

الفهرس
انقلاب على الاعقاب في دركات شطرات هامة حول حرب بدر واحد....... ١٩ ـ ٣٣ ـ ٧٥
كيف
«وشاورهم في الامر» وهو نبي وهم المتخلفون في أحد؟................... ٥٨ ـ ٦٥
«هم
درجات عند الله» خاصة المن على المؤمنين بهذا الرسول.................... ٧١ ـ ٧٥
حياة
الشهداء عند الله وسائر الاموات؟....................................... ٨٣
ـ ٨٩
«قربان
تاكله النار» أيسح بالتبذير يوم الأضحى........................... ١٠٩
ـ ١١٣
أركان
أربعة «اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوالله».............................. ١٣٧
ـ ١٤٢
(سورة
النساء) كيف انتشاء النسل في ولد آدم؟............................ ١٤٧
ـ ١٥٩
توصات
بحق التامى................................................... ١٥٩
ـ ١٦٣
ما
هي الرباط بين «ان خفتم الا تقسطوا في اليتامى» وبين «فانكحوا ما طاب لكم من
النساء مثنى وثلاث ورباع؟ قول فصل حول تعدد الزواج ومبرراته ، وهل يجوز التعدد اذا
تساوي الجنسان؟........................... ١٦٣
ـ ٢٠٣
قول
فصل حول زواجات النبي مبرراتها الرسولية والرسالية..................... ٢٠٣ ـ ٢٠٩
صدقات
النساء تحله في بنود............................................. ٢٠٩
ـ ٢١٥
حظر
السفهاء من التصرف في الأموال تحت رقابة الولاية ـ الأموال قيام في أبعاد. ٢١٥ ـ ٢٢٣
واجب
الرعاية التربوية على اليتامى في قول فصل ـ لا يحق للغني اخذ الاجرة على عمل
الولاية والفقير ياكل بالمعروف ٢٢٣ ـ ٢٤١
أنصبه
الميراث في تطورات مرحلية ـ لحاضري القسمة حق من الميراث............ ٢٤١ ـ ٢٦٦
بحث
فصل حول الميرات ـ ولد الزنا يرث؟ والصديقة الطاهرة لا ترث!.......... ٢٦٨ ـ ٢٩٧
الزوجه
ترث من كل المتروكات وحرمانها عما حرمت خلاف كل الأعراف ـ مشاكل حرمانها
حسب
القرآن والسنة................................................... ٢٩٧
ـ ٣١١
بطلان
العول والتعصب كتاباً وسنةً ـ حول الوصية في فروع. أحكام الحيوة...... ٣١٤ ـ ٣٣٤
«فامسكوهن
في البيوت ...» منسوخة بآية النور ـ هل العدالة مشروطة
في
شهود الزنا؟........................................................ ٣٣٦
ـ ٣٥٢
«التوبة»
في مثلث القبول وللاقبول وعوات بينهما.......................... ٣٥٢
ـ ٣٥٩
ما
هوارث النساء كرهاً ـ عاشروهن بالمعروف ـ هل للصداق حد لا يتجاوز عنه؟ ٣٥٩ ـ ٣٧٠
قول
فصل في حرمة المحارم ـ هل يحرم زرق النطفة كحرمة نكاحهن؟ المحرمات من الرضاعة هن ـ
فقط ـ الامهات والأخوات حسب النص..................................................................... ٣٧٢
ـ ٣٩٠
الفارق
بين امهات النساء والربائب في شروط الحرمة......................... ٣٩١
ـ ٤٠١
حلائل
الابناء من غير الاصلاب محّلات أبعاد الجمع بين الاختين يجوز نكاح الاخت دائما
ومنقطعاً بعد اختها المنكوحة منقطعاً ٤٠١ ـ
٤١١
من
هن «المحصنات من النساء» المحرمات.................................. ٤١١
ـ ٤١٧
هل
ان «احل لكم مارواء ذلكم» تنسخ آة النور في حرمة نكاح الزواني؟...... ٤١٨ ـ ٤٢٣
آة
المتعة واحكامها في تضارب الآراء بقول فصل........................... ٤٢٣
ـ ٤٤٧
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَلا تَهِنُوا وَلا
تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
(١٤٠)
وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ
جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
وَما
كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ
كِتاباً
مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ
قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ
قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي
أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ
ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
(١٤٨)
(وَلا تَهِنُوا وَلا
تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ١٣٩.
(وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً) (٤
: ١٠٤)
(فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٤٧
: ٣٥).
والوهن هنا وهن
العزم مهما جاء في أخرى لوهن العظم «رب إني وهن العظم مني ..» (١٩ : ٤) ، فإن
الوهن في سبيل تحقيق الحق وابطال الباطل تهاون بالحق وتعاون في الباطل ، فلا تهنوا
في ملاحقة الكفار ، ولا تحزنوا على ما يلحقكم من أذى الكفار «و» الحال أنكم (أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) عليهم على أية حال (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) بالله عاملين بشرائط الإيمان ، فان (اللهُ مَعَكُمْ) ما دمتم أنتم مع الله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمالَكُمْ) : لم ينقصكم أجرها.
«لا تهنوا» تحلّق على
كل الحقول الحيوية الإيمانية ، مهما نزلت بمناسبات خاصة ، كما يروى أنه «أقبل
خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :
اللهم لا يعلون علينا فأنزل الله الآية» .. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : اللهم لا قوة لنا
إلّا بك وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر فلا تهلكهم وثاب نفر من
المسلمين رماة فصعد وا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله وعلا المسلمون على الجبل
فنزلت الآية .
__________________
هنا «لا تهنوا»
تنزل بعد الهزيمة وبعد الأمر بالعزيمة بملاحقة المشركين ، كما يروى أن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) لما رجع من أحد فلما دخل المدينة نزل عليه جبرئيل (عليه
السلام) فقال يا محمد إن الله يأمرك أن تخرج في أثر القوم ولا يخرج معك إلّا من به
جراحة فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديا ينادي يا معشر المهاجرين
والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ومن لم يكن به جراحة فليقم فاقبلوا يضمدون
جراحاتهم ويداوونها فأنزل الله على نبيه (وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ ...) و (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ...) «فخرجوا على ما
بهم من الألم والجراح» .
هنا (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) تبشر بطليق العلو للكتلة المؤمنة على الكافرين ، علوا في
المواجهة في الحرب الحارة والباردة وفي كل عزة وسودد ، ولكن شريطة كامل الإيمان.
ثم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تهديدة بعدم الإيمان الصالح لمن يهن ويحزن (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).
(أَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ) منهاجا وهّاجا ، وحجاجا مبلاجا في شرعة الله ، فمهما كان
للباطل جولة فان للحق دولة ، كما أن لكتلة الإيمان وراثة الأرض (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
فلا مسّ القرح ولا
القتل يحق أن يوهن صميم عزم المؤمنين فان لهم إحدى الحسينين :
__________________
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ١٤٠.
هنا أسباب تقتضي (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : ١ الإيمان : (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) و ٢ (اللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمالَكُمْ) و ٣ «ان يمسسكم
قرح فقد مس القوم مثله ـ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون» ثم ٤ (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) ومن ثم ٥ (تِلْكَ الْأَيَّامُ
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) ٦ وليعلم ... ٧ ويتخذ ... ٨ وليمحص. أركان ثمانية لذلك
العلو العال ، تحلّق على كافة المعارك الدموية ، وهذه الثمان عدد أبواب الجنة
تحتصر في (إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ) : (قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (٩ : ٥٢).
فأما (تِلْكَ الْأَيَّامُ) فدولة الحق فيها للناس ودولة الباطل للنسناس ، ف «ما زال
منذ خلق الله آدم دولة لله ودولة لإبليس فأين دولة الله أما هو إلا قائم واحد»
، والدول هو النقل
والمداولة هي المناقلة ، ومداولة الأيام بسرّائها وضراءها بين الناس هي مناقلتهما
بينهم دون ان تستقر أيام السراء في ناس وأيام الضراء في ناس آخرين.
ولماذا تلك
المداولة في تلك الأيام وانما الدولة للحق دون الباطل؟
(تِلْكَ الْأَيَّامُ) لا تقصد دولة الحق حتى تداول بين اهل الحق والباطل ،
__________________
وانما هي ايام
السلطة الظاهرة والنصر زمنيا وليس روحيا إذ لا روح لغير المؤمنين فليست الدولة
الظاهرة للباطل ـ وهي جولة ـ تعزيزا لموقف الباطل وتقويضا لظهر الحق ، فانما هي
لمصالح وحكم ربانية يقتضيها دور التكليف ، بما يحصل من تقصيرات لأهل الحق.
(وَلِيَعْلَمَ اللهُ) من العلم : العلامة ، دون العلم : المعرفة ، فالله يعلم
بمداولة هذه الأيام علامة النجاح والفلاح على الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء للحق ،
كما يعلم علامة السقوط على الظالمين (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان ، وعند تقلب الأحوال
يعرف جواهر الرجال ، وكما عرفت يوم أحد وأيام أمثاله.
والواو عطفت على
محذوف معروف من السياق ، ومنه ان هزيمة أهل الحق ـ في الحق ـ ليست إلّا لهزيمتهم
عن الحق كما يرام كما في غزوة أحد ، وما إلى هذه من هزائم هي من خلفيات الهزائم عن
عزائم الإيمان.
فمداولة (تِلْكَ الْأَيَّامُ) بتعاقب الشدة والرخاء إنها محك لا يخطئ ، وميزان لا يتأرجح
، وليست الشدة أشد من الرخاء ، فكم من نفوس أبيّة تتماسك فيها صابرة مثابرة ،
ولكنها تتراخى وتنحل بالرخاء ، والنفس المؤمنة هي الصامدة في الشدة والرخاء على
سواء ، محتسبة عند الله عناءها فيهما ، فلا انتصار بدر يزهيهم مرحين ، ولا انهزام
أحد يهفيهم قرحين.
(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ) اصطفاء ممن علم الله من المؤمنين ، ومقام هذه الشهادة هو
الثالث بعد النبيين والصديقين : (فَأُولئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩).
فالصالحون هنا هم
المؤمنون المعلمون هناك ، فالشهداء منهم هم المصطفون من بينهم ، فليس الشهيد هو من
يشهد الشهادتين ، فكثير هم
يشهدونهما وما هم
بمؤمنين ، ولا من يشهد فعل الواجبات وترك المحرمات ، فإنهم المؤمنون المعلمون ككل (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ) تبعيض ، مهما كان (الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ..) (٥٧ : ١٩) فإنهم
من شهداء الحق عند ربهم حيث هم صديقون في إيمانهم ، وهم درجات عند الله ، ذلك ،
فكذلك الشهداء في الدعاوي حيث تكفي فيهم العدالة او الثقة.
فهم ـ إذا ـ الشهداء
على العالمين يوم الدنيا وعلى اعمالهم يوم الدين : (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٣٩ : ٦٩).
و «الشهداء» هنا
بعد النبيين هم الصديقون وأصلح الصالحين التالين للصديقين كما وهم يتلون النبيين ،
ثم بعدهم أجمع سائر الصالحين كما في آية المنعمين.
وقد تشمل الشهداء
، المستشهدين في سبيل الله المخلصين الذين لا يشوبهم في هذه السبيل أي دخيل ، إلا
مرضات الرب الجليل .
ثم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) دفع لأوهام طارئة كأن يقال دولة الظالمين بمشيئة الله دليل
ان الله يحبهم.
وهكذا يمضي السياق
قدما ليكشف عن الحكمة الكامنة وراء (تِلْكَ
__________________
الْأَيَّامُ) في تربية الأمة المسلمة ، إعداد لها لدور أعلى :
(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) ١٤١.
والفرق بين المحص
والفحص ان الفحص هو إبراز الشيء عما هو منفصل عنه والمحص ابرازه عما هو متصل به من
الخليط والدخيل.
(.. وَلِيَبْتَلِيَ
اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤) ، آيتان لا ثالثة لهما في القرآن تمحصان الذين آمنوا ما في
قلوبهم.
فذلك الاتخاذ وهذا
التمحيص من كتلة الإيمان على مدار الزمن كما ينحو منحى الانتخاب لأخلص المخلصين
وجاه الكافرين منذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ظهور المهدي (عليه السلام)
، كذلك وبأحرى ينحو نحو هذه الدولة المباركة التي يلزمها هؤلاء الشهداء الممحصون ،
من الثلاثمأة وثلاثة عشر رجلا اصحاب ألويته ، ثم ومن العشرة آلاف جنوده الأصلاء.
فان (يَمْحَقَ الْكافِرِينَ) بصورة طليقة حقيقة في محقهم ، ليس إلّا ملئت الأرض قسطا
وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ولا نجد محقهم ـ ككل ـ إلا في هذه الآية وتلك الدولة
الكريمة ، اجل وأصحاب المهدي (عليه السلام) هم من المؤمنين المعلمين الشهداء
الممحصين الصامدين. الماحقين للكافرين عن بكرتهم ، فلا يبقى إلا الموحدون لله مهما
بقيت قلة قليلة من اهل الكتاب الموحدين ، فقد «والله لتمحصن والله لتميزن والله
لتغربلن حتى لا يبقى منكم إلا الأبذر وهو ان يدخل الرجل فيه الطعام يطين عليه ثم
يخرجه قد أكل بعضه
__________________
بعضا فلا يزال
ينقيه ثم يكن عليه ثم يخرجه ثم يفعل ذلك ثلاث مرات حتى يبقى ما لا يضره شيء» .
والتمحيص هو
التخليص من الشوائب الخارجة والدواخل المارجة ، كما المحق هو إنفاذ الشيء تدريجيا
وإزالته عن بكرته حتى لا يرى منه شيء : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ).
فالتمحيص هو درجة
بعد الشهادة والعلم للمؤمنين ، عملية تتم في دواخل النفوس وأعماق القلوب ، كشفا
لمكنونات الشخصيات ، وتسليطا لأضواء على هذه المكنونات تمهيدا لاستئصال كل دخل
ودغل ودجل ، وإيصالا للقلب إلى كامل الصفاء ، دون اي غبش ولا ضباب.
وما لم تحصل تلك
العلامة والشهادة والتمحيص تماما ، لم يحصل محق الكافرين تماما ، فكثيرا مّا خيل
الى المؤمن انه ما حص خالص ، ثم إذا هو يكشف ـ على ضوء التجربة العملية ومواجهة
الأحداث ـ أن في نفسه عقابيل لم تمحّص بعد ، وعراقيل لم تزل فيها ، ومن المصلحة
والحكمة أن يعلم هذا النقص في النفس ليعاود المحاولة في سبكها من جديد ، محقا لكل
العراقيل ، ولكي يقدر على محق الكافرين.
__________________
وهكذا نؤمر زمن
غيبة صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه ان نقطع أطراف الكافرين حتى نكبتهم ونمحقهم
في آخر الأمر ، ولا تحصل هذه البغية الحاسمة إلا بمواصلة الجهاد في سبيل الله
دونما فشل ولا فتور حتى يكمل أمر المحق زمن صاحب الأمر ، فما نحن إلّا معدّين
طريقه عجل الله تعالى فرجه.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ١٤٢.
إن ذلك لحسبان
قاحل (أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ) دونما علامة يعلمها الله عليكم من المجاهدة والمصابرة : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢٩
: ٢)
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ
بِما تَعْمَلُونَ) (٩ : ١٦)؟!
استنكارات تلو بعض تخطئ ذلك التصور العارم انه تكفي المؤمن قولة الإيمان ، أم
وحالته وعمليته كيفما كانت دونما ابتلاء فيها ، كلّا ، فانما هي التجربة الواقعية
، و «يعلم» هنا ـ كما في اضرابها ـ من العلم : العلامة ، لا من العلم المعرفة بعد
جهل ، ف «ان الله هو أعلم بما هو مكونه قبل ان يكون وهم ذر ، وعلم من يجاهد ممن لا
يجاهد كما علم انه يميت خلقه قبل ان يميتهم ولم يرهم موتهم وهم أحياء» .
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ١٤٣.
__________________
«كنتم» قبل
انهزامكم في أحد وبعد انهزام المشركين في بدر (كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ) في سبيل الله (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَلْقَوْهُ) تمنيا قبل الواقعية والتجربة منها (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) في أحد في قتلاكم (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) إليهم يتساقطون ، و «تنظرون» موتكم معهم فلما ذا ـ إذا ـ الوهن
والحزن على هؤلاء الشهداء الأكارم؟.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ ..)! موازنة بين وزن الكلمة : «يا ليتنا كنا معهم» التي يقولها
اللسان ووزن الحقيقة في رؤية الواقع العيان ، فيعرفوا رصيد الكلام بميزان الامتحان
، فيعلموا ان ليست الكلمات الطائرة والأمنيات المرفرفة المائرة وحتى العقائد
العابرة ، ليست هذه هي التي تدخلهم الجنة ، فإنما هو تحقيق القالة والحالة بالواقع
الجبار.
وكان سبب نزول هذه
الآية ان قوما من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ممن لم يشهدوا بدرا او
شهدوا ولم يستشهدوا ـ كانوا يتمنون يوما كيوم بدر يستدركون فيه ما فاتهم من شرف
المسعاة ، وفضل الشهادة المبتغاة ، فلما استنهضوا للجهاد في أحد نكص بعضهم ونكث
آخرون فعاتبهم الله على ذلك وأثنى على الصابرين منهم والقائمين بجهاد عدوهم.
ثم وفي الآية
مسائل ثلاث :
__________________
كيف يرى الموت
وليس الموت مما يرى ، إنما هو واقع يحصل للأحياء فهم مدركوه من غير أن يروه؟ ثم ما
هو النظر بعد الرؤية؟ وهي هو وهو هي! ومن ثم تمني الموت من المؤمن في الحرب يعني
ان يقتله الكافر ، وقتلهم لهم كفر فكيف المؤمنون هكذا يتمنون؟.
١ رؤية الموت هي
رؤية أسبابه لجماعة من المؤمنين الذين لم يقتلوا في الجهاد ، لا الموت نفسه ،
وأسباب الموت الظاهرة في النضال كلها مرئية ، كالطعن بالرماح والضرب بالصفاح ،
والرشق بالسهام والقذف بالسّلام ، وكل هذه مما يرى ، وكما في رؤية إبراهيم الخليل
ذبح إسماعيل : (إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ... قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) وليس تصديقها إلا بتقديم سبب الذبح. ذلك ، ثم وهي رؤية
قتلاهم يتساقطون وهي أحرى بكونها رؤية للموت.
ومن ثم رؤية قتلهم
أنفسهم حين قتلوا ، وهي درك الموت ولمسه في أنفسهم ، ورؤية الموت هنا قد تعني كل
هذه الثلاث.
ثم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قد تعني انتظار الموت المتمنّى ، أم والنظر إلى الميت
القتلى ، أم (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) في بدر ـ إلا موت أنفسكم ـ (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) مثلث الموت في أحد.
وأما أصل التمني
للموت ، فهو ينحو منحى حسنى الاستشهاد في سبيل الله وهي إحدى الحسينين ، ولا ينحو
نحو عملية الكفار ، فللشهادة واجهتان اثنتان ، بذل النفس في سبيل الله من قبل
المؤمن دون تقصد للموت ، وانما يقصد إحدى الحسينين : إماتة الكافر او الموت في
سبيل إماتته وإحياء الإسلام ، وهذه واجهة مقصودة.
والأخرى غير
مقصودة وهي ان يقتله الكافرون ، ابتذالا لنفسه وهدرا فيخسر به المسلمون ويربح
الكافرون ، وتمني الموت في سبيل الله لا يعني إلا
الأولى ، والثانية
هي تمنى الكافر ان يقتل المؤمنين.
ومما يدل على تلك
الواجهة الوجيهة (تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ) دون القتل ، ومهما كان القتل من فعلهم فالموت ليس إلّا من
فعل الله ، فلذلك جاز تمنيهم أن يميتهم الله تعالى في الجهاد ، وهو أعم ـ معذلك ـ من
القتل والموت حتف الأنف وذلك حسن ، وانما يقبح لو تمنوا أن يقتلهم الكفار.
ففي (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَلْقَوْهُ) توسعة لأسباب الموت قتلا وسواه ، وإزاحة لتمني القتل الذي
هو فعل الكفار ، ولمّا يفترق الموت عن القتل يعمه وحتف الأنف كما هنا.
(وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ١٤٤.
لقد خلطت جماعة من
المؤمنين الدعوة بالداعية فزعموا انتهاء الدعوة بقتل او موت الداعية فانقلبوا على
أعقابهم ، كما حصل بالفعل حين نودي في أحد أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) قد
قتل ، وحصل بعده لما توفي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذه الآية
وأضرابها تبيّن أن الدعوة هي الأصيلة الثابتة ، ومهما كان للداعية حرمته ، فالدعوة
الرسالية سلسلة موصولة على مدار الزمن الرسالي ، يحملها الرسل تلو بعض ، فلا تموت
الدعوة بموت داعية لأنها من الله وهو حي لا يموت.
فلما انكشف ظهر المسلمين
في أحد ـ حين ترك الرماة قواعدهم بغية الغنيمة ـ فركبه المشركون وأوقعوا بالمسلمين
وكسرت رباعية الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)
وشجّ وجهه ونزفت جراحه فاختلطت واحتار المسلمون وتفرقوا أيادي سبا فنادى مناد «أن
محمدا قد قتل» .
__________________
ولقد كان لهذه
الصيحة الإبليسية وقعها الشديد المديد على المسلمين ، فانقلب جماعة منهم على
أعقابهم حربيا او نفسيا وهي أخطر وأشجى.
ف (ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) وليس هو المرسل حتى إذا مات ماتت الدعوة كالداعية ، فانما
كيانه ككل انه «رسول» ـ عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم ـ عليه تأدية رسالته كما
حمّل ، ثم عليكم تأديها كما حمّلتم ، فإذا أدى رسالته كما حمّل فلما ذا ـ إذا ـ انقلاب
على الأعقاب إن مات او قتل ، إذ لم تمت الدعوة ولم تقتل بموت الداعية.
(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) خلت دعوة ثم خلت عن الحياة والدعوة باقية ، وكذلك محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) مهما كان
__________________
خاتم النبيين
واشرف الخلق أجمعين.
إن محمدا رسول من
عند الله ، جاء ليبلغ عن الله ، فالله باق وكلمته باقية مهما مات الرسول او قتل
فكيف ترتد جماعة ممن آمن على أعقابهم فينقلبوا خاسرين؟!.
وليس الإيمان
بالرسول والحب للرسول إلا لرسالته القدسية ، فلا يزولان بزواله ، وقد رأينا في
هزيمة أحد أبا دجانة كيف يترّس عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بظهره والنبل
متواتر عليه دون حراك! ، ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون تلو
بعض ، وكل هذه التضحيات حبا للرسول لمكانة الرسالة.
والمؤمنون
الصالحون ، العارفون رسالة الله ، دائمون في الإيمان بها والحب لها مهما مات
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ام بقي حيا ولن يبق ، إذ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ).
والانقلاب على
الأعقاب ليس يعني فقط انقلابا عن الحرب الى المدينة ، فإنهم انهزموا ككل مهما حارب
من حارب حتى النفس الأخير.
إنما الأصل هو
الانقلاب نفسيا الذي صاحبها عند الهتاف «ان محمدا قد قتل» فقتل بذلك الهتاف إيمان
البعض ووهن آخرون ، حيث أحس البعض أن لا جدوى بعد في استمرارية القتال ، وكأن بموت
محمد او قتله انتهى أمر رسالته ، فانتهى ـ إذا ـ أمر الجهاد.
فالارتداد في هذه
المعركة الحربية على الأعقاب هو من خلفيات الانقلاب النفسي الرديء ، ما قل منه او
جل ، فكل تحولة عن حالة الإيمان وقالته وفعلته بذلك الهتاف ، انقلاب على الأعقاب
مهما اختلفت الدركات.
وهذا درس يحلق على
كل الزمن الرسالي ، تسوية بينه وبين الزمن الرسولي ، ان يستمر المسلمون في تمسكهم
بإسلامهم السامي بعد الرسول كما هم متمسكون زمنه ، بل والمسئولية في غيابه اكثر
مما كان في حضوره ، حيث يفقدون الداعية الأولى ، فعليهم ان يجبروا كسر فقده
بمواصلة الدعوة والنضال في بسطها وتحقيقها وتطبيقها.
لقد انقلبت جماعة
على أعقابهم في هتاف أحد ، فقيلت قيلات هي ويلات على الكتلة المؤمنة ، وكما قالوا
قولات هي من رجولات إيمانية.
«قال أناس منهم لو
كان نبيا ما قتل ، وقال أناس من علية أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا ، به وذكر لنا أن
رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال يا فلان أشعرت أن
محمدا قد قتل؟ فقال الانصاري ان كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فأنزل
الله» (وَما مُحَمَّدٌ ..)
.
ذلك ، وقال أهل
المرض والارتياب والنفاق حين فر الناس عن النبي قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول
فنزلت ويقول انس بن النضر في هذه المعركة الصاخبة : ان كان محمد قد قتل فان رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما
قتل
__________________
عليه محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) اللهم إني اعتذر إليك مما يقول هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به
هؤلاء فشد بسيفه فقاتل حتى قتل فانزل الله (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ ..).
وكما انتهى الى
عمرو بن طلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال
: ما يجلسكم؟ قالوا : قتل محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فما
تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله واستقبل القوم فقاتل
حتى قتل .
هنا تنقلب جماعات
على أعقابهم زعم ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل ، ثم انقلبت جماعات من
نفس النمط بعد وفات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما يقول خليفة الرسول علي (عليه
السلام) في خطبة الوسيلة :
«حتى إذا دعى الله
عز وجل نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ورفعه إليه لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من
خنقة او وميض من برقة إلى ان رجعوا على الأعقاب وانتكصوا على الأدبار وطلبوا
بالأوقار وأظهروا الكتائب وفلوا الدار وغيروا آثار الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) ورغبوا عن أحكامه وبعدوا من أنواره واستبدلوا بمستخلفه بديلا اتخذوه وكانوا
ظالمين وزعموا ان من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) ممن اختاره الرسول عليه وآله السلام لمقامه وان مهاجر آل أبي قحافة خير
من المهاجري الانصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف».
__________________
ذلك! والرسول
ذكرهم في خطبة الغدير بما ذكرهم ومنها «معاشر الناس أنذركم أني رسول الله إليكم قد
خلت من قبلي الرسل أفإن مت او قتلت انقلبتم على أعقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن
يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ، ألا وإن عليا هو الموصوف بالصبر والشكر ثم
من بعده ولدي من صلبه» .
ذلك الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) يحتج بكتاب الله ثم خليفته الإمام علي (عليه السلام) ومن ثم
نسمع قرة عينه فاطمة البتول (عليها السلام) تقول في خطبتها حين منعت فدكا «أتقولون
مات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فخطب جليل استوثق منه فتقه وانفتق رتقه وأظلمت
الأرض لغيبته وكسفت النجوم لمصيبته وأكدت الإهال وخشعت الجبال وأضيع الحريم وأزيلت
الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة ولا
بائقة عاجلة أعلن بها كتاب الله جل ثناءه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم ، يهتف في
أفنتكم هتافا صارخا وتلاوة وإلحانا ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله حكم فصل وقضاء
حتم» : (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ
شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) إيها بني قيلة أهضم تراث أبيه وأنتم بمرأى مني ومسمع
ومنتدإ ومجتمع .. .
اجل وكل انقلابة
عن شرعة الإسلام بعد ارتحال الرسول (صلى الله عليه
__________________
وآله وسلم) إلى
جوار رحمة ربه وقبلها انها مشمولة للتنديد الشديد في آية الانقلاب ، فمثلت الزمان
تشمله ، انقلابا في زمنه وبعده زمن الائمة ، وبعدهم زمن الغيبة.
إن الرسول ميت على
أية حال ، فان (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) والناس على ضروب شتى بالنسبة لموته ، فمنهم من انقلب بعد
موته ، ومنهم من ثبت ، ومنهم من أنكر موته وهو بمرأى المسلمين كالخليفة عمر (فلما
توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عمر بن الخطاب (لعنة الله عليه)
فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفى
وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن
عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد ان قيل قد مات والله ليرجعن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ،
زعموا ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات ، فخرج ابو بكر فقال على رسلك
يا عمر انصت فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ايها الناس انه من كان يعبد محمدا فان
محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حيّ لا يموت ثم تلا هذه الآية .
__________________
وترى ظاهرة
التردّد في (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ) لامحة لاحتمال قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه سبّب
موته؟ واضافة القتل الى الموت هي للاجابة على سماح الانقلاب بقتله المسموع ، وتقديم
الموت لمحة إلى انه هو الوارد بحقه ، وأضيف هنا الى القتل لكي يرد على خلفيتهما
المتخيلة وهي الانقلاب على الأعقاب ، وانهما على سواء فيها لو صدقت وحقت.
فلو قال : (أَفَإِنْ ماتَ) لم يرد الاستنكار مورده الواقع وهو ظن القتل ، ولو قال «أفإن
قتل» لم يرد مورد الموت ، فالجمع بينهما يجمع الاستنكار لخلفيتهما المشتركة
المزعومة.
(... انْقَلَبْتُمْ
عَلى أَعْقابِكُمْ) وهي الجاهلية الأولى (وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلى عَقِبَيْهِ) ارتجاعا منكرا الى الجاهلية الجهلاء (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) وانما أضر نفسه (وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ) الصامدين على هذه الرسالة القدسية ، حيث يشكرون هذه النعمة
السابغة في الضراء كما في السراء.
__________________
(وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) ١٤٥.
تلمح هذه الآية
أنه خيّل إلى بعض البسطاء ـ لما سمعوا ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل
ـ أنه قضى نحبه قبل أجله ولمّا يبلغ رسالته تماما؟ وهذه ضرورة رسالية ربانية في
واجب الحكمة العالية التربوية ان يدوم الرسول برسالته في شخصه حتى يقضي ما حمّل
منها دون إبقاء!.
فهذه الآية تؤنب
تلك الجهالة في الآجال ولا سيما أجل الرسول ، مهما كان فيهم قوالون آخرون بالنسبة
لقتلاهم وأنفسهم : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ
لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ..) (١٥٤)
ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ..) (١٥٦).
هنا (وَما كانَ) كما في نظائرها تضرب السلب إلى اعماق الزمن الثلاث ، إحالة
لهذه الكينونة مهما كانت بصيغة الماضي ، إذ لا صيغة سائغة له إلا الماضي الذي
يستقبله المستقبل (أَنْ تَمُوتَ).
__________________
و «نفس» تعم كافة
النفوس الحية لمكان (أَنْ تَمُوتَ) إضافة الى نفس النفس الدالة على حياة. فكما الإحياء بإذن
الله كذلك الإماتة ، فإنهما من اختصاصات الربوبية ، مهما كانت عندنا أسباب لهما ،
ولكنما السبب الأخير لأقل تقدير ليس إلا بأذن الله.
والإذن هنا تكويني
، سواء أكان دون وسيط فهو أمره التكويني ، ام بوسيط كأسباب الموت ـ ميتة وحية ـ فهو
ايضا امره التكويني مقارنا لأسباب الموت.
ثم (كِتاباً مُؤَجَّلاً) قد تكون حالا ل «تموت» فلا موت إلا بإذن الله في كتابه
المؤجل ، فلا يعجل قبل أجله ولا يؤجل عنه ، وبين الأجل المحتوم والمعلق عموم من
وجه.
ولأن «تموت» تعم
الأجل المعلق الى الأجل المحتوم ، إذا ف «مؤجلا» تعمهما ، فكما الأجل المحتوم ليس
إلا بإذن الله ، كذلك المعلق ، مهما كان الثاني بأسباب ظاهرة من خلق الله. فقد ترى
أسباب الموت الظاهرة تتوارد على نفس ولكنها لا تموت ، أم لا ترى أسبابه ، أم ترى
أسبابا لما دون الموت متواردة على نفس ولكنها تموت ، مما يبرهن أن وراء الأسباب
الظاهرة وسواها ـ في حساباتنا ـ للموت وعدمه يتوارى السبب الرباني للموت وعدمه ،
ولا فرار عن الموت بسببه الخفي الرباني ، أجلا محتوما او معلقا ، وإنما الفرار عن
الأسباب الجلية إذا لم يؤمر بها مثل القتال في سبيل الله ، ففيما وراءها تأتي (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ـ (لا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وأضرابها محكمة حاكمة بالحرمة.
وعلّ «الشاكرين»
تعني ـ مع من يريد ثواب الآخرة وهم التجار ـ تعني بأحرى من لا يريد بعمله لا ثواب
الدنيا ولا ثواب الآخرة ، انما يريد مرضات
الله ولو عذّب في
الدارين ، ولا يريد سواها وان عذب فيهما وأثيبت : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) لا جزاء دنيويا ـ ومنه ما بأيديكم ـ ولا أخرويا قرره الله
لأهل طاعته.
(وَمَنْ يُرِدْ ..) ذلك التعقيب يقدم المحتمل الأول في الأجل ، أنه اجل الرسول
الأجلّ (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الدُّنْيا) ارتدادا على عقبيه (نُؤْتِهِ مِنْها
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ) ثبوتا على الإيمان (نُؤْتِهِ مِنْها
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).
(ثَوابَ الدُّنْيا) هنا لذاتها الطليقة ، سمي ثوابا لمقارنته بثواب الآخرة ،
ثم الثواب هو نتيجة العمل أيا كان ، مهما غلب استعماله على النتيجة الخيّرة ، فعمل
الدنيا ينتج لها كما عمل الآخرة لها ، واين عمل من عمل وثواب من ثواب.
وترى الارادة ـ فقط
ـ تخلّف الثواب أيا كان وإن لم تخلف العمل الذي يستحق به الثواب؟ كلا ، بل لا تعني
الارادة إلا التي تستتبع العمل ، فالإرادة التي لا يحول بينها وبين المراد حائل
مسيّر هي العمل محتما.
ثم وترى (مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا) تختص بإرادتها دون الأخرى ، كما (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ) تختص بها دون الأولى؟ ومن يردهما جمعا بينهما يعطاهما كما
في دعاءهم (رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢ : ٢٠١) ـ (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا
وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٣ : ١٤٨)!.
«يرد» في كل منهما
تعني ـ فقط ـ كلا منهما ، ثم ومريد الدنيا للآخرة هو مريد الآخرة ، وحسنة الدنيا
هي الحياة الحسنة التي هي مزرعة الآخرة وليست مزرءة للآخرة حتى تصبح جمعهما جمعا
بين الضدين.
إذا ف (مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا) تعني (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) ـ كما (مَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الْآخِرَةِ) تعني (وَمَنْ أَرادَ
الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ
عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١٧ : ١٩) و (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ
نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها
وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٤٢ : ٢٠).
فمن أقبل على الدنيا
بوجهه كله ونآى عن الآخرة بعطفه ، فكدح للدنيا جاهدا ، ولم يعمل للآخرة صالحا ،
جاحدا ، فهو الذي «يرد الدنيا» دون الآخرة ، ويعاكسه المقبل على الآخرة بعمل
الدنيا والآخرة فانه ممن «يرد الآخرة».
ذلك مهما كان
مريدوا الدنيا دركات ومريدوا الآخرة درجات ، فقد يؤتى كل قدره. ولماذا (نُؤْتِهِ مِنْها) في كلّ منهما والإرادة فيهما طليقة بالنسبة للثواب المراد
دون تبعيض؟.
لأن المؤتى على
أية حال ليس كل الثواب ، فانه موزّع بين أهليه في الدنيا والآخرة ، مهما كان ثواب
الدنيا ضئيلا قليلا أمام ثواب الآخرة الجليل.
و «منها» في الدنيا
قدر ما يسعى لها و (ما نَشاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ) ثم «منها» في الآخرة هو كذلك قدر السعي ولدي الله مزيد (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) : (وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ) بفضل ومزيد.
ذلك ، وأما من
أراد ثواب الدنيا والآخرة ، مستقلا كلّ عن الآخر ، فهو
عوان بين اهل
الدنيا والآخرة ، وله في كل منهما قدر ما قدم لها ولا يظلمون نفيرا.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) ١٤٦.
تنديد شديد مديد
بالذين وهنوا مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أصابهم وضعفوا واستكانوا ،
ثالوث من التخلف عن الإيمان وهم يدّعون الإيمان.
«كأيّن» كلمة
تكثير علّها مركبة من كاف التشبيه وأيّ ، يعني كأي نبيّ ، ولكنها ـ كما يشهد رسم
خطها ـ انقلبت عن معنى الجزئين إلى ما يقاربهما وهو «كم من بني» مما يبين ان كثيرا
من النبيين قاتلوا في سبيل الله وقاتل معهم ربيون كثير.
و «ربيون» جمع «ربي»
وهو العالم الرباني ، ام مطلق الرباني ، وهو أصل عبراني يعني الأمم الربانية
المتربية بالتربية الرسالية ، و «ربّوني» (يوحنا ٢٠ : ١٦) لغة عبرانية تعني المعلم
وهي من الألقاب المعزّرة اليهودية.
والفارق بين
السلبيات الثلاث ان الوهن هو ضعف الإرادة والتصميم ، (فَما وَهَنُوا لِما
أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) من جرح وقرح وقتل او انهزام ، فقد واصلوا في قتالهم
كمسئولية شرعية مهما كانت النتيجة الهزيمة الظاهرة ، أم وقتل أنبياءهم ، إذ هم
ميزوا بين الدعوة والداعية.
والضعف يعني
انكسار القوات الظاهرية ، فلم يؤثر «ما (أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) من مصيبات وهنا في أرواحهم وضعفا في أجسامهم ، فحاربوا في
الإصابات كما كانوا يحاربون في غيرها.
ثم (وَمَا اسْتَكانُوا) من سكن ، فالاستكانة هي طلب السكون ، تركا للدعة نتيجة
الضراعة والضآلة ، فهي السكون أمام العدو ليفعل به ما يريد ، دونما حراك في العراك
، ام من الكينة وهي الحالة السيئة ، كنية سوء وخيبة ، فما طلبوا هذه الحالة لهم من
عدوهم تخاذلا أمامه والتجاء اليه ، فليست من الكون ، بل هي بين السكون والكينة
ولكلّ وجه ادبيا ومعنويا ، ولكن الثاني أصح ام هو الصحيح ولا سيما ادبيا .
ولقد حصل كل هذه
الثلاث لبعض الحاضرين في أحد ، وهنا وضعفا واستكانة ، وهنا يوبّخون على هذه
الوقيعة الوقيحة تحريضا لهم ان يستنوا بسنة الربيين الكثير الذين قاتلوا مع نبيين
كثير :
(وَما كانَ قَوْلَهُمْ
إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا
وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) ١٤٧.
ذلك قولهم وهم على
ما هم عليه من صامد الإيمان وثابت الاطمئنان ، استغفارا لذنوب وإسراف لا يخلو
عنهما كلمهم غير من عصمه الله وهم المعصومون بعصمة الله ، ثم تثبيتا لأقدامهم في
معارك الكرامة ، وانتصارا على القوم الكافرين.
(فَآتاهُمُ اللهُ
ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ١٤٨.
(ثَوابَ الدُّنْيا) هو حسنة الدنيا حيث تناسب الآخرة ، ثم (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) هو فضل الثواب فوق عدله لأنهم محسنون ، فلا بد من الإحسان
إليهم (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ).
__________________
ومن ثواب الدنيا
هنا الغنيمة وانشراح الصدر والثناء الجميل وتثبيت الأقدام والنصرة على القوم
الكافرين.
ومن لطيف التعبير
وعطيفه هنا بعد اعترافهم بالإساءة بحضرة الربوبية تطامنا وتذللا ، أنه تعالى سماهم
محسنين ، حيث الاعتراف بالقصور والتقصير إحسان في حقل العبودية ، كما الاستكبار عن
ذلك إساءة بحضرة الربوبية ، مهما لم تنله سوء ولا أذى.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ
مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ
وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
إِذْ
تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما
أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ
وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ
ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ)
(١٥٥)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩)
بَلِ
اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)
(١٥٠).
لقد طال الحديث
حول الهزيمة في أحد حيث أخذت ابعادا عميقة في نفوس المسلمين وفي صفوفهم ، فانها
كانت الهزيمة الأولى بعد انتصارهم العظيم ببدر وانتظارهم العميم ان يهزموا على طول
الخط ولا ينهزموا.
لذلك نرى السياق
يستطرد في أخذ المؤمنين بالتأسية تارة وبالاستنكار اخرى ، وبالتقرير ثالثة وبالمثل
رابعة ، وبالتحذير عن الخلفيات المحظورة للهزيمة خامسة وهكذا الأمر.
فهنا ينهى الذين
آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا كيلا يرتدوا على أعقابهم فينقلبوا خاسرين ، وترى هلّا
تكون طاعة الكفار في نفسها انقلابا على الأعقاب حتى يحذر عنها حذرا عن خلفيتها
الانقلاب ، ثم وما هي الطاعة المنهية هنا؟.
إنها طاعة في قولة
او فعلة تنجر الى الارتداد عن صالح العقيدة ، كما أن خطوات الشيطان تقدمات للإشراك
بالله أو الإلحاد في الله.
والمستفاد من
الآيات التالية أنها طاعتهم في اللحوق بهم واللجوء إليهم حتى يأمنوا بأسهم او ينصروهم (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ) وطاعتهم فيما أرعبوهم عن أنفسهم وأرغبوهم عن قتالهم : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ ..) وتأثرهم بقالتهم «لو كان محمد رسولا لم ينهزم».
وعلى أية حال
فطاعة الكفار ولا سيما حال الهزيمة العظيمة كهذه ، تخلّف
__________________
ردا على الأعقاب ،
فلا طاعة إلّا لله ورسوله (بَلِ اللهُ
مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ).
لقد انتهز الكفار
ـ من مشركين ويهود ـ الفرصة الفريسة في تلك الهزيمة العظيمة القريصة ليثبطوا عزيمة
المؤمنين عن مواصلة القتال ، ويخوفوهم عاقبة أمرهم مع الرسول المنهزم ، وجو
الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب وخلخلة الصفوف وزلزلة الايمان والاطمئنان.
فقد يخيّل إلى
ضعفاء النفوس من المؤمنين إمكانية الحفاظ على إيمانهم مع الانسحاب وقتيا إلى
الكفار حتى تضع الحرب أوزارها ، وذلك وهم كبير خطير ، فإنه ارتداد إلى الأعقاب
شاءوا أم أبوا ، وان لم يحسّوه في الخطوة الأولى.
(سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١٥١).
ذلك تأمين لقلوب
المؤمنين القريحة عن الهزيمة ، وتحريض على مواصلة القتال ، وقد رجع ابو سفيان
والمشركون بعد أحد إلى مكة ثم ندموا واعتزموا الرجوع فألقى الله في قلوبهم الرعب
فرجعوا الى مكة فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أبا سفيان قد أصاب منكم
طرفا وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب .
__________________
ذلك ، والقلب
الخاوي عن الإيمان ، المليء من الشرك ، مرعوب أمام القلوب المؤمنة المطمئنة بطبيعة
الحال ، ما قدّم المؤمنون شرائط الإيمان والتزموا بها.
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ
فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
(١٥٢).
ويا له من تعبير
قدير نحرير حيث يرسم مشهد الحرب كما هو ، فلا يذر حركة في الميدان ، ولا خاطرة في
النفوس ، ولا سمة في الوجوه ، ولا خالجة في الضمائر إلا ويثبتها ، وكأن العبارات
شريطة تحمل صوت المعركة وصورتها وسيرتها وكل ظاهرة منها او باطنة.
«ولقد» تأكيد ان
اثنان أن (صَدَقَكُمُ اللهُ
وَعْدَهُ) حيث وعدكم ان يمدكم بعد بدر (بِخَمْسَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) شرط أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا.
(صَدَقَكُمُ ...إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) وهو من الحسّ : إصابة الحس ، فقد أصبتموهم بحسهم إذ يرونكم
اكثر مما كنتم تحسّبا أنّ الملائكة المسومين منكم ، حيث سوموا وعلموا أنفسهم كل
علائم الجندي المحارب في صفوفكم.
وإصابة ثانية هي
إبطال حسهم عن بكرته قتلا ، فان «حسّه» تعني أصاب حسّه وتلك الإصابة المزدوجة هي
المعنية من «تحسونهم» دون القتل فقط
__________________
فانه صيغته نفسه ،
ولا الاصابة الاولى فقط فان صيغتها هي نفسها ، بل هو مثنى إصابة الحس قضية بلاغة
التعبير ولباقته : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ) حيث الإصابتان هما من فعل الله كما وعد ، وليست القلة
القليلة عدة وعدة مما تأتي بواحدة منهما.
وذلك الحسّ كان
مستمرا في أحد (حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ) : ثالوث منحوس من التخلف عن قواعد الحرب وقوائدها.
فلقد «فشلتم» عن
مواصلة المقام في مقاعدكم المقررة ، ففشلتم عن الحرب (وَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ) أمر المقام وأمر القيام «وعصيتم» امر الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) وهم أولاء الذين تركوا مقاعدهم إلى اكتساب الغنيمة بعد انهزام
العدو (مِنْ بَعْدِ ما
أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من الإنتصار الذي كنتم له بانتظار ، والغنيمة المتروكة بعد
الانتصار.
وقد تعني (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) ـ فيما عنت ـ الإنتصار في بدر ، كما تعنيه ـ فيما عنت ـ (لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ).
وما ذلك الفشل
والتنازع والعصيان إلا لأن (مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيا) تاركين المقاعد المقررة إلى الغنيمة ، فاغتنمه المشركون
فتراجعوا عن هزيمتهم إلى عزيمتهم للانتصار.
ثم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فالأولون انجرفوا الى ذلك الثالوث المنحوس والآخرون ابتلوا
ببلاء الهزيمة ولكنهم ظلوا صامدين.
(ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) والصرف هنا هو الإبعاد عن مواصلة القتال ، وترى كيف ينسب
ذلك الصرف إلى الله والانصراف عن قتال العدو محرم في شرعة الله؟.
إن ذلك الصرف هو
من فعلهم لما انجرفوا في هوّة الثالوث : فشلا وتنازعا
وعصيانا ، وهو من
فعل الله حيث ترك نصرهم بالملائكة المسومين ، ووكلهم الى أنفسهم.
كما انه ـ كذلك ـ صرف
جماعة آخرين عن مواصلة القتال لمّا وهنوا وحزنوا بما انهزموا وظنوا بالله الظنونا
، صرفا بصرف ، حرفا بحرف ، هنا وهناك جزاء وفاقا.
(صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) لأنكم انصرفتم : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ
اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ (لِيَبْتَلِيَكُمْ) امتهانا للمتخلّفين وامتحانا للصامدين (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بعد ما وبخكم لأنكم كنتم مقاتلين في سبيل الله مهما اخطأتم
فإنكم ـ بعد ـ مؤمنون (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
(إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ
غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
(١٥٣).
صرفكم «إذ تصعدون»
ليبتليكم «إذ تصعدون» وعفى عنكم «إذ تصعدون» ف «إذ» تتعلق بكل هذه الثلاث توافقا
لأدب اللفظ والمعنى.
والإصعاد خلاف
الصعود كما الإضراب خلاف الضرب ، فهو الانصراف والذهاب بعيدا ـ هنا ـ عن المعركة
فرارا دون قرار ، لا سيما وهم زاعمون أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قتيل.
(تُصْعِدُونَ وَلا
تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) من اللّي : الالتفات ، وهنا الالتفات على أحد دون «إلى احد»
لتعني خلاف اللفتة الحربية ، فهم حين الذهاب لم يلتفتوا على أحد من المشركين
ليواصلوا في قتالهم فانما أدبروا إدبارا وفرارا.
ذلك «و» الحال ان (الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) إذ كان يلاحقكم
منبها انه حي
قائلا : «إلي عباد الله ارجعوا إلي عباد الله ارجعوا»
، ولأنه لم يصعد
ما صعدوا فهو ـ إذا ـ في أخراهم من جهتين.
وقد تلمح «فأثابكم»
أنهم استجابوا له فرجعوا ـ وكما في الأثر ـ وقالوا : والله لنأتينهم ثم لنقتلنهم
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهلا فانما أصابكم الذي أصابكم من أجل
انكم عصيتموني ، (فَأَثابَكُمْ غَمًّا
بِغَمٍّ ..) وترى ما هو الغم المثاب به ، ثم ما هو المبدل عنه؟.
الأمر الذي لا بد
منه في الغم الأوّل أنه هو الغم الثواب الصواب حيث يخلّف سلب الحزن على ما فاتكم
وما أصابكم ، فتراه الندم على ما فشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوا الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)؟ وليس الندم وحده هو الذي يزيل الحزن على الفائتة والمصيبة وإن
كان يخففه!.
ولكن المبدل عنه
وهو بطبيعة الحال غم قتال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يجاوب الندم
على ما كان ، تناصرا في إزالة الحزن ، مهما كان بضمنه غم الهزيمة وانفلات الغنيمة.
فالغم الثاني هو
انفلات الغنيمة والهزيمة العظيمة والإصابة الفادحة ، وكل ذلك أمام غم الرسول
الإمام لا يحسب بشيء ، فلقد تناسوا الحزن على ما فاتهم
__________________
وما أصابهم لما
علموا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حي بعد ، فلهم رجاء استمرارية النضال
وجبر كل انكسار في تلك الهزيمة.
إن الحزن على كل
فائتة صالحة ومصيبة فادحة ، هو طبيعة الحال للإنسان أيّا كان ، ولأن ذلك كتاب وليس
ليخطأ المصاب ـ سواء أكان بفعل الله فقط ام وبما قدمته نفسه ـ فلا دور للحزن عليه
ف (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها ... لِكَيْلا
تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ...) (٥٧ : ٢٣).
ولكن غم الأسى على
ما مضى من الفشل والتنازع في الأمر وعصيان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي
خلّفت فوت الغنيمة والنصرة وفادح الإصابة ، ذلك الغم المقارن باستبشار حياة الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) مما يزيل وينسي كل «ما فاتكم وما أصابكم».
فالغم الأول بديلا
عن الثاني ومسببا عنه مع ذلك الاستبشار يحقق تلك السلبية الصالحة : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ
وَلا ما أَصابَكُمْ) فكل نقمة أمام هذه النعمة منفية مطفية ، فإن حياة الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) هي فوق كل غنيمة ونصرة.
إذا (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) تعني ـ بصورة مختصرة ـ غما هو الندم على ما قصرتم وزعمتم
وظننتم ، بغم هو زعم انتقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وواقع الهزيمة
وانقطاع الغنيمة ، وما أعمقه ندما على ما قصّروا والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
حي وهم يزعمون أنه قد قتل ففشلوا وأصعدوا ،
__________________
حتى أدركهم في
أخراهم وهو يناديهم : «إلي عباد الله ارجعوا ..».
ويا لها من إثابة
مصيبة دورها في تناسي كل حزن ومصيبة ، كما وان فتح مكة المكرمة أنسى كل المآسي
السابقة عليه واللاحقة به ، فأين ذلك الفتح المبين ، وتلكم المآسي بحق الرسول
الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم).
اجل (فَأَثابَكُمْ غَمًّا) هو الثواب الصواب بعد الهزيمة وحين الإصعاد ، ذلك الغم
المنبه المريح بعد التأكد من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سكونا نفسيا
بعد الاستكانة حيث تابوا الى ربهم وثابوا الى نبيهم ، ومن ثم شملهم نعاس لطيف فيه
خلاص عما تعبوا :
(ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً .... ١٥٤)
هنا انقسم الذين
مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى قسمين طائفة الفضيلة: (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) وطائفة الرذيلة : (وَطائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ..). فالطائفة المغشوة بالامنة النعاس بعد إثابة الغم ، هم
المثابون بالغم المصيبون في أقوالهم وأحوالهم وأعمالهم بعد إثابة الغم ، حيث تابوا
وثابوا ، وقبلهم الذين صمدوا دون اي تقصير ، وثالث هم الطائفة الثانية في هذا
العرض : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ ...) لا نفس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا نفيس دعوة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فانما (أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ)
.
__________________
و «أمنة» هي الأمن
ذي الحراك ، تعني حالة آمنة مطمئنة ، و «نعاسا» هي بدل عن «أمنة» او عطف بيان أم
صفة ، وهي على أية حال تضيق دائرة الأمنة بالنعاس والنعاس بالأمنة ، فقد ينعس
الإنسان دون أمن نعاسا من شدة الفتور والمرض ، ولكنه نعاس يؤمّن.
فالنعاس ظاهرة باهرة
من رحمات الله ، فحين يلمّ بالمجهدين المرهقين المفزعين وإن لحظة واحدة يفعل في
كيانهم فعل المعجزة حيث يردهم الى حياة جديدة ، ويسكب في قلوبهم الأمنة وفي كيانهم
الراحة .
وهنا تتقدم «أمنة»
على «نعاسا» وفي بدر يتعاكسان : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٨ : ١١) واين
أمنة من أمنة ونعاس من نعاس ، طالما يتشاركان في نازل النعمة الربانية رحمة على
المسلمين.
ولقد غشاهم ـ كلهم
ـ النعاس أمنة منه يوم بدر ، وتفرقوا في أحد إلى ثلاث : منهم من نعس دون تغشية وهو
السنة قبل النوم ، وآخرون بتغشية هي كامل النوم ، ف (يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ) تعني أن الاخرى نعست دون تغشية ، وثالثة لم تنعس وهي التي (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ).
ثم «وطائفة» هنا
مبتدء خبره «يظنون» ووصفه (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) فهم خارجون عن النعاس وغشيانه.
__________________
أترى هذه الطائفة
الأخيرة هي من المؤمنين؟ وقد (أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) لا رسول الله ولا شرعة الله! ثم المواصفات التالية لا
تناسب صادق الايمان ولا أصله!.
ام هم المنافقون
أصحاب عبد الله بن أبي الذين تخلفوا عن حرب أحد منذ البداية؟ وهم ليس بمغفور لهم (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ
اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥)! وانما
ذكروا بعد في (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ
ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧) وتلك الطائفة قد شاركت في القتال مهما تخلفت قبل الهزيمة
وفشلت بعدها وكما تؤيده (لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) و (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ..) واصحاب ابن أبي رجعوا الى المدينة قبل الحرب فكانوا في
بيوتهم عندها ، فلا تصدق في حقهم الآيتان.
فهم إذا ضعفاء
الايمان ، لا مؤمنون تماما ولا منافقون تماما ، بل هم عوان بينهما ، طائفة متزعزعة
الايمان حيث شغلتهم أنفسهم وأهمتهم إذ لم يتخلصوا بعد من تصورات الجاهلية وهم
مؤمنون ، وليس انهم تخلوا من الله عن أولياءه لأعدائه ، ولا قضاء منه سبحانه عليهم
بالكفر والنفاق ، وإلا لم يشاركوا في النضال.
إنهم بعد في قلق
وتأرجف ، يحسون أنهم ضايعون فيما هم يجهلون ، فيظنون بالله غير الحق انهم مندفعون
في هذه المعركة الصاخبة اندفاعا دونما تصميم واضح ولا هدف صالح إذ لم ينصرهم الله
فانهزموا أذلة صغارا.
وهنا مواصفات لهذه
الطائفة تقرر موقفها العوان :
١ (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) فهم مهما دخلوا في معارك الشرف والكرامة ولهم
حظ من الايمان
ولكنهم عند البلية (أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) حفاظا عليها وجلبا لمصلحياتها النفسية ، فلا يدينون دين
الحق إلا لأنفسهم لأنه عامل غير مغلوب ، يدورون معه ما درت عليه معايشهم فإذا
محصوا بالبلاء قل الديانون.
٢ (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ
ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) والظن بالحق المطلق غير الحق هو من أنحس الظن وأتعسه ، وهو
ظن الجاهلية الناكرة لوحدة الربوبية ، ظنا انها مقسمة بين أرباب عدة ، فلنا إذا من
الأمر شيء!.
٣ (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ
مِنْ شَيْءٍ) امر التشريع وامر الشرعة وامر التكوين ، ومن الأخير امر
الغلبة كما من الثاني امر الحق ، وإذا كان لنا كمسلمين من أمر الغلبة شيء فلما ذا
الهزيمة الفادحة؟ وإذا كنا على الحق فلما ذا غلب الباطل علينا؟ (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) فإذا (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) وأنت رسول ، فبأحرى ليس لهم من الأمر شيء وهم متخلفون عن
أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي استئصال الأمر عنهم كلهم لله دليل على
المعني من الأمر هنا انه أمر الله ، فلا بد وأن يشركنا الله به في بعض أمره ومنه
الغلبة على أعداءه ، ف «هل لنا» اعتراض على فاعلية الإيمان ، كأنه لا فاعلية له
فالمؤمن وسواه سواء في الغلبة وسواها ، فإنما لكلّ أسبابه المتعودة دون نصرة من
الله خاصة لقبيل الايمان!.
ف (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) إجابة عن هذه الجهالة الفاتكة وايكال للأمور الخاصة بالله
الى الله ، ثم الله ينصر المؤمنين إن أقاموا شرائط الايمان ، وحين يصبح الإيمان في
هوّة السقوط أمام اللّاايمان ، والمؤمنون موفون بشرائط الايمان فقد ينصرهم الله
كما نصرهم في بدر وهم أذلة.
٤ (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا
يُبْدُونَ لَكَ) ونحن قد نبديه لك لتعرفهم وهو :
٥ (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) و «هل لنا ..»
استفهام إنكار في مظهر الشك ، ولكنهم يخفون (لَوْ كانَ لَنا) حيث أحالوا أن لهم (مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ).
وقد يعنون بالأمر
هنا أمر الإنتصار او الحق او تحقيق وعد الله ناكرين أنه لهم خلاف ما وعد الله ، و (ما قُتِلْنا هاهُنا) قد تعني ما وقعنا في موقف القتل بعد الهزيمة ، حيث القتيل
ليس له هكذا قول ، أم وتعني ما قتل من قتل منّا وقد قتلوا ، والجواب :
(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ
فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ ..) فليس القتل صدفة عمياء وفوضى جزاف ، إنما هو مكتوب كما
الموت ، يحصلان عند أجلهما شئت أم أبيت : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ
الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً.
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ ..)
(٤ : ٧٨).
أجل ، وإن القتال
في سبيل الله لا يعجّل أجلا ، كما الفرار من الزحف او عدم المشاركة فيها لا يؤجل
عجلا ، فالأجل بمحتومه ومعلّقه مكتوب عند الله ، وليس لنا أو علينا إلّا المضي في
طاعة الله مهما كلف الأمر.
فالحذر في غير
الصواب لا يدفع القدر ، والتدبير فيه لا يقاوم التقدير ، فالذين كتب عليهم القتل
أو الموت لا بد لهم ان يقتلوا أو يموتوا على أية حال في الوقت المقدر لهما.
وهنا سئوال يفرض
نفسه هو انه لو انحصر الموت بإذن الله دون تدخل للأسباب المقدمة له منا ، فلا
علينا أن نتعرض لأسباب الموت والقتل على أية
حال ، وليس القاتل
ـ إذا ـ إلّا عاملا من عمال الله في إذنه للموت؟.
والجواب أن الأجل
بين محتوم ومعلّق ، ولا مرد للمحتوم سواء خرجت من بيتك في سبيل الحق او الباطل ،
فقد يأتيك الأجل المقرر.
فالتارك للقتال
خوفة عن القتل ليس يتركه الأجل المحتوم بتركه وسواه.
وأما الأجل المعلق
، فقد يعلق على محظور محذور كالاسباب المحرمة للموت فحذار حذار منها ، فان مات
بذلك الأجل فبتقصيره تكليفا وإذن الله تكوينا ، وقد لا يأذن فلا يموت ، او يعلق
على سبب مشكور فبتطبيقه واجبه امام الله وبإذن الله ، وقد لا يأذن فلا يموت.
فالموت بأجل معلق
على تشريع الله وتكوينه موت محبور حيث اذن الله كالقتيل في سبيل الله ، وهو معلقا
على اجل في التكوين دون التشريع محظور إذا كان باختياره ، وهو لا محبور ولا محظور
إذا لم يكن باختياره.
ففي ملتقى
المشيئتين الإلهيتين للموت هو مشكور وصاحبه شهيد ، وفي مفترقهما ان يموت دون اذن
في شرعة الله فليس مشكورا وهو محظور إن أقدم عليه بعلم واختيار.
وترى (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) كتابة شرعية؟ وقتل المؤمن في الجهاد هو فعل الكافر فكيف
كتب؟ إنها كتابة تكوينية بما يعلم الله ان نفوسا يموتون عند أجلهم قتلى ، ولا
تنافي هذه الكتابة في علم الله وتقديره إختيار المتقاتلين في القتال ، فلا القاتل
مسيّر ولا المقتول ، بل هما مخيران في أسباب القتل وانما الموت المسبب عنه بيد
الله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) ، وهو كتابة شرعية حيث امر الله ، فالشهادة هي مجمع
الكتابتين.
ذلك ـ (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي
صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) في هذه المعارك المكتوبة عليكم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).
فليس كالمحنة محك
يبتلى بها ما في الصدور ويمحّص ويصهّر ما في القلوب ، فتنفي عنها الزيف والرئاء ،
ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء ولا أي خفاء ، وهذا هو حق التصحيح للتصور فلا يبقى
فيه غبش ولا خلل ولا أية علل.
(إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ)
(١٥٥).
المتولون هنا هم
الرماة العصاة الذين تركوا مقاعد القتال التي قررها عليهم رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أم واضرابهم ، لا والمنافقون فإنهم انحازوا قبل التقاء الجمعين ، فهم
أولاء الموصوفون في آية مضت وأضرابها ، فلم يكونوا هم من المنافقين المعاندين (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ
بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) في معركة نفسية ، فتخلوا في معركة الميدان ، فلذلك (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) إذ لم يكونوا معاندين (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ) ، يغفر ويحلم ما له موضع صالح ، والمؤمن مهما أخطأ ببعض ما
كسب فاستزله الشيطان ، فهو بعد مؤمن ، ليس كافرا ولا منافقا معاندين ، وكما
يخاطبون في آيات تالية بخطاب الإيمان.
وهذه ضابطة ثابتة
ان كل زلة تخلّف زلة أخرى إلا ان يتاب عنها ، فمكاسب السوء غير المنجبرة بالتوبة
تستزل أصحابها في اضرابها ، وبأسوء وأنكى.
ولعلّ من بعض ما
كسبوا هنا ما جال في نفوسهم أن رسول الله (صلى
__________________
الله عليه وآله
وسلم) قد يحرمهم أنصبتهم من الغنيمة فاستزلهم الشيطان بهذه الزلة التي كسبوها ،
فعصوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتركوا مقاعدهم .
ذلك ولكن الآية
تصور صورة دائمة للنفس البشرية حين ارتكاب الخطيئة أنها تفقد ثقتها في قوتها ويختل
توازنها وتماسكها فتصبح عرضة لكل عارض من الوساوس والهواجس وعندئذ يجد الشيطان
سبيله الى هذه النفس الفاترة ، فيقودها إلى زلة بعد زلة ، حتى ينقطع بهم في تيه
الضلالة ومتاهة الغواية.
وانما (عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) هنا زلتهم بعد زلة لأنهم بعد مؤمنون مهما أخطأوا ، وتاركون
لقسم كبير من الكبائر وهم في خضمّ القتال في سبيل الله : ف (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا
__________________
وَما
قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ
مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
إِنْ
يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ
عِنْدَ
اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)
(١٦٤)
هذه الآيات هي
سنادات أخرى بعد ما قدمنا هنا ، على أن (الَّذِينَ تَوَلَّوْا
مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ..) و (طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) هم كانوا من المؤمنين لا المنافقين ، فالمنافق لا يخاطب
أبدا بخطاب الإيمان ، وقد يخاطب بخطاب الكفر ، إذ هو كافر في قلبه مهما كان مسلما
بلسانه فليس من المؤمنين.
والمنافق لا يشاور
بحضرة الرسالة وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشاورهم ضمن سائر
المؤمنين فان (لِنْتَ لَهُمْ) ليس إلا وجاه من خالف وتخلّف عن امر الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) ، كما و «هم درجات» يجعلهم كلهم في كتلة الايمان ، وليس المنافق في أية
درجة من درجات الإيمان.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا
وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦).
هنا (كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعم المنافقين إلى الكفار الرسميين ، فيشمل قول عبد الله
بن أبي سلول والمنافقين الذين انحازوا معه يوم أحد قبل الحرب ، الى
قول المشركين
وسائر الكافرين ، فذلك الثالوث من الكفر المنحوس له هذه القولة القائلة : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما
قُتِلُوا ...).
ويكأن عندهم أمانا
عن مضيّ تقدير الله ، منعة عن الموت المقدر أم قتله؟ (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً)!
هنا (ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) حيث تقابل (أَوْ كانُوا غُزًّى) تختص بالسفر في غير الجهاد ، مهما اختص أحيانا اخرى بسفر
الجهاد ك (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٤ : ١٠١) إذا
فالضرب في الأرض هو مطلق السفر ام مطلق سفر الخوف في جهاد وسواه ، و (أَوْ كانُوا غُزًّى) مطلق الجهاد في سفر أو حضر.
فليس الضرب في
الأرض أي سفر ، انما هو الإنجاد في السير والإيغال في الأرض ، تشبيها للخابط في
البر بالسابح في البحر لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقا لها واستعانة على
قطعها.
إذا فهو السفر
الشاق في غزو كان أم في تجارة ، دون الأسفار المريحة التي ليست فيها أية صعوبة
نفسية أو جسدية ، فانها يعبر عنها بالسفر.
ثم (ما ماتُوا) تختص ب (إِذا ضَرَبُوا) و (ما قُتِلُوا) ب (أَوْ كانُوا غُزًّى) مما يدل على اختلاف الموت عن القتل.
فهل هما متباينان
، فالقتيل غير الميت والميت غير القتيل؟ أم بينهما
__________________
عموم مطلق ، فكل
قتيل ميت وليس كل ميت قتيلا؟ لكلّ وجه ، وقد يساعد الأوّل أن القتيل إن كان في
سبيل الله رجع يوم الرجعة ليموت ، وان كان في غير سبيل الله رجع كذلك وكما في
المستفيضة : «يرجع من محض الايمان محضا او محض الكفر محضا».
ولكنه يبقى السؤال
بالنسبة لمن يقتل خارجا عن السبيلين كاصطدام السيارة أم السقوط عن الطائرة او غرق
الباخرة أما شابه ، فمهما كان في هؤلاء من محّض الايمان محضا أو محض الكفر محضا
ولكن بينهما منهم عوان وهم الاكثرية الساحقة.
ثم الموت لا يعني
إلا خروج النفس عن البدن بأي سبب كان ، فانما اشتهر في غير السبب الظاهر للموت
بالموت ، وفي الظاهر بالصلب والغرق والحرق والقتل وما أشبه ، ومن ثم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) انما تصلح جوابا عن (ما ماتُوا وَما
قُتِلُوا) إذا عم «يميت» كلا الموت والقتل ، فطالما الموت لازم لا
يشمل القتل لتعديه ولكنه يشمله اعتبارا بحاصل القتل وهو الموت وليس إلّا بإذن
الله.
بل والموت على
لزومه يشمل القتل على تعدّيه اعتبارا بالحاصل عنهما وتصديق ذلك قوله تعالى (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) (٣ : ١٤٣) حيث
المورد هنا هو القتل المعني بالموت ، فلا تعني مقابلة الموت بالقتل تباينهما كليا
بل هو عموم مطلق.
ثم (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) هل تعني إخوانهم في النسب؟ وهذه القولة لا
__________________
تختصهم مهما كانت
لهم انسب ، أم لإخوانهم في الدين وهم الكافرون الذين ماتوا او قتلوا ، قولة غائلة
تثبط عن كل ضرب في الأرض أم قتال ، فيهما خوف الموت او القتل ، تجميدا للحياة
الحركية في سبيل المصالح الهامة المعنية لكمال الإنسان؟.
قد تعني «إخوانهم»
كل من لهم بهم صلة الأخوة نسبية او سببية أماهيه ، قولا يعني الميت والقتلى من
المسلمين الذين كانوا من قبل كافرين ، يقولونها لهم تجميدا عن كل حراك صالح في
سبيل الحق (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) مشاركين معنا في الكفر أو مسلمين (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) كما ويعني الميت والقتلى من أنفسهم ، تحسرا على ما أصابهم
في القتال ، مهما كانت مفروضة عليهم حفاظا على ضفة الكفر.
وترى كيف (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) وهم ميت او قتلى؟ علّهم قالوها قبل ضربهم في الأرض او
غزوهم ، وكما قالوا لهم ـ اي : لأجلهم ، بعد ما ما ماتوا او قتلوا كما (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٤٦ : ١١) والجمع
أجمل واجمع وأوسع لهذه الدعاية المجمدة للطاقات ، بثا لهذه الدعاية في صفوف
المجاهدين في خطوط النار ، ولكي يربحوا الحرب لأنفسهم.
(لِيَجْعَلَ اللهُ
ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) ـ (لا تَكُونُوا ...
لِيَجْعَلَ اللهُ) فحين لا تؤثر فيكم تلك الدعاية الكافرة فتتدفقون إلى
الجهاد ، أصبح ذلك حسرة في قلوبهم.
و (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ ... لِيَجْعَلَ
اللهُ) فإنهم متحسرون بموت أو قتل إخوانهم في الكفر ، حيث يخيّل
إليهم (لَوْ كانُوا عِنْدَنا
ما ماتُوا وَما قُتِلُوا).
ف «ليجعل» في
الأوّل غاية معلومة مقصودة «لا تكونوا ليجعل» وفي
الثاني غير مقصودة
ولا معلومة لهم ، فانما هي غاية ثابتة مهما لم يشعروها كما في (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢٨ : ٨)
والمعنيان معنيّان فإنهما لهم عانيان حسرة على حسرة في تلك القالة الغائلة ، فحين
يسمع أقارب هؤلاء الميت والقتلى الكافرون هذه القالة يتحسرون كما القائلون.
وحين يذيعون هذه
الشبهة بين المسلمين فلا يجدون لها موضعا عند اقوياءهم بسناد إيمانهم ، ولا عند
ضعفائهم حيث نهاهم الله عن هذه القولة ، فهم يتحسرون أن خاب كيدهم وغاب ميدهم عن
كتلة الايمان.
ثم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) تأكيد على حصر الإماتة كما الإحياء بحضرة الربوبية ف (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً).
وهنا «قالوا ..»
من الفوارق الرئيسية بين ضفّة الإيمان والكفر ، فلا يرى المؤمن في نضاله إلا إحدى
الحسنيين ، والكافر متحسر في موته أو قتله إذ لا مولى له ولا رجاء إلّا هذه الدنيّة.
فالمؤمن الصالح
مدرك لسنن الله ، متعرف إلى مشيئة الله ، متعرّق في حب الله والثقة بالله ، عارف
انه لن يصيبه في سبيل الله إلّا ما كتب الله ، وأن ما أصابه فيها لم يكن ليخطئه ،
وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فلا يتلقى الضراء بالجزع ولا السرّاء بالزهو والهلع.
وعارف ان مجال
التقدير والتدبير والرأي والشورى ، كل ذلك قبل الإقدام ، فإذا أقدم في حدود علمه
وصالحه ومسئوليته المحمّلة عليه استسلم لكل الخلفيّات ، عارفا انها مقضيّة له في
كتاب (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ) (٥٧ : ٢٣).
ويا له من توازن
بين الكدح والسعي ، والتسليم أمام الواقع الممضاة من
الله ، فهو يعيش
بين الإيجابية والتوكل فيستقيم عليه خطوه ويستريح عليه ضميره.
ذلك ـ واما الفارغ
قلبه من هذه المعرفة والطمأنينة ، فهو يعيش مستطارا قلقا فلقا ، فهو عشير «لو ـ لولا
ـ يا ليت ووا أسفاه» (لِيَجْعَلَ اللهُ
ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ)! فهم يعيشون حسرة على اية حال ، حسرة أن لم يضربوا في
الأرض أو لم يغزوا فيخسروا التجارة والحرب ، وحسرة أن ضربوا وغزوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما
قُتِلُوا).
ففي حين يعيش
المؤمنون المجاهدون إحدى الحسينين ، هم عائشون احدى السوأتين.
(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)
(١٥٨).
إنما الأصل هو
الفناء (فِي سَبِيلِ اللهِ) قتلا او موتا ، فمن يعيش هذه السبيل ويحقق مسئولياته تجاه
الله ف (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ
اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، ولا فارق ـ إذا ـ بين القتل والموت ، إذا كانا في سبيل
الله ، ولا تقدّم لقتل على موت أو لموت على قتل إلا ما يتقدم منهما على صاحبه في
سبيل الله فيقدّم صاحبه ـ ميتا او قتيلا ـ في سبيل الله.
ولكي نعرف تلك
المساوات تتقدم «متم» بعد ما تأخرت عن «قتلتم» تأشيرا إلى أن الأصل فيهما هو سبيل
الله ، وقضاء النحب موتا او قتلا في هذه السبيل.
فإذا الموت كائن
لا محالة فموت في سبيل الله أو قتل خير ـ لو علموا
واتقوا ـ مما
يجمعون من الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد تخوّف الموت والقتل لما جمعوا من
زهيد الدنيا ووهيدها زهادة في الآخرة.
والمجاهد في سبيل
الله تشمله مغفرة الله ورحمة الله سواء أمات على فراشه ، ام ضاربا في الأرض لمعاشه
، أم قتلا في ميادين الشرف والكرامة ، فمسيرهم كلهم واحد ، كما مصيرهم الى الله
الواحد : (وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)
(وَلا يُظْلَمُونَ
نَقِيراً).
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)
(١٥٩).
لقد لان الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) لهم أولاء الذين عصوه في حرب أحد بما ألانه الله ورحمه ،
وهنا عرض موجز عن ذلك اللين المكين المتين مع ضعفاء المؤمنين ، دون المنافقين
الذين لا يعرفون لينا ولا يعرف في شرعة الحق لهم لين.
وترى ماذا تعني «ما»
في (فَبِما رَحْمَةٍ)؟ هل هي زائدة كما يتقولون؟ والزائدة بلا فائدة بائدة في
القرآن العظيم!.
أظنها استفهامية
في موضع العجاب : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) حيث الموقف كان يتطلب أعلى قمم الرحمة الربانية ، فكما أن (عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) ـ وهم من عرفناهم ـ يقتضي غاية الرحمة واللين ، فكذلك
الرحمة الرسالية مع هؤلاء العصاة الذين هزموا صالح المؤمنين في المعركة وجاءوا
بالبوار والخسار.
وتلك الرحمة
العالية كانت لزاما لتلك الرسالة الغالية ، كما ان «ولو» تحيل سلبها عنه إلى
الفظاظة وغلظة القلب.
وترى إحالة
الفظاظة وغلظة القلب بالنسبة للعصاة المجاهيل لا تحيلهما
بالنسبة للمؤمن
الضرير الفقير الذي يستقرأ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) آيات من الذكر الحكيم
، كما افتري عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وقد فصلنا البحث حولها ذودا عن ساحة الرسالة القدسية تلك
الوصمة الغاشمة.
فمن الشروط
الرئيسية لصالح الرسالة ولا سيما هذه الأخيرة الجامعة العالمية ، ان تكون لها
جاذبية شاملة تجذب من بالإمكان أن ينجذب إليها فيهتدي ، فضلا عمن آمن ولمّا يكمل
إيمانه.
ومن الصعب جدا
كمستحيل أن يلين القائد مع جيش يتحمس للخروج في البداية ثم يضطرب ويخالف عن أمره
ويضعف أمام إغراء الغنيمة وأمام إشاعة مقتل القائد وينقلب على عقبيه مهزوما هزيلا
ذليلا ، ويتركه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع قلة قليلة يثخن بالجراح وهو يدعوهم
في أخراهم ، وهو مع كل ذلك لا يفزّ ولا يفظّ عليهم ، ولا بشطر كلمة فظة او عملية
رثّة بذة ، بل (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) والعظيم عند الله هو إله العظمة ـ لو صح التعبير ـ!
فليس ذلك الّا أن
أدركته الرحمة العاصمة الربانية كما أدركته العصمة الرسالية فلان معهم بكل لطف
وحنان ، فما من احد رآه او عاشره إلا امتلأ قلبه بحبه لما كان يفيض من نفسه
الرحيمة الرحيبة ، رغم كونها رهيبة ، وقد تعني «فظا» مقرونة ب (غَلِيظَ الْقَلْبِ) ، الفظاظة في مظاهر الأقوال والأفعال ، وغلظة القلب هي
الفظاظة في الجوانح ، فما من أحد يغلظ قلبه إلّا وقد تفلت منه الفظاظة مهما راقب
ودائب ، فلا بد للداعية أن يكون لين الجوارح والجوانح.
ذلك! ومع كل هذه
يأمره الله تعالى هنا بمزيد اللين والرحمة بمثلث من زائد العناية :
١ (فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما عصوك كقائد رسالي ، واصفح متجاوزا عما فعلوا وافتعلوا
وفتكوا وهتكوا ، ولكنما العفو من جانب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس ليكفي
غفرهم من جانب الله لأنهم عصوا الله في عصيان الرسول ، فليس ذلك حقا شخصيا يعفو
عنه صاحبه فيعفى عنه ، بل هو بين المرسل والرسول ، ولذلك :
٢ (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الله ، أن يغفر لهم ما سلف ، ويستر عنهم ما يأتي ويهجم من
عصيان ، فقد لا يستغفرون الله ظنا منهم أن عفوك عنهم كاف ، أم تساهلا وتماحلا فيه
، ام لان استغفارهم لا يكفيه ، إذا (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٤ : ٦٤).
ثم ولا فحسب اللين
والعفو والاستغفار ، بل :
٣ (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) كأنهم أولاء في محتدك في معرفة الأمر ، تشويقا لهم إلى
كامل الايمان ، حيث تجعلهم ـ وهم عصاة ـ في حساب شورى الأمر ، و «الأمر» هنا أخص
من الأمر في (وَأَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ) فان أمر الأحكام الشرعية زمن الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) لا يدخل في نطاق الشورى لأن أمرها بوحي الله فانه الشارع لا سواه ، فانما هو
الأمور الزمنية التي لا نص فيها قطعيا ، فان أمرها راجع الى ولي الأمر وهو الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) ، ولكنه يؤمر هنا ان يشاورهم في هذه الأمور لمصلحة راجعة إلى
الامة على مدار الزمن.
ثم وليس أمر
انتصاب خلافة الإسلام ـ مهما كان من أهم الأمور الاسلامية ـ ليس داخلا في نطاق ذلك
الأمر ، ومثلث الأمر إمرة وسياسة واحكاما مشمولة ل (أَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ) لأنهم في غياب الوحي الرسالي فلا
بد لهم من الشورى
في كافة الأمور المشتبهة كما فصلناها على ضوء آية الشورى.
ذلك رغم ما سبق
قبل قليل من شوره معهم في مرة خطيرة مرة انشأت فتا في عضد الوحدة ، إذ رأت مجموعة
ـ من جراء الشورى ومخالفة رأيهم ـ أن تنسحب عن الحرب كليا ، وتحمّست أخرى للخروج ،
فكان من حق القيادة الرسالية أن تنبذ الشورى معهم عن بكرتها بعد المعركة ، التي
اعطت درسا كاملا أن صالح الرأي ـ فقط ـ هو ما يراه الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم).
ولكن الإسلام ـ وهو
ينشئ أمة خالدة ويعدها لقيادة البشرية ـ عليه أن يجعل مبدأ الشورى أصلا يرتكن عليه
في كل شاردة وواردة ، وكل خالجة وخارجة.
وهذه الآية نص
قاطع لأمر دله أن الشورى مبدأ رئيسي لا يقوم نظام الإسلام في قيادتيه الزمنية
والروحية إلّا عليها.
صحيح أن الرسول
المتلقي عن الله ليس ليحتاج إلى شوراهم ، كما وأن (فَإِذا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) تنهي صالح الرأي فيها إليه نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم)
، ولكنّما الشورى من القائد قد تشير المقود تدريبا له كما قد تشير القائد إلى ما
يغفل عنه ، ومشاورة الرسول إياهم لا تعني إلّا تدريبهم وإيصالهم بالوحي الرسالي
إلى صالح الأمر ، «أما إن الله ورسوله غنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن
استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا»
ف «ما خاب من
استخار ولا ندم من استشار» .
__________________
ذلك! فقد علم الله
انه ما به إليهم من حاجة ولكن أراد ان يستن به من بعده فيكون (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) كما فصلناه على ضوء آية الشورى مشبعا فلا نعيده هنا.
لقد أمر الله
رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشاورهم في الأمر ـ المختلف فيه ـ وهو يأتيه
وحي السماء ، لأنه أطيب لنفوسهم حيث تكبر عند مشاورته ، بأنه يهتم بهم كأنهم
مشاركوه في رسالته.
كما ولم يؤمر بمشاورة
العابد من أمته ، بل مشاورة هؤلاء العصاة المجاهيل ، مما يبرهن على مغزى تلك
المشاورة أنها فقط لصالح الأمة تدربا وتعرفا إلى هامة الأمور بإعمال العقل
والتفكير ، دون صالح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا بلاغا شيّقا لرسالته
حيث يعد أمته في عداد رسالته وأداتها.
ومما يبرهن على
ذلك «وشاورهم» دون «تشاور وإياهم» حيث الثاني تشاور وتفاعل بين جانبين دون فضل
لأحدهما على الآخر ، ولكن «شاورهم» تجعل المشاور هو البادئ ، لا لحاجة منه إليهم ـ
دونهم إليه ـ حيث العقلية الكاملة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل رسالته
كانت أكمل منهم كلهم كما كانوا يعترفون ، فضلا عما بعد رسالته ، بل لحاجتهم إليه
أن يتدربوا في غوامض الأمور كيف يتشاوروا.
ثم (فَإِذا عَزَمْتَ) دون «عزم أكثرهم» دليل آخر على أصالته في أمر الشورى دونهم
(فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) الذي أوحى إليك صائب الأمر ، ولا تخف من يخالفك في الأمر ،
فإن أمره في إمر وهو يفضح نفسه بخلافه على صاحب الأمر كعبد الله بن أبي سلول حيث
خالفه (صلى الله عليه وآله وسلم) في عزم الخروج عن المدينة للحرب ، وانقطع بثلث
الجيش عن الخروج.
هنا (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) لها أبعاد ، منها إمضاء العزم بعد المشاورة بما عزمت بوحي
الله ، دون أن تخاف أحدا خالفك في الأمر كما حصل في ابن أبي سلول.
ومنها ان لا دور
للتوكل على الله إلا بعد تقديم كل المساعي في سبيل التعرف الى صالح الأمر وتحقيقه
، تقديما فرديا وجماعيا ، ومن ثم (فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ).
ومنها ألا يتكل
الإنسان على ما اهتم وقدّم ، بل وعليه ان يتوكل على الله في إمضاء ما يمضي دون
استقلال لنفسه ولا استغلال ، بل هو توكل على الله فيما يسعى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى).
ولقد كانت هذه سنة
رسالية زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة من آل الرسول (عليهم السلام)
، حيث كانوا يضعون الضائعين على الطريق الواضح على ضوء الشورى ، مفيدين غير
مستفيدين إلّا تدريبا أريبا .
وقد أشار ابن عباس
على الامام علي (عليه السلام) ما لم يوافق رأيه فقال : لك أن تشير علي وأرى فان
عصيتك فأطعني .
فما استشارته (صلى
الله عليه وآله وسلم) أمته إلا كما استشاره الله تعالى
__________________
في أمته على حد قوله
(صلى الله عليه وآله وسلم) : «ان ربي تبارك وتعالى استشارني في امتي» .
