الطاقات العامة المنفصلة عنها حتى الآن.

إن نظرية الانقباض وإن كانت بمحل من التصديق ، إلا أن من المؤكد وجود منبع آخر لها أثقل من الطاقة الكيماوية والثقالة ، ويقول (جورج قاموف) بعد تحقيقات عدة (١) أن حرارة الشمس من الطاقة تحت الذرية.

ويقول : «ليس بالإمكان أن يتجاوز عمر الشمس (٠٠٠ ، ١٠٠ / ١) مما هو الآن ، لو كان المنبع الحراري لها شيئا من المواد الكيماوية ، لذلك فليكن القسم الأكبر من منبعها الحراري من العناصر الخالصة التي هي آخر المطاف للتبدلات الكيماوية لكل العناصر غير الخالصة».

هذا ـ وحرارة الشمس الآن ـ في سطحها ثلاثة آلاف درجة وفي باطنها

__________________

(١) في كتابه موت الشمس.


سبعون مليونا ، ولو لا نزول الأمطار المتناوبة عليها لأحرقت الأرض وانقرضت هي أيضا قبل أجلها ، وكما عن باقر العلوم قوله : «إن الشمس تطلع ومعها أربعة أملاك ، ملك ينادي يا صاحب الخير أتمم وأبشر ، وملك ينادي يا صاحب الشر انزع وأقصر ، وملك ينادي أعط منفقا خلفا وآت ممسكا تلفا ، وملك ينزحها بالماء ، ولو لا ذلك اشتعلت الأرض(١)».

ويؤيد الرواية ما عن الدكتور (دونالد منزل) الفلكي الأميركي الشهير : «إن اختلاف الأشكال في القطع المرئية في وجه الشمس ، إنها نتيجة نزول أمطار غزيرة دائبة عليها ، وقد أظهر هو قطعة من الأفلام المصورة عن الشمس ، وفيها صورة أمطار شديدة تنزل على الشمس من ارتفاع ثمانين ألف كيلومتر ، رآها مرسلوا الفلكيين في المؤتمر المعني لذلك (٢).

إذا فالشمس في كور دائم شيئا فشيئا حتى يخلص دورها فتنتهي إلى كورها الأخير ، جارية في هذا الكور لمستقر لها ثم لا دور لها ولا كور : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٦ : ٣٨).

ومما يطوّل عمرها أكثر ، ما تسيل عليها من الأمطار الغزيرة ؛ فتمدها في تباطؤ كورها ؛ وتمنعها أن تحرق الأرض وسائر الكرات القريبة منها إلى أجل معدود.

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) :

النجم هو الكوكب الطالع ، وعلّه يعم طلوع التمدن فيه أيضا وأحرى ، والانكدار من الكدرة وهي الظلمة ، أو كانكدار الطائر إلى الأرض وهو انقضاضه وسقوطه نحوها.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٤ كمباني ص ١٢٤ عن الكافي روى الجابر عن الباقر (ع) ..

(٢) نقلته جريدة اطلاعات الايرانية المنشورة يوم الخميس ١٥ ربيع الاول ١٣٦٩ هجرية قمرية الموافق ١٩٥٠ ميلادية ، نقلته عن مكتوب الدكتور دونالد منزل.


فالكواكب الطالعة سوف تغرب عن ضوئها وعن تمدنها ، وسوف تتساقط هذه الطائرات الجوية السائرة على أفلاكها ، بما معها من الكواكب غير الطالعة : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٨٢ : ٢) والكوكب يعم الطالع وسواه ، والانتثار هو من جرّاء الانكدار ، كما تنتثر الطير وتتساقط إلى عمق الفضاء عقب انكدار حياتها ، فما دامت حية لا تنتثر بمسكة الحياة ، فإذا انكدرت عليها حياتها انتثرت.

إن المعني من طلوع الكوكب هو واقع الطلوع ، لا بالنسبة لإنسان الأرض ، ومع العيون المجردة ، إنما واقع الطلوع أينما كان موقعه من السماء.

والكوكب منذ خلقه ليس طالعا ، ثم يتكامل ؛ فيصبح طالعا نيّرا ، ومن ثم قد يصلح للحياة والتمدن وهو الطلوع الأخير.

فمن الكواكب ما لم يطلع بعد ، أو هو في الطلوع الأول أو الأخير ، ومنها ما طلع طلوعا أو طلوعين ثم غروب ، والانكدار يعني الغروب النهائي والوقوف عن الحراك ، والتساقط إلى أعماق الفضاء ، فالانتثار هو المرحلة الأخيرة من غروبها (١).

يتبدل النجم كوكبا «لا نجم» ثم ينتثر وينطمس (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٧٧ : ٨) طمس الكيان النجومي ، طلوعا وحراكا وتجمعا ، ارتجاعا إلى الحالة الغازية الأولى التي خلقت هي ـ بادئ ذي بدء ـ منها (وَالسَّماءِ ذاتِ

__________________

(١) قد يؤيد كون النجم أخص فأكمل من الكوكب أن الآيات المستعرضة للخلق لا تأتي إلا بذكر الكواكب ، ثم نرى ما تذكر الحالات المتوسطة والاخيرة تذكر النجوم ، فمن بين ثلاث عشرة مرة تذكر النجوم ، لا تجد ولا مرة واحدة استعراض خلقها ، وإنما : الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر» (٦ : ٩٧) وانها مسخرات بأمر الله (٧ : ٥٤) وأن لها مواقع (٥٦ : ٧٥) ثم انها تطمس وتنكدر ، بينما الكواكب تذكر بخلقها ، «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» (٣٧ : ٦) ثم قيامتها : «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» (٨٢ : ٧).


الرَّجْعِ) (٨٦ : ٩) : ترجع بأنجمها إلى ما كانت عليه : «الدخان»: (.. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١٢).

أجل ـ وإن هناك انكدارا وانتثارا وانطماسا ، فالكواكب تنتثر ، والنجوم تنطمس وتنكدر ، وهذه حوادث جل وطامات كبرى تقضي على السماء وكراتها حيث الطمس هو المحو وإزالة الأثر.

إن النجوم والكواكب لا تنحصر فيما نراه في السماء بالعيون المجردة أو بواسطة المراصد الفلكية ، انها هي العوالم السماوية كلها ، التي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله ، فوراء ما نرى منها بمراصدنا مليارات من الفضاءات والمجرات لا نعرف لها عددا ، فمنها ما هي بعيدة عنها بما لم يصلنا ضوؤها منذ خلقت ، وبعد مليارات السنين ، والضوء يسير كل ثانية ٠٠٠ ، ٣٠٠ كيلومترا ، فيا لها غورا وبعدا عنا!

ومنها ما انقرضت قبل أن يصل إلينا ضوؤها ، وعلّ منها ما لن يصل إلينا ضوؤها إلى حين انكدارها وانتثارها ، ومنها ما لم تخلق بعد : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٥١ : ٤٧). إنه تعالى دوما في توسيع المملكة السماوية وحتى القيامة الكبرى ، ومن ثم سوف يخلق عوالم أخرى ، ف (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٥٥ : ٢٩).

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) :

.. (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) : إن هذه الجبال الرواسي الأوتاد سوف تصبح كالسراب ، تحملها القدرة الإلهية وأرضها حمل التدمير : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (٦٩ : ١٤) بعد ما كانت تحملها قبل قيامتها حمل التعمير : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ


اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧ : ٨٨) : هذه قدرة الصنع والتعمير وتلك هي ـ قدرة السحق والتدمير وكلتا هما من حكمة الخبير البصير.

والأنباء المسبقة عن قيامة الجبال في سورة النبأ كافية لحدّ مّا فيما توحي لنا آيتنا هذه ، وسوف يأتيكم نبأها الفصل في طيات التفسير.

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) :

العشار ـ جمع العشراء ـ هي النوق الحبالى في شهرها العاشر ، وهي أعلى ما تكون بما هي قريبة الولد ، صاحبة اللبن .. فهي تعطل يوم الطامة الكبرى في الصيحة الأولى : عطلة عن الحراك والولد والحليب ، إذ تضع حملها قبل أوانه ، ويجف حليبها لشدة الوقعة .. وهي تهمل عن صواحبها ـ ف (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) وكيف لا؟ وهي الساعة التي : (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢١ : ٢).

والعشار ـ بما هي أثمن ما كانت تملكه العرب المخاطبون وقت النزول ـ إنها ، وبصورة عامة ، تمثل أثمن ما يملكه الإنسان ويتنافس فيه المتنافسون ، فهو يشتغل عنها بنفسه في صيحة الإماتة ، وكما يفرعن ذويه في صيحة الإحياء ، ف (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) :

فما هي الوحوش؟ وما هو حشرها؟ .. فهل إنها كل الدواب سوى الإنسان؟

وليست الكل نافره عن الإنسان ، متنافرة مع بعض ، حتى تكون وحوشا كلّها! أم هي غير الآنسة والمتآنسة من الدواب ، ومن الإنسان؟ أظنه أسلم من


غير الإنسان خاصة ، ولأنه أعم ، ويساعده عموم اللفظ ، ومن الإنسان الوحش ما هو أوحش من وحش الحيوان!

ثم هل إن حشرها هو جمعها يوم الجمع في صيحة الإحياء كسائر الأحياء من بني الجان والإنسان؟ قد ينافيه أن الآيات الست الأول من السورة وهي خامستها ، أنها كلها تصف حالة الكائنات في رجفة الإماتة ، وأن الحشر المطلق هو مطلق الجمع عن تفرق وافتراق دون اختصاص بجمع خاص ، فما لوحوش الحيوان تختص بهكذا حشر؟

أم هو جمعها للموت كما الآية تخبر عن رجفة الإماتة؟ ولكنهما الجمع هذا لا يختص بالوحوش ، فإنه يعمها والكائنات الحية وسواها بأسرها.

أم هو جمعها بعد تفرقها ، وأنسها بعد توحشها وتمزقها ، فإنها نسيت نفسها من هول الواقعة القارعة ، فكيف بتفرسها وتوحشها؟ .. وإنها تمضي هائمة على وجوهها كأنها زالت طباعها المتنافرة الوحشية ، وكما هو الحال في كافة المتنافرين المتوحشين من الإنس ومن سائر الحيوان ، فهي إنما تفر وتهجم وتضر ما لم تر حادثة أشد وكارثة أعتد ، ففيما إذا انفزعت بالفزع الأكبر نسيت وتناست ما بينها من عداء ، وتآلفت واجتمعت وحشرت.

كما وقد يكون هكذا حشر لشمول العدل إذ لا ظلم ولا تخسير ، وهو الحشر الأول في القيامة الوسطى ، في دولة القائم المهدي محمد بن الحسن العسكري عليه السّلام إذ «تصطلح في ملكه السباع» (١).

__________________

(١) نجد هذه الجملة في روايات مستفيضة اسلامية وآيات عدة من كتب الأنبياء السابقين فصلتها في كتابي «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ومنها : في كتاب أشعياء ١١ : ٦ ـ ١٠؟؟؟ «فيسكن الذئب مع الحمل ويربض النمر مع الجدي ويكون العجل والشبل والمعلوف معا وصبي صغير يسوقها ٦ ، ترعى البقرة والدب معا ويربض أولادهما معا والأسد يأكل التبن كالثور ٧. ويلعب المرضع على حجر الأفعى ويضع الفطيم يده في نفق الأرقم ٨ ، لا يسيئون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لان الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغمر المياه البحر ٩ ، وفي ذلك اليوم أصل يسي القائم راية للشعوب إياه تترجى الأمم ويكون مثواه جيدا ١٠».


هذا هو الحشر بالمعنى العام : الجمع عن التوحش ، وأما فيما إذا كان الحشر إلى الله فهو الحياة بعد الموت لعامة ذوي الحياة ، ولتجزى كل نفس بما تسعى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٨) .. وهذا هو الحشر بمعنى الإحياء في صيحة الإحياء ، يشمل الدواب والطير كلّها ، وحشا وسواها ، إنسانا وسواه ، وعلّ الدابة في الأرض تشمل ما تمشي عليها وما في جوفها وفي بحارها ، دبّا على الماء والأرض وفي باطن الأرض.

وفيما إذا سئلنا عن حشر الحيوان غير الإنسان : لماذا يحشر ويحيى؟ ألكي تجزى بما تسعى؟ فكيف تجزى الدابة ولا عقل لها ولا شرعة ومنهاجا؟

فهنا الجواب : أن الجزاء يعم ذوي الشعور كما تشعر ، إن عاقلة أم لا ، فإنما المدار في الجزاء معرفة الله وإمكانية معرفته ، وشعور يميز بين العدل والظلم ، كلّ على قدره ، والطير والدواب كلها تعرف الله تعالى دون تكلف واكتساب : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٢٤ : ٤١) (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٦ : ٤٩).

ثم نراها قد تظلم وقد تظلم وهي شاعرة أنه قبيح والله لا يحب القبيح ، فلولا شعورها بالقبح فلما ذا تفر من الظلم ، أو تعضّ وتركل أو تفترس من يهاجمها من نوعها أو سواه؟

ثم الله أحل لنا أكل لحوم قسم منها ، فعليه أن يبدلها ـ بما ذبحت ـ برحمة منه في حشرها.

وقد نرى الإنسان يظلم ما يملكها فلا يؤدي حقها ، والله تعالى أعدل من أن يدرها سدى لا يقتص لها من ظالمها.


وكل ذلك يتطلب لها حياة بعد الدنيا ، من عدل الله ورحمته ، ولكي تجزى كل بما تسعى.

هذه الآية هي الفريدة في نوعها ومن حيث حشر الدواب ، ثم تضافر الروايات تدلنا على ما استوحينا منها (١).

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) :

البحار هنا هي كل البحار ، أرضية وسماوية ، والتسجير هو تهييج النار ، من سجرت التنور إذا أو قدتها ، فكيف تهيج البحار بالنار ، فأين الماء وأين النار؟

الجواب : أن الآية توحي للمصير الأخير للبحار يوم تكوير الشمس وانكدار النجوم ، وأنها سوف تنقلب نارا بعد ما كانت بحارا كالترتيب التالي :

إن البحار تفجّر في البداية : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) (٨٢ : ٣) تفجّرا على أثر زلزال الأرض وانشقاقها ، والتفجر هو الانشقاق الواسع ، تفرقا وانشقاقا لمياهها ، وتغلغلا عن حراكها الشديدة ـ والحركة تولّد الحرارة ـ وعن ازدياد حرارة الشمس عند تكويرها.

__________________

(١) ففي نور الثقلين ١ : ٥٩٢ عن الفقيه أن النبي (ص) أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها فقال : أين صاحبها؟ مروه فليستعد غدا للخصومة.

وفي المجمع عن أبي ذر قال : بينا أنا عند رسول الله (ص) إذا انتطحت عنزان ، فقال رسول الله (ص) : أتدرون فيما انتطحا؟ فقالوا : لا ندري! قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما.

وعن محمد بن جرير وغيره بزيادة : قال أبو ذر : لقد تركنا رسول الله (ص) وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما».(الدر المنثور ٣ : ١١).

وعن الكافي بالإسناد عن سماعة بن مهران قال : أخبرني الكلبي النسابة قال : قلت لجعفر بن محمد (ع) ما تقول في المسح على الخفين؟ فتبسم ثم قال : إذا كان يوم القيامة ورد الله كل شيء إلى شيئه ، ورد الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم.


ثم تحوّلها بخارا بخروج الكرة النارية المذابة من بطن الأرض ، ثم تحوّل البخار نارا كما كان بداية خلقة الأرض والسماوات وهذا هو تسجير البحار ، فإن التسجير هو تهييج النار وكما هم : (فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٤٠ : ٧٢) فكما النار تحرق بلهيبها دون اقتصار على الإغلاء ، كذلك البحار تسجّر ، تبدلا إلى لهيب النار بعد أن تفجّر ، وكما البحر المسجور من العذاب الواقع : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٥٢ : ٥ ـ ٦).

إن المواد الكيماوية كلما زيدت حرارتها تفسّخت وتفجرت عن تركباتها وأخذت سبيلها إلى البساطة وإلى المادة الفردة الأولية ، التي هي آخر المطاف في التقلبات الكيماوية ، وهي تتحمل حرارة أشدّ وأكثر ، كلما كان التحلّل عن التركبات أكثر وأكثر.

لذلك نجد الشمس في مركزها أثقل وأحر مما في سطحها ، إذ إنها تحمل أبسط الذرات الكيماوية «الهيدروجين» التي هي آخر المطاف في التقلبات الكيماوية فيما نعرفه حتى الآن ، وثم إلى المادة الفردة التي لا نعرفها حتى الآن ، وقد تحمل مليارات المرات من الحرارة التي نجدها الآن.

وهذه هي مصير كل المركبات والعناصر الكيماوية ، ترجع إلى ما كانت ، ومنها الماء ، فالبحار تفجّر وتسجّر ، كما الكائنات كلها تسجّر ، فلا يبقى إلا مسجور محروق.

أجل ـ وإن الزلازل والبراكين سوف تزيل الحواجز بين البحار فتغلغل على أثرها ، وسائر العوامل الحرارية المسبقة وإلى انفصال ذرتي الماء : الأوكسجين والهيدروجين ، وإلى تفجرهما أيضا .. وآخر المطاف أن البحار تسجّر : تصبح نيرانا ملتهبة هائلة لا يتصور مداها.

وأنّ تفجر قدر محدود من الذرات بالقدرة المحدودة البشرية في القنابل الذرية يحدث الهول الذي لا نتحمله ، فكيف بنا إذا انفجرت الذرات كلها ومعها البحار ، بحار الأرض والسماء؟!


فعن القمي عن الصادق عليه السّلام في الآية قال : «تتحول البحار التي حول الدنيا كلها نيرانا» (١)

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) :

التزويج هو قرن كلّ شيء إلى شيئه ، أو مثله ، أو ما يحق أن يقرن به ، وعلّه لا يشمل هنا النكاح لأنه يخص أهل الجنة دون النفوس كلها ، وأن الآية تستعرض قيامة الإحياء قبل الحساب والجزاء ونشر الصحف وتسعير الجحيم وإزلاف الجنة ، وقبل أن تعلم كل نفس ما أحضرت (٢) اللهم إلا أن يعنى من تزويج الأشرار غير النكاح ، وأن خلط الآيات في القيامتين يسمح بشمول التزويج للنكاح وإن ذكر قبل الحساب (٣).

إذن فهو التزويج العام يوم القيام ، الشامل لكل نفس خيرة وشريرة ، قرنا في كل شيء.

من قرن الأجزاء الأصلية المعادة ـ لكل نفس ـ بعضها ببعض. دون أن تضل أو أن تتصل إلى غير بدنها ، وقرن كلّ نفس ببدنها الأصيل الذي عاشته طوال حياة التكليف ، دون تقمّص بغير قميصها ، ودون أن تضل الأرواح ولا الأجساد : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٤ ح ٦.

(٢) هذه الآيات تجمع بين علامات قيامة الاماتة والاحياء ، فمن تكوير الشمس إلى تسجير البحار تشير إلى الأولى ، ومن تزويج النفوس إلى نشر الصحف إلى الثانية ، ثم ترجع إلى الأولى في كشط السماء ، ثم بقية الآيات إلى الثانية ، جمعا بين القيامتين لوحدتهما في الطامة واتصالهما.

(٣) ويؤيده المروي عن الامام الباقر (ع) في الآية قال : أما أهل الجنة فزوجوا الخيرات الحسان ، وأما أهل النار فمع كل إنسان منهم شيطان ، يعني قرنت نفوس الكافرين والمنافقين بالشياطين فهم قرناؤهم (نور الثقلين ٥ : ٥١٤ ح ٧ في روآية أبي الجارود عنه (ع)» أقول وهذا من بيان بعض المصاديق الظاهرة.


مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١٠)(١) ، وقرن كل نفس بما تجانسه وتقارنه في عقيدة الإيمان وعمل الإيمان من السابقين وأصحاب اليمين ، أو ما تشاركه في تركهما من أصحاب الشمال : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٥٦ : ٣ ـ ٧) (٢) ، وقرن كل تابع بمتبوعه وكل مأموم بإمامه : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٣٧ : ٢٢) (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (١٧ : ٧١ ـ ٧٢. وقرن كل ساع بسعيه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وقرن المؤمنين بالمؤمنات والحوريات في الزواج ، وغير ذلك من التشكيلات المتجانسة ، عدلا في كل مجالاته ، إذ ليس الملك هناك إلا لله الواحد القهار ، دون الحياة الدنيا التي يقرن فيها الشيء بضده أو نقيضه.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) :

الموؤودة من «وأد» * مقلوب «آد» : أثقل ، فهي المثقلة وكما توحي إليه آية الكرسي (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) : لا يثقله ويتعبه ثقل السماوات والأرض ،

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١٩ عن ابن عباس : «ترسل الأرواح فتزوج الأجساد فذلك قول الله : وإذا النفوس زوجت» ومثله عن أبي العالية والشعبي.

(٢) في الدر المنثور ٦ : ٣١٩ ، أخرج ابن مردويه عن النعمان بن بشير سمعت رسول الله (ص) يقول : «وإذا النفوس زوجت : هما الرجلان يعملان العمل يدخلان الجنة والنار». أقول : وهو تزويج كل إنسان بعمله أي قرنه به ، وفيه أخرج الفراء عن عكرمة في الآية قال : يقرن الرجل في الجنة بقرينه الصالح في الدنيا ويقرن الذي كان يعمل السوء في الدنيا بقرينه الذي كان يعينه في النار.


وكذلك الموؤودة كانت ثقلا عند العرب الجاهلي ، وفي عصر الصاروخ أيضا من جهات عدة.

ان الموؤودة ، المسؤولة ـ عنها ولها ـ هي البنت إذ كانت عبئا وثقلا ـ زعم العرب الجاهلي ـ في الحياة : المادية منها والمعنوية سواء ، ثقل المعيشة وثقل العار ، فكانوا يثقلونها بالتراب تخفيفا عنهم ثقلي الحياة ، وعلّها سميت موءودة لهذه الأثقال الثلاثة كلّها.

ورغم أن الوأد «الثقل» الأوّل كان خاصا بالفقراء ، وأكثرهم كانوا فقراء : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ـ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ـ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (٦ : ١٥١ ـ ١٧ : ٣١). كان الأخيران يعم عرب الجزيرة كلهم : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٦ : ٥٧ ـ ٥٨).

وإذا الموؤودة التي زعمت ثقلا : ماديا ومعنويا ـ ولذلك كانت تثقل بالتراب ـ إنها سئلت ، بأيّ ذنب قتلت.

ولقد كان من هوان تاريخ الإنسان عادة وأد البنات المظلومات خوف الفقر والعار ، والقرآن يندد بها في مواضع عدة ، وأنهن إذا كن عارا فلما ذا تنسبون إلى الله البنات : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (٥٢ : ٣٩) (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (٤٣ : ١٦ ـ ١٨).

يختص القرآن هذه العملية الوحشية القاسية هنا بذكرها في طيّات علامات الطامة الكبرى وآثارها ، إيحاء إلى أنها من أقسى وأوحش ما مضى على تاريخ الإنسان ، إنها طامة من الطامات ، يحاسب بها فاعلها أول ما يقوم يوم الحساب ،


يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام.

إن العرب الجاهلي الوائدين للبنات كانوا على فرق شتى ، تعمها الصورة القاسية الوحشية لهذه العملية العارمة.

فمنهم من كانوا يجلسون المرأة حين وضعها فوق حفرة هيئوها من قبل ، فإن كان المولود بنتا رمي بها فيها وردمت.

ومنهم من كان يتركها إلى السادسة من عمرها ثم يقول لأمها زينيها وطيبيها لكي أذهب بها إلى أحمامها فيأخذها إلى حميم البئر ، يدفعها فيها بكل قساوة وضراوة ، ويهيل التراب عليها (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ).

والبعض القليل كانوا يمسكونها مهينة (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) إلى أن تقدر على الرعي فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله ، وفيما إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى ثوبه عليها منعا لها عن زواج آخر ثم يرثها أو تفتدي نفسها منه ..

هذه وتلك كانت العادة الجاهلية بحق البنات عند العرب ، فما كان لقبيل الأنثى أيّ كيان عندهم ، بل كنّ أنزل مكانة من الحيوان أيضا وأرذل كيانا.

ولقد كانت في نظر بعض الأجيال صفرا وتحت الصفر ، ففي الجيل الخامس الميلادي كانت تعقد المجامع للنظر في : هل هي إنسانة لها نفس إنسانية؟ أم هي دون الإنسان رغم صورتها الإنسانية ، وهكذا كان العصر السابق على الإسلام عصر ضياع المرأة ، وكان للرجل كل حق عليها وحتى وأدها دون أي نظام يطالبه بالتجريم أو يحكمه بالتحريم ، كأن الوأد هو القانون ، حتى جاء الإسلام مشنعا بهذه العادات ، ومتّعها بحقوقها واعتبرها بنتا وزوجة وأما ، وخلّصها


من وأدها وحرمانها حقوقها ، ورفع لها من درجاتها كما تحق في كافة مجالات الحياة فردية وجماعية.

فهل تظن الآن أن البنات خلصن من الوأد ، وفي عصر تحضّر المرأة وتقدمها مع كل ما وصلت إليه المدنية الحديثة؟ .. كلا .. وإنها الآن موءودة أشر مما كانت في الجاهلية الأولى.

إن الآيات تندد بمن يئد البنات أيّا كان ، وأدا في التراب أم وأدا في تباب ، قبل الولادة وبعدها ، جسدانيا أم روحيا ، وأحرى أن يسمى الوأد الروحي وأدا! فإنه بعد عن حياة الروح ، وذلك عن حياة الجسم.

فإذا كانت الجاهلية الأولى تئد البنات ، فالجاهلية المتحضرة تئدهن مع الذكور بعملية الإجهاض المتبعة في كافة البلاد ، وتئدهم جميعا بالأمراض التناسلية الناتجة عن تفشي الفحشاء والخلط بين الجنسين ، لحد تولّد الولائد المرضى ، المبتلين بالأمراض المهلكة ، أم تقتلها قبل ولادتها ، وما إلى ذلك من ألوان الوأد لحدّ لا يحصى.

وإذا كانت الجاهلية الأولى تدفن البنات تحت التراب مخافة الفقر أو العار ، فالجاهلية الأخيرة تدفنهن بشبابها وتدفعها إلى كل عار ودمار وبوار خلقي ورذالات جنسية همجية ، وأدا لكرامتها ودفنا لإنسانيتها ، جاهلية أعمى من الأولى ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين وضلال مبين ، فقدت المرأة ميزتها الإنسانية وانحطت إلى أحط الورطات والنكبات الحيوانية ، لحدّ توزن بثقل جسدها وجمالها وشبابها ونضارتها الجنسية ، كأنها حيوانة خلقت لإرضاء ناحية الجنس ليس إلا.

فإذ يصف أمير المؤمنين عليه السّلام الجاهليين الأولين بما يصف ـ والآخرون أحرى بوصفه ـ يخاطب الناس فيه : «أيها الناس إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول ـ إلى أن يقول : ـ ودفنوا في التراب الموؤودة بينهم من أولادهم ،


أو لا يختارون دونهم طيب العيش ورفاهية خفوض الدنيا ، لا يرجون ثوابا ولا يخافون والله منه عقابا ، حيهم أعمى نجس ، وميتهم في النار مبلس فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى»(١).

فهل يا ترى إن وأد البنات وقتلهن في أجسادهن مخافة الفقراء والعار المزعوم ، هل إنه أوحش وأفحش ، أم دفنهن في الملاهي والشهوات والدعارات وألوان العار والبوار ، أن يصبحن لعبة للرجال دونما حسّ؟؟؟؟؟ ولا حجز ، نتيجة عدم الاكتراث بشأنهن؟

فهذا دفن الروح والجسم معا وذاك دفن الجسم ، هذا دفن المثل العليا والقيم الإنسانية ، وذاك دفن القيم الجسدانية ، فهو أشد من قتل الأجساد ووأدها وكما توحي إليه آيات عدة: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ـ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (٢ : ١٩١) (٢ : ٢١٧) وأية فتنة أشد وأكبر من فتنة اللامبالاة بين الفتيان والفتيات ، الناتجة عن تركهم سدى في خوضهم يلعبون وفي غيهم يعمهون.

وقد يفسر الإمامان الصادق والباقر عليهما السلام القتل في الآية : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (٥ : ٣٢) يفسر انه بقتل الروح وعلى حدّ قولهما : «من أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها» بيانا لأهم المصاديق ، كما ويفسر الحياة أيضا بحياة الروح «ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا» : من أخرجها من ضلال إلى هدى (٢).

فسؤال الموؤودة يوجه إلى الآباء الحاليين قبل أن يوجّه إلى القدامى ، حيث القتل في عصور الحضارة أشد وأكبر منه في الجاهلية الأولى.

إن موءودة الجاهليات «سئلت» تسأل هي بأي ذنب قتلت : سؤال

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٥ ، الكافي بالإسناد عن مسعدة عن الصادق (ع) عنه (ع).

(٢) المصدر ١ : ٥١٤ ح ١٥٣. ومثله عن الباقر (ع) بسند آخر.


ترحّم واعتذار ، ويسأل وائدها سؤال تقحّم وإنذار ، سئلت : «لها وعنها».

إن السؤال في لفظ الآية لم يوجّه إلى الوائد وهو المسؤول! إذ خرج بفعلته الوحشية عن أهلية الخطاب ، والموؤودة هي المؤهلة للسؤال ، أن تسأل ترحما واعتذارا بجنب المسؤول ، وتنديدا وإنذارا للمسؤول ، وكما السيد المسيح سئل : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (٥ : ١١٦).

فقد انحطت درجة المسؤول هنا وهناك لحدّ لا يوجه إليه وحتى خطاب العتاب فكيف بسائر الخطاب : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢ : ١٧٤).

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ. وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) :

نشر الصحف وكشط السماء ، فما هي الصحف المنشورة؟ وما هو كشط السماء؟ فما هي النسبة بينهما إذ قرنا؟

الصحيفة هي المبسوط من الشيء ، وهي غير منشورة يوم الدنيا لأهلها ، ثم تنشر : تبسط وتخرج عن الخفاء والخباء ، وإنها : صحف الوحي ، وصحف الأعمال من الأعضاء ومن الأرض ، وصحف القلوب والصدور والأفكار ، التي كانت مبسوطة ، عليها سطور الهداية وسجلات الأعمال ، ولكنها كانت خفية عن غير أصحابها ، أو خفية عن بعض أصحابها ، الذين خفيت صحائف عقولهم «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى» وصحائف قلوبهم (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٣ : ١٤) (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٢٩ : ٣٨).

أخفوا على بصائرهم صحف الوحي ، وأخفيت عن أبصارهم سجلات الأعمال ،


وحقائق الأعمال ، وخفيت على أنفسهم أنفسهم فهم في غمرتهم وسكرتهم يعمهون وفي غيهم يترددون .. وكان بإمكانهم أن يرووا الصحف صحفا منشورة عندهم ، رغم خفائها على من سواهم ، ولكنهم عموا وصمّوا حتى جاءهم وعد الله.

إن نشر الصحف هناك يفيد كشفها ومعرفتها فلا تعود خافية ولا غامضة وهذه العلنية الشاملة يوم المحشر أشد على إنسانها وأنكى ، فكم من سوأة يخجل صاحبها منها في نفسه ويرجف ويذوب من كشفها ، فكيف إذا رآها منشورة حاضرة مشهودة!

إن صحف الإنسان تتكشف للحجة والحساب ، وكما يتكشف الكون ، بأرضه كما عرفناه ، وبسمائه إذا كشطت : تحللت عن كونها سماء إلى ما كانت عليها من دخان : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٤ : ١١) تكشط وتتكشف لتحضير موقف الحساب ومصير أهل الحساب : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ).

فذلك يوم الكشف والكشط ، يوم ظهور الحقائق دون خفاء ، فما هو إذن كشط السماء؟

إنه من كشط الناقة ـ أي تنحية الجلد عنها ـ ومنه استعير انكشط روعه أي زال ، فكما الناقة تكشط بعد نحرها فتقطع ، كذلك السماء سوف تكشط بعد موتها في الطامة الكبرى ، ينحّى عنها جلدها وجلدها ، وينزع عنها رباطها ، وترتجع إلى ما كانت (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (٨٦ : ٩) وأنها تنشق بكشطها : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٨٤ : ١ ـ ٢) انشقاقا وافتراقا عن امتدادها والتئامها ، فكانت وردة كالدهان: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٥٥ : ٣٧) واهية مسترخية: (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٦٩ : ١٦) ويومئذ تتساقط وتنتثر أولادها من حجرها وتفرج : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٧٧ : ٨) (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ)


(٨٢ : ٢) وفتحت بعد غلقها : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (٧٨ : ٢٠) وتمور وتكون كالمهل : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٥٢ : ٩) (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (٧٠ : ٨) ، وحينذاك ينقضي دور السماء وتطوى طيّا : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (٢١ : ١٠٤) .. يطوى طومار السماء كما تطوى طوامير الإنسان وصحفه ، ثم تنشر الصحف المطوية بعد النشر وقيامة الحشر ولتجزى كل نفس بما تسعى.

إنها ليست هي السماء بمفردها التي تكشط وتسترخي عن الجاذبية العامة ، إنها رخوة الكائنات كلها أن تعمل فيها فوضى الطاقات رجعا إلى حالتها الأولى ، تدميرا شاملا بعد تعمير ، فكما الله أعطى كذلك الله يأخذ.

هنا نعرف أن كشط السماء وقشطها ليس عن جلدها الظاهر فحسب ، إنما عن كيانها السماوي ـ ككل ـ وإلى طيّها ، تبدلا إلى غيرها : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨) وكما عن باقر العلوم عليه السّلام في قوله : كشطت ، قال : أبطلت (١).

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) :

إن الجحيم قبل دخول أهلها غير بارزة ولا مسعرة ، وإنما تسعيرها هو التهاب النار فيها ، وإنه بوقود الأجساد الجهنمية وأعمالها من الخالدين فيها ، فإنهم (سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٤ : ١٠) أي يوقدونها : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (١٧ : ٩٧).

إن السعير هذا معدّ للكافرين مهما كانت أرضها حاضرة ، والإعداء استعداد الواقع لا الواقع نفسه : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (٣٤ : ٦٤)

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٦ ح ١٤ عن القمي في تفسيره.


(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (٤٧ : ١٣) (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٧٦ : ٤).

فإعداد السعير شيء وتسعير الجحيم شيء آخر ، إذا فالجحيم موجودة الآن دون نار مسعرة ، أو أن فيها نار غير مسعرة.

وإزلاف الجنة تقريبها لأهلها إذ قدموا وقربوا لها ما يؤهلهم لاحرازها ، قربا بقرب : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٥٠ : ٣١) أزلفت للمتقين ـ إليهم ـ وعلها إلى الجحيم أيضا ليتراءى أهلوهما فتزداد رحمة اهل الجنة وعذاب اهل الجحيم بهذه المواجهة

وإزلاف الجنة للمتقين يوحي لمكرمتين : ١ ـ أنها كانت جنة قبل القيامة لأنها من فضل الله دون أن تختص بقدر الطاعات ، وإن كانت تزيد نضارة وطراوة بدخول أصحابها ، ٢ ـ أنها على عظمتها تقرب إلى أهلها دون أن يتكلف أهلوها لطي مسافة إليها.

ذلك ولأن النار إنما هي على قدر الأعمال عدلا من الله فلا تتأجج قبل أوانها ، والجنة هي على قدر فضل الله فليس له حدّ يعرف ، وإن كانت الصالحات هي التي تؤهل لإزلافها ودخولها.

وحيث تسعّر الجحيم بوارديها وتزلف الجنة لروّادها الموعودين بها أو الموعوظين لها ، عندئذ لا يبقى لدى النفوس أية ريبة في حقيقة ما أحضروها ، إذ هم يرون أنفسهم في آثار الأعمال وحقائق الأعمال بعد ما يرون صور الأعمال.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) :

بعد هذه الحوادث العظام ، وبعد ما كانت النفوس جاهلة بما عملت ، علمت كلّ نفس ما أحضرته من خير أو شرّ ، علما بما يرى ويسمع من أفعاله وأقواله :


علم العيان : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠).

تجدها وجدانا واقعيا فلا تملك إنكارها ولا أن تغير شيئا منها ولا أن تزيد عليها أو تنقص منها ، فقد جفّ القلم عما كان ولا يحضر إلّا ما كان.

صحيح أنه تبدّل كل شيء وتغير ، ولكنما الأعمال لا تتغير ، فإنما تبرز بحقائقها كما ارتجعت الكائنات كلها إلى حقائقها التي صدرت منها.

إن الحياة الدنيا رغم كونها حياة العناء ، ولكنها حياة التقديم ، تخلّص وتحضر للآخرة ، وكتابها : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

إن الحياة الآخرة حياة العلم الضروري ، تعلم فيها ما قدمت شئت أم أبيت ، تعلم عن جهل أو تجاهل كما في الكافرين ، أم بعد علم كما في المؤمنين ، فهم وإن كانوا على علم ـ مهما اختلفت مراتبه ـ علم بما يحضرون ، ولكنما الغفلة أحيانا من ناحية ، والجهل بحقيقة الأعمال من أخرى ، جعلاه جاهلا ، ثم يعلمها علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ، وإن كان أولياء الله الأكرمون يعلمون قبل الميعاد ، وكما عن الإمام علي عليه السّلام : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» والدنيا كلها غطاء تكشف بالموت ، الموت الاختياري عن الشهوات : «موتوا قبل أن تموتوا» أو الموت الاضطراري (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).


(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩).

(فَلا أُقْسِمُ) : نجدها في ستة مواضيع أخرى ، ومنها التي تنحو منحاها هنا : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٩ : ٣٨ ـ ٤٣) (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٥٦ : ٧٥ ـ ٨٢).

في هذه المواضيع الثلاثة نجد موضوع اللّاقسم أنه صدق القرآن وحيا ، وصدق بني القرآن موحى إليه.

ثم نجدها في سواها باختلاف المواضيع : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (٨٤ : ١٦ ـ ١٨) (لا أُقْسِمُ بِهذَا


الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٩٠ : ١ ـ ٣) (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٧٥ : ١ ـ ٣) (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٧٠ : ٤٠ ـ ٤١).

وموضوع اللاقسم في الأخيرين هو القدرة الإلهية على تجديد الحياة يوم المعاد ، ولعلّ ركوب الإنسان طبقا عن طبق ، وخلقه في كبد ، عله أيضا يوحي إليه أو يعمه فيما يعنيه.

إذا فمدار اللاقسم في هذه المواضيع السبعة إنما هو أصل الرسالة القرآنية وأصل المعاد.

فهل يا ترى إن القرآن وهو أعظم برهان ، إنه بحاجة إلى برهان سواه ، يدل عليه؟ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (٢٩ : ٥١) ..

هذا القرآن ـ وكله برهان ـ نور لا تطفأ مصابيحه ، هل يحتاج في إثبات وحيه إلى سواه ، وهو الشمس تشرق في الظلمات؟! فما بال الشمس تستضيء بنور غيرها ، وما بال النور يستنير بسواه؟ .. كلا : إنه الدليل يدل إلى خير سبيل ، برهان لنفسه وفرقان لسواه : يميز الحق عن الباطل في كافة الميادين.

ليست في الرسالة المحمدية أية خارقة تدل عليها كالقرآن وكما يقسم لإثبات هذه الرسالة السامية بحكمة القرآن : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٦ : ١ ـ ٤) فسماع الوحي الذي هو النبوة ، والرسالة على صراط مستقيم ، يتوسطهما القرآن الحكيم ، برهانا لا مردّ له ، لهما.


إذا فما هي الحاجة لإثبات وحي القرآن أن يقسم له بالخنس الجواري الكنس والليل إذا عسعس ، حتى والصبح إذا تنفس (١)؟.

فهل في الخنس : (المنقبض المتأخر المستتر) والجواري الكنس : (المختبئ الداخل في كناسه) هل فيهما دلالة لإثبات وحي القرآن؟ والكائنات كلها منقبضة متأخرة مستترة تجاه نور القرآن ، وبرهانه ، وهو المنشرح المتقدم الظاهر الباهر كالشمس في رايعة النهار؟!

كلا ؛ ولا في الصبح إذا تنفس لأنه أول النفس والقرآن بلغ من أنفاس الحياة المعنوية منتهاها.

كلا ؛ ولا بمواقع النجوم وهي الظاهرة لكل ذي بصر ، رغم أنه لقسم لو تعلمون عظيم!

كلا ؛ ولا بأيّ من كائنات العالم : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) إذ لا أظهر من القرآن حتى يظهره ويدل عليه ، ألغيره من الظهور ما ليس له؟ عميت عين لا تراه!

ثم وما هي النسبة الدلالية بين الخنس الجواري الكنس لإثبات وحي القرآن ، والآية تصرح بنفي القسم : (فَلا أُقْسِمُ) : تفريعا على الآيات الكونية السابقة كالشمس المكوّرة والنجوم المنكدرة ، أنهما وأمثالهما من نيّرات الكون مصيرها إلى التكوير والانكدار ، وشمس القرآن لا تكوّر ولا تنكدر ، وقد تتلألأ أكثر وأكثر حينما النيرات تنكدر ، فهي أيضا من الخنّس الجواري

__________________

(١) وقد يشهد له المروي عن علي (ع) في (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) قال : «يعني بذلك الأوصياء ، يقول : إن علمهم أنور وأبين من الصبح إذا تنفس» (البرهان ٤ : ٤٣٣ ح ٤) أقول وهو يؤيد اللاقسم ، إذا لا يقسم بالنور لاثبات الأنور ، وعلم الأوصياء هنا مثل عن علم القرآن.

الفرقان في تفسير القرآن (١١)


الكنس ، وكيف يقسم بها لإثبات وحي القرآن وضوئه الذي لا يكنس ولا يخنس! : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ).

وقد يجوز ـ فيما لا يجوز ـ كون الليل المعسعس والصبح المتنفس مقسما بهما لمكان. الواو : «والليل ـ والصبح» كما في (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٩٣ : ١ ـ ٣) : ليس ترك الوحي للفترة التي ترك فيها ـ وهو سجي ليل النبوة ـ ليس إعراضا عن النبي بتوديع ولا قلي ، إنما هو من الله ، لحكمة قضت ، وكما أنّ استمرارية الوحي ـ وهو ضحى نهار النبوة ـ إنه من الله تعالى.

كذلك ليس وحي القرآن إلّا كالصبح إذا تنفس ، في حين أن ما سواه من وحي الأرض هو الليل إذا عسعس : أن ميزة وحي السماء في نورها كميّزة الصبح أن يشق نوره ظلم الليل الدامس العسعس.

فهذا هو الكتاب المنير ، وعلى حدّ تعبير الرسول البشير النذير : «هو النور المبين والحبل المتين والعروة الوثقى والدرجة العليا والشفاء الأشفى والفضيلة الكبرى والسعادة العظمى ، من استضاء به نوره ومن عقد به أموره عصمه الله ومن تمسك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ومن آثره على ما سواه هداه الله ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوله الذي ينتهي إليه أداه الله إلى جنات النعيم والعيش السليم» و «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن .. له نجوم وعلى نجومه نجوم .. فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ولبلغ الصفة نظره ينج من عطب ويتخلص من نشب ، فإن التفكر حياة قلب القصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ..».

وعلى حد تعبير علي أمير المؤمنين عليه السّلام : «نور لا تطفأ مصابيحه وسراج


لا يخبؤ توقده ، وبحر لا يدرك قعره ، ومنهاج لا يضل نهجه ، وشعاع لا يظلم ضوؤه ، وفرقان لا يخمد برهانه ، وبنيان لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعز لا تهزم أنصاره وحق لا تخذل أعوانه ..».

من هنا وهناك نستوحي غنى القرآن البرهان عن أي شاهد وبرهان ، اللهمّ إلا لمن كلت بصيرته ، فليستدل لأنواره المعرفية المعنوية بالأنوار المادية المحسوسة كالضحى والصبح إذا تنفس ، ويستدل لظلمات ما سواه بالليل إذا سجى وعسعس ، بما أنهما باهران في المثال ، دون الخنّس الجواري الكنّس ، إذ الخفي المذبذب ، المستتر المختبئ ، لا يمثّل الظاهر الجلي ، اللهم إلا للدلالة على وحي الأرض الخانس العسّ ، ف (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) : فقد يكون ، إذن ، قسما ولا قسما : (فَلا أُقْسِمُ ..) للدلالة على نور الوحي ، ولو أقسمت فإنما لظلمة وحي الأرض ، ولكي يعرف تجاهه وحي السماء.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) :

إن الجواري الكنس هي الخنس بشاهد عدم العطف ، خلافا لكافة المفسرين الفاصلين بينهما ، كأن الثاني غير الأول وهما واحد! فالخنس هي التي تقبع وتستسر وتخفى وتستتر ، كما الكنس هي المتوارية المستخفية : سواء في ذلك النجوم الظاهرة الزاهرة بالليل ، والمستسرة المتتبعة بالليل (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٠ عن علي (ع) في قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس ، قال : هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى.

أقول : هذا من التفسير بالمصداق الظاهر ، وجمع الخنس والكنس للكواكب يشهد لما استوحيناه من وحدتهما.

وفيه أخرج الحاكم أبو أحمد في الكنى عن العدبس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما الجواري الكنس ، فطعن عمر مخصرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن ـ


وكذلك الشمس الخانسة يوميا ، المكورة نهائيا ، كما وإن كل طالع في الحياة من الكائنات ، إنه بين طلوع وغروب حتى تغرب نهائيا ، وقد ذكرت منها مسبقا الشمس والنجوم والبحار والوحوش والسماء والجبال ، وهي من أبرز وأقوى الخنس الجواري الكنس ، تجري دوما طلوعا وغروبا وإلى الغروب الدائب.

لا أقسم بها مهما كانت نجوما وشموسا ، وهي مثال لشموس الفصاحة والبلاغة التي خفيت ، خنست وكنست ، عند بزوغ شمس الرسالة المحمدية في أفق الجزيرة ، إذ إن القرآن شمس لا تخنس ولا تكنس ، تحريضا للجهال لكي يستيقظوا ، واستنهاضا لهم أن يفكروا في القرآن نفسه ولكي ينتبهوا أنه هو برهان وحيه بنفسه ، دون حاجة إلى سواه ، حيث البراهين كلها خانسة كانسة تجاه القرآن الذي كله برهان ، وكيانه ـ ككل ـ أنه نور وبرهان.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) :

«عسعس» لفظة مؤلفة من «عس» مرتين ، وأصله طلب الشيء بالليل ، والعسعسة من الأضداد ، فهي الإقبال والإدبار : إقبال الليل وإدباره ، وإقبال الطالب بالليل وإدباره فيه للحصول على المطلوب (١).

__________________

ـ رأسه ، فقال عمر : أحرورى! والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقا لأنحيت القمل عن رأسك».

أقول : أفهكذا يجاب من يسأل عن القرآن؟ فإذا جهل الخليفة معنى آية من القرآن فلما ذا يهتك من يستعلمه؟ ولماذا يفتري عليه؟.

على الحق مع الخليفة يؤدب من يستعلمه وليس المسؤول من أهل الذكر ، والله تعالى يقول : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .. ولكنه هل من الخطأ أن يظن بخليفة المسلمين بعض الخير : أنه يعلم بعض الشيء من القرآن فيستعلم؟ أنا لا أدري!

(راجع كتابنا علي والحاكمون في باب ثقافة الخليفة).

(١) في لسان العرب : العسعاس الخفيف من كل شيء ، والعسعسة قيل هي الإقبال ، وقيل هي الأدبار ، وقيل هو من الأضداد كما عن أبي إسحاق.


والليل المعسعس هنا مثال لزمن الفترة الرسالية بين السيد المسيح وسيدنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كان يقبل أحيانا بظلمات الجهل العارمة ، ويدبر أخرى تخفيفا عنها ، ولقد كان طلاب الحقيقة في هذه الفترة العس الداعس ، كانوا حيارى ، بين من لا يجد إلا الظلام ، ومن يجد خليطا منه ومن النور عن كتابات الوحي الخليطة من الغث والسمين.

والصبح إذا تنفس بالنور والحياة والحركة إذ أخذ يفجر ظلم الليل العس ، والتنفس هنا خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل ، فكأنه متنفس من كرب ، أو متروح من همّ ، ومن ذلك قولهم : قد نفس عن فلان الخناق أي انجلى كربه وانفسح قلبه .. أو بمعنى انشق وانصدع من قولهم : تنفس الإناء إذا انشق وتنفست القوس إذا انصعدت.

وهذا مثال للقرآن إذ أخذ يفجر منذ بزوغه ظلم الأوهام التي خنقت البشرية طوال الفترة الرسالية ، ففي الصبح الذي بزغ نور الوحي القرآني على القلب المحمدي ، لمست البشرية وتنفست بحياة جديدة بعد موت عارم خيم بظلمه على بني الإنسان إذ كانوا في ليل داج عسعس ، ولم تكن الأنوار في الأرض إلا خنسا كنسا : فأنوار وحي الأرض كانت غاربة ، وأنوار وحي السماء كانت خليطة بشيء كثير من وحي الأرض ، حتى تنفس صبح الرسالة القرآنية ، مهيمنة على وحي الرسالات كلها.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) :

ليس القرآن قول إنسان ومنه ، ولا قول ملك ومنه ، وإنما هو قول رسول إلهي ، يحمل هذه الرحمة الواسعة الربانية دون ابتغاء جزاء أو شكور ، وهذا هو معنى كرم الرسول ، فكما الوحي كرم من الله ، كذلك من يحمل الوحي كريم يبلغه مهما بلغت به الصعوبات في هذه السبيل دون قهر ولا أجر ولا أنفة ولا كبر ، وإنما حياته هي الرسالة الكريمة بدء ختم.


وهذه الحقيقة الناصعة لا يستشهد لها بأي من كائنات الوجود (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٩ : ٣٩ ـ ٤٤).

بل ولا بأظهر ما تبصرون (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٥٦ : ٧٥ ـ ٨٢).

فهذه النجوم السماوية الواقعة في عمق الفضاء ، من النيازك النارية التي تقذف الشياطين المسترقين السمع في الملأ الأعلى ، والأحجار السماوية التي تقذف شياطين الأرض ، ومن النجوم الواقعة في مداراتها لتطلع أو لتغرب ... لا أقسم بها لإثبات أن الآي القرآنية هي نجوم سماء الوحي الضاربة في أعماق الأفكار والقلوب ، المنيرة للمهتدين ، والمظلمة على المعاندين.

لا أقسم بها ، لأن نجوم القرآن هي أظهر للبصائر ، رغم الأبصار الكليلة التي تعمى عنها أو تتطمى ، وكيف يقسم للنجوم الزاهرة الخالدة بالخنس الجواري الكنس!.

وقد يكون لا أقسم في حين كونه «اللاقسم» توجيها لما يصلح أن يكون قسما لمن كان بصره أقوى من بصيرته ، جمعا بين جماع الناس ، فمن أراد أن يتذكر بالآيات الكونية لإثبات وحي القرآن ، فالكون كله يصلح له شاهدا مما يرى منه وما لا يرى : ما يرى من النجم والشمس والقمر ، وما لا يرى من العقول والفكر والفطر.

ومن أراد أن يستدل بالقرآن نفسه على وحيه فها هو القرآن أظهر برهان وأزهره (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).


فسواء القسم واللّاقسم هنا وهناك ، فالقرآن برهان لا مردّ له على وحيه (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ..).

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) : فليس قول محمد ولا جبريل ، إنما قول الله يحمله الرسول كرسول ، فقول الرسول ليس إلا قول المرسل يحمله كما أوحي إليه ، فمن هو الرسول هنا؟ هل إنه جبريل رسول الله إلى الرسول؟ أم هو الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول الرسل ومعلم جبريل؟ أم هما المعنيان هنا من : (رَسُولٍ كَرِيمٍ) إذ إن الرسالة واحدة والقول واحد يحمله ملك الوحي إلى رسول الوحي؟

أقول : طالما الرسالة الإلهية تعم الرسولين ، ولكنها هنا ـ حسب القرائن الموجودة ـ ليست إلا الرسالة المحمدية ، حيث الأوصاف الإيجابية والسلبية المسرودة هنا للرسول تختصه بالرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فهنا إنه (كَرِيمٍ ـ ذِي قُوَّةٍ ـ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ـ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ـ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ـ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ـ وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ـ وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ).

وهناك «وما هو بقول شاعر ـ ولا بقول كاهن ـ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦٩ : ٣٨ ـ ٤٣).

وجلّ هذه الصفات ـ أو كلّها ـ لا تنطبق إلا على الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كان القرآن قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقول جبريل كرسولين ، ولكنما الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو موضوع البحث هنا أصالة كموضوع الرسالة (١).

__________________

(١) وعليه يحمل ما يروى من تفسير (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) بجبريل و (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) برسول الله كما في نور الثقلين ٥ : ٥١٨ ، القمي بالإسناد إلى الصادق (ع) فلا ينافيه ما عن الرسول (ص) أن (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ـ أيضا ـ هو جبريل (المصدر عن : المجمع) ـ


فكلنا نعلم أن جبريل لم يصاحب غير الرسول لكي تستدل بصحبته وعشرته للمخاطبين أنه غير مجنون ، ولم ينسب إليه الشعر ولا الكهانة ولا الشيطنة ولا الجنون لكي تنفى عنه ، فالمشركون لم يكونوا ليعترفوا بوجوده حتى ينسبوه إليها ، وأهل الكتاب كانوا يحترمونه فكيف يتهمونه بالشيطنة والجنون! في حين أنهم نسبوا إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كل هذه : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (٣٤ : ٨) (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٥٢ : ٢٩) (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. (٧ : ١٨٤)

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥١ : ٥٢).

ومن جهة أخرى نعلم أن جبريل ليس هو موضوع الرسالة والوحي لكي تحاول الآيات إثبات رسالته وأنه لا يسحر ولا يكذب ، وإنما دوره دور الوسيط في الوحي المفصّل ، ولا يثبت له كيان إلا بعد ثبوت الرسالة المحمدية وسواها ،

__________________

ـ ثم لا ينافيهما أن الآيات خاصة بالرسول تنزيلا ، وكما تدل القرائن فإن أمثال هذه الروايات تحمل تفسير التأويل : أن جبريل (ع) يحمل وحي القرآن كما يحمله الرسول محمد (ص) ، فتنزيل الآيات بشأن الرسول وتأويلها بشأن جبريل ، وكل من يحمل وحي القرآن من فروع الرسالة المحمدية من أئمة أهل بيته الكرام.

ثم رواية ثالثة تفسر (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) بالرسول (ص) كما في الدر المنثور (٦ : ٣٢١) ، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : قال النبي (ص) لجبريل ليلة الإسراء : أكشف عن النار ، فكشف عنها ، فنظر إليها ، فذلك قوله مطاع ثم أمين على الوحي وما صاحبكم بمجنون ، محمد (ص).

في حين نرى ابن عساكر يخرج عن معاوية بن قرة أن الرسول (ص) قال لجبريل : ما أحسن ما أثنى عليك ربي (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) فما كانت قوتك وما كانت أمانتك؟ ..

فليس من الواجب طرح الروايات التي تفسر الآيات بجبريل ، وإنما نقول إنها من تفسير الجري والتأويل ، نزلت في رسول الله وجرت في كل من يحمل وحي القرآن وأولهم جبريل ـ تأمل.


فهي التي تعرّفنا الغيب ومنه الوحي ومنه ملائكة الوحي الغائبون عن الإحساس.

إنما موضوع الرسالة هنا هو الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي صاحبهم عمرا قبلها ، وهم ينسبونه إلى الشعر والسحر والكهانة والشيطنة والجنون ، الصفات التي تتنافى والكرامة والمكانة عند الله والقوة الروحية التي تؤهله لتلقي الوحي ، والمعرفة الإلهية لحد الرؤية : كأنه رآه! (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) وكونه مطاعا في دوره الرسالي وأمينا في دعوته.

«ذي قوة» : فكما الله هو شديد القوى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) كذلك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذو قوة : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) قوة معرفيه تؤهله لتلقي الوحي ، فليس ضعيفا يتشبث بالشعر والكهانة والسحر ، ولا ضعيف العقل مجنونا ، ولا ضعيف التمييز لكي لا يميز وحي الرحمان عن وحي الشيطان ، ولا ضعيف الإيمان لكي يخون في الوحي الإلهي ـ وإنما : «ذي قوة» وكما الله شديد القوى.

نلمس هذه القوى الروحية من القرآن نفسه ، دون أن تكون دعوى بلا برهان لرسول القرآن ، فقوة القرآن تشهد لقوة الرسول وكما قوة الرسول تشهد لقوة القرآن : قوتان متناصرتان.

(عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) : ذي قوة عند ذي العرش ، مكين عنده ، أو : ذي قوة ، مكين عند ذي العرش ، والأوّل أولى وأليق ، أن الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس ذا قوة في موازين الأرض : أنه قوي الساعد شجاع في الحروب ، وإنما (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) والقوة عند الله إله القوى ، قوة ربانية لا قبل لها ولا مثيل في ملإ العالمين من الملائكة ومن الجنة والناس أجمعين.

والقوة عند ذي العرش ـ وهو صاحب عرش الألوهية ـ إنها قوة عرشية تعلو سائر القوى وكما القدرة الإلهية تعلوها ، ولكن قوة ذي العرش (شَدِيدُ


الْقُوى) وهي من ذاته المقدسة ، وأما (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) فإنما له قوة من القوى غير شديدة ، وهي من ذي العرش ، دون أن يملك الرسول هذه القوة لذاته ، وإنما هي رحمة من الله خاصة لرسوله الكريم الأمين.

لكنما القوة هذه على قلتها وعدم شدتها تجاه القوة الإلهية ، إنها تعلو القوى غير الإلهية كلها ، ملائكية وبشرية وسواهما.

«مكين» * : عند ذي العرش ، إن له مكانة عرشية خاصة عند ذي العرش ليست لغيره من ذوي المكانات من خملة الرسالات الإلهية.

(مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) :

«مطاع» عند ذي العرش يطيعه من عنده من أصحاب القوى وذوي المكانات ، وكما نرى جبريل ، رسول الله إلى الرسل ، يخدمه ويطيعه ، فليس كيانه إلا كيان الوسيط بينه وبين الله ، لا لأن الرسول بحاجة إلى وساطته ـ إذ هو أقرب إلى الله وأقوى ـ وإنما لكي لا يظن به الناس ما ظنوه في بعض المرسلين من الألوهية كأنهم يقولون من عند أنفسهم دونما وحي ، فإذ يصرح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن جبريل هو الوسيط بينه وبين ربه في وحيه ، فهنا تنطمس الظنون : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ١٠٢).

فليست الغاية من نزول روح القدس إلا تثبيت المؤمنين ، لئلا يقولوا ما قيل من قبلهم للرسل إنهم آلهة كما ظنوا في المسيح عليه السّلام.

(ثَمَّ أَمِينٍ) : عند ذي العرش ، أمين على وحي الله ورسالة الله ودين الله ، ولقد عاش قبل الرسالة أيضا أمينا لحدّ سموه محمّد الأمين ، وهذه الأمانة المسبقة في الناس وعند الناس ، تجعله ـ وبالأحرى ـ أمينا عند الله : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)


(١٠ : ١٦) : عمرا بوفور العقل والأمانة ، فكيف تتهمونني الآن بالجنون والخيانة؟!

فالأمين عند الرعية أحرى له أن يكون أمينا عند ذي العرش ، فهو إذ لا يخون الناس وهم ضعفاء ، فكيف يخون الله وهو شديد القوى؟! ..

أجل وإن وحي القرآن ليس ليحمله إلا رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.

فلو لا الكرم ـ وهو الرحمة العظيمة الواسعة دون ابتغاء أجر ـ لكان وحي القرآن في مضيق يختص بمن يؤتي الأجر دون الناس كافة!

ولو لا القوة العرشية لما كان بمستطاعه تلقي الوحي ـ فأين التراب ورب الأرباب ـ .. إنه لا بد من قلب عرشي قوي لكي يقوى على تلقي الوحي من ذي العرش.

ولو لا ها لما كان يقوى على إبلاغ الوحي كما يجب ، صبرا على المزالق والمشاق في سبيل الدعوة الشاقة.

ولو لا مكانته العظيمة عند الله لما كان يستحق هذه الكرامة الخاصة في تحمل الوحي الأخير وحمله إلى الناس كافة.

ولو لا أنه مطاع في دوره الرسالي ، وعند وسائط الرسالة وعمال رب العالمين ، لما استطاع أن يحقق ويطبق الرسالة الخالدة.

ولو لا الأمانة لكانت منه الخيانة ، أو ممن كانوا يتربصون الدوائر بوحي القرآن أن يبدلوه ويحرفوه كما حرفوا كتب السماء من قبل.

ولكن أمانته وقوته وصموده وصلابته ومكانته جعلت وحي القرآن خالصا عن كل شين ، خالدا إلى يوم الدين.


(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) :

لقد اتهموه ـ فيما اتهموه ـ بالجنون ، لا المشركون فحسب ، بل وأهل الكتاب أيضا ، وهم يعلمون أنه صاحب وحي وإلهام كما التوراة تشير :

ففي الأصل العبراني من «كتاب هوشع ٩ : ٥ ـ ٩» :

(مه تعسو ليّوم موعد وليّوم حك ادوناي ٥ كي هنيّه هالخو ميشود ميصرييم تقبصم موف تقبرم محمّد لكسفام قيموش ييراشم حوح باهاليهم ٦ بائوا يمّي هفقوداه بائوا يمّي هشّلوم يدعو ييسرائل إويل هنابئ مشوكاع إيش هاروح عل رب عونحا وربّاه مسطماه ٧ صوفّه إفرييم عم إلوهاي نابىء فح ياقوش عل كال دراخايو مسطماه ببيت إلوهايو ٨ هعميقوا شيحمطو كيم هكيبعاه ييزكور عونام ييفقود هطوتام ٩) :

أي : «ما ذا تصنعون يوم الاحتفال ويوم عيد الرب ٥ ها إنهم يرتحلون لأجل الخراب ، فمصر تجمعهم وموف تدفنهم و «محمد» * لفضتهم والقرّاص يرثهم والعوسج يستولي على أخبيتهم ٦ تأتي أيام التمييز ، تأتي أيام الجزاء ، سيعلم إسرائيل : ـ

أن النبي السفيه ورجل الروح مجنون لكثرة إثمك وشدة الحنق ٧ إن النبي رقيب ، أفرأيتم عند إلهي قد صار فخ صيّاد على جميع طرقه وحنقا في بيت إلهه ٨ لقد توغّلوا في الإفساد كما في أيام جبعة فهو يذكر إثمهم ويفتقد خطاياهم ٩» (١).

هذه الآيات المبشرة بسيدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم تندد باليهود الذين اتهموه بالجنون

__________________

(١) تفسير هذه الآيات إلى كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ص ٧٣ ـ ٧٩.


وهم يعلمون أنه صاحب الروح الرسالية ، اتهموه لكثرة إثمهم وحنقهم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢ : ١٤٦). (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٦٨ : ٥١).

وتقول التوراة أيضا : «يدعو ييسرائيل إوايل حنبيا مشوكاع إيش هاروح عل روب عونخا ورباه مسطماه» :

«بنو إسرائيل يعلمون ويعرفون أن النبي الأمي المجنون صاحب روح إلهامي وصاحب وحي».

هكذا يجابه ويواجه أعقل العقلاء : أنه مجنون ـ مستور العقل ـ لا لشيء إلا لأنه يدعوهم إلى غير ما يشتهون؟ فهل لأنه يضاد آراءهم المفندة أصبح مجنونا؟ إذا فكل الناس مجانين لأنهم ـ كلهم ـ مختلفون في آرائهم ، يجنن بعضهم البعض! فمجانين بالإجماع!.

أو لأنه يعمل الأعمال المجنونة من ضرب وفتك وهتك وسب وقتل وحركات أخرى لا يصدقها العقل. فما هي؟ إنها ليست إلا التوجيهات التي تصدقها العقول والفكر والفطر ، فإذا دحض حججهم وفنّد آراءهم يتمسكون بما يزيف مكانته ، من الجنون والسحر والكهانة والشعر دونما حجة إلا الدعايات والعربدات الهمجية.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) : إنه لبث فيكم عمرا قبل الرسالة وصاحبكم عاقلا صادقا أمينا لحد سمّي بمحمد الأمين ، فهذه المصاحبة العاقلة الأمينة هي الكافية لدفع تهمة الجنون عن ساحته القدسية ، فإذا جاءكم بما يصلحكم تقولون إنه لمجنون؟ وما هو إلا ذكر للعالمين ، لمن شاء منكم أن يستقيم.


(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ):

فمن هذا الذي رآه الرسول الكريم بالأفق المبين ، الرؤية التي عدّت من دلائل رسالته الإلهية ومن مفاخرة المعنوية؟

هل إنه جبريل وسيط الوحي؟ ولم يسبق له ذكر! والآيات المسرودة تركّز على رسول واحد ، محمد أم جبريل ، فهل رأى أحدهما نفسه في الأفق المبين؟ ثم رؤية الرسول لجبريل لا تختص بالأفق المبين ، فلقد كان يتشرف ملك الوحي بحضرة الرسول عدد الوحي المفصل ، مئات المئات من المرات ، ثم ليست رؤيته لجبريل من مفاخره ، ولا دليلا على رسالته ، وإنما سماع الوحي ومعدّاته الروحية ، وإنما رؤية الرسول هي مفخرة لجبريل ، رؤية التلميذ أستاذه في تعليم الوحي ، رغم أنه كان وسيطا في ألفاظ الوحي وشيئا من معانيه حسب مقدرته.

فإنما الرؤية هنا كمال المعرفة والزلفى الممكنة للممكنات ، للرسول الأمين ، أن رأى ربه بالأفق المبين : (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أعلى الآفاق المعرفية بأعلى الآفاق الكونية : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٥٣ : ١ ـ ٢٢).


هنا الآيات تركز على التعليم والرؤية ، وليس لرؤيته صلّى الله عليه وآله وسلّم جبريل ، ولا أنه وسيط وحيه ، ليست لهما كثير أهمية ، ولا أن هناك من ينكر الرؤية والوساطة : أبعد التصديق أنه نبي؟ أم مع نكران نبوته؟ فلا تصل النوبة ـ إذا ـ إلى نكران الرؤية!

وكما درسناه مسبقا في سورة النجم ، بشهادة الآيات أنفسها والروايات : ليس شديد القوى إلا الله (١) ، وإنما رسوله ـ أيا كان ـ هو ذو قوة ، لا شديد القوى.

وشديد القوى ـ هنا ـ أوحى إلى عبده ما أوحى ، فهل يا ترى أن محمدا تنزّل إلى درجة العبودية لوسيط الوحي المفصّل؟ .. ثم جبريل لم يصاحب الرسول إلى عمق المعراج ، إلى سدرة المنتهى ، فكيف رآه الرسول عند السدرة نزلة أخرى؟

ثم القسمة الضيزى بين رؤية محمد ما رأى ، وبين رؤية المشركين اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، ليست هذه القسمة الضيزى «الظالمة» إلا في رؤية الإله ، إن رؤية بالبصر كاللات والعزى ، أم بالبصيرة كما رأى الرسول ربه بنور المعرفة واليقين لآخر درجات الإمكان ، فنكران رؤيته صلّى الله عليه وآله وسلّم ربه هكذا ، في حين يرى المشركون أربابهم ، هذا هو القسمة الضيزى ، لا نكران رؤية جبرائيل!

فقد درج الرسول بكيانه ككل ، بجسمه وروحه ، درج فعرج إلى الأفق الأعلى ، ولأنه ذو مرة : (قوة) فاستوى : استولى على الكون أجمع ، وإلى أعلى الآفاق : الآفاق الكونية إذ وصل إلى سدرة المنتهى ، منتهى الكون وكاهله ، واضعا قدميه عليه فرأى من آيات ربه الكبرى.

__________________

(١) في دعاء الندبة «يا شديد القوى يا من على العرش استوى ـ وفي دعاء : يا شديد القوى ويا شديد المحال» وفي نهج البلاغة : شديد القوى يعني به الله وكما في تفسير القمي أيضا.


وإلى أعلى الآفاق العقلية والمعرفية من الملائكة والمرسلين ، فقد عرج الرسول الكريم إلى معراج تلكم الآفاق ، خارقا حجب الظلمات والنور ، فما زاغ بصره وبصيرته ، وما نقص في معرفة ربه ، (وَما طَغى) : ان يراه ببصر العيان ، أم يعرفه بالبصيرة حق المعرفة ، وإنما ازدلف إليه وعرفه كما يمكن ، خارقا كافة الحجب إلا حجاب ذات الألوهية ، المستحيل خرقه.

إن الرؤية هذه هي رؤية الفؤاد بنور اليقين (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)(١) فللقلوب أبصار كما للقوالب : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٧٩ : ٧ ـ ٨) : أبصار القلوب الكليلة أو البصيرة النيرة وكما في العلوي : «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق حجب النور فتصل إلى معدن العظمة» وعند ما يسأل : هل رأيت ربك؟ يجيب : كيف أعبد ربا لم أره ، لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».

وعن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين ثم تلا (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) وهذا جوابا عمن سأله هل رأيت ربك» (٢) وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :

__________________

(١) في البحار ج ٦ ص ٣٨٠ ، عن ابن عباس قال : قال النبي (ص) فيما احتج على اليهود : .. حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش : إني أنا الله لا إله إلا أنا السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤوف الرحيم ، فرأيته بقلبي وما رأيته بعيني.

وفي ٣٩٨ عن انس قال : قال رسول الله (ص) لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى.

وفي ٣٩٩ عن حمران قال : سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله عز وجل في كتابه (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) فقال : أدنى الله محمدا منه فلم يكن بينه وبينه إلا قعص لؤلؤ فيه فراش يتلألأ.

أقول : اللؤلؤ هذا المتلألئ هو نور الذات الأزلية التي لا تظهر إلا له سبحانه لا سواه.

(٢) في الدر المنثور ٦ : ١٢٤ ، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي (ص) قال : قالوا يا رسول الله (ص) ..


«نوراني أراه» (١) ، وقال : «رأيت نورا» .. كل ذلك إشارة إلى المعني من الرؤية : أنها كمال المعرفة بعد خرق الحجب الممكن خرقها لأفضل الكائنات وأشرف الموجودات.

والرسول الكريم وإن كان عارفا بربه حق المعرفة طوال حياته الرسالية ـ مهما اختلفت درجاتها طولها ـ إلا أن طبيعة الحال تقضي في معراج هكذا ، وإلى الأفق الأعلى ، واضعا قدميه على كاهل الكون ، تاركا ما سوى الله تحت قدميه وبقالبه ، بعد أن تركها بقلبه المنير ، متخليا متحللا منقطعا عما سوى الله وحتى عن نفسه المقدسة ، مشتغلا بربه دون سواه ، منعزلا عمن أرسل إليهم لهذه الفترة ، فهذه الحالة تقتضي أن يكون هناك من ربه (قابَ قَوْسَيْنِ) : ليس بينه وبين الله أحد ولا حجاب (أَوْ أَدْنى) : ليس وحتى نفسه المقدسة وهي أقدس الحجب النورانية :

«بيني وبينك إني ينازعني

فارفع بلطفك إني من البين»

فلم يبق آنذاك حجاب عن المعرفة إلا حجاب ذات الألوهية الذي لن يرتفع أبدا ، فقد خرق ـ إلى الأفق الأعلى وفيه ـ خرق حجب الظلمة وحجب النور ، ناسيا لها وتاركا إياها مشتغلا بربه ، ولو أن بقيت هذه الحالة التجردية للرسول الكريم لاشتغل عن الكون وعن رسالته وعن نفسه وقضى نحبه ، وهذا باب من المعرفة لا يعرفها إلا صاحب المعراج ، وهي التي استدعاها موسى فأجيب : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) إذ ليس في وسعه العروج إلى هذا الأفق المعرفي كما لا يتسع الجبل فوق ما يتحمل.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) : ليس الرب على غيبه بخيلا : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا

__________________

(١) المصدر أخرج مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي ذر قال : سألت رسول الله (ص) هل رأيت ربك. فقال : نوراني أراه.


يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٧٢ : ٢٧).

ليس الرب ضنينا برسوله الكريم على غيبه الممكن كشفه على غيره ، كما وأن الرسول ليس على غيب ما أوحي إليه بضنين على الناس أجمعين ، فلا ضنة لا هنا ولا هناك ، فقد كشف الله عن غيب معرفته وعن غيب وحيه لرسوله الكريم ما لم يكشفه لأحد من العالمين ، ليس لأنه ضنين على من سواه من المرسلين ، وإنما لأن القلوب أوعية المعارف ، لا تعي إلا على قدرها ، فلو حملت فوق مستطاعها لتفتتت كما والجبل لم يتحمل لما تجلى ربه له فوق ما يتحمل ، مثالا لموسى إذ سأله منتهى المطاف في المعرفة ، أنه لا يتحمل.

ولكن الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يؤهل لهكذا كشف عن الغيوب المكنونة الممكن كشفها ، فإذ ليس الله على الغيوب هذه ضنينا ، وقلب محمد يعيها ، وإذ ليس محمد على بلاغ الغيب ضنينا ـ ولأنه يحمل الشريعة الإلهية كلها ، ويتحمل عبء الرسالات كلها ـ لهذا وذاك (رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : فهل الشيطان الرجيم يوحي بهذا المنهج القويم لحدّ يفوق سائر الوحي النازل على أنبياء الله من قبل؟

ثم هل الشيطان يعارض نفسه في شيطنة العقائد والتصرفات ـ طوال وحيه ـ ويحافظ على كرامة الله ودين الله كما نلمسه تماما في وحي القرآن؟

فوحي القرآن ليس صادرا إلا عن الله ـ قضية قياسها معها ـ فليس وحيا نفسيا من كاهن ولا مجنون ولا عاقل يتكلم عن وحي نفسه وإن كان عن عقل وصفاء ، وليس وحيا من كاهن ولا شاعر ولا ساحر ولا شيطان ولا مؤمن عاقل عبقري إليه ، فإننا لا نجد أيا من هذا وذاك يلمح من هذا الوحي العظيم ، وهو بنفسه


يشهد علميا وعقليا أنه وحي الله ألقاه إلى رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) :

أين تذهب بكم المذاهب وتتيه بكم عن هذه المواهب : عن هذا الوحي القويم وهذا الرسول النبي الكريم؟ أين تذهبون وأنى تأفكون ، من حيث لا تعلمون ولا تعقلون؟ أين تذهبون في أقوالكم وادعاءاتكم وأحكامكم : أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم وحيثما كنتم ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون؟.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) :

إن وحي السماء ورسل السماء ـ وبالأحرى رسول الرسل وأم الكتب ـ إنها لا تأتي بما ينافي العقول والفطر أو لا يلائمها ، وإنما كيانها : (ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ذكريات تذكرهم بما نسوا أو تناسوا ، بما درنت ورانت قلوبهم وكسفت عقولهم ومسخت فطرهم.

إن هذه الذكرى الرسالية تتركز على الأحكام الكلية العقلية والمصاديق الجزئية ، إزاحة لشبهات العقول ، وإنارة الدروب عليها ، لتسابق فيما هو خيرها في الأولى ، وإن كان الإنسان كإنسان الأرض لا يستطيع أن يعرف كافة الحكم في الأحكام الجزئية اللهم إلا ما يذكّرنا وحي السماء ..

فوحي القرآن ونبيّ القرآن ليس له كيان إلا (ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) تذكيرا عن الغفلة والغفوة والجهل والجهالة ، ذكرا بما هو منقوش في كتاب الفطرة ، وتعرفه العقول المستقيمة .. (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ).


فكما المقوّم يجب أن يكون مستقيما ، كذلك المقوّم ، عليه أن يشاء الاستقامة ويعمل لها : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠).

فمشيئة الاستقامة تأخذ بالإنسان إليها حيث المقومات من وحي السماء ورسل السماء تترى و (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) :

هل إن آية المشيئة هذه تعلّق مشيئة الإنسان بمشيئة الله : أنه مسيّر في مشيئته وليس مخيّرا؟ وهذا خلاف الواقع الملموس ، ولا تلائمه الآية المسبّقة : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) إذ توحي باختيار الإنسان في مشيئة الاستقامة وسواها.

نقول انها ـ على احتمال ظاهر بين محتملاتها (١) ـ تخرج الإنسان عن استقلاله في مشيئته ، وتجعله بين أمرين : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» فلا هو

__________________

(١) واحتمال آخر : وما تشاؤون استقامة إلا أن يشاء الله ذلك الاستقامة ، فليست مشيئة الله لتحقيق الاستقامة والهداية إلا بعد مشيئة العبد وهذا عكس الاحتمال الأول إذ كانت المشيئة الالهية فيه هي السبب لمشيئة العبد المحققة للاستقامة والهداية.

ومشيئة العبد مشيئتان : مشيئة أولى في البداية ، وثانية لتحقيق الغاية ، ومشيئة الله كذلك هنا في مرحلتين : تشريعية وتكوينية ، فما لم تكن الأولى لم تتحقق المشيئة الثانية للعبد لعدم الدلالة ، وما لم تكن الثانية لم تتحقق كذلك لأمرين في الخير وأمر واحد في الشر ، يزيد الخير على الشر في مشيئة التوفيق ويشتركان في عدم تحقق المراد إلا بإرادة الله التي هي آخر المطاف في أسباب تحقق الغاية.

(راجع كتابنا حوار بين الآلهيين والماديين بات الأمر بين الأمرين).


مخيّر في مشيئته الاستقامة كمفوّض إليه أمره (١) ، ولا هو مسيّر في أمره ، وإنما هو بين مشيئتين : من الله ومن نفسه : فمن نفسه : أنه يختار ويشاء الاستقامة بما جعله الله مختارا ، ومن الله ان وفقه للوصول إلى ما يشاء من الاستقامة ، فلو لا توفيق من الله لم تكن مشيئة الإنسان ـ أيا كان ـ لتوصله إلى واقع الاستقامة فالتذكر بذكر القرآن ، ف (اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) و (ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

إلى صراط مستقيم فإذا لم يكن واقع الهداية بمشيئة الرسول ، وإنما له وعليه الدلالة فحسب ، فأولى بمن سواه ألّا يقدروا على واقع الهداية لأنفسهم ، وإنما يملكون ـ هم ـ مشيئة الاهتداء والاستقامة فالذكر ، ثم الرسول دليلهم في مسير الهداية تشريعيا ، ثم الله من وراء القصد يهديهم إلى واقع الهداية تكوينيا ، ف «ما تشاؤون : (تحقق الهداية مشيئة تحقيق توصلكم إلى حق الهداية) إلا ان يشاء الله (أيضا لكم إياها تشريعيا وتكوينيا ، ولأنه) رب العالمين».

إذا فتحقق الاستقامة والهداية ، بحاجة أولا إلى مشيئة من المستقيم تكوينيا ، ثم مشيئة من الله تشريعيا للدلالة على كيفية الاستقامة والهداية ، ثم مشيئة منه

__________________

(١) ويشهد له ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قالوا : الأمر إلينا إن شئنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فهبط جبريل على رسول الله (ص) فقال : كذبوا يا محمد! (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ففرح بذلك رسول الله (ص).

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن القاسم بن محيمر قال : لما نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل أرى الأمر إلينا فنزلت الآية ، الدر المنثور ٦ ـ ٢٢.

أقول فالآية كما حققناه تعني نفي التفويض في الأمر كما الأولى تدل على نفي الجبر ، فليس إلا أمر بين أمرين.


تعالى تكوينيا أن يوفقه ويسهل له الوصول إلى واقع الهداية والاستقامة فلما تحققت المشيئتان الإلهيتان تبعتهما مشيئة العبد الأخيرة الملامسة لواقع الهداية والاستقامة ، وكل هذه نجدها في الآيتين : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) : مشيئة أولى للمستقيم (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : مشيئة ثانية ، وهي مع واقع الهداية والاستقامة ، ومشيئة تشريعية وتكوينية من الله تتوسطان مشيئتي العبد المستقيم ـ إذا ـ فلا جبر في الهداية ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، أمر من الله وأمر من العبد ، لذلك فلتنسب الهداية إلى الله ـ وأحرى له ـ وإلى العبد أيضا لاختياره ، وهذه في الحسنات أن الله يشاء ويدبّر ويوفق : «يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني» ذلك لأن الله تعالى لا يشاء السيئة لا تشريعيا ولا تكوينيا ، وإنما لا يجبر العبد على فعل السيئة ولا على تركها ، وله المشيئة التشريعية ألا يعصى ، فإذا خالف أمر الله وشاء المعصية يذره الله تعالى في طغيانه يعمه وفي غيّه يتردد ، إذ لا جبر في ترك المعصية كما لا جبر في فعلها.

وبما أن المخاطبين هنا هم المستقيمون ، ومن أصدق مصاديقهم هم الرسل والأئمة المعصومون ، لذلك وردت عن الصادقين أنهم هم المعنيون بالآية كما عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال : إن الله جعل قلوب الأئمة موردا لإرادته فإذا شاء الله شيئا شاءوه وهو قوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(١) ،

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٩ ح ٣٠ القمي حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا محمد بن أحمد عن أحمد بن محمد اليساري عن فلان عنه (ع).


وعن أمير المؤمنين علي عليه السّلام : وإن فعل أمنائه فعله كما قال : وما تشاؤون إلا أن يشاء الله (١).

__________________

(١) المصدر ح ٣١ في كتاب الاحتجاج للطبرسي حديث طويل عنه (ع) يذكر فيه جواب بعض الزنادقة عما اعترض به على التنزيل ..

أقول : وهذا استيحاء لطيف إذ يربط مشيئة أمناء الله بمشيئة الله ، وهذه هي العصمة في المشيئة تعصمهم وحتى عن أية مشيئة قبل أن يشاء الله ، المشيئة التشريعية والتكوينية سواء ، وإن كانوا يشاءون دائما الاستقامة والهداية ، ولذلك نجد الله يعصمهم ويهديهم لأفضل درجات الهداية ، وهنا بحث فصل نوافيكم به في طيات التفسير.


سورة الانفطار ـ وآياتها تسعة عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) ..

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) :

علمت نفس ـ بعد قيامة الإماتة بانفطار السماء وانتثار الكواكب وتفجّر البحار ، وبعد قيامة الإحياء ببعثرة القبور ـ علمت نفس ما قدمت وأخرت؟

إن الانفطار هو قبول الفطر ، وأصل الفطر الشق طولا ، وذلك قد يكون على وجه التعمير : (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ..) (٢١ : ٥٦) ، وقد يكون على وجه التدمير : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (١٩ : ٩٠) (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً)(٧٣ : ١٨).

فالأول شق إلى البناء حيث انشقت السماء عن الدخان : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) كما الثاني شق إلى الغناء : (يَوْمَ


تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) وذلك يوم تدميرها ورجعها إلى ما كانت من دخانها : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) ، وكما شرحناه مسبقا في سورة التكوير والإنشقاق عن كشط السماء وقشطها ، أنها سوف تنمحي عن كيانها السماوي وتنحّى عنها جلدها وتنشق ، فهي يومئذ واهية ووردة كالدهان وتمور مورا وتصبح كالمهل.

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) :

هنا شبهت الكواكب بلآلئ منظومة انخرط سلكها فانتثرت وتفرقت ، إنها تنتثر بعد تماسكها في أفلاكها جارية بسرعات هائلة ، ممسكة في داخل مداراتها ، مرفوعة في أجوائها بعمد لا ترونها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فثم عمد ولكن لا ترونها ، أعمدة القوة الجاذبية وسواها التي نجهلها حتى اليوم ، فلما ذهبت هذه القوى التي تشدها وتربطها في سماواتها ومداراتها ، ذهبت ـ إذا ـ في الفضاء بددا كما تذهب الذرة التي تنفلت من عقالها.

فهل إنها ـ وكما يزعمها السذج ـ تتناثر على أرضنا؟ كلا ؛ فإن أرضنا ـ وهي من أصغر الكواكب ـ تنتثر معها إلى أعماق الجو وتنطمس وتنمحي وترجع ـ كأمها السماء ـ إلى حالتها الأولى «دخان» * وعلّها ـ ومعها الكائنات كلها ـ ترجع إلى «الماء» * المادة الفردة الأولى.

أجل ـ وإن الكواكب تنتثر كما النجوم تنطمس وتنكدر وتندحر : حادثات جلل تقضي على المملكة السماوية بأمر الملك العلام.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) :

وكما عرفناه مسبقا في التكوير ، سوف يعم البحار ـ كل البحار ـ تفجير يتلوه تسجير ، فتصبح نارا هائجة ملتهبة بالتفجرات ، فالحرارات التي تتحكمها


فترجعها إلى ما بدأت ، رجعا إلى النار وإلى المادة الفردة ، وكما جاء عن الصادق عليه السّلام : «تتحول البحار التي حول الدنيا كلها نيرانا» (١).

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) :

وهذه قيامة الإحياء ، تبعثر القبور وتخرج الأجساد من الأجداث : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) (٧٠ : ٤٣) (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣٦ : ٥١).

ولنعرف هنا ما هي القبور وبعثرتها؟ إن القبور هي مخابئ الأبدان وأجداثها ، فالقبر ـ لغويا ـ مقر الميت أيا كان : جوف البر أو البحر ، في جسد حيوان يأكل إنسانا ، أم في جدث التراب ، أم على وجه الأرض ، أم أيّا من الأماكن ، فإن الأبدان لا تضل عن علم الله كما الأرواح لا تضل ، مهما ضلت عن علمنا.

و «بعثر» كلمة مركبة من «بعث أثير» وآيته أنها تشمل المعنيين : فبإثارة القبور تبعث ما في القبور ، إثارة القبور وما في القبور ، دون أن يضل شيء من الأجزاء الأصيلة لكل جسد وفي كل جدث : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١٠ ـ ١١) ترجعون إلى من : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (٣٤ : ٣).

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) :

علمت نفس : خيّرة أم شريرة ـ دون استثناء ـ علمت علما شاملا كما الجزاء هناك كامل ، علمت بعد جهل تام يوم الدنيا ، وبعد علم غير تام يوم البرزخ ، كما

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٤ ح ٦.


الجزاء هناك برزخي دون تمام ، فالبرزخ برزخ من كافة الجهات ، ومنها العلم بحقيقة الأعمال كالجزاء بالأعمال .. فما هو المقدم من الأعمال والعقائد والأقوال وما هو المؤخر؟

من الثابت قرآنيا أن كتاب الأعمال لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٧٥ : ١٤) فالمقدّم أيّا كان والمؤخر أيا كان ، إنهما سوف يحضران يوم القيامة وفي موقف الحساب ، دون مغادرة لشيء منهما ولا مثقال ذرة إلا أتى الله بها وكفى به حفيظا وحاسبا.

