

(٣) سورة آل عمران
مَدنيَة
وآياتها مائتانِ
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١)
اللهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا
الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)
(١١)
سميت هذه السورة ب
«آل عمران» لأنهم من أبرز السمات المستعرضة فيها بين عرض الرسل والرسالات في مختلف
المجالات المعرقلة عجلتها ، المكدرة أجواءها.
تستحضر هذه السورة
صورة وضيئة من ردح زمني مدني للحياة الإسلامية قويت فيها شوكة المسلمين ، وبطبيعة
الحال عارضتها الشائكة ضد الإسلامية من
ثالوث الإشراك
والتهود والتنصر ، فهي تحمل عرضا للشكات والاشتباكات والملابسات والعقبات التي
أحاطت بهذه الحياة لحدّ كأن قارئيها يعيشون الحياة نفسها بحذافيرها وأظافيرها.
وقضية الهيمنة
القرآنية ـ الكاملة ـ هي مواجهة كل عرقلة وشائكة ليقود المسلمين في خطواتهم بين كل
الأشواك والمصائد والأحابيل والعقابيل.
ففي عرض الحالة
الحاضرة لنزول القرآن في عهديه وما عرضتها من معارضات ضدها ، وحلول ربانية لمسكتها
، عرض لكل الحلول بمعارضاتها في كل مستقبل للحياة الإسلامية ، حيث الدعوة القرآنية
خالدة على مر الزمن بمدار الضمانات الوقائية للكتلة المسلمة ما تمسكوا بها.
وقد تكون هذه
السورة نازلة كترتيبها الآن ، حيث الرباط الوطيد بين آياتها ينادي بذلك الواقع ،
إضافة الى كون الأصل في آي السور كلها نزولها كما رتبت إلا بدليل يدل على خلافه ،
ولم يرد في الأثر أن آيات عمران نزلت في غير جوها ام غير ما هي الآن من ترتيبها ،
فقد توافق وتجاوب تنزيلها وتأليفها.
(الم (١)).
هي كما في البقرة
وعديدة سواها من المفتتحات بها وبأضرابها ، هي من مفاتيح كنوز القرآن ، فصلنا طرفا
طريفا من فصل القول حولها في البقرة وسواها فلا نعيد.
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ٢.
تجد تفصيل البحث
عنها في آية الكرسي هناك فلا نعيده هنا.
(نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ)
(٣).
«نزل» بالحق «عليك»
بالحق (الْكِتابَ بِالْحَقِّ) «مصدقا» بالحق (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) بالحق ، فهو مخمس من الحق تنزيلا ومنزلا ومنزلا وتصديقا
ومصدّقا : مصاحبا الحق وبسبب الحق ، معان عشرة كلها معنية على درجاتها دونما خليط
من باطل ، ولا زوال لحقه خلاف سائر الحق قبله ، فهو الحق المستمر الخالد دونما نسخ
أو تحوير خلافا لكل حق قبله.
والكتاب المنزّل
هنا هو القرآن المفصل النازل نجوما قضية مختلف الحالات المقتضية والحاجيات.
و «مصدقا» حال
أنها حال للكتاب ، كذلك هي حال للرسول المخاطب في «عليك» فكما : (آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً
لِما مَعَكُمْ) (٢ : ٤١) كذلك : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) (٢ : ٨٩).
ف (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لا تختص ـ فقط ـ بكتب الوحي ، بل وتعم رسل الوحي بآياتهم
الرسولية والرسالية ، فكما القرآن يصدق ما بين يديه من كتابات الوحي بآياتها
الرسالية ، كذلك رسول القرآن مصدقا لما بين يديه من رسل الوحي بآياتهم الرسولية ،
كما وكل من الرسول والقرآن يصدقان كلّا من رسل الوحي وكتابات الوحي.
ودور تصديق القرآن
لما بين يديه من كتابات الوحي هو واقع التجاوب بين وحيه ووحيها ، فلو لم يكن
القرآن وحيا لم يكن ليصدق سائر الوحي لواقع الاختلاف بين وحي السماء ووحي الأرض.
وكيف (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) دون «ما خلفه»؟ وكل الرسل والكتب هي خلف القرآن ورسوله! ،
لأن قرآن محمد ومحمد القرآن هما استمراران لما قبلهما من رسول وكتاب ، مكملان لهما
ومهيمنان عليهما ، فليساهما خلف القرآن ونبيه في الكيان مهما كانا خلفهما في
الزمان ، فحق التعبير ـ إذا ـ كما هو : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)
كقارئ لهما وقال
ومصدق إياهما ، فهما ـ إذا ـ أمامهما في الاتجاه ، مهما كان القرآن ورسوله إمامهما
في التوجيه.
ثم التصديق لما
بين يديه منحصر بما أنزل بوحي الله ، منحسر عما سواه لمكان سابق الذكر للكتاب ،
والنبي ليس ليصدق إلا النبي ، ولا كتاب الوحي إلّا مثله دون ما يناقضه ام ليس
بمحتواه من حيث الوحي ، الا تصديقا لصادق الواقع ولكنه ليس تصديقا رساليا ، و «مصدقا»
هنا تعني الرسالي والرسولي ، ف (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) رسولا وكتابا ليس إلّا خالص الوحي مثله ، فان في تصديق
المختلق تكذيبا لنفسه وتصديقا للمتضادين! ، ولا يعارض تصديقه لما بين يديه نسخه
لقسم من أحكامه حيث النسخ بيان لأمد الحكم السابق وليس تكذيبا لوحيه ، ولا يعني
تصديق القرآن لما بين يديه إلّا تصديق وحيه دون تطبيقه المطبق المطلق ، قضية ضرورة
النسخ لقسم من الأحكام السالفة حتى في شرعة واحدة فضلا عن شرائع عدة.
وقد بين نطاق
التصديق في قسم من آية ك (قُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) (٤٢ : ١٥) و (قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (٢٩ : ٤٦) كما
والقرآن بيان لما اختلف فيه أهل الكتاب من الكتاب دسا وتحريفا وتجديفا : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (١٦
: ٦٤)
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ). (٢٧
: ٧٦)
وكما يصرح في
عشرات من آياته أن اهل الكتاب حرفوا من كتبهم قسما من جهات أشراعها ومن أهمها
البشائر الواردة فيها بحق هذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٧ : ١٥٦) فقد حرفوا
بشائره لفظيا ومعنويّا كما حرفوا منها أحكاما وقصصا تحمل أحكاما أخرى : (... يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ
مَواضِعِهِ
...) (٥ : ١٤) و (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ
وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ...) (١٦) (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ
بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢
: ٢٦)
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٢ : ٧٤).
وقد يعني تكرار
التصديق لما بين يديه أنه ليس بدعا من الرسل ، ولا أن كتابه بدع من الكتب ، تقريبا
وتشويقا لأهل الكتاب ان يصغوا إلى ذلك الجديد الذي هو استمرار للقديم ، سلسلة
موصولة بين الله وخلقه على مر الزمن الرسالي.
ذلك ، ولكي
يقارنوا بين الكتابين فيعرفوا ان القرآن وحي ـ وبأحرى مما عندهم ـ او ينظروا الى
البشارات الموودوعة في كتبهم بحق هذه الرسالة الأخيرة ، متحللين عن كل تحريف
وتجديف.
ذلك (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) بوجه يعم كافة الرسل بكتبهم ، ثم (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) خاص بعد عام لاختصاصهما بينها بأهمية خاصة ، وأنهما
المعروفان منها في الحقل الكتابي دون ما سواهما من كتاب غابر لم يبق له على أثر
إلّا فيما شذ وندر.
و «الإنجيل» مفردا
(١٢) مرة في القرآن لمحة لامعة على تحرّفه إذ أصبح أناجيل لا تنسب الى السيد
المسيح (عليه السلام) اللهم إلّا ما لا خبر عنه حيث دفن في مقبرة التاريخ المسيحي.
والقرآن لا يصدق
إلا الإنجيل النازل على السيد المسيح (عليه السلام) دون الأناجيل التي ألفها جماعة
آخرون وهي متعارضة مع بعضها البعض ،
وأخرى مع صادق
الوحي ، وثالثة مع الفطرة والعقلية والواقعية السليمة !.
(... مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) كل ذلك رسولا ورسالة :
(مِنْ قَبْلُ هُدىً
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ٤.
فكل ما انزل من
قبل (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) و (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) كيانه هدى للناس ، كما (وَأَنْزَلَ
الْفُرْقانَ).
والفرقان ـ ككل ـ هو
الفارق بين الحق والباطل بواقعه المبرهن وأصدق مصاديقه هو القرآن ، فقد ذكر أولا
بلفظ «الكتاب» وأخيرا «الفرقان» مما يدل انه هو الأول والأخير ، فكل كتابات السماء
تقدمات لذلك الكتاب ، كما أن كل رسل السماء تقدمات لذلك الرسول.
ومهما كان كل رسول
فرقانا بنفسه وبآيات رسالته ، ولكنه لم يكن فرقانا بكتابه ، فهذا الرسول فرقان
بكتابه كأفضله ، فإنه آية خالدة رسالية ورسولية على مدار الزمن الرسالي ، وما هكذا
اي كتاب بين يديه!.
ومهما شمل «الفرقان»
المنزل هنا كل فرقان مع الرسل دون كتاباتهم ، فالمصداق الأعلى والأجلى للفرقان هو
القرآن ، كما وهو الرسول فانه من المنزل كما القرآن : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ
الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا
عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) (٦٥ : ١١).
وطالما القرآن
المفصل منزّل تدريجيا ، ولكن المحكم منه ـ النازل ليلة
__________________
القدر ـ منزل
دفعيا فهو : فرقان أول ، ثم المفصل منه فرقان ثان منزل ، لأن كل نازل منه في نجمه
فرقان ، فهو ـ إذا ـ فرقان جملة وتفصيلا ، انزالا وتنزيلا ، لا مثيل له في كتابات
الوحي عن بكرتها.
فذكر الفرقان هنا
بعد القرآن تعظيم للقرآن وتعميم للفرقان لكل رسول انه لا يأتي الا بفرقان ، وفرقان
القرآن يمتاز عن سائر الفرقان بما يفرّق بين أصيل الوحي فيما بين يديه عن دخيله ،
وانه برهان لرسوله رسوليا ورساليا ، خالدا على مرّ الزمن ، بل لا يزداد إلّا ظهورا
وبهورا ، وأنه المقياس الأصيل لما يروى عن المعصومين (عليهم السلام) تصديقا لما
وافقه وردا لما خالفه.
ذلك! وما أشبه من
ميزاته المنقطعة النظير بين كل فرقان لكل بشير ونذير ، فانه شرعة بأكملها وآية
رسالية ورسولية بأكملها ، قضية خلود الشرعة بآيتها (وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ).
إذا ف (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) وهي مجموعة في ذلك الفرقان ، ومنجّمة في سائر الفرقان :
انفسية وآفاقية : رسلا ورسالية ورسولية ، كفرا عن تصديقها ، وسترا مكذبا او
متجاهلا عن دلالاتها الصادقة (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) وفاقا لشد الكفر وعدّه وجزره ومدّه (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغلب (ذُو انْتِقامٍ) ممن يتألب او يتغلب على رسالات الله وفرقانه.
(إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ٥.
«شيء» هنا في سياق
النفي تشمل كل ما يستحق اسم الشيء ، واقعا ـ وهو حق الشيء في مثلث الزمان ـ بإمكان
وقوعي ومصلحي ، ام ممكنا ذاتيا لا يستحق التكوين حسب الحكمة العالية ، واما
المستحيل فليس شيئا باي معنى حتى تشمله «شيء» فانما الله يعلم استحالته حقه ونحن
نعلمها على هامش علمه.
ثم (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) تعبير مكرور في القرآن عن كل كائن على طول خط التكوين ،
ظرفا لواقع «شيء» ومظروفه ، دون إبقاء لكائن إلا وهو شامله.
(هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) ٦.