هكذا تربى الامة
بالشورى بينهم وتدرب على حمل التبعة ، لتعرف كيف تصلح آراءها وتصحح أخطاءها ،
فالإسلام لا يريد من الأمة المسلمة ان تظل كالطفل والقاصر تحت الوصاية ، فكما يأمر
بمواصلة التعلم والتعقل ، كذلك بالشورى بينهم في هامة الأمور وعامتها لصالح الأمة
على مر الزمن ، ومشاورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إياهم تترك في نفوسهم
حبا لهذه الرسالة السامية انه اعتبرهم كأنهم لهم شأن من الشأن في الأمر عند الله
وعند رسوله وعند الناس ، ثم ليختبر مدى عقولهم في صالحهم ، ومن ثم إذا شاورتهم في
الأمر فقد حملتهم على اجتهاد جماهيري في صالحهم فإذا أصابوا صدقتهم وفي ذلك بهجة
لهم ونهجة في حياتهم العقلية الإسلامية ، وان اخطأوا أرشدتهم الى صالح الأمر بما
أوحى الله إليك.
وما أحلاه وأحناه
عناية بأمرهم في شورى الأمر وهم العصاة ، لكيلا يعتبروا أنفسهم بعد خارجين عن نطاق
الأمر ، اجتذابا لهم أكثر واجتلابا إلى امر الشرعة الربانية دون مجانبة وابتعاد
عنها لأنهم كانوا عصاة.
و «الأمر» هنا في
حقل المشاورة هو بطبيعة الحال ليس مما جاء في نص القرآن او السنة ، انما هو الأمر
الذي لا نص فيه ، او فيه اختلاف وشبهة تعتريه كما و «أمرهم» في (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ولكنه أوسع دائرة لمكان اختلاف الانظار في الأحكام غير
الضرورية ، فلتشملها الشورى.
__________________
فليأخذ القواعد
المسلمون ، روحيون وزمنيون ، درسا نابغا من سنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
نابعا من منبع الوحي ، فلا يستبدوا بآراءهم بسند الطاقات العلمية والعقلية ، فضلا
عن سيادة القوة الزمنية ، وليحسبوا للامة الاسلامية الحساب الذي حوسب به الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) (وَشاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ) فالمستبد برأيه مهما كان صائبا هو خائب حيث يخسر عطف الأمة
واستصلاحها لمعرفة صالحها عن طالحها ، ويخسر نضوج العقلية بينهم فهم كالطفل تحت
الولاية في الأمر.
كلّا! وإن على
القائد ان يقود المقود الى ما استأهله للقيادة ، حتى تسود مختلف القابليات
والفاعليات في الامة ، ف «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» والراعي بحاجة الى صائب
الرأي فيمن يرعاه.
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ
مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
(١٦٠).
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللهُ) لا تختص بميادين النضال الخارجية بل وبأحرى بميادين النضال
النفسية ، فما لم تكن النصرة الربانية لم يوفّق العبد في أي حقل من الحقول الحيوية
الايمانية ، فردية كانت او جماعية ، و (إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) يتغلب عليكم ، فكل طاقة مبذولة امام النصرة الربانية
مغلوبة مخذولة ومرذولة.
ف «إذا فعل العبد
ما أمره الله عز وجل به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عز وجل وسمي العبد به
موفقا ، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى
بينه وبين تلك المعصية فيتركها كان تركه بتوفيق الله تعالى ذكره ومتى خلى بينه
وبين المعصية فلم يخل بينه وبينها حتى
يرتكبها فقد خذله
ولم ينصره ولم يوفقه» .
ثم (فَلا غالِبَ) استغراق في سلب أي غالب من دون الله ، سواء أكانت النفس
الأمارة بالسوء ام سائر شياطين الجن والانس ، حيث تنتظم (فَلا غالِبَ) كل غلبة من اي غالب من بعد الله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا
كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) (٦
: ١٧)
(... وَإِنْ يُرِدْكَ
بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١٠
: ١٠٧).
وترى ما هو دور «لكم»
بعد سلبية مطلقة لأي غلب؟ والغلب المحظور هو «عليكم» لا «لكم»؟
«الغلبة» هي
متعدية بنفسها دون اية حاجة لها إلى معدّ : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (٢ : ٢٤٩) ـ (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) (٨
: ٦٥)
(غُلِبَتِ الرُّومُ) (٣٠
: ٢).
إذا فتلحيقها بجار
لا يعني التعدية ، سواء في ذلك «على ـ او ـ ل ـ او ـ في» فانها لإفادة فائدة أخرى.
تأكيدا لتحليق الغلبة كما في «على» : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى
أَمْرِهِ) (١٢ : ٢١) ام
لاختصاص النفي بخاص كما في (فَلا غالِبَ لَكُمْ) حيث اللام تعني الإختصاص لسلب الغلبة بذلك المورد الخاص ،
صدقا كما هنا وكذبا كما (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ..) (٨ : ٤٨).
__________________
فليست «لكم» لتعني
«عليكم» ، إنما هي لكم اختصاصا للسلب بكم المؤمنين (إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللهُ). ويقال نصر الله وخذلانه إذ لا يخلو لعبيده من نصر وخذلان
، وليس العوان بينهما ـ دون نصر ولا خذلان ـ يناسب ساحة الربوبية الوحيدة غير
الوهيدة ، التي تحلّق على كل سلب وإيجاب ، تخييرا كما في النصرة والخذلان فإنهما
من مخلّفات الإيمان واللّاإيمان ، أم تسييرا كما في الأمور المسيّرة غير الميسّرة
للمكلفين سلبا ولا إيجابا.
(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) فيكلكم إلى أنفسكم وإن في طرفة عين (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ
بَعْدِهِ) من بعد خذلانه ، ف (اللهُ غالِبٌ عَلى
أَمْرِهِ) غير مغلوب ، إذا (وَعَلَى اللهِ) لا سواه (فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) ف (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ١٦١.
(وَما كانَ) هنا كأضرابها في ساير القرآن تضرب هذه السلبية إلى اعماق
الماضي سلبا عن مثلث الزمان ، حيث تسلب الغلول عن الكينونة الرسالية ككل وبأحرى
هذه الرسالة السامية ، فليس ـ إذا ـ سلبا للجواز وتثبيتا للحرمة فحسب ، بل هو سلب
لإمكانية الغلول للنبيين.
والغلول هو تدرع
الخيانة كما الغل : العداوة ، والغل هو الاغتيال : القتل ، فما كان لنبي أن يغل
ولا أن يغل وله ان يغل ويقتل في سبيل الله من يغل او يغل او يغل إذ كان يستحق
الغل.
فالخيانة بأية
صورة من صورها وأية سيرة من سيرها مسلوبة عن النبيين ، سواء أكانت خيانة في النفس
أو النفيس ، خيانة بحق الله في شرعته أم بحق عباد الله في حقوقهم ، فإن الأمانة هي
من اللزامات الأولية الرئيسية للرسالة
الإلهية على أية
حال في قال وحال وفعال ، (وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٦٩ : ٤٧).
وكيف يخون الله
شرعته وخلقه أن يأتمن الخائن ، وما هو إلّا جهلا او تجاهلا او عجزا تعالى الله عن
ذلك علوا كبيرا.
فالآية لها دور
طليق بالنسبة لمطلق الخيانة عن ساحة النبوة على مدار الزمن الرسالي ، فتشمل كافة
الشؤون لنزولها وسواها مما لم تحصل ، اجتثاثا للغلول عن هذه الساحة السامية عن
بكرته وبكرتها ، سواء أكانت خيانة في الرسالة ، أم في الغنائم الحربية اختصاصا
بنفسه ام في تقسيمها ام قبولها ام في السكوت عنها ومن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اجتنبوا الغلول
فانه
__________________
عار وشنار ونار .
وان رضا الناس لا
تملك وألسنتهم لا تضبط ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة
حمراء حتى أظهره الله على القطيفة وبرأ نبيه من الخيانة وأنزل في كتابه (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ..)
.
وان تهمة الغلول ـ
الوقحة ـ كانت من العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل خوفة ألا يقسم
لهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغنائم كما سبقت يوم بدر بالنسبة
للقطيفة الحمراء وساحة النبوة منها براء ، فهنا يأتي النص بحكم عام ينفي عن
الأنبياء إمكانية الغلول فضلا عن خاتم الأنبياء.
ولقد تقولوا عليه
قولة الغلول حتى أنه كان يقول : «لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون
أني اغلكم مغنمكم»
ويقول «لا إسلال
ولا غلول»
ولم يضمن الإغاثة
لمن يغل يوم القيامة وهو الشفيع فيه.
__________________
ولقد اثرت آية
الغلول وأضرابها في نفوس الجماعة المؤمنة أثرا عميقا حتى أتت بالعجاب ، فكانوا
يجتنبون الخيط والمخيط وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «أدوا الخيط
والمخيط فانه عار وشنار يوم القيامة» .
ذلك (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذه هي عينية التبعة أن يؤتى من غل بما غل ، سواء أكان
قولا او فعلا ام شيئا غل فيه ، حيث المحشر يحشر فيه الإنسان بكل أعماله قالة وحالة
وفعالة (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وهنا (ما كَسَبَتْ) في التوفية دون «بما كسبت» مما يدل على ان المكاسب يوم
الدنيا هي بنفسها الجزاء يوم الآخرة ، أن تظهر بملكوتها تحولا لها إلى الجزاء
بنفسها.
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) ١٦٢.
فكيف يساوى بين
ضفتي الرضوان والسخط من الله ، أن يبعث الله الساخط عليه كما يبعث الراضي عنه ، أم
كيف يبتعث الذي مأواه جهنم وبئس
__________________
المصير ويترك الذي
مأواه الجنة ونعم المصير؟ فكيف يفترى على رسول الهدى الغلول وصاحبه في سخط من الله
وقد باء ورجع في أولاه وأخره بسخط من الله! (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) ١٦٣.
أترى (هُمْ دَرَجاتٌ) تختص بمن (اتَّبَعَ رِضْوانَ
اللهِ) حيث الدرجة كأصل هي ما يرقى عليه فيرتقى كما وجلّ آيات
الدرجات تعني درجات الرحمة والرضوان .
أم تعم إلى هؤلاء
الأكارم (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ
مِنَ اللهِ) إقحاما للدرجات الخلقية الى الدرجات الخلقية : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (٤٣ : ٣٢) فالناس
كمعادن الذهب والفضة (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢) تشمل
درجات الدركات بالأعمال السيئة.
ثم وكيف (هُمْ دَرَجاتٌ) وليسوا إلا أصحاب الدرجات بالأعمال والعقائد والصفات ،
فانها مما عملوا كما في آيات؟ لأن «درجات» تعم الدرجات الخلقية في الذوات ، ثم
الدرجات الخلقية تتعامل مع الذوات ، متعاكسة في تأثيرات ، فالدرجات الذاتية تنعكس
على الأفعال والصفات ، وهما تنعكسان ايضا على الذوات ، إذا ف (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ، في ذواتهم وحالاتهم وأفعالهم وصفاتهم ، فالمؤمن درجته
مرتفعة والكافر درجته متّضعه ،
__________________
كلّ ينال درجته
باستحقاق فلا ظلم ولا إجحاف ولا محاباة ولا جزاف في الدرجات الخلقية المسيرة ولا
في الخلقية المخيرة ، التي تؤثر في الذوات ، إذا (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ) قابلية وفاعلية فجزاء وفاقا ، كما هم درجات عند الله عندية
العلم والتقدير والتدبير ، فلا تخفى من درجاتهم خافية بحضرة الربوبية إعطاء وجزاء
وبينهما عوان.
ثم وكما (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) يدرجون الى رضوانه او سخطه ، كذلك يدرج بهم إليهما لأنهم اصول الخير والشر ،
بهم يدرج أهل الخير إلى الخير وأهل الشر إلى الشر (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ).
(لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ١٦٤.
آية يتيمة لا
نظيرة لها في القرآن ، بشأن الرسول اليتيم المنقطع النظير ، يمن الله فيها به على
المؤمنين ، ترتكن في ذلك المن على قواعد اربع.
١ «إذ بعث فيهم
رسولا منهم» ف «المؤمنين» هنا طليقة تعم كل المؤمنين على مدار الزمن الرسالي
الأخير من اي العالمين كانوا ، من الجنة والناس وسواهما أجمعين ، فان «منهم» تعني
مجانسة الإيمان ، لا المجانسة في البشرية.
واما (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (٦ : ١٣٠)
المقرّرة
__________________
المجانسة بين
الرسول والمرسل إليهم ، فقد تعني طليقة المجانسة ، غير المناحرة لاختلاف الجنس بين
الرسل الأصليين والمرسل إليهم ، حيث تكفى المجانسة في الرسل الوسطاء ، جنا في الجن
وسواه في سواه ، ثم الرسالة المحورية هي لقبيل الإنس ، و «رسولا منهم» تحمل بعدي
البشرية والرسالية ، فهو بشر كما أنتم ، وهو مؤمن فيما أنتم ، فاصطفاه الله من
البشر المؤمنين رسولا فيهم ، لا إليهم فقط فانه رسول للعالمين من الجنة والناس ومن
سواهم من المكلفين أجمعين.
هنا (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وفي سواها منهم ، وليست الأنفس هنا زائدة غير قاصدة ،
فانما تعني زائدا قاصدا وظلّا عميق الإيحاء والتدليل ، أن الصلة بينه وبين
المؤمنين هي صلة النفس بالنفس ، واقعة بينه وبين قليل منهم ، وواجبة بين الآخرين
أن يحصلوها ، فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى ، إنما هي (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهم بالإيمان الصالح يرتقون إلى هذا المرتقى ، ويرتفعون
الى هذه الصلة ، فالمنة ـ إذا ـ مضاعفة في إرسال رسول من أنفسهم ، بهذه المواصلة
النفسية النفيسة بينهم وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو كان رسولا لا بشرا ولا
من المؤمنين لكانت الخيبة في هذه الرسالة ذات بعدين ، حيث المجانسة بين الرسول
والمرسل إليهم أصل من اصول الرسالة الرئيسية : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ..) (٦ : ١٣٠) كما أن
أمانة الإيمان الأمين أصل وهو أقوى من اصل المجانسة ، ولو كان رسولا منهم لا من
أنفسهم لقلت العائدة في هذه الرسالة ، فبفقد كلّ من الأصلين تنقص الرسالة حسبه
فضلا عنهما جميعا ، فذلك ثالوث من انتقاص الرسالة أن يكون الرسول مؤمنا مؤمنا غير
بشر او بشرا غير مؤمن ام يفقدهما ، ف (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) تجمع الأصلين معا ، انه بشر كما هم ومؤمن كما هم ولكنه
اصطفي من بينهم فأوحي إليه : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) (١٨ : ١١٠) فأصبح (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فالروح الرسالية هي أرواح المؤمنين اجمع.
٢ (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) تلاوة المتابعة فانها ليست إلا هيه كما (الشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا
تَلاها) وقد ارتكزت رسالته على هذه التلاوة : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) متابعة في كل حقولها ترتلا وترتيلا ، تعلما وتعليما ، فهي
ـ إذا ـ رسالة التلاوة التابعة لآيات الله في نفسه وأنفس العالمين.
٣ (وَيُزَكِّيهِمْ) بتلاوة آياته ، زكاة في علومهم وحلومهم ، عقائدهم وأخلاقهم
، اعمالهم وكل ما لهم من قالات وحالات وأفعال وصفات.
٤ (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ) تعليما بعد التزكية وتلاوة للآيات ، حيث العلم الذي يتبنى
الزكاة هو خالص العلم وصالحه ، وقد يقدم التعليم على التزكية كما في آية واحدة بين
اربع (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ..) (٢ : ١٢٩) وقد
فصلنا القول حولها في محالها (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
وترى أن (بَعَثَ فِيهِمْ) تختص رسالته بالمؤمنين به؟ وهم حالكونهم مؤمنين ليسوا
بحاجة إلى رسالة فإنها تحصيل لحاصل ، فغير المؤمن هو الذي يحتاجها حتى ينقلب مؤمنا
، وهو ليس فيهم! قد تكون هذه نظيرة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) قبل هداهم وبعدها ، فالذي يتحرى عن إيمان هو قد يحسب مؤمنا
قبل الإيمان ، ثم يتكامل إيمانه بواقع الإيمان بالقرآن ، ثم تكاملا بالعلم والعمل
بالقرآن ف : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) تشير إلى مزيد الإيمان بعد إيمان.
ذلك ، مهما كانت
رسالته إلى العالمين أجمع من يؤمن ومن لا يؤمن ، فهو رسول في المؤمنين ورسول إلى
العالمين (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ
حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ).
__________________
ولأن المنة ليست
إلا على ما فوق الواجب ، فضلا بعد عدل ، فقد حملت هذه الرسالة السامية واجب الدعوة
ونفلها ، جامعة بين العدل والفضل قدر الإمكان منهما والحاجة إليهما للعالمين
أجمعين ، ولا نرى منّا في رسالة على أمة من الأمم إلّا على هذه الأمة المرحومة
بتلك الرحمة الغالية المتعالية ، فهل يخلد بخلد عاقل بعد انه (صلى الله عليه وآله
وسلم) يغل وهو الأمين قبل رسالته عند الكل ، فكيف لا يكون أمينا بعدها ، وهو الأمين
لدى الناس قبل رسالة الله فكيف لا يكون أمينا لدى الله بعد ما ائتمنه برسالته
العليا!.
فالانشغال بغلول
الغنيمة وغير غلولها ـ وهو السبب المباشر لقلب الموقف في أحد ـ بعيد كل البعد عن
حامل تلك الرسالة العظمى ، حيث تبدو غنائم الأرض وأسلابها وأعراضها وكل ما عليها
تافها زهيدا أمامها ، فليمت خجلا التافه السخيف الرذيل الذي يمس من كرامة ذلك
الفضيل بغلول في ذلك التافه الرذيل.
ثم الامة المؤمنة
التي غنمت هذه الرسالة الممنونة عليها ، المشكورة فيها ، لا يجدر لها أن تتحرى عن
المغانم المادية ، ولا سيما التي فيها عصيان الرسول وخسارة الحرب.
(أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ
نافَقُوا
وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ
نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ
أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ
فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ
اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ
الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ)
(١٧٥)
تتمة من قيلات
المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، وعرض لمكانات الشهداء في سبيل الله عند الله
تشجيعا على الجهاد وتنديدا بدعايات المختلفين.
(أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ١٦٥.
هذه هي مصيبة
الهزيمة العظيمة في أحد التي استقطبت واجهات النظر بين المنهزمين ، ومن اعتراضاتهم
عليها بصيغة السؤال (أَنَّى هذا) وقد وعدنا النصر كما انتصرنا في بدر ، ومما هوّن هذه
المصيبة (قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْها) إذ هزمتموهم مرة في بدر وأخرى يوم أحد في مطلع المعركة قبل
تخلفكم عن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ووهنكم.
و «مثليها» في
عديد الإصابات ومديدها ، إذ «كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة وأربعين رجلا قتلوا
سبعين وأسروا سبعين فلما كان يوم أحد أصيب من
المسلمين سبعون
رجلا فاغتموا بذلك فأنزل الله الآية» .
وقد تعني «مثليها»
كلا المثلين ، فانها طليقة في جنسهما الشامل لعدد
__________________
الهزيمة وعدد المصابين
، ومما يجيب عن ذلك التساؤل كأصل في الإصابة (قُلْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) حيث تركتم مقاعدكم للقتال تخلفا عن أمر الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) وبغية الغيمة حيث أهمتكم أنفسكم وظننتم بالله الظنونا.
ذلك ، وأما مبادلة
أسرى بدر ـ بديلا عن قتلهم ـ بالفداء ، ومبادلة الفداء باستشهاد مثلهم من المسلمين
في عام قابل ـ كما يروى ـ فهو إغراء بأجهل الجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
__________________
فلعمر إلهي الحق
هذا من غرائب التأويل العليل ، أن يبدل الله حكم قتل الأسرى بالفداء لمجرد استيهاب
بعض المسلمين شرط ان يستشهد بعددهم لعام قابل ، تجارة بائرة بائدة تبوء بذلك
الخسار العظيم.
وكيف تباع نفوس
طيبة منهم بمال والله يقبله منهم بما شرط ، ونفس واحدة منهم هي أثمن وانفس من
أموال الدنيا بأسرها ، ثم الهزيمة العظيمة التي خلفتها هذه المبايعة هي أخسر من
خسار أنفسهم!.
كلّا (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) كما قال الله إنهم تخلفوا عن أمر رسول الله ووهنوا ، لا
كما تقولوا على الله أنه أغراهم وأقرّهم بجهلهم فانهزموا.
ذلك (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : شيء النصرة بشروطها ، وشيء الهزيمة بالانهزام عن شروط
النصرة ، فهناك يد القدرة الربانية تؤيد الربانيين ، كما وهي تقيّد من سواهم بما
قيدوا به أنفسهم جزاء وفاقا.
(وَما أَصابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) ١٦٦.
فليست تلك الإصابة
المخزية تغلبا على وعد الله ومشيئته في نصرتكم ، بل هي بإذن الله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَكُمْ) فالإذن هنا والصرف هناك متجاوبان في عناية مشيئة الله في
ذلك الانهزام الذي سببه في الأصل (مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ) ، وذلك حين تخلّفتم وفشلتم ، فلا سلب ولا إيجاب في الكون ـ
ككل ـ إلا بإذن الله تسييرا في قسم وتخييرا في آخر ، فليست مشيئة الخير والشر
بمقدماتها وأسبابها الخلقية هي الكافية في حاصل الخير والشر إلّا بإذن الله ، ولا
يعني إذن الله «تسييرا» فانما هو السبب الأخير في كل فاعلية سلبية أو إيجابية قضية
التوحيد في كل الآثار ، فليس بالإمكان تكوين اي كائن إلّا بإذن الله ، المشترك بين
ما لا اختيار فيه للخلق وما فيه اختيار.
(فَبِإِذْنِ اللهِ) كما هو (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) «وليعلم» الله
علامة النجاح
«المؤمنين» بالله
في هذه المحنة ، فالصمود في هذه الإصابة على الإيمان بالله ، ولا سيما بالنسبة لمن
لم يقصر في حقل الاصابة ، إنه علامة صادق الإيمان ، كما التزلزل ولا سيما بالنسبة
لمن سبب الهزيمة هو علامة كاذب الإيمان :
(وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ
ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) ١٦٧.
ثم «وليعلم» علامة
السقوط (الَّذِينَ نافَقُوا) وهم المتخلفون عن الانضمام إلى جيش الكرامة ، المنحازون
عنه ، وهم ثلث الجيش بقيادة رأس المنافقين عبد الله بن سلول إذ (قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) هجوما على أعداء الله «أو» لأقل تقدير من مقادير المسئولية
الجهادية «ادفعوا» عن الإسلام وحوزته ، فما كان قولهم إلّا أن (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً
لَاتَّبَعْناكُمْ) إحالة لعلم القتال وهم جند مجندون بسلاح الحرب ، ف «لو»
غدر غادر مائر يجعل (هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) حيث النفاق هو باطن الكفر وظاهر الإيمان ، ولكنهم نقضوا
ظاهرا منه باهرا هو القتال في سبيل الله (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) وقد تعني «لو نعلم» لو نعلم صالح القتال ، او ما يسمّى
قتالا ، وليس هذا قتالا حيث الخروج عن المدينة خروج عن سنة القتال ، وإلقاء للنفس
إلى التهلكة ، وهذا أحرى ب (لَوْ نَعْلَمُ
قِتالاً) تعريضا بأنه قتل لنا دون قتال.
ذلك ف (الْمُؤْمِنِينَ) وجاه (الَّذِينَ نافَقُوا) إنها تشمل من سوى المنافقين الرسميين ، وعلامة النجاح لهم
درجات حسب درجاتهم إلى أسفلها وهي المتخلفة عن مقاعد القتال ، والتي وهنت أو همت
بالفشل أو ظنت بالله الظنونا : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى
يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ
نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢ : ٢١٤).
فالقول بالأفواه
ما ليس في القلوب نفاق عارم ، كما أن تطابق القول والقلب ـ لا سيما مع الفعل ـ إيمان
صارم ، وبينهما عوان من الإيمان والنفاق يعبر عن صاحبه ب (الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا مبدئيا مهما اختلفت درجاته .
وقد تعني (الَّذِينَ نافَقُوا) كل المتخلفين في تلك المعركة ، ف «المؤمنين» هم ـ إذا ـ صادقوا
الإيمان ، فإن «نافقوا» وجاه «المؤمنين» تعبير قاصد ، ولكن الوجه الأول أوجه فان «تعالوا
..» تشي إلى تخلفهم عن أصل القتال والدفاع ، فقد لا تشمل المتخلفين ضمن المعركة
فضلا عن الذين هموا أن يفشلوا.
(الَّذِينَ قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ١٦٨.
«لإخوانهم» هنا
كما «لإخوانهم» فيما مضى : (وَقالُوا
لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا
عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ...) (١٥٦).
ثم «وقعدوا» حال
عن القائلين لإخوانهم قيلتهم الغيلة ، والجواب تعجيز لهم على غرار قيلتهم (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ
الْمَوْتَ) بقعود وسواه من أسباب الفرار عن الموت فيما تزعمون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في (لَوْ أَطاعُونا ...).
ذلك ، ولكن الدرء
عن الموت أمر والدرء عن القتل أمر آخر ، فاستحالة
__________________
الدرء عن الموت لا
تحيل الدرء عن القتل فإنّ بالإمكان الابتعاد عن أسبابه ، إلّا أن الموت هنا يعم
القتل ، و (ما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) حيث تعم مضاجع الموت الأعم من القتل ، وقد مضى فصل القول
فيه فلا نعيد.
(وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) ١٦٩.
(وَلا تَحْسَبَنَّ) خطاب لكل الحاسبين ذلك الحسبان الجاهل القاحل ، والعائشين
في جوّه بتلك الدعاية المجمّدة للطاقات الحربية ، فلا تشمل رسول الهدى (صلى الله
عليه وآله وسلم) ، إنما هو خطاب لأهله على الأبدال ، دون من لا يخلد او لن يخلد
بخلده ذلك الحسبان المناحر للإيمان ، حيث الحياة البرزخية كأصل ، ثم حياه الشهداء
المفضلة على كل الأحياء ، في البرزخ ، إنها من معاريف الإيمان بفضل الشهادة وأصل
الحياة بعد الموت ، مهما كان الشهداء درجات كما أن سائر الصالحين درجات.
__________________
و «أمواتا» هنا
المسلوبة عن ساحة الشهداء بتّة ، لا تعني ـ بطبيعة الحال ـ الموت الذي بعده حياة ،
بل هو موت الفوت ، حيث خيّل إلى ناكري الحياة بعد الموت ككل ، وناكري الحياة
البرزخية وحياة الشهادة المتميزة فيها.
إذا ف (وَلا تَحْسَبَنَّ) تحلّق النهي عن ذلك الحسبان على كل حقوله كجواب ثان عن
الشبهة المختلقة ضد القتال ، فالأول يجعل الموت بإذن الله إمرا لا بد منه ،
والثاني يحول بين القتل في سبيل الله والدعايات ضده أنه فوت ، وكيف يقدم العاقل
على فناء حياته قائلا : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
ليس فحسب أنهم «أحياء»
كما كانوا قبل استشهادهم ، بل هم كانوا قبله في حياة بعيدة عن حضرة الربوبية خليطة
بكل شقاء ثم الآن عند ربهم عندية الزلفى والكرامة المتميزة «يرزقون» رزقا من عنده
، فهي ـ إذا ـ حياة عند ربهم يرزقون عند ربهم ، بعد أن كانوا أحياء بحياة بعيدة
خليطة بموات وظلمات.
__________________
أترى «أحياء» تعني
ـ فقط ـ الحياة الآخرة؟ و «أمواتا» تحلق على كل حلقات الموت بعد الشهادة ، فلو
كانوا أمواتا في البرزخ بين الحياتين لصدق أنهم أموات؟ مهما أحيوا يوم القيامة ،
ثم ولا تصدق «أحياء» على الذين يحيون يوم الدين وهم أموات في البرزخ ، وانما صيغته
الصالحة «بل يحيون يوم الدين» ثم الخطاب ليس لناكري الحياة يوم الدين مهما كانوا
ضمنه في طليق الخطاب! فليس لناكري الحياة البرزخية من محيص ولا محيد عنها وجاه هذه
الآية المصرحة بها في بنود عدة.
ذلك وبأحرى لا
تعني «أحياء» حياة الذكر ولا واقع لها ولا موقع إلّا الخيال ، ثم إذا لا حياة في
البرزخ فأين ـ إذا ـ ذلك الخيال ، اللهم إلّا خيالا هنا على خيال ، فكيف ـ إذا ـ (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
...)! ثم وكيف هم «فرحين ـ يستبشرون ..» أما ذا من حالات مرضية
بعد الموت؟.
ويا لها من حياة
الزلفى المنقطعة النظير : حياة الشهداء في سبيل الله ، أن يكونوا (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) كما المقربون والسابقون : (إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ) (٧ : ٢٠٦).
ولا تعني عندية
الرب مكانا ولا زمانا ، وانما هي مكانة ربانية قدر مساعيهم ودرجاتهم ، من الزلفى
والمعرفة بجنب الله.
ذلك ولأنهم
انقطعوا عن النفس والنفيس إلى الله ، فأصبحوا وهم ليسوا عند أنفسهم ونفائسهم ،
فإنما هم عند ربهم حيث ضحوا في سبيل ربهم ، فهم ـ إذا ـ أحياء عند ربهم ،
فالمتفاني في سبيل هو محسوب على ذلك السبيل ، سبيل اللهو ولا سمح الله ، او سبيل
الله رزقنا الله إياه.
فالمستشهدون في
سبيل الله ـ في صيغة سائغة لهم ـ هم خرجوا من عند أنفسهم فعرجوا الى معراج «عند
ربهم» فما لم يخرج السالك من عند نفسه لم
يعرج الى «عند ربه»
كما وكل تحلية بحاجة الى تخلية قبلها يناسبها ، والمستشهد في سبيل الله يتخلى عن
كلما يملكه في سبيل الله ، فيتحلى بالزلفى عند الله ، فطوبى له وحسن مآب.
وكما العندية في
حياتهم الدنيا ذات درجات كذلك خلفيتها يوم البرزخ وبأحرى الأخرى ذات درجات (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى).
و «عند ربهم» هي
رمز لكل مواصلة ربانية عن كل مفاصلة ، إذ انقطع الشهيد عن كل ما لديه الى الله ،
فلم يبق له ولا عنده إلا سبيل الله ، فأصبح بنفسه سبيل الله :
(فَرِحِينَ بِما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ١٧٠.
«فرحين» حال لهم
لمثلث الأحوال (أَحْياءٌ ـ عِنْدَ
رَبِّهِمْ ـ يُرْزَقُونَ) فرحين أحياء وفرحين عند ربهم وفرحين يرزقون ، أتراهم ـ بعد
ـ أمواتا عن تلك الحياة ، والميت الفائت ليس يشعر حتى يفرح او يترح!.
و (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) هو انهم (أَحْياءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ولا فضل أفضل منه او يساويه ام يساميه ، مهما كانت «عند ربهم»
درجات حسب درجات الزلفى للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فإنهم كلهم ـ على
درجاتهم ـ من (الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩).
(وَيَسْتَبْشِرُونَ) هل تعني يبشرون؟ وصيغتها هي صيغتها؟ ثم لا دور ـ إذا ـ للباء
في «بالذين ..».
الاستبشار هو طلب
السرور بالبشرى ، وهو (بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ)
يعني بسببهم
ومصاحبتهم فهم يطلبون البشرى في حياتهم البرزخية بسبب الذين لم يلحقوا بهم ، طلبا
لبشراهم أنفسهم باستمرار القتال في سبيل الله ، سواء في نومهم او يقظتهم او بما
اخبر الله من حالهم وقالهم ، فمثلث الاستبشار معني ب «يستبشرون» كما و «يستبشرون»
فيما بينهم.
ومادة البشرى هي (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) فهي بشراهم لأنفسهم ، وهي بشراهم للذين لم يلحقوا بهم ، و
«هم» في «عليهم ـ ولاهم» يعمهم والذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، فقد يلمح ذلك
الاستبشار انهم مطلعون على أحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، وانهم يوصلون هذه
البشارة إليهم في الرؤيا واليقظة أماهيه ، وإنما (أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) دون «لا يخافون» كما «لا يحزنون» حيث الخوف يعم نفسيه
وخارجية ، والحزن يخص النفسي لما مضى.
و (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) هم الذين يجاهدون على أشراف اللحوق بهم ، لحقوا بهم
بالشهادة أم بالموت حيث الأصل هو قضاء النحب في سبيل الله شهادة أو موتا .
(يَسْتَبْشِرُونَ ... أَلَّا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أنفسهم وإياهم (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) أنفسهم هؤلاء ، لا خوف مما يحصل ولا حزن مما حصل ، حيث
الحصيلة الأصيلة من الحياة ككلّ حاصلة عندهم إذ «هم احياء عند ربهم يرزقون»
__________________
فلما ذا الخوف إذا
ولماذا يحزنون .
وحين نتأمل في
أغوار (أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) نجدها تزيل عنهم كل أسى ونقصان في مثلث الزمان ، فكما أن
مستقبلهم مأمون عن كل خوف ، كذلك ماضيهم مأمون عن كل حزن ، فلا يحزنون على ما فات
منهم وجاه ما وجدوه ، فلهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون ، نزلا من
غفور رحيم.
(يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) ١٧١.
«يستبشرون» كما
استبشروا (بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللهِ) ما أنعمها وأعظمها «وفضل» على تلك النعمة ف (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
وَزِيادَةٌ) ـ «و» ب (أَنَّ اللهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) وهنا الاستبشار يعمهم والذين لم يلحقوا بهم ، طلب البشرى
لأنفسهم وإياهم (بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).
وهنا (أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) دون خصوص الشهداء مما يعمم الحياة البرزخية السعيدة لكافة
المؤمنين ، وكما الحياة البرزخية الشقية للآخرين حسب آيات
__________________
أخرى ، وإنما
يمتاز الشهداء عن سائر المؤمنين بفضل الشهادة وزلفاها عند ربهم ورزقهم.
(الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ١٧٢.
فهناك استجابة لله
والرسول قبل إصابة القرح في هذه السبيل وهي وسط الإيمان ، وهنا استجابة لله
والرسول من بعد ما أصابهم القرح وهي قلب الإيمان وصلبه شريطة الإحسان والتقوى فلهم
(أَجْرٌ عَظِيمٌ).
وقد نزلت هذه
الآية بشأن الخارجين معه (ص) وذلك ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ندب الناس
ثاني يوم أحد الى إتباع المشركين ، تقوية لقلوب أصحابه وتجلدا على أعدائه ، وكان
بالمسلمين جوانح الجراح ومواقع السلاح ما انتزع قواهم واثر في تماسكهم حتى كان
بعضهم يحمل بعضا عند خروجهم في ملاحقة المشركين ، ضعفا عن الاستمرار على المشي
والدوام على السعي فلما ندب (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إلى الخروج قال
المنافقون للمؤمنين ـ على طريق التهيب لهم والمكر بهم ـ قد رأيتم ما لقيتم بالأمس
من أعداءكم وأنتم في باحات دياركم ومدارج أقدامكم حتى لم يفلت منكم إلّا الشريد ولم
ينج منكم إلّا القليل ، أفتصحرون لهم اليوم وقد قل عددكم وضعف جلدكم وأسرع القتل
في رجالكم فأوقع الشيطان قلوب المنافقين في قلوب بعض المؤمنين.
الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) يدعوهم مرة أخرى بعد هنيئة من أحد وهم مثخنون بالجراح ، وهم ناجون
بشق الأنفس من أمس المعركة عن القتل ، ولما ينسوا هول الدعكة ومرارة الهزيمة وشدة
الكربة.
فلقد دعاهم رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون من سواهم ، فلم يأذن للمتخلفين ولا غير الجرحى
مهما لم يتخلفوا ، إذ لم يكن ـ وقتذاك ـ
يهمه العدد ، إنما
همته العدد الروحية في النضال ، فاصطفى الأصفياء منهم فاستجابوا لله والرسول من
بعد ما أصابهم القرح .
وهكذا تتضافر مثل
هذه الصورة الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة في هذه النفوس المؤمنة
الكبيرة التي لا تعرف سوى الله وكيلا وتزداد به إيمانا في ساعة العسرة واليسرة
سواء ، قائلة في مواجهة المخاوف الهائلة (حَسْبُنَا اللهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
أجل وإن كل مزايا
الحياة وزيادة حاصلة هي للشهداء عند ربهم ، وذلك تعديل كامل لمفهوم القتل في سبيل
الله ، وللمشاعر المصاحبة له ، في نفوس المجاهدين أنفسهم وفي النفوس التي يخلفونها
من وراءهم ، ونفوس المتشككين بشأنهم حيث كان يخيّل إليهم أنهم أموات.
وذلك إفساح لمجال
الحياة ومشاعرها وصورها ، لكي تتجاوز نطاق هذه الدانية العاجلة الى تلك العالية
الآجلة.
وعلى ضوء ذلك
التوجيه الوجيه سارت خطى المجاهدين الكرام في معارك الشرف والكرامة ، ونضجت فيها
تلك النماذج الرفيعة في غزوتي بدر وأحد وسواهما.
فمن الناس من لا
يستجيب لله والرسول في السبل الخطرة الحذرة ، ومنهم
__________________
من يستجيب فإذا
أصابهم القرح وقفوا غير راجعين ، ومنهم المستجيبون لله والرسول من بعد ما أصابهم
القرح ولكنهم بعد لا يستمرون ، ومنهم المستمرون حتى النفس الأخير وهم أولاء
المعنيون ب (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) مهما كان لمن سبقهم أجر حسب درجات الاستجابة دون فوضى جزاف
، فكل شيء عنده بمقدار.
(الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ
إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ١٧٣.
أولئك الأكارم هم
المستجيبون لله والرسول (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ) النسناس «ان الناس» المشركين (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ) ولكنهم لم يخشوهم إنما خشوا الله (فَزادَهُمْ إِيماناً) على إيمانهم (وَقالُوا حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
(فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ
اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) ١٧٤.
«فانقلبوا» هؤلاء
الأكارم (بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللهِ وَفَضْلٍ) الذين استبشروا بهما (لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ) أبدا (وَاتَّبَعُوا
رِضْوانَ اللهِ) في الأولى وفي الأخرى طبقا عن طبق (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
وذلك الانقلاب كان
مصاحبا (بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللهِ وَفَضْلٍ) وبسبب نعمة من الله وفضل فلا ينقلب الإنسان عما لديه إلى
ما لدى الله ، وعما هو عنده إلى ما هو عند الله ، إلّا بنعمة من الله وفضل واتباع
رضوان الله (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
فتلك عشرة كاملة
من صفات وحالات الذين قتلوا في سبيل الله كما يرضاه أنهم : «١ أحياء ـ ٢ عند ربهم
ـ ٣ يرزقون ـ ٤ فرحين .. ـ
٥ ويستبشرون ... ـ
٦ يستبشرون بنعمة من الله وفضل ـ ٧ الذين استجابوا .. ـ ٨ أحسنوا ـ ٩ واتقوا ـ ١٠
فزادهم إيمانا» وعلى ضوء هذه العشرة الكاملة «فانقلبوا ..» انقلابا عن كل ما سوى
الله إلى الله حيث يعيشون مع الله عند الله لا سواه.
(إِنَّما ذلِكُمُ
الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) ١٧٥.
أولياء الشيطان هم
الذين يتولونه على دركاتهم في ولايته ومنها الخوف على النفس والنفيس في سبيل الله
، فالخائفون غير الله في سبيل الله هم من أولياء الشيطان ، والخائفون الله هم من
أولياء الرحمن ، ف «من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا»
و «من خاف الله
أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء» .
(فَلا تَخافُوهُمْ) أترى «هم» هنا
أولياء الشيطان الذين خوفوهم في سبيل الله؟ ولم يكن الخوف من هؤلاء ، بل هو من
الناس الذين جمعوا لكم وهم المشركون!.
«هم» هنا هم الناس
الذين جمعوا لكم ، والذين يخافونهم من ضعفاء المؤمنين هم من أولياء الشيطان حيث
يخوفهم (فَلا تَخافُوهُمْ) كما خافهم أولياء الشيطان (وَخافُونِ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله.
فالإيمان المتين
بالله يجعل من المؤمنين غير خائفين إلّا الله ، فالخائفون الله
__________________
لا يخوفهم الشيطان
ولا يخافون الشيطان وأولياءه ، والخائفون غير الله هم من أولياء الشيطان مهما
كانوا من المؤمنين بالله.
وهذا التخويف أيا
كان هو من سلطان الشيطان : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما
سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٧ : ١٠٠) ،
فالمتخوفون بتخويف الشيطان ـ على دركاتهم ـ هم من أولياءه على دركات ولايته حيث
ركنوا إلى وسوسته وانقادوا لغوايته ، ومن كان بهذه الصفة فهو ولي الشيطان بمعنى
تولي القبول والركون لا تولي العبادة والدين ، والمؤمن مخالف لهذه الطريقة لأنه
عند الخواطر السيئة من الشيطان يرجع الى يقينه ويتوكل على ربه.
ف (إِنَّما ذلِكُمُ) البعيد البعيد (الشَّيْطانُ
يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) فلا تكونوا من أولياءه فيؤثر فيكم تخويفه (فَلا تَخافُوهُمْ) أولاء المشركين بتخويف الشيطان فتكونوا من أولياءه «وخافون»
أنا ربكم (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ).
(وَلا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
ما
كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
(١٧٩)
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ
خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا
وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ
(١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
(١٨٦)
(وَلا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) ١٧٦.
لقد كان يحزنه (صلى
الله عليه وآله وسلم) الذين يسارعون في الكفر مصارعين الإيمان وأهله علّهم يضرون
شيئا فطمأنه الله أنهم (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ
شَيْئاً) وإنما يضرون أنفسهم ، فلا يضرون الله ولا شرعة الله ،
وإنما ينضر بهم ضعفاء الإيمان ، فلا يعني النهي عن الحزن في حقل المسارعة في الكفر
إلا الحزن على إضرارهم وأضرارهم في إصرارهم ، واما الحزن على أن الله يعصى ،
الداعي الى القبض على أيدي العصاة ، فليس داخلا في النهي ، فإنه قضية
الإيمان بالله أن
يحزن المؤمن على ما يرى في الأرض من الفساد وكما يفرح بما يرى من صالح الإيمان.
أترى من هم (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)؟ أهم المشركون وهم كافرون لأسفل دركاته فكيف يسارعون في
الكفر إلّا تحصيلا للحاصل!.
أم هم المسلمون
البسطاء المستغفلون الذين يكفرون سراعا؟ قد يشملهم النص.
أم وهم المنافقون
واهل الكتاب حيث يسارعون في مزيد كفرهم وفي كفر المسلمين : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا
بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ
اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٥ : ٤٢).
قد يشمل النص
ثالوث المسارعة في الكفر ، كفرهم وكفر المسلمين ، وهم على أية حال (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) و (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) وكذا الذين معك ، اللهم إلّا بسطاء الإيمان ، غير
المتوكلين على ربهم ، الذين في قلوبهم مرض ، فقد ينضرّون ارتجاعا إلى الكفر أم عن
حاضر إيمانهم ـ مهما كان ضعيفا ـ إلى أضعف منه.
(إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بل هم يضرون أنفسهم ويضرهم الله بما
أضروا حيث (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ
حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) لا فحسب بل (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) فلما ذا ـ إذا ـ الحزن عليهم؟.
أو يريد الله
سلبية الحظ أخرويا وإيجابية العذاب فيها والله لا يريد شرا ولا ضرا بالعباد؟ إنها
إرادة الجزاء الوفاق بما يسارعون في الكفر وما الله يريد ظلما بالعباد.
ذلك ، وليس فحسب
المسارعة في الكفر لن تضر الله شيئا ، بل كضابطة عامة :
(إِنَّ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) ١٧٧.
وهذا يشمل كل
دركات الكفر ، فطرية ملية أماهيه ، كما الإيمان هنا يشمل الإيمان الفطري والملي ،
حاضر الإيمان بمراتبه ، وغائب الإيمان بحاضر براهينه آفاقيا وانفسيا ، إنهم ككل (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ضرا بالشارع أو شرعته أو حامل شرعته رسوليا أو رساليا ،
اللهم إلا الذين في قلوبهم مرض (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ).
هنا أليم لاشتماله
كل دركات الكفر ، وهناك عظيم لأنه أسفل دركات الكفر لمكان المسارعة في الكفر ،
فمشتري الكفر بالإيمان قد يسارع في الكفر وقد لا يسارع وانما يصارع في ميادين
الكفر والإيمان فيصرع تقصيرا من عند نفسه فلهم عذاب أليم ، ولأولئك عذاب عظيم.
ومن العذاب الأليم
العظيم للذين يسارعون في الكفر ، أو يشترون الكفر بالإيمان بلية الإملاء التي
يحسبها الجاهل خيرا :
(وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ
لِيَزْدادُوا
إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ١٧٨.
هنا (الَّذِينَ كَفَرُوا) هم المسارعون في الكفر ، الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولا يعني (الَّذِينَ كَفَرُوا) ككل ، إذ قد يؤمن البعض بالإملاء بطول النظر والعبر ،
الذين كفروا لشبهة دون عناد ، أم عناد غير عريق ، ام عريق غير غريق ، ف (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا) بيان لواقع المستقبل للمسارعين في الكفر المصارعين الإيمان
وأهله على علم وعمد.
فالذين كفروا ـ ومعهم
بسطاء الإيمان القاحل ـ يحسبون أنما يملى لهم في نفس ونفيس خير لأنفسهم فيخيّل
إليهم أن لو كان الإيمان حقا لما أملى الله للكافرين.
كلا! بل (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) و ٦٨ :
٤٥) والإملاء له طرفان ، رباني ابتلاء وامتهانا في امتحان بكيد متين ، وشيطاني حيث
(الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٤٧ : ٢٥) : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ
عِقابِ) (١٣ : ٣٢) ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ. وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ.
وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٢ : ٤٤) (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ
لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨).
والإملاء هو
الإمداد ومنه قيل للمدة الطويلة ملاوة من الدهر وملي من الدهر ، فالإملاء هو
الإمهال مدّة وعدة وعدة ، إمدادا بأموال وبنين ، ف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٢
: ١٥)
(أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ
بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٣
: ٥٦).
أجل ، إنه ليس
الإملاء الإمداد من الله للذين كفروا خيرا لأنفسهم بل
هو شر ف (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ثم وشرعة الله وعباده الصامدون مأمونون عن إملاء الكافرين
، وهو لهم امتحان ليزدادوا إيمانا بجهادهم المتواصل ، ولأولاء امتهان ليزدادوا
إثما.
وثالوث العذاب
العظيم الأليم المهين متوارد على المسارعين في الكفر ، المنهمكين في وسائل ترفهم ،
المهملين في كل طرفهم.
وهذا أنسب ختام
بعد عرض الحرب وانهزام المسلمين ، فإن هناك شبهة كاذبة مريبة تحيك في صدور ضيقة
أمام المعارك الناشبة بين الحق والباطل ، حين يعود منها الباطل منتصرا ذا جولة
وصولة : لماذا يا رب يصاب الحق بما يصيب الباطل أهل الحق ، وهذه فتنة تهز القلوب ،
وكما حصلت في هزيمة أحد «أنى هذا»؟.
ففي هذا المطلع
الختامي يأتي حاسم الجواب الصواب بعد سائر الجواب الصواب ، ان ذهاب الباطل ناجيا
عن المعركة وبقاءه متنفّشا في فترة قليلة او طويلة ، إنه لا يعني أن الله يملي
الباطل ويمهله بإهمال الحق ، وانه مجافيه او ناسيه ، متروكا للباطل يغتاله ويرديه
، فإنما هي حكمة وتدبير ، إملاء للباطل ليمشي ويمضي الى نهاية المطاف ، وليرتكب
ابشع الآثام ويرتبك فيها فينال العذاب المهين ، ويصمد اهل الحق وجاه الباطل
فينالوا الثواب العظيم.
إنما يريد الله
استنفاد رصيد الباطل في هذه المعارك لينال خالص العذاب ، وتبلور رصيد الحق لينال
خالص الثواب فان الدار دار الامتحان لأهل الحق ، والامتهان لأهل الباطل في جو ذلك
الامتحان.
فلا تعني «ليزدادوا»
ما تعنيه «ليعبدون» في (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) حتى تتعارضا ، فالعناية الأولى تكوينية عقوبة على أهليها
الكافرين ، والثانية تشريعية مغبة العبادة من المؤمنين.
فالغاية القصوى من
خلق الجن والأنس هي العبادة ، كآية محكمة تفسر الغاية الجانبية في «ليزدادوا».
ثم قد تكون الغاية
معنية كما العبادة غاية للخلق ، وأخرى غير معنية ولكنها واقعية كازدياد الإثم في
إملاء الذين كفروا ، فإنها غير معنية لله ، وإنما هي واقعية لم يحجب الله عنها
تكوينا كما في (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً) ولم تكن هذه الغاية معنية لآل فرعون ، بل هي واقعية.
فانما التعمير
يعني في عناية شرعية التذكير (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧) فقد
أنعم الله عليهم ليشكروه واحسن إليهم ليطيعوه ، فتمادوا وتتابعوا في ضلالهم فتركهم
وما افتعلوا ، وخلى بينهم وبين ما اختاروا ، فلم يمنعهم من ذلك اجبارا ، ولم يحل
بينهم وبينه اقتسارا ، فسمي ذلك الترك إملاء ، فكما أجراهم الله في المضمار
وأجرّهم طول الأنظار ولم يعاجلهم بمستحق العقاب تمادوا غيا ، وازدادوا إثما.
ذلك ، وحتى إذا
كانت زيادة الإثم معنية في التعمير ، فهي عناية تكوينية لا تشريعية ، والعناية
التكوينية الربانية تحلق على كافة الحوادث خيّرة وشريرة دون تناحر مع صالح
الاختيار والتكليف.
لذلك ترى ان الله
قد ينسب فعلة الشيطان الى نفسه ، تدليلا على انه تعالى غير منعزل ولا معتزل عما
يفعله العباد مهما كان لهم اختيار في تكليفية الأفعال.
وهكذا توجه ارادة
الله لزيادة الإثم كفاية معنية من إملاء الكافرين ، أنها غاية واقعية هي لهم
مختارة ، عقوبة عليهم بإثمهم فيزدادوا إثما ، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
وترى إذا كان
إملاء الكافر وامهاله شرا له فموته خير ، فهل ان المؤمن كما
الكافر موته خير
مهما كانت حياته أيضا خيرا؟ نعم موته خير حين يزداد بإملائه شرا ، وحياته خير حين
يزداد خيرا ، والرواية القائلة بان موته خير مؤولة على الحالة السائرة بين المؤمنين أنهم ـ في الأكثر ـ
لا يزدادون باملاءهم إيمانا ، بل إثما ، وعلى حد المروي عن سيد الساجدين (عليه
السلام) «اللهم إن كان عمري بذلة في طاعتك فعمرني وإن كان عمري مرتعا للشيطان
فاقبضني إليك قبل ان يسبقني مقتك وغضبك».
(ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ١٧٩.
«ما كان» من شأن
الله (لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ) الصالحين الواقعيين (عَلى ما أَنْتُمْ) المتظاهرين بالإيمان «عليه» أن يدع صفّ الإيمان مختلطا دون
تمييز حيث يتوارى المنافقون وضعفاء الإيمان فيه وراء دعوى الإيمان ومظهره ، فالدور
الإيماني العظيم يقتضي الصفاء والتجرد والوفاء والتميّز والتماسك والتحيز ، فلا
يكون في صف الإيمان خلل ولا في بنائه بلبناته دخل.
__________________
(ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَداءَ ... وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٠ : ١٤٢).
فالعلم هنا هو
الميز هناك يعنيان ميز الخبيث من الطيب أن يعلم كلا بعلامته ، فيصهر الصف ليخرج
منه الخبث ، وان يضغط لتتهاوى اللبنات المتهاوية ، وان تسلط عليه الأضواء لتكشف
الدخائل والضمائر : (لِيَمِيزَ اللهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٨ : ٣٧).
وان لميز الخبيث
عن الطيب أدوارا متدارجة متدرجة حتى يصل الدور الى ميز مطلق مطبق زمن القائم
المهدي (عليه السلام) ، و «لا تمضي الأيام والليالي حتى ينادي مناد من السماء يا
أهل الباطل اعتزلوا فيعزل هؤلاء من هؤلاء ويعزل هؤلاء من هؤلاء ...» .
وإن لزمن الغيبة
دورا عاليا لذلك الميز المبين حتى تبين اهل الحق عن اهل الباطل فيحكم الحق بصالحي
اهله دون خلط ولا خبط ف «لتغربلن غربلة ولتبلبلن بلبلة حتى يعود أسفلكم أعلاكم
وأعلاكم أسفلكم».
ذلك (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الْغَيْبِ) المختص بربوبيته او بوحيه (وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أن يطلعه على غيب وحيه قضية رسالته
__________________
(فَآمِنُوا بِاللهِ) عالم الغيب طليقا «ورسله» عالمي غيب الوحي حقيقا (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بالله ورسله «وتتقوا» الله حق تقاته ما استطعتم (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
وهنا تناسب سلبية
الاطلاع على الغيب ميز الخبيث من الطيب ، فليس كما الله يعلم
الخبيث من الطيب
بالغيب ، ان يطلعكم على هذا الغيب كما لا يطلعكم على سائر الغيب (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ
مَنْ يَشاءُ) فيوحي إليه بشطر الغيب من وحي الأحكام وميز الخبيث من
الطيب ، أحيانا بما يطلعهم الله عليها ، وأخرى بما يوحي إليهم بسرّ البليات ومنه (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ) ، فذلك من الغيب المستور ، كيف ينهزم المؤمنون ـ أحيانا ـ وجاه
الكافرين ، وهم موعودون بالنصر؟ فيوحي إلى رسله ما يكشف الستار عن هذا الغيب (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ ..).
ذلك ، إضافة إلى
أن الميز بالامتحان أميز من الميز بالاطلاع دون امتحان ، فقد يتبلور الإيمان في
خضمّ الامتحان كما يتعور أخرى فيمن يدعيه خاويا ، فليعلم غيب سرّ الهزيمة بذلك الوحي
، ثم يعلم غيب واقع الإيمان واللّاإيمان بذلك الابتلاء ، فعند الامتحان يكرم المرء
أو يهان.
(وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ
هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ
مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ١٨٠.
كما أن إملاء
الذين كفروا شر لهم ، في أموالهم وأحوالهم ، كذلك إملاء البخلاء في أموالهم ، فرغم
أنهم يحسبون بخلهم بما آتاهم الله من فضله خيرا لهم ، إذ لا ينقص من أموالهم ، فتصبح
ركاما من المال ، (بَلْ هُوَ شَرٌّ
لَهُمْ) هنا حيث يحرّض عليهم المحاويج فيقضون عليهم يوما مّا ،
ويعيشونه أعداء طول حياتهم ، ثم هو شر لهم في الأخرى حيث (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ
الْقِيامَةِ)
طوق النار كما طوقوا أنفسهم بها في الأولى بخلا عن إنفاقها في سبيل
الله «ولله» لا سواه (مِيراثُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) بعد تقضّي الحياة الدنيا ، فلما ذا ـ إذا ـ البخل بما
آتاهم الله من فضله؟ فلو كانت هذه الأموال حصيلة مساعيهم ـ فقط ـ دون فضل من الله
، لكان إنفاقها مفروضا بأمر الله ، فضلا عن أنها ـ كواقع لا مردّ له ـ من فضل الله
، كما أنّ طاقاتهم ومساعيهم أيضا من فضل الله ، ف (أَنْفِقُوا مِمَّا
جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)!
وترى (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) تخص فضل الأموال؟ وليس فضل الله خاصا بالمال ، بل إن فضل
الحال علما وعقلا وما أشبه ، إنه أفضل من فضل المال كما «وعلمك ما لم تكن تعلم
وكان فضل الله عليك كبيرا» تجعله الفضل الأفضل الكبير ، ثم البخل به ، المعني
بالتهديد هنا ، هو بخل بواجب الإيتاء والعطاء ، مقدرا بأقدار الحاجات فردية
وجماعية ، فلا يختص ماله بالزكاة المصطلحة ، اللهم إلا إذا عني بالزكاة طليق واجب
الإنفاق من مال أو حال
__________________
وقيلة القائل (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) دليل على اختصاصه بالمال حيث العلم لا يطوق به ، مردودة
بان طوق العلم المتخلف أطوق من متخلف المال ، مهما اختلف طوق عن طوق ، أو تخلّف
طوق العلم عن طوق علم القيل ، حيث الأعمال الشريرة كلها أطواق : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ
فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٧ : ١٣) ، وقد
يروى عن رسول الله الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) «من سئل عن علمه فكتمه ألجمه
الله بلجام من النار يوم القيامة».
وهنا تجاوب عام
بين آية الطوق وسائر آيات الإنفاقات المفروضة ، وآخر خاص بينها وبين آية الكنز : (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ
يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ) (٩ : ٣٥).
ومن الملاحم
الغيبة في آية الطوق هي حشر عوامل الشر كما يحشر العامل بعمله ، فهناك مثلث من
الحشر تحضيرا حذيرا لثالوث الشرير (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا يعزب عنه مثقال ذرة.
وانما «هو خيرا»
لا «هو خير» حيث «هو» ضمير فصل عن المفعول المحذوف المعروف من (يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ) فلا يحسبنه خيرا .
__________________
وردا على زعم ان
الله فقير ، وإلا فلما ذا يأمر بالإنفاق وله أن ينفق إذا يشاء؟ يقول:
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) ١٨١.
هؤلاء الأغبياء (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) هم اليهود وكما قالوا (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) حيث حسبوا أنفسهم أغنياء في ذوات أنفسهم وأغنياء عن الله ،
فلا حاجة لهم إلى جزائه ولا إلى أضعاف مضاعفة يعدها الله لمن ينفق في سبيله ، ولقد
قالوا بكل قحة مقالتهم هذه وأنه : ما بال الله يطلب إلينا أن نقرضه من أموالنا
فيضاعفه لنا وهوربا شدد النهى عنها والنكير عليها؟! .
__________________
حاسبين بسوء
تصورهم ان الله بحاجة الى ما آتاهم من فضله ، رأوا اولياء الله فقراء فقالوا : «لو
كان غنيا لأغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى»
، ورأوا أن أفضلهم
وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد يستقرضهم وسواهم لسد جوعته ، فقد تقولوا
قيلات وتفعلوا افتعالات لا نجدها بين سائر الأقوام حتى المشركين رغم أنهم أولاء
أهل كتاب.
(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) نسخة طبق الأصل عما قالوا (إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) و (سَنَكْتُبُ ... قَتْلَهُمُ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ، وترى هذه الكتابة إن كانت هي ذلك الاستنساخ فلما ذا «سنكتب»
مستقبلا عن نزول هذه الآية وبينها وبينهم أمة من الزمن؟.
القصد من الكتابة
هنا هو واقعها العذاب بعد واقع الكتاب ، وكما تلمح له (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) فان هذا القول لا دور لواقعه إلّا بعد الموت حيث هو بداية
العذاب.
فكتابة قولتهم هذه
وقتلهم الأنبياء بغير حق هي كتابة الملكوت ان تظهر القولة والقتلة وسائر القيلة
والغيلة بمظهر الواقع المستور هنا المشهور هناك ف (لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
ولقد حفظ تاريخ
بني إسرائيل سلسلة عظيمة أثيمة من قتلهم الأنبياء بغير حق ، آخرها محاولة اغتيال
المسيح (عليه السلام) زاعمين انهم قتلوه ، متباهين بذلك الجرم العظيم (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ).
__________________
ذلك ومن قتلهم
الأنبياء إذاعة أسرارهم المسبّبة لقتلهم حيث المسبب للقتل قاتل مهما اختلف قاتل عن قاتل.
(سَنَكْتُبُ ... وَنَقُولُ
ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) وهو نفسه المكتوب عليهم من أقوالهم وأعمالهم المسجلة في
مختلف سجلّات الكون.
وترى كيف يتفوه
عاقل مهما كان جاهلا بهذه القولة القاحلة الجاهلة مهما كان مشركا فضلا عن اليهود
وهم أهل كتاب؟.
قد تكون هذه منهم
على سبيل الهزء والإلزام ، أن لو كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيا وكان
القرآن كتابا من الله لما تطلّب إلى ربه قرضا من عبيده ، ولا نبيّه قرضا منا ، ولا
أمته فقراء ، ثم وليس بذلك البعيد جدّ هذه القولة ممن يقتلون الأنبياء بغير حق ،
وكما قالوا قيلات مثلها ينقلها القرآن ك (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) واضرابها.
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢).
«ذلك» العذاب
وكتابة قولتهم وفعلتهم (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) منهما ، فأصبحتا منسوختين في سجلات الأقوال والأفعال ، ثم
ظاهرتين يوم الحساب بواقعهما ، فليس العذاب ـ إذا ـ إلا ما قدمت أيديكم كما قدمت ف
(إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ـ (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ).
ف (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ) ب (أَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلو كان ظلّاما للعبيد لما عذبكم بما عذبتموهم ، فترك
العذاب عمن عذب العبيد ليس ظلما ، بل التارك ظلام للعبيد ، فإنهم ظلموا على علمه
وقدرته ، وقد وعد
__________________
الظالم ان يعذبه
والمظلوم ان يرحمه و (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٥٠ : ٢٩) ، فترك
العذاب إذا ليس ظلما بسيطا ، بل التارك ـ إذا ـ ظلام للعبيد علما وعملا وقولا.
ومن ناحية طليقة
لهذه الجملة الجميلة ليس الله بظلام للعبيد الظالمين كما ليس بظلام للعبيد
المظلومين ، أما الظالمين ف (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) ولا تظلمون نقيرا ، واما المظلومين فلانه لا يترك الظالمين
سدى يفلّون ، هضما لحقوق المظلومين وعطفا على الظالمين!.
وكضابطة ثابتة من
عدل الله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤١ : ٤٦).
ثم (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) هي من دلائل الإختيار ، ف (أَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يحلّق سلب الظلم على كافة حقول الجزاء ، فلو كان العبد
مسيّرا غير مخيّر لكان الله ظلاما بأمره او نهيه فيما لا يستطيع العبد وهو تعالى
فاعله! ، ثم بعقابه على العصيان المسيّر فيه ، ولو أن الله لم يعاقب الظالم بما
قدّمت يداه لكان ظلاما بالنسبة للمظلومين ، ولو عاقب دون ظلم لكان ظلاما ، ولو
عاقب بأكثر مما قدمت يداه لكان ظلاما ، فمربع الظلم عبر عنه ب «ظلام» وما أحسنه
تعبيرا!.
(الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ)
(١٨٣).
أتراهم صادقين في
ذلك العهد؟ فكيف يؤمنون بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأضرابه من رسل لم يأتوا
بقربان تأكله النار! أم كاذبين؟ فما هو ـ إذا ـ دور (بِالَّذِي قُلْتُمْ) وما قولهم هنا إلّا (إِنَّ اللهَ عَهِدَ
إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ
حَتَّى
يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)!.
(بِالَّذِي قُلْتُمْ) ينقسم إلى طليق العهد وأصله ، فطليقه مكذوب لمكان (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وان كثيرا من الرسل المزودين بسائر الآيات لم يأتوا بهذه
الآية ، وأصله بالنسبة لبعض النبيين صادق لمكان (بِالَّذِي قُلْتُمْ) لا كأصل تتبناه الرسالة ، فلولاه لما تثبت رسالة أبدا ،
فإنما كان (بِقُرْبانٍ
تَأْكُلُهُ النَّارُ) من عديد الآيات الرسالية دون أن تحصرها بنفسها ، وإلا فما
هي الحاجة إلى سائر الآيات الرسالية ، وكثير من المرسلين لم يأتوا بقربان تأكله
النار.
فانما القصد من
الآية الرسالية دلالتها على الرسالة المدّعاة ، سواء أكانت قربانا تأكله النار ام
أية آية من آياتها كيفما كانت وأينما حصلت.
ثم لو كانت «قربان
(تَأْكُلُهُ النَّارُ) هي الآية الوحيدة المثبتة للرسالات وسائر الآيات وهيدة ،
فلا يصدّق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم يأت بها ، فلم كذبتم وقتلتم رسلا
جاءتكم بالبينات وبالذي قتلتم (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في ذلك العهد المدعى.
وتراهم هؤلاء
الحضور المخاطبين زمن نزول أمثال هذه الآيات ، هم أنفسهم شاركوا سابقيهم القتلة في
قتل النبيين؟ ولمّا يولدوا وقتئذ إلّا بعد آلاف من السنين!.
انهم برضاهم قتلهم
وعدم براءتهم من قتلتهم يحسبون في عدادهم ويحاسبون بحسابهم اللهم إلا في حكم القود
وما أشبه .
__________________
ثم ترى «قربان (تَأْكُلُهُ النَّارُ) تسمح لقرابين الأضحى في منى ان تأكلها النار أو الأرض
اتّباعا للسنة الرسالية السابقة وإن لم تحلق على كل الرسالات؟.
كلّا ، حيث النار
التي كانت تأكل قربان الرسالة كانت ربانية تدليلا على صدق الرسالة ، فلم يكن يسمح
وقتذاك ان تحرق القرابين فضلا عن شرعة القرآن المصرحة ب «فإذا وجبت جنوبها فكلوا
منها وأطعموا البائس الفقير» (٢٢ : ٢٨) ف «قد جعلت قربان أمتك في بطون فقرائها
ومساكينها» .
ثم ان «قربانا
تأكله النار» لم يأت في في القرآن إلا مرة يتيمة هي هذه ،
__________________
ثم لا ثانية لها
إلا قربان ابني آدم (إِذْ قَرَّبا
قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) (٥ : ٢٧).
ذلك مع إتيان
الكثير الوفير من سائر الآيات البينات ، مما يدل على أصالتها دون القربان ، فهو ـ إذا
ـ آية هامشية جانبية لبعض المرسلين ، دون أن يحتل القمة او يساوي ام يسامي سائر
الآيات الرسالية ، وقد تلمح له مقابلة (بِالَّذِي قُلْتُمْ) ب «البينات» وكأنه ليس من البينات ام هي بيّنة هامشية
مقترحة ، فلم تكن آية أصيلة ، وانما هي آية أحيانية مقترحة على سبيل التعنّت دون
الاسترشاد ، فكما لم يؤمنوا بمن أتى بها من الرسل السابقين كذلك لم يؤمنوا بهذا
الرسول حيث لم يأت بها ـ على سواء ـ.
كما ومن العجاب
أننا لا نجد «قربانا تأكله النار» في التورات ـ على تحرّفها ـ كآية رسالية لرسول
فضلا عن كونها عهدا مستمرا مع الرسالات كلها ، فأين ذلك العهد المدعى ، الحاجب
بينهم وبين تصديق هذه الرسالة السامية؟!.
ذلك! ومن ثم فهذه
الدعوى في نفسها باطلة ، فان دلالة سائر الآيات المعجزات هي لأقل تقدير كدلالة
قربان تأكله النار ، فكيف يعهد الله الى بني إسرائيل ألا يؤمنوا لرسول إلّا أن
يأتيهم ـ فقط ـ بهذه الآية ، وقد أرسل رسلا بغير هذه الآية ، أم وأرسلهم بهما ،
والآية الرسالية ذات دلالة ذاتية على رسالة الآتي بها ، فكيف يبعث الله بها ثم
يعهد إلى قوم ألّا يؤمنوا لرسول أتى بها ، وذلك جمع بين متناقضين!.
فيا لها من مجابهة
قوية تكشف عن اتجاهة غوية لهم ، وعن كذب وافتراء منهم على الله وإصرارهم على كفرهم
، وهنالك تأتي تسلية حنونة لخاطر الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) ان
تكذيب الرسل يحلق على كل الأدوار
الرسالية فليس هو
بدعا من الرسل ان يكذّب :
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ
الْمُنِيرِ)
(١٨٤).
فالمصيبة إذا عمت
طابت وخفت كما إذا خصت هابت وثقلت ، و «كذبوك» هنا تعم اصل الرسالة المحمدية ، وأن
جمعا من الرسل لم يأتوا بتلك الآية المقترحة ، وأنهم كذبوا جمعا منهم أتوا بها ،
فقد تشمل «كذبوك» ذلك الثالوث كله مهما كان أصل النبوة رأس الزاوية.
ثم «البينات»
المزوّد بها كل الرسل هي الآيات البينات الرسالية التي أتت بها الرسل ، والزبر جمع
الزبور من الزبر وهو الزجر بحكمة وموعظة وتخويف وتحذيركما نراها في زبور داود (عليه
السلام).
واما (الْكِتابِ الْمُنِيرِ) فقد يعني كتاب الشرعة الأصيلة المنيرة على البينات وعلى
الزبر ككتاب نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) وفوق الكل القرآن العظيم ،
ولكن «من قبلك» يخرجه عن هذا المجال.
وقد تلمح وحدة «الكتاب»
أمام جمعية (بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ) انه أصل الزبور والبينات ، وكما أتى مفردا في (٢٣٠) موضعا
ولم يأت جمعا إلا في ثلاث.
ثم الفصل بين
البينات والزبر والكتاب المنير مما يدل على فصل الآيات المعجزات لسائر المرسلين عن
زبرهم وكتاباتهم ، والقرآن بما يجمع هذه الثلاث يمتاز عن كل كتب السماء بهذه
الجمعية البارعة ، لحد أصبح آية رسالية قبل كونه كتاب الرسول ، حيث يثبت رسالة من
جاء به ، ومن ثم هو تبيان لكل شيء تحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة! : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ..).
(كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)
(١٨٥).
«كل نفس» مهما
شملت كل النفوس ـ الانسانية والجنية والملكية وسواها من الأحياء ، رسولا وسواه
وملك الموت بمن سواه ـ ولكنها ليست لتشمل
__________________
الذات القدسية
الإلهية مهما يطلق عليها «نفس» حيث لم تأت له سبحانه إلّا مضافة «نفسك ـ نفسي»
تعنيان ذاته تعالى وتقدس ، واما النفس دون اضافة فلا تطلق عليه ابدا ، كما «هو
الحي الذي لا يموت» وسائر البراهين عقلية ونقلية هي مجندة لاستحالة موته تعالى .
وذوق الموت يختلف
عن الموت الفوت ، فانه ذوق لانفصال الروح عن البدن وهي حية في بدن آخر في البرزخ ،
ولولا حياة النفس الإنسانية حين الموت لما كان لذوقها الموت من معنى فانما النفس ـ
وهي الروح ـ تذوق موت البدن وموتها عن البدن انفصالا عنه دون فوت.
(وَإِنَّما
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تحصر توفية الأجور بيوم القيامة ، فطليق الأجر يرى في
الأولى بسيطا وفي البرزخ وسيطا : (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ
الْجَزاءَ الْأَوْفى).
(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ) إزالة عن معرة فيها إذا (إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (١٩ : ٦٨) (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) بعد زحزحته عن النار ، (فَقَدْ فازَ وَمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا) حياة (إِلَّا مَتاعُ
الْغُرُورِ) حيث يزينها لأهليها الغرور كأنها أصل الحياة لحد يشترى بها
الحياة الأخرى معاكسة ظالمة وقسمة ضيزى ، أم ولان الغرور لا متاع له على الحقيقة ،
وإنما يراد به ان ما يستمتع به الإنسان المغرور من حطام الدنيا ظل زائل وخضاب ناضل
، زيّنه له الغرور كأنه متاع يقصد وحياة تعتمد ، وهو متاع يشرى به الحياة الآخرة
لمن أبصر بها فبصرته ولم يبصر إليها فأعمته.
وقد يدل التحليق
العام في ذوق الموت لكل نفس ان القتيل ميت مهما كان
__________________
شهيدا او سواه ،
فبين الموت والقتل عموم مطلق.
ثم والزحزحة عن
نار البرزخ والاخرى تبدأ من نيران الشهوات في الدنيا وكما يروى عن رسول الهدى (صلى
الله عليه وآله وسلم) ان موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأ وإن شئتم
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة .. و «من أحب أن
يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت
إلى الناس ما يحب ان يؤتى إليه» .
ويقول حفيده
الصادق (عليه السلام) «خياركم سمحاءكم وشراركم بخلاءكم ومن خالص الايمان البر
بالإخوان والسعي في حوائجهم وان البار بالإخوان ليحبه الرحمن وفي ذلك مرغمة
للشيطان وتزحزح عن النيران ودخول الجنان» .
والزحزحة عن النار
تصور لنا جاذبية لتلك النار ، جاذبية منهومة تجذب إليها ناهمة الأخفّاء ، أفليست
لأصل النار ـ وهي الشهوة والمعصية ـ جاذبية ، أفليست النفس بحاجة الى ما يزحزحها
عن نار الشهوة ، فكذلك نار البرزخ والقيامة طبقا عن طبق فإنهما من خلفيات نار
الدنيا ، فكل زحزحة عن نار هي إدخال في جنة على قدرها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى).
وقد تكون قضية الصبر
والتقوى السكوت أمام الأمور الهاجمة ، فالسكوت ،
__________________
كما قال علي بن
الحسين (عليهما السلام) «لوددت أنه اذن لي فكلمت الناس ثلاثا ثم صنع الله بي ما
أحب ـ قال بيده على صدره ـ ثم قال : ولكنها عزمة من الله أن نصبر ثم تلا هذه الآية
.
وأخرى تكون قضيتها
الكلام ردا على شطحات وشبهات جدالا بالتي هي أحسن إن أمكن ، وثالثه قتالا بكل صمود
حفاظا على هالة الايمان وحالته فرديا او جماهيريا.
ولقد أتى عزم
الأمور في حقل الدفاع عن الدين ، امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٣١ : ١٧) ، ام ـ بالنهاية
ـ قتالا في سبيل الله.
إذا فالصبر في حقل
المواجهة لأذى الأعداء هو عدم التغلّت عما أنت عليه من إيمان ، وعدم التلفت عما
يتوجب عليك في المواجهة سلبا وإيجابا من قضايا الايمان ، فليس هو صبر الفشل والبتل
والكسل! ، فانما هو صبر البطل كما تقتضيه بطولته الايمانية.
(لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
(١٨٦).
هذا توطين لخاطر
النبي الأقدس ، القريح الجريح ـ والذين معه ـ من أذى الكافرين ، أنه لا يختص
بانهزام أحد وقيلات المنافقين والذين في قلوبهم مرض وويلات ضعفاء الايمان ، بل هو
مستمر على مدار الزمن.
__________________
فالبلاء النازل
فجأة فجيعة لا تحمل ، ولكن النازل على علم به وترقب له ليس بتلك الصعوبة الفاجعة ،
وهكذا يوطن الله قلوب المؤمنين على النوازل ، لكي يستعدوا لها ، حين تتناوشهم
الذئاب بالأذى ، وتعوى حولهم بالدعايات المضللة ، وحين يصيبهم الابتلاء منهم
والفتنة.
ف «لتبلون» أيها
المؤمنون حسب قابلياتكم وفاعلياتكم ودرجاتكم (فِي أَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ) ـ «أموالكم» التي حصلتم عليها في تحصيلها وصرفها وإنفاقها
، و «أموالكم» التي تجاولون في تحصيلها «أنفسكم» في ذواتكم ثم «وأنفسكم» فيمن
يتصلون بكم بقرابة او نسبة او اتصال أخوي ايماني (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) كاليهود والنصارى «ومن الذين أشركوا لتسمعن .. أذى كثيرا»
من لغو القول الزور والغرور ، ومن ألوان التهم والشبهات المفتّتة لعضد الايمان
والدعايات الهارفة الخارفة الخواء الهادفة القضاء على الإسلام ، وكما نراها
ونسمعها من المبشرين المسيحيين ومن الصهاينة المجرمين ، سلسلة موصولة مع الزمن لكي
ينالوا من شرعة القرآن والمتشرعين بها كل نيل ويميلوا بهم كل ميل.
تلك الدعايات
الواسعة من كتاباتهم وابواقهم الجهنمية ضد الإسلام ومعهم استعمار الشرق والغرب ،
ولهم طائلة الأموال والعدة والعدة المديدة ، ولكن :
(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم صبرا جميلا فلا تتفلتوا عن صامد الإيمان ولا
تظنوا بالله ظن الجاهلية ، صبرا فيه الحفاظ على صالح الإيمان والجدال على طالح
الكفر ، لا صبر التخاذل والتحمل وأنتم قادرون على الدفاع ، بل هو صبر أمام التعاضل
«وتتقوا» في صبركم محاظيره ، وتتقوا الله في ذلك الموقف الحرج المرج «فان ذلك»
الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ) : عزم في الأمور الخطرة وعزم لها وعزم إليها ، فالعزم على
آية حال هو للموطن نفسه على الأمور
العازمة ، أن
يتغلب الإنسان على كل حادثة وكارثة دون ان تتغلبه ، أم هما ككفتي الميزان تتجاوبان
، فالأمور التي تقصد الإنسان لتنال منه صالح الايمان عقيدة وعملا ، لا بد من العزم
والصمود أمامها لكي لا تتغلب عليه لأقل تقدير ، أو يتغلب عليها لاكثر تقدير ، لا
أن يغلب متفلتا عن الصبر أمامها والتقوى في خضمها.
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ
فَقِنا
عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ
مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا
سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ
ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ
عِنْدِ
اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً
أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ)
(٢٠٠)
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)
(١٨٧).
«و» اذكر (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) وهم حملته العلماء دون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ،
حيث التبيين لا دور له إلّا بعد التبينّ وليس ذلك إلّا للعلماء.
(لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ) واللّام هنا في موضع القسم تأكيدا لمدخولها ، والناس هم
أعم من الناس الكتابيين والمشركين والمسلمين مهما اختلفت فاعلية التبيين فيهم ،
ومما تدل عليه «لتبيننه» وجوب تبيين الكتاب وتفسيره حسب نصه وظاهره المستقر ،
تبيينا لبعضه ببعض دون نثره نثر الدقل وضرب بعضه ببعض ، فانه ليس من تبيين الكتاب
وتفسيره ، بل هو تفسير للكتاب عن مراده وتبيين لآراء الذين أوتوا الكتاب ، وهو
كتمان للكتاب عن مراداته ومقاصده.
ترى ولماذا «لا
تكتمونه» نهيا وقضية صحيح الأدب «لا تكتموه»؟ لأن
«لتبيننه» ليس
امرا حتى يعطف عليه النهي ، إنما هو إخبار آكد من الإنشاء ، فكذلك «لا تكتمونه»
عطفا كمعطوف عليه.
وقد تكون (وَلا تَكْتُمُونَهُ) حالا عن واجب التبيين ، تبيننا حال عدم الكتمان ، فقد لا
يبيّن الحق ، وأخرى يبين ويكتم واقع المعني منه تحريفا في لفظه أو تجديفا في
معناه.
فلا يكفي تبيين
الحق لفظيا حال كتمان صالح معناه ، وإنما هو تبيين له متين دون خفاء وإخفاء ذلك ،
ولكن «فنبذوه» : ميثاق الكتاب (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) نبذا لتبيينه كأصل ، أو نبذا لمعناه كما يعني بعد تبيين
الأصل ، وكلاهما كتمان للحق مهما اختلفا في أصل وفصل ، والنبذ وراء الظهور يعني
أنهم تغافلوا عن ذكره وتشاغلوا عن فهمه وتفهيمه فأصبح كالشيء الملقى خلف الظهر لا
يراه فيذكره ولا يلفت إليه نظره.
(فَنَبَذُوهُ ...
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) مالا ومنالا في قيادات زمنية أو روحية وكل ثمن الدنيا أمام
الحق قليل ضئيل (فَبِئْسَ ما
يَشْتَرُونَ) من ثمن بخير ما يبيعون من مثمن.
إنهم نبذوا ذلك
الميثاق وراء ظهورهم بين مثلث الناس ، ناسهم الأميين ، والناس المشركين والناس
المسلمين ، ومن أهم ما نبذوه البشارات المحمدية المودوعة في كتابات السماء تحريفا
وتجديفا أم إخفاء وكتمانا لها عن بكرتها .
هنا (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) حين تعني اهل الكتاب الاصطلاحيين ، بأحرى تعني اهل القرآن
المسلمين ، فعلى علماء الإسلام ان يمحوروا القرآن في كل علومهم ومعارفهم ، ثم
عليهم التبيين دون كتمان ، فالكاتمون كتاب الله في
__________________
ثالوثة : تعلما
وتعليما وبيانا صالحا لما يعلمونه ، إنهم هم الملعونون أيا كانوا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٢ : ١٥٩) وقد
يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «من كتم علما عن أهله ألجم
بلجام من نار»
، وعن علي (عليه
السلام) : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.
(لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ)
(١٨٨).
(الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) به من منكر بديل المعروف (وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من معروف ، أولئك الحماقى الأنكاد عليهم وزران اثنان : الفرح
بفعلهم المنكر ، وحبهم ان يحمدوا بما لم يفعلوه من المعروف وهذا كفر ذو بعدين
بعيدين عن اصل الايمان حيث الفرح بالعصيان نكران للعقاب كما الحمد بما لم يفعل
تحريف لموقف الثواب عن الصواب.
(فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) كما يزعمون ، بل (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) والمفازة هي الأرض البعيدة التي إذا قطعها الإنسان فاز
بقطعها وأمن من خوفها.
__________________
و (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) تشمل الى سلبية الأفعال المحمودة عن بكرتها ، سلبية العدّة
والعدّة فيها ، أنهم فعلوا خيرا مّا ويحبون أن يحمدوا بأكثر مما يستحقون ولم
يفعلوا القدر الذي يستحق الأكثر ، فمهما كان الاول ظلما طليقا فهذا ظلم نسبي.
ثم ان مناسبة
السياق واطلاق الآية تصدق الرواية القائلة انهم اليهود والمنافقون وكذلك غيرهم من نصارى ومسلمين وان لم ترد به الرواية ،
هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا من نقض الميثاق في تبيين الكتاب وهم ـ مع ذلك ـ يحبون
أن يحمدوا بما لم يفعلوا من ميثاق الكتاب.
وذلك حسب أصلهم
النحس النجس : «الغاية تبرر الوسيلة» فالحفاظ على الشرعة الإسرائيلية ، أو الحفاظ
على باطن الكفر وظاهر الإيمان ، يبرر عندهم التخلف عن ميثاق الكتاب فرحين وهم
يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا : فهم من الأخسرين اعمالا : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٣).
وقد تظل الآية تذم
بطليق مضمونها كل هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا من نقض الميثاق الرباني ، ويحبون ان
يحمدوا بما لم يفعلوا ، تلبيسا على المجاهيل
__________________
الأغفال ، فارحين
فارهين بذلك الإغفال ، (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) على حد زعم هؤلاء المجاهيل (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ).
وكم من فرق فارق
بين هؤلاء النحسين وبين (الَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٢٣ : ٦٠) فقد
تعتبر طائفة او اشخاص أنفسهم من الناجين مهما ظلموا او بغوا او طغوا ، وكأن الله
يختصهم برحمته دونما شرط شرطه على سائر عباده كما (قالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ..).
كلّا! (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) دون ما ادعى ف (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم لم يكسبوا إلّا خيرا فلما ذا يرهنون؟!.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩).
«ولله» لا سواه (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وملكهما ضمن ملكهما بما فيهما وما بينهما (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من فعل او شيء ممكن ذاتي «قدير».
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ)
(١٩٠).