علمت نفس ما قدّمت : من الأعمال المنقطعة غير المستمرة خيرا أو شرا ، وما أخرت مما له استمرار يؤثر ، من خير أو شر ، فالثاني من الآثار والأول مقدم وكلاهما مكتوبان يحضران يوم القيامة : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٣٦ : ١٢) فالأعمال وإن كانت كلها مقدمة ليوم الحساب ، إلا أن البعض منها مؤخرة أيضا بعد ما قدّمت ، تبقى دائبة تقدّم دوما ما دامت سنّة يعمل بها طوال زمن التكليف ، سنّة حسنة أو سيئة ، فللعامل المبدع المبتدئ نصيب مما عملوا بها ولا ينقص أولئك من أجورهم في الحسنات ، ولا من أوزارهم في السيئات ، وكما نجدها أصلا ثابتا في الآيات وفي الروايات المأثورة عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من أهل بيته الكرام عليهم السلام وفي تفسير هذه الآية بالذات (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٠ عن المجمع : جاء في الحديث أن سائلا قام على عهد النبي (ص) فسأل فسكت القوم ، ثم أن رجلا أعطاه فأعطاه القوم ، فقال النبي (ص) : من استن خيرا فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقص من أجورهم ، ومن استن شرا فاستن فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقص من أوزارهم ، قال : فتلا حذيفة بن اليمان (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ..).

أقول : وفي الدر المنثور ٦ : ٣٢٢ ، أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة عنه (ص) من قوله «من استن ـ إلى ـ وأخرت ..» وهي من المتواتر معنويا.


و : علمت نفس ما قدمت من خير وما أخرت من شر ، فإن الخير تقدّم للإنسان والشر تؤخر ، كما ويشير إليه القرآن : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) (٢ : ٢٢٣) (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٧٨ : ٤٠) (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى. يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٨٩ : ٢٤) ، (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نَذِيراً لِلْبَشَرِ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٧٤ : ٢٩ ـ ٣١) : تقدّم في الحياة بتقديم الصالحات ، وتأخر عن الحياة تأخرا عن الصالحات وتورّطا في الطالحات ، فالحري للإنسان كإنسان ، والذي يحيى يوم الحساب للحساب ، حري له أن يقدم لحياته الأخرى من الصالحات ، فإن الطالحات تسبّب التأخر عن الحياة السعيدة ، وإن كانت الأعمال كلها ـ خيرها وشرها ـ تقدم ليوم الحساب ، ف (لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (٥٩ : ١٨).

والآية : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) تتحمل المعنيين ، أن الإنسان سوف يعلم خيره وشره ، ما قدمه وأثاره (١).

وهناك نفوس قدسية علمت حقائق أعمالها قبل موتها وقبل قيامتها ، هي

نفوس المعصومين ، فلا تشملهم «نفس»

لأنها منكرة لا تستغرق النفوس ،

وعلها ـ أيضا ـ تشير بتنكيرها إلى النفوس العادية غير البالغة درجة العصمة ، فها هو أمير المؤمنين علي عليه السّلام يقول : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا»!

__________________

(١) كما أخرج الدر المنثور عن عكرمة وقتادة ومجاهد ، قولهم في الآية : ما أدت إلى الله مما أمرها به وما ضيعت (٦ : ٣٢٢).


(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)(٦)

خطاب جميل جليل يهز الإنسان في كيانه الإنساني إذ يستيقظ إنسانيته ، ويحرض وجدانه وشعوره ، ويدخل من قلبه شغافه ، وينبّهه أنه كإنسان ، لا يحق له الغرور بربه الكريم ، فما الذي يغره بربه ويلهيه عن خالقه؟!

يقول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «غره جهله» (١) ، ويشرحه عليّ عليه السّلام : «أدحض مسئول حجة ، وأقطع مغتر معذرة ، لقد أبرح جهالة بنفسه إياه ، يا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك وما غرك بربك ، وما آنسك بهلكة نفسك ، أما من دائك بلول ، أم ليس من نومتك يقظة ، أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك ، فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظله ، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له ، فما صبرك على دائك ، وجلدك على مصابك ، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعز الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة ، وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته» (٢).

أجل ، وإن جهله وجهالته بربه يغره به ، أن يحسب نفسه كأنه يستقل عن الله أم يترفع عنه أو يفسق عن طاعته.

ومن الجهل غرور بعض الناس بكرم الله ، قائلين : ـ حينما يسأل أحدهم عما قصر ـ «الله كريم»! جاهلين أو متجاهلين أنه كريم عادل ، ومن عدله ثواب الصالحين وعذاب الطالحين : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) .. فأي فرق بين من يعصيه ناكرا كرمه ، ومن يعصيه جاهلا

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٣ ، أخرجه عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال : بلغني أن النبي (ص) تلا هذه الآية (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ثم قال : جهله.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٢١ ، عن نهج البلاغة.


موقفه في كرمه؟ فكلاهما غرور بالرب الكريم! أجل وكما سبق عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم «غره جهله» : بكرم الرب أو بمقام الكرم.

إن واقع الكرم الربوبي ، الذي نلمسه ونعيشه دائبا ، إنه يستتبع العلم به ، وهو يقتضي العلم بموقف الكرم هنا وفي الآخرة ، ففي الأولى وسعت رحمته كلّ شيء ، وفي الآخرة يصيب بعذابه الناكبين عن صراطه المستقيم ، وهو أيضا من عدله ومن رحمته لمن يستحقها : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (٧ : ١٥٦).

فكرمه ورحمته الواسعة يوم الدنيا يدفع العقلاء النابهين إلى طاعته وشكره ، ورحمته المكتوبة يوم الآخرة للمتقين تمنعهم عن التورط في عصيانه وحرماته ، وكرمه للعاصين يحرضهم على التوبة والإنابة إليه ، وألّا يعتبروا عصيانه غنما لموقف كرمه ، ولا سيما في المعاصي الكبيرة التي لا تكفّر : (.. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) ..

فإنما الغرور بالرب ، الدافع إلى التساهل في طاعة الله ، وإلى التورط في حرمات الله ، هذا الغرور ليس إلّا بدافع الجهل بكرمه والجهل بمعنى كرمه وموقفه تعالى في كرمه ورحمته : (.. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٢٧ : ٤٠) إذا فليس يقتضي كرمه العفو عمن كفر ، فإنما يراد هنا أنه لا تضره معصية من عصاه كما لا تنفعه طاعة من أطاعه ، إنه غني كريم.

إن أوّل الكرم الرباني للإنسان هو إنسانيته (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم ، في بنيته وروحه ومهيئاته للبلوغ إلى ذروة الكمال.


فهذا الخطاب المنبّه العتاب ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه : «إنسانيته» المتجلي فيها كرمه وتكريمه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١٧ : ٧٠).

فما هذا الغرور بربك الذي أغدق عليك من كرمه هذا الإغداق ، وأغلق عليك أبواب الجهل والغرور هكذا إغلاق ، بما بصرك في فطرتك وعقلك وأنبيائه وبيناته!

وهناك مغريات ومغرّات عدة منبثقة كلها عن الجهل والجهالة بالله ، وأما العلماء بالله فلا يغترون بما يغترّ به الجاهلون : من غرور الأماني : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥٧ : ١٤) ومن الحياة الدنيا : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) (٤٥ : ٣٥) .. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣١ : ٣٣) .. ومن الافتراء بالله : (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣ : ٢٤) .. افتراء الظلم : أنه كريم بالمتخلفين المتورطين في اللامبالاة ، وافتراء الكذب : أنه لا يدخلهم النار بل ويجمعهم مع الأبرار .. ومن تقلّب الذين كفروا في البلاد : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (٣ : ١٩٧).

فهذه المغيرات المغريات المغرّات من الأماني والغرور ومن الحياة الدنيا وقول الزور على الله ومن تقلّب الذين كفروا في البلاد .. هذه وأمثالها لا تغرّ وتغري إلّا الجاهلين بالله ، وعلى حدّ قول الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم : «غره جهله».

فالغرّة هي الجهالة والغفلة ، يقال : غررت فلانا ، أي أصبت غرّته ، ولا يؤتى الإنسان ويصاب إلا من غرّته وغفوته وغفلته عن الله ، وعلى حد قول الإمام الصادق عليه السّلام : «من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع ومن كان


غافلا عنه فهو عاص ، والطاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضلالة وأصلها من الذكر والغفلة (١).

فالغرور هو كلما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وأماني وضلال ، وسمي الشيطان غرورا لكثرة ما يغر الإنسان ..

ثم الخطاب نفسه يدلنا أن المخاطبين هم المغرورون المكذبون بالدين من سائر العصاة غير الآئبين وغير التائبين ..

* * *

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)(٨)

إشارة عابرة إلى الكرم المعطوف في إنسانيته ، في خلقه وتسويته وعدله وتركيبه في الصورة الإنسانية الجميلة صورة وسيرة ، علانية وسرا ، وهو في هذه المراحل مخلوق في أحسن تقويم في جسمه وروحه.

خلق وتسوية وتعديل ، كل تلو الآخر ، وإلى تركيبه في صورة إنسانية بمختلف الأشكال والأجناس والحالات على وحدة الصورة الإنسانية فيما به الإنسان إنسان.

ولقد كرّمنا ربنا وأكرم بنا في هذه المنازل كلها ، آخذا بنا من النقص إلى الكمال والأكمل (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

فما هي التسوية بعد الخلق؟ وما هو التعديل

بعد التسوية ، ثم ما هو التركيب في الصورة المقصودة؟

نقول إن تسوية الإنسان هي تكملة الناحية الجسدانية ولكي تصلح لقبول

__________________

(١) مصباح الشريعة أحسن كتاب في المعارف والأخلاق ينسب إلى الامام الصادق (ع).


الروح الإنسانية : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٣٢ : ٧ ـ ٩) (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (١٨ : ٣٧) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٧٥ : ٣٧ ـ ٣٩) (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٨٤ : ٢) (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٧ ـ ٨).

نستوحي من هذه الآيات البينات أن الخلق هو تكملة الجسم ، وتسويته هي تهيئته لكي يقبل الخلق الآخر وهو الروح ، فخلقه يعم مراتب التكامل الجنيني كلها : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٢ ـ ١٤) فهذا الخلق الآخر عله تسويته بعد ما سواه جسدانيا ، لقبول هذه التسوية الروحانية.

وأما عدله فعلّه تعديل قواه في الناحيتين الجسدانية والروحية ، كلا بالنسبة لزميله ، أو قرينه ، أو البيئة المنفصلة عنهما ، سواء داخل الرحم أم خارجه ، فهذه الحالات الخمس بحاجة إلى تعديل لكي يصلح الإنسان الجنين أم سواه للحياة وإدمانها :

١ ـ فما لم تتناسب قوى الإنسان وأعضائه لم تتناصر في كيانه الواحد ، ٢ ـ وما لم تتلاءم الطاقات الروحية لم يك بالإمكان أن تتوحد فتوحّد الحياة صالحة ، ٣ ـ وما لم تتوافق جنود الروح والجسم لا تشكل إنسانا واحدا ، ٤ ـ وما لم تلائم حيوية الجنين فضاء الرحم لم تستقم الحياة هناك ، ٥ ـ وما لم تتناسب هذه الكيانات الموحدة الحياة الخارجية استحالت الحياة وإدمانها بعد الولادة .. فهذه كلها تعديلات لجزأي الإنسان بعد الخلق والتسوية.


(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) .. إنها ليست صورة ركّبنا فيها ربنا بعد الخلق والتسوية والعدل فحسب ، إذ لم يفرّعها على الثلاثة الأول ، فالنص «في» * لا «ففي» * وعلّ الصورة تشمل صورة الحياة بعد الولادة ، فإن المدبّر الحكيم يفيض علينا الصور الحياتية كما نرسمها ويشاء (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) صورة اختيارية لنا.

كما وتشمل الصور الجنينية الجسدانية والعقلية ، التي يفيضها الله تعالى على الجنين دون اختيار من الجنين ، من ذكورة وأنوثة ، وجمال وقبح ، ونقص وكمال ومن مختلف الألوان والبنى والقوى ، ومن عقلية قوية ومتوسطة ودانية ، أو جنون وخبل ومن .. كل ذلك حسب الحكمة العالية ووفق مقتضيات الوراثة جسميا وروحيا (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وقد يركز الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم تفسيره للآية حول اختلاف الصور ، على الوراثة (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٣ ، أخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن شاهين وابن قانع والطبراني وابن مردويه من طريق موسى بن علي بن رياح عن أبيه عن جده أن النبي (ص) قال له : ما ولدك؟ قال : يا رسول الله (ص) ما عسى أن يولد لي ، إما غلام وإما جارية ، قال : فمن يشبه؟ قال : يا رسول الله (ص) ما عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه ، فقال النبي (ص) عندها : «مه» * لا تقولن هذا ، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر الله كل نسب بينها وبين آدم فركب خلقه في صورة من تلك الصور ، أما قرأت هذه الآية في كتاب الله (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) من نسلك ما بينك وبين آدم.

ورواه مجمع البيان عن الامام الرضا (ع) عن آبائه عن النبي (ص) باختلاف يسير.

وفي الدر أيضا : أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه بسند جيد والبيهقي في الأسماء والصفات عن مالك بن حويرث قال : قال رسول الله (ص) : إذا أراد الله أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعصب منها ، فإذا كان اليوم السابع أحضر الله كل عرق بينه وبين آدم ، ثم قرأ (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ).

وفيه أخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن بريدة أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود ، فأخذ بيد امرأته فأتى بها رسول الله (ص) فقالت : والذي بعثك بالحق لقد تزوجني بكرا وما أقعدت مقعده أحدا ، فقال رسول الله (ص) : صدقت إن لك تسعة وتسعين عرقا وله مثل ذلك ، فإذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها ليس منها عرق إلا يسأل الله أن يجعل الشبه له.


إن الرب الكريم يركبنا في صورة من هذه وتلك ، ما شاء من حالة وقوة وما إلى ذلك ، فالصورة هي البنية التي تميل بالتأليف إلى ممايلة الحكاية ، وهي من «صاره» إذا ماله .. فهي تعم صور الخلق والتسوية والتعديل أولا ، وصور الحياة أخيرا.

والتركيب تخليط ، والإنسان خليط منذ البداية إلى النهاية ، فإن نطفته أمشاج : أخلاط (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٧٦ : ٢).

(ما شاءَ رَكَّبَكَ) تركيب أجزاء الجسم بعضها ببعض ، وتركيبه بالروح كالعكس ، وتركيب أجزاء الروح.

فكيان الإنسان هو مشيئة الله وكرمه ، فما هذا الذي يغره بربه الكريم؟ إن خلق الإنسان في صورته الإنسانية ـ أيا كانت ـ السوية المعدلة الجميلة (١) لمما يفرض عليه كإنسان أن يفكر فيه طويلا فيزداد شكرا لربه الكريم ، فقد كان له أن يركبه في صورة مشوهة وسيرة لئيمة ولكنه ما فعل ، وكما عن الصادق عليه السّلام : «لو شاء ركبك على غير هذه الصورة» (٢).

إن دراسات علم الأعضاء والأجزاء والدراسات المعمقة في بيئات الأرواح ، إنها تعجز أن توصل الإنسان إلى جزء من مليارات الدقائق في خلقه وتسويته وتعديله ، التي ندرسها في طيات الآيات التي توحيها لنا.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٢ ، في أمالى الشيخ الطوسي باسناده إلى أبي جعفر الباقر (ع) إن النبي (ص) قال لعلي (ع) قل : ما أول نعمة أبلاك الله عز وجل وأنعم عليك بها؟ قال : أن خلقني جل ثناؤه ولم أك شيئا مذكورا ، قال : صدقت ـ إلى قوله ـ فما الثالثة؟ قال : أنشأني فله الحمد في أحسن صورة وأعدل تركيب ، قال : صدقت.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٢٢.


(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)(٩)

إن دافع الغرور ـ الأصيل ـ هو الجهالة ، وأجهل الجهالة هو التكذيب بالدين : بطاعة الله والجزاء عليها ، تكذيبا عقيديا أو عمليا ، فقد تتخذون كرمه تعالى ذريعة إلى اللامبالاة بشأن الطاعة ، وهذا تجاهل عن معنى كرمه ومداه ومورده ، وهذا تكذيب بالجزاء العدل الوفاق يوم الجزاء ، ومن لا يفرق بين المسلمين والمجرمين ليس كريما ، وإنه لئيم ظلوم : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (٣٨ : ٣٦) وذلك في معنى تركه تعالى الإنسان سدى هملا ، رغم كرمه بخلقه وعنايته بهم في البداية ، فكيف يتركهم سدى في النهاية : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٧٥ : ٣٦) (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (٢٣ : ١١٥) (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨ : ٢٧).

فالتمسك بكرمه تعالى في عفوه عن المفسدين المجرمين تكذيب بالدين كل الدين : بالدين العقيدة : أنه تعالى ظلوم يلعب بخلقه ، ويعبث بهم ويتركهم سدى عملا ، وبالدين الجزاء : أنه يسوي بين المجرمين والمسلمين إما جهلا أو ظلما أو خلفا لوعده أو خوفا أو لؤما أو ما إلى ذلك من نكران الحق في الله أو نكران الإله الحق وتكذيبه في واقعه وأقواله ووعوده.

إنه ليس التكذيب بالحياة بعد الموت فقط ، بالذي يغر المغرورين ، إنما التكذيب بالجزاء الوفاق يوم الدين ، والتكذيب بما يتطلبه الجزاء الوفاق من صفات الله الحسنى ، أو التكذيب بالله ووعوده ، كل ذلك يغر الإنسان وكما تغره الرحمة الإلهية اللانهائية والشفاعة والمغفرة ، وأخيرا أنه تعالى ليس بحاجة إلى تعذيب العاصين.

فالتصديق بالإله الحق وصفاته الحسنى ، وبالجزاء الحق ، والعرفان بحدود


الشفاعة والغفران ، والتبصّر إلى المعرفة الحقة في أمور الدين ، كل ذلك يصد الإنسان عن الغرور بربه الكريم.

فما يكذب القلب بالحساب العدل ومتطلباته ثم يستقيم على هدى ولا خير وطاعة.

إن ناكر الحساب العدل والجزاء الوفاق لا يندفع إلى أدب ولا طاعة ، ولا يهتدي إلى نور أو كتاب منير ، ولا يستيقظ فيه ضمير ، حتى يعقل الدين عقل وعاية ورعاية كما هو الدين ، وكما ينطق به القرآن المبين ، ودراسة حدود العفو والغفران وظروفهما ، وحدود الشفاعة وتكفير السيئات ، نجدها في طيات الآيات التي توحي لها فصلا واضحا.

* * *

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(١٢)

كما أن الرب الكريم لم يخلقكم لعبا وهملا في بدايتكم وغايتكم ، كذلك لم يترككم وأعمالكم هملا وسدى عابثين ، فقد بعث عليكم حافظين من الملائكة والنبيين ، يحفظونكم من أمر الله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ..) (١٣ : ١١) حفظا صادرا من أمر الله ، حفظا لنفسه عن دوافع الموت والدمار ، وحفظا على أعماله ، رسلا من الله للحفاظ والحفظ الحق : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦ : ٦١) : يحفظونكم وأعمالكم ثم يتوفونكم بأجسادكم وأرواحكم وأعمالكم دون تفريط ولا مثقال ذرة.

إنّ الحافظين قد يكونون لئاما جاهلين فلا يؤبه بحفظهم ، ولا يرسل ربنا


هكذا حافظين ، وإنما يبعث كراما كاتبين عالمين لا تخفى عليهم خافية ولا يعزب عنهم عازب.

إن الأوصاف المسرودة للحافظين هنا تثير في قلوب الناس إحساس الخجل والتجمل بحضرتهم ، إنهم كرام يعلمون كلّ شيء من ظاهر الإنسان وخافيه ، وإنهم كاتبون فلا ينسون ، إذا فالأعمال تبقى ليوم الحساب لتشهد بواقعها في موقف الحساب.

وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «.. فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم ..» (١).

وعلى حدّ قول حفيده الإمام الصادق عليه السّلام في شأن الملائكة الموكلين : «استعبدهم على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة وعن معصيته أشد انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصيته فذكر مكانها فارعوى وكف فيقول : ربي يراني وحفظتي علي بذلك تشهد ، وإن الله برأفته ولطفه وكلهم بعباده يذبون عنه مردة الشياطين وهو ام الأرض وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله إلى أن يجيء أمر الله»(٢).

(كِراماً كاتِبِينَ) : والكتابة هي الثبت ، واللائق برسل الله الحافظين ، واللائق بحضرة الربوبية ، واللائق لإثبات الحجة يوم الحساب ، ان يكون ثبت الأعمال كأثبت ما يمكن وأبقاه ، وهو ثبوت الأعمال بأقوالها وأفعالها ، بأصواتها وصورها ، تسجيلها في مسجلات خواطرهم المقدسة ، ومسجلات أعضاء العاملين ،

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٣ ، أخرجه البزاز عن ابن عباس.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٢٢ في الاحتجاج للطبرسي يسأل السائل أبا عبد الله الصادق (ع): ما علة الملكين الموكلين بعباده يكتبون ما عليهم ولهم والله عالم السر وما هو أخفى؟ قال : ..


ومسجلة الأرض وفضائصها ، وأمثالها من مسجلات عارفة عالمة أو سواها (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها).

هذه هي كتابة الأعمال كما يشهد بها الاعتبار وتشهد بها الآيات والروايات ، لا نقش الحبر على الورق إذ لا حجة فيه ، وكما عن الإمام موسى الكاظم عليه السّلام : «.. فإذا فعلها (الحسنة) كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها له ..» (١).

أجل ، وإنه كتاب ورقه اللسان القائل ، والأعضاء العاملة ، وريقه نفس القول والعمل ، والكرام الكاتبون ـ الحفظة منهم ـ الملائكة الموكلون بالمكلفين ، يحفظونه من أمر الله ويحفظون له وعليه أعماله بإذن الله.

* * *

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٤ ، أصول الكافي باسناده إلى عبد الله بن موسى بن جعفر عن أبيه (ع) قال : سألته عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة ، فقال (ع) : ريح الكنيف والطيب سواء. قلت : لا ، قال : إن العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طيب الريح ، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنه قد هم بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها له ، وإذا هم بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : قف فإنه قد هم بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها عليه.


(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) :

لا بعد الموت فحسب ، بل ومنذ كونهم أبرارا ، فإن البرّ هو النعيم بذاته ، لنفسه ولمجتمعه ، مهما كان بروز نعيمه بحقيقته يوم القيامة الكبرى ، فلفظ الآية (لَفِي نَعِيمٍ) يوحي ظرفا فعليا مستمرا لنعيمهم ، لا «سوف ينعمون» لكي يختص نعيمهم بالمستقبل ، فهم نعيم وفي نعيم ، حاضرا ومستقبلا وغابرا ، ما داموا أبرارا.

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) :

كما (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) ما داموا فجارا ، فهم جحيم : نار شديدة التأجج ، يوم الدنيا ويوم الدين ، هم وقود نيران الخلافات والعداءات والويلات يوم الدنيا ـ وعلى أثره ـ هم وقود الجحيم يوم الدين ، يصلون الجحيم بأفكارهم وأعمالهم وذواتهم ، فما الصلي إلا وقودا ، وليس كل أصحاب الجحيم وقودا لها : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٩٢ : ١٥ ـ ١٧).

فهنا شقي وهنا أشقى ، ولا يصلى النار إلا الأشقى ، وإن كان يدخلها كلّ من الشقي والأشقى ، فالأشقى صلاء ووقود ، والشقي يحرق به ، وقد يجنّبها بعد ما ذاق جزاءه الوفاق.

فالصلي هنا ليس دخولا في النار كما يزعم ، وإنما هو إيقاد ، كما الاصطلاء هو الاستيقاد : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٨ : ٢٩).

لذلك لا نرى صلي الجحيم ـ حسب القرآن ـ إلّا للأشقين


الكذابين (١) ، وكما نرى آيات الوقود والحصب تختص بهم : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (٣ : ١٠).

فرؤوس الكفر وأسس الضلالة كما كانوا ـ هم ـ وقود النار وصليها يوم الدنيا ، يعيشون حياتهم التضليل والتدجيل ، كذلك هم صلي النار ووقودها يوم الدين جزاء وفاقا ، فهم يحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين أضلوهم دون أن ينقص أولئك الأذناب من أوزارهم شيئا.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) :

فالوقود لا يغيب عن ذاته ، وأصحاب الجحيم الذين يصلونها لا يغيبون عنها ما داموا ودامت ، إلا بعد فنائهم بفنائها ، كما الوقود يحرق بنفسه ويحرق ما دام موجودا ثم لا حريق ولا محروق.

وكما أنهم لم يكونوا ليغيبوا يوم الدنيا عن وقودهم ـ تصرفاتهم الجهنمية ـ كذلك يوم الدين ، فما هم عنها بغائبين.

وهذه الآيات ثنائية التقسيم ، تتحدث عن موقف هؤلاء الذين محضوا الإيمان محضا ، أو محّضوا الكفر محضا ، فإما إلى النعيم وفيه ، دون أن يمسهم عذاب ، وأما إلى الجحيم وفيها ، دون أن تمسهم رحمة ، ثم المتوسطون ـ وهم درجات ـ

__________________

(١) «سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ» (١١١ : ٣) «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً» (٤ : ٥٦) والآيات : ٨٨ : ٤ و ٨٤ : ١٢ و ٨٧ : ٣٢ و ١٧ : ١٨ و ٩٢ : ١٥ و ٤ : ١٠ و ١٤ : ٢٩ و ٣٨ : ٥٦ و ٥٨ : ٨ و ٣٦ : ٦٤ و ٥٢ : ١٦ و ٦٩ : ٣١ و ٧٤ : ٢٦ و ٤ : ١١٥ و ٤ : ٣٠ و ٣٧ : ١٦٣ و ٣٨ : ٥٩ و ٨٣ : ١٦ و ٥٦ : ٩٤ و ١٩ : ٧٠.

نرى في هذه الآيات كلها كيف يختص الصلي بالمكذبين والكافرين.


ليسوا في جحيم خالص ولا نعيم خالصة ، مهما كانت جحيم الخجلة فنعيم العفو والرحمة والشفاعة ، أو جحيم النار غير خالدين فيها أو خالدين غير آبدين ، ثم إلى نعيم مقيم ، فهم بين جحيم ونعيم ، ثم إن مرجعهم لإلى النعيم ، كما كانوا يوم الدنيا بين برّ وفجور ثم ماتوا مؤمنين ولو شيئا مّا ، أو ماتوا فاسقين دون محض الفسق واللامبالاة.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) :

(وَما أَدْراكَ)؟ سؤال تهويل وتجهيل وتجليل : أن حقيقة يوم الدين ليس بالأمر الهيّن الذي يدركه الإنسان إلا بوحي السماء .. فإذ أنت دريت ما يوم الدين ما كان يدريك إيّاه وحي الأرض وعقل الأرض وعلمها .. إنما وحي السماء ليس إلّا ، فالإنسان ـ أيّا كان ـ يجهل يوم الدنيا حقيقتها ، فأحرى به أن يجهل يوم الدين (١).

والدين هو الطاعة ولها يومان ، يوم تطبيقها : يوم الدنيا ، ويوم بروزها بحقيقتها في جزائها وهو يوم الدين ، فيوم الدنيا هو يوم الدين تشريعيا ككل ، وتكوينيا بالاختيار ، ويوم الدين هو يوم الدين تكوينيا دون اختيار ، وإنما جزاء الاختيار وفاقا وعدلا ، أو فضلا.

(ثُمَّ ما أَدْراكَ)؟ علّ الدراية الثانية هي عين اليقين وحقه لما تقوم القيامة ، كما الأولى هي علم اليقين ، وفي كلتا المرحلتين ليست الدراية إلا من رب العالمين ، لكنما الرسول عرف يوم الدين حق المعرفة واليقين قبل القيامة : حيث النص :

__________________

(١) التعبير «ما أَدْراكَ» يختلف عن «ما يُدْرِيكَ» إن الأول سؤال عما تحقق ، عن سببه ، والثاني عما بالإمكان أن يتحقق ، عن سببه وكما يروى عن ابن عباس «كل ما في القرآن من قوله تعالى : ما أدراك ، فقد أدراه ، وكل ما فيه من قوله عز وجل : ما يدريك ، فقد طوي عنه.


(ثُمَّ ما أَدْراكَ) ولم يقل «ثم ما يدريك» أدراه إياه وحي السماء كأنه رآه وأكثر ، وكأن القيامة قامت ، طالما لم يدر وقتها ، فإنما علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو.

فهكذا سؤال يوقع في الحس عظمة الموقف وأن الأمر أعظم جدا وأهول من أن يحيط به إدراك البشر المحدود ، فهو فوق كلّ تصور مألوف وكل واقع معروف.

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) :

هنا نعرف وندري شيئا مّا من يوم الدين ، وما يختلف به عن يوم الدنيا أنه : يبطل ملك بني الدنيا إلا من تملكه رضا الله فيملكها بإذنه ، فيقف موقف الشفاعة بإذن الله «من أذن له الرحمان ورضي له قولا».

نحن نملك أسبابا يوم الدنيا بما ملّكنا الله إياها ، ولكنها تنقطع يوم الدين : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (٢ : ١٦٦) .. كما نقوى شيئا ما من القوى يوم الدنيا ابتلاء وتكليفا ثم لا نملك شيئا منها يوم الدين : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢ : ١٦٥).

صحيح إننا ما كنا نملك يوم الدنيا شيئا إلا مجازا وتخويلا من شأن التكليف ، ولكننا نفقد المجاز أيضا يوم الدين ، ولا يبقى أمر ولا ملك إلا الله الواحد القهار : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٠ : ١٦) والملك هذا من الأمر الذي كلّه يومئذ لله.

إنه العجز الكامل والشلل الشامل ، وانفصال بين النفوس وانشغال عنها ، ف (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٨٠ : ٣٧) ولو انشغلت نفس عن نفسها ، واتجهت إلى غيرها ، لم تكن لتفيده وتغنيه ، إذ لا تملك هناك شيئا لنفسها فضلا عمن سواها.


وعلى حدّ تعبير باقر العلوم عليه السّلام إن الأمر يومئذ لله والأمر كله لله ، إذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله (١).

إن الأمر كله لله يوم الدين ، أمر الملك والإحياء والإدانة والعفو والشفاعة والحكم والتنفيذ وما إلى ذلك ، وإن كان كذلك يوم الدنيا ، إلا أنه حررنا يومها في بعض الأمر ، وخيّرنا بين الإيمان والكفر ، ولأنها دار التكليف.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٧ ح ٢٨ روى عمرو بن شمر عن جابر عنه (ع).


سورة المطففين ـ مكية ـ وآياتها ست وثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(٣)

.. هذه السورة تهدّد المطففين شؤون الناس وحقوقهم ، المقتسمين الحقوق بينهم وبين الناس قسمة ضيزى ، كأنهم يملكونهم بأنفسهم وأموالهم ، يحسبونهم قطب الرحى تدور عليهم ولصالحهم الكائنات كل الكائنات.

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) :

فالويل هو الهلاك والخسار والبوار والدمار ، لفظة تقال في مواقف التأوه والتقبيح ، لفظة الذم والسخط لمن يسبّبون الويلات النفسية والعقائدية والاقتصادية والعملية .. وهؤلاء الذين يهددهم القرآن بالويل ، هم ويل في صفاتهم وأفعالهم وأفكارهم وتصرفاتهم ، فذواتهم ويل .. أينما حلت ، لأنفسهم ولمجتمعهم.

والويل من الله ليس دعاء والتماسا ، فمن هذا الذي يلتمس منه ربنا لتحقيق غير الحاصل؟ اللهم إلا نفسه المقدسة ، فهل يا ترى إنه يلتمس من نفسه؟! كلا وإنه


خبر لا دعاء ، يخبر عن واقعهم أنه ويل ما عاشوا تلكم التخلفات ، ويل في الأولى والآخرة.

والتطفيف ـ رغم ما يقال ـ لا يختص بالمال ولا بالشيء القليل الطفيف ، فهل إن واقعة الطف ـ تلك الحادثة الدامية الكبرى! ـ هل إنها كانت خفيفا طفيفا؟.

كلا : إنه الانتقاص بحق الآخرين وبخسهم في أشيائهم : أنفسهم ونفائسهم (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧ : ٨٥) .. أشياءهم كل أشيائهم : الأشياء النفسية : العقلية والإيمانية والعلمية والعرضية وأشباهها ، والأشياء المالية وكل ما يتعلق بالناس أيا كان.

وبعد كل ذلك فالآيات التالية تفسر التطفيف دون حاجة إلى مفسر سوى القرآن : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) :

فالاكتيال يوحي بالاحتيال في الشراء ، ثم «على» * هنا بدل «من» * توحي إلى الإضرار والبخس والتطفيف في هذا الاكتيال الاحتيال ، احتيال في الإضرار ، فلم يقل «إذا كالوا من الناس» وهو يعني أخذ الحق وافيا دون نقصان ، على أن أخذ الحق في الاشتراء لا يخلف ويلا ، اللهم إلا إذا جمع مع بخس الحق في البيع ، وليس هذا تطفيفا في كلتا الحالتين ، وإنما في البيع فحسب ، والظاهر هنا أن كلا البيع والاشتراء تطفيف.

إنهم يستوفون في اكتيالهم بشتى ضروب الاحتيال والزور والغرور ، كأن لهم سلطانا على البائعين يجعلهم يستوفون كما يهوون فوق حقهم بسلطان الرئاسة


والجاه القبلي ، وسلطان حاجة الناس ـ المدقعة لما في أيديهم ، واحتكارهم للتجارة لحدّ يضطر الناس إلى تقبل هكذا اكتيال عليهم ..

وليس استيفاؤهم من أموال الناس فحسب ، بل ومن أرواحهم ومشاعرهم أيضا عن طريق العقائد الباطلة ، فهم عند ما يشترون منهم ما عندهم ببخس الثمن واستيفاء المثمن ، يشترون كيانهم أيضا ويملكونهم بأموالهم ، فهم محتكرو النفوس والنفائس .. يملكون أصواتهم وذاتياتهم ببخس الثمن كما يملكون أموالهم به.

(وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) :

ومرة أخرى يملكونهم عند ما يبيعونهم ، فلا يكيلون لهم ولا يزنون ، وإنما يكيلونهم ويزنونهم : أنفسهم وأموالهم وكيانهم ككلّ ، فيخسرونهم هنا كما أخسروهم هناك ، ملكية معقدة مزدوجة ، دون أن يبقوا لهم رمقا ولا نفسا ولا نفسا ، وهذا أخطر دركات التطفيف ، وقد يكون الاشتراء السليم والبيع المخسر داخلا في نطاق الآية ولكنه تطفيف طفيف لا ويل له إلا في هكذا جمع خاسر وقسمة ضيزى ، أنه يستوفي حقه مشتريا ولا يوفي حق الآخرين بائعا ، ولكنما الويل كل الويل لمن يخسر في الحالتين ، ولذلك نرى الإسلام يرفع صوته عاليا معلنا لحرب الويل في وجه البخس الساحق الماحق على جمهرة المحتكرين المستغلين المسيطرين على الجماهير الفقيرة المحطمة البائسة ، دون أن يخدّرهم ويصبّرهم على الظلم والضيم حياتهم.

فهذا سوط الإسلام وصوته يرفعه عاليا على رؤوس الفرعونية الكافرة والقارونية الجائرة ، والبلعمية المائرة ، ثالوث منحوس طوال التاريخ : الاستعمار والاستثمار والاستحمار ، وقد تجتمع في شخص واحد ، ثلاثة في واحد ، وواحد يحمل ثلاثة ، فرعون قارون بلعم ، إله واحد في أقانيم ثلاثة!. يستحمر الناس فيخدّرهم ويصبّرهم على الظلم والضيم ، ويستعمرهم ويستثمرهم ، ورمزا إلى حرب


شعواء ضد هذا الثالوث يؤمر الحاج أن يرمي الجمرات الثلاث إشارة إلى وجوب ضرب الثالوث ابتداء من الشيطان الأكبر ، جمرة العقبة. ثم مردته ، ولكيلا يكبروا فيصبحوا كمولاهم.

والقرآن يرفع سوط الويل من هذا الثالوث المنحوس ويحرض الشعوب المحطمة لينهضوا نهضة مدمرة لإيقاف هذه النحسة عند حدها ، وليعيش الناس على رغد الأمن والعيش ، في حياة سليمة مسلمة غير مستسلمة للظلم والضيم.

فكما الويل للمطفّفين ، كذلك هو للمطفّفين الذين يحنون ظهورهم لمن يستحمرهم ويستثمرهم ويستعمرهم ويمتص دماءهم ، اللهم إلا الضعفاء الذين لا يعرفون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فعلى المؤمنين ذوي الحنكة والقوة الحفاظ عليهم والدفاع عنهم.

فآية التطفيف لا تختص بالطفيف منه مهما كان مورد نزولها تطفيف الكيل في المبايعات ، فقد «نزلت على نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قدم المدينة وهم يومئذ أسوء الناس كيلا فأحسنوا الكيل (١) وحذّرهم الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تطفيف الكيل (٢) ولكنما الآية تذكر الكيل في الاشتراء كمثال ، كما توحي إليه إضافة

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٤ عن ابن عباس ورواه علي بن ابراهيم القمي في تفسيره عن أبي الجارود.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٢٤ عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص): ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين.

وفي تفسير الرازي (ج ٣١ : ٨٨ ـ ٨٩) «وقيل : كان أهل المدينة تجارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت هذه الآية ، فخرج رسول الله (ص) فقرأها عليهم وقال : خمس بخمس ، قيل : يا رسول الله (ص) ما خمس بخمس؟ قال : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهر فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكمل؟؟؟ إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر».


الوزن في البيع ، ودون اختصاص بكيل شيء أو وزنه ، وإنما (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ). كيل المشترين ووزنهم بما يتعلق بهم ، كأنما البائعون لهم والمشترون منهم هم متع لا يملكون لأنفسهم شيئا إلا قدر رحمة المطففين ، يعيّشونهم كأرذل العيشة وأنذل من عيشة الحيوان ، ولكي يعيشوا مترفين على مساعي هؤلاء المستضعفين المنكوبين المرضوضين ، عمال لا يحق لهم الحصول على ما يحصّلون!

* * *

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٦)

.. والظن هنا مطلق الاعتقاد الراجح ، عقليا أو قلبيا ، فالمعتقدات العقلية ـ غير المتعاملة مع الواقع العملي ـ هي ظنون قلبية ، وإلى درجة الشك والنكران ، والمتعاملة منها مع الواقع هي ظنون قلبية إلى الصعود وإلى درجة اليقين القلبي ، والظنون العقلية هي شكوك في القلب ، وحق الظن أيا كان أن يردع الإنسان عن التخلف ، سواء أكان ظنا عقليا فشك قلبي ، أيقينا عقليا فظن قلبي ، فأي منهما حصل ـ لمن يحترم عقله ويخاف سوء الحساب ـ إنه كاف أن يكفّه عن التطفيف وأكل أموال الناس وإيكالها ، وهدر نفوس الناس وإبطالها ، واستخدام سلطان الزور بحقهم ، فالأعمال ليست إلا صورا واقعية عن نفسيات الإنسان ، وعلى حدّ تعبير الإمام الصادق عليه السّلام : «القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء» (١).

ومن أعجب العجاب أن يقين الحساب قد يتمثل شكا في الواقع ، وعلى حد تعبير

__________________

(١) بحار الأنوار ، باب العقل والجهل.


الإمام الرضا عليه السّلام : «ما خلق الله يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت» (١).

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) :

فاللامبالاة هذه في تصرفاتهم تشهد كأنهم لا يظنون البعث لأي مرحلة من مراحل الظن ، وبعضهم كأنهم يوقنون بعدم البعث!

والخطاب العتاب هذا ، تنديد بمن يظن ومن لا يظن ، فالأولون يحق لهم بحكم ظنهم بالحساب أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا وأن يزنوها قبل أن يوزنوا ، فلا يطففوا في معاملاتهم مع الناس في أموالهم وأحوالهم.

والآخرون كان عليهم أن يعتبروا بالآيات الآفاقية ، ويتذكروا بفطرهم وعقولهم أن البعث والحساب حق لا محيد عنه.

وقد عبر عن يقين العقل هنا بالظن ـ حيث يشمله ـ توهينا لهكذا يقين ، كيف لا يظهر في العمل الخارجي! عكس ما عبّر عن يقينه الصالح بالظن في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٢ : ٤٥) فبما أن الخشوع من حالات القلب ، فظن الخاشعين كذلك قلبي وليس عقليا ، هذا الظن الذين يجعلهم خاشعين لله خاضعين ، فليست الصلاة ولا سواها من تكاليف ، كبيرة لهم ثقيلة .. فهذا الظن لا يظهر في العقل إلا كدرجة عالية من درجات اليقين ، كيف لا والكثير من المصدقين بعقولهم لا يخشعون ولا يصدقون بأعمالهم.

وقد أوّل الظن هنا وهناك باليقين في المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام دون أن يكون تفسيرا لغويا وإنما جري وتطبيق : «الظن ظنان ظن شك وظن

__________________

(١) الخصال للصدوق بالإسناد عنه (ع).


يقين ، فما كان من أمر المعاد من الظن فهو ظن يقين ، وما كان من أمر الدنيا فهو على الشك (١) وهو يعتبر الظن في الآيتين ظن اليقين (٢). مهما كان في آية المطففين شاملا لظن الشك أيضا ، فإن الإمام يبيّن هنا المصداق الخفي (ظن اليقين) دون نكران لسائر الظن.

ألا يظن أولئك الظانون حتى يدفعهم ظنهم إلى العدل في الناس ، ولم لا يظن هؤلاء الشاكون في البعث ، ودلائل العلم باهرة وشواهده ظاهرة.

ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟! عظيم ما أعظمه مدى الدهر إذ يقوم الناس بأرواحهم وأجسادهم من أجداثهم ، يقومون لأعظم عظيم ، لله رب العالمين ، لحساب عظيم ، يقوم هذا الصغير الصغير لغير النهاية ، لهذا العظيم العظيم لغير النهاية ، يقومون له ـ لا ـ إليه ، فإن رب العالمين لم يكن بعيدا عنهم قبل قيامهم وفي دنيا الحياة ، مهما كانوا ـ هم ـ عنه بعيدين.

فهم يومئذ يقومون له ، بعد ما كانوا قائمين في دنيا الحياة لأنفسهم إلا قليلا ، فهؤلاء القلة القائمة لله طوال الحياة ، يقيمهم الله له ليريهم أعمالهم بالحسنى ، والكثرة القائمة لأنفسها يقيمهم الله ليجازيهم بما عملوا جزاء وفاقا ، ف (قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) يوم الدنيا ، ولكي تقوموا له أيضا يوم الدين فيقيمكم في عليين.

يوم يقوم الناس لرب العالمين : ليروا ربوبيته العالمية حقها يوم الجزاء ، فإن ربوبيته تعالى يوم الدنيا قائمة على أساس الاختبار والإختيار والتكليف ، ثم هي قائمة يوم الدين على أساس الحساب والجزاء.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٨ عن الاحتجاج للطبرسي.

(٢) المصدر عنه (ع) فيما يكون تأويله على غير تنزيله قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي : يوقنون أنهم مبعوثون ، ومثله قوله : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي : ليس يوقنون.


إنه يوم القيامة ، لقيام الناس (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) وقيام الإشهاد (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وقيام الحساب (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) وقيام عالم جديد بعد خراب العتيق (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٢٦ : ٩٠) قيامات وقيامات في قيامة واحدة ، ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

يوم يقوم الناس ـ متجردين ـ لرب العالمين ، ليس لهم يومئذ مولى سواه ، ولا رب سواه ، فقد ضلت الأرباب ، وتقطعت الأسباب ، والأمر يومئذ لله.

* * *

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(١٧)

.. (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) :

الفجّار هم الذين يفجرون ستر العبودية والحياء ، المتجاوزون الحدود المقررة لهم ، الهاتكون لها ، والفجور يقابل التقوى وهي الحفاظ على شؤون العبودية :

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٧ ـ ٨).


والكتاب هنا وفي أمثاله هو كتاب الأعمال ومسجلاتها الضوئية ، صوتية وصورية ، أن تسجّل في نفوس الفجار وفي أعضائهم وفي الأرض والفضاء كما تدلنا آيات سجلات الأعمال والأقوال ، فإن الكتاب هو المكتوب أي المثبت ، والأشياء الثابتة عن المكلفين ، التي تليق أن تكون حجة لهم أو عليهم يوم الدين ، إنها ليست إلا صور الأعمال وأصوات الأقوال ، وكما يروى عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «إن الملك يرفع العمل للعبد يرى أن في يديه منه سرورا حتى ينتهي إلى الميقات الذي وصفه الله له فيضع العمل فيه فيناديه الحبار من فوقه : إرم بما معك في سجين ، وسجين : الأرض السابعة ، فيقول الملك ما رفعت إليك إلا حقا فيقول صدقت إرم بما معك في سجين» (١).

وهذه الأعمال الشريرة الفاجرة تجعل من روح الفاجر سجينا كما أنها أيضا سجين ، وهي تدخل سجين ، وعلى حد قول باقر العلوم عليه السّلام : «وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ السماء نادى مناد اهبطوا به إلى سجين ..» (٢).

والسجين مبالغة في السجن ، وكتاب الفجار بأنفسهم وأعمالهم لفي سجين ، سجين لا يظهر تماما يوم الدنيا ، وهو يبرز تماما يوم الدين.

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) : ليس كما يزعمه المطففون والمجرمون كل المجرمين أنهم متحللون عن أعمالهم وعقباتها ، فلا حساب ولا جزاء ، وأنهم أحرار يوم الدنيا وأحرار كذلك يوم الدين ، لو كان هناك حساب أو لم يكن .. إنهم يزعمونهم أحرارا وليسوا إلا في سجين ، فأرواحهم سجون الفضائل

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٥ ، أخرجه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : حدثني رسول الله (ص) ...

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٣٠ نقلا عن مجمع البيان.


والمعطيات الربانية ، تسجنها وتدفنها ، وأعمالهم سجون لهم ولمجتمعهم ، هؤلاء المطففون وأمثالهم البخلاء الذين يحصرون ويسجنون كل شيء لهم ولشهواتهم ، ولا يسمحون لأحد حرية إلا ويحددونها ، ولا ثروة إلا ويستغلونها ، ولا وجاهة إلا ويستقلونها .. فيحسبون أنفسهم كل شيء ، ولا يعتبرون غيرهم إلا خداما لهم ولكي يستعمروهم ويستثمروهم ويستحمروهم ..

فهؤلاء الفجار البخلاء الذين ليس كيانهم في المجتمع إلا أنهم سجون للناس وهم أحرار في استغلالهم ، ويحسبونهم أنهم يحسنون صنعا.

هؤلاء هم السجين ، أنفسهم ، نفوسهم وأعمالهم ، إنهم أولا وأخيرا سجّين وفي سجّين.

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ. كِتابٌ مَرْقُومٌ) :

هنا تبرق حقيقة ـ كانت خفية ـ هي أن السجين ـ وفي القيامة ـ هو كتاب مرقوم ، وهو الخط الغليظ ، إنه ليس كتابا مخطوطا بالمداد لكي تكون دلالته غير ظاهرة وقابلة للتأويل أو التكذيب ، وإنما (كِتابٌ مَرْقُومٌ) مكتوب بخط غليظ ، بقلم القدرة والنور ، حيث تكتب وتسجل صور الأعمال وأصوات الأقوال في نفوس المجرمين وأعضائهم وسواها.

فلو كان الكتاب السجين مخطوطا بالمداد فما هي الحاجة لتوصيفه بالمرقوم؟ فكل كتاب من شأنه أن يحمل ـ ولا أقل ـ خطوطا! .. ثم كيف يكون كتاب الفجّار في كتاب مرقوم ، فهل كتاب في كتاب؟.

فإنما السجين ، وهو سجين الجحيم ومن أسجن ما فيه من السجون ، إنه ليس إلّا نفس النفوس والأعمال ، فإنها الكتاب المرقوم ، الظاهر الذي لا يمكن إنكاره.

فكتاب الفجار ، وهو الاضبارات والمسجلات لأعمالهم الفاجرة ، هذا الكتاب


في سجين ، في كتاب مرقوم ، مما يدل على أن سجين الجحيم ليس إلا أعمالهم ، كتاب فجورهم ، الذي كان خفيا عنهم يوم الدنيا ، ثم يبرز مرقوما ظاهرا يوم الدين : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢).

هذا وكما يقال أن خلافك هذا لفي سجن ، إشارة إلى أن السجن نتيجة الخلاف ، كذلك كتاب الفجار ، نفوسهم الفاجرة بأعمالهم الشريرة ، إنها لفي سجين ، لفي جحيم هي حقيقة تلكم الأعمال ، يحرق الفاجر بما أو قده ، بوقوده الذي هو نفسه وأعماله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢١ : ٩٨).

لذلك نرى بعد آيات عدة يقول : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) ، أي : لمحرقوا الجحيم ، بماذا؟ بكتاب الأعمال ، بالأعمال أنفسها ، وبالنفس المجرمة الشريرة.

إذا فكتاب الفجّار هذا هو في نفسه الجحيم وهو السجين ، وهو الكتاب المرقوم ، الواضح الخط ، الغليظ المحتوى.

إن كتاب الفجار ـ الخفي يوم الدنيا ، غير المرقوم في أبصارهم الكليلة ـ سوف يكون في كتاب مرقوم ، سوف يخرج عن الخفاء ، فبصرك اليوم حديد ، فالكتاب الخفي (كِتابَ الفُجَّارِ) هو في كتاب جليّ في النهاية ، كما كان الجلي في الخفي في البداية ، وكلاهما سجين وفي سجين ، سجين يوم الدنيا وسجين يوم الدين.

أو إنه كتاب مرقوم ليوم الدنيا والدين ، مرقوم لمن رقمه مهما كان خفيا في الأولى عن أبصار الناظرين ، وهذا الكتاب المرقوم لفي سجين ، في حفاظ الله تعالى دون أن يمحى منه شيء إلى أن يشهد يوم الحساب ، فمعنى الآية إذا :


إن أعمال الفجار لفي سجين إلهي ، محفوظ ثابت ، والسجين هو الكتاب المرقوم ، ظاهر بذوات الأعمال والأقوال.

فيا لهذا الكتاب المرقوم من جلاء وظهور ، مرقوم بخطه الذاتي إذ كتب : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) .. يا له (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (١٨ : ٤٩) .. فهكذا رقم أوّلا.

ثم يتحول رقمه هذا ـ الظاهر ـ إلى رقمه الملكوتي الحقيقي ، تحوّل الأعمال إلى نتائجها ، جزاء ذاتي بنفس الأعمال ، دون أن يكون جزاء قانونيا فقط ، إنما جزاء تكويني : أن تتحول الأعمال إلى نتائجها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٥٣ : ٤٢) يجزى الساعي نفس سعيه ، الجزاء الأوفى ، جزاء وفاقا في السيئات وجزاء كريما في الحسنات.

فالإنسان نفسه كتاب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) :

وا حسرتاه في ذلك اليوم العصيب إذ برزت كتب الفجار بأرقامها ، للمكذبين يوم الدين ، أفهل يكذبون أيضا بما عملوه يوم الدنيا حيث يظهر مرقوما يوم الدين؟

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) :

فإنما الاعتداء والإثم هما القائدان صاحبهما إلى التكذيب بيوم الدين ، فالفطرة السليمة لا تكذّب ، والعقل لا يكذب ، وواقع الحياة لا يكذب ، وإنما المعتدي الأثيم يكذب به ، ولكيلا يرى أمامه عقبة كئودة ، يكذب بالجزاء العدل الوفاق


مهما صدّق بالبعث ، إلا أنه بعث عبث ، أو يصدق بالحساب ، لكنه حساب فوضى ، ومهما يكن من شيء فالمعتدي الأثيم يركز في جرمه على نكران الجزاء الوفاق ، ولكي يصدقه البسطاء المتخلفون ، يكذب آيات البعث والحساب ضمن ما يكذب ، راميا لها أنها من أساطير الأولين وخرافاتهم ، ليس لها أصل سماوي ، أو إذا كان فإنما هو من الديانات السابقة فلا جديد إذا في القرآن يفرض علينا اتباعه :

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) :

خرافاتهم وأوهامهم المختلقة المسطورة التي تنتقّل للتّفكّه ، أو الآيات التي نزلت على أنبياء الله من قبل ، إذا فلا جديد في القرآن من حقائقه وخرافاته :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٦ : ٢٤) أنزل في قرآنه ما كان ينزله في كتاباته من قبل : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥ : ٥) (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٣ : ٨٣) (١).

فأين (آياتُنا)؟ وأين (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)؟ فآيات الله هي بأنفسها تدل على أنها إلهية إذ لا يسطع عليها إلّا الله ، والأساطير الخرافية بأنفسها تدل على أنها من غير الله ، بل ومن السفهاء ، ومن حماقة التعبير أن يقال عن آيات الله أنها أساطير الأولين ، وليس هكذا حكم أحمق إلا لأن قلوبهم أصبحت مقلوبة بما كانوا

__________________

(١) أساطير أما جمع الجمع ، أي : أسطر وأسطور وأسطار ، فهو بمعنى ما سطره وكتبه الأولون ، أو جمع أسطور وأسطير وهو أيضا ما يكتب ، ولكنما الأسطور هو الحديث الذي لا أصل له ، فالأساطير أعم مما سطره الأولون ولا أصل له أو ما له أصل قديم ، وعلى الوجهين فرمي القرآن بأنه أساطير الأولين تجعله لا شيء ، إما أنه لا جديد فيه وإن كان صحيحا ، أو أنه من خرافات الأولين!.


يكسبون ، فليست هنا أية حجة ودافع لهم في هكذا تعبير إلا رين قلوبهم الناتج عن الاعتداء والإثم المتواصلين ، فبين القلوب والأعمال تعامل مزدوج يؤثر فساد كل في الآخر ، كما يؤثر صلاحه في صلاح الآخر.

إنّ فريتهم هذه على آيات الله البينات يدفعها عجزهم عن الإتيان بمثلها ، وإن ادعوا أنهم قادرون عليها (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣١).

فلو استطاعوا لأتوا بسورة مثله وهم يحتالون كل الحيل أن يعارضوها ، وهم بأمس الحاجة لعرقلة دعوة القرآن ، ولكنهم لم يفعلوا ولن (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢ : ٢٣ ـ ٢٤).

لا يقدر على ذلك لا أهل الكتاب من كتابات الوحي ، ولا المشركون ـ وأحرى ـ من كتابات الأساطير.

(كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) :

إنها ليست آيات الله هي الأساطير ، وإنما هي شموس الهداية لأولي الأبصار دون عميان القلوب (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) «فإن كثرة الذنوب مفسدة للقلب» (١) و «هي ترين كما يرين السيف

__________________

(١) كما في الدر المنثور ٦ : ٣٢٦ عن أبي الخير قال : قال رسول الله (ص): أربع خصال تفسد القلب ، مجاراة الأحمق ، فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت عنه ، وكثرة الذنوب مفسدة للقلب ، وقد قال : بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، والخلوة بالنساء والاستمتاع منهن والعمل برأيهن ومجالسة الموتى ، قيل : وما الموتى ، قال : كل غني قد أبطره غناه.


وجلائه» (١) وهي تقلب بمواقعة الخطيئة فيصير أسفله أعلاه وأعلاه أسفله كما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمّة من آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

والقلوب هنا وفي سواها من آيات هي قلوب الأرواح ، التي هي بيضاء بما فطرها الله تعالى ، وهي تشتد بياضا بمواصلة الطاعات ، وتسودّ بمتابعة السيئات إلى أن تصل إلى مرحلة الختم فلا ترى أبصارها نورا وإنما تعمى عن مشاهدة الحقائق (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥ : ٤٠).

أجل ـ إن مكاسب السوء تعمي القلوب وتجعلها مقلوبة ترى كلّ شيء عكس الواقع ، فإنها تحجبها عن النور وتحجب النور عنها وتفقدها الحساسية شيئا فشيئا حتى تتلبد وتموت.

فمن غفل عن ذكر الله واتبع هواه أغفل الله قلبه : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١٨ : ٢٨) وإثم الجوارح ينحدر إلى القلوب فتصبح آثمة كما هي (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢ : ٢٨٣) وذكرى آيات الله البينات ليست إلا لمن كان له قلب واع (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٥٠ : ٣٧) ومن ختم على قلبه بمكاسبه السوء ليس له قلب فلا يتذكر بآيات

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٣١ عن الكافي بإسناده عن النبي (ص) قوله : تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب ، إن القلوب ترين كما يرين السيف وجلائه.

(٢) وفي الدر المنثور ٣٢٦ عن عبد الله بن عمر عن النبي (ص) في حديث : ولن يعذب الله أمة حتى تعذر ، قالوا : وما عذرها؟ قال : يعترفون بالذنوب ولا يتوبون ولتطمئن القلوب بما فيها من برها وفجورها كما تطمئن الشجرة بما فيها حتى لا يستطيع محسن يزداد إحسانا ولا يستطيع مسيء استعتابا ، قال الله : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.

وفيه ٦ : ٣٢٥ عن النبي (ص) إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الرين الذي ذكر الله في القرآن (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).


الله ، دون المؤمن البصير (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤ : ١١).

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) :

ليس كما يزعمه المجرمون أن لهم الحسنى في الآخرة أيضا كما لهم في الدنيا على حد قولهم : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٤١ : ٥٠).

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) .. كما حجبوا أنفسهم يوم الدنيا عن البينات فختم الله على قلوبهم ، كذلك يحجبهم عن ربوبيته المتمثلة في رحماته يوم الدين ، ومن أعظمها جنة المعرفة والرضوان ، محجوبون عن ربهم لا عن الله ، فإن الذات الإلهية محجوبة في الدارين وعن العارفين بالله أيضا فضلا عن سواهم ، وإنما يحجبون عن ربهم كما كانوا محجوبين عنه يوم الدنيا ، رغم أنهم لا تظهر لهم الحقائق يوم الدين حقها فلا يبقى حجاب (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٢ : ٢٥) ، ولكنهم بعيدون عن جناب الربوبية حجاب المعرفة والواقع.

هؤلاء هم الفجار ، وأما المؤمنون فغير محجوبين عن ربهم ، ف (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٧٥ : ٢٢ ـ ٢٣) وجوه الأبصار إلى ربوبيته ، الظاهرة في نعمه ، ووجوه البصائر إلى ربوبيته الباطنة في معرفته وقربه ورضاه ، رغم الفجار ، ف (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٧٥ : ٢٤ ـ ٢٥) باسرة في الوجهين ، كليلة في الحالتين : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ... وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣ : ٧٧).

إن هناك حجبا عن ذات الله وليست لله ، فالخلق كلهم محجوبون عن ذات الله حجاب البصر والبصيرة ، سواء المؤمن والكافر ، وليس الله محجوبا عن


ذوات المخلوقين ، فهو أقرب إليهم منهم إلى أنفسهم (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٠ : ١٦).

وإن هناك حجبا عن الرب ، عن ربوبيته ومعرفته ، وليست إلا من الخلق لا من الرب ، سواء حجب الظلمة وحجب النور ، وقد تخرق هذه الحجب بما يسعى السالك في سبيل المعرفة حسب الشرع ، وما يؤيده الله تعالى ويجذبه إليه وعلى حدّ تعبير الأمير عليه الصلاة والسلام : «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق حجب النور فتصل إلى معدن العظمة» وقد خرقت هذه الحجب كلها لمعراج الرسول الأقدس في مقام (أَوْ أَدْنى)! والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

فما بقي في قلب الإنسان نور ، فبقدر هذا النور ينظر إلى معدن العظمة يوم الدنيا وبالأحرى يوم الدين.

فليس حجاب الفجار هو عن الرؤية لكي يعني أن المؤمنين سوف يرون الله ، ف «إن الله تعالى لا يوصف بمكان يحل فيه فيحجب عنه فيه عباده ، ولكنه يعني أنهم عن ثواب ربهم محجوبون» (١) ثواب الزلفي والمعرفة والرحمة ، كلّ حسب سعيه.

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ. ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) :

هؤلاء المجرمون سوف يصلون الجحيم : يوقدونها بأعمالهم المرقومة ، فلقد كان كتابهم سجينا وفي سجين ، وهذا هو وقود الجحيم ، هم بأنفسهم المجرمة وأفكارهم وأعمالهم ، أولئك هم وقود النار ، وكما كانوا يوم الدنيا وقود النار.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٣٢ عيون الأخبار عن الامام الرضا (ع) وفي التوحيد روى عن علي عليه السّلام مثله.


فهذا جحيمهم الناتج عن أفكارهم وأعمالهم ، يحرقون به ، ثم مع الجحيم التأنيب مع ما شاهدوا من سوء أعمالهم وعله أمرّ من الجحيم وأدهى ، يؤنبون بأمور عدة ، منها (.. هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) .. كنتم تكذبون بيوم القيامة ، قيامة الأموات وقيام الحساب والجزاء الوفاق ، وإن النار تصلى بالأعمال والأفكار النارية فهي وقودها ، ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

* * *

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤)

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) :

كلا! ليس كما يزعمه الأشرار أن لهم عقبى الدار إن كانت لها عقبى ، كما لهم دنيا الدار ، فإن كتابهم لفي سجين طوال الحياتين على عكس كتاب الأبرار.

وأما عليّون فقد قيل إنه اسم أشرف الجنان كما أن سجينا اسم لأشر النيران ، وقيل : إن مفرده «علي» * كثير العلو ، وعليون هم الأعلون المقربون.

هذا ، ولكنما القرآن نفسه يفسر «عليين» ب (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) ف «عليون» على أية حال يوحي بالعلو العال ، كما سجين يوحي بالسفال ، فكتاب الأبرار إذا هو عليون وفي عليين ، وكما أن الأبرار هم عليون ، علو الذات المنحدر إلى علو الأعمال والصفات ، المسجلة في مختلف السجلات عالية


رفيعة ، ثم ظاهرة يوم القيامة في جنات عاليات ونعم خالدات ، عكس ما كان كتاب الفجار.

فالأبرار هم عليون يدخلون بعليين الأفكار والأعمال في عليين الجنات ، فمن هم الأبرار ومن هم المقرّبون الذين يشهدون كتابهم المرقوم؟

الأبرار جمع البرّ مقابل البحر ، استعير منه التوسع في الخير ، فالأخيار كلهم هم الأبرار ، من خالق البر والأبرار ، ف (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٥٢ : ٢٨) ومن سفرته (كِرامٍ بَرَرَةٍ) (٨٠ : ١٦) ثم سائر المتقين المقربين ومن دونهم.

وآية الأبرار هنا إنما تعني المتقين غير المقربين من الخلق أجمعين ، فإن المقربين هم يشهدون كتابهم المرقوم ، ثم الله ليس له كتاب مرقوم له أو عليه.

فالمقربون هم المصطفون من الأبرار الذين قربهم الله تعالى إليه زلفى : (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٥٦ : ١٠ ـ ١٣) ولو كانوا هم كلّ المتقين لما كانوا قلة من الآخرين ، وثلّة من الأولين ، لأن شريعة الآخرين هي الخالدة إلى يوم الدين ، فليكونوا هم الثلّة والأولون القلة ، كلا ـ وإنما أصحاب اليمين من الآخرين هم الثلة ، والمقربون وهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعترته المعصومون هم القلة عددا وجاه النبيين والوصيين السابقين (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٥٦ : ٨٥ ـ ٨٨ .. فالأنبياء من المقربين وكما المسيح عليه السّلام (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٣ : ٤٥) ومن الملائكة أيضا مقربون (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٤ : ١٧٢).

ومن الشواهد على أن المقربين أعلى منزلة من الأبرار ، أنهم : يسقون (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).

ثم كتاب الأبرار ، المرقوم ، يشهده المقربون ، فإنهم شهداء الأعمال ،


ف «عليون الأبرار» هو كتاب مرقوم يشهده المقربون ، شهودا يوم الدنيا وشهود ، يوم الدين ، فشهادتهم في الأولى شهادة تلقّ ، وفي الآخرة شهادة إلقاء يوم يقوم الأشهاد ، والكتاب المرقوم هنا ـ كما في كتاب الأشرار ـ هو الأعمال التي ترقم بصورها وأضوائها وعلى حدّ قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب مرقوم في عليين (١).

الطينة العليينية والسجينية :

قد يشمل عليّون الأبرار طيناتهم كما السجين طينات الأشرار ، كما في أحاديث عدّة ، ولكن هل يا ترى أن الله يخلق الأبرار ـ حين يخلق ـ أبرارا ، والأشرار أشرارا؟ فما هذا إلا تسييرا في البر والشر ينافي التخيير ، اللهم إلا أن يعنى من الطينة الروحانية منها ، الحاصلة من الأعمال الصالحة للأبرار ، والطالحة للأشرار ، على توفيق من الله للأبرار نتيجة برهم ، وختم على قلوب الأشرار نتيجة شرهم ، ولذلك نرى باقر العلوم عليه السّلام يقول : «إن الله خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا وخلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا» ثم يقرأ الآية (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ..)(٢) ،

وعن الإمام الصادق عليه السّلام قوله : «إن الله تبارك وتعالى خلقنا من نور مبتدع من نور سنخ ذلك النور في طينة من أعلى عليين» اه (٣).

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) :

وهو عليّون الجنة بعليين الأعمال ، وتنكير «نعيم» * هنا يوحي إلى تفخيمه ، فكما هم كانوا أبرارا : متوسعين في الخير ، فليكن نعيمهم واسعا ، ثم وأوسع

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٧ أخرج ابن مردويه عن أبي إمامة قال : قال رسول الله (ص) :

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٣٣ ح ٣١ الكافي بالإسناد إلى أبي حمزة الثمالي عنه (ع).

(٣) المصدر ح ٣٢ علل الشرائع بإسناده عن زيد الشحام عنه (ع).


مما عملوا بفضل الله ، جزاء فضلا فوق الوفاق ، طالما كان جزاء المجرمين الجزاء الوفاق.

وكما الجحيم هي نار شديدة التأجج للفجار ، فليكن النعيم رحمة كثيرة التبهج للأبرار.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) :

والأرائك جمع أريكة ، وهي سرير السلطان ، فارسية قديمة وكما في «أوستا زرادشت» نرى «أرائك» * بمعنى سرر السلاطين.

فالأبرار الذين كانوا ـ على الأكثر ـ فقراء منكوبين محجورين مهجورين يوم الدنيا ، لم تكن أصحاب الأرائك تعتني بشؤونهم ولا تعتبر لهم وجودا ، هؤلاء سوف يجلسون في الجنة على الأرائك ينظرون : ينظرون إلى رحمات الله وما وعدهم ربهم ، وينظرون إلى خدامهم والحواجب فيها ، وينظرون كذلك إلى أصحاب النار محتقرين إياهم.

إنهم ينظرون حيث يشاءون دون غضّ ولا غضاضة من مهانة أو مشقة ، وظاهرهم يوحي عن باطنهم.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) :

الظاهر هو عنوان الباطن ، فكل نظرة إليهم تكشف عن نضرة النعيم دون أن يظهر منهم شيء بلفظة قول أو إشارة ، فهم نعيم بكيانهم ككل ، لا بؤس فيهم ولا عبس.

* * *


(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨)

خمر الدنيا والآخرة :

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) :

يسقون من رحيق ، وما أدراك ما الرحيق ، إنه الخمرة الصاخبة الخالصة من كل غش ، وليست كخمر الدنيا التي هي غش للعقل وغش للجسم ، غش للفرد وغش للمجتمع ، وكلها غش ، وإن كان فيها نفع فإثمها أكبر من نفعها بكثير.

لنأخذ مثالا على الخمرين ، إنسانين ، أحدهما أبو لهب عم النبي ، وثانيهما هو النبي الأقدس ، فهل يا ترى أن اشتراكهما في الاسم وفي الهيكل الإنساني يجعلهما في مستوى واحد؟

كذلك البون بين خمر الدنيا التي يستر ويخمر عقل الإنسان وإنسانيته ، ويستر عليه صحته ، وخمر الآخرة التي تستره عما سوى الله وترفعه إلى درجات من معرفة الله ما كان ينالها لولاها ، وتصلح وتصحح جسمه ، والقرآن يصف خمر الجنة بما يخرجها عن كل غول وتأثيم (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) (٤٧ : ١٥) لذة في العقل والروح ، ولذة في الجسم ، ولذة في المنظر ، ولذة في الطعم ، وخمرة الدنيا مرة في طعمها ، مرة إذ تنقص العقل وتنقضه ، ومرة إذ تضر بصحته ، وإن كان الجاهلون يحسبونها لذة ، فلأنهم يتحللون بسكرها عن أحكام عقولهم وعما يقيّدهم في الحياة ، لذة حيوانية عابرة تخلّف ذلة كيانية لهم.


(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٥٢ : ٢٣) وخمر الدنيا فيها كل لغو وكل تأثيم (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) (٢ : ٢١٩) والإثم ما يبطئ عن الخيرات ، فخمر الدنيا تبطئ عن الخيرات ، وخمر الآخرة تعجل له الخيرات وتفتح له أبوابها.

ولقد وصفت الرحيق بصفات عدة تميّزها عن خمر الدنيا ولحدّ عبّر عنها بالرحيق كما في سواها من آياتها الواصفة لها في الجنة ، اللهم إلا واحدة تقرنها بما يخرجها عن شرها (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) (٤٧ : ١٥).

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٣٧ : ٤٥ ـ ٤٧) «بيضاء» * وليست خمر الدنيا بيضاء ، «لذة» * وليست هي لذة وإنما مرة تعقّب لذة خيالية نتيجة التحلّل عن العقل (لا فِيها غَوْلٌ) وهو إهلاك الشيء من حيث لا يحسّ ، وخمر الدنيا تهلك العقل والجسم من حيث لا يحس ، (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) لا ينزعون عن عقولهم ولا يفرغون (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) (٥٦ : ١٨ ـ ١٩) لا فيها صداع الرأس ولا فراغ العقل ونزفه.

فأين الخمر التي هي بيضاء لذة للشاربين لا غول فيها ولا لغو ولا تأثيم ولا صداع ولا نزف وهي صاخبة خالصة من كل غش ، أين هي من خمر الدنيا : حمراء نقمة للشاربين ، فيها كل غول وكل لغو وتأثيم ، وكلها صداع ونزف وهي شائبة مغشوشة؟

نجد بينهما بونا شاسعا لحد يحق تفريقهما في الاسم أيضا ، ولذلك لا تسمى خمرا إلا في آية واحدة ولتوحي أن في خمر الآخرة ما في خمر الدنيا من لذتها ـ إن كانت لها لذة ـ وزيادة فوق الوصف ، دون أن تحمل إثمها وغولها ونزفها وشرها وضرها!

وهذه الخمرة الطيبة إنما يشربها من ترك خمرة الدنيا الخبيثة وكما في وصية


الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي عليه السّلام : يا علي! من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم ، فقال علي صلّى الله عليه وآله وسلّم : لغير الله؟ قال : نعم والله صيانة لنفسه فيشكره الله تعالى على ذلك (١).

فالرحيق (خمر الجنة) كما أزيل عنها اسم الخمر ، كذلك أوصافها بما وصفت بصفات طيبة هي «مختوم ختامه مسك ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون».

(رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) : فالرحيق المختوم ، وكل طعام وشراب مختوم ، إنه أصلح للشرب والتناول لسلامته عن تصرف الهواء وتدخل الجراثيم ، فإنه مختوم عن التفاعلات الخارجية وتأثيراتها.

ثم هي مختومة في الخيرات كما هي مختومة عن الشرور ، لا خير إلا وقد جعله الله فيها ، ولا شر إلّا أنها مختومة عنها ، رحيق مختوم عما يرهق من أضرار ومختوم فيما يرغب فيه الأبرار.

هذه الخمرة هي أشرف أصناف الخمر في الجنة ، ولأنها مختومة بالمعنيين وليست كذلك خمر النهر (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وأن لها مزاجا من عين المقرّبين من تسنيم.

فهذه معدّة في أوانيها مقفلة مختومة تفضّ عند الشراب ، فما هو ختامها؟

(خِتامُهُ مِسْكٌ) :

ختم بالمسك ، دون الوحل المختوم به خمر الدنيا ، وختامه : عاقبته ، مسك عطر في الروح وعطر في العقل وعطر في الجسم ، كما أن بدايته مسك ،

__________________

(١). نور الثقلين ٥ : ٥٣٤ من لا يحضره الفقيه عنه (ص) والقمي عن الصادق (ع) مثله.


خلاف خمر الدنيا إذ هي عفنة بدايتها ، وشريرة نتن ختامها ، لا تأتي إلا بكل شرّ ورذيلة.

ففي مسك الخمرة وختمها بالمسك ، فيه إناقة ورفاهية ، صورة لا يدركها البشر إلا في حدود المعهود من الدنيا.

(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) :

من المفروض أن يتنافس العقلاء في الختام المسك عاجلا وآجلا ، لا في الشهوات العاجلة الفانية النتنة ، فليتنافسوا في عليين وفي النعيم المقيم ، وفي نضرة النعيم ، وفي رحيق مختوم بالمسك ، وكلّ نعيم الجنة مسك.

فالتنافس هو تمنّي كل نفس مثل النفيس الذي يكون لغيره ، ولا نفيس في الدنيا إلا ما يقدّم للأخرى ، فإنما الأولى بئيسة تعيسة إلّا ما حوّل منها إلى مزرعة الآخرة ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

إن التنافس في نعيم الآخرة يرتفع بأرواح متنافسيها جميعا ، بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا ، إلا أن يكون لدنيا الآخرة ، فدنيا المتقين آخرة ، ولأنها مزرعة الآخرة ، لا يبصرون إليها فتعميهم ، وإنما يبصرون بها فتبصّرهم وتقربهم إلى الله زلفى.

فعلى المؤمن التنافس في ذلك ، تاركا تنافسات الهوى والردى ، وإنه توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمّرونها ويقومون بالخلافة فيها ، عمران المدرسة للدراسة ، لا المستنقع الآسن والطويلة العالفة لحيونة الحياة والإخلاد إلى أرضها وسجينها.

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) :

إن لهذا الرحيق مزاج من تسنيم : عين المقربين ، ولأنه يقرب شاربيه إلى الله ، فإنه خمرة تخمر عن العقول ظلمها ، وتزيد الإنسان معرفة وسكرة بالله.


والتسنيم ضد التسطيح ، ماء بالجنة يجري فوق الغرف يتسنم عليهم من الأعالي إلى الأسافل ، عين فوقانية المصدر والنبع ، تنحدر مسنّمة العليين ، وإنما يشرب بها المقربون ، وللأبرار مزاج منها للرحيق المختوم ، وإن للمتقين عيونا دون التسنيم : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٥١ : ١٥) (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (٧٦ : ٦).

والكوثر ـ علّه ـ العين أو النهر أو الحوض الخاص بأقرب المقربين ، محمد وآله الأنجبين صلّى الله عليه وآله وسلّم ، عيون ثلاث لكل أهل خاص ، وإن كان الكل له نصيب من العين الأعلى مزاجا في شرابه كما في رحيق الأبرار.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)

. أصل الجرم هو قطع الثمرة سواء عن نفسه أم عمن سواه أيضا ، فالمجرمون هم الذين قطعوا عن فطرهم متطلباتها ، وعن عقولهم حاجياتها ، وعن حياتهم أهدافها اللائقة بها ، ثم هم يعيشون حياة الإجرام لمجتمعهم ، فهم رؤوس الضلالة


طوال التاريخ : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (٢٦ : ٩٩) وهم أعداء النبيين : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥ : ٣١) وهم قطّاع سبل الخير في البلاد : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٦ : ١٢٣).

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) :

قطعوا ثمرة الهدى عن شجرة الإنسانية ، وانقطعوا عن الله إلى سواه ، هؤلاء المنقطعون عن ثمار الحياة :

(كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) :

يضحكون منهم ساخرين ناقمين أن آمنوا بربهم وانقطعوا إليه (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) (٥ : ٥٩) وغريب في نوعه كيف يضحك المنقطع عن كل خير من المتصل الواصل إلى كل خير؟ هل لفقرهم؟ وليسوا كلهم فقراء ، وليس الفقر دافعا عقليا إلى الضحك ، أم لضعفهم عن رد الأذى ، وليسوا دوما ولا كلهم ضعفاء ، وليس الضعف مادة للسخرية ، أم لإيمانهم؟ إذ زعموا الإيمان رجعية وانعزالية عن الحياة ، وهو الحياة كلها! وإذا كان الإيمان رجعية سوداء والإجرام تقدمية بيضاء فليحاول هؤلاء القدامى في إقناع المرتجعين دون أن يضحكوا عليهم ، فما الضحك والهزء إلا عجزا عن العلاج ، وجهلا وسوء أدب ، ثم (ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) إلا رسالة شيطانية مجرمة!.

تقول الروايات «إن أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي ابن وائل السهمي كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم ، وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاء في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم


الأصلع فضحكنا منه ، فنزلت الآية قبل أن يصل علي وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (١).

وهكذا يكون دور الإجرام طوال التاريخ ألا يكتفي المجرمون بعملياتهم الإجرامية ، بل ويحاولون بشتى الأساليب أن يجتثوا جذور الإيمان ، ومن أخريات الوسائل وأشنعها عادة الاستهزاء علّ المؤمنين ينضموا إلى صفوفهم وكلا ، إذا كانوا مؤمنين حقّا.

(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) :

مرور التنابز والتغامز ، هؤلاء المجرمون الأوغاد يواصلون دورهم الإجرامي إذ يمرون على المؤمنين الأوتاد ، مرورا ساخرا مائرا علّهم يرتبكون وينكسرون ، تغامزا بالعيون والأيدي ، وتنابزا بالألقاب الساخرة المرذولة قائلين : انظروا إلى هؤلاء الرجعيين كيف يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها الحاضرة لوعود كاذبة وأوهام لا أصل لها ، ويخاطرون بأنفسهم طلب الثواب!

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) :

مرحين بطرين مما فعلوا بالمؤمنين ، آخذين ذلك فكاهة لأهلهم لعلهم يفرحون ويمرحون ، كأنهم انقلبوا عن أفلام ممرحة ومسرحيات مفرحة ، راضين عن أنفسهم الحقيرة الرديئة ، مبتهجين بما فعلوا دون أن يتلوموا أو يندموا ويشعروا بحقارة ما صنعوا ، فويل لهم مما كسبت أيديهم ، وويل لهم مما يصنعون.

__________________

(١). التفسير الكبير لفخر الدين الرازي ج ٣١ ص ١٠١ ونور الثقلين ٥ : ٥٣٥ عن علي ابن ابراهيم قال : نزلت في علي بن أبي طالب (ع.


(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) :

هنا يوحّد المجرمون ثالوثهم بحق المؤمنين : (إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) ضلّوا سبيل الحياة ومتطلباتها فعاشوا كأنهم أموات ، تركوا لذة الحياة ونضارة الحياة وحبسوا أنفسهم عن الشهوات ، إن هذا إلا ضلال مبين! ولا أعجب من هذا الحمق العميق أن تحسب الهدى ضلالا والضلال هدى ، فالفجور لا يقف لحدّ ، وكلمتهم هذه من أفجر ما يتصور ، ولذلك لا تستحق الجواب إلّا كسخرية نزيهة عالية من هؤلاء الأغبياء الذين يتدخلون فيما ليس لهم :

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) :

فمن هذا الذي وكّلهم للحفاظ على المؤمنين؟ فهذا فضول على فضول : أن تسمّى الهدى ضلالا ، وأن يتدخل في شؤون المؤمنين بلا رسالة ممن له أمرهم ، اللهم إلا رسالة الشيطان!

ثم وفي الآخرة ، إذا المؤمنون في الجنة والمجرمون في النار نرى معاكسة بين الفريقين:

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) :

المؤمنون يضحكون عليهم جزاء وفاقا بما كانوا هم عليهم يضحكون ، كما ويضحك عليهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب وتضحك عليهم الجنة والنار بما كانوا يصنعون ، (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إلى مقاماتهم العليا ونعيمهم المقيم ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، وينظرون إلى دركات المجرمين ، إلى وجوههم الباسرة التي رهقها قترة وذلة.


(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) :

فقد كانوا يزعمونهم حافظين على المؤمنين موكّلين ، يحاولون إخراجهم من الإيمان إلى الكفر ، من الرجعية السوداء إلى التقدمية البيضاء! فهل ثوّبوا؟ ومن ذا الذي يثيبهم إلا الذي عاشوا عمالته : الشيطان الرجيم ، فهل بإمكان الشيطان أن يثيب حزبه كما وعدهم؟: (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ (١) وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٤ : ٢٢).

فطالما المجرمون يوجعون قلوب المؤمنين المضطهدين لأنهم مؤمنون ، فهم إذا بحاجة إلى بلاسم لقلوبهم المجروحة يوم الدنيا ولكي يواصلوا نضالهم ، فالله هو الذي يراهم كيف يتفكه بآلامهم المتفكهون ، إذن فهو الذي يبلسم قلوبهم إذ يفنّد آراء المجرمين ، وإذ يسخر منهم سخرية رفيعة فيها تلميح موجع ، طالما لا تحسّه قلوب المجرمين المقلوبة ، ولكن قلوب المؤمنين تستنيمها وتستريح إليها.

ثم هو الذي يذكرهم مشاهدهم معهم يوم القيامة ، ولكي يعدّوا لها عدتهم ، ولا يفشلوا فيما هم فيه من حياة إيمانية طيبة ، رغم آلامها الجسدانية ، فهم ليسوا ممن يعيش حياة الجسد ، إلا كمزرعة ووسيلة للحياة الروحانية.


سورة الإنشقاق ـ وآياتها خمس وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما


يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥)

سورة تحمل عرضا عن البعض من مشاهد الانقلاب الكوني عند الساعة وكما سبقت بصور أخرى في سور : «النبأ ـ الانفطار ـ التكوير ..» ولكنما طابع الانقلاب هنا يظهر في مطلع الاستسلام والذلّ لإرادة الرب ، طالما كان فيما قبلها في جوّ عاصف قاصف ، ولكي يتنبّه الإنسان النسيان عن غفوته وبطشه.

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) :

بما أن الشقّ هو الخرم الواقع في الشيء ، فانشقاق السماء هو اخترامها وافتراقها عن التئامها ، وانشقاق السماء ـ وليست كواكبها ـ يدلنا على أنها جرم متراكم وليست جوا خاليا فيها كواكبها ، إنها جرم وإن كانت تختلف خفة وثقلا ، ومن أثقل أثقالها كواكبها التي خلقت من تجمّع أجزائها وأجرامها ، والمملكة السماوية دوما في التوسع : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٥١ : ٤٧).

فانقلاب السماء يومه هو انشقاقها ، كما انقلاب نجومها وكواكبها هو انطماسها وانكدارها وانتثارها دون انشقاقها ، حيث القرآن يختص السماء بالانكشاط والإنشقاق ، ويختص كواكبها بالانطماس والانكدار والانتثار.

وعلى أية حال فلا مجال للانشقاق إلا في جرم متصل ملتئم ، وعلى أثر انشقاقها تنقلب عن صلابتها وتوهى : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٦٩ : ١٦) وهيا لحدّ الدّهان : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٥٥ : ٣٧) وكلّ شيء استرخى رباطه فقد وهي ، ومن رباط السماء الجاذبية العامة ، فالسماء


مرفوعة يوم الدنيا (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فإذا انفلت رباط العمد غير المرئي واسترخى ، فهي إذا تنشق ، كما الكواكب تنطمس وتنكدر.

وعلى أثر انشقاقها تكشط : انخلاعا عن جلدها وجلدها : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) (٨٤ : ١١) وتفرج : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٧٧ : ٨) وتفتح : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (٧٨ : ٢٠) وتطوى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (٢١ : ١٠٤) يطوى طومارها ، فهي يومئذ واهية تمور مورا ، ووردة كالدهان ، وأخيرا تنقلب إلى ما كانت : دخانا : غازا متسانخ الأجزاء : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (٨٦ : ٩) (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (٤٤ : ١١).

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) :

سمعت لربها في انشقاقها لحد شكت من وقعة سماعها ، سماعا تكوينيا إذ أجابت ربها في انشقاقها ، كما أجابته مع زميلتها (الأرض) عند تكوينها : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ..) كناية عن نهاية طوعها لربها وعدم تمنّعها عن إرادته تعالى.

«وحقت» * : جعل حق الطاعة والسماع في ذاتها ، المفتقرة جوهريا إلى ربها ، الذي : «بيده ناصة كل شيء» و (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ).

أجل إنها «حقت» * لا أنها «حق لها» فحقّ الطاعة ليس لها منفصلا عن كيانها ، وإنما في جوهر ذاتها ، فلتأذن لربها وتشكو من وقع أذنها ، إذ لا تملك لنفسها إلا أن تأذن ، كما الكائنات كلها «أذن» * لربها ، في تعميرها وتدميرها.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) :

مدّ التدمير في النهاية ، كما مدّت مد التعمير في البداية ، وبمدّها ألقيت فيها


وعمّرت رواسيها وجرت أنهارها : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) (١٥ : ١٩) ثم بمد التدمير تلقي ما فيها وتتخلى :

(وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) :

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) : انقلبت ظهر بطن على أثر زلزالها ومدها العنيف ورجفتها الأولى المدمّرة.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) :

كزميلتها السماء على سواء في الأولى والآخرة ، فكما البداية لم تكن صدفة وفوضى ، أو تدخلا من غير الله أيا كان ، كذلك النهاية ليست إلا بإرادته تعالى (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٥٣ : ٢٥).

(إِذَا السَّماءُ .. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) .. وهنا نسأل : أين جواب «إذا» *؟ هل إنه محذوف ليذهب ذهن السامع إلى أيّ مذهب ممكن فيكون أدخل في التهويل؟ أو أن آية الكدح جملة معترضة لتزوّد الإنسان بذكرى ما تتطلبه حياة الحساب ، ثم بعدها آية الجواب : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ ..)؟ أو إن «إذا» * ظرف لدور الكدح إلى الرب ولقائه ، كدحا يختص بأهوال القيامة وأحوالها ، قيامة الإماتة والإحياء؟ كلّ محتمل ، وخيرها أوسطها ، إذ لا يحصر كدح الإنسان بأهوال القيامة رغم الأخير ، ولا يهمل «إذا» * بلا جواب ، رغم الأول ، فالقرآن جواب عن غير سؤال ، فكيف لا يجيب عما يطرحه من سؤال! (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) :

وكما الكائنات كلها من أرضها وسماواتها كادحة إلى ربها فتلاقيه.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) : الإنسان ، لا الناس ولا الأناسي ، خطاب شخصي مع كل


إنسان إنسان ، وليدل أن الكدح للجميع لا المجموع ، فكلّ كادح ، وعلى كلّ أن يكون كادحا.