(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) (٨٢
: ٨) (وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (٦٤ : ٣) ولا أنتم
الناس فحسب ، بل و (هُوَ اللهُ الْخالِقُ
الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (٥٩ : ٢٤) لكل
صورة ، ولا يخلو أي خلق من صورة هي منه تعالى كخلقه سواء.
«هو» لا سواه (الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) بالصورة الإنسانية بجزئيها الروحية والبدنية ، روحية عامة
هي الروحية الانسانية ككل ، المشتركة بين الكل ، وأخرى خاصة حيث تختلف الأرواح من
جهات عدة قابلية وفاعلية واستعدادا أماهيه ، وبدنية عامة مشتركة وهي الهيكل
الإنساني المشترك بين الكل ، واخرى خاصة هي مختلف الصور والشاكلة ظاهرة وباطنة ،
وكل هذه الأربع داخلة في نطاق «يصوركم» هنا وفي سواه : (صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث (خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) في جزئيه فلا أفضل منه نوعيا اللهم إلا فضيلا مثله وهو
القليل : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً).
وأرحام النساء ،
مهما كانت خلقية ، ام مصطنعة ان أمكنت (كَيْفَ يَشاءُ) لا ما يشاءه سواه (يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ).
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في ايّ من اختصاصات الألوهية كالخلق والتصوير والتدبير
والتقدير «العزيز» في ألوهيته «الحكيم» فيها ، فلا يغلب ولا يخطأ او يجهل او يغفل.
هنا (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) كما هناك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) تحمل مختلف الصورة الروحية والبدنية للإنسان ، فليست هي
بمشيئة الوالدين ـ اختيارا ام دون اختيار ـ او علم الأجنة ، انما هي بمشيئة الله
وحده لا شريك له.
هنا نتحدث قليلا
عن الصورة الجسدانية الملموسة ، فقد قضت الحكمة الربانية في خلقه أن يركّب كل شخص
إنسانا وسواه بصورة مختلفة عن الآخر رغم التشابه الواقع بين شخص وآخر.
ولقد بين علماء
الوراثة قريبا أن احتمال التشابه التام بين شخصين هو بنسبة واحد من الرقم عشرة
مسبوقا بأربعين صفرا (١ / ١٠٤٠) وهذه حقا استحالة حسابية منطقية!.
ذلك! لأنه ـ حسب
تقديرنا ـ عند ما ينصهر الحيوان المنوي مع البويضة ـ وكل منهما يحمل ربع مليون «ناسلة
مورثة» تقريبا ـ لا يقدر أحد إلّا الله أن يتنبأ بالشكل الذي سيكون عليه مستقبل
الجنين البيولوجي ، والتي تحكمها هذه المورثات ، وقد يرجع الجنين في نسبه ـ أي
ميزاته البيولوجية ـ إلى أبعد الحدود ، وربما إلى جدنا الأول وكما في حديث الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) عند ما سأل رجلا ما ولد لك؟ : ما عسى أن يولد لي إما غلام
وإما جارية ، قال : فمن يشبه؟ قال الرجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ما عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه ، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لا تقولن
هكذا ، ان النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم ،
أما قرأت هذه الآية في كتاب الله (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) قال : شكّلك.
ذلك! ورغم أن علم
الوراثة باستطاعته نفي الأبوة عن طفل إذا تعارضت
فئة دمه مع فئة دم
والده ـ وهذه حالات نادرة ـ كأن تكون فئة دم الوالدين من فئة (A) وفئة دم الطفل من فئة (B).
رغم ذلك لا يستطيع
التأكد بأبوة الوالد لطفله ، فعلم الوراثة لا يستطيع الجزم بذلك أبدا ، ومن هنا
نعرف طرفا من البعد العلمي العظيم في التشريع الإسلامي من خلال قول الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم): «الولد للفراش وللعاهر الحجر» حيث يحصر المعول عليه في
اثبات نسب الطفل لوالده كما بينه علم الوراثة اليوم.
ذلك ، وأما أنصار
الانتخاب الطبيعي وتطور المخلوقات الحية بعوامل البيئة والمناخ ، من الذين أرجعوا
اختلاف الألوان في الجنس البشري والمخلوقات الحية للمناخ والطبيعة ، أما هؤلاء
فسقطت هرطقتهم هذه الخواء أمام اكتشافات المورثات التي تحكم اختلاف الألوان في
المخلوقات.
فلما ذا سكان
الولايات المتحدة الأمركية من الزنوج لم يتغير ألوان بشراتهم بفعل المناخ وهم في
مناخ مختلف عن افريقيا منذ مئات السنين؟ وكذلك بالنسبة لسكان جنوب أفريقيا من
البيض.
أجل لا ننكر أن
للبيئة والمناخ تأثيرا بحول الله وقوته ، ولكننا ننكر أن يكونا هما الأصل الأصيل
في اختلاف الصور والألوان ، فانما (هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ)! وإليكم مثالا ماثلا بين أعيننا «بصمات الأصابع» كما تبدو
في أواخر الشهر الثالث من حياة الجنين (بَلى قادِرِينَ عَلى
أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) حيث لا تتشابه البصمات إلا في التوأم التام الصحيح المتأتي
من بويضة ملقحة واحدة ، سبحان الخلاق العظيم!.
وتلك هي الصورة
المختلفة بين الناس ، ثم المتحدة بينهم تشتمل على ثلاثة عشر هي:
الطبائع ـ الأركان
ـ الأخلاط ـ الجواهر ـ الطبقات ـ الأعمدة ـ الحبال ـ الخزائن ـ المسالك ـ الأنهار
ـ الأبواب ـ الحراس ـ العمودان ، فكل شخص من الإنسان هو بمفرده كمدينة سبحان
الخلاق العظيم!.
١ فالطبائع هي
الحرارة ـ البرودة ـ الرطوبة ـ اليبوسة.
٢ والأركان الأصلية
ايضا أربعة هي النار والهواء والماء والأرض ، والعلم الآن جعلها مركبات من عناصر
تبلغ زهاء (٧٥) أم وتزيد.
٣ والأخلاط أربعة
هي : الصفراء والدم والبلغم والسوداء ، مهما زاد عليها العلم ما زاد.
٤ والجواهر تسعة
هي : عظم ـ مخ ـ عصب ـ عرق ـ دم ـ لحم ـ جلد ـ ظفر ـ شعر.
والطبقات عشر هي :
رأس ـ رقبة ـ صدر ـ بطن ـ جوف ـ حقو ـ وركان ـ فخذان ـ ساقان ـ قدمان.
٦ والأعمدة هي (٢٤٨)
وهي العظام.
٧ والحبال : (٧٥٠)
حبلا هي الرباطات الممتدة المشدودة على العظام وهي الأعصاب.
٨ والخزائن الإحدى
عشر هي : الدماغ ـ النخاع ـ الرئة ـ القلب ـ الكبد ـ الطحال ـ المرارة ـ المعدة ـ الأمعاء
ـ الكليتان ـ الأنثيان.
٩ والمسالك
والشوارع والطرقات في العروق الضوارب (٣٦٠).
١٠ والأنهار هي :
الأوردة (٣٩٠).
١١ والأبواب
الإثني عشر هي : العينان ـ الأذنان ـ المنخران ـ السبيلان ـ الثديان ـ الفم ـ السرة.
١٢ والحراس هي
الحواس الخمس : السمع ـ البصر ـ الشم ـ الذوق ـ اللمس.
١٣ والعمودان هما
الرجلان.
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)
(٧).
آية فريدة في
القرآن تقسّم آياته إلى محكمات ومتشابهات ، تنديدا بالذين يتبعون ما تشابه منه ،
وتمجيدا بمبتغي محكماته ، والمستفسر لمتشابهاته بها ، وتجهيلا لتأويله ككلّ وعلّه
للكلّ ، فيحق لنا ان نسبر أغوارها لنحصل على صراط مستقيم في تفسير آي الذكر
الحكيم.
هنا اثني عشر
سؤالا تطرح حول آية التقسيم هذه ، للإطاحة بكل تقولة عليها على ضوء أجوبتها
الصالحة.
١ هل هذه الآية
محكمة يصح التمسك بها في ذلك التقسيم ومعرفة كل قسيم ، أم متشابهة؟.
٢ ثم ذلك التقسيم
الثنائي حاصر ، أم هناك قسم أو اقسام أخر من الآيات؟ كالمجملات!.
٣ كيف التوفيق بين
آية التقسيم ، وثانية تدل على أن القرآن كله محكم : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ) (١١ : ٢) وثالثة
تدل على انه كله متشابه : (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ..) (٣٩ : ٢٣).
٤ كيف جمع فيها
بين «هن» ضمير الجمع ، وبين «ام الكتاب» مفردة ، فجعل الواحد صفة للجمع؟ وهذا فت
في عضد البلاغة وثلمّ جانب الفصاحة!.
٥ ما هو المحكم
والمتشابه والفرق بينهما بصورة محكمة غير متشابهة؟.
٦ كيف تكون
المحكمات أمّا للكتاب؟.
٧ ما هو اتباع
المتشابه المنهي عنه؟.
٨ بماذا تفسّر
المتشابهات وكيف تفسّر؟.
٩ ما هو الوجه في
اشتمال الكتاب على المتشابهات وهي مسرب الشبهات؟.
١٠ من هم الراسخون
في العلم؟ وهل هم يعلمون تأويله أم لا يعلمون؟.
١١ هل التأويل يخص
المتشابهات ام يعم المحكمات؟.
١٢ ما هو الفرق
بين التأويل وتفسير المتشابه؟.
١ قضية الوحدة في
هذه الآية من حيث التقسيم إذ لا ثانية لها ، والتأمل فيها حقها ، أنها محكمة ،
وإلّا لفسد التقسيم وأصبح القرآن كله متشابها حيث لا يفهم الفرق بينهما على ضوء
آية التقسيم ، فهي قطعا في مقام بيان التقسيم ، فلو كانت متشابهة ـ ولا محكمة
غيرها تفسر هي بها ـ لعاد القرآن كله متشابها ، وبطل علاج التشابه المدلول عليه
لها ، ولم يصدق : (كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢ : ٤) وسقط
الاحتجاج بواجب التدبر فيه : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
كَثِيراً) (٤ : ٨٢) وليست
الحاجة الى التدبر مما تجعل الآية متشابهة وإلّا أصبح كل النظريات متشابهة.
هذا وواقع
الاختلاف في آي القرآن إحكاما في بعض وتشابها في اخرى ، مما يصدق حق التقسيم وانه
بيان لواقع ملموس.
٢ «منه» قسيم أول «وأخر»
قسيم منه ثان فهما ـ إذا ـ قسيمان اثنان ، ولو كان فيه ثالث لكان حق التقسيم في
هذه اليتيمة أن يذكر كما ذكرا ، فان في تركه اجمالا في التقسيم وإبهاما لكل قسيم.
ثم التقسيم الى
قسيمي السلب والإيجاب هو حاصر على أية حال ، والتشابه والإحكام راجعان الى وصفي
المدلول باللائح والخفي ولا ثالث بينهما أيا كان.
وقيلة القائل ان
المجمل ثالث لا هو محكم ولا متشابه ـ لأنهما المقصود دلالتهما على معنى ، ولا يقصد
من المجمل مجمل المعنى ـ إنها غيلة وحيلة على الذكر الحكيم ، إذ لا مجمل في القرآن
بهذا المعنى ، فكل لفظة فيه تعني ما يصح أدبيا من المعنى المراد ، إن عاما فعام
وان مطلقا فمطلق او نصا او ظاهرا فهما لا سواهما ، محكمة او متشابهة.
فقد يعني المجمل
ما أجمل فيه المعنى دون بيان رغم كونه معنيا ، فهذا فتّ في عضد الفصاحة وثلمّ في
صرح البلاغة ، تنخّى عنه ساحة الذكر الحكيم لأنه أبلغ بليغ وافصح فصيح ، فكيف يليق
به هكذا تعبير فضيح!.