(إِنَّ فِي خَلْقِ) الله (السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ، وان في مخلوقية السماوات والأرض ، بما لهما من مختلف
الصنع المنضّد ، «و» في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) وهو إتيان كلّ خلف الآخر بصورة منظمة «لآيات» على وجود
الخالق وتوحيده وقاصدية خلقه (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ألباب لعقولهم حيث القشور مقشّرة.
ذلك ـ لأن الخلق
دليل الخالق واختلاف الخلق دليل قصده وتصميمه ، ونضد الخلق دليل توحيده.
وهذه حقيقة هي
حقيقة بالتفكير الكثير ، كمقوم قائم من مقومات التصور الاسلامي السامي عن الكون
كله ، والصلة الأصلية بينه وبين الإنسان فطريا وعقليا وحسيا وعلميا ، حيث يدل على
ضوء هذه الجهات الأربع الإنسانية على خالق الكون من جهة وعلى الناموس الذي يصرفه
وما يصاحبه من غاية وقصد وحكمة من أخرى.
وإن في ذلك لآيات
لأولي الألباب ، آية الوحدة والحكمة والحيطة العلمية وفي القدرة الخلاقة أماهيه من
آيات الربوبية ، وقد اتجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب ـ والله من وراءهم رقيب
مجيب ـ وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح بكل مصاريعه ، متأملين ما ينطق به آيات وما
يوحي به من حكم وغايات.
فالعقول القشرية
تكتفي بألفاظ الإيمان ، ومن ثم بعقيدة الإيمان والفكر دون العمل بالأركان ، فأما
أولوا الألباب فهم يصدقون باللسان معتقدون بالجنان وعاملون بالأركان كما جمعت لهم
هذه الثلاث في هذه الآية ، ابتداء بظاهر اللسان ثم التصديق بالجنان ثم التحقيق ،
بالأركان ، فإذا كان اللسان مستغرقا في الذكر ، والأركان في الشكر ، والجنان في
الفكر ، كان العبد مستغرقا بكل كيانه في العبودية وأصبح من أولي الألباب ...
(الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ
فَقِنا عَذابَ النَّارِ)
(١٩١).
(الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ) قالا وحالا وافعالا في مثلثة الأحوال : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) فانها تحلق على كافة الأحوال فيصبحون هم أنفسهم بكل
حالاتهم ذكر الله ، ومن مخلفاته التفكر في خلق الله ، ومن منتجات ذلك التفكر
(رَبَّنا ما خَلَقْتَ
هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) :
من باطل الخلق
وعاطله ، فحين ذكرناك في أحوالنا كلها وفكرنا في صالح خلقك وآمنا أنك ما خلقت هذا
باطلا فأيقنا بالمعاد كما أيقنا بالمبدء ، وحقّقنا العقيدة والعمل بما بين المبدء
والمعاد ، إذا (فَقِنا عَذابَ
النَّارِ) ، ذلك! و «لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله
قائما كان او جالسا او مضطجعا» .
ولان الصلاة هي
أفضل ذكر الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) فقد تعني الحالات الثلاث لذكر الله الحالات المترتبة في
الصلاة «قياما» ان أمكن ، ثم «قعودا» حين لم يستطع على القيام ثم (عَلى جُنُوبِهِمْ) على أقل تقدير حين لا يستطيع على القيام فيها ولا القعود ،
فقد يستفاد منها المروي «لا تترك الصلاة بحال» وكما يروى عن رسول الهدى (صلى الله
عليه وآله وسلم) : «صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب» .
__________________
ولقد وردت بشأن
هذه الآيات روايات ما أرواها وأروعها ، منها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعد بالغ تعبده «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» و «ويل لمن لاكها
بين فكيه فلم يتأمل فيها» .
فالتفكر التفكر ،
فانه حياة قلب البصير ، و «فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة»
ولكن فيم؟ في خلق
الله وليس في ذات الله وكما يروى عن
__________________
رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ومن لطيف الجمع في هاتين الآيتين الجمع بين أطوار العبودية
الثلاثة : الذكر باللسان حيث يشمله وسائر الذكر (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ) والعمل بالأركان (قِياماً وَقُعُوداً
وَعَلى جُنُوبِهِمْ) والتصديق بالجنان «ويتفكرون» إشارة إلى عبودية القلب
والفكر والروح ، وهذه الثلاث تحلّق على كيان الإنسان ككل.
هنا (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) يعني لغوا دون هدف صالح وهو لعب بالخلق (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢١ : ١٦).
«سبحانك ربنا» من
اللعب واللغو ، فسبحانك من عدم إقامة يوم القيامة الجزاء (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) التي هي للناكرين حقّ الخلق والمعاد ، ونحن معترفون به
وعاملون له داعين إليه.
(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)
(١٩٢).
أترى ربنا تدخلنا
النار ونحن عبيدك الطائعون لك العابدون إياك؟ وذلك خزي والمؤمن عزيز؟!.
إنه الخوف من خزي
النار قبل خوف النار ، والخزي فيها إنما هو للبعيدين عن ساحة قدسه تعالى ، فإنما
يهمهم أولاء الداعين قربه ورضاه إن في الجنة أو في النار ، فهم أشد حساسية في بعدهم
عنه تعالى من دخول النار ، وبقرنهم
__________________
بالبعدين عن الله
من نفس النار ، ف «العار والتخزية يبلغ من ابن آدم يوم القيامة في المقام بين يدي
الله ما يتمنى العبد ان يؤمر به الى النار» .
ولان المؤمن لا
يخزى يوم القيامة : (يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (٦٦ : ٨) إذا فهو
لا يدخل النار مهما كان مؤقتا يخرج بعده ، فأصحاب الكبائر من المؤمنين لا يدخلون
النار ، انما يعذبون في البرزخ او يشفع لهم يوم القيامة في بقية باقية من كبائرهم.
فالخزي الدخول في
النار يختص بالكافرين كما (قالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (١٦ : ٢٧) طالما
الكافرون ليسوا على سواء في عذاب النار مادة ومدة ، فمنهم من يخرج عنها إلى الجنة
إذا لم يمحض الكفر محضا وله حظ من الايمان وهو التوحيد ، وآخرون يظلون فيها خالدين
ابدا ثم يخمدون مع خمود النار.
ثم المنفي عن
المؤمنين هو الخزي يوم القيامة ، واما البرزخ فقد يخزى المؤمن بالكبائر لتعزيزه
يوم القيامة بدخول الجنة.
(رَبَّنا إِنَّنا
سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ)
(١٩٣).
أوّل مناد هنا
ينادي للإيمان هو الرسول المنادي بالقرآن : (فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٥٠ : ٤٥) ثم
خلفاءه المعصومون (عليهم السلام) ، ثم العلماء الربانيون.
__________________
ولأنهم كلهم ميتون
، فالمنادي للايمان على مدار الزمان هو القرآن ، نودي به أم لم يناد به ، فانه هو
الناطق بالحق لمن ألقى السمع وهو شهيد ، مهما كان في نداء من يعرف القرآن رسوليا
او رساليا دخلا في تفهم القرآن.
وذلك النداء أيا
كان نداء صارم لا قبل له ببراهين الآيات الربانية آفاقية وأنفسية ، فليس نداء
مجردا عن البرهان كما ليس مجردا عن البيان ، بل هو بيان وبرهان ، بيان ببرهان
وبرهان ببيان.
و (يُنادِي لِلْإِيمانِ) دون (إِلَى الْإِيمانِ) كما (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وفوقهما (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ)؟
لأنه نداء وسيط ،
لا إلى الإيمان ككل ، ولا هدى دون وسيط كما في الصراط المستقيم ، فهو لمحة لامعة
الى ان اولي الألباب تخطّوا المرحلة الاولي وهي النداء إلى الايمان ، فإنهم ـ مبدئيا
ـ كانوا مؤمنين قبل النداء ، إذ كانوا يتحرون عن صالح الايمان ، فالقرآن ورسول
القرآن لهم نداء للايمان ، اي لصالح الايمان حتى يكمل برسالة القرآن ، إذا «فآمنا»
هو كمال الإيمان لحدّمّا لا بدايته البدائية فانها لغير اولي الألباب.
(رَبَّنا فَاغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا) السابقة على هذا الايمان قصورا دون تقصير ، واللاحقة عن
الايمان ، غفرا عما تهجم علينا من ذنوب فنقترفها ، ام نقتربها ، غفرا بعد واقع
الذنوب كالأول ، وآخر قبل واقعها كالثاني.
(وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئاتِنا) وهي أصغر من الذنوب ، حيث الذنب ما يستوخم عقباه ، والسيئة
هي أعم منها حين تنفرد ، وهي أخص منها حين تقرن بالذنوب كما هنا فهي ـ إذا ـ أصغر
منها.
(وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ) الذين هم براء من الذنوب والسيئات بما غفرت وكفرت.
وقد يتسق ظل هذه
الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها في اتجاهها في خضم المعركة الشاملة مع
الشهوات ، اتجاها الى الله في النجاة منها إلى مرضاته تعالى.
(رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ).(١٩٤)
وهنا اكتملت
الأدعية الثمان لأهل الجنة عدد أبواب الجنة ـ الثمان (فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ ...).
وذلك استنجاز لوعد
الله الذي بلغته رسله ، و (عَلى رُسُلِكَ) دون برسلك أمّا شابه اعتبارا بتضمن «على» معنى العهدة ، ان
الله تعالى عاهدهم على بلاغ هذه الرسالة ، لزاما في بلاغهم الرسالي.
وترى كيف يدعون (آتِنا ما وَعَدْتَنا) ومحال على الله ان يخلف الميعاد كما اعترفوا به؟ (آتِنا ما وَعَدْتَنا) له جانبان ، وعد الجزاء على صالح الأعمال ، والتوفيق لتلك
الأعمال حتى ينطبق عليهم وعد الله ، فكما ان الدعاء للثاني صالح للصالحين استمدادا
من الله ، كذلك للاوّل تخضعا له وتذللا بأننا لا نليق تحقيق وعدك فلو تركته ما كنت
تاركا لحق ، ولكنا نسألك ان تحقق وعدك فينا على قصورنا وتقصيرنا (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) مهما أخلفنا نحن الميعاد.
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)
(١٩٥).
ويا لها من
استجابة حبيبة غالية كضابطة ثابتة (أَنِّي لا أُضِيعُ
عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) فنفس العمل الصالح ـ قولا وفعلا وحالا ـ باق وكما تدل عليه
آيات
انعكاس الأعمال
والأقوال والأحوال ، فحين لا يضيع عمل عامل وهو باق غير حابط ، فليجز به يوم
القيامة ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فليس ـ إذا ـ مجرد العقيدة والتفكير والذكر هي الغاية
الايمانية ، وانما هذه التي تنحو نحو العمل ، العمل الايجابي تحقيقا واقعيا لذكر
الله والايمان بالله ، فالعمل الصالح هو الثمرة الواقعية للفظ الايمان وعقيدته
وطويته ، ولا سيما العمل الجاد في الجهاد.
ثم ولا فارق في
عدم الضياع بين ذكر وأنثى فلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس ، فان
بعضكم من بعض فانما الفارق هو فارق الأعمال ، حسب درجاتها ودرجات النيات
والطويات.
(فَالَّذِينَ هاجَرُوا) في الله حفاظا على شرعة الله ، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) وعلّ الفارق بينهما ان الأولين هاجروا بايمانهم دون إخراج
مهما كان إحراج ، خرجوا أو لم يخرجوا ، فانما هو عموم الهجرة في الله مهما كان من
مصاديقه الهجرة من الديار ، والآخرين أحرجوا حتى أخرجوا ، كمصداق من مصاديق الهجرة
في الله : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) محرجين ومخرجين ، إيذاء في نفس او مال او منال.
«وقاتلوا» في سبيل
الله حتى «وقتلوا» فمن المقاتلين من يقاتل دون ان يقتل او يقتل ، ومنهم من يقال
ليقتل ولا يقتل ، ثم منهم من يقاتل ليقتل وإذا لزم الأمر أن يقتل ، وهؤلاء الآخرون
هم المعنيون ب (قاتَلُوا وَقُتِلُوا).
(لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) كلها دون إبقاء حيث استقصوا التضحيات
__________________
كلها ، وتفانوا في
سبيل الله دون إبقاء.
(وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وذلك (ثَواباً مِنْ عِنْدِ
اللهِ) عندية الرحمة البالغة السابغة والزلفى البائقة وهم من اوّل
من يدخل الجنة
(وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الثَّوابِ).
لقد ذكر هؤلاء
الأكارم في أدعيتهم الثمان «ربنا» خمس مرات ، فكما ان للثماينة حساب كعدد أبواب
الجنة ، كذلك للخمسة حساب قد تؤثر في استجابة الدعاء ، وكما
يروى عن الامام
الصادق (عليه السلام) : من حزنه امر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف
وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية قال : لان الله حكى عنهم انهم قالوا خمس مرات «ربنا»
ثم اخبر انه استجاب لهم فيا ربنا وفقنا لما تحبه وترضاه بحق الخمسة الطاهرة
الباهرة.
(لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ
ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)
(١٩٧).
(ما يُجادِلُ فِي
آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي
الْبِلادِ) (٤٠ : ٤) والتقلب
هو كثرة الاضطراب في مختلف البلاد والتقلقل في الاسفار
__________________
والانتقال من حال
الى حال ، بوفور النعمة وكثرة القوة والسلطة.
(الَّذِينَ كَفَرُوا
فِي الْبِلادِ) لا يغررك تقلبهم في البلاد ، تقلبا في اي تغلب بمتاع ، في
دولة المال ام دولة الحال ، وتغلبا في اي تقلب ، فانما ذلك على طوله وطوله (مَتاعٌ قَلِيلٌ) فان الدنيا بكل متاعها بجنب الآخرة قليل (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهادُ).
فالغرور هو الذي
يغر اهل الغرور بذلك التقلب التغلب بمتاع ، وهو عند الله متاع قليل ، (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهادُ).
وقد تعم (فِي الْبِلادِ) الى تقلبهم في البلاد كفرهم في البلاد ، فقد يتقلب الكفار
في البلاد تقلب التجوال تغلبا ، ام يكفرون في البلاد تقلبا فيها في أهواءهم ،
والمعنيان معنيّان.
(لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ)
(١٩٨).
(لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا) عن كل تقلب عاطل وتغلب باطل ، وانحصرت تقلباتهم في تقدمات
المعرفة بالله والخدمة لعباد الله مهما كانوا فقراء او اثرياء ، حيث وقفوا كل
حياتهم في مرضات الله (لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ، عطاء غير مجذوذ ، فهم داخلون فيها دون خروج (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهي المضايف الربانية المخضّرة المحضّرة للمتقين ولهم نعيم
مقيم (وَما عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما عندهم وعند الناس ، فلذلك يضحون بهما ابتغاء ما عند
الله : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١٨ : ١٠٧).
(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ
خاشِعِينَ
لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)
(١٩٩).
اجل و (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ ، وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ) (٣ : ١١٥).
فمنهم (لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ) من كتاباتهم السماوية دونما تحريف وتجديف ، يؤمنون (خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ
اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وهي عبارة أخرى عن انهم لا يشترون بها اي ثمن لان ثمن
الدنيا كله قليل أمام ما أنزل الله الجليل من الجليل ف «أولئك» الأكارم (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) قدر سعيهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).
فهؤلاء هم
الكتابيون الذين يؤمنون بهذه الرسالة الأخيرة دونما تعصب على شرعتهم كعبد الله بن
سلام والنجاشي ، واضرابهما على مدار الزمن الاسلامي السامي ، مهما نزلت الآية بشأن
جموع منهم حضور زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ)
(٢٠٠).
تلحيقة ختامية
لهذه السورة تحلق على كل شروطات الايمان المفلح فرديا وجماعيا ، كنموذجة شاملة
كاملة عن ناجح الايمان وفالحه وكل صالحه ، حيث يحافظ على كافة المصالح الايمانية
السامية.
هنا يدعم مفلح
الايمان على دعائم اربع : الصبر ـ المصابرة ـ المرابطة ـ التقوى ، والنتيجة : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وهذه الأربع كلها
مربوطة بسبيل الله لا سواه ، كما الزاوية الرابعة هي تقوى الله في كل شروطات
الايمان ولا سيما الصبر والمصابرة والمرابطة.
١ «اصبروا» في
الأفراح والأتراح ، في البأساء والضراء ، في تكاليف الايمان ايجابية وسلبية ،
فالصبر ـ وهو رأس الايمان ـ هو زاد الطريق في هذه الدعوة الطائلة الشاقة ، الحافلة
بالعقبات والحرمانات والشهوات والرغبات ، وعلى تنفّج الباطل ووقاحة الطغيان وفاحشة
العصيان ووساوس الشيطان ، وعلى الجملة الصبر في كل عسرة ويسرة على طاعة الله وترك
معصية الله ، والقوامة لشرعة الله ، فلا يعني صبر التخاذل والتكاسل والتغافل في
حقول الايمان فانه من الشيطان.
ولان واجب الصبر ـ
فقط ـ شخصيا لا يفي بصالح الجماعة المؤمنة وحده او صالح عامة الشرعة الإلهية فلذلك
:
٢ «وصابروا» :
صابروا في مختلف طاقاتكم ورغباتكم صيانة عن تفلتها او تلفتها في غير صالح ،
وصابروا مع إخوانكم تعاونا على البر والتقوى ، وتواصيا بالحق وتواصيا بالصبر ،
تكريسا لكل الطاقات لحمل بعضكم بعضا على الصبر كما تحملون أنفسكم عليه ، تعاونا
وتازرا في التصابر ، وصابروا على شهوات المؤمنين ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم
وانحراف طبائعهم
وأثرتهم وغرورهم
والتوائهم.
وصابروا على تنفج
الباطل وتبلّجه عند اهله ، وعلى انتفاش الشر والضر ، وقلة الناصر ، وكثرة الغادر.
وصابروا على مرارة
الجهاد وما تثيره في النفس من مختلف الانفعالات ، في الانتصار والانهزام سواء.
وصابروا أعداء
الإيمان في سباق الصمود على العقيدة ، حيث الأعداء يحاولون جاهدين ان يقل صبر
المؤمنين فيفلّ ، فلا ينفد صبركم على طول الجهاد ، فذلك رهان في الصبر بينكم وبين
أعدائكم ، يبرزون فيه ويبارزون لمقابلة الصبر بالصبر والإصرار بالإصرار ثم تكون
لكم عاقبة الأشواط ، فإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي قدما إلى الأمام ، فما أجدر
الحق ان يسبق في رهان الصبر.
٣ «ورابطوا» رباطا
بين طاقاتكم الشخصية ، وآخر بين طاقاتكم الجماعية ومنها الصلاة جماعة وأخيرا في معارك الشرف والكرامة رباطا في الحرب ورباطا في
المحراب ، في الحروب الباردة الدعائية ، وفي الحروب الحارة ، حفاظا على ثغور
الإسلام زمنيا وروحيا.
و «رابطوا» في كل
ذلك مع قياداتكم الزمنية والروحية المتمثلة في الإمام ، بعد الله وبعد النبي ،
فالإمام هو الرباط الأدنى في هذه الثلاث والله
__________________
هو الأعلى والنبي
هو الأوسط ، والرباط مع القائد يشملهم على مراتبهم متوحدة في سبيل الله .
__________________
ولقد كانت الجماعة
المؤمنة لا تغفل عيونها أبدا ، ولا تستسلم للرقاد ، فما هادنها أعداءها قط منذ أن
نوديت لحمل أعباء الدعوة ، اللهم إلا من حمّلوها فلم يحملوها فأصبحوا غثاء للنسناس
إذ لم يلتزموا بشرعة الناس ، وطاعة إله الناس.
فلا بد من مرابطة
دائمة في الثغور العقيدية والأخلاقية والعلمية الثقافية ، والسياسية ، والاقتصادية
والحربية ، حيث الكل هي ميادين السباق بين الكتلة المؤمنة والزمرة الكافرة ،
فالعلماء الربانيون مرابطون في الحقول الروحية كما هم قواد في سائر الحقول.
والجيوش الإسلامية
مرابطون في الحروب الدامية الحامية المستمرة بين فريقي الحق والباطل ، والأغنياء
الأثرياء المؤمنون مرابطون في الحقول الاقتصادية.
والساسة الأزكياء
الأذكياء مرابطون في ميادين السياسة بكل حراسة وكياسة.
وكل هؤلاء
المرابطون يترابطون فيما بينهم لتنسيق الوحدة ووحدة التنسيق ، حتى يصبحوا يدا
واحدة على من سواهم ، تسعى بذمتهم أدناهم.
٤ (وَاتَّقُوا اللهَ) في الصبر والمصابرة والمرابطة ألا تتفلت عن سبيل الله ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل حركات الحياة وسكناتها ، وفي كل ثكناتها الحربية ضد
أعداء الايمان.
فالتقوى والتقوى
فقط هي الحارسة اليقظة في كل كارثة سلبية او ايجابية ، فهي هي زاد الطريق وراحلتها
(لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ).
وهذه التفاصيل هي
قضية الإطلاق في هذه القواعد الأربع ـ ف :
«اصبروا» في ـ على
ـ ل ـ من .... «وصابروا» بين ـ في ـ ل ـ
على ... «ورابطوا»
بين ـ مع ـ على ـ في ـ ل ... (وَاتَّقُوا اللهَ) في هذه وسواها (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) في سبيل الرحمان كما تفلجون سبيل الشيطان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!.
اجل وان المرابطة
في سبيل الله في كل حقولها هي السياج الصارم للمجموعة المؤمنة عن التفلت والتفكك
والانهيار ، ولا سيما المرابطة في الثغور العقيدية ومن ثم الثغور الجغرافية ، وعلى
ضوءها سائر الثغور : السياسية والاقتصادية والثقافية أماهيه.
والروايات الواردة
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل المرابطين تعمم المرابطة في سبيل الله
وأفضلها سبيل الحفاظ على العقيدة وعلى ضوءها سائر الثغور الاسلامية.
فكل ثغر من الثغور
الاسلامية بحاجة إلى مرابطة ممن يأهل لها ويقومون بحقها وحاقها ، فالحافظون لحدود
الله ـ ككل ـ هم المرابطون في سبيل الله ، دفاعا عن الحرمات الايمانية بألسنتهم
وأقلامهم وسائر جهادهم وجهودهم ما لزم الأمر.
فالربط في أصله هو
الايثاق ، فالمرابطة هي المواثقة ، ايثاقا من الجانبين فيما يحتاجه للحفاظ على
كيان المسلمين ، رباطا «بين» ورباطا «في» ، و «ل» و «مع» للكتلة المؤمنة بينهم ،
ورباطا «على» لهم على أعدائهم.
ذلك والآيات في
الترابط الجماعي بين المؤمنين كثيرة ومن أوضحها بين الناس كافة آية التعارف : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٤٩ : ١٣) وآية
السخري : (نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا)
(٤٣ : ٣٢).
وبين المؤمنون
خاصة (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ...) و (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (٤٩
: ١٠) (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٥
: ٢)
(وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (٨
: ٤٦).
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣ : ١٠٤).
فالمسئولية
الإيمانية مزدوجة وليست فردية انعزالية ، فانها صناعة لبنات بناية الايمان ، ثم
صناعة البناية بهذه اللبنات ، أن يصنع كل واحد نفسه مسلما ثم يحاول في صنع الآخرين
، محاولة جماعية جماهيرية في تحسين وتحصين بناية رصينة متينة إسلامية لا تتهدم
أمام أي قصف من اي قاصف ، ولا تتهدر من اي عصف لاي عاصف ، فلا تحركه العواصف ولا
تزيله القواصف.
لذلك نرى ان الإسلام
يؤكد على التجمعات الإيمانية كأصل ايماني وحتى في العلاقات والصلات الشخصية بين
المسلم وربه كالصلاة والحج وما أشبه ، فإنهما كأفضل النماذج الجماعية في العبادات
تربطان المؤمنين بعضهم ببعض في صفوف متراصة من كل صنوفهم ولا سيما في مؤتمر الحج
العالمي الذي يهدف ـ فيما يهدف ـ توحيد الدولة الاسلامية على مدار الزمن ، وفيما
يسأل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الجماعة لمن ظل وحده فأهله وولده
في الشغل ، يقول : «المؤمن وحده جماعة» .
__________________
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا
لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)
(٦)
سورة النساء هي
ثورة حقوقية أخلاقية عقائدية أحكامية اماهية من صالحة الثورات الاسلامية لصالح
النساء على الهاضمين حقوقهن في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، مبتدءة بأنهن
والرجال من أصل واحد فهما اصل وفصل واحد ، كما وهي تختتم بمشاركتهن الرجال في حقوق
الميراث.
وهي كالأكثرية
الساحقة من سائر السور ليس ترتيب نزولها وترتيب آياتها في نزولها هو ترتيب
تأليفها.
فلقد كانت تنزل
آيات من سور عدة يؤمر النبي ـ عند نزولها او بعده ـ ان
يأمر بوضع كل منها
في موضعها من سورة مفتوحة فترة طويلة او قصيرة حتى تنظم آياتها كما هي الآن بين
أيدينا ، وكما كانت آيات من البقرة وآل عمران نزلت في مختلف العهد المدني على
طوله.
كذلك سورة النساء
، فان آياتها مختلفة النزول في زمنها وقد اتسقت بالسياق الحاضر حسب الوحي كما انها
نزلت بالوحي ، مهما لم يتعرف غير العارفين وحي القرآن الرباط القاصد بين آياته ،
فكل آية او آيات تحمل وحيين اثنين ، ثانيهما هو الذي يقرر مكانها من سورة مقررة
لها.
فترتيب الآي
القرآنية حسب التأليف ترتيب قاصد من الله بخلاف ترتيب التنزيل فانه كان حسب
الحاجات والمتطلبات التي لا رباط بينها ، فانما يوجد قاصد الترتيب بينها في
التأليف دون التنزيل ، اللهم إلّا فيما كان مرتب الآيات تنزيلا وتأليفا كالسور
والآيات المرتبة كما نزلت.
والأصل القرآني
فيما يشك اختلاف تأليفه عن تنزيله هو وفاقهما ، لان الترتيب قاصد فالمناسبة فيه
مقصودة كأفضلها في ميزان الله.
ففيما نتأكد
اختلاف التأليف عن التنزيل أو نتأكد وفاقهما فالأمر بين الأمرين ، وحين نشك فهما
محمولان على الوفاق لأنهما من الرفاق في قاصد التأليف.
ثم وهذه السورة
الثورة تمثّل جانبا أصيلا منقطع المثل مما تبناه القرآن للحياة الإسلامية السامية
، تفاعلا للإنسان المؤمن مع المنهج الرباني وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد من
السفح الهابط الخابط الى القمة السامقة المرقومة ـ خطوة تلو خطوة ـ بين تيارات
المطامع والشهوات والرغبات المضادة من أضداد الايمان أم بسطاء الإيمان ولمّا يدخل
الايمان في قلوبهم ، ومن ثم وسطاء الايمان حيث تعرضهم لهم.
نلمس فيها عملا
جاهدا في محو ملامح الطابع الجاهلي الذي منه انبثقت مجموعة مؤمنة بهذا القرآن ،
تطهيرا له من رواسب الجاهلية واستجاشة للدفاع عن كينونة الإنسان المميزة ، وتعريفا
عريقا عريفا بأعداء ، الكتلة المؤمنة المتربصين بها كل دوائر السوء ، والمتميّعين
فيها من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، كشفا لحيلهم ضدها وبينا لفساد تصوراتهم
، وسنّا لقوانين وضوابط ربانية تنظّم كل حياة المؤمنين وتصبها في القالب التنفيذي
الثابت الضابط ، دون الهابط الخابط.
ولقد كان حقا
حقيقا بالقرآن أن يصنع الإنسان بقمة الصنع ، لأنه من صنع المصدر الذي صنع الإنسان
: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ
الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ) .. (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟.
إن الجاهلية
الأولى وهذه الجاهلية الحاضرة المتحضرة ، تجدان ـ على سواء ـ مكانهما في النصوص
التربوية القرآنية ، وتجدان ايضا من يأخذ بأيديهما من مكانتهما السحيقة الى القمة
السامقة التي يحققها القرآن على ضوء تربياته وتزكياته العالية الغالية.
هذه السورة تتولى
رسم مفرق الطريق ـ بكل بيان وإتقان ـ بين الجاهليات على مدار الزمن ، وبين إنسان
القرآن ، المتمثل فيه خططه وارشاداته المنقطعة النظير بين كل بشير ونذير.
في مستهل السورة
نجد تقريرا غريرا للربوبية السامية ووحدتها ، وللإنسانية ووحدة أصلها ونسلها ، في
وصلها وفصلها ، ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة دون اية أثرة او عسرة ، واتصالها
سليما بوشيجة الرحم ، مع استجاشة هذه الروابط في الضمير الإنساني ككل ، واتخاذها
ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها ، وحماية الضعفاء عن طريق التكافل بين
الأسرة
الواحدة ، ذات
الأصل الواحدة والخالق الواحد والاتجاه الواحد.
والكثير من آيات
هذه السورة نجدها تعني رفع النساء عن السقوط الذي ارادتها لهن الجاهلية الاولى
والأخيرة ، إحقاقا لحقوقهن أمام الرجال كما يحق لهن ويحق لهم دونما تمييز ، وانما
لكلّ حقه كما يستحقه دونما زيادة او نقصان.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ١.
هذه الآية تقرر
أصلا واحدا للنسل الانساني الحالي ككل ، وهي اظهر الآيات بهذا الصدد وتتلوها آيات
أخرى تتجاوب معها في هذه المغزى ك (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها ...) (٧ : ١٨٩)
جعلا ذا بعدين :
خلقا وزواجا (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ...) (٣٩ : ٦) ـ
(إِنَّا خَلَقْناكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ...) (٤٩ : ١٣) ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٦ : ٩٨).
آيات خمس تتجاوب
في خلق الإنسان وإنشاءه من نفس واحدة ، فما هي هذه الواحدة؟ وكيف خلق الإنسان منها
ككل «وخلق منها ـ وجعل منها ـ زوجها»؟.
«الناس» هنا
تستعرض هذا النسل الذي نحن منه على مدار زمنه أولا وأخيرا دونما استثناء ، فلا يشمل
ناسا قبلنا وقبل هذه النفس الواحدة ، ولا يفلت منه ناس من هذا النسل على طول خطه ،
حيث الخطاب فيه على وجه القضايا الحقيقية فلا تخص ناسا دون ناس ولا زمنا او مكانا
له دون زمن او
مكان ، فالناس في
معنى الجمع وهو محلى باللام فيفيد الاستغراق ، وقضية التقوى وهي الخلق من نفس واحد
تشملهم كلهم دونما استثناء ، فلا اختصاص له بناس دون ناس ، اللهم إلّا من انقرض من
الأنسال السابقة التي ليس لها حظ في هذا القرآن من أي خطاب اللهم إلّا إشارة في
آية الخلافة وأضرابها أنها كانت تعيش قبل هذا النسل الأخير.
وقد يشمل الناس كل
الأنسال الانسانية ـ سابقة على هذا النسل ولاحقة ـ لولا قرينة قاطعة ، وهنا (نَفْسٍ واحِدَةٍ) قرينة على اختصاص الناس بهذا النسل ، وإلا فلا تصح (نَفْسٍ واحِدَةٍ) بل أنفس كل ناس خلق من واحدة.
ف (نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي الإنسان الأول من هذا الناس والأب الأول للناس ، فلا
تعني كائنا آخر أيا كان ، ولم تأت النفس في القرآن بطيات الآيات ال (٢٩٥) إلّا
وتعني الإنسان ، اللهم إلا في (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ) (٦ : ١٢) و (لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (٥ : ١١٦) ،
فاحتمال انها تقصد حيوانا غير انسان ، إذا خليات ام ذا خلية واحدة ، إنه هابط
خابط.
ف (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) تنهي خلق الناس كلهم إلى هذه النفس الواحدة ، ولكن (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) تضيف إليها زوجها المخلوق منها في انتسال الناس منهما ،
والواو ـ بطبيعة الحال ـ هنا حالية تعني «خلقكم ..» والحال انه خلق منها زوجها
ليخلقكم كلكم من ذكر وأنثى كما في آية اخرى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) فالذكر هو تلك النفس الواحدة وزوجها هي التي خلقت منها ،
فخلقنا من نفس واحدة ـ وخلق منها زوجها ـ يختلف عن خلق زوجها منها ، فإنها خلقت
منها دون توالد متعود ، ونحن خلقنا منها بتوالد بين ذكر وأنثى ، فلأن زوجها خلق
منها يصح أننا خلقنا منها ، اي منها وزوجها المخلوق منها ، اللهم الا في عيسى
المخلوق من أم دون أب ولكن امه مخلوقة
كسائر الناس من
ذكر وأنثى و (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣ : ٥٩).
وقد تكون الواو
بيانية تبين كيف (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) ولا بد في خلق النسل الإنساني من نفسين ، فالجواب (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) التي لا بد منها في ذلك الخلق المنتسل ، ثم (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ، ولكنها ـ إذا ـ بيان الحال او حال البيان.
وترى ذلك النسل
الأول هو من ولد النفس الواحدة وزوجها ، خلقوا منها ومنهما ، فهل ان سائر الأنسال
ايضا كما الأول تنتهي الى هذه النفس الواحدة وزوجها دونما ثالثة ورابعة أماهيه؟
إذا فكيف التوالد في سائر الأنسال إذا انحصرت في مبدء النفس الواحدة وزوجها ،
اللهم بسماح الزواج والتوالد بين الإخوة والأخوات من النسل الأول وذلك محرم في
كافة الشرائع الإلهية دونما استثناء!.
(خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) من ناحية (وَبَثَّ مِنْهُما
رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ـ وهم «كم» و «الناس» ككل ـ من اخرى هما نصان اثنان على أن
لا ثالث في أصل الانتسال ، فلو كان لبان في نص القرآن ، ولقد نص على حصر الأصل
فيهما فلا دور لجنية ولا حورية في ذلك الانتسال خلاف ما جاءت به بعض الروايات
المختلقة فلا نصدقها وإنما نصدق الأخرى الموافقة للقرآن .
__________________
النفس الواحدة
الأولى المثناة بزوجها المخلوق منها هي أصل الناس جميعا في كل الأنسال ، فلو أن
نفسا أخرى أم أنفسا غير الإنسان كانت هي الشريكة في بث رجال كثير ونساء منذ النسل
الثاني ، أم إن نفسا ثالثة أماهيه خلقت من النفس الأول مع زوجها ، فمن زوجها معها
انتسل النسل الأول ، ومن غيرها سائر الأنسال تناسلا بينه وبين النسل الأول ، لكان
النص هارفا جارفا حيث ينهي كل أنسال الناس إلى هذه الواحدة مع زوجها الوحيد
المخلوق منها.
وليست حرمة
التزواج بين الأخوة والأخوات حرمة ذاتية كالمحرمات الذاتية التي لا تتحول ، إنما
هي حرمة مصلحية إذ لو تداوم حل التناكح بينهما على مدار الزمن الرسالي لخلفت بلبلة
دائبة داخل البيوت ليل نهار ، ولتسابق الإخوة بينهم إلى أخواتهم والأخوات بينهن
الى إخوتهن وهما عائشان في بيت واحد دونما رادع وحجاب ، ولا أشكل من ذلك مشكلة
عائلية عريقة عويصة منقطعة النظير بين كل مشاكل الإنسان.
فحل ذلك التزواج
لفترة قليلة قدر إنجاب نسل في مستهل حياة الإنسان
__________________
لا يناحره اي رادع
ومانع فطري او تشريعي ، والنص ينهي كل الأنسال إلى الأبوين الأولين.
ثم التزاوج بين أخ
وأخت في فترتها القليلة ، هي أقرب من التزاوج بين النفس الواحدة وزوجها المخلوقة
منها ، فالأخ والأخت راجعان إلى أصلين غيرهما ، والأم الأولى راجعة الى الأب الأول
دون فصل! :
و «ان المجوس إنما
فعلوا ذلك بعد التحريم من الله فلا تنكر هذا إنما هي شرائع جرت أليس الله قد خلق
زوجة آدم منه ثم أحلها له فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثم انزل الله التحريم بعد ذلك»
.
أترى بعد ان (نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي كل ذكر من نوع الإنسان (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) يعني من جنسها لا من شخصها ، فتخرج الآية ـ إذا ـ عن نطاق
__________________
انتسال كل الناس
عن آدم الأول؟.
ولكن «خلقكم»
جميعا ، دون خلق كلا منكم ، ينهي انتسالهم جميعا إلى نفس واحدة ، والعبارة الصالحة
لذلك الاحتمال «خلقكم من نفوس متعددة وخلق منها أزواجها»! او «خلق كل واحد منكم من
..»!. ثم «الناس» و «كم» تعمان كل الناس ذكورا وإناثا ، المنتهون إلى نفس واحدة.
ومن ثم لم يخلق
الناس فيما سوى الأم الأولى إلّا من نفسين هما الأبوان فكيف خلقوا ـ إذا ـ من نفس
واحدة : (فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٨٦ : ٧) وهما صلب
الذكر وترائب الأنثى ، فلم يخلق كل في حاضر خلقه إلّا من نفسين اثنتين ، ثم الجميع
مخلوقون من نفس واحدة كأصل حيث (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) يفرّع زوجها عليها في الانتسال ، فيصدق أن النفس الواحدة
هي المخلوق منها ـ كأصل ـ كل الناس من ذكر وأنثى ومنهم زوجها ، ولو أن زوجها لم
يخلق من ذاتها بل من جنسها المنفصل عنها بطل إنهاء خلقنا الى نفس واحدة!.
وترى زوجها
المخلوقة منها خلقت من ترابها ولمّا تخلق هذه النفس
__________________
الواحدة إنسانا
بجسمه او روحه؟ مهما كان بالهيكل الترابي؟.
والتراب المخلوق
منه الإنسان ليس نفسا ولا إنسانا! ثم الانقسام في التراب الأصل ، ليس يجعل قسما
منه أصلا فالآخر هو الفرع ، بل هما أصلان كلّ لنفس ذكرا أو أنثى! ، أم إنها خلقت
منها وقد خلقت تلك النفس سوية ذات حياة وروح؟ فهذا وإن كان أنسب في إطلاق النفس على الأصل ، إلا أنه
يبعده بعد انفصال جزء حي عن حي تعذيبا للأصل والفرع والروح روح واحدة فيحتاج الفرع
الى روح ثانية!.
أم إنها خلقت من
جثمان النفس الواحدة بعد اكتمالها ولمّا تنفخ فيها الروح؟ وليس بذلك البعيد ، وصدق النفس عليها باعتبار المشارفة.
أم خلقت من هيكلها
الانساني الترابي سويا قبل تحولها جثمان إنسان فضلا عن الحياة؟ وهذا اقرب المحتملات إلا الثالثة التي هي أحق بتعبير
__________________
النفس ، ولا يرد
عليه الوارد على الأول لأصل المشارفة ، وانها أصبحت أصلا لاكتمال ظاهر البنية والشاكلة
الإنسانية لها ، ونحن لا نملك هنا علما إلّا العلم أن : الله أعلم وما علمنا هنا
إلا انها خلقت من نفس واحدة ، فليس الأصل هو اصل التراب إذ ليس نفسا وإن بالمشارفة
، فهو ـ إذا ـ بين خلقها من الهيكل الترابي او الانساني جسميّا او الانساني كلا ،
وعلى كلّ خبر والثلاثة متعارضة.
وترى ما هي الرباط
بين خلق الناس من نفس واحدة بزوجها المخلوقة منها ، وبين واجب التقوى؟ ولا بد هنا
من ربط علّي واقتضائي بينهما!.
هنا زوايا ثلاث
تصلح رباطا بينهما ، فخلقه إيانا وربوبيته لنا وإنهائنا إلى نفس واحدة علل ثلاث
لواجب التقوى ، والآية في الأوليين تتجاوب مع أخرى هي (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢ : ١٢).
ثم الثالثة لها
جهات عدة منها ان تخليق مختلف النفوس الإنسانية من حيث الألوان والطبايع والأقدار
هو دليل الإختيار البدائع في الخالق البارئ الجبار.
ثم من تقوى الله
تقوى الأرحام كما في تعقيبة الآية ، وقد يقويها انتهاء جميع الإنسال الإنسانية إلى
نفس واحدة وقد خلقت زوجها منها ، فالناس كلهم أرحام مهما اختلفت الدرجات قربا
وبعدا ، فقد كان بالإمكان خلق كل من الأبوين الأولين على حدة دون رباط وفصال ومن
ثم خلق كل إنسان كما الإنسان الأول دون تناسل ، ولكن قضية الحكمة الربانية ذلك
الرباط الوطيد بين بني الإنسان أولا وأخيرا ليتقوا الأرحام رعاية للأصلين أولا
وأخيرا.
__________________
فذلك التذكير
بوحدة الأصل ، وواقع التذكر بوحدة الآباء من بعد ، هما ظرفان ظريفان لتأثير
التذكير بصلة الأرحام ، فلو لم يكن الأصل واحدا لكان التذكير بوحدة الأصل كذبا
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومن ثم فخلق
الإنسان من نفس واحدة دليل قدرته تعالى على إعادته حيث الإعادة تشبه البداية في
النفس الواحدة من جهة وفي نسلها من أخرى (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).
وهنا (بَثَّ مِنْهُما) ـ وهو النشر والتفريق ـ دليل ان كل النطف الإنسانية
المنتسلة منهما كانت في صلب الأولى وترائب الأخرى ـ وطبعا ـ بحالة الذر دون حاضر
النطف ، بل هي أصولها.
ولماذا (رِجالاً كَثِيراً) ثم «نساء» دون كثرة وهن اكثر من الرجال بكثير؟.
إن قضية العطف في «ونساء»
استعادة وصف المعطوف عليه وهو هنا «كثيرة» اضافة الى ان في طليق «نساء» جمعا منكرا
دون وصف ظاهر ، لمحة إلى انهن اكثر.
أترى «كثيرا» هنا
ـ ويقابله قليل ـ تصلح لاحتمال أن نسل الإنسان منذ الثاني لا ينحصر في الأبوين
الأولين؟ كلّا حيث القليل لا يحمل كل الأنسال ما سوى الأول والأول هو القليل!
فإنما يعني الكثير كافة الأنسال الإنسانية على طول الخط.
(اتَّقُوا رَبَّكُمُ
... وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) تتساءلون فيما بينكم به حيث الحاجات والسؤالات كلها من
الكل راجعة إليه ، فاتقوه أن تنقطعوا عنه إلى سواه ، أو تطيعوا سواه أو تعبدوا
إلّا إياه و «به» هنا قد تعني الحلف به فيما
عنت من سببية
وخالقية ، ان كافة التساءلات في الحاجات قائمة به وحاصلة منه.
«واتقوا الأرحام»
أن تقطعوها وهي كلها راجعة الى نفس واحدة وزوجها (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيباً) في تقواكم وطغواكم ، بالنسبة لربكم وأرحامكم ، كما وكان
عليكم رقيبا في خلقكم من نفس واحدة.
وهنا (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أو لا تربط التقوى بعلة الربوبية وحكمتها ، ثم (وَاتَّقُوا اللهَ) تربطها بألوهية إذ «تساءلون به» ربوبية ، ومن ثم «الأرحام»
أن تصلوها ولا تقطعوها ، إذا فتقوى الأرحام هي من تقوى الله كما أن طغواها طغوى
على الله!.
ولأن الوالدين هما
من أرحم الأرحام وأقربهم نسمع قضاء الله بعبادته وحده تثنّى بقضاء بإحسان الوالدين
(وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).
فالأرحام درجات
أقربها الوالدان والأولاد وأبعدها من لا صلة بينك وبينه ظاهرا ، نسبا او سببا ،
فانه يؤول معك إلى الوالدين الأولين ، إذا فكل الناس أرحام! ومن عظيم أمر الأرحام انه جعل قطعها عدلا وقسيما لكل إفساد
في الأرض : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)
__________________
(٤٧ : ٢٢) ، كما و
«انه جعلها منه»
هنا ، حيث «امر
باتقاء الله وصلة الرحم فمن لم يصل رحمه لم يتق الله عز وجل» .
وحصيلة البحث حول
الآية ان النفس الواحدة هي الأب الأول لهذا النسل الحاضر وهو المسمى ب «آدم» في
القرآن ، ولم يأت اسم زوجه إلّا بصيغة الزوج ، فهما ـ إذا ـ شخصان اثنان ، ولا دور
لاحتمال النوعية فيهما ، فهل إن نوع الإنسان السابق المخلوق منه نسله هو نفس واحدة
لها زوج واحد؟!.
ثم إن زوجها مخلوق
منها ذاتيا ـ لا فحسب «منها» في صرف المجانسة ـ وإلا لما صح (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) في اي نسل من الأنسال الانسانية ، إذ لا بد لكلّ من نفسين
أولا وأخيرا ، لذلك (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) حتى يجمع بين ثنوية الأصل ووحدته في الإنسال.
ومن أبرز الملامح
في هذه الآية انتسال الناس منذ النسل الثاني في الإخوة والأخوات ، تزواجا بينهما
لردح قليل من الزمن ثم تحريما له مع الأبد ، ولا نصدق الحرمة الفطرية في هكذا زواج
حيث هو معمول متداول بين الزرادشت ، وليس تأبّي سائر المتشرعين عن هكذا زواج إلّا لحرمته
في كافة الشرايع ، ولم تكن الفترة اليسيرة في حليته لقضاء حاجة التناسل شيئا
مذكورا يصبح عمادا يعتمد عليه.
بل لو خلي الإنسان
وطبعه تناسيا لشرعة التحريم ، وجعل نفسه في جو
__________________
الإخوة والأخوات
في النسل الأول ، لم ير بدّا من فرض ذلك التزاوج ، مهما حرم بعدها لمصلحة مستمرة
على مدار الزمن.
هذا ـ ولا يدل
وجود الإنسان فيما وراء البحار كأمريكا المكتشفة حديثا ، على اكثر من مبدء واحد
لنسل الإنسان ، فلأن وصل القارات وفصلها حالة ارضية دائبة ، فاحتمال انفصال أمريكا
بريا عن سائر القارات قبل التاريخ بعد ما كانت متصلة بها يزيل إحالة وحدة الأصل.
كما أن علم «الجيولوجي»
: طبقات الأرض ، المثبت لعمر الإنسان منذر ملايين من السنين ، وبينهما وبين آدم
هذا بون شاسع لأنه لأكثر تقدير خلق قبل عشرة آلاف.
إن ذلك لا يحيل
انتسال النسل الحاضر من آدم ، حيث القرآن والسنة شاهدان على وجود أنسال إنسانية قبل آدم انقرضت ، فذلك ـ إذا
ـ هو الإنسان الأخير ، والمشابهة بينه وبين الأجساد المكتشفة لما قبل ملايين من
السنين ، لا تقضي بوحدة السلسلة انتسالا والوحي القاطع دليل لأمر دله على ان النسل
الحاضر متنسل من (نَفْسٍ واحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها).
فلا العلم ولا
الواقع الملموس ولا التاريخ الجغرافي وما أشبه ، لا تعارض انتسال النسل الحاضر من (نَفْسٍ واحِدَةٍ) خلقت قبل عشرة آلاف اما زادت من السنين ، وليست
الاستبعادات القاحلة غير المسنودة إلى برهان مبين بالتي تبطل نصوص الذكر الحكيم.
__________________
(وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ٢.
هذه الآية تحمل
ثلاث مراحل من قرب أموال اليتامى :
١ (آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) وإن لم تأكلوها ولم تتبدلوا الخبيث بالطيب.
٢ ثم (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ) وإن لم يكن أكلا لها عن بكرتها.
٣ ومن ثم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ) تحسّبا أموالهم أموالكم ، لأنها عندكم ، فكما أنهم يعيشون
في ظل رعايتكم وأموالهم على هامش أموالكم وهي بأيديكم ، فتأكلون أموالهم أكلا كما
يأكلون أموالكم ، فهما غاية واحدة مهما كان الأصل أموالكم.
كل ذلك حياطة
وسياجا صارما على أموال اليتامى عن بكرتها فلا تقرب إلّا بالتي هي أحسن ، حتى
الحسن ، فالقرب الحسن بالنسبة لأموال غير اليتامى حسن ولكنه بالنسبة لأموال
اليتامى سيّ حيث الفرض والمسموح هو الأحسن (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).
وإذا كانت تقوى
الأرحام فرضا في شرعة القرآن قضية القرابة المتواصلة فيها قريبة أم غريبة ، فتقوى
الأيتام أحرى فرضا ، لأنهم هم المنقطعون عمن يعولهم ، ولا سيما المنقطعون عن الرحم
البعيدون نسبا ، فأصل اليتم هو الانفراد وهو هنا الانفراد عن كافل الحياة حال
الحاجة الحيوية إلى كافل ، وأبرزه هو في غير البالغ الذي مات عنه أبوه ، مهما شمل
الأنثى البالغة المنقطعة عن أب وزوج ، وكما عنيت (فِي يَتامَى
النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ)
(١٢٧) وفي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «تستأمر اليتيمة»
وهي لا تستأمر للزواج قبل بلوغها ، بل هو بعدها حين فقدت أباها.
(وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ) أمر عام بالنسبة لأموال اليتامى كضابطة مهما كانت بحاجة
الى شروط وقيود كما شرطت في آيات أخرى وقيدت ، فلا يؤتى اليتيم ماله إلا بعد بلوغه
النكاح وإيناس رشد منه ، حيث ترشدنا آية الرشد الآتية إلى هذين الشرطين في
الإيتاء.
والخطاب في «آتوا»
يعم كل من عنده مال من اليتامى بحق كان أم بباطل ، وليا شرعيا أم سواه ، صحيح أنه
إذا حصل الرشد فقد زال اليتم فلا يصدق هنا أنهم يتامى يؤتون أموالهم ، ولكنهم ـ بعد
ـ يتامى لغويا مهما زال يتمهم شرعيا ، ثم علاقة الأول المشرف كما في (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) وهو الإشراف على بلوغه ، إشرافا لما مضى من يتمهم ، وأنّ
في اليتامى من بلغ ورشد كيتامى النساء ، لذلك ف (آتُوا الْيَتامى) هي أصلح تعبير وأصحه كضابطة تحلق على كل مراحل اليتم
ومصاديقه ، سواء استمر يتمه ام زال.
(وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) والتبدل هو تطلّب البدل وتكلّفه ، والخبيث والطيب هنا ـ كأصل
المعني منهما ـ هما المال الخبيث والطيب ، مهما شملا على ضوء المال الحال والفعال
منهما.
ف (لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) من مالكم «بالطيب» من مالهم ، والطيب هنا هو المبدل به
الموجود كبديلة عند اولياء اليتامى ، ولذلك صح (الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ) دون «الطيب بالخبيث» فإنه صالح إذا كان الطيب عند اليتامى
أنفسهم ، وموقف النهي هنا هو الأموال الكائنة عند أوليائهم لا عندهم أنفسهم ، ثم
الحال الطيبة وهي التي أمر الله الأولياء بها وجاه اليتامى والخبيثة هي الحال
الجاهلية ، وكذلك الفعال الطيب ، فلا يجوز بالنسبة لليتامى إلّا الطيب وكما تعنيه
في خصوص أموالهم : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٦ : ١٥٢).
ومن طليق الدلالة
في هذه الآية انها تعني النهي عن هكذا تبدل في كافة الحقول ، ان يطلب الإنسان
الخبيث بالطيب لنفسه او لآخرين ، مهما وردت هنا مورد اليتامى ، حيث الأصل هو عموم
اللفظ لا خصوص المورد.
هذه التوصيات
سلبية وايجابية تشي بواقع الجاهلية الجهلاء الظالمة بالنسبة لحقوق الضعاف ولا سيما
اليتامى والنساء ، ولا نزال حتى اليوم نراهم مهضومين في مختلف حقوقهم ، لذلك نرى
القرآن يسد كل الثغرات النافذة إلى حقوق الضعاف ، معالجا معاجلا بكل العلاجات
الصالحة ، رعاية للأهم فالأهم حين لا يمكن الجمع بين المهم والأهم ، لكي تصبح
الجماعة المؤمنة عادلة فاضلة في كل الحقول ، بريئة عن قضايا الجاهلية كلّها ،
فتصلح أن تكون امة مصلحة بين الأمم ، وسطا بين الرسول وسائر الأمم.
لقد كانوا يحتالون
في أموال اليتامى مختلف الحيل ، قد يحسبون البعض منها حقا شرعيا كأكل أموالهم الى
أموالهم ، تحسبا اموال اليتامى التي بأيديهم كأموالهم أنفسهم فيأكلون أموالهم الى
أموالهم ، غايتها كغايتها ، ولأنهم يتولّون أمورهم كآباءهم فليكونوا شركائهم في أموالهم
كآبائهم ، ف «الى» هنا كما في سواها هي لمنتهى الغاية ، ولا تعني معنى «مع» كما
قيل تصحيحا للمعني من (إِلَى الْمَرافِقِ) في آية الوضوء ، فانه غلط على غلط.
لقد تأرجف صاحب
هذه القيلة كالأرشية في الطوى البعيدة ليحصل ـ في زعمه ـ على فتوى شيعية هي وجوب
غسل اليدين من المرفقين ، فأوّل «إلى» في آية الوضوء الى «مع» واستدل بمشابه في
زعمه هو (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) وهذه الآية ، وهما لا تنصرانه في تأويله ولو عنت «إلى»
فيهما معنى «مع» ولن تعنه أبدا.
فعناية معنى خلاف
الظاهر بقرينة في مجال لا تأتي قرينة على نفس الخلاف
في مجالات أخرى
دون قرينة.
ذلك! وقد بينا على
ضوء آية أنصار الله أن «الى» فيها ليست لتعني إلّا معناها ، وهي هنا من نفس النمط
، إذ لا معنى للقول «لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم» حيث تشي بان المحظور هنا هو
الجمع بينهما في الأكل ، فأما إذا أكل أموال اليتامى منعزلة عن أمواله فهي حل كما
يأكل أمواله منعزلة عن أموالهم!.
كلّا! إنما هو أكل
أموال اليتامى تحسّبا كأنها من أموالهم أنفسهم ، فيأكلون ـ إذا ـ أموالهم إلى
أموالهم ف (إِنَّهُ كانَ حُوباً
كَبِيراً).
ووجه آخر في متعلق
«الى» أنه مقدر مثل كائن ، ف (لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ) الكائنة (إِلى أَمْوالِكُمْ) حيث اختلط بعضها ببعض ، فلا تبرروا أكل أموالهم قضية ذلك
الخلط ، حيث الحق غير مدخول ولا مخلوط ، فليست الغاية في أموالهم كالغاية في
أموالكم مهما تبينت او اختلطت.
و «الى» في آية
الوضوء هي «الى» في غيرها ، ولكنها لغاية المغسول دون الغسل: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) الكائنة (إِلَى الْمَرافِقِ) ، وأما كيف الغسل فقد بيّن في السنة.
(إِنَّهُ كانَ حُوباً
كَبِيراً) قد يصلح ضمير الغائب هنا رجوعا الى مثلث الأمر والنهي ، أن
عدم إيتاء اموال اليتامى ، وتبدل الخبيث بالطيب ، وأكل أموالهم الى أموالكم (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً).
واصل الحوب هو
الوجع و «هو مما يخرج الأرض من أثقالها»
وهو هنا الإثم
الموجع وجعا كبيرا ـ حيث يخرج أثقال من أرض الحياة لليتيم ـ لمكان يتم
__________________
صاحب المال ، ولا
سيما إذا أكلت ماله إلى سائر الأموال ، كأنه من أموالكم فحق لك أن تأكله دون تمييز!.
ولأن القسط ـ وهو
فوق العدل ـ فرض بالنسبة لليتامى ، وهو بحاجة إلى علاج في جمع المحظورين ، حظرا عن
أكل من أموالهم أم تبدل الخبيث بالطيب فتضيع ، وحظرا عن تركهم فيضيعوا.
وقد روي انه لما
نزلت هذه الآية في مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله سبحانه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)
.
وكما يروى عن باقر
العلوم (عليه السلام) ان العرب كانوا في صدر الإسلام يتجنبون مخالطة اليتامى
تحرّجا وإشفاقا على دينهم فلا يأكلون لهم طعاما ولا يلبسون لهم ثوبا حتى أن الرجل
منهم كان لا يستظل بجدار اليتيم احترازا لدينه واستظهارا ليقينه لما أنزل الله
سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) فتجنبوا حينئذ مخالطة اليتامى واستنكاح النساء منهم وعزل
كل من كان يربي يتيما ويكفله ذلك اليتيم في بيت أفرده به وأخدمه خادما منقطعا إليه
فشق ذلك على المسلمين فشكوا ذلك الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت :
(وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
__________________
مَثْنى
وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا)
٣.
وهذه الآية منقطعة
النظير فيما تحمل من توجيهات وأحكام ، وقد كثير في تفسيرها القيل والقال والإدغال
ممن لم يمعنوا النظر فيها فلم يعرفوا الرباط بين شرطها وجزاءها ، فتسلموا لمختلقات
إسرائيلية غائلة ، بين قائلة أن ثلث القرآن ساقط هنا بين شطري الشرط والجزاء وقائلة أن نصف الآية هنا ونصفها على رأس المائة والعشرين
هي (وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ..)
.
فلقد خرف وانحرف
من هرف بسقوط ثلث القرآن بين شطري آية واحدة ، ولم يسقط في هذه الفرية الساقطة إلا
كل عقله!.
فكيف يسقط ثلث
القرآن ـ وهو ـ إذا ـ زهاء ثلاث آلاف آية ـ ولم ينتبه له
__________________
إلا هذا الساقط
الماقت ، وقد انتبه لسقوط حرف واحد من آية في خطبة لعمر بسطاء المسلمين ، وهي : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٩ : ١٠٠).
فقد تلاها الخليفة
عمر بإسقاط الواو بعد الأنصار ، فقام اعرابي قائلا : يا خليفة رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) اين الواو؟ فاعتذر واستدرك.
وعلّه أسقطها لأنه
كان من المهاجرين فأحب ان يتبعه الأنصار ، ام نسي الواو فنبهوه ... أم كيف يتساقط
ثلث القرآن والله ضامن للحفاظ عليه وصيانته في آية الحفظ ، وحفّاظ المسلمين يسكتون
عن هذه السقطة الهائلة الغائلة ، ثم لا يروى ذلك السقط عن أئمة المسلمين إلا يتيمة
مختلقة على امير المؤمنين (عليه السلام)!.
ثم وكيف تفصل بين
شطري الآية ـ حسب المختلقة الثانية ـ قرابة مائة وعشرين آية ، وذلك غير فصيح ولا
صحيح ، ولا يوجد هكذا فصل عاطل باطل بين اي كلام ساقط من أسقط سقاط الناس ، ولا
المجانين ، فضلا عن افصح الكلام وأبلغه لرب العالمين.
ثم وأين تقع الآية
الأخرى في هذه ونصها (وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِهِ عَلِيماً)
(١٢٧).
ثم وما يتلى عليكم
في الكتاب في يتامى النساء ، ليس يوجد في الكتاب إلا آتيناه هذه : (وَإِنْ خِفْتُمْ ..) حيث تعني يتامى النساء كأصل ، وما كتب لهن يعم مواريثهن
وصدقاتهن ونفقاتهن ، فحين ترغبون ان تنكحوهن ظلما
بهن (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ) من غيرهن وذلك ادنى ان تعولوا وتميلوا عن الحق فيهن.
فالآية كما يرام
متسق النظام ، سديد الانتظام ، شديد الرباط والوئام بين شطريها لمن أمعن فيها
بإتقان ، دون من لا مساس لهم بكتاب الوحي وعقليته ، ولا أساس لهم في تفسيره ،
اللهم إلا استخارة وقراءة على الموتى وحياتهم بواء خلاء عن معناه ومغزاه.
ونحن نعرف كامل
الرباط بين الشطرين بعد ما نعرف مدى التحرج والتهرج بين المؤمنين بالنسبة لليتامى
، بعد ما جعل الله لهم حقا في كافة الإنفاقات (٢ : ١٧٧) والأنفال (٧ : ٥٦) وفي
قسمة الميراث (٤ : ٨) وفرض الإحسان إليهم مع ذوي القربي (٤ : ٣٦) والقيام بالقسط
لهم (٤ : ١٢٧) وألا يقرب مالهم إلّا بالتي هي أحسن (١٧ : ٣٤) وأمر بإصلاح لهم (٢ :
٢٢٠) وإكرامهم (٨٩ : ١٧).
وهذه الأوامر
المشددة المغلّظة قضيتها الانعزال التام عن اليتامى او الخلط الذي يأتي فيه خلط
المال على أية حال ، وقد كان جماعة من المؤمنين يرغبون ان ينكحوا اليتيمات فسحا
لمجال هضم لحقوقهن وآخرون لا يرغبون خوفة عن
__________________
ميل عليهن ، فجاء
العلاج الحاسم وهو نكاح ما طاب لهم من النساء فان كنتم متحرجين عن الخلط باليتامى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ) اليتيمات حتى يزول يتمهن بزواجهن ، ويزول الحرج عن الخلط
بأموالهن وأموال أولادهن بذلك القرب القريب ، فالأنثى يتيمة إلّا ان يكون لها والد
او زوج ، فالمتوفى عنها والدها وزوجها ، أم والدها ولما تتزوج ، إنها يتيمة مهما
كانت بالغة رشيدة كما تدل عليه آية يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن
وترغبون أن تنكحوهن.
فإذا نكحتها فقد
أزلت يتمها تماما ، كما أزلت يتم ولدها بعضا ، فقد كان القسط فيهن وهن يتامى فرضا
، ولكنهن الآن لسن بيتامى فينتقل الفرض من القسط الى العدل وهو أسهل وأوسع نطاقا.
وإن خفتم ألّا
تقسطوا في يتامى النساء إن نكحتم منهن ألا تؤتونهن ما كتب لهن فلا يطيب لكم ـ إذا
ـ نكاحهن (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) غير اليتيمات ، حين لا تطيب لكم اليتيمات.
فقد يكون نكاحهن
مما يزيل الخوف عن ترك القسط فيهن وفي أولادهن (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) اليتيمات ، حتى يسهل الخلط بين الأموال لزوال اليتم عنهن
وقلته في أولادهن ، او يكون في نكاحهن الخوف من عدم القسط (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ) غير اليتيمات ، فقد كانوا إذا كفل الواحد منهم جماعة من
يتامى النساء تزوج منهن بالعدد الكثير رغبة في أموالهن وتمنعا عن حقوقهن لضعفهن
ويتمهن بفقد آباءهن ، فأمروا ان ينكحوا نساء غيرهن إذا كان القصد هو النكاح.
إذا فذلك النكاح
فيهن او في سواهن مما يؤمّن المؤمن عن ذلك الخوف ، فحيث القسط بالنسبة لليتامى فرض
على أية حال ، كان أحد النكاحين علاجا
حاسما لهذه
المشكلة التي أحرجت المؤمنين وجاه اليتامى.
وبصيغة اخرى ، بما
ان المتوفى عنها زوجها ـ هي على الأغلب ـ متوفى عنها أبوها ايضا فهي يتيمة ، ذات
أولاد وسواها ، وهنا الحرج في أمرها بالنسبة لوليها خلطا معها فخوفا عن ترك
الاقساط ، او بعدا عنها فخوفا عن ضياعها ، وقد كان جماعة يستغلون فرصة اليتم فيهن
فيتزوجون اكثر عدد منهن لكي يحصلوا على أموالهن ، لذلك جاء العلاج الحاسم أولا «قل
إصلاح لهم خير وان تخالطوهم فإخوانكم» اعتبارا بكل اليتامى ، ثم (إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
الْيَتامى فَانْكِحُوا ..) فالمتولع للزواج إذا كان يطلب من زواج يتامى النساء
أموالهن وهو ترك للإقساط ـ بل والعدل ـ فانكحوا ما طاب لكم من النساء غير اليتيمات
، وإذا يطلب الخلط معهن ادارة لشؤونهن ويخاف ترك الإقساط دون قصد فانكحوا ما طاب
لكم من النساء اليتيمات.
وذلك من أربط
الربط بين شطري الآية نظرا الى مختلف النظر بالنسبة لليتامى ، فنكاح اليتيمات قد
يزيل خوف ترك القسط فينكحن ، أو يزيد فيه فلا ينكحن ، وطيب النكاح ليس إلّا ما لا
محظور فيه ، وبأحرى ما يزيل المحظور ، وليس تعدد الزواج ـ إذا ـ إلّا حكما هامشيا
لا بد له من رجاحة يعبر عنها هنا ب (إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) والإقساط بينهم واجب ، وخوف ترك الواجب يسمح بعديد الزواج
، وإلغاء لخصوصية اليتامى في ترك الاقساط ، فتعديا الى كل ترك لواجب نحكم بجواز
عديد الزواج فيما إذا لزم الأمر كبالغ الشبق والشهوة المتطرفة ، ام سواها مما
يتطلب عديد الأزواج.
ولماذا «ما طاب»
هنا دون «من طاب» والنساء من ذوي العقول؟ فقد تجاوب «ما» عقلية الجاهلية التي ما
كانت تعامل النساء إنسانيا كأنهن حيوان!.
علّها «ما» لكي
تعني المصدرية مع ما عنت من الموصولية ، ففي
الأولى : فانكحوا
طيبا ، استطابة لهن في قسطاس الحق مع سائر الاستطابة في طبيعة الحال الأنثوية ،
طيبا في العدد وطيبا في العدد فلا يصح ـ إذا ـ «من طاب» و «ما طاب» تشمل طيب
النساء كأناسي ، وطيب الكينونة الأنثوية ، كما شملت طيب العدد الى طيب العدد.
والطيب في النكاح
أقله ما لا يخرج فيخرج عن حدود الله ومرضاته ، وأكثره ان يذود عن محظور او يزيد في
محبور مشكور ، فلا ينافي طيب النكاح كون المرأة غير مؤمنة ولا سيما إذا دعوتها إلى
إيمان بذريعة النكاح ، وهو ينافي كون المرأة غير مأمونة مهما كانت مؤمنة ، وهي
تحملك على ما لا يجوز.
وعلى الجملة ف «ما
طاب» تعم الطيب الإيماني إلى الإنساني ، الطيب في جمال وكمال وكل طيب في الناحية
الأنثوية التي تسد عن محظور وتسدد المشكور.
فالزواج إسلاميا
هو عبادة بجانب كونه قضاء للشهوة الجنسية واستيلادا أماهيه.
ثم «ما طاب» تعم
كمّه إلى كيفه ، ما طاب عددا وعددا أنثوية ، ولكنه في طيب الكمّ محدد ب (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ثم و (ما طابَ لَكُمْ) كمؤمنين بشرعة الله فتخرج المحرمات نسبية وسببية أماهيه.
وهذه الأعداد
الثلاثة تعني تكرير أنفسها : «اثنتين اثنتين ـ ثلاث ثلاث ـ أربع أربع» وذلك تكرير
وجاه المجموعة المؤمنة المخاطبة هنا فيعني لينكح كل واحد منكم ثنتين او ثلاث او
أربع كما في (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
... أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)
(٣٥ :١).
فليست لتعني
الأعداد الثلاث مجموعها التسع لكل واحد رغم ما قيل
__________________
فانه فتّ في عضد
البلاغة وثلم في جانب الفصاحة ، أن يقول القائل إذا أراد تسعة : ثنتين وثلاث وأربع
، مع ان قضية الجمع ثمانية عشر لأقل تقدير فان كلا يعني تكريرا أقله مرتان ، كما
ولا تعني في كلّ اضافة المكرر فهي : أربع ـ ست ـ ثمان ، ولا ضرب كل في نفسه فهي
تسعة وعشرون ، حيث التعبير عن كل بحاجة إلى نصه بنفسه ، ولو كان القصد هو الجمع
تسعا او ثمانية عشر او تسعة وعشرين ، لما جاز إلّا نكاح واحدة ام جمع من هذه
الجموع حيث المسموح واحدة ام واحدة من هذه الجموع!.
ثم قضية التنزل من
هذه الجموع ان تكون من تسع الى ثمان ومن نزل ، وكذلك الأمر في ثمانية عشر وتسعة
وعشرين ، لا ان يتنزل دفعة إلى واحدة او ما ملكت إيمانكم!.
ذلك ، وكما ان
التكرير بمناسبة المجموعة جمعا وجاه الجمع ، كذلك الواو جمع للجمع لا لكل واحد ف «أو»
هنا لا تناسب حيث تعني «إما مثنى وإما
__________________
ثلاث وإما رباع»
اي لا يجوز للكل إلا ثنتين ثنتين او ثلاث ثلاث او اربع اربع ، واما التفريق لهذه
الثلاث بين المجموعة فلا ، ولكن الواو تجمع كل مجموعة من هذه الثلاث تخييرا.
فلا تدل الآية ولا
تلمح لأكثر من اربع نساء لأكثر تقدير وأقلهن في حقل النكاح (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ).
ثم ان سماح ما فوق
الواحدة بل والواحدة ايضا مشروط مربوط بالعدل (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).
ولأن شرط العدل
هنا طليق غير مخصوص بما بين النساء ولا سيما بالنسبة لواحدة ، فهو بإطلاق شرط في
ذلك النكاح ، فليشمل العدل في المجتمع والعدل بين النساء والعدل مع واحدة والعدل
في نفسه بحقل الزواج ، مربع من العدل مقصود بطليق ، «ألا تعدلوا» في ذلك السماح ،
وإلا لكان صحيح التنزل من رباع الى ثلاث الى مثنى ثم الى واحدة ، ولقد انتقل واجب
الإقساط لليتامى الى العدل في حقل الأزواج يتامى وسواهن ، ولكنه لا يختص بما بينهن
فقط لمكان الإطلاق و (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) حيث تنزل من واحدة إليها ، ولا يصح ذلك التنزل إلا إذا شمل
واجب العدل الواحدة كما شمل الجمع.
إذا فالمحور
الأصيل في الزواج هو العدل في كل زواياه الأربع ، بين النساء نازلا من أربع إلى
ثلاث إلى ثنتين إلى واحدة والى ما ملكت إيمانكم.
فان خفتم الّا
تعدلوا بين الأربع فثلاث ، او بين الثلاث فثنتين او بينهما فواحدة ، او بالنسبة
لهذه الواحدة الدائمة فالى غيرها المعبر عنها هنا ب (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) ولها مصداقان اثنان ثانيهما المتمتع بها في عقد الانقطاع
فانها أخف عيلة وشروطا في حقل الزواج.
ثم ان خفتم ألا
تعدلوا بما فوق الواحدة في مجتمع يتساوى فيه عدد القبيلين كبعض البلاد ، فلو أنك
نكحت فوق الواحدة ظلمت الذي لا يجد واحدة قضية تساوي العدد ، أو أقلية النساء ، لا
يسمح لك إلّا واحدة ام زائدة ليس فيها ظلم على سائر الذكران .
ومن ثم ان خفتم
ألا تعدلوا بالنسبة لأنفسكم في حقل الزواج ، بواحدة او زائدة ، مهما عدلتم بينهن
وبين المجتمع ، لا يسمح كذلك إلا ما لا ظلم فيه ، ثلاث او ثنتين او واحدة او ما
ملكت إيمانكم ملكا او نكاحا منقطعا.
و (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في تفسير طليق تعم ما يستطيعه الرجل من حظوة الجنس المحللة
، دون اختصاص بالأمة المملوكة ، حيث الموهوبة المحللة يجوز وطئها وليست هي مملوكة
للمحلل له ، ثم آية المتعة المحلّلة للنكاح المنقطع ملّكتها أيماننا كما ان آيات
النكاح الدائم حللت الدائمة ، وقد تشمل (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في حقل الزواج كل زواج محلل ، ولكن ذكرها بعد الزواج
الدائم يحولها الى غير الدائم سواء الأمة المملوكة او الموهوبة او الحرة والأمة
المحللة بالعقد المنقطع.
(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا) أتراها من
العيلولة وهي ثقل العيال؟ ولا
__________________
رباط بينها وبين «ألا
تعدلوا» فقد يعدل الإنسان في النفقة بين عيال ثقيل ولا يعدل في سائر قضايا النكاح
، او يعدل فيها ولا يعدل في النفقة او لا يعدل فيهما او يعدل فيهما تماما ، ثم
العيلولة تعم واحدة او ما ملكت إيمانكم الى مثنى وثلاث ورباع ، فالراجح إذا ـ بهذه
الحكمة ـ ألا ينكح الإنسان أيا كان ولا ما ملكت يمينه فإنه (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا)!
ولو كانت هذه هي
الحكمة لكان النص «فان خفتم أن تعيلوا فواحدة ..» دون (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا)! إلّا أن يراد من «تعولوا» مزيد العيلولة واللفظ لا يساعد
خصوص المزيد ، ثم «فواحدة» ليس فيها ذلك المزيد حتى ينتقل الى (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)!
ف (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) لا تصلح علة او حكمة في الفرار عن الظلم بالنسبة للعائلة.
هذا من الناحية
المعنوية ، ثم من الناحية الأدبية لو كانت «تعولوا» من العيلولة والعيل لكان النص «ألا
تعيلوا» من العيل يائيا دون «أن تعولوا» من العول الميل واويا.
وما يدري الفقير
متى غناه
|
|
وما يدري الغني
متى يعيل
|
دون متى يعول حيث
يعني العيلولة.
فاختصاص «ألا
تعولوا» بالعيلولة بعد عن علم اللغة وغربة عن وطن العربية ، ثم وليست «تعولوا» من
الطول كعالني القميص إذا طالني ، والرجل إذا أكثر عياله ضعف عن القيام بهم وعجز عن
كفالتهم فكأن ثقلهم بهضه وأمرهم طاله وغلبه؟.
__________________
فان قضيته ان يكون
النص «تعالوا» من عال يعال ، إضافة إلى أن الثقل ليس في واحدة وقد شملها «ألا
تعولوا»!
فهي ـ إذا ـ من
العول وهو الميل والانحراف عن العدل ، ف «عال عيلا» يائيا من العيلولة ، وعال عولا
وأويّا بمعنى الميل والخيانة ، فذلك ادنى ألا تميلوا إلى بعض دون بعض أو على بعض
لبعض وهذا يناسب (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً).
وقد يروى عن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) معنى العول الجور قائلا «أن لا تجوروا»
وحقيقة العول
وأصله في اللغة الخروج عن حد الاعتدال والمجاوزة للقدر ، فالعول في الفريضة خروج
عن حد السهام المسماة لأهلها ، ومن العول هنا هو الزاوية الأكثر ابتلاء ألا تقسم
منهن إلّا لبعض دون بعض ، ان تجور على بعض تفضيلا في العشرة خلقا ومأكلا ومشربا
وملبسا ومسكنا ومنكحا ، ذلك والأصح هو الجمع بينها إذ لو عنيت إحدى هذه الثلاث
لجيء بصيغتها ، مهما كانت «لا تعولوا» اظهر في الميل لا سيما وان العيلولة هي من
موجبات العول والميل على العيال ، ثم العيلولة لا تختص بعيلولة النفقة ، بل تعم
الأعم منها والأهم وهي عيلولة العدالة من زواياها الأربع ، فمهما كان
__________________
الأرجح في «تعولوا»
انها من العول الميل دون العيل والطول الثقل ، ولكن الأجمل هو الجمع بين هذه
الثلاث ، حيث الثقل لا يختص بثقل النفقة ، بل هو مطلق الثقل في الزواج الدائم ولا
سيما بالنسبة لما فوق الواحدة ، إلّا أن الثقل ـ فقط ـ لا يكفي معونة طليق المعنى
المقابل للعدل الطليق لزواياه الأربع ، ولا سيما العدل بين المجتمع ، حيث الزواج
بأكثر من واحدة في فرض المساوات بين القبيلين جور على المجتمع وليس ثقلا على
الجامع بينهن إلا في سائر العدل.
ومن القرائن
القاطعة على رجاحة الميل في معنى «ألا تعولوا» أن تعنيه آية العدل الأخرى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) (٤ : ١٢٩) حيث ذكر
الميل بعد العدل ، مما يفسر «تعولوا» بالميل بعد العدل.
ف «ذلك» السماح
لمثنى وثلاث ورباع خوف عدم القسط ، و «ذلك» التقليل من عديد النساء ، ام وحتى من
واحدة «أدنى ألّا تعولوا» ميلا عن العدل قضية ثقل التكليف ، ولا سيما فيما بين
النساء ، حيث العدل الواجب بينهن هو على أشراف المحال ، وهو أسبق ميادين السباق في
العدالة بين كل الرفاق ، فان التحسد الغامض المغلظ بين عديد النساء ليس مما يتحمله
الرجال إلا القليل ممن وفي لرعاية الحق فيهن ، فحين يقل العدول بالنسبة لزوجة
واحدة ، فالعدل بين زوجات هو أصعب بكثير حيث العديدة تتعارك بطبيعة الحال الأنثوية
غيرة على شريكة وحسدا ، فلا بد ـ إذا ـ من عدل صارم يحلّ مشكلة النزاع بينهن عدلا
بينهن كما يرام ويستطاع.
إذا تقل مشاكلهن
وتذل رقابهن في الأمر الواقع مهما كان إمرا في جو العدالة الصالحة.
ومهما قل العدل من
الجانبين واقعيا ، فهو مع الوصف ثمين قمين بسنّ
السماح لتعدد
الزوجات حصولا على عمق العدالة الصعبة الملتوية والحفاظ على مصلحية التعدد التي قد
تفرضه على القادرين على واجب العدل ، وكما يجب على الزوج العدل بينهن كذلك على
الزوجات العدل بينهن انفسهن وبالنسبة للزوج ما هو يعدل ، ولا يعدل عن مفروض العدل
، فإذا عدل الزوج كما يجب قل النزاع بين الزوجات وبينه وبينهن ، ثم إذا عدلت
النساء زال هذا القلّ ايضا وأصبح الجو العائلي أمثولة للعدالة ، التي تصلح أن تصلح
سائر الأجواء مهما كانت متخلفة.
فكما الصوم ارتياض
«لعلكم تتقون» كذلك عديد الزوجات ارتياضة عالية غالية للزوجين بالإمكان ان يصلحا
لإصلاح سائر البيئات.
إذا فميدان تعدد
الزواج هو أضيق الميادين التواء وصعوبة وميدا للمتسابقين عدلا فيما بين النساء ،
ثم عدلا بالنسبة للزوجة وإن كانت واحدة ، ثم عدلا في نفس الناكح ، ومن ثم عدلا بين
المجتمع ، فإن تساوي القبيلين هو فرض بعيد مهما اتفق في بعض البلاد ، وهذه من أصعب
الرياضات النفسية أن تطبق العدالة والعدل في تعدد الزوجات وهنا ضرورات تقتضي
السماح في تعدد الزواج تقضي على كافة الصعوبات في ذلك الحقل العسيب.
١ فطرية شهوة عديد
الجنس وطبيعته في قبيل الرجال دون النساء مما يحكم بضرورة التعدد ، كضابطة هامشية
على متن النكاح ، لا دائبة ولا غائبة عن الموقف بأسره ، وإنما شريطة مربع العدالة.
فلو ان تعدد
الزواج كان محظورا كان خلق الرجال بهذه الطبيعة محظورا سبحان الخلاق العظيم! فقد
تجاوب كتاب التشريع وكتاب التكوين في قصة التعدد ، فلا سبيل للحظر عنه في أية شرعة
من شرائع الدين ، وليس حظر التعدد في المسيحيين إلا اختلاقا من عند أنفسهم يخالف
كافة التشريعات الدينية
على مدار الزمن
الرسالي.
فقد جاء القرآن
ليحدد الزواج بين العدالة والحكمة ، جاء ولم يكن لعديد الزوجات حد محدود ، ولا
للعدل بينهن أثر ، فقد حدد العدد دون ان يترك الأمر لهوى الرجال ، وقيّد العدد
بإمكانية العدل والعدل وإلّا (فَواحِدَةً أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).
إن الإسلام نظام
قائم على الفطرة ومتطلباتها ، يلتقط الإنسان من واقعه القاصر وموقفه المقصر على
ضوء فطرته ليرتفع به في المرتقى الصاعد السامق السابغ ، السائغ لكيانه ، في غير
عنف واعتساف.
فانه نظام لا يقوم
على الحذالق الجوفاء الخواء ، ولا التظرف والتطرف المائع الضائع ، ولا المثالية
الفارغة والأمنيات الحالمة ، المصطدمة بفطرة الإنسان وعقليته السليمة ثم تتبخر في
الهواء ليذهب جفاء.
وليست صعوبة الجمع
بين زوجات عدة بالتي تحيل العدل بينهن ، وليست هي أصعب من خلفيات الحظر عن تعدد
الزواج ، فحين نقايس بين الصعوبتين نجد التحديد بواحدة أصعب بكثير للقبيلين من
التعدد ، وعلى النساء المؤمنات هضم انفسهن عند واجب التعدد او راجحه صيانة لرجالهن
وأخرى لذوات جنسهن المحرومات عن البعولة.
ثم (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ) (٤ : ١٢٩) ليست
لتعارض او تنسخ آية السماح ، إذ لا مجال لحكم مستحيل في البداية حتى تنسخه آية
تحيله في النهاية ، ثم الاستحالة في آيتها لا. تعني إلّا المستحيل من العدالة وهي
في المحبة لمكان (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ) عدولا عن مظاهر العدالة نتيجة المحبة الباطنية الكثيرة بالنسبة
لبعض دون بعض ، فالميل إلى بعض النساء عن بعض بعضه ميسور وهو القسم ،
وبعضه غير ميسور
وهو المحبة ، فحين (لَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) عدلا في عدل المحبة (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ) أن تتركوا العدل في عدل القسم بينهن.
هذا هو العدل الذي
تحمله الآية ، ثم المستحيل تحمله الأخرى دون تناحر بينهما ، فشريعة الله ليست
هازلة غير حكيمة حتى تشرع أمرا في آية ثم تحرمه إحالة له في أخرى ، إعطاء باليمين
وسلبا بالشمال بإحالة ما أعطته اليمين ، فانما اعطت فرض العدل فيما يمكن ، وأحالت
في الأخرى ما يزعمه الزاعمون من واجب العدل في المحبة!.
ولقد كان يقول
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول العدلين : «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا
تلمني فيما تملك ولا أملك» .
وهذه الآية إجابة
عن سؤال شائك حول العدالة المفروضة ، أنها ككلّ غير ممكنة فكيف السماح في تعدد
الزواج ، فجاء الجواب (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ)
ولم يقل «في النساء» فهو العدل وليس كل العدل (فَلا تَمِيلُوا
__________________
كُلَّ
الْمَيْلِ) إلى من تحبونها اكثر من غيرها ، وعمن لا تحبونها ، ميلا في
ظاهر العدل والعدل كما في باطنه ، فالميسور لا يسقط بالمعسور ، فما دام الميل
الباطني وعدله غير ميسور ، لم يسمح ذلك بظاهر الميل عن واجب القسم والعدل بين
النساء.
فمن لا يجد من
نفسه ومكنته نفسية أم بدنية أم مالية أن يعدل في هذه الزوايا الأربع ولا سيما بين
النساء ، لم يسمح له عديدهن ، فليعد نفسه بكل المعدات المفروضة أولا ثم يقدم على
عديد الزواج ، ام ونفس الزواج بواحدة ، وأما ما ملكت إيمانكم فميسور لكل أحد إلّا
من شذ.
٢ وضرورة أخرى
اختلاف القبيلين من حيث العدد والعدد.