فما هو الكدح في ذاته؟ وما هو هو إلى ربه؟ وما هو الم؟؟؟ وقى بعد الكدح؟ هل هو الكدح بنتاجه؟ أم هو الرب المكدوح إليه؟

الكدح هو السعي والعناء ، وهو دون الكدم ، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان أيا كان ، وإن اختلف نوعه : نفسيا وجسدانيا ، وإن اختلفت مراتبه حسب اختلاف الكادحين ، وإن اختلفت أهدافه ، فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض ، وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكدح .. فأنت أنت يا إنسان تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا على أية حال.

ثم الكدح أيا كان لا يقف لحده أو يفنى ، إلا أن يجتازه إلى آثاره عاجلا وآجلا ، شئت أم أبيت ، وإلا أن يجتاز بك إلى ربك : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) شئت أم أبيت ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) شئت أم أبيت ، فلا محيد لك ولا محيص عن هذين المصيرين اللذين ينتظرانك بعد الكدح ، في حياة الكدح وبعدها.

وإذا كنت ـ ولا بد ـ مسيّرا إلى هذا المصير ، فأحسن السير تحسن المصير ، كن كادحا إلى ربك عن تقصّد وإخلاص ، وإلى نتائج كدحك عند ربك ، لتخرج يوم العرض والحساب عن الشغب والإفلاس.

فكدحك أيها الإنسان كدحان : كدح نتاجه كدح وأشقى هو للحيوان ، وكدح نتاجه راحة ورضوان من الله وهو كدح الإنسان ، فكن كادحا كإنسان ، تراعي في أعمالك مرضاة الله تكسب الدارين ، والثانية أسعد وأبقى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).


وإذا كان واقع الكدح إلى لقاء نتاجه وإلى لقاء الله ، فالحريّ بمن يحترم عقله أن يتقصد هذين اللقائين ويعمل لهما ، دون أن يتجاهلهما ، كما الكثيرون من من الكادحين يتجاهلون ، كأنهم موقنون ألا لقاء هنا وهناك.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) : متعب نفسك (إِلى رَبِّكَ) الذي رباك كيف تكدح تكوينيا وتشريعيا «فملاقيه» : ملاقي كدحك وملاقي ربك ، فلتكن عاقلا في كدحك لكي يكون اللقاء مشرّفا سعيدا يوم الدنيا ويوم الدين في اللقائين.

الكدح الصالح ـ نفسيا وجسدانيا ـ ينتج لقاء صالحا في الدنيا ، معرفيا عن النفسي منهما ، وحيويا معيشيا عن الآخر .. وينتج ـ وبالأحرى ـ لقاء صالحا وأصلح يوم الآخرة : إذ تلاقي ربك لقاء المعرفة العالية ، ولقاء الزلفى والرضوان ، نتيجة الكدح في سبيل الله ، وتلاقي عملك كذلك : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ..) فاستعدّ ليوم اللقاء ولأيام اللقاء ، ولتعمل عملا صالحا ولا تشرك بعبادة ربك أحدا.

إن الإنسان ـ كائنا من كان ـ إنما يعيش بعمله ، عيشة الإنسان أم عيشة الحيوان ، فليكن إنسانا كما ربّاه ربه ، وليستعد للقاء ربّه بعمله.

شريعة الكادحين :

إن شريعة القرآن وسواهن شرائع إلهية غير محرفة ، إنها شريعة الكدح إلى الله في كافة النشاطات والمجالات ، ولا ترضى لأحد حياة الأريحية ، وأن يجعل كلّه على غيره ، ف «ملعون ملعون من ألقى كله على الناس».

فبإمكان الإنسان أن يعيش الكدح إلى الله حياته في كافة الحقول : عبادية وسياسية واقتصادية وثقافية وحربية ، وأضرابها من حقول الحياة التي تتطلب ـ كلّ حسبها ـ أتعابا فكرية وعضلانية وسواها ؛ فتصبح أعماله وأفكاره


ـ كلها ـ في سبيل الله : يعبد الله لله ، ويسوس عباد الله سياسة صالحة لله ، ويزرع لله ، ويتجر ويعمل ويصنع لله ، ويتعلم لله ، ويحارب في سبيل الله ، فيجعل كافة ميادين الحياة محاريب يتمثل فيها هو مطيعا لأوامر الله ، وكما الكون أجمع محراب واسع تسجد فيه الكائنات لربها طوعا أو كرها ثم إليه يحشرون.

فطوبى للكادحين إلى ربهم إذ لا يدركون عناءه بما ينتظرهم من رحمة خالدة ، ورضوان من الله أكبر .. وبؤسا وتعسا للكادحين إلى الشهوات الفانية ، فإنهم سوف يدركهم كدحهم السيّئ الماكر جزاء وفاقا ، ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله.

طالما حياة التكليف هي حياة الكدح والأتعاب ، ولكنها تنتهي بلقاء الرب ـ مشرّفا ـ لو كانت متجهة إلى الرب : (كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) ثم في لقاء الله ولقاء الأعمال يوم اللقاء ، إنّ فيه راحة خالصة : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) حياة راحة خالصة لا تخالط تعبا ولا شغبا.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) :

تقسيم ثنائي لمصير الكادحين من الأخيار والأشرار ، وعرض للقاء الأعمال يوم العرض الأكبر ، وقد عبّر عنه بالكتاب : الحالة الثابتة من الأعمال والنيات والأقوال ، بما استنسخها الله تعالى بأقلام الأمواج على صحائف الأجواء والأعضاء والأكناف : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإذا استطاع هذا الإنسان الضعيف أن يستخدم الأمواج وتحويل الصور والأصوات على الشاشات التلفزيونية وأضرابها ، فلله تعالى كتاب لأعمال الإنسان فوق هذا الكتاب : «مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا» (١٨ : ٤٩).

وقد يعنى من الكتاب هنا كتاب الشريعة ، يؤتاه يمين المؤمنين إذ


عاشوه يمين الحياة وركنها في الدنيا ، ويؤتاه شمال المجرمين أو وراء ظهرهم كما عاشوه هكذا ، صورة طبق الأصل ولا يظلمون نقيرا : «فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا» (١٧ : ٧١) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٦٩ : ١٩ ـ ٢٠).

وقد تدل قراءة الكتاب (١٧ : ٧١) واستقراؤه (٦٩ : ١٩) أنه ليس كتاب الشريعة ، فإنه لا يختص بأصحاب اليمين ، فليكن هو كتاب الأعمال ، ومعه كتاب النجاح يؤتاه أصحاب اليمين بأيمانهم علامة النجاح ، أو كتاب السقوط يؤتاه أصحاب الشمال بشمائلهم علامة السقوط ، ولا ينافيه تسويف الحساب : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) إذا عني منه كتاب التبشير أو الإنذار قبل الحساب ، للتدليل على موقف الحساب.

(فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) : لا يلاقي صعوبة في حسابه ، فلا يحاسب على سيئاته ، ولأنه ترك الكبائر : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) ولأنه كان تائبا منيبا إلى ربه نادما عما اقترفه من اللمم : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (٥٣ : ٣٢) ، ولأنه عاش يمين الحياة بترك كبائر الإثم والشهوات ، وكان مبدؤه في الحياة أنه من أصحاب اليمين ، وأولئك هم الذين يقرءون كتابهم مسرورين بما فيه ، ويدعون أهل المحشر ـ كذلك ـ ليقرأوا كتابهم ابتهاجا بما فيه ، ومن هنا نعرف أن هذا ليس حسابا «فليس أحد يحاسب إلا هلك ، وإنما ذلك عرض وعلى حد قول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) ، وبما أن الكتاب فيه النجاح ، ويشير إلى يسر الحساب ، لذلك :

__________________

(١) نور الثقلين ٦ : ٣٢٩ ، أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله (ص): «ليس أحد يحاسب إلا هلك ، ـ


(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) :

فمن هم أهله؟ فهلل إنهم ولده وزوجه وذووه الأقربون؟ «فيومئذ لا أنساب بينهم ولا يتساءلون» وقد يفر منهم : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٨١ : ٣٦) ، أو هم أهلوه اليمينيون؟ أم هم ومعهم كل من كانوا معه في يمين الحياة؟ أم أهله الذين أعدهم الله له في الجنة؟ كلّ محتمل ، إلا الأول ، والآية تشملهم إلا إياه ، ينقلب إلى أهله مسرورا هناك ، بعد ما كان مذعورا خائفا هنا ، مما يجري عليه وعليهم في سجنهم ، في الحياة الدنيا ، بما ذاقوا من حمقاء الطغيان.

«والناس يومئذ على طبقات ومنازل ، فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا ، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب لأنهم لم يلبسوا من أمر الدنيا بشيء ، وإنما الحساب هناك على من تلبس بها هاهنا ، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ويصير إلى عذاب السعير» (١).

فالذين يدخلون الجنة بغير حساب هم السابقون ، والداخلون بحساب يسيرهم أصحاب اليمين ، والذين يحاسبون على النقير والقطمير هم أصحاب الشمال ، وهناك من يدخل النار بلا حساب وهم أصحاب الوراء ، ولأنه لم يبقوا لأنفسهم مجال الرجاء.

__________________

ـ فقلت : أليس الله يقول : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ قال : ليس ذلك بالحساب وذلك العرض ، ومن نوقش في الحساب هلك» وفيه عنها : سمعت رسول الله (ص) يقول في بعض صلاته : اللهم حاسبني حسابا يسيرا ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله (ص) ما الحساب اليسير؟ قال : أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه ، إنه من نوقش في الحساب هلك.

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٣٧ عن كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين حديث طويل يذكر فيه أحوال القيامة وفيه يقول ..


(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً) :

هؤلاء هم الذين جعلوا كتاب الشريعة وراءهم ظهريا ، مستدبرين إياه حياتهم ، ومستقبلين الشهوات حياتهم ، تبنوا الحياة كحيوان ، ولم يفكروا في حياتهم كإنسان ، فلقد عموا عن رؤية آيات الله ، وصمّوا عن سماع كلمات الله ، وبذلك تؤتاهم كتبهم وراء ظهورهم فلا يقرءونها ولأنهم أعمون : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (١٧ : ٧٢) (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (٢٠ : ١٢٦) ، وعل وراء الظهر إشارة ـ أيضا ـ إلى طمس وجوههم وردها على ادبارها : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) (٤ : ٤٧) أو علهم فرق شتى : بين عمي لا يبصرون ، ومن ردت وجوههم على ادبارهم ، ومن يجمع لهم الأمران ، أو أنهم يؤتون كتابهم بشمالهم من وراء ظهورهم ، كلّ محتمل تشملها الآية.

هذا ـ وإن كان البعض من أصحاب الشمال أيضا يصلون الجحيم مع أصحاب الوراء ، وعلهم من الذين يخرجون عن النار قبل فنائها ، وأنهم كانوا هم المساعدين الأول لرءوس الضلالة : (.. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ... خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٦٩ : ٢٩).

هذا التعيس البئيس الذي قضى حياته كدحا إلى الوراء ، رغم كدحه إلى الأمام : إلى ربه ، شاء أو أبى .. وهذا الأعمى الذي استقبل حيوانية الحياة الهابطة إلى دركات اللذات ، واستدبر الحياة العليا .. هذا هو الذي يدعو بالويل والهلاك.


(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) : هلاكا مثابرا : مواظبا على إتيانه ، ليس صدفة ودون سبب ، فقد كان الهلاك معه ، ثم برز يوم البراز .. يدعو ثبورا وأي ثبور؟ لا ثبورا واحدا ولا من نوع واحد : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (٢٥ : ١٤).

إنه كان ثبورا في كيانه ، لنفسه ولمجتمعه ، في أعماله وأقواله ، في حله وترحاله ، في عقائده وأفكاره ، وما كان يدعو إلا سرورا ، غافلا عما تقدمه نفسه ، ثم هنا لك يدعو ثبورا.

(وَيَصْلى سَعِيراً) : ثبور يدعو ثبورا ، وسعير يوقد سعيرا ، ولا يظلمون نقيرا .. وكل ذلك لماذا؟ والجواب : انه ثبور حق بسرور باطل ، وعقيدة باطلة وحياة عاطلة.

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) :

مسرورا بحيونة الحياة لظنه أن لن يحور ، فأخذ حريته في الثبور دون أن يقف لحد.

مسرورا بما هو فيه ، غافلا لاهيا عما يعنيه ، لا يحسب له حسابا ، ولا يرجو لنفسه ثوابا ولا عقابا : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٢٤ : ٧٥) : حياة الفرح والمرح ، دون تعقل وإناقة.

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) : ظن أن لن يتردد إلى ربه وإلى عمله ، لن يكدح إلى ربه فلن يلاقيه بعمله ولماذا؟ هل لأن ربه كان عنه غافلا غير بصير؟

(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً)

إنه يتردد ويحور ، وربّه بعمله له بالمرصاد ، ولأنه كان به بصيرا ، بما منه وما فيه ، بظاهره وخافيه ، فكيف لا يحيره إليه يوم الجزاء ، هل لعجز


أو نسيان ، أو ظلم وطغيان؟ أم لماذا؟ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١٤ : ٤٢).

هنا يعبر عن البعث بالحور ، لأنه ردة إلى الحياة للجزاء ، وكما يدور الحائر إلى حيث كان ، فما الحياة إلا دائرة نسير عليها من نقطة حياة التكليف ، ثم نرجع إلى نقطة الانتهاء : حياة الجزاء ، نقطتان متلازمتان كأنهما واحدة ، ولأنهما يتشاركان في مبدء الحياة ، يدور الإنسان فيها على محور الشخصية عبر الحوادث والحالات وإلى المنتهى

ثم لسنا بحاجة في البرهنة على حور الحياة ، زيادة على واقع الكائنات ، فهنا الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق : أدلة كونية تمثل لناحور الحياة ودورها .. والله تعالى لا يقسم بها لفقد البرهان ، وإنما هو قسم بشيء من البرهان ، وثم ينفيه موجّها إلى برهان أعمق ، وتبيان أعرق ، هو أدلة الفطر والعقول.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) : الشفق هو ضوء النهار المختلط بظلام الليل عند الغروب ، شفق لعنايته المختلطة بالخوف وهو الإشفاق ، فهو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب ، خاشع لضوء النهار ، مرهوب بظلام الليل ، بين الخوف والرجاء.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) : وكما في الشفق جمع بين المتفرقين : ضوء النهار وظلام الليل ، كذلك الليل واسق : يجمع بين المتفرقات ، فهو يجمع ويضم ويحمل الكثير من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر وعوالم خافية ساربة في الأرض ، غائرة في الضمير.


(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) : اجتمع نوره وتبدّر وتكامل واطّرد ، كما في ليلة بدره وتمامه ، فائضا على الأرض الظلماء الداعس ، بنوره الحالم الجابر لهذه الظلم.

قسما بالليل وما وسق والقمر إذا اتسق ، ولا أقسم بالشفق فإنه خلط لا يبين ، وإنما الليل وما جمع ، يجمع ويؤوي المتفرقات ، على غفلة وغفوة منها ، كذلك حياة التكليف تجمع الأعمال والأقوال في متون المسجلات العضوية والأرضية بفضائها ، طالما المكلفون عنها غافلون ، ولكنما قمر الساعة يوم يقوم الحساب ، إنه سوف يتسق ، يجمع نوره ليري الناس أعمالهم ، طبقا بحديد البصر يوم الحساب ، عن طبق في كلال البصر قبل يوم الحساب : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ، فطالما ظلام ليل التكليف يمنع عن ظهور الأعمال ، ولكنه لا يمحيها ، ثم القمر المتسق يبرزها يوم البروز.

فلا أقسم بالشفق ، ولأنه مشتبه خليط ، فلا يقسم به لإثبات حقيقة ناصعة ، إنما أقسم بما يمثّل ركوب طبق عن طبق ، حال عن حال ، أقسم بالليل وما جمع ، ولا بد لهذا الجمع الأليل من ظهور ، وإلا فلما ذا جمع ، وقد يظهر الجمع الخفي بالقمر إذا اتسق : تجمّع نوره وتبدّر ، وحينئذ لا تخفى منهم خافية ، وهذا طبق عن طبق.

إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه .. لتركبن طبقا عن طبق ، فإنما طبق اللقاء ، لقاء الرب ولقاء الأعمال ، إنه ناتج عن طبق الكدح.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : الطبق هو المطابقة ، وهو جعل الشيء فوق آخر بقدره.

إن كل حالة لاحقة للإنسان ، لهي طبق عن سابقتها ونتيجة عنها (طَبَقاً عَنْ


طَبَقٍ) اللاحق صادر عن السابق ، لا «طبق بعد طبق» دون رباط بين الطبقين ، إنما (عَنْ طَبَقٍ) ، فالإنسان إنما يركب ـ طوال الحياة : حياة التكليف وحياة الحساب ـ يركب مراكب الحالات اللاحقة عن الحالات السابقة : ركوب الجزاء الصادر عن العمل.

فالحياة الدنيا طبقات بعضها عن بعض ، والبرزخ طبق عن الدنيا ، والآخرة طبق عنهما (١) ، تطابقا في المساعي ، على قدر السعي والساعي ، بكدّه وكدحه (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

كل لاحقة من حياة ، مطيّة لسابقتها حسب الأعمال والنيات ، يخلقها الإنسان بما تقدمه نفسه (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) .. أحوال كأنها مطايا يركبها الكادحون ، واحدة بعد واحدة ، حتى تنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى مرحلة جديدة هي حياة الجزاء التمام ، كالأحوال المتعاقبة الكونية : طبق الليل وما وسق بعد الشفق ، ثم طبق القمر إذا اتسق ، وحتى ينتهي إلى وضح النهار إذ يلاقون أعمالهم ظاهرة باهرة ، ولا تخفى عليم خافية.

لتركبن : جميعا ومجموعا ـ جميعا لكلّ طبقه كأفراد ، ومجموعا لكلّ أمة مثال ما للسابقة ، نتيجة التماثل الأممي في التصرفات الجماعية ، والكثير من الروايات تشير إلى الطبقات الجماعية لأمة الإسلام ، فيهم وفي قادتهم الروحيين وأئمتهم الطاهرين : وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ، لا تخطون طريقهم ، ولا يخطي شبر بشبر وذراع بذراع وباع بباع ، حتى أن لو كان من دخل حجر ضبّ لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارى تعني يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! قال : فمن أعني؟ لتنقضن

__________________

(١) نور الثقلين عن المجمع روي مرفوعا عن النبي (ص) أن قوله طبقا عن طبق معناه : حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء.


عرى الإسلام عروة عروة ، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الإمامة وآخره الصلاة (١).

وعن الإمام الصادق عليه السّلام : «إن للقائم غيبة يطول أمدها ، قيل ولم ذلك يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! قال : لأن الله عز وجل أبى ألا يجري فيه سير الأنبياء عليهم السلام في غيباتهم ، وأنه لا بد من انتهاء مدة غيباتهم ، قال الله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي : سير من كان قبلكم» (٢).

فأمة الإسلام يركبون سنن الأمم السابقين ، طبقا عن طبق ، ولأن كل مستقبل ابن ماضيه «جبر التأريخ» وأنهم يحذون حذوهم مخيّرين لا مسيّرين ، وأن الله يجمع في محيى الأمم القائم بالعدل ، ما جمعه من ميّزات قادة التاريخ : الروحيين ، وليكمّل المسيرة ، ويطبّق السيرة كاملة قاهرة ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) :

هذه موحيات الإيمان كونيا وفطريا وعقليا ، تواجه بصر الإنسان وبصيرته ، وتتكاثر عليه أيا كان وأينما كان ، وتستجيش مشاعر التقوى وتستأصل دوافع الطغوى ، وتحمل الإنسان على الإيمان (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)؟ ماذا حصل هنا وهناك فلا يؤمنون (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) فإنارة العقل مكسوف بطوع الهوى.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٣٨ ـ ٥٣٩ عن تفسير علي بن ابراهيم القمي.

(٢) نور الثقلين ٥٣٩ عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى حنان عن أبيه عنه (ع) وفيه عن الباقر (ع) في الآية ، قال : يا زرارة! أو لم تركب هذه الأمة بعد نبيها طبقا عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان؟» يعني الخلفاء الثلاثة الأول؟ وفيه عن أمير المؤمنين (ع) في حديث تفسيرا للآية «أي : لتسلكن سبيل من كان قبلكم من الأمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء».


(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) : لا يخضعون له غايته ، رغم أن القرآن مثال عن العظمة الإلهية ، فكما السجود من الخلق لزام للخالق ، كذلك لكلامه.

ليس السجود المأمور به ، المندّد بتركه ـ هنا ـ سجود التلاوة ، إذ ليست تلاوة القرآن ـ ككلّ ـ بالتي تفرض السجود هذا ، والنص (إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) لا «آيات السجدة» ولا «هذه الآية» إضافة إلى أن الآية هذه ليست لتطلب السجود لنفسها وإلا لدار ، وإنما تطلب لغيرها من القرآن كقرآن ، فليس إلا القرآن كله ، لا آيات السجدة بخصوصها ، ولقد أجمع أصحابنا أنها ليست من آيات السجدة الواجبة ، اللهم إلا استحبابا ورجحانا.

وليست كذلك سجود الصلاة ، إذ لم تأمر الآية بالصلاة ، ولا القرآن كله يأمر بها.

إذا فهو غاية الخضوع للقرآن إذا قرئ ، وأدنى ما يتطلبه الخضوع هو الاستماع والإنصات : (خضوع السمع) ثم التفهم : (خضوع الفهم) ثم الإيمان الصالح : (خضوع القلب) ثم العمل الصالح : (خضوع الجوارح) وسجود اللسان وهو الترتيل في قرائته وإبلاغه ونشره : وخضوع ككل : أن يعيش الإنسان القرآن ـ حياته بكل طاقاته ـ بما فيه.

هذه الآية تندد بالكافرين كيف لا يؤمنون بالقرآن ، ومن جراء الإيمان لم لا يسجدون ويخضعون للقرآن ، أخروجا عن فطرة الإنسان ، الخاضعة لكل جمال وكمال ، فهل تجد أجمل من القرآن وأروع منه ، في كل ما يتطلبه الإنسان كإنسان من كمال وجمال؟

وإذا كان الإيمان يفرض ـ لأول وهلة ـ غاية الخضوع للقرآن ، وأدناها الاستماع له والإنصات ، فأحرى أن يكون واجبا على المؤمنين وقد اجتازوا


المرحلة البسيطة الأولى! فما للمؤمنين لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ، إذا فلا يرحمون ، تنقطع عنهم الرحمة الإلهية بتركهم أدنى مراتب الخضوع للقرآن : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٧ : ٢٠٤).

إنه لا يختص القرآن هنا بقرآن الصلاة جماعة ، وإن نزلت الآية في شأنها ، حيث المورد لا يخصص ، إنه القرآن المطلق لأنه قرآن ، وإن كان فرض استماعه في الصلاة أولى ، والآية هذه تأمر باستماعه والإنصات له إذا قرئ ، وتعد بالرحمة ، وتهدّد بانقطاعها لو لا الاستماع والإنصات.

والآية الأولى (.. لا يَسْجُدُونَ) تندّد بمن لا يخضع للقرآن إذ يقرأ ، وتعتبر هكذا خضوع من حصائل الإيمان لأول وهلة منه ، إذا فتارك الاستماع والإنصات للقرآن خارج عن أولى متطلبات الإيمان ، منقطع عن الرحمة الإلهية التي وعدها المؤمنون.

وهل يا ترى إن عظيما من العظماء إذا كلّمك مخاطبا ، ثم لم تستمع له ولم تنصت ـ ولو كان لصالحه هو لا أنت ـ فما هي إذا حالته؟ فهلا يغضب أن هتكته ولم تحسب له حسابا؟ إذا فما ظنك برب العالمين الذي يخاطبك في قرآنه ـ لك ولصالحك أنت ـ ثم أنت تلهو عنه إلى غيره من أشغال ، أو إلى كلام غيره؟ أفلا تستحق إذا انقطاع الرحمة والتنديد الشديد : أنك لم تؤمن؟!

وتقول الروايات كما تقوله الآيتان ، أن فرض الاستماع المنصت لا يختص قرآنا دون قرآن ، ولا حالة دون حالة ، فهو عام في كافة المجالات قدر المستطاع.

فلأهمية فرض الاستماع نرى عليا عليه السّلام يسكت في صلاته لمن يقرأ في غير


صلاة ، والقارئ مشرك ، والآية ـ في قصد القارئ ـ تندّد به عليه السّلام (١).

وما يظهر منه كأنّ فرض الاستماع خاص بصلاة الجماعة الجهرية (٢) يحمل على

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١١٣ بإسناد صحيح عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن الرجل يؤم القوم وأنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة؟ فقال : إذا سمعت كتاب الله يتلى فانصت له ، فقلت : إنه يشهد علي بالشرك! قال : إن عصى الله فأطع الله ، فرددت عليه فأبى أن يرخص لي ، قال : فقلت له : أصلي إذا في بيتي ثم أخرج إليه؟ فقال : أنت وذاك ، وقال : إن عليا (ع) كان في صلاة الصبح فقرأ ابن الكوا وهو خلفه : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأنصت علي تعظيما للقرآن حتى فرغ من الآية ، ثم عاد في قرائته ، ثم عاد ابن الكوا فأنصت علي (ع) أيضا ثم قرأ ، فأعاد ابن الكوا وأنصت علي (ع) ثم قال به : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ثم أتم السورة ثم ركع ، ورواه العياشي عن أبي كهمس عن أبي عبد الله (ع) من قوله : قرأ ابن الكوا.

وفيه عن تفسير العياشي عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وفي غيرها ، وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع.

وفيه عن المجمع عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له : الرجل يقرأ القرآن وأنا في الصلاة هل يجب علي الإنصات والاستماع؟ قال : نعم إذا قرء القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع.

(٢) نور الثقلين عن الفقيه في رواية زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : وإن كنت خلف الامام فلا تقرأ شيئا في الأوليين وأنصت لقرائته ، ولا تقرأن شيئا في الأخيرتين فإن الله عز وجل يقول للمؤمنين : وإذا قرئ القرآن ـ يعني في الفريضة خلف الامام ـ فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون ، والأخيرتان تبعا للأولين.

أقول : عدم القراءة في الأخيرتين خلاف الإجماع سواء عني بها الحمد أم التسبيحات ، فالحديث مشوش متنا ، وغير صريح دلالة على اختصاص وجوب الاستماع بمورد خاص ، وهو الحديث الوحيد هنا ، وآخر مطافه ـ لو عارض القرآن ـ أن يضرب عرض الحائط.


أنه أفضل الموارد ، ولأنه مورد نزول الآية ، وعموم اللفظ في الآية لا ينافي خصوص المورد(١).

فالقرآن ـ إذا قرئ ـ يجب الاستماع إليه والإنصات له ، سواء أكان القارئ مسلما أم سواه ، مكلفا أم سواه ، قراءة دون واسطة أو بالوسائل ، متصلة بالقارئ ، أم منفصلة مسجّلة ، وما لم يصل إلى حدّ الحرج ، أو المشقة غير المتحملة ، أو لم يكن هناك واجب أهم منه.

كل ذلك لإطلاق الآيتين ، ثم أدلة نفي العسر والحرج ، وتكافئ الدليلين في الفرضين ، أم تقدم البعض على البعض ـ تأمل.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) :

يكذبون بالإيمان ، وبدلالات الإيمان ، وبما يتطلبه الإيمان من السجود للقرآن ، يكذبون لأنهم كفروا ، رغم نصوع البرهان.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) :

ما يخبونه من الكذب والتكذيب ، ومن التدغيل والتدجيل ، في أوعية الضلالة : من أنفسهم الشاردة ، وقلوبهم الماردة ، ومن شياطينهم المردة ، وأجوائهم المظلمة ، وأقوالهم اللئيمة ، وأفعالهم المنافقة ، فهم يعيشون وعي الكفر وإيعائه (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ).

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) :

ليست لهم بشارة إلا الإنذار ، فبشارتهم هي الإنذار ، فالعذاب الأليم

__________________

(١) الدر المنثور عن ابن عباس قال : صلى النبي (ص) فقرأ خلفه قوم فنزلت «وإذا قرئ القرآن ..» وفي معناه روايات مستفيضة.


خفيف تجاه كفرهم ، إذا فهو بشارة لهم حالكونه عذابا ، بشارة للصالحين أن الله لا يسوي بينهم وهؤلاء ، وبشارة للمجتمع أن الكافر سوف يذوق وبال أمره ، وبشارة للكفار أنفسهم ولكي ينتهوا عن كفرهم ، وبشارة لهم أخيرا إذ لم تبق لهم بشارة إلا العذاب تهكما وتنديدا ، وتقحما وتبديدا.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) :

لا يمنّ عليهم ، ولا يقطع عنهم ، إذ آمنوا وأصلحوا ، ووعوا وأوعوا ، وعاشوا حياة صالحة مصلحة ، اللهم اجعلنا منهم.


سورة البروج ـ مكية ـ وآياتها اثنتان وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ


وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

قصور السماء :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) :

البروج هي القصور العالية المتبرجة بالزينة ، سواء أكانت في المدن السماوية التي عمّرها ربها أم عمّرها إنسانها أم غيره من العقلاء المتمدنين ، وعلى حد تعبير أمير المؤمنين علي عليه السّلام : «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل التي في الأرض مربوطة كل مدينة إلى عمودين من نور طول ذلك العمود في السماء مسيرة مائتين وخمسين سنة» (١).

بروج في مدن السماء ، أم مستقلة مبنية خارجة المدن النجومية ، والجمع المحلى باللام (البروج) يقتضي شمول البروج هذه ، كل القصور السماوية ، مشيّدة وسواها وكما في الأرض : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٨٤ : ٧٨) ومن مدرّعة مجهّزة بالمدفعيات والقاذفات ، وسواها : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٥ : ٨) (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً. وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٢٥ : ٦١).

فبروج السماء ـ إذا ـ قصور عالية : من محصّنة جعلها ربها في السماء حفظا عن مسترقي السمع من الشياطين ، وسكنا للملإ الأعلى : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ

__________________

(١) في تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض الأصحاب عن الصادق (ع) أن عليا (ع) قال : ..


الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) قصور هي حصون ومدرعات وقاذفات جوية تقذف مسترقي السمع من كل جانب : (دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).

ومن قصور بناها إنسانها في مدن السماء ، وعلنّا في المستقبل نتسافر ونتزاور كما القرآن يشير : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٤ : ٢٩) : جمع الدواب المنبثة بين الأرض والسماء ، الدواب العاقلة بدليل «هم» * في «جمعهم» * جمعا قبل القيامة الكبرى عن الانبثات ، لا جمعا ليوم الجمع ، وأما أيّنا أسبق في الغزو؟ إنسان الأرض إلى السماء ، أم إنسان السماء إلى الأرض؟ لا ندري.

أجل ـ فإنما بروج السماء هي قصورها ، وهي معناها لغويا وفي القرآن ، وكما العقلية الإسلامية تصدّق في تصريحات أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) وقد يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنها الكواكب ، ولكنها هي الكواكب المتمدنة ذوات القصور ، دون أن يكون للبروج معنيان اثنان ، ويشهد له تفسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم البروج المشيدة بالقصور (٢).

هذه هي البروج المعنية في السماء ، القصور والكواكب ذوات القصور ، المزينة المتبرّجة بألوان الزينة ، المدرّعة والمزودة بالمدفعيات والقاذفات ، إذا كانت إلهية أو ملائكية ، والآهلة بسكانها العمار المتمدنين إذا كانت بشرية ،

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٣١ ، أخرج ابن المنذر عن الأعمش قال : كان أصحاب عبد الله يقولون في : والسماء ذات البروج ـ ذات القصور ـ وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : البروج قصور في السماء.

(٢) وفيه أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن النبي (ص) سئل عن السماء ذات البروج فقال : الكواكب ، وسئل عن : الذي جعل في السماء بروجا ، فقال : الكواكب ، قيل : بروج مشيدة ، فقال : قصور ، أقول : يعني بالكواكب ، التي لها قصور.


فهي كلها بروج على أية حال ، على اختلاف ارتفاعاتها ومهيئاتها وسكانها ـ وتبرجاتها.

هذه ـ لا كافة الكواكب ، إذ لا وجه لتسميتها بالبروج ولا مجازيا ، حيث الكواكب لا تشبه القصور إلا في علوّها ، وليس كلّ عال قصرا ، وإلا فلتكن الفواكه فوق الأشجار ، والسروج فوق المنار ، لتكن بروجا! فليست البروج هي الأشياء الموضوعة على المرتفعات ، وإنما القصور الرفيعة المتبرجة أيا كانت ، والتعبير الصالح عن الكواكب هو المصابيح : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) : قناديل منيرة علقت على متن السماء ، أو مسامير من فضة وتّدت فيها ، وإن كانت النجوم ـ وهي أخص من الكواكب ـ علّها هي الكواكب التي طلع فيها التمدن ومنه قصورها.

ثم وليست البروج هنا هي البروج الاثني عشر النجومية التي قررها الفلكيون (١) ، حيث القرآن لم ينزل وفق اصطلاحات علماء الفلك ، ولا غيرهم من المصطلحين ، وإنما نزل للناس أجمعين ، بلغة العرب الفصحى ، التي يعرفها كل عربي فصيح ، وليس في أخبارنا كذلك ، ما يؤيد تلكم البروج (٢).

__________________

(١) البروج حسب اصطلاح المنجمين هي منازل الشمس والقمر ، يسير القمر في كل برج منها يومين وثلاثا ، فذلك ثمانية وعشرون منزلا ، ثم يستتر ليلتين ، ومسير الشمس في كل برج منها شهر ، والبروج الاثني عشر هي الصور النجومية التي اعتبرها المنجمون وهي : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو ، الحوت ، وفلك البروج دائرة ترسمها الشمس في سيرها في السماء في سنة واحدة ، وتقسم الدائرة إلى اثني عشر كل واحد منها ٣٠ درجة.

(٢) وفي نور الثقلين ٥ : ٥٤١ عن روضة الكافي باسناده عن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين (ع) إن للشمس ثلاثمائة وستين برجا ، كل برج منها مثل جزيرة من جزائر العرب ، وتنزل كل يوم على برج منها ..

أقول : عل هذه البروج هي قصور في فلك الشمس ، هي في كواكب على مسير الشمس ، أو مستقلة كل بحاله في هذا المسير.


(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) :

يوم القيامة الكبرى ، يوم يقوم الأشهاد ، يوم العرض والحساب والثواب والعقاب.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) :

الشهادة هي الحضور مع المشاهدة ، بالبصر أو بالبصيرة ، تلقيا لما يحصل كما يحصل: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) (٢٢ : ٢٨) أو إلقاء له كذلك : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤ : ٢٤).

والشاهد الأول هنا هو الله تعالى ، فإنه خالق الشهداء وموفّقهم لتلقيها وإلقاءها والمهيمن على ذلك كله.

ثم النبيون والملائكة والأرض بأجوائها وأكنافها ، والإنسان نفسه ، وبأعضائه وأجزائه كما عرفناها مسبقا ، والرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم هو شهيد الشهداء بعد الله تعالى بين المرسلين ، يوم الدنيا ويوم الدين : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) (١٦ : ٨٩).

فهو صلّى الله عليه وآله وسلّم يتلقى الأعمال والأقوال والنيات ، بما وفق الله له ووفقه الله ، يتلقاها في حياته وبعد مماته وإلى يوم الدين ، ثم يلقيها يوم تقوم الأشهاد.

__________________

ـ وفيه عن كتاب الخصال عن أبان بن تغلب قال : كنت عند أبي عبد الله إلى أن قال في مقارنة بين نفسه المقدسة وبين علماء اليمين : إن عالم المدينة يعلم ما في للحظة الواحدة مسيرة الشمس ، تقطع اثني عشر برجا واثني عشر برا واثني عشر عالما ، فقال له اليماني : جعلت فداك ما ظننت أن أحدا يعلم هذا أو يدري ما كنهه.».

أقول : لو كانت هي البروج النجومية لم يكن علمها خاصا بعالم المدينة ، الامام الصادق (ع) إذ يعرفها الفلكيون وكثير سواهم ، إذا فلا تؤيد البروج النجومية ـ تفسيرا ل (السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) لا تؤيد لا لغويا ولا قرآنيا ولا روائيا فأين يذهبون!


والشاهد هنا يعم كافة الشهداء : «إلهيا وملائكيا وبشريا وكونيا وعضويا ، تلقيا وإلقاء بأنواعها ، فليس الإفراد والتنكير في «وشاهد» يعني فردا ما ، وإنما هو لتعظيم جنس الشاهد أيا كان.

«ومشهود» : مشهود هو الأعمال تلقيا ، ومشهود به هي إلقاء : شهده وشهد به ، ومشهود له أو عليه هو العامل ، ومشهود فيه مكان الشهادة بنوعيها ، فلم يقل : «ومشهود عليه أو له أو فيه أو به» ولكي يشمل الكل إذ ألغيت المتعلقات وجرّد المشهود ، عنها : (وَمَشْهُودٍ).

ثم الشهادة ـ تلقيا وإلقاء ـ تختلف حسب اختلاف الشهود ، فالشهود النفسية والعضوية والكونية تتلقى وتلقي صور الأعمال وأصوات الأقوال ، والشهود الملائكية والبشرية يشهدون باللسان كما شهدوا بالأبصار والبصائر وحفظوا بالأذهان ، وعلّ الشهود الملائكية ـ إضافة إلى اللسان ـ يشهدون بما كتبوا ، لو أن كتابة الأعمال تشملها ، فالملائكة هم الكرام الكاتبون.

من هنا نعرف أن مختلف الروايات في تفسير (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) تعني المصاديق التي تشملانها :

فإذا يفسر الشاهد بالله فلأنه خالق الشهداء وموفّقهم لتلقّيها وإلقائها ، المهيمن على ذلك كله ، كما المشهود هنا أيضا يوم الدين (١).

وإذ يفسر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشهود بيوم القيامة ، فإنما محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هنا المتلقي للشهادة يوم الدنيا ، والملقي لها يوم الدين ، وهو مشهود فيه : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١١ : ١٠٣)(٢).

__________________

(١) عن ابن عباس.

(٢) عن الامام الحسن بن علي (ع).


أو أن الشاهد ابن آدم والمشهود يوم الدين ، فبما أن الإنسان بأعضائه يتلقى أعماله ويلقيها يوم تقوم الأشهاد (١).

أو أن الشاهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشهود أمير المؤمنين عليه السّلام فلأن الرسول يجاء به شهيدا على كافة المكلفين ولهم ، فهو يشهد لعلي ـ فيمن يشهد لهم ـ أنه أدّى ما عليه ولم ينقص (٢).

أو أن الشاهد يوم الجمعة وعرفة والمشهود يوم القيامة ، فلأن الأيام ـ بها وبأماكنها وبمن فيها ـ تشهد لنا أو علينا ، في يوم القيامة (٣) ، وقس عليها غيرها (٤).

كما وأن عليا ـ حسب القرآن ـ من شهود الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (١١ : ١٧) فقد تلاه : تبعه في رسالته ، وخلفه في أمته طوال الرسالة وبعدها حتى قبض.

* * *

قسما بالسماء ذات القصور المدرّعة القاذفة للشياطين يوم الدنيا ويوم الدين :

__________________

(١) عن مجاهد.

(٢) عن الامام الصادق (ع).

(٣) عن النبي (ص) والباقر (ع).

(٤) كيوم الغدير ، يوم شاهد ومشهود ، مصباح الشريعة عن خطبة لعلي (ع) ، وأن الشاهد محمد والمشهود يوم عرفة ، عن الامام الحسن (ع) وروى أن رجلا دخل مسجد رسول الله (ص) فإذا رجل يحدث عن رسول الله (ص) ، قال : فسألته عن الشاهد والمشهود ، فقال : أما الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم النحر ، فجزتهما إلى غلام كأن وجهه الدينار وهو يحدث عن رسول الله (ص) فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود ، فقال : نعم ، أما الشاهد فمحمد وأما المشهود فيوم القيامة ، أما سمعت الله سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وقال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) فسألت عن الأول فقالوا : ابن عباس ، وسألت عن الثاني فقالوا : ابن عمر ، وسألت عن الثالث فقالوا : الحسن بن علي (ع) ، (نور الثقلين ٥ : ٥٤٢ ـ ٥٤٣).


«إن الذين كفروا لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» (٧ : ٤٠).

وقسما باليوم الموعود الذي تعرض فيه الأعمال والخلائق ، وقسما بشاهد ومشهود ، إذ يغرق المكلفون في جو الشهود ، وإذ تلتقي السماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود.

قسما بهذه وتلك لقد حدث حادث في تاريخ الإنسان يجرح الأكباد ويقرح العيون : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ..) أفهل تزعم أن ظلامتهم تذهب هدرا ، والكون بمن فيه وما فيه شهود؟ :

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) :

الأخدود شقّ في الأرض مستطيل غائص ، وجمعه أخاديد ، والنار ذات الوقود هي التي أضرمت وأوقدت في الأخدود ، لحدّ أصبح الأخدود كأنه نار ذات وقود ، إيحاء بتلهّب النار في الأخدود كله ، كأن لم يبق أخدود إلا الوقود (١) فنفس الأخدود ضيق ، ثم قلبه نارا ضيق على ضيق وعذاب فوق العذاب.

وأصحاب الأخدود هم الجبابرة الذين أوقدوا النار في الأخدود ، لا المؤمنون الذين أحرقوا فيها ، لأن أصحاب الأخدود ـ حسب النص ـ قتلوا ، والمؤمنون أحرقوا ، ولا يعبّر عن الحرق بالقتل ، وإن كان هو أيضا قتلا ولكنه بالحرف ،

__________________

(١) النار ذات الوقود بدل الاشتمال عن الأخدود ، جيء به كبدل الكل مبالغة في الوقود ، وهنا رواية في النار لطيفة : عن الخصال عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن النيران فقال «أربعة : نار تأكل وتشرب ، ونار تأكل ولا تشرب ، ونار تشرب ولا تأكل ، ونار لا تأكل ولا تشرب ، فالتي تأكل وتشرب فنار ابن آدم وجميع الحيوان ، والتي تأكل ولا تشرب فنار الوقود ، والتي تشرب ولا تأكل فنار الشجر ، والتي لا تأكل ولا تشرب فهي نار القداحة والحباحب» (نور الثقلين ٥ : ٥٤٧).


كما المقتول بالصلب يقال عنه مصلوب ، لا مقتول : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

هذا ـ ولأن الضمائر التالية كلها ترجع إلى المحرقين لا المحرقين : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ ..).

«قتل» * : إنه إخبار عن قتل أرواحهم وضمائرهم لما أقدموا على إحراق المؤمنين ، فهم قتلوا إذ قتلوا ، رغم حياتهم في الجسد ، قتلوا ضمائرهم قبل أن يقتلوا المؤمنين ، فالضمائر الإنسانية الحية ، والأرواح الطاهرة ، لا تسمح لأصحابها هكذا قساوة وضراوة ، أن يلقوا المؤمنين والمؤمنات ـ بأطفالهم وضعفائهم ـ في النار ، وهم قريبون من عملية التعذيب البشعة ، يشاهدون أطوارها ، وفعلة النار في هذه الأجسام الطاهرة ، وهم في لذة وسعار.

أجل إنه إخبار بقتلهم وليس دعاء ، فإنه لا يليق بساحة الربوبية ، إخبار عن ماضيهم يوم الدنيا ، وعن مستقبلهم يوم الدين ، كيف يلاقون جزاءهم الوفاق يوم التلاق.

قصة أصحاب الأخدود :

تختلف الروايات في : من هم أصحاب الأخدود؟ أنه مهرويه بن بخت نصر؟

حفر أخدودا لدانيال وأصحابه ، وأوقد لهم نارا فلم يحرقوا ، فاستودعهم فيه بين الأسد والسباع بألوان العذاب حتى خلصهم الله منه كما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

أقول : إنه لا يلائم سياق الآيات الظاهرة في وقوع النقمة عليهم (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا ..) (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا ..) أي : أحرقوا ، فلا نصدق أنه عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم.

أو «أنه ذو نواس ـ آخر ملوك حمير ـ تهود واجتمعت معه حمير ،

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٤٣ في كتاب كمال الدين وإتمام النعمة باسناده عنه (ص).


ثم حمل من بقي على النصرانية بنجران أن يتهودوا فأبوا ، فاتخذ لهم أخدودا وأشعل فيه النار ، فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف ، ومثل بهم كل مثلة ، وبلغ عدد الضحايا عشرين ألفا» (١).

أقول : وما سوى أخدود النار لا يلائم الآيات.

ورويت روايات أخرى مختلفة في أصحاب القصة وكيفيتها ، لا تهمنا تفاصيلها ، فنجمل عنها كما القرآن أجمل ، ولندرس فيها درس التضحية والفداء في سبيل الله ، وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «ما ذكرت أصحاب الأخدود إلا تعوذت بالله من جهد البلاء» (٢).

وعن حفيده الإمام الصادق عليه السّلام قوله : «قد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير ، وتضيق عليهم الأرض برحبها ، فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه ، من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى ، بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فاسألوا ربكم درجاتهم ، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم»(٣).

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) : قتلوا (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) على الأخدود ـ لا فيه ـ على شفير النار ومشارفها ، البعيدة عنها عرضا وعمقا ، دون أن يتأثروا بها ، إلا تفرّجا ونزهة ، فالداخل في النار لا يقعد فيها ، إنما يقوم ويقعد ويقفز محاولة الفرار.

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) : حضور يسمعون صرخاتهم

__________________

(١) نور الثقلين ٥٤٤ في تفسير علي بن ابراهيم القمي.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٣٣ ، أخرجه عبد الحميد عن الحسن عنه (ص) ، وابن أبي شيبة عن عوف عنه (ص).

(٣) نور الثقلين ٥٤٧ في روضة الكافي محمد بن سالم بن أبي سلمة عن أحمد بن الريان عن أبيه عن جميل بن دراج عنه (ع).


وتسبيحاتهم ، ويرون ما تفعل النار بجسومهم الطاهرة ، شهود : شهادة تلق مما فعلوا ، وشهود ـ يوم تقوم الأشهاد ـ شهادة إلقاء بأعضائهم وأجزائهم ، بألسنتهم وأسماعهم وأبصارهم ، فهم شهود هنا وهناك ، وهم مشهود عليهم بأعمالهم هناك في اليوم المشهود : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١ : ٢٢).

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) :

إن نقمة الإيمان هي دور المؤمنين طوال تاريخ الإنسان ، فليطلب المؤمنون أن يفرغ عليهم ربهم صبرا ويتوفاهم مسلمين : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (٧ : ١٢٦) (قُلْ ... هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) (٥ : ٥٩).

إن قتل المؤمن لإيمانه هو أشد الكفر : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٤ : ٩٣) : يقتل مؤمنا لإيمانه وإن كان القاتل في زمرة المؤمنين! فكيف بالكافر!.

فيا حمقاء الطغيان! هل إن الإيمان بالله يستوجب النقمة : والنكران بالعقوبة وباللسان؟ وهو الله العزيز في ألوهيته فأحرى أن يؤمن به ، وهو الحميد في عزته فأحرى أن يؤمن له! الله العزيز الحميد.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) :

يملك الكون كلّه ، ويشهد عليه كلّه ، وسوف يشهد قبل الشهود ومعهم يوم تقوم الأشهاد ، ماذا نقمتم من المؤمنين به؟ فهو شاهد يوم ذاك ، وأعمالكم مشهود بها ، وأنتم مشهود عليكم ، والقيامة مشهود فيها.


(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) :

«فتنوا» * : أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ، واستعمل في إدخال الإنسان النار ، وعله أيضا لهذه الغاية ، قصدت أم لا.

فأصحاب الأخدود أحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار نقما منهم وكراهية لهم ، فلم يقصدوا تخليصهم بهذه الفتنة عما ربما يلتصق بالمؤمن من رداءة ، ولكن الله فوقهم ، حقق فيهم معنى الفتنة فصبروا عليها وماتوا مخلصين ، ذهبا خالصة عن الأخلاط ، فلاقوا ربهم خلّصا عن الرداءة.

هذا ـ وعلى سبيل التهكم ـ يفتن الكافر أيضا على النار : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ..) (٥١ : ١٣) : فتنة بفتنة ، تتشاركان في الحرق ، وتختلفان في نتاجه صالحا وطالحا ، فالفتنة ، منها مفلحة كما للمؤمنين ، ومنها مسقطة كما للكافرين (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٩ : ٤٩).

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بمختلف العذاب وعذاب الحريق ، (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ) الجزاء الوفاق : (عَذابُ جَهَنَّمَ) كمبدأ العذاب الذي ذاقه المؤمنون منهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) بما أحرقوهم في الأخدود ، جهنم بما فعلوا ، وحريق بالأخدود ، ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته ومدته ، في؟؟؟؟ ، وعدّته ، في عذابه ورحمته!.

فحريق الأخدود نار أوقدها إنسانها للعبه ، وحريق جهنم نار سجّرها جبارها لغضبه ، ثم الأوّل تنتهي للحظات ، والآخر آباد لا يعلمها إلا الله ، ومع حريق الأخدود رضي الله عن المؤمنين ، وانتصار لحق الإيمان ، ومع حريق الآخرة غضب الله والارتكاس الهابط الذميم.


(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) :

فالمؤمن حياته الجنة ، والكافر حياته النار ، وجنة الأبرار لا تختص بدار القرار ، إنهم يلتذون بما ينقم منهم في سبيل الله ، فطالما أجسادهم تعذب في جحيم الدنيا ، لكنما الأرواح تلتذ بالفداء ، ثم لا تحس آلام الأجساد ، ثم هم يوم القيامة ينعمون ، وذلك الفوز الكبير : الظفر بالخير مع حصول السلامة ، وهذه هي النجاة الحقيقية ، والنجاح الكبير في معارك الحياة.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) :

بطش رباني ما له من فواق ، دون بطشهم الهزيل الصغير ، بطش الضعاف المهازيل ، بطش الأحمق الذليل!

البطش هو تناول الشيء بصولة ، منها ظالمة ومنها عادلة ، وبطش الرب جزاء عن صولتهم الظالمة ، بصولة عادلة ، وفي (بَطْشَ رَبِّكَ) تطييب لنفس النبي الأقدس ، ولكي لا يحسب لهؤلاء البطاشين حسابا : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١٤ : ٤٣).

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) :

قسما بالسماء ذات البروج. واليوم الموعود. وشاهد ومشهود : قتل أصحاب الأخدود .. إن الذين فتنوا .. إن بطش ربك لشديد. إنه هو يبدئ ويعيد. فهي كلها أجوبة الأقسام كلها ، لأنها تصلح لها ، والصلة بينها وبينها معلومة بما سبق.


(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) :

وحتى لأمثال أصحاب الأخدود لو تابوا وآمنوا وأصلحوا ، فإنه منبع الغفران والود ، بودّه يغفر ، وبمغفرته يودّ ، أفلا تائب يتوب وآئب يؤوب!.

فتأخير بطش الرب ـ الشديد ـ ليس للغفلة أو الإهمال ، فالظالم في قبضته بدءا وعودا فأين يفر؟ فقد يؤخر علّ البطاشين المتخلفين يتوبون ، ولأن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) :

صاحب عرش الألوهية ، ولقد ذكر العرش في واحد وعشرين موضعا من القرآن ، مقرونة بقرائن قاطعة لفظية وعقلية ، تدل على أنه ليس عرشا يتكى عليه ، وإنما هو كناية عن ملكه تعالى ، ونفاذ أمره في مملكة الوجود ، واستيلاء سلطانه على رعيته.

إن ألوهيته تعالى ونزاهته عن ذوات المخلوقين وصفاتهم ، إنها برهان لا مرد له ـ عقليا ـ أن الذات والصفات والأفعال المنسوبة إليه ، مجردة عما للمخلوقين ، فإذ ينسب إليه العرش فهو إذا يجرد عن عروش المخلوقين المحتاجين إليها ، والمتكئين عليها ، فهو مجيد في ألوهيته وفي عرشه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) وعروش الخلق ليست مجيدة : متسعة في الكرم والجلال ، وإنما ضيّقة داثرة متواضعة.

ولمجده تعالى في عرشه ، هو (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وغيره تعالى من أصحاب العروش مغلوب على أمرهم ، لا يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون ، إذ ليسوا أمجادا في ذواتهم وصفاتهم وعروشهم (١).

إنه ليس إمهاله المجرمين لعجز أو جهل أو بخل أو نسيان أو ظلم وأمثالها ،

__________________

(١) تجد البحث الفصل عن العرش في المواضيع الأنسب فالأنسب.


وإنما إملاء وابتلاء ، ولكي يثبت أنه (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يفعل ـ أحيانا ـ بالمجرمين ما لا يمكن أن يفسّر بالصدفة أو العادة ، وإنما القصد الخارق للعادة ، ولكي ينتبه الغافلون.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ. وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) :

فقد أغرق الله فرعون وجنوده في اليمّ بعد ما نجّى بني إسرائيل ، ونجّى فرعون ببدنه ليكون لمن خلفه آية : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٢٠ : ٧٨).

وقد أخذ الله ثمود بعذاب بئيس بعد ما أوعدهم ، بما كذبوا صالحا وعقروا الناقة : «ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب. فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز. وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود» (١١ : ٦٨).

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وأخذ الكفر شغاف قلوبهم ، إنهم (فِي تَكْذِيبٍ) يعيشون التكذيب كأنهم غريقون في يمّه (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) لا فيهم ، إذ هو بعيد عن ذواتهم بعد القرب والمعرفة ، وبعد الذات والصفة ، فهو من وراءهم محيط ، نافذ فيهم علمه ، غالبة عليهم قدرته ، قريب في بعده ، وبعيد في قربه ، محيط بهم وبعالمهم ، لا يفلت منه أحد ، ولا يغيب عنه أحد ، وبيده ناصية كلّ شيء.


(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) :

«بل» * ليس كما يزعم أن القرآن قد ينال منه بزيادة أو نقصان ، كما أن أمة القرآن ينال منهم بين الأمم ، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) : واسع في الكرم والجلال ، كما الله مجيد ، ولا نجد وصف المجد في القرآن إلا للقرآن بعد الله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ، قُرْآنٌ مَجِيدٌ) ، فكما من المستحيل أن ينال من ذات الله وصفاته وأفعاله (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) ، وليس مغلوبا في أمره ، كذلك القرآن ـ حسب هذا النص ـ مجيد : واسع في كرمه وهدايته سعة الرحمة الإلهية ، جليل عزيز لا يذل ولا يغلب ، وما أكذوبة تحريف القرآن إلا ذلا ودمارا ، يتنافى ومجده ، وهو المجيد الرفيع العريق الكريم ، وهل أمجد من قول الله ذي العرش المجيد؟

ومن لطيف الأمر أن الله تعالى يسوّي بين مجده ومجد كتابه في الأصل وفي العدد : مرتين مرتين (١).

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ضمن الله تعالى حفظه عن التحريف والتصريف ، أيا كان ، بزيادة أو نقصان ، أو أي تحوير وتغيير : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٥ : ٩) تأكيدات ست في جماع من القدرة والرحمة الربانية تؤكد حفظ القرآن عن الضياع والتحريف.

فلقد حفظ القرآن المجيد ، في لوح محفوظ : صفحة لائحة ظاهرة لمن يتمجد به من المكلفين ، لا في لوح عند الله ، أو عند رسول الله وعترته المعصومين فحسب ، فإنّ ما هنا لك ليس لائحا إلا عند أهله ، ولوح القرآن مجيد واسع الكرم ، فهو محفوظ في كافة الألواح ، ألواح الصدور والصحف ،

__________________

(١) ق والقرآن المجيد (٥٠ : ١) بل هو قرآن مجيد ، إنه حميد مجيد (١١ : ٧٣) ، ذو العرش المجيد. وقد بحثنا عن صيانة القرآن عن التحريف في كتابنا (المقارنات) ص ٢٢٧ ونبحث في طيات الآيات المناسبة هنا.


وألواح الألسن الناطقة به ، ولا يقدر أحد أن يغيره فإنه مضمون الحفظ بالقدرة الإلهية.

وكما الله عزيز : غالب ممدوح ، كذلك كتابه عزيز : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢).

فالقرآن عزيز كمن أنزله ، لا يغلب في الحجاج ولا من أيّ تغلّب ، عزيز في دوامه ، عزيز في تبيانه وأحكامه ، فلا يأتيه الباطل وإن أتاه المبطلون ، نور لا تطفأ مصابيحه ، وسراج لا يخبؤ توقّده ، يذهب كل قائل بقوله ضياعا ، والله بقوله ثابت لا يضيع.


سورة الطارق ـ مكية ـ وآياتها سبع عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ. وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ) :

قسما بالسماء : الأجواء الواسعة الحاملة لمواكيد الكواكب ، وقسما بالطارق : النجم الثاقب ، فما هو الطارق؟ وما هو النجم الثاقب؟ وما هو الرباط بين السماء والطارق ، وبين الحفاظ الإلهي على كل نفس؟.


الطارق هو الإنسان الذي يطرق ليلا فيدق الباب ، فإن الطرق هو الدّقّ ، كما المطرقة هي المدقة ، ويسمى الآتي ليلا طارقا لأنه يأتي في وقت يحتاج فيه إلى الدق أو ما يقوم مقامه ، للتنبيه على طروقه والإيذان بوروده.

والنجم هو الكوكب الطالع بنوره ـ وعله بطلوع التمدن فيه أيضا ـ والثاقب : هو النافذ بنوره وبطرقه ، يثقب ظلام الليل بنوره ، ويظلم الحياة على مسترقي السمع الشياطين ، بوقعه : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ).

فالسماء حفيظة لأولادها الكواكب ، وطوارقها الثواقب ، حفيظة للملإ الأعلى أن يسّمّع إليهم : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) : المدرعات الجويّة التي تثقب بنيازكها النارية النورية سرّاق السمع.

فالنجوم الثاقبة الطارقة ليلا هي نور حياة للمهتدين ، وظلم على حياة المعتدين كما وأن آيات الوحي تثقب بأنوارها ظلمات الضلالات ، وتثقب بوقعها كيان الشياطين ، ومن أثقب النجوم في سماء الوحي هو الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

قسما بهذه النيازك النارية والطوارق النورية ، الثاقبات الحافظات للكيان السماوي ، إن واقع الحفاظ لا يختصها ، وإنما يعم كل نفس : بشري وملائكي وجني وحيواني وسواها ، حفظا عن الأخطار الموجهة إليها ، ومن أخطارها الموجهة إلى غيرها :

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) :

إن كل نفس إلا (٢) عليها حافظ إلهي ، أو ملائكي وبشري بأمر الله ،

__________________

(١) كما في نور الثقلين ٥ : ٥٥٠ ح ٣ عن تفسير القمي عن الصادق (ع).

(٢) تجيء «لما» * بمعنى «إلا» * في موضعين : أن ، والقسم كقولك سألتك بالله لما فعلت ، ويحتمل أنها مخففة فاللام للتأكيد و «ما» * صلة مؤكدة ، والأول أصح والثاني مشوه.


أو كوني كذلك : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٢ : ٦٤) وهذه مقتضى ربوبيته : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٣٤ : ١١) هو حفيظ : و (هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٦ : ٦١) : حفظة يحفظونهم في حياتهم ، صادرين من أمر الله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (١٣ : ١١) : يحفظون نفوسهم بأبدانهم طوال الحياة وبعد الممات ، فلا تذهب سدى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ويحفظون أعمالهم ويكتبون : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ).

إن كل نفس إلا عليها حافظ ، عليها دنيا وعقبى ، عليها روحا وجسما ، عليها أعمالا وأقوالا ، وعليها دينا ودنيا ، فإن نجوم الاهتداء تثقب القلوب المقلوبة المظلمة ببوارق الهداية : من عقله وفطرته : رسولان هما لزام الإنسان ، ومن آفاقه المحيطة به : رسالة الكون ، ومن رجالات الوحي : رسالة السماء ، فيا قبحا لمن لا يحسب لهذه الحفظة حسابا ، فينفلت من حزب الرحمان إلى حزب الشيطان ، وإلى حرب الرحمان!

وهذه النجوم تثقب الضالين بحيلهم فينهزمون : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١٧ : ٨٢).

فليست هنا لك ـ إذا ـ هيصة وفوضى ، دون حراسة إلهية ولا حفيظ ، إنما هو الحفاظ الدقيق المباشر وغير المباشر ، وسوف يظهر يوم تقوم الأشهاد.

ولكي يعلم الإنسان أنه محفوظ بعمله ليوم تقوم الأشهاد فلا ينكر البعث والمعاد ، فلينظر :


(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) :

«لينظر مم خلق»؟ ولكي يعرف مصيره ، فمبتدء الخلق ـ دائما ـ آية مصيره ، فعبر هذا النظر سوف يعتبر أنه ما هو في ماضيه؟ وكيف يكون مصيره ومرجعه؟.

لينظر مم خلق؟ بعد ما يعلم أنه خلق : هل خلق هو نفسه؟ أم خلق مثله؟ أم خلق من غير خالق؟ : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٥٢ : ٣٥).

ثم لينظر من أية مادة خلق؟ خلق من ماء دافق : يخرج بدفق ، ورغم أنه ماءان : ـ يخرجان من بين صلب الرجل : عظام ظهره الفقارية ، ومن ترائب المرأة : عظام صدرها العلوية ـ رغم ذاك يعبّر هنا عنها بماء واحد ، علّه بما أصبحا واحدا من أمشاج : أخلاط : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) (٨٦ : ٧) :

فهما ماءان وأمشاج ، أصبحا وأصبحت ماء واحدا لوحدة التشكيل والاتجاه إذ مزجا ومشجت.

ما كانت البشرية ـ طوال تاريخها ـ لتعرف أن الجنين مخلوق من هذين الماءين ، إنما المزعوم : أنه من ماء أبيه ، أو الذكر من الذكر والأنثى من الأنثى ، كانوا يزعمونه هكذا حتى نزول القرآن ، إذ صرح هنا وهناك أن الجنين ـ أيا كان ـ مخلوق من الماءين ، واكتشفوا علميا في منتصف القرن الأخير : أن في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل ، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة ، حيث يلتقيان في قرار مكين فيصبحان ماء الجنين! فمن الماء الدافق إلى الإنسان العاقل الناطق!


(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) :

الصلب ما فيه النخاع الشوكي الذي فيه مجمع الأعصاب ، فلو انكسر الصلب أو اصطدم لم يقدر الإنسان على الجماع والتوليد ، فمنشأ النطفة الرجولية إنما هو الصلب ، وإن كان المني ينحدر منه دوما إلى البيضتين : الخزانتين الاحتياطيتين ، والماء الدافق يدفق من الصلب والترائب ، ومن خزينتي الاحتياط ، وعلها كمساعدة لنشوء الجنين.

والترائب جمع تريبة وهي موضع القلادة من صدر المرأة ، فهي ضلوع صدرها ، أو مقاديم بدنها من الثديين إلى الوركين : استيحاء من جمع التريبة ، فالترائب ـ إذا ـ هي مقاديمها كلها ابتداء من موضع القلادة ، وسوف نوافيكم في بحث فصل عن النطفة وتطوراتها في سورة العلق.

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) :

إن الذي قدر على بدئه ، لقادر أيضا على رجعه : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) إنه على رجعه : إرجاعه إلى ما كان ـ كيفما كان ـ لقادر.

رجع أوّل : أن يرجعه الله إلى ما كان من ماء دافق : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١ : ١٠٤) (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧ : ٢٩) : ودون رجع إلى الصلب والترائب.

ورجع ثان إلى ما كان من الخلق الكامل : يخلق من هذا الماء كما خلق أول مرة ، دون الزوائد غير الثابتة ، وإنما البدن الذي عاشه طواه حياة التكليف ، وكما «سئل الإمام الصادق عليه السلام عن الميت يبلى جسده؟ قال : نعم ، حتى


لا يبقى لحم ولا عظم إلا طينته التي خلق منها فإنها لا تبلى ، تبقى مستديرة في القبر حتى يخلق منها كما خلق أول مرة» (١) : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٣١ : ٢٨).

ورجع ثالث ترجع فيه روحه إلى قالبه الأصيل ، الذي عمل فيه ما عمل حياته.

ورجع رابع ترجع فيه أعماله وأقواله كما صدرت ، ذلك بأن الله كان حفيظا عليه بروحه وببدنه الأصيل وبأعماله ، دون أن تضل منها شيء وحتى عن ملك الموت : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١).

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) : السرائر جمع السريرة وهي الطوية في النفس أو غيرها ، من أسرار وأفكار ، وإبلائها إظهارها ، فإنه ظهور الحقيقة بعد خفائها ، وبالبلاء يظهر الخفاء ، فعامة السرائر سوف تظهر كأشهاد ، يوم تقوم الأشهاد : مما أسره الإنسان في نفسه أو أبداه : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (٢ : ٢٨٤) فما يبديه أيضا يبقى سرا يسجّل في المسجلات الإلهية ، ثم لا يبقى سر مما أسره أو أبداه إلا ويبلى يوم تبلى السرائر ، وقد يعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أمثال الصلاة والزكاة من السرائر التي سوف تبلى (٢) حال أنها ليست من الأسرار الخافية إلا شذرا نذرا فيما يخفيه صاحبه ، إلا الصوم الذي هو سر بطبعه ، وقد عده صلّى الله عليه وآله وسلّم في عداد غير الأسرار كالصلاة والزكاة.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ص ٤٣ ح ٢١.

(٢) في الدر المنثور ٦ : ٣٣٦ ، أخرج البيهقي في شعب الايمان عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله (ص): ضمن الله خلقه أربعة : الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ).


إن السرائر المكنونة والمطوية سوف تبلى ، تخرج عن ظلمات الأسرار بطوارق الأشهاد ، بإرادة الله ، وكما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر ، وكما ينفذ الحافظ إلى المحجوبة بالسواتر ، كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة وكل ناصر :

(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) : فلا هناك له قوة ذاتية تدافع عنه ، ولا ناصر عرضي يناصره ، فيا له من ضعف مضاعف حين تتكشف أسراره في نهاية المطاف ، وعند انقطاع الأعمال والآمال!

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ)(١) :

إن الكائنات كلها رجعيات ، ترجع إلى ما كانت ، وترجع أماناتها كما أخذت : فالسماء سوف ترجع دخانا كما كانت : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) وهي ترجع أماناتها إلى الأرض دوما : من أبخرة المياه الصاعدة إليها ، إذ تتحول ثلوجا ومياها ، ثم توزع في أكناف الأرض حقا وعدلا ، هذه السماء لا تتأبى عن رجوعها لقيامتها ، ولا عن رجعها أماناتها ، على عظمتها وسعتها! فهل إن هذا الإنسان الصغير الصغير يتأبى عن رجعه؟ أو يقدر أن يخبئ أعماله وأفكاره في نفسه وفي الأشهاد؟!

(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) :

تتصدع لقيامتها ، وتنصدع عن مواليدها ، كأم تلد مواليدها بنطف المياه السماوية : ماء دافق يخرج من صلب السماء ، وبالبذور المخبئة في ترائب الأرض ، فتلد مواليد النباتات ، ومن ثمّ الحيوانات.

أفلا تدل السماء برجعها ، والأرض بصدعها ، والطارق بثقبها ، على إمكانية

__________________

(١) الرجع استعمل لازما ومتعديا «لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ» «لئن رجعك الله إلى طائفة» وهما المقصودان هنا معا.


رجع الإنسان شاء أم أبى ، وعدل الله ورحمته يفرضان هذا الرجع ، ولتجزى كلّ نفس بما تسعى!

ثم قسما بسماء الرسالات الإلهية ، التي ترجع أمانات الوحي إلى أصحابها ، وقسما بأراضي القلوب المتصدعة بآيات الوحي النازلة لها :

(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) :

الهزل هو كل كلام لا تحصيل فيه تشبيها بالهزال ، فللقرآن تحصيل قولا ومصداقا ، فهو فصل مقالة وخبرا ، يفصل بين الغث والسمين والخائن والأمين ، فهو مقالة يدل بحكمته على أنه كلام الله جدا ، وليس هزلا ، وهو خبرا ـ ومن بين أخباره ـ خبر صدق : أن الإنسان سوف يرجع لفصل القضاء ، كما السماء والأرض راجعتان ، فالكائنات كلها راجعة إلى ربها ، مؤدية أماناتها! فليكيدوا ـ إذن ـ كيدهم ، فما ذا يؤثر كيدهم ، فما كيد الكافرين إلا في ثياب :

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) :

كيد بكيد ، جزاء وفاقا ، وأين كيد من كيد؟ فهم يكيدون جهالا عجزة خونة ، يظنونهم ألّا حراسة عليهم ولا حول ولا قوة! والله يكيد بتسجيل أعمالهم ، وإملائهم (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) ، وبالختم على قلوبهم ، وعدم تأييدهم للخير إذ تركوه عمدا ، وعدم الفصل بينهم وبين شرّهم إذ اقترفوه عمدا ، ثم يفاجئهم يوم تقوم الأشهاد بالأشهاد ، فما له من قوة ولا ناصر! (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٥٢ : ٤٢).

فأنا «الله» * إذ أمهلهم ، ليس عن عجز وقصور ، أو جهل وفتور : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) .. أنا أمهلهم هكذا ، فأنت أيضا :


(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) : فقد يكفيهم كيدي رغم إمهالهم ، فمهّلهم مدى حياة التكليف دون جزاء وفاق ، فاليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل.

وامهلهم رويدا : قليلا : أترك كفاحهم إلى حين ، وحتى تؤمر به ، إذ كان الأمر في مكة تركا ، ولعدم الإمكانات الحربية ، وفي المدينة حربا ، دفاعا وانتقاما.

ثم ـ ولجزاء أشدّ وأنكى ـ أمهلهم إلى القيامة الوسطى : قيام القائم المهدي عليه السّلام الذي يدمّرهم تدميرا (١).

ثم أمهلهم للقيامة الأولى : الموت ، إلى العذاب ـ شيئا مّا ـ في البرزخ.

ثم للقيامة الكبرى ، إذ يلاقون فيها جزاءهم الوفاق ، ولا يظلمون فتيلا.

فهنا تمهيل إلى يوم الدين ، وهناك إمهال رويدا رويدا ، إلى الحرب وإلى دولة القائم ، وإلى نار البرزخ ، ثم إلى آخر المطاف في التمهيل (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٥٣ ح ١٩ في رواية القمي عن المعصوم في الآية : «لو قد بعث القائم (ع) فينتقم لي من الجبارين والطواغيت من قريش وبني أمية وسائر الناس» أقول وهذا من التفسير ببعض المصاديق.

(٢) بناء على ما فسرناه يختلف التمهيل عن الإمهال دون أن يكون تكرارا ، وقد يوحي إلى ذلك نفس صيغة التفعيل وهي للتكثير وهو يعني هنا المهلة الكثيرة ، وصيغة الإفعال وهي للدفعة ، وهي تعني المهلة القليلة.


سورة الأعلى ـ مكية ـ وآياتها تسع عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩)».

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) :

هنا وهناك الربّ يتبارك بذاته القدسية ، ويأمر بتسبيحها وذكرها ، وقد يحلّ محلّها اسمه تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٤)


(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٥٥ : ٧٨) (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٦٢ : ١))(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)(اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (٣٣ : ٤١) (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) (٧٣ : ٨).

فما هو تسبيحه؟ وما هو تسبيح اسمه؟

التسبيح هو التنزيه عما لا يليق ـ أيا كان ـ في ذاته تعالى أو صفاته أو أفعاله ، فتسبيح الذات هو تقديسها عن ذوات الممكنات ، فذاته خلو من ذوات المخلوقين ، كما أن ذواتهم خلو من ذاته : «لا هو في خلقه ولا خلقه فيه ، هو حلو من خلقه وخلقه خلو منه» (١) ، فلنذكر ذاته القدسية ونسبّحها ونباركها كما هو أهله ومستحقه.

ثم الاسم منه لفظي ، ومنه وصفي ، ومنه عيني ، فإذا نذكره باسم لفظي ليدل عليه ، فلنسبّح اسمه عن أسماء المخلوقين ، الدالة على النقص والحدوث : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) (٧ : ١٨٠) (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٥٩) : فإنهم لا يصفونه ويسمونه إلا بما وصف به نفسه وسماها.

وأسماؤه الوصفية هي صفاته تعالى ، ذاتية وسواها ، فلنسبّحه في صفاته عن صفات المخلوقين ، مهما تشابهت التعابير ، فلا نعني من : أنه تعالى عليم قدير حي ، ما نعنيه من مفاهيم ومعاني في خلقه ، بل : أنه لا يجهل ولا يعجز ولا يموت ، فليس لنا إلا السلب ، نعني به إيجاب سواه ، رغم أننا لا نحيط به علما.

وأسماؤه العينية هي خلقه كما خلق وهدى ، لا بما غيّروا بأنفسهم : فمن أسمى هذه الأسماء هم أطيب الطيبين من المعصومين المكرمين ، محمد وآله الطاهرين ، فإنهم من هذه الأسماء الحسنى ، كما وعلمهم الله آدم دون ملائكته :

__________________

(١) عن الامام الرضا (ع) التوحيد للصدوق.


(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢ : ٣٢).

عرضهم ـ لا عرضها ـ فالأسماء هنا «هؤلاء وهم» ولهم أسماء جهلها الملائكة ، فما أقدسها أسماء : دلالة على القدسية الإلهية! وما أكرمها ذوات!

ثم الكائنات كلها أسماء الله ، الدالة عليه ، بما هي مخلوقات ، لا والمختلقات الزائدة الناقصة من انحرافاتها وانجرافاتها.

(اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) : فهل في الكون أرباب عدّة هو أعلاهم؟ نقول : أما أرباب مفوّضون مستقلون؟ فلا! وإنما الكلّ مربوبون لرب العالمين ، فالقوى الروحية ـ الملائكية والبشرية ـ تربي ، ولكنها بإذن الله ، برسالة الوحي أم سواه ، والقوى المادية تربي ، إلا أنها بإذن الله ، فكل القوى المربية ترجع إلى الله تكوينيا وتشريعيا ، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وسبحانه تعالى من ربّ أعلى ، أن يكون معه أرباب متشاكون ، مستقلون أو مسموح لهم ، وإنما مربوبون يربون بإذنه تعالى.

ولأن التربيات كلها راجعة إلى الرب الأعلى ، فليسبّح اسمه لا سواه ، فلا يقرن اسمه بسواه ، وكما أمر الرسول الأقدس أن نسبّحه تعالى هكذا في سجود الصلاة قائلين : سبحان ربي الأعلى (١) وكما أمرنا أن نقولها إذ نسمع الآية أو نقرؤها (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٥٤ ، العياشي عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال رسول الله (ص) : اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال (ص) : اجعلوها في سجودكم ، وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن الجهني مثله (الدر المنثور ٦ : ٣٣٨).

(٢) أخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله (ص) كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى ، قال : سبحان ربي الأعلى (الدر المنثور ٦ : ٣٣٨).

وفي المجمع قال الباقر (ع) إذا قرأت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فقل : سبحان ربي الأعلى ، وإن كنت في الصلاة فقل فيما بينك وبين نفسك» أقول : يعني بها غير حالة السجود.


وعلّ الأعلى هنا تعني ـ فيما تعنيه ـ أعلى درجات الربوبية في تربية الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم لمكان «ربك» * لا «رب العالمين» وكما الإنسان ـ ككل ـ احتل بين الخلق أحسن الخلق : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فلا خالق سواه ، وإنما جمع الخالقين ـ علّه ـ يعني خالقياته تعالى ، فكذلك (رَبِّكَ الْأَعْلَى) : أعلى الربوبيات.

ونستوحي من هنا : لماذا كان الرسول عليه السّلام يحب هذه السورة (١)؟ فحقّ له أن يحبّها وهي تتضمن تسبيح ربه الأعلى ، وهي تختصه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكانة مرموقة من التربية الإلهية هي الأعلى بين ملاء العالمين من الملائكة والجنة والناس أجمعين!

فليسبح ـ إذن ـ اسمه تعالى أيا كان ، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضا اسمه ، وأعظم أسمائه العينية ، فلينزّه تربيته الرسالية وقبلها ، عما لا يليق بالرسالة العليا ، وليعرف أنه أوتي ما لم يؤت أحد من العالمين ، وليعلم مع ذلك أنه لا يملك شيئا : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (١٧ : ٨٧).

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) :

سبح اسمه كرب العالمين ، ومن ربوبيته الخلق والتسوية والتقدير والهداية : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) هداية عامة : من تكوينية لا عن شعور للمهتدي ، أم غريزية ، أم فطرية ، أم فكرية عقلانية اختيارية ، ومن تشريعية ، ثم وتكوينية بعد تطبيق الشريعة : «ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٣ عن علي (ع) قال : كان رسول الله (ص) يحب هذه السورة.


النخلة ، لتدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حيّ ، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء(عن علي عليه السّلام).

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) :

المرعى كلّ نابتات الأرض ، التي يأكلها إنسانها وحيوانها ، رطبا ويابسا ، ما دام خضرا نضرا ، ثم يجعله الله غثاء : يطفح على المياه ، أو تفرقها الرياح ، أو متفرقة في بطون الأرض ، «أحوى» : شديد السواد ، ومنه الفحوم الحجرية ، التي تصنعها يد القدرة الإلهية ، لمكان «جعله» * وإن كان يشمل الفحوم الأخرى أيضا ، فإن صنع الإنسان من صنع الله ، لأنه بعقله وبصنعه من صنع الله.

وكما المرعى يفيد ، كذلك غثاؤه الأحوى يفيد ، يفيد فعلا حرارة مطبوعة للدفء والطبخ ، ويفيد أحيانا غذاء لذيذا : دهنا وصبغا للآكلين ، عملية شجرة الزيتون ، كما اخترعوه في القرن الأخير (١).

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) :

أقرأه : جعله قارئا بعد أن لم يكن ، وبما أن الرسول كان قارئا القرآن

__________________

(١) في مجلة مصرية مؤرخة ٢٣ أغسطس ١٩٢٥ م : «نشرت (التاجليشه رونتشا) خبرا مؤداه : أن حكومة برلين وبروسيا قد منحتا شركة (ايفانج) إعانة قدرها مليونان وخمسمائة مارك ذهبا ، لتنشئ بها مصنعا لاستخراج الزيت من الفحم على طريقة (برجيوس) وسينشأ هذا المصنع في (فنسلاوس) في (سيليزيا) السفلى ، ويجهز بآلات تستطيع أن تصفي مائتي ألف طن من تراب الفحم سنويا.

ومخترع هذه الطريقة هو الأستاذ (برجيوس / من (هيدلبرج) اخترعها في سنة ١٩٠٣ م ، وخلاصتها أنه يستصفي تراب الفحم مع الهيدروجين في جو يصل الضغط فيه إلى مائة وخمسين أو مائة درجة.


منذ نزوله وحتى نزول آية الإقراء ، فليكن الإقراء ـ هذا ـ غير الذي كان ، والنص هنا : (فَلا تَنْسى) يميزه بعدم النسيان ، المتفرع على هذا الإقراء الخاص ، فلقد كان حتى الآن يقرأ ، وكان يكرر الآيات لكي لا ينسى (١) ، محاولة بشرية لحفظها ، ولكنها ليست بالتي تطمئن الإنسان ، فقد ينسى ـ رغم كافة المحاولات ـ وقد ينسى أنه ناس.

والعصمة ـ ولا سيما في الرسالة الأخيرة الخالدة ـ إنها لزام الرسالة : في تلقي الوحي وإلقائه وتطبيقه ، وإلقاء الوحي كما أوحي ، بحاجة ملمة إلى الحفظ الدائب ، ودون تكلّف زائد ، وليكن كل محاولاته في تبليغ الوحي وتطبيقه.

فهذه بشارة له صلّى الله عليه وآله وسلّم برفع عناء الحفظ ، تريحه وتطمئنه على القرآن ، بحفظه في قلبه وعلى لسانه ، وكما وعد بالحفاظ عليه في أمته وإلى يوم الدين عن تحريف المبطلين ، وإدغال الدجالين ، وقد عرفناه مسبّقا ، وكما وعده بجمعه وقرآنه كتابا مفصلا ، بعد نثره في نزوله نجوما حسب الحاجات : حفظا مركزا لا تتخلله أية ريبة وشائبة.

ولقد كان القرآن ينزل على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) ، ثم أخذ يمزج قلبه المنير ، ويدخل شغافه لحدّ أصبح قلبه قرآنا لم يبق مجال لنسيانه.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٣٩ ، أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : «كان النبي (ص) إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من الوحي حتى يزمل من ثقل الوحي حتى يتكلم النبي (ص) بأوله مخافة أن يغشى عليه فينسى ، فقال له جبريل : لم تفعل ذلك؟ قال : مخافة أن أنسى ، فأنزل الله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وفيه عنه أيضا : كان النبي (ص) يستذكر القرآن مخافة أن ينساه ، فقيل له كفيناك ذلك ونزلت (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى).


فالنازل على السمع قريب إلى النسيان ، ثم بعيد عنه إذا نزل إلى القلب ، ثم مستحيل إذا ضمن الله تعالى عدم النسيان ، وهكذا استمر وحي القرآن على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أن ينسى ولا حرفا منه أو نقطة!.

(إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : سنقرئك من القرآن ما يحمل كل شيء ، إلا ما شاء الله اختصاصه بذاته المقدسة من علوم الغيب (١) ، فقد استقصى الله في القرآن ما كان وما يكون وما هو كائن ، وقصّه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يستثن إلا ما شاء الله اختصاصه بنفسه المقدسة ، فآية الإنساء ـ إذا ـ من آيات أن محمدا لم ينس ما أقرأه ربّه!.

(فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : واحتمال ثان أن يكون الاستثناء بالمشيئة عن (فَلا تَنْسى) : لا تستطيع دوافع النسيان وعوامله أن تنسيك شيئا من القرآن على وجه الإطلاق ، فإن الله غالب على أمره ، ولئن كان هناك عامل ـ ولن يكون ـ فلتكن مشيئة الله ، ولا يعني هذا الاستثناء أن الله ينسيه شيئا مما أقرأه ، فإنه أسوء العسرى بعد إذ وعده باليسرى : (فَلا تَنْسى)! .. وإذا كان هنا موقع للنسيان ، فما هو موقع التعليل؟ : ـ

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى)؟ فهل هو إلا تأكيدا لعدم النسيان ، فما النسيان إلا من ضعف الإنسان ، وقد جبر بالإرادة الإلهية : (فَلا تَنْسى) أو من الجهل بعوامل النسيان ظاهره وخافيه ، ف : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أو بدافع الضغط على النبي في نسيان القرآن ، فلما ذا ـ إذن ـ بشّره : (فَلا تَنْسى)؟ ولماذا وعده دون فصل :

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) :

ولماذا ينسيه ما يأمره بتذكيره؟ :

__________________

(١) هذا إذا كان المستثنى منه هو الأقراء ، ولأنه أصل الكلام ، وحينئذ لا مجال لشطحات المبشرين ، مزمرين ومطبلين أنه (ص) نسي شيئا من القرآن.


(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) :

ليس الجواب إلا أن الاستثناء هنا من الإقراء ، وإذا كان من (فَلا تَنْسى) فلما يأتي :

١ ـ إن الاستثناء بالمشيئة هنا قد يكون كما في شعيب عليه السّلام : «قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين. قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا إن يشاء الله ربنا ..» (٧ : ٨٩) ، فهل بالإمكان ـ واقعيا أم عقليا ـ أن يشاء الله عود رسوله والمؤمنين في ملة الشرك ، فليمكن ـ إذن ـ أن يشاء نسيان محمد قرآنه العظيم!

٢ ـ وقد يكون الاستثناء هنا لكي يعلن ربّنا أنه ليس مسيّرا في استبقاء وحي القرآن في قلب الرسول ، وألّا ينسى ، وكما في القرآن كله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (١٧ : ٨٦) وكما ترك الوحي عليه ردما من الأيام لحد ظن صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه تعالى ودّعه أو قلاه ، حتى نفاه تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى). كل ذلك لكي يعلم النبي ونعلم معه ، أنه لا يستقل في وحي القرآن.

ومهما يكن من شيء فلا دلالة هنا على ما يهواه المبشرون من أن محمد نسي من القرآن وهذا يتنافى وعصمته في البلاغ (١).

__________________

(١) من هؤلاء الأستاذ الحداد اللبناني ، إذ يقول فيما يقول : الظاهرة الأولى نسيان النبي بعض ما يوحى إليه «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى» فالاستثناء «إِلَّا ما شاءَ اللهُ» يفيد بأن الله قد يشاء أن ينسي النبي بعض ما يوحى إليه ، فهل يصح أن يوحي الله شيئا ثم يأمر بنسيانه ، هل كان النسيان مقصودا؟ آية التبديل (نحل ١٠١) وآية المحو (رعد ٤١) توحيان بأن النسيان قد يكون مقصودا من الله ومن النبي ، فكيف تنسجم العصمة في البلاغ والتبليغ مع مبدإ النسيان وواقعه» (من كتابه الكتاب والقرآن) وقد أجبنا عنه في كتابنا «المقارنات» (ص ١٩٤ ـ ٢٠٥) وسوف نبحت عن آيتي التبديل والمحو في محالها.


(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) :

فهناك يسرى في تلقي الوحي : ألا يشتبه عليه وحي الرحمان بوحي الشيطان ، ويسرى في تبليغه : ألا ينساه ، ويسرى في تطبيقه : أن يلائم حياة الإنسان إلى يوم القيام ، مهما كانت هنا وهناك عسرى في الدعوة في جهات أخرى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ويسره يغلب عسره ، عسر مؤقت ويسر دائم!.

واليسرى هي الحياة اليسري : أيسر الحياة ، في أعسر الظروف والمجالات ، وقد يسره ربه : «نيسرك» لا أنه «يسر له» مما يدل أن الله جعل الرسول يسرا في ذاته ، يسرا في إمكانياته ، مهما كانت الظروف صعبة ملتوية.

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) : فبما أنك لا تنسى وحي الرسالة ، وأن الله يسرك لليسرى ، فذكر إن نفعت الذكرى : نفعت بالفعل : «لمن أراد أن يتذكر أو أراد نشورا» ولتعش الذكرى حياتك كما عاش ذكر الله قلبك ، وأخذ كتاب الله شغافه ، فذكّر حيثما تجد فرصة للذكر ، ومنفذا إلى القلوب ، ووسيلة للبلاغ ، وحاول كافة المحاولات في خلق مجالات للذكر علّهم يتذكرون ، ولا تقل : العالم كالبيت يؤتى ولا يأتي! فهذا نفع فعلي للذكرى لمن أراد أن يتذكر ، أو أنها تحثه لإرادة الذكر ، وأما من لا يتذكر بها ، فنفع الذكرى له ليس إلا أنها حجة عليه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فذكرهم لحدّ الحجة ، فإن الذكرى عذر أو نذر ، ثم تصبح لغوا إذ لا نذر ولا عذر ، إذا فذكرهم ثم ذرهم: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ... أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ..) (٦ : ٧٠) والابسال التسليم للهلاك بسوء العمل ، وما لم تكن الذكرى لم يكن العمل سوءا .. ثم اترك الذكرى حين لا ينفع لا هدى ولا حجة ، لمن ثبتت عليه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٥٣ : ٢٩).