او يعني ما لم يعن
منه اي معنى؟ وذلك لغو في الذكر الحكيم! ، او عني منه معنى ولم يعن معنى آخر ،
فغير المعني ـ إذا ـ خارج عن مقسم التقسيم وهو الدلالة ، ومن ثم فان كان لائح
المعنى وإن بتأمل وتعمّل فهو من المحكم ، وان كان عميق المدلول على وضوح الدلالة
فهو من المتشابه الذي يفسره المحكم ،
وان لم يعن منه ما
تعنيه فهو خارج عن المقسم ، وقد تجمع الأقسام الثلاثة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) فهي محكمة من حيث عدد الأيام والمخلوق فيها ، ومتشابهة من
حيث معنى الأيام ، ومجملة من حيث عدد السماوات.
٣ إحكام الآيات
كلها يعني الحكمة العالية الربانية المعمقة فيها دلالة ومدلولا وتوفيقا مع الفطرة
والعقلية والواقعية الصالحة ، وتطبيقا لها محلقا على كل متطلبات الحياة الإنسانية
والإيمانية ، فلا مدخل فيها لباطل ، وهذا إحكام للقرآن في كل مراحله.
ولكنه محكمة
الآيات وجاه تفصيلها كما في الآية نفسها وهو إحكام قبل تفصيل ، أنها أحكمت في
نزولها الأول على قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ليلة القدر ،
فالمحكمات والمتشابهات في مرحلة التفصيل كلها محكمات في مرحلة الإحكام.
واما (كِتاباً مُتَشابِهاً) فقد يعني تشابها لا يقابل هذا الإحكام ، فهو تشابه آياته
كلها للمعني من المحكم النازل ليلة القدر ، وتشابهها مع بعض البعض في قوامة
التعبير لأعلى قمم الفصاحة والبلاغة ، وتشابهها بتلائمها مع بعض البعض حيث يفسر
بعضه بعضا وينطق بعضه على بعض ، ورابع هو تشابهها مع بعض في التدليل على وحيها
آيات بينات من عند الله العزيز الحكيم ، وخامس تتشابه فيه مع قضية الفطرة والعقلية
والواقعية الصالحة على مدار الزمن ، وكذلك كل تشابه هو قضية كونها من عند الله ذا
نسق واحد في جزالة النظم وإتقان الأسلوب في كل حقول الهداية الى الصراط المستقيم :
(وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
فهذه وتلك تقرر ان
إحكاما وتشابها يحلقان على القرآن كله ، وآية
التقسيم تقسم
تفصيل الكتاب المتشابه إلى محكم ومتشابه ، عناية منهما غير ما يعنى فيهما ، ومنها
إحكام المدلول حيث يتضح لبساطته ، ثم تشابهه ـ على وضوح الدلالة ـ لعلوّ المعنى
وتشابه اللفظ مع ما يعنى منه غير ذلك المعنى ، لا قصورا في الدلالة ، إنما لعلو
المعنى.
٤ لو قال «هن
أمهات الكتاب» لذهب البال والخيال الى ان كل واحدة منها هي ام لكل الكتاب ، رغم ان
كلّا ام لمتشابهها الخاص ، ام جملة منها لجملة أخرى ، دون ان تكون كل واحدة اما
للكتاب ، فلا أن كل محكمة ام لكل المتشابهات ، ولا لأي متشابهة لا تناسبها ، وانما
لكل متشابهة ام ، واحدة ام زائدة في كل من المحكمة والمتشابهة ، فصالح العبارة عن
القبيلين في مختصر التعبير ومحتصرة : (هُنَّ أُمُّ
الْكِتابِ) توحيدا للأم المحكمات وسائر الكتاب المتشابهات ، فقد قوبل
جمع المتشابهات بجمع المحكمات فعبر عن كلّ بصيغة الإفراد «أم الكتاب» فكما الأم
واحدة كذلك الكتاب المعني منه كل المتشابهات.
إذا فمجموعة
الأمهات هي كأم واحدة لمجموعة المتشابهات ، فهي اصل للمتشابهات تقدح بها فيظهر
مكنونها ويستثار دفينها ، وبذلك سميت ام الإنسان اما لأنها أصله الذي منه طلع وعنه
تفرع وهي ـ بعد ـ المرجع في كل سؤل وحاجة.
وقد تشابه هذه
الآية آية ابن مريم وأمّه : (وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) فإن المعجز فيهما آية واحدة على عديد ظرفها ، فانها ولدت
من غير بعل وهو ولد دون أب ولا فصال بينهما في تكوّن هذه الآية ، إذ ليس كل واحد
دون هذه الصلة الولادية آية خارقة.
كذلك (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) فإنها ككلّ ام للكتاب كله ، فليست كل
واحدة منها أمّا
للكل ، ولا أن كل واحدة من المتشابهات وليدة لكل من المحكمات فانما ذلك من تقابل
الجمع بالجمع.
ولأن الكتاب يعم
محكمه الى متشابهه ، فهن ـ إذا ـ أم لأضرابها المحكمات كما هي ام للمتشابهات حيث
المحكمات تفسر بعضها بعضا كما تفسر المتشابهات.
وانما عبّر عن المحكمات
بضمير جمع العاقل «هن» لأنها بتفسيرها المتشابهات كأنها عاقلة حكيمة ، وهي حقا هيه
لأنها صادرة من خالق العقل والحكمة لتعقلنا فنعقلها ، ورغم ان المتشابهات كما
المحكمات حكيمة عاقلة ، ولكن علّو المعنى وقصور العاني في مداليلها تجعلها بحاجة
الى محكماتها ، فكأنها ليست بذلك العقل الحكيم وهي من خالق العقل الحكيم ، وليس
السلب إلا من القاصرين في تفهمها ، دون قصور في دلالاتها ، فآي الذكر الحكيم كلها
حكيمة ولا يعني التقسيم إلّا مختلف الافهام في تفهمها.
هل المحكمات هي
الدالات على معانيها المقصودة دونما تكلّف او تخلف عن نصوصها او ظواهرها؟
فالمتشابهات هي غير الدالات نصا او ظاهرا ، حيث يشتبه المرادات فيها بغيرها فيتحير
الناظر إليها حتى يستفسرها بمحكماتها؟.
وهذا قصور في
دلالة المتشابهات ، فهو ـ إذا ـ فت في عضد الفصاحة ، وثلم في جانب البلاغة ،
وتخلّف عن واضح البيان وناصع البرهان ، والقرآن هو أبين بيان وأوضح برهان!.
في الحق إن
التشابه هنا ليس تشابها دلاليّا بل هو تشابه مدلولي يخلّفه علوّ المعنى عقليا او
علميا أو معرفيا رغم واضح الدلالة لغويا وادبيا ، وآخر هو من مخلّفات لفظية
التشابه لغويا والمعنى مختلف كما تتشابه صفات إلهية بصفات خلقية باختلاف المعاني
خلقيا وخالقيّا ، فلا تشابه إلا قضية قصور المستدل الخاوي عن
فمة معرفية دون
الدال البالغ أعلى القمم الدلالية ، فلا تجد في القرآن ، ولا مرة يتيمة ، يراد من
نص خلاف نصّه ، او من ظاهر مستقر خلاف ظاهره ، فإنما هو تشابه في ألفاظ هي حكيمة
المعاني ومحكمتها لأهليها ، وعلوّ في المعاني لا بد لتفهمها من علوّ يناسبه في
المعرفة.
وحين نقتسم
محتملات الأقسام للتشابه ـ أيا كان ـ في القرآن ، نجد اثنين وأربعين محتملا بضرب
سبع في سبع.
فقد يتشابه المعني
من آية بغير المعني منها لقصور في التعبير ، اجمالا او إبهاما ام قصدا لخلاف النص
او الظاهر ، وهذا خارج عن المعني من (أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فتسقط سبع من المحتملات.
أم ان الدلالة
واضحة نصا أم ظهورا مستقرا ولكن اللفظ يتشابه مع مثله خلقيا وخالقيا ، وهذا تشابه
مدلولي لفظيا وليس دلاليا لغويا.
وفي ذلك التشابه قد
يكون تشابه معنوي في المعني من الآية ، عقليا او علميا او معرفيا او حسيا او
واقعيا ، وهي مضافة الى الأول ست تضرب في ست فالمحتملات الصحيحة ـ إذا ـ ست
وثلاثون ، تترك مكرراتها والبقية الباقية صالحة.
ومن التشابه
الواقعي ان المحكمة المنسوخة تتشابه المحكمة غير المنسوخة ، فيزول تشابهها
بالناسخة ، كما التشابه علميا وعقليا ومعرفيا وحسيا يزول سنادا الى المحكم في هذه
الأربع دلالة من نفس الآية وسائر المحكمات التي هي في مغزاها ومرماها.
فالمحور الأصيل في
(أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) هي المتشابهات لفظيا إذ ترجع الى محكمات فيزول بذلك
تشابهاتها ، واما سائر التشابه فهو زائل بنفس الآية
الصريحة او
الظاهرة في خلافها علميا او عقليا او حسيا ، اللهم إلّا تشابه النسخ فلا يزول الا
بالرجوع الى الآيات التي بالإمكان نسخها إياها فيتأكد انها محكمة او منسوخة.
فهنا صفات وافعال
تختص بالله فلا تشابه فيها على اية حال ، وهناك أخرى تختص بمن سوى الله فكذلك
الأمر.
ثم هنالك ثالثة هي
مشتركة لفظيا بين الله وخلقه ، متباينة معنويا وواقعيا ، كالشيئية والوجود والعلم
والقدرة والسمع والبصر واليد والقدم والمجيء وما أشبه ، ففيها وفي اضرابها يشتبه
المعنى على الجاهل به ، استجرارا لمعانيها في المخلوقين الى الخالق سبحانه ، او
استجرارا لمعانيها في الخالق الى المخلوقين.
ومن أسهل السبل في
تفسيرها إرجاعها الى محكمات قرآنية ك (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) و (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ
الْأَبْصارَ) واضرابها من محكمات ... أو محكمات عقلية او علمية ام
معرفية متزودة من محكمات قرآنية أماهيه ، يزول بها ذلك التشابه العارم الناتج عن
قصور العقلية الإيمانية او العلمية دون اي قصور دلالي في لغة القرآن .
فالمتشابهات
القرآنية في الأكثرية الساحقة هي في أسماء الله وصفاته وأفعاله
__________________
حيث يؤتى بها في
لغات مشتركة الاستعمال بينه وبين خلقه ، فلا بد من تجريدها عن المعاني الخلقية عن
بكرتها ، والإبقاء على المعاني الخالقية ، وذلك هو المعني من تسبيحه سبحانه بحمده
، ان ننزهه فيما نحمده بألفاظ متشابهة عما لا يليق بساحته ، ولا سبيل للتعريف
بصفاته سبحانه ـ المشتركة لفظيا بصفات خلقه ـ إلا استعمال نفس الألفاظ المشتركة ،
ثم علينا تجريدها عن معانيها في الخلق.
ومهما كان القرآن
كله فرقانا لأهله ، ولكن المحكمات البينات في أنفسها هي فرقان للمتشابهات تفرق المعنيّات الإلهية بمشتركات الألفاظ ، عن المعنيات
الخلقية ام أية تشابهات في سائر الحقول العقلية والعلمية أماهيه ، ومما لا ريب فيه
ان الآيات الأحكامية ـ كقدر معلوم من القرآن ـ هي من الفرقان المحكم .
ولا يعني إحكامها
عدم الحاجة الى التدبر فيها وتفسير بعضها ببعض ، بل يعني عدم التشابه مدلوليا إذ
لا تشابه فيها لفظيا ، مهما كانت عميقة المعاني ، غالية المعالي.
إذا ف «المحكم ما
يعمل به والمتشابه الذي شبه بعضه بعضا»
__________________
ف «المتشابه ما
اشتبه على جاهله»
وكون المنسوخات من
المتشابهات كما في مستفيضة تعميم للمتشابه المدلولي الى التشابه تكليفيا ، حيث
الجاهل بالمنسوخ يحسبه ـ على الدلالة المحكمة ـ أنه حكم ثابت لا حول عنه.