فالعدد خلقة وبقاء
هو في قبيل الأنثى اكثر من قبيل الذكر ، حيث نرى على مدار الزمن اكثرية ساحقة في
الأنثى لا تتجاوز ـ فيما عرفنا تاريخيا حتى اليوم ـ عن نسبة اربع الى واحد ، وهذه
النسبة مهما كانت غير مستقرة فقد تنزل الى ثلاث وما دونها ام فوق الأربع ، ولكنها
تناسب وأحيانية تعدد الزوجات ولا سيما شرط العدالة الكاملة ، إذ ليس كل رجل
بإمكانيته أن يتزوج أربعا إلّا في قلة قليلة ، ثم هناك من لا يتزوج لحالات استثنائية.
فسماح الزواج مثنى
وثلاث ورباع شرط العدالة المربعة مما يعالج مشكلة المضاعفة في قبيل الأنثى في الحد
المتوسط من اختلاف العدد النسائية والعدد الرجالية.
فحتى إذا ثبت
واقعيا ان ليست المضاعفة اربعة أم ولا ثلاثة في الأنثى ،
__________________
فأحيانية الأربعة
في امكانية الزواج العادل تجاوب ذلك الواقع تماما.
ومهما يكن من شيء
فالأكثرية الأنثوية مما لا تنكر بين المجتمعات على طول الخط مهما شذ زمان او مكان
عنها ، لا سيما وان التلف للذكور بالأمراض والحروب أكثر من الأناث .
ولقد اضطررن
النساء في المانيا الغربية الى تقديم طلب الى المجلس النيابي لإجراء قانون تعدد
الزوجات تخلصا عن العزوبة ولكن الكنائس عارضه ، كما وان وكلاء المجلس النيابي هناك
قدموا لائحة سماح اللواط حيث الرجال ليسوا ليصبروا على امرأة واحدة .
أضف إلى فطرة طلب
التعدد في الرجال والأكثرية الساحقة في النساء ، استعداد الرجال لعملية الجنس
والإخصاب اكثر بكثير من النساء.
فالرجل مستعد
للإنجاب في معتدل التقدير منذ خمسة عشر حتى المائة ، ولكن المرأة لا تعدو الخمسين
فهو أضعافها من هذه الناحية إنجابا ، فيبقى الرجل خمسون سنة لا مقابل له إخصابا في
حياة المرأة ، وما من شك ان من أهم الأهداف في الزواج هو الإنجاب ، فلو حرم اكثر
من واحدة للرجال لكان تكوين حالة الانجاب الأكثر فيه بكثير باطلا من التكوين ،
سبحان الخلاق العظيم ، حيث تجاوب في مشيئة التشريع والتكوين ، ثم الرجل يستعد
للغشيان في كافة الأوقات والمرأة لا تستعد إلا في ثلثيها حيث الثلث هي ـ في العادة
ـ تمضي في العادة الشهرية ، فللرجل هنا ـ ايضا ـ ثلث زائد.
__________________
ومن ثم الرجل
بإمكانه الإنجاب المتعدد من عديد النساء في وقت قصير وليس بإمكان المرأة ذلك حتى
ولو انحرفت ورأت عدة رجال ، وهذه ثالثة.
كل ذلك مما يفرض
سنّ السماح لتعدد الزواج في صالح الرجال والنساء معا ، فترى في ذلك الواقع الملموس
والملابسات الحية بين القبيلين ما هو القانون الصالح الذي يصلح الحياة الجنسية
والولادية والمعيشية بينهما؟.
١ فهل يتزوج كل
رجل بأنثى واحدة يكتفى بها حتى آخر حياته كبتا على رغبة في غيرها فطريا وخلقيا
وخلقيا ، وكبتا على إنجابه من غيرها ، ثم تبقى واحدة او اكثر من النساء قباله دون
زواج مشروع ، فتبقى في حالة العزوبة العصيبة ، قسمة ضيزى من قبيل النساء خلاف
التكوين الغريزي والفطري؟ وهذا خلاف العدالة والحكمة في سن القانون أن يعارض
التكوين وصالح الكائن الإنساني فرديا جماعيا ، فالفطرة والعقلية والطاقة الإنسانية
تعارض ذلك التحديد التهديد لنسله في وصله وفصله ، فمهما ضبط الرجل نفسه على امرأة
واحدة فليست المرأة لتضبط نفسها على العزوبة ، ولا يدفعها اشتغالها بالعمل كما لا
يدفع الرجل ، فلا دافع للجنس على أية حال.
فألف عمل وشغل ليس
يشغل المرأة كما الرجل عن الحاجة الفطرية إلى الحياة الزوجية.
٢ ام يسمح
بالمخادنة والسفاح بديل عديد الزواج من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل من الرجال ،
فتقذر الحياة وتتأرجف بسفاح المخادنة ومخادنة السفاح بديلا عن الحياة النظيفة
النزيهة الزوجية؟ وهذا أمر بالسفاح بديل النكاح او عجز عن سنّ نكاح بديل سفاح.
أجل إن ذلك يضاد
الاتجاه النظيف في الإسلام وفي أية شرعة ربانية أو إنسانية نظيفة عفيفة غير طفيفة
، فهو ضد كرامة المرأة الإنسانية وكرامة الرجل
الإنسان ان تتقذرا
بقذارة الفاحشة الدنسة البئيسة التعيسة!.
٣ ام يسمح بتعدد
الزواج حفاظا على كافة المصالح الحيوية للقبيلين شريطة العدالة المربعة ، وهو الذي
اختارته التشريعات الربانية ، وسطا بين التحدد بواحدة وبين اللّامحدودية في الزواج
، وإنما تحددا بأربع ، متحددا بالعدل في زواياه الأربع ، متهددا من يخاف ألّا يعدل
ألا يتجاوز الواحدة ، وإذا لم يعدل لها ف (مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) لتحلق العدالة على الحياة الزوجية تماما كما هي محلقة على
كل الحياة والحيويات.
ذلك! فما ذا يعني
المتحذلقون السخفاء والمتظرفون الأغبياء من وراء التحديد ـ شرعيا ـ بواحدة ، تركا
لكل من الزوجين أن يخبط رأسه في الجدار ، وتركا لسائر النساء اللّاتي لا يجدن لهن
رجالا في منتقعات الفحشاء والفساد ، فهم لا يسمحون الزواج المشروع إلّا بواحدة
مهما كلّف الأمر ، ويسمحون بالعشرة الجنسية غير المشروعة دونما حد يتصور وإذا رأوها غير مشروعة
__________________
يستبيحونها
بالمبايعة الكنائسية في صكوك الغفران!.
وترى كيف يحرم
النكاح بأكثر من واحدة ولا يحرم السفاح ، أو يحلل بصكوك الغفران ، وليس يحلّل
الزواج العديد بأي صك ، حينما يغفر بتلك الصكوك كل المعاصي والفحشاء الكبيرة!.
أم كيف يحرّم
المحلّل فطريا ، ويحلّل المحرّم فطريا وشرعيا؟ ما هذا إلّا تخبّط عشواء!.
والحكمة العالية
الربانية في سنّ السماح لتعدد الزواج تختصر ـ ولا تحتصر ـ كالتالي :
١ من ناحية الرجل
:
١ انه مفطور نفسيا
وجنسيا على تشهّي العديد من النساء مهما كانت التي عنده أجمل وأشبب وأفضل من التي
يشتهيها ، وليست المرأة هكذا ، إلا شاذة في الجنس ام راغبة في مزيد المال.
٢ مزيد الشهوة ـ كأصل
ـ في الرجال ، ولذلك نرى الرجل هو الذي يمشي وراء المرأة مع أنها قابضة المال
والحال ، اللهم إلّا شاذة ، ثم نرى الرجل يتزوج ـ في الأكثرية الساحقة ـ بعد طلاق
زوجه او موتها ، ولا نرى المرأة تتزوج ولا سيما بعد وفاة زوجها إلا قليلا.
__________________
٣ استعداد الرجل
أكثر من المرأة في ايام الشهر ثلثا من حيث الغشيان.
٤ وطول عمر
الإنجاب ثلثيها.
٥ وعلى طول الخط
عشرات وعشرات المرات ، ففي فرض وجود رجل مع مائة امرأة بالإمكان ان ينجب منهن لأقل
تقدير مائة ، وفي العكس لا يمكن الا واحد ام عديد قليل إذا حملت توأما.
٦ وقد تكون المرأة
عاقرا ، فهل يصبر الرجل على ترك الإنجاب ، او يطلقها ويتزوج أخرى ، ام يتزوج عليها
من يستولدها؟.
فالأولى هدر للنسل
وعطل في الإنجاب وهو خلاف المصلحة القصوى من الزواج! والثانية تستجر اللعنة من
الأكثرية الساحقة المطلقة من العاقرات على من يشير على الأزواج بهذا الطريق الخريف
حيث يهدم عليهن بيوتهن ويحطم حياتهن بلا عوض منظور ، فقلما تجد العقيم ـ وقد تبين
عقمها ـ راغبة في زواج ثان ، وكثيرا ما تجد الزوجة العاقر أنسا واسترواحا في
الأطفال التي تنجبها الزوجة الأخرى من زوجها ، إذا فإلى زواج ثان إسبالا للنسل
وابتهاجا للزوجة الأولى أنها ما طلقت لأجل العقم.
٢ من ناحية المرأة
:
٧ حيث النساء أكثر
من الرجال خلقة وبقاء ، ففي مثلث أقلية الرجال خلقة ، وأكثريتهم تلفا بأمراض وحروب
تصبح النساء أكثر منهم بكثير.
٨ وسن البلوغ في
المرأة أبكر منه في الرجل ، فلا بد لها من رجل حين تبلغ والاكتفاء بواحدة لا يساعد
اختلاف سن البلوغ فيهما.
ولنأخذ مثالا
مواليد سنة واحدة على فرض التساوي بين القبيلين ، نرى الأناث في الأكثرية الساحقة
في التاسعة من سنيهن بالغات ـ ولا سيما في البلاد
الحارة ـ مستعدات
للزواج ، في حين أن الذكور لا يستعدون حتى الخامسة عشر ، فلا بد ـ إذا ـ لهؤلاء
الأناث البالغات بالغون من الماضين حيث الحاضرون غير بالغين عند بلوغهن ، ولأن
لهؤلاء البالغين من قبل بالغات سابقة كما هنا ، فذلك التسلل يحكم بضرورة طبيعية
لسنّ تعدد الأزواج ، إضافة إلى أن عمر النساء ـ في الأكثر ـ أطول من عمر الرجال ،
فتبقى ـ إذا ـ طائفة من النساء بلا أزواج إذا لم يسمح بتعدد الزوجات.
فالعوامل العدة
التي تقلل من قبيل الرجال عددا وتكثرهم عددا للزواج ، مما تفرض تعدد الزواج حفاظا
على القبيلين ف (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا).
٩ فبقاء النساء
اللاتي لا يقابلهن رجال ـ واحدة بواحد ـ كبت على فطرة الضرورة الجنسية ، او سماح
للفاحشة.
١٠ وفي سماح تعدد
الزواج حفاظ على حرمة القبيلين ، وعمارة للبيوت العائلية ، وتفجرة للثروات الضخمة
، ورياضة نفسية للقبيلين ان يصبرا على عديد الزوجات وعديد الشركاء في الزواج.
تلك عشرة كاملة ـ وهي
غير حاصرة ـ في حكمة السماح لتعدد الزواج ، اضافة الى انه حكم هامشي وليس اصليا
كأصل الزواج ، فليس التعدد اسلاميا مطلوبا لذاته ، مستحبا مرغوبا دون مبرر او
ضرورة فطرية او اجتماعية او اقتصادية او سياسية اماهيه ، انما هو ضرورة او رجاحة
تواجه ضرورة او رجاحة ، وحلّ يواجه مشكلة في حقل الزواج ، فليس متروكا للهوى الطائشة
، بل هو محدود عددا بالأربع وعددا بالعدل في زواياه الأربع.
فسماحه (إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا ..) وعدم سماحه (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا) فخوف عدم القسط يسمح ب (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) ثم خوف «ألا تعدلوا» ينزل الى (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ).
إذا فالخوف من ترك
القسط في ترك التعدد يسمح له ، ثم الخوف من ترك العدل في كل حقوله العائلية ينسخ
السماح.
ولأن الخوف عن ترك
واجب الإقساط ظرف لسماح تعدد الزواج ، فكل خوف عن ترك واجب او اقتراف محرم يزيله
تعدد الزواج ، هو مما يفرض الزواج ، وحين لا خوف فهو راجح كأصل الزواج شرط العدل
في زواياه الأربع.
فالرخصة تلبى واقع الفطرة وواقع الحياة
وتحمي المجتمع من الجنوح والسعار الجنسي ، والمنع يعارض الفطرة وواقع الحياة ويهدم
المجتمع الانساني عن إنسانيته العفيفة ، فإذا انحرف جيل من الأجيال في استخدام هذه
الرخصة ، فاتخذها رخيصة بخيسة هدرة مرسلة دونما شريطة العدالة ، إحالة للحياة
الزوجية مسرحا ـ فقط ـ للذة حيوانية ، تنقّلا بين الزوجات كما الديك بين الدجاجات
، وإنشاء للحريم في صورته البشعة المريبة ، فليس ذلك من ذنب الإسلام الذي سمح في
التعدد بين سلبية (إِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا)
وإيجابية (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا ..)
إن الإسلام لم ينشئ التعدد ، وإنما حدده
بهذين الحدين الحديدين ، وسطا بين أمرين أمرّين ، ولو أنه حصره بواحدة ، كان أوّل
دليل على بطلانه لمخالفته الفطرة ، والواقع المتعود للناس على مدار الزمن وأعماق
التاريخ.
وقد يختصر أمر
تعدد الزواج عند حد ، وأمر وحدته أو ما ملكت إيمانكم عند حده بحكمة بارعة هي :
(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا) فلا تختص ذلك بالتنزل عن العديد الى الوحيد ، بل وتشمل
الوحيد إلى العديد (إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا ..) فهما معا (أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا) وتميلوا عن القسط عند الخوف الأول الذي يسمح للعديد ، وعن
العدل
عند الخوف الثاني
الذي يمنع العديد وحتى الوحيد الى (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ).
فترك العول ،
والجور الميل ، هو المحور في كلا الأمرين ، فإن كان في ترك التعدد عول شهوانيا إلى
نساء أخرى ، فالتعدد راجح او واجب حسب الواجب في الحفاظ على العدل.
وان كان في التعدد
ـ وحتى الواحدة ـ عول في الحياة الزوجية وترك للعدل في زاوية من زواياه الأربع
فمحرم والى ما ملكت إيمانكم.
فخوف ترك القسط في
اليتامى ـ ام سواهم ـ يسمح بمثنى وثلاث ورباع ، وخوف ترك العدل يترك السماح ، ثم
خوف ألا تعولوا يسمح كل واحد من الأمرين كلا حسبه.
إذا فتعدد الزوجات
شرط العدل مسموح حتى إذا لم يخف ترك القسط في اليتامى ، ما هو خائف ان يعول ويميل
الى حرام او ترك واجب فإنهما مشمولان للعول والميل المحرم هنا ، الذي سبب تحليل
وتحريم التعدد كلا بقضية ، فتأمل.
وتعدد الزواج حلّ
شريطة مربع العدل ، وراجح شريطة الفضل ، وواجب إذا كان في تركه خوف ترك العول ام ـ
وبأحرى ـ واقع الظلم والميل عن الحق ، ومحرم في خوف عدم العدل وواقعه ، مرجوح إذا
كان القيام بشروط الجواز حرجا مرجا ، فهو ـ إذا ـ كأصل النكاح بل وأصعب شروطا.
ثم وليس «ذلك» حطا
من ساحة (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) في التنزل إليهن ، كما لم يكن حطا لعديد الأزواج في
التصاعد إليهن ، فانما هو تنزل إلى زواج هو اقل تكليفا وتكلفا من الزواج الدائم
بالأحارير والمهائر ، فان الزواج المنقطع أقل تكليفا بكثير من الدائم ، ونكاح
الأمة اقل تكلفا من الحرة ، فكما
أن الذي لا يقدر
على شراء بيت لسكنه يسمح له الاستيجار ، هامشا على أصل هما متجاوبان في اصل السكن
، كذلك الذي لا يقدر على نكاح مثنى وثلاث ورباع فإلى واحدة ، ثم منها الى (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) لأنهن ـ ككل ـ أسهل نكاحا.
هنا «فواحدة» تعني
من الحرائر والمهائر الدائمات ، ف (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) هن غيرهن ، سواء الإماء ، او الحرائر المنقطعات ، وهنا لا
حدّ لعديدهن حيث الحد مقتصر على غيرهن ، فيجوز النكاح بأزيد من أربع منهن إماء
ومنقطعات ، ولكنه في الإماء بسبب الملك او التحليل ، واما النكاح دون ملك او تمليك
دائما فهو كما في الحرائر ، فانما النكاح الحر غير المحدود هو المنقطع بحرة كان ام
امة شرط العدالة ككل.
ذلك و (مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ..) (٤ : ٢٥) وملك
اليمين بعد نكاح الحرائر الدائمات عبارة عما تبقى في يمين الاستطاعة من نكاح مشروع
وليس إلا النكاح المنقطع حسب آية ، وإلا الإماء المملوكات او الموهوبات حسب آياتها
، مهما عنت المملوكات حين تقرن بالمتمتعات كما في آيتها : (.. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ
... وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ ... فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ..) حيث تعني هنا خصوص المملوكات.
رجعة أخرى الى
الآية :
ان حقل النكاح له
قوس صعودي من (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) إلى «واحدة» والى (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) شرط العدل.
ثم ونزولي من «رباع»
الى «ثلاث» الى «مثنى» الى «واحدة» والى (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ).
والقوسان متماثلان
في شريطة العدل ، ففي عديد النساء مربع ، وفي امرأة واحدة مثنى : عدلا بالنسبة لها
ثم آخر بالنسبة لكم.
وهنا «فانكحوا»
أمرا مقيد ب (إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا) فيما كان الإقساط واجبا وهو حقل يتامى النساء ، ثم تبدل
إلى (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا) إذ زال اليتيم إن كان النكاح بيتامى النساء ، فهي ـ إذا ـ ضابطة
عامة في كل حقول النكاح دونما استثناء.
فإذا كان الزواج
بعديد النساء فمربع العدل لزام السماح فيه ، عدلا بينهن وعدلا بين المجتمع وعدلا
بالنسبة لكل واحدة وعدلا بالنسبة لكم.
ف (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) في كل هذه الزوايا «فواحدة» حيث ينتقل مربع الواجب الى
مثناه إذ يخرج الأولان عن الدور لخروج الموضوع.
ثم (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بالنسبة لواحدة ايضا ف (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) حيث العدل الواجب فيه أخف ، ولذلك ترك التنازل عما ملكت
ايمانكم الى العزوبة هنا الى مجالات اخرى ك (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) و (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ).
ثم السماح في عديد
الزواج ووحيده مشروط بعدم الخوف من ترك العدل على طول الخط ، بداية واستمرارا ،
فان لم يخف وتزوج عديدا زعم انه يوفي العدل ثم تبين له أنه لا يقدر ان يعدل وجب
الطلاق إلى حد المستطاع من العدل ، كما أنه إن خاف قبل الزواج حرم ذلك الزواج
بعديد ام وحيد.
وهكذا تكون كافة
المباحات والمستحبات ، أنها مشروطة ألا تسبب ترك واجب او فعل محرم ، وإذا وجب
النكاح وعارض واجبا آخر او محرما فلا بد من علاج الشبق بطريق آخر إن أمكن ، وإلّا
فليقدم أهم الواجبين.
وسماح تعدد
الزوجات ليس حكما ثانويا عند الاضطرار كخوف عدم الإقساط في اليتامى ام الفرار عن
اي محظور من ترك واجب او فعل محرم ، حيث الشرط في هذه الآية هو شرط الوجوب لا
الجواز ، والجواز مستفاد من إطلاقات الآيات الآمرة بالزواج إذ لم تحدده بواحدة ،
رغم ان البيئة الجاهلية كانت تسمح بعشرات وعشرات ، فلو أن اصل الجواز بالعنوان ان
الأوّلي كان الزواج بواحدة فلا بد من التصريح به هدما لبناء الجاهلية.
فقد بينت آيتنا
هذه وجوب التعدد إذا لزم الأمر ، وحدد السماح أنه رباع عددا ، وشريطة مربع العدل
عددا.
وجوابا عن سؤال ،
في حين لا نجد العدالة المفروضة في الأكثرية الساحقة لعديد الأزواج ، إذا فلا
تجاوب بين الإمكانية الواقعية بتحقيق شريطة العدالة وبين الضرورة او الرجاحة لتعدد
الزوجات.
نقول : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) تجبر نقص العدالة ونقضها ، حيث المسئولية فيهن اقل من
الدائمات.
وحين ينقص دور
المملوكات ـ كما انتقص منذ زمن بعيد ـ فهناك الزواج المنقطع يصبح سيد الموقف كعلاج
حاسم لمشكلة التجاوب.
وهنا ليس لإخواننا
السنة اي جواب عن ذلك السؤال ، فانما آية المتعة الثابتة غير المنسوخة نصا ، وهذه
الآية بصورة طليقة تجيب عن هذه المشكلة.
ففي تعدد الزواج
الدائم مشكلة الجهار والقسم والنفقة والميراث تحول دون إمكانية الجمع بينهن مهما
تحققت العدالة.
ولكن الزواج
المنقطع ، الممكن إخفاءه عن الزوجة الدائمة ، وهو خلو
عن تلكم
المسؤوليات الثلاث ، هو الذي يسد كل فراغ في واجب التعدد او راجحة.
ففي الزواج مراحل
ثلاث : ١ الواحدة ٢ المتعدة ٣ ما ملكت ايمانكم الشامل للمملوكات والمنقطعات ،
والعدل في الأولى ذو جهتين وفي الثانية مربعة الجهات وفي الثالثة لا عدل هكذا ،
اللهم إلا بالنسبة للمجتمع.
تلحيقات :
١ ان تحقيق العدل
بين النساء أصعب بكثير من تعديل المرأة نفسها فليتشاركا في ذلك الجهاد المقدس.
٢ وعند عدمهما أو
عدم أحدهما فالنقلة إلى (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) تجبر عدم التجاوب ، والتجاوب بين إمكانية تحقيق الشرط
والحاجة الى المشرط مما يجب في الأحكام العادلة.
فإن كانت الضرورة
اكثر من الإمكانية فلا تجاوب في البين ، فالحوائج الثلاث للرجال والنساء ونفس المجتمع
الى تعدد الزواج تجاوبها إمكانية التعدد مذيّلة بما ملكت أيمانكم وإلا لم يستقم
الحكم.
ذلك؟ وفي وجوب أو
سماح تعدد الزواج شرط العدل ميدان فاسح للسباق في مختلف حقول العدالة بين الرفاق ،
ورياضة نفسانية لكلا القبيلين ، فعلى النساء المتعددات العدل في الاصطبار على
الشريكات ، في حقل الزواج ، كما على الرجال العدل بكل أبعاده ما اسطاعوا إليه
سبيلا ،
ولأن العدالة
المفروضة على الرجال أوسع وأكثر نطاقا من النساء لذلك
فرضت هنا على
الرجال ، ثم المفروض على النساء إذا تحمل الشريكات المسموحات في حقل العدل من
الرجال ، فتمانعهن عن الشريكات معارضة لحكم الله ، وإيذاء لأزواجهن وشريكاتهن ،
فهو ثالوث من المحرم في شرعة الله.
وفيما إذا ترك
الزوج عدلا من الأربع أم كل العدل فنهيا عن المنكر وطلبا لتحقيق العدالة أو الطلاق
تخلصا عن خلاف العدل ، دون خلاف على سائر الشريكات ، اللهم إلّا إذا ظلم فنهيا عن
المنكر حسب المقرر في شرعة الله.
وحصيلة البحث عن
تعدد الزوجات هي أنها ضرورة تقدر بقدرها : ان تقسطوا وتعدلوا ولا تعولوا ، فلا
يجوز التخلف عن هندسة التعدد المهندسة على هذه الزوايا الثلاث ، ولقاعدة العدالة
زوايا أربع.
وقضية الضرورة
الحيوية السليمة في سن تعدد الزوجات تسربت الى كتّاب وكاتبات من المسيحيين في
صراحة القول ضد الهرطقة الكنيسة ، أن تعدد الزوجات ضرورة لا محيد عنها و «انه لا
علاج لتقليل البنات الشاردات إلا تعدد الزوجات» .
__________________
ذلك وهنا اعتراضات
واهية خاوية على سنّ تعدد الزوجات كلها هاوية بما مضى ويأتي :
١ انه يوجب
البغضاء من الزوجة الأولى حين يرى شريكة لها فيما كانت مختصة بها من حظوة الجنس
فتزني بديلا عما ابتليت بها من شريكة خيرة عليها؟.
ولكنه غير وارد في
نظام الزواج المتعدد إسلاميا حيث العدل شرط أصيل ، فلو أنه حملها على زنى أو فاحشة
سواها لم يسمح في نكاح الثانية ، ثم لا نجد امرأة تزني لأنها ابتليت بشريكة في
زوجها غيرة بل هو حسد ، وان
__________________
تحمّل الشريكة
فيما يسمح الإسلام لها هو من قضايا الإيمان والإيمان قيد الفتك : (أَحَسِبَ النَّاسُ
أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وسنّ تعدد الزواج فتنة وامتحان للزوجين لا بد ان يحملوها
ويتحملوا لها لصالحهما وسائر المجتمع.
فالغيرة واجبة على
الرجال حفاظا على النواميس ومحرمة على النساء فسحا لمجال تعدد الزوجات بما فيه من
شروطات ومصلحيات ، ثم الحسد محرم على القبيلين وهو في قبيل النساء اكثر ظهورا ولا
سيما بالنسبة لشريكاتهن في الزواج.
ولو كان الحسد هو
المانع من سن تعدد الزواج ، فهل هو في النكاح اكثر ام في السفاح ، حيث الرجل
المحدد بزوجة واحدة ـ كما في الغرب المسيحي ـ نراه يزني بعشرات من النساء ثيبات
وأبكار ، أفيسمح بذلك الفسق البشع ولا تحسده النساء ، ثم لا يسمح بديله بتعدد
الزواج بشروطه الصالحة إذ تحسده النساء!.
٢ ان الإحصاء يعطي
تساوي عدد الجنسين في غالبية البلاد فالتعدد ظلم لأنه يقضي على تلك المساوات؟.
وهذا كذب وزور من
القول ، فهل تجدون إعوازا في النساء في البلاد الإسلامية ولا سيما الحارة التي
يكثر فيها تعدد الزوجات؟ كلا ، وقد نرى ـ بعد ـ عديد النساء اكثر من عديد الرجال
لأسباب مضت ، ولا بد من علاج
__________________
لهذه المشكلة وليس
إلّا سنّ تعدد الزوجات ، ام رواج البغاء!.
٣ ان في تشريع
التعدد ترغيبا للرجال الى مزيد الشرة والشهوة وسعار الجنس ، وهذا ينافي روح الشرعة
الربانية المانعة عن حرية الشهوة؟.
ولكنه تجاوب مع
الخلقة والفطرة الرجولية التي فطر الله الرجال عليها ، فلو حصر الرجل بامرأة واحدة
كان ذلك خلاف الفطرة وتناحرت مع الشرعة الربانية ، إضافة إلى أن شرعة التعدد ليست
أصلا يؤمر به ، وإنما هي علاج لمشكلة الجنس و (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا)!
٤ ان في ذلك
التشريع حطا من ساحة النساء بمبادلة الأربع منهن بواحد ، وكأن المرأة هي ربع الرجل
، مع أنها نصفه في الميراث والشهادة والقصاص؟.
بل إن تحديد
الزواج بواحدة هو الحط من ساحتهن أن يصبرن على العزوبة او يزنين ، وحين ينحصر أمر
النساء الزائدات على الرجال بين هذه الثلاث فهلّا يكون زواجهن أحسن لهن وأجمل
لحياتهن ، حال أنهن يتزوجن هكذا بميولهن دون إكراه وإجبار خلاصا عن الكبت والفجور
، وتأسيسا للعائلة الكريمة الشريفة ، وتأمينا لحياة أمينة!.
أفهذا هو الأحسن
لساحة الأنوثة الشريفة الطرفية ، أم ان تبتذل دعارة رخيصة لكل من يشتهيها ، فهذه
النساء الزائدات على الرجال من الأرامل وغيرهن لا محيص لهن عن قبول التعدد أم خيبة
القوة المودعة في طبائعهن وبطلانها ، أم رخاصتهن لكل راغب فيهن خوانة ودعارة ،
وليت شعري هلّا تأسف النساء حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن في الغرب المسيحي
حيث يقضون أوطار الشهوة بلا حد ولا إطار من كل الابكار والثيبات وذوات البعل ، ثم
هن يأسفن إذا تزوج رجالهن محصنات طاهرات؟!.
٥ من العدل حين
يسمح لرجل اكثر من واحدة أن يسمح للمرأة أكثر من واحد ولا سيما إذا عازت النساء
وكثر الرجال عدلا في ذلك الحقل؟.
ولكن الغيرة
الرجولية لا تسمح أن يشارك في زوجها غيره وإن بنظرة والله هو الذي فطره على تلك
الغيرة ، ثم المرأة ليس لها دليل الغيرة إلّا الحسد ، فلذلك تتحمل هي شريكة مهما
كانت عليها صعبة ، ولا يتحمل هو الشريك وإن في تصوره.
ذلك! بل والرجل
يغار على شريكه في زانية ، والمرأة لا تغار على شريكته في نكاح وإنما تحسدها!.
ثم إن الأكثرية
الساحقة في قبيل النساء على مر الزمن تجعل المعاكسة في عدد الأزواج غير ضرورية ،
اضافة الى انها ضررية لمكان تداخل الأنساب ، فمن «علة تزويج الرجل اربع نسوة
وتحريم ان تزوج المرأة اكثر من واحد ، لأن الرجل إذا تزوج اربع نسوة كان الولد
منسوبا إليه ، والمرأة لو كان لها زوجان أو اكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو ، إذ
هم مشتركون في نكاحها وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف ..»
فما هذه
الغوغائيات الخاوية إلّا دعايات زور وغرور ممن سنوا الإباحية عمليا في النساء ثم
هم يتقشفون عن زواج مشروع كريم بأكثر من واحدة!.
ومن ثم فتعدد
الزواج محصور بسياجات ثلاث تمنع عن تفشي الفساد وتنعش الرجال دون حد ولا حصر في
حظوة الجنس ، فهو يقلل عن التخلفات الجنسية ، ويهدم الثروات المركومة للذي يهوى في
تعدد الزواج حيث يتقسم أمواله بين زوجاته وولده صدقة ونفقة وميراثا ، وهذه منعة
منيعة عن تضخم الثروات الهائلة ، كما وهو رياضة نفسية في واجب العدالة بين النساء
التي قل من يستطيع لها.
وليتنبه أن
الإسلام شيء وكثير من المسلمين شيء آخر ، فتبديل السماح في زواج أكثر من واحدة إلى
تأسيس الحريمات الواسعة والاستكثار من الحرائر والإماء عن طريق الخطف والشراء
والنخاسة وتجميعهن في القصور واتخاذهن وسيلة للالتذاذ الجنسي البهيمي دونما حدّ ،
وتمضية الليالي الحمراء بين قطعان النساء وعربدة السكر والرقص والغناء ... هذه
كلها ليست من الإسلام ، لا سيما وأن هذه الكثرة الكثيرة من النساء بحاجة الى من
يكسر ثورتهن الجنسية ولا يستطيع له رجل واحد فيبتلين بالشذوذات والتخلفات الجنسية
وهذا داخل في العول المنهي عنه في (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا).
فكما أن خوف العول
والميل المحرم يسمح لعديد الأزواج في جانب الرجل ، كذلك خوف العول في جانب المرأة
حين لا تجد رغبتها وشبقتها عند رجلها لكثرة شريكاتها ، فقد يكون تعدد الزوجات
محرما قضية عول الرجل والمرأة ، وهو واجب أحيانا بنفس القضية بصورة معاكسة.
وليس الواقع
التاريخي بين المسلمين هو التفسير العملي للإسلام ، فإنما المحور الأصيل هو
الإسلام وليس المسلمين ، إلا ما وافق شرعة الإسلام كما الإسلام يرام لا كما يرومه
من لا يفهم الإسلام إلا بقسطاس رغبته وهواه.
فانما المعيار
العادل في تعدد الزواج هم الرسل والائمة الكرام وسائر الأولياء الصالحين على مدار
الزمن الرسالي ، مثل سليمان النبي (عليه السلام) الذي يصرح التورات بانه تزوج مئات
من النساء ، والرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تزوج بسبعة عشر ومات عن
تسع.
دون الناس النسناس
الذين يتذرعون بسماح التعدد إلى معاملات بشعة وعمليات سيئة حتى بالنسبة لزوجة
واحدة فضلا عن المتعددات.
رجعة أخرى الى آية
الجمع.
قد يقال : ان مثنى
وثلاث ورباع ، ليست لتحصر الحل في أربع ، فان تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا يصلح
تخصيصا للحلّ به ، وليس هذا من اداة الحصر شيء يعتمد عليه ، وقد يدل على عدم الحصر
«ما طاب» حيث يطيب اكثر من اربع ، لا سيما وانه اتباع لسنة الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) حيث مات عن تسع ، والتحديد بالأربع تخلّف عن سنة الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) ولا يصلح الحديث تحديدا او تقييدا لعموم آيتي «ما طاب» و «اتبعوه» ولا
تصلح (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) حصرا لهما بأربع.
والجواب ان لو لم
تكن «رباع» آخر عدد من المسموح وكان هو الآخر ك «تسع» أما زادت لكانت قضية الفصاحة
في كتاب البيان ان يأتي بهذا التبيان ك «مثنى وثلاث ورباع ـ والى ـ تساع» أما زادت
، فالوقفة على «رباع» نص او ظاهر كالنص على التحديد ، وبذلك تتخصص سنته (صلى الله
عليه وآله وسلم) في تسع ، وتتأيد الروايات الحاصرة لأمته في اربع.
ثم إن للرسول
سنتين ، سنة رسولية وسنة رسالية والثانية هي العامة المتّبعة دون الأولى إلّا
بدليل ، ولقد كان سماح الأكثر من أربع إلى تسع سنة له رسولية ، وكما كان المنع عن
اي زواج له بعد سنة رسولية : (لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) (٣٣ : ٥٢).
ذلك وكما كانت
صلاة الليل مفروضة عليه دون الأمة ، أمّاذا من واجبات او محرمات عليه كانت سنة له
رسولية لا رسالية ، ولا علينا إلّا أن نتبع النص في التمييز بين السنتين.
هذا ، فإن عقد على
خامسة والأربع في نكاحه وان في عدة رجعية بطل الخامس وان عقد دفعة واحدة على اكثر من اربع بطل في الزائد عن الأربع
قطعا ، فهل يبطل العقد ايضا عن بكرته؟ ام يصح في اربع وله ان يختارهن من بينهن؟
لكلّ وجه ، وقد يرجح الثاني بما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان عنده
اكثر من اربع ان يفارق الزائدة عن الأربع ، وان النكاح واقع على الأربع ضمن الأكثر
، وبطلان الأكثر لا يبطل العدد المسموح وحلّه ان يحلّ الزائد عن الأربع كما يريد أو يقرع عنه الحيرة ، ولكن الأحوط ـ فيما إذا كان العقد
على الخمس ـ مثلا ـ بعد نزول الآية ـ إعادة العقد على أربع منهن ، حيث العقد على
غير المتعينات لا واقع له ، فالتعيين بعد ما لا واقع له لا واقع له ، فلا يترك
الاحتياط ـ أو هو أقوى ـ بتجديد العقد على اربع أمّا يريد.
لا سيما وأن
الرواية القائلة بالاختيار مصبها من كان عند خمس قبل نزول الآية ، فكان ـ إذا ـ زواجا
صحيحا من ذي قبل ، وآية الإبطال لا تبطل إلّا الزائدة على الأربع.
وهل المتعة من
الأربع لإطلاق «فانكحوا» الشاملة لها ، ثم الحديثان المتعارضان بهذا الصدد يعرضان
على طليق الآية؟ ام هي خارجة عنها داخلة في
__________________
(ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ)!.
ظاهر الإطلاق في «انكحوا»
هو الدائم ، إضافة إلى (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا) حيث العدل في القسم وسواه ليس واردا في المتعة اللهم إلّا
عامة العدالة ، الشاملة (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) فليكن العدل المفروض في عديد الزوجات عدلا خاصا لا يفرض في
سواه ، وهو بين مربع الأضلاع كما في عديد الزواج ، وبين مثناه كما في واحدة ، وبين
بسيط العدل وهو بالنسبة لما ملكت أيمانكم إماء ومتمتع بهن ، (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) هو الأول حيث ينتقل الى «واحدة» فالثاني ثم إلى (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فالثالث ، فمثلث العدل مفروض في مربعه او مثناه او موحّده.
ذلك! ثم النصوص
المعتبرة من السنة تختص الأربع بالدائمات فالأخرى المضادة لها لا عبرة بها لضعفها سندا ومضمونا
ومخالفة لظاهر القرآن ونص السنة .
ولأن المطلقة
رجعية زوجة فلا تصح نكاح الخامسة ان كانت المطلقة من الأربع رجعية حتى تخرج عن
العدة حيث الأصل في الحل هو الخروج عن العصمة وليس الا بعد انقضاء العدة في الرجعية
، واما البائن فلا عصمة فيه حتى تحرم الخامسة.
__________________
فإذا كانت إحدى
الأربع او غيرهن منقطعة ، جاز نكاح أختها دواما او انقطاعا قبل انقضاء العدة لأنها
بائنة كما ورد في جواز نكاح أخت المطلقة البائنة قبل انقضاء عدتها «إذا برء عصمتها
فلم يكن له عليها رجعة فله أن يخطب أختها» .
وليس ذلك من الجمع
بين أختين حتى تشمله الآية (وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) لا جمعا واقعيا ولا حكميا ، حيث المطلقة رجعيا زوجة ، دون
البائنة مطلقة وغير مطلقة ، وهذه الأخت المنقطعة بائنة بانقضاء مدتها وان لم تنقض
عدتها ، وجواز الرجوع إليها بعقد جديد لا يجعلها كزوجة ، كما ويجوز الرجوع الى
الدائمة المطلقة بعد انقضاء عدتها بعقد جديد! وقد يأتي القول الفصل على أحكام
الجمع بين الأختين على ضوء آيته إن شاء الله تعالى.
__________________
__________________
قول فصل حول
زواجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لقد تحدثنا حول
زواجاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحزاب ونزيد هنا طرفا منها بمناسبة الموقف
، إذ كثرت الدعايات الكنسية المعادية حولها ، أنه تزوج بسبعة عشر وبنى بثلاثة عشر
منهن وتوفي عن تسع ، فلم يقنع بما سمحه الله لأمته لكثرة شرهه وشبقه وولعه في
النساء؟!.
ذلك! والمسألة ـ رغم
هذه العربدة النكراء ـ ذات أبعاد عريقة لمصلحة هذه الرسالة السامية الحانية سياسيا
وروحيا وعاطفيا اكثر بكثير من البعد الشهواني الذي يعم الرسول بطبيعة الحال لأنه
بشر له ما لسائر البشر من الحاجيات البشرية.
فقد يتزوج الرجل لحاجته
، وأخرى لحاجة المرأة ، وثالثة لحاجتهما ، وكل ذلك في حقل الجنس أم تأسيس العائلة
أم السؤل المعيشي.
ورغم أن هذه كلها
تسمح للزواج بشروطه لم تكن زواجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا على هامش
رسالته دعوة وترغيبا وتشجيعا ، والحاجة الجنسية التي هي لزام كل إنسان كانت على
هامش البغية الرسالية له (صلى الله عليه وآله وسلم).
فتزوجه (صلى الله
عليه وآله وسلم) بخمس عشرة امرأة دخل بثلاث عشرة منهن وقبض عن تسع ام بثماني عشرة ام إحدى وعشرين ام ثلاثة وعشرين ، ام انه اجتمع له إحدى عشرة امرأة في وقت
كان كله وفق
المصلحة الملزمة الرسالية.
__________________
١ ـ وترتيب
زواجاته كالتالي : تزوج بمكة خديجة بنت خويلد وكانت عند عتيق بن عائذ المخزومي ثم
عند أبي هالة زرارة بن نباش الأسيديّ ، مهما روي أنها كانت عذراء.
٢ ـ ثم تزوج بسودة
بنت زمعة بعد موت خديجة بسنة وكانت عند السكران بن عمر من مهاجري الحبشة فتنصر
ومات بها.
٣ ـ ثم تزوج
بعائشة بنت أبي بكر وهي ابنة تسع قبل الهجرة بسنتين ولم يتزوج غيرها بكرا.
٤ ـ ثم تزوج أم
سلمة واسمها هند بنت امية المخزومية وهي بنت عمة عائكة بنت عبد المطلب ، وكانت عند
أبي سلمة بن عبد الأسد بعد وقعة بدر ثانية الهجرة.
٥ ـ وتزوج في هذه
السنة بحفصة بنت عمر وكانت قبله تحت خنيس بن عبد الله ابن حذافة السهمي.
٦ ـ ثم تزوج بزينب
بنت جحش الأسدية وهي أول من ماتت من نساءه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد خديجة.
٧ ـ ثم جويرية بنت
الحارث بن ضرار المصطلقية وكانت عند مالك بن صفوان بن ذي السفرتين.
٨ ـ ثم أم حبيبة
بنت أبي سفيان واسمها رملة وكانت عند عبد الله بن جحش في سنة ست.
٩ ـ ثم صفية بنت
حي بن أخطب النضري وكانت عند سلّام بن مشكم ثم عند كنانة بن الربيع.
١٠ ـ ثم ميمونة
بنت الحارث البلالية خالة ابن عباس وكانت عند عمير بن عمرو الثقفي ثم عند أبي زيد
بن عبد العامري وقد دخل بهؤلاء.
ثم المطلقات منهن
او من لم يدخل بهن أو من خطبها ولم يعقد عليها هن :
١١ ـ فاطمة بنت
شريح فانها من اللاتي خيرهن فتخيرت السراح.
١٢ ـ وزينب بنت
خزيمة بن الحارث أم المساكين وكانت عند عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
١٣ ـ وأسماء بنت
النعمان بن الأسود الكندي ، لما دخلت عليه قالت أعوذ بالله منك ، فقال (صلى الله
عليه وآله وسلم) أعذتك الحقي بأهلك.
١٤ ـ وقتيلة أخت
الأشعث بن قيس الكندي ماتت قبل ان يدخل بها.
١٥ ـ وام شريك
واسمها غزيّة بنت جابر من بني النجار.
١٦ ـ وسنى بنت
الصلت من بني سليم ماتت قبل أن يدخل بها.
١٧ ـ وسراف أخت
دحية الكلبي و ١٨ ـ عمرة الكلابية و ١٩ ـ اميمة بنت النعمان الجونية و ٢٠ ـ العالية
بنت ظبيان الكلابية و ٢١ ـ مليكة الليثية و ٢٢ ـ عمرة بنت بريد و ٢٣ ـ ليلى ابنة
الحطيم الأنصارية.
والتسع اللاتي قبض
عنهن : أم سلمة ـ زينب ـ ميمونة ـ أم حبيبة ـ صفية ـ سودة ـ عائشة ـ حفصة جويرية
وماتت قبل النبي خديجة وأم هاني وزينب بنت خزيمة.
فلقد تزوج في بزوغ
زواجاته ـ وهو ابن خمسة وعشرين ـ بخديجة وهي أرملة عرفت قبله زوجين ولها أربعون
وظل معها ثمان وعشرون ، فتوفيت عنه ولها ثمان وستون وهو ابن ثلاث وخمسون ، فقد مضى
بما مضى عمر الشبق
والشره والولع في
النساء ولم يتزوج على خديجة ما كانت معه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والمتولع
بالنساء كنساء ، المغرم بحبهن ، المفتون بغنجهن ودلالهن ، هو بطبيعة الحال يستغل
شبابه قبل هرمه ، لا أن يختص غزارة شبابه لحد الخمسين بامرأة هي أكبر منه بخمسة
عشر!.
كما وأن طبيعة
الحال البناء بالبكر بعد الثيب او البكر ، وهو بنى بالثيب بعد البكر ، وبالعجوز
بعد الفتاة ، ولم يبن ببكر إلا واحدة هي عائشة قضية المصلحة السياسية الرسالية ،
وقد بنى بعدها بأم سلمة وزينب بنت جحش وهما في الخمسينات من العمر!.
وقد تزوج بالبعض
منهن ترغيبا في الجهاد كاللاتي استشهد أزواجهن كزينب بنت خزيمة حيث قتل زوجها عبد
الله بن جحش في أحد ، وبصفية بنت حي بن أخطب سيد بني النضير حيث قتل زوجها بخيبر
وقتل أبوها مع بني النضير وكانت في سبي خيبر ، وتزوج بحفصة بنت عمر وقد قتل زوجها
خنيس بن حذافة ببدر وبقيت ارملة ...
تزوج بأمثال هؤلاء
، وقد كانت تدعى أولاهن بأم المساكين لعطفها وحنانها البالغ بهم ، فصانها عن
الانكسار ، وشجع أقرانها في الجهاد نفسيا وماليا.
كما وصل بالثانية
سببه ببني إسرائيل حيث أعتقها بعد سبيها وشرّفها بذلك الزواج ، ووصل بالثالثة سببه
بالخليفة عمر حتى يكسر من ثورته ويشجع المجاهدين في القتال.
وتزوج بعائشة فوصل
بها سببه الى أبي بكر لنفس المصلحة في عمر إلا في تشجيع الجهاد.
وتزوج بجويرية بنت
الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق ، وقد أسر المسلمون مأتي بيت منهم
بالنساء والجواري ، فسبب بزواجها أن اعتقهن المسلمون فأسلم بنو المصطلق جميعا.
وتزوج بأم حبيبة
بنت أبي سفيان زوجة عبيد الله بن جحش الذي هاجر معها الى الحبشة الهجرة الثانية
فتنصر عبيد الله هناك وثبتت هي على الإسلام ، وقد كان أبوها ابو سفيان يجمع الجموع
ضد المسلمين ، فتزوجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترغيبا الى صبغة الإسلام
وإحصانا لها وإحسانا إليها حيث ثبتت على إسلامها رغم زوجها وأبيها.
وتزوج بأم سلمة
زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخيه من الرضاعة
أول من هاجر إلى الحبشة ، وقد كانت زاهدة تقية نقية ، ومسنة ذات أيتام فصانها
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك الزواج.
وتزوج بزينب بنت
جحش بعد ما طلقها زيد بن حارثة ، هدما لسنة جاهلية هي حرمة حلائل الأدعياء ، كما
وأن زواجها بزيد حسب أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت هدما لسنة الفوارق ،
فشريفة بني هاشم تتزوج بوضيع في العرف الجاهلي ، لكي تزول أمثال هذه الفوارق.
ولقد تزوج بعد
خديجة بسودة بنت زمعة ، وقد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ،
وكانت سودة مؤمنة مهاجرة ، في رجوعها إلى أهلها الكفار رجوع إلى الكفر بطبيعة
الحال ، وكما فتنوا غيرها من المؤمنات بالزجر والقتل والحمل على الكفر.
ثم تزوج ما تزوج
لأسباب كلها غير الحاجة الجنسية ، وانما هي ـ كأصول ـ أسباب رسالية ، ترغيبا الى
الايمان وتثبيتا عليه.
ذلك ، إضافة الى
ترغيب الأمة الى الزواج تأمينا للحال وتزويدا للنسل وجبرا لنقص الرجال وزيادة
النساء.
ففي أصل الزواج
رجاحة بشروطه ، وفي تعدده إلى أربع رجاحة أخرى بشروط أكثر من أصله ، ثم في عديد
زواجات النبي إلى تسع مصالح رسالية ملزمة ما كانت تحصل إلّا بالزواج الدائم ، ومن
ذلك ـ ككل ـ رباطه سببيا بمختلف قبائل العرب.
توحيدا بينهم ،
واندفاعا فيهم ، وصدا عن بأسهم ، كسياسة حيادية ودية تربط بين المختلفين!.
فقد كانت زواجاته (صلى
الله عليه وآله وسلم) بعد خديجة ذات ابعاد سياسية ـ عاطفية ـ حيادية ـ قيادية ـ ترغيبية
أماهيه من مصالح رسالية ، ثم حرم عليه كل زواج لما انتهت تلك المصالح : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ...) (٣٣ : ٥٢).
وذلك تحريم مؤبد
وان بقي دون زوج ، وجاه تحليل شاسع له قبله ، وكلّ تابع لمصلحة رسالية تختص
بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الأمة.
فكما أن للرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) ميزة العصمة العليا عن الأمة ، كذا يمتاز على ضوء العبء
الرسالي بأحكام خاصة تبنيا لواقع رسالته في أمته ولكي يؤتسى فيها كما أمر الله.
فقد فرضت عليه
صلاة الليل دون الأمة لأنه يحمل من المسؤولية الروحية ما يفرض عليه نافلة في
واجبات تكمّل الروح الرسالية.
كما سمح له
بزواجات هي أكثر مما حدد للأمة قضية الدعوة الرسالية التي
تختصه كحامل شرعة
دون من سواه من المكلفين ، وقد كانت كلها مفروضة عليه زائدة على فرض الأمة.
فزواجه بخديجة فرض
في بزوغ الرسالة لأنها كانت أصلح النساء الصالحات لزواجه ، ولذلك لم يتزوج عليها ـ
ما كانت باقية ـ لا شابة ولا هرمة ، إضافة إلى أنه استفاد من ثروتها الغزيرة لبثّ
الإسلام في الفقر القارع المدقع للمسلمين.
كما أن زواجه بمن
قتل أزواجهن أو ارتدوا عن الإسلام ترغيبا في الجهاد وتشويقا على الثبات في الإيمان
، وزواجه بالتي وهبت نفسها كذلك ترغيب إلى الإيمان به (صلى الله عليه وآله وسلم)
لحد الوهبة.
وزواجه بزينب كان
فيه تهديم لسنة جاهلية هي حرمة حلائل الأدعياء ، كما ان تزويجها قبله بزيد تهديم
لسنة الفوارق.
وهكذا نرى زواجاته
كلها مفروضة عليه رساليا ، أم ولأقل تقدير راجحة له دونما استثناء ، ورغم انه بشر
لم يتزوج ـ فقط ـ قضية حظوة الجنس بشريا مهما كانت ضمن القصد من زواجاته!.
(وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ٤.
وترى من هم
المخاطبون ب «آتوا»؟ القدر المعلوم أنهم الأزواج حيث الصدقات حق لهن عليهم ، ثم
الجو الجاهلي يضيف إليهم أولياءهن إذ كانوا يأكلون صدقاتهن أم ينكحونهن نكاح
الشغار ، ولا معارضة بينه وبين آية البقرة : (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فإنه ليس أكلا من ولي البنت وإنما هو سماح حسب المصلحة عند
الطلاق قبل الدخول ، فيختص بمورده ، كما هي
تسامح حسبها ، فلا
يجوز لولي البنت ـ كما الزوج ـ أن يأكل صدقتها إلا بطيبة نفسها.
والصدقات هي جمع
صدقة ، عبارة أخرى عن الصّداق والصّداق والصّدقة ، وهي مهر المرأة ، واختلاف بناء
الصدقة عن الصدقة تشي باختلاف المعني مهما اتحد الأصل ، فهما واحد في الإيتاء
مجانا ، والصدقة تزيد عليه أنها نحلة ، تبرّع كتبرع النّحلة بعسلها دونما ابتغاء
جزاء ولا شكور ، فالصدقة ـ إذا ـ نحلة عسيلة أصيلة من جانب الزوج الى الزوجة ،
هدية لأصل الزواج.
وقد تعني «نحلة» ـ
بما عنت ـ نحلة الشّرعة الربانية ، والشرعة كلها نحلة عسيلة ، فصدقات النساء نحلة
في بعديها ، فريضة بأصل الشرعة نحلة ، وإيتاء لكرامة الزوجية نحلة ، فهما ـ إذا
ـ نحلتان عسيلتان أصيلتان في حقل الزواج ، ويا لها من طيبة وحلاوة وطلاوة!.
ثم «نحلة» على
المعنيين قد تكون حالا أو تمييزا للمؤتين وإتيانهم والنساء وصدقاتهن ـ حسب التصور
الأدبي الحرّ ، مهما لا تعني البعض منها أدبيا أو معنويا .
وفي إضافة الصدقات
إليهن لمحة أخرى بذلك الاختصاص ، فلم يقل «صدقاتكم» كيلا يخيل إليهم أنها تجاف عن
حقوق لهم دونما بديل كسائر الصدقات ، وإنما «صدقاتهن» الخاصة بهن كحق أصيل في حقل
الزواج ، وليست بديلة عن البضع إذ يحق لهن كلها قبل الدخول إلا إذا طلقها قبل
__________________
فنصف ، ولو كانت
مبادلة لعمت كلها ، ثم هي غررية إذ لا يعلم عدد الحظوات الجنسية ولا زمنها ،
والبديل المجهول في عدده وزمنه لا يصلح بديلا في أية مبادلة!.
ذلك! مهما كانت
الصدقة بديلة أصل الزواج كهدية لذلك الاتصال العريق وتقدمة.
إذا فليست النحلة
بديلة فقط عن الخدمات البيتية ولا عن البضع فانه مشترك بينهما ، ثم ولا يملك الزوج
بضعها وإنما هو استباحة فإنها تستحق نصف الصدقة ان طلقت قبل الدخول بها ، وتستحق
كلها ابن دخل بها وإن مرة يتيمة ثم تمنّعت او منعت من مزاولة الجنس ، أم نشزت عن
واجبات الزوجية ، ولا يقطع عنها شيء من حقوقها إلّا النفقة بنشوزها إذا لم يقابل
بنشوزه ، اللهم إلا ان يأتين بفاحشة مبينة يتهدم بها صرح الزوجية عن بكرتها : (... وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ..) (٤ : ١٩)! ـ (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما) (٢ : ٢٢٩).
هنا يسمى المهر
صدقة كمرة يتيمة ، ثم «فريضة» في آيات ثلاث
__________________
فالصدقة الفريضة
نحلة ، عبارات أخرى عن حق الزواج للزوجة دون مقابل إلّا أصل الزوجية.
فهو ليس صدقة
مشروط فيها فقر المتصدّق عليه ، محدود حسب ما حددته الشرعة ، بل هو نحلة تقدّر كما
ترضاها الزوجة وإن كانت قنطارا.
وآيات الأجر لا تعني أن المهر بدل البضع ، بل هو هدية النكاح ، أجرا
لذلك الرباط العريق الذي تتقبله المرأة.
وحتى إذا كان أجرا
عن ذلك الرباط فهو فريضة صدقة نحلة ، تختلف اختلافا شاسعا عن سائر الأجر.
ولو كان البضع هو
المقابل لكان له عليها كمتقابل حيث الحظوة الجنسية مشتركة بينهما ، ولا سيما إذا
كانت للمرأة أكثر من الرجل.
فلا مقابل للصداق
إلّا أصل الزواج نحلة وهدية مفروضة مهما سميت أجرا ، ولا ينتصف الصداق إلا في طلاق
قبل الدخول قضية النص ، دون الموت قبل إمّا ذا من موارد عدم الدخول.
ثم «آتوا» هنا دون
«أعطوا» تشير الى كيان تلك الصدقة النحلة ، أنها ليست عطية مجانية يمنّ فيها على
مستعطيتها ، بل هي حق لها بزواجها كأصل ثابت لا مرد له ، حق لا يحول دونه أي حائل
اللهم إلا فاحشة مبينة كما نبين على
__________________
ضوء آيتها الآتية
، أو اللهم إلّا بطيبة أنفسهن دونما إغراء وتسويل :
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وأما إذا سمحن عن شيء منه دون طيب نفس ، بل بضغط من الزوج
وترعيب أو ترغيب له في عشرة حسنة ، او إغراء منه في إبراء من الصدقة ، أماذا من
غير (طِبْنَ لَكُمْ عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) فلا يحل شيء منها أبدا.
وهنا بين طيب
النفس ولفظة السماح عموم من وجه ، فقد تطيب نفسها بلا قال ، وإنما بحال وفعال ،
وقد لا تطيب نفسها مهما كثر القال والفعال ، وليس (فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً) إلّا (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) و «هنيئا» هو كونه
بلا نكد ولا تبعة ، كما «مريئا» هو السائغ أكله ، الداخل في المري بسهولة دونما
غصة.
ف «يا هذا! إن كنت
تعلم أنها قد أفضت بذلك إليك فيما بينك وبينها وبين الله فحلال طيب ..» وإلا فلا يحل لكم منهن شيء.
وحين لا يحل للزوج
شيء من صدقة الزوجة ، فبأحرى لا يحل له شيء من أموالها الأصيلة غير الصدقة ،
ويقابل تلك الحرمة الجازمة ، الحليلة الحازمة لحد قد يكون فيها شفاء من داء وكما
يروى عن الإمام علي (عليه السلام) سنادا
__________________
الى الآية وسواها
التي هي بمحتواها .
وليست الحرمة خاصة
بأموالهن الخاصة وصدقاتهن ، بل والموهوبات والهديات فإنها كلها ممن آتيتموهن (أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئاً) تعمها الى الصدقات والنفقات الواجبة.
فلا يرجع الزوج
فيما وهب لزوجته ولا الزوجة فيما وهبت لزوجها لإطلاق الآية فيهما فإن أكل الهدية
التي يجوز الرجوع فيها ليس هنيئا مريئا .
فالمفروض على
الزوج أولا إيتاء الصدقة لزوجه ، ف «من نكح امرأة وهو يريد أن يذهب بمهرها فهو عند
الله زان يوم القيامة» .
ذلك ، وبالنظر الى
الجو الجاهلي الغاشم بالنسبة للنساء نعرف مدى العطف واللطف بهن في شرعة الله ، فقد
كانت حقوقهن بأسرها مهضومة بصور شتى ، ومنها نكاح الشغار وهو أن يزوج الولي المرأة
التي في ولايته قبال أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية الآخر ، واحدة بواحدة
دونما أية صدقة ، صفقة
__________________
عارمة بين الوليين
وهما محرومتان عن حقوقهما بهذه الولاية الجاهلية! وكأنما تبدل بهيمة ببهيمة.
كما ومنها سائر
النكاح التي لا تراعى فيها لهن حقوقهن ، فاستبعد القرآن بذلك الإجراء الفضيل كل
هذه الرواسب الجاهلية الرذيلة حفاظا على كرامة المرأة كإنسانة مثل الرجل ، ولها
حقها في زواجها ، بما لها سائر الكرامات.
(وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ
فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ٥.
السفه في الأصل هو
مطلق الخفة فيما من شأنه الصالح ألا يكون خفيفا كالزمام السفيه وهو كثير الاضطراب
، والثوب السفيه وهو رديء النسج او الخلق الموهون ، وهو بالنسبة للإنسان وأشباهه
خفة الإنسانية وهي العقلية الرزينة الرصينة ، سواء أكانت في الأمور المعيشية أو
الدينية مما يعنيه الإنسان أو يعني الإنسان كإنسان من سائر النواميس الخمس .
فالسفه هنا اعتبارا
بالمال هو السفه في تدبير المال من الناحتين ، فكما أن الخاسر في معاملاته سفيه ،
كذلك المسرف والمبذر والذي يصرف أمواله فيما لا يحل والجامع لخفة العقل في حقل الأموال هو التخلف عن شرعة الله
في
__________________
صروفها بمختلف
الأحوال ، سواء أكان لسفه العقلية الإنسانية أو الإيمانية ، والثانية أولى بالسفه
من الأولى لأنها سفه عن تقصير فأضل سبيلا.
والسفيه ممنوع عن
التصرفات المالية الحالية والمستقبلية ، بل والماضية إقرارا أن عليه مالا فلا ينفذ
إقراره إلا إذا أحرز عدم تفريطه فيه ، وأما إقراراته وسائر تصرفاته غير المالية
فغير محجور عليها.
وذلك قضية طليق
النهي في الآية عن إيتاء السفهاء أموالا حيث القصد السياج عن ضياعها ، ولا يختص
بما يؤتون ، بل وما عندهم من أموال أم لهم من إقرارات مالية ، حيث النتيجة من الكل
واحد هو تفريط المال الذي جعل قياما لصالح العباد ، سواء أكان تفريطا في حياته
تبذيرا أو إسرافا أو صرفا في معصية الله أو إعطاء لغير الوارثين حيث يضربهم ، أم
لما بعد موته كالوصية بثلثه خروجا عن العقلية الإسلامية ، فإنه جنف أو إثم وقد منع
الله عنهما : (فَمَنْ خافَ مِنْ
مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)
(٢ : ١٨٢).
وترى «السفهاء»
هنا كل السفهاء تقصيرا وقصورا وفي اي سفه في اي مال؟ ألّا تؤتوهم (أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِياماً)؟ (وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ) تختصهم بمن له حق في أموالكم! أم إنها أموالهم دون أموالكم؟
فلما ذا ـ إذا ـ أموالكم!.
قضية الجمع بين «أموالكم»
و «ارزقوهم» في البداية أنهم سفهاء خصوص لهم حق في أموالكم كسفهاء النساء والأولاد
وسائر الأهلين
__________________
الواجب نفقاتهم
أصليا كواجبي النفقة الأصول وهم الأبوان والأولاد والأزواج ، أم الفروع كالأقارب
الفقراء ، أم راجحي النفقة ، ومن ثم سفهاء الأيتام بالنسبة لأوليائهم حيث يجب
عليهم الإنفاق عليهم من أموالهم ، فذلك ـ إذا ـ استثناء عن (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ـ (وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) حيث الإيتاء فيهما مشروط بعدم السفه عقليا وشرعيا ، وإلّا
فالإتياء محرم على أية حال.
فمن «أموالكم» هنا
(الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِياماً) هي أموال اليتامى المخولة إلى أولياءهم لصالح التدبير فيها
كصالح التدبير في أموالهم أنفسهم ، فهي كأموالهم أنفسهم من هذه الجهة ، وقد جعلها
الله لهم قياما بواجب الولاية ، وقياما لصالح اليتامى ، فبهدرها في أيدي السفهاء
يهدر الواجبان.
ثم سائر السفهاء
الفقراء حيث تجب الولاية عليهم فيها ، فلا تؤتوهم أموالكم ولا أموالهم ، بل (ارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).
وأخيرا سائر
السفهاء غير الفقراء ولا الصغار ، وهنا «أموالكم» هي أموالهم ، ونسبة الأموال ـ إذا
ـ إلى الأولياء هي قضية الجمع بين السفهاء الأربعة كما هي قضية صالح تصرفات
الأولياء في أموال السفهاء ، وهي قضية أن أموالهم هي لصالح المجموعة مهما كانت
أموالا شخصية ، فإن أموالك كما لها رباط خاص بك لصالحك شخصيا ، كذلك لها رباط
بأشخاص آخرين وبالمجموعة المسلمة إذ (جَعَلَ اللهُ لَكُمْ
قِياماً) كمجموعة ، مهما جعل الله لكم قياما لصالح الأشخاص الخصوص ،
حيث الإسلام يراعي صالح الأفراد ضمن المجموعة ،
__________________
وصالح المجموعة
على كاهل الأشخاص ، فذلك المثلث من رباط الأموال بالأولياء يقتضي نسبتها إليهم
أصليا وإلى السفهاء فرعيا.
إذا ف «أموالكم»
الأولياء وسائر العقلاء ، تعم مخمس الأموال : ١ الأموال الشخصية لكم حيث يجب
الإنفاق منها على واجبي النفقة ، ٢ والتي يجب ايتاءها صدقة ونفقة للنساء ، ٣
وأموال السفهاء المورّثين لهم حيث جعل الله لكم فيها قياما بعدهم ، ٤ وأموالهم
التي فيها قيام للأولياء في تدبير شؤونهم أولاء السفهاء ، ٥ وأموالهم التي ليست
بأيديكم فالواجب استرجاعها منهم للقيام في صالحهم المعيشي.
والمخاطبون في هذه
المصلحة المالية هم العقلاء إنسانيا وشرعيا ، فهم الأتقياء النبهاء ، العدول في
الناحية المالية مهما لم يكونوا عدولا بإطلاق الكلمة.
فأحسن تعبير عن
هذه الأموال هو «أموالكم» لا «أموالهم» ولا هما معا ، حيث القائم في مطلق الأموال
لأي صالح من المصالح شخصية وجماعية هم عقلاء المؤمنين.
وهنا سابق ذكر
اليتامى والنساء يؤكد ـ فيما أكد ـ أنهما من المعنيين بالسفهاء ، كما وأن الأكثرية
الساحقة من السفهاء هم من النساء واليتامى ، فلا يؤتون أموالهم على أية حال إلا
عند إيناس الرشد من يتاماهم وزوال السفه ممن سواهم.
ثم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) بين «أموالكم» و «ارزقوهم» تعمم الحكم لكل السفهاء ، أنهم
لا يؤتون أموالا على أية حال ، سواء في ذلك أموالهم الشخصية ، أو الواجب ايتاءه
لهم نفقة أو إنفاقا أو الراجح فيهما ، فإنما (وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).
ثم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) تحدد موقف الأموال ككل أنها مجعولة في
شرعة الله (لَكُمْ قِياماً) لصالح النشأتين ، قياما اقتصاديا ـ عقيديا ـ ثقافيا ـ سياسيا
ـ حربيا ام اي قيام وإقدام صالح لكم فرديا وجماعيا ، وفي صيغة مختصرة قياما
بالعقلية الإسلامية لصالح الأفراد والجماعات.
فالقاعد عن القيام
في أمواله ، أو القائم فيها خلاف شرعة الله وخلاف صالح الجماعة المسلمة او صالحه ،
ليس حرا في قيامه وقعوده ، فهو من موارد النهي عن المنكر بمراتبه الصالحة ، فمن
المفروض أن تكون الأموال في المجموعة المسلمة لهم قياما في الحيوية الإسلامية في
كل حقولها وبكل عقولها الرزينة الرصينة.
إذا فكنز المال
وتسميده دونما فائدة عائدة وقيام محرم ، كما أن إسرافه وتبذيره وصرفه في المحظور
محظور ، ومما ينافي القيام تسليط السفهاء على الأموال مهما كانت أموالهم الشخصية
فضلا عن الجماعية أم أموال آخرين.
ذلك! فالأموال
التي جعل الله لكم قياما يجب أن تكون بأيدي العقلاء الصالحين ، دون السفهاء
الكالحين ، فهي ككل لصالح العقلاء ، ومن صالحهم تدبير أمور السفهاء في أموالهم
الشخصية او سائر الأموال التي يحق صرفها لصالحهم ، فهي ـ إذا ـ حقا «أموالكم» لا «أموالهم»
اللهم إلا رزقا لهم وكسوة.
فقد اقتسمت هذه
الآية المجموعة المؤمنة الى عقلاء وسفهاء فخاطبت العقلاء أولياء وسواهم ب (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) فالسفهاء ـ إذا ـ هم صفر الأيدي عن الأموال التي يحق لهم
صرفها فيهم ، فإنما (وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ألا تخاطبوهم بالسفهاء ، بل وجاملوهم وحاولوا في حصولهم
على رشدهم كما يأتي في آية الابتلاء.
والجعل في (جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) يعم الجعلين : التكويني والتشريعي ،
كما ان «قياما»
يعم قيام المخاطبين في واجب الإصلاح لأموال السفهاء ما هم أحياء ، وقيامهم أنفسهم
لصالحهم إن كانوا هم من ورثة السفهاء.
فعلى كل من الوارث
والمورّث أن يقوم بالحفاظ على أموال المورث والوارث حفاظا عليها عن الضياع بسفاهة التصرفات غير المشروعة ، حيث
الأموال الحاضرة ليست ـ فقط ـ لحاضر القيام في المصالح ، بل ولمستقبله ، حيث الجعل
يعم المستقبل الى الحاضر.
فحين يرى الأولاد
أو الوالدان أو الزوج ان وارثه أو مورثه يتهدر في صرف الأموال ، وجب على العقلاء
منهم الحفاظ عليها ، فيحجر على السفيه في أمواله ، قياما له حاضرا وحتى الموت ،
وقياما للوارث بعد موت السفيه.
وعلى الجملة فنسبة
الأموال ككل الى عقلاء المؤمنين دون السفهاء ، نسبة رئيسية تعم كافة المصالح
الفردية والجماعية لهم ولآخرين ، في مثلث الأموال شخصية لهم وللسفهاء وجماعية كما
الأموال العامة المشركة.
ولكن نسبة الأموال
الى السفهاء ليست إلا نسبة مصرفية ، كأنها ليست لهم وإنما تصرف لصالحهم ، فليس لهم
تحصيلها ولا اختزانها ولا صرفها إلا على رقابة العقلاء المؤمنين ورقابهم.
لذلك فلتنسب كل الأموال
إلى عقلاء المؤمنين لمكان ولايتهم فيها والسفهاء هم المولّى عليهم حتى في أموالهم
الخاصة فضلا عما سواها! ومهما كانت لأموال السفهاء نسبة إليهم فهي منسوبة بأحرى
إلى العقلاء فإنها لهم قياما ولأولاء قواما معيشيا.
__________________
ولا تخص «لا تؤتوا»
بالأموال غير المؤتاة للسفهاء ، لمكان (الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِياماً) حيث تفرض الحجر على السفهاء في أموالهم التي هي بأيديهم
لأنها ـ ككل ـ لصالح (لَكُمْ قِياماً) صالحا اسلاميا.
فالسفيه أيا كان
هو ممنوع التصرف في أمواله الحاضرة أو المستحقة على أية حال فضلا عن سائر الأموال
، اللهم إلا فيما كان صالحا فيمضى ، ولكنه لا يسمح بدفع أمواله إليه حفاظا عن
الأكثرية من تصرفاته غير الصالحة.
والمعيار في السفه
هو عدم الوثوق عقليا او شرعيا او فيهما ألّا يصرف المال وفقا للعقلية الإسلامية فكما لا يجوز دفع المال ـ أيا كان ـ للسفيه ، مهما كان
بالغا ، يجوز دفعه إلى غير السفيه مهما لم يبلغ ، اللهم إلّا اليتيم حيث يشترط في
دفع أمواله إليه الرشد إضافة الى بلوغ النكاح.
وكما السفيه لا
يؤتى أمواله إياه ، كذلك ـ وبأحرى ـ غير أمواله ، ومنه الوصية إليه لأنها بحاجة الى عقلية اسلامية والسفه بكلا شقيه خلو
عنها.
__________________
ومن آتى سفيها
مالا له فهو من الذين لا يستجاب لهم كما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
.
ذلك ، ثم (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) كما يحتاجون ويناسب محتدهم ومستواهم حسب العرفية العاقلة
التي تصدقها شرعة الله ، وهنا «فيها» دون «منها» للتدليل على أن رزقهم لا يختص
ببعض هذه الأموال ، فمنهم من هم لهم كل المال ، ومنهم دون ذلك ، ولا يصلح ـ إذا ـ جمعا
بينهما إلا (ارْزُقُوهُمْ فِيها) ثم ومن رزقهم فيها الاستثمار في أموالهم حتى لا تفنى ،
ففيما هم معذورون للسفه عن استثمار أموالهم فلا بد لسائر العقلاء أن يرزقوهم فيها
، لا ـ فقط ـ منها خوفة نفادها فيصبحون كلّا عليكم.
ثم (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) سواء أكانوا سفهاء خلقيا ام تخلفا عن شرعة الله ، فالقول
المعروف بالنسبة للأولين هو لين القول دون هيّنه ، فلا يخاطبوا بلغة السفيه فانها
سفاهة في الخطاب.
ثم هو بالنسبة
للآخرين نهي عن المنكر بلغة مؤدبة مصلحة ، دون المزرية المخجلة المفسدة ، ومهما
عمت السفهاء سائر السفهاء إلى اليتامى غير الراشدين ، فقضية الأهمية البالغة في يتاماهم
أن يختصوا بالذكر إصلاحا خاصا لحالهم ، ثم الآخرون هم أمثالهم في حكمهم.
وحصيلة البحث عن
حجر السفهاء أنهم ـ أيا كانوا ـ هم محجور عليهم في أموالهم فضلا عن أموالكم ، يحجر
عليهم في مثلث الأموال ، لكم ولهم والأموال العامة.
__________________
فالمورث محجور
عليه إذا سفه في تصرفاته المالية صرفا أو هبه أو وصية فيها جنف أو إثم.
والوارث السفيه
محجور عليه في حاضر الأموال طول حياة المورث.
وكل من الزوجين
محجور عليه في سفاهة التصرفات المالية.
وبصيغة عامة كل
السفهاء محجور عليهم في أموالهم قدر سفههم ، والولاية هي بطبيعة الحال للأقرب
إليهم والأعقل الأعدل.
وإذا كانت مصلحة
القيام في الأموال تقتضي أن تكون بأيدي العقلاء الصالحين ، فبأحرى المصلحة في سائر
النواميس الخمس.
ف «لا يجوز
الابتداء بالنكرة» بل المبتدء على أية حال هو المعرفة المعروفة بالعقل والإيمان.
فالزعامات
الإسلامية تختص بالأعقل الأعلم الأورع دون الأقوى والأشجع ، حيث السياسة الإسلامية
تحور على محاور العدالة العاقلة والعقلية العادلة ، مهما كانت الشجاعة والقوة من
متممات القيادة الإسلامية ، ولكنها على هامش العقل والورع والعلم.
(وَابْتَلُوا الْيَتامى
حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) ٦.
بعد ما بدت لنا
إجراءات مشددة بحق اليتامى في أموالهم ما دامت هي بأيدينا ولاية عليهم حفاظا عليها
، هنا يبدو لمرة يتيمة إجراءات أخرى يتسلم بها اليتامى أموالهم ، فيها حفاظات أخرى
على أموالهم وأحوالهم ، فأموالهم ـ إذا ـ
مشدودة ببالغ
الحفاظ عليها في كلتا المرحلتين دونما أي إهمال وإمهال.
فهنا ابتلاء لهم
لرشدهم اقتصاديا وشرعيا في أموالهم لحد بلوغ النكاح ، ثم استيناس رشد منهم ،
فتسليم أموالهم إياهم كاملة ، وحرمة المسامحة في أموالهم قبل رشدهم ، وحرمة التصرف
فيها إسرافا وبدارا أن يكبروا ، ووجوب الاستعفاف عن أكل شيء منها أجرة القيام
بشأنها إذا كان الولي غنيا لا يفتقر بذلك القيام ، وسماح أكل منها في أضيق الحدود
إذا كان محتاجا او احتاج بقيامه ، ومن ثم واجب الإشهاد عند التسليم كسحا لكل احتمالة
في تقصيرهم بحقهم في أموالهم ثم الله شهيد وحسيب أولا وأخيرا (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).
وفي هذه المقاطع
إيحاءات بكل التخلفات التي كانت تعيشها البيئة الجاهلية بحق اليتامى ، فاحتاجت
إسلاميا إلى اجتياحها عن بكرتها ، وقد أثرت في المسلمين لحد صمموا على الانفصال
كليا عن اليتامى كيلا يتورطوا في محاظير متقصّدة (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً).
ليس فحسب في
ولايتك على اليتامى إصلاح أموالهم ، بل وإصلاح أحوالهم ومنها الرشد لتسلّم أموالهم
حتى يصلحوا فيها كما أنتم تصلحون اقتصاديا وشرعيا :
(وَابْتَلُوا
الْيَتامى)
ذكرانا وإناثا ،
يتيمات صغيرات ، او كبيرات كاللاتي مات عنهن آباءهن ولمّا يتزوجن ، فإنهن داخلات
في «اليتامى» من يخصكم نسبا او سببا ام لا يخصكم ، فإنما الموضوع في واجب الابتلاء
وسائر الإجراءات هو «اليتامى» دونما أي قيد أو شرط آخر ، ودون غير اليتامى إذ لم
يفرض على الأولياء ذلك بحق السفهاء ، فإنما (لا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ) وأما اليتامى منهم فهم مخصوصون بكرامة الابتلاء.
ولزام الابتلاء
تجويز المعاملات الجزئية للصغار على رقابة الأولياء ، تعريفا منهم لهم كيفية
المعاملة ، ابتداء بكونهم كوسائط في هذه المعاملات ، ومن ثم استقلال على نفس
الرقابة حتى يؤنس منهم ـ على ضوء التداوم في ابتلاءهم ـ رشد ، فقد تجوز معاملة
الصبيان ضمن الابتلاء حيث يؤمرون به ، ولولاه لما جاز الابتلاء فضلا عن وجوبه!
وهذا لا يقتضي تجويز معاملاته المستقلة خارج الابتلاء ، ولكن يجوز ـ معذلك ـ دفع
مال له إليه فإنه مشروط بإيناس الرشد حسب النص (فَإِنْ آنَسْتُمْ) إذا فجواز معاملاته مشروط بشرطي عدم دفع ماله إليه
وبالرقابة عليه في معاملاته الابتلائية.
ولأن الضرورات
تقدر بقدرها فجواز تصرفات الصبي مقدر بقدر واجب الابتلاء ، فإن اقتضى دفع مال له
إليه لمعاملة على رقابته دفعه إليه ، وليس هذا داخلا في النهي المستفاد من الأمر
في «فادفعوا» حيث يعني الدفع طليقة دون مقيده بالرقابة الابتلائية ، كما وقد لا
يشمله منهي الدفع لأنه ليس دفعا وإنما هو لزام الابتلاء ، أم إذا كان دفعا يخصص
بالدفع الذي هو لزام الابتلاء.
وواجب الابتلاء هو
منذ التمييز إذ ليس أمرا دفعيا يحصل قفزة دون مراس ، بل هو تدريجي ابتداء من بداية
التمييز (حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ) ، ثم وليس بلوغ النكاح آخر المطاف في واجب ابتلاءهم وسماح
دفع أموالهم إليهم ، بل (فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) لا قبل إيناس الرشد ، إذا فمدرسة الابتلاء بادءة من
التمييز ومنتهية عند إيناس الرشد.
ولأن الرشد
اقتصاديا وشرعيا درجات ، فقد يكون اليتيم رشيدا في معاملات جزئية ، غير رشيد فيما
فوقها ، فدفع أمواله إليه يتبع ـ كما وكيفا ـ قدر رشده ، لا أن يكون رشد مّا كافيا
لدفع كل أمواله إليه.
ومن الرشد المشروط
في دفع المال هنا الرشد الشرعي علميا وعمليا ، فإن
بلغ النكاح ورشد
اقتصاديا وهو بعد غير رشيد دينيا ـ حيث يسرف أو يبذر أو يصرف ماله في غير حله ـ فهو
غير رشيد ، حيث العاصي غوي غير رشيد : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى) ثم (وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) رغم رشده البالغ ماديا واقتصاديا.
إذا فواجب ابتلاء
اليتامى يحلّق على بعدي الرشد والثاني أرشد ، فعلى الأولياء أن يبلوهم فيهما مع
بعض ولا سيما أهمهما وهو الناحية الشرعية.
ذلك وبأحرى
الولاية على اليتامى مشروطة بالرشد الشرعي بعد الاقتصادي.
(حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ)
وماذا يعني بلوغ
النكاح؟ هل أنه بلوغ اليتيم أو اليتيمة لحد صلاحية عقد النكاح كمجرد عقد؟ وهو حاصل
منذ الولادة! حال أن مسرح الابتلاء ليس إلا منذ التمييز وقابلية الابتلاء علما
وعملا!.
أم هو واقع النكاح
مباضعة؟ وصيغته الصالحة : حتى إذا نكحوا! وقد لا ينكح اليتيم حتى آخر عمره فهلا
يدفع ـ إذا ـ إليه أمواله!.
إنه زمن صلاحية
اليتيم للنكاح لولا الموانع الصحية والاقتصادية أماهيه ، فقد يصلح للنكاح حيث بلغ
سنيّ النكاح ولكنه تمنعه موانع داخلية أو خارجية ، فهو بالغ النكاح.
وقد لا يصلح
للنكاح وهو صحيح المزاج وله المعدات الاقتصادية فليس هو بالغ النكاح ، وبصيغة
مختصرة شاملة أنه بلغ مرحلة من رشد الجسم ومعداته ، ومن العقلية الكافية لإدارة
شؤون بيت الزوجية ، والقدر المتيقن هنا أصل النكاح المباضعة ، مهما منعه عنها
انحرافات صحية أمّاهيه ، ولكنه بلغ
مبلغا من العمر
والرشد في جسمه هو فيه بالغ النكاح لولا الموانع العارضة.
ثم إدارة شؤون بيت
الزوجية بالعقلية الإنسانية والإيمانية وهي أقل تقدير للرشد الذي يتطلبه حقل
الزواج ، ولا يكتفى به في دفع أمواله إليه للحقل الجماعي العام.
وبلوغ النكاح ـ هذا
ـ يصاحبه في الأغلب الرشد العقلي الإيماني ، حيث العقلية الإنسانية تصاحب في رشدها
رشد الجسد ، كما العقلية الإيمانية تصاحبهما في جو الإيمان وحضنه.
ولأن الرشد في
العقلية الإنسانية والإيمانية قد يتفلت عن بلوغ النكاح لذلك ثني بلوغ النكاح ب (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) حتى تكمل الشدّات الثلاث التي هي رشد اليتيم ، الصالح دفع
أمواله إليه عنده.
ولأن القصد من
ابتلاء اليتامى هو حصول الرشد وأهمه رشدهم الروحي في العقلية الإسلامية ، فقد
يستمر واجب الابتلاء الى حد إيناس رشد منهم مهما كان بعد بلوغ النكاح ، وتحديد
واجب الابتلاء ببلوغ النكاح ليس إلّا تحديدا أكثريا لحصول الرشد عنده ، ولذلك
استدرك موارد الانفلات ب (فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً).
وإذا أونس منهم
الرشد المطلوب قبل بلوغ النكاح وقف واجب الابتلاء عند حده ، اللهم إلا ازديادا
لرشده فمحبور مشكور وليس من واجبه.
(فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)
فالإيناس هو
المعرفة على أنس ، دون المعرفة الساذجة غير المعمقة تخمينا ظنيا ، وإنما هي على
ضوء الأنس الحاصل بابتلاءهم.
وأصل الإيناس هو
الإبصار كما (آنَسَ مِنْ جانِبِ
الطُّورِ ناراً) مهما أخطأ
النور الى النار ،
ولكنه وجده بإبصاره نارا ، ولأن هذا الإيناس مربوط بالابتلاء فلا يكتفى هنا
بالإيناس معرفيا دونما ابتلاء عملي بل هو معرفة عملية على ضوء الابتلاء علميّا ،
فلا يعني ـ إذا ـ إبصار رشد معاملي علميا ، ولا إبصاره عمليا لمرة أو مرات ما لم
يصدق الابتلاء ـ الذي هو أيضا بدوره عمل تربوي ـ فإنما هو إبصار رشد على ضوء
الابتلاء المتداوم بين فترة التمييز وبلوغ النكاح.
فنص الإيناس قاصد
إلى خصوص معناه بالابتلاء ، دون علم ومعرفة فقط ، ودون ابتلاء بلا معرفة فقط ،
فإنما إيناس متعدّد بمدائبة الابتلاء وخلاله حتى يطمئن إليه عمليا وتجربيا.
فلا يكفي تعليمه
كيف يتعامل في أمواله ، ولا استعلامه بعد تعليمه ، ولا ابتلاءه فقط وإن كان بعد
التعليم والاستعلام ، بل هو إيناس رشد منه على ضوء هذه الثلاث التي يجمعها
الابتلاء.