(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) :

فنفع الذكرى لمن يخشى هو أن يخشى ، وللأشقى أن يتجنبها عن حجة فيصلى النار الكبرى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٧ : ١٥).

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) : فلا يحسّ عذابها ويرتاح منها (وَلا يَحْيى) : عائشا كالأحياء ، لامسا طراوتها ، متنحيا عن ضراوتها ، فلا الموت يدفع عنه عذابها ، ولا الحياة تجلب له متطلباتها ، فهو بين الموت والحياة : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧) تأتيهم بواعث الموت ، ولا يأتيهم قضاؤه ، فبالحياة هناك إنما يذوقون آلام الموت ، وبالموت يحرمون آمال الحياة.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) :

إن التزكي هنا هو التطهر عن كافة التعلقات بما سوى الله ، بالنفس والنفيس ، وبالأهلين ، التعلقات المادية والمعنوية ، إلّا ألّا يؤصّلها ، وإنما يتذرعها إلى الله دون أن يحسب لها حسابا إلا هذا الحساب ، فلو أمكنه تحصيل مرضاة الله بغيرها لرفضها ، ولم ينظر إليها أبدا ، فهو ـ إذا ـ يعيشها ليعيش مع الله حياة طيبة.

قد أفلح المتزكي هكذا ، فالتزكي هو الوسيلة الوحيدة لإفلاح السبيل ، ونجاح الدليل ، ف «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء» عن الإمام الرضا عليه السّلام.


(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) :

فبما أن الصلاة معراج المؤمن ولقاء الله ، فهي للتحلية والتجلية ، فلا بد لها قبلها من تزكية وتخلية ، ثم لا بد للصلاة من افتتاحية تعلن أن صاحبها تزكى : وعلّها تكبيرة الإحرام «الله أكبر» : أكبر من أن يوصف ، فلا كبير معه حتى يكون هو الأكبر ، وإنما أكبر من أن يوصف ، ثم رفع اليدين عندها إلى شحمتي الأذنين ، إنه يعلن حقيقة التكبيرة : أنها جعل ما سوى الله وراءك ظهريا ، ثم أن توجه وجهك للذي فطر السماوات والأرض.

ومن ذكر الرب ـ وأفضله ـ البسملة مفتتح الحمد ، فالصلاة بلا تكبيرة وبسملة ، دخول في الدار ، دون استئذان واستئناس من صاحب الدار!

هذا ـ والمروي عن الرسول الأقدس يوافق الآية شمولا لأصناف الزكاة والصلاة ، وعلى حد قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله ، وذكر اسم ربه فصلى : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بمواقيتها(١)» فإذ يفسرها صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أيضا ـ بزكاة الفطرة وصلاتها أو الصلاة على الميت ، يعني به تفسير المصداق (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٣٦ ، أخرج البزاز وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي (ص) في قوله : قد أفلح من تزكى ، قال : ..

(٢) المصدر عن النبي (ص) أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية.

وفي نور الثقلين ٥ : ٥٥٦ من لا يحضره الفقيه : سئل الصادق (ع) عن هذه الآية فقال : من أخرج زكاة الفطر ، قيل له : وذكر اسم ربه فصلى ، قال : خرج إلى الجبانة فصلى» أقول يحتمل الصلاة على الميت وكذلك صلاة الفطر.


(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى. إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) :

بل تؤثرون الحياة الدنيا على الحياة العليا ، وهي تمنع العباد من سخط الله ، وعلى حد قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم ، فإذا آثروا صفقة دنياهم ثم قالوا : لا إله إلا الله ردت عليها وقال : كذبتم» (١).

ثم إن الصحف الأولى ، ومنها صحف إبراهيم وموسى ، إنها تصدق ما في هذه السورة من أن ربوبية الرب بالنسبة لرسولنا الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هي أعلى الربوبيات بين حملة الرسالات ، مسبّحة مقدسة في كتابات الوحي من قبل كما فصلناه في كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) ، كما وأن عدم نسيان القرآن وتيسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمر الرسالة ، هما في الصحف الأولى ، وما يروى أن

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٤٠ ، أخرجه البيهقي في شعب الايمان عن أنس قال : قال .. ، وفيه أخرج عن ابن عمر أن النبي (ص) قال : لا يلقى الله أحد بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلا دخل الجنة ما لم يخلط معها غيرها ـ رددها ثلاثا ـ قال قائل من قاصية الناس : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما يخلط معها غيرها؟ قال : حب الدنيا ، وأثرة لها ، وجمعا لها ، ورضا بها ، وعمل الجبارين.

وفيه أخرج أحمد عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله (ص) قال : من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى.

وفيه عن عائشة عنه (ص) قال : الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له ، وفيه عن الحسن قال : قال رسول الله (ص): حب الدنيا رأس كل خطيئة.

وفي نور الثقلين ٥ : ٥٥٧ عن علي بن الحسين (ع) «الدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة وأمل لا يدرك ورجاء لا ينال».


الآيات الأربع الأخيرة هي في الصحف الأولى ، هو من باب التطبيق (١) ، فالمشار إليه هو كل ما في السورة ، وكما عن نفر من أصحاب النبي والتابعين (٢).

ثم القرآن بصورة عامة ، فيه نسخة ما في الصحف الأولى (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) ، وعلى حد قول علي عليه السّلام : «فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام» (٣).

ولا يعني أن القرآن ترجمة لهذه الصحف ، ولا سيما الموجودة منها الآن ، لأنه يكذب شيئا كثيرا من محرفاتها وخرافاتها الدخيلة ، ويصدّق بعضا تكميلا له أو نسخا وكرمز للخلود(٤).

__________________

(١) كما في الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله الله (ص) هل أنزل عليك شيء مما في صحف ابراهيم وموسى؟ قال : يا أبا ذر! نعم (قَدْ أَفْلَحَ ... وَأَبْقى ـ إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

(٢) كابن عباس وسعيد بن المسيب والسدي وأبي العالية وقتادة وعكرمة كما في الدر المنثور ٦ : ٣٤١.

(٣) نور الثقلين ٥ : ٥٥٨ ح ٢٢٨ مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) عنه (ع).

(٤) تجد تفصيل البحث عن نسبة القرآن إلى الصحف في كتابنا (المقارنات) من ص ١٤٧ جوابا عن شطحات الحداد ، وتجده أيضا في طيات الآيات المناسبة.


سورة الغاشية ـ مكية ـ وآياتها ست وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣)


فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

* * *

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) :

الغاشية ـ جمعه غواش ـ من أوصاف الساعة ، مبالغة في الغشي : الستر الشامل ، والساعة تغشى الناس حشرا : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (١٨ : ٤٧) كما تغشاهم إماتة في قيامتها : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٤ : ١١) وتغشى الكفار منهم عذاب النار : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) (٧ : ٤١) ، وفي غاشية الحشر :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) :

تقسيم ثنائي للذوات الشريرة والخيّرة ، فالوجوه هنا هي الذوات ، حيث الضمائر والصفات والأفعال الراجعة إليها ، لا تناسب إلا الذوات (١) ، عبّر عنها بالوجوه لا تجاهها نحو العرض والحساب ، واستقبال الساعة لهم بوجوهها كلها.

ثم هذه الوجوه تشمل وجه الظاهر والباطن ، ومن الباطن : وجه العقل والصدر والقلب والسر والخفي والأخفى ، وجوه سبعة تغشاها الساعة ، فهي ـ كلها ـ خاشعة : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) (٤٢ : ٤٥).

__________________

(١) فالخشوع وصلي النار والسقي من عين آنية وصلي النار الحامية ، وطعامهم ، ثم الراضية ، وعدم سماع اللاغية .. كل ذلك لا يناسب إلا الذوات.


والخشوع هو الضراعة سواء في الظاهر أو الباطن ، ما لم يقرن بما يدل على الأول ، وإن كان هو الأكثر استعمالا ، إذا فغاشية الساعة تغشى الوجوه كلها فتصبح خاشعة كلها.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) :

عاملة عملت في دنياها لهواها ، وهنا تحصد نصبها وتعبها ، وعاملة تعمل يوم الغاشية ، متعبة نفسها لخلاصها ، ولات حين مناص ، ومضى دور الخلاص ، فقد مضى دور العمل والأمل ، فلا أمل ولا عمل ، وهي بعملها يوم الدنيا ، هنا وقود للنار تصلاها :

(تَصْلى ناراً حامِيَةً) :

توقد نارا قدّمها من قبل ، وهي ذات حمى : «ولادة وإيلادا» : ولدت من الجواهر المحمية ، من جواهر ذواتها الشريرة ، وتولد حمى : حرقة حاسمة ، لا تبقي ولا تذر. لوّاحة للبشر ، وكما حمت يوم الدنيا في جحيم ذواتها ، وأحرقت ضميرها وفطرتها ، جوّها ومجتمعها!

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) :

عين بلغت إناها لشدة غليانها ، حامية آنية : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٥٥ : ٤٤) (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (٤٧ : ١٥).

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) :

لا يطعمون إلا الضريع ، فما هو الضريع؟ نقول : إنه من الضراعة ، فطعام أهل النار يضرعهم ويذلهم ويبكيهم ، بدل أن يفرحهم ويغنيهم ، ومن المضارعة :


المشابهة ، فإن طعامهم يشبه الطعام وليس به ، ولذلك لا يسمن ولا يغني من جوع ، وهما الأصلان في خواص الطعام ، فليس الضريع طعاما من سنخ واحد ، وكما أن وصفه هنا يشهد ، وكما اللغة تشهد ، فإنها لا تعرف طعاما خاصا اسمه ضريع ، وكذلك سائر القرآن يشهد ، إذ يذكر لهم أطعمة عدة كلها ضريع بمعنييه ، كالزقوم : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٤ : ٤٦) وغسلين : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٦٩ : ٣٦) (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) (٧٣ : ١٣) غصة وغم في أرواحهم ، وغصة في الحلقوم ، فطعامهم كله ذا غصة ضريع ، لا يسمن ولا يغني من جوع ، كما أن كله غسّاق : (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) (٧٨ : ٢٥) يغسق ويظلم على آكله حياته ، ويحبّذ إليه مماته : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) :

لم يعطف الوجوه الناعمة على الخاشعة للبون البعيد بينهما ، وعدم الانعطاف بينها وبينها ، فهذه ناعمة ناضرة ضاحكة مستبشرة مبيضة ، وتلك خاشعة مسودة باسرة عليها غبرة ترهقها قترة (١) ، فأين وجوه من وجوه! وكيف يعطف بينهما وإن في التعبير؟

هذه ناعمة : ظاهرة البهجة والسرور ، من النعومة : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) وناعمة : متنعمة يبدو عليها النعيم ، ويفيض منها الرضى :

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) : راضية عما سعت ، مرضية لربها ، فهي عاملة في دنياها ، راضية في أخراها ، دون نصب وتعب ، خلاف العاملة الناصبة.

__________________

(١) كما في الآيات ٣ : ١٦ و ٧٥ : ٢٤ و ٨٠ : ٤٠.


(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) : كلمة ذات لغو ، فالنار فيها كل كلمة لاغية ، يتلاغى أهلها فيها ، والجنة خلو عن أية لاغية ، يتلاقى أهلها مع بعض ومع خزنتها بكل حنان واحترام ، كلماتهم حكمة ، وحركاتهم حكمة ، ولأنهم دخلوها بالمعرفة والحكمة ، فليست هي إذا مكان اللهو واللغو والغفلة عن الله ، ولا التحرر عن قيود العقل والإيمان والمعرفة ، رغم أنها ليست بدار التكليف ، فالواجبات التي هي لزام العبودية والمعرفة ، والمحرمات التي تنافيها ، إنها تبقى على حالها في الجنة ، ولكنها تطبّق هناك دون تكلّف وبلاء ، وإنما الابتلائية منها والامتحانية ، هذه هي التي تترك فيها ، إذ لا بلاء هناك ولا تكليف ، ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ولكن أهلها لا يشتهون الظلم والضيم ، ولا يلتذون بالمحرمات الذاتية ، لأنهم ظهروا على الحقائق كلها وظهرت لهم ، وأنها ليست دار التزاحم واللااطمئنان : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (٤٤ : ٥١) (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٤٧ : ٣٦) فلا أضغان تدفع إلى المنافرات ، ولا تزاحم ينافي الأمن ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١٥ : ٤٧).

فهذه هي الجنة العالية ، وليست دانية فيها الرذالات وجماع العادات والتصرفات السيئة ، أن أهلها تركوا المحرمات لفترة قصيرة يوم الدنيا ، ولكي يتحرروا فيها لغير النهاية! وتفصيل هذا البحث إلى محالها المختلفة في طيّات الآيات.

هذه هي اللذة الروحانية في جنة الرضوان ، ثم تتلوها الجسدانية في جنة النعيم :

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) :

عين جارية : جنسها ، وليست صنفا خاصا ، أو عينا واحدة ، وإنما ينابيع


متدفقة من تسنيم وسلسبيل ، والماء الجاري يجاوب الحسّ بالحيوية ، والروح بالانتفاض والانقباض ، والسرر المرفوعة لها جمالها وجلالها ، والأكواب جمع كوب : قدح لا عروة له ، رمزا إلى سعتها ، ولأن العروة تجمع القذارات تحتها ، وليست جمع الكوبة : الطبل الذي يلعب به ، فليس في الجنة لغو ولا تأثيم ، والنمارق هي المساند. مصفوفة بعضها إلى بعض. والزرابي هي البسط الفاخرة ، مبثوثة منتشرة على أرض الجنة ، للزينة والراحة سواء.

فهذه هي البعض من أثاث بيت الجنة ، فيها اللذة كلّها ، والراحة تمامها ، والمتعة بكاملها ، دون تعب وعناء ، أو شغب وشقاء.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) :

حض النظر إلى ما حضر لعرب البادية ، وليس إلا الإبل التي يعيشها ، والأرض التي يطؤها ، والجبال التي يراها ، والسماء التي فوقه ، قطعا للأعذار ، وتقريبا للأنظار ، فلا أحد إلا ويعيش براهين على وجود الله تعالى ، لا يستطيع التحلل عنها ، حتى عرب البادية الذين يعيشون أنفسهم بآبالهم ، وهي كل ما يملكونه حياتهم ، ومن الغريب أنها أكمل الحيوان وأنفعه وأجمعه لصالح المعيشة والراحة :

فهي ركوبهم بأحمالهم ، ومنها شرابهم وإدامهم ، ومن أوبارها وجلودها ثيابهم وفرشهم : كمواد أولية للحياة ، ثم إن لها خصائص تخصها بين الحيوان : فهي على عظم منافعها قليلة التكاليف ، صابرة على الجوع والعطش والكدح ، تأكل ما لا يأكله سائر الحيوان ، وهي على قوتها وضخامتها ذلول يقودها الصغير فتنقاد له ، وتنهض بحملها وهي باركة ، بخلاف سائر الحمولة ، وبإمكانها الصبر على الجوع والعطش لمدة أسبوع ، وأن تمشي يوميا خمسين فرسخا ، تمشي في


الرمضاء ، وفي الثلوج المغطية للطريق ولا تضل الطريق ، حتى وفي الليلة الظلماء ، ولا تنسى الطريق الذي مشته لمرة واحدة ، وعنقه كسلّم يمد ركابها وهي قائمة ، ففيها جماع ما في مختلف الحيوان ، وزيادات تخصها ، فلا عجب أن تعد في عداد الأرض والجبال والسماوات ، من آيات الله البينات ، التي تدل على وجوده وقدرته وحكمته ، وأن وراء الكون إرادة وتصميما ، دون صدفة ولا فوضى.

فليست الإبل آية لأصحاب الإبل فحسب ، وكما القرآن لا يختصهم بها ، بل هي آية لهم ولمن سواهم أن ينظروا إليه كيف خلقت؟ هذه الكيفية العجيبة الفريدة بين سائر الحيوان ، ما يحق لها أن تفرد بمؤلف ضخم ، علّنا نعرف البعض من عظمة هذه الخلقة العجيبة.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) :

وأولى الناس بالنظر إلى السماء هم سكان الصحراء ، كيف رفعت بلا عمد؟ وكيف انفصل دخانها عن مادتها الأولية المضطرمة؟ وكيف اقتسمت إلى السبع؟ وكيف نثرت فيها النجوم بلا عدد ولا عمد ، وكيف وكيف ، مما يتطلب سماء واسعة من البحث والتنقير ، ليعرفنا على أوسع مما نعرف من حكمة الخبير البصير.

(وَإِلَى الْجِبالِ) مختلف الجبال (كَيْفَ نُصِبَتْ)؟ مما سقطت عليها من على السماء ، وما تدفقت عليها نتيجة البركانات ، وما تجمدت عليها إثر الأمواج الناتجة عن دوران الأرض واصطكاكها بالفضاء المجاور البارد ، وكما سئل علي عليه السّلام «مم خلقت الجبال؟ قال : من الأمواج» وعلها تعم الأمواج الجوية السماوية ،


والجوفية ، وكذلك السطحية الأرضية ، فالأمواج ـ إذا ـ تشمل كل صنوف الجبال :

فمن الجبال ما هي في دور الطفولة كجبال (الأنديس) بأوروبا ، ولا تزال ترتفع وتنمو كأنها حيوان ، وكجبال (الألب) ، ومنها ما بلغ أشدّه كجبال (البرنيس) بأوروبا ، ومنها ما شاخت وهرمت كجبل (المقطم) بمصر ، وجبال (الفوزجيش) ومنها ما أخذت سبيلها إلى الفناء ، كجبال (وايلس) بأوروبا ، ومنها ومنها .. وكل هذه لا تخلو عن أنها خلقت من الأمواج ، أمواج البراكين والفيضانات ، وأمواج الدوران الأرضي ، وأمواج الأمطار السماوية ، من المواد الحجرية ومن الأحجار ، ومن الأمواج البحرية ، وكما يقول العلم الحديث : إن الجبال تخلق أولا في البحر ، وكما يرى في بعض الجبال مواقع ومحار وأنواع الصدف وعظام السمك ، مما يدل أنها خلقت في البحار ، ثم يبست أو انتقلت مياهها فبرزت.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : جعلت سطحا يمشى عليها ويسكن فيها ولم تكن مسطحة قبله ، إذ كانت محترقة ملتوية شموسا لا تذل لراكب ، ولا تحن لعائش ، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها ..).

ومن الناس من يخيّل إليه أن سطح الأرض ينافي وكرويتها ، وإن هو إلا نظرة سطحية قاصرة ، حيث السطح هنا مقابل الشماس غير الذلول ، والمنقبض أكنافه غير الباسط ، فهل يا ترى إنه السطح مقابل الحجم؟ ـ مهما كان الحجم كرويا أم سواه ـ فكيف بالإمكان أن يجعل الحجم ـ هكذا ـ سطحا؟ كلا ، إنه السطح عن الانكماش والانقباض ، انقباضا حراريا ومن حيث الميعان ، وانقباضا يعني عدم التسوية والصلوح للسكن ، فقد سطحها بعد انقباضها ، وذللها بعد شماسها : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ).


(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) :

فذكّر بالآيات الآفاقية والأنفسية ، وبالآيات القرآنية التي تضمها وزيادة ، فذكّر ، فليست حياتك الرسالية إلا تذكيرا ، وبالتبشير والإنذار ، ليست لك سيطرة تشريعية تسن الأحكام ، ولا تكوينية تهدي من تحب ، أو تجبرهم على الهدى ، ف (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (٥٠ : ٤٥) وإنما الجبار المصيطر هو : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) (٥٩ : ٢٣) (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦ : ١٠٧) ، فلا أنت مصيطر جبار ، ولا وكيل عن المصيطر الجبار ، إنما أنت رسول ، وليس لك إكراه الناس على الإيمان ، فليس الإيمان بالذي يكره عليه ، ولا أنت قادر عليه : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (١٠ : ٩٩) فأولا وأخيرا ، (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) (٢ : ٢٧٢) وإنما عليك ذكراهم : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (١٣ : ٤٠) : لا تملك من أمر قلوبهم شيئا حتى تقهرها على الإيمان ، فإنما القلوب بين أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء.

فذكّر وداوم في ذكراك (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) فإنه لا تنفعه الذكرى ، فذكر إن نفعت الذكرى و (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) وليست إلا سيطرة الجهاد والدفاع : (العذاب الأصغر) لا العذاب الأكبر : (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) : بعد ما يعذبهم بك ، وبالقائم المهدي من ذريتك ، وبمن معكما وبينكما من المناضلين ، يعذبهم بكم العذاب الأصغر ، ثم يعذبهم في البرزخ العذاب الأوسط.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) :

فليس إياب الخلق إلّا إليه ، ولا حسابهم إلّا عليه ، وأنت المذكر ، لست


إلا إياه ، وعلى حد قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) وغيره يؤوّل أو يضرب عرض الحائط (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٤٣ ، أخرج الأعلام عن جابر قال : قال رسول الله (ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، ثم قرأ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

وعن علي (ع) جوابا عن كيفية الحساب : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال : كما يرزقهم على كثرتهم ، قيل : فكيف يحاسبهم ولا يرونه؟ قال : كما يرزقهم ولا يرونه ، (نهج البلاغة).

(٢) في زيارة الجامعة عن الامام الجواد (ع) «وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم» (وفي معناها روايات عدة كالمروي) عن الامام موسى الكاظم (ع) أنه قال : يا سماعة إلينا إياب هذا الخلق ، وعلينا حسابهم ، فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله عز وجل حتمنا على الله عز وجل في تركه لنا ، فأجابنا إلى ذلك ، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم فأجابا إلى ذلك وعوضهم الله عز وجل.

وعن الامام الصادق (ع): إذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا فما كان لله سألنا الله أن يهبه فهو لهم ، وما كان لنا فهو لهم ثم قرأ الآية : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (نور الثقلين ٥ : ٥٦٨ ـ ٥٦٩).

أقول : آخر المطاف في تأويل أمثال هذه الأحاديث أنها تعني إثبات الشفاعة لهم (ع) فهناك إيابان وحسابان : أصل وفرع ، فالأصل لله ، والفرع لهم بإذنه ، كما فصلناه في أبواب الشفاعة ، وأما القول «حتمنا على الله» فتأويله رده ، تأمل.


سورة الفجر ـ مكية ـ وآياتها ثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ


دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

* * *

(وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) :

الفجر هو الشق الواسع ، سواء في الخير أو الشر ، ومنه الفجور فإنه شق واسع لستر العفاف ، ومن شقّه الخيّر شقّ ظلام الليل واسعا يتبين كخيط أبيض من الخيط الأسود ، ثم يتوسع إلى انمحاء ظلم الليل تماما ، فالفجر ـ إذا ـ ساعة تنفس الحياة في يسر وعافية : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (٨١ : ١٧) ففرح وابتسامة ، كأن تفتحه ابتهال بدلال!

فما هو الفجر هنا؟ إنّه هو كلّ فجر من كل ليلة ، وفجر شمس الرسالة




المغرب) وشفعها الصلوات الشفع (الرباعيات) وصلاة الشفع (ركعتا الليل) (١).

والوتر بين الأيام ثالث أيام التشريق ، والشفع الأوّلان : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى)(٢) (٢ : ٢٠٣).

والوتر بين الأوصياء الأوفياء هو علي عليه السّلام ، والشفع الحسنان ـ عليهما السلام ـ (٣).

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) : إذا يسري في الظلمة ابتعادا عن النور ، ثم يسرى إلى النور بعدا عن الظلمة ، ونهاية المطاف هو النور ، فإن للحق دولة وللباطل جولة.

فالمراد بسرى الليل دوران فلكه ، وسيران نجومه حتى يبلغ غايته ، ويسبق في قاصيته ، ويستخلف النهار موضعه ، وعلّ الليل هنا هو من الليالي العشر ، كليلة العاشور ، وليلة القدر ، وليلة النحر (٤) ، فإنها تسري ، وتنتج آخر المطاف نهار الضياء اللامع.

__________________

(١). الدر المنثور ٦ : ٣٤٦ عن عمران بن حصين أن النبي (ص) سئل عن الشفع والوتر فقال : هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر.

(٢). الدر المنثور ٦ : ٣٤٦ أخرجه ابن جرير عن جابر أن رسول الله (ص) قال :. أقول : وقد وردت روايات أخرى في تأويل الشفع والوتر كلها من باب التطبيق ، تشملها الآية الكريمة.

(٣) رواه القمي في تفسيره.

(٤) البرهان ٤ : ٤٥٧ عن الباقر (ع) أنه ليلة الجمع وهو النحر ، إذ يجتمع فيه المفيضون من عرفات في المزدلفة ، ثم إلى منى للنحر.


(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) :

(لِذِي حِجْرٍ) : ذي عقل (١) يحجره عما ينافي العقل ، وهو يحجر ما يعقله العقل ، هل في ذلك ـ الأقسام الشاملة للكائنات كلها ـ قسم للعقلاء؟ أجل! وتمام القسم!.

فلقد أقسم الله هنا بالمختلفات : بالفجر ، فمنه صادق ومنه كاذب (٢) ، وبالليالي العشر : الظاهرة في الظلام ، الباطنة في النور ، فهي على ظلمها خير من الفجر الكاذب ، وبالشفع والوتر : حقه وباطله ، وبالليل إذا يسر : يسري لكي يزداد ظلما ، ثم يستقبل الفجر فوضح النهار : هل في ذلك قسم لذي حجر؟.

قسما بهذه وتلك .. إن ربك لبالمرصاد ، فكن ذا حجر تحجر ما ينفعك لحشرك ، وتهجر ما يضرك (٣).

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) :

فمن هم عاد؟ وما هي إرم ذات العماد؟

إن عادا ـ هنا ـ هم عاد الأولى ، قوم هود عليه السّلام : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٣ : (٤) ٥٠) ، ولا نعرف عن الثانية شيئا ، ثم أصلهم هو عاد بن عوص ابن إرم بن سام بن نوح ، وقد أنذرهم أخوهم هود بالأحقاف : بلاد الرمال :

__________________

(١). نور الثقلين ٥ : ٥٧١ عن الباقر (ع).

(٢). الكاذب هو المستطيل طولا كذنب السرطان ، والصادق هو المستطير عرضا في أفق السماء ، فهو مبدأ النور ومبدأ أحكام شرعية.

(٣). ألم تر ـ إلى ـ عذاب : جملة معترضة يستعرض ماضي العصيان من عاد وفرعون وثمود ، أكبر حمقاء الطغيان.




(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) : وهذه من مكشوفات الاستعارة ، يعني بها العذاب المؤلم ، والنكال المرمض الممرض المرضض ، حيث السوط سبب للعقوبات الواقعة ، فإذا صبّ عليهم كان أمض وأوقع.

أو أن السوط هنا مصدر يعني أوقع عذاب يخالط الجسوم بالدماء واللحوم ، فيسوطها سوطا إذا حرّك ما فيها وخلطه.

فحين يذكر السوط نذكر لذع العذاب ، وبالصب فيضه وغمره ، اجتماع الألم اللاذع ، والغمرة الطاغية ، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ، فهذا سوط العذاب ، فكيف بنفس العذاب الذي يرقبهم يوم يقوم الأشهاد :

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً. لِلطَّاغِينَ مَآباً) وربك يرصدهم عليها ، وقد ينالهم يوم الدنيا سوط منها ، يرقبهم يرصدهم ولا يخفى عليه منهم شيء في الأرض ولا في السماء ، ف (لا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) «ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه وهو له بالمرصاد ، على مجاز طريقه ، وبموضع الشيحا من ساغ ريقه» (علي عليه السّلام).

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) :

تنديد بما يخيّل إلى جهال الناس أن السعة في الحياة إنعام وإكرام ، وضيقها مهانة وابتلاء ، فلو بسط الله له في الرزق ظنه إكراما باستحقاق ، مهما كان بعيدا عن طاعته ، رغم أنه بلاء ـ ومن أشد البلاء ـ وليس جزاء : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ


بَصِيرٌ) (٤٢ : ٢٧) ولو قدر عليه رزقه لظنه بلاء وابتلاء ومهانة ، مهما كان في طاعته ، وهو أخف البلاء ، والحياة الدنيا كلها بلاء ، ما يلائم طبع الإنسان وما ينافره ، وهذا باب من التضليل يضل فيه الكثير ممن لا يعرفون الله ، ولأن الدنيا دار عمل ولا حساب ، والآخرة دار حساب ولا عمل ، فكم من مطيع لله يضيّق عليه لكي لا يطغى ، وليبل ببلاء أخف وأدنى ، فنراه يترك الطاعة إلى المعصية إذ يحسبه مهانا في طاعة الله! وكم من عاص موسّع عليه بلي به كبلاء شديد ، يظنه مكرما في معصية الله ، فيزداد عصيانا وطغيانا ، رغم أنه إمهال وإملال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣).

لذلك ترى المؤمنين ـ على الأكثر ـ يبلون ببلاء أخف : ضيق المعيشة ، والكفار بما هو أصعب : سعة الرزق ، ونرى من يسقط في بلاء السعة ، أكثر بكثير من الساقطين ببلاء الضيق : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢١ : ٣٥) وإن بلاء الشر خير من بلاء الخير ـ ما تحسبه خيرا ـ : من السعة ، وما تظنه شرا : من الضيق!

هنا نلمس لطافة التعبير في ابتلاء الإكرام بالنعمة ، وابتلاء غير الإكرام بالضيق ، أنه ليس في قياس الواقع ، إنما كما يظنه الإنسان ، ولذلك يفنّد كلا التصورين أخيرا :

* * *




إنها آية متشابهة ترد إلى محكماتها ك : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤٢ : ١١) (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢٠ : ١١٠) : ما تصرح أن لا انتقال له مكانا ولا زمانا ولا حيطة ولا علما ولا قدرة ، فإنها من صفات المخلوقين.

ثم هي تفسّر بنفسها لمن هو أعمق في النظر ، وعلى حد قول الإمام الرضا عليه السّلام : «المتشابه ما اشتبه علمه على جاهله» وأما عالمه فلا يشتبه :

فإن الفعل ـ أيّ فعل ـ من أقرب القرائن للمعني من فاعله ، كما الفاعل ـ أي فاعل ـ قرينة على المعني من فعله ، فإذا نسب المجيء إلى من يطير أو يمشي ، فهو المعني منه ، وإذا نسب إلى ما لا يطير أو يمشي قطعا للمسافات ، فالمعني كما يناسبه ، ك «جاءت فكرة صديقي إلي وذهبت فكرتي إليه» : فهذا انتقال غير مكاني ، وفيما إذا نسب إلى المجرد عن هذا وذاك ، لتجرد ذاته ، وعدم انتقال ـ أو تكامل ـ صفاته ، إذا يجرّد مجيئه عما يناسب المخلوقين إلى ما يناسب ساحة الربوبية ، كمجيء أمره بالحساب والجزاء ، فلقد كان هذا الأمر شأنيا موعودا يوم الدنيا ، ثم يتحقق يوم الجزاء ، وهذا هو مجيء الرب ، لا بذاته ، ولا بعلمه وقدرته ، إنما بربوبيته ، فهو ربّ يوم الجزاء ، كما كان ربا يوم الدنيا ، إلا أن ربوبيته يوم الجزاء هي الجزاء ، وفي يوم الدنيا هي التدبير والتكليف ، فانتقال شأن الربوبية من وعد الجزاء إلى واقع الجزاء ، يعبّر عنه بمجيء الرب ..

وكما الآيات توحي : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٠ : ٧٨) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) (١٦ : ٣٣) ، فإتيان الرب الإله بأمره هو المعني هنا وهناك ، وإتيانه بذاته ليس إلا اقتراح المشركين وانتظارهم: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً


إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (٧ : ١٥٨) :

وهكذا يكون دائما دور الصفات والأفعال المنسوبة إلى الله تعالى ، أن لزامها تجريدها عما للمخلوقين من أفعال وصفات ، تسبيحا لذاته وأفعاله وصفاته عما للمخلوقين : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

(وَجاءَ رَبُّكَ) بأمره (وَالْمَلَكُ) حاملين أمره لتحقيقه (صَفًّا صَفًّا) : جنود مصطفون مصطفّون (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) :

هل إن مجيء جهنم هو بروزها؟ : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٢٦ : ٩١) (.. لِمَنْ يَرى) (٧٩ : ٣٦) ولأنهم كانوا في غفلة منها وغطاء : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) .. أو أنه مجيء عذابها : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (٨١ : ١٠) بعد أن لم تكن مسعرة؟ أو أنه مجيئها من مكان إلى مكان؟ كلّ محتمل ، والكل أجمل ، رعاية الجمع بين شاهد القرآن والسنة (١).

__________________

(١) فمن القرآن الآيتان ، ومن السنة ما عن أبي سعد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية تغير وجه رسول الله (ص) وعرف حتى اشتد على أصحابه ما رأوا من حاله ، وانطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالب فقالوا : يا علي! لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله ، فجاء علي (ع) فاحتضنه من خلفه وقبل بين عاتقيه ، ثم قال : يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم؟ قال : جاء جبرائيل فأقرأني : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال : فقلت : يجاء بها؟ قال : يجيء بها سبعون ألف يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثم أتعرض لجهنم فتقول : مالي ولك يا محمد! فقد حرم الله لحمك علي ، فلا يبقى أحد إلا قال : نفسي نفسي ، وان محمدا يقول : أمتي أمتي (الدر المنثور ٦ : ٦ : ٣ ، أخرجه ابن مردويه عن الخدري عنه (ص).




فهذا الخطاب ـ إذا ـ مستمر طول الحياة وعند الموت وفي القيامة ، لكلّ أهله ، وكلّ في وقته .. يخاطب المؤمن على طول الخط : في الدنيا لكي يستزيد في رجوعه إلى الله ، وعند الموت والقيامة ليجزي بما قدّم ، ويخاطب الكافر يوم الدنيا ما بقي له أجل للإصلاح ، ثم ينقطع عنه هذا الخطاب إلى خطاب آخر : ، (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ..).


سورة البلد ـ مكية ـ وآياتها عشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠)

* * *


(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ)(١) :

هذا البلد هو مكة المكرمة ، البلد الحرام الآمن ، حسب الشرع والتكوين الإلهي ، أكثر من سواه ، ورغم مكانته الروحية لا يقسم الله به هنا ، وعلّه فقد حرمته بما استحل أهلوه حرمة الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(وَأَنْتَ حِلٌّ) : حلال ـ بهذا البلد (٢) ، وإنما حرمته لأنه البلد الحرام الآمن ، مطاف الموحدين ، ومحرم الرسالة القدسية المحمدية ، فإذا أصبح مطاف المشركين ، ومزار الأوثان ، والرسول حلال فيه : ماله ودمه ، أرضه وعرضه ، إذا لا أقسم به ولا أحترمه ، في حين أقسم به لأنه بلد أمين : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٩٥ : ٣) أقسم ولا أقسم من جهتين ، دون تنافر بينهما ولا تناحر.

أو : لا أقسم به ، تعظيما له فوق العادة ، لا لأنه البيت الحرام ، إنما لأنك حلّ : حال ـ بهذا البلد (٣). فقد كان المشركون يحترمون البيت لحدّ اللاقسم ـ احتراما ـ أو القسم كذلك ، ثم يهتكون حرمتك ، وأنت الأصل في حرمته ، فأنا لا أقسم احتراما لهذا البلد لأنك حلّ : حال ـ بهذا البلد ، ولا أقسم هتكا له لأنك حلّ : حلال فيه مهتوك. فأنت أنت الحرمة كل الحرمة

__________________

(١) لا أقسم هنا كما في أشباهه ، لنفي القسم ، وعدم إعادة (لا) في والد وما ولد ـ وهو قسم ـ فيه دلالة زائدة على نفي القسم.

(٢) عن الصادق (ع) في تفسير الآية : «وأنت حلال منتهك الحرمة ، مستباح العرض لا تحترم ، فلا يبقى للبلد حرمته حيث هتكت.

أقول : وفي معناه روايات متضافرة تفسر الحل بالحلال ، ولا أقسم ، بنفي القسم.

(٣) يبعد معنى الحال للحل ـ لو عني بخصوصه ـ ، فان الحال هو النازل في مكان ، والرسول ما نزل مكة ، وإنما كانت مولده وموطنه ، وان الحلول يعبر عنه بما هو أخصر ، ك (وأنت في هذا البلد).


لهذا البيت ، وكثير هؤلاء الحهال الذين يحترمون الزمان ولا يحترمون صاحب الزمان ، ويكرمون المكان ولا يكرمون من به كرامة المكان!.

صحيح أن مكة لها حرمتها فوق البلاد كلها ، لكنها ليست إلا لأن يعبد فيها ربها ويكرم رسوله ، وتحل مقامة فيها رسالته ، وأما إذا كانت مهتوكا فيها حرمة الله ورسوله ، فهل يا ترى تبقى حرمته ، لأحجار وضعت فيها فوق بعض ، وأوثان علّقت عليها ، ومكاء وتصدية وأمثالها من فضائح!.

أو : وأنت حلّ : حرّ ـ بهذا البلد ، تفعل فيه ما تشاء بالمشركين ، الذين استحلوا حرمته وحرمتك ، وقد تكون الثلاثة مرادة (١) وما أجمعها وألطفها كما هو دأب القرآن ، ويعني من حلّه عليه السّلام حريته بما يفعل بالمشركين بعد فتح مكة ، فلا أقسم به : لا أحترمه ، وأنت خارج عن عقدك الماضية ، حرّ فيما تريد بأهله (٢).

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) :

لا أقسم بهذا البلد ، وإنما أقسم بمن به حرمة البلد : (والِدٍ وَما وَلَدَ) : آدم ومن ولدهم من النبيين (٣) ، ابراهيم وولده المعصومين ، محمد وولده الطيبين من صلبه : فاطمة والأئمة الأحد عشر ، من الحسن عليه السّلام إلى القائم عليه السّلام ،

__________________

(١) وعلى الثالث : فالواو استئنافية ، بخلاف الأولين إذ كانت فيهما حالية ، وهنا روايات مستفيضة تؤيد الثالث.

(٢) كما عن سعيد بن جبريل قال : لما فتح النبي (ص) الكعبة أخذ أبو برزة الأسلمي سعيد بن عبد الله بن خطل فضرب عنقه وهو متعلق بأستار الكعبة ، فأنزل الله : «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» وهو أحد الأربعة الذين لم يؤمنهم النبي (ص) ، وروي مثله في معنى الحل عن مجاهد وأبي صالح وقتادة وعطية والحسن والضحاك وعطاء وابن زيد وابن عباس.

(٣) رواه في مجمع البيان عن الصادق (ع).


أو من هو وليد عقله الرسالي : علي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكما قال : ولّدني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وبمناسبة الحال ، وأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو مجمع معاني الوالد الروحي ، وولده مجامع فضائل الولادة الروحانية ، قد يكونان هما المعنيان من : (والِدٍ وَما وَلَدَ) ويجري في غيرهما من المعصومين جريا على ضوئهما ، فقسما بمحمد وعترته الطاهرين المكابدين الكادحين :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) :

«كبد» : مشقة ، فالإنسان مخلوق في كبد وكدح وكدّ (١) وهو لزامه حتى الموت ، فإذا رأيت كبدا في هذا البلد ، ما لم يره أحد في تاريخ الرسالات ، فلك الراحة إذ كان في سبيل الطاعة. دون المكابدين الكادحين الذين يعيشون حياتهم كبدا على كبد ، وكدّا على كدّ : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤).

هؤلاء هم! وأما أنت فمهما بلغ بك الكبد ، ومهما تكبدت اتعابا : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ، ولا يبدل كبدك يسرا ما لم تقتحم العقبة والعقبات عبر الرسالات» ، على حدّ قول الإمام الحسن عليه السّلام : لا أعلم خليقة يكابد من الأمر ما يكابد من الأمر ما يكابد من الإنسان ، يكابد مضايق الدنيا والآخرة (٢) ، إن انفصال النطفة من الصلب والترائب يخلف

__________________

(١). الكبد معروفة ، والكبد والكباد توجعها ، والكبد أصابتها.

(٢). تفسير البرهان ٤ : ٤٦٣ نقلا عن الزمخشري في ربيع الأبرار ، وفي الدر المنثور ٦ : ٣٥٣ ، أخرجه ابن المبارك في الزهد ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه (ع) إلى قوله : «الإنسان».


كبدا للزوجين رغم اللذة حاله ، ثم الخلية الأولى لا تستقر في الرحم إلا بمكابدتها لخلق ظروف ملائمة لحياتها وغذائها ، ولا تزال تمارس كبدها في منازلها حتى تنتهي إلى المخرج فتذوق من المخاض ما تذوقه أمها ، وقد تصل لحد الاختناق في مخرجها من مكابد الرحم إلى مكابد الدنيا ، ثم الكبد لزام الولد بينه وبين الموت ، وبعده الراحة لمن كابد في سبيل الله ، والعاهة لمن كابد في سبيل اللهو.

والكبد هو العظم ـ أيضا ـ فكبد كل شيء عظم وسطه وغلظه ، فالإنسان ـ إذا ـ مخلوق وسط الخلق وكبده عظيما غليظا ، فهو مجبول على شعور العظمة والكبرياء (١) ، كما هو مخلوق في كبد المشقة ، كبد على كبد ، فكلما كانت العظمة أكثر فالمكابدة على قياسها أكثر.

هذا ـ ومع أنه مخلوق من ضعف : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (٣٠ : ٥٤) : من مني يمنى حالة الضعف ، وعلى ضعف : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٤ : ٢٨) ، فهو حكيم الخلق وعظيمه بين الخلق ، وهو ضعيف تجاه التقادير الإلهية ، مهما كان عظيم الخلق!

وقد ينسى الإنسان أو يتناسى كبد المشقة والضعف ، ويعيش كبد العظمة والترف ، فيضل عن واقعه ، فيحسب أن لن يقدر عليه أحد ، وأنه يتغلب المقادير بما له اللّبد :

__________________

(١). ومن هذا الكبد انتصاب قامته بخلاف سائر الحيوان ، كما عن حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : إنا نرى الدواب في بطون أمهاتها أيديها الرقعتين مثل الكي فمن أي شيء ذلك؟ فقال : ذلك موضع منخريه في بطن أمه ، وابن آدم منتصب في بطن أمه ، وذلك قول الله عز وجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) وما سوى ابن آدم فرأسه في دبره ويداه بين يديه (نور الثقلين ٥ : ٥٨٠).


(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) :

واللّبد هو المال الكثير الذي قد تراكب بعضه على بعض ، من لبد الأسد ، وكما تتلبد طرائق الشعر وسبائخ القطن ، أو بمعنى اللزام الدائب ، كأنه من كثرته لا يزول.

فقد يتمنع من الإيمان ، ولأنه أهلك ماله اللّبد في الصدّ عن الإيمان ، وعلى حدّ ما يروى عن علي عليه السّلام بشأن عمرو بن عبدود (١) ، أو مؤمن يمنّ على الله أنه أنفق مالا غزيرا في سبيله ، والإنفاق الحق بلا حساب هو من العقبات التي على المؤمن اقتحامها ولكي يعقّب راحة طويلة.

أيحسب هذا المتفاخر المتكاثر : (أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) إذ أعطى ما أعطى ومنع ما منع ، وصدّ ما صدّ ، بلى إن ربه كان به خبيرا ، بصيرا به وقادرا عليه.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) :

عينان ، علّهما البصر والبصيرة ، فبعين البصر يبصر الآفاق فيحوّل نتائجها إلى منظار البصيرة ، أو هما عينان ظاهران ، وآخران سواهما : عين العقل والفطرة ، وهذا قياس الشفتين ، وبهذه الأجهزة الأنيقة : (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) :

__________________

(١) نور الثقلين عن الباقر (ع) في : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) قال : هو عمرو بن عبدود حين عرض عليه علي بن أبي طالب (ع) الإسلام يوم الخندق ، وقال : فأين ما أنفقت فيكم مالا لبدا ، وكان أنفق مالا في الصد عن سبيل الله ، فقتله علي (ع): «أيحسب أن لم يره أحد ـ قال : في فساد كان في نفسه ..».


نجدي التقوى والطغوى ، الخير والشر (١) : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) والنجد هو المرتفع العالي ، فإلهام الفجور والتقوى ليس بالأمر المخفي ، وإنما كالنار على المنار ، والشمس في رايعة النهار ، فكأنه تعالى بفرط البيان لهما قد رفعهما ونصبهما للناظرين ، لمن له عينان يبصر بهما ويتبصّر.

فهذه هي الهداية التامة : الاهتداء إلى الخير لنطلبه ، وإلى الشر لنخالفه ، وهذا السلب والإيجاب للوصول إلى نجد الصواب ، بحاجة ملمة إلى اقتحام العقبة :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ) :

العقبة هي المرقى الصعب الملتوي من الجبال ، القمم التي عليها النجدان ، فلا بد للإنسان المخلوق في كبد ، أن يكابد في اقتحام العقبة : رميا بنفسه فيها مهما كانت شديدة مخيفة ، فإن أمامها أخوف وأشدّ ، وهي بعد اقتحامها حياة سليمة قاضية على كل كبد وإلى الأبد ، والقمة العليا من هذه العقبة ، هي فكّ رقبة : أن تفك رقبتك من حبائل الشيطان ، ثم تربطها بحبل الرحمان ، معتصما به حياتك : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).

فاقتحم بنفسك ونفسك هذه العقبة القمّة ، لكي تسهل لك سائر العقبات ، وتهون عليك تبعات دنيا الحياة ... تفك رقبتك عن أسر الهوى التي ألهمك الله إياها في نجد البشر ، ثم تواصل في سبيلك إلى الهدى التي ألهمتها في نجد

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٨١ والدر المنثور ٦ : ٣٥٣ عن رسول الله (ص) أنه قال : أيها الناس هما نجدان ، نجد الخير ونجد الشر ، فما جعل نجد الشر أحد إليكم من نجد الخير ، والدر المنثور عن علي (ع) مثله ، والكافي عن الصادق (ع) مثله.


الخير ، ومن الخير أن تحاول في فك رقاب الآخرين أيضا ، فتعيش الفكّ لنفسك ومن سواك ، ولتخلق جوّا حرّا عن أسر الشيطان.

أجل : وإن فك رقبة عما سوى الله وعمن سواه ، هو العقبة ، أو أنه اقتحامها ، فكّ بالاقتحام ، أو فك هو الاقتحام.

فك رقبة ، لا عتقها ، فعتقها عمل فردي لا يطيقه إلا الأقلون ، والفك أعم من الفردي والجماعي ، فالذي يقتحم العقبة بغية هذا الفك ، إذ رآه كافيا لنفسه وسواه فهو ، وإلا كان عليه لزام أن يضم إليه الآخرين ، وإلى طاقاته طاقات الآخرين ، لتحقيق الفك أخيرا ، وفك الرقاب هكذا ، ومن أيسرها عتق الرقيق ، ينتج عن فكها عن النار في دار القرار (١) .. عقبة لو تخطاها لوصل ، ولو تخلفها فشل ، فالإنسان أمام العقبة ، بين مقتحم واصل ، ونائم فاشل ، وأين واصل من فاشل؟ وأين مجاهد مكابد من متساهل قاعد ، ألا فخففوا عن عقبة الآخرة باقتحام عقبة الدنيا ، وعلى حد تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إن أمامكم عقبة كئودا لا يجوزها المثقلون ، فأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة» (٢) وليست العقبات هنا إلا في طريق السالكين ، وعليها يكون بهر الأنفاس ، وشدة الضغاط والمراس ، ثم العقبات في العقبى هي للواقفين عن الحراك ، والسالكين سبل الهلاك ، الذين لم يقتحموا العقبة هناك.

__________________

(١) نور الثقلين عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له جعلت فداك قوله : «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» قال : من أكرمه الله بولايتنا فقد جاز العقبة ، ونحن تلك العقبة التي من اقتحمها نجا ، قال : فسكت (ع) فقال لي : فهلا أفيدك حرفا خيرا لك من الدنيا وما فيها؟ قلت : بلى جعلت فداك ، قال : قوله (فَكُّ رَقَبَةٍ) ثم قال : الناس كلهم عبيد النار غيرك وأصحابك ، فإن الله فك رقابهم من النار بولايتنا أهل البيت.

(٢). الدر المنثور ٦ : ٣٥٥ عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (ص) يقول : ..


(أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) :

(أَوْ إِطْعامٌ) : قد تكون «أو» * هنا للجمع ، في المعنى الجامع للرقبة ، المسبق ، وهي ـ في نفس الوقت ـ للتخير المتدرج : أن غير القادر على فك رقبة يطعم ، فيحسب له حساب الفك (١).

والمسبغة هي شدة الحاجة والرغبة إلى الطعام ، فإن السغب هو الجوع مع التعب فإطعام اليتيم ذي المقربة : القرابة ، والمسكين : الذي أسكنه العدم ، ذا متربة : أسكنه على التراب ، هذا الإطعام هو من العقبة الواجب اقتحامها للوصول إلى نجد الخير.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) :

صبرا عن الشر على نجده ، وصبرا على الخير في اقتحام عقبته ، تواصيا به كعمل جماعي ـ لا فردي ـ به وبالمرحمة : مرحمة الخير على نجده ، وهاتان الطاقتان مع الإيمان ، هي التي يتطلبه اقتحام العقبة ، ومحاولة دائبة في تقدم ، ولكي يصل السالك إلى قمة الخير ..

__________________

(١) نور الثقلين عن الإمام الرضا (ع) في الآية : علم الله عز وجل أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة.

أقول : لحديث السابق دليلنا على الأول ، وهذا يدل على الثاني ، والجمع أجمل فيما يتحمل ، أو أن «أو» * هنا للجمع جمعا بينهما ـ تأمل.


(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) :

الذين عاشوا من الحياة يمينها.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) :

مؤصدة تقصدهم وتأصدهم.


سورة الشمس ـ مكية ـ وآياتها خمس عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥)

* * *

أقسام ثمانية ، ابتداء بمشاهد الكون ، الآفاقية : سماوية وأرضية ، وانتهاء بنفس الإنسان والذي سواها ، تتقدم على حقيقة ناصعة هي المقصود


بالأقسام : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) إيحاء بأن الإنسان نسخة كاملة عن كتاب التكوين ، بإمكانه أن يعتبر في نفسه بما يشاهده في الآفاق ، (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

قسما بالشمس : عامة ، وحين تضحى : ترتفع عن أفقها ، وهي أروق ما تكون في هذه الفترة وأحلى ، وبالقمر إذا تلاها : في طلوعه بعد غروبها ، تلوّا في الإشراق منذ هلاله إلى تبدّره وقبيل انمحائه ، أم في اكتساب النور ، حالا دائبة لا تختص بحال دون حال ، فهو يتلو الشمس بنور طفيف شفيف صاف.

وقسما بالنهار إذا جلّى الشمس كما الشمس تجليه ، حين تصل إلى وسطه فلا تخفى على الناظرين .. وبالليل إذا يغشى الشمس بنهارها ، والسماء والقدرة الخلاقة البانية ، التي بنتها ، والأرض وما حركها وأزالها عن مقرها ، ونفس إنسانية وسواها من أمثالها ، وما سوّاها ، فألهمها : ـ أبلعها وأدغم فيها وعرّفها ـ فجورها وتقواها.

وهل يا ترى إن هذه الكونيات لا تعني ـ في الأقسام بها ـ إلا ظواهرها؟ أجل إنها تعنيها وما يناسب النفس المسوّاة وإلهام فجورها وتقواها ، وعلى حدّ تأويل الإمام الصادق عليه السّلام إذ سئل عن (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) قال : الشمس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم به أوضح الناس عز وجل للناس دينهم (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) : أمير المؤمنين عليه السّلام تلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونفثه رسول الله بالعلم نفثا (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) ذلك أئمة الجور الذين استبدوا بالأمر دون آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وجلسوا مجلسا كان آل الرسول أولى به منهم فغشوا دين الله بالظلم والجور فحكى الله فعلهم فقال : والليل إذا يغشاها (وَالنَّهارِ إِذا


جَلَّاها) : الإمام من ذرية فاطمة صلّى الله عليه وآله وسلّم يسأل عن دين رسول الله فيجليه لمن سأله فحكى الله عز وجل قوله فقال : (النَّهارِ إِذا جَلَّاها)(١).

أقول : ومن هنا يظهر الوجه في اختلاف الماضي (إِذا جَلَّاها) عن المضارع (إِذا (٢) يَغْشاها) : فإن ضحى الشمس المحمدي غشيّ في مستقبل عتيد ، ويستمر : بالليالي الظلماء من دويلات الجور ، وإلى أن يسفر صبح الدولة المحمدية من جديد في زمن القائم المهدي عليه السّلام فإن نهار دولته سوف يجلى شمس الرسالة المحمدية بعد غروبها ، ويجعلها أكثر مما كان وأوسع مما كان «أين محيى معالم الدين وأهله. أين قاصم شوكة المعتدين. أين هادم أبنية الشرك والنفاق!».

قسما بهذه الآيات الكونية ، والمحاولات الإيمانية واللاإيمانية ، وبالسماء معدن الرحمة ، والأرض قابلها : كسماء الوحي وأراضي القلوب الواعية ، وقسما بالنفس والذي سواها ، كنموذج شامل كامل عن كائنات الوجود كلها ، الجامع فيها ظلم الليل المغشّي ، ونور النهار المجلّي ـ قسما بهذه وتلك وهؤلاء :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) :

والمعني من النفس الملهم فجورها وتقواها ـ هنا بين معانيها ـ هو الروح ككلّ ، دون الجسم : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٤ : ١) ولا الأمارة بالسوء : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (١٢ : ٥٣) ولا اللوامة : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٧٥ : ٢) ولا المطمئنة : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٨٩ : ٢٧) وهي كلها من شؤون الروح ، كما القلب والصدر والعقل واللب وأمثالها ، هي

__________________

(١). نور الثقلين ٥ : ٥٨٥ عن روضة الكافي جماعة عن سهل عن محمد عن أبيه عن أبي محمد عنه (ع) ، ورواه القمي عن سليمان الديلمي عن أبي بصير عنه (ع) مثله.


أيضا من شؤونها ، فقد ألهمت النفس الروح فجورها : «النفس الأمارة» وتقواها (اللوامة والمطمئنة ـ العقل).

فهنا النفس بين تزكية وتدسيس ، ففلاح أو خيبة ، ورغم أن فجورها أقرب إليها من تقواها ، وكما توحي إليه آيتها : (فُجُورَها وَتَقْواها) : قربا جسدانيا حيوانيا ، ولكنما العقل ـ وهو الحيوية الإنسانية ـ إنه أقرب إليها كإنسان ، وإن معركة العقل والنفس لهي من العقبات التي لزام الإنسان أن يجتازها فائرا عاقلا ، لا فاشلا جاهلا.

وواقع الفلاح والإصلاح ليس إلا بتزكيتها ، مستجيرا بالله ، وعلى قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وزكها أنت خير من زكاها» (١).

والمزكي الأول للنفس هو المحاول لأن يتزكى ، ثم الله يؤيده في تزكيها : (مَنْ زَكَّاها) : زكى نفسه ، فزكاها ربه ، وكذلك التدسيس على سواء ، وهو من الله الختم وسلب التوفيق ، وكما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

والتزكية هي الإنماء ، والتدسيس هو الإدغال وإدخال شيء في شيء بضرب الاحتيال ، فتزويد النفس بتقواها هو تزكيتها ، وإدغالها هو تدسيسها ، وكلاهما من الإنسان ، ثم من الله كما يناسب عدله وفضله.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٥٦ عن ابن عباس وزيد بن أرقم وأنس وأبو هريرة قالوا : كان رسول الله (ص) إذا تلا هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) يقول : ..

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٥٧ عن ابن عباس سمعت رسول الله (ص) يقول : قد أفلح من زكاها : أفلحت نفس زكاها الله ، وخابت نفس خيبها الله من كل خير.

أقول : فالضمير في «زكاها ودساها» راجع إلى النفس وإلى الله ، من زكاها هو ـ من زكاها الله.


وليؤخذ مثالا لتدسيس النفس قصة ثمود ، في تكذيبها وطغواها والدمدمة الإلهية التي دمرتهم.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها) :

طغوى في قولهم «فكذبوه» * وعمليا (فَعَقَرُوها) والخيبة التي لحقتهم من هذه الطغوى هي الدمدمة الربانية : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ..) (١١ : ٦٨) «إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فكانوا كهشيم المحتضر» (٥٤ : ٣١) وهذه هي الدمدمة ، فجرس اللفظ يوحي بجرس المعنى الواقع.

إن عاقر الناقة كان واحدا هو المنبعث فيهم : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) وصاحبهم الذي نادوه لهذه الجريمة : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٥٤ : ٢٩) : أخذ عنهم سيفهم ونحر ، فرغم أنه وحده كان العاقر الناحر ، ينسب العقر إليهم أجمع.

(فَعَقَرُوها)(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) (٧ : ٧٧) (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) (١١ : ٦٥) (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) (٢٦ : ١٥٧).

فلما ذا ينسب العقر إليهم وهم منه براء؟ لأنهم نادوه ، وأعطوه سيفهم ، وبعثوه للجريمة ، فأشركهم الله فيها وعذبهم بها ، وصاحبهم أشدهم عذابا وأنكى ،


وهو «أشقى الأولين : أحيمر ثمود ، رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة» (١) ، كما أن ابن ملجم أشقى الآخرين على حد قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

__________________

(١) كما في الدر المنثور ٦ : ٣٥٧ عن النبي (ص).

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٨٧ قال رسول الله (ص) لعلي (ع): من أشقى الأولين؟ قال : عاقر الناقة ، قال : صدقت ، فمن أشقى الآخرين؟ قال : قلت : لا أعلم يا رسول الله! قال : الذي يضر بك على هذه ، وأشار إلى يافوخه.


سورة الليل ـ مكية ـ وآياتها واحد وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

* * *


أقسام بشتى الخلق ، وخالقه ، الناحي منحى واحدا هو الصلاح والإصلاح ، لتدل الخلق على وجوب تخلقهم بأخلاق الله ، واتجاههم ـ في مساعيهم الشتات ـ جهة الصلاح والإصلاح ، ولكنما النفوس ـ على شتاتها ـ ليست لتلتقي في سعيها على ملتقى واحد ، وإنما هي صفان يتجهان ، إما إلى الخير أو إلى الشر ، ففي شتات السعي ، وشتات المناهج والغايات والاتجاهات ، ليس إلا النجدين ، خيرا وشرا ، نفعا وضرا.

وعلى الإنسان النابه البصير أن يدرس في شتات سعيه ، من كائنات الوجود ، ويوحّد هدفه واتجاهه إلى الوجهة الموحدة لها ، هي السعي إلى مرضاة الله.

فلندرس من الليل ـ إذا يغشى النهار والأفق ، ويخفي ما فيه ـ ندرس درسه الصالح من إخفاء العيوب ، وغشي النهار لصالح الراحة ، لا من غاسقة إذا وقب ، واستغل ظلامه للشرور.

ولندرس من النهار إذا تجلى : أسفر عن ظلم الليل ـ ندرس درسه الصالح من المحاولة في تجلي الفطرة بصفائها ، فتجلي صاحبها في شتات المجالات الحيوية جلواتها الإنسانية.

ولندرس من ربنا الخالق الذكر والأنثى ، الهادف وحدة الحياة الإنسية من هذين المختلفين المتناحرين حسب البنى والطاقات الجسدانية والعقلية.

لندرس دروس الإعطاء والاتقاء والتصديق بالعقيدة الحسنى والحياة الحسنى ، ولكي نتيسر لليسرى ، ولا نكون ممن بخل واستغنى وكذب بالحسنى فنيسّر للعسرى.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) : نفسه ونفيسه (وَاتَّقى) : في هذا العطاء ما يجب إنسانيا أن يتقى (وَصَدَّقَ) : بالعقيدة والحياة (بِالْحُسْنى) : أحسن مراحل الحياة ، وهي الأخرى. (فَسَنُيَسِّرُهُ) : ذاته وكيانه بأعماله وأحواله (لِلْيُسْرى) :

الحياة الطيبة اليسرى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ


حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦ : ٩٧) ثم ولا أتختص اليسرى بالحياة الأخرى ، فهي تشمل الآخرة والأولى ، ومهما كانت في لأولى مشوبة ، فهي في الأخرى خالصة : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٧ : ٣٢).

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) : العطاء ، (وَاسْتَغْنى) : عن الاتقاء ، وأخذ حريته في حيونة الحياة (وَكَذَّبَ) بالحياة والعقيدة (بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ) : ذاته بماله (لِلْعُسْرى) : حياة قصيرة عسرة ضنك هنا ، ثم حياة دائبة عسيرة ضنك هناك : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ..) (٢٠ : ١٢٤). (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) في تحسين الحياة هنا وهناك (إِذا تَرَدَّى) : سقط من عل في شيطنة الحياة هنا ، وعند العرض والحساب هناك ، فليس المال بمنجّيه من تبعات الأحوال والأعمال ، اللهم إلا الإعطاء والاتقاء والتصديق بالحسنى.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) :

فرض فرضه الله على نفسه : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الرحمة والهدى بوجها النجدين (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) : هدى في العقول والفطر ، وهدى بكائنات العالم ، وهدى بالنبيين والكتب ، وهي كلها هدى الدلالة ، ثم هدى التوفيق لمن آمن واهتدى : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٨ : ١٣).

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) :

فلا يحسبن الذين كفروا أن لهم الأولى يفعلون فيها ما يشاءون ، ف (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١٧ : ١٨) .. وإنما تختلف عن الأخرى أنها حياة التكليف والابتلاء ، والأخرى حياة الجزاء.


(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها) : لا يوقدها (إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) فله صليها وإيقادها ، وللشقي وردها والاتقاد بها ، فإنهما ليسا على سواء ، فالمتبوع هو الجحيم بذاته ، والتابع يحرق بجحيمه.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) :

لا يقرب إليها عذابا لأنه الأتقى : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) : ماله ، وما ـ له «يتزكى» * فحياته كلها إيتاء وعطاء في سبيل الله ، فحق له أن يجنبها ، ولكنما التقي غير الأتقى ، الذي اقترف ما ينافي التقوى أحيانا ، إنه قد يمسه العذاب تخليصا له عن الدرن ، عذاب الدنيا ، ثم البرزخ ، ثم القيامة ، ثم مصيره إلى الجنة ، فعذاب غير الأتقى درجات ، بقدر ما خالف التقى.

إذا ، فالآيات هنا تقسيم ثنائي إلى من محّض الإيمان محضا : «الأتقى» ومن محض الكفر محضا : «الأشقى» * وبينهما درجات بين الجنة والنار ، ومصيرهم الجنة أخيرا ، وعلى حدّ قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شرد البعير على أهله».

هذا الأتقى يؤتي ماله دون ابتغاء جزاء ممن آتاه ، أو شكور ، فليس لأحد عنده من يد أو نعمة يجزى بها : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) فليس عطاؤه وإيتاؤه ابتغاء شيء من مال الدنيا ومنالها : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى).

ثم الله هو الذي يرضيه بما يجزيه : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) : يرضى بواقع الرضا يوم الجزاء ، بعد ما كان راضيا عن ربه أمل الواقع يوم الدنيا.


سورة الضحى ـ مكية ـ وآياتها احدى عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١)

* * *

تقول الروايات أن الوحي انحبس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ردحا من الأيام ، فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه ، وقالت خديجة أم المؤمنين : لعل ربك قد تركك! يقوله المشركون هزءا ، والمؤمنون ترحما ، ولقد أغتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غما شديدا وكان حقا له إذ يراه بعيدا عن زاده الوحيد وروحه الأليفة الأنيسة في وعثاء السفر ولأواء التكذيب والتأنيب ، وعن ريّه في هذه الهاجرة المحرقة ،


والأذى المنصبّ على الدعوة ، فقد انقطع عنه ينبوع الماء : الحياة الرسالية القدسية ، منزعجا بين العدو والحبيب ، فما ذا يصنع إذا؟

كان في حالته تلك المزرية المضرعة ، إذ بدر الوحي الحبيب بعد انمحائه وانقطاعه ، مسليا خاطره الشريف أن الوحي لم ينقطع بدافع الودع أو القلى ، وإنما لحكمة ، كما في الليل إذا سجى ، فقسما بوجهي الزمان : ضحى النهار : وسطه ورائعته ، وسجى الليل : غسقه ومنحدره ، (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) فكما الضحى رحمة ، كذلك الليل إذا سجى ، كلّ من جهة ، مهما خفيت حكمة الظلمة على الهائمين للضحى.

صحيح أن ضحى الوحي هي الحكمة كلها ، وهي الحياة الرسالية كلها ، وهي الزاد والمبدأ والمعاد ، ولكنها بحاجة في استمراريتها ـ ولكي يثبت الشاكون على حقها ـ بحاجة إلى زاد الليل إذا سجى ، فسجى الوحي وانقطاعه لفترة ، زاد لضحى الوحي واتصاله ، فناكر الوحي يتنبه أنه ليس منك ولا من شيطان ، وإلا فلما ذا ينقطع ، أرحمة منه ومنك في التضليل؟ والمؤمن بالوحي ينتبه أنك ـ لا تزال ـ بحاجة إلى ربك ، دون استغناء عنه ولا لحظة ، فلو شاء لقطع عنك رحمته : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) فاعتبار أنه كتب على نفسه الرحمة ، ولا سيما لك خاصة ، فليس يقطع عنك وحيه ، لا قطع وداع بانقضاء دوره ، فلا ينتهى إلا بانقضاء عمرك ، ولا قطع القلى ـ وبالأحرى ـ بانقطاع صلوحك للوحي وأنت حي ، ففيه إزراء بالموحي والموحى إليه : بالموحي كيف لم يعرف نبيّه إذا ابتعثه وانتجبه ، فلم يعرف أنه لا يصلح لحمل الرسالة الأخيرة حتى النفس الأخير ، وبالموحى إليه ، كيف ينقطع عنه قبل انقطاع حياته ، رغم أن وحيه حياته ، فبه يحيى وعليه يموت ، أو كيف يعزل عن منصب الرسالة؟ الجرم أو خطيئة اقترفها ، فجاء الجواب الحاسم للصديق


والعدو : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) وإنما ترك الوحي بغير وداع ولا قلى ، وإنه لحكمة عالية : هي الحجة على الناكرين النافرين ، وانتباه وتثبيت للنبي والمؤمنين ، ف (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) : ليس الوحي عن هوى نفسه ولا هوى عقله ولا هوى سواه ، إلا ربه ، وإلا فلما ذا ينقطع؟

وتضليل الهوى ـ أيا كان ـ ليس لينقطع! قد انقطع عنه الوحي ردحا من الأيام (١) ، ولأن اليهود سألوه عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس عنه الوحي ، وليدل اليهود أنه لا يقول من عنده ، وليدله أنه ليس بيده شيء حتى وعد الجواب ، فكيف بوحي الجواب ، وإنما هو رسول ، وإذا يعد فبإذن الله ومشيئة الله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (١٨ : ٢٤).

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) :

إيناس ثان لقلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم المقروح : إن الحياة الآخرة خير لك من الأولى ، لك ولمن نحا نحوك ودخل حزبك ، وأين آخرتك من أولاك؟ :

فأنت في الأولى في بلاء وابتلاء وعيشة منغصة مشوبة بألوان المتاعب والمصائب ، وإن كنت في راحة ضميرك أنك أديت الرسالة ، وأنت في الآخرة في رحمة وراحة خالصة.

ثم إن لك عطاء من ربك قدر رضاك هنا وهناك : فهنا سوف يوحى لك خاتمة الوحي الذي لم يوح إلى أحد ، والذي سوف لن يوح إلى أحد ، وهناك :

__________________

(١) اختلفت الروايات انه يومان ١ و ٣ ـ ٤ ـ ١٢ ـ ١٥ ـ ٢٥ ـ ٤٠ يوما.


في البرزخ والمعاد سوف يعطيك ربك ما يرضيك ، وينسيك أتعابك في سبيل مرضاته ، فيتوّجك تاج الكرامة بين المكرمين وفوقهم ، تاج الشهادة والشفاعة :

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) :

فهل إن الرسول ما كان راضيا عن ربه حتى يرضيه بعطائه رضى العبيد؟ نقول : إنه كانت حياته الرضا عن الله ، ولكنه لما أحتبس عنه الوحي ظنّه عن تقصير منه أو قصور ، فسخط على نفسه ، ثم بعطاء الوحي بعد انقطاعه رضي ، وثم بهذه الكرامة الوحيدة له من ربه زاد من ربه رضى ، فإن الله يعطي من يعطيه كما يرضى هو ، لا المعطى له ، وهنا الرسول يختص بهذه المكرمة الربانية ، أن أصبح عطاء الله له كما يرضاه صلّى الله عليه وآله وسلّم تخصيصا له عن جميع الصالحين! ، وهنا تمتاز آخرته عن سواه ميزة أخرى : «فترضى» كما أوحى إليه : (خَيْرٌ لَكَ) خيرية خاصة لك دون من سواك! وقد روي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنها الشفاعة (١) ، ولا ريب أنها من رضاه ومن أعلاه وأولاه ، شفقة على أمته الذين تؤهل لهم ، لا المسمون بها وليسوا منها.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى).

فالذي آواك بعد يتمك ، وهداك بعد ضلالك ، وأغناك بعد عيلولتك ، هو

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٦١ عن حريب بن شريح عن الباقر (ع) ان أرجى آية في كتاب الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وهي «الشفاعة» وفيه ايضا عن جابر بن عبد الله قال : دخل رسول الله (ص) على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من حملة الإبل فلما نظر إليها قال : يا فاطمة! تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا ، فأنزل الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).


الذي يجدد لك عهد الوحي بعد انقطاعه ـ وأحرى ـ ويعطيك فترضى ، فما هو يتمه وضلاله وعيلولته؟.

لقد كان النبي يتيما بكل معانيه : منقطعا عن أبويه ، إذ توفي والده قبل ولادته ، وتوفيت أمه بعد ستة أشهر ، فآواه الله إلى جده عبد المطلب وإلى عمه أبي طالب فكفلاه خير كفالة ، وكان يتيما : منقطعا عن النبوة والرسالة فآواه إليهما ، ثم يتيما عن الوحي إذ انقطع عنه فآواه ، ويتيما : منفردا بين الناس فآوى الناس إليه ، فلقد أزال عنه يتمه أيا كان.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) : ليس هو الضلال عن الدين : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) إذ إنه ولد ديّنا مؤيدا من عند الله مهما اختلفت درجاته قبل النبوة وبعدها ، أجل ـ ليس ضلالا عن اصل الهدى ، وعلى حد قول أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة : «ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره». وللضلال هناك معان عدة ، أضلها ضلاله عن الدين ، فلا يصدّق عليه حيث القرآن والعقل لا يصدقانه عليه ، وإليكم منها معان :

١ ـ وجدك ضالا عن وحي الإسلام ونبوته ، فهداك اليه ، ضلالا عن الهداية الفعلية بوحي القرآن ، لا عن كل هداية وأبسطها : (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) (١١ : ٤٩) (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٤ : ١١٣) (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (٤٢ : ٥٢).

أجل : إنك كنت ضالا عن هذا الهدى ، لا عن كل هدى ، فلقد كنت أهدى الناس قبل وحي القرآن ، بما كان يسلك بك روح الأمين محاسن أخلاق العالم ليلك ونهارك.


٢ ـ وجدك ضالة الناس ، وكما الحكمة ضالة المؤمن ، فما كانوا يعرفونك ، فهداهم إليك بما أرسلك برسالة الإسلام.

٣ ـ وجدك ضالا : فريدا في الناس ، كما الشجرة في الفلاة تسمى ضالة ، ولقد كانت أرض الجزيرة قاحلة لا ماء فيها ولا كلأ ، بلا شجرة إنسانية تحمل ثمار العلم والإيمان ، وأنت الشجرة الطيبة الضالة في هذه المغارة ، فهدى الناس إليك (١).

٤ ـ وجدك ضالا عن المعرفة حينما ولدت فهداك الله بالغزير منها ، ثم بعد ما فطمت أيدك بأعظم ملائكته ، إلى أن ابتعثك رسولا إلى العالمين ، وهنا وجوه أخرى (٢).

هذا ـ رغم جماعة من المبشرين والمستشرقين الضالين الذين يحاولون ليثبتوا الضلال عن الدين ـ قبل الرسالة ـ على الرسول الصادق الأمين.

__________________

(١) كما في البرهان ٤ : ٤٧٣ عن الامام الرضا (ع) في مجلس المأمون ، وفي نور الثقلين ٥ : ٥٩٦ عن الإمامين الصادق والرضا (ع) كما يأتي.

(٢) ولقد ضل عن الطريق مرات عدة فهداه الله إلى نجده كما يقول : ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهداني الله ، وكان يقول جدي : يا رب رد ولدي محمدا أردده ربي واصطنع عندي يدا ، فما زال يردد هذا البيت حتى أتاه ابو جهل على ناقة وبين يديه محمد (ص) وهو يقول : ما ادري ماذا نرى من ابنك! فقال عبد المطلب ولم؟ قال : اني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة ان تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت الناقة كأن الناقة تقول : يا أحمق هو الامام فكيف يكون خلف المقتدي ، قال ابن عباس : رده الله الى جده بيد عدوه كما فعل بموسى عليه السّلام.

وخرج مع غلام خديجة ميسرة ، فأخذ الغلام بزمام بعيره حتى ضل عن الطريق ، فهداه الله بجبرائيل ان جاء بصورة آدمي فهداه إلى القافلة.

وابو طالب خرج به إلى الشام فضل عن الطريق فهداه الله إلى القافلة.


شريعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل الإسلام

: وهنا الجدير بالبحث أن يعطف إلى شرعة الرسول قبل وحي القرآن : هل كان متحللا عن أية شريعة ، يعبد ربه بلا شرعة ومنهاج؟ أم دون أية عبادة كذلك؟ أم كان متعبدا بشرعة تخصه؟ أم مهديّا إلى شريعة الإنجيل المحكّمة قبل شريعة القرآن؟ أم شريعة موسى أم إبراهيم أم نوح؟ أم ماذا؟.

الوجه الذي نعقله وبالإمكان أن نقبله ، هو انه كان متعبدا بشرعة صالحة لزمنه ، غير محرفة ـ أيا كان ـ لأن الله اصطفاه أخيرا لخاتمة الرسالات (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٣٨ : ٤٧) (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣ : ٣٣) فليكن ـ إذا ـ خير الناس أجمع قبل رسالته ، فهل يا ترى كيف يصطفى هكذا وهو متحلل عن الشرائع كلها ، أو متعبد بشريعة منسوخة زمنه؟ فلتكن شرعته هي شرعة التوراة الصحيحة حسب الإنجيل الصحيح الحاكم زمنه ، وهذا لا يتيسر إلا بتأييد الله بإيحاء ملك الوحي ، إذ لم يكن يكتب أو يتلو كتابا قبل وحي القرآن ، ولم يدرس عند أحد من علماء الكتاب كما القرآن يصرح ، ولم يكونوا صالحين لذلك ، وليس نقصا للرسول أن يتبع قبل رسالته شرعة غيره من المرسلين ، إذ الشرائع كلها لله ، وليس الرسل إلا وسائط البلاغ ، إضافة إلى إمكانية وحي الإنجيل اليه فذا كما أوحي إلى المسيح ، نبيان أوحي إليهما سواء.

ووجه آخر عله أسلم ، أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يسترشد بملك الوحي الذي قرن الله به من لدن كان فطيما يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ، ما يحمل وظائفه الخاصة به ، ولا تنافيه الآية : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (٤٢ : ٥٢) إذ يعني به الإيمان الموحى إليه برسالة القرآن ، والكتاب كل كتاب ، فما كان يدري ما القرآن والإيمان القرآني قبل نزوله ، على أنه كان مؤمنا قبله بالواجب عليه حينه بإيحاءات ملك الوحي ، فما كان يدري ما الإيمان


ـ مطلق الإيمان ـ لو لا الإيحاء ، حيث الشرعة الموحاة إليه ما كانت تنال إلا بالوحي ، دون المحاولات البشرية ، ولا سيما في الفترة الفوضى التي مضت على كتابات الوحي ، فما كان محمد كبشر ، ليدري ما الكتاب ولا الإيمان ، إلى أن أوحي إليه بالإيمان ، وثم أوحي إليه الكتاب القرآن : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٢ : ٥٢).

إذا فالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان نبيا ، قبل رسالته بوحي القرآن ، نبيا لنفسه ، إن بوحي الإنجيل ، أم وحي آخر يخصه دون سواه ، وكما يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فنبوته قبل ولادته هي الميثاق الذي أخذ له على النبيين أجمع : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وهي منذ ولادته إلى بعثته ، نبوته الواقعية الشخصية ، ومن بعثته رسالته العالمية وإلى يوم الدين ، وهنا أخبار تعمه وأخرى تخصه بتأييد إلهي منذ ولادته صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) مما يوحي إلى نبوته الخاصة قبل رسالته.

(وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) : عائلا من حيث المال والحال (٢) ، ومن ذويه الأقربين ومن الناس أجمعين ، فأغناه الله وكفاه عبء هذه العيلولة.

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) :

آوه كما آويتك ، ولا تقهره كما لم تقهر.

__________________

(١) منها اخبار مستفيضة انهم مؤيدون من بداية أمرهم ، وصحيحة الأحول القائلة : نحو ما كان رأي رسول الله (ص) من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرائيل من عند الله بالرسالة ، والمستفيضة القائلة : ان الله لم يعط نبيا فضيلة ولا كرامة ولا هجرة إلا وقد أعطاه نبينا.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٩٥ عن تفسير العياشي عن الامام الرضا (ع) في قوله : ألم يجدك يتيما فآوى ، قال : فردا لا مثيل لك في المخلوقين فآوى الناس إليك ، ووجدك ضالا : اى ضالا لا يعرفون فضلك فهداهم إليك ، ووجدك عائلا : تعول أقواما بالعلم فأغناهم الله بك ، وروى القمي عن الامام الصادق (ع) مثله.


(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) :

كما سألتني فما نهرتك ، وقد أعطيتك ما لم أعط أحدا من العالمين.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) :

تحديثا باللسان ، وبالجوارح والجنان ، وبالأعمال ، فعش حديثا لنعمة ربك ، كما عاشتك نعمته.

نعمة ربك ، لا (نعمة) إذ يعنى منها نعمة الرسالة القدسية ، فسواها بالنسبة له لا يحسب له حساب (١) ، ثم كضابطة عامة على كل منعم عليه أن يظهرها ويتظاهر بها موحيا أنها من الله ، تمجيدا له لا لنفسه ، وكما عن الصادقين (ع) (٢) ، فالخيرات كل الخيرات ، عقلية وعلمية ومعرفية وإيمانية ، أو ـ ومادية ، يجب إظهارها كما يحب الله ، إظهارا لمكرمته تعالى ، لا تكاثرا وتفاخرا وإزراء للفاقدين لها ، فإن بذلها كما يمكن ، من إظهارها ، وصرفها فيما يجب كذلك ، وهكذا يؤول ما يؤثر عن تعريفات المعصومين (ع) بأنفسهم ، فإنها من تحديث نعمة الله ، ولينتفع بها عباد الله.

__________________

(١) المصدر في محاسن البرقي عن الامام الحسن (ع) في الآية قال : امره ان يحدث بما أنعم الله عليه من دينه.

(٢) كما في نور الثقلين ٥ : ٦٠١ عن الصادق (ع) قال إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمي حبيب الله ، محدث بنعمة الله وإذا أنعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمي بغيض الله مكذب بنعمة الله.


سورة الانشراح ـ مكية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨)

* * *

استفهامات تقريرية تقرر للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نعما عدة ، إيجابية وسلبية ، وعند الفراغ عن مهمة الرسالة يطلب الله منه أن يستمر بها فيمن ينصبه مقامه ، ثم يرغب إلى ربه مؤديا ما عليه.

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) :

فقد شرح الله صدره ـ لأول ما شرح ـ بملازمة أعظم ملك من ملائكته ،


ثم بوحي القرآن ، ثم بمكافحة المعارضين (١) ، فإن الشرح هو الانفتاح ومقابله الضيق ، والصدر هو صدر الروح ، وهو الوسيط بين العقل والقلب ، يأخذ من العقل وينقل إلى القلب ، وهو في الصدر : (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) فانشراح العقل وتفتّحه يفضي إلى انشراح الصدر والقلب ، وكذلك ضيقه وعماه إلى ضيقها وعماها : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) وقد يعبر عن ضيق الصدر أيضا بالانشراح : تفتّحا للكفر : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) (١٦ : ١٠٦).

فصدر الرسول الأقدس ـ وهو صدر الصدور ـ كان أشرح الصدور بين حملة الرسالات الإلهية ، تلقّى الوحي أكثر ما يمكن ، ولاقى وعانى في سبيل البلاغ أشد ما يمكن ، وهو منشرح الصدر : يستقبل الصعوبات في وعثاء السفر بكل رحابة صدر دون أن يقف لحد.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) :

وهذه نعمة أخرى في سلبيتها ، وكونها نعمة تتلو انشراح صدره ، يوحي إلى المعني من وزره ، أنه : ما كان يعانيه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأمور المستصعبة ، والمواقف المخطرة في أداء الرسالة ، وتبليغ النذارة ، وما كان يلاقيه من مضار قومه ، ويتلقاه من مرامي ايدي معشرة ، وكل ذلك حرج في صدره وثقل على ظهره ، فقرره الله تعالى أن أزال عنه تلك المخاوف كلها ، وحط عن ظهره تلك الأعباء بأسرها ، فنجاه من أعدائه ، وفضله على أكفائه وقدم ذكره على كل ذكر ،

__________________

(١) كما تشير إليه الآيات : «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (٧ : ٢) «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» (١١ : ١٢) «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» ١٥ : ٩٨).


وقدره على كل قدر ، حتى أمن بعد الخيفة ، واطمأن بعد القلقة ، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً).

أجل : وإن ظهر الرسالة المحمدية كانت ـ لو خليت وطبعها ـ منقضة : مقعقعة العظام من حملها ، مرضوضة من ثقلها ، حتى وضع الله ذلك الوزر ، بوزير من نفسه القدسية : من صدره المنشرح ، وبصيرته النافذة ، وصموده القويم ، وعقله المستقيم ... وبوزير هو كنفسه : علي أمير المؤمنين عليه السّلام الذي عرّفه عشرات المرات : أنه وزيره وأخوه ونفسه ومثيله (١).

هذا هو الوزر الموضوع عنه ، لا ما يظنه الجاهلون أو المعاندون ، أنه الذنب العظيم ، زعما أنه المعني منه لغويا وليس به ، إنما الوزر ما يثقل ويتعب ، ظهر الروح أو الجسم ، فإن كان بحساب الآخرة كان عصيانا ، وإن بحساب الدنيا كان طاعة ، فإن مرضاة الله تبتغى بالأتعاب والحرمانات يوم الدنيا ، وزرا في الدنيا وراحة في الآخرة ، عكس سخط الله.

ثم الامتنان هنا يشهد ، وتأخر الوزر عن شرح الصدر يشهد ، ثم الله شهيد مع هؤلاء الشهداء وقبلها : أن وزره صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما هو وزر الرسالة القدسية ، بحملها وحملها وأعبائها وبلاغها!.

فلو كان ذنبا لم يمتن به عليه ، ولو كان غفرا لذنبه لقال : وغفرنا عنك وزرك ، ولكان مقدما على انشراح صدره ، فإنه لا ينشرح إلا بعد انمحاء الذنوب ، تحلية بعد تخلية.

ثم في وزر الرسالة ، ليس وضعه عزله عنها ، فهذا إهانة وليس مكرمة ،

__________________

(١) راجع كتابنا (علي والحاكمون) باب الوزارة وأمثالها.


وكذلك عزله عن بعضها ، إذا فهو تخفيف حمل الرسالة بوزير من نفسه ووزير كنفسه (١).

وقد رفع الله ذكره بهذا الوزير لحدّ اعتبره شاهدا منه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (١١ : ١٧) ورفع ذكره مع الله من على المآذن أوقات الصلاة (٢) ورفعه قبل مولده ومبعثه في كتابات النبيين من قبل ، فأصبح رفيع الذكر حياته وقبلها وبعدها ، ويا له من ذكر لزاما لذكر الله! وكما عن الرسول عن الله : «إذا ذكرت ذكرت معي»(٣).

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) :

وعلى حدّ قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لن يغلب عسر يسرين (٤) ، وهنا تعريف العسرين يوحي أنهما واحد ، حيث الثاني يشير إلى الأول ، كما أن تنكير يسرين دليل أنهما اثنان ، إذ لا إشارة حيث لا عهد مسبقا :

فمع عسر الرسالة في وزرها يسران هما : انشراح صدره ووضع وزره ، وإذا اعتبرا واحدا فثانيها يسر الحشر وأولاه وضع الوزر وشرح الصدر ، يجمعهما ارتياح ضمير الرسول أن بلّغ ما عليه ، وهكذا يكون دائما عسر المؤمن مكافحا بيسرين في الدنيا وفي الدارين ، وما عند الله خير وأبقى.

والمعية هنا (مَعَ الْعُسْرِ) : توحي بواقع اليسرين حال عسرهما ، أما يسر

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٦٠٣ عن بصائر الدرجات عن الصادق (ع) في الآية قال : ولاية أمير المؤمنين (ع).

(٢) الاحتجاج عن الامام الحسين (ع) في حديث : فلا تتم الشهادة إلا أن يقال : اشهد أن لا إله إلا الله واشهد ان محمدا رسول الله ينادى على المنار ، فلا يرفع صوت بذكر الله عز وجل إلا رفع بذكر محمد (ص) معه.

(٣) الدر المنثور ٦ : ٣٦٤ ـ ابو سعيد الخدري عنه (ص) عن جبرائيل ان ربك يقول :

(٤) رويت عنه مستفيضة كما في الدر المنثور والطبري والبرهان ونور الثقلين على سواء.


الدنيا فارتياح ضمير المعسر في الله ، ويتبعه واقع يسره فيها ، وأما يسر الآخرة فهو أيضا واقع مهما كان خفيّا ، ولكنه يظهر يوم الجزاء.

وإذا أردت مكافأة بهذه المكرمات ، فإنها ليست إلا أن تستمر بها لما بعدك ، كما كنت تعيشها حياتك أيها الرسول!

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) :

فما الفراغ هنا؟ وماذا ينصب بعد الفراغ؟

ليس الفراغ هنا عن الصلاة ، لكي يكون نصبه نصبا في الدعاء ، ورغم أن الدعاء ليس فيها تعب ونصب! فالفاء المفرّعة توحي إلى أصل سابق ، وليس إلّا شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر ، التي تجمعها الرسالة المحمدية بعسرها ويسريها ، فليس الفراغ إذا إلا عن بلاغ الرسالة ، وما هو إلا عند حضور الموت ، فليس النصب إلا نصبا لاستمرارية الرسالة ، ولكي يرغب إلى ربه مؤديا مبلّغا ما عليه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٥ : ٦٧).