وحق القول في
المتشابه ـ هو ككل ـ تشابه غير المراد بالمراد ، تشابها عقليا او علميا او معنويا
او واقعيا ، والأخير هو تشابه المنسوخ ، وقبله تشابه الأسماء والصفات الإلهية ،
والأولان هما في حقول القصور في العلوم والعقول وكما يروى «إن للقرآن آيات
متشابهات يفسرها الزمن» مهما فسرها محكماتها ، او هي محكمات مدلوليا ، إلا ان قاصر
العقل والعلم قد يهم تأويلها الى ما يوافقهما كالآيات الصريحة في حركات الأرض
ودورانها أمّا شابهها من آيات تحمل معارف غامضة عقليا او علميا.
فالمحكمات ـ إذا ـ
هي غير المنسوخات ، ولا المتشابهات معنويا ولا علميا ولا عقليا ولا معرفيا ولا
حسيا ، فهما تختلفان حسب الاستعدادات والقدرات العقلية والإيمانية والعقيدية ، دون
ان تكون آيات محكمات في مخمسة الجهات للكل ، وما سواها متشابهات لهم.
فكم من آية هي
محكمة لمستفسر عنها متشابهة لآخر ، أم هي محكمة في بعض ألفاظها متشابهة في الأخرى
، كما ومنها ما هي محكمة واقعيا إذ لم تنسخ ، ولكنها متشابهة لفظيا ، أو محكمة
لفظيا ومتشابهة عقليا أو علميا أو معرفيا ، وهكذا الأمر في اضرابها من احكامات
وتشابهات في مربعة الجهات.
__________________
ذلك ما تهدي له
آية التقسيم وروايات تفسرها كما هيه ، فسائر التعاريف ـ إذا ـ بين قاصرة ومقصرة ،
مفرطة او مفرّطة ، أو انها من التفاسير الجانبية غير المحلقة على مربعة الجهات في
المحكمات والمتشابهات.
ومن أغربها ان
المحكمات هي الحروف المقطعة وغيرها متشابهات! معاكسة صريحة لمدلول آية التقسيم ،
فإنها أحق ان تكون من المتشابهات ، بل هي من أعضلها ، وهي أوفق الظروف الملتوية
للتأويلات : (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ).
وإذا كانت غير
الحروف المقطعة متشابهات ككل ، والمقطعة هي من اغمض المتشابهات ، إذا فأين القرآن
البيان ، وكيف واجب التدبر في القرآن؟!.
هذا! وقد يصح
القول ان الحروف المقطعة لا هي من المحكمات ولا المتشابهات ، فانها لا تدل وضعيا
على معنى ، فلا مداليل لها فضلا عن كونها محكمات.
ولئن أدخلناها في
المتشابهات فهي من أوغلها في التشابه حيث لا تفسر بمحكمات في القرآن ، فقد يصبح
القرآن محكما كله ـ كما عند أهله الذين يعيشونه معرفيا علميّا وعمليا حياتهم ـ يصبح
محكما في حقل التفسير ـ ككل ـ مهما بقي متشابها في ساحة التأويل ، ولكن الحروف
المقطعة لا تفسير لها ولا تأويل إلا لأهله الخصوص وهم الرسول (صلّى الله عليه وآله
وسلم) وذووه المعصومون (عليهم السلام) فالمتدبرون في القرآن حقّه ، الراجعون في
تفسير متشابهاته الى محكماته سليما ناصعا ، وفوقهم الرافعون ستار التشابه بالقمة
العقلية والعلمية والإيمانية ، هم لا متشابه لهم في آي القرآن في ساحة التفسير ،
مهما تعاضل عليهم أمر التأويل ، فإن أهله الخصوص ايضا لا تحليق لهم في
تأويله كله ، فضلا
عمن دونهم!.
٦ وكيف تكون
المحكمات ام الكتاب دون أمهات الكتاب؟.
حيث الأم هنا هي
الأصل الذي يرجع إليه ويعتمد عليه في حاجيات الطفولة ، فالمتشابهات بحاجة إليها في
تبيين معضلاتها وازاحة التشابهات عنها وليست كل واحدة من المحكمات بانفرادها أمّا
لكل المتشابهات ، بل هي بأجمعها أمّ لها بأجمعها ، جمعا أمام جمع ، فهي ـ إذا ـ أم
واحدة للمتشابهات مهما كانت كلّ من المحكمات امّا لما تناسبها من متشابهات تقدح
بها فيظهر مكنونها وتستثير دفينها ، كما وهي ام لمحكمات من اضرابها حيث الكتاب
تعمه كلّه ما يحتاج المستفسر في تبيانه الى بيان يفسر.
وهكذا تكون
الفاتحة ام الكتاب ككل ، لأنها إجمالة بجملتها عن تفصيل الكتاب ، مهما كانت كل من
سبعها المثاني امّا لفصيل من التفصيل.
كما وان (ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) دون آيتين ، لأن آية كلّ لزام آية الأخرى خارقة في الولادة
، فابن مريم آية ولادة عنها دون والد ، ومريم آية توليدا له دون والد ، فهما ـ إذا
ـ آية واحدة وهكذا : (جَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ..) تتلاقى منهما في فاقد الصلب المتعود في الولادة ، وهما فيه
مشتركان.
٧ إتباع المتشابه
ـ المذموم الضائق ـ هو اتباعه على تشابهه دون إرجاع صالح إلى محكمة تحميلا ، وانما
لمتهوسات الآراء على المتشابه دون رجوع إلى ركن وثيق ، ولا لجوء إلى برهان رفيق
دقيق ، فان اتباعه على تشابه دون تفسير صالح ولا طالح غير ممكن ، وانما يتبع
المعنى الثابت صالحا وغير صالح ، وهذا هو الذي يثير الفتنة علميا وعمليا وعقيديا ،
واما اتباع المشابه بعد إرجاعه الى محكمه فليس اتباعا للمتشابه حتى يحظر عليه ، ثم
وفي اتباع المتشابه هكذا واقع رائغ زائف في بعدين اثنين هما :
١ ابتغاء الفتنة و
٢ ابتغاء تأويله ، هما ظاهرتان من زيغ القلب وتقلبه عن ناصع الحق وناصحه الى ناعق
الباطل وفاضحه ، وفي ثالوث : الزيغ وابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل ، يبرز في
المسرح كل إدغال وتدجيل ، استدلالا بالكتاب ضده لصالح الأهواء والأباطيل.
ففي اتباع
المتشابه على تشابهه فتنة في كل الحقول ، وفي ابتغاء تأويله إلى ما تهواه الأنفس
فتنة على فتنة ، فان ذلك التأويل عليل حيث الأصل الذي يتبناه ـ وهو اتباع المتشابه
ـ عليل ، فلا يروّي الغليل ولا يبصر الكليل ، رغم ان القرآن شفاء لما في الصدور
ورحمة لذات الصدور : (وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلَّا خَساراً) ومنهم ـ كأنحسهم ـ هم الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
ذلك هو الإتّباع
المرفوض لما تشابه منه ، دون تفسيره بمحكمه ام أيا كان من صالح التفسير استنطاقا
للآيات بنظائرها ، ودخولا في حقولها وحظائرها من أبوابها دون ظهورها.
اجل و «من رد
متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم ... وإن في اخبارنا متشابها كمتشابه
القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا»
، ودون ان يؤمن
بها على تشابهها لمن لا يستطيع على رجعها الى محكمها.
و (ما تَشابَهَ مِنْهُ) قد يعم المتشابه في نفسه ، الى ما جعل متشابها رغم إحكامه
، ثم تحميل ما يتحمل عليه ، وهو من انحس الإتباع لما تشابه منه
__________________
ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله. وليس ضرب القرآن بعضه ببعض ـ المندّد به في المأثور ـ إلّا ضرب
التضارب ، دون ذلك التفسير التقارب ، فكل تفسير ينتج تضاربا بين الآيات هو من ضرب
القرآن بعضه ببعض ضرب الدّقل ، وكل ما ينتج تقاربا بينها دون تحميل عليها إلّا ما
تتحمله ، فهو من صالح التفسير ، وهو تفسير القرآن بعضه ببعض (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)
فهنا تفسير لفظي للقرآن متشابها وغير
متشابه ، ثم تفسير باطني لهما ، ومن ثم تأويل ، ولا بد لكلّ من دليل ، فمفسر
المتشابه لفظيا دون دليل ، ثم تأويليا دون دليل ، انه جامع زيغا على زيغ وفتنة على
فتنة ، حيث التأويل كله في نفسه متشابه لأنه غير مسنود الى لفظ متشابه أو محكم ،
بل هو الأول معنويا الى مبدء او نتيجة ، فهو مخصوص بمن يحيط علما بمبادئ القرآن
ونتائجه.
فكل اتباع
للمتشابه ـ على تشابهه ـ هو من زيغ القلب ، ثم اتباع الحكم ذاتيا ام بعد الرجوع
الى المحكم هو من استقامة القلب ، شرط عدم تحميل الآراء الجارفة عليها على
إحكامها.
فقد يجعل المحكم
متشابها ثم يحمل عليه رأي مزيف ، وذلك من اتباع المتشابه رغم إحكامه ، او يجعل
المتشابه متّبعا على تشابهه بنفس التحميل ، فكذلك الأمر.
وأما ان يتبع
المحكم على إحكامه ، او يتبع المتشابه بعد قلبه محكما ـ اتباعا في مثلث العلم والعقيدة
والعمل أم يتبع المتشابه إيمانا دون تفسير : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فذلك هو الرسوخ في العلم على درجاته.
إن تأويل المتشابه
ـ إيضاحا لمعناه ـ يختص بالله ، حيث المحكمات تفسر المتشابهات ، كما ان تأويل
القرآن ـ ككل ـ مختص بالله فانه الذي يعلم من
التأويل من هو
اهله كالراسخين في العلم بمختلف درجاتهم.
وعلى أية حال فكل
تأويل ـ لأنه خارج عن مدلول اللفظ وراجع الى غامض المعنى ـ إنه يحتاج إلى دليل من
صاحب المعنى ، قد يبينه في سائر كلامه كالمحكمات بالنسبة للمتشابهات ، فهو عام
لأهل القرآن الخصوص ككل.
أم يبيّنه بإلهام
أو وحي وهما يختصان بأصحابهما الخصوص ، أم لا يبينه إلّا يوم القيامة ، ام ليس
ليبينه إطلاقا وهو التأويل المخصوص بعلم الله تعالى شأنه.
ففي مربع التأويل
نجده واقعا غيبيا مرتبطا بالمعنى المفهوم من القرآن ، لا يعلمه إلا الله ، ام
والراسخون في العلم بتعليم الله.
وبالنظر الدقيق
الى آيات التأويل نعرف مدى صدق هذا البيان ، فلا تجد فيها ولا أية إشارة الى تأويل
الألفاظ كما يهرفون بما لا يعرفون ، بل هو مثلث التأويل في النشآت الثلاث الأولى
والبرزخ والوسطى ، تأويلا علميا او واقعيا.
فتأويل كل ما فعله
خضر لم يكن تأويلا لكلام إذ لم يكن منه فيما اختلفا إلّا العمل ، إرجاعا له الى
مأخذ او نتيجة لا يظهران في مظهر الأعمال.
وتأويل الرؤيا
ليوسف هو إرجاعها الى واقعات لا تظهر من هذه الرؤيا إلا لمن علّم علم التأويل.
وتأويل القرآن ،
بروزا له في حقوله يوم القيامة ليس إلا للحاضر يوم القيامة (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (١٠ : ٢٩) ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ
يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ
رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ ..) (٧ : ٥٢).
إذا فعلم التأويل
ككل هو من علم الغيب المخصوص تعليمه بالله ،
وليس ليعلم من نص
الدلالة اللفظية او ظاهرها ، وانما يتبنى المعنى تدليلا من الله وهو يهدي السبيل.