فالابتلاء وإيناس
الرشد هما متجاوبان في حقل التعليم والتربية دون أن يكتفى في أي منهما بواحد منهما
، ولا يجب من الابتلاء وإيناس الرشد إلّا ما دون العسر والحرج للمبتلي والمبتلى ،
ومسرح الابتلاء هو الاستعداد له دون عسر ولا حرج ، وذلك يختلف حسب الفاعليات
والقابليات ، فليس لبدايته حد خاص لعمر اليتيم ، مهما كانت الغاية الأكثرية هي
بلوغ النكاح ، ثم الغاية الأصيلة هي إيناس الرشد.
و «رشدا» هنا
منكرا لا يعني رشدا مّا بالنسبة لإصلاح المال ، بل ورشدا في العقلية الإسلامية ،
فرشد مّا بالنسبة لليتيم هو مجموع الرشدين لأنه يقابل السفه وهو ذو بعدين ، بعدان
أمام بعدين سفها ورشدا ، وقد أتى منكّرا دون تعريف حيث الرشد يحلق على كل درجاته ،
وذلك مما يحجز الأكثرية الساحقة من اليتامى ـ بل وأوليائهم ـ عن التصرفات المالية
، فلذلك اكتفى ب «رشدا»
وهو أولى درجات
التقوى الاقتصادية والشرعية كما يناسب حقل التصرفات المالية لكل من اليتيم
واليتيمة في خضم المجتمع العام ، فلا يكفي رشد يخص جزئيات التصرفات المالية ، لدفع
كل أمواله إليه ، وإنما يقدر الدفع بقدر الرشد.
ولأن المسرف
والمبذر والذي يصرف ماله في حرام هو سفيه غوي ـ فلا يصدق عليه أنه رشيد ـ لم يجز
دفع ماله إليه ، اللهم إلّا قدر رشده كيلا يضيع ماله وتضيع حاله.
فهنا شدّات ثلاث
لجواز دفع مال اليتيم إليه ، شد النكاح لمكان (حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ) وشد الرشدين ماليا وحاليا حسب الشرع كما يعنيه «رشدا» و (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (١٧
: ٣٤)
(فَأَرادَ رَبُّكَ
أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) (١٨
: ٨٢)
والأشدّ جمع
الشّدّ وأقله ثلاث شدات هي بلوغ النكاح والرشدين عقليا وشرعيا ويجمعهما الإستواء :
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (٢٨ : ١٤) وقد
يتقاضى بلوغ الأشد حد الأربعين : (حَتَّى إِذا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) (٤٦ : ١٥).
فالمستوى في حياته
في شد الجسم والعقلية الإسلامية هو الذي بلغ رشدا ، والمحور الأصيل هنا شد الرشدين
فإن رشد دون بلوغ النكاح فقد يقال بجواز دفع ماله إليه ، وأما إن بلغ النكاح دون
رشد فلا وإن بلغ أربعين فإنه ـ إذا ـ سفيه محجور عليه ، ذلك! وقد يأتي اشتراط بلوغ
النكاح مع الرشد لآيات الأشد وغيرها.
ف «إذا» هنا ظرفية
شرطية جزائها الجملة (فَإِنْ آنَسْتُمْ ..) فليس بلوغ النكاح إلا ظرفا متعودا لإيناس الرشد ، وليس
شرطا مستقلا قبله بحياله ، ولكن الأقوى اشتراطه كما يأتي ، وهنا فروع عدة :
١ واجب الابتلاء
يختص باليتامى حيث هم الموضوع ـ فقط ـ في آية الابتلاء ، فلا يجب الابتلاء بالنسبة
لسائر الصغار والسفهاء مهما كان راجحا تربويا ، اللهم إلّا بالنسبة للتكاليف الشرعية
بالنسبة للأموال وغيرها ، فإن الدعوة إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة طليقة
، وكذلك الأمر في حقل النهي والأمر المفروضين على الأولياء حيث (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٩ : ٧١) وقد
يختلف واجب الابتلاء عدة وعدة بين الذكور والأناث باختلاف واجبات الحياة الجماعية
ومسارحها سعة وضيقا ، فلا تحتاج الأنثى إلى ما يحتاجه الذكر من الابتلاء لاختلاف
المسؤولية الاقتصادية وسواها بينهما.
٢ كلما يتطلّبه
واجب الابتلاء اقتصاديا على ضوء شرعة الله فهو واجب أو مسموح كما يقتضيه العرف
والعادة السليمة الجارية في ابتلاء اليتامى ، إذا فيجوز معاملات اليتيم صغيرا
وكبيرا قبل إيناس رشد منه ، ولكنه على رقابة الأولياء وإن استلزم دفع مال له إليه
، فإنه ليس إتلافا لماله حتى ينافي آية القيام (الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِياماً) بل هو من ضمن قيام اليتيم وقوامه بابتلاءه ، ولا دليل
شرعيا يمنع اليتيم عن تصرفه هكذا ، ولا سيما أنه ضمن ابتلاءه المفروض على وليه ،
وعدم الدفع المستفاد من «فادفعوا» يختص بغير حقل الابتلاء ، والقول انه ليس تصرف
اليتيم في مال له من لزامات ابتلاءه ، حيث يبدل عنه مال الولي او من الأموال
العامة التي يصرف في صالح المسكين ، إنه مردود بان غير الرشيد وهو السفيه لا يجوز
دفع مال اليه يتيما وسواه كما دلت عليه آية السفهاء ، واقرب الأموال لصالح ابتلاءه
هو ماله.
٣ بلوغ النكاح ليس
إلا ظرفا أكثريا لإيناس الرشد ، فالرشد علّه هو الأساس وإن حصل قبل بلوغ النكاح ،
فلا يجب جمع الأمرين ، ولم تنه آيه السفهاء إلا عن دفع المال إليهم ، والرشيد
الصغير ليس سفيها والكبير السفيه غير رشيد.
فإقراراته المالية
وعطياته وأشباه ذلك من تصرفاته المالية لا تمضى قبل بلوغ رشده ، فإن أقر بدين فليس
على الولي تصديقه إلّا إذا أثبت بحجة شرعية.
ذلك! ولكن اليتيم
لا يقاس بغيره من القصّر ، فلا مساوات بينهما في شروطات الحجر.
ثم وذكر بلوغ
النكاح قبل إيناس الرشد مما يدل على اشتراطه معه ، وإن كان أيضا من ظروف الرشد في
الأغلب ، ومن ثم (أَنْ يَكْبَرُوا) حيث لا يصدق الكبير على الصغير الرشيد مهما صدق على بالغ
النكاح دون رشد ، كما وأن «يكبروا» لغويا يخص الكبر في العمر.
وأخيرا ، آيات
بلوغ الأشد ، والشدّ الأول هو البلوغ ثم شدّ العقل ومن ثم شد الرشد اقتصاديا
إسلاميا ، هذه عساكر البراهين على شرطية بلوغ النكاح إضافة إلى إيناس رشد.
إذا فدفع أموال
اليتامى إليهم مشروط بإيناس رشد منهم مع بلوغ النكاح وهو الرشد الذي يصلح لكافة
التصرفات ـ صغيرة وكبيرة ـ في أموالهم ، وأما إذا اختص الرشد بطرف من التصرفات
فليس هنا مجال لدفع كل أموالهم ، وإنما البعض الذي يناسب ذلك البعض حفاظا على
أموالهم عن الضياع فالمال المدفوع إلى اليتيم يقدر بقدر رشده حيث يؤنس منه
تمامه وكماله نوعيا.
٤ إيناس الرشد هو
ـ فقط ـ شرط لتصرفاته المالية دون سائر التكاليف الشرعية التي لزامها حدّ بلوغ
التكليف وإن لم يبلغ النكاح فضلا عن ذلك الرشد ، حيث البلوغ درجات لمختلف الأحكام
، كلّ يتبع درجته الخاصة حسب أدلتها الخاصة.
فإقراراته المالية
وعطياته وأشباه ذلك من تصرفاته المالية لا تمضى قبل بلوغ رشده ، فإن أقر بدين فليس
على الولي تصديقه إلّا إذا اثبت بحجة شرعية.
ومن الحكمة
الحكيمة في شرطية بلوغ النكاح مع إيناس الرشد ، أن للشدّ البدني دخلا في الحفاظ
على أمواله من أيدي المتطاولين ، فغير بالغ النكاح قد
__________________
يتطاول عليه لصغره
في جسمه استهانة بطاقته الضئيلة في مظهره ، فكل واحد من هذه الأدلة كافية لاشتراط
البلوغ مع الرشد فضلا عن كلها والله أعلم.
(وَلا تَأْكُلُوها
إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا)
صحيح أن أصل الأكل
من أموال اليتامى محظور ، ولكن الأكل منها إسرافا وبدارا ان يكبروا أشد محظورا ،
واتجاه النهي اليه بعد طليق النهي دليل أن البعض كانوا يستغلون أيام يتمهم إسرافا
في أكل أموالهم وبدارا وتسرّعا مخافة عن أن يكبروا فلا يستطيعوا أكلا لكبرهم ، فما
النهي هنا إلّا كما (لا تَأْكُلُوا
الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً).
ثم «يكبروا» هنا
فتحا دليل صارم على اشتراط كبر السن إضافة إلى الرشد كما تقدم ، ف «كبر يكبر» يخص
كبر العمر ، خلاف سائر صيغها التي تعم العمر الى سائر الرشد أم تخص الرشد مثل يكبر
بالضم ، فهو نص في اشتراط بلوغ النكاح ، و «رشدا» نص في ثاني الشرطين الشامل
للشدين الآخرين ، ولكن «يكبروا» بعد (إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) يعم الشرطين ، مهما كان الأصل اللغوي يؤصّل الأول ، فهما
شرطان مهما اختلفا مكانة.
وهنا مناهي ثلاثة
تلو بعض تصاعديا في الحظر عن أموال اليتامى ، أولاها :
«إسرافا» زيادة عن
الحق المقرر ، وقد كانوا يسرفون في أكل أموالهم حتى نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) ثم (وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا) تنهى عن مبادرة الأكل إسرافا في مادته أم إسرافا في مدته
أن يؤجل ابتلاءهم ليأكل في زمن أكثر مما يحتاجه عادل الابتلاء ومعدّ له ، كما
ويأكل أكثر من الحق مهما قل الزمان أو أكثر.
فقد يأكل إسرافا
في مادته دون بدار ، وأخرى يأكل بدارا دون إسراف في
مادته ، إسرافا في
مدته ، أو يأكل إسرافا فيهما وهو أنحسه.
ذلك ، وكما من
الإسراف أن يصرف وقتا أكثر من اللازم لإصلاح شؤون اليتيم فيأخذ أجرة أكثر ، أم
يأكل فوق ما يتحمل مال اليتيم ، أو يطعم معه عياله ، أماذا من أكل هو إسراف بحق
اليتيم وبامكانه ألّا يأكل أو يقلل منه.
ومرحلة ثالثة هي
حظر الغني عن أكل مال اليتيم على أية حال إسرافا وغير إسراف ، بدارا وغير بدار ،
والسماح للفقير أن يأكل بالمعروف الذي يعرف من أمثال (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فكما الأحسن الواجب للغني ألّا يأكل من مال اليتيم شيئا ،
كذلك الفقير ألّا يأكل إلّا قدر الضرورة كما يتحمل مال اليتيم ، ومن الأحسن أن
ينوى رد ما يأكله قدر الضرورة.
(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)
من كان غنيا عن
أكل مال اليتيم سعيا مهما كان بتكسّب وسواه من طرق الحلال قدر الضرورة ، فليس يعني
الغنى المعروفة ، فإنما هو الذي يملك قدر قوته الضروري بسعى غير محرج أم دون سعي.
وهنا نعرف طرفا
طريفا من الرعاية فوق الأبوية بالنسبة لأموال اليتامى وأنفسهم فطالما الأب له أن
يأخذ أجرة فيما يسعى لأموال ولده الصغار ، ولكن ليس لولي اليتيم أية أجرة في
أمواله وإن كان فقيرا ، اللهم إلّا اكلا قدر الضرورة ، إذا تحملها مال اليتيم ،
وإلّا فضرورته أقدم من ضرورة الولي.
والاستعفاف ـ من
العفّ : الامتناع ـ هو تطلّب الامتناع ، أن يتكلف الغني ـ رغم سعيه في مال اليتيم
حيث يتطلب أجرا حسب المتعود من الأشغال ـ أن يتكلف التمنّع عن مال اليتيم أجرة كما
تمنّع عن أصل أكله ، أو إسرافا وبدارا أن يكبروا.
ومن الغريب تأويل
مادة العفّ هنا بالعفو ثم القيل إن هناك تعارضا بين المادة اللامحة إلى الرجحان
وهيئة الأمر الظاهرة في وجوب العفو فيتساقطان والرجوع الى أصل الجوار فان عمل
المؤمن محترم فله أجرة! .
وذلك خلاف الأدب
لفظيا ومعنويا ، حيث المادة في الاستعفاف هو العفّ وليست العفو ، ثم لو كانت هي
العفو فلا تعارض بين المادة التي لا تدل على أمر أو نهي والهيئة الظاهرة كالصريحة
في الأمر حتى يتساقطا ، أتساقطا في دلالة قرآنية رعاية لفتوى المشهور في هذا
المسرح الصراح حسب القرآن والسنة؟!!.
كما القيل إن
المحظور هو أكل أموال اليتامى ظلما والأجرة عدل : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ..) فإنه عليل حيث الأكل المحظور مهما كان أجرة أم سواها محظور
لمكان «فليستعفف» ثم و «ظلما» هنا لا ينافي الحظر عن سائر الأكل بنص آخر كما هنا.
والضابطة الملتقطة
من النصوص القائلة أن عمل المسلم محترم فله أجرة ، مختصة بمواردها ، مخصصة في
موارد ، منها أولياء اليتامى ، كما ومنها واجب التجهيز للميت حيث الأجرة فيه محرمة
، وكذلك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واضرابهما مما لم يسمح بأخذ الاجرة
فيها في عمل المسلم.
وقيل ثالث إن
الاستعفاف يعنى الأكل دون مقابل ظلما ، إسرافا وبدارا ان يكبروا أم دون ذلك ، وأما
الأكل أجرة عن سعي له أجرة فهو أكل لماله دون مال اليتيم.
__________________
ولكن (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ) تحليلا لما حرم على الغني يعارضه فإن محور الحل والحرمة
فيهما واحد ، فهل يحل ـ إذا ـ للفقير أكل مال اليتيم إسرافا أم دونه؟.
وليس هو أكلا
بالمعروف! فليكن المحور هنا لهما أجرة السعي ، محرمة على من لم يكن فقيرا ، وحلّ
قدر المعروف لمن كان فقيرا.
ثم (مَنْ كانَ غَنِيًّا) تعني ـ ككل ـ من لا يحتاج إلى أجرة سعيا في أموال اليتيم ،
مهما أضر بنفعه الزائد ، أو ضيق عليه معيشته ما بقيت له بلغة العيشة.
(وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أمر عقيب حظر لا يدل إلّا على الإباحة ، ثم «فليأكل» بدل «فليأخذ
أجرة» دليل سماح الأكل قدر الضرورة ومن ثم «بالمعروف» يحدد موقف ضروري الأكل بما عرف من
__________________
رعاية أموال
اليتامى حسب نص القرآن : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فحين يأكل الولي الفقير من مال اليتيم حيث يسعى لأجله ،
عليه أن ينوى قرضا ثم يوفيه بعد عند المكنة ، وهذا أحسن من أكله مجانا فمفروض
فليكن القرض ـ إذا ـ هو المسموح لا سواه قدر القوت اللهم إلّا لمن لا يجد الوفاء بعد ، أو يعلم أنه لا يجده
ولكنه مضطر الى أكلة القوت لمصلحة اليتيم ، فالأكل المسموح إنّما هو الضروري الذي
لولاه لما استطاع على إصلاح مال اليتيم وحاله.
ثم (مَنْ كانَ فَقِيراً) هو ـ فقط ـ الولي الفقير ، دون أهله ايضا ، فلا
__________________
يجوز أن يأكل إلّا
هو ، اللهم إلّا عند ضرورة مدقعة ألا يكون هناك من يلي أمر هذا اليتيم إلّا هذا
الفقير وأضرابه ، ثم وهذا الفقير لا يستطيع أن يعمل لليتيم ويبقى أهله جياعا ، فله
ـ على هامش أكله منه ـ أن يدفع منه أكلة ضرورية لأهله.
ثم الفقير المسموح
له أن يأكل من مال اليتيم هو الذي «حبس نفسه من أموالهم فلا يحترث لنفسه فليأكل
بالمعروف من مالهم»
وأما الذي لم
يحبسه السعي في مال اليتيم عن سعيه لنفسه ، فلا يفرق له سعيه وعدم سعيه لليتيم فلا
يدخل في نطاق السماح لأكله ، اللهم إلا اقتراضا يوفيه لوقته ، أن يعرف من حاله الوفاء
، دون الفقير الأول الذي له الاقتراض سواء استطاع الوفاء أم لم يستطع.
فالضابطة الثابتة
في أموال اليتامى عدم الأكل منها حتى بأجرة مشروعة في سواها ، اللهم إلّا للفقير
الذي يفتقر حيث يصرف أوقات له في إصلاح أموال اليتيم ، فله أن يأكل قرضا قدر القوت
ثم يوفيه إن استطاع.
والقدر المعلوم من
حرمة مال اليتيم على وليّه الغني ، هو في المساعي التي تقتضيها الولاية مباشرة ،
وأما التي لا تقتضي المباشرة كالزراعة والبناية وأضرابهما فله الأجرة العادلة
فيهما ، سواء باشرها بنفسه أم استأجر غيره لها ، كما إن استأجر غيره فيما هو قضية
الولاية لا يحق له دفع الأجرة من مال اليتيم.
إذا فالأجرة على
نفس الولاية محرمة على الغني والفقير ، وهي على ما تقتضيه الولاية من المساعي ،
محرمة على الغني ، وحل للفقير قدر قوته ، وأما
__________________
الأجرة على ما هو
خارج عن قضية الولاية مباشرة ، فحل للغني عدلا فضلا عن الفقير ، ولكنها يجب أن
تكون بالتي هي أحسن ، فليسع الولي سعيه أن يستأجر له الأقل أجرا والأتقن عملا قدر
المستطاع من سعيه ما لم يكن حرجا ومشقة زائدة على العادلة الجارية.
وليس ابتلاء
اليتيم لرشده مما يجوز فيه الاستيجار ، وفيما يشك في عمل أنه قضية الولاية
المباشرة أم سواها لا يجوز أخذ الأجرة اعتبارا بإطلاق واجب الاستعفاف ، خرج ما
نعلم أنه خارج عن قضية الولاية وبقي الباقي ، أم لتساقط إطلاقي التحريم والجواز
فالأصل عدم الجواز.
وقد يقال إن محظور
الأكل من مال اليتيم أجرة يعم الأجراء غير الأولياء مهما كان واجب الابتلاء خاصا
بالأولياء ، ولكنه غريب في موارد لزوم الأجرة في الأعمال التي تستلزمها الولاية ،
اللهم إلا أن تعمم الولاية على كل هؤلاء الذين بإمكانهم تدبير أموال اليتامى ،
وليّا أصيلا أم سواه ، وهو خلاف السيرة المستمرة وكما تقوله الصحيحة وقضية الاحتياط الاستعفاف للكل بالنسبة لأموال اليتامى
كأجرة عمل ، وأما أثمان السلع فلا ريب في جواز أخذها من ماله للبايعين ، مهما فرض
عليهم معاملتهم بالأحسن ، فأقل ثمنا وأجود سلعة ، وقدره المعروف ألا يربح ولا
ينضرّ حيث الآية «ولا تقربوا» تعم كل من يأخذ من مال اليتيم سواء في حقل الولاية
أو أية معاملة.
وحصيلة البحث حول
الولي الغني والفقير أنهما يفترقان ـ فقط ـ في الأعمال التي هي قضية الولاية ولها
أجرة حسب العادة ، فليستعفف الغني وليأكل الفقير بالمعروف.
__________________
وأما صرف الولاية
على الفقير فلا يقتضي أجرا ولا أكلا من مال اليتيم وسواه ، بل ولا تقتضي أجرا على
أية حال ، كمن يلي امرا من أمور المسلمين ولا يصرف فيه عملا ولا أمرا له أجر فإن
الأجرة عليها سحت وأكل بالباطل ، فضلا عن هكذا ولاية على اليتيم.
فالولاية المفروضة
على اليتيم مفروض فيها ابتلاءه لإيناس رشده قدر الإمكان ، ولا أجر على المفروض
إطلاقا فضلا عن المفروض بحق اليتيم ، ولا سيما بنص النهي «فليستعفف» وليس للفقير
إلا سماح لأكل بالمعروف ، معروف في العرف الإسلامي ، ومعروف بنصوص القرآن ك (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والأحسن للفقير ألّا يأكل إلّا قدر الضرورة الراجحة بحق
اليتيم ، وهو الأكل بنية الرد إذا أمكن.
ثم الأعمال التي
ليست هي لزام الولاية فليست هي مورد السلب والإيجاب ، فإنما هي ـ بمناسبة الحكم
والموضوع ـ الأعمال في حقل ابتلاء اليتيم والحفاظ على أمواله ، وأما التجارة
والزراعة والبناية وأشباهها فلأنها ليست قضية الولاية فهي خارجة عن مسرح السلب
والإيجاب ، مهما فرض على أطراف المعاملة في أموال اليتامى التي هي أحسن بحق اليتيم
، وإذا عملها الولي بنفسه ففرض الأحسن أقوى أو أحسن.
٦ (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)
ومن حكم ذلك
الإشهاد الابتعاد عن التهم الموجهة إلى الأولياء تضيعا لمال له ، أو عدم بلوغ
اليتيم نكاحه أو رشده ، أو عدم الابتلاء الصالح لرشده ، أم ودعوى اليتيم بعد رشده
عدم دفع ماله إليه.
ذلك وإن كان (كَفى بِاللهِ حَسِيباً) ولكن رعاية المجموعة المسلمة التي تعيشها ، حائطة على
كيانك ، وتثبيتا لأمانك ، تقتضي الإشهاد على اليتامى كما
تقتضي سائر
الإشهاد في سائر المجالات.
كما وأن صرف
الإشهاد الذي لا يحق الحق لا يكفي حيث الله لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ، فعلى
الولي رقابة الواقع لصالح اليتيم ثم الدفع السليم والإشهاد السليم.
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)
(١٠)
ان الجاهلية
الجهلاء كانت تمنع النساء والبنات والصغار والضعاف بوجه عام حقوقهم مما ترك
الوالدان والأقربون ، اللهم إلّا التافه القليل ، ففرض الله
الميراث في كل
قليل وجليل مما ترك الوالدان والأقربون للرجال والنساء على سواء مهما اختلفت
الأقدار حسب مختلف الأقدار والقرابات في ميزان الله .
فشرعة القرآن تقرر
أصل الميراث حقا ثابتا وفرضا صامدا للأقربين نسبا وسببا ، حسب مراتبهم وأنصبتهم ،
المسرودة في التالية من آي الميراث ، تطبيقا للنظرية الإسلامية السامية في عامة
التكافل بين أفراد الأسرة ، المحلّقة على الأحياء والأموات ، في الحياة وفي الممات
، فكما على الوالدين والأقربين كفالة الأسرة المحتاجة قدر الحاجة في حياتهم ، كذلك
الله قرر في أموالهم فروضا لهم حسب مراتبهم ، إضافة إلى تبصرات لموارد الحاجات
كالثلث الموصى به للأكثر حاجة أو غير الوارث لبعد القرابة أو فقدها ، وكحضور
القسمة لأولى القربى المحرومين وكذا اليتامى والمساكين : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً).
في ذلك التنظيم
الاقتصادي العادل الحافل يجد كل ذي حاجة من الأقارب
__________________
وسواهم حاجته مما
تركه الميت في مثلث : الفرض والثلث والتبرع ، لمثلث الحاضرين عند حضور القسمة.
ذلك! رغم الكثير
من اللغطات والغلطات الدعائية الزور والغرور ضد مبدء الإرث ، المستطيرة من
المتطاولين على شرعة الله ، الجاهلين بطبيعة الإنسان وحاجيته الفطرية والواقعية.
فقاعدة النظام
الإسلامي هي التكافل في كافة حلقات الحياة ، ابتداء من الأسرة ، قريبة وبعيدة ،
وإلى الجيران ، وإلى الفقراء والمساكين ، والى المجموعة المسلمة ككل.
وإنها روابط فطرية
ذاتية المصدر ، غير مصطنعة في جيل دون جيل حتى تفترى على شرعة دون شرعة ، أم على
شرعة الله ككل بأنها رأسمالية أماهيه؟.
وليس الجدال في
جديدة هذه الروابط الفطرية إلا مراء ، وقد جعلها القرآن ـ كأصل ـ حجر الأساس في
بناء الهيكل الإسلامي ، والإرث مظهر من مظاهرها الباهرة ، تأشيرا إلى مدى العمق
العريق لذلك التكافل الذي يتخطى الحياة الى الممات.
ومن قضايا التكافل
الجماعي أنه لم يلق العب كله على عاتق الأجهزة الحكومية ، وإنما تبنيّ الأسرة
أساسا أوليا لذلك التكافل ، ثم سائر الجماعة المسلمة ومن ثم الدولة تتكفلان كل
قصور او تقصير في الزاوية الأولى وهي الأسرة ، تخطيا من قضية الفطرة في تكافل
الأسرة إلى قضية القانون فيما بعد العسرة ، حتى تصبح التكافلات بعد الأسرة يسرة
غير عسرة حيث تبدأ من قضية الفطرة ، المتكاملة فيها وفيما بعدها بقوانين الشرعة
التي تعمم ذلك التكافل.
فشعور الفرد بأن
جهده سيعود بأثره على المختصين به نسبا أو سببا ، إنه يحفره إلى مضاعفة جهده
ليحفظه في استمرارية كيانه وهي الأقربون.
وفي ذلك نتاج
مباشر للأقربين ، وآخر غير مباشر للجماعة المسلمة حيث الإسلام ليس ليقيم الفواصل
بين الأفراد والجماعات ، فكل ما يملكه الأفراد هو بالنتيجة للجماعة وكل ما تملكه
الجماعة هو للأفراد ، فهو ـ إذا ـ يبتنى الأصلين : أصالة الفرد والجماعة ، الفرد
في الجماعة والجماعة لصالح الأفراد!.
إن الوارث ـ أيا
كان ـ هو امتداد للمورث في الكيان قضية الفطرة المحبّة للبقاء ، فالذي يعترض على
الإرث أنه أكل دون مقابل ، هو معترض على امتداد كيان المورث ، فلا أقل أنه هبة من
المورّث للذي يراه امتدادا له بعد موته.
فهؤلاء الحماقى
الذين يسمحون لأنفسهم أخذ المال وصرفه بغير الحلال ، هنا لا يسمحون بما يوافق فطرة
الله وشرعة الله!.
ولقد كان الميراث
قبل نزول آياته هذه مقررا بين المؤمنين بأخوة الإيمان كما كان بالقرابة ، فلما
قويت شوكة الإسلام وضعفت الشائكة ضد الإسلام ، انحصر الميراث بالأقربين : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا
أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) (٣٣ : ٦) كما
فصلناه في الأحزاب.
فقد نسخ التوريث
الجاهلي عن بكرته أولا بميراث بين الإخوة في الإيمان والمهاجرة والنصرة الإيمانية
، ثم نسخ مرة ثانية بنسخ هذا الميراث المشارك للأقربين باختصاصه بهم.
فإلى قاعدة رصينة
متينة قرآنية في حقل التوريث لم تنسخ ـ ولن ـ الى يوم القيامة :
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً) (٧).
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٤ : ٣٣).
فآية (أُولُوا الْأَرْحامِ) وآيتا النصيب ، ومن ثم آيات الميراث ، هدمت الإرث الجاهلي
كما هدمت الإرث بالأخوة الإيمانية وحصرته في الأقربين بعد ما حسرته عمن سواهم (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى
أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) وصية في الثلث أم رزقا للحضور عند القسمة.
والترتيب الرتيب
التصاعدي في إسلامية الإرث أنه كان في العهد المكي بالأخوة الإسلامية ترغيبا في
التماسك بها والتزود منها حيث الجو شركي مطلق ومظلم مطبق ، فالميراث بالأخوة في
تلك الظروف القاسية أحرى من الميراث بالقرابة الخليط بين المسلمين والكفار.
ثم نسخت الأخوة
المورثة منذ الهجرة إلى المدينة بالهجرة ، بديلة هي أقوى من الأخوة الإيمانية دون
هجرة ، إذ كانت الهجرة بالإيمان عن الأموال والأهلين صعبة ملتوية ، وفي نفس الوقت
كانت ضرورة لتأسيس دولة الإسلام في المدينة ، بأعضاد لها هم يحملون أخوة الإيمان
والمهاجرة ، ثم لما قويت شوكة الإسلام في المدينة وتمت هامة الهجرة فخطوة ثالثة في
الميراث هي أصل الرحمية بصورة طليقة بديلة عن كلا الأخوة والمهاجرة مع التأشير إلى
أن البعض من الأرحام أولى ببعض.
وقد تكفلت آية (أُولُوا الْأَرْحامِ) بيان هذه الخطوات الثلاث (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً).
ثم خطوة رابعة
تكفلتها آية النصيب حيث حصرت الميراث في الأقرب ، فلا تكفي ـ فقط ـ الرحمية ،
وعممت إلى الأقرباء سببيا كما الأقرباء نسبيا.
ومن ثم خطوة خامسة
هي الأنصبة المفروضة كما تكفلتها آيات الفرائض المفصلة.
فلقد نرى كيف مسح
القرآن غبار الزور والغرور عن جبين الإنسانية الجهلاء في جاهلية الميراث ان ما
يتركه الوالدان والأقربون من أموالهم اختزانا لها وتجميدا ام إسرافا وتبذيرا او ما
تركوه فصلا لها عن ملكتهم لآخرين أم لا لهم ولا لآخرين ، فهو نصيب الوارثين دون
الآخرين.
فذلك مربع للتركة
قد تشملها «ما ترك» مهما لا تعني التركة خصوص الدية وما يترك في بعدية ، ولكنها
تعنيها فيما تعنيها بعناية الإطلاق مهما اختلفت مصاديقه.
فقد أزال النقطة
الاولى المظلمة الظالمة : الميراث للأقوى الأغوى الشرير مهما كان أبعد الأهلين إلى
المورث ، فقرره في الأخوة الإيمانية ، كسحا عن كل الأهلين غير الآهلين إلا
بالإيمان.
ثم أضاف أخوة
المهاجرة ، ومن ثم ولاية الرحم ، ثم الأقرب ، ومن ثم الأنصبة المفروضة رفضا لكل
الأعلام الجاهلية في حقل الإرث.
ويا لها من حكمة
حكيمة عظيمة في سياسة سرد الأحكام ونضدها ، ما لا يسطع لها اي نظام من الأنظمة
الإنسانية طوال قرونها الخالية والخالدة.
وترى حين يعم
الميراث كل الذكران والأناث من الأقربين ، فلما ذا هنا «للرجال .. والنساء»؟ ولا
تشملان الصغار والصغيرات!.
قد يعني ذكر
الرجال والنساء هنا سياسة التدرج في سرد الأحكام
المعارضة للعرف
الجاهلي تصاعديا ، حيث كانوا يحرمون النساء فسوى بينهن وبين الرجال في نصيب
المتروكات ، ثم إنه قد عممت الأخرى الفرض إلى كل الذكران والأناث (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
...) أم إن الرجال والنساء يعنيانهم ـ ككل ـ على التغليب لجانب
الكبار وكما في (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) بعد «الأنثيين» مما يدل على عناية النساء قبيل الأنثى ككلّ
، مهما كان تغليبا أم سواه.
وعلى أية حال فهذه
الآية ضابطة لم تذكر فيها أقدار السهام ، ولا صريح التحليق لكل الذكران والأناث ،
فانما عرضت مشاركة القبيلين في الميراث على وجه الإجمال ، ثم تخصيصه بما ترك
الوالدان والأقربون ، ومن ثم تعميمه لكل ما تركوا (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ
أَوْ كَثُرَ) ثم الإشارة إلى أن لكل نصيبا مفروضا لم يذكر بعد.
ثم الرجال والنساء
لا يرثون إلّا مما ترك الوالدان وهما المولدان لهم دون وسيط ، فلا يشملان الأجداد
والجدات إلّا إذا كانوا هم الأقربين بالفعل لفقد الوالدين ، ام وتشملهم «الوالدان»
فان والد الوالد والد ، مهما لا يرث ولد الولد ما دام الولد حيا ، أم وإذا خف
الشمول وخفي ف «الأقربون» تشمل الأجداد عند فقدان الآباء ، فالأقربية هي سارية
المفعول في حقل الميراث على أية حال ، ضابطة ثابتة غير حابطة في حال.
ثم الأقربون هنا
هم الأقربون بصورة طليقة بالنسبة للوارثين ، وهي تعم قرابة السبب الى النسب ، دون
الرضاعة فانها ليست قرابة ، اللهم إلا بديلة في خاصة الحقول.
ذلك لأن الرضاع لا
يخلف قرابة إلّا حرمة الزواج في موارد منه خاصة ، ولكن الولادة والزواج هما
الأصيلان في انتشاء القرابة نسبيا كانت أم سببيا ، فلا
مبرر ـ إذا ـ لإخراج
الأقربين سببا وهم الزوجان ، وهناك بعدهم قرباء سببا ـ كما في النسب ـ ولكن الاوّلين
لا يرثون إطلاقا إلّا في الأقربين منهم وهم الزوجان ، والآخرون يرثون في مثلث
الطبقات الوارثة.
إذا فهم الأولاد
والأزواج ، طبقات ثلاث هم أصول الإرث على أية حال.
فإذا كان الميت من
الوالدين والزوجين أو الأولاد ، ورثه الأولاد وأحد الزوجين والوالدان ، نصيبا مفروضا
ثابتا لكلّ من هؤلاء ، يذكر في تالية آيات الميراث ، و «مفروضا» مهما كان مجملا في
قدر الفرض ، ولكنه يشي بواقع الفرض في شرعة الله نظرة بيانه كما بيّن في آيات
الميراث.
إذا ففي فرض وجود
الأولاد لا فرض للأحفاد فضلا عن سواهم مهما شمل الوالدان الأجداد والجدات ،
ولكنهما بعد ليسوا من الأقربين والبنت الواحدة مهما كان فرضها النصف حسب النص ولكن
الباقي لا يرثه إلا هي لأنها الأقرب دون العصبة وسواهم ، وليس التعصيب عند إخواننا
إلا من رواسب التعصيب عند الجاهليين الذين كانوا يحرمون الأناث فغربله إخواننا
وخصوه بما زادت التركة عن فرض البنت أو الأم والأخت أمن هي من الأناث.
(وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) تعم الفرض وسواه ، فالأولوية تعم
كل ما ترك
الوالدان والأقربون ، فلا نصيب للعصبة ردا كما لا نصيب لهم فرضا مع وجود الأقربين
إطلاقا دونما استثناء.
وفي فرض وجود
الوالدين لا فرض لوالديهما حيث «الوالدان» لا تشملهما وعلى فرض الشمول فليس الجدود
هنا من الأقربين ، وكضابطة عامة كما الوالدان والأولاد يحجبون الجدود والأحفاد ،
كذلك الأقربون بوجه عام ـ يحجبون القريبين فضلا عن البعيدين.
وهنا ذكر «الوالدان»
قبل «الأقربون» تخصيص قبل تعميم ، اعتبارا بأنهما من أقرب الأقربين إلى الأموات ،
ومهما كان الأولاد ـ كما هما ـ من الأقربين ، ولكن الوصية بحقهما أحرى ، حيث
الرعاية من الأولاد بالنسبة لهما أقل من رعايتهما بالنسبة لهم فليقدما بعينهما
ذكرا في الذكر الحكيم ، إضافة إلى انهما هما المورثان للأولاد في أكثر الأحوال دون
العكس إلّا فلتة نادرة ، وقد نبه عليه بعد.
فلا ميراث من
الميت لوارث إلّا إذا كان الميت من الوالدين أو الأقربين ، والأقربون تشمل الأزواج
والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأجداد والجدات ، إذا كان
الميت هو الأقرب إليهم حين لا أقرب منهم.
فالوالدان يورثان
أولادهما ، والأقربون وهم الأولاد والأزواج يورثون الوالدين والأزواج ، فالوالدية
والأقربية هما الأصلان الأصيلان في حقل الميراث للوارث في كل طبقات الإرث ، فالآية
ـ إذا ـ تشملهم كلّهم.
و «ما ترك» تعم كل
الأموال والحقوق الحالية التي يتركها الميت حتى الدية فإنها تثبت بمجرد القتل وقد
يدل على إرث الدية قوله تعالى «ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة
إلى هله» (٤ : ١٢) فأهله يرثون الدية شرط الإيمان ، ام والميثاق «فإن كان من قوم
بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة» وذلك لحرمة الميثاق ، فلا
يرث أهله الكافرون في غير الميثاق (فَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)
.
__________________
ثم «إلى أهله»
ظاهر كالصريح ان القاتل لا يرث من الدية وان كان من أهله فإن (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) تخرجه عن المسلم إليهم لأنه هو المسلّم ولا يسلم الإنسان
مالا إلى نفسه.
ذلك ، ولا تعم «ما
ترك» المناصب الروحية والزمنية لأنها لا تنفصل عنه بالموت حتى يتركها ، بل هي بين
ما تبطل بالموت ككل المناصب الدنيوية ، ام هي معه في البرزخ والقيامة كتقواه وسائر
ميزاته الروحية والجسمية.
وهنا القيلة
القائلة ان (يُوصِيكُمُ اللهُ) لا تدل على واجب السهام لأنها موعظة تعم الراجح والواجب.
إنها مردودة أولا
بصيغة الوصية حيث هي التقدم الى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ ، فقد يفوق الأمر
دون وعظ ، ومسرح الوعظ هو الأوامر والنواهي الأكيدة حيث تقرن بوعظ تأكيدا لها ،
فهي تعني في إيجابها فوق الواجب وهو الفرض ، وفي سلبها فوق المحرم وهي الكبيرة ك (لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) (٦ : ١٥١) وكما
نجد فرض الوصية ككل في كل ما ذكرت فيه في القرآن .
__________________
ثم ومن سياج الفرض
ـ أولا وأخيرا ـ في بيان الفرائض يجعل السهام المقررة مفروضة ، فأولا (نَصِيباً مَفْرُوضاً) في الضابطة السابقة (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
..) وأخيرا (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) في خضمّ السهام المفروضة في نفس آية الوصية ، مما يزيل كل
ريبة ودغدغة عن واجب السهام فرضا وهو فوق سائر الواجب في شرعة الله.
(وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)
(٨).
اولوا القربى
المحجوبون عما ترك بالأقربين ، واليتامى والمساكين منهم وسواهم هؤلاء المحاويج
مهما كانوا محجوبين حسب الضابطة الأصيلة في حقل الميراث ، ولكنهم لا يحجبون عن
واجب العطف من جانب الورثة الأصليين ، كما لم يحرموا من عطف المورث في وصيته
بالمعروف.
فللقريب حق
القرابة بعد الممات كما في الحياة وإن لم يفرض له فرض ولليتامى والمساكين حق اليتم
والمسكنة كما في الحياة وإن لم يفرض لهما فرض ، وقد ينوب عنه فرض العطف من الورثة
لهم إذا حضروا القسمة.
أترى واجب الرزق
لهؤلاء الثلاث إذا حضروا القسمة منسوخ بآيات المواريث كما قيل ؟ ولا تعارض بينهما حتى تنسخ هذه بتلك ، فتلك تحدد مواريث
الأقربين ، وهذه تأمر الورثة برزق ذوي القربى واليتامى والمساكين ،
__________________
فالموردان مختلفان
حيث الاولى تقرر أنصبة المواريث والثانية تقرر الواجب فيها بعد ثبوتها وكما تجب
سائر الحقوق المالية ، فالآيتان لا تختلفان حتى يصح النسخ او يحتمل ، فليست هي
منسوخة ولو كانت مخصصة مقيدة ، والنسخ في مصطلح الحديث يعم
التخصيص والتقييد إلى مصطلح النسخ بين الفقهاء وهو ازالة الحكم عن بكرته.
ذلك وقد تكفينا
آية النصيب المفروض السالفة حسما لغائلة النسخ حيث التالية ليست لتنسخ بالسالفة
دون واسطة فانه خلاف الترتيب الصالح في تأليف الآيات الذي لم يكن إلا بوحي ، ثم
التالية لها لا تنسخها لاختلاف الموردين. فمع أن لكلّ نصيبا مفروضا ، على كل ان
يرزق اولي القربى واليتامى والمساكين من نصيبه المفروض (إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) اللهم إلّا من الثلث الموصى به والدين ونصيب الوارث اليتيم
، وقد يكون هذه الثلاث هي المخصصة لآية الرزق المعبر عنه بالنسخ.
وعدم القائل
بالوجوب ام قلته لا يحوّل النص ـ او الظاهر كالنص ـ الى الندب فهنا أمران (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) ولا يدل القول المعروف على الندب بل هو على بالغ الوجوب
أدل ، أنه إذا رزقوهم او قل رزقهم ام لم
__________________
يتحمل الميراث
رزقا لهم ، ف (قُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) احتراما لحضورهم وتبجيلا لمحضرهم وبديلا عما كانوا ينتظرون
، كما في (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً).
فلا حجة في حكم من
أحكام الله إلّا الكتاب والسنة الثابتة ، والكتاب ناطق بوجوب رزقهم وقول معروف لهم
، إضافة إلى لمحات صارحة في الآية التالية : (وَلْيَخْشَ ... فَلْيَتَّقُوا
اللهَ وَلْيَقُولُوا) ولا مجال لتقوى الله إلّا فعل الواجبات وترك المحرمات ،
كما لا خشية عن عقوبات إلا فيها تقصيرا بحقها.
والروايات متعارضة
في نسخها ولا نسخ هنا ـ لو كان ـ إلّا في وجوبه ام ـ كما يصح ـ قيدت رزقهم بالوصية
والدين وما يحق لهم كورثة أصليين.
ولا شاهد للنسخ من
القرآن ، بل الآية محتفة بما يؤيد ثابت الحكم دون اي نسخ.
فلا عبرة باجماعات
او شهرات في نفي الوجوب ، فانها والروايات الموافقة لها ـ لو كانت ـ هي مضروبة
كلها عرض الحائط لمخالفة القرآن.
والقول ان وجوب
رزقهم منه ينافي عدم تحديده ، مردود بانه واجب غير محدّد ، محولا الى المستطاع منه
كالنفقة الواجبة (لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ
اللهُ) (٦٥ : ٧) وإلى ما
سمحت نفوس كريمة كما أكرمها الله بذلك الرزق.
وكما (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لا يحدد واجب التقوى ، فما عدم التحديد المعني في واجب
دليلا على عدم وجوبه ، وكذلك القول : لو كان واجبا لتوفرت الدواعي لنقله متواترا
وليس فليس ، ونقل القرآن كاف (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)! فانه يفوق كل تواتر.
ثم و «ارزقوهم»
دون سائر التعبير من «آتوهم ـ أعطوهم» والرازق هو
الله ، لتأشير الى
واجب التخلق بأخلاق الله ، فكما رزقكم ما ترثون فارزقوا الضعاف المحاويج مما
ترثون.
والفرق بين النصيب
المفروض ورزق هؤلاء أن الفرض هو من صلب المال بقدر معلوم فرضا فوق الواجب ، وليس
كذلك الرزق الواجب لمن حضر ، إذ ليس مقدرا ولا هو في عين المال ، ولا هو فوق
الواجب ، إنما هو واجب الورثة أن يرزقوا من نصيبهم المفروض لهم قدر الإمكان
والمعروف من كل ما ترك كما يناسب الوارث والحاضر ، كما وعليهم ان يقولوا قولا
معروفا ، وقد يختلف الرزق المعروف والقول المعروف مادة وكيفية حسب مختلف الظروف
والبيئات لكل من الوارثين والحاضرين ، فلترع البيئة حسب المكنة ، ثم قول معروف
يجبر قصور رزقهم مما ترك او تقصيرهم ، فقد لا يرزقون ـ على مكنتهم ـ ويقولون قولا
غير معروف ، فترك لواجبين اثنين وبئسما ، او يرزقون معروفا ويقولون معه قولا
معروفا ، فتطبيق للاثنين ونعمّا ، أم هم عوان بينهما : رزقا غير معروف بقول غير
معروف فدرك ثان ، أم قول معروف برزق غير معروف ، أو رزق معروف بقول غير معروف وهما
ثالثة الدركات أما ذا من ترك للجمع بين المعروفين.
فحتى إذا لم يسطع
على رزقهم ، أو استطاع قليلا لا يناسب شؤونهم لقلة النصيب ، وجب عليه قول معروف
يجبر به قليل الرزق او عديمه.
إذا فرزق وقول
معروف لهؤلاء الثلاث من الورثة واجب بذلك النص ، كما هو واجب على ضوء واجب التكافل
الإسلامي العام ، وذلك شيء آخر سوى الأنصبة المفروضة للورثة ، نافلة واجبة على
الفرض القاطع ، تطييبا لخواطر المحجوبين بالاقربين أمّن لا قرابة لهم كاليتامى
والمساكين ، كيلا يرووا المال يقسم وهم ينظرون محرومين ، وتحكيما لوشائج القرابة
الخاصة والعامة الأخوية بين المؤمنين ، وكما روعيت أحوال ذوي القربى واليتامى والمساكين
حال حياة
المنفق عليهم على
هامش النفقات المفروضة عليهم للوالدين والأقربين ، كذلك هم في حقل الوصية والمفروض
على الورثة إذا حضروا القسمة ، فليست النفقة والفرائض المفروضة للطبقة الاولى حياة
ومماتا على المنفقين بالتي يمنع رزق هؤلاء الثلاث بجنبهم مهما كان على هوامش
الأولين كما هم في القرب على هامشهم.
وذلك الرزق الواجب
على الورثة مهما لم يقدر بقدر خاص رعاية لهم ، ولكنه قد لا يجب كونه أكثر من الثلث
، ولا سيما إذا أوصى بالثلث لغيرهم.
وترى (أُولُوا الْقُرْبى) هنا هم الفقراء منهم المحاويج؟ وتشملهم ـ وبأحرى ـ المساكين!
فنحن مع طليق النص نرى واجب الرزق لذوي القربى أعم من فقراءهم وسواهم ، وان كان
لفقرائهم ويتاماهم مضاعف الرزق حسب مضاعفة الموضوع.
فذو القربى اليتيم
المسكين يتقدم على مجمع العنوانين بينهم ، كما ان مجمعهما يتقدم على كل واحد منهم.
أترى «القربي» وهي
مؤنث الأقرب وصفا ل «الرحمية» التي هي الموضوع الأصيل للميراث ، كيف تكون على هامش
الميراث والأقربون هم الطبقة الاولى الوارثة؟.
انهم هم الأقربون
بعد الطبقة القربى الوارثة ، تدليلا على الحضور الواجب رزقهم وليسوا كل الأقارب ،
فانما هم الأقربون بعد الوارثين.
وهل إن على الورثة
إعلام زمن القسمة حتى يحضره من شاء من هؤلاء؟ ولا دليل عليه نصا! وقد يخلق الفوضى
حين يحضر أكثر عدد من هؤلاء فلا يمكن رزقهم كلهم ، ولا التبعيض فيهم ، ولا ينفع
قول معروف بعد الإعلام ، حيث الإعلام يعني أن للحضور رزقا يكفيهم فليس الاعتذار ـ إذا
ـ قولا معروفا.
أم يجوز لهم
الإخفاء في القسمة زمنا ومكانا؟ فكيف يعلم ذووا القربى حتى يحضروا ، فضلا عن
اليتامى والمساكين! وفي ذلك الإخفاء حسم للشرط «إذا حضر» فإمحاء لواجب رزقهم حين
يحضرون ، فالوسط بين الأمرين هو الوسط بين طليق الإعلام والإخفاء أن يعلموا أقرب
القربى بعدهم أنفسهم وأسكن المساكين وأيتم الأيتام ، هؤلاء الذين كانوا يرزقون زمن
حياة المورث من قبله ، فليرزقوهم بقدر يكفيهم كلهم مهما كان قليلا ، ومجال قول
معروف يعم المدعوين وسواهم ، فحين يحضر من لم يدع ولم يعلم ، فيقل الرزق المقسم
بينهم فقول معروف ، أم وإذا حضر المعلمون فقول معروف اعتذارا عن كمّ الرزق وكيفه.
وقد يكفي عدم
الإخفاء حيث ان زمن القسمة معروف بطبيعة الحال ، يعرفه المترددون الى بيت المورث
تسلية للوارثين وتعزية وذلك الظرف المتعود الطبيعي للواردين يطلعهم على زمن القسمة
، فإذا حضروا القسمة وهم بطبيعة الحال ناظرون لهم قسمة حرموا عنها إذ ليسوا من
طبقة الوارثين ، ام هم لا يرثون إطلاقا فنفس (حَضَرَ الْقِسْمَةَ) يبين أن لهم أملا في هذه القسمة ، وإلا فلما ذا الحضور ،
فغير الآمل أو الأبي يخرج عند القسمة إن صادفت حضوره ، والآمل يحضر القسمة إن
صادفت علمه بها ، والقريب الكبير يأمل حضور القسمة فليعلم إن لم يعلم وقت القسمة.
إذا ففي ذلك الرزق
من التركة تحقيق لآمال هؤلاء وتطبيق للواجب على المورث إن لم يوص أم أوصى قليلا ،
وصلة للرحم المحروم.
وترى إذا كان
الوارث واحدا فلا انقسام لتركته ، فهل يشمله (إِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ)؟ قد نقول : لا ، وقوفا على حرفية النص ، او نقول : نعم
وبأحرى حيث المقصود وصول رزق الى غير المورث ولا سيما إذا قل الوارثون فضلا عن
الواحد.
ذلك ولا سيما
شركاء الوصية والدين حيث «القسمة» لا تعني ـ فقط ـ قسمة التركة بين المورثة ، بل
وأحرى منهم قسمة الديان ، ثم الوصية بينهما عوان.
وهنا لا حاجة الى
إعلام ، فحضور اي منهم عند الوارث في الوقت المتعود كاف في وجوب الأمرين عليه
بالنسبة لهم.
ومن القول المعروف
اعتذار الكبار عن أنصبة الصغار أننا لا نستطيع أن نرزقكم من أموالهم شيئا لأنهم
يتامى ، فإذا كبروا فالأمر إليهم لينظروا ماذا يعملون.
ثم القسمة تعم كل
ما ترك أعيانا وحقوقا وأموالا أخرى ، ومهما لم يقدر رزق منها في النص ، ولكن
المعروف منه ما يناسب قدر الميراث وبيئة الوارثين حسب العرف المنصف المؤمن.
وهل يختص الرزق
بحضور قسمة الميراث فقط من الورثة ، ام ويعم قسمة المورث ميراثه عند الوصية الى
وصية ودين ثم الباقي للورثة؟.
ظاهر «ما ترك» أن
القسمة المعنية هنا هي قسمة ما ترك وليس إلا بعد الموت ، ولكنها قد تعني ضمن
المعني «مما ترك».
فكما ان للقربى
واليتامى والمساكين عند قسمة التركة نصيبا غير مقدر ، كذلك لهم ـ وبأحرى ـ عند
الوصية نصيبا من الثلث ان يوصي لهم به او ينفق عليهم بذات يمينه.
ولأن الوصية
الواجبة هي إذا حضر الموت فليعلم هؤلاء لحضور الموت حتى يرزقهم المورث مما يتركه
مخافة ألا يرزقهم الورثة ، ولأن لهم حقا مهما كان في مرحلة ثانوية هامشية.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٩).
هنا محور الأمر في
«وليخش» هم الورثة الذين لا يرزقون هؤلاء الثلاثة الحضور الضعفاء ، إذ لا يحضر
رغبة فيه الّا الضعيف قريبا او يتيما او مسكينا ، والروايات القائلة انهم الذين
يأكلون اموال اليتامى تفسير لهم بالمصداق الخفي المستفاد بالتأمّل اعتبارا بسابق
الآيات فيهم واللاحقة هنا .
وكذلك المورثون
الذين يضرون بورثتهم حيث يوصون لغيرهم ما يضرّ بهم ، أم لا يوصون للضعفاء من
الأقرباء أو اليتامى والمساكين ، والذين يقولون لهم أوص بمالك فإن الله رازق ولدك .
فترك الواجب في
ذلك المثلث وأضرابه يخوّف تاركيه بذريتهم الضعاف أن يعامل معهم كما يعاملون
أضرابهم من الضعاف ، إذ ليس يحضر قسمة الإرث في الأغلب إلا الضعاف ، ولا تعني
الضعاف المساكين حتى تختص ذووا القربى
__________________
واليتامى
بالمساكين.
وتلك ـ إذا ـ بلية
يبلي الله بما تارك الواجب في هذه الحقول ، مما يؤكد الوجوب فيها ، والمحور المعني
دلاليا هنا هو الوارث الذي لا يرزق هؤلاء الثلاث كما يجب ، حيث المورث مهما قصر
بحقهم فهناك مجال رزقهم في حضور القسمة ، فحين لا يرزقون فقد صد عليهم ذلك الرزق
المأمور به.
إذا فليس رزقهم من
النصيب واجبا عاديا يخلف تركه والاستهانة به ـ فقط ـ عقوبة الأخرى ، بل وفي الأولى
ايضا خشية على الذرية الضعاف أن يعامل معهم كما هم عاملوا الضعاف جزاء وفاقا.
وهل الأمر في «ليخش»
يخص الورثة أم والمورثين المقصرين بحق هؤلاء الحضور عند الوصية او بعد الموت ،
وسائر هؤلاء الذين يقصرون بحقهم توصية الى المورثين أو الوارثين ألا يرزقوهم شيئا
أم يرزقوهم قليلا؟.
أم ويشمل هؤلاء
الذين يفتون ـ فقط ـ برجاحة رزقهم من المال دون وجوبه؟ الظاهر هو الشمول والآخرون
أحرى حيث هم اصل المشكلة في ذلك المسرح العصيب.
فتلك الخشية من
عاقبة الذرية الضعاف تحلق على كافة المقصرين في حقل الميراث ورثة ومورثين أم سواهم
، تعديا عن طور العدالة في حقوق ذوي القربى واليتامى والمساكين ، ام الورثة
الأصليين ، ام والمورث نقضا لوصية ، أما ذا من تخلفات في حقل الوصية والميراث ورزق
هؤلاء الثلاث.
فقد يربو عديد
المهددين بالخشية على ذريتهم الضعاف الى سبعة محظورة :
المورثين ـ الوارثين
ـ القائلين للفريقين لا ترزقوا اولى القربي واليتامى والمساكين ـ كل هؤلاء الذين
يتجاوزن الى حقوقهم أولاء سلبيا وايجابيا ، فهؤلاء من الناحية العملية.
ثم المأولين امر
الرزق الى الاستحباب ـ والناسخين له ـ والقائلين بعدم العمل بظاهر الوجوب لشهرة
المعظم على الاستحباب!
وترى ما هو موقف «لو»
هنا وهي لاستحالة مدخولها؟.
إنها قد تعني
مسايرة هؤلاء المغرورين بأموالهم ألّا يخلفوا ذرية ضعافا ، ورعاية لواقع العقم
لبعضهم فاستجاشة الضمير الإنساني المؤمن ان يحسب لنفسه ذرية ضعافا يخاف عليهم ،
حيث يرجو بالغ العطف عليهم فليعطف الى هؤلاء الضعاف المحاويج.
وهنا (خافُوا عَلَيْهِمْ) تعني أولا خوفهم بعد موتهم ، فقد يخافون قبل موتهم لذلك
الخوف المستقبل ، فليرزقوا هؤلاء الضعاف حتى ترزق ذريتهم الضعاف.
ثم الذرية لا تعني
ـ فقط ـ الولد الصغار ، بل هم الصغار في كيانهم المعيشي ، من المرتبطين بهؤلاء
رباطا بالنسب او السبب او الأخوة الإيمانية ، الذين لهم عليهم عطف قبل الممات ،
فهم يعطفون ـ كذلك ـ عليهم لما بعد الممات.
لذلك (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) فيما امر ونهى (وَلْيَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً) يسد عن هؤلاء المحاويج كل ثغرة ، فيسد عنهم أنفسهم تلك
المخافة لذريتهم الضعاف.
وقد ننتبه من (قَوْلاً سَدِيداً) ان أمر الخشية هنا تعم كل هؤلاء السبع ، قولا سديدا في
الوصية للموصين ولمن حضرها من المشيرين عليهم ، وقولا سديدا من الوارثين ومن سائر
الناظرين فيما ترك ، وقولا سديدا من المفتين.
وسديد القول ـ فتوى
وسواها ـ هو الذي يسد كل ثغرة وعناء وشحناء بينهم ككل ، تحببا جماعيا بينكم وبين
الضعاف المحاويج ، ولا سيما الأيتام
والمساكين وذوي
القربى ، كما يسد الخوف عمن ترك ذرية ضعافا.
هنا تقوى الله
والقول السديد من المورثين ألا يوصوا بما يضر بالورثة ، ومن أولياء اليتامى ألا
يقربوا أموالهم إلّا بالتي هي احسن ويحسنوا إليهم القول ، وبالنسبة للوارثين أن
يتقوا الله في رزقهم كما يجب من أنصبتهم ، وأضرابهم من السبع وان يقولوا لهم قولا
يسد عنهم كل بأس وبؤس بالنسبة لهم.
وهذه الآية هي في
عداد الآيات التي ترجع سوء الأعمال وحسنها إلى الذرية في الأولى كما ترجعها إلى
أنفسهم في الأولى وفي الأخرى ومن رجع الحسن : (وَأَمَّا الْجِدارُ
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (١٧ : ٨٢).
وذلك ترغيب لنا في
حسنة الأعمال وترعيب عن سيئة الأعمال ، فمن يحب نفسه وذريته الضعاف ، ويحب صالح
أولاه وأخراه فليعمل عملا صالحا وليترك طالحا ، فان مثلث الأجر في الدنيا والآخرة
رهين صالح الأعمال وطالحها ، ف (ما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٤٢ : ٣٠) حيث
تشمل الإصابات الثلاث : نفسا وذرية في الأولى ، وبالنسبة للأولى في الأخرى.
وترى ان عامل
السوء يسيء ثم الله يعاقب ذريته الضعاف؟ كلا ، وإنما القصد منه انه لا يحول بين
الظالمين وذريته الضعاف ، فإنه رحمة كتبها الله على نفسه للراحمين ، فلم يكتب الله
على نفسه دفع الظالمين ككل عن ظلاماتهم
__________________
اللهم إلا وجاه
الراحمين فانه ارحم الراحمين ، وقضيتها الربانية ان يجازي الراحمين بارحم مما
رحموا.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)
(١٠).
قد تعرّفنا من آية
الابتلاء الى جانب من حل الأكل من أموال اليتامى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا فغيره محرم مهما اختلفت دركاته ، فهو ظلم كله إلّا ما
استثناه ربنا تبارك وتعالى.
و (يَأْكُلُونَ ... ظُلْماً) دليل جواز أكل بغير ظلم وهو للولي الفقير قدر القوت.
و (أَمْوالَ الْيَتامى) هي التي تحق لهم مما عندهم ، او ما يجب ايتاءه إياهم ،
فمنها ـ إذا ـ رزقهم إذا حضروا القسمة ، وكما منها أجرة عملهم الذي له أجر ،
والدين الذي يطلبون ، والحق المالي لهم ، فكل ذلك تشمله (أَمْوالَ الْيَتامى) دون اختصاص بحاضر العيون المالية او النقود لديهم.
وهذه الآية تؤكد
اتصال الآيات حتى هيه بشأن اليتامى كأصل فلتشملهم (ذُرِّيَّةً ضِعافاً) في آية الخشية ولأنهم أضعف الذرية.
ولأن صلي السعير
وهو إيقاده هو لرؤوس الضلالة ، نعرف أن القصد من «يأكلون» هنا دأبه الدائب قصدا
إلى الظلم بحال اليتامى في أموالهم ، وأما ولي اليتيم ـ الغني ـ الآكل من ماله قدر
سعيه فليس بتلك المثابة مهما كان مقترفا لحرام ، فمال اليتيم على أية حال نار
مختلفة الدركات ، تذكر آية الصلي هذه ، الدرك الأسفل ، وهو للمتعود أكل أموال
اليتامى ظلما.
وقد يعني «ظلما»
التجاوز الى حقه دون حق ، وأما الأكل منه أجرة فليس
من ذلك الظلم مهما
كان محرما لأنه قرب إلى مال اليتيم بغير التي هي أحسن ، فالسيئ ظلم بدركاته كأصل
اولي ، والأحسن فضل مفروض ، والحسن ـ كالأكل اجرة ـ عوان بينهما ، مهما كان داخلا
في طليق الظلم لحرمته هنا.
وبصورة طليقة
أموال اليتامى بالنسبة لآكليها دون حق نار مهما اختلفت دركاتها ، ودركها الأسفل ما
تصلي صاحبها النار السعير ، وأخفها ترك رزقهم من التركة وأكل الولي الغني قدر سعيه
، وبينهما متوسطات الدركات حسب الظلامات.
وهنا (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) حكاية عن الحال ، ثم (وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) حكاية أخرى هي عن الاستقبال.
ففي الحال (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً) حصرا لما يأكلون في نار ، بيانا للملكوت الباطن ولمّا يظهر
في هذه الأدنى لواقع الغطاء على هذه النار من الله لأنها دار عمل وليس الجزاء ،
والغطاء على بصائر هؤلاء حيث لا يرون الحقائق هنا ثم يكشف الغطاء : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
فبحديد البصر ترى
النار الملتهبة من أموال اليتامى المأكولة ظلما ، وكما أن الذرات غير المتفجرة لا
تبصر نارا ، وعند ما تتفجر يعرف أنها كانت تحمل النار ، كذلك السيئات هي كما
الذرات تحمل في ملكوتها نارا ولا تتفجر إلّا بعد الموت (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)!.
وهذه النار
الكامنة في الأولى هي محرقة في الأخرى لحدّ (وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) يصبح
حاملها حطبا
ووقودا للسعير به يصطلى سائر أصحاب السعير.
إذا فأكل أموال
اليتامى ظلما هو في عداد أكبر الكبائر المستحق بها صلي
السعير ، وكما في
حديث البشير النذير .
وهذه الآية من
آيات انعكاس الأعمال بوسائلها ، فأموال اليتامى تتمثل نارا ، وآكلوها يصلون سعيرا
، تجاوبا بين الآكل والمأكول في تسعير السعير.
وكما ان الآكل
والمأكول هنا دركات ، كذلك الصلي بما دونه من نار دركات ، دون ان تنصب في مصب واحد
والجريمة دركات.
ولماذا (فِي بُطُونِهِمْ) وليس الأكل إلّا في بطونهم؟ علّه تأكيد أن مصب النار هو
مصب الأكل جزاء وفاقا كما (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ـ (وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ـ (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) تأكيدات ثلاث كما هنا.
وعلّ «بطونهم» تعم
بطون الأرواح إلى بطون الأجساد مهما اختلفت نار عن نار ثم صلي عن صلي ، حيث
الأرواح والأبدان مشتركان في ذلك الأكل الظالم.
__________________
وقد يؤيد ذلك
العموم أن الأكل يعني كافة التصرفات ، الحلقة على كل الجنبات الروحية والجسمية ،
فاللّابس من مال اليتيم هو لابس على جسمه نارا وفي بطن روحه نارا ، وكذلك سائر
التصرفات حيث الجزاء العدل هو الوفاق العدل بين نوعية الأكل وملكوت النار حسبها ،
ولكن بطون الأرواح هي بطون النار في مختلف الأكل على أية حال ، وإنما الاختلاف في
الجوارح ظاهرة وباطنة ، من ملابس تلبس بأيد ظالمة ، ومآكل تؤكل بها في بطونها ،
أماذا من مختلف التصرفات الظالمة ، إذا فقد تعني «بطونهم» موارد الأكل التصرف ،
فلكل تصرف بطن يأكله : تصرفا فيه ، فكما الأكل يعم كافة التصرفات المتعدية ، كذلك
البطون هي بطون تلك التصرفات طبقا عن طبق ، وذكر البطون إنما هو بمناسبة الأكل ،
فحيث يعني الأكل كافة التصرفات فكذلك البطون تعم مواردها كلها ، فاللابس ملابس
اليتيم انما يلبس نارا ، كما الآكل طعام اليتيم انما يأكل نارا ، والتعبير بالأكل
تعبير بما يهم الإنسان كضرورة عامة ، فلا يعنى منه خاصة الأكل إلا بخاصة القرينة ،
حيث المعنى المجازي تغلب على الحقيقي لحد يحتاج الحقيقي إلى قرينة.
وهذه الآية هي في
عداد آيات انعكاس الأعمال بصورها وملكوتها يوم الجزاء ، ان لها مراحل اربع : ١
واقع الأعمال والأقوال والنيات ٢ صورها المستنسخة عنها هنا ٣ ظهور هذه الصور بعد
الموت ٤ انقلابها الى ملكوتها ثوابا وعقابا.
ثم وكل هذه إذا
مات دون توبة وتكفير ، حيث التوبة المكفّرة ـ المناسبة لهذه الكبيرة كسائر الكبائر
ـ تجعل صاحبها كمن لا ذنب له كما تهدي له آيات التوبة والتكفير والروايات ، فيرده
إليه أم يرد به إلى أهله أم وإذا لم يتمكن من
__________________
أحدهما فليتب إلى
الله توبة نصوحا وليعمل أعمالا صالحة عسى الله أن يعفو عنه بما يرضي اليتيم.
ذلك! ولقد أثرت
هذه النصوص بإيحاءاتها العميقة العريقة أثرها في نفوس سليمة ، حيث خلصتها من رواسب
الجاهلية ، وأشاعت فيها الخوفة والروعة ، لحد انعزل جماعة عن اليتامى بصورة طليقة
فنزلت جبرا بين الإفراط والتفريط : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ).
ففي تركهم تضييع
لهم وإفساد ، وفي عشرتهم الفوضى تضييع لأموالهم وإكساد ، وفي الجمع الأخوي الرحيم
، والقرب بالتي هي أحسن إصلاح لهم ووداد ، وهو العوان بين التفريط بحقهم والإفراط
وهو ـ حقا ـ السداد.
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ
__________________
الثُّلُثُ
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي
بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما
تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ
امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ
اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ
(١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ)
(١٤)
آيات ثلاث ـ الأوليان
هنا وثالثة هي آية الكلالة في نهاية السورة ـ تتضمن الأصول الأولية من فقه الفرائض
والمواريث ، هي حجر الأساس في سائر الفروع غير المذكورة في هذه الثلاث ، بما تنضم
إليها آية أولوا الأرحام في الأحزاب وآية النصيب هنا وآية الموالي الآتية ، آيات
تناحر الجاهلية الأولى الغائبة والأخرى الحاضرة المتحضرة في كيفية تقسيم الميراث
على الورثة ، فقد كانوا يورثون خصوص الرجال بالنسب ـ دون الضعيفين : المرأة والطفل
ـ ثم يورثون الأدعياء ، ومن ثم بالحلف والعهد ، فكان الرجل يقول لآخر : دمي دمك
وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك ، فإذا تعاهدا على ذلك كان للحي ما
اشترط من تركة الميت.
واما الإسلام فقد
أبطل التوارث الجاهلي مرحليا ومصلحيا ، فاستنكره بالتبني بآيات من الأحزاب
واستبدله بالهجرة والتآخي في الله ، لأن أكثر أقارب المسلمين كانوا في البداية
كفارا لا يرثون ، ثم الإخوة المؤمنون كانوا يهاجرون حفاظا على صبغة الإيمان
والأخوّة في الله ، فقرر الميراث في البداية بالمهاجرة والأخوة الإيمانية ثم نسخت
بالقرابة كما تقول آية اولي الأرحام (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً).
وهذه مرحلة ثانية
في مرحلية تشريع الميراث انه انحصر في الأقربين وبضمنهم (الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) ثم في مرحلة ثالثة ـ وهي الأخيرة ـ نسخ الميراث لمن عقدت
إيمانكم بهذه الآيات الثلاث ، فانحصر في الأقربين منحسرا عن كل من سواهم من
الأقوياء والأدعياء والذين عقدت إيمانكم ، (إِلَّا أَنْ
تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) بالوصية التي لا تتجاوز عن الثلث بشروطها ...
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ ..) وتراها وصية ربانية إلى الموتى ـ فقط ـ بواجب الفرائض
للأولاد؟ والميت لا يخاطب بخطاب التكليف! ولا يستطيع بعد موته تقسيما أيا كان!
وخطاب الحي المورث ليس خطابا للوارثين بعد موته إلّا بدليل الاستمرار ، ولو كان لم
يصح اصالة الخطاب للمورث وإشارته بدليل للوارثين ، فكيف يختصه خطاب الوصية؟.
أم إنها تخص
الأحياء لحال حياتهم فحسب؟ وليس يفرض عليهم تقسيم أموالهم ما داموا أحياء مهما جاز
لهم وصح تقسيم عادل بينهم حسب المصالح الممضات في شرعة الله!.
إنها ـ بطبيعة
الحال ـ وصية للوالدين بحق أولادهم حيين وميتين ، ف (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ضابطة ثابتة لتقسيم او انقسام بين الأولاد ، ليست لتستثنى
بحقهم بتقسيم يخالفها حالة الحياة ، ام بوصية للأقسام لما بعد الممات.
إذا فكما لا يحل
انقسام الميراث بين الأولاد بغير هذه الضابطة ، كذلك لا يحل للوالدين تقسيمه بينهم
حالة الحياة هبة او وصية او سواهما بغير هذه الضابطة ، اللهم إلّا زيادة في الثلث
حيث يتحلمها حياة ومماة حسب المصلحة الصالحة في التقسيم.
ولماذا خطاب
الأحياء هنا ـ فقط ـ للوالدين لمكان «في أولادكم» دون تعميم لكل المورثين؟.
علّه لأنهما ـ ولا
سيما الوالد ـ هما اللذان قد يقتسمان أموالهما بين أولادهما ، ولا هكذا الأولاد
والأزواج ، وان الوالدين هما محور الميراث إيراثا والأولاد هم المحور ميراثا ،
وانهما اللذان يموتان قبل أولادهما في الأغلبية الساحقة.
ثم هنا «في
أولادكم» دون «أبنائكم» لأن الأبناء تخص الذكران ، ثم و «أولادكم» تعم أولاد
الأولاد إلى الأولاد ذكرانا وإناثا ، والطبقة الأولى في الميراث هي «أولادكم» وهم
مواليدكم دون فصل.
ثم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) لا تشمل أولاد البنين والبنات ، فلابن البنت نصيبها ولبنت
الابن نصيبه وليس هنا (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إلّا بين الأحفاد أنفسهم ، وفي ذلك كفاية لاختصاص القاعدة
ب «أولادكم» دون فصل ، مهما شملت الذكور والأناث من أولاد الأولاد والبنات ، فإنهم
يقتسمون الميراث بينهم بنفس الضابطة ، ولكن لولد البنات ككل نصف ما لأولاد الأبناء
حتى وإن كان ولدهن ذكورا وولدهم بنات ، حيث البنات هنا لهن مثل حظي الأولاد
اعتبارا بالوالدين ، فهما الأصيلان في «أولادكم» دون الأحفاد.
ذلك ، ولكن «أولادكم»
تعم كافة مواليدكم مهما كانوا بفاصل ام فواصل ، وإن كان الأبعد لا يرث مع وجود
الأقرب لآية (أُولُوا الْأَرْحامِ) وهذه الضابطة مطبقة في كل الأولاد مهما ورث ولد البنت
نصيبها وولد الابن نصيبه ، ولكنهم ـ على أية حال ـ يقتسمون نصيبهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) دونما استثناء ، والآية ضابطة ثابتة بالنسبة لمجموعة
الذكور والإناث في درجة واحدة من حيث الميراث.
إذا ف «أولادكم»
تشمل المواليد بمختلف طبقاتهم مع الحفاظ على حق الأقرب فالأقرب ، فمع وجود الولد
لا يرث ولد الولد مهما مات أبوه فانه يحجبه
عمه او عمته
لأنهما اقرب إلى جدهم منهم.
فقد تحلق هذه
الضابطة على كل «أولادكم» لما يرثون منكم حسب طبقاتهم.
وهل ان «أولادكم»
تشمل كفارهم لواقع الولادة؟ والكافر منقطع الصلة عن والديه المسلمين إلا في حقل
الزواج.
ف (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ضابطة ثابتة في قطع الصلة إلا فيما يستثنى كالزواج وأضرابه
، ولا سيما إذا خلف كافرين مع مؤمنين حيث التسوية بينهما في الميراث وفي أية كرامة
اخترامة لساحة الإيمان وتسوية بين ضفتي الكفر والإيمان.
وقد تقضي على
اللّااستواء آيات اللااستواء بين القبيلين اللهم إلا فيما يستثنى ، أم إذا أسلم
الكافر قبل القسمة ، أم بلغ بعد القسمة وأسلم فور بلوغه.
ذلك ، وكما «الأقربون»
لا تشمل البعيدين إيمانا مهما كانوا من الأقربين نسبا ، كما لا تشمل البعيدين نسبا
مهما كانوا من الأقربين إيمانا.
فالأقربية نسبا
وسببا وإيمانا هي المحور الأصيل في حقل الميراث.
وإذا لا تدل (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) على حرمان الكافر من ميراث المؤمن ، حيث القصد منه هو
الأهلية الروحية الرسالية ـ ان صدقناها ـ وليس موضوع الميراث إلّا اهلية النسب
اللهم إلا على ضوء آيات اللااستواء وآية السبيل.
ولكن الأهلية
المسلوبة هي أهلية الإيمان دون أهلية الرسالة ، و (إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صالِحٍ) تنفي صلاحية اللحوق الى الوالدين ، فكيف تشمل «أولادكم»
الكفار منهم وقد نفيت اهليتهم وصلاحهم؟.
هذا ، ولكن المؤمن
الكافر ـ سواء انحصر وراثه بالمؤمنين ام اشتركوا مع الكافرين ـ كرامة للإيمان.
ذلك ، ولأنه لا بد
للكافر من وارث ، فإذا لم يرثه المؤمنون فلا وارث إذا إن لم يكن معهم كافرون ، ام
كان لهم صنفان وورثه الكافرون ، وذلك سبيل لهم على المؤمنين ، أم إذا اشتركوا في
ميراثه فتسوية مرفوضة
وقد يروى عن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : لا يتوارث أهل ملتين ، نرثهم ولا يرثونا
، إن الإسلام لم يزده في حقه الا شدة
__________________
وإذا لم يكن
للكافر وارث مسلم فإرثه للإمام فإنه وارث من لا وارث له.
وان اسلم الكافر
على ميراث قبل القسمة ورث ، وان كان المسلم وحيدا فلا قسمة ورث ان اسلم بعد موت
المورث وله المال كله وان كان له وارث مسلم وحيد وآخر كافر لم يرث بإسلامه بعد
موته إذ لا قسمة حتى يشمله الإسلام قبل القسمة اللهم إلّا قسمة بين الثلث والديان
، ثم اللهم إلّا إذا كان الوارث هو الامام فيرث ان أسلم دون الإمام .
وان كان كافرا وله
ولد مسلمون وآخر صغار فهم لا مسلمون ولا كفار ، لا تقسم التركة إلّا بعد بلوغ
الصغار فإن اسلموا ورثوا وإلا فلا يرثون.
وكما يحجب الكفر
عن الإرث كذلك القتل عمدا ظلما لا خطأ او
__________________
قصاصا ، ومما يدل
عليه (آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فأصل النفع أصل في الميراث ، وأقربيته تقرب أكثرية الميراث
ممن هو أقرب نفعا الى قريب النفع ، والقاتل ليس قريب النفع ولا نافعا ، فلا أضر من
القتل ظلما فكيف يرث المقتول؟ والدية كسائر التركة تقسم كسائر التركة كما فرض الله
من بعد وصية يوصى بها او دين ، وليس للورثة السماح عن الدية مع دين او وصية او
يتيم اللهم إلّا قدر سهامهم ، ولهم القصاص فانه الحق الأوّل بهم فلا دور للدية قبل
عفوهم عن القصاص ، اللهم إلّا إذا كان فيهم قاصر فينتظر حتى يبلغ فينفذ إما القصاص
وإما الدية.
وهل يرث وليد
الزنا والشبهة والملاعنة والمخلوق من ماء الرجل ورحم المرأة دون وقاع نكاحا او
لقاحا أو شبهة؟.
الجواب كلمة واحدة
: ما صدق «أولادكم» فله كل أحكام الأولاد ومنها التوارث بينهما ، وانصراف «أولادكم»
عن أولاد الزنا دعوى خاوية خالية عن أي دليل شرعي.
ومهما كان الأولاد
الشرعيون هم أصدق مصاديق «أولادكم» فغير الشرعيين ايضا هم أولادكم في كافة اللغات
والأعراف.
__________________
وعدم صدق الولد
على وليد الزنا لزامه عدم صدق الأم والبنت عليهما عن زنا ، فهل يجوز ـ إذا ـ تزويج
الأم والبنت والأخت عن زنا؟ وحرمته ضرورة إسلامية.
وكون الحفاظ على
المواريث من حكم تحريم الزنا ليس لزامه حرمان ولد الزنا ، فانما الحكمة هي الحفاظ
على النسب حتى يسلم الميراث عن الشبهة ، ولا سيما فيما لا فراش والولد مشترك بين
زانين.
وقول النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر»
مخصوص بمورد الفراش
حيث يشك كون الولد من صاحب الفراش او
__________________
من العاهر ، واما
المقطوع كونه من العاهر فهو ولده دون صاحب الفراش ، فضلا عما لا يكون فراش.
ولم يثبت في السنة
سقوط ولد الزنا لكونه ولد الزنا عن حكم الوراثة ، ولا ينفع الإجماع او الشهرة قبال
عموم الآية.
فالأشبه ان ما ثبت
كونه من ماء الرجل والمرأة فله كل الأحكام حتى الميراث ، لا سيما وان في حرمانه عن
الميراث حرمانا على حرمان ، اللهم الا ولد الملاعنة فانه مقطوع النسب عن الملاعن ـ
فقط ـ بثابت السنة.
وولد الشبهة بين
اثنين يرث من كلّ نصفا كما يرث منه كلّ نصفا ، ولكن ولد الزنا المشتبه يلحق
بالفراش في كل الأحكام ، وإن كان كالشبهة فكالشبهة ، وان كان من زانيين دون فراش
ولا دليل على تقدم أحدهما في انعقاد النطفة فكا الشبهة.
ثم (.. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) دون «للأنثى نصف حظ الذكر» تلمح إلى بالغ الاهتمام
والعناية للأنثى المظلومة المهضومة في تلك الجاهلية القاحلة العمياء ، فقد يعكس
ربنا أمرهن في عرض الميراث حيث يجعلهن محاور لحساب الفرائض.
ف (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) تلمح كأنهما الأصيلتان والذكر فرع لهما ، مهما كان نصيبه
ضعف نصيبها حسب الظاهر الحاضر ، ولكن نصيبها في الحق أكثر من نصيبه حين ننظر الى
المسؤولية الرجالية ، حيث الرجل عليه تحصيل مال
__________________
هو نصيبه وليس على
المرأة ، ثم عليه الإنفاق ابنا وزوجا وأبا وليس عليها شيء.
إذا فنصف الأنثى
مدّخر وضعف الذكر مصروف لها ، فضعف الأنثى في ظاهرة نصفها ضعف في واقعه ولا سيما
في الحقل الإسلامي ، وضعف الذكر في ظاهره ضعف في واقعه!.
إذا فالأنثى أصل
في الميراث في قدره وقدره ، رغم ما يظن ـ دون تحسب ـ انها مهضومة الحق في ميراثها.
ثم وضابطة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) لا تجري إلا في صورة الجمع بين القبيلين أيا كان العدد من
كل منهما ، ولكن المحور هنا اجتماع ذكر وانثيين فنصف له ونصف لهما ، ثم سائر فروض
الاجتماع ترتضع من أصل الضابطة أن له ضعف الأنثى.
ثم في صورة
الانفراد فلذكر واحد المال كله إذ لم يفرض له نصيب خاص ولا شريك في التركة ،
وضابطة : (أُولُوا الْأَرْحامِ) تمنع ردا على غيره ، ثم المال بين المتعددين بالسوية.
ولأنثى واحدة حسب
النص «النصف» فرضا ثم الباقي ردا حسب آية (أُولُوا الْأَرْحامِ) كما يأتي ، كما للبنتين فصاعدا الثلثان فرضا والباقي ردا
بنفس النصين.
وهنا يذكر النص
صورتي انفراد الأناث عن الذكور ولا يأتي بذكر صورة انفراد الذكور فرادي وجماعات ،
حيث الفرض يختلف بين القبيلين ، فللذكر فرضان : ١ مع اجتماع الأنثى ، ف (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) و ٢ دون الأنثى
فالمال كله فرضا وردا.
وللإناث فروض
ثلاثة : ١ صورة الاجتماع مع الذكور فلكل نصف الذكر ٢ كونها واحدة (فَلَهَا النِّصْفُ) ام أكثر (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما
تَرَكَ) ثم يرد الباقي عليهن في الأخيرين.
(فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ...)
(١١).
أترى (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) تعني واقعية الفوق؟ إذا فالثلثان هما لأكثر من اثنتين! فما
لهما إذا ثلثان! ولهما ثلثان قطعا حسب الضرورة الفقهية المطبقة والسنة! وكيف يهمل
نصيبهما بين نصيب الواحدة وفوق اثنتين!.
فهل نتعرف إلى
ثلثيهما من مستهل الضابطة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فواقعية الفرض في هذه الضابطة هي اجتماع ذكر وأنثى فلها
ثلث ، إذا فللأنثيين ثلثان؟ ولكنها ليست إلّا في صورة اجتماع ذكر مع أنثيين فلهما
ـ إذا ـ النصف وله النصف الآخر! ، ثم الآية تحمل ضابطة تحلّق على كافة موارد
الاجتماع دون الانفراد ، فللذكر الواحد او الذكور وحدهم المال كله كما للأنثى
الواحدة النصف فرضا والباقي ردا ، وإنما هما في صورة الاجتماع موردان لضابطة
الضّعف ، دون الانفراد لكل منهما مهما انفرد كلّ أم أكثر.
ذلك! وكيف يلائم
الثلثان لما فوق اثنتين وهما كذلك لاثنتين ونص الآية تختصهما بما فوق اثنتين فقد
تحتمل أن لهما نصيبا عوانا بين النصف والثلثين! وهذا يوهن الحجة السابقة اكثر مما
أوهنت بحجة.
او يقال : هذا إذا
كان نصيب أنثى واحدة مع ذكر واحد هو الثلث حسب النص ، فبأن لا يقل نصيبها عن الثلث
باجتماعها مع أنثى أولى حيث الذكر أقوى تنقيصا ، وليس ليزيد عن الثلثين لأنهما اقل
مما فوق اثنتين ، فانحصر حقهما في الثلثين! ، كما وقاعدة الضعف تعطي أن حظ
الأنثيين أكثر
من أنثى واحدة
وإلّا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وهو خلاف النص.
إذا فلا يصح لهما
نصيب إلا الثلثين ، لا اقل بأولوية ، ولا أكثر بأولوية ما فوق اثنتين للأكثر لو
كان لهما الأكثر!.