هنا في محاولة استمرار الرسالة عند الفراغ عنها نصب ونصب كلاهما يناسبان «فانصب» وخلاف ما يزعم ، ليس في الدعاء نصب ولا نصب ، ولا سيما للرسول الذي زاده الدعاء ، فلم يؤمر هو صلّى الله عليه وآله وسلّم هنا بالدعاء ، فإنه كان يعيش حياته الدعاء ، دون اختصاص بالفراغ عن الرسالة ، ولقد كان في نصب علي عند وصية الخلافة نصب بالغ إذ تبع الكلمة اللاذعة المشهورة ممن احتالوا الخلافة لأنفسهم فقالوا : «دعوه فإن الرجل ليهجر» ما تدمي العيون وتحرق الأكباد!

ثم «فانصب» لغويا ـ على الصحيح او الأصح ـ أمر بالنصب لا بالنصب ، وإلا كان «فانصب» ، وفي المنجد : نصب ـ نصبا الشيء : رفعه وأقامه ، والأمير فلانا : ولّاه منصبا.


والمروي عن أئمة أهل البيت مستفيضا صريح في النصب وإن كان النصب أيضا يشمله ، ومن النصب أيضا هو جعل النصيب أو تولية المنصب وهما يناسبان نصب الخلافة الإسلامية فإنها نصيب للرسول ، يستمر به بعد مماته كما كان قبله ، وكما عن الصادقين (ع) تفسيرا للآية : فإذا فرغت من نبوتك فانصب عليا وإلى ربك فارغب في ذلك (١)

وهو الوجه الوحيد الموافق لمقام الآيات واللغة.

تذييل :

روى أصحابنا أن سورتي الضحى والانشراح سورة واحدة تقرءان معا في الركعة ، أقول: وهذه الوحدة تخص الصلاة حكميا وإلا فهما سورتان في غير الصلاة للفصل بالبسملة بينهما.

__________________

(١) تفسير القمي بالإسناد الى أبي عبد الله الصادق (ع) وروى في الكافي عنه (ع) مثله ، ومثله عن ابن شهر آشوب عن الباقر (ع) ، وعن أبي حاتم الرازي ان جعفر بن محمد (ع) قرأ (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال : إذا فرغت من إكمال الشريعة فأنصب عليا لهم إماما ، أقول : وما روي شاذا انه النصب في الدعاء لا يلائم المقام واللغة كما سبق ، واما ما روي انه نصب الخلافة بعد حجة الوداع يلائم الفراغ من الرسالة ، وإنما عن الحج ولم يسبق له ذكر.


سورة التين ـ مكية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨)

* * *

مما لا بد منه هو تناسق الإطار في أقسام القرآن مع الحقيقة التي تعرض فيها ، وهنا نجد تناسقا دقيقا أنيقا بينهما ، فلكي يثبت أن الإنسان مخلوق بجزأيه : الجسم والروح ، في أحسن تقويم ، يقسم بالتين والزيتون كأمل الفواكه ، لعرض الكمال الجسماني للإنسان ، وبطور سينين وهذا البلد الأمين ، كأفضل البلاد الموحى فيها على أعظم رجالات الوحي ، لعرض الكمال والاستعداد الروحي للإنسان ، ولكي يثبت سفال الإنسان لو تخلف ، عن المقام العال ، يشير إلى سفال


الفاكهتين بعد انهضامهما ، وسفال البلدين لو تخلفا عما أوحي فيهما ، فليس العلو العال للإنسان ، لزاما له لأنه خلق في أحسن تقويم ، وإنما هو بحاجة إلى تقدمة زاد الإيمان والعمل الصالح ، ولكي يفلح ويمضي سليما في هذه العقبات والعرقلات التي تتربص به دوائر الضلال والسفال.

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) :

هما الفاكهتان المعروفتان مع ما يحملان من رمز الكمال فيهما ، وفي البلاد التي تنبتهما ، فالتين شجرة عطوفة أليفة تفي قبل الوعد ، بخلاف الخلاف التي تعد وتخلف ، إذ تورق ولا تثمر ، وكذلك ذوات الأثمار التي تعد ثم توفي ، فالتين شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى ، وهي تهتم بغيرها في ثمرها ، قبل أن تهتم بنفسها في ورقها ، تثمر ثم تورق ، تحقيقا لقول الله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) .. وثمرها طعام لطيف خفيف الهضم ، يلين الطبع ويخرج مترشحا ، ويقلل البلغم ، وهو للمعدة كالبلسم ، ويطهر الكليتين ، ويزيل رمل المثانة ، ويسمن البدن ، ويفتح مسام الكبد والطحال ، وعلى حد تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. إذ أهدي إليه طبق من تين : «كلوا ، فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت : هذه ، لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس» وعن حفيده الرضا عليه السّلام : «التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج».

والزيتون فاكهة من وجه وإدام من آخر ودواء من ثالث وضوء من رابع ، ومن عجيب أمرها أنها لا تحتاج إلى تربية في أغلب البلاد ، ومن عظيم أمرها ذكرها في القرآن مرات عدة: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٣ : ٢٠).

فكما أن هاتين الفاكهتين من أقوم الفواكه وأتمها ، كذلك بدن الإنسان فإنه خلق في أحسن تقويم.


(وَطُورِ سِينِينَ) :

(طور) مذكور في القرآن تسع مرات ، تارة كمعجزة إرهابية إذ رفعت : (٢ : ٦٣) ، وأخرى كمنزل الوحي على موسى عليه السّلام : (١٩ : ٥٢) ، وثالثة كموعد لبني إسرائيل ، ورابعة قسما بها وكتاب مسطور : (٥٢ : ١) وعلّه توراة موسى عليه السّلام مما يدل على بالغ الأهمية لهذا المكان المنيف ، فهو هنا يحمل إشارة إلى منزل من أهم منازل الوحي وأكرمها .. والأصل العبراني في سينين هو سيني ، عرّب بإضافة النون هنا ، وبالألف الممدود تارة أخرى : (طُورِ سَيْناءَ).

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) :

إن كون السورة مكية ، تجعل «هذا»

إشارة إلى مكة المكرمة ،

وكذلك وصفها بالأمين ، فلا أمين تكوينيا وتشريعيا كمكة المكرمة ، وكما في دعاء إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وبما أنها منزل الوحي الأخير على الرسول البشير النذير ، فهي ـ إذا ـ أم القرى ، طول التاريخ وعرضه ، فرسولها إمام الرسل ، ورسالتها خاتمة الرسالات ، وهي أول بيت وضع للناس ، وإن كان آخرها وحيا (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٣ : ٩٧).

فكما أن هذين البلدين أهم منازل الوحي ومصادر الرسالات ، كذلك روح الإنسان فقد خلقت في أحسن تقويم روحاني ، فالإنسان يجزيه مخلوق في أحسن تقويم.

ومن لطيف الأمر أن التين والزيتون ـ بما هما الفاكهتان ـ يحملان إشارة لطيفة إلى بلادهما التي هي أصول بلاد الوحي ، وكما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إن


الزيتون بيت المقدس» ، وهو منزل الوحي على كبار رجال الوحي ، وأن التين إشارة إلى المدينة المنورة (١) مما يدل على كمال التناسق بين جزءي الإنسان ، كما بين الفاكهتين وبلادها المقدسة ، فعلى الإنسان إتباع قواه الجسدانية للروحانية ، ولكي يتكامل خلقه في أحسن تقويم : ينمو جسمه على ضوء روحه ، وروحه على كاهل جسمه :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) :

وليس معنى أحسن تقويم أنه فاق الخلق كله ، وإنما : ليس في الخلق أقوم منه ، ومنه من هو مثله في القوام : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١٧ :) ٧٠) فمن هذا القليل الذي يشبه الإنسان في القوام؟ أنا لا أدري! وعله من إنسان السماء الذي تشير إليه بعض الآيات (٢) ، أم هو وسواه ممن لا نعرف!

إن الأصل في خلق الإنسان ـ إلهيا ـ هو أحسن تقويم ، لو داوم في المشي على قوامه كما هداه الله تعالى في التكوين والتشريع : تكوينه الفطري والعقلي ، وتشريعه الإلهي الواصب غير الخليط ، وفيما إذا سلك سبيل التخلف فجزاؤه أن يردّ إلى أسفل سافلين ، لحدّ لا أسفل منه في الخلق ، رغم أنه ما كان أقوم منه في الخلق! إذا فهو هو النازل من العلوّ العال إلى أسفل السفال ، وليس إلا بفعاله هو ، والله يتركه ـ إذا ـ ثم يعبر عن تركه له أنه ردّه إلى أسفل سافلين.

ان جانب الخير في الإنسان أقوى من جانب الشر إذ خلق في أحسن تقويم ،

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٦٠٦ الامام موسى بن جعفر عنه (ص) ان الله اختار من البلدان اربعة.

(٢) «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» (٤٢ : ٢٩) وآيات وروايات اخرى أمثالها سوف نوافيها عند مناسباتها الأوفى.


فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق أكرم الملائكة جبرائيل ، إذ وقف وسط الطريق ، وارتفع محمد (ص) الإنسان إلى المقام الأسنى.

بينما هذا الإنسان يرد إلى أسفل سافلين ، حين ينتكس ويرتكس إلى الدرك الذي لا يتنزل إليه مخلوق قط : (أَسْفَلَ سافِلِينَ).

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) :

الذين واصلوا في سبيل الاستكمال على ضوء التقويم الأحسن ، مشيا على الفطرة التي فطر الناس عليها ، وعلى دلالات الرسالات الإلهية : إيمانا بالله وبها ، وعملا صالحا فيها ، فلهم أجر غير ممنون : غير مقطوع ولا منقوص ولا مكدّر ولا محسوب ، أجر في دنيا الحياة بما يصلحها الايمان وعمل الصالحات ، وأجر في في أخراها ، وما عند الله خير وأبقى. (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ. أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) : فما هذا الذي يدفعك إلى تكذيب الدين : طاعة لله يوم الدنيا وجزاء عليها يوم الجزاء ، أبعد توفر البراهين الدافعة إلى الدين؟! أبعد إدراك القيم الإنسانية ، (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) : حكما عدلا كأعدل وأفضل ما يمكن ، ومن عدله الجزاء الوفاق للظالمين ، ومنه ومن فضله رحمة بلا حساب للذين عدلوا!.


سورة العلق ـ مكية ـ وآياتها تسع عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

* * *


ناصية الآيات الخمس الأول تشهد ، ومعها الروايات ، والمفسرون أجمع يشهدون : أنها أوّل ما نزلت من القرآن على الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهي تحمل معنى البسملة بوجوب قراءتها قبل القرآن ، فلا تنافيها الروايات القائلة أن الحمد هي الأولى ، إذ أمر فيها بقراءة البسملة قبل الحمد كما قبل السور كلها ، والحمد بما تحمل بحمل القرآن توحي أنها الأولى ، وأما المدثر فليس إلا بعد تدثّر الرسول إثر نزول أوّل الوحي المباغت ، فليست هي ـ إذا ـ إلا أوّل المفصل.

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) :

وقد يوحي «اقرأ» أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن قارئا قبله ، فتأمره الآية أن يقرء القرآن مبتدئا بالبسملة ، ف (بِاسْمِ رَبِّكَ) يشير إلى (بِسْمِ اللهِ) و (الَّذِي خَلَقَ) : الرحمان ، فإنه الرحمة العامة المدلول عليها بالخلق ، فلا أعمّ منه ، و (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ .. عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) : هو الرحيم ، فإنه الرحمة الرحيمية الخاصة : خلق الإنسان وتعليمه ما لم يعلم ، فما كان الرسول يتلو من قبله من كتاب ، فأخذ يتلوه هنا اقرأ» وما كان يعلم (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) فأخذ يتعلمه هنا : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

وتنقل الروايات عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله ـ إذ أمره ملك الوحي بالقراءة ـ : «ما أنا بقارئ ، يقولها ثلاثا فيضمه إلى صدره إيناسا بالوحي ، فقال أخيرا : ما أقرء؟ قال : اقرأ باسم ربك ..» ولم يبين هنا ماذا يقرء ، إلا أصل قراءة الوحي باسم الله (١) ما يدل أيضا على أنه بداية الوحي ، فقرء بإقراء الله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ..) وإلى سائر القرآن ، واعتبارا أن البسملة من القرآن فليستعذ بالله قبلها (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١٦ : ٩٨) مهما كان الأمر بها سابقا أم لا حقا.

إن الإنسان بجزئيه : النفسي والجسدي ، ليس كيانه ـ وكسائر الكائنات ـ

__________________

(١) لما قال (ص): «ما ان بقارئى» دل على انه ما كان ليقرء لا بالوحي ولا بغير الوحي ، فكيف يقرأ وماذا يقرأ؟ فلما ضمه ملك الوحي الى صدره ثلاثا ، أجابه اقرأ بالوحي : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ..) : أقرأ باسم الله الذي رباك


إلا تعلقا بالله ، لا يستقل عنه ولا آنا. وليس انفصاله عن هذه العلقة إلا انفصاله عن الوجود ، فهو في خلقه وعلمه وكل معطياته علق بالله ، وهو يعيش علقا منذ خلق وفي كل مراحل الحياة ، وخلقه أيضا من علق :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) :

علق لا علقة ، فإنها الحالة الثانية للجنين ، الناشئة عن العلق : جنس الدودات الصغيرة العالقة وجمعها ، وهو منيّ يمنى ، فهذا المني علق مجموعه ، إذ يعلق بما يلحقه من ثوب أو بدن أو جدار الرحم ، وعلق جميعه ، إذ هو بحر لجّي من ملايين النطف : الدودات العلقية ، العالقة بعضها ببعض ، والعالقة كلها بجدار الرحم ، وليست الجرثومة الأولى هي العلقة : الحالة الثانية للجنين ، ولا العلق : مجموعة الدودات ، وإنما واحدة من العلق ، إن كانت واحدة ، وأكثر إن كانت أكثر ، لذلك (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) : بعض من البحر المنوي السابحة فيه ملايين العلقات : الدودات المنوية ، لا كله ، وهذا البعض هو النطفة من مني يمنى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (٧٥ : ٣٨).

فهنا علق ، وهنا واحدة من العلق هي النطفة ، وهنا علقة خلقت من هذه النطفة ، فالعلقة : النقطة الدموية العالقة ، هي الحالة الثانية الجنينية ، والثالثة المنوية ، ومن المضحك المبكي تفسير العلق بالعلقة ، خلاف اللغة ، وخلاف ترتيب الخلقة ، وخلاف كافة الآيات المستعرضة لخلق الجنين ، المبتدأة بالمني والنطفة والمثنية بالعلقة (١)! ولم يكن هكذا تفسير إلا لقصور العلم مسبقا عن أن المني يحمل ملايين الدودات ، يخلق من كل واحدة جنين واحد ، لا من المني كله.

ولقد بدر الوحي من الرسول الأمي لأول ما بدر ، بهذه المعجزة العلمية ،

__________________

(١) كالآيات (٧٥ : ٣٧) (٨٠ : ١٩) (١٨ : ٣٧) (٢٣ : ٥) (٣٥ : ١٠١) (٤٠ : ٦٧) (٣٥ : ١١). ليوحي إليك .. بحول الله وقوة الله اقرأ : أصل القراءة الوحي فأنه باسم ربك الموحي إليك ، وكل قراءة هي بالوحي فعليك ان تبدء فيها بالبسملة ـ ف «كل امر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» واي بال فوق بال الوحي؟


التي اكتشف أخيرا شيء منها قليل ، وبجنبه الكثير الكثير ، مما على الإنسان أن ينظر فيه : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ)؟.

فلقد كان أصل الوحي عليه معجزة ، تحمل معجزة علمية خالدة ، والرسول كيانه الرسالي معجزة ، فكيان الرسالة المحمدية مجذور مكعب من المعجزات!.

إن النطفة الأمشاج هي المجموعة من نطفة الذكر والأنثى ، تتزاوجان فتصبحان واحدة ، فكيف الزواج؟ وكيف النطفتان قبل الزواج وبعده؟ لقد أمرنا نحن أن ننظر كيف خلقنا ، فنظرنا ووجدنا طرفا من الخلقة العجيبة الطريفة ، ما يزدادنا معرفة بالذي خلق. خلق الإنسان من علق (١).

__________________

(١) لقد كشف العلم طرفا من هذه المعجزة الأولى للقرآن ، والخلق العجيب الطريف الظريف لمنزل القرآن ، ولوحظ بالعيون المسلحة ان كيف النطفتان؟ وكيف تتزاوجان؟ ..

الجينات : بيضات دافقة من ترائب الأنثى ، كل منها كبيضة الدجاجة ، إلا ان قطرها يتراوح بين جزء أو جزئين من عشرة اجزاء من الميليمترات (١ / ١٠ أو ٢ / ١٠) ووزنها جزء من مليون جزء من الغرام ، وفيها مح (Cytoplame) وفي المح الحويصلة الجرثومية (Nuelede) التي يبلغ قطرها جزء من ثلاثة آلاف جزء من القيراط ، فيها تكمن النطفة الجرثومية (Noyau) التي يبلغ قطرها (١ / ٣٠٠٠) من القيراط.

هذه البيضة تتكون في ظلمة المبيض ضمن حويصلة تسبح في سائلها الألبوميني ، فإذا نمت هذه الحويصلة ، وازداد السائل الذي في باطنها ، يتمدد غشاءها ويرق ثم ينفجر وتخرج البيضة منها ومن المبيض كله ، فإلى اين تذهب هذه البيضة الصغيرة العزيزة العذراء وحدها في هذا الظلام؟.

إنها على موعد مع العشير الذي تحلم به دون معرفة مسبقة بينهما ، يتسارعان إلى بعض ويتلاقيان في الطريق ، ثم يسيران متعانقين متراوحين إلى بيت الزوجية ، المهيأ لهما ، فهل لنا أن نعرف هذا العشير ايضا كما عرفنا العشيرة ، وقبل أن نعرف زواجهما؟.

انها الكروموزومات ، قطر كل منها لا يزيد عن ستين جزء من ألف ميلى متر (٦٠ / ١٠٠٠) فهو أصغر من خطيبه بكثير ، وله عقبات في هذا الزواج : انها أصغر من عشيقتها بكثير ، انها بين ملايين الخطاب الآخرين : الدودات المنوية الكروموزومية ، والملتقى ايضا بوق مظلم مظلم ـ ضيق ضيق ـ رفيع رفيع ، قطره كشعرة يختبئ وراء الرحم ، ويمتد فيه إلى المبيض ، إذا فكيف بالإمكان الزواج مع هذه العقبات؟ :


(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) :

إن نعمة العلم بعد الخلق تحتل المنزلة الأولى بين النعم ، وكما أنه تعالى أحسن الخالقين في خلق الإنسان ، كذلك هو الأكرم في تعليمه ، وكما أن الإنسان علق بربه في كيان الخلق ، كذلك في انسانيته القائمة على العلم ، فكافة علوم الإنسان

__________________

ـ ليس هناك إلا الخلق العجيب لكل واحدة منها ، حيث خلق الله لها رأسا مكورا له عنق لولبي وذنب طويل يضرب به الماء ويتبلط ، وجعل هذا الذيل معقودا بأنشوطة لينفك عنه إذ دخل إلى البيضة!.

فكر واحد من هؤلاء الذكور الكروموزومية كان اسرع وأقوى في هذا السباق ، سبق مناوئيه إلى جدار البيضة العذراء ، فيضرب برأسه الجدار بغية دخول الدار ، من باب الجاذبية (Coneduttuaction) فإذا دخل أغلقت العذراء بابها ، وقطعت جذبها وأحصنت فرجها ، وصدت الملائين الآخرين من الخطاب الآخرين ليموتوا حزنا ، أو يحيوا خداما لزميلهم السابق ، ولكي يخلق جنينا كاملا!.

فهكذا تتكون النطفة الأمشاج في بداية مشجها ، ثم هناك أمشاج أخرى نبحث عنها في آية الأمشاج ، وإليكم منها اشارة :

ان الرحم ـ البيت الزوجي ـ مضياف كريم ، يستعد كل شهر لاستقبال العروسين وايواءهما وإطعامهما ، فتنفتح خلايا غشاءه المخاطي ، ونتسع الشعيرات الدموية ، وتنشط الغدد ، فإذا تم الزواج استقبل لزوجين على الرحب والسعة ، وان تعرقل الزواج بسبب من الأسباب تميز غيظا وتمزق أسفا وبكى على البيضة الميتة دما غزيرا. ان الزواج بعد لا يكاد يتم حتى يبدأ العمل المشترك في بناء الإنسان الجديد. فيمشج الشريكان ، كل ما عنده بما عند الآخر من عناصر التخطيط : (الكروموزومات) ، وما فيها من الخلق المخلقة : (الجينات) التي خطتها وخلقتها يد القدرة الإلهية بأقلام الإرث المنحدر عبر الأجيال ، من الجدود والآباء الى الأبناء وأبناء الأبناء :

وأقل الأمشاج ثلاثة : مشج النطفتين قبل الزواج ، ومشجهما بالزواج في البوق ، ومشج الشريكين كل ما عنده ، فالنطفة على وحدتها أمشاج ، كما الماء الدافق من الصلب والترائب واحد ، وسوف نأتي بتفاصيل لخلق الإنسان في طيات الآيات المناسبة.


من الله ، من العلوم الغريزية : الفطرية والعقلية ، ومن الاكتسابية الناشئة عنهما ، النامية بهما ، ومن علوم الوحي ، فائقة الفطرة والعقل ، المتحللة عن الاكتساب المعتاد ، وهي أعلاها ، الخاصة برجالات الوحي ، ولكي يعلّموا الناس ما لم يكونوا يعلمون : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢ : ١٥١).

وقيّد العلم بالقلم ، لأنه لا يقيّد إلا به ، وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «قيدوا العلم بالكتابة» وإنما هذا القيد في غير الوحي ، فإنه يقيّد في صفحات قلوب أصحابه دون حاجة إلى قيد القلم : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) فالله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وما لم يكن يعلم ، هو الذي يأمرك بقراءة الوحي ، ويعلمك ما لم تكن تعلم : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

وتأريخ الحضارات يشهد أن كافة التقدمات العلمية الحضارية مستوحاة من وحي السماء برجالاته الذين بيّضوا وجه التاريخ بتعاليمهم النيرة (١).

وهل العلم دون قيد العمل يكفي الإنسان كرما؟ فكيف لم يقيّد به هنا ، الجواب : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) و «إن العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل» (٢) ، وإن العلم من الله والعمل من الإنسان ، وإن كان هو أيضا بتوفيق الله.

والقلم ـ أي قلم ـ قلم الحبر ، أو الحديد الكاتب على الحجر ومثله ، أو قلم الأمواج المستخدمة لمسجلات الصوت والصور ، إنه مما يقيّد العلم كأحسن وأءمن ما يكون ، إلا قلم الوحي على قلوب النبيين ، فإنه في غنى عن الوسائل العادية والمحاولات البشرية ، فكما الوحي معجزه ، كذلك قلمه الذي يقيّده ، والأقلام كلها تخطئ إلا قلم الوحي!.

__________________

(١) راجع كتابنا (تاريخ الفكر والحضارة).

(٢) عن علي عليه السّلام وكما في روايات كثيرة ، تعني العلم الحقيقي.


(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) :

كلا : إنه لا ينتبه هذا الإنسان أنه علق خلق من علق ، وإن ربه علّمه ، فهو متعلق الذات والكمالات بربه ، ولكنه ينسى فيطغى أن رأى نفسه مستغنيا عن ربه وليس به!.

إن رؤية الاستغناء هي الدافعة للطغوى : أن يحسب الإنسان نفسه مستغنيا عن ربه فيطغى عليه ويعصيه ، ومستغنيا عن الخلق فيظلمهم ، فلا الغنى ولا الاستغناء ، ليس واقعا يعيشه أي إنسان ، وإنما الخطأ في الرؤية ، أن يراه كذلك وليس به : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) خطأ عامدا يندد به بأشده ، كيف لا ينتبه أنه فقير إلى الله كما كان بداية أمره! وأن رجوعه إلى ربه ، لا يستطيع الفرار عن رجعاه ، مهما كان مبتداه!.

هذه الرؤية الخاطئة قد تجعل الإنسان طاغيا على الله وعباده في حملة واحدة ، كالذي ينهى عبدا إذا صلى :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى. أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) :

أبو جهل الطاغية يرى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي عند البيت ويقول لحزبه : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال : فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ، فقيل له : ها هو ذلك يصلي ، فانطلق ليطأ على رقبته فما فجئهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويقي بيديه ، فقالوا : ما لك يا أبا الحكم! قال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة ، وقال نبي


الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ، فأنزل الله سبحانه (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ..).

إنه ليس المحرم هو النهي عن الصلاة الصحيحة فحسب ، بل الباطلة أيضا. وكما أن عليا عليه السّلام ما نهى عنها سنادا إلى هذه الآية (١).

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) :

«أرأيت» الأولى ، وهذه الثالثة ، خطابان للنبي (ص) تسديدا له صمودا على تقواه وهداه ، والوسطى للذي كذب وتولى تنديدا به كيف ينهى عن الهدى والتقوى : ألم يعلم بأن الله يرى! «كلا» * فلو رأى ودرى لم يفعل فعلته الرديئة السافلة.

(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ).

السفع هو الأخذ بسفعة الفرس ، أي سواد ناصيته ، كناية عن تحديده على ما يرام ، ولقد سفع الله ناصية هذا الكذاب الأشر ، ووسم خرطومه يوم أحد إذ قتل ، وهنا إذ منعه عن وطئ رقبة الرسول (ص) حين يصلى ، معجزة حاضرة حاذرة ، وآية ترهب حزبه الخاطئين ، أن الله تعالى ليس بمهمل للمؤمنين ، وسوف يسفعه ويسم على خرطومه : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) يوم البرزخ والقيامة (فَلْيَدْعُ

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٦١٠ : خرج علي (ع) في يوم عيد فرأى أناسا يصلون فقال : أيها الناس قد شهدنا نبي الله (ص) في مثل هذا اليوم ، فلم يكن أحد يصلي قبل العيد ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين! ألا تنهى أن يصلوا قبل خروج الامام! فقال : لا أريد أن أنهى عبدا إذا صلى ، ولكنا نحدثهم بما شهدنا من النبي (ص) أو كما قال.


نادِيَهُ) هناك ، كما هدد بها الرسول هنا (١) ، (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) : الملائكة الغلاظ الشداد التسعة عشر : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ).

(كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) :

ف «اقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا» (٢) هنا يسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلا في سجوده : «أعوذ بالله ، برضاك من سخطك ، وبما فاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، حتى لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك»(٣).

فهذه من آيات السجدة الواجبة ، والباقية هي : آية النجم (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٥٣ : ٦٢) وفصلت (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٤١ : ٣٧) والسجدة : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) (٣٢ : ١٥).

تسمى المجموعة العزائم الأربع ، فتجب السجدة عند تلاوتها : قراءة وسماعا واستماعا ، لإطلاق الآيات ، وتعارض الروايات في السماع إيجابا ونفيا يعالج بردها إلى القرآن فالأخذ بالأول لموافقة الآيات ، ولأن الناهية وغير الموجبة توافق سائر

__________________

(١) تقول الروايات أن أبا جهل هدد النبي قائلا : «لقد علمت ما بها أكثر ناديا مني» فنزلت الآية.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٦١١ عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (ص) قال : ..

(٣) نور الثقلين ٥ : ٦١٢ من غوالي اللئالي روي في الحديث أنه لما نزل قوله تعالى : واسجد واقترب. سجد النبي (ص) فقال في سجوده : ..


المذاهب وتخالف الآيات بخلاف الآمرة كالآيات ، سواء (١). وإذا كنت في صلاة فريضة فسمعت آية السجدة أو استمعت ، أو أومأت لها إيماء ولا تسجد لأنها تنقض الصلاة ، ولأنك سوف تسجد في الصلاة ، وهي واجبة سابقة على وجوب السجدة وسببها ، والحق لما تقدم كما هو لمن تقدم.

وبقية الآيات الآمرة بالسجود تحمل على الاستحباب ، ولأنها تضم قرائن تصرفها عن الوجوب (٢).

__________________

(١) الكافي والتهذيب عن أبي بصير قال قال : إذا قرئ شيء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد(الوسائل ب ٤٢ من قراءة القرآن) وفيه عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال سألته عن الرجل يكون في صلاة في جماعة فيقرء إنسان السجدة كيف يصنع؟ قال : يؤمي برأسه. قال : وسألته عن الرجل يكون في صلاته فيقرء آخر السجدة ، قال : يسجد إذا سمع من العزائم الأربع ثم يقوم فيتم صلاته إلا أن يكون في فريضة فيومئ برأسه إيماء.

(٢) كآية النمل : «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (٢٧ : ٢٥) فإنها تنديد بتاركي السجدة لله إطلاقا ، وآية الحج : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ» (٢٢ : ٧٧) فإضافة الركوع والعبادة تجعلها آمرة بالعبادات المفروضة المعروفة بغير الآية وأشباهها ، فلا تشمل سجدة التلاوة ، وآية الرعد والنحل : «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» (١٣ : ١٥) (١٦ : ٤٩) وآية الحج : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» (٢٢ : ١٨) هذه الآيات انما تحكي سجود الكائنات لربها ، دون أمر حاضر زائد على ما يرام من العبادة والصلاة ، دون الآيات الأربع الماضية ، فإنها آمرة بالسجدة.


سورة القدر ـ مكية ـ وآياتها خمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٥)

* * *

... آيات خمس تبرز أهمية وحي القرآن ، والقلب الذي أنزل عليه ، والليلة التي أنزل فيها ، واستمرارية واقع القدر بإلهامات مستمرة على قلوب الطاهرين من آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم المكرمين ، تضم الحقائق من كل أمر.

لذلك تقول الروايات إنها نسبة أهل بيت العصمة المحمدية ، إلى يوم القيامة ، كما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله عن الله تعالى أنه قال : «اقرأ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) فإنها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦١٦ ح ٢١ ومثله الأحاديث في نفس المصدر كالتالي : ح ٩٥ ـ ٩٧ و ٩٩ و ١٠١ ـ ١٠٣ و ١٠٨ و ١١٠.


نسبة روحية قدسية كما وأن سورة الإخلاص نسبة رب العالمين.

في هذه السورة ندرس : ما هو النازل في ليلة القدر؟ وما هي ليلة القدر؟ ومتى هي؟ وما هي خيرتها من ألف شهر؟ ومن هو الروح المتنزل مع الملائكة فيها؟ وعلى من تتنزل؟ وبماذا تتنزل؟ وما هو السلام فيها حتى مطلع الفجر؟.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) :

هل هو نزول روح النبوة ـ القدسية ـ على الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ أم وحي القرآن النازل عليه بتمامه طوال الدعوة؟ أم بعض القرآن وعلّه هذه السورة نفسها؟ أم القرآن كله بصورة محكمة غير مفصلة ، متحللا عن هذه التعابير اللفظية والأمثال ، والتكررات والإخبارات عن المستقبل؟

لا نحتمل أنه بعض القرآن المفصّل ، ولا بعض المحكم ، لمكان «ه» * لا «بعضه» * : وعلى كونه بعضه لا نحتمل أنه نفس السورة ، لمكان «ه» * لا «ها» * ولأنه إخبار عما سبق : «أنزلناه» * لا عن الحال : «ننزله» ف (أَنْزَلْناهُ) يحيل أن يكون النازل هو سورة القدر نفسها ، لذكورة الضمير ومضيّ الفعل.

إضافة إلى أن نزول البعض من القرآن ـ أيا كان ـ في ليلة القدر ، أنه من توضيح الواضحات ، إذ إن أبعاض القرآن منتشرة نزولا على أبعاض زمن الرسالة ، ومن أحراها ليلة القدر ، وإن نزول البعض منه فيها لا تكسبها فضيلة خاصة ، إذ الأبعاض كلها قرآن ، وكلها تكسب زمنها فضلا دون اختصاص ببعض دون بعض.

ولا نحتمل أيضا أنه القرآن المفصل ، النازل طوال الرسالة نجوما متفرقة ، فكثير من آياته لا تتحمل نزولها دفعة واحدة ، بداية البعثة ، كالمخبرة عما تحقق متأخرا عن ليلة القدر بصيغة الماضي : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) (٥٨ : ١) وأمثالها.


والآيات الناهية عن استعجاله بالقرآن قبل أن يقضى إليه وحيه : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢٠ : ١١٤) (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (٧٥ : ١٦).

ولو كان القرآن المفصل نازلا عليه جمله واحدة ليلة القدر ، لم يكن في قراءته قبل نزوله التدريجي استعجال ، وإنما حكاية عما أوحي إليه ، ونفس ما أوحي إليه ، إضافة إلى تصريحات أخرى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢٥ : ٣٢).

وأخيرا لا نحتمل أنه روح النبوة القدسية ، لأنها نزلت عليه منذ بداية الوحي فهل يا ترى إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم تكن له روح النبوة ، بينه وبين ليلة القدر الأولى من سني رسالته ، زهاء خمسين يوما أو يزيد (١)؟

فنحن هنا بين واقعين : واقع نزول القرآن في ليلة مباركة : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤٤ : ٣٦) وهي ليلة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وهي من رمضان : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢ : ١٨٥).

وواقع نزوله نجوما متفرقة طول البعثة خلال ٢٣ سنة كما هو الواضح.

ولا بد أن يختلف النزولان مع بعض ، فهل هو نزوله المفصل مرتين؟ كلا! للدليل المسبق ، سواء أكان نزولا على قلب الرسول في هاتين المرتين ، أم في المرة الأولى إلى بيت المعمور في السماء الدنيا دفعة واحدة ، وفي الثانية على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نجوما متفرقة (٢) ، وهذه أسطورة لا يقبلها العقل والدين ولا آي

__________________

(١) من ٢٧ رجب إلى ليلة القدر المردة بين ما يأتي.

(٢) في الكافي عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ، ثم نزل في طول عشرين سنة(نور الثقلين ج ٥ ص ٦٢٤ ج ٥٣). ـ


القرآن المبين ، إضافة إلى الدليل المسبق من لزوم الكذب ، إلا أن يعنى منه قلب الرسول (ص) ، فأي بيت هو أعمر من قلبه المنير ، وهو أيضا في السماء الدنيا ، مع الخلق المكلفين ضرورة كونه في المرسل إليهم ، وإن كان كيانه فوق العالمين : بالأفق الأعلى.

ثم القرآن ليس طرأ يصعد أو ينزل إلى بيت في السماء! فليكن الرسول هو المعني بالبيت المعمور ، إذ عمر بقلبه المنير بوحي اللطيف الخبير.

أقول : لا سبيل إلى شيء من ذلك ، وإنما هو نزوله جملة واحدة بصورة محكمة دون تفاصيل ، في ليلة القدر على قلبه المنير ، ثم نجوما متفرقة طوال البعثة.

والقرآن يشير إلى هاتين المرتين في آيات ويصرح في أخرى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١) ف «ثم» * هنا ، تفصل بين القرآن المفصل والمحكم غير المفصل ، أن المفصل يتطلب نزوله زمنا بعيدا ، وهو مجموعة زمن الدعوة ، ولكن المحكم لا يتطلب إلا وقتا قصيرا يناسب أن يكون ليلة القدر.

ولقد كان الرسول خبيرا بالآيات قبل أن يقضى إليه وحيها : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ومن المحال الاستعجال فيما لم يسبق منه للرسول بال ، ولقد كان يحرك به لسانه ليعجل به ، أتحريكا دون أن يعلم منه شيئا! : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (٧٥ : ١٦ : ١٩). فقد نهي

__________________

ـ وهذه الرواية واحدة شاذة لا سبيل فيها إلا التأويل المسبق في المتن ، وسندها : حفص بن غياث ، عامي لم يوثق وكذلك الراوي عنه محمد بن سليمان.

ولو كانت صحيحة مستفيضة أيضا لم تكن تثبت بيتا جسمانيا من حجر ومدر نزل فيه القرآن ليلة القدر إذ المعنى لا ينزل على الجسم ، إلا جسما فيه معنى ـ بحسابه ـ كقلب النبي الأقدس (ص).


عن الاستعجال في لفظا القرآن لينضم وحي اللفظ إلى وحي المعنى فيصبح القرآن وحيا مزدوجا ، وليكون تفصيل وحي المعنى أيضا بالوحي ، كما نرى في آيات تصرح : أن تفصيل الكتاب كمحكمه ، من الله (ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (٤١ : ٢).

ولقد سبق محكم القرآن أم الكتاب ، وفي هذه المرحلة المسبقة لم يكن كتابا ولا قرآنا ، وإنما علم الله المحكم دون أن يعلمه أحد : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١٣ : ٣٩) : أصل الكتاب ، وعند ذاك لم يكن قرآنا يقرء : ولا عربيا : واضحا ، وإنما الله جعله قرآنا عربيا : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣ : ٢) ـ ٣) عليّ من أن تناله الأفهام ، حكيم من أن تتطرق اليه الأوهام.

وبعد هذه الحكمة البعيدة المدى قبل نزوله ، أنزله الله بصورة محكمة هي تفصيل ام الكتاب ، أنزله على رسوله ليلة القدر جملة واحدة ، ثم فصله له طوال البعثة نجوما متفرقة ، ولم يكن الرسول ليعلم قبله لا مفصله ولا محكمه : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) (١١ : ٤٩) (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ..) (٤٢ : ٥٢) (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٤ : ١٣).

وهذه مراحل ثلاث للقرآن : ١ ـ القرآن المحكم لدى الله ، ٢ ـ القرآن المحكم لدى الرسول ، ٣ ـ القرآن المفصل لدى الرسول فلدى الناس : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) :

نستوحي من هذه التأكيدات الثلاث منزلة القرآن العالية ، ف «إن» * يؤكد النزول ، إذ لو لم يكن يتنزل القرآن عما عند الله من العلو والحكمة العالية ،


لم يكن الرسول ليفهمه فضلا عمن سواه ، فليس النزول هنا من مكان عال ، وإنما من مكانة عالية هي مرحلة ام الكتاب.

وضمير الجمع «نا» * يؤكد لنا : أن هذا القرآن مجموعة الرحمات الإلهية الممكن نزولها على الإنسان ، فجمعية الصفات هنا ـ لا الذات ـ تدلنا على أن نزول القرآن تصاحبه كافة الإفاضات من كافة الصفات الإلهية في أمرين :

حمل القرآن لما يمكن حمله من العلوم والتوجيهات الإلهية أولا وأخيرا ، ووضوح آياته ونصوعها لآخر درجات الإمكان ، فلا أوضح منه بيانا ، كما لا أعمق منه برهانا وتبيانا.

وأخيرا ـ إضافة إلى الأدلة المسبقة ـ نستوحي من إنزال القرآن هنا نزوله الدفعي ، كما التنزيل هو التدريجي ـ تتبع موارد استعمالها.

ثم لماذا أشير هنا بالضمير «أنزلناه» * دون تصريح بالقرآن؟ اعتبارا بأن القرآن المحكم ضمير مستتر ، وأنه لا يحق أن يعنى بالضمير المجهول ، إلا الوحي الأخير ، فكما ان «هو» * في الأشخاص لا يعني إلا الهوية المطلقة الإلهية ، لأنه «هو» * على الإطلاق ، كذلك «هو» * في النازل من وحي السماء لا يحق إلا للهوية المطلقة الكتابية ، فكتاب الله إله الكتب لأنه أنزله بعلمه.

واستنتاج ثان وهو أن النازل ليلة القدر لم يكن هذا القرآن المفصل حتى يصح القول : إنا أنزلنا هذا القرآن ، وإنما روحه المجمل ، ومحكمه المجهول عنا ، الغائب عن عقولنا ، ولذلك كله يستحق ضمير الغائب المطلق «هو» * تأمل.

(فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) :

فما هو القدر؟ وكم هي ليلة القدر؟ وما هي؟ وهل هي تتكرر طوال الزمن؟ أم إنها ليلة مضت دون تكرار؟ أم تكررت زمن الرسول ثم انقطعت؟.


بحوث قيمة ذات قدر حول ليلة القدر ، علنا ندرسها معمقة ، على أسهل تعبير وكما هي دأبنا في هذا التفسير :

ف «القدر» * : علّه المنزلة والمقام ، اعتبارا بما حصل في ليلته وما يحصل ، فليس الزمان ذا قدر ومنزلة ذاتيا ، اللهم إلا بما يحل فيه من عظائم الأحداث الجليلة ، ولهذا الحدث العظيم : حدث نزول القرآن الكريم ، حدث الوحي والرسالة الأخيرة ، إن له منزلة لا أعظم منها ولا يساويها أيّ من أحداث التاريخ ، .. إن منزلتها تفوق كل المنزلات طوال الزمن ، إذ لم يأت بما أتته كل الزمن.

إن هذه الليلة المباركة تفوق عظمتها الإدراك البشري ، وإدراك الرسول أيضا كبشر ، وإنما هو يدركها كرسول : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) : ألف شهر يقام فيها في سبيل الله ، وألف شهر يعارض فيها شريعة الله ، خير من التاريخ بأسره ، من شرّه إذ تكافحه ، ومن خيره إذ تفوقه.

و «القدر» * عله ـ أيضا ـ التقدير : تقدير قيم الإنسان ، وتدبير حياة الإنسان لأعمق أبعاد التاريخ ، تقدير ما أشمله ، من تفريق كل أمر حكيم : (.. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٤ : ٣) وهذا مما يستمر طوال الرسالات والرسالة الإسلامية حتى آخر زمن التكليف ، وتقدير يخص زمن الرسول ، بنزول القرآن الحاوي لكل الأقدار وكل ما تتطلبه الحياة كل الحياة.

ونجد تفاسير أخرى لمعنى القدر في المروي عن أهل بيت الرسالة المحمدية ، من : أنها ليلة قدرت فيها السماوات والأرض ، وقدرت ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام


فيها (١) إيحاء إلى نوعي التقدير تكوينا وتشريعا ، باعتبار أن ولاية علي عليه السّلام تضم كافة الولايات التشريعية لأنها تمثل الولاية القدسية المحمدية التي هي خاتمة الولايات وجامعة النبوات.

وأنها ليلة تقدير الأرزاق والآجال كما عن جعفر بن محمد عليه السّلام (٢) وهي من فروع تقدير السماوات والأرض ، وقد يعم تقديرهما تقدير ما هو كائن إلى يوم القيامة كل ليلة قدر بسنتها بما فيه المقامات الروحية كما عن الرسول الأقدس (ص) (٣) والإمام الرضا عليه السّلام (٤).

(لَيْلَةِ الْقَدْرِ) :

إنها ليلة واحدة في السنة لمكان تاء الوحدة «ليلة» * لا «الليل» * حتى يفيد الجنس الملائم لأكثر من ليلة ، ولا «ليال» حتى ينص على العدد .. إنما «ليلة» *.

__________________

(١) كما في معاني الأخبار عن المفضل قال ذكر أبو عبد الله (ع) (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال : ما أبين فضلها على المشهود قال قلت : وأي شيء فضلها؟ قال : نزلت ولاية أمير المؤمنين (ع) فيها ، قلت : في ليلة القدر التي نرتجيها في شهر رمضان؟ قال نعم هي ليلة قدرت فيها السماوات والأرض ، وقدرت ولاية أمير المؤمنين (ع) فيها(نور الثقلين ح ٥ ص ٦١٧ ح ٢٣).

(٢) المصدر ص ٦١٨ ح ٢٩.

(٣) المصدر عن معاني الأخبار عن أمير المؤمنين على (ع) قال قال رسول الله (ص) يا علي أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت : لا يا رسول الله (ص)! فقال إن الله تبارك وتعالى قدر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة فكان فيما قدر عز وجل ولايتك وولاية الأئمة من ولدك إلى يوم القيامة(المصدر ص ٢٩٦ ح ٨٠ عن معاني الأخبار).

(٤) نور الثقلين عن عيون الأخبار في مجلس الرضا (ع) مع سليمان المروزي ـ قال سليمان للرضا (ع) : ألا تخبرني عن (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) في أي شيء نزلت؟ قال يا سليمان ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة ، من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق. وفي ح ٨٤ عن الباقر (ع) مثله.


هذا ـ ولكننا ماذا نصنع بواقع اختلاف الآفاق ، وعله حوالي يوم أو يومين في الكرة الأرضية ، إضافة إلى اختلاف الليل والنهار في وقتيهما أيضا حسب اختلاف الآفاق ، فنهار النصف من الكرة ليل في النصف الآخر ، وحسب طوال الليل أو النهار إلى قرابة ستة أشهر ، فما هو المناط في ليلة القدر من هذه الآفاق؟

قد يقال : إن لكل أفق ليلة قدر يخصه ، فهي ليال حسب مجموعة الآفاق رغم كونها ليلة حسب كل أفق ، ويشكل أن الآية لا تتحدث عن كل أفق قبال الآفاق ، وإنما عن كافة الآفاق ، حيث المعنيين بالآيات كافة سكنة الأرض.

ومن جهة أخرى ، إن تنزل الملائكة والروح فيها ليس إلا مرة في ليلة واحدة فما هي بين ليالي الآفاق؟.

نقول : بما أن ليلة القدر واحدة ، وتنزّل الملائكة والروح ليس إلا فيها على قلب الرسول محمد (ص) أو على قلب محمدي للإمام المعصوم ، من هنا وهناك نستوحي أن المناط في القدر هو الأفق الذي فيه الإمام ، ثم يقاس عليه سائر الآفاق ليلا أو نهارا ، ولا تبقى إذا إلا مشكلة اختصاص ليلة القدر ببعض الآفاق وحرمان الأخر منها ، والحلّ أن التردد فيها بين ليال عدة كما يأتي ، هذا التردد يكسب كل أهالي المعمورة ، ليلة القدر.

لنفرض أن ليلة القدر هي التاسعة عشرة من رمضان ، وهي في أفق الإمام ليلة الإحدى والعشرين منه ، أو بالعكس ، فهي واحدة رغم اختلاف الأفق : تسعة عشرة وإحدى وعشرين.

وفيما إذا كانت لا تقارن ليلة القدر في أفق الإمام ليلة في أفق آخر ، كأن يكون نهارا قران ليلة القدر ، فلأهالي أفق النهار أجرهم إذا كانوا في طاعة الله ، رغم جهلهم بها ، وبالإمكان أن الإمام يتنقّل كل سنة إلى مختلف الآفاق ليكسب الكلّ فضيلة القدر.


وأخيرا لا دليل على استيعاب ليلة القدر كلّ سكنة الأرض.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) : إن لهذه الليلة المباركة فضلا سابقا : هو نزول القرآن فيها ، ويكفيها قدرا أن تفوق ليالي التاريخ ، ولها فضل لاحق ، هو تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ، وأخيرا : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

فيا لها من كرامة منقطعة النظير لم تسبق في التاريخ ولا تلحقه أيضا.

هنا ندرس ألف شهر ، التي ليلة القدر خير منها : إن ليلة القدر هي ليلة واحدة من السنة ، لا من شهر ، فلما ذا لا تقول : خير من أربع وثمانين سنة؟

الجواب : لزوم التهافت حينذاك ، لأن لكل سنة من هذه السنين ليلة قدر ، فكيف تفضّل ليلة القدر على نفسها بمضاعفات ، ولما قال : خير من ألف شهر ، عرفنا أنها الشهور التي ليست فيها ليلة القدر ، فلا يعني من المفضّل عليه ألف شهر على التوالي ، إنما مقداره على حساب الأيام وهي ثلاثون ألف يوم ، أو ستون ألفا بانضمام النهار ، وهناك روايات متضافرة عن الرسول (ص) وأهل بيته الكرام تصرح بما توحيه الآية.

وهل إن الألف هنا حدّ لا يزيد ولا ينقص ، أم إنه رمز للكثرة اللانهائية ، بما أن حدث هذه الليلة العظيمة يربو على كافة الأحداث العظيمة في الأزمان كلها ، من خيرها ومن شرها؟

قد لا نستطيع أن نتأكد من أحدهما ، إذ إن رمز هذه الكثرة الكثيرة لا بد أن يكون أكثر من الألف بكثير ، فلتكن الألف حدا ثابتا.

وإن ليلة القدر لا تقف خيريتها على ألف شهر ، فما هو الألف بين آلاف السنين من تاريخ الرسالات الإلهية ، وما هو بين آلاف السنين من الدعايات المضادة!


والحل أن الألف هنا ألف عام وخاص يكافح التاريخ بأكمله ، بخيره وشره ، فهي الألف : الكثرة الكثيرة من الزمن التي حدثت فيها خيرات التاريخ بأجمعها ، فحدث هذه الليلة المباركة يربو عليها بأسرها.

وهي أيضا الألف التي حكم فيها بنو أمية ضد الإسلام بكل الطاقات والإمكانيات ، فما استطاعوا أن يزيلوا الأثر الهام الثابت في ليلة القدر : شريعة القرآن ودعوته.

إن زمن الحكم الأموي هو أشرّ الأزمنة التي مرت على التاريخ الإسلامي ، والتي تستقبل الإسلام إلى يوم القيامة ، وإذا كانت الطغمة الحاكمة الأموية لا تستطيع القضاء على ليلة القدر ، على القرآن النازل فيه ، وعلى نبي القرآن ودعوته ، فأحرى ألا تستطيع الطغم الحاكمة الأخرى أن تمس من كرامتها ، إلا جولات دعائية وادعائية ، فإن للحق دولة وللباطل جولة (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).

إن قوة الدعوة القرآنية أكثر بكثير من القوات المضادة ، طالما الكفر يكرس كافة طاقاته وإمكانياته ، لكنه لا يملك شيئا مما يملكه الحق من براهين ومن دوافع الخلود وسناد الخلود.

ورواياتنا متضافرة بين الفريقين في خيريّة هذه الليلة بالمعنيين عن النبي الأقدس (ص) وأئمة أهل بيته الكرام (ع) (١).

__________________

(١) ففي المعني الأول : أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال ذكر رسول الله (ص) يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقل بن العجرز ويوشع بن نون. فعجب رسول الله (ص) من ذلك فأتاه جبريل فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله خيرا من ذلك فقرء عليه سورة القدر قائلا. هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك فسر بذلك رسول الله (ص) والناس معه» (الدر المنثور ج ص ٣٨١). ومن طريق أصحابنا مثله كما في نور الثقلين ح ١٦ و ٤٥ عنه (ص) ـ


(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) :

.. الملائكة ـ كل الملائكة ـ دون استثناء ، لمكان «ال» * الاستغراق ، فإن الجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق.

والروح هو عظيم الملائكة وزعيمهم وليس منهم بدليل المقابلة ، وتخصيصه بالذكر من بين العموم بحاجة إلى دليل ، وقد يتأيد ويؤيده نظرات أهل الوحي والعصمة المحمدية (ع) (١).

__________________

ـ أقول : وهكذا كل أحداث التاريخ ـ الجليلة الخيرة ـ فليلة القدر خير منها ، والألف هنا إشارة إلى حده لبيان بعض المصاديق كما في الحديث ، واشارة إلى زمن الخير كله دون حد.

وفي المعنى الثاني أخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس قال رأى رسول الله (ص) بني أمية على منبره فساءه ذلك فأوحى الله إليه : انما هو ملك بصيبونه ونزلت : إنا أنزلناه .. وأخرجه أيضا عن ابن المسيب مثله ، وأخرجه الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن يوسف بن مازن الرواسي عن الامام الحسن (ع) مثله بزيادات منها : من ألف شهر يملكها بنو أمية يا محمد! قال القاسم فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما (المصدر) وفي المستفيض من طريق أصحابنا مع تفاصيل أخرى كما في ح ٤٢ و ٤٣ عن الامام الصادق (ع) عنه (ص) وح ٤٤ عن علي (ع) عنه (ص) وح ٤٥ عنه (ص) وح ٤٦ عن الامام الحسن المجتبي (ع) عنه (ص).

(١) أبو بصير قال قلت للإمام جعفر الصادق (ع) : جعلت فداك الروح ليس هو جبرائيل؟ قال : الروح أعظم من جبرائيل ، ان جبرائيل من الملائكة ، وإن الروح هو خلق أعظم من الملائكة ، أليس يقول الله تبارك وتعالى : تنزل الملائكة والروح؟ (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٣٨ ح ١٠٤).

وعن الامام الباقر (ع) مثله كما في ح ١١٠ ـ المصدر ، وعن الصادق (ع) مثله كما في تفسير البرهان ح ٤ ص ٤٨١ ح ١ ويلمح إليه ح ١٠٨ ج ٥ نور الثقلين ص ٦٣٩. وفيه : يستوجب الامام زيادة الروح ليلة القدر ، ويلوح أن الروح هذه روح قدسية منفصلة عن الملائكة وسائر المعصومين ، وهي تفاض عليهم بإذن ربهم ليالي القدر.


وهذا هو الروح القائم مع الملائكة يوم القيامة أيضا : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧٨ : ٣٨) (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٧٠ : ٤).

واعتبار أن الروح هو ما به الحياة ، نستوحي أن الروح هذا من به حياة ملائكية الملائكة ، على أنهم أيضا أرواح ، وفيهم من سمي روحا ـ لا مطلقا ـ وإنما : (بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢ : ٨٧ و ٢٥٣ و ٥ : ١١٠) و (رُوحٌ مِنْهُ) (٤ : ١٧١) و (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) (٤٠ : ١٥ و ١٦ : ٢) و (الرُّوحُ الْأَمِينُ) (٦ : ١٩٣) و (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٤٢ : ٥٢).

هذه هي الأرواح المذكورة في القرآن ، بين ما هو روح القدس النازل على النبيين ، وما هو الوحي النازل عليهم ، ومن هو ملك الوحي : جبرائيل أم أعوانه.

ولم يذكر الروح دون قيد في القرآن إلا ثلاثا فيمن قوبل به الملائكة ، وهو روح الملائكة وزعيمهم ، وإلا مرة واحدة كذلك في الروح القدسية المحمدية : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٨٥).

من هنا وهناك نستوحي الوفاق بين الروحين ، النازل والمنزل عليه ، فالروح النازل هو روح الملائكة ، والمنزل عليه هو روح النبيين ، الروح القدسية المحمدية ، روح محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في وحي القرآن ليله ، وفي نزول كل أمر طوال البعثة ، وأرواح محمدية بعد ارتحاله إلى جوار رحمة ربه ، أرواح المعصومين من عترته ، الحاملين روحه القدسية وعصمته الإلهية.

ونستوحي استمرارية ليلة القدر من قوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) دون «تنزل» * فالفعل مضارع يدل على استمرارية نزول الملائكة والروح ، إذا فليلة القدر بهذا الاعتبار مستمرة طوال الزمن ومنذ البعثة ، وإن كانت


باعتبار نزول القرآن ليلة واحدة بداية البعثة ، أو كانت ثلاثة وعشرين ليلة طوال البعثة بالاعتبارين ، لكنها مستمرة بنزول الملائكة والروح ، وعلى حد تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : هي إلى يوم القيامة (١).

فهل تتنزل الملائكة والروح من كلّ أمر على بقاع الأرض ، كلا ، إنما على قلب واع ، قلب محمد أو قلب محمدي لا سواه ، قلب واع مّا يتنزل عليه من كل أمر ، لا القلوب المقلوبة ، أو غير المستعدة لهكذا نزول هامّ في كل سنة.

إنها القلوب الطاهرة من أهل بيت العصمة المحمدية ، محمد أم سواه ، ممن رعاهم

__________________

(١) في مجمع البيان : جاءت الرواية عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله (ص)؟ ليلة القدر هي شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل فيها فإذا قبضوا رفعت؟ قال (ص) : لا بل هي إلى يوم القيامة (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٢٠).

وأخرج أبو داود والطبراني عن ابن عمر قال سئل رسول الله (ص) وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال : هي في كل رمضان ، ومثله ما أخرجه محمد بن نصر عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب أم هي في كل عام فقال : بل هي لامة محمد ما بقي منهم اثنان. (الدر المنثور ج ٦ ص ٣٧١).

وما رواه أبو جعفر الجواد (ع) «أن أمير المؤمنين علي (ع) قال لابن عباس أن ليلة القدر في كل سنة وأنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (ص) فقال ابن عباس : من هم؟ قال : أنا وأحد عشر من صلبي» وعن أبي جعفر الباقر (ع) مثله (ح ٤٠) وعن الامام الصادق (ع) في استنكار رفعها : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن (ح ٤١). أقول : لأن الأمور النازلة ليلة القدر هي شروح لما أجمل في القرآن.

وفي أحاديث عدة أنها منذ بداية الخلق إلى يوم القيامة ، وتعني بداية خلقة المكلفين أو لعله أعم ـ تأمل.


ورباهم بالوحي ، من علي أمير المؤمنين عليه السّلام إلى المهدي القائم محمد بن الحسن العسكري عليهم أزكى التحية والسلام (١).

وبهذه المنزلة السامية تصبح سورة القدر حاكية عن منزلة أهل بيت العصمة المحمدية ، وهي نسبتهم الروحانية ما أعلاها.

(.. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) :

من كل أمر : بعضا من كل الأوامر والأمور ، لا كلّها ، فمن الأمور والأوامر ما هي مختصة بالله تعالى ، ومنها ما يتنزل على الناس أجمع ، ومنها ما لا يتنزّل إلا على المعصومين الطاهرين ، قادة العباد وساسة البلاد وأركان الإيمان وأمناء الرحمان.

فالنازل على العباد ليس إلّا من بعض أمر ، لا من كل أمر ، والله تعالى عنده وله كل أمر ، تكوينيا وتشريعيا ، علميا وتنفيذيا.

ثم ينزل على أمنائه المصطفين المخلصين ، من كل أمر ، فما هو الأمر؟ وما هو كل أمر؟.

هنا ندرس الأمر بكيانه ونزوله من «حم» : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا

__________________

(١) الكافي عن الإمام الصادق (ع) قال : كان على (ع) كثيرا ما يقول : اجتمع التيمي والعدي عند رسول الله (ص) وهو يقرأ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) بتخشع وبكاء ، فيقولان : ما أشد دقتك لهذه السورة؟ فيقول رسول الله (ص) لما رأت عيني ووعى قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي ، فيقولان : ما الذي رأيت؟ قال فيكتب لهما في التراب : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ـ قال : ثم يقول : هل بقي شيء بعد قوله عز وجل (لِّ أَمْرٍ) فيقولان : لا ـ فيقول : هل تعلمان من المنزل إليه بذلك؟ فيقولان : أنت يا رسول الله (ص) فيقول : نعم ، هل تكون ليلة القدر من بعدي؟ فيقولان : نعم ـ قال : فيقول : فهل ينزل ذلك الأمر فيها؟ فيقولان نعم ـ قال : فيقول : إلى من؟ فيقولان : لا ندري ـ فيأخذ براسي ويقول : إن لم تدريا فادريا ، هو هذا من بعدي ـ قال : فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول الله (ص) من شدة ما يداخلهما من الرعب» (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٣٣ ح ٩٠).


أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٤٤ : ١ ـ ٨).

فليلة القدر هي ليلة الفرق والفصل لكل أمر حكيم ، حكيم عند الله العزيز الحكيم ، وكما كان القرآن في ام الكتاب لدى الله عليّا حكيما : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ثم فصّله ليلة القدر ، وأنزله على قلب الرسول البشير النذير ، أنزله من علوّه الإلهي ، وفصّله من حكمته الإلهية ، ولكي يدركه الرسول ، ثم فصّله تفصيلا ثانيا طوال البعثة كما شرحناه مسبّقا.

هذا تفريق أول للرسول ، ثم تفريق ثان بالنسبة للأقدار والأقضية الإلهية طوال السنة ، يفرقها الله تعالى لرسوله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ويشاركه في التفريق الثاني الأئمة من أهل بيته المعصومين ، كلّ في زمنه ، لمكان الاستمرارية المستفادة لهذه الليلة المباركة من : «تنزل» * (فِيها يُفْرَقُ) لا «تنزل» * أو «فرق» *.

ثم (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) لا يخص أمور وأوامر الكرة الأرضية ، وإنما الكونية تماما : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) فهذه الربوبية الشاملة توحي أن هذه الرحمة أيضا شاملة : (رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) تشمل الكون أجمع ، فإن محمدا والخلفاء المعصومين المحمديين هم خلفاء الله في الكون أجمع ، والكرة الأرضية على صغرها هي المركز الرئيسي للتشريعات والأحكام ومعرفة الأقضية والأقدار الإلهية (١).

__________________

(١) عن الإمام الصادق (ع) قال : قال علي (ع) في صبيحة أول ليلة القدر التي كانت بعد ـ


وليس معنى القضاء والقدر والإنشاء ليلة القدر ، خروج الأمور عن خيرة الإنسان ، وإنما قدر وقضاء وإبرام على ضوء المساعي التي يقدمها الإنسان ، فرب خير يؤخّر ، أو يبدّل إلى شر ، لتأخر الإنسان عن معداته أو تركه لها إلى أضداده.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) :

ومما توحيه سورة القدر أن الأمور المقدرة فيها ليست إلا الخيّرة لا الشريرة ، وإنما حوادث الشر هي حصائل فشل الإنسان في التماسه الخير ومزيد الخير ليلة القدر ، ثم توانيه في السعي نحو الخير ، أو تركه إياه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

هنا نعرف مدى علوم المعصومين من أهل بيت الرسالة المحمدية صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنهم يعرفون من الغيب كما يعلّمهم الله تعالى ، لا كل الغيب : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى

__________________

ـ رسول الله (ص): «سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم بما يكون إلى ثلاثمائة وستين يوما من الذر فما دونها وما فوقها ، ثم لا خبرتكم بشيء من ذلك لا بتكلف ولا برأي ولا بادعاء في علم إلا من علم الله تبارك وتعالى وتعليمه ، والله لا يسألني أهل التوراة ولا أهل الإنجيل ولا أهل الزبور ولا أهل الفرقان إلا فرقت بين أهل كل كتاب بحكم ما في كتابهم»

وعنه (ع) أنه سئل : أرأيت ما تعلمونه في ليلة القدر هل تمضي السنة وبقي منه شيء لم تتكلموا به؟ قال : لا والذي نفسي بيده لو أنه فيما علمنا في تلك الليلة أن أنصتوا لإعدائكم فنصتنا فالنصت أشد من الكلام.

ومن حديث له عليه السلام قال فيه : ينزل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من موت أو مولود ، قيل له : إلى من؟ قال : إلى من عسى أن يكون؟ أن الناس في تلك الليلة في صلاة ودعاء ومسألة وصاحب هذا الأمر في شغل نزول الملائكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها ، من كل أمر سلام هي له إلى أن يطلع الفجر» (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٤١ ح ١١١ ـ ١١٣).


غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٧٢ : ٢٧) : من رسول وممن يحذو حذو الرسول في الارتضاء الإلهي ، وهم الذين يحملون العصمة الرسالية وإن لم يكونوا رسلا.

متى هي ليلة القدر؟

إنها مجهولة في القرآن والحديث ، وإنما المعلوم أنها من رمضان ، فأين هي من رمضان؟

قد وردت روايات تفوق المائة من طرق أصحابنا حول سورة القدر ، وتحاول عشرات منها تعيين موقع ليلة القدر بين ليال عشر (١) : وأغلب الظن حسب أغلب الروايات أنها بين الثلاث «١٩ ـ ٢١ ـ ٢٣» والأغلب بينها الأخيرتان ، ثم الأغلب بينهما ٢٣.

ومن البديهي أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من عترته كانوا على علم واضح منها ، فكيف يجهل ليلة القدر من تتنزل الملائكة والروح فيها على قلبه المنير؟ إلا أنهم كانوا يجملون عن تعيينها لمصالح عدة كما تجدها في الروايات.

__________________

(١) في تفسير نور الثقلين روايتان أنها الليلة الأولى وهي ح ٢٨ و ٥٤ ثلاثة عشر أنها ٢٣ وهي ح ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٩ ، ٥٣ ، ٦١ ، ٦٥ ، ٦٩ ، ٧٩ ، ٧١ ، ٧٩ وواحدة أنها «٢١» وهي ٧٧ واثنتان أنها ٢٧ وهي ٧٣ ، ٧٤ ، هذه هي المعينة ، ثم هنا روايات مشككة بين ليال ، فبين ٢١ ، ٢٣ ست روايات هي ٣٣ ، ٥٧ ، ٥٨ ، ٨٨ ، ٦٠ وبين ١٩ ، ٢١ و ٢٣ سبع روايات هي ٦١ ، ٦٢ ، ٦٤ ، ٦٦ ، ٦٧ ، ٧٢ ، ٥٧. وروايات ثلاث انها بين ٢١ ، ٢٣ ، ٢٥ ، ٢٧ وهي ٧٦ ، ٧٨ ، ٨٤. وهنا روايات انها في العشر الأواخر وهي ٤٠ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٥٦ (نور الثقلين ج ٥).

وفي الدر المنثور عن النبي (ص) إضافة الليلة ٩ و ١١ ، ٢٩ ، ٣٠ أيضا (ج ٦ ص ٣٧٢). فالليالي المعدودة من القدر هي «١ ـ ٩ ـ ١١ ـ ١٩ ـ ٢١ ـ ٢٣ ـ ٢٥ ـ ٢٧ ـ ٢٩ ـ ٣٠» وهي ثلث ليالي الشهر.


وهنا روايات مختلقة أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نسيها فأمر أن يطلبوها في العشر الأواخر ، وليضرب بها عرض الحائط لاختلافها عن واقع علم الرسول وعن الأحاديث المستفيضة المصرحة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من عترته كانوا يعلمونها (١).

وقد نستوحيها متى هي؟ من علائمها على حد تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) :

إنها لا تنفي السلام عن سائر الليالي ، لواقع السلام فيها بعضا ، وإنما تخصّ السلام التام بهذه الليلة المباركة ، كرامة تخصّها بين ليالي السنة ـ فما هي؟

إنها ـ على حد تعبير زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام : «سلام دائم البركة إلى طلوع الفجر على ما يشاء من عباده بما أحكم من قضائه» (٣) ، وعلى حد تعبير

__________________

(١) أخرج ابن أبي شيبة عن الفلتان بن عاصم قال : قال رسول الله (ص) إني رأيت ليلة القدر ثم نسيتها فاطلبوها في العشر الأواخر وترا.

وأفضح منها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود قال سئل رسول الله (ص) عن ليلة القدر قال قد كنت علمتها ثم اختلست مني (الدر المنثور ج ٦).

وهذا الأخير يتنافى والآيات التي تدل على عصمته وأنه ليس للشيطان عليه سبيل ، فمن هذا الذي اختلس ليلة القدر عن النبي الأقدس ، أهو الله وحاشاه ، أم هو الشيطان (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فكيف بالرسول (ص).

وكما عن أبي جعفر الباقر (ع) قال : يا أبا هذيل! إنا لا يخفى علينا ليلة القدر ، إن الملائكة يطوفون بنا فيها.(نور الثقلين ج ٥ ص ٦٣٩ ح ١٠٥).

(٢) كما عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله (ص) عن ليلة القدر ، فقال : في رمضان في العشر الأواخر فانها في ليلة وتر : إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو آخر ليلة من رمضان ، من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن إماراتها أنها ليلة بلجة صافية ساكنة ساجية لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا ساطعا ولا يحل لنجم أن يرمى به تلك الليلة حتى الصباح ، ومن إماراتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها ، مستوية كأنها القمر ليلة البدر ، وحرم الله على الشيطان أن يخرج معها يومئذ(الدر المنثور ٦ : ٣٧٢).

(٣) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٤١ ح ١١٤ عن الصحيفة السجادية في دعائه (ع) إذا دخل شهر رمضان.


جده الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها ولا يستطيع فيها أن ينال أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد ولا ينفذ فيه سحر ساحر» (١).

ويتأيد هكذا سلام شامل بما نستوحيه من آية السلام : سلام هي ، لا : هي سلام ، فإن تقديم الخبر «سلام» * يفيد حصر المبتدأ «هي : ليلة القدر» في السلام ، فهذه الليلة محصورة بالسلام دون سواها التي فيها سلام ولا سلام.

فليلة القدر سلام إذ أنزل فيها القرآن الحامل للإسلام التام الكافل للسلام الأبد ، وسلام إذ تتنزل فيه الملائكة والروح من السماء إلى الأرض فتندحر الشياطين بوفود الملائكة ، وسلام إذ تتنزل ملائكة السلام بكل أمر ، بكل خير عاجل وآجل ، وسلام لكل دعاء فيها إذ يسلم من الرد لو لا أنه تأتي بالبوار والدمار ، وسلام لكل من في الأرض عفويا وإن لم يكونوا من أهل السلام والإسلام .. وإلى أن يطلع الفجر.

__________________

(١) المصدر ص ٦١٥ ح ١٥.


سورة البينة ـ مدنية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ


تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

* * *

أهل الكتاب هم ـ على الأكثر ـ أتباع التوراة والإنجيل ، حسب اصطلاح القرآن ، وقد قرنوا هنا وفي آيات عدة أخرى ، قرنوا بالمشركين ، مما يبرهن لنا المعني من المشركين حسب القرآن : أنهم هم الوثنيون ، لا كل المنحرفين عن خالص التوحيد.

فأهل الكتاب مهما كان انحرافهم في عقيدة التوحيد من تجسيم وحلول وتثنية وتثليث ـ إنهم على انحرافاتهم الجارفة ـ لا يردفون في صف المشركين الوثنيين ، ولا تشملهم أحكامهم الخاصة ، مهما كانوا يضاهئونهم بعض الشيء في عقائدهم وطقوسهم ما لم تصل إلى عبادة الأصنام من دون الله.

نرى آيات بينات كهذه تؤكد لنا هذه الحقيقة ، بقرنها أهل الكتاب بالمشركين ، بل الإلهيين من غير الكتابيين أيضا ، كالصابئين والمجوس : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٦٢) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢٢ : ١٧).

وإذا لا يعد الصابئون والمجوس ـ الذين لا يعرف لهم كتاب ـ لا يعدون من المشركين ، فأحرى باليهود والنصارى ألّا يعدوا منهم ، طالما كانت لهم عقائد مضاهية للمشركين ، وأن القرآن يندد بهم لهذا الانجراف الطائش في إشراكهم : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).


فعلينا أن نفرق بين الإشراك في العبادة من الذين يعبدون أوثانا وأصناما وطواغيت من دون الله ، وهم المشركون النجس : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (٩ : ٢٨).

وبين الإشراك في الطاعة كاليهود والنصارى الذين (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (٩ : ٢١).

وبين الإشراك في نية العبادة كالرئاء فيها : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ١٠٦) : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١٨ : ١٠).

وبين الإشراك في ذات الإله كمن يثلث الله ويعتقده في ثلاثة أقانيم أو يثنيه في أقنومين .. وبين الإشراك في الخالقية وسواها من شؤون الألوهية ـ الخاصة.

والقرآن لا يعني من المشركين النجس إلا الفريق الأوّل وهم الوثنيون الذين لا يعبدون الله ، وإنما يعبدون من يزعمونهم شفعاء أو مختصين عند الله.

ومن «إنما» * في الآية : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) نستوحي أنهم الذين ليست عندهم إلا نجاسة العقيدة والعمل ، دون مبدأ إلهي يربطهم.

فالآية تحصر كيان المشركين ـ ككل ـ في النجس ، دون أن تحصر النجس فيهم ، مما يوحي بالمعنيّ منهم أنهم هم الوثنيون فحسب ، إذ إن غيرهم من المنحرفين في عقيدة الإله لا يحصر كيانهم ككل في النجس ، فلأهل الكتاب مبادئ صالحة ، مزيجة بأخرى غير صالحة من تجسيم وتثنية وتثليث ، وكما عند البعض من فلاسفة الإسلام كالمعتنقين عقيدة وحدة الوجود ، فكما ليسوا هم من المشركين النجس ، فكذلك أهل الكتاب ـ على ضلالهم ـ سواء.

والنجس في المشركين يجسم نجاسة أرواحهم ، فيجعلها ماهيتهم وكيانهم ،


فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس ، يستقذره الحس تباعا للروح ، ويتطهر منه المتطهرون ، وإنه النجس المعنوي لا الحسي ، ولكنها سرت إلى الجسم أيضا كسياسة إسلامية ، لكيلا يعاشرهم المسلمون ، نجاسة سياسية حيادية نشأت عن نجاسة المبدأ الذي يعتنقونه ، وهو تأليه غير الله.

إن القمة التي يهمها القرآن هي قمة التجرد لله والخلوص لدينه ، وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة ، وهذه القمة ليست بالتي تتعايش منهج الجاهلية الرافضة لمبدأ الإله الحق ، مهما تساير الإلهيين الذين يؤمنون بالله ـ كيفما كانت تخلفاتهم عن خالص التوحيد ـ تسايرهم علهم يؤمنون : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٣ : ٦٤).

وبعد كل ذلك فآية المائدة ـ وهي آخر ما نزلت من السور ـ إنها توحي لنا بطهارة أهل الكتاب : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) (٥ : ٥).

ولا يعنى من طعام أهل الكتاب إلا الذي يصنعونه أو يطبخونه ويلمسونه بأيديهم كالعادة ، إلا المحرمات المنصوص عليها في القرآن كالميتة والدم ولحم الخنزير والخمر وأمثالها.

والطعام ـ حسب اللغة (١) والقرآن والحديث ـ لا يخص البر وأمثاله كما زعم ، إنه كل ما يطعم وحتى الماء كما القرآن يصرّح : (.. قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٢ : ٢٤٩) : لم يطعمه : الماء.

__________________

(١) لسان العرب «الطعام اسم جامع لكل ما يؤكل ، وقال ابن الأثير : الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة والشعير وغير ذلك.


كما ويصرح بشمول الطعام لكل مأكول : (.. لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) (٢ : ٦١) : ولو كان هو البركان واحدا ، فالقيد بالواحد إذا زائد! (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٦٩ : ٣٦) : فيشمل كلّ مشروب أيضا فطعامهم وشرابهم حلّ ، وكذا صيد البحر : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) (٥ : ٩٦) .. فلو صاده كتابي وطبخه كان حلا كما هو حل من المسلم.

وإذ نرى روايات ، كأنها تخص الطعام بالبر والحبوب ، فهي لا تعني إلا إخراج اللحوم ـ كما يقول الإمام جعفر الصادق عليه السّلام : عني بطعامهم ها هنا الحبوب والفاكهة ، غير الذبائح التي يذبحونها فإنهم لا يذكرون اسم الله خالصا على ذبائحهم ، ثم قال عليه السّلام : والله ما استحلوا ذبائحكم فكيف تستحلون ذبائحهم (١).

ثم إن تطهير طعام أهل الكتاب وتحليله ، لو عني به البر وأمثاله من اليابس ، فهو تحليل للحلال وتطهير للطاهر ، وما من أحد يظن أن الطعام اليابس الطاهر ينجس بمجرد أنه للكتابي ، أو يلمسه بيده ، فليعن الطعام الذي تمسه يده برطوبة أو هو مرطوب.

هذا وكما السنة القطعية متضافرة على طهارة أهل الكتاب ، الذاتية (٢) بمعنى أنه لو لم تكن عليه نجاسة عرضية بالفعل ، ولم تسبقه النجاسة ، غير المتأكّد من تطهيرها ، كان محكوما بالطهارة ، فإذا علمنا أن كتابيا تنجس وتطهر ، ولم نعلم

__________________

(١) نور الثقلين ج ١ ص ٤٩٢.

(٢) كصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرضا (ع) الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة ، قال (ع) : لا بأس ، تغسل يديها(وسائل الشيعة ج ٢ ص ١٠٢ ح ١١) .. فلقد كان الدافع لهذا السؤال أنها لا تتوضأ ولا تغتسل ، لا إنها نصرانية ، فجاء : إنها تغسل يديها ، والروايات المانعة عن مؤاكلتهم توحي إلى لزوم تجنبهم ما أمكن لا أنهم نجسون كسائر النجس.


تاريخ المتقدم منهما ، والمتأخر ، حكمنا بطهارته لتعارض استصحابي الطهارة والنجاسة والرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وكذلك إذا علمنا طهارته وشككنا في زواله ، ثم يختلف عن طهارة المسلم فيما إذا تأكدنا من نجاسته وشككنا أنه طهّر أم لا ، فالكتابي إذا محكوم بالنجاسة قطعا ، ولكنما المسلم يحكم بطهارته لو غاب زمنا تؤتى فيه فرض الصلاة ، أو أية عبادة مشروطة بالطهارة ، والتفصيل إلى المفصلات ، وكما شرحناه في كتابا «الفقه على ضوء القرآن».

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) :

فمنهم من كفر بالرسالة المحمدية فعدّ في عداد الكافرين ، ومنهم من آمن فهم المؤمنون ، ولم يكن ليبرز الكفر والإيمان بينهم حتى تأتيهم البينة ، ولم يتمكنوا من التحلل عن كفرهم حتى أتتهم البينة فتمكنوا ، ولكنهم تمنّعوا ـ على مكنتهم ـ عن الإيمان.

إن انفكاكهم عن ضلالهم ـ علميا أو واقعيا ـ لم يكن يتحقق إلا على ضوء البينة : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : مطهرة من وحي الشيطان ، ومن الدس والتحريف ، رغم كتبهم التي أصيبت بشتى ألوان الاختلاف والاختلاق ، فلم يكن أهل الكتاب ليميزوا وحي الرحمان عن وحي الشيطان في كتبهم ، ولا المشركون بعقولهم المدخولة ، وأما إذا أتتهم البينة : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) ، فكان عليهم الانفكاك عن كفرهم ، ففريق منهم انفكوا فأصبحوا مسلمين ، وفريق تجمدوا على واقع ضلالهم عمليا ، رغم ظهور الحق لهم على ضوء الصحف المطهرة.

وبما أن الانفكاك هو الانفصال عن اتصال شديد ، اتصالهم الشديد بضلالهم القديم ، فقد كان من الواجب أن تأتيهم بينة قوية ناصعة ، لكي يتحللوا عما


اتصلوا به ، بينة بإمكانها البين فيما بينهم ، وبإمكانهم التبين بها بعد ما لم يكونوا ليتبينوا :

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) :

إن الرسول محمدا كان بيّنة من الله يحمل في دعوته آيات بينات : (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) وإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أقوى ما أتت الإنسان ـ عبر تاريخ الرسالات الإلهية ـ من البينات ، أقواها متنا وأبقاها زمنا بقرآنه المبين وتبيانه الحكيم.

فلقد كان قرآن محمد ومحمد القرآن معجزتين خالدتين عبر الزمن ، الضاربتين في أعماق التاريخ ، لا ترجعان إلى الوراء على تقدم العلم ، وإنما تزيدان نورا وظهورا وبهورا كلما تظاهر العلم وازدهر.

فكما كان القرآن بينة ما في الصحف الأولى وزيادة خالدة : «أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى» (٢٠ : ١٣٣) كذلك رسول القرآن كان بينة الرسل ، وعلى بينة القرآن : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (١١ : ١٧).

فلم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين عن ضلالهم الذي عاشوه منذ زمن بعيد ، إلا بهذه الرسالة السامية الجديدة ، التي تحمل كافة معجزات الرسالات وتوجيهات الرسالات وزيادات خالدات تعيش مع الزمن وتشرق على قلوب وأفكار الإنسان ما أشرقت الشمس على هذه المعمورة.

لقد عاشت الخرافات أفكارهم ، وشربت مياه قلوبهم ، وتصدرت في صدورهم ، أن زعموا الباطل حقا والحق باطلا ، فهم أهل الكتاب ، وهم


بعيدون عن وحي السماء ، بعد ما بين الأرض والسماء ، منحطين خابطين إلى وحي الأرض قربهم إلى الأرض.

(يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : يتلو ـ دون أن يكتفي بالقراءة ، فالتلاوة هي المتابعة :(وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٩١ : ٢ ـ ٣) فكما القمر قمر ما دام يتلو الشمس ، كذلك الرسول هو شمس هداية السماء ما دام يتلو القرآن ويتبعه قراءة وإقراء ، تفكيرا واعتناقا ، تطبيقا ونشرا ، وأن تكون حياته حياة التبعية لوحي القرآن أيا كان ، وأن يصبح هو قرآنا ناطقا عاملا موجها هاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ما دام فيهم ، ثم يبقى قرآنه صورة عن هذه الحتمية ، سندا بعده وإلى يوم الدين ، منارا يقاس عليه الغث والسمين ، ومدارا كتابيا لكل كتاب ، وداع إلى كتاب.

(صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : جمع الصحيفة ، وهي المبسوط من الشيء دون خفاء وخباء .. «مطهرة» * : هي خالصة الوحي ، دون شوب بوحي الأرض ، مطهرة عن التهافت والاختلاف والاختلاق ، وعن كل ريبة.

والقرآن هو الصحف المطهرة ، إذ إنه يحمل الوحي الصادق النازل على النبيين من قبل ، وفيه زيادات هي خاتمة الوحي ، أجل إنه الكتب كلها وزيادة ، كما محمد هو الرسل كلهم وزيادة.

إنه بينة ما في الصحف الأولى : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (٢٠ : ١٣٣) بلى أتتهم في الوحي الأخير.

أو إن الصحف المطهرة هي صحائف القرآن ، حاملة كل منها كتبا : مكتوبات ، قيمة.


«قيمة» * : إذ لا تنسخ ، خلاف البعض مما في الصحف الأولى ، قيّمة تحمل كل القيم الحيوية للإنسان ، وقيمة لأنها الأصل في التشريع يقاس إليه ما سواه.

وهذه الصحف المطهرة ـ مهما كانت ـ فهي لم تكن في قرطاس ، إنما في لوح قلبه المنير : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢٣ : ١٩٤).

فقبل أن توحى إليه لم تكن صحفا قطّ : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) (١١ : ٤٩) وقبل أن يتلوها عليهم ما كانت صحفا للناس ، إنما له إذ أوحيت إليه ، ثم بتلاوته لهم أصبحت صحفا لهم كما كانت له صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ودليلا كتابيا على أن الصحف ليست في قرطاس ، وإنما القرطاس ظرف ضئيل من ظروفه التي تحمله : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (٨١ : ١٠) : صحف الأعمال تنشر ، وليست هي إلا انعكاسات الأعمال والأقوال الموجيّة : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) (٨٠ : ١٦) ومعلوم أن الوحي لم ينزل على رسل السماء (الملائكة) ورسل الأرض (النبيين) لم ينزل عليهم في قرطاس : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦ : ٧).

فهذه الصحف المطهرة ـ وهي بينة ـ قد تلاها محمد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو أيضا بينة.

هذه ليست بالتي تسمح بالتفرق ، وإنما لزامها الوحدة المتماسكة حول الحق الناصع منها.

ولكن أهل الكتاب ، رغم أنهم لم يكونوا ليتفرقوا قبل هذه البينة ، فقد كانوا مجتمعين في الضلالة ، رغم ذاك ، أخذوا يتفرقون بعد ما جاءتهم البينة.


(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) :

تفرقوا في البينة وعن البينة ، تفرقا عامدا ، ففريق آمن وفريق كفر : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤).

وهكذا تكون طبيعة الإنسان وسجيته الطائشة المتخلفة : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢ : ٢١٣)(١).

ليس واقع الاختلاف وفكرته من الدّين الحق ، وإنما ممن يدّعون أنهم ديّنون ، ثم يختلقون مواد الخلاف تحت ستار الدين ، وقد عدّ الله تعالى الوحدة في الدين من رحماته الهامة التي يهدفها على ضوء الوحي وخيرة الإنسان دون تسيير (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٨). خلقهم للرحمة ، ومن أبرزها الوحدة في الدين ، خلقهم لها ووجههم إليها بالوحي المتواصل ، ناهيا عن الاختلاف : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (٣ : ١٠٥).

وإن أهم ما اختلف فيه أهل الكتاب لهو قصة الإله ، في كيانه وصفاته وأفعاله ، وفي عبادته ، فمن مجسّم ومثلّث ومثنّ ، ومشبه له بخلقه أسخف تشبيه .. وإلى أن أصبح السيد المسيح عند الكثير من المسيحيين ، أصبح موضوع الإيمان ، وإله الآب فرعه ، يذكر في عداد الأقانيم ، ولكنه على الهامش

__________________

(١) راجع كتابنا (المقارنات) من ص ١١٥.


في كيان الألوهية ، فتراهم يقولون : إلهنا وربنا المسيح ، ديّاننا ومنقذنا و... رغم أنهم كأهل الكتاب نهوا عن هذا وذاك :

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) :

عبادة الله وحده دون أن يعبد سواه أو يعبد معه سواه ، عبادة خالصة تنتج طاعة خالصة : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : الطاعة ، لا أن يعبدوا الله ثم يطيعوا سواه ، كما اتخذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، أربابا في الطاعة ، لا في عقيدة الألوهية والعبادة ، فما قيمة عبادة لا طاعة فيها وكما يتقولون : أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر! فمن هو قيصر ومن فوقه بجنب الله حتى يحسب له حساب في جنبه.

فكما الإشراك في عبادة الله كفر ، كذلك الإشراك في طاعته ، ومن أهم ما يرام في عبادة الله ، هو طاعته فيما يأمر وينهى ، وليس الإله المعبود غير المطاع إلا كجماد!

إنما هي عبادته وطاعته ، ومن أبرز عباداته إقام الصلاة ، ومن أبرز طاعاته إيتاء الزكاة : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) : دين الكتب القيمة ، وحي السماء الخالص عن دنس الأرض وخرافاتها ، فلقد أجمعت كتب الوحي القيّمة على هذه الأركان الأربعة الدينية ، مهما اختلفت في البعض من صورها ، أو البعض مما سواها :

١ ـ عبادة الله خالصة ، ٢ ـ طاعته خالصة .. حنيفا : معرضا عمن سوى الله في العبادة والطاعة ، ٣ ـ إقام الصلاة ، ٤ ـ إيتاء الزكاة .. (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) : ذلك طاعة الكتب القيمة.


لا أن يشرك بالله في عبادته وطاعته ، ويصلّى لغير الله كما المسيحيون أحيانا يصلون للمسيح ، ويطيعون أحبارهم كأنهم أرباب ، وأشرّ منهم اليهود.

ولا أن تدفع الأموال في متاجرات القساوسة ، إذ يشترون الذنوب بالأموال لكي يغفروها هم (١)!

(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) : لا ينسخ ولن ينسخ على مر الزمن وطوال رسالات السماء ، مهما اختلفت في أشكالها ، فالجذور واحدة (٢).