والتأويل ـ في قول
فصل ـ من الأوّل ، فهو الإرجاع ، إرجاع معنى الآية الى واقع مجهول أيا كان ، تخطيا
عن المعلوم ، وليس تفسير النص او الظاهر الى خلافهما تأويلا إلّا في اصطلاح مستحدث
لا أصل له لغويا ولا قرآنيا.
وللتأويل مآلات
ثلاث لا يعول ـ فيما يئول إليها ـ إلّا بدليل قاطع ، فانه من أوصاف المعنى ـ الخفية
ـ دون اللفظ ، فلا يرجع اللفظ إلّا إلى معناه المنصوص او الظاهر ، ثم ليس لتأويل
المعنى إلى واحدة من الثلاثة أي دليل من اللفظ او المعنى.
إذا فكل متشابه له
تأويلان اثنان ، تأويل للمعنى الى واقع المراد ، وتأويل له الى واحدة من الثلاثة ،
فالأول ميسور لأهله ارجاعا للمتشابه الى محكمه ام تدبرا في نفس المتشابه ليزول عنه
تشابهه ، والثاني غير ميسور إلّا لمن علمه الله.
وللمحكم تأويل
واحد هو الثاني ، (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ) راجع الى الثاني لكل محكم او متشابه.
ومن اقرب
التأويلات لمحكمات او متشابهات هو واقع الأثر لمثلث العلم والعقيدة والعمل بالقرآن
في حياة التكليف وقد كشفت عنه النقاب آيات انعكاس الأعمال علميا وللمتقين عينيا.
ثم التأويل المأخذ
ربانيا ، والمآل في الأخرى ربانيا ، هما مجهولان إلا لمن عرفه الله وعلّمه.
فمما يعلّمه الله
صالح عباده المرسلين تأويل الأحكام ، قدر ما يقدرهم على استنباط جزئيات الأحكام من
مصادرها الربانية.
ومما لا يعلّمه
تأويل الحقائق المحكية عنها بالقرآن ، قدر ما عند الله ، فانه مخصوص بالله ، ولا
يخص تأويل القرآن بمتشابهه بل ويعم محكمه ، مهما كان الأول أعضل.
وزيغ القلب هنا لا
يعني زيغه في كل الحقول لمكان «زيغ» منكرا ، الشاملة لكل زيغ ، فقد يزيغ علما دون
زيغ في ايمان ، ام يزيغ ايمانا وليس له علم حتى يزيغ ، او يزيغ علما وايمانا فوا
ويلاه ، وثالث هذا الثالوث هو رأس الزاوية في الزيغ الذي يسبب كل فتنة في اتباع
المتشابه والتأويل.
٩ وجه اشتمال
الكتاب على متشابهات بجنب المحكمات موجّه في معنى التشابه والإحكام كما بيناه ،
فليس التشابه امرا قاصدا في قصور دلالي وإجمال متعمّد حتى ينافي بيان القرآن ، بل
هو كأصل مما لا بدّ منه في عرض المعارف الإلهية ذاتا وصفات وافعالا ، وفي عرض
المنسوخ كما الناسخ ، وهو كهامش على ذلك الأصل طبيعة الحال في مختلف الإدراكات والاستعدادات
لحدّ تصبح آية محكمة عند جماعة متشابهة عند آخرين ، حيث المتشابه ـ في أوضح تعريف
به ـ ما اشتبه علمه على جاهله ، والتشابه في كل حقوله هو لزام الكتب العلمية على
الإطلاق ، فضلا عن القرآن الذي يحمل كل ما تحتاجه البشرية الى يوم القيامة ـ إلا
ما بالإمكان ان يحصل عليه ـ ففي حقل التشريع الكافل لكافة الحاجات يستحيل عدم
التشابه لكافة المكلفين قضية اختلاف الفاعليات والقالبيات والاستعدادات في تفهم
الكلام.
والمشكلة العويصة
انما هي المتشابهات التي لا تفسير لها حكيما صالحا ولا نجد هكذا التشابه في القرآن
عن بكرته ، فان لكل متشابهة من آياته محكما قد تكون هي نفس المتشابهات بامعان
النظر وإجالة الفكر ، اللهم إلّا المتشابهات التأويلية التي ليس على اهل القرآن
تأويلها ، لأنه راجع الى الراسخين في
العلم ، أم لا
يعلمه إلّا الله حيث يختص علمه بالله.
١٠ وأما الراسخون
في العلم وموقفهم من علم التأويل ايجابيا وسلبيا ، فلأن الرسوخ في شيء هو التمكن
فيه بلا تزعزع وتزلزل تشبيها برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوّانة ، فالراسخون في
العلم ـ إذا ـ هم المتمكنون فيه الذين لا يختلفون في علمهم ولا يتخلفون.
والعلم يعم علم
المعرفة وعلم العقيدة وعلم الايمان والأخير أثبت مهما كان الأولان من أثافيّه وأسه
وأساسه ، فقد يثبت الراسخ في علم المعرفة والعقيدة ولا ثبوت له في علم الايمان
والثابت في علم الايمان ثابت ـ لا محالة ـ في علم المعرفة العقيدة على أية حال.
ومن الأولين ـ وهم
الأدنون في صنفي الراسخين ـ علماء اهل الكتاب دون المعصومين : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ) (٤ : ١٦١) فإنهم
من الذين هادوا ، هودا ورجوعا إلى الايمان بالله علما وعملا صالحا بعد سؤال الرؤية
جهلا وعملا طالحا ، وساحة العصمة القدسية براء من الجهل والجهالة على أية حال ،
فهم من دون المعصومين (عليهم السلام).
والراسخون في
العلم في آية التقسيم قد يشمل الأولين على هامش الآخرين ، فرسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) وأهل بيته المعصومون (عليهم السلام) هم أفضل الآخرين ، كما ان
الأولياء دون المعصومين هم أفضل الأولين ، فليس (الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) هنا ليختص بالآخرين فضلا عن أفضلهم .
__________________
والتفسير بهم ليس
إلا من جري التأويل لأصدق مصاديقهم في العلم والايمان ، و «العلم» هنا بمناسبة
المورد هو العلم بالقرآن ، وهو بصورة طليقة لائقة طليق العلم به في مثلّثه : معرفة
وعقيدة وإيمانا قلبيا ، وكلّ منها قد تكفي للخروج عن «زيغ» الذي يدفع إلى اتّباع
المتشابه ، مهما كان الزيغ في العلم قد يدفع الى اتباع المتشابه كزيغ العقيدة
والايمان ، فلا بد إذا من رسوخ في الايمان كأصل ، ومن ثمّ رسوخ في العقيدة التي هي
لزام الإيمان ، ورسوخ في علم المعرفة.
وأفضل الراسخين في
العلم هو أفضلهم في هذه الثلاث ، ثم الراسخ في علم الإيمان ـ على مراتبه ـ ومن ثمّ
الراسخ في المعرفة ـ على مراتبها .
ومما يشعرنا أنّ
أصل العلم هنا هو الإيمان (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) حيث الخشية هي من مخلفات الإيمان قدره ، فقد يكون عالما
عقليا ومعرفيا وليس له ذلك العلم الإيمان الذي يخشى به الله ، فهو ـ إذا ـ العلم
الخاشي.
ثم الواو في (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) كما تتحمل العطف ، انهم يعلمون تأويله كما الله مهما
اختلفت الدرجات ، كذلك الاستئناف ، أنهم لا يعلمون تأويله كله ، فما علموا منه فهو
، وما جهلوا منه اعترفوا بجهلهم والايمان به كما علموا منه كما في العلوي (عليه
السلام) حيث سأله رجل هل تصف لنا ربك نزدد له حبا ومعرفة فغضب (عليه السلام) وخطب
الناس فقال فيما قال : عليك يا عبد الله بما دلّك عليه القرآن من صفته وتقدمك فيه
الرسول
__________________
(صلّى الله عليه
وآله وسلّم) من معرفته فأتمّ به واستضىء بنور هدايته فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها
فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين وما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب فرضه
ولا في سنة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والائمة الهداة أثره فكل علمه إلى
الله ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين واعلم يا عبد الله ان
الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السّدد المضروبة دون
الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا آمنا به كلّ
من عند ربنا فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما وسمّى تركهم
التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه (عن كهنه) منهم رسوخا .
ففصل القول هنا في
الراسخين في العلم انهم يعلمون من تأويل القرآن ما علمهم الله دون من سواهم ،
ويجهلون ما اختص الله بعلمه من التأويل ، ومما يعلمونه تأويل الأحكام تأويل المبدء
والختام ، فلهم في تأويل مبادئ الأحكام استنباط غير المنصوص في القرآن سنادا الى
تأويل المنصوص ، وليس لغير المعصومين ذلك التأويل اللهم إلا القليل الذي له دليل
او العليل الذي لا يروّى الغليل.
فالمنزلة الوسطى
والطريقة المثلى في موقف الراسخين في العلم من علم التأويل هي ألّا يخرجوا من علم
التأويل جملة ، ولا يدخلوا فيه جملة ، بل هم عوان بينهما ، يعلمون منه ما علمهم
الله من واجب المعرفة الواجبة لأئمة الأمة ، ولا يعلمون ما اختص الله بعلمه.
__________________
والمستفيضة في حصر
الراسخين في العلم في المعصومين تعني أفضلهم وأعلاهم ، كالتي تحلق لهم علم التأويل
حيث تعني غير ما اختص الله بعلمه منه .
إذا فحصر الوقف
عند اسم الله تعالى باستئناف (وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) إخراج لهم عن ان يعلموا شيئا من التأويل من جليل أو قليل ،
اطلاعا لطلعه واستنباطا لغامضه ووامضه واستخراجا لكوامنه ، حطا لهم بذلك عن رتبة
استحقوا الإيفاء عليها واطلاع شرفها ، فان الله تعالى قد أعطاهم من نهج السبيل
وضياء الدليل ما يفتحون به المبهم ويصدعون به الظلم ، امتيازا لهم كقادة عن سائر
الأمة مقودين ، وعلمهم بقسم من ذلك التأويل مستمد من علم الله ، فلا معنى للوقوف
بهم دون منزلتهم ، والإحجام عن إيصالهم الى أقصى هذه المنزلة السامية.
ثم الوقف عند (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) توفية للاستثناء حقه بإدخال المعصومين فيه ، مزية لهم عمن
سواهم بعلم من التأويل ، معرفة بمداخله ومخارجه ، وسلوكا لمحاجه ومناهجه المباهج.
والمنزلة العوان ـ
الوسطى ـ بين المنزلتين هي اللائقة بهم ، اللابقة لهم ، تنزيلا لهم عن ساحة العلم
بالتأويل ككلّ مساماة لله وعوذا بالله ، وترفيعا لهم عن قاعة الجهل به ككل مساماة
لسائر الأمة وعوذا بالله.
فحصالة القول هنا
وأصالته انه (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) لا سواه ، حيث يراد تأويله كله بأسره دون إبقاء ، فإن
معرفة كنه الذات والصفات
__________________
والأفعال الربانية
وعلم الساعة وما أشبه خاصة بالله.
كما انه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) بفارق انهم لا يعلمون كل التأويل و (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنا) هو من الدليل على جهلهم بقسم من التأويل ، بل ما علمهم
الله فإنهم لم يعلموا ما علموا من التأويل إلّا بما علمهم الله القدر الصالح
لقيادة العصمة وعصمة القيادة .
وقد يوسع نطاق (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) تقابلهم ب (الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) فكما الزيغ دركات كذلك الرسوخ في العلم درجات.
وكما ان أفضل
الراسخين هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته المعصومين (عليهم
السلام) كذلك أرذل الزائغين هم الذين جعلوا القرآن عضين ، يعطفون القرآن على الرأي
حين يعطف هؤلاء الرأي على القرآن ، ويعطفون الهدى على الهوى حين تعطف الهدى على
الهوى.
فكل تفسير او
تأويل للقرآن بعيد عن جادة الصواب هو من زيغ القلب ، كما ان صالح التفسير والسكوت
عما لا يعلم من تفسير او تأويل ، ذلك من الرسوخ في العلم.