وجملة القول الفصل
هنا علّها أننا لمّا عرفنا كون حظ البنت الواحدة النصف في وحدتها وحظ الذكر مثل حظ
الأنثيين وهو الثلثان في صورة الاجتماع فقد بين أن حظ الأنثى الثلث إذا اجتمعت مع
الذكر فإذا اجتمعت مع الأنثى كانت أولى بالثلث ، فحظ الأنثيين ـ إذا ـ ثلثان دون
نقيصة ولا زيادة ، فهذا لا يحتاج الى مزيد بيان ولذلك أجمل عنه ، وأما إذا اجتمعت
مع الأكثر من أنثى فهنا الحاجة إلى البيان وقد بين ب (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ).
وبصيغة أخرى ، إذا
كانت الأنثى مع ذكر فثلث وإذا كانت وحدها فنصف ، وإذا كن فوق اثنتين فثلثان ،
فالأنثيان لا يصح لهما الثلث لأنه نصيب الواحدة مع أخ ، ولا النصف لأنه نصيبها
وحدها ، ولا أكثر من الثلثين حيث الأكثر أحرى بهذا الأكثر ، فلا يبقى إلا الثلثان
للأنثيين دون ذكر.
هذا ولكنه تعويل
على الاولوية التي لا تعرف إلا بإمعان النظر وقد يختلف فيها النظر ، فلما ذا ـ إذا
ـ يبدل النص بمثلها وهو خلاف الفصيح!.
وقد تعني (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) اثنتين وما فوقهما كعبارة شائعة في مستعمل العرف الشائع ،
وقد يسانده بيان نصيب الأختين (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ
لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا
تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) (٤ : ١٧٦).
فكما أن اثنتين
هنا تعني وما فوقهما كذلك فوق اثنتين هناك هو اثنتان وما
فوقهما ، إضافة
الى اولوية الثلثين للبنتين من الأختين لمكان الأقربية.
ثم «فان كن ..»
تفريعا على «للذكر ...» تلمح بإن حظ الأنثيين مستفاد من نفس القاعدة فإن كن البنات
فوق اثنتين ف ... ولا تعني «كن» منذ الثلاث بل هو مطلق الجمع كما (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما).
وجماع هذه الوجوه
قد تكفي بيانا صارما لفرض الأنثيين حسب التفاهم عرفيا وأدبيا وعقليا فلا إهمال ـ إذا
ـ في بيان فرض الأنثيين ، مهما كان إجمالا بدائيا يتبين من جمال البيان كما تبيناه
، ومن دأب القرآن فسح المجال للتفكير حتى لا تنجمد الأفكار بواضح التعبير.
وقد يعني تقديم
فرض الأولاد على الأبوين هنا كما قدما في الإيراث هناك (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ..) أنهم لهم النصيب الأوفر ، وأن سبق الموت في الوالدين أكثر
، ونفعهما ـ كذلك ـ بالنسبة لأولادهما أشهر.
وترى كيف شرع فرض
الذكر ضعف الأنثى وهي أضعف وهو أقوى ، فلا اقل في قسطاس العدل أن يكون مثلها؟.
__________________
ذلك لأن الذكر ـ كما
قدمناه ـ ينفق في مثلث الأحوال أبا وابنا وزوجا ، والأنثى منفق عليها فيها كلها ،
اللهم إلّا ما شذ فيهما بمعاكسة ام مساوات في الإنفاق منه أو عليه أماذا؟.
فالذكر ينفق ضعفه
على أية حال ولا سيما في صداق ونفقة فهو ـ إذا ـ ضعيف ، والأنثى لا تنفق نصفها على
أية حال فهي ـ إذا ـ قوية ، فالذكر أحوج الى المال من الأنثى على أية حال.
ثم الثروة الزائدة
على النصف للنساء بلاء في أكثرية الأحوال ، سلطة لهن وسلاطة على أزواجهن قضية عدم
الحاجة ـ إذا ـ إليهم ، مما يسبب نشوزهن عن الواجبات الأنثوية ام وسائر الواجبات
فردية وجماعية.
ثم النتيجة في (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) غنى الأنثى وحاجة الذكر في كثير من الأحوال ، والحالات
الاستثنائية التي تكون الأنثى فيها أحوج ، إنها تجبر بالوصية من الثلث قضية العدل
في أقدار الحاجات للورثة ومنهم الأناث بنات وأزواجا وأخوات وأمهات.
ذلك ، والقول إن
التسوية في الأشغال والنفقات ـ كما هي سنة الحضارة الحاضرة ـ تقضي بواجب التسوية في
الميراث ، لا يناسب البيئة الإسلامية السامية التي فرضت على الرجال تحصيل النفقات
دون النساء رعاية لقوتهم من ناحية ، وضعفهن والحفاظ على عفافهن من أخرى.
وقد قررت طبقات
الميراث على ثلاث حسب الأقربية وقضية الفطرة ، فالاولى الوالدان من غير ارتفاع
والأولاد ، ثم أولاد الأولاد ـ ما نزلوا ـ هم قبل الدرجة الثانية بعد آباءهم ،
مهما كانوا من الطبقة الاولى حيث لا ترث الطبقة الثانية معهم ، والثانية الإخوة
والأخوات من الأبوين او أحدهما ثم أولادهم
والجدود والجدات
من الأبوين او أحدهما ثم آباءهم وأمهاتهم فإنهم قبل الطبقة الثالثة.
والثالثة إخوة
الآباء والأمهات وأخواتهما وهم الأعمام والعمات والأخوال والخالات ، ثم أولادهم ما
نزلوا.
(وَإِنْ كانَتْ
واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).
ان النصف هو فرض
البنت الواحدة ، وحدة عن أخ أو أخت دون سائر الطبقة الوارثة معها كالزوجين
والوالدين حيث ان «كن وكانت» بعد «أولادكم» تعني الكينونة في «أولادكم» دون سواهم
، فإذا لم يكن لها أي شريك رد عليها الباقي فإن (أُولُوا الْأَرْحامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ولا ريب أن البنت أقرب إلى الميت ممن ليس في طبقتها ، فهي
أولى في أخذ الباقي ممّن سواها عصبة وسواهم.
فالبنت الواحدة ان
لم يكن معها وارث سواها رد الباقي عليها ، وان كان معها وارث سواها وهوذ وفرض رد
الباقي عليهما بحساب الفرض.
وانما (إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) مع أن لها النصف الباقي ايضا بالرد حيث لا وارث سواهما؟
لأنها لا يرد عليها النصف الباقي ان كان معها ذو فرض آخر ، فالقدر المعلوم من
نصيبها ـ إذا ـ النصف ثم الباقي كما فرض الله ، وفرض النصف فرض لها في الصورتين ،
فليكن هو المصرح به.
ذلك ، وهنا تبرز
السيدة الصديقة الزهراء ، سلام الله عليها سيدة الموقف زاهرة في الإحتجاج بالقرآن لحقها
، ظاهرة أمام الخليفة أبي بكر وجمهرة المسلمين ، دفاعا صارما عن حكم الله ، وعن
حقها ـ وهو بلغة أهلها ـ وعما يساندها فيما يتوجب عليها في جهادها بعد أبيها
تثبيتا ـ وبأحرى ـ لإمرة بعلها.
فقد قامت خطيبة في
مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما غصب حقها ـ وكما اتفق النقل القاطع
من محدثي الفريقين ـ فقالت فيما قالت : «ويها أيها المسلمون أأغلب على إرثي ،
يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا ، أفعلى
عمد تركتم كتاب الله
__________________
ونبذتموه وراء
ظهوركم إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا (عليهما السلام) إذ
يقول : (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وقال : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ).
وزعمتم أن لا حظوة
لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان ، أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ،
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي فدونكما مخطومة مرحولة تلقاك
يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون
ولا ينفعكم إذ تندمون (لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ
عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) «ما وعيتم ووسعتم
الذي تسوغتم (إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) ...
هذه الفقيهة
الزاهرة الزهراء تحتج على الخليفة وسائر الحضور بكتاب الله ، وهو يحتج عليها بحديث
مختلق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لا نورث ما تركنا صدقة» وهو لو دل
على ما يخالف القرآن لكان مضروبا عرض الحائط ، وليس ليدل إلا على احتمال مرفوض بين
محتملات .
__________________
ولو أنه يحرم
الصديقة الزهراء عن ميراثها لكانت هي المخصوصة بحديثه (صلى الله عليه وآله وسلم)
في ذلك المسرح دون الخليفة ، فكيف خص بذكره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إياه
دون بضعته؟!.
حديث الخليفة ـ لو
دلت على ما يشتهيه ـ عام معلّل لا يخصّص أبدا حيث يقول : «نحن معاشر الأنبياء لا
نورث ...» حرمانا لورثتهم عن ميراثهم بحساب النبوة ، أفلم يكن كل من سليمان ويحيى
نبيا ونص القرآن يورّثهما من أبويهما ، وإذا ورّث نبي واحد نتأكد ان النبوة ليست
من موانع الإرث خلافا للحديث المختلق .
ولا تخصص آيات
الإرث بمثل هذا الحديث إلّا إذا حرم كافة ورثه النبيين عن ميراثهم وهو خلاف نص
القرآن في سليمان ويحيى.
وقيلة القائل إن
عموم آيات الإرث لا تشمل النبي (صلى الله عليه وآله
__________________
وسلم) لأنها نزلت
عليه ووردت على لسانه فكيف تشمل نفسه .
إنها منقوضة
مرفوضة بأن القرآن كله نازل عليه ووارد على لسانه فليستثن عن كل أحكامه وذلك إخراج
له عن شرعة القرآن لكي يصدّق الحديث المختلق ضد القرآن!.
فعموم آيات الإرث
ـ كسائر الآيات ـ تشمله قبل غيره ، وخصوص آيات الإرث لبعض الأنبياء تعارض حرمان
النبي كنبي عن الإيراث ، ف «نحن معاشر الأنبياء ولا نورث ما تركناه صدقة» لو دلت
على حرمانهم عن الإيراث يعارض عموم القرآن وخصوصه!.
فكيف تكذّب رواية
الصديقة الطاهرة ، الموافقة للآية ومتواتر الرواية عن الائمة الطاهرة ، لحديث
مختلق هو على فرض دلالته خلاف نصوص من القرآن عموما وخصوصا؟!.
ثم إذا تحرم
الصديقة الزهراء عن نحلتها وميراثها عن أبيها ، فكيف يؤتى أزواج النبي حجراتهن
فيدفن فيها أبو بكر وعمر ، فإذا وهبها اياهن فقد نحل فدكا الزهراء ، وهن لم يدعين
الهبة والزهراء ادعت النحلة وقد كان في فدك عمّالها ثم توفي رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم)!.
فهل تصدّق زوجاته
دون دعوى ولا تشملهن آية التطهير ، ثم تكذب الطاهرة الزهراء بدعوى وقد شملتها آية
التطهير ، وهناك متواتر النصوص عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدقها
وعصمتها وبراءتها عن كل مزرئة هي بالإمكان لغير المعصوم.
ولقد كانت لخطبة
الزهراء الزاهرة على حشد المسلمين أبعادها العميقة
__________________
لصالح المسلمين
انتباها وعظة.
فقد أثبتت أن هذه
الخلافة الخلاعة لها تخطيطات ضد القرآن أولا ، وضد نبي القرآن ثانيا ، إذ يختلق
عليه حديثا يضاد القرآن وهو في العمق ينسبه الى الكفر والظلم والفسق بل وأضل سبيلا
، إذ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)
(٥ : ٤٧) فقد جمع ابو بكر
في نسبته المختلقة الى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين هذه الثلاث له (صلى
الله عليه وآله وسلم) بأشدها!.
هذا وان الذي يطمع
في نحلة الزهراء وإرثها فهو أطمع في تلك الخلافة البائدة.
ذلك ، وما كان لها
ولبعلها علي (عليهما السلام) مطمع ومطمح في حطام الدنيا وكما يروى عنه (عليه
السلام) «بلى كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ـ وما
أصنع بفدك وغير فدك والنفس في مظانها ...».
ولقد كانت فتوى
الخليفة الخليعة في استلاب فدك فتوى سياسية صدرت عنه تضعيفا لساعد أهل بيت الرسالة
(عليهم السلام) وتقوية لصالح الخلافة ولكي يجمد أهل البيت عن كل حراك ضد حكمهم.
والصديقة الطاهرة
يحتج على الخليفة لا رغبة في حطام الدنيا ، بل حفاظا على ما آتاها أبوها وحفظ
المال كسائر النواميس فرض ، ولكي يعرف المسلمون مدى رعاية الخليفة للحقوق الإلهية
فلا يستثقلوا عن أن الخليفة كيف اغتصب الخلافة ، إذ من لا يغض النظر عن أموال من
له حق الخلافة كيف يغضه عن نفس الخلافة والملك عقيم؟!.
وحين تظلم الصديقة
الزهراء (عليها السلام) في نحلتها وإرثها ، كذلك نرى البنت الواحدة تظلم في رد
النصف الباقي عليها تعصيبا لا برهان له إلّا تعصبات «وليست العصبة من دين الله»
ولقد تكفي آية أولو الأرحام حجة صارمة على ان النصف الآخر يرد على الواحدة لأنها
أقرب رحما ممن سواها الذين ليسوا في طبقتها ، والوارثون في طبقتها يرثون الباقي كما
فرض الله.
(وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ..).
لأبوي الميت ذكرا
كان أو أنثى ، والتذكير باعتبار الميت او تغليب الذكر على الأنثى.
وهنا «ولد» دون
ابن او بنت ، تعم كل المواليد ذكرانا وإناثا ، فثلث بين الوالدين سويا والباقي ل «ولد»
بعد سهم الزوج إن كان حسب التفاصيل المسرودة من قبل لسهام الأولاد.
وهل يشترط في
سدسهما كونهما معا؟ النص حرر السدسين لهما إن كان له ولد ، فلكلّ السدس كان مع
الآخر ام لم يكن والباقي للولد ، كما وبعد الزوج ان كان له زوج.
وترى «ولد» هنا
تعنيه دون وسيط؟ قد يكون ، لظاهر «ولد» ولكن ولد الولد ايضا ولد يرث الجد مع
الوالدين ، و «ولد» منكرا يحلق على كل ولد قريبا ام بعيدا.
ذلك إلا أن الأقرب
يمنع الأبعد ثم (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ) نص في الاستغراق لمكان النكرة في سياق النفي ، فانما لا يرث
ولد الولد مع وجود الولد ، ثم يرث عند فقده حيث ينتقل الى الطبقة الأولى شرط ألا
يكون معه ولد دون وسيط مهما كان معه أبوان.
وهنا الولد يعم
الذكر والأنثى ومجموعهما فالباقي بينهما للذكر مثل حظ
الأنثيين ، وللذكر
الواحد كل الباقي كما لعديدهم هو بالسوية ، وللبنتين فصاعدا الثلثان وان كانت
واحدة فلها النصف فرضا والباقي ردا عليها وعلى الأبوين بالنسبة لسهامهما لآية أولو
الأرحام ، ان لم يكن له زوج ، فلا رد بالتعصيب إلى الأب كما لا رد على سواه ان كان
، وإنما هو على اصحاب الفروض وهم هنا البنت والأبوان.
وعلّ تساوي الأبوين
ان كان له ولد اعتبارا بان على الولد نفقتهما على سواء ، واما ان لم يكن له ولد
فلا منفق عليهما ، ولينفق الأب على الأم دون العكس ، إذا فلأمه الثلث والثلثان
الباقيان للأب ان لم يكن زوج.
وهنا (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) دون «لهما» كيلا يشتبه نصيب كل بنصيب المجموع ، كما ودون «لهما
الثلث» كيلا يزعم اختلاف نصيبهما ، او اشتراط اجتماعهما في نصيب السدس.
(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ).
هنا وورثه أبواه
تعني ورثا المال كله حيث لا شريك لهما في طبقتهما ، ففي انحصار الوارث فيهما يقتسمان
بالثلث والثلثين ، إلا إذا كان له اخوة ، ولا تعني «ورثه» صلاحية الإرث ألا يكونا
كافرين او قاتلين لعدم ذكره في «لأبويه» فإنما (لَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلَدٌ) ثم (وَرِثَهُ أَبَواهُ) ان لم يكن وارث في الطبقة كالزوجين ، كما وان «أبواه» دليل
اشتراط حياتهما بعد الولد دون واحد منهما ، حيث الواحد ـ إذا ـ يرث المال كله.
فلا ترث الأم إلا
السدس كضابطة إلا إذا لم يكن له ولد وورثه معها أبوه وكان له اخوة فلها الثلث ،
فبفقد كل من هذه الشروط ترجع الأم إلى السدس.
كما إذا لم يكن
معها أبوه ، او كان ولم يرثه لكفر او قتل أمّا أشبه ، او ورثه معها أبوه ولم يكن
له إخوة.
ول (وَرِثَهُ أَبَواهُ) أبعاد أخر ، منها وجود الأبوين ، فعند فقدهما أو أحدهما
يفقد هذا الفرض ، وكذلك إذا كانا موجودين ولكنهما أو أحدهما كافران ، أو قاتلان
للمورث فكذلك الأمر ، ثم إن ورثته أمه فقط فلها المال كله لا الثلث فقط ، كما إذا
انفرد الأب فله المال كله ، وإذا كان معها زوج او زوجة فثلثها ثابت من صلب المال
حسب طليق النص ، فلا حاجب عن الثلث إلا الإخوة دون الزوجين.
إذا ف (وَرِثَهُ أَبَواهُ) تقيّد (فَلِأُمِّهِ
الثُّلُثُ) بكونهما وارثين منه بالفعل ، شرط ألا تكون له إخوة ، فإن
لم يرثاه لاستغراق الدين كل التركة ، أم لاسباب أخرى فلا ثلث لأمه.
(فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ).
«فان كان» تفريع
على (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ففي فرض انهما ـ فقط ـ يرثانه وكان له اخوة (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) والباقي للأب ، وان كان له ولد ـ كان له زوج او لم يكن ـ فلكل
واحد منهما السدس.
صحيح أن إخوته لا
يرثونه مع والديه ولكنهم يحجبون الأم عن نصف فرضها ، وعلّه لمضاعفة تكليف الأب
نفقة على هؤلاء الإخوة وهم ولده ، إضافة إلى نفقة الأم.
و (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ
دَيْنٍ) تحدد كل الفرائض المذكورة هنا ، فلتفرض الوصية والدين ثم
تقسم باقي التركة بين الوارثين أيا كانوا.
و (يُوصِي بِها) تشعر بواجب الوصية كما كتبتها آيتها في البقرة : (كُتِبَ
عَلَيْكُمْ
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فكما الدين فرض أداء كذلك الوصية أصلا وأداء.
فالوصية والدين
هما من صلب المال ، وليس الميراث إلا من باقي التركة إلا إذا لم تكن وصية او دين.
إذا فللأم فرضان
السدس والثلث ، وللأب فرض واحد هو السدس إن كان له ولد ، ثم له المال كله إن كان
واحدا او الباقي إن كان مع الأم شرط عدم الزوج والولد ، و «إخوة» جمعا تحصر الحجب
بجمعهم ذكرانا ام إناثا أم ذكرانا وإناثا ، وأما من دون الثلاث فقد لا يصدق عليهم «إخوة»
فلا حجب إذا في اثنين فضلا عن ثنتين او واحدة اللهم ، إلّا أن يقال : إن أقل الجمع
اثنان ، وهو هنا يعم الذكرين والأنثيين ، وذكرا وأنثى ، الى جمع الذكور فقط او
الأناث.
صحيح ان «إخوة» لا
تستعمل في خصوص الأختين او الأخوات فإن لكل اسمه ، ولكنها في طليق الإطلاق كما هنا
تعم كلّ هذه الجموع ذكرا وأنثى ، او ذكرين او انثيين ، او جمعا بينهما ، تغليبا
لجانب الذكر في عناية الجمع الشامل على الأبدال.
ومما يدل على دخول
الاثنين في الجمع (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) حيث القلوب هنا تعني القلبين ، كما (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) تعني من «كن» ما يعم الأنثيين فان لم تشملها لم تكن
عنايتهما واردا في الآية وقد اثبتنا ورودهما ، كما وأن هل أتاك نبأ الخصم إذ
تسوروا المحراب .. (خَصْمانِ بَغى
بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) حيث عني «خصمان» المثناة من «الخصم» الجمع إذ تسوروا
المحراب ، وكذلك (وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «اثنان فما
فوقهما جماعة».
فشمول الاخوة
للأخوات هو قضية التغليب ، فلو قال : «أخوات» لم تشمل إلا إياهن ولكن «إخوة»
تشملهن ضمن الاخوة ، وفي عدم الحجب بالاخوة من الأم رواية لا تستطع ان تقيد طليق الآية.
وفي حجب الاخوة
شروط تالية :
حياة الأب لمكان (وَرِثَهُ أَبَواهُ) و ٢ إيمان الأخوة ، ف (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ
__________________
إِخْوَةٌ) وكما ان ولد نوح ليس من أهله لكفره كذلك الاخوة الكافرون
ليسوا اخوة الميت المؤمن ، ٣ وكون الجمع مؤمنين مهما كان ثلاثة منهم او اثنان فقط
لكي يصدق الإخوة ٤ وكونهم أحياء عند موت المورث لمكان (كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) ٥ وكونهم منفصلين بالولادة فان كانوا أجنة عند موته أم
بعضهم والباقون ليسوا جمعا فلا حجب إذا إذ لا يصدق على الجنين الأخوّة ، ولكن
الأشبه انحساب الجنين في حساب الميراث ، ولا يظهر من «اخوة» كونهم من الأبوين ،
فتشملهم منهما ومن أحدهما قضية الإطلاق.
واما الأخوات
الثلاث وما فوقهن فقد يقال : لا تشملهن «إخوة» إلا بتغليب لا دليل عليه هنا ،
والظاهر شمولها لمجموع مشترك بينهما ان كانوا ثلاثة وما فوقها ، ولكن الأظهر كما
سبق شمول الاخوة لأختين فصاعدا كما شملت أخوين فصاعدا.
و (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ
دَيْنٍ) تتعلق بكل السهام المذكورة ، فلا ميراث إلّا بعد وصية أو
دين ، وعل تقديم الوصية رغم أهمية الدين لأنها مكتوبة أصلا وتنفيذا ، والدين مكتوب
ـ فقط ـ تنفيذا ، وانهم كانوا يتهاونون بها فيهما دون الدين ، فقدمت تأشيرا إلى
اهميتها كما الدين وأحرى في أصلها ، فالباقي بعدهما يقسم كما فرض الله.
ذلك فلا ينتقل من
التركة قدر الوصية والدين الى الورثة ، فإنهما حق لأهليهما وكما في موثقة ، وكما لا نصيب للورثة إطلاقا إذا استغرق الدين كل التركة.
__________________
(آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً).
هذه التنبيهة تقرر
ضابطة أخرى في أولوية الميراث بعد الأقربية الرحمية ، هي (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) وقد يعم الخطاب كلا الورثة والمورثين أنه كما الآباء أقرب
نفعا للأولاد أحياء فليكونوا أقرب لهم نفعا أمواتا ، إذا فميراث الأولاد من الآباء
أكثر من ميراث الآباء من الأولاد ، فكما يرث الولد من أبويه اكثر مما يرث منهما
والدهما ، كذلك لا يرث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد بنفس السند مهما اختلفا في
أصل الإرث وقدره.
وفي تقديم الآباء
على الأبناء تقديم لهم في الأقرب نفعا وكما ورد «قدموا ما قدمه الله» وذلك رغم زعم
الأبناء أنهم اكثر نفعا للآباء حيث يكفلونهم إذا بلغوا الكبر ، ولكن اين كفالة
الآباء للأولاد وكفالتهم للآباء؟.
ومن ثم فتقدم
الأولاد على الجدود وعلى أولاد الأولاد داخل في هذه الضابطة (أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) كما هم أقرب لكم ممن سواهم رحما ، فهذه ضابطة ثابتة أن كل
من هو أقرب نفعا كما هو أقرب صلة فهو المورث لقريبه والمنتفع منه دون من سواه.
وهنا «آباءكم»
تشمل الأبوين ، فكما أن الوالد أب كذلك الوالدة هي أبة ، فإنهما شريكان في الأبوة
كما الوالدية مهما لا يقال للوالدة أبة.
وقد تعني «لا
تدرون» إضافة إلى الإخبار إنشاء ، إخبار تنبيه للغافلين عن ان الآباء أقرب لكم
نفعا في الدنيا ، كسؤال تأنيب بهؤلاء الأغفال الذين يزعمون المعاكسة في تلك
الأقربية نفعا فيختصون الميراث بالأبناء ، ألا تدرون أيهم اقرب لكم نفعا؟.
ثم إخبار بأنهم
أقرب لهم نفعا في الآخرة فإن حرمة الوالدين من أهم
الحرمات ،
فأدعيتهم للأبناء هي خير الدعوات.
ومن ثم حكم بكونهم
أقرب لهم نفعا بعد موتهم في البرزخ حيث الأبناء أحياء ، انهم يرثون آباءهم اكثر من
أبناءهم.
ففي ذلك الإنشاء
الإخبار والإخبار الإنشاء قضاء على زعم حرمان الآباء عن المواريث كما كانوا
محرومين في الجاهلية ، وزعم آخر أن الأبناء هم أقرب نفعا للآباء فليورثوهم اكثر
مما يورثون الأبناء.
فالمحور في اكثرية
الميراث هو الأقربية نفعا اضافة الى الأقربية رحما.
فهذه لفتة بارعة
لتطييب النفوس تجاه ما فرض الله ، فانها بين إيثار الأبناء على الآباء قضية الضعف
الفطري تجاه الأبناء ، وبين مغالبته بالمشاعر الأخلاقية والأدبية فالمعاكسة إيثارا
للآباء على الأبناء وعوان بينهما تحيّرا في التخيّر ، فيسألون ـ إذا ـ ويخبرون (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ ...).
وقد يستفاد منه
أنه لا يرث قاتل المورث لزوال النفع من البين ، ثم «لا تدرون» قد يعني كلا الإخبار
وسؤال التنديد ، فمن لا يعلم فليعلم ، ومن يعلم فكيف يعامل كأنه لا يعلم؟!.
وهنا أسباب اخرى
لتفضيل الأولاد على الآباء في نصيب الإرث ، منها أن حاجة الأولاد أكثر من الآباء
حيث الأولاد هم بعد في بناء المعيشة ، والآباء بالغون ما بلغوا فيها ، فأولئك ـ إذا
ـ أحوج من أولاء ، وان الأولاد ليس لهم من يكفلهم بعد الآباء ، والآباء مكفولون
بالأولاد ومكفيون بما حصلوا عليه ، كما الآباء أقل مؤنة لقربهم إلى الموت دون
الأبناء ، فليكن الآباء أقرب نفعا للأولاد بعد موتهم كما هم أقرب لهم نفعا في
حياتهم.
وبصيغة أخرى هنا
نشآت ثلاث : ١ الدنيا ٢ والبرزخ ٤ والآخرة ، ونفع
الآباء حال حياتهم
أكثر للأبناء وكذلك في الآخرة ، فليكونوا ـ كذلك ـ اكثر لهم نفعا في البرزخ بعد
موتهم وهم أولاء أحياء.
ومن واجهة أخرى
لما كان الآباء أكثر نفعا في مثلثة النشآت ، فليكن الأبناء نافعين لهم لأقل تقدير
في الميراث ، وقد كانوا يحرمون الوالدين ، فندد بهم ذلك الحرمان الظالم.
(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ
إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)
(١١).
هذه السهام كلها
فريضة من الله وهي فوق الواجب ، فلا حول عنها ولا تحويل ، سواء في هذه المواريث ام
في وصية يوصون بها او دين (فَمَنْ بَدَّلَهُ
بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ، (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً) وأنتم لا تعلمون «حكيما» وأنتم تتبعون الأهواء والرغبات (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).
ملحوظات حول
المستفاد من مقاطع الآية :
الأولى : لا تعني (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) حصر الإرث فيهما حيث العبارة الصالحة له «وأبواه هما
الوارثان ـ او ـ ولم يرثه إلا أبواه» كما لم تعن عدم حجبهما بكفر او قتل ، وانما
تعني اجتماعهما في الميراث خروجا عن إطلاق (لِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ) الشاملة لافتراقهما.
إذا فقد يجتمع
معهما احد الزوجين ، فللأم الثلث وللزوج النصف أو الربع والباقي للأب ، فقد يبقى
للأب الثلثان وأخرى إلا النصف من الأصل وثالثه إلا الربع منه ، فكما ينقص نصيبه إن
كان معه زوج كذلك يزيد إن لم يكن معه زوج.
الثانية : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) تشمل الأجنّة إلى المنفصلين ولكن يصبر
حتى الوضع لزوال
احتمال عدم الوضع فلا إخوة فلا حجب ، ذلك وكما (إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ) يشمل الجنين ، و «كان» يعني كينونة الولد عند موته.
الثالثة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) لا تدل على سلب الأخوة بين الكافرين فانما تحصر تحليق
الاخوة في حقل الإيمان.
الرابعة : «إخوة»
هنا تعمهم من الأب أو الأم إلى الأبوين ، والحكمة في حجبهم الأم لزوم انفاق الأب
عليهم ، ولا يلزم إذا كانوا من أم؟ منقوضة بما له أخ من أبوين وهو واجب النفقة
للأب مع انه لا يحجب ، والحكمة لا تحلق على كل الموارد.
الخامسة : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) تعم ما إذا كان هناك زوج ، فللأم السدس وللزوج النصف
والباقي للأب ، فان (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) لا تحصر الإرث فيهما.
(وَلَكُمْ نِصْفُ ما
تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ..)
ان ضابطة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) جارية ـ في الأكثر ـ في كل طبقات الإرث ، فهنا لك للأولاد
، وهناك للأبوين إلّا إذا كان له ولد ، وهنا للزوجين ، سواء خلفا ولدا أم لم يخلفا
فلهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) حيث الزوج له النصف أو الربع ثم الزوجة لها الربع أو الثمن
، ومن ثم الأعمام والأخوال والإخوة والأخوات ، اللهم إلّا فيما شذ بدليل.
فهذه الضابطة هي
سيدة الموقف إلّا ما استثنى لحكم وأدلة قاطعة ، ففيما
نشك في نصيب الذكر
والأنثى حكمنا بنفس الضابطة.
والزوجان هما شريكان
مع سائر الورثة في كل الطبقات الثلاث ، دون من سواهما فإن كلا طبقة لا تشاركها
التالية لها.
وهنا معركة الآراء
في : هل يستثنى عن نصيب الزوجات غير المنقول من التركة عينا أو قيمة ، أم لا
يستثنى ، أم إن في الاستثناء تفصيلا؟.
وهنا (مِمَّا تَرَكْتُمْ) كسائر صيغها : «ترك ـ تركن» المذكورة بمختلف صيغها ستّا هي
سيدة الموقف ، تحليقا على كل المتروكات أعيانا وأثمانا ، مع العلم أن هذه الآيات
بصدد بيان حدود المواريث ولا سيما بالنسبة للنساء اعتبارا بأنهن كن مظلومات
مهضومات الحقوق.
فلو أن في نصيبهن
استثناء لكان هو الجدير بالذكر بين الست ـ التي اربع منها تعني كل ما ترك ـ بيانا
لما يخالف الضابطة الثابتة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وما يخالف ظاهر القسط ، استثناء من الربع والثمن ، وحفاظا
للأمة عن تضارب الآراء نتيجة تضارب الروايات ، ثم المرجع بعد كل ذلك هو نص «ما تركتم»
تعميما لكل المتروكات ، فيصدق ما وافقه ويترك ما خالفه.
والى لفتة واسعة
دون أية فلتة حول هذه الآية :
«ولكم» تعني ـ فقط
ـ البعولة بدليل «لهن» فأزواجكم هنا هن الزوجات وهي بطليق الجمع المحلى باللام تعم
المنقطعات الى الدائمات.
وفي تخصيص «أزواجكم»
بالدائمات تردد لاختلاف الروايات
__________________
__________________
والأشبه هو العموم
لقاعدة العرض ، ولو كانت الروايات متواترة على التخصيص ، ولا نجد لفظة الزواج ـ بمختلف
صيغها في القرآن ـ تعني الدائم إلّا بقرينة قاطعة هي هنا منفية لا تجدها في القرآن
، وفيه ما هو صريح في الأعم ك (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) (٣٣ : ٣٧) و (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٢٣ : ٦).
فأصل الزوجية
مشترك بين الدائم والمنقطع ، ولا يصح نفي الزوجية عن المنقطع وإلّا أصبح محرما
قضية الحصر في آية «المؤمنين».
صحيح أن تخصيص «أزواجكم»
هينّ بقاطع الكتاب أو السنة حيث الدائم هو الأظهر ، ولكنه ليس انصرافا يجعل
المنقطع مغفولا عنه ، ولكن لا تخصيص قاطعا في السنة لاختلاف الروايات ، مما يجعل
الدالة على اشتراط الدوام غير مقطوع الصدور فكيف يخصص به عموم الكتاب ، وقضية
العرض على القرآن عموم الحكم للمنقطع.
ذلك ، وقد يعم «أزواجكم»
المعتدة رجعيا فإنها زوجه حسب السنة
__________________
القاطعة ، فيرث كل
من الزوجين الآخر في الطلاق الرجعي.
وهل ترث المطلقة
بائنا في مرض الموت؟ الظاهر هنا كالنص لا لمكان أزواجكم غير الصادقة على البائنة.
ثم والزوجان في
حقل الميراث هما أعم من الصغيرين والكبيرين والمختلفين ، وكذلك المدخول بها وسواها
، والولد لها أعم من كونه لهما ام لها من غيره ، ذكرا أم أنثى بواسطة أم بغير
واسطة من حل أو حرام وارثا وغير وارث ، فإنما (إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُنَّ وَلَدٌ) في النصف و (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ) في الربع.
ثم (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) كما ولكم حذوا النعل بالنعل طبقا عن طبق ، مهما كانت
الفتاوى والروايات متضاربة حول حرمانهن عن شيء مما
__________________
__________________
ترك ، كما هي
متضاربة في مادة الحرمان ، وهنا الأصل ـ كما في كل مختلف فيه ـ هو القرآن الناطق
بعموم الميراث لهن كما لهم ، وإنه لعموم لا يقبل التخصيص مهما كانت السنة كلمة
واحدة في التخصيص ، فضلا عن انها متفاوتة متهافتة في نفسها ، وذلك أصدق مصاديق
العرض على الكتاب!.
والعلل العليلة في
بعض الروايات لحرمانها ، هي بعينها واردة بحق البعولة ، مما يشي باختلاق عارم في
الروايات الحارمة إياها عن شطر من حقها عظيم ، ولا عبرة باجماعات وشهرات لا يؤيدها
الكتاب ، بل ويخالفها ، فان «ما ترك» عام لم يخصص إلّا بوصية أو دين حسب النص
المكرر في حقل الميراث.
فهنا بالنسبة
لحقها (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) نعلم بيقين أن القرآن بصدد بيان هامة الاستثناءات ، وهي
كلمة واحدة الوصية والدين ، لا والأراضي وأعيان غير المنقولات!.
فلو كان شطر من
التركة مستثنى عما ترك إضافة الى (وَصِيَّةٍ يُوصى بِها
أَوْ
__________________
دَيْنٍ) لكان ذكره أحق منهما وأولى ، فان استثناء هما هو طبيعة
الحال وإن لم يرد في هذا النص ، وتكفيه آيات الوصية والدين.
ثم استثناء حق
ثابت كأصل أحق مما ليس بهذه المثابة حيث الأصل شرعيا وعرفيا أن التركة كلها للوارث
، واستثناء الوصية والدين تنبيه لما علّه ينسى ، فاستثناء العين من ميراث الزوجات
فرض لو كان ، والآية ظاهرة كالصريحة في عدم الاستثناء ، فلا تقبل التقييد بمقيدات
في روايات هي في نفسها متهافتة وفي أدلتها غير صالحة!.
ذلك إضافة الى
الإعتبار واقعيا حسب مختلف السؤل في ارجحية الزوجة بكامل ميراثها من الزوج ، وأن
استثناء الأرض ـ ولا سيما في القرى ـ استثناء للأكثرية الساحقة من حق الميراث ،
وتعليل حرمانهن في روايات انهن اغارب وليس لهن منهم نسب يرثن به وإنما هن دخيلات
عليهم فيرثن من الفرع ولا يرثن من الأصل ولا يدخل عليهم داخل بسببهن ، إنه يعمهن
الى أزواجهن ، ثم ولا تعم حكمة الدخيل كل الزوجات كما لا تعم كل الأزواج و «يفسدن
على أهل المواريث ميراثهن» له سياج آخر غير أصل الحرمان ، كأن تحرم فقط من الأعيان
دون الأثمان ، أو يراقبن برقابة شرعية صارمة حتى لا يفسدن على أهل الميراث ، ولا
يفسدون كذلك على أهل الميراث.
وهنا روايات
إخواننا السنة مطبقة كالبعض من رواياتنا طليقة كنص الكتاب ، فلا موقع لما يعارضها
ويعارض الكتاب من روايات أصحابنا ، ولا موقع ـ إذا ـ للفتاوى الشهيرة بحرمان
الزوجة مما حرمتها.
والقول إن الوصية
والدين لا تقلان استثناء عن غير المنقول ، غير وارد ، حين نمحور «ما ترك» الذي فيه
غير المنقول ، وكان هو الأكثرية الساحقة زمن النزول ، وحتى لو كان بين الوصية
والدين وما ترك من غير المنقول عموم من
وجه فالثاني ـ دون
ريب ـ أكثر.
فهناك مرجحات في
استثناء غير المنقول ـ لو كان ـ ليس في الوصية والدين وهي :
١ الأكثرية فيه
دونهما ـ ٢ انه خلاف القاعدة فليذكر دونهما حسب القاعدة ـ ٣ في عدم ذكره ابتلاء
تضاد الفتاوى ومضادة هؤلاء الذين يثبتون نصيبهن من كل المتروك سنادا الى الضابطة
والى طليق الآية دونهما ـ ٤ وقد ذكرا أربع مرات ولم يذكر ولا مرة واحدة ، أفلا
تكفي هذه الأربع لتجعل «ما ترك» في نصيبهن نصا في الإطلاق ، إضافة الى الاعتبار
عرفيا وعقليا وفي ميزان العدل ، وجملة القول هنا أن كل الأعراف والاعتبارات تساعد
على عدم استثناء غير المنقول مما ترك الأزواج ، فالبنت بين الأبوين تأخذ نصف أخيها
وهو في الحق أكثر مما لأخيها ، فبأحرى أن تأخذ النصف من زوجها لأنها حينذاك أحوج
منها حين كانت بنتا حيث فقدت زوجها المنفق عليها ، والأرملة لا تتزوج في الأكثر ،
بخلاف البعولة فإنهم ركزوا على حياة بزواجهم ، فهم أقل حاجة من الزوجات في تلك
الحالة.
ثم الزوجة تبتلى
أحيانا بشريكات لحد الثلاث فيربع نصيبها النصف فلها ـ إذا ـ بالنسبة لزوجها ثمن
حقه ، فإذا حرمت عن العقار وهي لأقل تقدير نصف ما ترك فلها ـ إذا ـ ١ / ١٦ حقه.
والحكمتان
المرويتان في حرمان الزوجة مما ترك الزوج آتيتان في ذات الولد ، وكذلك في الزوج ،
ثم الزوجة هي التي سببت النسب فكيف لا يحسب لها حساب النسب ، ثم الأولاد كذلك يدخل
بسببهم أزواجهم وزوجاتهم كما يدخل أزواج الأرامل ، فلا نجد هاتين الحكمتين تقبلهما
العقول في أي من الحقول ، فكيف يفتي بمضامين هذه الروايات العليلة في عللها
والمتضادة في نفسها
والمخالفة لنص
القرآن؟! والإجماع لو كان أو الشهرة العظيمة لا يعبأ بهما أمام نص الكتاب.
والقول الفصل أن
عدم النسب وإمكانية أن تتزوج فتدخل على الورثة غريبا ، ليس لهما أية سلبية لميراث
الزوجة عن غير المنقول.
أما النسب فهي
أصله إذ لولاها لم يولد نسب ، فهلا تكون كفروعها وهي أحرى أن تكون العليا ، ثم
وهكذا الزوج ليس نسيبا للزوجة وإنما هو الأصل الآخر للنسب ، والقيل إن حرمان
الزوجة مما حرمت أصلح لها حتى ترغب الى الزواج ، عليل فانها حرمت عن النصف كمبدء
ولو كان هناك حرمان ثان لأدمج في الأول ، دون أن يختص بغير المنقول!.
__________________
وجماع المشاكل في
حرمان الزوجات عما حرمن كالتالية :
ليس عدم نسبتها الى
زوجها بالذي يمنعها عن كل ما ترك فإن :
١ ذلك وارد بحق
زوجها ايضا حيث لم يدخل في نسبها كما لم تدخل هي في نسبه.
٢ وانها كوالدة
مثل الوالد هما السببان بسبب الزوجية والإيلاد بكل نسب وسبب فليكونا الى بعضهما
البعض من الأولاد ، ثم يأتي دور الأولاد والوالدين.
٣ ولو كان السبب
متأخرا عن النسب لم يحكم ذلك بالحرمان عن العقارات والأبنية إلا إذا كانت هي
الأكثر ، ثم الحكمة الثانية ألا يدخل عليهم داخل غريب بسببها ف : ٤ كذلك الأمر في
الزوج و ٥ الأولاد ٦ الوالدان و ٧ هنا حرمان كل الثلاثة عن الأراضي والأبنية ٨ ثم
لا يقتضي دخول الغريب بسبب حرمان النسيب باحتمال الإضرار عليهم.
٩ والإضرار لا
يختص بغير المنقول بل هو في المنقول أسهل ١٠ ثم الاحتمال على أية حال لا يحكم
بالبتّ ١١ ثم ما هو الفرق بين ذات الولد وغيرها في هاتين الحكمتين.
١٢ وما هو الفرق
بين أصل البناية وقيمتها.
١٣ ثم المعتدي يضر
حتى ان لم يدخل عليهم في ملكهم إن كان يريد الإضرار.
١٤ وإن أجرة
البناية المؤجرة كيف يقتسم بين الورثة فهل تحرم الزوجة
حيث القيمة ليست
مؤجرة؟ ثم يدفع نصيبها الى سائر الورثة؟ أم يستثنى بمقدار نصيبها عن الأجرة.
١٥ ثم بالإمكان
دفع إضرار الغريب بإعطاء قيمة الأرض لها دون حرمانها.
١٦ ثم الأخبار
المتعارضة معروضة على الكتاب وهو نص هنا في الإطلاق ، ولا ضرورة هنا ولا إجماع ،
وحتى لو كانا فمطروحان بمخالفة نص القرآن ١٧ ولا مجال لتقديم ما خالف العامة حيث
المحور الأول في الترجيح هو الكتاب.
هذه وما أشبه مما
يجعل الفتوى باستثناء شيء عن حق الزوجة ـ الا الوصية والدين ـ فتوى خالية عن أي
برهان ، بل وبرهان القرآن وسائر البرهان قاطع على بطلانها دون ريب!.
وأما الداخل
بسببها فليس إلا كالداخلة بسببه ، بل وهي أمس دخولا منه فانها هي التي تكون عشيرة
البيت وأهله.
ثم الدخول بالسبب
يعم الزوجين الى الأولاد ، حيث قد يدخل بسبب البنت داخل أو تدخل بسبب الابن داخلة
، وكذلك الأب والأم ، حيث قد يدخل داخل بسببها وتدخل داخلة بسببه فيفسد على
الآخرين.
وهذه الحكمة كما
ترون واردة في إمكانية واقعهما في الوالدين والأولاد كما هي واردة في الأزواج ، فليست
لتختص الزوجات.
فالصحيحة المطلقة
لميراثها صحيحة لموافقتها نص الآية الطليقة ، والروايات الثلاث المعللة بما عللت
هي معلولة بعلتيها ، والمعتبرتان المختصتان طليق ميراثها بذات الولد متعارضتان في
قيمة الرباع وأصلها ، ومعارضتان بتلك
الثلاث ، وكذلك
طليق الآية في مفهوميهما ، وتبقى صحيحة زرارة يتيمة في الميدان تعارضها صحيحة
الفضيل وصريحة الآية.
ومما يرد على
إرثها من قيمة الأبنية دون أعيانها ان استأجرت الأبنية فهل لها منها أجرة؟ ولا
أجرة للقيمة ، أم لا أجرة أصلا ، أو الأجرة لسائر الورثة! ، كل ذلك ممنوع فالفصل
بين العين والقيمة ممنوع.
وجماع المشاكل في
حرمان الزوجات عما حرمن كالتالية :
ليس عدم نسبتها
الى زوجها بالذي يمنعها عن كل ما ترك فإن ١ ذلك وارد في زوجها ايضا و ٢ انها
كوالدة مثل الوالد هما السببان بسبب الزوجية لكل نسب فليكونا أقرب.
وهل يرد على
الزوجين حين لا وارث غيرهما أو الباقي للإمام؟ قضية «الأقربون» في نصوص آيات الإرث
هو الرد وهو المتأيد بروايات ولا تحرم الزوجة عن الرد كالزوج بنفس السند ، وإن الامام
وارث من لا وارث له والزوجة وارثة ، والروايات القائلة أن الباقي يرد على الامام
مردودة بمخالفة الكتاب والسنة القائلة أن الامام وارث من لا وارث له ، والصحيحة.
ثم المستفاد من «أزواجكم»
استمرار الزوجية لما بعد الموت بكل أحكامها
__________________
اللهم إلا ما
يشترط فيه الحياة كالوطئ ، وليس المنع عنه دليل انقطاع الزوجية عن بكرتها ، كما
وهي ممنوعة في حالات عدة والزوجية باقية كما هيه.
والقصد من الدين
هنا ما يعم دين الله وخلقه ، فدين الله هو العبادة المتروكة التي يتطلب الإتيان
بها مالا على أية حال كالزكاة والخمس والحج وكل الواجبات المالية في الأصالة أم
بنذر أو عهد أو يمين.
(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي
الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ
وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) ١٢.
«كلالة» هنا تمييز
عن الإيراث ، إذا فالوارث من الكلالة وهي حالة خاصة من الكلّ : الثقل ، فلا تعني
الوالدين والأولاد ولا الزوجين إذ لا كلّ فيهم في نفقة حتى يكون في ميراث ، فهم ـ إذا
ـ من الطبقة الثانية للإرث إخوة وأخوات كما أن «له أخت أو أخت» و (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) نص فيهم ، ومن الغريب تغرّب الشيخين عما دلت عليه الآية من
الكلالة و «الكلالة ما لم
يكن والد ولا ولد»
حسب الكتاب والسنة
، و (يُورَثُ كَلالَةً) لمحة صارحة
__________________
باختصاص ميراثه
بالكلالة من حيث الطبقة ، ولا ينافيه وجود أحد الزوجين لأنهما شريكان في الطبقات
الثلاث.
أترى (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) تعني ـ فقط ـ واحدا منهما؟ و (فَإِنْ كانُوا
أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) تجمع بينهما! قد تعني (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) مجموعهما الى كل واحد منهما لمكان «أو» وتساوى النصيبين
هنا في الثلث يفرض تساوى الأنصبة في (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) حيث الاختلاف يعم كما الوحدة تطم.
فكيف هنا الفرض هو
التساوي بين الاخوة والأخوات ، وفي آية الكلالة الثانية التناصف : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها
نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً
وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٤ : ١٧٦)؟.
فهذه الآية طليقة
في الإخوة والأخوات ، ولكنها تتقيد بالآية الأخرى فيعلم هنا إجمالا اختلاف النصيب
بين هؤلاء الثلاث ، وآية اولوا الأرحام وآيات الأقربين الثلاث تقدم المنتسب
بالأبوين إذا اجتمع مع المنتسب بأحدهما إطلاقا ، ثم في حالة الانفراد فالنصيب
الأوفر للمنتسب بهما فتعنيه الآية الثانية ، دون المنتسب بأحدهما فتعنيه الآية
الأولى ، وعل في طليق الإخوة في الثانية رجاحة الظهور في المنتسب بهما ، وحتى إذا
لم تكن فطليق الأولى تتقيد بالثانية.
وقولة النسخ غير
واردة إلا بفصل العمل بطليق الأولى وهو غير ثابت بل ولا إطلاق حيث ينافي آيات
الأقربين اللهم إلّا في غير المختلفين انتسابا الى الأبوين أو أحدهما ، ثم لا ريب
أن الثانية غير طليقة بالنسبة لاجتماع الاخوة من الأبوين مع غيرهم لأب أو لأم حيث
الأقرب يمنع الأبعد ، والرواية القائلة بغير
مقالة الآيات
مردودة .
(.. مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَلِيمٌ)
١٢.
__________________
وترى «غير مضار»
تختص ب «وصية» ألا تكون مضرة بحال الورثة كما أو كيفا أو موردا؟ وقضيته أن يأتي
بعد الوصية دون فصل! أو تختص بدين؟ والمضارة في الوصية هي الظاهرة دون دين!.
الظاهر هو الشمول
، أن شرط تنفيذ الوصية والدين ألا يكونا بمضارة ، كمن يوصي بأكثر من ثلث ماله ، أو
يوصي بثلثه لغير الورثة وهم فقراء لا يكفيهم الميراث كله فضلا عما يستثنى ثلثه ،
وهكذا الذي يستدين دونما سماح للاستدانة ، ولكنما الدين ثابتة لا حول عنه ، فكما
كان ثابتا حال حياة المورث ، كذلك بعد مماته ، اللهم إلّا إذا أوصى باستدانة لأمر
غير مشروع فتشملها «غير مضار» أم والدائن عارف بحرمته فإنه ـ إذا ـ متلف لماله.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ١٣.
وقضية الطاعة
الطليقة لله ولرسوله هي التسليم أمام كتاب الله وسنة رسوله ، دونما تلفّت عنهما أو
تفلّت في فتاوى أو أعمال أو عقائد بعيدة عن الكتاب والسنة.
(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ
مُهِينٌ) ١٤.
كهؤلاء الذين
يتخلفون عن حدود الله في كتابه ، وما قرره الرسول في سنته ، ككل هؤلاء الفقهاء
الذين يرفضون نص الكتاب أو ظاهره الى روايات أو شهرات أو إجماعات تخالفهما ، أم
يرفضون السنة القطعية لإجماعات أو شهرات أم سائر النظرات ، أيا كانت مذاهبهم
العقيدية أو الفقهية ، حيث الأصل المدار في كل ما دار أو حار هو الكتاب أصلا
والسنة هامشا.
كلام حول العول
والتعصيب
الكتاب والسنة
متوافقان على ألا عول في الفرائض ولا تعصيب ، فما العول : النقص في الفرائض إلّا
ممن يجهل الحساب ويخطأ في مقادير الحقوق ، وما التعصيب حسب الزيادة دون نص لمن يرث
الزائد إلّا ممن يغلط في الحساب!.
فكيف ينقص الميراث
عن السهام المفروضة أو يزيد عنها عند من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا
في السماء ، ثم يبقى النقص والزيادة كما هما دونما إصلاح حتى يصلحهما الخليفة عمر
ويتابعه فقهاء من إخواننا دونما حجة من كتاب أو سنة إلا فتوى الخليفة؟! ودليل الكتاب وثابت السنة يقولان : «ان
__________________
السهام لا تعول .
وليس العول ـ على
حد زعمهم ـ إلّا في ذوي الفرض مع بعض ، ونظرا إلى ان فروض الفرائض ستة ١ / ١٢ / ١٤
/ ٨ و ٢ / ١٣ / ١٣ / ٦ ، نجد صورة العول منها في اجتماع ١ / ٢ و ١ / ٤ و ١ / ٣
كبنت وزوج وأبوين وفي ٢ / ٣ و ١ / ٣ و ١ / ٤ ، كبنتين وأبوين وزوج ، هذا في الطبقة
الأولى وفي الثانية ١ / ٢ و ١ / ٣ و ١ / ٤ وكأخت وجدين للأبوين وزوج و ٢ / ٣ و ١ /
٣ و ١ / ٤ كأختين وجدين وزوج.
وصور التعصيب بنت
واحدة أو أكثر مع الإخوة ، والأبوان مع عدم الولد ووجود حاجب الإخوة حيث الأم ـ إذا
ـ تأخذ ١ / ٣ والأب ١ / ٦ والباقي إما للأبوين أم للإخوة.
ومثالا للعول إذا
خلف بنتا وزوجا وأبوين فللبنت الواحدة النصف وللزوج الربع وللأبوين الثلث ، فإن
كانت التركة ١٢ كان للبنت ٦ وللزوج ٣ وللأبوين ٤ والمجموع ١٣ فتنقص واحدة هي مادة
العول ، فهل يرد النقص على
__________________
الجميع كما يقولون
تسوية بين المتشاركين في الميراث ، وفي ذلك هدم لكل الفرائض! وهو خلاف التقدير
الثابت لها!.
أم يرد النقص على
ذي فرض واحد وهو هنا البنت والأب فيأخذ صاحب الفرضين نصيبه وهو هنا الزوج والأم
حيث روعي له فرض الاجتماع بعد الوحدة ولم يراع لصاحب الفرض الواحد إلّا صورة
الوحدة ، فليدخل النقص على ذي الفرض الواحد كالآباء والبنات ، وبأحرى الذين لا فرض
لهم كالأبناء فالباقي ـ إذا ـ لذي الفرض الواحد بحساب نصيبه.
وفي مفروض المسألة
يرد النقص على البنت والأب دون كل من الأم والزوجين لأن لهما فرضين.
فالورثة على ثلاثة
أقسام ١ غير ذي الفرض كالأولاد الذكور ٢ ذو الفرض الواحد كالبنت والبنات والأب
والاخوة والأخوات ٣ وذو الفرضين وهم الزوجان والأم ، فإذا اجتمع ذو الفرض الواحد
مع غير ذي الفرض ورد النقص على الثاني كما له الزيادة ، وإذا اجتمع ذو الفرضين مع
ذي الفرض الواحد ورد النقص على الثاني كما له الزيادة ، وإذا اجتمعوا ورد النقص
والزيادة على غير ذي الفرض.
إذا فالنقص
والزيادة واردان على البنت والبنات في صورة اجتماع الزوج والأبوين ، وعلى الأخوات
من الأبوين أو أحدهما في صورة اجتماع الزوج معهن.
ومثالا للعول
اجتماع بنت واحدة مع زوج وأبوين ، فإن كان له / ١٢٠٠٠ ألفا أخذ ذو الفرضين فرضه ،
فيأخذ الزوج / ٣٠٠٠ والأم / ٣٠٠٠ ويقسم / ٧٠٠٠ الباقية بين البنت والأب بنسبة ١ /
٢ و ١ / ٦ نصيبهما وهكذا في كل موارد العول ، وهنا ١ / ٢ للبنت هو ثلاثة أضعاف ١ /
٦ للأب ـ والمجموع ٤ فيقسم / ٧٠٠٠ على الأربعة واحدة وهي / ١٧٥٠ للأب
وثلاثة وهي / ٥٢٥٠
للبنت.
ولا صورة للعول
إلا الجمع بين ١ / ٢ و ١ / ٣ و ١ / ٤ من السهام ثم التعصيب.
وأصل العول من
الميل لكون السهام مائلة على أهليها حيث تنقص ، دون العيلولة وهي العيل ، ولا
الغلبة وهي من عال يعال.
وموارد التعصيب
كبنت واحدة أو أكثر مع الأخوة ، حيث يقولون تأخذ البنت أو البنات النصيب المفروض
النصف أو الثلثين والباقي للإخوة ، مستدلين بالآية : «إن امرء هلك ليس له ولد وله
أخت ..» حيث البنت ليست ولدا ، فقد يرث الأخ والأخت في صورة عدم الابن مهما كان له
بنت!.
ولكن «ولد» يعم
الابن والبنت دون ريب ، فلا مؤنث للولد كولدة ، إنما هو الوليد أيا كان ، ذكرا أو
أنثى.
ولو انحصر الولد
في الابن لكان (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ
لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) تختص الميراث بالإخوة مع وجود البنت ، وكذلك في صورة
اختلاف الجنسين (وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).
ثم (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يعمم الأولاد لهما و (قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٦ : ١٤٠) ظاهرة
في البنات المؤودة أكثر من الأبناء.
وليس سلب كون
البنت ولدا إلّا سلبا جاهليا لا أصل له من كتاب ولا سنة إلا ضده.
ومن ثم كيف يرث
العصبة مع وجود البنت أو البنات والآيات الأربع تورث البنات وتحرم الذين ليسوا في
طبقتهن :
ف (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ)
(وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) و (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) هي من عساكر البراهين على تزييف التعصيب العصيب ، لمكان
الأقربية الطليقة للأولاد ومنهم البنات على أمثال الإخوة والأخوات!.
ثم ترى إذا كان
للبنت الواحدة أو البنات المال كله فرضا وردا فلما ذا فرض لهن النصف أو الثلثان في
صورة الوحدة؟.
الجواب أن وحدتهن
وحدتان ثانيتهما اجتماعهن أو الواحدة مع الأبوين وأحد الزوجين ، فإنها واحدة عن
الأبناء ، ولا تعني (فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ) بعد (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وقبل (وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ـ لا تعني إلا وحدتهن عن الأبناء لا الوحدة الطليقة فقط ،
فإن كانت أو كن مع الأبوين أو أحد الزوجين فالنصف او الثلثان فقط ، وإلّا فنصيب
الأبوين والزوجين مردود الى البنت أو البنات.
إذا فضابطة
الميراث الثابتة بالكتاب والسنة أن لصاحب الفرضين فرضه الأول أو الثاني ، ولصاحب
فرض واحد فرضه ، ولا نقص ـ إذا ـ إلا على صاحب الفرضين ، ولغير صاحب الفرض الباقي
بعد السهام المفروضة ، فلا عول ـ إذا ـ ولا تعصيب حتى يتكلف العول العليل والتعصيب
العصيب والله من وراءهم رقيب!.
كلام حول الإرث
بوجه عام
الإرث أصل ثابت لا
مرد له ـ بمختلف صوره ـ على مر الزمن بين كافة الأقوام قديما وحديثا ، ولا نجد ـ في
الحق ـ أنصبة وسهاما بين كافة الملل والنحل
كما في الإسلام ،
حيث روعي فيها شأن الخلود لشرعة القرآن ، وحوسب فيها كافة الحسابات المتضاربة بين
المورثين والوارثين عاطفيا واقتصاديا ومصلحيّا في كافة الجنبات الحيوية العادلة.
نرى المرأة
المظلومة في حقل الإرث ـ ومعها سائر ضعفاء الوراث ـ روعي حقها في شرعة القرآن أكثر
من الرجل ، رغم ظاهر المضاعفة لرجل ، فإن ارث الرجل هي رأس ماله وصدقة الزوجة
ونفقتها ونفقة الوالدين والأولاد ، ولكن أرث المرأة لا تكليف فيها كأصل ، اللهم
الا هامشيا في بعض جنبات الحياة ، والنتيجة أن نصيب المرأة ـ في الأكثرية الساحقة
ـ أكثر بالمآل من نصيب الرجل.
وقد فرض القرآن
الوصية في الأموال لظروف استثنائية ، رعاية لأحوال الأحوج من الورثة وسواهم من
الأقارب والأغارب ، كما كانت هذه الرعاية مسئولية إسلامية في حياة المورث ، أن
يزيد المحاويج تزويدا للمال على غيرهم ، فليراعهم بعد موته بصالح الوصية (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ) ابتداء بالوالدين والأقربين : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
ولقد تأثرت
القوانين ـ منذ الإسلام ـ في حقل الإرث بما قرره القرآن ، وسنت قسما كبيرا من
فرائض الميراث على ضوء الإسلام ، حينما عرفوا أنها أعدل المسنونات في الميراث على
مر الزمن بمختلف السنن فيه.
وحتى الآن ما وجد
مدخل ومنقصة على هذه السهام الإسلامية إلا قيلات وشطحات نجد الإجابة عنها في ذلك
النظام البارع نفسه دونما حاجة إلى مدافع سواه ، مما يدل على نجاحه وفلاحه دونما
حول عنه ولا شذوذ.
قول فصل حول
الوصية
. هل الوصية عقد
تحتاج الى إيجاب وقبول؟ عدم الدليل على اشتراط القبول مهما ردها الرد أحيانا من
الموصى له ، وطليق الآية في ما صدقت الوصية قبلت ام لم تقبل ، وابتغاء وارث للموصى
له الميت كما في الصحيحة إنها دليل إيقاع مشروط بعدم الرد من الموصى له ، فما لم
ترد الوصية فهي ثابتة سواء أكانت خاصة أم لمجموعة ولو كانت عقدا فكيف يبتغى وارث للموصى له وكيف يكتفى بقبول
الوارث وليس هو طرف الوصية؟.
ولا فرق في عدم
اشتراط القبول واشتراط عدم الرد بين الوصية العهدية والتمليكية ، بل لا ريب أن
العهدية ليست عقدا وإنما الشبهة والخلاف في التمليكية.
__________________
فما صدقت «الوصية»
تمت حسب طليق الآية وصريح أو ظاهر الرواية ، اللهم إلا إذا ردّت.
ولا بد في الوصية
من الإرادة الطليقة بما يبرزها للوصي بحضور عدلين اثنين لأقل تقدير : ف (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ
مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ
الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ
ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ
شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا
اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ
شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ أَدْنى
أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ
بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) (٥ : ١٠٨).
وقد تكفي الإشارة
الصريحة اضطراريا بل وفي حالة الإختيار ما صدقت الوصية ، وبأحرى الكتابة إذا
كانت متأكدة منه دون نسخ لها فإنها وصية مكتوبة كما الملفوظة ، والمشار إليها وصية
ولا دليل على اشتراط اللفظ وان كان أصح ، فهي ـ إذا ـ أصح.
__________________
واركان الوصية
اربعة الموصي والموصى له والموصى اليه والموصى به ، ولا بد للموصي من عدم السفه
مهما كان بالغا فتصح وصية غير البالغ الرشيد إذا كانت في حق فانها وصية بالمعروف تدل على صحتها طليق آية الوصية
بالمعروف.
وهل تصح وصية القاتل
نفسه إذا كانت بعد قتله ولمّا يمت؟ ظاهر اطلاق القرآن : نعم ، وصريح صحيحة انه لا ، والمرجع هو الكتاب فيما لم يقطع بصدوره تقييدا
لإطلاق الكتاب.
بل وقد لا يقبل
ذلك الإطلاق تقييدا حيث القدر المعلوم من (حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ) في آية الوصية هو القاتل نفسه دون من يظن انه يموت ، مهما
كان مشمولا لها حيث تظهر علائم الموت ، فكيف يصح للقاتل نفسه نقض واجب الوصية
للوالدين والأقربين وهو أحوج من غيره في ذلك البر الواجب؟.
__________________
وهل يجوز أن يرجع
عن وصية عهدية او تمليكية ، ام يفصّل بينهما فلا يجوز في التمليكية ولا سيما إذا
قبلها الموصى له لأنه خلاف العقد الواجب الوفاء به ، أم والإيقاع الذي هو لصالح
الموصى له ف (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) و (أَوْفُوا بِالْعَهْدِ) وما أشبه تفرض عدم الرجوع اللهم إلّا إذا كان إلى أصلح
منها ، وقد تحمل عليه الروايات المجوزة أو يقال : إن من طبع الوصية أن يملكها الموصي إيجابا وسلبا
كالوكالة.
فهي من القرارات
الجائزة ، فلا تعارض بين آيات الوفاء بالعقود والعهود والروايات المجوزة لحلها أو
تبديلها.
فالأشبه جواز
تبديل الوصية ، لا سيما وان محط آية التبديل المنددة به هو غير الموصي نفسه.
ولكن هذا التبديل
إذا كان جنفا او إثما ام كان نقصا او نقضا للوصية الصالحة للوالدين والأقربين لا
يجوز.
فتبديل الوصية
مبدئيا يجوز ولكنه في أمثال هذه الموارد المحظورة بحجة الكتاب او السنة لا يجوز.
واما الموصى له
فأحراه الوالدان والأقربون كما في آية الوصية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فانها لا تحصر الوصية فيهم و (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ) طليقة تشمل صالح الوصية التي
__________________
ليست جنفا أو إثما
، وأحراها «الوصية للوارث» وما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «لا وصية لوارث»
محمول على الوصية للوارث بالإرث حيث يرثه دون وصية ، ام هي
مطروحة بمخالفة القرآن.
وهل تصح الوصية
للحمل؟ ظاهر إطلاقها نعم مهما كان تحقيقها بعد موت المورث وولادة الحمل.
واطلاق الوصية
للأولاد هل يقتضي التسوية لمكان الإطلاق ، ام (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لإطلاق الضابطة مثلث الميراث والوصية والتقسيم حال الحياة
، والأشبه هو الثاني لإطلاق الآية حيث تقيد إطلاق الوصية ، فحتى إن اوصي بخلاف (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ردت إلى الضابطة ، اللهم إلا أن يسوي بين الذكر والأنثى
لرجاحة شرعية ، كما وقررت الوصية لسد الفراغات الاستثنائية.
وهل يشترط في
الوصي العدالة لأنها ولاية ربما هي على الصغار كما على سائر مواد الوصية ، ولا
يؤتمن الخائن؟ أم لا تشترط لعدم الدليل ، والولاية لا تشترط فيها العدالة كما في
ولاية الأب والجد ، والأمانة أعم من العدالة ، وعدم وجود نص على اشتراط العدالة في
الوصي هو كالنص على عدم اشتراطها فيه حيث المسألة مما تعم بها البلوى فالواجب ورود
نصوص مبيّنة لشرطها لو كانت.
نعم إن اوصى شرط
العدالة ولم يكن عادلا ، أو فسق ، سقط عن الوصاية قضية الشرط ، أجل تشترط العدالة
في شاهدي الوصية بنص الآية ، وحتى إذا لم يكونا منكم فآخران من غيركم.
وهل يجوز رد
الوصية؟ ومتى؟ قد يقال نعم بصورة طليقة حيث الموصي
__________________
لا يملك رضى الوصي
، وتسلط الغير على المكلف خلاف الأصل اللهم إلّا بدليل.
ولكنه يقال : لا ،
إلا ان يخبر الموصي برده وله مجال الوصية الى غيره كما في صحاح عدة وان لم تبلغه الوصية إلّا بعد موت الموصي لم يكن له ردها
لأن مجال الوصية فائت ككل ، اللهم إلّا إذا لم يستطع تطبيق الوصية فيوكل غيره أم
لا يستطيع فيها أمرا حتى التوكيل.
وتصح وصية الموصي
فيما اوصي به شرط الإذن فيها وإلا فلا تصح لا سيما إذا حصر الوصية في شخصه.
واما الموصى به
تمليكيا او عهديا فالمفروض حلّه وعدم تجاوزه عن الثلث وان يملكه الموصي عند تنفيذ الوصية وان لم يملكه حين
الوصية كأن يوصي بثمر البستان لردح من الزمن ، فكما يجوز بيع الثمر سلفا كذلك
وباحرى الوصية به.
__________________
وتجوز الوصية
بالزائد عن الثلث بإمضاء الورثة دون الصغار.
والواجب المالي
يخرج من أصل التركة أوصى به أم لم يوص ، وسائر الواجب إن اوصى به فهو من الثلث وإن
لم يوص به كالصلاة الفائتة والصوم وما أشبههما فقد يقال إنه يخرج من الأصل لأنه
دين مهما لم يكن واجبا ماليا زمن حياته ، ولكنه انتقل بموته الى واجب مالي.
ذلك ، فان «او دين»
طليقة تشمل كل دين ، مالي صرف كسائر الديون وكالحقوق الواجبة ، ام مالي بدني كالحج
، ام بدني حال الحياة ومالي بعده كالصوم والصلاة ، وكذلك الواجبات المالية الحكمية
كواجب الإنفاق على أهله وواجب الرزق على من حضر القسمة ، إذا فكل الواجبات التي
تتطلب المال بعد الموت هي مشمولة ل «دين» كما الوصية تشمل صالح الوصية ككل.
هذا! ولكن «أو دين»
إنما تشمل الدين المالي قبل الموت ، لا الذي ينتقل الى المالي ولم يكن قبله إلا
دينا عمليا ، فلا يخرج مما ترك إلا وصية بمال او دين مالي مهما كان ماليا صرفا او
الذي يستلزم المال ، او الواجب المالي كالانفاقات الواجبة معينة وسواها.
ذلك ولكن «او دين»
تشمل بإطلاقها كل ما يصدق عليه انه دين ، سواء تحول بعد الموت بدين ام كان قبله ،
كما هو سواء أكان دينا بشريا ام إلهيا ، ومثاله دية الدم حيث لم تكن مما ترك
فأصبحت بالموت مما ترك ، وعل مثل الصلاة والصوم أحرى ـ إذا ـ ان يدخل في نطاق «او
دين».
فكل الواجبات التي
تتطلب بعد الموت مالا هي داخلة في «دين» مهما لم تكن من الواجبات المالية قبل
الموت ، ولا تدل «او دين» إلا على الدين المالي ، سواء ا كان ماليا قبل الموت ام
انتقل بالموت الى المالي حيث يتطلب الأجر.
واما «غير مضار»
فهي حال للمورث ألا يضار بوصيته او دينه الورثة ،
والمضارة في
الوصية معلومة ، وهي في الدين بين محتملات عدة ، ومنها ـ الذي قد يستثنى
من واجب الأداء ـ الدين في محرم والدائن عارف بذلك ، والإقرار بدين وهو متهم في
إقراره ، فقد يخرج بتلك المضارة عن «دين» واما سائر الدين فهي مشمولة ل «دين» قضية
استغراق الإطلاق.
صحيح ان استثناء «او
دين» في نطاق الميراث بشيء بكونه دينا ماليا ولكنه لا يقتضي كونه ماليا قبل الموت
، كما لم يقتض «ما ترك» كون المال واقعيا قبل الموت كدية الدم ، بل والذي يتحول
الى مالي بالموت كما تحول الدم الى المال بعده ، وهذا ليس من القياس وإنما هو
تقريب سلبا لاستغراب كون هذا الواجب داخلا في «دين».
هذا كله! ولكن في
تحول مثل الصلاة والصوم من غير المالي اصليا الى دين مالي نقد واضح فاصح ، إذ لا
يتحول الدين غير المالي ماليا إلا إذا وجب الاستيجار وهو اوّل الكلام.
إذا فتبقى هذه
الواجبات ديونا على عواتق تاركيها ، فلا تستثنى لأنها ليست ديونا مالية لا قبل
الموت ولا بعده إلا إذا اوصى بها فتنقلب بها مالية.
و «او دين» في حقل
الميراث لا تشمل الديون غير المالية في حد ذواتها.
ثم وتارك الصلاة
والصوم دون عذر مضار في دينه فلا يجب الاستيجار له دون وصية ، تأمل.
ذلك! ولا اشارة في
الكتاب والسنة على وجوب قضاء أمثال هذه الواجبات غير المالية ، وشمول «او دين»
ظاهر السلب ام غير ظاهر الإيجاب
__________________
وهذا كاف في عدم
التأكد من دليل يفرض أداء أمثال هذه الديون.
فالأشبه عدم
الوجوب فيها اللهم إلا بوصية غير زائدة عن الثلث.
ولو كانت مثل
الصلاة والصوم مشمولة ل «او دين» لم يكن مجال للروايات القائلة بوجوبها على ولي
الميت الأكبر ، تأمل.
ذلك ، ولان «او
دين» ناظرة إلى ما بعد الموت فقد تشمل دين الصلاة والصوم مهما تحولتا الى دين مالي
بعد الموت كما يستأجر شخصا لعمل ما شرط ان يستحق الأجرة بعد العمل فصادف موته قبل
العمل فانه دين لما بعد الموت وتشمله «او دين».
فالأحوط الاستيجار
لامثال هذه الديون غير المالية قبل الموت حيث لا تتجاوز عن الثلث ، وان كان الأقوى
عدم وجوبه.
ومن الدين المضار
الدين الذي يدعيه او يوصي به مضارة للوارث ، فلا يصغى إلى اقرار المضار ولا وصيته
المضارة .
فلا تمضي وصية ولا
يمضي إقرار فيها مضارة ام هو متهم ، لأنه إقرار في حق الغير ، حيث التركة هي حق
الورثة.
والدين غير مضار
هو الإقرار بدين غير ثابت ، ام ثابت في غير حق
__________________
والدائن عارف بذلك
، وتخيل التعارض بين «غير مضار» وبين وجوب أداء الدين مردود بان الدائن هدر ماله
حين أقرضه لمن يعلم انه مضار في ذلك فلا يمضي دينه ، واما التعارض بينه وبين واجب
الأداء فيما لا يعلم الدائن فلتقدم أدلة الدين.
فغير مضار عام من
وجه بالنسبة للدين وفي مورد الاجتماع تقدم أدلة الدين لأنه حق ثابت لا يسقط بتقصير
المديون ، وعلى الورثة ان يمنعوا عن هكذا دين حتى لا تكون مضارة في البين.
احكام الحبوة :
الحبوة هي
اختصاصات للميت كثياب بدنه وخاتمه وسيفه ومصحفه ، وهي ـ حسب مختلف الأخبار في
عديدها ـ للولد الأكبر إن كان ويقضي عنه ما تركه من صلاة او صيام.
او لا يصح تقييد
آيات الميراث بالحبوة فان «ما ترك» تشملها كما شملت ما استثنوه عن ميراث الزوجات ،
ولا سيما إذا لم يملك إلا الحبوة أم هي اكثر ما يملكه وهناك ضعاف وصغار.
وقد اختلفت
الأخبار على ضعفها في أنفسها في مقادير الحبوة بين «سيفه ومصحفه وخاتمه ودرعه»
ام هي مع كتبه
ورحله ورحلته وكسوته إلا درعه ام سيفه وسلاحه ام السيف والرحل والثياب ثياب جلده
__________________
ام لا تختص الحبوة
بالأكبر .
فهي ـ إذا ـ بين ٢
و ٣ و ٤ و ٧ ، مما قد يدل على رجاحة الحبوة للولد الأكبر إن يرضى بها الورثة ، أم
تتساقط هذه الروايات في أنفسها إضافة الى مخالفة الكتاب.
وقد تكون الحبوة ـ
ان كانت ـ بديلة عما فات عنه من صلاة وصيام ، فلا حبوة ان لم تكن عليه فائتة ، وهي
له إن كانت عليه فائتة.
وهل يجب على الولد
الأكبر قضاء الصلاة والصوم الفائتان عن الميت؟ النصوص الدالة على الوجوب خالية عن
الولد الأكبر اللهم إلّا اكبر ولييه
__________________
وهو أعم من ولده
وسائر ورثته الذكور ، وبعض النصوص مصرحة بعدم الوجوب .
وهل تستفاد فرائض
الجدود ، ثم الأعمام والعمات والأخوال والخالات من آيات الميراث؟ الظاهر نعم ، فان
كلا من الجد والجدة يأخذ نصيب الأب والأم ، وللاخوة نصيبهم المفروض في نص القرآن ،
ولكل من ولد الابن والبنت نصيبه للذكر مثل حظ الأنثيين ، وللأعمام والعمات نصيب
الآباء وللأخوال والخالات نصيب الأمهات للذكر مثل حظ الأنثيين ففي ذكر انصبة
الطبقة الاولى وقسم من الثانية ذكر لكل الأنصبة حيث إن كل لاحق يأخذ نصيب سابقه ،
مع رعاية الأقرب إلى الميت فالأقرب.
فأولاد الابن
يأخذون نصيبه وإن كان فيهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، وكذلك أولاد البنت ، ولا نجد
نقضا لهذه القاعدة إلّا في الأبوين فقد تزيد الأم على الأب وقد يزيد الأب على الأم
وقد يتساويان.
ثم التسوية بين
مختلف الاخوة من الأب او من الأم ، حسب آية الكلالة الأولى ، ثم للذكر مثل حظ
الأنثيين لمختلف الأخوة من الأبوين.
وكضابطة عامة في
حقل الميراث «إن كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجبر به إلا ان يكون وارث اقرب منه
الى الميت فيحجبه» .
__________________
وحصيلة البحث في
حقل الميراث أن الأقربية الرحمية تحقق الأحقية في أصل الميراث ، ثم للذكر مثل حظ
الأنثيين إلا في الاخوة من أب أو أم تماما والأبوين أحيانا ، ثم لكل طبقة درجات ،
فالأولى هي الأبوان والأولاد ، وأولاد الأولاد يقومون مقام آباءهم إذا لم يبق أحد
من الأولاد ، والثانية الأجداد والجدات وان علوا في آباءهم ، والإخوة والأخوات وان
نزلوا في أولادهم ، والثالثة الأعمام والعمات والأخوال والخالات ، وكل يأخذ نصيب
من يتقرب به ، وإذا اجتمع المتقرب بالأبوين مع المتقرب بأحدهما فلا يرث الثاني مع
الأول ، ويرث كل من الثاني مع زميله.
وضابطة الأقربية
الرحمية ثابتة في كل طبقات الميراث ، فلا يرث الدرجة الثانية في الطبقة الاولى مع
وجود الدرجة الاولى ، كولد الولد مع الوالدين ، كما لا يرث الجدان مع الأولاد ، ثم
يرث الإخوة مع الجدود ، ولا يرث جد الجد مع الأخ كما لا يرث ولد الأخ مع الجد ،
ولا يرث الإخوة من احد الأبوين مع الإخوة من الأبوين ، ثم في الطبقة الثالثة وهم
الأعمام والعمات والأخوال والخالات ، لا يرث أحدهم من أحد العمودين مع أحدهم من
العمودين ، فأخو أبيك من أحد أبويه لا يرث مع أخي أبيك من أبويه وهكذا الأمر ، ولا
تستثنى هذه الضابطة في حقل الميراث أبدا مهما توفرت الروايات لنقضها او نقصها فضلا
عن الفتاوى.
__________________
وهل يرث ولد الولد
مع وجود الوالدين او أحدهما؟ (أُولُوا الْأَرْحامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ) يحكم بحرمان ولد الولد مع وجودهما او أحدهما ، وكما (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...) تحكم بان الأقرب يمنع الأبعد ، ومتضارب الحديث معروض على
القرآن فيرد ما يخالفه
ففي الأقربية
الرحمية الأصل هو الاتصال إلى مبدء صلبا ورحما أو أحدهما او اتصالهما إليهما او
أحدهما على سواء.
__________________
وانما خرج الزوجان
عن هذه الضابطة بنص القرآن ، فلا يقدم أحدهما على قريب في الرحم ام بعيد.
وقاعدة الرد بعد
الفريضة ثابتة للوارث أيا كان بسبب او نسب ، فالأقرب كما يأخذ نصيبه المفروض كذلك
يأخذ الباقي ان لم يكن وارث آخر.
وليس للزوجين رد
ما دام هناك وارث من النسب ، وانما الرد لهما فيما لا وارث من النسب ، مهما كان
الوارث ذا فرضين كما الزوجين.
وإذا ورث اثنان
لكلّ فرض غير الزوجين فالرد مقسم بينهما بحساب نصيبه ، وكل ذلك قضية الأولوية
والأقربية والأحقية في الميراث ، المستفادة كضابطة ثابتة من القرآن.
(وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
__________________
الْمَوْتُ
أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما
إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً
(١٦)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠)
وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً)
(٢١)
شوط من أشواط
التربية الإسلامية في هذه السورة بعد ما مضت ، تنظيما لحياة المسلم على النظافة
والنزاهة من رواسب الفحشاء من الجاهلية الجهلاء ، وتأديبا للعناصر الملوثة التي
تقارفها من الرجال والنساء ، مع فتح السبيل حاضرا ومستقبلا للخروج عن تبعة الفحشاء
، وعضلا للنساء عن بعض حقوقهن إن أتين بالفحشاء ، وإيفاءها لهن إن لم يأتين.
والآيتان الأوليان
هما اولى ما نزلت في حدّ الفاحشة زنا ولواطا ومساحقة ، فإن كلا فاحشة واللواط أفحش
الفاحشة ، مهما اختصت فاحشة المساحقة بنص السنة ، فأما الزنا : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (١٧ : ٣٢) ثم
اللواط : (وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٢٧ : ٥٤).
ذلك وإن كانت
الفاحشة تعم هذه الثلاث إلى سائر المعاصي الفاحشة حد العصيان أو الفاحشة إلى غير
العاصي ، ولكنها هنا بمناسبة الموضوع نساء ورجالا ردف بعض هي الفاحشة الجنسية في
ثالوثها النجسة النحسة ، دون عموم الفاحشة ولا خصوص الزنا إذ لم يأت باسمها.
ثم «الفاحشة» دون «فاحشة»
مما تزيدها بيانا لخاصتها دون عامتها ، واختصاصها بفاحشة الزنا غير وارد مهما كانت
هي السابقة الى بعض الخواطر ، ولكنها في (اللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) ليست لتشمل اللواط ـ مهما عني من «يأتيانهما» استخداما
لمرجعه ـ حيث المرأة لا تلوط ولا يلاط بها ، فإن إتيانها
من دبرها لغير
حليلها زنا كإتيانها من قبلها.
فلا تعني إتيانهن
الفاحشة إلا الزنا والمساحقة ، والرواية المفسرة لها بالزنا تعني أبرز مصاديقها فيهن.
ولعل «يأتين» دون «أتين»
تلمح الى دائب الإتيان ، دون مرة يتيمة تابت عنها أم لم تتب ، وقد تؤيده (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) دون «حتى يتبن».
ولكن لا نرى فرقا
أدبيا بين الصيغتين إلا بفارق المضي والاستقبال ، والثاني أوسع نطاقا حيث المضي
يختص الحكم بنفسه ، ثم وهذا الحد نافذ منذ نزول الآية ولا يشمل ماضي الفاحشة.
ثم (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ) لامحة الى أصل الفاحشة دون خصوص المستمرة منها ، و (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) شاملة لسبيل التوبة كما ذكرت دون فصل.
ثم من المستبعد
جدا في التنظيم التربوي الإسلامي ألا تقرر مضايقة على الزانية إلا إذا تكررت منها
الفاحشة.
ومن ثم «واللذان
يأتيانها» موضوعا ل «آذوهما» ليست لتعني استمرارية إتيانها ، حيث النهي عن المنكر
لا يتوقف نظرة تكرر المنكر ، والإيذاء هو المرحلة الأخيرة من النهي عن المنكر أيا
كان.
و «من نساءكم» دون
أزواجكم تعم النساء المسلمات ككل ، سواء أزواجكم وسواهن ممن يأتين الفاحشة وكما
تعم الأبكار الى الثيبات ، المدخول بهن وغيرهن ، الدائمات والمنقطعات ، دون اختصاص
بذوات الأزواج ولا
__________________
غيرهن ، فالحد لهن
ـ ككل ـ (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ) وحين تعني «نساءكم» في آيات اخرى أزواجكم بقرائن قاطعة غير موجودة هنا ، لم يصح حملها على أزواجكم
هنا دون قرينة ، وقد عنيت البنات منهن أحيانا أم وسواهن مع الأزواج أو سواهن.
وقد تعم «نساءكم»
غير المسلمات أيضا فإن اختصاص «كم» بالمسلمين الذكور ليس ليختص النساء المضافة
إليهم بالمسلمات ، فقد تعمهن الى الكتابيات كما سمحت بنكاحهن آية المائدة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ).
والحد هنا كلمة
واحدة بالنسبة لهن (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ) بعد ثبوت الفاحشة بالبينة ، فلا ملاعنة ـ إذا ـ بالنسبة
للأزواج هنا ولا مائة جلدة في أصل الزنا حتى (يَجْعَلَ اللهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً) ومن السبيل حدا المذكور في آية النور وكما قررت فيها
الملاعنة بالنسبة للأزواج ، مما يؤكد نزول النور بعد النساء لمكان ذلك النسخ وكما يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله «لا
حبس بعد سورة النساء» .