إن الكافر جحيم في الدنيا وجحيم في الآخرة ، كما المؤمن جنة في الدنيا وجنة في الآخرة ، وخلود كلّ من الفريقين إنما هو حسب خلوده في الكفر أو الإيمان ، عقائديا وعمليا ، جزاء وفاقا :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) :

فهل يا ترى كيف يسوى بين الكتابي والمشرك في خلود النار؟ نقول لا تسوية هنا ، رغم المشاركة في أصل الخلود ، إذ الخلود هو البقاء مدة طويلة ، فكلّ من الكتابي والمشرك يبقى في النار مدة طويلة حسب استحقاقه ، قليلا أو كثيرا ، فإنه ليس الخلود كما يزعم : هو البقاء الأبدي الفلسفي اللانهائي ، ولو كان لم يكن لقيد الأبد في خلود المؤمنين من معنى ، وهنا الأبدية في خلود المؤمنين توحي لنا أن الخلود منه أبدي ومنه غيره ، ورغم أن المشركين يخلدون في النار آبدين ، لم يذكر لهم الأبد هنا رعاية لشركائهم في العذاب : أهل الكتاب ، إذ لا يخلدون أبديا ، وليس من العدل تخليدهم كالمشركين.

__________________

(١) راجع كتابنا (عقائدنا) قسم غفران الذنوب عندنا ، وصكوك الغفران المسيحي.

(٢) راجع كتابنا (المقارنات) ص ١١٥.


ثم الخلود الأبدي أيضا لا يعني إلا خلودا أطول من غيره ، لا الخلود اللانهائي فلسفيا ، فإنه خلاف العقل والعدل والنقل ، قرآنيا وفي السنة ، ومما يوهن صلابة الخلود ـ في زعم اللانهاية ـ أن الخلود لغويا ليس إلا المقام مدة طويلة ، ولا يعني الأبد لخلود النار إلا أبد الحياة ومدى الحياة ، وإن كان الأبد في الجنة لا نهائيا ، إذ إن اللانهاية في الرحمة من فضل الله ، وهي في العذاب ظلم ، والنهاية في العذاب لزام عدله (١).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) :

هناك شر البرية وهنا خير البرية ، وهنا لك المتوسطون بين الفريقين على درجاتهم ، فلا أن أشرارهم يخلّدون في النار ، ولا أن أخيارهم يدخلون الجنة بغير حساب ، ومن خير البرية ـ وعلى حد قول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ هو نفسه وعينه وخليفته في أمته علي أمير المؤمنين عليه السّلام (٢).

__________________

(١) راجع كتابنا (عقائدنا) المخلدون في النار ص ٣٠٦ ـ ٣٢٢ والآية لابثين فيها أحقابا من سورة النبأ في هذا الجزء.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٧٩ ـ أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال كنا عند النبي (ص) فأقبل علي (ع) فقال النبي (ص) والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ونزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) فكان أصحاب النبي (ص) إذ أقبل علي (ع) قالوا : جاء خير البرية ، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عباس وابن مردويه عن علي (ع) ، وأخرجه ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري مرفوعا ، وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكافي قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل عن علي (ع) مثله.

أقول : وهذا من قبيل الجري والتطبيق في المختلف فيه بين المسلمين ، إذ من الضروري أن الرسول (ص) هو خير البرية قبل علي (ع) كما في اعتقادات الإمامية للصدوق قال النبي (ص) أنا أفضل من جبرائيل ومكائيل وإسرافيل ومن جميع المقربين وأنا خير البرية من ولد آدم (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٤٥ ح ١٥).

وثم بعد الرسول من رباهم بالوحي ، من خلفائه المعصومين ، كما في أصول الكافي عن طاهر قال كنت عند أبي جعفر (ع) فأقبل جعفر (ع) فقال أبو جعفر (ع) هذا خير البرية ، أو «أخير».


(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) :

جنات عدن ـ أي : استقرار ومقام دون خروج عنها : خلودا أبديا في الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات ـ كل الصالحات ـ وخلودا لكفرة أهل الكتاب والمشركين ، أبديا للآخرين وغير أبدي للأولين ، وأبدية الخلود في النار لا تعني إلا البقاء مدى الحياة ، فسوف تموت النار وتخمد ، ويموت معها من فيها ، قبل أن يخرج منها من يستحق الخروج إلى الجنة.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) : لأنهم سلموا لأمره (وَرَضُوا عَنْهُ) يوم الدنيا ويوم الآخرة ، إذ يرون فضله الدائم فوق التصور والحسبان (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فالخشية هي خوف مع إعظام في القلوب ، كما الخشوع هو هو في القلب ، فالخشية تعمّ الإنسان قلبا وقالبا ، تعم كيان الإنسان ككل ، والنتيجة هي الإيمان عقائديا وعمليا.

هذه هي سورة البينة دون زيادة ولا نقصان ، والزيادات الواردة في بعض الروايات مختلقات تشهد بذواتها ، أو أنها تفسيرات لآياتها (١) كما في مصحف الإمام

__________________

ـ فكل واحد من القادة المعصومين هو خير البرية في زمنه كما هو الواجب للمصطفين الأخيار ، وكذلك أشياع القادة الخيرة هم خير الأشياع.

(١) كما في أصول الكافي بالإسناد إلى محمد ابن أبي نصر قال رفع إلي أبو الحسن (ع) مصحفا وقال : لا تنظر فيه ، ففتحته وقرأت فيه (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فوجدت فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آباءهم فبعث إلي أن ابعث إلي بالمصحف (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٤٢ ح ٤).


امير المؤمنين عليه السّلام أو أنها مقحمات (١).

__________________

(١) كما في الدر المنثور ج : ٦ ص ٣٧٨ عن أبي بن كعب أن رسول الله (ص) قال : إن الله أمرني أن اقرأ عليك القرآن : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ، فقرأ فيها : ولو أن ابن سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا ، ولو سأل ثانيا ، فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وإن ذات الدين عند الله الحنفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفر.

وفي نقل آخر عنه أنه (ص) قرأ بعد (ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) إن الدين عند الله.

وفي ثالث عنه أنه (ص) قرأ السورة هكذا : ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة أي ذات اليهودية والنصرانية أن أقوم الدين الحنفية مسلمة غير مشركة ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما أختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا أو صدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده وأولئك عند الله هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه.

أقول : لو كانت هذة الزيادات تفسيرات للآيات فهي غالطة ، ولو كانت من ضمن الآيات فأغلط ، فهل إن الكتب القيمة هي ذات اليهودية والنصرانية ، وهل إن الدين الحنفية هو المسلمة غير المشركة ، وبعد ملاحظة بسيطة في هذه الجمل المقحمة وآيات البينة تجد أنها شطحات وخيالات يهودية نصرانية تهدف إلى تشويه سمعة القرآن ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار!.


سورة الزلزال ـ مكية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨)

* * *

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) :

الزلزال الخاص بها في آخر المطاف ، بعد زلازل موضعية تعيشها قبل موتها ، وبعد الرجفات التي تعيشها طوال حياتها ، حفاظا على كيانها الأرضي بين زملائها.

أرضنا هذه راجفة : محكومة بحركات عدة أنهاها العلماء حتى الآن إلى أربع عشرة حركة ، رجفة تعيّشها ومن عليها ، عامرة معمّرة ، ثم تأخذها


رجفة تدمّرها وتميت من عليها : «رجفة الإماتة» ثم رجفة الإحياء : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧٩ : ٧).

إن رجفة الأرض ـ الدائبة ـ ظاهرة حسب القرآن ، حتى عدّت الراجفة من أسمائها ، فهي راجفة دوما ، وتتبعها رجعة رادفة يوم احتضارها.

وآية الزلزال تتحدث عن رجفة الإماتة والتدمير التي تتلوها رجفة الإحياء ، وأنها في زلزالها تمدّ مدا : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (٨٤ : ٣ ـ ٤) وتشقّق عن حملها سراعا : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٥٠ : ٤٤) وتحمل على أكتاف الزلزال مع جبالها إلى قبرها : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (٦٩ : ١٣) .. وإلى حيث لو رأيتها ما عرفتها : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨).

إثر هذه الزلزلة والرجفة والدكة والإنشقاق ، سوف تخرج الأرض أثقالها :

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) :

أثقالها : أحمالها التي اختبت في جوفها ، من إنسانها وحيوانها ، ومن جواهرها وثرواتها.

«أثقالها» : أثقالها معنويا كإنسانها الذي فضّل على كثير ممن خلق تفضيلا ، وماديا كالجواهر المرغوبة لإنسانها ، ولقد دفنت الأرض كلا الثقلين ليوم تقوم الأشهاد ، فإلى عرصات التساؤلات .. إنها دفنت الطالب والمطلوب و (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) والثقل المطلوب سوف يشهد للطالب وعليه ، ويشهد الطالب بالمطلوب ، له أو عليه ، وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل


فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا فلا يأخذون منه شيئا» (١).

تخرج الأرض أثقالها : أماناتها ، وكما تحدّث أخبارها الناتجة عن تلكم الأثقال : فيا للأرض من حافظة أماناتها إلى حين زلزالها ، تؤديها سالمة سليمة ، دون تدجيل وتدغيل ، دون زيادة ولا نقصان ولا تضليل!

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) :

.. هذه الإنسانية التي رأت ـ طول تاريخها ـ الزلازل والبراكين ، وشهدت زعزعات ورجفات ، هذه الإنسانية ـ وهي تعيش أخريات الأنفاس من حياتها ـ هذه تقول : ما لها؟ .. كأنها ـ أو أنها ـ صرخة جماهيرية تزامل صرخات الزلزال ، وإنه سؤال المشدود المبهوت من زلزالها هذا ، الذي لم يعهده طوال حياته وحياة الأرض.

إنه سؤال الدهشة في يوم عصيب : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢٢ : ٢).

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) :

.. هذه الإذاعة تذيع أخبارها كاملة ، وتؤدي أماناتها شاملة ، متى؟ يوم دمارها بزلزالها ، وبعد ما أخرجت أثقالها ، فإن أخبارها ليست إلا عن أثقالها.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٨٠.


فهل يا ترى إن الأرض سوف تصبح حيوانة أو إنسانة تحدث؟ تحدث بما أحدثه إنسانها في حياة التكليف؟ أم سوف تصبح جبالها كألسنة لها حداد ، وهي بحول الله وقوته تحدث أخبارها .. وكما يتقوّلها القوالون غير المفكرين!

كلا! فما ذا يعنى بهكذا أخبار أجنبية عن كيان الأرض ، المضغوط بها عليها ، فهل إن فيها حجة على أصحاب الأخبار الذين عملوها وأحدثوها؟ كلا! فإنهم

«تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون ما علمنا شيئا منها فتشهد عليهم الملائكة فيقولون يا رب هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا» (١)

ثم يأتي الله بشهود العيان ، صور الأعمال وأصوات الأقوال المسجلة في الأرض وفي الأعضاء ، وعند ذلك يبكتون ، أجل وإن الأرض تحدث أخبارها بما شهدتها وسجلتها :

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) :

رمز لها في عمق كيانها أن تسجل ما يحدث عليها وما يقال ، من أعمال وأقوال ، ثم تذيع ما سجلته مع سائر الإشهاد يوم يقوم الإشهاد ، وإنه ليس وحي

__________________

(١) رواه القمي في تفسيره عن الصادق (ع) وتتمة الحديث كالتالي : «.. وهو قول الله : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ، فعند ذلك يختم الله ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع مما حرم الله ، ويشهد البصر بما نظر إلى ما حرم الله ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرم الله ، ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرم الله ، ثم انطق الله ألسنتهم فيقولون لجلودهم لم شهدتم علينا فيقولون أنطقنا الله الذي انطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون من الله أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون».

أقول : وشهادة الأعضاء هي بروز الصور والأصوات التي تلقتها ، فهي مسجلات إلهية كما الأرض مسجلة ، ثم يصدق النبيون والملائكة الذين يشهدون ، وفق الأرض والأعضاء ، شهود أربعة تحيط بالمجرمين إحاطة كاملة.


النبوة ولا وحي الإلهام ، ولا وحي الغريزة ، وإنما وحي في تكوينها ، ورمز في كيانها الذي يجهله من سوى الله والراسخين في العلم.

فيا للأرض من مسجلة سرية حافظة لما يحصل عليها ، ثم لا تتحدث عنها إلا عند قيامتها ، تسجل وتحدث خلاف سائر المسجلات والأسطوانات ... فإنها تسجل طوال حياتها دون أن تحدث جهارا حالها ، ثم تحدث بما سجلت عند احتضارها وموتها ، مؤدية أماناتها بكاملها!.

فهل إن بالإمكان أن تبقى صور الأعمال وأصوات الأقوال وحالات الأفكار ليوم تشخص فيه الأبصار؟ .. أجل وكما صرحت به آيات بينات من الذكر الحكيم ، في هذه السورة وسواها ، وصدقها العلم.

كان الناس لا يصدقون ، قبل صناعة التلفزيون والراديو والمسجلة وأشباهها ، من المسجلات للصور والأصوات ، كانوا لا يصدقون هامة انعكاس الأعمال يوم القيامة ، فكان الكافر والشاك ينكر ويستهزأ ، وكان المؤمن يتحير ويؤوّل ، لكنما العلم خدم هذه الملحمة الغيبية القرآنية بجنب أمثالها ، وعلى حد تعبير الصحابي الكبير ابن عباس «إن للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن» فلقد فسر الزمن هامة انعكاس الأعمال المصرح بها في آيات عدة:

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) :

أجل : ليروا أعمالهم ، لا جزاء الأعمال فحسب ، بل الأعمال نفسها أيضا ، عذابا فوق العذاب.

إن المؤمن يوم الدنيا في غفلة واحدة عن عملية مسجلتنا الأرضية ، إلا من


هداه الله على ضوء التصريحات القرآنية ، والكافر في غفلتين ، غفلة الجهل وغفلة الكفر (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٠ ـ ٢٢).

كنت في غفلة عن الشهيد ، ومنه الشهيد الأرضي الذي شهد أعمالك وسجلها ثم يحدثك أخبارها ، (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٨ : ٤٨) ، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٣٠).

فالأعمال كلها يوم القيامة حاضرة محضرة ، يحضرها الله تعالى بما سجلها في الأرض وفي أعضاء الإنسان ذاته ، وفي ذات الإنسان ، إن الله هو الذي يستنسخ الأعمال كما تصدر ، دون زيادة ولا نقصان ، ونسخة الأعمال هي الكتاب الذي سوف ينطق علينا بالحق : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٨ ـ ٢٩) : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٥ ـ ١٦).

فكما الإنسان ـ نفسه وبأعضائه ـ هو من شهود الأعمال له أو عليه ، كذلك الأرض بجرمها وجوّها تسجّل أعماله وأقواله هنا ، ثم تحدثها هناك : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها).

فكما رباك ربك وأعدّك للوحي تلقيا وتحديثا ، كذلك أوحى للأرض ـ إذ خلقها ـ أن تسجّل الأعمال فتحدثها.


إننا سوف نسمع أقوالنا كما قلناها ، ونرى أعمالنا كما عملناها ، كأننا عملناها الساعة ، وعلى حد تعبير باقر العلوم عليه السّلام : «خيره وشره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى كتابه بما عمل» (١) ، فخير الإنسان وشره لزامه في ذاته : «معه» * وفي المكان الذي عمله : «حيث كان» لا يستطيع فراقه.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام : «يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة» (٢).

وبخصوص تحديث الأرض عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها (٣).

يعني من قولها : ما سجلتها ، ويا ويلنا من هذا التسجيل الشامل لزمن الأعمال ومكانها ، ولكي نشهد ما عملناه وقلناه شهود عيان فلا نجرؤ على الإنكار.

إن الأرض سوف تؤدي رسالتها بالوحي ، وحي التكوين ، وسوف تصبح شاشة قوية: (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

__________________

(١) تفسير العياشي.

(٢) تفسير العياشي.

(٣) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٠ أخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله (ص) هذه الآية : يومئذ تحدث أخبارها ، قال : أتدرون ما أخبارها؟ ... وأخرج بن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص) قال : إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها وقرأ : يومئذ تحدث أخبارها.

وأخرج الطبراني عن ربيعة الجرشي أن رسول الله (ص) قال : تحفظوا من الأرض فإنها أمكم وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرا أو شرا إلا وهي مخبرة به.


(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) :

يصدرون ـ هم ـ بعد صدور أعمالهم ، وبعد أن حصّل ما في الصدور ، يصدرون فيفاجئون بشهود المشهد العظيم ، (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) نفس الأعمال كبداية للعذاب تخجيلا مما عملوا على رؤوس الأشهاد ، وإفحاما بواقع الأعمال ، ولكي لا يجدوا سبيلا للإنكار ، ثم عذاب ثان يستمر ، هو ظهور حقيقة هذه الأعمال ، فجزاء الأعمال إنما هي الأعمال لا سواها : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فالأعمال رؤيتها وذواتها ، هي عذاب فوق العذاب.

يصدر الناس أشتاتا حسب شتات الأعمال ، ليروا أعمالهم ، كأن رؤيتها أخطر من جزائها ، أمرّ وأدهى مما يمرّ عليه ساعتها ، وإنهم ـ على أشتاتهم ـ ذاهبون على غفوة وغفلة مما عملوا ، وعلهم نسوها أو تناسوها ، ذاهبون إلى شاشة عرض الأعمال ، والشاشة هي الأرض كلها .. ومن أعماله ما يهرب من ذكراها ، فكيف بمواجهتها على رؤوس الأشهاد ، إنه يشيح بوجه عنها لبشاعتها يوم العرض ، حين تتمثل له في أمرّ نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير ، ولات حين مناص.

فهل إنهم سوف يرون عظائم الأعمال دون صغائرها ، وهل إن رؤية الكبائر تنوب وتكفي عن رؤية الصغائر؟ كلا :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) :

اللهم إلا الخير الحابط غير الثابت ، وإلا الشر الممحو الساقط على التفاصيل التي نجدها في الذكر الحكيم :

فمن السيئات ما تنمحي بترك الكبائر وفعل الحسنات : (.. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١ : ١١٤).


ومنها ما تنمحي بالتوبة والشفاعة على شرائطهما المفصلة في محالها (١).

ومنها ما تنمحي بمصائب الحياة ونوازلها ، وكما عن الرسول الأقدس صلى الله عليه وآله وسلّم (٢).

ثم ترى منها ما تبقّى ، والويل لما تبقّى ، فمثقال ذرة منها لا تخفى إلا ظاهرة في شاشة المحشر وساحته.

وقد نحتمل أن صور الأعمال كلها تبقى ، ما يعفى عنه أو يحبط ، وما لا يحبط أو يعفى عنه ، فخير الكافر يبقى ـ على حبطه ـ يبقى ليراه فيزداد تحسّرا أنه لم ينفعه يوم الشقة ، وشر المؤمن يبقى ـ على عفوه ـ ليراه فيزداد سرورا بفضل الله وعفوه كما عن باقر العلوم عليه السّلام (٣) ، ولكنها رؤية لا تفضحه.

سوف يرى هناك ما لا يكاد يراه هنا ، فالذرة المادية هنا لا ترى بأعظم المجاهر ، وإنما هي رؤيا علمية في ضمير العلماء ، لم يروها حسيا حتى الآن ، وسوف يراها كل

__________________

(١) راجع «عقائدنا» ص ٢٢٥ ، ويأتي البحث عنها في طيات الآيات المناسبة إن شاء الله.

(٢) في الدر المنثور ج ٦ ص ٣٨١ أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : لما أنزلت هذه الآية (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ..) إلخ. قلت : يا رسول الله (ص)! إني لراء عملي؟ قال : نعم ، قلت : تلك الكبار الكبار؟ قال : نعم ، قلت : الصغار الصغار؟ قال : نعم ، قلت : وا ثكل أمي! قال : أبشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر أمثالها يعني إلى سبعمائة ضعف ، والله يضاعف لمن يشاء ، والسيئة بمثلها أو يعفو الله ، ولن ينجو أحد منكم بعمله ، قلت : ولا أنت يا نبي الله! قال : ولا أنا! إلا أن يتغمد في الله منه بالرحمة.

وفيه عنه (ص) .. أرأيت ما رأيت مما تكره؟ فهو من مثاقيل الشر ، ويدخر لك مثاقيل الخير حتى توفاه يوم القيامة ، وتصديق ذلك في كتاب الله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

(٣) تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر الباقر (ع) في قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) يقول : إن كان من أهل النار وقد كان عمل في الدنيا مثقال ذرة خيرا ، يره يوم القيامة حسرة ، أنه عمله لغير الله ، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يقول : إن كان من أهل الجنة رأى ذلك الشر يوم القيامة ثم عفر له (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٥١ ح ١٨).


الناس دون مجاهر ، وإنما بحديد البصر (.. فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) يرون كلا بما يناسبه ويسانخه : رؤية البصيرة والبصر والسمع .. يرى الخير ثقيلا والشر خفيفا ، وتعبير المثقال للشر لا يثقل الشرّ في الميزان إلا في التعبير.

وقد يكون المثقال هنا وهناك إشارة إلى مدى تأثير الخير والشر في دنيا الحياة ، فكما الخير يرى بنفسه ، كذلك بآثاره التي خلّفها خلفه ، كما الشر أيضا يرى هكذا ، ثم الجزاء على الخير والشر سوف يكون جزاء وفاقا لثقلها : قدر التأثير ومداه ، كما تدل عليه آيات وروايات عدة (١).

__________________

(١) قد فصلنا البحث عن ذلك في الآيات المناسبة التي تخصه.


سورة العاديات ـ مكية ـ وآياتها إحدى عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١)

* * *

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) :

جمع العادية من العدو (١) : المشي السريع ، ومنها الأفراس المسرعة في

__________________

(١) في المفردات للراغب العدو التجاوز ومنافاة الالتئام وهو تارة بالقلب فهو العداوة والمعاداة ، وأخرى بالمشي فهو العدو ، وثالثة في الإخلال بالعدالة فهو العدوان والعدو ، ورابعة بإجزاء المقر فهو العدواء أي مكان ذو عداء.


المشي ، «ضبحا» وهو صوت أنفاس الفرس تشبيها له بالضباح وهو صوت الثعلب.

والعاديات : قسما بالمسرعات في سبيل الله ، قسما بالمناضلات في معركة الشرف والكرامة ، سواء أكانت أفراسا أم إبلا ، أم دبابات وطائرات مقاتلة ، أم أية مسرعات تضبح في عدوها.

إنه قسم بالطاقات الجبارة التي منحها الله الإنسان ، وهيأها له ليدافع عن نفسه ونفيسه وأنفس نفيسه : شريعة الله وأرضها وعرضها.

تبدأ السورة بمشهد القوات العاديات الضابحات ـ أية قوات ـ خيلا أم إبلا ـ كما تناسب زمن نزولها ـ ودبابات وطائرات وأشباهها ، لأن شريعة الجهاد لا تخص زمن الخيل والإبل.

العاديات الضابحات ، الموريات قدحا بعدوها ، قدحا بريا أم بحريا أم جويا ، قدحا يقدح العدو ويكبته الخسار ، ويوري عليه بالنار التي يوريها عليه وعلى كيانه.

يأخذ القرآن هنا مثالا : العاديات زمن نزوله ، ثم يصفها بما يصف ، دون أن تختص بالخيل والإبل ، إذ إنه كتاب الزمن :

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) :

الإيراء إخراج النار بالعدو الضابح أم سواه ، نتيجة سرعة الحراك ، سرعة في الجو توري من اصطكاكها الجوي قدحا ، وسرعة الدبابات المورية بصدامها عبر سيرها الأرضي ، وسرعة السفن كذلك في الماء.

(فَالْمُورِياتِ) إن الإيراء هذا نتيجة سرعة العدو هجوما على العدو (قَدْحاً) : صكا بصدام السير لسرعته.


(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) :

تغير في الصباح الباكر لتفاجئ العدو الغادر ، نعم صبحا لتصبح غالبة على حين غفلة وغفوة من العدو.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) :

على أثر الإيراء والإغارة أثرن نقعا : غبارا شديدا في الصباح ، نقعا من غبار الأرض ، ونقعا على عقول وأفكار المغبّرين الأعداء ، ونقعا على حياتهم العنيدة.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) :

وسطن جمع الأعداء ، وهكذا يجب أن تكون الحرب ، أن يهاجموا الأعداء في عقر دورهم ومآمنهم ليوقعوا المهابة فيهم ويخسروهم معنوياتهم في البداية ، ويخسروهم أنفسهم في النهاية ، فما قلة المؤمنين بالتي تخسرهم ما داموا مؤمنين صامدين ، يرهبون عدو الله وعدوهم ، وهكذا أمروا أن يكونوا على اهبة وعدّة إرهابية : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ).

هذه هي خطوات المعركة الناجحة على ما يألفه أعداء القرآن.

قسما بهذه الطاقات والخطوات المجيدة في معارك الشرف والكرامة :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) :

تنديد بكند الإنسان الفاشل في حرب الأعداء ، الراجع منهزما عن خط النار بكل عار وبوار نتيجة خوفه وجبنه عن الكفار.


فقد نزلت السورة في حرب ذات السلاسل لما بعث النبي (ص) عليّا إلى ذات السلاسل فأوقع بهم ، وذلك بعد أن بعث عليهم مرارا عدة غيره من الصحابة ـ بمن فيهم عمر وأبو بكر ـ فرجعوا إلى رسول الله (ص) فاشلين ، ولما نزلت السورة خرج رسول الله (ص) إلى الناس فصلى بهم الغداة وقرأ فيها : (وَالْعادِياتِ) فلما فرغ من صلاته قال أصحابه : هذه سورة لم نعرفها ، فقال رسول الله (ص) نعم إن عليّا ظفر بأعداء الله وبشرني جبرائيل في هذه الليلة فقدم علي عليه السّلام بعد أيام بالغنائم والأسرى.

إنه قسم بالمناضلين الصامدين الصادقين أن من سواهم من الخاملين الفاشلين لربهم كنودون : كفورون بنعمه التي منحها إياهم ، لا يستعملون القوة ـ التي حباهم ربهم ـ في سبيله.

قسم بنعمة الله لواقع الكفران ، وإن فيها تنديدا بالذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ويفشلون في التذرّع بها إلى مرضاة الله ، لفشلهم في الإيمان الصادق.

هنا نرى بقية الآيات في (الْعادِياتِ) تستعرض كفران الإنسان وهيمانه في حب نفسه ، حب الشهوات والحيوانات ، حب الذات كحيوان ، تاركا حبه له كإنسان!

وليست هذه دعاية ضد الإنسان ، فإنه هنا شهيد على نفسه :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) :

يشهد على كفرانه في ضميره ، لو بقي له ضمير ، ويشهد في أقواله وأفعاله ، شاء أم أبى ، وسوف يشهد يوم يقوم الأشهاد مع الأشهاد على نفسه ، شهادة صوتية وصورية ، بما سجلها ربه تعالى في أعضائه ، تشهد الألسنة بما سجل الله فيها من أقوالها ، والأسماع بما سجل فيها من مسموعاتها ، والأبصار بما سجل فيها من مرئياته ومبصراتها ، والجلود بما سجل فيها من أعمال بظاهر الجسد.


(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) :

لحب الخير ، لا الصالح ، إنما الذي يراه خيرا في حيونة الحياة ، ملائما في تلك الحياة اللئيمة المشؤومة ، دون ما يصلح الإيمان ، وما هوا بدافع الإيمان.

هذه فطرة الإنسان وطبيعته ما لم يخالط قلبه الإيمان ، فيغير من تصوراته وقيمه واهتماماته ، ويحيل كنوده ، اعترافا بفضل الله ، شكرانا بالكفران.

إنه يظل مرتكسا في حمأة الأرض سجينا ، في سجن اللذات ، ما لم يتحرر عن حب الذات ، إلى حب خالق الذوات واللذات.

فيا للإنسان من غفلة غمرت عقله ، ومن غفوة سترت لبّه :

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ):

إذا بعثر ما في القبور من أجسادهم الجهنمية «ما» * لا «من» * لأنهم خرجوا عن كونهم إنسانا إلى حيوان ، فلا يحق لهم التعبير بما يخص ذوي العقول : «من» * ..

فهناك بعثرة القبور : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) وبعثرة ما في القبور : بدن الإنسان الكنود ، ثم تحصيل وإحصاء وتحضير لما في صدورهم ، من الأسرار الشريرة التي ضنت بها ، ومن الأهداف الشهوانية التي أظهرتها وتجاهرت بها ، فالصدور هي مخابئ الأفكار ، وحصالة التصاميم المتحللة عن ثفالاتها ، ثم هي مخابئ القلوب : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

حصّل ما في الصدور واقعيا وشهودا عليها لتضطرهم إلى الإقرار : (أَفَلا


يَعْلَمُ) وقتئذ : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) خبرة إدانة وجزاء ، كما كان خبيرا يوم الدنيا ، خبرة علم واطلاع.

يومئذ يصبح الإنسان خبيرا أن ربه به لخبير ، يعلمه خبيرا بعد ما كان يجهل أو يتجاهل بخبرة الربوبية ، إذا لم يكن ليحافظ على كرامة الربوبية ، فلقد كان يعمل كأنه لا ربّ ، وكان حرا كأنه ليس عبدا ، ثم يوم القيامة سوف تظهر له ربوبية الرب علميا وواقعيا وإدانة وجزاء وفاقا.


سورة القارعة ـ مكية ـ وآياتها عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)

* * *

سورة تقرأها فتقرعك بقارعة القيامة ، ولكي تعد لها ما استطعت من أثقال الموازين فتخف قارعتها عنك ، وتصبح بها في عيشة راضية.

(الْقارِعَةُ) :

إنها قارعة في الأولى ، واخرى في الحياة الأخرى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٣ : ٣١).


قارعة يوم الدنيا تتلوها قارعة ـ ما أعظمها ـ في الآخرة : (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) بالقارعة الأخيرة الهائلة.

إنها قوارع تتبع ما صنعوا ، في أولاهم يسيرا ، وفي أخراهم كثيرا : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) (٦٩ : ٤) والقارعة مبالغة في القرع ، وهو ضرب شيء على شيء ، والآخرة هي يوم التضارب والتداق ، يتضارب الكون ويضطرب : بقرع الأنجم والكواكب بعضها ببعض لحد الانتثار : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) : فينتصر في هذه المعركة الشاملة أمر الله ، إن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وكان أمر الله مفعولا.

إنها تقرع إنسانها بما قدمت نفسه من قوارع الأفكار والأعمال ، رغم أنها ما كانت تقرع صاحبها يومها إلا يسيرا ، لكنها تقرعه يوم الآخرة كثيرا ، جزاء وفاقا.

والقارعة اسم من أسماء القيامة الكبرى تشير إلى سمته ، كأضرابها من أسمائه التي تشير : كلّ إلى سمة وحالة خاصة (١).

__________________

(١) منها اسماء مفردة ك : الواقعة ـ الصاخة ، ومنها مركبة إضافية : ك : اليوم الموعود ـ اليوم الآخر ـ يوم عظيم ـ يوم كبير ـ يوم الجمع ـ يوم أليم ـ يوم عصيب ـ يوم مشهود ـ يوم الحساب ـ يوم الدين ـ يوم يلقونه ـ يوم الحسرة ـ يوم الآزفة ـ يوم الفتح ـ يوم التناد ـ يوم الفصل ـ يوم محيط ـ يوم الخلود ـ .. ومنها مركبة بيانية ك : يوم تبلى السرائر ـ يوم لا بيع فيه ولا خلة ، يوم ينفخ في الصور ، يوم تشخص فيه الأبصار ، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، يوم يقوم الأشهاد ، يوم ترجف الراجفة ، يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ، يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه ، يوم توفي كل نفس ما عملت ، يوم تدعو كل أناس بإمامهم ، يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة.

ويوم القيامة يومان : يوم الإماتة ويوم الإحياء ، والآيات تبحث عن اليومين وتعبر عنهما جميعا بيوم القيامة.


(مَا الْقارِعَةُ؟) :

كسؤال يصوّر رهبة الموقف ، لحد كأنه خفي على الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟).

إن القارعة توحي بقرع ولطم شديدين ، تقرعان الكون قلبا وقالبا ، القلوب المقلوبة التي تذرعتها الشياطين لقرع الحياة وقلبها إلى غير ما تعنيه ، والقوالب كلها مقروعة في هذه الدكة العظيمة الشاملة .. وإنما تسلم القلوب السليمة ، الثقيلة الموازين ، الشديدة الرباط بالله العظيم.

(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) :

ليس لها مثيل في دنيا الحياة حتى يدركها في عقباها ، وإنما هو الوحي ، وحي السماء : يدريك ما هي القارعة.

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) :

إنها إجابة عن سؤالها بما يحصل فيها ، لا بماهيتها ، فإنها فوق التحمل يوم الدنيا ولو في تصورها .. يوم يكون الناس : من هيبته وشدة وطأته وقارعته ، كالفراش المبثوث : الجراد المنتشر : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٥٤ : ٧). والجراد المنتشر هي الفراش المبثوث ، تنبث وتنتشر وتنفرش بعضها بعضا ، وتركب بعضها بعضا ، دون أن تتجه لجهة واحدة ، لهول القارعة ، ولأنهم كانوا يوم الدنيا في اتجاهات شتى ، فكل إنسان يعمل على شاكلته ، ويرجع إلى شاكلته ، شاء أم أبى.

إن الفراش المبثوث مثل لغاية الضعف والحمق واللاهدف ، وهكذا يصير مصير الإنسان الذي عاش حياته كالفراش المبثوث ، إلا من ثقلت موازينه ،


فهذا هو مصير أقوى إنسان في الكون ، ثم ماذا يكون مصير سائر الكون ، لنأخذ هنا مثالا من الجبال :

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) :

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٧٠ : ٨ ـ ٩) .. فيا لها من وقعة قارعة ودكة مفرغة تهزم الجبال فتهزم في هذه المعركة الدامية ، فهذه سماؤه كالمهل : حمراء كالمطلوم المجروح ، وهذه جباله كالعهن المنفوش : الصوف ذو ألوان ، نشر بندف ، فنداف القارعة هكذا يندف وينفش الجبال.

فيا له من مشهد تطير له القلوب ، وترجف منه الأوصال ، وي كأن كل شيء في الكون يطير حول الإنسان هباء ، فما ذا إذا حال الإنسان في الختام :

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) :

الموازين جمع ميزان وهو ما يوزن به وما يوزن أيضا ، ولا يعنى به هنا وزن الجسد ، وإنما ما به الإنسان إنسان ، من موازين العقل والإيمان وأعمال الإيمان ، وعلى حد تعبير الإمام الصادق (ع) «الموازين هي موازين الإنسانية».

والميزان هو آلة الوزن والقياس ، ما يوزن به الشيء ويقاس ، فإن كان ذلك الشيء جسما فالميزان الجسماني على اختلاف حالات الأجسام فاختلاف موازينها ، فلا يوزن ما يسوى غراما بما يوزن به أطنان ، ولا يوزن النور بما يوزن به سائر الأجسام غير النورانية ، وكما لا توزن الدوائر والقسي أو الحرارة والبرودة أو الأعمدة والخطوط أو الشعر والفلسفة ، لا توزن هذه وأمثالها بالقبّان وغيره من موازين الأثقال المادية.


ثم الروحانيات والصفات والعقول والأرواح ، إنها أحرى أن توزن بالمثل العليا من أمثالها ، وفي هذا الباب ليس الثقل إلا للصالحات دون الطالحات.

فالصالحات هي ثقل الميزان ، والسيئات هي خفتها ، إذ ليس للسيئات ثقل ، فإنما الوزن هو الحق والموازين هي القسط : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (٧ : ٩) لا : الوزن حق ، مع أنه حق ، إنما : الوزن هو الحق ، فالحق هو الميزان والميزان هو الحق ، دون أن يكون وزن أو ميزان للباطل (١) فلا يقام للكافر ميزان لحبط أعماله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ : ١٠٥) وكما عن الإمام زين العابدين عليه السّلام سنادا إلى القرآن (٢).

فالقسط والحق هما الميزان ، وهما ثقل الميزان : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٢١ : ٤٧).

فإفراد القسط هنا لجمع الموازين يوحي لنا أن مجموعة الموازين تتحد في أنها القسط ، دون أن يكون للظلم ميزان ولا وزن حتى توزن به السيئات ، إنما هو ميزان واحد هو الحق والقسط والعدل ، وكما الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام يصرح بسناد الآيات ويحذو حذو حفيده الإمام الصادق عليه السّلام.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٢ ص ٥ ح ١٣ عن مصباح الشريعة قال الصادق (ع) في كلام طويل : فإذا أردت أن تعلم أصادق أنت أم كاذب فأنظر في قصد معناك وغور دعواك وعيرهما بقسطاس من الله عز وجل كأنك في القيامة ـ قال الله تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) فإذا اعتدل معناك بدعواك ثبت لك الصدق.

(٢) كما في التوحيد عن علي (ع) وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات وأما قوله تبارك وتعالى (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة ، يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين.


وإذا كان القسط والحق والعدل هي الميزان : فأحرى أن يكون الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلفاؤه المعصومون هم الموازين ، كما النبيون وأوصياؤهم موازين ، وعلى حد تعبير الإمام الصادق عليه السّلام : إن الموازين هم الأنبياء والأوصياء (١).

فلا الموازين تكون مادية ، ولا ما يوزن فيه الموازين ، إنما هي القيم والمثل العليا للإنسان ـ أيا كان.

وإنها ـ رغم اختلافها صوريا ـ تتحد في كونها حقا وقسطا ، تظهر في مظاهر عدة حسب عديد الأعمال والأقوال ومراتب الإيمان والأحوال ، فالحق الذي يوزن به الإيمان هو حق الإيمان ، وما توزن به الصلاة هو حق الصلاة وأمثالها لأمثاله.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) : عيشة كأنها الرضا كلها ، دون أن يحملها شيء سواها ، فهي هي الرضا بعينها : رضى العبد ورضوان من الله ، رضوان مزدوج.

ثم ما هو مصير الحابطين أعمالا ، الخابطين أحوالا ، الأخسرين أعمالا ، الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها! :

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ) :

هؤلاء هم الذين لا وزن لهم إطلاقا ، بين ما لم يعملوا من الصالحات وما لم يؤمنوا بها ، وبين ما حبطت من أعمالهم الصالحة أحيانا ، لكفرهم : (أُولئِكَ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ باب الميزان ص ٢٤٨ ح ٦.


الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ : ١٠٥).

أعمالهم حابطة قياسا إلى الآخرة ، ولو كانت مثابا عليها يوم الدنيا وهم فيها لا يبخسون : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٥ ـ ١٦).

هنا وهناك تتحدث الآيات عمن محّض الإيمان محضا ، ومن محض الكفر محضا ، دون من (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٠٢).

(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)(١) كما كانت الهاوية أمه : ملجأه ومرجعه ، مصدره ومورده ، أعماله وأفكاره ، كانت كلها هاوية : نارا حامية : تحرق ما تبلعه (٢) ، فسوف

__________________

(١) الدر المنثور (ج ٦ ص ٣٨٥) أخرج الحاكم عن الحسن قال : قال رسول الله (ص): إذا مات العبد تلقى روحه أرواح المؤمنين فيقولون له : ما فعل فلان؟ فإذا قال : مات ـ قالوا : ذهب إلى أمه الهاوية. فبئست الأم. وبئست المربية.

(٢) وفيه أخرج أبو يعلي قال كان رسول الله (ص) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له وإن كان شاهدا زاره ، وإن كان مريضا عاده ، ففقد رجلا من الأنصار في اليوم الثالث فسأل عنه فقالوا : تركناه مثل الفرخ لا يدخل في رأسه شيء إلا خرج من دبره ، قال عودوا أخاكم ، فخرجنا مع رسول الله (ص) نعوده فلما دخلنا عليه قال رسول الله (ص) : كيف تجدك؟ قال : لا يدخل في رأسي شيء إلا خرج من دبري قال : ومم ذاك؟ قال : يا رسول الله (ص)! مررت بك وأنت تصلي المغرب فصليت معك وأنت تقرأ هذه السورة (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) إلى آخرها : (نارٌ حامِيَةٌ) فقلت اللهم ما كان من ذنب أنت معذبي في الآخرة فعجل لي عقوبته في الدنيا فنزل بي ما ترى ، قال رسول الله (ص) : بئس ما قلت ، ألا سألت الله أن يؤتيك في الدنيا حسنة ويقيك النار ، فأمره النبي (ص) فدعا بذلك ودعا له النبي (ص) فقام كأنما نشط من عقال.


تكون يوم الآخر هاوية كما كانت ، صورة طبق الأصل ، فيا لها من أثقال إنسانية! تكافح قارعة الآخرة فينتصر إنسانها في هذه المعركة الدامية .. لا نعني إنسان الجسد فإنه يموت ويبعثر ، ثم يحيى فيجازى ، إنما إنسان الروح ، فهو الذي سوف ينتصر بموازينه ، فعيشته راضية ، رغم من سواه من أهل المعركة ، معركة القارعة ، المعركة القارحة ، فإنها تقرع قوما وتقرع من آخرين.


سورة التكاثر ـ مكية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨)

* * *

تأنيب شديد بالمتكاثرين الذين اخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم ، أولئك الذين حسبوا الحياة كلها شهوات ، هؤلاء الأخسرون أفكارا وأعمالا ، المتكاثرون في حياتهم حتى جرهم تكاثرهم إلى المقابر! (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) :

اللهو من اصول المحرمات في كافة الشرائع الإلهية المقدسة ، سواء أكان دافع التكاثر

بالأموال والأولاد والنساء ، أم بالقمار والموسيقى وأضرابها ، وكما يعد القرآن


أمثالها من اللهو تنديدا بها ومنعا عنها (١).

فمن الأشغال والأعمال ما تخص اللهو دون أن تأتي بصالح للحياة ، كالقمار والرقص والموسيقى ، فإنها تخسر الحياة ولا تربحها ، تخسرها معنويا وماديا ، فهي محرمة إطلاقا.

ومنها ما تختلف حسب اختلاف الأهداف والنيات ، كالأموال والأولاد والتجارة ، والحياة الدنيا كلها : فهي هي الدنيا وأموالها وأولادها ، بين الجنة والنار ، كما يهدفها الهادفون ويقصدها القاصدون.

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ..) فالحياة الدنيا بطبعها كلها لعب ولهو وتفاخر وتكاثر : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) (٥٧ : ٢٠).

إن الإنسان بطبعه يحب الاستكثار والاستئثار من الدنيا وبها (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ)

__________________

(١) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (٢٣ : ٩) «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» (٢٤ : ٣٧) «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» (٤٥ : ٣) «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» (٦ : ٣٢) «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» (٦ : ٧٠) «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣١ : ٦ ـ ٧) «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (٦٠ : ١١).

هذه وأمثالها تنهي عن اللهو : وهو كل ما ينهي عن الله : عن ذكره وعبادته ، وعن القيام بواجبات الحياة السليمة ، وعما يعني الإنسان كإنسان ، ويهمه في تجميل الحياة وتجليلها ، ويرفعه ويخلصه عن دركات الحياة ، عن حيونية في الحياة وشيطنته.


ولكن عليه أن يجب التي تقربه إلى الله زلفي ، وتجعل حياته الدنيا حياتا عليا ، ثم لا يفتخر بالكثرة الخيرة أيضا إذ ليس له حول ولا قوة إلا بالله.

وأما إذا جهل أمر الكثرة هنا وهناك ، فاختصها بالكثرة الكاسرة لكيان الإنسان ، ثم تفاخر بها تفاخرا بدافع الكبرياء ، فهو إذا مسامح عن إنسانيته.

والتكاثر له درجات عدة ومنها ما لا تقف لحد : تكاثر يتعدى الحياة والأحياء إلى الأموات ، فإذا تساوى المتكاثرون ، أو اختلفوا أيضا ، أخذوا في زيارة القبور : نحن أكثر رجالا وأولادا منكم بين أصحاب القبور ، وإن كنا حاليا على سواء ، أو أنتم أكثر منا ، مفتخرين بمصارع الآباء وقبور الهلكى ، رغم أنهم من الهلكى في حياتهم.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) :

مقابر تزور مقابر اخرى (١) تفاخرا بأجساد طغاة البشرية!

وعلى حد تفسير إمام المتقين أمير المؤمنين علي عليه السّلام بعد تلاوته آية التكاثر :

__________________

(١) وليس المعنى من زيارة المقابر هو الموت ـ رغم ما قيل ـ لأن المخاطبين كانوا بعد أحياء ، فقد خوطبوا خطاب تنديد وتنبيه ، ولأن الموت ليس زيارة للمقابر ، إنما هو دخول القبر لمن يدفن في القبر ، وليس كل ميت يدفن ، ولأنه لم يقل مقابركم ، ومما يؤيد هذا المعنى أن السورة نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف بن قصي وبني سهم بن عمر ، تكاثروا وعدوا اشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف ، ثم قالوا نعد موتانا حتى زاروا القبور فعدوهم وقالوا : هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية ـ عن مقاتل والكلبي.


«يا له مراما ما أبعده ، وزورا ما أغفله ، وخطرا ما أفظعه ، لقد استخلوا منهم أي مدكر ، وتناوشوهم من مكان بعيد ، أفبمصارع آبائهم يفخرون ، أم بعديد الهلكى يتكاثرون ، يرتجعون منهم أجسادا خوت ، وحركات سكنت ، ولأن يكونون عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة ، لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ، وضربوا منهم في غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية ، والربوع الخالية ، لقالت : ذهبوا في الأرض ضلالا ، وذهبتم في أعقابهم جهالا ، تطوءون في هامهم ، وتستثبتون في أجسادهم ، وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خربوا.

* * *

وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم ، أولئك سلف غايتكم وفراط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز وحلبات الفخر ملوكا وسوقا ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلا ، سلطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون وضمارا لا يوجدون ، لا يفزعهم ورود الأهوال ، ولا يحزنهم تنكر الأحوال ، ولا يحفلون بالرواجف ولا يأذنون للقواصف غيبا ، لا ينتظرون وشهودا لا يحضرون ، وانما كانوا جميعا فتشتتوا وآلافا فافترقوا ، وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم ، عميت أخبارهم وصمت ديارهم ، ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا وبالسمع صمما وبالحركات كونا ، فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات ، جيران يتآنسون». هذا هو التكاثر الذي يندد به الله ويخشى منه رسول الله على حد قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما أخشى عليكم الفقر ، ولكن أخشى عليكم التكاثر» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن زيد بن اسلم عن أبيه قال قرأ رسول الله (ص) ألهاكم متكاثر ، وأخرجه ابن مردويه عن عياض بن غنم عنه (ص) مثله.


(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) :

«لو قد دخلتم قبوركم» ، إذ يرتفع الحجاب وغشاوة الجهل المعمّد بالانخلاع عن ستار الدنيا وحياتها.

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) :

«لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم» (١) علما هو أرقى ، علمان متتابعان يفوق بعضهما البعض ، بعد الجهل المتمادي ـ العامد ـ يوم الدنيا : كلا سوف تعلمون : عند سكرات الموت وهو بداية العلم ، وفي الكرّة : يوم قيام القائم (ع) ، بعد الموت ، ثم كلا سوف تعلمون ، في المحشر.

يا ويلاه! فهل إلى تحصيل هذا العلم يوم الدنيا من سبيل ، لنموت قبل أن نموت كما أمرنا : «موتوا قبل أن تموتوا» : ولنرى الجحيم قبل أن ندخلها فنتحرّز عن أسبابها؟ فهل من سبيل؟

أجل ـ لو أن حاول الملتهون بالتكاثر أن يعلموا علم اليقين ، فتحللوا عن

__________________

(١) هنا في الآية : كلا سوف تعلمون إلخ .. وجوه أقواها ما ذكرناه ، ويؤيده العلوي (ع): سوف تعلمون في القبر ثم سوف تعلمون في الحشر(نور الثقلين ج ٥ ح ٧) ومثله النبوي (نفس المصدر) وفي الدر المنثور ج ٦ ص ٣٨٧ في روايتين عنه (ص) مثله.

واحتمال ثان أن العلم الأول في الدنيا والثاني بعد الموت ، ويبعده أن كل المخاطبين هنا ليسوا من الذين سوف يعلمون وينتهبون ، اللهم إلا في سكرات الموت حين لا يفيدهم العلم ، ويقربه المروي عن الصادق (ع) قال يعني مرة في الكرة ومرة في يوم القيامة(البرهان ج ٤ ص ٥٠١ ح ٣) أقول الكرة هنا هي الرجعة في دولة الامام المهدى (ع) وليست للكل ، وقد يقال بما أن المخاطبين هنا هم الكفرة الذين محضوا الكفر محضا ، فهم كلهم حسب الروايات يرجعون ، ثم أقول : لا مانع من كون المرة الأولى للعلم شاملة للكرة ولسكرات الموت وما بعد الموت ، وبذلك يجمع بين الروايات ، إلا أن العلم بعد الكرة ـ إذا ـ تحصيل للحاصل قبل الكره بعد الموت ، إذا فما العلم هنا إلا عند الموت وبعده.

واحتمال ثالث أن الأول عند الموت والثاني في سؤال القبر ويبعده انهما على سواء ، فخط الموت وخطته واحدة ، لا تفاضل في الانتباه عنده وبعده.


هذه الغشاوات الحائلة بينهم وبين درك الحقيقة : حقيقة الحياة ، وحقيقة الموت.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) :

(عِلْمَ الْيَقِينِ) : من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : يقين العلم ، العلم الذي يطمئن الإنسان ويخرجه عن زلزال العقيدة وشكوكها ، وهو أولى مراتب اليقين ، ثم عين اليقين ، ثم حق اليقين.

وأصل اليقين هو سكون الفهم مع ثبات الحكم وهو خلاف الظن ، فلو أن المتكاثرين الملتهين علموا الحقيقة علم اليقين ، لكانوا يرون الجحيم في علمهم ، رؤية علمية دون ارتياب ، فكانوا إذ ذاك يرونهم في الجحيم ، ويرون آمالهم وأعمالهم وأموالهم وأصحاب القبور الذين تكاثروا وتفاخروا بهم ، كانوا يرونهم كلهم في الجحيم.

هذا لو كانت الرؤية صادقة بما علموا ولم يعملوا ، ولو علموا علم اليقين وعملوا ، لكانوا يرون أنفسهم في الجنة ، ويرون من تفاخروا بهم في الجحيم.

(لَوْ تَعْلَمُونَ) : محال أن تعلموا : استحالة بالاختيار ، دون تسيير وإجبار ، وإذ لم تعلموا يوم الدنيا فسوف تعلمون بعده.

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) :

إذ دخلتموها ووجدتم أنفسكم في يقين الجحيم نفسه ، فقد كان لكم أن تروها علم اليقين لكي تتحرزوا عنها فلا ترونها عين اليقين.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) :

النعيم الذي تجاهلتموه حتى وردتم موردكم في الجحيم ، فترك النعيم جحيم أينما كان ، ولا سيما النعيم الذي يهم الإنسان في شريعة الله.


إنه النعيم الذي أخلدكم التحلل والتغافل عنه في التكاثر : من نعيم العقل الذي عقلتموه وحبستموه في أسر الشهوات ، ونعيم الحياة التي أخلدتموها فى الحيونات : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٤٦ : ٢٠).

ومن نعيم النبيين ، فنعمة الرسالة هي أهم النعم التي يسأل عنها : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٥ : ١٠٩).

فهذه الثلاث هي أصول النعم الروحانية التي يسأل عنها.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ) سؤال تقريع وتبكيت (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ رأيتم الجحيم عين اليقين : (عَنِ النَّعِيمِ) لماذا ضيعتموه؟

هذه هي النعم التي يسأل عنها وكما رواتها الأئمة من أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، دون النعم المادية ، وكما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : ثلاث لا يحاسب بهن العبد : «ظل خص يستظل به ، وكسر يشد بها صلبه ، وثوب يواري به عورته» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٩١ ، وهذه الرواية هي الوحيدة في الدر المنثور ، ويعارضها عديد من الروايات فيه ، تعزي إليه (ص) أن النعيم هو الكسر والظل والنعل ، دون أن تذكر أو تشير إلى النعم الأصيلة للإنسان ، التي يرويها أئمة أهل البيت عن الرسول الأقدس (ص) وكما نرى أن القرآن لا يمن على المؤمنين إلا بنعمة الرسالة وأمثالها.


سورة العصر ـ مكية ـ وآياتها ثلاث

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

* * *

إن الله يحلف : (وَالْعَصْرِ) فهل كما نحلف وعند فقدان الدليل؟ والله خالق المدلول والدليل؟ كلا فإنما يأتي بصيغة الحلف ليوجهنا إلى مهمة فيما يحلف به ، هي برهان ساطع للإثبات : عقليا أو علميا أو اعتباريا ، أو أيا من صنوف البراهين المناسبة لإثبات المطلوب ، بصورة مجردة عن صيغ البراهين المصطلحة ، لكي لا يهابها غير المثقفين ، فيأنسوا بها ، وكأنها من محاوراتهم السوقية.

فقد يحلف بالدليل : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) حلفا بحكمة القرآن لفظيا وعلميا وتقنينيا و.. لتدل هذه الحكمة على نبوة من انزل عليه ، لكي يصلح للخطاب : «يس» * : أيها السامع للوحي ، ثم على رسالته على صراط مستقيم ، فيا لها من برهان ما أتقنه!


وقد يحلف بموجبات المدلول أو دوافعه أو روافعه أو ... طالما الدليل واضح بمجرد التنبيه ، أو أنه بحاجة إلى تأمل وتعمّل ، ومجموعة الأقسام في القرآن أربعون قسما ، بين ما هو قسم بالأجرام العلوية أو السفلية ، وما هو قسم بالأدلة العقلية أو الحسية ، ولينظر الإنسان في واقع البراهين ، وليدرس العلل والمعاليل.

وهنا لإثبات خسر الإنسان يحلف بما يعم الدافع والرافع ، والسورة تبحث عن واقع الخسر للإنسان ودوافعه وروافعه ، فيعالج خسره بدعائم أربع.

(وَالْعَصْرِ) :

«والعصر» علّه الزمان ، أو نوائبه بعصرها ، وشياطين الجن والإنس فإنهم يعصرون الإنسان ، ليخسروه ماء الحياة ويدفعوه إلى الخسران ، والنفس الأمارة بالسوء فإنها تعصر وتحصر العقل حتى تخسره ، وكل دوافع الخسران فإنها عصر وقسر على الإنسان لتغرقه في الخسر.

فدوافع الخسر هذه ، المحسوسة منها والمعقولة ، تبرهن على واقع الخسر ، فإنها تخسر الإنسان في حياته ، ومعطياتها ، ولا بد للمبتلى أن يعرف ابتلاءه ، بأصله ونوعه ، ليفكر ويحاول في علاجه ، فكثير من الخاسرين في الحياة يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وهم الأخسرون أعمالا ، وعن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله هنا : «والعصر ونوائب الدهر» ، وعن علي عليه السّلام قوله : «والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر» (١).

وعلّه حلف برافع الخسران أيضا ، كما هو حلف بدافعه ، دلالة على البلاء وعلاجه جملة واحدة :

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٩٢.


كعصر النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم عصر طلوع الإسلام من أفق الجزيرة إلى الآفاق ، وقد يؤيده إقسام الله بعمر النبي تارة وببلده أخرى ، فأحرى له أن يقسم بعصره المشعشع المجيد.

وظهورا تاما وتحقيقا عاما للرسالة المقدسة المحمدية : عصر القائم محمد بن الحسن المهدي عليه السّلام (١) ، عصر الكفاع التربوي بكامله ، ضد عناصر الخسران وأواصره (٢).

قسما بدوافع الخسران وروافعه أن واقع الخسر لا ينكر ، ويجب أن يتحذّر.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) :

تأكيدات ثلاث تستغرق الإنسان في يمّ متلاطم من الخسر (٣) ، تحت ضغوط نفسية وخارجية ، لا تسمح وتفسح له المجال أن يمشي على صراط مستقيم.

إن الإنسان ـ أيا كان ـ هو بطبعه ، تحت ضغوط دوافع الخسران ، إنه لفي خسر : غريق تضطرب به أمواج الحياة ، وتضطرب به إلى أعماق بعيدة من خسران الحياة ومعطياة الحياة : يخسر نفسه وحياته ، يخسر عقله وماله وولده ، يخسر كل وسائل التقدم في حياة الإنسان ، متذرعا بها إلى حياة الحيوان ، وإلى أسفل سافلين .. وإذا كان الإنسان في واقع الخسر ، فهل يعاقب إذا على خسره ، أو هل من مفر ومنجى؟ ومن هم الناجون؟ الجواب:

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٦ ح ٥ عن الامام الصادق (ع).

(٢) واعتبارا بلام الجنس في «العصر» وعدم ظهور عهد يخصه بعهد خاص من هذه العصور فقاعدة البلاغة تحتم تعميمه لكل عصر.

(٣) تأكيدات مستفادة من «إن» * و «ل» * في لفي و «في» * الدالة على أنه غريق الخسر.


(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) : فمن خسر الحياة ، الاضطراب في الحياة ، والإخلاد إلى الأرض ، وأعمق ما يؤمن الإنسان ويطمئنه ، هو أن يؤمن بالله ، يأمن اليه ويؤمن نفسه بردعها عن غوغائيات الحياة ، بالإيمان بخالق الحياة.

إن الإيمان بالله هو اتصال الكائن العاقل ، الفاني الصغير الصغير ، المحدود المحدود ، بمبدإ الكون ، المطلق الأزلي اللامحدود ، وإنه انطلاقة قيمة من حدود الذات الصغيرة اللاشيء ، إلى رحابة الكون الكبير ، الكائن الأزلي القدير ، الذي خلق كل شيء وقدّره تقديرا.

إنه يرفع الإنسان عن عبودية مثله وما هو دونه ، عن أرباب متفرقين ، إلى عبادة الواحد القهار ، فالأرباب المتشاكسون تخرج العابد عن الاطمئنان إلى تناقض في الحياة وتخلّف واختلاف ، والإله الواحد يطمئن الإنسان (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وإنه يقيّم الإنسان ويقوّمه على منهج ذاتي يرضاه الله تعالى ، فلا يكون الخير عنده فلتة عارضة مندفعا عما يهدفه لنفسه ، وإنما عن دافع واحد أصيل هو مرضاة الله تعالى.

وأخيرا ـ لا آخرا ـ الإيمان ينبوع غزير للأفكار والأعمال الصالحة ، فهي نتاج الإيمان الصحيح الفائض ، والإيمان الفاضي عن العمل الصالح ليس إلا صورة الإيمان ، وكلما تم الإيمان واقعا كثرت الصالحات الفائضة عنه ، وكلما قل قلت.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .. نرى العمل الصالح قرين الإيمان في الآيات التي تتعرض لأحدهما ، ويعني من الصالح ما يصلح ويصالح مع الإيمان ، (وَعَمِلُوا


الصَّالِحاتِ) لا «الخيرات» * إذ الخير يختلف حسب الأنظار والأفكار ، ولكن صلاح العمل مع الإيمان أمر واقعي لا يختلف ، وصالح العمل هو الذي يعمل بدافع الإيمان ، فقد يكون العمل خيرا وليس صالحا ، كمن ينفق لمن يرجو خيره وجزاءه ، فإنه خير ليس بدافع الإيمان ، فليس صالحا ، ولكن الصالح كله خير.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : كل الصالحات ، لمكان الجنس أو الاستغراق المستفاد من «ال» * لا بعضها دون بعض ، فإنهم خارجون عن الخسر قدر ما عملوا ، وداخلون فيه قدر ما تركوا : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٠٢).

«وعملوا» * لا «أملوا» : صالحات لهم دون أن يعملوا ، أو أملوا صالحات غيرهم أن تنفعهم : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى!.

أجل : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الأعمال الصادرة بدافع الإيمان بالله وبأمر الله ، لا المتحللة عن الدافع الإلهي ، أو المتخلفة عن أمر الله ، فإنها وإن كانت من الخيرات لم تكن من الصالحات.

ذلك ، وهل يكفي الإيمان والعمل الصالح الفردي ، كفاحا ضد الخسران الجماعي ، والتخلف الجماعي ، الذي يقسر الإنسان إلى الخسر ، شاء أم لم يشأ ، كلا وألف كلا.

إن الجماعة المسلمة ، بعد تحكيم العلاقات الفردية العقيدية والعملية ، إنها بحاجة إلى تطبيق واجبات جماعية ، يحافظ فيها على كرامة المجتمع ، ويدافع بها عن ظلامة الجو والتيار الفاسد ، الطيار بكل عار وبوار.

إنها بحاجة ضرورية حيوية إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر :

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) :

التواصي ، لا الوصية ، فليست الوصية بالحق والصبر خاصة بجماعة دون


آخرين ، إنها على كل المسلمين متقابلة ، كل يوصي أخاه بالحق والصبر ، ولكي يصبح المجتمع الإسلامي مجتمع التواصي بكل حق صالح ، وبكل صبر صالح ، كل حسب إمكانيته ، وعلى حد قول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».

(وَتَواصَوْا) كل يوصي غيره كما يوصيه غيره ، بالحق والصبر ، وكل يقبل الوصية من غيره كما يرجو القبول من غيره ، ولكي يخلقوا جوا طاهرا نزيها عن كافة التخلفات والرذالات.

والتواصي ـ أيا كان ـ بصورة جماعية مرهبة ناصحة ناصعة ، تفرض الحق ، كلما كان تاركوا الحق والصبر أقوى وأطغى ، فليكن الموصّون بها أكثر كفاحا وأقوى.

والتواصي يشمل تعليم الشريعة وتعلّمها ، والأمر بتطبيقها : تعليم الجاهل وحمل العارف.

«بالحق» * : أشمل تعبير يعم كل خير صالح دون استثناء ، ومن بالغ اهتمام القرآن بدراسة الحق وتطبيقه ، نجده يذكره (٢٥٣) مرة في مختلف المجالات والمناسبات ، والحق هو الثابت ، فهو : الله تعالى وتوحيده وعبادته ، وهو : أنبياؤه ورسله ، وهو : كتبه ومواعيده ، وهو : أحكامه وشرائعه ، وهو : القيامة الكبرى ، وهو : كلما يتوجب الإعتقاد به ودرسه وتطبيقه ونشره ، أو ما هو مندوب له.

هذا ـ وكما القرآن يشهد : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) ، وأفعاله حق : (.. ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) ، والقيامة : «ويستنبؤوك أحق هو قل أي وربي إنه لحق».

والتواصي بالحق يعم التواصي بدراسة الحق واعتناقه وتطبيقه وتأسيس حكم الحق والدولة الحقة الإلهية لتضمين كلما يحق للحق.


إن التواصي بالحق ضرورة ، حيث النهوض بالحق عسير ، ومعارضوه كثير ، والمعوقات عنه كثيرة ، هوى النفس ، منطق المصلحة ، تصورات البيئة ، طغيان الطغاة.

وجوّ التواصي يطمئن الموصين أن معهم غيرهم مهما كثر الطغاة ، فهم يتضاعفون قوة ويأملون النجاح في المعركة.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) .. إن الصبر هو زاد الطريق في دعوة الحق ، فإنه طريق شاق طويل ، حافل بالعقبات والأشواك ، مفروش بالدماء والأشلاء ، بالإيذاء والابتلاء.

إن سلوك هذه السبيل يتطلب الصبر والتصابر ، الصبر على أمور كثيرة : على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب.

والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وتصرفهم ، وانحراف طبائعهم وأثرتهم وغرورهم والتوائهم واستعجالهم للثمار.

والصبر على تنفّج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء.

والصبر على قلة الناصر وضعف المعين ، وطول الطريق وغور المعين ، ووساوس الشياطين في ساعات الكرب والضيق.

والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة : من الألم والغيظ ، والحنق والضيق ، وضعف الثقة ـ أحيانا ـ في الخير ، وقلة الرجاء ـ أحيانا ـ في الفطرة البشرية ، والملل والسأم واليأس والقنوط.

والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والإنتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر .. والبقاء في السراء والضراء ، على صلة


أصيلة بالله ، واستسلام لقدر الله ، ورد الأمر كله إلى الله ، في طمأنينة وثقة وخشوع.

لهذه الضرورة نجد القرآن يذكر الصبر (١١٨) مرة ، بمختلف ضروبه.

وهنا لك سوف نرى خروجا تاما عن الخسر كله ، وانتصارا عاما على معارضي الحق كلهم : لو دعمنا صرح الاجتماع الإسلامي السامي ، على قواعده الأربع : الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

فعلى قدر الدعم الموفر لهذه القواعد سوف يكون تحلل الإنسان عن الخسران ، وعلى قدر التحلل عن دعمها ، سوف يكون الخسران (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

هذا ـ ومن بالغ أهمية هذه السورة نرى بالغ اهتمام أصحاب الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم في تعاهدهم وتواصيهم بها ، أن : «كان الرجلان من أصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة (الْعَصْرِ) ثم يسلم أحدهما على الآخر» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٩٢ ، أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الايمان عن أبي مليكة الداري وكانت له صحبة قال : كان ..


سورة الهمزة ـ مكية ـ وآياتها تسع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

* * *

«ويل» * : إنها ويلات عقائدية وأخلاقية وأعمالية ، ويلات فردية وجماعية ، تنتجها التخلفات المختلفة عن شريعة الله : شريعة الحياة ، إنها حسب القرآن (٢٧) ويلا ، نجد أكثرها للمكذبين بيوم الدين ، فإنه الذي يدفع لأسباب الويل.

«ويل» * لفظة تقال في مواقف التقبيح والتأوه والاضطراب والغضب ، لفظة الدم والسّخط ، وهي كلمة كل مكروب يتولول فيدعو بالويل ، وأصله : وي لفلان ، وكما أن «ويس» كلمة استصغار ، و «ويح» ترحم. ومن قال : «ويل» *


واد في جهنم ، لا يقصد أنه كذلك لغويا ، وإنما هو المصير الأخير لمن هو في حقه وإن كانت كل حياته ويلات.

فهؤلاء الذين يقول عنهم القرآن : «ويل» * إنهم ويل في ذواتهم وصفاتهم وحركاتهم ، ويل في كافة مجالات حياتهم ، ويل لأنفسهم ولمجتمعهم ، ووبال دائب على الاجتماع الذي يعيشونه ..

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) :

صيغتا مبالغة تدلان على كثرة ومواصلة مدلولهما ، وهما يشتركان في معنى الكسر والهزء والتعييب ، إلا أن الهمز في الغيبة ، واللمز في الحضور.

(لِكُلِّ هُمَزَةٍ) : غيّاب بما يسيء الناس بما هو فيهم أم ليس فيهم ، وسواء أكان مشاء بنميم أم ساكتا ، وكلّ ذلك في الغياب : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٢٣ : ١٠١) : إذ قوبل الهمز بالحضور ، فهو مقابل الحضور : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (٦٨ : ١١) إذا المشي بالنميم يناسب الغيبة لا الحضور.

«لمزة» : عيّاب ساخر في الوجه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٩ : ٥٨) : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩ : ٨١) : فيسخرون تفسير ل : يلمزون .. فم العيابون في الوجه ، الساخرون المنتقصون.

وعلى حد قول الرسول والأئمة من آل الرسول عليهم أفضل الصلاة والسلام : إنه ليس لسان الإنسان ، لسان الذي يسعى في هدر الأعراض ولدغ الأرواح والأشباح ، ويكرّس حياته في تعييب الناس ، كأن صاحبه البريء فقط ، إنه لسان


العقرب (١) والأفعى ـ وشر من الأفعى ، إذ إن الأفعى تقتل الإنسان في الجسد ، ولكن أفعى الهمزة واللمزة تقتل الأرواح وتخلق جو اللااطمئنان ، جوا قذرا مزريا كأنه جوّ الجحيم ، فهو الويل يوم الدنيا وهو الويل يوم الدين.

إنها صورة لئيمة من الأم صور الحياة ، والقرآن يكره هذه الصورة الهابطة بحكم ترفعه الأخلاقي ، وينهى عن الهمز واللمز في مواضع شتى ، إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح والتهديد ، علّه يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية خطرة من بعض المشركين وجاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجاه المؤمنين ، فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب .. إلا أنه يعمم المورد وسواه : «لكل» * : ويل للكلّ ـ طول التاريخ وعرضه ـ كلّ حسب همزه ولمزه.

.. فويلهم في دنياهم ، وويلهم في عقباهم ، إذ يعلقون في النار ، الويل ، وعلى حدّ تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

وقد ذكر الله الهمازين أنهم الآكلون لحوم إخوانهم : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (٤٩ : ١٢)(٣).

وذكر اللمازين بقوله : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) (٤٩ : ١١).

__________________

(١) نور الثقلين : ج ٥ ص ٦٦٧ ح ٣ ، في كتاب الخصال عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عليهم السّلام قال : المسوخ من بني آدم ثلاثة عشر ـ إلى أن قال ـ وأما العقرب فكان رجلا همازا لمازا فمسخه الله عقربا ، وفيه بالإسناد عن رسول الله (ص): وأما العقرب فكان رجلا لداغا لا يسلم من لسانه.

(٢) الدر المنثور عن النبي (ص) في حديث المعراج .. ثم مررت على نساء ورجال معلقين بثديهن فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الهمازون والهمازات ، ذلك بأن الله قال : ويل لكل همزة لمزة(ج ٦ ص ٣٩٢).

(٣) وكما عن الرسول (ص): رأيت ليلة الاسراء قوما يقطع اللحم من جنوبهم ثم يلقمونه ويقال : كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم ، فقلت : يا جبرائيل من هؤلاء ، فقال : الهمازون من أمتك اللمازون (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٧ ح ٥) عن عوالي الآلي.


وندد بالهمازين اللمازين أشد تنديد ، لأنهما يخربان الديار ولا يأتيان إلا بكل عار ودمار.

(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) :

ذلك كيانه في روحه الخبيثة : أنه همزة لمزة ، وهذا كيانه في سواها : هدفه تجميع المال وعدّه ، كأنه الذي يجمع شمله ويعدّه في عداد بني الإنسان ، ويخلده فيما يهواه! فهو يلمز المؤمنين ويهمزهم إذ لم يجمعوا مالا ، ويعيبهم وينقصهم كأنما المال هو الإنسان ، أو أنه حياة الإنسان كإنسان ، أو أنه يحييه خالدا إلى الأرض ما دامت : (.. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٧ : ١٧٦) ف (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) (٢٥ : ٦٩) : مهانا هناك كما أهان المؤمنين هنا ، جزاء وفاقا.

(جَمَعَ مالاً)(١) : منكرا دون تعريف : «مالا» * لا «المال» * فمن المال ما هو معروف ومنه ما هو غير معروف ، فالذي يحصله ليصرف في حاجيات الإنسان ، تحصيلا وصرفا مشروعين ، فهو «المال» * معروف عند إنسان المعرفة والحقيقة ، ولأنه ذريعة الآخرة.

وأما الذي يشذ عن شريعة الله تحصيلا وصرفا ، فهو «مال» * منكّر ومنكر لا يعتنى به ولا يعبأ ، وليست مذمة المال ذاتية ، إنما هي إذا كان المال وبالا يخلّف ويلات ، في دنيا الحياة وعقباها.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٨ ج ٧ في كتاب الخصال عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : سمعت الرضا (ع) يقول : لا يجتمع المال إلا بخمس خصال : بخل شديد ، وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة رحم ، وإيثار الدنيا على الآخرة.

وفيه عن كتاب التوحيد عن الصادق (ع) إنه قال : إن كان الحسنات حقا فالجمع لماذا؟ وإن كان الخلف من الله عز وجل حقا فالبخل لماذا؟.


«وعدده» : ثم وبال فوق وبال ، على من يحسب الوسيلة غاية والذريعة نهاية ، فالمال ليس إلا وسيلة من وسائل الحياة ، فإذا ادّخر وضخّم وعدّد ، أصبح وبالا فوق الوبال ، إذا حصّل من غير الحلال ، ثم لم ويصرف في سبيل الحلال ، ثم جمّد على عيون الفقراء العزّل الذين امتصت دماؤهم في سبيل تحصيل هذه الأموال ، أو أنفق في غير حلّه.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) :

ماله أخلده ، أو ، ماله (١) : يحسب أن كيانه الإنساني الشاذ الشارد عن صراط الحياة ، يحسب أن ذلك أخلده ، رغم أن لا خلود في دنيا الحياة ، ولا ينكره حتى الحيوان ، إلا أن السبيل التي اتخذها في الحياة ، إنها هي سبيل من يزعم الخلود ، فهو يتذرع بماله وماله إلى هذا الخلود المزعوم ، ولو كان في الدنيا خلود ، لم تكن له حيلة تزيد عما يحتال ، فبحساب ما يعمل نعتبره : يحسب أن ماله أخلده! ولكنه :

«كلا» * : ليس كما يزعمه في أقوال وأفعال وأحوال ، في مال وفي منال ، ليست هذه بالتي تخلده في دنيا الحياة ، وإنما تخلده في عقباها : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) :

(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) :

تهديد شديد يصوّر صورة مشهد من مشاهد القيامة ، صورة طبق الأصل ،

__________________

(١) «ماله» * «ما» * هنا إما جزء الكلمة المفردة «مال» * أو موصول ، صلته «له» * ، والثاني أعم وهو أتم ، إذ يشمل المال والحال وكل ما للإنسان من طاقات الحياة ، ذكر منها المال المعدد لأنه أهم ما يهمه الإنسان الحيوان.


فكما كان هذا الهمزة اللمزة ، الذي كان يدأب على الهزء بالناس ، وعلى اغتيابهم وتعييبهم ، في أنفسهم وأعراضهم ، وكان يدأب في تحطيم الكيان الإنساني معنويا وماديا ، وكان ينبذ أناسا مؤمنين كأنهم ليسوا أناسا ... فسوف يكون من المنبوذين المحطمين المرذولين المصغرين : في الحطمة : النار الكثيرة الشديدة الحطم ، لا تبقي ولا تذر.

وإنها ليست نارا تحرق وتحطم الجسد فحسب ، أو تبتدئ بالجسد ، وإنما تطّلع على الأفئدة :

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ. نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) :

إنها ليست نارا تعرف ، إنما نار خاصة متميزة متغيظة ، نار الله التي أوقدها بقدرته ، فقد تمتاز عن نار غير الله ، أوقدها الله إظهارا وتجسيدا لما أوقده الهمزة اللمزة ، وإنها تطّلع على الأفئدة التي اطّلعت منها نيران الهمز واللمز ، تحرق بما أحرقت به.

إنها نار تحرق روح الإنسان وجسمه ، قلب الإنسان وقالبه ، كما أحرق صاحبها قلوب الناس وقوالبهم ، وضيّع عليهم جو الطمأنينة : المعيشية الاقتصادية ، والمعنوية الآمنة.

هنا ـ وقبل أن تقوم القيامة ، يجبر الله كسر المؤمنين المنبوذين ، بما يعد النابذين غير المؤمنين ، فيطمئنهم في دنيا الحياة ، قبل الاطمئنان الأبدي في عقباها ، بما يبشرهم وينذر أعداءهم الألداء.


ثم يختم ذكرى هذا المشهد الرهيب بميّزة أخرى للحطمة :

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) :

مؤصدة : مطبقة لا مخرج لهم منها ولا منجى ، سجن دائب كما كانوا سجونا للمؤمنين يوم الدنيا.

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) : في أسطوانات طويلة جدا ، وعلّها أيضا من جنس النار ، أو من الأشعة غير المرئية التي تستهزئ بالمحطّين : «كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها» .. وقد يشهد بذلك العلم :

أشعة رونتجن

لقد ثارت مناقشة في الصحف الصادرة عام ١٩٢٥ حول هذه الأشعة ، وذلك أن أحد الأطباء قال : إن أشعة «رونتجن» ـ التي هي ذات عمل جبار في النوع الإنساني ـ ترى في إشراقها كالأعمدة ، فقال بعضهم : لعل الآية : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) تشير إلى هذه الأشعة ، وخالفهم آخرون ، وأخيرا انتصر الأولون.

إن أشعة رونتجن هي كالعمد ، يرى بها الأطباء ما خفي في الجسم ، فيعرفون بواطنه ، وعلها ـ هي أو مثلها ـ سوف تكون عمدا ممددة ، وإن كانت الحطمة غير معروفة عندنا : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) ولم يقل : «وما أدراك ما العمد الممددة».

علّ هذه الأشعة هي العمد الممددة ، تمدد في أعماق الأجسام إلى الأفئدة فتزجها في سجن الحطمة ، فلا تسمح لها بالخروج.


ومها يكن من شيء فالعمد هي من النار ، سواء من نار الحطمة أم سواها ، فسواها من إنباءات الغيب المكشوفة بالعلم ، والحطمة مجهولة حتى الآن ، وعل العلم يكشف عن مثالها في الدنيا ، «فكل ما في الدنيا مثال لما في الآخرة».

إذا فالهمزة اللمزة سوف يكون مجذور المكعب الناري ، هو نار : (وَقُودُهَا النَّاسُ ..) وفي نار : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) وفي سجن الأعمدة النورية النارية ، وعلّها أشعة «رونتجن» أو مثلها.


سورة الفيل ـ مكية ـ وآياتها خمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(٥)

* * *

إن قصة الفيل بلغت من الشهرة والتواتر التاريخي إلى حد الضرورة غير المنكورة ، وحتى عند المشركين الجاهليين الذين لا يدينون بالدين الإلهي ، وقد أرّخوا بها وذكرها الجاهليون في أشعارهم ، وأرّخ بها المسلمون ميلاد الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والروايات الحاكية للقصة مهما كانت مختلفة التفاصيل ، ولكنها ناحية منحى قصة واحدة في لبّها وهي كيد أصحاب الفيل لهدم الكعبة المكرمة ، وأنهم فور وصولهم إلى مشارف مكة المكرمة وقبل أن يقدموها ويقدموا على ما نووا ، استهدفوا بقنابل من سجيل من قاذفات طير أبابيل ، فجعلهم كعصف مأكول ، وإنها


حادثة عظيمة الشهرة ـ بالغة الأهمية ـ في حياة الجزيرة. وعلى حياة الكرة الأرضية ، عريقة الدلالة على مدى رعاية الله لأول بيت وضعه للناس ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم.

هذه البقعة المباركة التي اصطفاها الله تعالى لتكون الملتقى للإشراق الأخير من وحي السماء ، والنقطة الحاسمة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة اللادينية في العالمين ، وإقرار الهدى والنور على طول الزمن وعرضه.

«ألم تر» : ألم تعلم علم المعرفة ، لحدّ كأنه علم العيان ، استفهام إنكاري إقراري ، ينكر أن يجهل هذه القصة أيّ من سكان الجزيرة وسواهم ، لأنها كانت كالنار على المنار ، وكالشمس في رايعة النهار ، فلم يكن أحد من الناس يجهلها ، فأولى بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا يجهلها ..

ويقرّ من وراء هذا الإنكار من يجب أن يتذكره ، من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. يقرّ خارقة إلهية تدل دلالة باهرة ظاهرة (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (١٢ : ٥٢) (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (٨ : ١٨) (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٦١ : ٨) (١).

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٩ ح ٨ عن روضة الواعظين ، قال علي بن الحسين (ع): كان أبو طالب يضرب عن رسول الله (ص) بسيفه ـ إلى أن قال ـ : فقال أبو طالب يا بن أخ! إلى الناس كافة أرسلت أم إلى قومك خاصة؟ قال : لا بل إلى الناس كافة ، الأبيض والأسود والعربي والعجمي ، والذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض والأسود ومن على رؤوس الجبال ومن في لجج البحار ، ولأدعون ألسنة فارس والروم ، فحيرت قريش واستكبرت وقالت : أما تسمع إلى ابن أخيك وما يقول ، والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجرا حجرا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) وأنزل في قولهم : لقلعت الكعبة حجرا حجرا : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ).


أفبالإمكان أن نؤوّل قاذفات الطير الأبابيل : أنها كانت من صدف التاريخ ، أو من اصطناعات إنسان التاريخ ، وكما يتقوله الجاهلون : إن الكون أجمع نتيجة الصدف؟ ..

لا ننكر أن الله تعالى لم يكتب على نفسه مواصلة هذه الخارقات ، المنفصلة عن إثبات النبوات ، إلا أن أمثال هذه من الشقشقات قد تظهر لكي لا تهدر آيات الله البينات سدى ، ولتكون حجة الله هي البالغة وكلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) :

«ربك» * الذي اختصك بكرامة منقطعة النظير ، بما أنك «أول النبيين ميثاقا وآخرهم مبعثا» كذلك يختص أول بيت وضع للناس ، برحمته ووقايته الخاصة ، وإنك أشرف من البيت وممن بات فيه متعبدا لربك أو يبيت ، فإذ يحفظ ربك هذا البيت عن أصحاب الفيل ، فبأن يحفظك عن كل كيد وتضليل أولى وأحرى!.

(بِأَصْحابِ الْفِيلِ) وما أصحاب الفيل؟ .. لا يذكر هنا أسماءهم ولا اسم قائدهم في هذه المعركة الكافرة ، مهانة له ولهم : إنهم لم تكن لهم مكانة تتطلب ذكرهم بأسمائهم ، إلا أنهم أصحاب الفيل ، معتمدين في عملتهم الوحشية اللاإنسانية على قوة الفيل.

لقد كان للفيل على أصحابه شرف عظيم من ناحيتين :

١ ـ القوة الخارقة ، وقد كانت للحرب قديما ويحمل على ظهره من ثلاثة آلاف رطل إلى أربعة آلاف ، وعلى خرطومه وحده ألف رطل ، ويجر ما لا يكاد يقله ستة أفراس ، ويسير في اليوم مائة ميل.


٢ ـ إنه حيوان سليم الطبع مؤالف مؤانس فليس من طبعه الأذى وإنما يستعمل قوته في الدفاع عن نفسه.

فهذا الفيل لم يستعمل قوته في خراب البيت رغم أصحابه ، إنه برك دون مكة لا يدخلها ، رغم ما جهد أصحابه في حمله على اقتحامها فبدل أن يفلحوا أفلجوا .. فلما ذا الكيد في هدم البيت وممن؟

إن ملك الحبشة (أبرهة ابن الصباح الأشرم) (١) المسيحي ـ جد النجاشي الذي كان على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ آمن المسلمين المهاجرين إلى بلاده ، وآمن بالرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أبرهة هذا يبني كعبة باليمن لها قباب من ذهب وزخرفات مغرية ـ كعادة الكنسيين في كنائسهم ـ بناها حسدا على الكعبة المشرفة وعلى الطائفين حولها ، ولكي يزورها أهالي بلاده كما تزار الكعبة ، ولكي يجلب أنظار زوار البيت الحرام أيضا إلى بيته بدعايات ومغريات .. إلا أنه خاب سعيه إذ رأى أن العرب ـ يمنيين وسواهم ـ ليسوا بتاركي الكعبة المقدسة إلى الكعبة المزورة ، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت العتيق ، وكان موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر بالأنساب.

عندئذ عزم «أبرهة» على هدم الكعبة المشرفة ليصرف الناس عنها ـ واقعيا ـ إلى كعبته المختلقة ، وقاد جيشا جرارا تصاحبه الفيلة ، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم ، فتسامع العرب به وبما قصد ، وعزّ عليهم أن تهدم كعبتهم ـ بيت عزهم ـ فوقف في طريقه من وقف ، يحاربوه ليصدفوه عن قصده ، فما انصدف ، إنه حاربهم بمن فيهم الأذواء والأشراف اليمنيون والنفيل الخثعمي في قبيلتين ، فهزمهم وأسرهم واستمر في طريقه ، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف قائلين له : إن البيت الذي تقصده ليس عندنا ، إنما

__________________

(١) مجمع البيان : أجمعت الرواة على أن الملك الذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الأشرم.


هو في مكة ، ذلك ، وليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للّات ، وبعثوا معه من يدله على الكعبة المشرفة.

.. وإلى أن وصل إلى مشارف مكة المكرمة ، بركت الفيلة دون مكة لا تدخلها ، رغم حملهم لها على اقتحامها .. ثم كان ما كان من قذائف الطير الأبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل. فجعلهم كعصف مأكول (١).

ثم نقف هنا وقفة الحائرين من موقف جد النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم عبد المطلب ، إذ يسرق إبله أصحاب الفيل فيقصد صاحب الحبشة يطلب إبله ، دون التماس منه أن ينصرف من هدم البيت ، ويجيب عن سؤاله : هذا رئيس قوم وزعيمهم ، جئت إلى بيته الذي يعبده لأهدمه وهو يسألني اطلاق إبله؟ أما لو سألني الإمساك عن هدمه لفعلت!

يجيبه : «أنا رب الإبل ولهذا البيت رب يمنعه» (٢) «لست برب البيت الذي قصدت لهدمه وأنا رب سرحي الذي أخذه أصحابك ، فجئت أسألك فيما أنا ربه وللبيت رب هو أمنع له من الخلق كلهم وأولى به منهم» (٣).

فيا لهذه المنعة الطيبة من حياد على ثبات واستقرار وطمأنينة من حفاظ رب البيت على بيته العتيق.

وكما نراه «يجمع أهل مكة يدعو فأرسل الله طيرا أبابيل» (٤).

__________________

(١) هذه نماذج مما أجمعت عليه روايات القصة ، رفضا لما اختلفت فيها.

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٧٠ ح ٩ في أصول الكافي.

(٣) نور الثقلين ٥ : ٦٧٢ عن أمالي الطوسي عن الصادق (ع) عن أبيه عن جده (ع) في حديث طويل.

(٤) قرب الاسناد بإسناده إلى موسى بن جعفر (ع).


فيا لجدّ الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم من موقف مشرّف حيال هذا التصميم الكافر من أصحاب الفيل ، ويا لمولد الرسول الألمعي صلّى الله عليه وآله وسلّم من كرامة يحافظ به الله تعالى على كرامة البيت ، إذ ولد في عام الفيل (١).

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) :

يعبر عن عزمهم القاطع بالكيد ، إذ كان القصد من هدم الكعبة وبناء كعبة مزورة ، صرف الناس عن بيت الله إلى بيت اللهو ، وهذان الكيدان أصبحا في تضليل ، إذ لم يصلوا إلى بغيتهم في كيدهم : لا إيجابا : في بناء كعبة حبشية ، إذ لم يستجب لهم العرب ـ ولا سلبيا : في هدم الكعبة المكرمة ، إذ ضلت أجسادهم الجهنمية تحت التراب بعد إذ قذفت بقاذفات السماء ، بدل أن تظل مع أرواحهم ناجحة في كيدهم ، رابحة في ميدهم ، فأصبحوا من الأخسرين أعمالا ، فضلّت أجسادهم في هذه الحرب الكافرة ، كما ضلت أرواحهم.

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) :

هذا آخر المطاف وأضله في تضليلهم ، فقد سخر الله منهم وأهانهم في تضليلهم هذا مرتين : إذ أرسل عليهم جنودا صغارا : (طَيْراً أَبابِيلَ) مع أسلحة صغار ، صغار على صغار ، تسحق الكبار الكبار : إذ تدمّر أصحاب الفيل ، وتجعل كيدهم في تضليل ، أجل أصحاب الفيل لا الفيل ، إذ لم يقدم الفيل على ما قدموا ، فقد نجا الفيل وضلّوا.