١١ ولا يخص
التأويل هنا تأويل ما تشابه منه بل والمحكمات ، حيث التأويل يعني المأخذ بدائيا
والمآل نهائيا ، ولقد فصلنا القول فيه في مدخل التفسير
__________________
فلا نعيد ،
والجدير بالذكر هنا أن للمتشابه تأويلين وللمحكم تأويل واحد ، مهما كان لكلّ بطون.
١٢ كما وقد سبق
البيان في الفارق بين التأويل وتفسير المتشابه.
ويا للراسخين في
العلم من خنوع وخشوع في جنب الله في دعاء السلب والإيجاب :
(رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ).(٨)
وترى أن إزاغة
القلب هي من الله ولا سيما بعد إذ هدى ، وخاصة بالنسبة للراسخين في العلم؟ إنها من
العبد حين يزيغ فيزيغ الله قلبه : (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وان كان بعد إذ هدى ، وأما الراسخون في العلم فدعاء السلب
لهم تعني أنهم لا يملكون في أنفسهم هدى لولا تثبيت من الله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) لا سيما وان الراسخين هنا تشمل مع المعصومين سواهم ،
الذينهم في خطر الزيغ من أنفسهم فالإزاغة من الله.
فقد تعني هذه
الدعاء لهم ككل : أدم لنا ألطافك وعصمتك وهداك ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا
، ولا تبتلنا بأمر إمر يثقل علينا القيام به والخروج إليك من حقه فتزيغ له قلوبنا
، فهي ـ إذا ـ كمثل (رَبَّنا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (٢ : ٢٨٦).
وقد تعني الإزاغة
ترك التوفيق عن زيادات الهدى بنقصان الاهتداء (وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) فقد سألوه ـ إذا ـ ان يلطف لهم بكثرة الخواطر وقوة الزواجر
في فعل الإيمان حتى يقيموا عليه طيلة أعمارهم ولا
يتركوه في
مستقبلهم فيستحقوا بتركه وفعل الكفر ـ بدلا منه ـ أن يزيغ الله تعالى قلوبهم عن
الثواب ، فاعلا بهم مستحق العقاب.
وقد تعني ـ لا
سيما بالنسبة للمعصومين ـ خضوعهم واستكانتهم بإنابتهم إلى الله على أن ترك الازاغة
حاصل لهم لرسوخهم في العلم ، فهي كما (قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِّ) وهو ليس ليحكم إلّا بالحق.
وإنما اختص القلب
من بين الجوانح والجوارح بتلك الدعاء لأنه شريف الأعضاء جانحة وجارحة ، فانه قلب
الروح وهي عمّاله وتحت إمرته ، فإذا اهتدى القلب اهتدت ، وإذا زاغ زاغت واحتدت .
(هَبْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً) رحمة خاصة لدنية تعصمنا عن الزيغ أيا كان من دركاته ، حيث
الرحمة تعني كل درجاتها (إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ).
وانما تطلبوا
إيجاب الرحمة بعد سلب الزيغ لأن هذا السلب لا يغني عن ذلك الإيجاب ، فقد يكون
عوانا بين سلب الزيغ وإيجاب الرحمة فهو من المستضعفين الضالين ، كما الزائغون من
غير المغضوب عليهم والمرحومون هم من المهتدين الى الصراط المستقيم ، فلذلك ثني هنا
الإيجاب بعد السلب تكملة للهدى.
__________________
فقد تنضم دعاء
السلب والإيجاب هذه من الراسخين في العلم في خضم كلمة التوحيد (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) حيث التعلق بكل ما سوى الله زيغ ، والتعلق بالله هدى ورسوخ
في العلم وبينهما عوان.
او يقال هناك زيغ
في القلوب وهنا رسوخ في العلم وبينهما عوان لم يذكر وهو القلب السليم غير الراسخ
فيه العلم ، فلا هو يفسر المتشابهات زائغا ولا هو يعلم تفسيرا او تأويلا صالحا ،
كالعوام من المؤمنين الذين لا يفهمون القرآن.
ومن اتباع
المتشابه الجدال والمراء فيه ونثره نثر الدقل تأولا له على غير تأويله وتراجعا فيه
ضربا لبعضه ببعض ، كما يروى متظافرا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
__________________
وزيغ القلب يعم
جانب الايمان الى جانب العلم والعقل ، فكل ضيق للإنسان يتطلب ضيقا في فهم القرآن.
نظرة ثانية إلى
آية التقسيم :
(هُوَ الَّذِي ..) تحصر إنزال الكتاب ككلّ في الوحي ، فليؤمن المؤمن به كلّه
ـ بما لا يفهمه إلى ما يفهمه ـ دون تقحم في المتشابه ما لم يجد لتأويله صالح
السبيل ، أو وفي محكمه صالح التأويل.
ومهما اشتمل
القرآن على متشابهات على ضوء المحكمات ، فالأصول
__________________
الدقيقة للعقيدة
وأحكام الشرعة ككل هي من ضمن المحكمات التي لا تشابه فيها.
اجل (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتابِ) امّا للمتشابهات ـ لا لأنفسها ايضا مهما كان من الكتاب ـ فالاضافة
إذا ليست لامية بل هي بتقدير «من» أمّ من الكتاب كما ان المتشابهات ولد من الكتاب
والكتاب يجمعهما ، حيث يستثار بها دفائن مدلولاتها ، وأما لمبتغي المعرفة عن اصل
الشرعة والشرعة الأصيلة في حقلي الأصول والفروع.
ذلك ـ فأما الذين
في قلوبهم زيغ عن الحق الناصع الناصح ، وضلال عن سوي الصراط فطريا وعقليا وواقعيا
، هم أولاء الأنكاد يتركون الأصول الواضحة التي تقوم عليها العقيدة والشرعة
والمنهاج العملي والعقيدي والعلمي للحياة ، ويجرّون وراء المتشابه الذي لا يفهم
بظاهره البدائي ، يتبعونه على تشابهه ، تأويلا عليلا كليلا دونما اي دليل ، حيث
يختلقون فيه مجالا للفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة والاختلافات التي تنشأ عن
بلبلة الأفكار ، نتيجة الاقتحام فيما لا مجال لتأويله اللهم إلا لأهله ام عن سبيله
الواضح (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).
ولأن التأويل من
الأول : الرجوع ، فهو الباطن مأخذا ومرجعا للمحكمات كما للمتشابهات ، فمن التأويل
ما يعلمه من لطف فهمه وهم الأولياء ، ومنه ما يعلمه المعصومون فمنه تأويل الأحكام
فإنهم سنادا الى مآخذها ونتائجها يستنبطون فروعا أخرى لا تدل عليها ألفاظها.
ومنه ما لا يعلمه
إلا الله كالحقائق الاصيلة ـ مآخذ ونتائج ـ للقرآن ، فان مصدره غيب عمن سوى الله
فلا يعلمه إلا الله ، فذلك مثلث من التأويل ولكلّ أهله.
ويقابلهم في تلك
المواجهة المضللة (الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) حيث يعتمدون على المحكمات كأصول ، ثم يقولون آمنا به كل من
عند ربنا في السدد المضروبة عليهم من تأويله ، واما إرجاع المتشابه الى محكمه
استيضاحا لمعناه ، ام ازاحة للتشابه بالتدبر اللائق فيه ، فهما ليسا من اتباع
المتشابه حتى يدخلا في زيغ التنديد ، بل هما مما امر به اهل القرآن ان يدّبروا
آياته فيتذكر اولوا الألباب : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).
(وَما يَذَّكَّرُ) ناتجة الرسوخ في العلم (إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) دون السطحيين القشريين الذين تخدعهم قشور من العلم ،
فيخيّل إليهم أنهم يعلمون كل شيء ، وان لهم الاقتحام في خضم السدد المضروبة
المتشابهة من علوم القرآن العظيم ، فيقابلون كلام الله ـ المطلق المحلق على كل
العقليات والفطريات والواقعيات العلمية ـ يقابلونه بما صاغتها لهم عقولهم وعلومهم
المحدودة ، سامحين لأنفسهم كل تأويل فيما تشابه منه دون اي دليل على انهم الجديرون
بإدراك كل غامض.
واما اولوا
الألباب فهم يذكرون انهم مطلق الجهل امام علم الله المطلق ، يعتقدون كل وامض اتضح
لهم بتدبر وتفكير فيعملون به ، ويؤمنون بما تشابه منه ولم يتضح لهم قائلين : (آمَنَّا بِهِ) محكما ومتشابها ـ متشابها ومحكما «كل» منهما دون فارق (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ ...) :
نظرة ثالثة الى
آية التقسيم فيها نتيجة البحث عنها بصورة مجملة :
المستفاد من آية
التقسيم امور تالية :
١ تقسيم القرآن
الى محكمات ومتشابهات حاصر فيما تعنى دلالته من آيات ، دون الحروف المقطعة التي هي
برقيات رمزية تخص الرسول (صلّى الله
عليه وآله وسلّم)
وذويه المعصومين ، ثم لا إجمال ولا إبهام فيما يراد دلالته محكمة ام متشابهة.
٢ ليس التشابه في
المتشابهات من الناحية الدلالية فانه خلاف الفصاحة والبلاغة الساذجة فضلا عن القمة
العليا لأعلى درجات الاعجاز في القرآن ، وانما التشابه الذي يزول بالتأمل في
المتشابهة او بالرجوع الى محكمها هو التشابه اللفظي كالاسماء والصفات المشتركة
الاستعمال بين الله وخلقه ، ثم الواقعي كالمحكمات الأحكامية المنسوخة حيث تتشابه
الثابتة غير المنسوخة.
واما التشابه
المعرفي والعلمي والعقلي والحسي ، فيما يختلف النص او الظاهر المستقر مع هذه
الأربع ، فليس مقصودا في (أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فانه من المحكمات لفظيا وواقعيا ولا بد من الرجوع الى نفس
الآية واتباع دلالتها الظاهرة رفضا لخلافها في هذه الحقول الأربعة.
والآيات
المتشابهات بصورة عامة هي (٣٦) قسما بضرب التشابهات الست في نفسها ، تخرج منها
المكررات والباقية بين ما تضمنه الآية وما هي متشابهة من جهات أخرى.
٣ التشابه
والإحكام أمران نسبيان في القرآن حسب مختلف الاستعدادات والتأملات ، فلا متشابهة
إطلاقا لأهل بيت الرسالة صلوات الله عليهم أجمعين ، وكلها متشابهة لمن لا يعرف
اللغة العربية وبينهما عوان.
٤ زيغ القلوب الذي
يخلّف إتباع ما تشابه منه يعم الزيغ العلمي والعقلي والعقيدي لمكان «زيغ» دون «الزيغ»
واتباع ما تشابه منه بين مستحيل ومحظور ومحبور ، فالأول هو اتباعه على تشابهه دون
تأويل صالحا او طالحا ، والثاني تأويله دون سناد الى دليل ، والثالث هو التأويل
بصالح الدليل ، والاتباع يعم العلمي والعقيدي ، والعملي فيما فيه عمل ، فليس
البقاء على التشابه دونما
تفسير اتباعا له ،
ولا اتباع ما تشابه بعد تفسيره الصحيح اتباعا محظورا ، وانما المحظور هو اتباعه
بتفسير وتأويل عليل دخيل.
٥ لا يعني التأويل
تفسير النص او الظاهر الى خلافه رغم اشتهاره فانه تأويل عليل للتأويل ، انما هو
الإرجاع ، تأويلا للمتشابه الى المحكم ليزول التشابه ، ثم تأويلا للمحكم الى مبدءه
ونتيجته هنا أم بعد الموت ، ومن التأويل ما يختص بالله ككل غيب مختص به ، ومنه ما
يختص بالمعصومين كتأويل الأحكام فإنهم يعرفون مناطات الأحكام بما علمهم الله
بالرسول: (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) فهو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحكم بين الناس في كافة
الحقول بما أراه الله ، اراءة خاصة له بعد عامة القرآن ، ومنها اراءة تأويلات
الأحكام حتى يأهل للافتاء في كل صغيرة وكبيرة بتلك الإراء.