__________________
وترى الإمساك في
البيوت سياجا على الفاحشة يختص ـ فقط ـ بثبوت الفاحشة بشهادة أربعة منكم ، وأما
الزوج الشاهد لفاحشة زوجه غير القادر على استشهاد الشهود ، عليه أن يصبر على
فاحشتها وليس له إمساكها؟.
لأن إمساك الزوجة
في البيت إعلان صارخ بثبوت الفاحشة وهي غير ثابتة ، فهنا طريقة أخرى للسياج عليها
كالرقابة عليها داخلة وخارجة ، وإيذاءها ممن يشهد أنها أتت الفاحشة بعد سائر نهيها
، إن كان الناهي هو الزوج أم غيره.
و «كم» في «نساءكم»
تعني مع الأزواج وسائر الأولياء حكام الشرع وسائر المسلمين الذين يشهدون عملية
الفاحشة ، فلا تكفي المشاهدة ـ فقط ـ في الحد المحدّد على النساء : «فأمسكوهن» بل
المفروض ـ إذا ـ استشهاد (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) حتى وإن كان شاهد الفاحشة حاكما شرعيا.
فكما لا يكفي
العلم بالفاحشة لإثبات الحد لغير الحاكم الشرعي ، كذلك الحاكم نفسه حيث الخطاب
يشمله كما يشملهم ، بل هو أحرى بشموله له لأنه من مدراء الشرع والمخاطبين
المسؤولين الخصوص بين عامة المسلمين في السياسات الإسلامية كما في سواها.
ومما يشهد لشمول «نساءكم»
غير أزواجكم ، ان الاستشهاد على الأزواج ليس بميسور إلّا نزرا قليلا ، ثم ولا يختص
الحد بهن دون سواهن من النساء ولئن اختص هنا بهن فليس الجلد سبيلا موعودة لهن فإنه
الرجم غير المذكور في القرآن وهو سبيل عليهن لا لهن ، وليس ليختص السبيل الموعود
هنا بالتوبة فإنها مذكورة في تالية الآية ، اللهم إلّا ان يعنى ضمن المعني من «سبيلا».
__________________
ذلك ، وأما إذا
عمت «نساءكم» غير الأزواج فسبيلا قد تعم مثلث السبيل مهما كان البعض عليهن كالرجم
، ف «لهن» تغليب للأكثر مصداقا على الأقل.
ذلك ، ويأتين هنا
ويأتيان في التالية يخص الحد إيذاء وسواه بحالة الإختيار في عملية الفاحشة ، فالذي
يؤتى رجلا كان أو امرأة إجبارا أم إكراها ، ليس عليه أي حد أو إيذاء حيث النص هنا
يخص حالة الإختيار وكما في غيرها (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٤ : ٣٣).
هذا ، وقد لا تشمل
«يأتين» مورد التوافق على الفحشاء دون إرادة مستقلة ، ولكنه إتيان إذ لا يختص
بمورد الاستقلال ، مهما اختلفت الفحشاء عصيانا وإيذاء حسب اختلاف الفاعليات في
تحقيقها قضية العدل في القضية.
فما صدق (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) ففيه حكمه ، وإن كان دور الإختيار فيه ضئيلا قليلا حيث
المستفاد من «يأتين» هو أصل الإختيار دون تمامه وكماله.
ثم فليستشهد
المدعي إتيان الفاحشة ـ أيا كان ـ (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) رجالا لمكان «أربعة» ومسلمين لمكان «منكم» فلا تكفي شهادة
النساء منضمات فضلا عن المنفردات ، كما لا تكفي شهادة غير المسلمين.
ثم و (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) لا تقبل أية توسعة أو تضييق في عدد الشهود وجنسهم وإسلامهم
، فقد ذكرت امرأتان بدلا عن رجل في (شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ) في حقل الدين ، وهنا ـ فقط ـ (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) دون أي بديل.
والأولوية القطعية
في الحفاظ على العفاف بالنسبة للأموال دليل ألّا بديل عن (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وكما لا بديل عن العدلين في الطلاق : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ
مِنْكُمْ) (٦٥ : ٢) ، اللهم
إلا أن تنسخ «أربعة» توسعة أو تضييقا ، ولا نسخ فيما نعرف ، وليست السنة بمستأهلة
لنسخ القرآن على أية حال.
والقول الفصل هنا
أن (يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ) إنما تأتي في واقع الفاحشة الثابتة ، و (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ) ليست إلا فيما لم تحضر الشهود عند الحاكم الشرعي ، ولا
تعني إلا إذا كانت هناك شهود في علم المدعي ثبوت الفاحشة ، مهما كان هو منهم ،
وكذلك حين يرى الفاحشة بمرأى من الناس فعليه أن يستشهد آخرين حتى تكمل الشهادة ،
فلا تعني ـ فاستشهدوا فيما عنت ـ اختلاق شهود ، وإنما شهود كانوا حاضرين ، أم
وحاضرين لم يشهدوا فيحملهم على تحمل الشهادة الواجبة كما يتحملها هو.
والذي يعلم قد
يعلم دون شهادته نفسه أو بشهادته نفسه ، وهما معنيان في حقل (اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) سواء أكانا من الحكام الشرعيين أم سواهم فعليهم في ظرف
العلم ـ أيا كان ـ استشهاد أربعة رجال ، ولا استشهاد ـ بطبيعة الحال ـ إلا فيما
يعلم المدعي ان هناك شهودا.
فليس لمن لا يعلم
الفاحشة استشهاد ولا ادعاء ، ولا لمن يعلم الفاحشة ولا يعلم أن هناك شهودا أن
يستشهد فان ذلك اما اختلاق للشهود ام تجسّس عمن يحتمل انهم شهود.
فحين يتبين لمسلم
ـ حاكما وسواه ـ أن فلانة أتت بالفاحشة وان هناك شهودا بشرائطها ، فإن كان هو من
الشهود فليكمل بثلاثة آخرين ، وإلّا فأربعة كاملة دونه ، و (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) ليس إلا اعتبارا باحتمال أن العالم بالفاحشة ليس من الشهود
، ف «أربعة» تعمه والذي هو من الشهود.
ولأن تلقي الشهادة
في الفاحشة واجبة على من يتمكن منه ، لغرض إلقاء الشهادة عند الحاكم الشرعي حفاظا
على العفاف الجماهيري بين المسلمين وسياجا
عن هذه الشذوذات
الجنسية الجاهرة ، فاستشهاد من يعلم الفاحشة شاهدا وسواه واجب عليه كما عليه
استشهاد الحضور في عملية الفاحشة ولمّا يشهدوا ، فعلى المستشهد بهم الحضور لأداء
الشهادة ، فإن واجب الاستشهاد على العالم بالفاحشة يقتضي واجب القبول من الشهداء
وإلّا لكان تكليفا بما لا يتمكن من تحقيقه لو لم يجب قبول الشهادة من المستشهد
بهم.
وكيف لا يجب قبول
الشهادة في الفاحشة وهو واجب في الدين (وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢ : ٢٨٢) وواجب
في كافة الشهادات (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) (٢ : ١٤٠).
وترى (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) تعم المساحقة الى الزنا ، ولزام الشهادة في المساحقة أن
تكون من النساء أنفسهن؟.
إن كل شهادة تناسب
الفاحشة المشهود عليها ، ففي اللواط والزنا ليست إلا (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وأما المساحقة فلا أقل من قبول شهادة النساء ، ولا بأس أن
تقيد السنة الشهادة في فاحشة المساحقة ، لا سيما وانها أخفي مصاديق الفاحشة.
ولكن لم تثبت في
السنة نوعية الشهادة للمساحقة ، فالمرجع هو طليق الآية.
إذا فلا تثبت مثلث
الفاحشة إلّا بأربعة منكم ، وتلقي فاحشة المساحقة كما الزنا لا ينافي شهادة الرجال
، وخوض الرجال في أمثال هذه الميادين أبعد عن الكذب وأقرب الى العفاف.
ولولا نص القرآن
في انضمام شهادة امرأتين برجل في الدين لكان الأصل
فيه ايضا شهادة
الرجال ، فلا تقبل شهادة النساء إلا فيما لا يعلم إلا من قبلهن كالعذرة والحمل
والطهارة وسواها.
ذلك! إضافة الى أن
تحمّل الشهادة في الفاحشة للنساء هو نفسه قد يعد من الفاحشة ـ اللهم إلا في
المساحقة ـ فلا تقبل شهادة النساء في الزنا واللواط.
وهل تشترط العدالة
في «أربعة» كما هي مشروطة في شاهدي الطلاق؟ أم ـ ولأقل تقدير ـ الوثاقة كما في شاهدي الدّين (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ)؟.
(أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) تشترط فقط الإسلام دون عدالة ـ أم ـ ولا وثاقة! ولكن كيف
تصح شهادة الفساق على الفاحشة وهذه الشهادة فاحشة لا تثبت بها فاحشة.
(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما
فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٤٩ : ٦) ـ وقد
نزلت بشأن الشاهد الفاسق في حقل الفاحشة ـ! إنها تخصص (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) بمن لم يثبت فسقه ، ثم «فتبينوا» تثبت بصورة عامة شرط
الوثاقة وهي أعم من العدالة ، فلتكن (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) موثوقا بهم في حقل الشهادة مهما لم يكونوا من العدول ،
والاكتفاء بالوثاقة في حقل الشهادة على الفاحشة هي طبيعة الحال ، إذ لو شرطت
العدالة لاستحالت تلك الشهادة ، وتلقيّها ليس إلا أمرا عابرا للعابرين على محضر
الفاحشة ، فإن عبور العدول على الفاحشة البينة قلة وإن عبروا فتلقيهم قلة لأنه ليس
واجبا عينيا وللعادل التقي أن يتحذر عنه ما لم يفرض عليه عينيا ، ثم ونفس هذه
الفاحشة قلة قليلة ، فلا تثبت ـ إذا ـ فاحشة بهذه المضايقة في الشهود أن يكونوا
عدولا ، فإنما يكتفى بوثاقتهم ، أو عدم تبين الفسق فيهم.
فعند ثبوت الفاحشة
عندكم (فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) لإجراء حدود الله عليهن ، او الشهود الأخر ثلاثة إن كان
الرامي من الشاهدين ، وإلا
فأربعة إن لم يكن
وإنما علم من طرق أخرى.
(فَإِنْ شَهِدُوا
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) بيوتهن أو بيوت أزواجهن أو أهليهن ، فالممسك لهن هو البيت
الأنسب الأحق لهن ، الأحفظ لعفافهن والأضبط عن تفلتهن.
والمأمور بالإمساك
ككل هو الحاكم الشرعي مهما كان هو المستشهد أم سواه ، أم هو الشاهد أمّن سواه ،
كما أنه المشهود عنده إذا لم يكن هو شاهدا من الأربعة ، ثم المنفذ لذلك الإمساك هم
الأزواج والأهلون ، ام والرقابة عليهن من الحكام.
وذلك الإمساك لهن
سياج صارم لا مرد له ، حيث التعرض للفاحشة في قبيل النساء لا مجال له عاديا إلّا
الخروج عن بيوتهن ، فأسلم السبل وأسبلها لصدهن عن إتيان الفاحشة ـ قبل سائر السبل
ـ هو الإمساك في البيوت ، نفيا عن مخالطتهن بالمجتمع حفاظا عليها وعليهم وبالتالي
سلبا عن زواجهن إن لم يكن لهن أزواج ، فتركا ـ إذا ـ لكل النشاطات التي تستلزم
الخروج عن البيوت.
وأما الرجال فليس
إمساكهم في البيوت أو السجون سبيلا لهم صالحة لإمساكهم عن الفاحشة حيث الحياة
المعيشية لا تصلح إلا بخروج الرجال ، فلا بد لهم من سبيل أخرى كالإيذاء المذكور في
الآية التالية.
ذلك! وفي تحرير
الفاحشات في المجتمع الإسلامي الطاهر تغرير للمحصنات بشذوذاتهن جنسيا ، وفسح لمجال
الفحشاء للرجال ، اللهم إلّا بسبيل أخرى هي سياج آخر عن ذلك الشذوذ.
إذا (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) حتى متى؟ (حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) وتوفي الموت هو أخذه إياهن عن أصل الحياة ، فلا يعني
التوفي الموت كما يعنيه الموت ،
إنما هو الأخذ ،
فقد يتوفى النوم (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٣٩ : ٤٠) وأخرى
يتوفى الحياة فوق الأرضية عن الحياة الأرضية ك (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرافِعُكَ إِلَيَّ) وثالثة الموت حيث يأخذ الحي عن أصل الحياة.
(أَوْ يَجْعَلَ اللهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً) هي لهن أسهل ، ولكرامتهن أجمل ، ولصدهن عن الفاحشة أكمل ،
فلا تعني ـ إذا ـ سبيلا عليهن أعضل وعذابا كالرجم أشكل.
فهذه التلحيقة
تبشيرة لهن بسبيل أخرى مهما كانت وحيدة أو عديدة ، فمنها الحد المقرر في النور لهن
والمساحقات وللزانين : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ..) فإنه ينسخ حد إمساكهن في البيوت كما ينسخ طليق الإيذاء
بالنسبة للزانين ، اللهم إلّا من لم تثبت عليه الفاحشة ، فالإيذاء لزامه وهو طبعا
دون الحد ، فهو القدر الذي ينتهي به عامل الفحشاء عن الفاحشة.
ومنها توبتهن عن
الفاحشة قبل الإمساك في البيوت أم ضمنه (فَإِنْ تابا
وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) إمساكا وإيذاء (إِنَّ اللهَ كانَ
تَوَّاباً رَحِيماً) ولكن التوبة مكفرة كضابطة حسب كل آيات التوبة منذ بداية
العهد المكي حتى آخر العهد المدني ، إذا فقد لا تعنى التوبة من السبيل فيما عنته
السبيل ، اللهم إلّا أن تعنى خاصة التوبة هنا لمكان «أصلحا» وإن آيات التوبة ليست
لتعم الآتية بالفاحشة المحدد لها الحدّ كما هنا إلا بهذه التصريحة.
ذلك! وأما الرجم
الخاص بحالة الإحصان فليس لهن سبيلا بل هو عليهن ، حيث السبيل لهن بعد حكم إمساكهن
في البيوت هي السبيل الصالحة الأسهل من الإمساك ، كالتوبة للتائبة والحدّ لغير
التائبة ، أو التائبة بعد القدرة عليها فإنه توبة من بعيد.
فالقصد من السبيل
لهن هنا هو التوبة المقبولة والحد المذكور في النور ، والرجم غير مقصود بهذه
السبيل مهما ثبت بالسنة على المحصنين والمحصنات ، أم إن القصد من ضمير الجمع في «لهن»
(اللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ) ككل ، ثم الاستثناءات لها دور آخر ومنها المحصنين
والمحصنات ، وليست «لهن» تشمل الرجم ، فإنما ثبت بالسنة.
وترى كيف يكون
الجلد لهن سبيلا وسبيل التوبة قبل نزول الجلد أسهل من إمساكهن في البيوت حتى
يتوفاهن الموت ، فحين تتوب بعد الإمساك يخلى عنها؟.
إن «سبيلا» هنا
الشاملة لمثلث التوبة والجلد والرجم ، هي في مجموعها «لهن» مهما كان البعض منها في
البعض من حالاتهن عليهن.
فحين تتوب ضمن
إمساكها فهي سبيل لها ، وحين لا تتوب حتى آخر العمر فمائة جلدة سبيل لها ، أيا
كانت سائر السبيل عليها ، ف «لهن» حين تعم ما لهن وما عليهن تصلح جامعة لهما ،
إضافة الى أن الحد أيا كان فهو لصالحهن مهما كان موجعا ، فلا يحكم الله بحد على أي
حد إلّا لصالح الطالحين أن يرجعوا عن غيهم ويتخلصوا عن عيّهم ، أم تخفيفا عن
عذابهم بعد الموت.
(وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) وتراهما الذكرين في فاحشة اللواط لمكان التذكير في «اللذان»؟
ولا يختص ضمير الغائب باللواط ، بل «الفاحشة» ككل ، مهما اختصت في النساء بغير
اللواط! ثم يهمل حد الزانين بعد حد الزناة كأن لا حد عليهم وهم أغوى فاحشة وأقوى
فاعلية في الزنا وسائر الفحشاء!.
ولا بالآتين
الفاحشة زنا ولواطا من الرجال قضية طليق الاستخدام في المرجع «الفاحشة»
ف «اللذان» قد
تجمع كلّ الآتين ثالوث الفاحشة فاعلا ومفعولا ، كاللوطيين والزانيين والمساحقتين
حيث المقطوع به هنا استخدام «الفاحشة» مرجعا لضمير «يأتيانها» والإيذاء تأديب عام
في ثالوث الفاحشة ، فهي ضابطة عامة في حد الفاحشة في مثلثها من القبيلين ، بعد
التصريح بحد (اللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ) فقد كفى إمساكهن في البيوت أذى لهن ، ثم غيرهن يؤذى حسب ما
يراه الحاكم صالحا لإمساكه عن الفاحشة.
فاللاتي يأتين
الفاحشة ولم تكن عليهن شهداء منكم فلا تخليد في بيوتهن ، إلا إيذاء لهن وسياجا
عليهن تقليلا من خروجهن ورقابة مدخلا ومخرجا.
ثم الزاني واللائط
والملوط به يؤذون تأديبا إذا ثبتت عليهم الفاحشة بالبينة ، فأما إذا لم تثبت
بالبينة وإنما ثبتت بحضرتك أم علمك فيؤذون دونها وطبيعة الحال قاضية بالفرق بين
الإيذائين كالفرق بين دركات الفاحشة في حدودها.
وقد ثبت بآيات
اللواط حد القتل فعله هو المعني بإيذاء اللوطيين إن ثبت بالشهود ، ولكن الإيذاء لا
يعم القتل ، ولم يثبت لمجرد اللواط إلّا مائة جلدة في السنة ، الثابتة بالقرآن في
الزنا ، وكما في المساحقة.
وشهادة النساء في
الفواحش الجنسية ممنوعة إطلاقا فإن تلقيها واجب وقد قرر له الرجال كما عليهم
الشهادة لطليق (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) في الفاحشة.
وبخصوص المساحقة
التي قد يظن جواز شهادة النساء فيها (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) بإطلاق لها كالنص تمنع عن شهادتهن فيها كما في اللواط
والزنا ، فحد المساحقة وشهادتها مع الزنا متماثلان وقد تلمح له (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ
لَهُنَّ
__________________
سَبِيلاً)
فقد تعني «الزانية»
في آية النور المساحقة الى الزانية اعتبارا بإن التخلف الأنثوى زنا على أية حال
وكما وطئهن من الدبر زنا ، وقد جعل الله «لهن» : (اللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) جعل لهن سبيل ذلك الحد ، فلئن لم تكف «الزانية» شمولا
للمساحقة فشمول «الفاحشة» لها وآية النور للّاتي يأتين الفاحشة قد يكفي دلالة
ظاهرة على ذلك الشمول.
ذلك ، وماذا نسخت
آيات النور من هذه الآية؟
إنها نسخت ـ فقط ـ
حد الإمساك في البيوت بحق الفاحشات حدا ، وبحق الفاحشين إيذاء طليقا بعد إقامة
البينة ، فالإيذاء بثبوت دون بيّنة غير منسوخ بآية النور ، كما أن (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) غير منسوخ بل وهي متأيدة بأربعة النور ، بل والإمساك ليس
منسوخا بها لمكان (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً) المصرحة بان الإمساك حكم عليهن محدد حتى تأتي سبيل أخرى
وقد أتت.
ثم الإيذاء يقدر
بقدر الفاحشة كما وكيفا ، كما يقدر بقدر الانتهاء عنها ،
__________________
ابتداء باللسان
وانتهاء بالضرب كما في باب النهي عن المنكر ككل ، فلا يؤذى بالضرب من ينتهي باللوم
، ولا يكتفى باللوم من لا ينتهي إلا بالضرب ، وليس الإيذاء ـ فقط ـ نهيا عن
استمرارية الفاحشة ، بل هو حد ونهي ، فإن تاب وأصلح فلا إيذاء مهما كانت التوبة
قبل الإيذاء حيث يزول الحد بهما (إِنَّ اللهَ كانَ
تَوَّاباً رَحِيماً).
ذلك ، (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا) توبة الى الله عن الفحشاء وإصلاحا بها وبعدها ، فقد يتوبان
عما سلف دونما تصميم على تركها بعد ، أم يتوبان نصوحا دونما إعلان للذين شهدوا
الفحشاء أم عرفوها ، فهاتان من التوبة غير المصلحة مهما كانت صالحة في نفسها
بقدرها ، وطليق «أصلحا» يعمم الإصلاح ما أمكن فيما أفسدا ولا يكلف الله نفسا إلا
وسعها.
والتفريع في «فإن»
يؤذن بإن الحد والإيذاء محدودان بما قبل التوبة المصلحة ، (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا) من ذي قبل فلا حد ولا إيذاء ، ولا سيما إذا كانت التوبة
قبل الشهادة.
(فَأَعْرِضُوا
عَنْهُما) على أية حال ، فإن كانت التوبة قبل الإيذاء فإعراضا عن
أصله ، وإن كان ضمنه فإمساكا عنه (إِنَّ اللهَ كانَ
تَوَّاباً رَحِيماً) توابا على التوابين ، رحيما بالمسترحمين.
وفي ذلك الاعراض
سلبية الإيذاء وإيجابية الإصلاح ، فكما التوبة منهن اعراض عن الفاحشة والإصلاح
تطهير لهن عن مخلفاتها ، كذلك على المجتمع الإسلامي التماشي والتجاوب معهن مساعدة
لهن في كلتا المرحلتين (إِنَّ اللهَ كانَ
تَوَّاباً رَحِيماً).
إذ كما أنه هو
الذي شرع العقوبة كذلك هو الذي أمر بالكف عند التوبة والإصلاح ، فإنما المخاطبون
في (فَأَعْرِضُوا
عَنْهُما) هم أداة تنفيذ لما يأمر الله ،
ليس لهم من الأمر
شيء إلّا إياه ، وعليهم الاقتباس من خلق الله أن يكونوا فيما بينهم متسامحين ما
وجدوا لها سبيلا.
ليس ذلك تسامحا عن
الجريمة ورحمة بعمال الفحشاء ، وإنما هو سماحة ورحمة بالتائبين المصلحين ، دون أي
تذكير وتعيير بسابق فحشاءهم ، بل مساعدة لهم على استئناف حياة جديدة طيبة نظيفة
تناسيا عما سلف ، فإن ذكر الذنب يحمل المذنب على النكسة والركسة وعلهما الأنكس
والأركس من الأولى.
وهكذا يواجه
الإسلام الجاهلية في كل أبعادها ، طبيبا دوارا بطبه ، يضع الدواء حيث الحاجة إليه
، ولا سيما أمام الفوضى الجنسية والانطلاق البهيمي اللذين يعتبران في الجاهلية
الحاضرة والغابرة مظهرا من مظاهر الحرية الشخصية لا يقف في وجهها ـ على حد زعمهم ـ
إلا كل متعنت متزمت!.
فكما المجتمعات
الجاهلية تتعاون بكل اجهزتها على تحطيم الحواجز الأخلاقية ، فعلى المجتمعات
الإنسانية تحطيم الجاهليات بكل صورها وسيرها ، وتقديم الإصلاحات بكل وسائلها
وحصائلها.
حصيلة البحث حول
آيتي الفاحشة :
آية النور تبين «سبيلا»
الموعودة في آية النساء فلا نسخ إذا حيث النسخ هو إزالة حكم عن بكرته أو توسعة فيه
أو تضييق بعد العمل به وموقف آية النور ليس إلّا التبيين.
كما النسخ في سائر
موارده ليس إزالة لحكم كيفما كان ، فإنما هو تبيين أمد الحكم السابق الذي لم يخلد
بخلد أن له أمدا ، حيث الأحكام الإسلامية كما الإسلام مخلدة حتى آخر زمن التكليف ،
فما النسخ إلّا بيانا أن للحكم السابق أمدا وقد انتهى.
وقد تشمل «الزنا»
المساحقة اعتبارا بأنها انحراف جنسي انثوي كما الرجولي في اللواط ، بل هما أسوء
سبيلا من الزنا فلا أقل من تشابه الحكم شهودا وحدا في هذه الثلاث كما جمعت في (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) وضمير الغائب المؤنث راجع الى الفاحشة المعنية منها الزنا
والمساحقة.
المطلع على
الفاحشة عليه أن يستشهد أربعة وشاهدها ثلاثة ، سواء أكان هو الحاكم الشرعي ام سواه
، والاستشهاد يعم محضر الفاحشة العلنية بالفعل فإن على الشاهد أن يستكمل الشهادة
بحمل الآخرين مثله على تحمل الشهادة ، ام الشهادة الكاملة الحاصلة من ذي قبل ،
فعلى كل من الشهود ان يستحث الباقين لإلقاء الشهادة ، كما على العالم غير الشاهد
أن يستشهد الشهود الأربع لإلقائها.
«فآذوهما» ضابطة
عامة بالنسبة للآتين الفاحشة في ثالوثها الجنسي ، فإن ثبتت بأربعة منكم فإيذاء في
اللواط وبالنسبة للزاني أكثر مما لم تثبت بهم ، حيث الثابتة بشهود فاحشة ذات بعدين
أبعدهما التجاهر الهاتك للعفة العامة بين المسلمين ، وإن لم تثبت بهم فإيذاء دون
ذلك وليس ـ فقط ـ نهيا عن المنكر حيث الإيذاء هو الشوط الأخير منه وليس حكمه
الحاكم ككل.
ولم تنسخ آية
النور إلا شاكلة الحدّ في الفاحشات وحد الإيذاء في الزاني وأما قبل الثبوت بأربعة
منكم فحكم الإيذاء باق كما كان.
وقد تلمح «فإن
تابوا» أن الإيذاء معنيّ بالتوبة المصلحة ، فإن تابا وأصلحا قبل الإيذاء فلا إيذاء
، وإن استمرت الفاحشة فمستمر الإيذاء ، اللهم إلا أن تثبت بالشهود فمائة جلدة كما
في آية النور.
فكل من رأى فاحشة
من الثلاث عليه أن يستشهد مع إيذاء صاحبها ، فإن شهدت الأربع فمائة جلدة ، وإلا
فالإيذاء ممن يرى دون النهي عن المنكر فقط.
ولا يشمل الإيذاء
القتل ، بل ولا الكسر والجرح ، إنما هو تضييق على فاعل الفاحشة ليرتدع.
ومما تدل عليه «فآذوهما»
عدم جواز قتلهما مهما كان الناظر زوجا أم سواه ، فلا يجوز قتلهما إطلاقا للناظر ،
فإنما الإيذاء ان لم تكن شهود ثم اللعان من الزوج كما فصلناه في آيات النور.
وليس أمر الإيذاء
هنا يخص حكام الشرع ، اللهم إلا فيما ثبت بالشهادة ، فكل شاهد دون الشهادة عليه
إيذاء من يأتي بالفاحشة حالها وبعدها لغاية التوبة والإصلاح قدر ما يكفي لتحصيلهما
، اللهم إلا الثابتة بالشهادة فإنها تزيد إيذاء وهو على عاتق الحكام الشرعيين.
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ
عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ
قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧).
«التوبة» في الأصل
هي الرجوع ، وهي من العبد الرجوع إلى الله عما أساء ، ومن الله الرجوع على العبد
بسابق رحمته وسابغها بقبول توبته ، وتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله: (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٩ : ١١٨) ـ (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (٥ : ٣٩).
والتوبة فيما يرجع
إلى الله هي مثلثة الزوايا ، من مفروضة على الله بما فرضها الله على نفسه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ ..) ومرفوضة عند الله (وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ) وعوان بينهما ككل من سواهما مهما اختلفت الدرجات.
فالعبد قد يعمل
السوء بجهالة وغلبة الشهوة والشقوة وضعف القدرة في الاستقامة ثم يتوب من قريب
دونما تسويف ، فالتوبة عليه هي المفروضة على الله بما فرض و (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ
بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ
فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦ : ٥٤) فقد تعني
«من بعده» ما عنته هنا «من قريب» ما صدق أنه قريب : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦ : ١١٩).
نصوص ثلاثة يكتب
الله فيها على نفسه الرحمة التوبة ـ ويعد ـ على تائبين من عباده الخصوص ، دونما
حول عنها ولا تحويل.
ولا يعني الفرض
على الله ما يعنيه على المكلفين ، فانه فيهم يخلّف وجوب التوبة ، أو استحقاق الذم
والعقوبة ، وفي الله يخلّف خلاف العدل تخلّفا عن الوعد ، وذلك قضية أنه هو الذي
كتب على نفسه رحمة التوبة لا سواه ، حتى يكون في تركها كمن سواه.
(وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)
(١٨).
(يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ) ككل ودون إبقاء ، وهناك «السوء» بجهالة أم سواها ، مستمرين
فيها دونما توبة (حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) لا أنه تاب ، فلو تاب مهما كانت عند رؤية البأس فعسى الله
أن يعفو عنه : (فَلَوْ لا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ) (١٠ : ٩٨).
فقولة التوبة
والإيمان عند الموت وعند رؤية البأس لا تنفع ، اللهم إلا واقعها وقليل ما هو
لهؤلاء الذين عاشوا عصاة أو كافرين (كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ
بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٨١) : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ
الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي
آمَنَتْ
بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ
قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١٠
: ٩١) (يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٦ : ١٥٨).
اجل (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ
كُفَّارٌ) مهما قالوا قولة الإيمان كفرعون لما أدركه الغرق.
ذلك ، وأما العوان
بينهما : بين توبة مفروضة على الله ومرفوضة ، فإن شاء تاب وإن لم يشأ لم يتب ،
ايجابية وسلبية حكيمة حسب الظروف المواتية المساعدة وسواها ، فهم أولاء الذين
يعملون السوء بجهالة ثم يسوّفون التوبة ، ام يعملون السوء على عمد تابوا من قريب
أم سوفوا أمّن ذا من هؤلاء الذين يتوبون مصلحين ما قدروا عليه مهما كان عند رؤية
البأس والموت ، فقد يتوب الله عليهم وقد لا يتوب ، وكما تقتضيه الرحمة والعدالة
الربانية : (لِيَجْزِيَ اللهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ) (٣٣ : ٢٤) وذلك
حين يتوب المنافق من بعيد ولا سيما عند الموت وعند رؤية البأس.
ف (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى ..) فرضا للأولين ، (وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ) إطلاقا لا على الله ولا لله للآخرين ، ثم تكون التوبة لله
ـ لا مفروضة عليه ولا مرفوضة عنده ـ للعوان بين الفريقين ، إذا ففي واقع التوبة
إلى الله أينما حصلت توبة من الله محتومة أم مرجوة على شروطها المسرودة في الذكر
الحكيم : (فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (٥ : ٣٩) مهما
سوّف التوبة عن سوء عامد فعوان بينهما ، أم تاب من قريب عن سوء بجهالة فمفروض على
الله ، والمسوّف العامة هو داخل في نطاق (وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٩ : ١٠٦) وذلك
بعد الإعلان العام (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ
وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤).
والجهالة التي
تقرض التوبة على الله ليست هي الجهل بحكم الله قصورا او تقصيرا ، ألّا يرى السوء
سوأ ثم بعد العلم يتوب من قريب حيث العصيان مع الجهل بالحكم او الموضوع ليس عصيانا
مهما كان مقصرا في جهله ، حيث الجهل هنا هو العصيان لا العمل الجاهل ، و «كل ذنب
عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه ..»
فليست هي الجهالة
بل هي الحماقة على علم بالسوء ، أن غلبت عليه شقوته وشهوته دونما تهتك لساحة
الربوبية ، ولا تعمد عصيان ، فلذلك يتوب من قريب لما خمدت نيران شهوته وزال غبارها
عن وجه ايمانه ندمانا أسفا.
وأما المسوف
للتوبة فهو العامد ، أو المستغل شطرا من حياته للسوء رجاء التوبة قبل الموت أم بعد
ردح يقضي فيه وطره.
والجهالة على علم
اثنتان أخراهما أن يجهل عقاب الله ويتجاهل حضوره وحكمه كسنة في حياته بقليل أو
كثير ، والجهالة في الآية هي الأولى ، دون العامة التي هي لزام كل عصيان أيا كان.
ومن الأولى
المعنية هنا (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ
وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) ـ (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ
تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ـ (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فانها وأضرابها تعني الجهلالة على علم دون طليق الجهل حكما
او موضوعا ، وانما جهالة بحضرة الربوبية غفلة عنها وتساهلا.
فالأصل في حقل
التوبة هو الإيمان والاعتراف بالذنب والندم عليه : (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ
أَنْ يَتُوبَ
__________________
عَلَيْهِمْ
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٠٢).
وهم المرجون لأمر
الله (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ
وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦).
ثم التوبة من الله
واجبة أم مرجوة ـ مشروطة بشروط عدة ، لا توبة كاملة إلّا بها ، أن تكون نصوحا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٦٦ : ٨) والإيمان
والعمل الصالح بعدها : (إِلَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ
حَسَناتٍ) (٢٥ : ٧٠)
والإصلاح والبيان : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (٣ : ١٦٠) وجماع
الأمر في التوبة الصالحة هو الذي يرجع فيه التائب إلى حالته الشخصية والجماعية قبل
العصيان ، إصلاحا خارجيا بعد إصلاح داخلي وهو يختلف حسب اختلاف حقول العصيان
وإبعاده بآثاره وأبعاده.
فالذي ضل وأضل
آخرين ليست توبته ـ فقط ـ إصلاح نفسه ، بل وإصلاح الآخرين ، فلو تاب الله عليه
ولمّا يصلح المضلّلين ام لم يسطع عليه ، كانت هذه توبة من الله ظالمة بحق المضلّلين
، واما الظلم في غير الإضلال فقد توجد للتوبة عنه سبيل دون ذلك ، كأن يعمل من
الصالحات وهو لا يسطع على رضى المظلوم فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم قضية رحمته
الواسعة ، ما لم يناف العدل ، فقد كتب على نفسه العدل كما كتب على نفسه الرحمة.
ذلك ، وأما التوبة
عما عصى الله ، بينه وبين الله ، دونما تعدّ على عباد الله ، فقد يكفي في توبته
إلى الله واقعها النّصوح مهما كان عند الموت ، ولكن قبولها ليس على الله فهو من (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ).
فإنما التوبة
الواجبة على الله إلى عبده هي في سيئة عن جهالة ثم توبة من قريب ، دون فصل أم بفصل
قريب غير غريب لكيلا يعد من المصرين العامدين
غير النادمين (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) ومن سواهم ف (عَسَى اللهُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).
والقول انه لن
تقبل التوبة عند الموت لأنها رجوع إلى عبودية وليست إلّا في حياة التكليف الراحلة
عند الموت ، مردود بأن أصل التوبة هو الرجوع إلى الله (تُوبُوا إِلَى اللهِ) مهما كان نصوحها إصلاح المستقبل في التصميم إن كان ، ثم
والرجوع إلى العبودية لا واقع له للتائب عن الكفر الذي نشأ عليه منذ بداية التكليف
، فهلا توبة له إطلاقا إذ ليست له سابقة عبودية ، وواقع العبودية بعد التوبة للذي
عاش كافرا ليس رجوعا الى العبودية بل هو رجوع الى الله ، الصادق فيه وفيمن يتوب
إلى الله عند الموت.
ذلك ، فأصل التوبة
ـ إذا ـ مقبول مهما لم يسطع التائب على شروط لها قضية انقضاء المجال فقد تقبل
تماما إذا لم تكن التوبة عن مظالم فادحة غير منجبرة ، ثم وفيها أيضا يخفف عنه
بالنسبة لحق الله مهما ظل عليه حق الناس.
فواقع التوبة
مقبول على أية حال بالنسبة لساحة الربوبية ، محتوما أم مرجوا ، شرط أن تكون نصوحا
مهما لم يبق مجال لمستقبل ، ثم التبعات الأخرى للعصيان ـ أيا كان ـ قد تغفر وقد لا
تغفر ، والمغفرة هي الأصل ما كان لها مجال في حقل العدل والرحمة ، فلا يستثنى إلّا
المغفرة الظالمة بحق الظالمين ، وقد يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
قوله عن الله تعالى : «وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام فيه روح»
و «ان الله يقبل
توبة العبد ما لم
__________________
يغرغر»
والتفصيل بين
الجاهل والعالم في قبول التوبة خلاف الآية إلا ان يؤوّل إلى صعوبة قبولها عن العالم.
ثم (الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) وطبعا دون قالة التوبة ولا واقعها ، ليست توبتهم غير
المقبولة إلا بعد الموت ومنهم القائلون (رَبِّ ارْجِعُونِ
لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) فيجابون (كَلَّا إِنَّها
كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها).
فقالة التوبة دون
حالتها عند الموت ، وواقعها بعد الموت ، هي مرفوضة مرضوضة ، وواقع التوبة بين
مفروض القبول ومرجوه كما فصلناه على ضوء الآية.
__________________
فقد تسد باب
التوبة ان سوفت حتى الموت فقال اني تبت الآن ، ام تاب خوفة من الموت ام تاب بعد
الموت ، ثالوث التوبة غير المقبولة ابدا «فاعملوا وأنتم في نفس البقاء والصحف
منشورة والتوبة مبسوطة والمدبر يدعى ، والمسيء يرجى قبل ان يجمد العمل وينقطع
المهل وتنقضي المدة ويسد باب التوبة ويصعد الملائكة» (عليهم السلام) .
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)
(١٩).
«النساء» هنا دون
الأزواج مما يشي بشمولها للأزواج وسواهن ممن يورثن جاهليا أو شرعيا ، ومن إرث
النساء المحظور هنا هو إرث ذواتهن كما كانت سنة الجاهلية ، إذا مات الرجل ورث
وارثه امرأته بماله وكان يرث مالها كنفسها كرها ، أن ينكحها دون صداق لأنها
ميراث رضيت أم كرهت ، أم لا ينكحها حين لا يرغب إليها ام لا يسمح له كأمّ ولكنه
يعضلها عن الزواج حتى تموت
__________________
ويرثها ، او تنكح
ويأخذ من حقها وهذا إرث مالها كرها ، او كانت عنده زوجة لا ترغب إليها
فهو غير محتاج إليها ، ولكنه لا يخلي سبيلها رغبة في إرثها أم تفتدي بشيء مما آتاها حتى يسرّحها ، أم أن يرث من زوجها
المطلقة الميتة الخلية عن زوج آخر ، سنادا إلى الزوجية السالفة ، وكذلك كل نقلة من
مالها إليه دون رضاها أم سبب ناقل ، حيث الإرث لغويا هو انتقال قنية إليك عن غيرك
دون عقد ولا ما يجري مجراه ، ومنه المال المتنقل عن الميت ، وقد كان الإرث من
النساء يحلق على كل هذه الجاهليات استضعافا لهن ، فنزلت (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّساءَ كَرْهاً) حيث تشمل كل هذه الجاهليات ، ثم (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) الخاصة بالأزواج المعضلة ضغطا عليهن في العشرة الزوجية ،
ذهابا ببعض ما أوتين فدية منهن لكي يتخلصن عن عبء الزواج وأسره ويسرّحن.
فإرث النساء كرها
محظور على أية حال ، ثم إرث ذواتهن إذا كن نساء الآباء محظور على أية حال لخصوص
آية الحظر (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) فكما إرثهن وتملكهن دون نكاح محظور كذلك نكاحهن وهو أشد
حظرا.
ثم العضل محظور
كضابطة ، أن تعضل زوجتك تضييقا عليها في حياة الزوجية لتفتدي هي ببعض ما آتيتها ،
أم عضلها عن الزواج بعد طلاقها :
__________________
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (٣ : ٢٣٢) مهما
عمت هذه عضلهن عن أن ينكحهن أزواجهن الذين طلقوهن وسواهم ، وعن أن يعضلن عن الزواج
الآخر لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أم لغرض آخر ، ومثلها (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً
لِتَعْتَدُوا) (٢ : ٢٣١).
ذلك ، وإنما
يستثنى الذهاب ببعض ما أوتين ـ مطلقات وسواهن ـ حين (يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) فقد يجوز ذلك العضل حتى يفتدين ببعض حقوقهن فداء لتطليقهن
كما في طلاق الخلع والمباراة لمكان الكراهيّة ، ولكن الكراهيّة هنا هي من الأزواج
لمكان إتيانهن بفاحشة مبينة ، وهي في المباراة من الجانبين ، وفي الخلع من جانب
الزوجة ، والكراهية فيهما أعم مما كانت عن فاحشة أم سواها ، فقد تضاف الكراهية
لفاحشتها من ناحية الزوج ، سماحا لأخذ البعض مما أوتين ـ لا كله ـ حين يأتين
بفاحشة مبنية.
إذا فلا يختص طلاق
الخلع والمباراة بكراهتها أم كراهتهما ، بل وإتيانها بفاحشة مبنية مما تخلعها مهما
لم تشمله كل أحكام الخلع والمباراة.
وعلّ ذلك السماح
يعم ما قبل الطلاق وبعده حيث العضل يعمهما ، فحين يطلقها لفحشائها وقد آتاها كل
حقوقها ، يجوز له عضلها نفسها تضييقا عليها ، أم عضلها عن الزواج الآخر حتى يأخذ
بعض ما آتاها بديلا عما أتت من فاحشة مبنية.
وترى ما هي «فاحشة
مبنية»؟ قد تعني المعصية الفاحشة ، المتجاوزة
__________________
حدها في حقل
الزوجية ، سواء أكانت فاحشة الجنس أم خلقية أم عقيدية ، فهي على أية حال فاحشة ليس
ليصبر عليها الزوج استمرارية للحياة الزوجية ، إذا فله حق الاسترجاع إلى بعض ما
آتاها ، إذ لم يؤتها ما آتاها إلّا للمقام معها مدى الحياة ، ولم يكن سبب الفصل
إلّا هيه ، فلتفتد ببعض ما أوتيت كما سلبت بعض حقه بفاحشتها.
ذلك ، ومن «مبيّنة»
أن تتبين اما بنفسها بشهود زوجها أم ببينة ، فالفاحشة البينة بالبينة او الرؤية هي
التي تسمح لما سمحت إذا كانت مبينة.
فكما الفاحشة
المزعومة دون إثبات لا تسمح بأخذ البعض مما أوتين كذلك الثابتة غير المبيّنة.
فالفاحشة غير
المبينة وهي المتفلتة عنها دون إصرار عليها ـ اللهم إلّا في فاحشة الجنس ـ إنها لا
تحلل الذهاب ببعض ما أوتين ، إذ لا تبينّ الفصل العاضل والعضل الفاصل.
ثم (ما آتَيْتُمُوهُنَّ) تعم كلما أوتين غير النفقة المستمرة اليومية ، من صدقة
وهبة وهدية أماهيه من عطيات واجبة أم مندوبة لمكان عموم النص ، فلو أريد الصداق
لقيل ببعض صدقاتهن.
فجملة المستفاد من
الآيتين هي الحظر عن إرث النساء كرها في كل حقوله ، من إرث ذواتهن على أية حال وإن
كان للقريب الذي يجوز ان يتزوجها فضلا عن الأبناء للأمهات أم لأزواج الآباء ، ومن
إرث أموالهن بزواج وغير زواج ، إلّا إذا كانت زواجا دون كره وبقاء في الزوجية دون
كره ، وأما إذا تزوجها دون رغبة فيها إلّا في مالها حياة ومماتا ، فليست هذه زواجا
مشروعة ، وقد تصدق عليها الإرث كرها حيث لا يعني بذلك الزواج إلّا أن تموت فيرث
مالها ، دون أن يعطيها حقها المفروض في حقل الزواج.
ثم ولا يجوز عضل
النساء على أية حال ، ولا سيما بغية الأخذ مما أوتين (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وقد مضى من عضل اللاتي يأتين الفاحشة من نساءكم أن (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) شرط ثبوت الفاحشة ببينة ، وإلا فعضل الإيذاء حتى ينتهين ،
أم عضل العشرة تضييقا عليهن حتى يرجعهن بعض ما أوتين إلى بعولتهن إذ ضيعن عليهم
المقام معهن.
فالعضل بغير فاحشة
مبينة محظور ، سواء في حقل الزواج ان يضيق عليها لتفتدي ويطلقها ، ام لتبقى عنده ،
ام يضيق عليها بعد طلاقها ، أيا كان الضيق ، اللهم إلّا بحق ك (اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ
أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) (٤ : ٣٨).
فإن أتين بفاحشة
الزنا دون توبة فهي أبين فاحشة مبينة ولا يجوز الإبقاء عليهن ، اللهم إلّا عضلا
ليردن بعض ما أخذن فيطلقن ، ثم يجوز الإبقاء عليهن في سائر الفاحشة اللهم إلا ما
يفسد جو العائلة فتفسد الناشئة ، وسماح الأخذ ببعض ما أوتين مخصوص بفاحشة مبينة لا
سواها .
ذلك! والضابطة
العامة بالنسبة لهن (وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) ما دمن معكم أزواجا دون عضل إياهن ولا أخذ من حقوقهن إلّا
في طيبة من انفسهن (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٤ : ٤) أو أن
يأتين بفاحشة مبينة أم في طلاق الخلع او المباراة.
وترى إذا أتت
بفاحشة مبيّنة وردّت شيئا مما أخذت دون عضل هل يسمح هنا بعضلها؟ طبعا لا ، حيث
العضل المسموح إنما هو ذريعة لاسترجاع البعض مما أوتين ، و (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) استثناء عن كلا العضل والأخذ مما
__________________
أوتين ، ولكن
العضل ليس هنا إلّا كذريعة ، والأصل (عاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) لا يستثنى إلّا لاسترجاع حق فيقتصر فيه على قدر الضرورة
للحصول عليه.
(وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) ما أمكنت تلك المعاشرة ، إصلاحا للحياة الزوجية ، وتقويما
لهن على خط الشرعة الإلهية ، عظة وأمرا بمعروف ونهيا عن المنكر ، ثم في ذلك السبيل
هجرا في المضاجع وضربا غير مبرح فان كل ذلك معروف سواء أكان معروفا بذاته أم في سبيل
معروف.
ومعروف معاشرة
النساء معروف في الفطرة السليمة والعقلية غير الدخيلة إنسانية وشرعية ، وكما
المعروف من أحد بالنسبة لنفسه معروف ، حيث يجنّد كافة قواته وإمكانياته لإصلاح
حاله ورياحته على أية حال ، كذلك فليكن بالنسبة لزوجته التي هي بعض من كيانه كما
في تصريحه مكرورة قرآنية : (بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ).
والبيئة الزوجية
هي أعرق البيئات الوحدوية في بني الإنسان كافة ، تتبناها سائر الوحدات الجماعية في
كافة الحقول.
وهنا «عاشروهن»
دون تعاشروا ، اعتبارا بأن فاعلية الرجال وقابليتهم في تلك العشرة أقوى وأحرى من
النساء ، حيث الأخطاء منهن أكثر ، فلتكن بداية العشرة الحسنة من الرجال حتى تؤثر
في عشرتهن إياهم بالمعروف حيث (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ).
__________________
فقد تعطي (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ما ينقض كافة الجاهليات بحق المرأة المظلومة ، إذ ما كن
يعتبرن من أجزاء المجتمع الإنساني إلّا طفيليات مستخدمات ومتعا جنسية ليست إلّا
هيه ، فإذا بهذه الإذاعة القرآنية تدخلهن في صفوف الرجال وتكلفهم الحفاظ عليهن وأن
يعاشروهن بالمعروف!.
(فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً
كَثِيراً).
فالكراهية من
ناحية الزوج قد تتحمل ومنها ما يرجى فيه خير ، وأخرى لا تتحمل كأن تأتي بفاحشة
مبيّنة دونما توبة ، أم يخاف ألّا يقيم معها حدود الله فالطلاق مهما اختلفا في
سماح الأخذ مما أوتين وعدمه.
وأما إذا كانت
الكراهية من قبلها أو منهما ، وهما يخافان ألّا يقيما حدود الله فخلعا أو مباراة
بحدودهما المسرودة على ضوء آيتهما في البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا
يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (٢٢٩).
ثم و (خَيْراً كَثِيراً) المرجو إذا تصبر معها على كراهيتها يعم خير الأولاد الذين
يلدنهم ، وخير أحوالهن على أثر ذلك التصبّر بعشرة معروفة ، أم ولأقل تقدير خير
أحوالهم بذلك التصبر ائتمارا بأمر الله.
(وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٢٠).
فقد روي أن الرجل
منهم إذا مال إلى زواج آخر رمى زوجته بالفاحشة حتى يلجئها الى الافتداء منه بما
آتاها ليصرفه في زواجه الآخر فنزلت.
وإرادة الاستبدال
هذه هي بطبيعة الحال في ظرف الكراهية للمبدل منها ، حين لا يحق له مما آتاها شيء
لفاحشة مبيّنة أم كراهيتها أم مع كراهيته خوفا منهما
ألا يقيما حدود
الله ، أم طلاق قبل الدخول ، إذ يجوز في كلّ من هذه.
واختصاص طلاق
الاستبدال بالذكر قد يعنى الذبّ عما يخلد بخلد الأزواج أن لهم أخذ شيء منهن
لانقطاع البضع بالطلاق وقد ملكوه بالعقد دونما انقطاع ، تأشيرا إلى أن الانقطاع لم
يحصل إلا لكراهيته هو إياها ، لا لفاحشة مبيّنة ارتكبتها حتى يرتبك بإيتاء حق لها
، ولا لكراهيتها أم كراهيتها المخوّفة لترك حدود الله حتى تفتدي بشيء مما أوتيت
لكراهيتها والحفاظ على حدود الله ، والأخذ في الأخيرين أخذ بفديتهن دونما استقلال
منهم ولا استغلال.
واما استرجاع نصف
صدقتها بطلاق قبل الدخول فليس استرجاعا لحقها بل هو حقه بنص آية الطلاق قبل الدخول
: (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (٢ : ٢٣٧).
فمصبّ الآية هو
مورد كراهية الرجل ـ فقط ـ دون هذه الطوارئ ، حيث يخلّف الأخذ مما أوتين بهتانا
وإثما مبينا ، فإنّ الأخذ مخصوص بإتيانهن فاحشة مبينة ، والأخذ في مورد الخلع
والمباراة ليس فقط أخذا ، إنما هو أخذ لما يفتدين تخلّصا عن الزواج ، فقد انحصر
ذلك الأخذ بمحظور هو إتيانهن فاحشة مبينة ، فهو مورد التنديد : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً
مُبِيناً) بهتانا بفاحشة مبينة ، وإثما مبينا وهو الإبطاء عن الخير
حيث يبين البخل منكم والبغضاء منهن ، والفرية عليهن.
وهنا القنطار ـ وهو
حمل بغير ذهبا ـ الممثل به في صدقات النساء ـ مجردة ام مع الهبات والهديات ـ مما
يدل على سماح الإكثار فيما يؤتين في حقل الزواج دونما تحديد وكما في قول الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) ولقد اخطأ الخليفة
__________________
عمر ـ فيمن اخطأ ـ
حيث هدد من يزيد على اربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش مستدلة بآية القنطار
فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ورجع عن فتواه .
ولقد كان الخليفة
اعدل ممن أوّل الآية بأنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في
نفسه جائز الوقوع ك (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) حيث لا تدل على حصول الآلهة؟ ولكن «لو» في الآية تحيل
مدخولها وليست هنا إلا «إن» ثم لو كان صدقة القنطار محظورا لما جاء في كتاب
__________________
الشرعة مثالا لحكم
شرعي تركا لمثال مشروع إلى غير مشروع! وعلى فرض حظره كان الواجب استرجاع المحظور
لا الحظر عنه لأن الزائد الصادق عليه «شيئا» لم يدخل بعد في مالها ، فله بل عليه
استرجاعه!.
ثم وذكر المحظور
مثالا وغير مثال يتطلب طرح الحظر عنه ، فالسكوت عنه دليل
السماح فيه وأنه
غير محظور ، كما هو قضية كتاب الهدى ، فان نقل الضلال ضلال ما لم يرد عليه وإن
تأشيرا ، ولا إشارة هنا ولا لمحة إلى حظر القنطار ، وهنا للخليفة فضله على شيعته
ان صدق صريح الآية دونما تأويل عليل ، ومن الغريب هنا يتيمة شيعية خلاف نص الآية معاكسة لما صدقته الآية وصدقه الخليفة!
__________________
وترى (آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ) تعم كلما أوتين من صدقة أماهيه من هبة وهدية وعطية ونفقة؟
الظاهر نعم ، فلو كان المقصود خصوص الصدقات لجاءت بصيغتها الخاصة والإيتاء أعم
منها.
كما و (لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ
ما آتَيْتُمُوهُنَّ) تعني ما تعنيه ، لا سيما وأن ذلك الأخذ أيا كان ومن أيّ
كان هو بهتان كأنها أتت بفاحشة مبينة إذ لم يسمح بأخذ شيء مما أوتين إلّا أن يأتين
بفاحشة مبينة.
(وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً)
(٢١).
الإفضاء من الفضاء
: المكان الواسع ، وهو من كل من الزوجين إلى الآخر كناية عن الخلوة والمباشرة
الجنسية حيث دخل كل في فضاء الآخر جنسيا وما سواه من إفضاء العواطف والمشاعر
والتصورات الصالحة عن وحدوية الحياة الزوجية ، فلا يقف ذلك الإفضاء المتروك دون
مفعول خاص عند حدود الجسد بإفضاءاته ، بل يسع كل معانيه في إنسانية الإفضاء ،
فيسكب كل إيحاءاتها ، فقد يدع طليق الإفضاء يرسم كل التصورات الصالحة لتلك الحياة
المشتركة الموحدة ، ففي كل نظرة ونبرة إفضاء ، وفي كل مخالطة روحية أو جسدية إفضاء
، إفضاءات بعضها فوق بعض قضيتها الوحدة العريقة المتماسكة بين الزوجين ، مما يؤكد
الميثاق الغليظ على الحياة السليمة الزوجية.
وبذلك يخرج هذا
الطلاق عن غير المدخول بها مهما خرج من قبل عن الأخذ.
فهذه المخالطة
المحللة مع ما أخذن منكم ميثاقا غليظا على الإيفاء بشؤون الزوجية حسب المقرر في
الشرعة الإلهية ، إنها سياج صارم عن أية تخلفة في ذلك
الحقل في أيّ من
النواميس الخمس بينهما ، ومنها الخيانة المالية أخذا دون سبب مما أوتين ، وأهم
منها من جرّاءها البهتان والإثم المبين ، حيث لا يعني ذلك الأخذ الأجرد عن أي مبرر
إلّا أنهن أتين بفاحشة مبينة.
فالميثاق الغليظ
هو العقد مع الإفضاء فانه تحقيق للعقد حقيق بالإيفاء بكل شروط الزوجية السليمة
، حيث يعقد عليها على كتاب الله وسنة رسول الله سياجا صارما على كل تخلف عن واجبات
الزوجية ، وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «اتقوا الله في النساء
فانكم أخذتموهن بامانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
(وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً
وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ
وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
__________________
نِسائِكُمُ
اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ
ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ
ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً
حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ
أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ
مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)
وَاللهُ
يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ
أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)
(٢٨)
(وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً
وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)
(٢٢).
«ما» هنا ليست ـ فقط
ـ موصولة وإلّا لكان الصحيح «من» اعتبارا بالنساء ، ولا هي ـ فقط ـ مصدرية وإلا
فالصحيح «نكاح آباءكم» إذا فهي موصولة ومصدرية تعنيهما هنا.
والنهي مصدريا
وارد على نكاح آباءكم إذ كانوا ينكحون المحارم سببيا او نسبيا إلّا شذرا ، وكذلك
نكاح الشغار وهو المبادلة في الزواج ، والنكاح دون صدقة ، والنكاح بالإكراه
واللواط والمساحقة ونكاح البهائم وما إليها من جاهليات النكاح.
ثم وهي موصولة ضمن
كونها مصدرية تعني نساء الآباء ، تخصيصا ضمن
تعميم تدليلا على
نوعية النكاح الممنوع في شرعة الإسلام ، ثم تأتي المصاديق الأخرى في الآية
التالية.
أترى «من النساء»
تخص بالغات النكاح ، فلا تشمل الصغيرات؟ وطليق النساء يشمل كل أنثى كما في (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَال أَقْرَبُونَ) (٤ : ٧) ـ (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ)
(٣) ـ (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْن)
(١١)!.
ثم النكاح في «ما
نكح» تشمل كل مصاديقه عقدا ووطئا عن عقد او عن شبهة او ملك يمين او هبة او زنا ،
ولا تختص بواحدة منها إلّا إذا خصتها قرينة كما في خصوص العقد (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) (٣٣ : ٤٩) ، وفي
الوطء : (فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢ : ٢٣٠) فإن
نكاح الزوج ليس إلّا وطئها.
إذا فالوطئ نكاح
كما هنا ، مهما كان بعقد أم سواه كوطي بشبهة او بملك يمين او هبة أو زنى ، مهما قل
استعماله في الزنا فانه سفاح يقابل النكاح ، ولكن طليق النكاح يشمل كل ضم هو
المعنى اللغوي للنكاح ، سواء أكان ضما بعقد مجرد أم عملية الجمع الوطء حلا او
حراما ، وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «ناكح اليد ملعون» فإذا كانت
العادة السرية نكاحا وهي لا عقد ولا وطئ فبأن يشمل الزنا أحرى حين يطلق دون قرينة
كما هنا ، ذلك وحتى إذا كان النكاح حقيقة فيما سوى السفاح ومجازا فيه ، إذ لا
محظور في ساحة الربوبية لاستعمال لفظ في اكثر من معنى واحد حقيقة او مجازا ام هما
معا ، فإن مقام جمع الجمع يزيل خرافة استحالة هكذا استعمال ، والمحتاج الى القرينة
في النكاح إذا هو تقييده ببعض مصاديقه دون بعض.
ولا يشمل النكاح
مجرد ملك اليمين دون وطئ ، ولو اختص النكاح هنا
بالعقد لكان
الصحيح «ما تزوج» فتخرج المزني بها كما تخرج الموطوءة بشبهة او ملك او هبة ، ولكنه
نكاح تشمل كل مصاديقه الحقيقية او المجازية في عرف الشرع ، وتجمعهما الحقيقة
اللغوية وهي مطلق الجمع كما يقال : نكاح البهيمة.
وهنا تصدق الرواية
القائلة بحرمة المزني بها على ابن الزاني وباحرى ـ إذا ـ حرمة الموطوءة حلا بغير عقد كشبهة وملك
وهبة وأحرى من الكل النكاح المنقطع فانه حقا نكاح في كل الأعراف مهما اختلفت
الطائفتان في ان النبي حرّمها ام ظل حلا الى يوم الدين.
واما المستفيضة ان
«الحرام لا يفسد الحلال» فهي مخصوصة بالإفساد بعد التحليل ، كأن يزني الرجل
بمنكوحة أبيه فانها لا تحرم ـ إذا ـ على أبيه فان عموم هذه القاعدة مخصص بإطلاق الآية هنا ونص الرواية ،
كما خصص بآية
__________________
الزانية فانها نص
في حرمتها على المؤمن كما المؤمنة على الزاني ، وخصصت بمواضع اخرى.
فليس (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) إلا حلا نسبيا خروجا عن الحرمات الذاتية في زواياها
النسبية والمصاهرة والرضاعية ، فلا تنافي حرمة نكاح المشركات والزانيات والمكرهات
، والباكرات دون إذن آبائهن ، وسائر المحرمات التي تتحول الى المحللات بعد تحقيق
شروطها ، كالتوبة والإذن واضرابهما.
ولكن الحرمة في
الخمسة عشر ذاتية لا تتحول الى حل على أية حال.
وحرمة الملاعنة
والمفتضة وان كانت لا تزول بأية وسيلة ، ولكنها بادئة بسببها لعانا وافتضاضا ،
وهما محللتان من ذي قبل.
والظاهر من ذكر
المحصنات من النساء وهن ذوات الأزواج ، ان الحرمة الذاتية محصورة فيمن ذكرن من
النساء نسبيا وسببيا ، إذا فلا حرمة ذاتية فيمن سواهن من النساء.
و «آباءكم» تعم
الأجداد من أب أو أم ، وهل تشمل الآباء من الرضاعة؟ علّه نعم لأنهم آباء رضاعيون
فتشملهم طليقة الآباء ، ولكنه لا ، حيث الحرمة بالرضاعة مذكورة في الآية التالية ،
فلتختص بما فيها دون شمول لمن سواهم.
وهل تحرم بنات
وأخوات وأمهات نساء الآباء؟ قضية اختصاص الحرمة بما نكح الآباء عدم الحرمة في
سواهن.
(لا تَنْكِحُوا ... إِلَّا
ما قَدْ سَلَفَ) وهل المراد من الاستثناء تحليل السالف وان الحرمة حديثة
بالآية؟ و (إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً ..) تضرب الحرمة الى اعماق الماضي فلا حلّ ـ إذا ـ فيما قد سلف!
كما وتدل على سالف الحرمة آية توراتية :
«وإذا اضطجع رجل
مع امرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه انهما يقتلان كلاهما. دمهما عليهما» (اللاويين ٣٠
: ١١).
قد يعني الاستثناء
سلب العقوبة على هذه الفحشاء السالفة حيث الإسلام يجب ما قبله و : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣٨).
ذلك ، ومما يزيله
الاستثناء حرمة المولد وقذارته ، فقد زالت بالإسلام بعد نزول آية التحريم ، فلا
يعتبر ولد الأبناء من نساء آباءهم ولد الزنا والحرام.
وهل ان «لا تنكحوا»
طليقة ك «ما نكح»؟ الظاهر لا ، حيث النهي لا يصح تعلقه بالوطئ المجرد عن عقد سواء
بالنسبة لنساء الآباء ام سواهن فانه محرم على اية حال.
انما هو العقد وطئ
ام لم يطأ ، فان وطئ الأب حليلة ابنه زنا او شبهة لم تحرم عليه لا عقدا لأنها
معقودته من قبل ، ولا وطئا لأنه وطئ عن عقد.
ثم و «لا تنكحوا»
كما تبطل العقد على منكوحة الأب ، كذلك تقطع العقد السابق فصلا دون طلاق ، حيث
النهي دليل الحرمة الوضعية مع التكليفية ، فلا فرق ـ إذا ـ بين بداية النكاح بعد
نزول الآية واستمراريته وقد نكح قبل نزول الآية.
(إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً).
أترى أن نكاح ما
نكح الآباء أفحش من الزنا حيث يزيد عليه مقتا (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (١٧ : ٣٢)؟.
أجل لأنه مقت من
الآباء بالنسبة للأبناء أن ينكحوا منكوحاتهم ، حيث
امرأة الأب هي
مكان الأم ، ثم الابن لا يخلف أباه في حظوة الجنس فيصبح ندا له فيها ، وكثيرا ما
يكره الزوج الثاني الزوج الاول لامرأته بفطرته وطبعه ، فيكره ـ إذا ـ أباه ويمقته
، فهذه مماقتة من الجانبين ، كما وتمقت زوجة الأب ابنه إذا تزوجها ، فثالوث من
المقت ، والشرعة الربانية تتبنى المودة وتمقت العداوة ، وهذا السلب والإيجاب هما
رأس الزاوية في هندسة الشريعة اللهم إلّا في العداوة الواجبة والمودة المحظورة.
ذلك ، ولأن ثالوث
الفاحشة والمقت وسوء السبيل ليس يختص بنكاح نساء الآباء ، بل و (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ككل نكاحهم المحظور ، المسرود هنا أصوله من نساء الآباء
هنا والأمهات وأضرابهن في آية الأمهات.
وقد جمعت سنة
الجاهلية في النكاح ذلك الثالوث المنحوس (فاحِشَةً وَمَقْتاً
وَساءَ سَبِيلاً) ومنه اللواط والمساحقة أماهيه من سنن الجاهلية البغيضة.
فرع : هل تحرم منظورة
الأب او ملموسة دون جماع على الابن ام هي من الابن على الأب دون نكاح حلا او حراما؟
الظاهر لا ، وفي بعض الاخبار نعم ولكنها مع معارضتها بغيرها معروضة على الآية
المعارضة لها فمعروضة عرض الحائط او مأولة .
__________________
١ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ ...)
التحريم هنا
المتعلق بالذوات دون خصوص النكاح ، فيه بعد أوسع من النكاح ، فكما ان تحريم الخمر
يعم كافة المحاولات بشأن الخمر ، من صنعها وبيعها واشترائها وحملها ... دون شربها
فقط ، حيث الحرمة واردة على الخمر نفسها لا فقط شربها.
كذلك «حرمت» في
الأمهات والبنات وسائر الخمسة عشر من النساء ، تحلّق على كافة الحظوظات الأنثوية
من هؤلاء النساء ، نظرة ولمسة وقبلة ومضاجعة واستيلادا مهما كان بغير مضاجعة ،
والاستيلاد هو أبرز الحظوظات الواقعية في حقل المخالطات الأنثوية.
إذا فاستيلاد
الأمهات وأضرابهن بزرق نطف الأبناء محرم كما يحرم بالوطئ ، وهذه الحرمة تعم كل
موارد العلم أن النطفة من أولادهن ، سواء علموا وجهلن ، أو جهلوا وعلمن ، أم ساد
الجهل الأمهات والأولاد ولكن عامل الزرق عالم بالحال ، كما في نكاح الأمهات ، حيث
الحرمة التكليفية تتبع موارد العلم بالموضوع ، بل والجهل ـ تقصيرا ـ بالحكم.
ذلك! فالقول
بإجمال الآية في المعني من الحرمة لاستحالة تعلقها بالذوات ، اللهم إلا الأفعال
غير المذكورة هنا في حقل التحريم؟ إنها قولة جاهلة هراء ، فما أفصحه وأوضحه من آية
تعني حرمة كافة الالتذاذات
__________________
والانتفاعات
الأنثوية بصيغة تحريم الذوات.
فليست تعني ـ فقط
ـ تحريم النكاح حيث التعبير بحرمة الذوات أوسع دلالة من تحريم النكاح ، وقضية
الفصاحة ولا سيما القمة القرآنية الإفصاح عن المراد بما يساويه ، لا أوسع منه ولا
أضيق.
ثم و «أمهاتكم»
تعم الجدات من ناحية الآباء والأمهات ، مهما علون أو نزلن ما صدقت عليهن «أمهاتكم»
الخاصة بالامومة النسبية أو النازلة منزلتهن كأزواج النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) بدليل : (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) (٣٣ : ٦) وأما
المرضعات (وَأُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)
(٢٣) فبنص آخر يتبع
فلا يشملهن طليق «أمهاتكم» حيث «إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم».
ذلك وأما
المظاهرات والدعيات ف (ما جَعَلَ
أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ...)
(٤).
وهل الأمهات من
السفاح كما الأمهات من النكاح في ذلك التحريم العميم؟ طبعا نعم ، فإن واقع ولادته
منها لا ينكر مهما كانت بينهما مفاصلة في بعض أحكام الأمهات ، و «الولد للفراش
وللعاهر الحجر» إنما تحرم الزاني عن هذا الولد في أحكام الأولاد ، ثم لا رباط له
بالعاهرة ، ولا سيما غير ذات الفراش ، و (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ
إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) نص في طليق الأمومة بالولادة دون شرط آخر فيها إلّا هيه.
ذلك وبأحرى نشر
الحرمة في الأمهات من وطئ الشبهة أو الزّرق ، فما صدقت الأمومة في أصل الولادة
شملتها الحرمة ، من نكاح أو سفاح أو شبهة.
ثم «حرمت» هنا دون
«أحرّم» أو ما شابه ، دليل على ماضي التحريم في كافة التشاريع الإلهية ، اللهم
إلّا في الجمع بين الأختين لمكان (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) فإن قدره المعلوم هو ما سلف من حل الجمع بينهما ، ولكنه قد
لا يختص بذلك الجمع حيث التزاوج بين الإخوة والأخوات هو بداية التناسل منذ المرحلة
الثانية كما سلف ، ثم الأمهات والبنات كنساء الآباء وأمهات النساء والمحصنات
بالزواج ، لسن مما سلف ، وغيرهن بحاجة الى برهان على سلف فيهن وغير سلف ، وعلّ
العمات والخالات لسن مما سلف كما في نص التورات .
٢ «وبناتكم» وهن
طبعا من أصلابكم ، حيث الربائب يذكرن بعدهن ، فلا تحرم الدعيات ، ولا بناتكم من
الرضاعة ، إذ لسن بناتكم في الأصل ، ولا يلحقن بهن من الرضاعة ، حيث لم يذكرن في
حقل الرضاعة ، فإنما الرضاعة تحرّم الأمهات والأخوات حسب النص ، ولو عم تحريم
الرضاعة ما يحرم من النسب لعم النص دون اختصاص بالأمهات والأخوات.
فقد تخصص الضابطة «يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب» بذلك النص دونما حول عنه ولا تحويل.
«وبناتكم» كما تعم
البنات دون وسيط كذلك بوسيط الأبناء والبنات مهما علوا أو نزلوا ما صدقت «بناتكم»
وكذلك تعم بناتكم بوطئ الشبهة أو زرق النطفة وأشباهه أو الزنا ، ما ثبت أنهن منكم
، ولا تعم اللاتي من غير نطفكم دعيات أو رضاعيات ، فضلا عن بناتهن أو بنات أبناءكم
الرضاعيين أو الأدعياء ، ولا دور هنا للأولوية في البنات الرضاعيات من الأخوات حيث
المناط
__________________
مجهول لدينا ، بل
وهو معلوم انه لا يشمل البنات الرضاعيات كما لا تشمل عماتها والخالات ، فلو كن
محرمات كما الأمهات والأخوات الرضاعيات لذكرهن في عدادهن ، ولو عمت الضابطة «يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب» لكان النص بعد ذكر النسبيات «وهن من الرضاعة» دون
اختصاص بذكر الأمهات والأخوات!.
وبصيغة أخرى لو
كان القصد من ذكر الأمهات والأخوات في حقل الرضاعة الاختصار المناسب للقرآن ،
فالأنسب هو الأخصر منه ك «وهن من الرضاعة».
فلا يعني ـ إذا ـ أي
اختصار ، إنما هو الاختصار فيهما دون أن يتعدى عنهما.
فالموضوعات
الحقيقية الواقعية للأحكام كالأمهات والبنات وما أشبه تتبعها أحكامها كماهيه ، ثم
الموضوعات المختلقة كالأدعياء والأمهات بالمظاهرة أماهيه ، هي مردودة قطعا ،
والموضوعات المنزّلة منزلة الواقعيات محصورة بحصارات أدلتها ومنها موضوع الرضاعة ،
ولم تنزل منزل الواقع إلّا (أُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) فليقتصر التنزيل بهما ، فالتعدي عنهما الى سائر السبعة
تعدّ عن طور الشرعة الإلهية ، وحتى إذا كانت نصوص متواترة تعتبر موضوعات الرضاعة
كعديد السبعة لكانت مردودة بمخالفة الآية ، فضلا عن طليق الرواية «إن الله حرم من
الرضاع ما حرم من النسب»!.
فنحن واقفون في
التحريم موقف النص دون توسيع له ولا تضييق حيث لا يقبلهما.
فالبنات من
الرضاعة محللات وهن من الزنا محرمات لصدق البنات هنا دونما هناك.
وأما الضابطة «الولد
للفراش وللعاهر الحجر» فإنما تجري في موارد الشبهة دون القطع ، ولا ينقطع النسب في
غير وليد الحلال إلا في الميراث ـ إن صح ـ حسب النصوص فيما يشتبه فقط دون سواه من
أحكام النسب.
٣ (وَأَخَواتُكُمْ) من حل أو حرام أو شبهة ، من الوالدين أو من أحدهما ما صدقت
«أخواتكم» وتحريم الأخوات على الاخوة حكم حدث منذ تحقق النسل الثاني قضاء لنحبه ثم
حرمت مع الأبد ، وقد تعنيه ـ فيما عنت ـ (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) كما سلف.
ف «أخواتكم» لا
تشمل أخوات أخواتكم من غير والديكم أو أحدهما ، كأخت لأخت لك من أب هي أخت لها من
أم ، فلا تتصل هي إليك لا بأب ولا بأم وإنما بأخت لك من أب ليس يجعلها أختك ، فهي
حل لك لخروجها عن «أخواتكم».
٤ ـ ٥ (وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) وهن أخوات الآباء والأمهات مهما علوا أو نزلوا ، سواء كانت
الأخوة من الوالدين أم أحدهما ما دامت هي أخت الأب أو الجد والجدود ، أم أخت الأم
والجدة والجدات.
ذلك ، وأما عمات
العمات أو خالات الخالات فإنما تكون محرمات إن كن عمات لك أو خالات ، ولكن عمات
الآباء والأمهات وخالاتهم هن كلهن محرمات.
ثم العمات
والخالات الرضاعيات غير محرمات كما البنات الرضاعيات ، لأنهن خارجات عن النسبيات ،
وعن الرضاعيات الخاصة بالأمهات والأخوات.
٦ ـ ٧ (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) وهن البنات النسبيات دون سواهن من بنات دعيات أو رضاعيات ،
وحين تحل البنات الرضاعيات لصاحب اللبن أفلا تحل بنات الأخ وبنات الأخت الرضاعيات.
٨ ـ ٩ (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وتراهن الأمهات اللاتي ولدنكم أنهن محرمات عليكم شرط أن
يرضعنكم؟ طليق ذكرهن في بداية المحرمات يناحر ذكرهن مقيدات بعد ختام النسبيات ،
فإنه تكرار منكور ومحظور.
ولماذا هنا «أمهاتكم»
دون «النساء» علّه للتأشير إلى شرط تداوم مّا في الإرضاع وقد قرر في السنة بما يشد
العظم وينبت اللحم وبالعدد والزمان ، كما و (أَخَواتُكُمْ مِنَ
الرَّضاعَةِ) مشيرة نفس الإشارة.
فالإرضاع هو مادة
الإلحاق للأمهات والأخوات الأغارب بالنسبيات في أصل الحرمة الطليقة دون سائر أحكام
الأمومة والأخوة كالميراث وحرمة زواج بناتهن أو ما أشبه إلا بنات الأمهات نسبيات
ورضاعيات فإنهن من أخواتكم من الرضاعة.
فالأم المرضعة
بذلك النص محرمة على الرضيع ، فهل تحرم ـ كذلك ـ بنتها وأمها وأختها؟ قضية اختصاص
الحرمة باللاتي أرضعنكم عدم الحرمة في غيرهن من نسيباتهن المحرمات في حقل النسب.
ولكن (أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) قد تشمل بنات المرضعات ، ف «من الرضاعة» هنا تحرم فقط
الأخوات منها ، سواء أكن بنات المرضعة أم أغارب أرضعتهن أمهاتكم اللاتي ولدنكم ،
أم أرضعن ذكرانا أعارب فتحرم عليهم بنات المرضعة حيث تصدق عليهن (أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) حيث الرضاعة تعم إرضاع الأخوات أم إرضاعكم ، كما تعم مثلث
الأخوات من أبوين أم أم أو أب.
فكل ذكر وأنثى
حصلت بينهما الرضاعة حرم النكاح بينهما سواء كانت لهما
أو لأحدهما حيث «الرضاعة»
طليقة في هذا البين دون أن تختص بالبنت الرضيعة.
ذلك وأما أخوات
تلكم الأخوات أم غيرهن من النساء فلا يحرمن ما لم يصدق عليهن (أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) كما و (أُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) لا تشمل أمهاتهن إذ لسن من اللاتي أرضعنكم.
و «الرضاعة» هنا
هي الرضاعة التي بها الأمومة فتضيق إذا دائرتها في حقل الحرمة فلا تعدو المذكورين
الى غيرهما من سائر الخمسة ، لأنهم بعيدون عن تلك الرضاعة .
والرواية الشهيرة «إن
الله يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب»
__________________
__________________
لا تستطيع توسيعا
لدائرة التحريم أكثر مما نصت عليه الآية كما في رواية التعديد فإنما الآية هي التي
تخصص عموم هذه الرواية وأمثالها فلو كانت المنزلة عامة كما في الرواية لعمت ـ وبأحرى
ـ في الآية ، دون اختصاص بذكر موردين من السبعة إهمالا للباقية ، إذا فالآية نص في
اختصاص الحرمة بهما.
__________________
والقول أن (أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) نموذج عن المحرمات بقرابة الولادة و (أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) عن المحرمات بقرابة الأخوة ، وذلك تجاوب بيّن بين الآية
والرواية.
إن ذلك القول غول
لا يصغى إليه إذ لا ولادة ولا أخوة في حقل الرضاعة ، وكون كل منهما نموذجا عما
يقابله في حقل الولادة أو الأخوة تخرص بالغيب ، ولا يليق هكذا إجمال بكتاب البيان!
ثم لا أخوة في العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ولو كان الشمول هو المقصود
لجاء بصيغة أظهر وأخصر ك «وهن بالرضاعة».
ولأن التحريم
الرضاعة تلحيقا لها بالولادة تعبدي فليقتصر فيه على مورد النص والتعدي عنه تعد عن
حكم الله.
وهل الرضاعة
المحرمة هي ما صدقت وإن مرة أو جرعة ، ثم وإن كانت في غير سنّي الرضاعة؟ ظاهر «أمهاتكم»
دون «النساء» و (اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ) وكذلك (أَخَواتُكُمْ مِنَ
الرَّضاعَةِ) الظاهر منهما كالنص شرط تداوم مّا في الرضاعة تصدق فيه
الأمومة والأخوة ، إذا ف «أرضعنكم» لحد سمين أمهات ، و (مِنَ الرَّضاعَةِ) لحد سمين أخوات.
ذلك ، فلا بد لحد
في الرضاعة عدة أو مدة أم قوة ، لا تعرف إلّا بالسنة ، والثابت بها كأصل هي التي
تنبت اللحم وتشد العظم وقد تعني
__________________
رواية يوم وليلة
وخمس عشرة رضعة القدر المعدل لنبت اللحم وشد العظم.
والقول أن طليق
الآية تشمل عشرا أو خمسا مروية لصدق الرضاع فيهما ، مردود بأن الصادق من الرضاع هو
الذي تصدق فيه الأمومة والأخوة ، ولو لم تدل السنة على الحدود الثلاثة لكان حقا أن
يخلد بخلد أنه يتطلب أياما أو أسابيع ، فليقبل الأكثر حدا ، والثابت بالسنة شد
اللحم والدم والعظم ، وهو اللائق بصدق الأمومة والأخوة حيث الحاصل بالرضاع زيادة
في الجسم يحق فيها
__________________
صدق الأمومة
والأخوة وأصالة الحل تقضي به ما لم يتيقن الحد الواجب في حق
الرضاعة المحرّمة ، إذ لا إطلاق في «أرضعنكم ـ و ـ من الرضاعة» حيث «الرضاعة» تعني
قدر ما في «أرضعنكم».
وحصيلة البحث عن حدود
نشر الحرمة بالرضاعة أن التنزيل في الآية مختص بالأمهات والأخوات من الرضاعة ،
ولأن ذلك التنزيل ليس إلا في حقل حرمة الزواج فليس الأمهات والأخوات إلّا موضوعين
لحرمة الزواج في خصوصهما دون سائر التعلقات سواء في الزواج أم سواه.
فقد تقتصر الحرمة
بذوات الأمهات والأخوات من حيث الزواج ، دون سائر التعلقات حتى تشمل سائر السبعة.
إذا فحجة الكتاب
بالغة في اختصاص نشر الحرمة من الرضاعة بالموضوعين لا سواهما من سائر السبعة.
ملحوظة : إن أصل
التحريم في النسب هو الاتصال بالولادة مستقلا كولد أو مشتركا كإخوة من أب أو أم أو
منهما ، وذلك يوجب التحريم مهما علت الولادة أم نزلت ولكن الرضاعة بديلة عن النسب
هي محدودة موضوعا وحكما سعة وضيقا بما حدده الشارع وقد حد الاتصال بالرضاع مستقلا
كالرضيع بالنسبة للمرتضعة دون نزول وصعود ، او مشتركا كاتصال ذكر وأنثى في الرضاعة
فهناك
__________________
الأمومة وهنا
الأخوة ، ثم لا يعدو ذلك الاتصال الى غير أنفس المتصلين لاختصاص الموضوع ب (أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ).
ومن شروط الرضاعة
في نشر الحرمة أن تكون في سنتيها حيث (الْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ) ـ ثم (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ثم لتكن «من لبنك ولبن ولدك» حملا كان أو فصيلا فإن لبن الحمل صادق عليه انه لبن الولد.
والظاهر من «يرضعن»
و «الرضاعة» أن تكون بالثدي امتصاصا منه ، وكما الرضعة الواردة في بعض الروايات لا
تعتبر إلا في الحد العددي والزمني دون الحد الأصيل وهو نبت اللحم والدم وكما في
نصوصهما.
وحصيلة البحث حول
الرضاعة أنها تحرم ـ فقط ـ المرضعة وأولادها على الرضيع دون سائر المنتسبين في
السبع المحرمة ، وقد تؤيده فذلك الرضاع الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
وهذه هي «الرضاعة»
التي قال الله «وأخواتكم عن الرضاعة» أي تلك الرضاعة التي بها الأمومة الرضاعية.
__________________
(.. وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ ..)
الأمهات هنا هن
النسبيات لاختصاص التحريم في الرضاعة باللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ، ثم
وحرمة أمهات النساء ليست في حقل النسب حتى تلحق به أمهاتهن من الرضاعة بعامة حديث
الإلحاق ، المخدوش في عمومه ، بل هي حرمة بالمصاهرة.
ذلك ، وكما تشمل
جدات النساء مهما علون ، من أمهاتهن أو آبائهن ، ولكنها لا تشمل الموطوءات بسفاح
أو شبهة إذ لسن «نساءكم».
ونساءكم في مرتيها
تعم الدائمات والمنقطعات كبيرات وصغيرات ، بل والمملوكات والموهوبات لمكان طليق
النساء دون خصوص المعقودات ، لكنهن في حقل الربائب مقيدات بالمدخول بهن ونساءكم
الأولى طليقات تشمل غير المدخول بهن.
أترى الروايات
المقيدة لهن كما في أمهات الربائب بالمدخول بهن تصلح ـ بعد ـ لتقييد النساء الأولى؟
كلا ، فإنها مع ابتلائها بمعارضاتها ، ليست لتقيدهن فإنهن في نص الإطلاق طليقات.
أترى أمهات النساء
أكثر في حقل الزواج أم الربائب؟ طبعا لا نسبة بينهما حيث الأمهات هن عشرات أضعاف
الربائب ، فلو كان القيد في النساء الثانية قيدا للأولى لكانت أحرى بالذكر من
الثانية.
وتأويل «من»
بتعلقها ب «نساءكم» الأولى بيانا كما تعلقت بالثانية نشويا وابتداء حيث إن أمهات
النساء لسن من النساء والربائب هن من النساء ، إنه تأويل عليل لا يروّي الغليل ،
لا ـ فقط ـ لاختلاف المعنيين لكلمة واحدة في مختلف التعلقين.
لأن عناية أكثر من
معنى واحد في استعمال واحد لكلمة صالحة غير محظور لمقام جمع الجمع الرباني ، بل
لحضاضة التعلق الأول في صراحة (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) فإن «من» لا تصلح نشويا للأمهات حيث لا ينشأن من البنات ،
ولا بيانا لهن ، فإن (مِنْ نِسائِكُمُ) لا تصلح بيانا للأمهات ، ولا بيانا للنساء فإنه تحصيل
للبيان الحاصل بذكر النساء ، وإنما يصح الحذف فيما إذا كان الذكر صالحا ، ولا تصلح
(وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ ... مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إنما هو (نِسائِكُمُ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ).