ومرة ثانية إهلاكهم عن آخرهم ، إذ ضل كيدهم معهم ، وأصبحت قصة

__________________

(١) كما أجمع عليه الرواة كما في الدر المنثور ٦ : ٣٩٦ : أخرج البيهقي عن محمد بن جبير ابن مطعم قال : ولد رسول الله (ص) عام الفيل ، وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة ، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل ، وتنبأ رسول الله (ص) على رأس أربعين من الفيل.


الفيل عبرة لأولي الألباب ، رغم ما نواه أصحابه : أن تكون ثورة على الحق وتشجيعا للثائرين خلاف الحق.

(أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ) .. إنها كانت رسل الله لأمر مقصود ، لا رسل الصدفة لأمر غير مقصود ، أرسلهم الله طيرا أبابيل : وعلى حد تفسير أبي عبيدة : «جماعة في تفرقه» ولعلها جماعة من حيث الجمع ، وتفرقة من حيث الأجناس (١).

نكّرت الطير الأبابيل كما نكّر أصحاب الفيل ، وأين تنكير من تنكير ، فلأصحاب الفيل منه النكير إهانة ، وللطير الأبابيل تنكير التعظيم كرامة ، وليدل على أن لا اختصاص بهذه الطير جنودا إلهية ، فالكائنات كلها جنود الله.

تقتل واحدة من هذه الطير ثلاثة من أصحاب الفيل ، ويا لهم ولكيدهم من تضليل :

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) :

هؤلاء الرماة القاذفات ، فما هو المقذوف به؟ إنها حجارة من سجيل. و «سجيل» * معرّب عن «سنك كل» الفارسية ، أي حجارة الطين ، فمن الأحجار ما هو حجر خالص ، ومن الطين ما هو طين خالص ، ومن الحجارة ما هي حجارة الطين ، وهي القنابل التي رمتها الطير الأبابيل.

نجد القرآن يذكر ـ فيما يذكر ـ من ألوان عذاب المجرمين دنيويا : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) : (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٥١ : ٣٤) (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١١ : ٨٣).

__________________

(١) هل للأبابيل واحد؟ قولان : أحدهما أنه «أبيل» * قاله الراغب في غريب القرآن ، ثانيهما أن لا واحد له كما قاله الأخفش والفراء ، وقيل إنه : إبالة ، أبول ، إيبالة. عن أبي جعفر الرواسي والكسائي والفراء.


فهذه حجارة ماهيتها أنها حجر الطين ، حجر خلق من تحجّر الطين ، وهي منضودة : بعضها على بعض ـ ومسومة : معلمة .. للمجرمين.

فهنا وهناك قاذفات ، مقاذيف ، قد يكون المقذاف الكوكب الذي يرمى منه إلى شياطين الجن إذ يسترقون السمع ، أو شياطين الإنس إذ يسعون فسادا في الأرض. فالأولى تسمى شهبا ، والثانية أحجارا سماوية ، ومن الأولى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٥ : ١٨) ، ومن الثانية : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (٨ : ٣٢)(١).

وهنا القاذفات الحيوانية تأخذ قواذفها من جو السماء ، من السجيل المنبث المتساقط من الكواكب ، ثم تقذف بأمر الله ، كما قذفت أصحاب الفيل ، وكيف قذفت؟.

كل طائر كان في منقاره حجر وفي رجليه حجران ، وإذا رمت بذلك مضت وطلعت اخرى ، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه ، ولا عظم إلا أوهاه وثقبه ، وثاب أبرهة راجعا وقد أصابته بعض الحجارة ، فجعل كلما قدم أرضا انقطع له فيها إرب ، حتى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شيء إلا باده ، فلما قدمها تصدع صدره وانشق بطنه فهلك ولم يصب من الأشعرين وخثعم أحد ، قذائف لا تهدر ، ولا تخطئ العدوّ إلى المؤمن ، ولأنها كانت بأمر الله وبعين الله ، دون القذائف البشرية الهادرة أحيانا والمخطئة اخرى.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) :

كأوراق الزرع الذي أكله الأكّال ، كالدود يأكله ويفسده ، والحيوان يأكله ويمزقه.

__________________

(١) الأحجار الساقطة من الكواكب لو وصلت إلى الأرض تسمى أحجارا ، ولو احترقت في السماء تسمى شهبا ونيازك نارية ، وسوف نفصل البحث عنهما في محالهما.


فهذه صراحة في الآيات لا مرية فيها ، أن ذلك الدمار لأصحاب الفيل كان من قاذفات الطير الأبابيل بحجارة من سجيل ، فلا يصغى إلى تأويلات المتضايقين من خوارق العادات ، الذين يكرسون كافة طاقاتهم لتأويل أمثال هذه الآيات إلى غير تأويلها.

هكذا فليكن الحفاظ الرباني على بيته العتيق ، أنه يمنع أهل الكتاب الحبش أن يحطموا بيته الحرام ، حتى حين إذ يدنسه الشرك ، والمشركون هم سدنته ، وليبق هذا البيت عتيقا من سلطان المتسلطين ، مصونا من كيد الكائدين ، كما كان عتيقا منذ خلق وعمر ، لم تسيطر عليها أيدي الأرض ، وليحافظ على حريتها وانعتاقها حتى تثبت فيها العقيدة الجديدة حرة مطلقة.

وإننا نستبشر بهذا الحادث العظيم ، ذي الدلالة البعيدة العميقة ، نستبشر إزاء ما نعيشه من أطماع توسعية ما كرة ترف حول الأماكن المقدسة ، من الصليبية ، والصهيونية العالميتين.


سورة قريش ـ مكية ـ وآياتها أربع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

* * *

علها ذات صلة بسورة الفيل بتعلق (لِإِيلافِ) بها : ألم تر كيف فعل ربك ... لإيلاف قريش ، فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، ثم هذه الصلة لا تمنع صلة المجرور (لِإِيلافِ) بما في السورة نفسها : لإيلاف قريش فليعبدوا.

وأخيرا يصح القول بجمع الصلات الثلاث لصحتها وتماميتها أجمع : فإيلاف قريش كما هو أهداف الحفاظ على البيت ، بيت عزهم وسيادتهم ، كذلك هو سبب يدفعهم أن يعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، إذ جذب واجتلب إليهم ثمرات كل شيء ، وآمنهم من خوف ، خوف أصحاب الفيل ، وخوفهم فيما بينهم.

ولا يعني إيلاف قريش اختصاص هذه العناية الإلهية بهم ، أو اختصاص شريعة القرآن بهم ، وإنما يعني أنهم منطلق الدعوة وركيزتها الأولى وبدايتها ، وأول


المطاف في التبشير والإنذار المحمدي : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها).

فالواجب الإلهي والواجب الطبيعي في كل رسالة إلهية هو البداية بالأقربين ، ولأن إيمانهم يهيئ الجو لإيمان الآخرين.

فلو ترك الرسول إنذار قومه في البدء ، ولو كذبوه وأنكروه ، لأصبح هذا التكذيب والنكران برهانا لغيرهم من الناكرين : أن لو كان حقا ما كذبوه وهم أعرف الناس به!

إذا ننتقل من إيلاف قريش إلى إيلاف الناس أجمعين ، الذين يصدقون بهذا الدين ، فهنا دافع للإيلاف وهو عبادة رب هذا البيت ، أن يجتمع الناس أجمعون على عبادة الله الواحد القهار ، وبهذا يتحقق الائتلاف لانتظامهم في اتجاه واحد في الحياة.

وهنا سبب يهيئ الائتلاف وهو الحفاظ على كرامة البيت العتيق ، فلو أن أصحاب الفيل لم يمنعوا دون مسهم من حرمة البيت ، لانهار حرم الموحدين في البداءة ، وانهار رجاؤهم طول الحياة.

ليعبد رب هذا البيت لأنه الرب ، ولأنه أطعمهم من جوع قاتل ومن خوف قاتل ، وعلى حد تعبير الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «نعمتان مجهولتان ، الصحة والأمان».

إن الخوف كان شاملا لحياتهم في كافة مجالاتها ، السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والعقيدية والنفسية ، كانوا يعيشون الخوف ، وكانوا أمواتا في حياتهم ، فأحياهم الله بالقرآن ، وآمنهم من كل المخاوف لو طبقوا شريعة الله.


سورة الماعون ـ مدنية ـ وآياتها سبع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧)

* * *

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) :

التكذيب بالدين هو موضوع السورة ، وبما أن الدين لا يحصر في الجانب العقائدي والعلاقات الفردية ، فهذه السورة ـ كأنها ـ تختص الدين بالعلاقات الجماعية والاهتمام بأمور اليتامى والمساكين ، إيحاء بأنها من الدين رغم التغافل الملموس في هذا الصدد ، إضافة إلى الاهتمام بالصلاة التي هي صلات فردية برب العالمين.

«أرأيت» : سمعته ما يكذب بلسانه؟ أبصرت ما يعمل بأركانه؟ عرفت


ما يكذب بجنانه؟ حيث الدين : الطاعة ، هو لفظ الإيمان ، وعقيدة الإيمان ، وأعمال الإيمان ، وكلّ يتطلب رؤية تناسبه.

(يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) : هو طاعة الله يوم الدنيا ، والجزاء عليها ، يوم الدين وهو بروز حقيقة الطاعة يوم الجزاء ، والتكذيب بالدين قد يعم مراحله الثلاث ، وقد يخص مرحلة دون أخرى ، وقد يختص بما يحق في كلّ مرحلة وإن كان يؤمن بها إجمالا ، فمن يعمل عمل المنكر المكذب لطاعة الله ، فهو محسوب من المنكرين المكذبين ، إذ إن الغاية من ألفاظ الإيمان وعقائد الإيمان هي أعمال الإيمان ، وإن كانت لعقيدة الإيمان أصالة فلأنها نبعة الأعمال الصالحة.

والدين الطاعة هو الإسلام لله والتسليم له بكافة المظاهر والأسرار : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٣ : ١٩) (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. (٣ : ٨٣). والدين القيّم هو طاعة الله وحده : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٢ : ٤٠) (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (٤ : ١٢٥).

في هذه السورة عرض للتكذيب العملي الناشئ عن التكذيب العقائدي ، أو كأنه هو ، حيث الأثر هو الأثر ، وهو اللامبالاة بشأن الخلق والخالق سواء.

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) :

اليتيم لغويا هو «المنقطع» عما يحق الاتصال به لنضارة الحياة : ماديا ومعنويا : من رحمة وعناية أبويه ، وحنان الأم ، ومن هداية إلهية ، وكما يجب للإنسان إنسانيا رحمة الأبوين ، كذلك ـ وأحرى له ـ التوجيهات الربانية ، ومن الواجب الجماعي الإسلامي رعاية اليتامى من كافة الأصناف ، الرعاية الأبوية لجبران نقصها بفقد الآباء ، والرعاية الروحانية كذلك ـ أصالة ـ ولجبران نقصها


من الآباء الروحيين الذين قصروا في أداء ما عليهم ، علاقات تضامنية بين المسلمين ولكي يجبروا ما ينقصهم في الحياة ، بعضهم البعض.

إن الواجب هو الرحمة على اليتامى دون أن يبغى منهم جزاء ولا شكور : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (٤ : ٦) .. عناية مجانية ورعاية دون مقابل لمصلحة اليتامى ، إلا للفقير ، فليأكل كما يعمل لأقل قليل.

القرآن يشرك اليتامى في الكثير من الانتفاعات الجماعية والعائلية ، فيوسطهم في قسمة الميراث بين أولي القربى والمساكين غير الوارثين : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٤ : ٨) ويردف بهم الوالدين وذوي القربى في وجوب الإحسان إليهم : (.. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) (٤ : ٣٦).

فلو كان اليتيم مسكينا فله حقان : في الإرث وفي الإحسان ، وإلا فحق اليتيم لا يزيله عدم المسكنة لردفهم بالمساكين.

إن القيام بالإحسان والقسط لليتامى هو من واجبات الإيمان ، مهما كان اليتيم فقيرا أو غنيا ، لينوب مناب الوالد الذي كان قائما بالإحسان إليه مجانا : (.. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) (٤ : ١٢٧) (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) (٢ : ٢٢٠) كذلك فليكرم اليتيم الذي يجد نفسه مهانا بفقد الوالد أو الوالدين : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (٨٩ : ١٦) وليردف بالوالدين وذوي القربى في كافة الرحمات العائلية : (.. لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) (٢ : ٨٣) (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ) (٢ : ٢١٥).

وليحذّر عن أموالهم ولا يقرب إلا بالتي هي أحسن ، حفاظا عليها ، واستزادة


فيها دون أيّ مقابل : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (٦ : ١٥٢) (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٤ : ١٠).

فمن يدفع اليتيم عن حق الإحسان اليه والإكرام له ، ومن يدفعه عن إشراكه ويدعّه في الرحمة العائلية ، ومن يدعّه عن إصلاحه وإصلاح حاله وماله ، ومن يدعّه عن ماله فيأكله ظلما ، فهذا الذي يكذب بالدين : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ).

قال ابن جريح : نزلت في أبي سفيان ، كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه ، وقال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأعمال القبيحة ، وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل ، كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي.

وقيل وقيل .. ولكنما الآية تأبى الإختصاص بمن نزلت في شأنه ، إنها تعم كل سفياني يقرع اليتامى ، وكل أبي جهل يجهل حقوقهم ، فإنّ دعّ اليتيم ودفعه عن حقه هو من ظواهر التكذيب بالدين ، مهما كان اليتيم يتيما في الدنيا أو الدين.

إنه ليست اللامبالاة بشأن العبادة ـ فقط ـ هي التكذيب بالدين ، فإنها تكذيب به ، سواء بحق الخالق أو الخلق ، فالدين يجمع بين الحقين ، كما السورة تجمع بينهما ، ابتداء بحق الخلق وانتهاء به ، ويوسط حق الخالق هنا إشارة إلى أن الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله أحبهم إلى عياله المحتفين به ، كما احتفت اليتامى والمساكين وذوي الحاجة بعبادة الله.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) :

ليس إطعام المسكين هو الفرض فقط ، بل الحض على طعامه أيضا ، والمحاضة


عليه ، وليس فرض المسلم أن يكون هو ـ فقط ـ الفائض الخير على المسلمين ، فإن هناك فرضا ثانيا هو حض الناس أجمعين أن يكونوا فائضين ، نبعة فوارة شاملة دون أن تيبس مهما يبست بنفس ذاتها ، ولكنها فياضة بما تحضّ سواها وتبثّ ، هكذا يجب أن يكون المسلم فياضا بكل خير ، يكرّس حياته في هذه السبيل دون أن يجمد فوّاره.

وعلى المسلمين أن يحض بعضهم البعض على طعام المسكين ، فعدم المحاضة وعدم الحض على طعام المسكين ينشأ من عدم الإيمان بالله العظيم : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٦٩ : ٣٣ ـ ٣٤) (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٨٩ : ١٨).

هناك وهنا لك كان ويل للناكرين حقوق اليتامى والمساكين : المكذبين بالدين. ثم هنا :

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) :

يصلون ولكنهم لا يؤمنون ، وكأنهم مكذبون بفرضها والذي فرضها ، حيث اللامبالاة في أدائها ، وعدم الإتيان بشرطها الأصيل : «الإخلاص».

إن التفريع هذا «فويل» * يربط هكذا مصلّين بالذي يكذب بالدين ويدعّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ، فاللامبالاة هي اللامبالاه ، سواء أكان بحق الخلق أو الخالق ، فالمنشأ واحد هو التكذيب بالدين ، وفقدان الركيزة الإيمانية كما يجب.

وإذا كان اللامبالي بحقوق الخلق من المكذبين ، فاللامبالي بالخالق هو من أشر المكذبين.

وإذا كان الويل للمصلين المقصرين في صلواتهم فما هو لتاركي الصلاة؟


(الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) :

عن صلاتهم ـ لا ـ في صلاتهم ، إذ إن الإنسان ، كائنا من كان ، قد يسهو في صلاته ، في شرائطها وأجزائها ، إلا من عصمه الله ...

والتنديد هنا بالساهين عن صلاتهم : فقد يصلون إذا حضروا وقد لا يصلون إذا غابوا ، يحسبون صلواتهم كأهون ما يبغون ، فهكذا سهو عن الصلاة مبدأه اللامبالاة بشأن الصلاة ، سهو عامد ، ونسيان مقصود ، وتساهل متقصّد ، كل ذلك لأنه مكذب بطاعة الله ، لا يعتبر طاعته أصلا في الحياة ، ولا أصلا من أصول الحياة ، ولا فرعا لازما ، وإنما في هامش الحياة ، إذا ما أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون ، فلو أضرت بها لرفضوها وتركوها بتاتا.

وقد يشمل السهو عن الصلاة ـ إضافة إلى التساهل عنها ـ التساهل في شرائطها وأجزائها ووقتها ، كما يروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله في الآية : «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» (١) وكذلك السهو عن الصلاة معنويا ، كان يشتغل في الصلاة بغير الله ، أو لا يرجو من صلاته خيرا (٢).

وهذه هي صلاة المنافقين ، الذين يتظاهرون بالإيمان ولما يدخل الإيمان في قلوبهم :

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٤٠٠.

(٢) لما نزلت هذه الآية : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال رسول الله (ص): الله أكبر هذه الآية خير لكم من أن يعطي كل رجل منكم جميع الدنيا ، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته وإن تركها لم يخف ربه.

وعن أمير المؤمنين (ع) فيما علم أصحابه من الأربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه : ليس عمل أحب إلى الله عز وجل من الصلاة فلا يشغلنكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا ، فإن الله عز وجل ذم أقواما فقال : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها(نور الثقلين ٥ : ٦٧٧ ح ٤) .. وعن الصادق (ع) مثله (المصدر نفسه ح ٣).


(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤ : ١٤٢) (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٩ : ٥٤). إنهم يقومون إلى الصلاة ولكنهم لا يقيمونها ، يأتونها ولا يقيمونها ، يأتونها كسالى ، كسلا مزدوجا : كسالة أولى إذا تعبوا وكلّوا عن أشغالهم ، وثانية أنهم على كسلهم يأتون الصلوة وهي حمل ثقيل عليهم (.. وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ). فصلاتهم إذا كسل على كسل ، وفشل على فشل ، فهم الذين يسهون عن الصلاة : عن صورتها أحيانا ، وعن حقيقتها دائما : يؤدون حركات الصلاة ولا تعيشها قلوبهم.

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) :

أحيانا لا يصلون وأحيانا يصلون ، ولكنهم يراءون في صلاتهم ؛ ليست صلاتهم لله ، وإنما لأجل الناس الذين من حولهم ، وهذا شرك في عبادة الله ، إضافة إلى توهينه تعالى بالسهو عن الصلاة : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١٨ : ١١٠).

فلو أنه ترك صلاته هذه ، كان خيرا له عند ربه ، إذ يقدّم خلقه عليه في صلاته الرياء الساهي عنها ، ثم يشرك به خلقه في هذه الصلاة الموهونة المهينة

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) :

وهذا جماع القول في الذين يكذبون بالدين ، اللامبالاة بأقل قليل في حق الخالق والمخلوق : «منع الماعون» عن الخلق والخالق ، فالماعون لغويا هو القليل جدا ، فإنه فاعول من المعن وهو الشيء القليل ، وكما يرويه أمير المؤمنين علي


عليه السّلام عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

فهم المناعون أنفسهم وسواهم عن القليل القليل ، الذي لا قيمة له أحيانا ، أو أنها رخيصة جدا لا يمنعها إنسان إنسانا ، فرغم أنه تافه ، يحتاجه الإنسان دائما.

هم المانعون الماعون بجنب الخلق والخالق ، فماعون الخالق هو الصلاة (٢) ، أسهل شيء على العبد دون أن تكلّف مالا أو سواه ، فهم الساهون عنها والمراءون فيها ، والمانعون هذا الماعون.

وماعون الخلق هي الأشياء التي يحتاجها الإنسان ، ولا يستغني عنها أحد ، وهي طفيفة جدا ، كالماء والملح وأضرابهما ، فالمانع لها من أبخل الناس وأخبثهم وألأمهم.

ومانع الماعون بجنب الخلق هو المناع كل واجبات الحياة عن غيره ، يمشي مكبا على وجهه ، لا يهدف إلا صالحه الشخصي.

__________________

(١) الدر المنثور : أخرج ابن قانع عن علي بن أبي طالب (ع) : سمعت رسول الله (ص) يقول : المسلم أخو المسلم إذا لقيه حياة بالسلام ويرد عليه ما هو خير منه ، لا يمنع الماعون ، قلت : يا رسول الله ما الماعون؟ قال : الحجر والحديد والماء وأشباه ذلك ، وفي رواية اخرى عنه (ص) هو ما يتعاطاه الناس بينهم.

أقول : ويجمعه انه الشيء القليل التافه الذي يحتاجه الإنسان دائما ، ولا ينافيه المروي عن علي (ع) انه الزكاة المفروضة ، فإنه من باب الأولوية القطعية ، فالذي يمنع القليل هو الذي يمنع الكثير.

(٢) ويؤيد شمول الماعون لمثل الصلاة : «ماعون الطاعة» ما أخرجه ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال : اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال : يمنعون الزكاة ، ومنهم من قال : يمنعون الطاعة ، ومنهم من قال : يمنعون العارية (المصدر ص ٤٠١).


سورة الكوثر ـ مكية ـ وآياتها ثلاث

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

* * *

سورة خاصة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، تعده بالخير الكوثر ، وتعد أعدائه بالشر والبتر ، وتوجّهه إلى كامل الشكر ، الأولى كثرة فياضة وازدهار ، والثانية قلة منحسرة وانبتار.

من مكائد قريش لتوهين الرسالة المحمدية ، وليصرفوا جمهرة الناس عن حوله : أن تقوّلوا عليه قولهم : «إنه أبتر» ، من أمثال العاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وأضرابهم من الحاقدين عليه ، المتربصين عليه دوائر السوء ، قال أحدهم مبشرا : «دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره» محاولة عريقة منذ أمد بعيد ، من قسم من قريش على قسم آخر ، من بني أمية المعادية ، على بني هاشم وهم مفخرة قريش ، ولقد انتهت الزعامة الروحية إلى شخص النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان تعبيرا طبيعيا عن البيت الهاشمي.


وجد هؤلاء الأعداء الألداء من أمية قريش ، ظرفا لإهانة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ توفي ولده الذكور ، حين كان ينتظر بنو هاشم أن يرث المجد الهاشمي المحمدي ذكور من ولده ، فأول من ولد له صلّى الله عليه وآله وسلّم «زينب» ، ولكن هاشم تنتظر الذكر ، الثاني كذلك بنت «رقية» فقد كاد أن يخيب الأمل ، والثالث كذلك بنت «أم كلثوم» فقد قوي الكيد من أمية.

لكنما الرابع والخامس هما من الذكران «قاسم ـ عبد الله» .. لكنهما أفلا قبل الإشراق .. فهل تلد خديجة بعد؟ وهل ذكرا؟ .. إنها ولدت ولكنها الرابعة من بناتها : «فاطمة» .. أجل ولد له صلّى الله عليه وآله وسلّم لآخر مرة ذكر «إبراهيم» * لكنه أيضا أفل ، وأخيرا لم تبق إلا البنات ، ثم بنت واحدة هي الأخيرة ، فما هو الأمل؟

كيد لئيم من حزب الشيطان وجد له مجالا ، في القول : «إنه أبتر» (١) ، في البيئة العربية ، التي تتفاخر وتتكاثر بالأبناء! ويجد من يهشّ لها من أعداء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وشانئيه ، علها أوجعت قلبه الشريف ، وإن كان واثقا بنصرة ربه ، وخيبة أعدائه.

هنا ، وبهذه المناسبة المؤلمة ، ولأمور أخرى ، نزلت سورة الكوثر ، ماسحة على قلبه بالروح والندى ، مقررة حقيقة الخير الباقي الممتد مدى الدهر ،

__________________

(١) قال ابن عباس : إن رسول الله (ص) دخل من باب الصفا وخرج من باب المروة فاستقبله العاص بن وائل السهمي ، فرجع العاص إلى قريش ، فقالت له : من استقبلك يا أبا عمرو آنفا؟ قال : ذلك الأبتر ، يريد به النبي (ص) ، حتى أنزل الله هذه السورة.

عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم ، ألا ترى إلى هذا الصابي المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة ، قال : أنتم خير منه ، فنزلت : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (ج ٦ ص ٤٠٣).


الذي اختار له ربه ، وحقيقة البتر والانقطاع المقدّر لأعداء الرسالة المحمدية السامية.

قيل إن الكوثر نهر في الجنة أوتيه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لكنه لا يزيد عن أنه كوثر من الكوثر : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) لا «كوثر» .. كوثر هو امتداد للكوثر وعلى هامشه (١).

وقيل : إنه ولده من فاطمة الصديقة (ع) ، حيث انتشروا أكثر من كل الأنسال ، نقول : إنها أيضا من الكوثر ومن أعظمه كما وردت في أسباب النزول وكما توحيه الآية : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

إذ إن معظم الشنئان كان اعتبارا أنه لم يبق له ذكر ، فورد الجواب الحاسم ، الحامل لنبإ الغيب : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وكما بتر ، إذ انقطع نسل عدوّه اللدود رغم ولده الذكور العشرة ، وكما الآية الأولى حملت بشارة الغيب : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) والقدر المتيقن ، المناسب لسبب النزول ، هو كوثر الصديقة الزهراء.

.. وبعد أن كانت المرأة مهانة ولم تكن في حساب الإنسان نراها الآن في الإسلام معززة مكرمة قد يفوق كيانها الرجال.

__________________

(١) روايات متواترة عن النبي (ص) تقول : إن الكوثر نهر في الجنة ، ومنها ما أخرجه ابن مردويه عن أنس قال : دخلت على رسول الله (ص) فقال : قد أعطيت الكوثر ، قلت : يا رسول الله! ما الكوثر؟ قال : نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيتشعث أبدا ، لا يشرب منه من أخفى ذمتي ولا من قتل أهل بيتي (الدر المنثور ٦ : ٤٠٢) ،

وفيه من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قال : الكوثر الخير الذي أعطاه الله إياه ، قال أبو بشر لسعيد بن جبير فإن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه إياه (المصدر نفسه).

وفيه عن عكرمة قال : الكوثر ما أعطاه الله من النبوة والخير والقرآن (ص ٤٠٣).


شاء الله تعالى أن تحتل فاطمة الزهراء المكانة العليا من الكمال ، ولكي تسبق الرجال كما سبقت نساء العالمين من الأولين والآخرين ، طالما مريم (ع) فضلت على نساء عالمي زمانها ..

شاء الله تعالى أن تنسل منها فحسب ذرية الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولأنها كانت من أهل بيت العصمة والطهارة المحمدية ، وتفوق العالمين ، من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، فضلا عن السيدة مريم (ع) (١).

__________________

(١) مقارنة بين فاطمة ومريم (ع) :

قال لي اسقف من الأساقفة : هذه مريم المسيحية فضلت في قرآنكم على نساء العالمين وعلى فاطمتكم ، وتختص بها سورة قرآنية دون أن يؤتى بذكر فاطمتكم ..

قلت : إنها ليست مريم المسيحية ، إنها السيدة مريم التي نعتبرها من خيرة نساء العالمين ، نحن نصدقها ونكرمها كما تكرمون وزيادة .. ولا نهتكها كما في الإنجيل!

الأسقف : ما هي الآية الإنجيلية التي تمس من كرامتها؟

المفسر : آية اولى تندد بالأم والابن معا : «. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له : ليس لهم خمر ، قال لها يسوع : ما لي ولك يا امرأة» (يوحنا ٣ : ١ ـ ١١).

فمسيح القصة يهتك أمه بهذه الجملة اللاذعة «يا امرأة!» رغم أنه أجابها في مأمولها ، وصنع الخمر!

ثم هتك ثان أنها لم تؤمن : «إذ كان يكلم تلاميذه فجاء حينئذ اخوته وأمه ووقفوا خارجا وأرسلوا إليه يدعونه وكان الجمع جالسا حوله فقالوا له : هوذا أمك وإخوتك خارجا يطلبونك ، فأجابهم قائلا : من أمي وإخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال : ها أمي وإخوتي ، لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي» (مرقس ٣ : ٣١ ـ لوقا ٨ : ٩ ـ ٢١ ـ متى ١٢ : ٤٦ ـ ٥٠).

فلو انها ـ وحاشاها ـ عصت في دعوة المسيح لصنع الخمر ، فلما ذا يهتكها هنا بكلمة فحش شوهاء :

أنها غير مؤمنة؟!


(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) :

فما هو الكوثر بعد؟.

الكوثر لغويا هو المبالغ في الكثرة ، واعتبارا أنه يقابل الأبتر ، فهو الكثرة الكثيرة من كل خير ، من كل اتصال بمعدن الرحمة الإلهية ، فلم يبق الله رحمة

__________________

ـ لكنما القرآن يختص سورة بتنزيهها وتطهيرها عما تقولوا عليها أمثال هذه .. وما نسبت إلى الزنا.

إن القرآن لا يذكر امرأة باسمها ، وليس ذكر السيدة مريم إلا تبرئة لها ، وإلا تأكيدا لولادة المسيح العجيبة ، أنها كانت دون والد.

لكن فاطمة ما نسبت إلى منكر حتى يذاد عنها بآيات قرآنية ، ومجرد الذكر في القرآن لا يدل على الأفضلية في الكمال ، فهذا «زيد» * يذكره القرآن لمهمة أحكامية ، ولا يذكر من ألوف النبيين إلا ستة وعشرين.

الأسقف : ولكنها حسب القرآن مفضلة على نساء العالمين ومنهن فاطمتكم (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ).

المفسر : على العالمين : (عالمي زمانها) .. لا من الأولين والآخرين ، وكما يقال : ان الأسقف أفضل الأساقفة في العالمين ، أو أفضل علماء الإنجيل ، فهل تعني أفضليته على علماء الإنجيل مدى الدهور؟!

ثم هي خير نساء العالمين ـ لا ـ ورجالهم ، وفاطمة الإسلام اختصت مع الرسول الأقدس محمد (ص) وزوجها وابنيها ، بعصمة وطهارة ، لا يشاركها أحد من العالمين ، من نوح وابراهيم وموسى والمسيح (ع) .. بشهادة آية التطهير : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣ : ٣٣) ف «إنما» * تحصر إذهاب الرجس ، وتحصر الطهارة ، تحصرهما بأهل بيت الرسالة المحمدية وكما في متواتر الأحاديث الإسلامية دون خلاف.

فلو أن السيدة مريم مفضلة على نساء عالمي زمانها ، أو نساء العالمين من الأولين والآخرين ، فالسيدة فاطمة مفضلة على العالمين بنسائهم ورجالهم ، وحسبها انها كوثرة من الكوثر ، من أعظم المعطيات الإلهية للرسول الأقدس محمد (ص).


يمكن إعطاءها ، إلا وقد أعطاها رسوله الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وإنه : «الكوثر» لا «كوثر» ولا «الكوثر من رحمة خاصة» بل «الكوثر» : الكثرة المنقطعة النظير وغير محدود ، من كل خير بالإمكان أن يفيضه رب العالمين على أحد من العالمين.

إن الكوثر هذا ، يشير تماما إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء ، وأشمل عكسا ، إنهم اعتبروه «أبتر» : منقطع النسل ، وربه يعتبر له «الكوثر» اتصالا غير محدود بمعدن الرحمة والعظمة الإلهية ، ومنه كوثرة النسل : فاطمة الزهراء (ع).

فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر فهو واجده حيثما تصوّر أو نظر :

١ ـ في رسالته التي هي خير الرسالات وخاتمتها ، التي جمعت الرسالات الإلهية كلها وزيادة ، كأنها الرسالة وحدها.

٢ ـ في قرآنه : ينبوع ثرّ لا يفتأ ، الكتاب الذي جمع فيه معجزة الرسالة ومعجزة الوحي.

٣ ـ في علمه الغزير وعقله الوفير الذي فاق عقول العالمين.

٤ ـ في كافة محامده ، وهو المحامد كله ، وعلى حدّ تعبير سليمان بن داود في كتابه كما في الأصل العبراني : «.. حكّو ممتقيّم وكولو «محمديم» زه دودي وزه رعي بنت ير شالام» (نشيد الأناشيد ٥ : ١٦) :

أي : فمه حلو وكلّه «محمد» * هذا محبوبي وهذا ناصري الذي يرعاني يا بنات أورشليم.

كله محمد : هو بتمامه : بذاته وبصفاته وأفعاله ، برسالته وكتابه .. محمد : في غاية المحمودية والكمال والبهاء والجلال ، لا في اسمه فحسب.


٥ ـ في نسله الميمون ـ أيضا ـ هو محمد وكوثر ، كوثر في العدد ، وفي العدد الروحية والرسالية.

٦ ـ في زوجته الأولى : خديجة الكبرى أم المؤمنين ، فإنها كوثرة في إيمانها ومالها وانجابها الكوثرة الزهراء ، فهي أحبت محمدا بعقل الأربعين لا بغفلة التسع ، ولا بنزوة العشرين ، أحبته في إرادة التعبير فانساقت إليه انسياقة إيمانية فتضاءلت بين يدي حبها الكبير مجاهيد دنياها ، وذاب من تحت عينيها بريق الذهب ، تاجرت بزواجها بالرسول ، وبثروتها الثرّ ، قرنا أنيسا برسالة السماء ، وجاهدت في هذه السبيل بكل ما لديها من طاقات.

٧ ـ في صهره وابن عمه عليّ أمير المؤمنين : استمرار الرسول برسالته ، واستجرار سنته ، واستكمال دعوته.

فعلي عليه السّلام كوثر من الكوثر ، وله من الكوثر المنفصل عن كيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نصيب عظيم ، وكأنه كله ، إذ كان كلّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا في الوحي.

٨ ـ في خلفائه الباقين الأحد عشر ، فإنهم كوثر من الكوثرين ، من «علي وفاطمة» وبقائمهم تحيى الدنيا وكأنها الجنة!.

* * *

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) :

من هنا ندرس ألفاظ الآيات فنتطلع منها على معانيها المشار إليها.

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ) : جمعية الصفات لا جمعية الذات ، يعني بهذه الجمعية أن عطية الكوثر للنبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم تجمع مجامع الخيرات الناتجة عن مجامع الصفات الإلهية ـ غير الذاتية ـ فصفاته الفعلية التي تصدر على أضوائها أفعاله تعالى ، هذه


الصفات كلها اشتركت في هذه العطية الربانية ، ففي الكوثر نصيب من جمعية الصفات الإلهية ، ولو صح التعبير لقلنا : إن هذه العطية إلهة العطيات ، إذ صدرت من إله الأرض والسماوات بجمعية الصفات ، للنبي الأقدس وهو أفضل الكائنات عبر التاريخ.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) :

إن هذه العطية الغزيرة الفائضة الكثرة ، رغم ما أرجف المرجون ، إنها تتطلب شكرا يناسبها ، فكما المشكور له عطية لا فوقها عطية ، كأنها استأصلت العطيات فجمعتها في نفسها ، كذلك الشكر ، فليكن شكرا مستأصلا جامعا للشكر ، وليس إلا الصلاة للرب «لربك» * ناحرا فيها.

صلاة تجمع جوامع معاني الصلاة وحقائقها ، وتليق بساحة الربوبية : رب الكوثر المحمدي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، الصلاة التي تنقطع بك عما سوى الله ، وعن نفسك ، ألّا يبقي فيها بينك وبين الله أحد ـ ولا نفسك ـ صلاة الفناء المحض ، وإشارة باهرة لهذا الانقطاع التام إلى الله تعالى هو النحر : «رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر ، باطنهما إلى القبلة وظاهرهما إلى خلفها» (١).

هكذا نحر يلائم والتكبير عنده ، فالتكبير يعني أن الله أكبر من أن يوصف ،

__________________

(١) رواه الفريقان عن النبي (ص) وعن علي (ع) ورواه أصحابنا عن الصادق (ع) ، ففي الدر المنثور عن علي بن أبي طالب (ع) قال : لما نزلت هذه السورة على النبي (ص) قال النبي لجبريل : ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال : إنها ليست بنحيرة ، ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع ، وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة. قال النبي (ص) : رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله : «فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» (٤٠٣).


لا أنه أكبر من كل شيء ، فلا كبير بجنب الله حتى يوصف بأنه أكبر منه ، إنما أكبر من أن يوصف إلا كما وصف به نفسه ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

إذ ذاك فليوجه العبد بكل وجوهه اليه ، كما ويوجه وجهه الظاهر إلى بيته الحرام.

إذا فليعرض عما سواه إعراضا تاما لكي يتمكن من هكذا إقبال اليه ، ورفع اليدين ـ كما وصفناه ـ إشارة اليه : أعرضت عما سواك داحرا لها خلفي ، وجهت وجهي إليك دون حجاب إلا ذاتك المحجوبة عن خلقك ، فكما أنه تعالى لم يبق نعمة إلا وأنعمها عليك ، فعليك ألا تبق ممن سواه إلا وتدحره وتقبل إلى الله ، هكذا صلاة هي التي تحق لهذه العطية الربانية.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) :

إنه الأبتر عن كل ما لك من الكوثر ، وقد صدق وعد الله له وعليهم ، أن عدوه الشانئ الشائن انقطع عن خيرات الدنيا والآخرة ، فقد انقطع ذكرهم وانطوى إلا عن أمواج من السب والعدى ، بينما امتد ذكر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلا! وقد يشمل النحر هنا نحر الإبل ضحية ، إشارة إلى أنني أفدي بنفسي لله ، بعد ما فنيت عنها في الاتجاه إلى الله ، ولكنما الانتحار محرّم في شريعة الله ، إذا فنحر الإبل تقوم مقامه كذكرى.

مسيلمة الكذاب يعارض فيما يعارض ـ هذه السورة قائلا : «إنا أعطيناك الجماهر. فصل لربك وجاهر إن مبغضك رجل كافر» كلمات هي أشبه بالهذيان : بين مأخوذة من الكوثر (إِنَّا أَعْطَيْناكَ ـ فَصَلِّ لِرَبِّكَ) وبين ما لا يحمل منقبة «... الجماهر» إذ لا منقبة في وجود الجماهر. فجماهر الشيطان أكثر من


الكل ، ولو أريد منها جماهر الخير والتقى ، لم يكن فيها منقبة للرسول ، إلا كمالا منفصلا عن ذاته ، وبين ما هو توضيح للواضحات : «إن مبغضك رجل كافر» ثم لا تحمل هذه الهذيانات من بشارات الغيب وإنذاراتها ما تحمله سورة الكوثر ، فكوثر الرسول بشارة ، وبتر شانئه إنذار ، وكلاهما من ملاحم الغيب ، والقرآن يتحدى ـ فيما يتحدى ـ بسورة واحدة منه ، وأقصرها الكوثر ، وطالما حاول الحاقدون المعاندون للرسالة المحمدية وقرآنها أن يعارضوه فخابت مساعيهم ، ولو كان لبان.


سورة الكافرون ـ مكية ـ وآياتها ست

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

* * *

ندرس في هذه السورة كيف يجب أن نعامل الكفار الذين : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، فهل نبذل من عقيدة الإيمان أو أعمال الإيمان لكي نسايرهم علّهم يؤمنون ، أم هذه خطوة ماكرة وشيطنة مدروسة منهم ، يريدون أن نصبح كأمثالهم لقاء أن يؤمنوا بما نؤمن كما يدعون ، وإن هم إلا كاذبين؟ ..

إن الإيمان لا يقبل المخادعة والمسايرة ، وليست هذه المبادلة تجارة رابحة ولو وفوا بعهدهم ، فكيف وهم كاذبون!.


(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) :

الكافرون الذين لا يؤمنون ، ولا يرجى منهم أن ينسلكوا في سلك المؤمنين ، بل هم يريدون من المؤمنين مسايرتهم ، علهم يخرجونهم عن الإيمان كأمثالهم ، ولذلك يستحقون هكذا خطاب قارع ، يقرع أسماعهم وقلوبهم المقلوبة علهم ينتهون.

.. يلقى الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية خلف ، يلقون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلين : يا محمد! هلمّ فلتعبد ما نعبد ، ونعبد ما تعبد ، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه ، كنت قد أخذت منه حظا ، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه ، كنا قد أخذنا منه حظا ، فأنزل الله هذه السورة.

وفي رواية أخرى : أن قريشا قالت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فأجابهم الله بمثل ما قالوا : فقال فيما قالوا : تعبد آلهتنا سنة : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ، وفيما قالوا : نعبد إلهك سنة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، وفيما قالوا : تعبد آلهتنا سنة : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ، وفيما قالوا : نعبد إلهك سنة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

نستوحي من الروايتين أنه كان هناك اقتراحان : الإشراك المتصل والمنفصل ، فالثاني أن يشرك النبي بالله منفصلا : يعبد أوثانهم سنة ويعبد ربه سنة أخرى ، مقدما لأربابهم على ربّه! يوحّد كلا بالعبودية منفصلا عن الآخر ، ويردّ هذا الاقتراح بالآيتين الأوليين (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ولا لآن ، فكيف بسنة (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) لآن فكيف بسنة ، فما أنتم بتاركي آلهتكم وإن أنتم إلا كاذبون تمكروننا من ناحيتين :


١ ـ أن نبتدئ بعبادة آلهتكم وأنتم على حالكم.

٢ ـ أن تخالفوا وعدكم فتتركوا بعبادة إلهي في السنة الثانية.

وفي الأول ـ وكأنه خيّل إليهم أنه أقرب إلى الحيلة ـ يصدون على أنفسهم باب المكر إذ يبتدئون مع الرسول في الشرك المتصل ، ولكنه يصدهم عن ذلك أيضا : أن ماهية عبادتي تتناقض تماما مع عبادتكم ، فعبادتي توحيدية محضة لا تقبل الإشراك أبدا ، وعبادتكم شركية لا تقبل التوحيد إطلاقا.

ف (لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) : ليست عبادتي كعبادتكم (١) : تلائم كل عبادة لكل معبود (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ليست عبادتكم كعبادتي : (٢) تختص بالله الواحد القهار.

فهذه السورة تستأصل كل عبادة وكل معبود من دون الله ، شركا متصلا أو منفصلا ، وتختص العبودية بالله دون أن تشرك به سواه.

إذا فلا تكرار في الجواب ، وإن كان في صورة التكرار ، فجاءت السورة حاسمة قارعة عليهم ما يمكرون.

إنهم كانوا يزعمون أنهم على دين إبراهيم ، وانهم أهدى من أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة ، فمن اليهود من كانوا يقولون : عزير ابن الله ، ومن النصارى من كانوا يقولون : المسيح ابن الله ، بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن ، زعم قرابتهم من الله ، فكانوا يزعمونهم أهدى ، لأن نسبة الملائكة والجن إلى الله أقرب منها إلى عزير والمسيح.

__________________

(١ ، ٢). «ما» * في الآيتين الأخيرتين مصدرية ، وفي الأوليين موصولة ـ تفيد أولا رفض كل معبود من دون الله ، وثانيا ترفض كل عبادة شركية ـ فماهية الشرك تتناقض وماهية التوحيد معبودا وعبادة ، نستوحي هذا الفرق بين الآيتين من مضي الفعل في الثانية «وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ» : عبادتكم ، فلو كان المعني منها هو المعني من الاولى لم يكن وجه لاختلاف زمن الفعل.


فلما جاءهم الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلا : ملة أبيكم إبراهيم ، إن دينه دين إبراهيم : حنيفا مسلما وما كان من المشركين .. قالوا : ونحن على دين ابراهيم فما هي الحاجة إلى دين محمد .. ثم راحوا يحاولون مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويحتالون عليه طريقة وسطى .. وعرضوا عليه ما عرضوه فاعترضتهم قوارع الآيات أن لا طريقة وسطى ، فإما التوحيد وإما الإشراك.

فعلّهم ماكروه فهذا العرض الكافر ، وعلّهم زعموا قرب المسافة ، فبإمكانهم التفاهم عليها : بقسمة البلد بلدين والالتقاء في منتصف الطريق .. إلا أن مكرهم أظهر ، فلو كانوا جاهلين غير عامدين لم يكن القرآن يحسم الخلاف بترك الدعوة بعدئذ : لا نحن إليكم ولا أنتم إلينا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). إنهم ماكروه : أرادوا أن يخرجوه عن التوحيد وهم باقون على الشرك ، فيخسروهم رابحون ، وهكذا محاولة الشياطين في خطواتهم تجاه المؤمنين ، إنهم يجنّدون كافة طاقاتهم ، ويعملون كل دعاياتهم ليضلوا المؤمنين ، كما هم ضالون ، دون أن يهتدوا ولا قيد شعرة : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٩ : ١٢ ـ ١٣).

أجل ، وإن هناك : بين المؤمنين وهكذا كافرين ، إن بينهم انفصالا لا يرجى معه أي اتصال ، فلا التقاء إذن بينهما في طريق .. فهنا آخر المطاف في الدعوة ثم لا دعوة إذ لا رجاء.

لا بد للدعاة إلى الله أن يصرفوا طاقاتهم لإثبات الحجة ولكي يدلوا ويهدوا الضالين إلى الله ، وأما أن يتاجروا بإيمانهم أيضا ، زعم أن الكافرين الماكرين علهم يهتدون .. أما إذا وصلت الدعوة إلى خسارة الدعوة والداعي هكذا


فلا .. وإنما كلمة واحدة آخر المطاف : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أنا هنا وأنتم هناك ، فلا معبر ولا جسر عليه يعبر ، وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذا الموقف الحاسم والبراءة التامة عما ينافي الإسلام ، وإنه ليس هناك أنصاف حلول ، ولا التقاء في منتصف الطريق ، ولا إصلاح عيوب ، ولا ترقيع مناهج ، إنما هي الدعوة إلى الإسلام كما بدأت بالصادع الأول.

وبغير هذه الفاصلة الحاسمة سيبقى الغبش واللبس والترقيع والخداع ، وليس الإسلام بالذي يقوم على هذه الأسس المدخولة!

أجل : الدعوة إلى الإسلام كما الإسلام يرام ، وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا ، فبالمقاطعة أو التقويم بالقوة ، علهم يتعرفون إلى الحق ، أو تدميرهم لكي تحسم مادة الفساد وجراثيم الضلالة ، وأول المطاف هنا في آخر الدعوة هو القول : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) .. إعلانا دون إسرار ، ولكي يدرس الأحرار درسهم في مواقفهم هذه مع المتعصبين ، كيف يلتقوا معهم ، نداء بحقيقتهم ووضعهم الذي أصبح لزاما لذواتهم : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) : تريدون مني حدثا في العبادة وأنا لا أعبد معبوداتكم من الآن ومدى الحياة ، كما لم أكن أعبدها منذ الولادة وحتى الآن.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) : قطعت رجائي عنكم ، فلستم ممن يعبدون الله ، فقد أصبح الشرك كأنه لزام ذواتكم فلستم بتاركي آلهتكم من الآن ، كما لم تكونوا بتاركيه حتى الآن .. وهذه من الملاحم القرآنية ، تخبر عن غيب مستقبل : أنهم ليسوا بمؤمنين حتى الموت .. وكان بإمكان أحدهم أن يؤمن في ظاهر الحال ، ولكي يثبت كذب هذه الملحمة القرآنية ، ولكنهم لم يقدموا وحتى على ظاهر الإيمان : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ).


هنا حسمت الآيتان اقتراح الشرك المنفصل «تعبد آلهتنا سنة ، نعبد إلهك سنة».

ثم الأخيرتان حسمتا اقتراح الشرك المتصل أيضا :

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) .. لست بالذي يعبد كعبادتكم ... (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) كذلك لستم ممن يعبد كعبادتي ، تتركون آلهتكم وتعبدون ربي موحدين .. وحتى في حين تعبدون ربي سنة كما تزعمون ، أو حين تجمعون بين العبادتين وأحرى ، إذا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ...

وهكذا يدرس المسلم القرآن ، كيف يجب عليه الصمود في الإيمان دون أن ينسحب عنه كثيرا أو قليلا بغية إيمان الكافرين ، فعليه أن يقاوم الكافرين ، لا أن يساومهم ويتنازل عن إيمانه.

فإذا سمع ممن تعوّد على بيوت القمار والدعارة ، شاركنا ليلة هكذا وعلينا التكليف ، ثم نشاركك في عبادة الله .. فاعرف أنه داعية الضلال ، وإلا فلما ذا يقدم لك الضلال ، فهل في ضلالك دافع أن يهتدي هو؟ كلا! إن هذا إلا مكر يمكرونه.

فالجواب إذا ، لا أشارككم في معصية ربي ، ولا تشاركوني في عبادته ، (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) .. لكم شهواتكم ولي عباداتي ، لكم الراقصات ولي الصلوات ، لكم الدعارات ولي العبادات ، وفي آخر المطاف لكم جحيم النار ولي الجنة التي وعدها المتقون الأبرار.

ومن الشياطين من يخفف الوطأة في المماكرة ، يشاركونك في الخير فترة من الزمن كأنهم من المؤمنين ، ثم يتركونك إلى ضلالهم القديم كأنهم فتشوا هنا ولم يجدوا خيرا فانتقلوا إلى ما كانوا ، ثم يحاولون أن تشاركوهم فيما هم : (وَقالَتْ طائِفَةٌ


مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ ..) (٣ : ٧٣) ، .. هكذا يمكرون (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، فليكن المؤمن عاقلا فتنا لبقا كيّسا لا يماكر ولا يغادر أو يضرر به ، إذا يريد الحفاظ على إيمانه ، وعليه أن يدرس طرق الضلال وألوان الشيطنات ، بجنب ما يدرس طرق الهدى ، وكما هداه الله (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) طريق الخير والشر واضحا على المنار ، فليدرسهما لكي يثبت على الهدى ويجتنب مزالق الردى.


سورة النصر ـ مدنية ـ وآياتها ثلاث

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

* * *

آيات ثلاث تحمل بشارة النصر والفتح ، وقد سبقتها بشارات عدة ، وهنا مزيد فيه مدى الفتح : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) وفيه ما يتطلبه الفتح : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

بشارات تتضافر وتتواصل ، في حين أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هاجر مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، وملاحقات المشركين دائبة ، وأذاهم دائم ، ورجاء الرجوع إلى مكة بعيد ، وحتى لأداء فريضة الحج .. وأن فتح مكة وتقاطر الوفود للدخول في دين الله من أهم الأهداف للرسالة المحمدية ، ولأنها ام القرى ، المركز الرئيسي للدعوة الإسلامية.

قال ابن كثير في التفسير : «المراد هنا فتح مكة قولا واحدا ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم (تنتظر) بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى


استوثقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر الإسلام ولله الحمد والمنة».

هذه الرواية تتلاءم مع ظاهر النص في السورة «إذا جاء ..» فلم يقل «قد جاء» .. إنها بشارة بمستقبل الفتح والنصر لا واقعه ، فلقد كانت في هذه البشارات المتلاحقة حجة للرسالة المحمدية ، إذ تحمل ملاحم الغيب ، وتقوية لقلوب المؤمنين بهذه الرسالة السامية ، إذ تبشرهم بمستقبل العز والإنتصار ، وفيها تبكيت وتسكيت للكافرين إذ يسمعون الوحي يقرع أسماعهم بقوارع الفتح ، وكما تضافرت به الروايات عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

__________________

(١) أخرج الطبراني عن ابن عباس قال : لما أقبل رسول الله (ص) من غزوة حنين أنزل عليه (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلخ .. قال رسول الله (ص) : يا علي بن أبي طالب ويا فاطمة بنت محمد! جاء نصر الله والفتح .. سبحان ربي وبحمده واستغفره إنه كان توابا ، ويا علي انه يكون بعدي في المؤمنين الجهاد ، قال : علام نجاهد المؤمنين الذين يقولون آمنا؟ قال : على الأحداث في الدين إذا عملوا بالرأي ولا رأي في الدين ، إنما الدين من الرب أمره ونهيه ، قال علي : يا رسول الله أرأيت إن عرض علينا أمر لم ينزل فيه قرآن ولم يقض فيه سنة منك؟ قال : تجعلونه شورى بين العابدين المؤمنين ولا تقضونه برأي خاصة ، فلو كنت مستخلفا أحدا لم يكن أحد أحق منك لقربك في الإسلام وقرابتك من رسول الله (ص) وصهرك ، وعندك سيدة نساء المؤمنين ، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب إياي ، ونزل القرآن وأنا حريص على أن أرعى له في ولده (الدر المنثور ٦ : ٤٠٧).

أقول : لا تخفى دلالة هذا الحديث على أحقية الإمام علي (ع) بالإمرة على القولين : انه (ص) استخلف أو لم يستخلف ، إذ أبدى رأيه فيمن هو أولى ، فهل يا ترى ان لو كان للسقيفة حق الاستمارة في الإمرة ، فمن هو أولى بالاتباع؟ الرسول (ص) أم أصحاب الشورى ، وبعد أن أبدى الرسول رأيه!

وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله (ص) يكثر من قول : سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : إذا جاء نصر الله والفتح ـ فتح مكة ـ ورأيت الناس ، إلخ ..

وفي تفسير علي بن إبراهيم القمي قال : نزلت بمنى في حجة الوداع وإذا جاء نصر الله والفتح ، فلما نزلت قال رسول الله (ص) : نعيت إلي نفسي ، فجاء إلى مسجد الخيف فجمع الناس ثم قال : ـ


هذه ـ ومن قبل كانت الآيات تتواصل في بشرى الفتح إعلانا وإسرارا ، يقظة ورؤيا ، وإلى حيث كأن الفتح واقع ولمّا يقع : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ..) ماض يعني مستقبلا قاطعا وكأنه أمر مضى ، .. تنزل في السنة السادسة من الهجرة ، قبل الفتح بسنتين ، وفي نفس السورة ذكرى رؤيا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن الله صدقها : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٤٨ : ٢٨) ، ولقد كانت هامة الفتح من غير المحتمل وحتى في الرؤيا ، ولكن الله حققها وفاء بعهود تترى ... يرى رؤياه هذه في حين كان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة ، حتى في الأشهر الحرم التي كانت العرب تعظّمها في الجاهلية ، وتضع السلاح فيها ، وتتعظم القتال في أيامها ، والصدّ عن المسجد الحرام ، حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة ، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا ، ولا يصده عن البيت المحرم ، ولكنهم خالفوا هذه السنة وصدوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين طوال سنوات.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ..) (٤٨ : ٢٥).

بشارات الفتح قبل وقوعها تتلاحق وتتلاصق هنا وهناك ، تثبيتا للمؤمنين ، ودفعا لشكوك المرتابين الذين في قلوبهم مرض : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

__________________

ـ نصر الله امرآ سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم ، أيها الناس إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا ولن تزلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كإصبعي هاتين ـ وجمع بين سبابتيه ـ ولا أقول كهاتين ـ وجمع بين سبابته والوسطى ـ فتفضل هذه على هذه (نور الثقلين ٥ : ٦٩٠ ح ١٠).


يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥ : ٥٢).

ولقد كان المؤمنون يرجون هكذا فتح وانتصار ، يرددون رجاءه وبشراه ليل نهار : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٦١ : ١٣) .. ولقد خص الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم برده إلى معاده : مولده وموطنه ، لأنه فرض عليه القرآن : أم الكتاب الذي يجب أن ينشر من أم القرى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (٢٨ : ٨٥).

بشارات تتخلل في طيات الهجرة ، إلى أن قرب الوعد ونزلت سورة النصر بعد سورة الفتح وآيات الفتح ، ثم تحقق الفتح ونزلت آياته وآيات بعدها تندّد بمن كانوا يعدون أنفسهم الحسنى لو جاء الفتح ، وأن يخرجوا من الشكوك ومن طالح الأعمال ولم يفعلوا : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ. إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (٨ : ١٧ ـ ١٩).

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) :

لقد كانت للنبي الأقدس فتوح بعد الهجرة ، ليست معنيّة هنا إلا أعظمها وأهمها ، كأنه الفتح ليس إلا ، وإنه فتح مكة المكرمة ، إذ لم يكن دخول الناس في دين الله أفواجا إلا عنده لا سواه ، ولذلك سمّي فتح الفتوح ، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حينه : لا هجرة بعد الفتح ولكن


جهاد ونية (١).

وهذا وعد دائب للذين ينصرون دين الله أن الله هو ناصرهم في دينه من قريب أو من بعيد : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ).

نصرة في الطاقات الحربية والانتصارات المعنوية معا ، وكما نراه في حرب بدر كيف غلبت جنود المسلمين وهم ٣١٣ شخصا على قلة من العدة والعدة ، على ٠٠٠ ، ١٠ شخصا من المشركين على كثرتهما لهم.

نصر وفتح :

نصر يعقبه الفتح ، ليس لأن الله يريدهما دونما شرط ، ولا لأن النبي والمؤمنين يريدونه دونما تأييد إلهي ، إنما هما بينهما : استعداد بشري ، فإعداد إلهي.

نصر الله : لبروز حجته وظهور برهانه ، وفتح الله للقلوب المقلوبة ، فتحها الله بالرسول الأقدس إذ أضاء عليها بأضواء الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولو لا هذا الفتح الأول لم يكن للثاني : ـ دخول الناس في دين الله أفواجا ـ من معنى.

ثم نصر ثان وفتح ثان : أن انتصر المسلمون تحت الراية المحمدية على الوثنيين المحتلين بلد التوحيد ، اضطرهم للإسلام أو الاستسلام ، إسلام عن حجة مسبّقة واستسلام عن حجة دامغة بالغة ، دون أن يكون هناك إكراه في الدين :

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤٠٦ ، أخرجه الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري قال : .. والأحاديث مستفيضة أن سورة النصر كانت سورة النعي ، وكما أخرج الخطيب وابن عساكر عن علي (ع) قال : نعى الله لنبيه (ص) حين أنزل عليه : إذا جاء نصر الله والفتح ، سنة ثمان بعد مهاجر رسول الله (ص) فلما طعن في سنة تسع من مهاجره تتابع عليه القبائل تسعى فلم يدر متى الأجل ليلا أو نهارا ، فعمل على قدر ذلك ، فوسع السنن وشدد الفرائض ، وأظهر الرخص ، ونسنح كثيرا من الأحاديث وغزا تبوك وفعل فعل مودع (ص ٤٠٧).


(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) وإنما الإكراه في الاستسلام : قبول الإسلام ظاهريا لمن ليس يقبله ، رغم براهينه الساطعة : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).

.. فهذه تهمة ووقاحة من أعداء الإسلام : أنه دين السيف والقوة ، وليس دين الحجة ، لا لشيء إلا أن رسول الإسلام دافع عن نفسه وأنفس المؤمنين بالقوة ، ابتداء من الهجرة ، بعد أن ذاق وذاق المسلمون المهاجرون ألوان الأذى والبلاء طوال ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة.

إنه دافع كما يجب إنسانيا وفي الشرائع الإلهية ، وكما النبيون أجمع أمروا بالجهاد ، فمنهم من وجد أنصارا كموسى وداود وسليمان وشعيب ويوشع (ع) وأضرابهم ، إذ حاربوا حروبا دامية (١) ، ومنهم من لم يجد أنصارا رغم استعداده للحرب كالسيد المسيح (ع) (٢).

__________________

(١) كما في سفر الاعداد ٣١ : ٧ ـ ١٧ والتثنية ٢ : ٢٤ ـ ٣٤ و ٢٠ : ١ ، ٢ ، ٥ ، ٨ ، ١٠ ـ ١٤ و ٢١ : ٢٤ وسفر الخروج ١٧ : ٨ ـ ١٦ .. وأغلب الفصول من كتاب يوشع وأول تواريخ الأيام الفصل ٢٧ والتكوين ١٥ : ١٨.

(٢) السيد المسيح والحرب : ففي إنجيل متى الفصل ١٠ ، الآية : ٣٤ : «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا».

وفي لوقا (١٢ : ٤٩ ـ ٥٠): «جئت لألقي نارا على الأرض. فما ذا أريد لو اضطرمت. ولي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تكمل. أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا! أقول لكم : بل انقساما».

وفي لوقا (٢٢ : ٣٦): «فقال لهم : لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك ، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتري سيفا».

هنا وهناك يأمر المسيح بالحرب والدفاع ، ثم في الآية ٤٩ يأمر بالضرب : «فلما رأى الذين حوله ما يكون قالوا : يا رب! أنضرب بالسيف؟ وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى ..».

وهكذا نرى السيد المسيح كيف استعد للحرب الدفاعية ، وقد فشل إذ فشل أنصاره ، فناموا بدل أن يقوموا بالسيف!.


(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) :

فهل إنهم كل الناس؟ هذا خلاف الواقع الملموس ، وإن كان يوافق عموم اللفظ! أم إنهم الذين عرفوا الدعوة فحقّ لهم أن يصدقوها؟ فكذلك الأمر ، أم إنهم المؤمنون فحسب؟ وهذا لا يلائم عموم اللفظ «الناس»!

أقول : رباط الدخول في الإسلام بالفتح يوحي أنهم الذين عرفوا الإسلام ثم كملت معرفتهم بالفتح ، بما أنه كان من ملاحم الغيب ، وقد صدق به وعد الله ، ثم الذين آمنوا منهم هم الناس ، والذين لم يؤمنوا وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم فهم النسناس ، فقد «سئل الحسن بن علي (ع) من الناس؟ فقال : نحن الناس ، وأشياعنا أشباه الناس ، وأعداؤنا النسناس ، فقبله علي (ع) بين عينيه وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته» :

(فِي دِينِ اللهِ) هل إن سائر الأديان الإلهية ليست دين الله؟ فكيف يعتبر دخول غير المسلم في الإسلام دخولا في دين الله ، الموحي أنه خروج عن غير دين الله ، أو دين غير الله؟.

الجواب : أن الداخلين في الإسلام حينذاك كانوا بين مشرك لم يكن في دين الله ، وبين كتابي لم يكن يلتزم بدين الله ، إذ إن الإسلام لله والتسليم له يقتضي رفض السابق وإن كانت من شريعة الله ، والاعتناق باللاحق بما أمر الله ، ف (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ولا معنى للإسلام بعد نزول شريعة القرآن إلا اعتناقه ورفض ما سواه ، مهما كانت من الشرائع السابقة.

وإضافة إلى كل ذلك فإن الشريعة الأخيرة الخالدة كانت هي الهدف الرئيسي من الرسالات قبلها ، فلم تكن السابقة عليها إلا كتهيئة لها ، فحق لها أن تعتبر كأنها هي الدين لا سواه ، وأن رسوله هو الرسول لا سواه (١).

__________________

(١) راجع كراسنا «وحدة الدين واختلاف الشرائع» وكتابنا «المقارنات».


«أفواجا» * : جماعات كثيرة تترى متسابقين ، فقد كانت القبيلة تدخل بأسرها ، بعد ما كانوا يدخلون واحدا واحدا واثنين اثنين .. وعن جابر بن عبد الله «أنه بكى ذات يوم فقيل له : ما يبكيك؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا».

هكذا دخول في الإسلام دليل قاطع لا مردّ له ، على مدى وضوح البراهين الإسلامية لحدّ تتسابق أفواج الناس لتصديقه ، ثم ليس خروج من يخرج إلا للمغريات التي تغرّهم ، والمضلات التي تضلهم ، أو خروجا عامدا للتضليل وكما كان دخوله للإدغال والتدجيل.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) :

هنا يتحدد شأن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه ، بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم : أن شأنه ومن معه هو الاتجاه إلى الله ، أن يسبحوا الله بحمده ويستغفروه في لحظة الإنتصار.

التسبيح بالحمد على ما أولاهم من منّه : أن جعلهم أمناء على دعوته ، حراسا لدينه ، وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ، ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران القديم.

التسبيح بالحمد ، لا التسبيح والحمد ، كلّ على حدة ، ولا كلّ دون سواه ، لأن التسبيح يعني الناحية السلبية من صفات الله تعالى ، والحمد : الناحية الإيجابية : (الصفات السلبية والثبوتية).

فلو حمدناه دون تسبيح وتنزيه عما هو منزه عنه ، لكنا خاطئين في حمده من جهات عدة ، منها : أن الحمد يحمل الإثبات ، والثابتات من الذوات ومن الصفات حسب إدراكاتنا ليست إلا حسب مقدرتنا من الإدراك ، وهي محدودة من ناحية ،


وهي مشبهة له تعالى بخلقه من أخرى (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٦٠). فإنهم لا يصفونه إلا كما وصف به نفسه.

ولو سبّحناه دون تحميد لخيّل إلينا أنه المنفي الذات والصفات لأنسنا الدائب بالذوات والصفات التي نعيشها ، فإذ نسلبها عن ذاته تعالى فكأننا سلبنا عنه كل كيان موجود.

فبما أنه «خارج عن الحدين : حد الابطال وحد التشبيه» علينا أن نسبحه بحمده :

١ ـ نسبّحه وننزّه عنه تعالى ذوات الكائنات وصفاتهم ، بحمدنا له في ذاته وفي صفاته ، وهنا تصبح كافة الكائنات من صفاته السلبية.

٢ ـ ونسبحه عن تفسير أسمائه الحسنى وصفاته العليا بالمعاني التي نعرفها ونأنسها ونتصف نحن بها ، فلا نعني من أنه تعالى : «عليم قدير حي» ما نعنيه من مفاهيم ومعاني فينا ، بل تسبيحا بحمده : أنه لا يجهل ولا يعجز ولا يموت ، عليم لا كعلمنا ، وقدير لا كقدرتنا ، وحيّ لا كحياتنا.

فنحن ومعنا كافة الخلائق ، حينما نحمد ربنا ونصفه ، لا ندرك جهة ثبوتية له تعالى ، وإنما سلبيات نأنسها ، ولكن السلب قد يكون بلغة السلب ويعني واقع السلب ، كما في الصفات السلبية : «لا مركب ولا جسم ولا مرئي ولا له زمان ولا له مكان ولا له حد ولا له أول ولا له آخر ولا ..».

وقد يكون السلب بلغة الإثبات : «عليم قدير حي ..» ويعني واقع الإثبات (تسبيح بالحمد) دون أن ندرك منه إلا سلب ما يحق سلبه عنه : «اللاعلم واللاقدرة واللاحياة» في حين أننا نسلب عنه صفاتنا هذه أيضا : «ليس له علمنا ولا قدرتنا ولا حياتنا» إذ إنها صفات لا تتناسب وذاته القدسية.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) .. التسبيح بالحمد والاستغفار هما تقديسه والاعتراف بربوبيته كما يحق ، ثم التماس الغفران منه.


و «استغفره» : فهل هو من العصيان والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معصوم من العصيان ، مطهّر من الأرجاس كلها كما طهّره ربه! (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ... كلا لا عصيان في ساحة النبوة القدسية حتى يكون الاستغفار عنه ، ولا يختص الاستغفار بحالة العصيان لكي نضطر إلى التأويل ، فإنما الاستغفار من الغفر وهو الستر ، فهو التماس الغفر والستر ، إما عن عار وعورة العصيان ، والنبي معصوم عن العصيان! واما عما سواه من ملابسات لا يخلو عنها أي إنسان :

١ ـ من التقصير أو القصور في حمد الله وشكره ، فجهد الإنسان ـ مهما كان ـ ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) .. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار ، وإن كان من القصور الذاتي ، دون عصيان الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يقول : «ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك».

٢ ـ والاستغفار من الخلط بالناس الذي يلزمه الغبار على القلب ، وإن كان واجبا رساليا من حيث التوجيه ، ولكنه يلازمه غفلة مّا عن ساحة الربوبية ، ولذلك نراه ليلة المعراج حينما عرج عن الكائنات واستغفل عنها ، أصبح من قرب ربه معنويا (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

٣ ـ والاستغفار طلب الغفر والستر من بأس الأعداء : شياطين الجن والإنس ، وقد غفر الله لنبيه كذلك بما فتح له مدينة التوحيد مكة المكرمة ، كما وعده وجعله من أهداف الفتح : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ..) : ليستر لك الله من ذنبك عند المشركين ، إذ كانوا يتربصون بك الدوائر ليقضوا عليك ، فستر الله وغفر عنه بأسهم بما فتح له أم القرى.

٤ ـ والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقه لطيفة المدخل : من الزهو الذي قد يساور القلب ، أو يتدسس اليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة


الظفر بعد طول العناء ، وهو مدخل يصعب توقيّه في القلب البشري ... وقد غفر الله له حين الفتح هذا الزهو وستره عليه .. فتراه إذ يدخل مكة فاتحا منتصرا ، مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة .. تراه يدخلها منحنيا لله شاكرا على ظهر دابته ، ناسيا فرحة النصر وزهوته ، عفوّا رحيما لا ينتقم .. فالمغفرة هنا تضمن عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين ، ليرقب المنتصر فيهم ربهم ، فهو الذي سلطه عليهم ، تحقيقا لأمر يريده ، على عجزه (ص) ، فالنصر نصره تعالى ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور.

(وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) : يتوب ويرجع على عباده بالرحمة والمغفرة ، لا يكل عباده المتوكلين عليه إلى أنفسهم ، وكما في دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا».

أجل ، وإن الإنسان ـ أيا كان ـ لا يستغني عن توبة ربه عليه وتأييده له .. فعبثا يحاول الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيّد برغباته ، مثقل بشهواته .. عبثا يحاول ما لم يتحرر عن نفسه ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظّ نفسه ليذكر الله وحده.

وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما.

(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) : راجعا إلى عبده بالرحمة بعد ما يرجع إليه العبد بالمعذرة ، فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله : توبة أولى هي أن يوفقه الله للتوبة لكي يتوب (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) وتوبة ثانية من الله هي قبول توبة العبد : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤ : ١٧).

٥ ـ والاستغفار بمعنى الدفع عن حملة العصيان ، لا رفعه بعد وقوعه ، كما المغفر في الحرب لأجل الدفع عما ربما يوجه إلى الجندي من الأخطار ، كذلك


الرسول الفاتح علّه يحمله ما نقموا منه على الانتقام ، وهو مسموح له اعتداء بالمثل ، إلا أن موقف الرسالة يجب أن يكون موقف الرحمة للعالمين ، فليستغفر الرسول ربه حالة الفتح ، لكي يسدده عن حملة الانتقام ويغفر له ما يحمله على ذلك.

٦ ـ والاستغفار عله هنا للمؤمنين الفاتحين ، إذ النص (وَاسْتَغْفِرْهُ) لا «استغفره لذنبك».

٧ ـ واستغفاره عن ذنبه وغفران الله له عن ذنبه كما في آية الفتح ، لا يعني إلا الحفاظ عليه من بأس المشركين ، فإن الذنب لغويا هو الذي يستفظع عقباه ، فإن كانت عقبى الدنيا فالذنب من أفضل الطاعات ، وإن كانت عقبى الآخرة فالذنب من أشر المعاصي ، ولقد غفر الله تعالى ذنب الرسول : عقبى الدنيا الهاجمة عليه من قبل المشركين ، غفره له بفتح مكة ، إذ لم يجرأ المشركون بعد ذلك أن يؤذوه أو يقاتلوه.


سورة اللهب ـ مكية ـ وآياتها خمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥)

* * *

هذه السورة تفنّد القومية والقرابة اللتين لا تحملان الإيمان ، فلا قيمة لهما في الإسلام ، وفيما إذا اعتبرتا ذريعة للصد عن سبيل الله ، فالقرآن يعاديهما ويعلن ريفهما وانحرافهما ، ففي الحديث : «إن ولي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من والى الله ورسوله وإن بعدت لحمته ، وإن عدو محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عادى الله ورسوله وإن قربت لحمته» ، ومن الشواهد القرآنية على ذلك ابن نوح وامرأته وامرأة لوط ، فلا حرمة ولا كرامة لأي قريب إلى الرسول ما لم يحمل الإيمان ، فحرمته على قدر ما يحمل من الإيمان ويعمل من الصالحات.

وأبو لهب (١) هذا عم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن زعماء قريش ، لكنه وامرأته معه ،

__________________

(١) ٤٠٩ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (ص): بعثت ولي أربع عمومة ، فأما العباس فيكنى بأبي الفضل ولولده الفضل إلى يوم القيامة ، وأما حمزة فيكنى بأبي يعلى فأعلى الله قدره في الدنيا والآخرة ، وأما عبد العزى فيكنى بأبي لهب فأدخله الله النار وألهبها عليه ، وأما عبد مناف فيكنى بأبي طالب فله ولولده المطولة والرفعة إلى يوم القيامة.


كانا من ألدّ أعداء النبي والدعوة الإسلامية ، يجندان كافة طاقاتهما في سبيل تشويه سمعة النبي الأقدس ويعارضانه وجها بوجه ، ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم منذ اليوم الأول للدعوة ، لكيلا تنمو ، ولتخبو وراء الستار فتدفن! وكون أبي لهب عما للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنه من زعماء قريش ، وأن بيته كان قريبا من بيته ، هذه كلها جعلت أذاه على النبي أشد.

يقول ربيعة بن عباد الديلمي : إني لمع أبي ـ رجل شاب ـ أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول وضيء الوجه ذو جمة ، يقف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على القبيلة فيقول : يا بني فلان إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به ، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه ، فقلت لأبي : من هذا؟ قال : عمه أبو لهب (١).

وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى يا صباحاه ، فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا؟ تبا لك ، فأنزل الله تبّت يدا أبي لهب (٢).

__________________

(١). رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٤٠٨ ، وفيه عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ..) خرج النبي (ص) حتى صعد الصفا فهتف : يا صباحاه! فاجتمعوا إليه ، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك إنما جمعتنا لهذا ، ثم قام ، فنزلت هذه السورة.


وزوجته أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكانت تمشي بالنميمة ضد النبي الأقدس ، وتوري نيران العداوة والبغضاء ضده صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أن نزلت هذه السورة للقضاء على هذه الدعايات الفاتكة ضد الدعوة الإسلامية ، وتشهير المضلين الذين كانوا يؤثرون على الناس ، فلما سمعت السورة جاءت إلى المسجد فلم تر النبي وهو جالس وأخذت تقول : مذمّما (تريد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا.

وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنه كلما جاء وفد إلى النبي يسألون عنه عمه أبا لهب ـ اعتبارا بكبره وقرابته وأهميته ـ كان يقول لهم : إنه ساحر ، فيرجعون ولا يلقونه ، فأتاه وفد فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، فقال : إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبا له وتعسا.

فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب على الدعوة الإسلامية ، هو وزوجته ، في عونه في هذه الحملة الدائبة ، يثيران حربا شعواء على النبي وعلى الدعوة الإسلامية ، لا هوادة فيها ولا هدنة.

تنزل هذه السورة مصرحة بهما وبكيدهما ، رادّة على هذه الحرب المعلنة منهما ، وتولى الله عن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر المعركة ، فلم يكد يسمع إليهما الوفود بعد تشهيرهما هكذا.

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) :

آية قصيرة في مطلع السورة ، فيها تصدر الدعوة وتحقق وتنتهي المعركة ويسدل الستار.

أبو لهب اسمه عبد العزى ، كره الله أن يذكره باسمه كرها لمعناه ، فأبدل به من كناه هذا ، لكي يدل على التهابه ضد الدعوة ليحرق صالح الإنسان ، فهو لهيب النار كالجحيم : لا تبقي ولا تذر ، لا شأن لها إلا الإحراق ، بل إنه أبو لهب : أبو الإحراق.


والآية تشير أن ذاتيته النارية المحرقة لا تحرق إلا نفسه ، في الدنيا وفي الآخرة ، دون أن يقدر على إطفاء نور الله ، فالله متم نوره ولو كره الكافرون.

تبت يداه : استمرت طاقاته تماما في الخسران ، فما كيده إلا في تباب.

فاليدان هنا ـ وفي كثير مثله ـ يعنى بهما كافة الطاقات ، فقد تصرفان للخير فهما مباركتان ، وقد تصرفان للشر فهما مبتورتان متبوبتان ، وبما أن التبّ لغويا هو الاستمرار في الخسران ، فالآية تشير إلى الاستمرارية الخاسرة للطاقات اللهبية ، أنها خاسرة ترجع بالخسار إلى أبي لهب ، دون أن تكون مخسرة للدعوة الإسلامية ، إلا زمنا ما : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).

فمن الخاسرين من يخسر دنياه دون عقباه ، كالمؤمنين المضطهدين ، ومنهم من يخسر عقباه دون دنياه ، كالكافرين المترفين المرحين الفرحين ، ومنهم من يخسر الدارين كأمثال أبي لهب ، يتعب نفسه في دنياه في حسد دائم وحسرة دائبة ، ثم ينتقل في عقباه إلى عاقبة أسوأ ، وإن تباب أبي لهب جمع بين العقيدة والقول والعمل.

وقد تكون اليدان هنا كناية عن قوة الجذب والدفع ، الإيجاب والسلب ، والدين والدنيا ، والدنيا والآخرة ، اليد غير المرئية ، وهي الطاقات الروحية ، واليد المرئية وهي الأعمال الجسدانية ، والآية تتحمل الكل ، فقد تبت يداه عن كل نتاج صالح بالنسبة لهذه النواحي الحيوية إطلاقا ، فلم يحصّل إلا خسارا دائما وبوارا دائبا.

«وتب» * : تبّ هو : تبت ذاته ، كما تبت يداه ، فتباب الأعمال هكذا تنتج عن تباب الذات على قدره ، فذات الإنسان وأعماله يتعاكسان مع بعض في التأثير ، فمكاسب السوء تؤثر رينا في القلب : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ثم تزداد مكاسب السوء من جرّاء الإزدياد في رين القلب


إلى حيث لا يكاد يقبل صاحبه النصيحة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢ : ٧).

فرين القلب وختمه ليسا إلا من جراء مكاسب السوء الاختيارية للإنسان ، فقد خلقه الله تعالى ـ إذ خلقه ـ مؤمنا ذا فطرة نيرة موحدة : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ (١) الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠).

وفي تقدم تباب اليدين على تباب الذات إيحاء لطيف إلى أن ذاتية الإنسان ليست شريرة خلقيا ، وإنما من جراء الأعمال غير الصالحة ، ولا سيما العامدة ، «تبت يداه وتب هو» ، الله يترك هكذا إنسان في غيّه يتردى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(٦١ : ٥).

وكما عرفناه ليست الآية دعاء من الله على أبي لهب ، إنما هو إخبار عن واقعه الشائن ، فممن يلتمس ربنا لتباب أبي لهب؟ أمن نفسه أم من إله سواه فوقه؟! فهذا الرأي من بعض المفسرين مسّ من كرامة الربوبية دون أن يعرف المفسر ماذا يرجع بقوله ، وإنما تقليدا عن أضرابه ..

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) :

لقد تبت يداه وهلكتا ، وتب هو وهلك ، فلم يغن عنه ماله وسعيه ، ولم يدفع عنه الهلاك والدمار : لا ماله الذي ورثه أو كسبه ، ولا ما كسبه بما له وبماله من طاقات عقلانية وجسدانية ، ولا ما كسبه من أولاده ، فبدل أن تغنيه هذه المعطيات ، أخسرته وجعلته في تباب من أعماله ومن ذاته.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) :

فأهل النار ـ في تقسيم مختصر أوّلي ـ على طائفتين : خالد فيها غير خارج


عنها ، وداخل فيها خارج عنها بعد زمن قريب أو بعيد ، فالخالد يصلى النار ، أي : يوقدها ، وغيره يصطلى بها ويتوقد منها ، فالذات التي هي تباب كلها ، والأعمال التي هي في تباب كلها : إنها حصب جهنم وحطبه ، ليس للنار وقود إلا هذه الذوات الشريرة العاتية ، كما القرآن يصرح بهكذا وقود في آيات عدة.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) كما كانت ذاته لهبا ، وأعماله وأفكاره لهبا : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) حينما كان في الحياة الدنيا ، وإن كان لهيبه خافيا ـ حينذاك ـ عند الجاهلين .. كذلك يوم الجزاء ، فيظهر لهبه في منظر النار التي تحرق نفسه وتحرق غيره ، يصلى النار ويصطلي به غيره ممن كان يتابعه في كفره وفساده ، فرعا طبق الأصل جزاء وفاقا ، فما النار يوم الجزاء إلا صورة واقعية عن واقع الإنسان في حياة التكليف يوم الدنيا ، وإن كان في غفلة من هذه النار يومها (١).

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) :

وتبّت يدا امرأته وتبت نفسها كتبا به سواء ، إذ ساعدته وسايرته في تهريج موقف النبي والعداء السافر ضد الدعوة الإسلامية.

يذكر هنا من صفاتها السيئة : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) حال أنها ما كان شغلها حمل الحطب كتاجره وعاملة ، وليس العمل ـ أي ـ عمل ـ مذموما في الإسلام ، لكي يؤنّب به العامل ، فما كان العمل حلّا تكسب به المعيشة فهو حلال ، وهو من العبادات.

__________________

(١) لقد سبق طرف من البحث حول انعكاسات الأعمال في سورتي الزلزال والقارعة وتجد تفاصيل أخرى في غيرهما.


وأما إذا اتّخذ العمل ذريعة للإفساد فلا أفسد منه ، كما كانت أم جميل امرأة أبي لهب تحمل الشوك والحطب وتضعها في طريق الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم لكي تؤذيه ، وعلّها توقعه فتؤلمه صلّى الله عليه وآله وسلّم وتحطّ من كرامته.

وكما كانت تمشي بالنميمة عامة ، وضد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة لتهريج موقفه ، والنميمة من شر الأحطاب ، إذ إن الحطب يحرق الإنسان وماله ، والنميمة تحرق عليه عيشه ودعوته وحياته ، وتحرق المجتمع الإنساني.

وكما كانت تلدغ بلسانها النبي الأقدس فتذمّه وتعيّره بالفقر أو السحر والجنون ، تلميذة لزوجها ، فرعا طبق الأصل.

فكانت بذلك كله ، تحمل مختلف ألوان الخطايا والآثام ، فهي إذا حمالة الحطب لا حاملته ، حمالة لكثرة مزاولتها لحمله ، وأنها استغرقت حمل كافة ألوان الأحطاب لتحرق على الرسول دعوته ، فهي لهبة كما زوجها لهب (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ).

(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) :

المسد هو الليف : فهل هو هنا حبل من ليف النخل ، أم حبل من ذهب شبّه بالليف؟ أم حبل الشيطان يقودها حيث يشاء؟

إن حمل الحطب بحاجة إلى ليف يشد به ، فلكل نوع من الأحطاب ليفه المناسب له.

فحملها للأشواك لتلقيها في طريق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كان بليف من النخل ، وحملها بالنميمة والتهمة ضد الرسول كان بحبل من الشيطان في عنقها ، وحملتها على الرسول وتعييرها إياه كانت بدافع ثروتها التي اعتزت بها ، ولكن الذهب ما


كانت لترفع من شأنها كما الليف من النخل ، فما أغنى عنها مالها وما كسبت ، كما لم يغن زوجها ، فحكم العقد الذهبي في جيدها كحبل من مسد سواء ، فإن الحيوان حيوان ما لم يحمل صفات الإنسان ، وإن لم يحمل على ظهره ثياب الإنسان الفاخرة ، والإنسان إنسان ما حمل صفات الإنسان وإن لم يحمل من ثياب الإنسان وزخرفات الحياة شيئا.

إذا فحق التعبير عما كانت تعلق في جيدها : أنه حبل من مسد ، بكل مصاديقه : حبل الأشواك ، وحبل الشيطان ، وحبل الذهب!

إنه : حين انتشرت هذه السورة ـ وما تحمله من تهديد ومذمة وتصوير زري لأم جميل خاصة ، تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها ، مدللة بحسبها ومالها ونسبها ، ثم ترتسم لها هذه الصورة (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) ـ.

حينها استنفرت ونهضت بأكثر مما كانت ضد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد يروى عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : لما نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر : (حجر قدر ملاء الكف) وهي تقول : مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا ، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جالس ومعه أبو بكر. فقال له (ص) أبو بكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشيء ، فقال رسول الله (ص): إنه سيحال بيني وبينها ، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت : يا أبا بكر! هجانا صاحبك ، فقال أبو بكر : لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به .. فلما ولت قال أبو بكر : ما رآك؟ قال (ص) : لا! ما زال ملك يسترني حتى ولت ، وروي عنه (ص) أنه قال : صرف الله سبحانه وتعالى عني ، ثم إنهم يذمون مذمما وأنا محمد (١)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٩٨ ح ٦.


إنها قالت وتقولت فزالت عن الوجود بما حملت ، ولكن الصورة الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في هذه الآيات عن هذين الزوجين ، قد سجلت في الكتاب الخالد ، وسجلتها صفحات الوجود أيضا ، تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وزوجته وحزبه ، جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله جزاء وفاقا ، ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار.


سورة الإخلاص ـ مكية ـ وآياتها أربع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤)

* * *

هذه السورة تحمل إجابة وافية عن كافة الأسئلة التي تدور حول توحيد الله وسواه ، من الحقائق المعرفية الإلهية ، على قلة آيها.

يأتيه صلّى الله عليه وآله وسلّم قادة الأحزاب الخمسة : الماديين ، المشركين ، الثنوية ، اليهود ، النصارى يسألونه أن ينسب ربه كما ينسبون (١) فتنزل سورة الإخلاص مجيبة عن متطلباتهم ، قارعة أسماعهم بقوارع بوارع من آي التوحيد ، هي نماذج شاملة عن قرآن التوحيد ، وكما عن باقر العلوم عليه السّلام : «إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل هذه السورة» (٢) ، ولأنها عميقة أنيقة على اختصارها تعتبر بوحدتها ثلثا من القرآن (٣) والإنجيل والتوراة ، توحيدا خالصا جامعا في الديانات الثلاث.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤٠٩ ـ ٤١٢ ـ أخرجه عن جماعة من ارباب السنن بصور متفرقة.

(٢) ، وفي أصول الكافي بالإسناد عن علي بن الحسين زين العابدين (ع) مثله : سئل عن التوحيد فقال : إن الله عز وجل علم انه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والآيات من سورة الحديد «هو الله الذين لا إله إلا هو» إلى قوله (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

(٣) الدر المنثور ٦ : ٤١١ عن أبي بن كعب قال ، قال النبي (ص) من قرأ قل هو الله احد فكأنما قرأ ثلث القرآن.


إنها تتضمن أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة التوحيد قرآنيا ، ولأعمق ما بالإمكان أن ينزل من وحي السماء بشأن التوحيد ، جارفة كافة التصورات الباطلة من وحي الأرض وإنسانها وشيطانها حول الكيان الإلهي.

إنها إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية ، كما أن سورة «الكافرون» سلب لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وخرافة الشرك ، وهما توضحان كلمة التوحيد الشاملة لكلي السلب والإيجاب : «لا إله إلا الله» التي تصف الله تعالى في مختلف الآيات التي تحويها كالتالية :

«لا إله إلا الله ـ الرحمان الرحيم» (٢ : ١٦٣) (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢ : ٥٥) (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣ : ٦) (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٦ : ١٠٢) (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢٠ : ٨) (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٧ : ٦) (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٢٠ : ٩٨) (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٤٠ : ٦٥) يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٤٤ : ٨) (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ .. الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، ... هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥٩ : ٢٥) ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٤٠ : ٦٢).