ومن التأويل ما
يعم اهل القرآن على درجاتهم ، تأويلا للمتشابه بنفسه ام بالرجوع الى محكمه ، ام
تأويلا لبعض الأحكام الى مآخذها المنصوصة بالخصوص كتابا او سنة ، ام متلقاة منهما
بصورة قاطعة ، كمأخذ الإسكار للخمر حيث يعم التحريم الى كل مسكر وان لم يكن خمرا
بالفعل ، كمن يشرب العصير الكثير ثم ينام وجاه الشمس ثم يسكر.
٦ الراسخون في
العلم يعم كافة المؤمنين غير الزائغة قلوبهم مهما كانوا جهالا لا يعلمون من القرآن
حرفا ، مهما كان أفضل الراسخين في العلم هم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
والائمة المعصومون من عترته (عليهم السّلام) ، وبينهما متوسطون.
والواو في (وَالرَّاسِخُونَ) في العلم تعني كلا العطف والاستئناف ، عطفا للتدليل على ان
منهم من يعلم جانبا من التأويل ، واستئنافا للتدليل على
اختصاص عامة
التأويل بالله والله هو الهادي الى سواء السبيل.
(رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)
(٩).
فاعترافة اولى
لأولى الألباب : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) جامعة لمثلث الإيمان بالتوحيد والنبوة وكتاب الشرعة ككل ،
وهنا ثانية هي تالية التوحيد في هندسة الايمان أيا كان: (رَبَّنا إِنَّكَ ....).
ف (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) فطريا وعقليا وعلميا وحسيا ، هو هنا يوم الجمع ، حيث يجمع
فيه الناس نشرا وحشرا وحسابا وجزاء وفاقا ولا يظلمون فتيلا.
وانه جمع يجمع في
خضمّة كلّ متطلبات الجزاء الوفاق لكل عامل صالحا او طالحا ، ناسا وغير ناس ، وما
ذكر الناس هنا وفي كثير مثله إلّا لأنهم المحور الأساس في شرعة الله.
ومما يؤكّد ذلك
الجمع (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ
فِيهِ) (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أفيخلفه عجزا أم جهلا أم تجاهلا أم بخلا أو ظلما ، وساحة
الربوبية براء عن كل نقص لأنه «الله» و (إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ).
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)
(١٠).
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بهذه الأصول الإيمانية وماتوا وهم كفار ـ كما تعينه (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) في التالية ـ (لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ) يوم الجمع (أَمْوالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) بعد ما أغنت عنهم في حياة الابتلاء (وَأُولئِكَ هُمْ) لا سواهم (وَقُودُ النَّارِ) حيث الكفار دركات أنزلها وأنذلها رؤوس الكفر ودعاة الضلالة
الذين هم وقود
نيران الإضلال هنا ، فهم ـ إذا ـ وقود النار هناك ، يتّقد بهم في النار هوامش
الكفر المستحقين النار.
فلا وقود ـ إذا ـ للنار
إلّا رؤوس الكفر والضلال ، كما لا نار هناك إلّا بروزا لملكوت الأعمال.
فهم الناس في آية
الوقود ـ الأخرى ـ : (فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٣ : ٢٤) وهم
المخاطبون في آية الحصب : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢١ : ٩٨) وهم
المعنيون بآيات الصلي : (لا يَصْلاها إِلَّا
الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٩٢ : ١٥).
فلأن مثلث الآيات
في الوقود والحصب والصلي تعني المشركين والمكذبين بآيات الله فهم ـ فقط ـ المعنيون
من (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا ومن سائر الحصب والصلي هناك وهنالك ، ثم من سواهم من
الكفار يحرقون بوقودهم اللهم إلا (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٤ : ١٠) إذا
فسائر ما يستحق به النار هي من فروع الشرك والتكذيب بآيات الله ، أعني رؤوس
الزاوية في الإشراك والتكذيب.
ولأن تلك النار ـ ككل
ـ تطلع على أهلها من ذواتهم بأعمالهم فليس لهم الفرار عنها إلا أن يفروا من أنفسهم
الشريرة ولات حين فرار ، وقد كان لهم أن يفروا منها يوم الدنيا مخالفة لأهوائهم
واتباعا لهدى الله ، ولكنهم ماتوا بنيرانهم الجهنمية فليحرقوا بها ، وذلك :
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)
(١١).
الدأب هو السير
المستمر ، وهو هنا يعم النشأتين ، فآل فرعون والذين
من قبلهم في دأبهم
كانوا دائبين في الكفر والتكذيب بآيات الله وماتوا وهم كفار ، فكذلك (هُمْ وَقُودُ النَّارِ) في دار القرار كما كانوا وقود النار في دار الفرار (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) طبقا عن طبق جزاء وفاقا (وَاللهُ شَدِيدُ
الْعِقابِ) عدلا ، كما هو ارحم الراحمين ثوابا.
وقد تحتمل (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) وجوها عدة علّها كلها معنية حيث يسعها ادب اللفظ وعناية
المعنى.
ف «آل فرعون»
مفعول فاعله محذوف معروف هو الله : كسنته الجارية على هؤلاء وهؤلاء أخذا لهم
بذنوبهم في الأولى والأخرى (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٧١
: ٢٥)
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)
(٤٠ : ٤٦).
أو أنه فاعل :
كدأبهم في التكذيب برسل الله ورسالاته وآياته وكأنهم تواصوا به على طول خط
الرسالات الإلهية.
او كدأب العذاب في
آل فرعون دأبه في هؤلاء الأنكاد الذين هم فراعنة في هذه الرسالة القدسية السامية.
او ان الاضافة هنا
لامية : كالدأب الذي لآل فرعون ـ منهم في تكذيبهم ومن الله في تعذيبهم ـ يكون
الدأب في الذين كفروا من رؤوس الضلالة.
او كدأبهم في أنه
لم ينفعهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا عن عذاب الأولى فضلا عن الأخرى.
ف «دأب (آلِ فِرْعَوْنَ) على أية حال تحلق على كل دأب منهم وفيهم وعليهم ومن الله
في الاولى والأخرى طبقا عن طبق ولا يظلمون نقيرا.
(قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى
كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ
وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
قُلْ
أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ
(١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ
اللهُ
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً
بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
فَكَيْفَ
إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)
(٢٥)
(قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ)
(١٢).
هنا (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قد لا يعني كافة الكفار حيث نزلت بعد انتصار المسلمين في
بدر كما تعنيه (قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ...) فهم ـ إذا ـ بقية باقية منهم في الجزيرة وهم اليهود كانوا
يحسبونهم «الناس» الأقوياء لا يغلبون وهم يغلبون ، فنزلت هذه الآية منددة بهم
مهددة لهم بغلب بعد غلب ... (وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)
.
هذا ـ وقد تعني
الكفار ككلّ انهم مغلوبون على طول الخط كأصل أصيل في التقاء فئتي الإيمان والكفر
كما (لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (٣ : ١١١) وليس
غلب الكفار على المؤمنين أحيانا إلا
__________________
خطأ في قبيل
الايمان كما كان في حرب أحد ما كان من تخلفهم عن أمر النبي (صلّى الله عليه وآله
وسلّم).
وهذه الآية من
الملاحم القرآنية لا سيما في خصوص يهود المدينة حيث غلبوا كما قال الله في حرب بني
قينقاع ، وما كان لهم حول ولا قوة نقضا لهذه الملحمة تجميعا لقواتهم الهائلة مهما
شرّقوا او غرّبوا وزمّروا وعربدوا ، مما يدل على صادق الوحي في هذه الإذاعة
القرآنية.
ولأن الحشر هو
إخراج جماعة عن مقرهم بإزعاج ، إذا فجهنم هي جحيم النار في دار القرار ، مهما
سبقتها جحيم البرزخ فانها برزخ في ذلك الحشر الحاشر الحاشد (وَبِئْسَ الْمِهادُ) الذي مهده الله لهم بما مهدوا له في أنفسهم في هذه الأدنى.
(قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى
كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)
(١٣).
(قَدْ كانَ لَكُمْ) : ـ الناس الأبطال ـ! «آية» لغلب المسلمين عليكم او
امكانيته القريبة (فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا) في قتال حامية دامية (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ) وهي الضفة الإسلامية السامية (وَأُخْرى كافِرَةٌ) هم مشركو قريش ، والمسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فيهم
قلة فارسة ، والمشركون الف وفيهم كثرة فارسة ، مما كان بطبيعة الحال يخلق لهم
كارثة لقلة عددهم وعددهم ، ولكنّما العدد الايمانية الكثيرة سدت فراغ العدد
الحربية اليسيرة.
ومما نصرهم الله
في هذه المعركة الصاخبة ان (يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) حيث تعني فيما تعنيه ان الكفار كانوا يرون المسلمين مثليهم
رغم انهم ثلثهم ، مما يهين عزمهم ويفشّل حزمهم كما فعل.
وتلك الإراءة
المعاكسة كانت من الجانبين لصالح المسلمين ، فهنا (يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) توهينا لعزمهم ، وفي الأنفال (إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً
وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
(٤٤).
هاتان القلتان
المرئيتان هما من الحيل الربانية لصالح الفئة المؤمنة اضافة الى واقع الإيمان
الصامد الذي لا يهدف لأصحابه إلا إحدى الحسنيين (وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) بحساب دونما فوضى جزاف (إِنَّ فِي ذلِكَ) التأييد المديد (لَعِبْرَةً لِأُولِي
الْأَبْصارِ) ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وقد تعني (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) كلتا المعاكستين ان :
يرى الكافرون
المؤمنين مثلي أنفسهم ، فهم إذا ألفان ستة اضعاف العدد الواقع ، ويرى المؤمنون
أنفسهم مثلي الكافرين وكذلك الأمر ، وهما معا تشجيع للمؤمنين وتوهين للكافرين ،
وأما ان يرى المؤمنون أنفسهم مثلي أنفسهم (٦٢٦) وهم يرون الكافرين ألفا فليس مما
يشجع المؤمنين فضلا عن توهين الكافرين.
فالأصل هنا في
رؤية الكافرين انهم يرون المؤمنين مثليهم رأى العين ، وفي المؤمنين انهم يرونهم
قلة بجنبهم ويرون أنفسهم مثليهم رأى العين (لِيَقْضِيَ اللهُ
أَمْراً كانَ مَفْعُولاً).
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ
وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)
(١٤).
«زين» مجهولا لا
بد له من فاعل ، فهل هو الشيطان حيث التزيين هنا في مسرح التنديد مفصولا عن حساب
الله (ذلِكَ مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ
الْمَآبِ)؟ وليس خالق الخلق بزينته إلّا الله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ)! وهنالك وفر من الآيات تنسب زينة الحياة إلى الله ك : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ
زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١٨ : ٧) ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٢٧ : ٤) ـ (.. كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ ... وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ
كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) (٦ : ١١٠)!.
نقول : هنا تزيين
هو من فعل الله تحسينا لخلقه كلا على حده : (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ولا تنديد فيه إذ لا إضلال.
وهناك تزيين زيادة
عن الواقع فيه إضلال وإدغال ، وهو من فعل الشيطان بالنسبة لهؤلاء الذين يمشون على
هواه ، سواء أكان تزيينا للحياة الدنيا اكثر مماهيه ام تزيينا لاعمالهم السيئة حتى
يروها حسنة ، فهو من الشيطان إضلال ومن الله تعالى عقوبة على ضلال إذ يخلي بينهم
وبينه يضلهم ويغويهم ، يعدهم ويمنيهم ولا يعدهم الشيطان إلا غرورا.
فهنا الله يزين
لهم أعمالهم (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ.
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ) (٢٧ : ٥).
لا فحسب بل (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ
فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ..) (٤١ : ٢٥) ف (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى
الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١٩ : ٨٣) مهما
عنى التقييض والإرسال عدم الحيال بينهم وبين الشياطين حيث يكلهم إلى أنفسهم فهم
يعمهون.