ذلك! فضلا عن
التلميح به ضمن الظاهر من ثاني التعلقين ، ثم الفصل بين النسائين مما يجعل مثنى
التعلق خفاء في البيان وجفاء في كتاب التبيان ، وساحة القرآن براء من هذه
التحذلقات الخفية التي هي في نفس الوقت ركيكة!.
ذلك إضافة الى
لزوم وصف واحد لموصوفين مختلفي العامل حيث الأول مجرور بالإضافة والثانية بمن.
فلو كان القيد
جاريا في الأولى كما الثانية لكان صحيح التعبير وفصيحه «وأمهات نساءكم اللاتي
دخلتم بهن وربائبكم اللاتي في حجوركم من هؤلاء النساء ـ أم ـ واللاتي دخلتم بهن»
دون أن يهمل تقييد الأولى التي هي أحرى من الثانية اعتمادا بتحمل «من» ذلك التعلق
ـ التحذلق الركيك ـ بالأولى ، فضلا عن الاعتماد بالروايات المقيدة المعارضة بترك
القيد ومع الغض عن كل
__________________
هذه المبعدات لذلك
التعلق نقول لو صح تعلق «من» بالأولى في نفسها فلا يصح هنا حيث الأولى في نفسها
طليقة والثانية مشروطة بقرن الشرط ، فاشتراط الأولى تقييد بلا دليل ، فقصده دون
ظاهر الدليل إلا احتماله خلاف الفصيح وخلاف الصحيح في كتاب التبيان.
فالقوي قولا واحدا
دون أحوط وأقوى حرمة أمهات النساء مدخولات وغير مدخولات ، ولتضرب الروايات المقيدة
لهن بالمدخولات عرض الحائط
__________________
كالرواية المطلقة
للحرمة دون شرط الدخول ولا النكاح القائلة «من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها
ولا أبنتها» .
فجملة القول في (نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ) انه لا يصح في مذهب
__________________
الفصاحة ولا سيما
القمة القرآنية تعلق «من نساءكم» بنسائكم الأولى مع الثانية لركاكته في نفسه ، وان
قيد الجملة المستقلة الثانية ليس ليعم الجملة الأولى ، ولا سيما إذا أصبح وصفا
لموصوفين مختلفي العامل ، وهو لأقل تقدير إشارة خفية الى التعلق بالنساء الأولى ،
رغم ان بيانه الصراح أحرى من الثانية ، فلا يتحمل إطلاق الأمهات في الآية ذلك
القيد المقحم في روايات هي في أنفسها معارضة بأخرى هي أحرى بالتصديق لموافقة
الكتاب.
(وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ
لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ)
الربيبة هي بنت
الزوجة من غيره اعتبارا بأنها تربّى في حجر الزوج بطبيعة الحال ، و (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) هي حكمة لتحريمهن على الزوج ، وليست علة يدار معها الحكم ،
بل هي حكمة غالبية أنها تربى في حجرك كسائر بناتك فكيف يحل زواجها ، وكيف تكون غير
ذات محرم!.
ومما يحكم عرى
التحريم هو الدخول بأمهاتهن : (مِنْ نِسائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) فهو الذي يدار عليه الحكم أينما دار ، سواء أكانت الربائب
في حجوركم أم لم يكنّ ، وسواء كن مولودات قبل زواجكم أم بعد تطليقهن وزواجهن
بأزواج آخرين ، حيث (مِنْ نِسائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) تشمل ماضي الدخول ومستقبل الربائب كماضيهن.
فالزوجة التي دخلت
بها فيما مضى تحل بنتها من غيرك وإن أتت بها بعد تطليقها حيث يصدق أنها (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ) لمكان مضي الدخول وهو صادق في مضي الزواج.
ومما يبرهن أن قيد
(اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ) غالبي للتأشير الى حكمة في الحكم صراح المفهوم (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ) دون زيادة : «ولم يكن في
حجوركم» مما يؤكد
أن (فِي حُجُورِكُمْ) ليست قيدا للحكم ، وإنما هو فقط (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) الآتية في معاكسة الحكم ب (فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) ولو كان ل (فِي حُجُورِكُمْ) دخل في التحريم لسلب في المفهوم المصرح به كما سلب الدخول
، بل وقيد (فِي حُجُورِكُمْ) أحرى بذكره في المنطوق الناطق عن المفهوم من قيد (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) فإن ذلك قيد لموضوع الحكم وهذا قيد لشرط الحكم ، فإما إن
يتركا معا أو يذكرا معا ك «فإن لم تكونوا دخلتم بهن او لم يكن في حجوركم».
ثم ولا وجه
لانقلاب المفهوم منطوقا في (فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إلا بيان أنه هو القيد فقط لا سواه.
ففي ذكر «حجوركم»
رجاحة التذكير لحكمة التحريم ، وفي نطاق المفهوم ضرورة التبيين أن (فِي حُجُورِكُمْ) ليس شرطا في الحكم.
فالدخول بالأم هو
ـ فقط ـ يحرم البنت دون امر آخر ، سواء أكن في حجوركم أم لا أم نظرتم الى الأم ولمستم دون دخول أم لا خلافا للصحيحة فإنها غير صحيحة بمخالفة الآية وصحيحة أخرى.
__________________
فحين ننظر الى هذه
القيود الأربع ، لا نجد أصالة في التحريم إلا في قيدي الزوجية والدخول بالزوجة
فتحرم بنتها ، وأما كونها ربيبة تربت عند الزوج وكونها في حجر الزوج ، فهما قيدان
غالبيان ، كحكمتين حكيمتين تحكّمان التحريم كما يدل عليه صراح المفهوم (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَلا جُناحَ) فلو كان للتربية في الحجور دخل في الحرمة لكان الحق ذكرها
مع الدخول ، ثم ولا نعرف فرقا بين كونهن في حجوركم وعدمه في تحريمها إن دخلت
بأمها.
ورجوع الضمير الى
النساء المقيدة بالربائب في الحجور لا يجمع التربية الى شرط الدخول بتخيل الاكتفاء
بذكر (رَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) من ذي قبل ، إذ كان يكتفي ـ وبأحرى ـ عن شرط الدخول بذكره
من ذي قبل كأصل ، فإما ألا يذكر المفهوم اكتفاء بالمنطوق ككل ، أو أن يذكر بكل
القيود المشروطة في التحريم ، إما بإجمال ك «وإلا فلا جناح» أم بتفصيل ك «وإن لم
تكونوا دخلتم بهن ولم يكن ربائب في حجوركم فلا جناح» دون أن يفصل بين قيدي التحريم
ذكرا لأحدهما في صراح المفهوم وإهمالا للآخر ، حال أن أصالة شرط الدخول أوضح بكثير
من شرط الحجور.
ثم إن شبهة
الغالبية في قيد التربية واردة دون الدخول ، فكيف يهمل مورد الشبهة ويصرح بما لا
شبهة فيه.
أفبعد كل ذلك تبقى
شبهة في عدم تدخل التربية في الحجور في نشر الحرمة ، والروايات المتعارضة تعرض على
نص الآية فتصدق الموافقة لها
__________________
وتكذّب المعارضة .
وترى أن السفاح أو
وطئ الشبهة قبل الزواج يلحق بالدخول ، فتحرم بنت الموطوءة وان لم يدخل بها بعد
الزواج؟ (مِنْ نِسائِكُمُ) تقيّد الدخول المحرم بحالة الزوجية ، ولو ان مجرد الوطء
كان هو المحرّم دون تدخّل للزوجية لكان صحيح التعبير «من النساء اللاتي دخلتم بهن»
دون (مِنْ نِسائِكُمُ ...)!.
ثم ترى (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) في طليق نفي الجناح هل تسقط شريطة طلاق الأم؟ فإن نكح الربيبة
قبل طلاق الأم صح وانفصلت الأم دون طلاق إذ تصبح ـ إذا ـ أم الزوجة!.
قد يقال : لا ،
فإن نفي الجناح هنا واقع في مسرح الجناح الذاتي المداوم في تلكم المحرمات ، فهي ك (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) حيث لا تحلل وراء المحرمات الذاتية دون شرط ، كما وان «فلا
جناح» هنا لا تحلل الربائب دون عقد أو شروط أخرى هي لزام حاضر الحل.
وانفصال الأم ـ دون
طلاق ـ بنكاح البنت منوط بصحة هذا النكاح قبل طلاق الأم ، ولا تصححه «لا جناح»
وإنما تسمح بنكاحها بشروطه.
والقول : إن الجمع
بين الأم والبنت ليس محظورا حتى يبطل نكاح البنت لأنها تحقق الجمع ، مردود بأن ذلك
النكاح بحاجة إلى دليل الجواز كسائر
__________________
النكاح ، والجواز
ذاتيا لا يجوزه قبل طلاق الأم ، وعمومات جواز النكاح قد لا تشمل أمثال هذه الموارد
الغريبة.
وانفصال أم الزوجة
بلا طلاق بعد الإسلام إذا كان جامعا بينهما قبل الإسلام ، لا يدل على جواز نكاح
بنتها ـ قبل طلاقها ـ بعد الإسلام.
ووجود النظائر
للانفصال دون طلاق بأدلتها قد لا يدلّ على هذا الانفصال دون دليل ، ولا سيما أن
أصل نكاح البنت قبل طلاق أمها غير ثابت الجواز حتى يتحدث عن انفصال أمها دون طلاق
بنكاح بنتها.
وقد يكفي عدم
الدليل على جواز نكاح البنت قبل طلاق أمها دليلا على عدم الجواز ، فالأصل ـ إذا ـ بقاء
الأم في حبالته وعدم نفوذ النكاح في بنتها قبل طلاقها.
ذلك ، ولكن «لا
جناح» طليقة في سلبية الجناح لذلك النكاح ، كإطلاق سائر أدلة النكاح ، بل وهي
مستغرقة لكل الحالات لمكان نفي الجنس.
وليست هي ك (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) تحليلا نسبيا ، أم إن هذه أيضا تحليل للنكاح بدليل (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).
إذا فلا جناح في
ذلك النكاح ، ثم ولا دليل على وجوب طلاق الأم قبل نكاح البنت ، فإنما تنفصل الأم
بمجرد العقد على بنتها ، لأنها تصبح حينئذ أم زوجة.
فالأقوى جواز
نكاحها دون طلاق الأم ، وإن كان الأحوط أن يطلقها ثم ينكح بنتها.
وإذا زني بامرأة
هل تحرم عليه أمها أو بنتها؟ حرمة الأم منفية بنص الآية : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وحرمة البنت منفية ب (مِنْ نِسائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ) ولو عمت الحرمة فيهما لكان «وأمهات موطوءاتكم وبناتهن»!
فالرواية القائلة بنشر الحرمة بالزنا مطروحة .
ولكن «أمهات
موطوءاتكم» لا تشمل أمهات النساء غير المدخول بهن إلا بزيادة و «نساءكم» طليقة عن
الوطء ، مهما شملت «بنات موطوءاتكم» نساءكم وسواهن.
إلّا أن ذلك
الفارق لا يفرق النصين في اختصاص الحرمة بمسرح الزواج ،
__________________
مهما كانت أمهات
النساء أسهل توسيعا إلى الموطوءات من بنات النساء.
وهل الربيبة تشمل
رضيعة الزوجة؟ كلا! كما لم تشمل (أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) الأم الرضاعية ، حيث الآية تختص نشر الحرمة بموردين ليسا
هما منهما ، والخبر «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» على إطلاقه ليس يشمل
المصاهرة ، كما ولا تشمل غير ما نصت عليه الآية مما بين السبب والرضاعة ، ومن ثم
فليست البنات الرضاعيات من موضوعات الحرمة في باب الرضاع ، فهل تحرم البنت
الرضاعية على أمها؟ إذا فكيف تحرم على زوجها ، وإذا لا تحرم بنت الزوج من الرضاعة
عليه فبأحرى بنت زوجته من الرضاعة من غير لبنه.
وهل تعني الربيبة
بنت الزوجة مهما كانت بواسطة أو وسائط؟ الظاهر نعم حيث ألغيت قيد حاضر التربية في
الحجور فهي عبارة أخرى عن «بنات نساءكم» ما صدقت البنات مهما نزلن.
ولأن (نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ) تشمل إماءكم فبناتهن محرمات إن دخلت بهن والروايات
المتعارضة في الحل والحرمة معروضة على طليق الآية فتطرح المقيدة بالنساء الحرائر وهكذا أمهات نساءكم حيث تشمل أمهات إمائكم.
(وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)
الأبناء حسب
مجموعة الأعراف بطليقها ثلاثة : من أصلابكم ـ من
__________________
الرضاعة ـ الأدعياء
، فهنا (مِنْ أَصْلابِكُمْ) تخرج الأدعياء ومن الرضاعة ، نصا صريحا على اختصاص الحرمة
هنا بحلائل الأبناء من الأصلاب.
ولا يصلح طليق «يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب» توسيعا إلى حلائل الأبناء من الرضاعة ، أولا لما تقدم
في اختصاص التحريم بالرضاعة بمورديها المنصوصين في الآية ، ثم لا تحريم نسبيا في
تلك الحلائل حتى تحرم من الرضاعة ، فإنما هي حرمة بالمصاهرة.
وليس شأن خاص
لنزول الآية كتحليل حلائل الأدعياء بالذي يعم خاص التحريم الى الحلائل من الرضاعة ويخص
التحريم بحلائل الأدعياء وقوفا على نص التنزيل وابتعادا عن عليل التأويل.
وليس (مِنْ أَصْلابِكُمْ) فقط لإخراج الأدعياء حيث العبارة الصالحة ـ إذا ـ «من غير
أدعياءكم» أم وأخصر منها (حَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ) ثم الأدعياء خارجون ب (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ولقد كانت النبوّة بالرضاعة ككل أعرق في الجاهلية من بنوّة
الأدعياء ، وقد نفى الإسلام بنوّة الأدعياء عن بكرتها ، وعدّل الرضاعة حيث حصرها
في (أُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) فبقي الأبناء
الرضاعيون كسائر الرضاعة إلا المذكورين في نص القرآن ، بقوا خارجين عن التنزيل ،
فإخراجهم بنص (مِنْ أَصْلابِكُمْ) أحرى من إخراج الأدعياء ، وقد أخرجوا بنص آخر (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ
أَبْناءَكُمْ).
إذا فلا حول عن
خروج غير حلائل الأبناء من أصلابكم ، سواء الأدعياء والرضاعيين.
__________________
وذكر (مِنْ أَصْلابِكُمْ) وقصد الأعم في مقام البيان خلاف الصحيح في العبارات
السوقية فضلا عن قمة الفصاحة والبيان في القرآن!.
والحلائل جمع
الحليلة من الحل لا الحلول حيث الحلول الدخول ليس منهن فإنما هن مدخولات بهن ولسن
الداخلات ، اللهم إلّا بتأويل الحليلة بمعنى المفعول حتى تعني الدخول ، وهو ـ إذا
ـ يعم الزنا والشبهة ، ولا يعم غير المدخول بهن ، ولكن التعبير عن المدخولة
بالحليلة غير فصيح ولا صحيح ، فإنما هو «وأزواج أبناءكم اللاتي دخلوا بهن» بل هن
المحلّلات وذلك أحسن تعبير عن طليق الحل.
والحلائل أعم من
الزوجات حيث تشمل معهن الإماء المملوكات والموهوبات ، مدخولات بهن وغير مدخولات ،
ولا تشمل المزنيات بهن لمكان الحلائل ولا الموطوءات بالشبهة فإنهن محرمات في
الواقع مهما كن حسب الظاهر معذورات ، والعذر الظاهر للواطئين والموطوءات بشبهة لا
يجعلهن في «حلائل الأبناء» إلا بضرب من التأويل عليل وتذوّق كليل ، حيث إن ظاهر
الحل ما كان بأصل الشرع لا وبعنوان ثانوي إلّا بدليل قاطع.
ولو عنت حل الوطء
وإن بشبهة لشملت كافة النساء حيث يحل وطئهن بشبهة ، إذا فكل النساء محرمات على
آباء الأبناء فإن وطئهن عن شبهة محللة!!!.
ثم وليست الآية في
مقام بيان أصل الوطء حتى تشمل الوطء بشبهة ، وإنما تبين أصل الحل وطئ أم لم يطأ ،
وليس حل وطئ الشبهة قبل الوطء حتى تشمله الحلائل.
ولا يشترط في
حلائل الأبناء الحل الحاضر ، حتى ولو كان المشتق حقيقة
في المتلبس
بالمبدء ، حيث الحلائل الحاضرة هن من المحصنات المحرمات على غير أزواجهن آباء وغير
آباء في الآية التالية.
فالإحصان سبب
مستقل في التحريم دون حاجة إلى كون المحصنة حليلة الابن أمّاهيه.
ثم الحلائل جمعا
عام مستغرق يعم كل حليلة حاضرة وغابرة حيث تصدق الحل الواقع ، اللهم إلّا المستقبل
حيث لم يقع فلا يصدق انها حليلة الابن ، ولا يمكن عنايتها وإلا لحرمت كل أنثى يحل
الزواج بهن للأبناء.
كما أن «أبناءكم»
تعم الأبناء دون وسائط أم بوسائط الأبناء أو البنات مهما نزلوا ، وكما تدل عليه
آية المباهلة «وأبناءنا وأبناءكم» ولم يكن من «أبناءنا» إلا الحسنان (عليهما
السلام) .
__________________
فهذه خرافة جاهلة
قاحلة أن ابن البنت ليس ابنا ولذلك يحرم عن الخمس! ولا يصدقها إلّا الشعر الجاهلي والفكرة الجاهلية التي كانت لا تعتبر البنت من مواليد الأب
فضلا عن أولادها أبناء وبنات ، وكذا الرواية المختلفة القائلة فيهم غائلة
الاستثناء إلى الآية «أدعوهم لآبائهم» فهل إن ابن البنت دعيّ حتى يدعى لأبيه؟.
ونقول للذين لا
يعتبرون ابن البنت ابنا هل يحل لكم الزواج بحليلته؟ فإذا لا فكيف لا يعتبر أبناء
البنات العلويات من ذريات آبائهن؟.
(وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)
وهذا الجمع
الممنوع هو الجمع في جماع الرغبات الأنثوية كما في سائر المذكورات من قبل ومن بعد
، إذا فالجمع بين الأختين في عقد النكاح فضلا عن مخلفاته في حقل النكاح ، وكذلك
الجمع في تحليل الأختين ، هذان الجمعان ممنوعان لأنهما المصداقان الأصيلان للجمع
المحظور.
وأما الجمع في
الملك فقد لا يحظر عنه كما يجمع بين الأم وبنتها ، ولكن لا يجوز وطيها ، فإن وطأ
إحداهما حرمت عليه الأخرى رغم أنها ملكه ، كما تحرم عليه المملوكة المزوجة.
والفارق بين هذا
الجمع والأوّلين ، أن الملك ليس سببا ـ فقط ـ لحل الوطء وهما له سببان ، فالتحريم
في الحقل النسائي يعم الجمع بسبب الحل الخاص وهو العقد والتحليل ، ولكنه لا يشمل
سبب الحل لولا المانع وهو الملك ، وكما يملك العبد وليس سببا لحل في الحقل
الشهواني الجنسي أبدا.
__________________
والرواية الواردة
عن عثمان والمختلقة على علي (عليه السلام) مضروبة عرض الحائط حيث تجعل معارضة بين آيتين لا معارضة
بينهما كما في سائر آي الذكر الحكيم (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
فما هي المعارضة
بين آية التحريم (وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وآية التحليل (إِلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) والثانية طليقة تقيّد بغير الأختين كما تقيّد بغير المحارم الأخرى المذكورة قبلهما.
ذلك ، وعلّ الأشبه
حرمة الجمع بين الأختين بالملك كما في التحليل والتزويج ، وحرمة ملك أم الزوجة أو
المملوكة وكذلك ملك الربيبة المدخول يأمها وحلائل الأبناء وسائر المذكورات في آية
التحريم هذه ، سنادا الى طليق
__________________
«حرمت» مهما كانت
الفوائد الأنثوية هي أظهر مصاديق التحريم ، ولكن ملك الأنثى مما يحلّل وطئها كما
النكاح والتحليل ، وقد تؤيد طليق التحريم الروايات المحرّمة للجمع ملكا بين
الأختين .
ولكن هذه الروايات
لم تحظّر إلّا جمع الوطء ، والآية لم تحرم إلّا الرغبات الأنثوية بأي سبب في
المذكورات ، فلا تجوز ككل بالنسبة للمملوكات المثيلة للمذكورات ، وأما مجرد الملك
فلا محظور فيه.
__________________
فحين تملك أمة يحل
لك ملك أختها أو بنتها أو أمها أمّن هي من المحرمات نكاحا وتحليلا ، ولا يجوّز ذلك
الحظوة الأنثوية منهن وإن بنظرة أو قبلة أو لمسة فضلا عن الجماع.
وهل يصدق الجمع
إذا نكح إحداهما وملك الأخرى؟ الظاهر لا إلّا أنه لا يجوز له وطئ الأخرى ، فليس
الملك كالعقد ممحضا في سماح الحظوة الجنسية.
ثم الجمع بين
الأختين يجمع في حظره التنزيليّ الى الواقعي ، حيث «المطلقة» رجعية زوجة لبقاء
عصمتها ، ثم (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) دليل صارم لا مرد له على بقاء علقة الزوجية مهما خفت
بالطلاق الرجعي ، بل هي أقرب الى زوجها من المظاهرة التي تحرم عليه قبل الكفارة!.
ذلك ، وأما
البائنة بطلاق بائن ، أم فراق بائن كما في انقطاع المدة في المنقطعة أو قطعها ،
فهي ليست زوجة بأي معنى لا واقعا ولا تنزيلا.
وحين تعتبر
البائنة في الخلع والمباراة بائنة حكمها حكم البائنة الطليقة ، وقد يرجع إليها
زوجها إذا رجعت عما بذلت دون عقد جديد ، فهلا تعتبر البائنة بانقضاء المدة في
المنقطعة بائنة وقد انقطعت عصمتها دون أي رجوع إلا بعقد جديد.
فالرواية القائلة
بحرمة زواج أخت المنقطعة في عدتها البائنة إنها غائلة
__________________
منقطعة بمخالفة
الكتاب والسنة القطعية فالإفتاء بها خارج عن جادة الصواب ، حيث الأصل في حل الأخت
الثانية هو انقطاع عصمة الأولى بفراق بائن ولا فرق فيه بين بائن الطلاق وبائن
الفراق دون طلاق.
فإن فارق الأولى
بارتداد كانت الثانية المسلمة له حلا لانقطاع العصمة ، فمثلث الفراق بارتداد أو
مضي مدة أو طلاق ، يحلّل الثانية دون ريب.
وهل تحل أخت
المعتدة رجعيا حين لا يعزم على الرجوع أو يعزم على المضارة في الرجوع وهي ممنوعة؟
كلّا حيث أن حلّ الرجوع بشرط الإصلاح يداوم العصمة بينهما ، ثم لا تدري لعل الله
يحدث بعد ذلك أمرا ، فقد يعزم على عدم الرجوع أو على المضارة فيه ثم يتحول عزمه
الى صالح الرجوع ، وإنما انقطاع العصمة بينهما الذي يقطع حرمة النكاح بأختها هو
الانقطاع شرعيا لا واقعيا وإن لم يرجع حتى خروجها عن عدتها ، فقد يكفي جواز الرجوع
إليها لبقاء العصمة بينهما.
وحين يحرم الجمع
بين الأختين كأصل فلا فرق بين بدايته واستمراريته ، فالجامع بينهما قبل آية
التحريم يختار إحداهما بعدها ويفترق عن الأخرى دون طلاق حيث فرقتها الآية.
وأما الجامع
بينهما بعد معرفة التحريم ، فقد يكون بعقد واحد أم عقدين تلو بعض ، فالثاني باطل
دون ريب حيث يحقق الجمع وهو محظور ، وأما العقد
__________________
الجامع فهل يبطل
لأنه عقد جامع كالثاني ، أم يصح في إحداهما المبهم وله الخيار فأيهما أختار كانت
هي زوجته دون الأخرى؟ ولكن المبهم في الواقع لا وجود له كأن تقول لنساء عدة أنكحت
إحداكن ثم تختار ما تشاء!.
إذا فالأشبه بطلان
العقد الجامع الأول عن بكرته ، وبطلان العقد الثاني في الثاني إذ لا يحمل محظور
الأول.
وهذا يختلف عن
العقد الجامع قبل التحريم إذ كان صحيحا فيهما ومقصودا لهما ، ثم التحريم يفصل عنه
إحداهما كما يشاء ويختار وكما مضى في العقد الجامع بين الأكثر من الأربع.
ذلك كله (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) وترى الاستثناء راجع الى كل ما سلف إلّا ما ثبتت حرمته في
كل الشرائع كالأمهات والبنات والأخوات؟.
الظاهر ذلك ، لأن
اختصاص الاستثناء بالأخيرة لا دليل عليه ، فالظاهر أدبيا ومعنويا رجوعه إلى الكل
إلا ما قد سلف من معلومات الحرمة.
وليس هذا من
استثناء الماضي من المستقبل ، إنما هو استثناء العقاب على الماضي عنه ، وأما الغفر
عما سلف بعد الإيمان فهو دليل ثان يدل على عامة الغفر ، والحالة التدرجية في
الأحكام الإسلامية تقتضي هذه التنازلات تلو بعض كما تقتضي أحيانا تصاعدات مثل
تحريم الخمر ، ولكن رفع العقوبة عما سلف يعم ما سلف وما كانت ثابتة الحرمة إضافة
الى أن غيرها لم تكن محرمة حتى يستثنى عقابها.
وقد يعني (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ـ فيما عنت ـ سلب التحريم السالف ، أن السالف في الجمع بين
الأختين وأضرابه كان حلا ثم حرم وهذا أقرب الى الصواب ، وليس من استثناء الماضي عن
المستقبل ، بل هو إخبار عن عدم
الحرمة في بعض ما
سلف ، إضافة الى الغفر عن عقوبة المحرمة مما قد سلف.
فالمحرمات السالفة
هي هنا مستثنيات العقوبة ، وغيرها مستثنيات الحرمة فضلا عن العقوبة ، حيث الإسلام
يمحو ما قبله.
فلا تعني ما سلف ،
ما سلف فعله بعد التحريم والفاعل مسلم ، حيث الحرمة والعقوبة وبطلان العقد وثابت
الحد كلّها جارية بشروطها.
فإنما يستثنى (ما قَدْ سَلَفَ) قبل التحريم في هذه الشرعة سواء أكانت محرمة فعقوبتها ، أم
غير محرمة فحرمتها.
والقول إن (ما قَدْ سَلَفَ) قد تحلّل استمرارية الأختين المنكوحتين من ذي قبل ، بعد
نزول الآية ، حيث لم يجمع بينهما بعد ، والجمع السالف غير محظور ، إنه محظور ، حيث
الجمع المحظور ليس فقط العقد عليهما حتى يحل الاستمرار ، بل ووطئهما عن عقد أيضا
ممنوع ، وهذا دليل حظر الاستمرار كما البداية في الجمع بعد نزول الآية.
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)
الإحصان في الأصل
هو المنع بحصن وسياج أيا كان ، كما يقال : مدينة حصينة ودرع حصين ، وكلمة لا إله
إلا الله حصني ، ويقال للفرس الفحل حصان لمنعه صاحبه من الهلاك ، والحصان المرأة
العفيفة الحصينة فرجها وسائر رغباتها الأنثوية عما لا يجوز.
والإحصان في كل
حقل يخص حقله ، فهو في حقل الرجال والنساء يعني الصيانة عن الشهوات الجنسية
بمقدماتها ، فالرجل المحصن هو المصون عنها والمرأة المحصنة هي المصونة.
ولأن الصيانة
الجنسية لها أسباب عدة فللإحصان أيضا صور عدة :
١ إحصان بالإيمان
فإنه قيد الفتك ، فهو يحصن الإنسان عما يخالف الإيمان ومنه التخلفات والشذوذات
الجنسية بمعداتها وخلفياتها ، فالعفاف الحاصل بالإيمان هو من الإحصان بل وهو
الأصيل في درجاته ، وقد جاء في القرآن بنفس المعنى (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (٥ : ٥).
٢ إحصان بالحرية
حيث الحرة تتأبى عن التبذّر الجنسي أكثر من الأمة بأصل الحرية وفصلها بها عن الخلط
بالرجال الأغارب وليست كذلك الأمة ، وآيته : (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (٤ : ٢٥).
٣ إحصان بالزواج ك
(فَإِذا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ
الْعَذابِ) (٤ : ٢٥)
والمحصنات الثانية هن الحرائر.
فكما الإيمان
إحصان ، كذلك الحرية إحصان ، والزواج إحصان ، مهما اختلفت هذه الزوايا الثلاث من
الإحصان سببا.
٤ وقد يكون إحصان
العفاف بطبيعة الحال دون إسلام ولا حرية ولا زواج ، فالإحصان العفاف ـ إذا ـ أربع
وأصله العفاف ، سواء أكان بسبب داخلي كأصل العفاف والحرية ، أم وعارض كالإيمان
والزواج .
ذلك مربع من
الإحصان ، والى خامس هو الإحصان عن الزواج منعا
__________________
عنه شرعيا لكونهن
ذوات أزواج أم سائر المنع ، كضابطة عاملة تجمع من لم يذكرن من الممنوعات إلى
اللائي ذكرن.
ولو عنت «المحصنات»
هنا ـ فقط ـ ذوات الأزواج لجيء بصيغتها الخاصة : «ذوات البعولة» إضافة الى أن عدم
قرينة تخص المحصنات بذوات الأزواج ، هو بنفسه قرينة على العموم إلا ما نعلم خروجه
عنها وهن العفائف.
وقد ذكر في القرآن
من عموم المحصنات المشركات والزانيات والمطلقات ثلاثا وأشباههن ، ثم وفي السنة
منهن أخريات لم يذكرن في القرآن.
إذا ف «المحصنات»
هنا هن الممنوعات عن الزواج بعد تلكم الموانع المنصوصة بموانع طارئة ، إحصانا
شرعيا عن النكاح ، ويقابله الإحصان عفافا ، فهما متقابلان في حكم الزواج حيث الأول
محظور والآخر محبور.
ذلك ، وترى بعد (الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) ، المحرمات في آيتنا هن العفائف؟ وحلّ الزواج يخصهن دون
الزواني ، حيث (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢٤ : ٣)!
أم الحرائر؟ والحل
في الأصل يخصهن دون الإماء! (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (٢٥)! ثم استثناء (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) لا يناسب خصوص الحرائر ، أم المؤمنات؟ فكذلك الأمر (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (٥ : ٥)!.
إذا فهن كل
الممنوعات عن النكاح أو الأعمال الجنسية ، فمن الأوليات
المشركات
والزانيات وذوات الأزواج والملاعنات والمطلقات تسعا أو ثلاثا والمعتدات ، ومن
الأخريات المحرمات والصائمات والمعتكفات والإماء على الحرائر والذميات على
المسلمات وسائر المحرمات بالكتاب والسنة عقدا أو وطئا.
إذا «فالمحصنات»
عامة بعد خاصات ، تعم كافة المحرمات كتابا وسنة.
ولماذا «من النساء»؟
ونفس «المحصنات» دليل أنهن من النساء إنه لدفع التوهم أنهن ـ فقط ـ الحرائر المؤمنات من ذوات
الأزواج ، الدائمات.
فطليق «من النساء»
أطلق الحرمة في ذوات الأزواج وأضرابهن أنهن ـ ككل ـ محرمات مؤمنات وغير مؤمنات ،
كالكتابيات المحللات حسب نص المائدة ، دائمات ومنقطعات ، إذ لا فرق بين ذوات
الأزواج بدوام وانقطاع ، ثم حرائر وإماء ، فالنساء المزوّجات محرمات على غير
أزواجهن على الإطلاق.
وترى ـ إذا ـ ما
هو دور (إِلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ)؟ إنه استثناء عن طليق «من النساء» أنهن ـ فقط ـ بين النساء
المزوجات قد يجوز زواجهن.
فمما ملكت أيمانكم
المزوجات بالمشركين حين تملكهن أيمانكم بسبي
__________________
كالمشركات وهن القدر المعلوم من (مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) حيث الظاهر منه هو ملك اليمين بعد كونهن محصنات ، ثم يتلوه
سبق الملك على الإحصان أن زوج مملوكته بغيره فله أن يفك ذلك الزواج.
ذلك وبأحرى
المؤمنات بغير سبي : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ..) (٦٠ : ١٠).
ومنهن المزوجات
اللاتي تملكهن بعد زواجهن ، أو بعد ملكهن لآخرين ، أو الأمة المزوجة بعبدك فإن لك فصل الزواج والاستبراء ثم وطئهن أو
__________________
زواجهن اللهم إلا المزوجة قبل أن تملكها ، إلا المزوّجة بعبدك.
ومنهن ما تملكهن
أيمانكم لأنهن خليات من الأزواج بطلاق أو موت أو ارتداد.
فقد تشمل (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الموارد التالية :
١ ما ملكت أيمانكم
بعد الإحصان كالمشركات السبايا.
٢ المؤمنات
المهاجرات بعد الإحصان بالأزواج المشركين.
٣ المشركات اللاتي
آمن وأزواجهن مشركون.
٤ المؤمنات حرائر
وإماء اللاتي ارتد أزواجهن ، تتزوجهن بعد عدة الوفاة.
٥ الإماء
المملوكات اللاتي تشتريهن فإنهن كن محصنات بملك اليمين ثم ملكتهن فحللن لكم.
هذه موارد مما
ملكت ايمانكم ، أي ما تملكون زواجهن ، فقد ذكرت في هذه الجملة ضابطة سلبية النكاح
وإيجابيته فالأولى (الْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ) والأخرى (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ).
وبصيغة جامعة إلا
ما ملكت يمينك ملكا لنفسها طليقا أو ملكا لبضعها ،
__________________
أو ملكا لزواجها
في غير ما منع ومحظور ، ولا يعرف حدود (ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) إلّا بنص من الكتاب أو السنة ، فإن الله هو الذي يملّك
أيماننا ما نملكه أيا كان.
كما (الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) هن الممنوعات عن النكاح بسائر الموانع غير الأصيلة حسب
الكتاب والسنة.
فالمحصنات من
الزواج أو عملية الجنس محرمات إلّا ما ملكت أيمانكم حيث يخرجن بذلك الملك عن
الإحصان به ، وأما المملوكة المزوجة فلا تحل بالملك إلّا بعد الطلاق.
(كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ)
ذلك التحريم في
مجالاته النسبية والرضاعية والسببية المصاهرة ، تحريم ثابت كضابطة ثابتة بأصل
الشرع لا حول عنه ولا تحويل ، فالزموا (كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) كتاب التحريم ـ ذلك ـ في كتاب الشرعة.
وفي ذلك التحريم
حفاظ على حرمة الأسرة من الفوضى الجنسية وشيوعية الاتصال الجنسي وانتشار الفاحشة
وتلوّث المجتمع ، والأسرة الإنسانية في حقل الإيمان قائمة على علنية الزواج
وعمليته على ضوء الفطرة ووحي الشرعة حيث تخصص كل امرأة برجلها الصالح لزواجها.
ولا يهدف الزواج
إنسانيّا وإسلاميا ـ فقط ـ قضاء الشهوة كما في سائر الحيوان ، إنما هو تأسيس بيت
وتشكيل أسرة وعائلة كريمة ، وإن كانت شهوة الجنس تتحقق في ثناياها كما وهي ذريعة
لتحقيقها.
إذا فأي تهوين من
شأن روابط الأسرة الشرعية توهين لشرف الإنسانية ، إحلالا للهوى المتقلبة والنزوة
العارضة والشهوة الجامحة في فوضى الاتصالات الجنسية ، محل الأسرة النظيفة.
وهنا ندرك مدى
الجريمة التي تزاولها الأقلام الدنسة والأجهزة المتخلفة لتوهين روابط الأسرة
والتصغير من شؤون الرباطات الزوجية ، للإعادة بشأن الارتباطات القائمة على مجرد
الهوى دون حدود ولا قيود.
إن الدعايات
المتخلفة المختلفة ـ الزور والغرور ـ توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن
تسارع الى اتخاذ خدين هو على حد تعبيرهم رباط مقدس ، بينما تسمي رباطها بزوجها عقد
بيع قاحل للجسد!.
ذلك (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) في القرآن العظيم كما كتب عليكم في فطركم المجبولة وعقولكم
غير المدخولة ، فلا تتعدوا عما كتب الله عليكم فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).
وترى إن «أحل» هنا
تحلّق التحليل على كل (ما وَراءَ ذلِكُمْ) ـ (أَنْ تَبْتَغُوا) زواجهن «بأموالكم ..» بصورة طليقة دونما شروط أخرى ولا
قيود حتى يقال : إنها تنسخ تحريم الزواني والزانيات على العفائف والعفيفات ، الذي
تحمله آية النور؟.
في الحق إنها كلمة
ماردة شاردة عن الفقاهة القرآنية ، إذ لا اطلاق طليقا هنا ل «أحل» حيث «المحصنات»
شملت كافة الممنوعات من زواجهن ومنهن الزانيات كما المشركات.
ولو كان إطلاق
فكيف ينسخ النصّ والعكس هو الضابطة أن ينسخه النص او يقيده بما سواه ، ومع الغض عن
ذلك كله ف (مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ) تقيّد ذلك الحل بالزواج الذي فيه إحصان ، ولا إحصان في
نكاح الزانية وإنكاح
الزاني ، لا
للزاينة ولا للزاني ، بل وهو تشجيع على الزنا وإيقاع للزانية إلى أفحش من الزنا
أنّ زناها بعد زنى بذات البعل أم بذات العدة حيث هي غير متقيدة بالحل ، كما
ونكاحها نكاح بذات العدة أم بذات البعل.
فحتى لو حل نكاح
الزانية غير التائبة لأولى المرات ، فلا يحل لمرات أخرى فإن من شروط الحل كونها
خلية عن البعل والعدة ، والزانية لا تصدّق في خلوها عن الأعذار المحرّمة ، فكيف
يجوز ـ إذا ـ نكاحها دون إحراز ذلك الشرط الأصيل؟!.
وفي الحق إن طليق
التحليل في (ما وَراءَ ذلِكُمْ) تحليل نسبي أمام الحرمة الذاتية في المحرمات الثلاث
الأصيلة : نسبية ورضاعية ومصاهرة ، وأما التحريمات الطارءة بعد النكاح أبديا
كالمفتضة والملاعنة ، والمطلقة تسعا ، ام مؤقتا كالمطلقة ثلاثا حيث «لا تحل له (مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ) والمعتكفة والمحرمة والحائض والنفساء والصائمة ، والمظاهرة
قبل الكفارة.
او الطارءة
بالنكاح المحرمة أبدا كالنكاح في العدة ونكاح المحرمة ونكاح ذات البعل ، أو
المحرمة إلّا بإذن كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها او نكاح الأمة لمن يقدر على نكاح الحرة.
فهذه وأشباهها من
التحريمات الطارئة أبدية أو مؤقتة إنها خارجة عن نطاق التحريم الأصيل غير الطارئ
الذي تكفلته آية التحريم هذه.
__________________
كما وأن المحرمات
بنصوص القرآن أصلية وطارئة خارجة عن نطاقها ، فالأصيلة بالتقيد او النسخ ،
والطارئة بخروجها عن المحرمات الأصلية ، والكل لأنها مشمولة ل (الْمُحْصَناتُ). فمن الأصيلة المشركات ، ومن الطارئة الزناة وأضرابهما من
الأصيلات والطارئات.
فالمحرمات غير
الأصيلة لا تدخل في نطاق (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) حيث الحل نسبي ، وحتى إذا كان طليقا يتقيد بآيات وروايات
تحرم أمثال هذه الموارد.
والمحرمات الأصيلة
حسب القرآن تقيد هذا الإطلاق ، فأين إذا إمكانية نسخ آية النور الصريحة ، بهذه
الآية طليقة وغير طليقة ، وقضيته نسخ سائر المحرمات بنصوص الكتاب كالمشركات وسواهن
وهن عديدات.
ذلك! ومع الغض عن
كل ذلك فهذه المحرمات غير المذكورات هنا داخلة في (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ) حسب المعنى الظاهر الأحرى لها وهو «الممنوعات من النكاح
عقدا ووطئا».
إذا ف (ما وَراءَ ذلِكُمْ) لا تعني إلّا ما وراء المنصوصات واللاتي ثبتت حرمتهن بكتاب
او سنة ، وقد ثبتت حرمة نكاح الزناة والمشركات والمطلقات ثلاثا واضرابهن من
المحرمات ابديا او مؤقتا بنصوص من الكتاب والسنة.
وهنا (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) تجمع انقطاع الاستثناء الى اتصاله ، انقطاعا عن الإحصان ،
واتصالا انها محصنة يجوز نكاحها كما فصلناه.
ثم وتحليل ما وراء
ذلكم محدود في حقل (أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) اموال هي صدقات لنساء في نكاح دائم أو منقطع ، أم لاشتراء
إماء يحللهن ما لم يمنع مانع من حلهن ، وامّا الأموال بديلة الوقاع دون عقد ولا
ملك يمين ، فليست إلّا بديلة السفاح.
فالمال والإحصان
به هما شرطان أصيلان في (أُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) وأما إذا لم يحصن بمال او دون مال فهو سفاح ، سواء أكان
نكاح الزانية غير التائبة ام وطي الأمة التي لا تملكها عينا او هبة.
فكما يجوز النكاح
بسماح المنكوحة عن صدقتها كذلك وطئ الامة الموهوبة بشروطه وشروطها.
ولا تقدير لصدقات
النساء الا حسب التوافق ورضاهن مهما كانت نعلين أو كفا من دقيق او سويق كما في
حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
__________________
ذلك ، ولكن أصل
الصدقة فريضة ، ولا ينافيها جواز سماح الزوجة عنها كما (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) دليل سماح السماح ، ولكن المفروض صدقة ما حسب التراضي ثم
لها ما شاءت من سماح أو تقليل.
ولماذا هنا (ما وَراءَ ذلِكُمْ) دون «من وراء»؟ علّه لأن «ما» يعني بها كل محاولات التحليل
، دون ذوات المحللات فقط ، ف (ما وَراءَ ذلِكُمْ) من نكاح وملك يمين او تحليل ، بشروطها المسرودة في الكتاب
والسنة «أن تبتغوا» الحلّ بأسبابه «بأموالكم» حال أنكم «محصنين» أنفسكم وإياهن عن
السفاح (غَيْرَ مُسافِحِينَ) بسفاح او نكاح محظور في شرعة الله ، وقد ذكرت شروط الإحصان
وموارد السفاح في الكتاب والسنة كالتي أشرنا إليها من ذي قبل.
فقد أصبحت «أحل»
طليقة نسبية ، ولكنها مقيدة ب (مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ) كما قيدت قبل ب «والمحصنات» ، اشارة إلى إيجابية الإحصان
وسلبية المسافحة ، والتفصيل موكول الى سائر الادلة القطعية كتابا وسنة.
ومما يدل عليه (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ان الحظوة الجنسية محصورة فيهما احصانا لهما او مسافحة ،
والإحصان هو الصيانة عن السفاح.
إذا فالزواج
المنقطع وملك الأمة قد يحصنان كما يحصن الزواج الدائم ، ومن شرط الإحصان الذي فيه
الرجم للمتسافحين ان تكون المرأة بمتناوله حتى تغنيه وتحصنه عن السفاح.
فقد يحصل الإحصان
بالمتعة كما يحصل بالدائمة كما يأتي عند البحث عن المتعة.
(فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً)
(٢٤).
آية منقطعة النظير
في التعبير عن النكاح بالاستمتاع ، مما يشي أنها تعني إما خصوص متعة النساء :
النكاح المنقطع ، أم هي فيها أظهر مهما شملت النكاح الدائم ، معاكسة لكل آيات
النكاح الظاهرة في الدائم ، الشاملة ـ ضمنيا للمنقطع ، بل والاستمتاع خاص بالمنقطع
منقطع عن الدائم لمكان لفظته الخاصة به ، و «منهن» المستثنية عن جموع (ما وَراءَ ذلِكُمْ) و «متعة النساء»
لا تعني طول التاريخ الإسلامي إلا النكاح المنقطع لا سواه.
لا نقول «أجورهن»
هي الدليل على أن الاستمتاع هو متعة النساء ، حيث الأجور مستعملة في كل المهور وما «هن مستأجرات» بالتي تخصهن بالأجرة ، فقد تعني أن أجرة المهور فيهن اظهر
من غيرهن ، أم لأنهن كالمستأجرين بانفصالهن بتمام المدة المقررة لهن ، انما نقول «أجورهن»
هنا بعد ما ذكرت صدقات النساء من ذي قبل (وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً)
فلا وجه
__________________
لتكرار ذكر المهر
اللهم إلّا خاصته الخاصة بمتعة النساء.
ومما يدل على أن
المعني من (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) النكاح المنقطع أن الحل بالنكاح الدائم وملك اليمين كان
معروفا من آياتهما فلا حاجة هنا بعد (أُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) إلى (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ) وبهذه الصيغة اليتيمة المنقطعة النظير في كل آيات التحليل.
فقد ذكر شرطان
اثنان ل «أحل» (أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ) (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) فإنهما شرطان اصيلان في الحل بالنكاح الدائم واشتراء الأمة
، فأية حاجة ـ إذا ـ إلى (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ) إلّا بيان حل ثالث في حقل التحليل فهو النكاح المنقطع.
ومنه أن لو كان
القصد هنا إلى التحليلين المعروفين لم يناسبهما (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ) كصيغة جديدة غير معروفة عنهما.
ومنه أن واجب
الصدقة فيهما غير مشروط بالاستمتاع بالضرورة ، فهنا تحليل جديد يناط واجب الأجرة
فيه بالاستمتاع.
ثم لا تختلف الأمة
الإسلامية ـ على اختلافها في نسخ الحلية لمتعة النساء ـ أن هذه الآية مختصة بها.
وترى ما هو موقف (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) بعد (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ)؟
هنا تفريع لخاصة
المتعة على عامة الحل فيما وراء ذلكم الشامل لمثلث النكاح الدائم والمنقطع وملك
اليمين ، حيث المتعة هي فرع لم يتبين قبل ولا بعد إلا في هذه اليتيمة المشرّعة لها
بخصوصها بعد عموم الحل فيما وراء ذلكم.
وهذه تناظر
توأمتها اليتيمة الأخرى : متعة الحج المفرعة على عامته :
(فَإِذا أَمِنْتُمْ
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (٢ : ١٩٦).
و «ما» بدلا عن «اللاتي»
موصولة قد تعني قدر المتعة ، أن أجورهن تقدّر بقدرها مادة ومدة ، دون أصل العقد
الذي هو الأصل في الدائم.
كما تعني خاصة
النساء المنقطعات من كل النساء الشاملة لهن وللدائمات والإماء.
إذا فقدر المتعة
مادة ومدة في النساء المقدرات أجلا ، هو الأصل في قدر الأجرة ، دون أصل العقد
الموجب بنفسه المهر دخل بها او لم يدخل ، تمتع بها أم لم يتمتع.
وحصالة الدلالة
هنا هي تقدير الأجر بقدر الاستمتاع قدرا وزمنا ، فلا يتحقق أجورهن إلّا بالاستمتاع
وطيا او مقدمات له شهية ، دون مجرد العقد وان لم يرها فضلا عن أن يتمتع بها.
وليست متعة النساء
في حقل النكاح ـ الشامل لها أيا كان ـ إلّا كالبيع المشروط المنقطع ، و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هي أشمل ضابطة إسلامية تعم كافة العقود العقلائية ، ومنها
عقد النكاح الشامل لقسميه ، ثم آيات النكاح تشملهما دون ريب ، مهما اختصت البعض
منها بالدائم بقرينة الطلاق وما أشبه.
وعناية النكاح
المنقطع من هذه الآية بلغت من الظهور والبهور لحد قد تقرء (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) كأنها كانت ثم سقطت ، ولكنها تفسير لها ظاهر كأنها من أصل
الآية.
ومما يدل عليه ـ إضافة
إلى ما استمتعتم ـ تفريع (فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ) على «استمتعتم» ومهور الدائمات تثبت بمجرد العقد عليهن دون
شرط لواقع الاستمتاع.
فحتى لو لم تنزل
آية المتعة ورواياتها لكنا نحلّلها بطليق آيات النكاح ، وأن الضرورة قاضية بحلها ،
إذ لو لم تحل لحلت الزنا بديلها ، إذ ليس كل أحد بإمكانه النكاح الدائم ذكرا أو
أنثى ، والحاجة الجنسية من الحاجات الضرورية التي لا محيد عنها إلّا بحل النكاح
المنقطع إضافة إلى الدائم ، وما قولة القائل بتحريمها إلا غائلة مائلة عن الحق
تعارض كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصالح المسلمين الذين
لا يجدون نكاحا دائما.
وما نسبة النسخ
إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد حلّها إلّا نسبة الكفر والفسق والظلم
إليه بل وأضل سبيلا : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ، ... وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ... وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥
: ٤٥ ـ ٤٧!.
فليس الرسول شارعا
يشرع ولا سيما ضد ما شرع الله ، إن هو إلّا رسول ، فضلا عمن سواه من أئمة وخلفاء ،
وما حديث التحريم المنسوب إلى الخليفة عمر إلا حجة عليه تخرجه عن الإسلام!.
فحين يجمع
المسلمون عن بكرتهم على تحليل متعة النساء بآيتها ورواياتها ، ثم ولم ينزل التحريم
في القرآن فكيف هم أنفسهم يختلفون في التحريم بعد التحليل ، دونما نص يتبع إلا
مختلقات زور من روايات وفتاوى تخالف كتاب الله!.
إن حل المتعة ليس
حلّا شيعيا كما يهرفه هارف غير عارف بالكتاب والسنة كيف وقد اجمع عليه كبار الفقهاء والمحدثين والمفسرين من
__________________
إخواننا مهما ذهب البعض منهم تبعا للخليفة عمر إلى انها حرمت بعد
ما أبيحت ، وآرائهم ورواياتهم في تحريمها متعارضة .
__________________
وانما نشأت
الفتاوى واختلقت روايات وأوّلت آيات في نسخها بعد ما حرمها الخليفة عمر ، ولم يكن
لتحريمها بحديث النسخ قبل عمر عين ولا أثر وكما يدل عليه المروي عنه «متعتان كانتا
في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حلالا أنا أحرمهما وأعاقب عليهما» فلو
كانت محرمة زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن بحاجة إلى تحريم عمر!.
ولقد استند
لإباحتها جم غفير من الصحابة والتابعين بالآية ، متابعين حلها إلى يوم القيامة وكما اجمع عليه الائمة الاثنى عشر
__________________
(عليهم السلام) وقد اعترف جم غفير من أعاظم إخواننا أن هذه الآية
__________________
__________________
نزلت بشأن النكاح
المنقطع مهما اختلفوا في نسخها ، والأكثرون من كبار
__________________
الصحابة ذهبوا الى
عدم نسخها .
__________________
وما اختلاق
الاستدلال بآيات انها نسخت متعة النساء إلا بعد ما أفتى الخليفة عمر بحرمتها ، ف (الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ ..) (٢٣ : ٦) تحلل
الأزواج والمنقطعة هي قطعا من الأزواج رغم ما استدلت بها عائشة بقيلتها العليلة أن
المتمتع بها ليست زوجة! ، ثم ومكية الآية تحيل لها أن تنسخ مدنية ، اللهم إلا ان
تنسخ هي بالمدنية فمتعة النساء إذا ناسخة لها ، ولكن لا تناسخ في البين لمكان عموم
الأزواج.
واما (الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
__________________
وَعَشْراً) (٣ : ٢٣٤) ، أن
ليست للمنقطعة هذه العدة ، فان لها هيه كما للدائمة لعموم الأزواج لهن كما لهن!.
وآية الطلاق (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (٦٥ : ١) تختص
النساء بالدائمات بقرينة الطلاق المختص بهن وذلك اختصاص حكمي وليس موضوعيا يخرج
المنقطعات عن النساء ، وليس الانفصال دون طلاق دليل الحرمة كما تنفصل الإماء
بالبيع ، وتنفصل الأم بنكاح الربيبة والمفتضة والملاعنة ، والمرتدة عن المؤمن ،
والمؤمنة عن مرتد ، والزانية المصرة عن غير الزاني ، وآية الميراث (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ
... وَلَهُنَّ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ ..) (٤ : ١٢) إنها كما
هيه تعمم الميراث لكل الأزواج دواما وانقطاعا ، ومخمس الأحاديث حول الشمول وعدمه ،
بشرط الميراث وعدمه ، معروض على عموم الآية فالأشبه ثبوت الميراث في الانقطاع كما
في الدوام.
وحتى إن ثبت تخصيص
بدليل قاطع لا مرد له فهو كالتخصيص بغير القاتل والكافر وهما من الأزواج قطعا ، ثم
وآيات الميراث المتقدمة نزولا وترتيبا على آية المتعة ليست لتنسخ المتأخرة!.
وآية النصاب (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (٤ : ٣) مخصصة
بغير الإماء والمنقطعات بدليل السنة القاطعة ولمحة الآية في (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) حيث تشمل كل الحلائل غير الدائمات ، إضافة إلى كونها
متقدمة على آية المتعة.
ذلك ، اضافة إلى
ان «انكحوا» هنا إيجاب للفرار عن ترك القسط بين اليتامى فلا يشمل كل حقول النكاح
الدائم فضلا عن المنقطع فلا تخصيص إذا بل هو تخصّص.
ذلك وهؤلاء مصرون
على نسخ آية المتعة بهذه الآيات وما هي لو كانت لها
ناسخة ونازلة
بعدها ، إلّا دالة على أن متعة النساء سفاح دون نكاح ، فهل أحلّ الله السفاح لفترة
ثم حرمه؟!.
ومما يؤكد حلّ
المتعة بعد الضرورة الواقعية إليها في ظروف قاسية محرجة او معسرة انها مما يعف
المؤمن عن السفاح (وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٢٤ : ٣٢) تشمل
إيجابية الاستعفاف بمتعة النساء والإماء كما تعني سلبية النكاح الدائم أم كل نكاح
، وقد استدل الإمام لحلها بآية الاستعفاف.
فالأصل في الزواج
هو الدائم ثم المتعة بالحرة أو الأمة كما في الآية التالية : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ..) كما (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (٢٥).
إذا ف «لا تلحوا
على المتعة إنما عليكم إقامة السنة فلا تشتغلوا بها عن فرشكم وحرائركم فيكفرون
ويدعين على الآمر بذلك ويلعنونا».
والقول ان سكوت
الصحابة عن فتوى الخليفة دليل إما على كفرهم أو على واقع النسخ ، مردود بعدم
السكوت المطلق أولا ، وأن التقية من الفضاظة والغلظة قد منعت الساكتين عن الرد
عليه وكما كانت التقية لأئمتنا اعتمادا على نص الكتاب وثابت السنة ، فحتى لو اجمع
المسلمون على تحريم المتعة لكنا نضربه عرض الحائط بمخالفة القرآن.
فما طنطنة النسخ
بالقرآن أو السنة إلا منذ حرم عمر متعة النساء فلا نجد
قبله ولا إشارة
إلى نسخ بكتاب أو سنة فانما رأوا نسخها فرووا نسخها بعد ما حرمها عمر وقد ورد بتحريمها ـ فقط ـ من قبل عمر زهاء أربعين حديثا
__________________
أخرجها رواد
الحديث وكبار المؤلفين من الصحابة والتابعين مفسرين ومحدثين .
وهل المهر فرض في
النكاحين؟ نص القرآن يفرضه كما هنا (فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ومثلها آيات أخرى تسميه فريضة وهي فوق الواجب.
وقد نستوحي من «أجورهن»
أن فريضة المهر هي أجرة النكاح أيا كان فسواء أسميت أم لم تسمّ كانت ثابتة (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ثم (.. وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) (٤ : ٢٤) تسمح لما
تراضيا عليه زيادة أو نقيصة بعد التسمية ، ومتى سمح في عدم فرض الفريضة فهي باقية
على عهدته فيرجعان إذا لم يتراضيا إلى مهر المثل.
__________________
إذا فلا تسقط
الفريضة بعدم تسميتها ، ولا تنقص بأية وسيلة إلّا أن يعفون ، ولا تجوز هبة المرأة
نفسها دون مهر فإنها خاصة حسب النص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٣ : ٥٠).
وقد نستلهم من (اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) ان الفريضة في المنقطع لا تثبت إلا في حقل الاستمتاع وقاعا
أو سواه من مقدماته بسائر الحظوات الجنسية نظرة وقبلة ولمسة ، فإذا خلى العقد عن
كل ذلك فلا استمتاع فلا فريضة ـ إذا ـ اللهم إلّا في العقد الدائم حيث الآيات
الفارضة للفريضة فيها طليقة غير مقيدة بالاستمتاع ، وهذه دلالة ثانية أن محط هذه
الآية الأصيل هو العقد المنقطع.
وقد نستوحي من (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) ان فريضة النكاح المنقطع مقدرة بقدر الاستمتاع ، فكما يجوز
تعيين عدد الاستمتاع بديل الفريضة كزمن الاستمتاع ، كذلك الأمر إذا لم تفرض فريضة
حيث تقدر بقدر الاستمتاع عدة أو مدة.
إذا فلا تعني «ما»
هنا انفس المتمتع بهن ، وإنما هو قدر المتعة عدة او مدة.
وفي النكاح
المنقطع فروع اصيلة كالتالية :
١ هل تشترط فيها ـ
كما في الدائم ـ الصيغة اللفظية إيجابا وقبولا؟ قد يقال : لا ، لمكان (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) وهي طليقة تعم الاستمتاع بعقد وغير عقد ولا دليل على ضرورة
لفظية العقد كما في عقد البيع والإجارة ، وقد يتأيد الإطلاق برواية .
__________________
وقد تطارده (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) فانه قرار ومعاقدة بالأموال ، اللهم إلّا أن يقال ان ليس
لزام الابتغاء بالأموال صيغة لفظية رسمية كما في سائر المعاملات ، ولكن «أحل» قد
تعني حل النكاح المحرم من ذي قبل ، ولكنه حل الاستمتاع بنكاح او ملك او تحليل ،
فكما تحل المملوكة بالملك دونما صيغة للتمليك ، كذلك وبأحرى حل المنقطعة.
ذلك ، ولا يترك
الاحتياط بصيغة النكاح ، ولكنه إذا حصل معاطاة لا يحكم عليه بالسفاح ، حيث الحدود
تدرء بالشبهات ، وهذا فيه شبهة النكاح لأقل تقدير ، والأشبه اجراء أحكام النكاح
فيما كانت المعاطاة صريحة في عقد النكاح ، حيث العقد لا يختص بالصيغة المخصوصة ،
فانه قرار بين الطرفين
__________________
المعنيين بأية
ظاهرة لفظية أماهيه من الدالات الصريحة أو الظاهرة عند الطرفين في قصد النكاح.
٢ هل يجوز النكاح
المنقطع دون إذن الولي؟ قد يقال : لا ، لقوله تعالى (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو الولي ، ولكنه خاص بالدائم لمكان الطلاق : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (٢ : ٢٣٧).
فلا دليل ـ إذا ـ على
اشتراط اذن الولي في المتعة ، والأولوية القطعية في اشتراطه في المنقطعة لا تجري ـ
ان جرت هنا ـ إلّا في حل الدخول بها دون صرف صيغة التحليل ، والروايات متظافرة في
أصل الحل دون إذن الولي إلا في الدخول .
__________________
٣ هل تجوز متعة
الزانية والمشركة؟ قد يقال بالجواز لبعض الروايات وتطاردها آية النور والمائدة
وطائفة أخرى من الروايات فصلنا البحث عنها على ضوء آية النور ، ولا ينبغي حمل لا
ينبغي في رواية على مرجوحية والإمام مستند فيها الى نص آية الحرمة .
__________________
٤ هل الأجل والمهر
يشترطان في المتعة؟ لا ريب في اشتراط الأجل فإنه قضية انقطاع النكاح ثم المهر
فريضة كما قال الله (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)
مهما جاز التراضي من بعد الفريضة زيادة فيه او نقيصة او
__________________
سماحا عن أصله.
٥ إذا نسي الأجل
المقرر بينهما فهل ينقلب دائما أو يبطل او يصح منقطعا؟ وجوه أشبهها الأخير حيث
العقد مبني على الأجل كما إذا بنى على مهر ثم نسيه في العقد أو تركه ذاكرا مبنيا على
ما يعلمان ، وأحاديث الانقلاب محمولة على عدم البناء .
٦ وهل إن عدة
المنقطعة كما الدائمة (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وهي مجموعة الحيض الثلاثة بأطهارها؟ وهي مختصة في آيتها
بالمطلقات! ولا تقاس عليها المنقطعات!
أم هي حيضتان؟ او
حيضة واحدة؟ فيهما تضارب الروايات والأشبه
__________________
هو الوسطى قضية
التدرج من الدائمة إلى المنقطعة إلى الأمة وللأخيرة حيضة ، كما وهو الأحوط.
٧ عدة الوفاة
عليها هي كما الدائمة لعموم الآية (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (٢ : ٢٣٤)
والروايات المتضاربة معروضة عليها فتصدق الموافقة وتطرح المخالفة لها .
__________________
٨ وهل يحصل
الإحصان بالمتعة كما الدائمة سواء؟ قد يحصل إذا كانتا على سواء في إمكانية إغناء
غريزة الجنس ، فمن كانت عنده دائمة لا تغنيه كالتي لم يبن عليها أو الغائبة أماهيه
من غير المغنية فلا إحصان له بها ، ومن كانت عنده أمة او متعة تغنيه فهو محصن ،
ومختلف الحديث معروض على الكتاب المسوّي في الإحصان بين هذه الثلاث : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) وقد يؤّول عدم إحصان المتعة بغير المغنية فانها في الأكثر
ليست عند المتمتع ، وهكذا الأمر في المحصنة أن يكون عندها من يغنيها ، ولأن
الإحصان درجات يعني في باب الرجم أعلاها ، لذلك يشترط في إحصانه كما له وتمامه على
أية حال.
__________________
ذلك فلا يرد على
مستحلي المتعة أنها لا تحصن فهي ـ إذا ـ مسافحة ، وآية التحليل تشترط الإحصان ،
حيث الإحصان مشترك بينهما وبين الأمة دون اختصاص بالدائمة.
ذلك وان ادعى انه
غير مزوج يصدق ، وإن ادعى ان زوجه لا تحصنه فإن كانت متعة يصدّق فإن طبيعة الحال
فيها عدم المقام مع الزوج ، وإن كانت دائمة أو أمة فقد لا يصدق اللهم إلا إذا
احتمل عقلائيا إمكان صدقه حيث الإحراز شرط في موضوع الإحصان.
والقدر الكافي في
هذا الإحصان أن يقضي الزوج الحاجة الضرورية العادية لزوجه ، لا والحاجة المتطرفة.
وإن كانت عنده
زوجة دائمة عجوزة دميمة فقد يصدّق في دعوى عدم الإحصان ، وأما الزوجة السليمة التي
يقضى بها الحاجة الضرورية في العادة فهي تحصن ولا تقبل دعوى عدم إحصانها.
والأصل أن يعرف
الإحصان واقعا ام بالمظهر المتعوّد ، فإن شك فيه فلا حدّ حيث الحدود تدرء
بالشبهات.
٨ هل تصح المتعة
دون امكانية التمتع بوجه ما كما تصح النكاح الدائم دون هذه الشريطة؟ الظاهر لا
لمكان تفرع (فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) على (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) ولأن المهر فريضة في النكاح المنقطع وهو متفرع على
الاستمتاع كما وكيفا وان بنظرة ممتعة أماهيه ، فإذا انقطع التمتع ولا سيما عند عدم
القابلية في الأنثى فقد ينقطع اصل العقد عن بكرته.
اللهم إلّا أن
يقال أن الأجر الفريضة متفرع على الاستمتاع دون صحة أصل النكاح سنادا إلى طليق
آيات النكاح.
ولكن النكاح ككل
مفروض فيه المهر حسب آياته فحين لا فرض في المهر
لعدم الاستمتاع
فلا عقد إذا ، وليست مشروعية النكاح المنقطع إلا للاستمتاع حسب الكتاب والسنة ،
دون النكاح الدائم الذي هو طليق عن شرط الاستمتاع ، فالأشبه عدم صحة العقد المنقطع
عند عدم إمكانية الاستمتاع وإن بنظرة او قبلة او لمسة ، بل هو تلاعب بآيات الله!.
اللهم إلا ان يقال
أن النكاح المنقطع من فروع الدائم وليس إمكانية الاستمتاع او واقعه شرطا في صحة
النكاح الدائم ، وأن الآيات الآمرة بالنكاح والمجوزة له لا تشترط الاستمتاع كأصل.
وليست آية المتعة
صريحة بل ولا ظاهرة في اشتراط الاستمتاع ، فانما تفرع الفريضة على الاستمتاع.
(وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا
مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ
مِنْكُمْ)
(٢٥).
الطول هو الفضل
والمال والنعمة والقدرة : (شَدِيدِ الْعِقابِ
ذِي الطَّوْلِ)
(٤٠ : ٣) (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ
مِنْهُمْ) (٩ : ٨٩) فطول
الجهاد هو حوله وقوته مالا وحالا ، وطول ربنا سبحانه وتعالى هو كل طول.
ف (مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) تعني طولها بمناسبة النكاح استطاعة القدرة المالية أو
والجنسية لنكاح دائم ، ومن ثم المنقطع فإن لكلّ طوله على قدره مهما كان طول الدائم
أطول ومسئوليته أعضل.
و «ينكح» هنا بعد
خصوص المتعة وطليق النكاح قبلهما ليس ليعني ـ
فقط ـ الدائم ، بل
هو طليق يعم إليه المنقطع مهما اختلفا درجة ومسئولية.
و (الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) هنا هن الحرائر العفائف ، لطليق «المحصنات» وإنما خرجت
منها ذوات البعل ، ولمكان «المؤمنات» وكما قورن المؤمن في آية النور بالزاني (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
(فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) هي مرحلة ثالثة من النكاح حيث لا تحتاج الى طول الأولى ولا
الثانية لخفة المسؤولية في طول المال والحال على أية حال.
وهنا (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) تخصيص لمسموح النكاح بالمؤمنات كما كان في المحصنات و (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) قضاء صارم على ما ربما يخلد بخلد البعض من المؤمنين أن
المؤمن أفضل من الأمة المؤمنة بأنه دعوى خاوية ، إذ ليست الحرية بالتي ترجح إيمان
الحر على سواه ، إنما هو رجاحة حرية الإيمان (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ) كما وتندد بالذين لا يقبلون ظاهر الإيمان من الإماء لأنهن
إماء.
و (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ترفيع لشأنهن الى شؤونكم أنتم المؤمنين بسناد الإيمان ثم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) دون سائر الفوارق المتخيلة والمدّعاة التي هي المدعاة بين
الأخفاء.
ذلك وقد سمح في
آية المائدة بنكاح الكتابيات فهي ناسخة خصوص «المؤمنات» بضم الكتابيات ، مهما لم
تنسخ بالنسبة للمشركات المحرمات هنا عموما وفي آية البقرة والممتحنة خصوصا ، وقد
تعني «المؤمنات» هنا الموحدات فلا نسخ.
و «من فتياتكم»
هنا ليست لتعني مماليككم أنتم الناكحون حيث الملكية هي نفسها المحللة لعمليات
النكاح ، وكيف ينكح المحللة بملك كما لا ينكح
المحللة بنكاح؟
وقد سمح الله في نكاحهن بإذن أهلهن (فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ).
ذلك مهما جاز نكاح
المملوكة بعد عتقها كنكاح المتعة بعد انقضاء وقتها ، ونكاح الدائمة بعد طلاقها
وانقضاء عدتها.
فتلك إذا مرحلة
ثالثة تنازلية من مختلف ضروب النكاح ، ابتداء بالحرة دائمة ومنقطعة وانتهاء الى
المملوكة منقطعة ودائمة ، وليكن بإذن أهلهن.
وهنا (فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) بدلا عن «إماءكم» احترام لهن لإيمانهن ، وكما عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): «لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي»
وقد يعني «أهلهن»
إضافة الى المالكين آباءهن حيث الأهل تشملهم إليهم ، بل والآباء أحرى بأهليتهن من
المالكين .
ثم (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) تعني مهورهن و «بالمعروف» هو المعروف من قيمهن وما يرضين
وأهلهن ، دون مماكسة ومناقصة لأنهن إماء فإنهن مؤمنات ولذلك سمين هنا بفتياتكم
المؤمنات ، دون الإماء أو المملوكات.
__________________
وذلك النكاح
المشروط أولا بعدم الطول في الحرائر ، ثم (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) ومن ثم (وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يضاف إليها ـ وهي شروط الناكحين ـ شرط الإحصان فيهن.
ولقد نرى شريطة «المحصنات»
هنا وفي الحرائر أصيلة في سماح النكاح ، مما يحظر كلمة واحدة عن نكاح الزانيات ،
بل والمتهمات.
وقد تكفل تحريم
الزانيات آية النور (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ثم آية المائدة كملتها بتحريم غير المحصنات بصورة طليقة
وكما هنا ، حيث الشرط كونهن «محصنات» وكما الزانية ليست محصنة ، كذلك المتهمة ،
وظاهر الإحصان العفاف كاف ما لم تظهر أمارات الشذوذ والتبعثر.
ولماذا هناك (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ
مُحْصِنِينَ) وهنا «محصنات»؟ من الفارق بينهما أن المملوكة متعرضة
للسفاح واتخاذ الخدين أكثر من غيرها ، فلا بد إذا لها من سياجي الإحصان : من
أزواجهن ومنهن أنفسهن ، دون الحرائر اللاتي هن بطبيعة الحال أبعد من السفاح واتخاذ
الأخدان.
أجل وإن الإماء
بطبيعة الحال تكون خرّاجة ولّاجة ممتهنة مبتذلة ، ولذلك لا يجوز نكاحها إلا عند
الضرورة وأن تكون محصنة غير مسافحة ولا متخذة أخدان ، ولم يشترط في الحرائر إلا
شرط العفاف بإحصان الزوج «محصنين».
وقد نتنبه هنا أن
حلّ الإماء المؤمنات لمن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، ننتبه
أنه يحلل متعة الحرائر بأحرى من نكاح الإماء ، ولا سيما في العصور التي لا عثور
فيها على الإماء ، فهل يصبر غير ذي الطول على العزوبة ، أو يشذ جنسيا الى الزانيات
، أم ينكح المؤمنات؟!.
فكما الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) ـ على حد روايتهم عنه ـ إنما أحل المتعة حالة الضرورة رغم
توفر الإماء زمنه ، فقد يحللهما في الزمن الذي ليست فيها إماء والضرورة فيه أقوى
حيث التبرجات بمختلف الزينة في عصور التقدم والحضارة أغوى ، فالصبر على العزوبة
أشجى وأنكى!.
وقل ما ظلم
المسلمون بفتوى غير صالحة بمثل فتوى الخليفة بحرمة متعة النساء ، وقد صدق الإمام
علي (عليه السلام) ومن نحا نحوه في قوله «لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي
أو شفا : قليل».
(مُحْصَناتٍ غَيْرَ
مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ)
هنا (غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ
أَخْدانٍ) تأكيدان اثنان للإحصان ، فكما السفاح خلاف الإحصان ، كذلك
اتخاذ الأخدان مهما كان دون سفاح ، فإنهما خلاف العفاف الأنثوي.
وكما أن شرط
الإحصان شرط لسماح النكاح بداية ، كذلك هو شرط له استمرارية كما فصلناه على ضوء
آية النور ، فالمسافحة أو المتخذة أخدانا بعد نكاحها يجب فصلها عما ينافي الإحصان
أم فصلها عن الزواج إذ (حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ).
(فَإِذا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ
الْعَذابِ)
«أحصن» هنا تعني ـ
فقط ـ زوّجن أو نكحهن بملك يمين قدر الإحصان ، دون أسلمن حيث إن موضوع الحل (فَتَياتِكُمُ
الْمُؤْمِناتِ) ، دون
__________________
عامة الفتيات حتى
تعني «أحصن» أسلمن ، ثم التعبير عن الإسلام بالإحصان غير فصيح ولا صحيح ، فإنما
تعني «أحصن» صيانتهن عن السفاح بسبب من الأسباب الثلاثة : نكاح دوام أو انقطاع أو
ملك يمين شرط أن يكون اللقاء فيها قدر الإحصان.
وهنا (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) بعد زواجهن أو نكاحهن مهما كان بملك يمين (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى
الْمُحْصَناتِ) وهن هنا الحرائر «من العذاب».
وقد قرر عذاب
الحرائر الزانيات في آية النور «مأة جلدة» إذا فعلى الإماء المزوجات خمسون جلدة حيث تتخصص آية النور في ذلك الحد بهذه الآية ، فليس على
غير المزوجات منهن ذلك الحد قضية صريح الشرط ، اللهم إلا تعزير يعم كافة التخلفات
الجنسية التي ليس عليها حد.
ولا تعني «المحصنات»
هنا ذوات البعل من الحرائر فإن حدهن الرجم وليس له نصف ، وإن الحرائر المقابلة
للفتيات هي بطبيعة الحال تعني غير الإماء من النساء بصورة طليقة دون ذوات البعل
منهن خاصة.
إضافة الى أن
العذاب المقرر في نص القرآن في السفاح ليس إلا مائة جلدة ، والرجم مستفاد من
السنة.
__________________
(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) :
«ذلك» التنازل من
نكاح الحرائر الى نكاح المملوكات ليس مسموحا طليقا حسب الرغبات والشهوات ، إنما هو
(لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ) : التعب «منكم» ، تعبا في التصبر على العزوبة ، فقد يخشى
ذلك التعب إفضاء الى محرم كالعادة السرية أو السفاح أماهيه من محظورات كانحراف
الصحة البدنية أو النفسية ، حيث العزوبة تخلّف كلا من هذه وتلك اختياريا أو
أوتوماتيكيا وعنت العزوبة هو في قمة الأعنات ، والتصبر عليها من أصعب التصبرات ،
فليستعفف عن ذلك العنت بزواج أم تصبر ما أمكن ، والترجيح للأرجح في المكنة بميزان
الله.
إذا فلا يسمح في
نكاح المملوكات إلا على شروط عدم استطاعة الطول لنكاح الحرائر وخشية العنت من ترك
النكاح عن بكرته ، وأن يكون بإذن أهلهن.
أترى وهكذا يكون
نكاح المتعة؟ لا دليل على التسوية ، بل وطليق الآية (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ ..) دليل طليق الإباحة ، ولا سيما لمن لم يستطع منكم طولا أن
ينكح الدائمة مهما لم يخش العنت أم خشي أم ليس له عنت ، اللهم إلّا في موارد
استثنائية أشير إليها فيما نقلناها في الروايات.
(وَأَنْ تَصْبِرُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) تصبروا عند خشية العنت بتقويم سياج صارم يزيل الخشية ويخفف
وطأة العنت ، فضلا عما لا يخشى عنتا أم ليس له عنت.
وتصبروا عن خلفية
العنت وهو الشذوذ الجنسي ارتياضا على التقوى لتقوى ـ إذا ـ على ترك الطغوى.
(وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) هؤلاء الذين ينكحون المملوكات دون عنت أو خشية ولهم طول في
نكاح الحرائر ، فينكحون الإماء رغم عدم الضرورة الموجبة أو الراجحة تذوقا وتفننا.
أجل إن هناك سبيلا
صالحة فسحا لمجال ذلك التذوق هو أن يشتري مملوكة ثم يعتقها ثم ينكحها ، والعتق هنا
رحمة وهو في نفس الوقت ضريبة لزوال المحظور عن ذلك النكاح المشروط حيث يزيل هذه
الشروط ، ويكون ـ إذا ـ ولده حرا دون ما إذا نكح أمة حيث الولد يتبع الأم في
الحرية والرقية.
وحصالة البحث حول
الآية أن الأصل للمؤمن نكاح المحصنات المؤمنات ، أي العفائف الحرائر ، نكاحا دائما
ومن ثم المتعة ، ثم فتياتكم المؤمنات دائما أو متعة ، والمعيار في سماح التنازل عن
كل الى تالية عدم استطاعة الطول لما هو أحرى مع خشية العنت .
فمن يستطيع طولا
للنكاح الأول بواحدة ثم لا يستطيع طولا للثانية كالأول فإلى الثاني ثم الثالث ،
وليست شريطة خشية العنت إلّا للثالث ، فمن لا يخشى العنت أم ليس عليه عنت وهو
يستطيع طول أن ينكح حرة عفيفة ثانية بنكاح دائم يسمح له بمنقطع منها دون دائم أو
منقطع من الأمة ، حيث النكاح في هذه الآية ثنائي المورد : نكاح الحرة العفيفة ثم
الأمة العفيفة ، دائمة في كل أو منقطعة.
وقد يعني الحظر في
نكاح الأمة إلا عند الاضطرار انها ليست مأمونة كالحرة ، فإنها مملوكة الغير
فخادمته ، فلا تسوى للرجل المؤمن الشريف.
فالمحظور على أية
حال هو نكاح غير العفيفة ، ثم المحظور لمن يستطيع
__________________
طولا أن ينكح
المحصنات المؤمنات ولا يخشى العنت أن ينكح أمة (وَأَنْ تَصْبِرُوا
خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
(يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٢٦ وَاللهُ يُرِيدُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ
تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ٢٧ يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ٢٨.
تلحيقات ثلاث على
ما حملته الآيات السالفة على طولها وطولها في حقل الرباطات الجنسية محللة ومحرمة.
فتلك هي من (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) حسنة وسيئة ، وهنا تأكيد للحسنة بمزيد ، وتنديد بالسيئة في
مزيد ، قضية خلود الشرعة القرآنية أن تحلق على كافة السنن الرسالية ، ثم غربلة لها
وتكملة لهذه الأمة المرحومة .
وترى «يهديكم» لا
تلائم الهدي إلى السنن السيئة لأنه في عرف القرآن هدى الى الحق؟ و (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) تهدينا الى الهديين! كما و (يَهْدِيهِ إِلى
عَذابِ السَّعِيرِ) (٢٢ : ٤)!.
__________________
فمورد البيان
والهدى هما سيّان (سُنَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ) بيانا لهذه السنن وهديا إياها ، ثم بيانا الى الأهدى وتركا
لغيرها ، وكما أشارت (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) وأضرابها الى سالف السنن خيّرة وشرّيرة ، فمن الأولى الجمع
بين الأختين وقد حرمه الله في هذه الشرعة ، ومن الثانية نكاح نساء الآباء (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ
سَبِيلاً).
أم إن البيان يختص
بخاصة شرعة القرآن ، ثم «ويهديكم» هدي الى النجدين من السنن الماضية ، ولتعلموا
مدى رحمته الواسعة الطليقة لأمة القرآن الخالدة.
هكذا (يُرِيدُ اللهُ) ثم «يريد» (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) رجوعا برحمته الخالدة عليكم في بلورة الأحكام السالفة
تكميلا لها وتسهيلا ، ثم توبة عليكم فيما قصرتم أو قصّرتم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بسؤالكم «حكيم» بأحوالكم وما تحتاجون على مر الزمن إلى يوم
الدين.
أجل (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْكُمْ) تسهيلا وتخفيفا (وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) وهي كل ما يخالف عقلية الإنسان والفطرة وعقلية الشرعة ،
سواء في الشهوات الجنسية أم سواها (أَنْ تَمِيلُوا) الى طليقة الشهوات ، أو عن حليلة الشهوات (مَيْلاً عَظِيماً).
فكما الميل المطلق
الى الشهوات محظور وميل عظيم ، كذلك الميل عن الشهوات تقشفا زائدا عن المحبور
محظور وميل عظيم.
فالله يريد منا
العوان بين الميلين على ضوء شرعته ، دون إفراطة الفوضى في الشهوات كما يفعلها
الإباحيون المستحلون لعامة الشهوات أم يوسعون نطاق الحل إلى الأخوات وبنات الاخوة
والأخوات كالمجوس ، ولا تفريطية التقشف البائس كما يفعله المحرّمون لما أحل الله ،
ومنهم الخليفة عمر حيث حرم المتعة
المحللة ، وهي من
السياجات العظيمة على اقتراف الشذوذات الجنسية.
فالميل العظيم في
إفراطية الشهوات هو الذي الذي يهبط بالإنسانية الى أنزل دركات البهيمة وأنذلها ،
حيدا وميدا عن منهج الله وحيادا على منهج اللهو ، وإشباعا لنهمة البهيمة السافلة
فتصبح الإنسانية ـ إذا ـ أضل سبيلا من الأنعام!.
هنا (اللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) بضبط الشهوات وحصرها في المحللات حسرا عن المحرمات (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا) عن شرعة الله وعن حقل الإنسانية السامية (مَيْلاً عَظِيماً).
إنهم يريدون أن
يطلقوا الشهوات عن كل عقالاتها الفطرية والعقلية والشرعية انطلاقا للسعار الجنسي
البشع الحميم الجحيم دونما أي حاجز أو كابح ناجز ، عودا للإنسان قطعانا من الحيوان
، ينزو فيها الذكران على الأناث أو يتسافدون عليهن كما تسافد البهائم وليس هناك
أحد يقول لأحدهم مه مه!.
أجل و (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) حصر الشهوات والحسر عن الشهوات ، فيسمح لكم في تشريعه ما
سمح لكم في تكوينه ، إذ ليست الشرعة الإلهية إلا نسخة طبق الأصل في الفطرة
الإلهية.
فالضغط على
الشهوات الفطرية والخلقية ، غير المضرة بالإنسان في روحه وجسمه ، ضغط جاهل قاحل ،
كما الإباحية الفوضى تسريح قاحل جاهل وخير الأمور أوسطها.
(يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) وطأة الشهوات وعبئها في إفراطها وتفريطها.
(وَخُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) فلتكن الشرعة الربانية ملائمة لضعفه دون تحريج عليه.
وهذه هي اللمسة
الأخيرة في التعقيب على حق المحظورات والمحبورات الجنسية تتولى بيان رحمة الله
الرحيمة بضعف الإنسان ، تخفيفا عن عبء التكاليف الصعبة الملتوية قدر ضعفه في
الخلقة ، وكما بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشريعة السهلة السمحاء ،
وهكذا كانت كل التشاريع الإلهية مهما كانت درجات.
ذلك ، رغم أن
الكثير من المجاهيل الأغبياء يحسبون التقيد بمنهج الله ـ وبخاصة في علاقات الجنسين
ـ يحسبونه شاقا مجهدا ، ثم الانطلاق مع طليق الشهوات واللّامبالاة حاقا منجدا ف (تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ
اللهِ عَظِيمٌ)!
حيث التجرد في
علاقات الجنسين ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب ، فلقد كانت فوضى العلاقات
الجنسية هي التقدمية البيضاء للحضاريين في الجاهلية الأولى والأخيرة ، فحطّمت
الحضارتين قديمة وحديثة وحتمّ على الحضاريين ولا سيما في القرن العشرين انهيار
الطاقات الروحية والبدنية وانهيار كافة ميزات الإنسانية
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
__________________
وأول نتاجاتهما
المتحضرة هي الحاضرة للفرنسيين حيث مكنت منهم شهواتهم اللّامحدودة اضمحلال قواتهم
الجسدية الى الروحية ، كما وأن طغيان الأمراض السرية قد أجحف بصحتهم عن بكرتها منذ
بكورتها بين القبيلين .
وتلك البشاعة
المغرية باسم الحرية هي التي تريدها الأقلام الهابطة الخابطة في جاهلية القرن
العشرين التي أصبحت أبشع من الجاهلية الأولى.
__________________
|