فكلمة التوحيد هذه ، القيّمة ، المنقطعة النظير بين كلمات التوحيد ، تجمع بين السلب والإيجاب : سلب الألوهية عما ـ سوى الله بما لها من صفات وأفعال ، وإيجابها لذات واحدة جامعة لكافة الصفات الكمالية ، على وجه الحصر الحقيقي ، في ذات واحدة قيومة سرمدية.

فالله تعالى حسب الأوصاف المسبّقة في كلمة التوحيد : واحد في كونه :

__________________

ـ فمن رام وراء ذلك فقد هلك ، والحديث الثاني ـ انها ثلث القرآن ـ تحده في نفس المصدر ص ٧٠١ ح ١٩ بإسناده إلى ابن بصير عنه (ع).


رحمانا ـ رحيما ـ حيّا ـ قيوما ـ حكيما ـ خالقا ـ عليما ـ محييا ـ مميتا ـ ملكا ـ سلاما ـ مؤمنا ـ مهيمنا ـ عزيزا ـ جبارا ـ متكبرا ـ له العرش وله الأسماء الحسنى.

كما وأنها تسلب عنه تعالى ما يتنافى وكيان الألوهية ذاتا وصفات وأفعالا : وإليكم تفسيرا مختصرا لسورة التوحيد :

«قل» * .. أظهر كما تضمر (١) في جواب الضالين التائهين عن معرفة الله ، في جواب الناكرين لوجوده ، والمشركين به والمثنّين له ، والمثلّثين إياه والمتبنّين عليه : قل : مقالة عاقلة تقضي على الأفكار الضالة العالقة بالأذهان : إن إلهي يختلف عن إلهكم وآلهتكم تماما.

إنها سورة تبرز المعاني التي تسمّت بأسمائها ، ويا لها من أسماء سامية سمتها بسماتها :

إنها سورة : التفريد ١ ، التجريد ٢ ، الإخلاص ٣ ، التوحيد ٤ ، الولاية ٥ ، النجاة ٦ ، النسبة ٧ ، المعرفة ٨ ، الجمال ٩ ، المقشقشة ١٠ ، المعوذة ١١ ،

__________________

(١) الأمر بالقول هنا يرمز لأمور عدة : منها ان الرسول لا يقول إلا عن الوحي وبالوحي وإن كان عنده جواب حسب العقلية البشرية ، فإنه إذاعة وحي السماء حتى في قوله «قل» * ، ومنها أن القول إبراز ما في الجنان باللسان ولا بد أن تبرز عقيدة التوحيد بكافة وسائل الإبراز ، ولكي يعرف الموحد بعقيدة التوحيد بين جماهير المشركين ، ومنها وجوب الدعوة إلى التوحيد ، دون اكتفاء بالعقيدة القلبية البارزة ، فانها لا بد أن تبرز موجهه للضالين» الناكرين توحيد الله ، بروزا بالحجة البالغة الدامغة كما نراها في هذه السورة ، ويشير إلى ذلك الحديث التالي :

التوحيد عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه الباقر (ع) في قول الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال : قل ـ أي : أظهر ما أوحينا إليك ونبأناك بتأليف الحروف التي قرأناها لك لتهدي به من ألقى السمع وهو شهيد.


الصمد ١٢ ، الأساس ١٣ ، المانعة ١٤ ، المحضرة ١٥ ، المنفرة ١٦ ، البراءة ١٧ ، المذكرة ١٨ ، النور ١٩ ، الأمان ٢٠ (١).

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) :

إنه تعالى : «هو» * لا هذا ولا ذاك ولا ذلك ، ولا هما ولا هم .. ولا أي مشار إليه بالاشارة الحسية أو العقلية أو إشارة التثنية والجمع ف «هو» * محجوب لأبعد أغوار الحجب ، احتجابا لا يرجى معه ظهوره في أي من العوالم ، ولأيّ من العالمين ، فهو لا يدرك بأيّ من وسائل الإدراك : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (٦ : ١٠٣).

إنه الاحتجاب التام عن الحواس والعقول والأوهام : «لا يحس ولا يجس ولا يمس ولا يدرك بالحواس الخمس».

ف «هو» * (هنا) اسم يرمز به إلى حقيقة مرموزة ، كنهه في غاية الخفاء ، وهويته تختلف عن سائر الهويات ، وعلى حد تعبير باقر العلوم عليه السّلام : «هو» * اسم مكنى ومشار إلى غائب» (٢) وكما في دعاء الإمام علي عليه السّلام : «يا هو يا من لا هو إلا هو ..» ، فإنه لا هويّة مطلقة ، غائبة بإطلاق الغيب ، إلا ذاته

__________________

(١) .. ٥ الولاية تعني هنا ولاية الله معرفيا وفي العبادة والطاعة ، ٦ والنجاة : من كافة ألوان الشرك والانجراف في عقيدة الإله ، ٧ والنسبة : لأنها نسبة رب العالمين كما يمكن دركه للعالمين ، ٨ المعرفة : لأنها تحمل الغاية القصوى في معرفة الله ، ٩ والجمال : لأنها جمال الله تعالى بما تعرفه كما يمكن ، ١٢ الصمد ـ لأنها لا جوف لها ولا نقص في تعريف التوحيد الالهي ، ١٣ والأساس ـ لأنها أساس الدين ، ١٤ والمانعة لأنها تمنع عن الانحراف في معرفة الله وتوحيده ..

(٢) التوحيد للصدوق بإسناده إلى باقر العلوم (ع): .. و «هو» * اسم مكنى ومشار إلى غائب ، فالهاء تنبيه عن معنى ثابت ، والواو إشارة إلى الغائب عن الحواس ، كما ان قولك : هذا ـ إشارة إلى الشاهد عند الحواس ـ وذلك أن الكفار نبهوا عن آلهتهم المحسوسة بحرف إشارة الشاهد المدرك ، فقالوا : هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار ، فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الذي تدعو اليه حتى نراه وندركه ولا نأله فيه : فأنزل الله تبارك وتعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فالهاء تثبيت للثابت ، ـ


المقدسة ، أجل وإنه شيء لا كالأشياء : «خارج عن الحدين ، حد الإبطال وحد الثشبيه» (١) ، غائب بالذات وظاهر بالآيات.

فمن المحجوبين ما هو محجوب لبعد مكانه رغم أنه محسوس ملموس ، ومنها المحجوب لبعد زمانه : ماضيا أو مستقبلا ، ومنها المحجوب لصغرة كالذرة ، ومنها المحجوب لخلل أو كلل في البصر ، ومنها المحجوب لعدم وسيلة إبصاره ، المناسبة له ، ومنها ومنها .. وإن هي إلا حاضرة رغم احتجابها أو غيابها ، مشهودة في ذواتها ، غائبة لحواجب يمكن زوالها.

ولكن الهوية الإلهية هوية مطلقة ، غيبة مطلقة لا يرجى ظهورها بالذات ، اللهم إلا بالآيات ..

يا من هو اختفى لفرط نوره* الظاهر الباطن في ظهوره بنور وجهه استنار كل شيء* وعند نور وجهه سواه فيء (٢) ف «هو» * ضمير للتعريف بشأن الألوهية وليس ضمير الشأن بل هو ضمير يشير إلى أنه تعالى ضمير : محجوب بحقيقة الغيب ، رغم ظهوره وبهوره كالشمس في رايعة النهار ، ظهورا بالآيات دون الذات.

ف «هو» * من أسماء الغيب لله تعالى دلالة ومدلولا ، إذ لا يشار به إلا إلى الغائب ، مطلقا أو نسبيا ، والله هو الغيب المطلق ، فلو كان الاسم الأعظم لفظيا

__________________

ـ والواو إشارة إلى المحجوب عن درك الأبصار ولمس الحواس وانه تعالى عن ذلك بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواس (نور الثقلين ج ٥ ص ٧٠٨ ح ٥٥) ، والحديث الثاني نفس المصدر ص ٧٠٠ ح ٧ عن كتاب التوحيد للصدوق وفيه انه (ع) قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثم قال مقالته تلك.

(١) التوحيد عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني في عرض دينه على الامام علي بن محمد التقي (ع).

(٢) من منظومة الحكيم الحاج ملا هادي السبزواري قدس الله سره.


أو أن لفظا يدل عليه ، لكان «هو» * أو أنه من أفضله ، ثم «الله» * وكما في روايات عدة (١).

(هُوَ اللهُ) الله تعريف ثان بالله : الاسم الأعظم الظاهر ، وهو من إله «إذ إله الخلق عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته ، وهو المعبود الحق لا معبود سواه.

ومن أله : تحير ـ عجز ـ سكن ـ فزع ـ أولع : إذ عجزت الخلائق عن اكتناه ذاته المقدسة ، وسكنوا اليه وفزعوا إلى ساحة قدسه ، كما عن أئمتنا المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين (٢) وإنه اسم يخصه دون سواه ، وله من هذا الاسم في مختلف اللغات : ك «يهوه» العبراني و..

فكما لا يشاركه تعالى في ذاته وصفاته وفي أفعاله أحد ، كذلك في اسمه : توحيد مزدوج : اسما ومسمى : لا شريك له ، ولا اسميا.

نجد هذا الاسم المبارك للذات المقدسة الإلهية (٩٨٠) مرة مكررة في آي الذكر الحكيم ، دون غيره من أسماء أو أسماء غيره ، اهتماما بهذا الاسم الأعظم إلى مسماه.

ثم «الله» * كتفسير ل «هو» * كما «أحد» * تفسير ل «الله» * و «الصمد» يفسر (أَحَدٌ) وباقي ألفاظ السورة تفسير للصمد.

(اللهُ أَحَدٌ) إن بين الأحد والواحد فروقا شتى : فالأحد يفي بما لا يفي به

__________________

(١) التوحيد عن أمير المؤمنين (ع) رأيت الخضر (ع) في المنام قبل بدر بليلة فقلت له : علمني شيئا انصر به على الأعداء ، فقال : قل : يا هو يا من لا هو إلا هو ، فلما أصبحت قصصتها على رسول الله (ص) فقال لي : يا علي! علمت الاسم الأعظم ، فكان على لساني يوم بدر.

(٢) التوحيد عن أمير المؤمنين (ع): الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله اليه ، والله هو المستور عن درك الأبصار والمحجوب عن الأوهام والخطرات.

وفيه عن الباقر (ع) معناه المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته والاحاطة بكيفيته.


الواحد ، ولم يوصف الله تعالى ب «أحد» * إلا هنا ، وأما الواحد فكثير ، والأحد في توصيف الله يشمل كافة الوحدات الحقة في الذات المقدسة الإلهية ، وحدات لا كثرة فيها ، وليست عن عدد ، ولا في عدد ، ولا بتأويل عدد ، ولا بعدد ، على حد تعبير الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام ، فما سوى الله لا توجد فيه وحدات إلا كهذه التي هي كثرات :

فالإنسان ـ مثلا ـ واحد عن عدد : من الآباء والأمهات ، وعن عدد من العناصر وعن ..

وواحد في عدد : لأنه مركب من مليارات الأجزاء ، لا يتمكن أن يتحلل عنها فيتوحد في جزء لا أجزاء له ، إلا أن يتحلل عن الوجود.

وواحد بعدد وبتأويل عدد ، تأويل المأخذ المسبّق ، وتأويل الحال الحاضرة ، وتأويل المستقبل ، فإنه سوف يتعدد في أولاده وأحفاده الذين ينفصلون عن صلبه ، وكما كان متعددا منبثّا في الأصلاب والأرحام وهو الآن في عدد.

ولكن الله تعالى ليست وحدته عن عدد ، لم يكن متعددا ثم توحّد ، إذ لم يولد ، ولا في عدد : لا أجزاء لذاته المقدسة ، ولا بتأويل عدد : إذ لم يلد ... إنه واحد أزليا ، وواحد أبديا ، وواحد ذاتيا ، وواحد صفاتيا ، وواحد أفعاليا وواحد .. وإنه أحدي كما نجده في جواب الإمام علي عليه السّلام عن سؤال الأعرابي في حرب الجمل (١) فكالتالي :

__________________

(١) التوحيد بالإسناد : ان أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال : يا أمير المؤمنين! أتقول : ان الله واحد؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا اعرابي! أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين (ع) : دعوه ، فإن الذي يريده الاعرابي هو الذي نريده من القوم ـ ثم قال : يا اعرابي! ان القول في أن الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل ، ووجهان يثبتان فيه ، فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد ـ يقصد به باب الأعداء ، فهذا ما لا يجوز ، لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، ألا ترى انه كفر من قال : ثالث ثلاثة؟ وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه ، لأنه تشبيه ، وجل ربنا عن ذلك وتعالى .. وأما ـ


١) أحدي الذات ، إذ لا جزء له ولا أجزاء ، ولا حد ولا حدود ، فإنه مجرد عن الحدود والأجزاء ، فلا أحد إلا هو ، إذ لا مجرد حقيقيا إلا هو ، أحدية سرمدية : دون بداية ولا نهاية.

٢) أحدي الشخص : فلا ثاني له ولا شريك.

٣) أحدي الصفات في معنيين : أن لا مثيل له في صفاته : ـ

٤) وأن صفاته عين ذاته ، إذ لا تزيد على ذاته ، لا جوهرا على ذاته ، ولا معنى زائدا على ذاته ، ولا أية حقيقة سوى ذاته المقدسة ، فلا تعدد حقيقيا في صفاته ، ولا في ذاته وصفاته.

٥) أحدي السرمدية : فلا أزلي سواه ، ولا أبدي سواه : هو الأول والآخر ..

٦) أحدي في الخالقية : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣٥ : ٣) (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٣ : ١٦). فلا خالق سواه إلا بإذنه : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) (٥ : ١١٠) : خلقا بإذن الله دون استقلال.

٧) أحدي في المعبودية : لا معبود سواه (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٤٠ : ١٤).

وأحدي في كلمّا له من ذات وأفعال وصفات ، إن صح الكل لما ليس له جزء ، ف: «هو خلو من خلقه وخلقه خلو منه» «لا هو في خلقه ولا خلقه

__________________

ـ الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبيه ، كذلك ربنا ، وقول القائل : انه ربنا عز وجل أحدي المعنى ، يعني انه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربنا عز وجل.


فيه» «باين عن خلقه بينونة ذات وصفة ، لا بينونة عزلة : «في علم وقدرة» (حديث شريف).

إنه واحد لا بعدد ، وهو الأحد إذ لا ثاني له ، ولا يدخل في باب العدد ، إذ لا يقال: أحد اثنان .. إنما : واحد اثنان ، فهو واحد أحدي ، وليس واحدا عدديا ..

وإنه لا يتعدد في لفظ ولا معنى ، فهو «أحد» * رغم أن الواحد يتعدد فيهما : ١ ـ واحد اثنان ، ٢ ـ أنا واحد ، وقد تركبت من ملايين الأجزاء.

و «أحد» * في وصف الله ، يضم كافة الصفات الثبوتية والسلبية ، كما ويكملها «الصمد».

فالأحدية الذاتية والفاعلية والصفاتية والسرمدية والمعبودية ، كلهما معنية من «أحد» * دون اختصاص بناحية دون أخرى.

كما وتنفي كافة الكثرات عن ذاته وصفاته وأفعاله ..

(اللهُ الصَّمَدُ) :

تفسير للهوية الإلهية : «هو» * وإلهيته «الله» * وأحديته «أحد» * وكما يفسّر الصمد ب (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .. خير مفسّر ومفسّر (١).

و «الصمد» هو الذي ليس له جوف ، لا جسماني لأنه لا جسم له ، وكل جسم مجوّف! ولا روحاني ، لأنه جامع الصفات والكمالات الذاتية اللامحدودة ،

__________________

(١) التوحيد عن باقر العلوم (ع): أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (ع) يسألونه عن الصمد ، فكتب إليهم : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلموا فيه بغير علم فقد سمعت جدي رسول الله (ص) يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ، وأن الله سبحانه قد فسر الصمد ، فقال : (اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) ثم فسره فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).


لا ينقص صفة ، ولا تنقصه صفة لائقة لذاته المقدسة ، حتى يكون أجوف معنويا ، وعلى حد تعبير الإمام الصادق (ع): صمد لا مدخل فيه»وكل مادة فيها مدخل! وعن أمير المؤمنين علي (ع): «الصمد بلا تبعيض بدد» فالصمد لا يبعض ولا مدخل فيه ، فليست المادة صمدا ، ولا الروح كذلك ، لأنها مدخل وداخلة ، وهي مبعضة.

إن المادة ، أية مادة ـ وإن كانت ذرة وأجزاءها ـ إنها جوفاء ، فكما التركب كيان المادة ، كذلك كونها جوفاء ، وكما المادة دون تركب هي لا مادة ، كذلك المادة دون جوف هي لا مادة.

فالمادة جوفاء بالمعنيين ، جوفاء ذاتيا : أن في ذاتها جوف وخلو ، وجوفاء معنويا لفقدانها الكثير الكثير من الكمالات.

إذا فالمادة ليست صمدا لا جوف له ، إنما الله هو الصمد الذي لا جوف له : سالبة بانتفاء الموضوع : ليس ماديا حتى يكون له جوف مادي ، وبذلك تسلب عنه الذات المادية بجميع مصاديقها ومراحلها ، ثم سالبة بوجود الموضوع : أن لو تصورنا كائنا مجردا ، ناقصا عن بعض الكمالات ، فالله ليس مجردا أجوف ، بل هو مجرد صمد : هو الكمال اللامحدود من ذات وصفات الألوهية.

والصمد بهذا المعنى لزامه السيادة التامة وأن يكون مرجعا وملجأ ، إليه ينتهي السؤدد ولا ينتهي سؤدده (١).

__________________

(١) التوحيد عن باقر العلوم (ع) عن أبيه عن جده الحسين بن علي (ع) انه قال : الصمد الذي لا جوف له ، والصمد الذي لا ينام ، والصمد الذي لم يزل ولا يزال.

وفي المجمع عن عبد خير قال : سأل رجل عليا (ع) عن تفسير هذه السورة فقال : قل هو الله أحد ، بلا تأويل عدد ، الصمد بلا تبعيض بدد.

أقول : ان كل تبعيض بدد والى بدد ، لمكان الحاجة ، والله ليس مبعضا فليس جسما ، إنه الصمد الذي ليس له جوف.


(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) :

لا هو والد كما المسيحيون يزعمون : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) : الوثنيين الثالوثيين ، ولا هو ولد له والد ، كما هم يظنون : الإله الولد ، والإله روح القدس.

(لَمْ يَلِدْ) : ليس خلقه لما سواه في معنى الولادة ، سواء أكانت بانفصال النطفة ، أم بتبدّل الوالد ولدا ، أم .. كما يقال في خرافة الثالوث بما اختلقته الكنائس ، مضاهاة الوثنيين (١)!

لم يلد : وإنما خلق ـ أوّل ما خلق ـ لا من شيء وخلق منه سائر الخلق ، فليس خلقه من ذاته ، وإنما من شيء خلقه أولا ، كما خلق الأول لا من شيء ، لا من لا شيء ، حتى يكون مبدأ الخلق عدما ، ولا من شيء في البداية حتى يكون ذلك الشيء أزليا كمثله.

(وَلَمْ يُولَدْ) ليس الوجود الإلهي مولود الخيال لكي يصبح الإله خيالا لا حقيقة له ، ولا مولود إله آخر لكي يكون حادثا فمخلوقا ، «فسبحانه سبحانه من إله لم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد فيكون في العز مشاركا».

وعلى حد تفسير الإمام الحسين بن علي عليهما السلام : «لم يلد : لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا يتشعب من البدوات ، كالسنة والنوم والخطرة والهمّ والحزن

__________________

ـ وعن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال : إن اليهود سألوا رسول الله (ص) فقالوا : انسب لنا ربك فلبث ثلاثا لا يجيبهم ، ثم نزلت هذه السورة فقلت : ما الصمد؟ فقال : الذي ليس بمجوف (نور الثقلين ج ٥ ص ٧١٣) وروى مثله الفاضلان الحلبي وزرارة عن أبي عبد الله (ع) ، وروى هارون بن عبد الملك عنه (ع) .. وصمد لا مدخل فيه.

(١) انظر تحليلنا في آخر سورة الإخلاص بعنوان : «توحيد الثالوث».


والبهجة والضحك والبكاء والخوف والرجاء والرغبة والسأمة والجوع والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء. وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف ، ولم يولد : لم يتولد من شيء ، ولم يخرج من شيء ، كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، والدابة من الدابة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والأثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من عناصرها ، كالبصر من العين ، والسمع من الأذن ، والشمّ من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنار من الحجر ، لا! بل هو الله الصمد الذي لا من شيء ولا في شيء ، ولا على شيء ، مبدع الأشياء ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم الله الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(١).

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) :

لم يكن : ـ في الأزل ومن الأزل ولن يكون في الأبد والى الأبد ـ : من يكافئه في ألوهيته ، أو يضاهيه ويناصره ويعاضده ، أو يعارضه ، رغم خرافة أزلية إله الابن في صيغة متناقضة : «مولود غير مخلوق» فإنه لا يعني إلا أنه : مولود غير مولود!

إنه ليس له كفو ، سواء أكان والدا له ، أو ولدا منه ، أو من يتخذه ولدا ، أو كائنا مستقلا بجنبه (٢) ، أيا كان ، فهو الوحيد السرمدي في ألوهيته ، لا يشرك فيها أحدا من خلقه ، فهو الخالق والرازق والموفق والمؤيد والديان والهادي ، و.. لا سواه ، إلا رسلا يدعون إليه ، وليس لهم من الأمر شيء.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٧١٣ عن كتاب التوحيد للصدوق.

(٢) من جواب الامام الباقر (ع) لأهل فلسطين : ولم يكن له كفوا أحد فيعازه في سلطانه ، أي يشاركه في عز الألوهية.


فهذه الآية الأخيرة تعم دلالة على عدم ولادته ، وعدم اتخاذه ولدا ، إذ هما يشاركان في لزوم الكفؤ له تعالى ، والقرآن ينفيهما هنا إجمالا وفي سائر الآيات تفصيلا.

فهذه السورة تنفي عن الله تعالى ما يحق نفيه عن ساحة قدسه ، وتثبت له ما يحق لألوهيته ، دون أن تنقص شيئا منهما على قلة ألفاظها .. ثم نجد التفاصيل منبثّة في الذكر الحكيم قرابة ثلث القرآن أو ربعه.

ثم نجدها براهين قاطعة للتوحيد الحق ، كل آية تفسّر ما قبلها وتفسرها ما بعدها ، ف «الله» * يفسر «هو» * : أن الذي هو غيب مطلق ، اسمه الله ، لا ما ما تختلقون من أسماء لمن تدعونهم آلهة ، و «الله» * أحد ـ فإن الأحدية الحقيقية المطلقة لزام من هو غائب عن ادراك الحواس. ف «هو» * : الله ـ و (هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، ثم «الأحد» «صمد» لا محاله ، فلو كان له جوف كان متعددا ولم يكن أحدا ، ولو كان له جوف روحاني بمعنى النقص ، لم يكن أحدا في الكمالات ، ولو كان له جوف : بإضافة الصفات إلى الذات ، لم يكن أحدا في الصفات ، ثم لزام «الصمد» أنه (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) .. لأن الوالد ـ مهما كان ـ إنه أجوف مزدوج الكيان ، وليس صمدا : لا جوف له ، وهو تعالى صمد لا جوف له : سواء الجوف المادي أم سواه ، فلا يخرج منه شيء كثيف ولا لطيف لأنه صمد لا جزء له ولا أجزاء ، لا حد ولا حدود.

(وَلَمْ يُولَدْ) إذ إن الحاجة إلى الولادة والحدوث ، هي خاصة بالكائن الفقير ، وهو المادي الأجوف ، فإذا كان صمدا فلا يحتاج أن يولد كما يستحيل أن يلد.

__________________

ـ وعن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث : لم يلد لأن الولد يشبه أباه ، ولم يولد فيشبه من كان قبله ـ ولم يكن له من خلقه كفوا أحد ـ تعالى عن صنعة من سواه علوا كبيرا(نور الثقلين ج ٥).


(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) إذ إن الكفؤ إما هو ذات يخرج من ذاته ، فهو (لَمْ يَلِدْ) فيكون في العز مشاركا ، أو من يتخذه ولدا فأسوء حالا وأضل سبيلا ، فإذا كان الولد ـ الذي هو من جوهر ذات الوالد ـ منفيا عنه تعالى ، فبالأحرى من يتخذه ولدا ، ولماذا يتخذ؟

أو أن الكفؤ كائن مستقل عن ذات الله وعن اتخاذه شريكا ، فهو أيضا يتناقض وتجرديته المطلقة اللامحدودة ، حيث اللامحدود لا يتعدد ـ ومحال أن يتعدد ـ فإن العدد إنما هو في المحدودات.

ويتناقض أحديته وصمديته ، فإن الصمد : غير المحتاج إطلاقا ، ليس له شريك إطلاقا من أي الثلاثة : ولدا ، أو من يتخذه ولدا ، أو إلها مستقلا عن كيانه تعالى ، فلم يكن له كفوا أحد (١).

وإليكم إجمالا بعد تفصيل في تفسير هذه السورة كلام الإمام أمير المؤمنين علي عليه أفضل التحية والسلام : «سأل رجل عليا عليه السلام عن تفسير هذه السورة فقال : هو الله أحد بلا تأويل عدد ، الصمد بلا تبعيض بدد ، لم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد فيكون في العز مشاركا ، ولم يكن له من خلقه كفوا أحد» (٢).

__________________

(١) التفصيل العقلي في كتابنا «حوار بين الإلهيين والماديين».

(٢) نور الثقلين ٥ : ٧١٥ ح ٨٥ عن عبد خير عنه (ع).


توحيد الثالوث!

وفي ختام البحث عن طرف من التوحيد القرآني ، لنطرح هذا السؤال في محكمة العقل والنقل الكتابي ونتبع وحي الكتاب على ضوء العقل ..

مما لا يشك فيه أي عاقل : أن الثالوث يختلف عن الواحد ، ضرورة اختلافهما عند من يميز الواحد عن الثلاثة.

ذلك ، بالرغم من أن كثيرا من الكنائس في العالم المسيحي تعلّم : أن الله «ثالوث» مع أن كلمة ثالوث لا وجود لها في الكتاب المقدس.

إن الدستور «الأثنايوسي» يؤيد وجود (إله واحد) : «الأب والابن والروح القدس ـ أي ثلاثة أقانيم في إله واحد» : ـ

هذا الدستور ـ نحو القرن الثامن للميلاد ـ يقول : إن الأب والابن والروح القدس ، هؤلاء هم كلهم من نفس الجوهر ، والثلاثة هم سرمديون وقادرون على كل شيء!!

إلا أن هذه العقيدة لم تكن تعرف عند الأنبياء العبرانيين والرسل المسيحيين ، وتعترف دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة (ط ١٩٦٧ ج ١٤ ص ٣٠٦) بأن عقيدة الثالوث لا يجري تعليمها في العهد القديم ، كما وتعترف أنها يرجع تاريخها إلى نحو ثلاثمائة وخمسين سنة بعد المسيح ، لذلك فإن المسيحيين الأولين الذين تطمّوا مباشرة من يسوع المسيح لم يؤمنوا أن الله ثالوث.

وفوق ذلك نرى المسيح لا يرضى أن يخاطب بكلمة الرب ، ويعتبر قائلها شيطانا ، إذ قال له بطرس : «حاشاك يا رب ، فالتفت وقال لبطرس : اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (متى ١٦ : ٢٢ ـ ٢٣).


فالسيد المسيح عليه السّلام هنا يصرح : أن الإعتقاد في ربوبيته معثرة شيطانية من بطرس.

كذلك ويندد بمن يعتبره معادلا لله ، حيث اليهود اعترضوا عليه إذ شفى مريضا في السبت ، فأجابهم : آبي يعمل وأنا أعمل ، فمن أجل هذا قالوا : إنه كسر السبت وجعل نفسه معادلا لله (يوحنا ف ١٧).

يعني : خالقي يعمل وأنا أعمل ، وليس عملي عمل الخالق ، إنما هو بإذنه وأمره ، فلست إذا معادلا للخالق.

إذ إن الأب ـ بالمد ـ لغة يونانية تعني الخالق ، وليست عربية حتى تعني الوالد ، إلا إذا أريد بها شهر الآب أو مثله من الآب!

ومن عجيب الخلط أن الكنائس تفسّر الآب دائما بمعنى الوالد! فيا ليتهم حذفوا المدّ حتى يصح لهم هكذا تفسير خادع! إن السيد المسيح لا يرضى أن يقال له : حتى : أنه صالح ، فكيف بالرب الإله؟ : «وإذا واحد تقدم وقال له : أيها المعلم الصالح! .. فقال له : لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله» (متى ١٩ : ١٦ ـ ١٩).

فهل إن هذا العبد الخاضع المتواضع بجنب ربه يدعي الربوبية والألوهية ، وتساويه في الجوهر مع الله؟ كلا! وإنه حسب الأناجيل ، يعترف بعبوديته وأنه ابن الإنسان كما في ثمانين موضعا (١).

كما ويصرّح : أن الحياة الأبدية معرفة الله بالوحدانية ، وأن المسيح رسوله (يوحنا ١٧ : ٣) و : «أن أول الأحكام أن نعرف أن إلهنا واحدا» (مرقس

__________________

(١) ومنها متى ٨ : ٢٠ و ٩ : ٦ و ١٦ : ١٣ ، ٢٧ و ١٧ : ٩ و ١٢ و ٢٢ و ١٨ : ١١ و ١٩ : ٢٨ و ٢٠ : ١٨ و ٢٠ و ٢٤ : ٢٧ و ٢٦ : ٢٤ و ٤٥ و ٤٦ في الأناجيل الثلاثة الاخرى.


١٢ : ١٩) «وقال له الكاتب : لقد قلت حسنا : إن الله إله واحد وليس غيره من إله ، ولما رآه المسيح عاقلا في جوابه وكلامه خاطبه قائلا : لست بعيدا عن ملكوت الله» (مرقس ١٢ : ٣٢ و ٣٤).

ونرى كذلك في الكتب المقدسة أنه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) زمور ١٠٢ : ٢٦) ولا تجوز الصلاة لغير الله (متى ٤ : ١٠ مقابلة مع تثنية ٦ : ١٣ و ١٠ : ٢٠) ولربما راح المنجي يسوع إلى الصحراء منفردا يدعو (متى ١٤ : ٢٣ و ٢٦ : ٢٩ ومرقس ١ : ٣٥ ولوقا ٥ : ١٦) وأرفع صلاة وأعلاها التي تربو على صلواته كلّها ، ما صلّاها أخيرا مع الحواريين (يوحنا ١٧ : ١ ـ ٥ و ٦ : ١٩ و ٢٠ : ٢٦) وشكر ربه حيث استجاب دعوته (يوحنا ١١ : ٤١ ـ ٤٢) واستعان بربه حينما سلّم إلى الصليب (يوحنا ١٢ : ٢٧) وسأله : إلهي إلهي لم تركتني ، وذلك حينما صلب.! زعمهم.

أفهل كان يصلي لنفسه لأنه الرب نفسه؟ أم لمعادله؟ لأنه معادل الله! أم كان يستعين بنفسه إذ سلم إلى الصليب؟! ..

هذه الآيات المقدسات تؤيد وتتأيد بالمئات المئات من آيات الله البينات في كتابات الوحي طوال القرون الرسالية دون خلاف ، فخلافها إذا مقحمة بأيدي الدسّ والتحريف كالتالي :

.. أنه : ابن الله (متى ٣ : ١٧) وأوّل مواليده (عبرانيين ١ : ٩) ابن الله المبارك (مرقس ١٤ : ٦١) وأنه هو الله (يوحنا ١ : ١) الأزلي (عبرانيين ٩ : ١٤) والرب ومثل الله (متى ٢٣ : ٣٤ لوقا ١١ : ٤٩).

ومثل الله هو رب الشريعة ، فبقدرته الشخصية يتم ناموس موسى ويعدّله (متى ٥ : ٢١) ومثله يعتمد عهدا مع البشر (متى ٢٦ : ٢٨) فالإيمان الذي يقتضيه مسيح الإنجيل في البعض من آياته المقحمة ، إنما يقتضيه لنفسه لا لربه ،


فيريد أن يكون هو موضوع الإيمان وسببه (لوقا ٩ : ٢٦) ويرضى بأن تقدّم له عبادة دينية فيقبل السجود لنفسه ، ذلك السجود الذي ـ بحسب العقلية اليهودية والمسيحية (استير ١٣ : ١٢ ، أعمال ١٠ : ٢٦ ، رؤيا يوحنا ١٩ : ١٠ ـ ٢٢ : ٩) ـ ذلك الذي يعود ويختص بالإله الحق وحده ، (انظر : متى ١٥ : ٢٥ و ٨ : ٢ و ٩ : ١٨ و ١٤ : ٣٣ و ٢٨ : ٩ و ١٧).

هذه الآيات الأخيرة بعضها مقحمة كالمصرحة بما ينافي توحيد الإله ، والأخرى متشابهة أو غير دالة (١).

والقرآن إذ يصدق الإنجيل ، فإنما يصدق ما فيه من وحي السماء ، لا المقحمات مثل التثليث ، وكما يندد بالثالوث في آيات ، ويعتبره من الوثنية ، ويصرّح أن المسيح من أعظم الموحدين المعارضين للخرافات الشركية قائلا :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٥ : ٨١) (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٣ : ٥٧) (وَقالَ الْمَسِيحُ : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (٥ : ٧٢) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٧٢ ـ ٧٣) (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٩ : ٣١).

فالنصرانية ـ حسب الآية الأولى والأخيرة ـ منذ القرن الثالث وحتى

__________________

(١) راجع «حوار» و «عقائدنا» باب التثليث.


الآن ، تقلّد قوما مثلثين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا ، وهم الثلث الثالوثيون من مجلس «نيقية» وعلى رأسهم «اثناسيوس» وهؤلاء أيضا يضاهئون في خرافة الثالوث (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) وهم من يذكرهم تاريخ الأديان الوثنية طوال قرونها ، كالثواليث التالية :

الثالوث الفرعوني : (اوزيرس ـ ايزس ـ حورس).

والثالوث البرهمي : (برهمة ـ فشنو ـ سيفا) ومثله البوذي والصيني والهندي والمصري واليوناني والروماني وثالوث الفرس : (أورمزد ـ مترات ـ اهرمان) والفنلندي : (تريكلاف) والاسكندنافي (اورين ـ تورا ـ فري) والدردي : (تولاك ـ فان ـ مولا) والأوقيانوسي والمكسيكي والكندي (١).

أنا والآب واحد!

ومن الآيات الإنجيلية التي توهم إلى الشرك ، هي القائلة عن السيد المسيح : «أنا والآب واحد» (يوحنا ١٠ : ٣٠).

لكنها لا تدل على الثالوث ، إنما على التثنية ـ لو دلت ـ (أنا والآب) ولكنها أيضا لا تعني الوحدة في جوهر الذات والكيان الإلهي ، وإنما وحدة الهدف والاتجاه ، فلا شك أن يسوع لم يكن يناقض الآيات المقدسة التي سبقت في التوحيد ، وما عناه هنا إنما أوضحه هو نفسه فيما بعد ، عند ما صلى لأجل أتباعه : «ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد» (يوحنا ١٧ :) فيسوع وآبوه خالقه ، هما واحد ، بمعنى أن يسوع على وفاق تام مع خالقه ، وصلى ليكون كل أتباعه على وفاق مع الخالق ومع يسوع بعضهم مع بعض.

فهناك في الكتب المقدسة آيات مقحمات كالمصرحة بربوبية المسيح ، وآخر متشابهات كهذه ، وثالثة محكمات ، فالمفروض إرجاع متشابهاتها إلى محكماتها ، ورفض مقحماتها.

__________________

(١) راجع «حوار» و «عقائدنا».


فمن المقحمات الآية : «ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في ، لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال» (يوحنا ١٤ : ١٠) أو يقال إنها يفسرها قول السيد المسيح عليه السّلام : «كما أنك أيها الآب في وأنا فيك ، ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يوحنا ١٧ : ٢١).

وترى كذلك بجنبها محكمات في التوراة وفي الإنجيل قائلة :

«قال الله لن تسكن روحي في الإنسان إلى الأبد لأنه لحم» (تكوين ٦ : ٣) «وفيما هم يتكلمون بهذا أوقف يسوع نفسه في وسطهم ، وقال لهم : سلام لكم. فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحا. فقال لهم ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يدي ورجلي أني أنا هو. جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم أعندكم هاهنا طعام. فناولوه جزءا من سمك مشوي وشيئا من عسل فأخذ وأكل قدامهم» (لوقا ٢٤ : ٣٦ ـ ٤٣).

فالآية التوراتية تحيل حلول الإله المجرد عن الجسم في الجسم ـ أيا كان ـ لأنه جسم ، فإن المحدود لا يشمل اللامحدود ، والمجرد لا يحوي الجسم.

وكذلك الآيات الإنجيلية تحيل هكذا حلول ، إذا فالمعني من الآية : «الآب في وأنا فيه» ليس هو التداخل الجوهري ، وإنما يعني كمال العبودية والذلة : ألّا يعتبر السيد المسيح نفسه في جنب ربه شيئا مذكورا ، فكأنه فيه «أنا فيه» وأنه لا ينطق ولا يعمل إلا حسب مخططات الوحي الإلهي ليس إلّا : «الآب في» لا سيما مع كون الآب يعني : الخالق ، ومن المستحيل اتحاد الخالق والمخلوق في الجوهر.


ويزيد توضيحا للآية : «أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا» (يوحنا ٥ : ٣٠).

فالسيد المسيح ـ ومعه النبيون أجمع ـ يسلب عن نفسه الربوبية والشرك بالله ، والقدرة الإلهية والحول والقوة المستقلة ، وإنما يصرح : «أنه إنسان نبي» (لوقا ٢٤ : ١٩) وليس أحد صالحا إلا إله واحد وهو الله» (متى ١٩ : ١٧) «وأما ذلك اليوم فلا يعلم أحد به ولا الملائكة ولا الابن إلا الآب الخالق» (لوقا ٥ : ١٤ و ٤ : ١٢) «والله لم يره أحد قط» (يوحنا ١ : ٨) «ولا يقدر أحد أن يراه» (اتيموثاوس ٦ : ١٦) «ولا يقدر أحد أن يخدم سيدين» (متى ٤ : ٢٦).

وفي التوراة : «أن الله ليس له مكان» (أشعيا ٦٦ : ١ ـ ٢) «ولا يعبد إلا هو ، ومن عبد غيره يقتل» (خروج ٢٠ : ٣٤ وتثنية ١٣ و ١٨).

إذا فإلى كلمة سواء :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

أصحابنا المسيحيين! تعالوا اتبعوا المسيح والنبيين في توحيد الإله ورفض خرافة الثالوث اللامعقولة ، والمضادة لنصوص الكتب المقدسة ، هذه الخرافة الوثنية التي أصبحت كأنها من أصول الديانة المسيحية ... تعالوا إلى كلمة سواء.

الثالوث في مختلف الأديان الوثنية :

«إن أقدم ما نعثر عليه في تاريخ الفراعنة ، الثالوث المكوّن من الآلهة (اوزيريس ـ ايزيس ـ حورس) الأب والأم والولد ، ثم المكوّن من «آمون»


وزوجه «موت» * وابنه «خونس» وهو تثليث بلدة «تب» * وهم الأب والأم والولد ، ثم المكوّن من (فتاح ـ سنحت ـ ايموس) وهو لبلدة «منف» ثم المكوّن من (انوبيس ـ معات ـ توت) ثم المكوّن من (آنوا ـ بعل ـ آيا) وهو ثالوث الكلدانيين ، ثم المكوّن من (سن ـ شمش ـ عشتار) الأب والابن والأم ، ثم المكوّن من (مينوسن ـ رادامانت ـ ايبال) أولاد «زوس» الإله الأعظم ، ثم المكوّن من (الأب والابن وروح القدس) وهو للمسيحيين (١)(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

ولقد «كان عند أكثر الأمم البائدة الوثنية تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثالوثي ، أي الإله ذو الأقانيم الثلاثة» (٢).

وحقا إنه عزيز علينا اتباع الديانات الكتابية الإلهية هكذا أن يتبع بعضها الأمم البائدة الوثنية في الأصول الإلهية ..

فإلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، يرضاها العقل والدين!

بداية الثالوث المسيحي :

إن أقدم صيغة تعليمية رسمية لإيمان الكنيسة بشأن الثالوث (حسب ما في مختصر في علم اللاهوت العقائدي) هي قانون الرسل الذي اتخذته الكنيسة منذ القرن الثاني في شكل قانون العماد الروماني القديم كأساس لتعليم الموعوظين ، ولاعتراف الإيمان في حفلة العماد عند اللاتين.

ثم .. قانون نيقية القسطنطنية (٣٨١ م) وقد نشأ ضد مذهبي آريوس ومقدونيوس ، ثم المجمع الروماني برئاسة البابا القديس (داماسيوس) (٣٨٢)

__________________

(١) حياة السيد المسيح ل : فاروق الدملوجي ، ص ١٦٢.

(٢) موريس في كتابه «خرافات المصريين الوثنيين» ص ٢٨٥ ـ ينقله عنه محمد طاهر التنير البيروتي في كتابه «العقائد الوثنية».


يدين بصورة اجمالية أضاليل القرون الأولى في الثالوث الأقدس! ثم إلى القرن ٥ و ٦ قانون أثناسيوس ، ثم قانون مجمع طليطلة الحادي عشر (٧٦٥ م) ثم في القرون الوسطى قانون المجمع اللاتراني الرابع (١٢١٥ م) ثم مجمع فلورنس (١٤٤١ م) ثم في العصر الحديث تعليم لبيوس السادس (١٧٩٤ م).

وإن أول من دسّ في فكرة الكنيسة فكرة الأبوة والبنوّة الإلهيين ، هو الخصي الكوسج المصري خادم الرهبان «اوريفين» (١) إلى أن تشكل مجمع «نيقية» (٣٢٥ م) إذ جاءت من الجماعات الروحية المسيحية من مختلف الأقطار من يزيدون على ألف مبعوث لانتخاب الأناجيل التي يجب أن تعتبر قانونية ، ولقد كان ٣١٨ شخصا من هؤلاء من القائلين بألوهية المسيح.

وقد اجتهد آريوس رئيس الموحدين على أن المسيح مخلوق ، وأنه عبد الله ، مستدلا بما لديه من الآيات الانجيلية وبتفاسير الأعزة والآباء من ايقليسيا ، واعترف بهذه الحقيقة الثلثان الباقون من الألف ، أعضاء المجمع.

ومن ناحية أخرى قام رؤساء الثالوثيين (وعلى رأسهم اثناسيوس) للبرهنة على أن المسيح إله تام ، وأنه متحد الجوهر مع الله ، وأخيرا ترجّح رأي المثلثين ، لا لشيء إلا للسلطة الجبارة آنذاك من قسطنطين (قونسطنطينوس) تحت ستار إيجاد الأمن بين المتخالفين ، وأن قسطنطين هذا يرجح رأي صديقه البابا كاهن رومية الأعظم ، وهو من الأقلية الثالوثية في النيقية ، ويأمر بإخراج أكثر من سبعمائة من الرؤساء الروحيين الباقين الموحدين من المجمع ، ويقتل آريوس رئيس الموحدين لكي يصفّي جو المجمع (٣١٨) الباقين المثلثين.

ولقد صرح السيد المسيح بهذا الحادث العظيم تنديدا بالمثلثين ، وترحما على الموحدين بقوله : «سيخرجونكم من المجامع ، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من

__________________

(١) هو راهب أعزب عارف باللغات عاش في القرن الثاني الميلادي.


يقتلكم أنه يقدّم خدمة لله وسيفعلون بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني (يوحنا ١٥ : ٢ ـ ٣ و ١٣ : ٩).

أي لم يعرفوا الآب «الخالق» بالوحدانية ، ولا عرفوني بالعبودية.

وقسطنطين هذا كان وثنيا ملحدا ، فإن «بوسيبوس» بسقيوس قيصرية (الذي تقدسه الكنيسة وتمنحه لقب سلطان المؤرخين) كان صديق الامبراطور ، وهو يصرح : أن الامبراطور اعتمد وتنصّر حين كان أسير الفراش قبيل وفاته ، وبناء على هذا نتأكد : أن خرافة الثالوث هذه ليست إلا من سلطان وثني ملحد ، وخصي كوسج مصري.


سورة الفلق ـ مكية ـ وآياتها خمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

* * *

ان هناك محاولات دائبة لإغلاق أبواب الخير والفلاح على من يبتغيهما ، فلا بد إذا من فالق وهو الخالق الذي خلق وفلق.

إن لشياطين الجن والإنس إيجابيات وسلبيات كلها تنحو منحى الشر ، غلقا لأبواب الخير ، وفلقا لأبواب الشر ، فسورة الناس تأمرنا بالاستعاذة من النوع الثاني ، وسورة الفلق منهما ، ولكي تتم المكافحة علّ المؤمنين ينتصرون.

فربّ الفلق هو الذي يفلق ما أغلقته الشياطين : من غاسق إذا وقب ، ومن النفاثات في العقد ، ومن حاسد إذا حسد :

«ثالوث الشر والفساد ، الذي هو في قمة الشر ، ولذلك تختص هي بالذكر بعد عموم الشر.


(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) :

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٦ : ٩٥ ـ ٩٦).

فالفلق هو شق الشيء واستخراج ما فيه ، ونحن نعوذ برب الفلق ليفلق لنا ما أغلقته الشياطين من أبواب الخير ، وعلينا أن نظل على الدروب : دروب الخير لنفتحها ، ودروب الشر لنغلقها ، مستعيذين برب الناس والفلق ، الذي يغلق للناس كل غلق ، إلى ما فيه خير.

والشر ـ أيا كان ـ قد يحصل بضم شيء إلى شيء ، ففلقه فتقه ، أو بفصله عنه ، ففلقه رتقه ، فكلاهما فلق اعتبارا بتحرير الخير الذي كان في أسر الشر ، ففالق الحب والنوى يحررهما عن جمود الحياة إلى حريتها ونضوبها ونضوجها ، وفالق الإصباح يشق بطن الليل ليوضح وضح النهار.

والشر ـ أيا كان ـ غلق على الحياة وأسر لها ، فالفالق يفتح الحياة المغلقة وينير الدرب على الأحرار ، الذين يحاولون الفرار عن حياة الحيونة المتأخرة أو المجمدة ، إلى حياة التقدم.

وكما يفلق الله تعالى الليل لإخراج النهار ، ويفلق الحب والنوى لإخراج الأشجار ، كذلك هو الذي يفلق كل شر ويفتقه ليخرج منه الخير ، كما ويخرج الحي من الميت بفلق الميت ، ويخرج الميت من الحي بفلق الحي ، ويخرج الجنين من المني بفلقه ، وغير ذلك من فلق خيّر.

هذا الإله هو الذي يحق أن يستعاذ به من شر ما خلق :

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) :

.. «ما خلق» * لا «خلقه» * إذ ليس في خلقه ـ وهو فعل من أفعاله ـ ليس


فيه شر ، فالخير كله بيديه والشر ليس اليه : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وأما ما خلق : المخلوقون ، فهم الدين يفعلون الشر بسوء اختيارهم ، أو سوء الاختيار والتصرف فيهم من المتخلفين ، وشاهد مسبّق عليه ، الأمر بالاستعاذة برب الفلق ، فهل يستعاذ به تعالى مما فعل؟ كلا ـ وإنما مما يفعله ما خلق : الأشرار من خلقه.

فللخلائق شرور عدة في حالات اتصال بعضها ببعض وبعضهم ببعض ، والله يفلق هذه الشرور فصلا بين عماله وأعمالهم.

وشرور الخلق تعم التفكير السوء والعقيدة والعمل السيئين ، وتعم الجانب التشريعي والتكويني من الشر ، وهو الفالق هنا وهناك : أن يسن قوانين وأحكاما لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، حيث الشرور ناتجة عن الانفصالات والتضادات ، أو من الاتصالات السيئة ، وهو الفالق : أن يقدر ويدبر الخير رغم هجمات الشر وهمجاته.

وداعية الشر يفحص عن مجالاته الملائمة وهي الظلمات ولا سيما الغاسقة ، يفحص عن ظلمات العقول والأجواء .. وليتمكن من تحقيق شره : ورب الفلق يفلق الظلمات إلى النور أيا كان :

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) :

فالليل له غسق وهو مرتفعة في الظلام : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (١٧ : ٧٨) والطعام له غسق وهو الذي يظلم على الإنسان حياته وكأنه يعميه من شدة الغصة : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) (٣٨ : ٥٧).

والغاسق ـ وهو الذي يدخل في غسق ـ ليس فيه كثير خطورة ما لم يقب ، والوقب هو النقرة في الجبل يسيل منها الماء ، فإذا وقب الغاسق ومكّن فهناك تمام الشر ووقعته.


فالليل مجال الغاسق : ليل الأفق الخارجي ، وافق العقل والصدر والقلب ، فإذا وقب ونقر في واحد من هذه الآفاق فقد انتصر.

والليل حين يتدفق فيغمر البسيطة ، إنه مخوف بذاته ، فضلا عما يثيره من توقع المجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم ، ولص فاتك يقتحم ، وعدو ماكر يتمكن ، وحشرة ضارية ، ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام ، وعقل قاصر ، وشهوة حاضرة ... كل ذلك ميدان لتجوال الغاسق ، فلو لا الإمداد الرباني والإعاذة الإلهية لكان يقب.

فليغلق المستعيذ برب الفلق على نفسه أولا دخول الغاسق : بخروجه عن الظلام أيا كان ، أو إخراج الظلام عن نفسه ، ثم إذا قصّر هنا فليستعذ برب الفلق من شر غاسق إذا وقب ... إذا دخل الظلام ونقر ، فرب الفلق هو الذي يفلق بعد الوقب ، كما أنه الذي يفلق قبله ...

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) :

.. النفاثات : أظنها جمع نفاثة كعلّامة ، مبالغة مضاعفة ، وهم الذين ينفثون وينفخون بكل ما يملكون من وسائل النفث والنفخ لتنفّج الباطل في غيه ، وفلج الحق في مضيه : ينفثون في عقد الحياة ، التي يعقدها غاسق إذا وقب : فهنا شيطان أول يحقق خطوة أولى : أنه يعقد في نقرته ، يعقد أمرا فيه تعقيد الحياة في أية مجالة من مجالاتها ، ثم شيطان ثان ـ أو شطنة ثانية ـ ينفث فيما عقده الأول ليحكم العقد كيلا ينحل بسهولة.

فالنفاثات تعم قبيلي الرجال والنساء ، دون اختصاص بالنساء ، وتعم السحر وسواه دون اختصاص بالسحر ، وتعم أية نفاثة تستحكم عقد الشر أو تحل عقد وعزائم الخير.


ثم النفاثات : الطاقات التي تنفث وتنفخ في العقد لتنفج الباطل وتوهين الحق ـ إنها على ضروب شتى ، كما العقد تعم عقد الخير والشر ، فمن نفاثات في عقد الخير التي عقدها وحكمها الخيرون ـ ينفخون فيها لتوهينها ومحقها او تبديلها إلى شر ، ومن نفاثات في عقد الشر التي عقدها الشريرون ـ نفخا فيها لنفجها وتحكيمها ، أية عقد من أية نفاثة : من عقد تعقد بها حياة خيرة ، او تعقد عليها حياة شريرة.

فمن النفاثات في العقد السياسية محاولات تبعيد الدين ورجالات الدين عن السياسة ولكي تأخذ مجاريها الشريرة بفتح مجالاتها دونما رادع ولا مانع.

ومن ثقافية تجمد العقول والأفكار على مقالات الأولين من حق لم يكمل او من باطل ..

ومن اقتصادية هي ترك الفحص والبحث عن الأحكام الاقتصادية الاسلامية ، وترك تطبيق الاقتصاد الإسلامي ، اللذان ينفثان في مشكلة الاقتصاد ، ويفسحان المجال للاقتصاد الشيوعي والرأسمالي.

ومن حربية كالتقدم السريع في اصطناع الأدوات النارية ، بحرية وبرية وجوية ومنها الطائرات النفاثة التي نفثت في عقد الحرب ، التي يجب علينا مكافحتها بالمثل اعتداء بالمثل.

ومن عقد عقائدية كالقول بتحريف القرآن بزيادة او نقيصة ، ومن ذلك هنا القول : ان المعوذتين ليستا من القرآن! رغم وجودهما في القرآن المتواتر القاطع ، والسنة القاطعة : انهما من القرآن ومن أفضل القرآن (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤١٦ ـ اخرج احمد والبزاز والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود انه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه انها ليست من كتاب الله ، انما امر النبي (ص) ان يتعوذ بهما وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما ، قال البزاز : لم يتابع ابن مسعود احد من الصحابة وقد صح عن النبي (ص) انه قرأ بهما في الصلاة وأثبتت في المصحف.


ومن سائر الإسرائيليات والكنسيات والوثنيات والمختلقات الزور التي دخلت وتسربت في الروايات ، كما هنا فيما يروى : ان الرسول (ص) سحر ، سحره ابن الأعصم اليهودي في بئر ذروان ، ف «كان يرى انه يجامع وليس يجامع ، وكان يريد الباب ولا يبصره حتى يلمسه بيده» (١).

فنحن نضرب بهذه وتلك عرض الحائط ، مهما كثرت رواتها وقلت رعاتها ، ورغم انها رويت من طريق الفريقين عن النبي (ص) والائمة من اهل بيته (ع) ، فاننا نعتبرها من عقد عقائدية نفث فيها نفاثات الرواة.

كيف لا؟ (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٢٥ : ٩) (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١٧ : ١٠١) فقولة السحر على النبي (ص) قولة فرعونية ظالمة فاتكة يعني توهين الرسالة المحمدية وتهوينها ، ولكي تتطرق فرية السحر إليها كلها ، وساحة هذه الرسالة السامية وسواها براء منها.

فإن السحر أيا كان ، هو من سلطان الشيطان ، وان كان الله لا يصده أحيانا

__________________

ـ وممن روى انهما من القرآن عن النبي (ص) أبي بن كعب وعكرمة ويزيد بن عبد الله الشخير وابن مسعود وعقبة بن عامر وابو حابس الجهني وابو سعيد الخدري وام سلمة ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وثابت بن قيس وقتادة وانس بن مالك وابو هريرة وابن عمر ، أخرجه عنهم اصحاب السنن والمسانيد بطرق متواترة ، وابن مسعود هذا الذي اخرج عنه قولة الزيادة ، سيخرج عنه هنا كما عن غيره من الاصحاب انهما من القرآن ومن أفضل القرآن ، وكما اجمع على ذلك أئمة اهل البيت عليهم السّلام ، كما أخرجه في نور الثقلين (٥ : ٧١٦) عن كتاب ثواب الأعمال عن الامام الباقر (ع) وعن اصول الكافي عن أبي الحسن الرضا (ع) وفيه عن الصادق (ع).

(١) كما أخرجه على نور الثقلين عن كتاب طب الائمة عن الصادق (ع) (٥ : ٧١٨).

وفي الدر المنثور (٥ : ٤١٧ : اخرج عبد بن حميد في مسندة عن زيد بن اسلم قال : سحر النبي (ص) واخرج ابن مردويه والجهني في الدلائل عن عائشة وابن مردوية من طريق عكرمة عن ابن عباس .. وابن مردويه عن انسى بن مالك ، ولقد رووها بألفاظ مختلفة.


(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ولكنه ليس من الرحمان ، فهل ان للشيطان سلطان على حس النبي (ص) وعقله وارادته ، ولحد يخطأ الباب ولا يبصره ويرى انه يجامع ولا يجامع؟ فكيف إذا ينير الدرب لمن يدقه الى الله! كيف يسحر هكذا وهو أول العابدين (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٦٥ : ٤٢).

على انه (ص) معجزة رب العالمين ، بقرآنه المبين وبيانه المتين ، فلو حاولوا ان يسحروه لم يك ليسحر او يتأثر ، اغلبا للسحر وهو سلطان الشيطان ، على المعجزة وهو سلطان الرحمان! والنبي بكيانه معجزة ، كما هو بقرآنه معجزة!.

ثم الرسول (ص) هو بجملته : في ذاته وصفاته وأفعاله وأقواله ، انه عودة من الشيطان وداعية حق الى الرحمان ، فكيف لا يعيذه رب الفلق من شر النفاثات في العقد؟ اجل وقد أعاذه بما انزل في كتابه انه لا يسحر ولن يسحر ، وان تهمة السحر الوقحة عليه قولة الفراعنة الظالمين النفاثين في العقد.

وإذا كان الامام من آل الرسول (ص) كما يقول الامام الصادق (ع):

«لم يزل مرعيا بعين الله ، يحفظه ويكلئوه بستره ، مطرودا عنه حبائل إبليس وجنوده ، مدفوعا عنه وقوب الفواسق ، ونفوث كل فاسق» (١)

فالرسول (ص) وهو امام الائمة بذلك أحرى!

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) :

.. خطوة ثالثة بعد فشل ما سبقتها ، أو لتحكيمها : ألا إنها حسد الحاسدين ، لا في أنفسهم فحسب ، إنما إذا حسدوا.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٧٢٢ عن اصول الكافي


والحسد انفعال نفساني وجاه نعم الله على بعض العباد زائدا على سواهم ، مع تمني زوالها ، ونحن نستعيذ من شر الحاسد إذا حسد : أبرز انفعاله بشكل من الأشكال في النيل من المحسود.

صحيح أن الحسد شر نفساني ، ولكنه لا يتعدى الحاسد إلى المحسود ما لم يحسد ويوجه انفعاله النفسي إلى المحسود.

ولكي نأمن كيد الحاسدين ، علينا أن نخفي النعم المحسود عليها ـ ما أمكن ـ عنهم ، أو نبرد ونخمد نيران الأحقاد بمياه الأخلاق الطيبة والعشرة الحسنة والموعظة الصالحة ، أو ـ أخيرا ـ بل : أولا وأخيرا : نعوذ برب الفلق : .. ولكي يفلق حسد الحاسد ويدفع شره ، وبعد ما كلّت محاولا تنافي دفعه.

إن الحسد ـ أيا كان ـ إنه حماقة وسوء ظن بالله ومعارضة للقدر ، كما عن الرسول الأقدس : «كاد الحسد أن يغلب القدر» فإذ يفضل الله عبدا من عباده على غيره لاستحقاق معروف أم غير معروف ، أم لما يراه من مصلحة فردية أو جماعية ، فالحسد إذ ذاك اعتراض على الله ، فليحاول الحاسد أن يبلغ بسعيه مبلغ المحسود لكي يؤتيه الله من فضله كما آتى المحسود ، إن كان مما يحصل بالسعي تماما ، أو يحاول للوصول إلى ما أشبهه ، وأما أن يجمد على حاله ثم يحسد ويحاول في إزالة النعمة عن المحسود بشتى المحاولات والحيل ، فهذه معارضة فكرية وعملية ضد الألوهية : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٤ : ٥٥) :

نزلت في جماعة من اليهود الذين حسدوا الرسول الأقدس محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم على اصطفائه بالرسالة الأخيرة ، ومن حقدهم على هذه الرسالة السامية أنهم كانوا يفضلون المشركين على المسلمين : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ


بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ..) (٤ : ٥٤).

كانوا يحسدون الرسول كأنهم يملكون فضل الله ، فليستأذنهم الله فيمن يصطفيه رسولا! وهم لا يرضون رسالة إلا في إسرائيل!.

ولقد كانت جماعة من أهل الكتاب تحاول أن ترد المسلمين كفارا : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢ : ١٠٩).

فعلى المحسود ذي النعمة أن يحافظ على ما أنعم الله عليه بفضل سعيه هو وبفضل الله ، ولا سيما النعم الروحية ، ثم يحاول من وراء ذلك أن يجرّ الحاسد إلى ما هو عليه من النعمة ما أمكن ، بتوجيهه إلى السعي اللازم.

وعلى الحاسد أن يخرج من حماقة الطغيان إلى ميدان السعي والإيمان بالله ، فما وصل إليه بالسعي فهو ، وما لم يصل إليه فليثق بالله ولا يتهمه في تفضيل المحسود عليه ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.

وللحسود علامات منها : «يغتاب إذا غاب ، ويتملق إذا شهد ، ويشمت بالمصيبة» ومن مقالات الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في التنديد بالحاسدين : «أما بعد فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات المطر إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان ، فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس ، فلا تكونن له فتنة ، فإن المرء المسلم البريء من الخيانة ما لم يغش دناءة فيخشع لها إذا ذكرت ، وتغرى بها لئام الناس ، كان كالفالج الياسر ، الذي ينتظر


أول فورة من قداحة توجب له المغنم ، ويرفع بها عنه المغرم ، وكذلك المرء المسلم البريء من الخيانة ، ينتظر من الله إحدى الحسنيين : إما داعي الله ، فما عند الله خير ، وإما رزق الله ، فإذا هو ذو أهل ومال ومعه دينه وحسبه ، إن المال والبنين حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله لأقوام ، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه ، واخشوه خشية ليس بتعذير ، واعملوا في غير رياء ولا سمعة ، فإنه من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له ، نسأل الله منازل الشهداء ، ومعايشة السعداء ، ومرافقة الأنبياء».


سورة الناس ـ مكية ـ وآياتها ست

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)(٦)

* * *

ندرس في سورة الناس كيف يجب علينا أن نستعيذ؟ وبمن؟ وممن؟ وما هي الاستعاذة؟ ولماذا تجب؟

أركان الاستعاذة أربعة : المستعيذ ـ المستعاذ به ـ المستعاذ منه ـ المستعاذ من أجله.

وهي على الترتيب : ١ ـ المكلف ـ ٢ ـ الرب الملك الإله ـ ٣ ـ الوسواس الخناس من الجنة والناس ـ ٤ ـ مطلق الشر.

والاستعاذة هي طلب الإعاذة ـ وليس طلبها لفظا باللسان ، ولا عقدا بالجنان ، وليس المقال هنا إلا إشارة إلى الحال : كيف يجب أن تكون حالة الإنسان ـ النفسية والعملية ـ تجاه هذه الشرور؟ إنها حالة الفرار : لفظيا وعقيديا وعمليا بكل ما لديه من طاقات الايجابية ، ولكنها ليست بالتي تعيذه ،


لو لم تدركه الرحمة والعصمة الإلهية ، فعبادة الرحمان وعصيان الشيطان كلاهما بحاجة ماسة إلى تأييد الله وإعانته : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فكما لا عبادة دون استعانة كالعكس ، كذلك لا فرار عن الشيطان دون استعاذة ، كما لا استعاذة دون محاولة الفرار بكل ما لدينا من الطاقات.

هنا نعرف : لماذا يؤمر الرسول بالاستعاذة على عصمته؟ يؤمر بها لأن عصمته منوطة باستعاذته : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١٧ : ٧٤) بعد ما هي مربوطة بمحاولاته لمنتهى المكنة والاستطاعة

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) :

إنه أمر أن يخبر العبد عن نفسه : أنه يستعيذ ، وليست الاستعاذة من مقولة اللفظ ، إنما هو يحكي عنها حكاية صادقة أم كاذبة ، والقرآن لا يأمرنا بالقول الكذب ، إنما يأمر هنا بما تتطلبها هذه المقالة ، من استعاذة عقائدية وعملية : أن نفرّ من شيطنات العقائد والأعمال ، مستعيذين حالها وقبلها وبعدها ، بالرب الملك الإله المتعال.

هذه الاستعاذة تستحضر من صفات الله ما به يدفع الشر ، الوسواس فعلى المستعيذ أن يستظل في ظلال الربوبية : علميا وتربويا ، وفي ظلال ملكيته طاعة واستقامة ، وفي ظلال الألوهية تخضعا وعبادة ، ولكي يعيذه الله تعالى من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.

وفي كل واحدة من هذه الثلاث كفاية لكي نتخذه تعالى وكيلا ومعيذا : يدل على ذلك عدم العطف هنا (.. بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ) فانه» ردف دون عطف ، وكما أفردت بذكر كل واحدة منها في آيات ثلاث : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٣٩ : ٦) (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٧٣٠ : ٩) (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٥٧ : ٥) هذا ـ ولكنما الجمع بين الثلاث هنا ، فيه كمال


العوذ واللواذ بالله تعالى ، وكلما كان الاستظلال في ظل هذه الظلال أوسع وأعمق كانت الاستعاذة أوفق ، فهو بالإعاذة أحرى وأحق (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

(بِرَبِّ النَّاسِ) :

بمالكهم ومربيهم ، الذي يعرف ناسهم ونسناسهم ، يعرف فضائل الأخلاق ورذائلها ، فله أن يخرجنا من الظلمات لأنه يعرفها ، إلى النور لأنه يعرفه ، يعرف الخير والشرّ وكما هدانا إليهما.

وعلى المستعيذ ، من اللاتربية إلى التربية ، أن يستعيذ برب الناس : وليعرف الموازين التربوية ، علمية وتطبيقية ، وليعرف الشيطنات كلها ، ولكي يستطيع الفرار من الظلمات إلى النور ، في ظل ربوبية الرب المعيذ.

إننا لا نستعيذ بالأنبياء ، فهم المستعيذون أيضا كأمثالنا لا معيذون نهتدي بدلالاتهم الرسالية : وإنما نستعيذ برب الناس : رب الرسل والمرسل إليهم ..

ثم قد تكون الاستعاذة ناقصة غير ناجحة ، إذا لم يكن المعيذ ملكا قديرا ، فربّ ربّ يحاول الإعاذة ولكنه لا يملكها ، لأنه ليس ملكا قديرا يدحر الشياطين بقوة ، فكمال الاستعاذة إذا يتطلب أن تكون بملك الناس :

(مَلِكِ النَّاسِ) :

الذي يملك الجنة والناس ، ويملك الخير والشر ، ولكنه ليس منه شر ، إنما يدفع عنه إلى الخير ، فالمحاولات التربوية لا تكفي إعاذة من الشرور واقعيا مهما كانت قوية.

فقد تتطلب قوة للدفع ولتطبيق شريعة الله ودحر الشياطين ، فشريعة الله ليست شريعة علم وأحكام فحسب ، إنها شريعة القدرة والطاقة الجبارة أيضا : إنها نظام وتطبيق ، فالنظام بحاجة إلى تطبيق ، والتطبيق فاشل ما لم تكن سلطة.


ثم إذا واجهتنا القوة المعاندة ، يأتي دور الاستعاذة ب : «بملك الناس» .. الملك الرب ، فلتجابه الطاقات المعاندة بالملكية العادلة.

(إِلهِ النَّاسِ) :

وفي آخر المطاف نعطف بأنفسنا وبهم إلى الإله : طوعا وكرها ، فهو أول المطاف (بِرَبِّ النَّاسِ) وهو آخر المطاف (إِلهِ النَّاسِ) وقد تجب في الوسط السيطرة الملكية لحمل النسناس إلى سيرة الناس ، ولكي يعقلوا أخيرا ويضطروا للخضوع أمام : (مَلِكِ النَّاسِ).

هنا لك تمت الاستعاذة ، وتوفرت شروطها : استعاذة ومستعاذا به ، وليكن الإنسان هو الموضوع ، ويحمل عليه وفي هامشه سائر المكلفين من الجنة وسواهم ، ولا يختص الناس بإنسان الأرض ، إنه يعمه وسواه من إنسان الكون ، في الكرات المعمورة ..

فاختصاص الناس هنا بالذكر ليس إلّا لأنهم من أفضل المكلفين ، فلا يخرج الجن عنهم ، إنما يخرج النسناس من الجنة والناس الذين يستعاذ منهم ، هؤلاء الذين يفقدون التربية الإلهية كأن الله ليس ربهم ، وإنما هو الشيطان ، كما سئل الإمام الحسن عليه السّلام عن الناس؟ فقال : «نحن الناس ، وشيعتنا أشباه الناس ، وسائر الناس نسناس» (١).

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) :

صفات ثلاث للمستعاذ منه ، على عدد الثلاث للمستعاذ به : ثلاث وجاه

__________________

(١) هنا الإمام يشطر بني آدم إلى شطري الناس والنسناس ، وفي الناس أصول وفروع ، فالقادة الهداة المعصومون هم الأصول ، وأشياعهم هم الفروع ، ثم المتخلفون عن شريعة الله هم النسناس ، من الجنة والناس.


ثلاث ، وكما أن جنود العقل والجهل تساوى بعضها البعض عددا وعددا ، خمسة وسبعين بخمسة وسبعين ، كذلك هنا ، إلا في العدد فهما ، لأن الله تعالى لا ينهزم في المعركة ، طالما عباده ينهزمون لو لم يستعيذوا به كما يؤمرون ، وإذا لم يخرجوا من طاعة الشيطان إلى طاعته.

هنا تطلق الصفة أولا : (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) ثم حدود العمل ومجاله : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ثم العامل المحاول في التضليل : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).

فبالصفات تعرف الذوات ، فذات الشرير ، الحيادية ، لا يجب دحرها ، إنما لصفاتها المعادية المتعدية : الوسواس ..

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) : إن المضلل لا يأتيك كمصلل لتعرفه فتحذره فيخيب سعيه ، إنما يأتيك كمدلل ، فيوسوس في صدرك الذي فيه قلبك ، يوسوس إلى صدرك ويجتازه إلى قلبك ، فيملك زمامك في أمورك كلها لو انك فتحت له باب صدرك فقلبك فالوسواس قد يتخفى في الجانب الخفي من كيان الإنسان ، كالنفس الأمارة بالسوء : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٥٠ : ١٦) وكالشيطان (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) (٧ : ٢٠) فالنفس والشيطان يتخفيان في صدر الإنسان الذي هذا الفتحة الاصلية إلى قلبه.

أو أنه جلي في ذاته خفي في وسواسه ، كما الإنسان الشيطان كذلك : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) خفية او جلية.

فالجنة جمع الجان ، آي الخفي ، فتشمل النفس الأمارة بالسوء داخل كيان الإنسان ، والشيطان خارجه ، والناس هم الناس : الوسواس الجلي ، و «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» والشيطان من الجن والإنس ، المنفصل عن كيانك ، لا يقدر ولا يجرو على وسواسك ما لم يجد تجاوبا من شيطانك الداخل «النفس الأمارة بالسوء» فالشيطانان الوسواسان هما المتعاملان المتعاونان في إضلال الإنسان.


وأصل الوسواس هو صوت الحلّي والهمس الخفي ، والوسوسة هي الخطرة الرديئة ، وبما أن الخطرات هي التي تدفع الإنسان إلى مختلف الحالات والانفعالات الخيرة والشريرة ، فليدحر الإنسان عن نفسه الخطرات الشريرة ، المختبئة في صدره ، بكفاح صارم دائم مستعيذا بالرب الملك الإله.

«الخناس» ويزيد الوسواس خطورة وشرا ما إذا كان خناسا : يخفي عنك أنه وسواس ، فالخناس هو المنقبض وهو الكثير الاختفاء بعد الظهور : يحاول في تضليلك خافيا ، فإذا برز لك أنه الوسواس ، فمحاولة ثانية في إخفائه ، إراءة لك أنه يريد صالحك : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) .. غشاوات وغشاوات ليغطي عليك أنه شيطانك ، ويستدل بالعقل وبالآيات والروايات ليفصلك عما يقتضيه العقل وتقتضيه الآيات والروايات ، وعلى حد قوم إمام المتقين أمير المؤمنين علي عليه السّلام : «إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا ، فلو أن الحق خلص من مزاج الباطل لم يكن للباطل حجة ولو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يكن اختلاف ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ، ونجي الذين سبقت لهم من الله الحسنى».

إن الخناس من طبعه أن يختفي أو يبتعد عنك مليا ، إذا ملّ منك وكلّ وخاب سعيه ، ولكنه خناس : يرجع ويرجع في خطوات ومحاولات ، وآخر المطاف أن يأخذك معه شر مأخذ ، فكما هو دائب في تخنسه فلتكن أنت دائب اليقظة والكفاح ، مسلحا بنور المعرفة لتنتصر في المعركة ، فلتذكر الله ربك كلما وضع خطمه على قلبك ، وعلى حد قول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي التقم ، فذلك


الوسواس الخناس» (١).

(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) : إنه كما عرفت مسبقا : هو الجنة الخافية من النفس الأمارة من الجن ، وهو كذلك الناس الذين يتدسسون إلى الصدور كالجنة.

نحن لا نعرف من وسواس الجنة إلا كما عرّفنا الله تعالى بها : عنه وعن لسان الجنة : (.. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٧ : ١٧) (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٦٢).

وما نجده من هواجس ووساوس تتنافس في نفوسنا ، مهما كان الخلط بين وسواس الجن ووسواس النفس ، إلا أنه وسواس.

وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الكثير الكثير ، ونعرف ما هو أشر وأخطر من وساوس الشياطين ، كأنهم أساتذتهم! :

رفيق السوء الذي يوسوس إلى صدر رفيقه من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس لأنه مأمون! وإلى أمثاله من حملة السوء ودعاته بشتى ألوان الدعوة والدعاية : من حاشية الشر للسلاطين ، والنامين الواشين ، وبائعي الشهوات ، وعشرات وعشرات من الوسواسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ويتسربون بها إلى الصدور وإلى القلوب ، وهم شر من الجنة وعلّهم أخفى منهم دبيبا.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٧٢٥ ، وهذا الحديث يبين طرفا من أطراف خنس الوسواس ، وهو آخر المطاف ، إذ يفر من الإنسان الذي حقق الاستعاذة حقا ، ورواه الدر المنثور عن أنس عنه (ص) مثله ج ٦ ص ٤٢٠ ، وفيه عنه (ص): أن للوسواس خطما كخطم الطائر ، فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس ، فإن ابن آدم ذكر الله نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس.


إن حملة الوسواس تخنس في حملتها بألوان عدة علّها تنتصر : تخفي نفسها حالة الوسوسة ، ثم تختبئ إذا قوبلت بحملة دفاعية ، نظرة أن تجد الفرصة سانحة فتدب وتوسوس.

فعلى الإنسان اليقظة الدائمة والنبهة الدائبة ، كيلا يخسر هذه المعركة المتواصلة : يقظة بقوة العقل المتأيدة بوحي السماء ، و (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) إنه لا يحتنك إلا الحمر دون العباد الصالحين (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) فادحر الوسواس الخناس أن أن يستحمرك ويحتنكك ، وكن من القليل الذين ليس للشيطان عليهم سلطان وسبيل والحمد لله أولا وآخرا.

مكة المكرمة في ١٧ محرم الحرام ١٣٩٧

محمد الصادقي

 (تمّ هذا الجزء بعون الله تعالى)


فهرست

«سورة البناء»

نبأ الرسالة الاسلامية وولايتها المستمرة ، نبا للتوحيد والقرآن والمعاد.............. ٩ ـ ١٤

الأرض المهاد ، ووالجبال الأوناد ، وخلق الأزواج ، والنوم السبات ، وفي القرآن العلم الحديث       ١٥ ـ ٢٣

لباس الليل معاش النهار. السماوات السبع الشداد وبناؤها ومادتها............. ٢٣ ـ ٢٨

معصرات الرياح والسحاب والتفريقات الكهربائية بمائها الثجاج.................. ٢٩ ـ ٣

يوم الفصل الميقات ، ونفخة الصور ، وأفراج المحشورين ، وفتح السماء فإذا هي أبواب وتسيير الجبال فإذا هي سراب ٣٢ ـ ٣٩

الخالدون في النار والجنة ، فناء النار مع فناء الباقين فيها بدليل القرآن والعقل.... ٤٠ ـ ٥٠


كتب الاعمال : الضوئية والصوتية ، قيام الروح والملائكة.................... ٥٣ ـ ٦٢

«سورة النازعات»

نازعات سبع ، ناشطات وسابحات .. هل من مدبر غير الله «فالمدبرات امراً»؟.. ٦٥ ـ ٧١

حركات الأرض ، يردون في الحافرة ، فإذا هم بالساهرة....................... ٧١ ـ ٧٨

لطائف في دعوة موسى فرعون ، الآية الكبرى فرعون في تضاد الآلهة........... ٧٨ ـ ٨٦

بناء السماء ورفع سمكها ، دحو الأرض هو تحريكها ، إرساء الجبال............ ٨٦ ـ ٩٢

الطامة الكبرى ، يروز الحجيم............................................. ٩٢ ـ ٩٦

كيف يخاف مقام الرب؟ مرسي الساعة ومنتهاها ، زمن لبت البرزخ.......... ٩٦ ـ ١٠٦

«سورة عبس»

المبوس ليس هو الرسول ، إنما رجل من أمية ، بدلالة الكتاب والسنة والعقل ، قتل الإنسان ما أكفره ، نظر الإنسان إلى طعاميه................................................................... ١٠٧ ـ ١٢٨

الخليفتان لا يعرفان معنى الأب ، فرار يوم القرار عن أقرب الأهلين.......... ١٣١ ـ ١٣٦


«سورة التكوير»

كور الشمس ودورها في مراحل ، انكدار النجوم......................... ١٣٧ ـ ١٤٢

حشر الوحوش ومطلق الحيوان ، وإذ لا تعقل فلماذا الحشر؟............... ١٤٣ ـ ١٤٦

انفجار البحار وتهيج النار فيها ، البنت حاضرها وغابرها في وادها.......... ١٤٦ ـ ١٥٤

نشر الصحف وكشط السماء .. والحضور العيني للأعمال................ ١٥٤ ـ ١٥٨

أقسام ولا أقسام : إنه لقول رسول كريم «محمد» لا جبريل ، وما رآه في الأفق المبين ، وما هي قوته؟ تتاصر القرآن والتوراة في «وما صاحبكم بمجنون»........................................................... ١٥٩ ـ ١٧٩

وما تشاؤون إلإ أن يشاء الله أليس فيه جبر؟............................ ١٨٠ ـ ١٨٣

«سورة الأنفطار»

بعد انفطار السماء وانتشار الكواكب وتفجر البحار وتبعثر القبور : «جلت نفس ما في قدمت وأخرت» ما غرك بربك الكريم؟................................................................... ١٨٤ ـ ١٩٢

خلق الإنسان وتسويته وتعديلل وتركيبه................................. ١٩٢ ـ ١٩٦

هل للإنسان حافظون غير الله......................................... ١٩٧ ـ ١٩٩

«سورة المطففين»

المطففون في الأموال والنفوس ، هل يكفي ظن البعث؟ ما هو السجين والعليين ، وكتاب الفجار والأبرار فيها؟ الحجاب عن الرب................................................................... ٢٠٥ ـ ٢٢٤


بين خمر الدنيا والآخرة ، عرض الحال المؤمنين والفجار بين الجنة والنار...... ٢٢٦ ـ ٢٣٤

«سورة الانشقاق»

شريعة الكدح والعمل ، إلى الرب ولقائه................................ ٢٣٥ ـ ٢٤١

ما هو كتاب اليمين والشمال ووراء الظهر؟.............................. ٢٤١ ـ ٢٤٦

ركوب المسلمين طبقا عن طبق ، وجوب أسماع القرآن حن قرأ............ ٢٤٧ ـ ٢٥٣

«سورة البروج»

قصور السماء : إلهية وملائكية وبشرية................................. ٢٥٥ ـ ٢٥٨

من الشاهد والمشهود؟ قصة أصحاب الأخدود.......................... ٢٥٩ ـ ٢٦٦

قرآن مجد في لوح محفوظ : صيانته عن التحريف......................... ٢٧٠ ـ ٢٧١

«سورة الطارق»

نيازك نارية وطوارق نورية حفاظ النفوس وحفاظها......................... ٢٧٢ ـ ٢٧٤

الصلب والترائب ، وخزائن النطفة الجرثومية وسواها....................... ٢٧٥ ـ ٢٧٦

رجعات أربع للإنسان ، رجع السماء وصدع الأرض...................... ٢٧٧ ـ ٢٧٩

«سورة الأعلى»

تسبيح الإسم؟ الرب الأعلى! غثاء أحوى : الفحم الحجري............... ٢٨١ ـ ٢٨٥


هل نسي الرسول بعض ما أوحي اليه؟.................................. ٢٨٥ ـ ٢٨٩

لا يموت فيها ولا يحيى!............................................... ٢٩٠ ـ ٢٩٣

«سورة الغاشية»

ما هي الغاشية؟ والوجوه الخاشعة؟ والضريع؟............................. ٢٩٤ ـ ٢٩٧

لا لغو في الجنة ، فهل فيها تكليف؟................................... ٢٩٧ ـ ٣٠٠

نظرة إلى الإبل ، رفع السماء ونصب الجبال وسطح الأرض؟............... ٣٠٠ ـ ٣٠٣

«سورة الفجر»

ما هو الفجر وليال عشر والشفع والوتر!............................... ٣٠٤ ـ ٣٠٩

من هم عاد؟ وما هي إرم ذلت العماد؟ وأوتاد فرعون؟................... ٣٠٩ ـ ٣١٢

ما معنى مجيء الرمية ومجهي جهنم ، وما هي النفس المطمئنة؟.............. ٣١٥ ـ ٣٢٠

سورة البلد

لا قسم بمكة؟ : هل هو تكريم أو مهانة؟ وأنت حل بهذا البلد؟ ووالد وما ولد؟ خلق الإنسان في كبد       ٣٢١ ـ ٣٢٧

من ضرورات الحياة إقتحام العقبات : فلا اقتحم العقبة!................... ٣٢٧ ـ ٣٣٠


سورة الشمس

أقسام ثمانية ورباطها لإثبات فلاح المزكين انفسهم وخيبة من دساها : أشقى ثمود وعقر الناقة      ٣٣١ ـ ٣٣٦

سورة الليل.......................................................... ٣٣٧ ـ ٣٤٠

سورة الضحى

أضواء على ضلال الرسول كما تناسب ومحتده ، شريعته قبل الإسلام....... ٣٤١ ـ ٣٤٩

سورة الانشراح

وزر الرسول ليس ذنباً ، بشهادة القرآن ، والعقل ، ؛نه وزر الرسالة ، نصب الخليفة بعد الفراغ     ٣٥٠ ـ ٣٥٥

سورة التين

هل في سائر الخلق تقويم كما للإنسان؟ نعم : قليل!...................... ٣٥٦ ـ ٣٦٠

سورة العلق

بداية الوحي إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم «علق» : هو البحر المنو ، السابحة العالقة فيه الدودات المنوية   ٣٦١ ـ ٣٦٥

مراحل علم الإنسان ، موارد سجدة التلاوة.............................. ٣٦٢ ـ ٣٧٠

سورة القدر

ما هو النازل ليلة القدر؟ ما القدر؟ وما ليلة القدر ، وكم هي؟ أي القرآن نزل ليلة القدر؟ ما هي ألف شهر؟ وهل تستمر ليلة القدر؟................................................................... ٣٧١ ـ ٣٨١


من هو الروح النازل فيها وعل من تنازل الملائكة والروح؟.................. ٣٨٢ ـ ٣٨٥

ما هو كل أمر؟ وما هو سلام القدر حتى مطلع الفجر؟................... ٣٨٥ ـ ٣٨٨

متى هي ليلة القدر؟................................................. ٣٨٨ ـ ٣٩٠

سورة البينة

طهارة أهل الكتاب وعامة الموحدين ، بدليل الكتاب والسنة ، دين القيمة ، اختلاف خلود الكتابي والمشرك في النار  ٣٩١ ـ ٤٠٥

سورة الزلزال

زلزال الأرض وأثقالها ، كيف تحدث الأرض أخبارها : المسجلة الأرضية وشاشتها التلفزيونية ، انعكاس الأعمال وشهودها كما صدرت................................................................... ٤٠٦ ـ ٤١٥

سورة العاديات

عاديات الأفراس والدبابات والطائرات وضبحها!......................... ٤١٦ ـ ٤١٨

سورة القارعة

الحسنات ثقل الميزات والسيئات خفتها ، الموازين هي موازين الإنسانية....... ٤٢٢ ـ ٤٢٩

سورة التكائر

قبور تزور قبورا ، انكشاف الحقائق يوم البرزخ والقيامة ، النعيم المسؤول عنه.. ٤٣٠ ـ ٤٣٦


سورة العصر

مصاديق ومعاني العصر ، دوافع الخسر وروافعه دعائم أربع تضمن حيوية الإنسان ، الصالحو       ٤٣٧ ـ ٤٤٤

سورة الهمزة

الغياب العيّاب ، الحطمة وأشعة «روتتجن»............................. ٤٤٥ ـ ٤٥٢

سورة الفيل

قصة أصحاب الفيل : المقاتلات الجوية بقنابل من سجيل ،............... ٤٥٣ ـ ٤٦١

سورة قريش

سورة الماعون

واجبات المسلم تجاه اليتيم والمسكين ، الصلاة الويل! ماعون الخلق والخالق؟.. ٤٦٤ ـ ٤٧١

سورة الكوثر

مقارنة بين مريم وفاطمة ، كوثر الرسول في ثمان ، إنباءان غيبيان في هذه السورة ٤٧٢ ـ ٤٨١

سورة الكافرون

هل هنا تكرار؟ إنباء غيبي ، لا متاجرة في الدين ، ولا انصاف حاول....... ٤٨٢ ـ ٤٨٨

سورة النصر

إنباء غيبي بفتح مكة قبله ، حروب الإسلام دفاعية لا توسعية ، الكتب المقدسة والحرب ، السيد المسيح


والخرب ، كيف يستغفر الرسول دون ذنب؟ موارد الاستغفار................ ٨٩ ـ ٥٠٠

سورة اللهب

تباب اليد ثم تباب الذات ، حمالة الحطب حبل الليف ـ حبل الشيطان ـ حبل الذهب! ٥٠١ ـ ٥٠٩

سورة الاخلاص

استجواب قادة الأحزاب ، سورة الإخلاص تحمل جوابهم أيّا كانوا وفي أي زمن! إنها تفسر بعضها بعضاً ، الأحدية ومراحلها السبع ، الصمد تنفي عنه كل ما يحق نفيه عنه «هو الله أحد» ذات صفات ثبوتية «الله الصمد ..» : صفات سلبية ، كلمة حاسمة حول الثالوث المسيحي وأضرابه............................................................ ٥١٠ ـ ٥٣٣

سورة الفلق

فلق بعد خلق في مراحل ، شر الفاسق والنفاثات في العقد ، وحاسد إذا حسد ، من النفاثات الطائرات النفاثة الحربية التي تنفث في عقد الحرب............................................................. ٥٣٤ ـ ٥٤١

سورة الناس

أركات الاستعاذة ، الأربعة ، أركان المعيذ ، الثلاث ، جولات الوسواس الخناس ومواقعنا الدفاعية    ٥٤٢ ـ ٥٤٩

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ٣٠

المؤلف:
الصفحات: 560