وأما حب هذه الستة
المذكورة في الآية المتوحدة في حب الشهوات فهي من الله تمشية لحياه الجسد ، مطية
لحياة الروح وبلية في مدرسة الدنيا : (إِنَّا جَعَلْنا
ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
فذلك ـ إذا ـ حب
لذريعة الحياة العليا ، أن يتذرع بها الإنسان إليها ، ناظرا بها إليها ، لا ناظرا
إليها اصيلة ، بل وسيلة الى رؤية الحقائق في الاولى والأخرى.
ثم هو من الشيطان
تركيز على الشهوات ، وحصر للحياة في هذه الأدنى ، أن يزينها أكثر مماهيه فيجعل
الحياة الأخرى لاغية كأن لا حياة إلّا هذه الدانية وهنالك الطامّة الكبرى!.
وثالوث الشهوات ـ نساء
وبنين وأموالا ـ هي أساس البلاء والهوة الجارفة لمن أبصر إليها فأعمته ، وهي أساس
الكمال لمن أبصر بها فبصرته.
ولأن شهوة الجنس
تحتل الصف الاول من الشهوات نراها رأس الزاوية ، وهي كما هيه ام المشتهيات ، ثم من
أهم حصائلها «البنين» وقد تعني هنا الأعم من البنات.
ثم مربعة الأموال
التي تستخدم لأريحية الحياة التي تحتل رأس الزاوية فيها (النِّساءِ وَالْبَنِينَ) ، وهي (الْقَناطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) كرأس الزاوية في الأموال ، ثم (الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) المعلمة وهي جيادها ، ثم «الأنعام» وأخيرا «الحرث».
«ذلك» البعيد
البعيد (مَتاعُ الْحَياةِ
الدُّنْيا) يتمتع بها فيها ويشترى بها الحياة الأخرى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) والثواب لمن جاز شهواتها وهي خامدة إلا عما يتذرع بها لما
عند الله.
ومهما كانت الحياة
الدنيا خيرا كمزرعة ومدرسة فالحياة الأخرى خير منها كمنتوجة صالحة :
(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ
مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)
(١٥).
«قل» يا رسول
الهدى والداعية إلى كل خير (أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) فانه شر من ذلك للذين طغوا عند ربهم ، (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الحياة الدنيا إذ لم يتناسوا فيها ـ وهي حياة البعد
والحجاب عن الرب ـ انهم عند ربهم وبمحضره فاتقوا.
ف (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) ـ (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ـ (جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) واين (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الاخرى من (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الاولى ، إذ تكشف الغطاء فيها كثواب دائب بما كشفت كما
سعوا في الاولى.
واين (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) ـ (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الاخرى من النساء عند ربهم في الاولى ، ثم لا خبر هنا
عن خصوص البنين والأموال لأنهما كما النساء (فِيها ما تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وإنما يفرد بالذكر في عالم المضايقات ثم الأموال يوم
الأخرى لا حد لها ولا حساب ، وهي حاصلة هناك دون تحصيل.
وقد تعني «مطهرة»
اضافة إلى الطهارة عن التدنس طهارة عن كل تنقّص أنثوي من هرم وضعف وقبح في المنظر
والمعشر ، فهن يظللن مطهرات كما كن على طول خط الحياة.
ولماذا «ازواج»
للمؤمنين ، لا وازواج للمؤمنات؟ قد يعنى اختصاص الذكر ـ ان كان ـ التجافي عن ذكر
ازواج المؤمنات حفاظا على كرامة العفاف! ولكنهن ذكرن في مسارح النكاح مرات عدة
للدنيا ، ولا عفاف عن الحلال حتى يعف عن ذكرهن في مسرح الزواج يوم الأخرى ، وعلّ (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) تعم
القبيلين كما (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) و (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ) فلا اختصاص في شيء من ذلك بقبيل الرجال ، و «الذين» تغليب
لجانب الرجال ، و «مطهرة» اعتبارا بلفظ الجمع المكسر وإبرازا أكثر لقبيل الرجال ،
فإن رغبة الرجال فيهن أكثر من رغبتهن فيهم.
إذا فالنقلة
الطفرة من (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) إلى (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ) نقلة قاصدة الى بلورة الحياة الأخرى وركيزتها الأحرى ،
فجنة الرضوان هي رضوان الجنات (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
عِنْدَ رَبِّهِمْ).
(وَاللهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ) من هم همهم الشهوات هنا وهناك مهما كانت محللة مرغبة وكثير
ما هم.
ومن هم همهم (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ) وقليل ما هم ، وهكذا يؤدبنا ربنا ويخطو بنا من شهوات
الدنيا الى شهوات الآخرة ، ومنها إلى أشهى الرغبات الروحية (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ)!وهو اكبر كما (وَعَدَ اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ
أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
(٩ : ٧).
هنا وهناك (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ) يقابل كل الجنات وما فيها من كافة الشهيات ، تدليلا على ان
قليلا من رضوان الله خير من كثير من سائر الجنات ، مهما كان (لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فان جنة الرضوان هي الأصل والأخرى من فروعها ، كما الروح
هو الأصل في الكيان الانساني والجسم فرعه.
وقد يعني (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ) على ضوء رضوان الله عن العبد ، رضوان العبد عن الله ،
ولأنه ذريعة لرضوان الله ، كما (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).
وإنما عدّي «رضوان»
ب «من» حيث الأصل هو رضوان من الله عن عبده وليس العكس إلا تقدمته.
ذلك ، وإلى
مواصفات للذين اتقوا عند ربهم في قال وفعال :
(الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ
وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحارِ)
(١٧).
هؤلاء الأكارم هم
في خماسية من واقعية الصفات الإيمانية بعد قولة الايمان وطلبة الغفران والاتقاء عن
النيران ، دروب ثمان إلى جنة الرضوان (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
والنصب في هذه
الخمس على الإختصاص : أخص من القائلين (رَبَّنا إِنَّنا
آمَنَّا ..)
: (الصَّابِرِينَ ...).
وهذه الصفات تحلق
على كافة الصفات الايمانية على الإطلاق ، كما وتحلق كلّ منها على سائر الخمس ،
فالصابر في الله حقا هو الصادق حقا كما الصادق صابر ، والقانت حقا لله هو الصابر
الصادق المنفق في الأسحار كما المنفق والمستغفر صابر صادق قانت.
ذلك ـ وفي كل صفة
من هذه الخمس تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإيمان ، ففي الصبر ترفّع على الآلام
دون انكسار وتراجع ، ثباتا على أعباء الدعوة واستعلاء على الشكوى.
وفي الصدق اعتزاز
بالحق المطلق ومطلق الحق في ظلاله ، ترفعا عن ضعف الكذب وكذب الضعف فما الكذب إلا
ضعفا عن ناصع الحق اتقاء عن ضرر او اجتلابا لنفع.
وفي القنوت لله
أداء ـ قدر المستطاع ـ لحق الربوبية وواجب العبودية وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت
الخنوع لله الذي لا قنوت لسواه.
وفي الإنفاق تحرّر
من أسر المال بأسره ، وانفلات من ربقة الشح ، وإعلاء لحقيقة الأخوة الايمانية على
شهوة اللذة الشخصية وتكافل بين الناس يليق بعالم الناس خروجا عن عالم النسناس.
ومن ثم الاستغفار
بالأسحار يلقي ظلالا عميقة الندى ، قريبة الهدى ، كما وصيغة الأسحار راسمة ظلال
فترتها قبيل الفجر حيث يصفو فيها الجو وتترقرق فيها خواطر النفس ، تلاقيا حفيفا
بين روح الإنسان والكائنات ككلّ اتجاها إلى خالق الكون.
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
(١٨).
هذه من غرر الآيات
الجامعة لبراهين التوحيد ، الجامعة لكل مداليل آيات التوحيد آفاقيا وانفسيا ، يجدر
بنا ان نسبر اغوار البحث فيها كما سبرت.
هنا سؤال يطرح
نفسه بطبيعة الحال ان كيف يشهد الله لنفسه وطبيعة الشهادة ان تكون لاثبات الدعوى
من غير مدعيها عند فقدان اي برهان عليها؟ وإلّا فلكل مدع ان يشهد لنفسه دون حاجة
إلى سواه؟!.
هنا ـ بعد التأكد
من معنى الشهادة أنها أداؤها عن حضور كامل وهو بالنسبة لله الحضور المحلّق على كل
محضر لتلقي الشهادة وإلقاءها قبل خلق المشهود وبعده وبعد فناءه ـ هنا نقول أولا :
ان شهادة الله بوحدانيته قد تخص الذين يعتقدون في وجوده ثم هم به مشركون ، وهم
معترفون أنه الإله الأصيل وقد اتخذ لنفسه شركاء ، فأفضل من يشهد لوحدانيته هو نفسه
المقدسة ، إذ هو الذي يعلم شركاءه لو كانوا ، وهو الذي يتخذهم لو كان متخذا لهم ،
فلمّا ينفي العلم بان له شريكا ، وينفي اتخاذه لنفسه شريكا ، فتلك إذا شهادة قاطعة
على توحيده : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ
شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٠ : ١٨) ـ (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ
بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ
بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (١٣ : ٣٣).
فلان اتخاذ
الشركاء لله لا يعلم ـ كأفضل معلم ـ إلا من قبل الله ف (شَهِدَ اللهُ) هي أفضل شهادة لتوحيد الله وجاه من يفترون على الله انه
اتخذ لنفسه شركاء.
هذا ـ ولكن شهادة
الله على توحيده ليست لتقف عند هذه فحسب ، فانه شهيد بكل حقول الشهادة على (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ..).
فقبل كل شهادة (شَهِدَ اللهُ) باسمه «الله» : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ) ف (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِيًّا) (١٩ : ٦٥)؟ كلا يا
ربنا حيث اجمع العالمون ملحدين ومشركين وموحدين على توحيد اسم «الله» لله فلم يسمّ
به أحد إلا الله ، مهما اتخذوا من دونه شركاء ، إذ لا يحملون اسم «الله».
ثم «الله» في ذاته
القدسية يشهد ألا اله الا هو ، فان ذاته اللّامحدودة تحيل تعدّده ، حيث اللّامحدود
لا يتعدد ولو كان مخلوقا ، وهو في الخلق لا محدودية نسبية ، فالماء ـ مثلا ـ دون
اي تقيّد بزمان او مكان او ألوان ليس إلا واحدا ، ولا يتصور التعدد إلا على ضوء
اختلاف مّا في ايّ من هذه المواصفات.
فاللامحدودية
الإلهية ـ وهي حقها وحاقها ـ تحيل التعدد ، فهو واحد لا بعدد ولا عن عدد ولا
بتأويل عدد ، و (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الآلهة إلا الله مع الله ، حيث العدد يحيل ألوهية المعدود
أيا كان.
وصفاته ـ كذلك ـ ذاتية
هي ذاته القدسية ، وفعلية هي أفعاله ، إنها لا محدودة فلا تعدد في الموصوف بها
بنفس السند.
كما وأفعاله
المنضدة المنتظمة دون تهافت وتفاوت ، وبكل تناسق وتوافق حيث (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ) ذلك ايضا دليل وحدة الخالق الناظم الناسق ، فتدبيره العجيب
وصنعه اللطيف اللبيب وحكمته البالغة وقدرته الحالقة ، كل ذلك دليل وحدة الصانع
الحكيم القدير.
كما وشهد الله بما
خلق في أنفسنا ودبر من فطر وفكر وعلوم ، فالفطرة شاهدة ، والعقل شاهد ، والعلم في
كل حقوله شاهد ، شهداء ثلاثة هي من الآيات الأنفسية اضافة الى الآيات الآفاقية (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).
ثم (وَالْمَلائِكَةُ) المدبرات أمرا ، والحاملات رسالات الله على رسل الله ،
إنها تشهد بوحدة التدبير ووحي الرسالة التوحيدية (أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) فلا تجد الرسالات الإلهية ملكا يحمل خلاف التوحيد ، او
يعمل في تدبير أمر الكون خلاف التوحيد.
وكذلك (أُولُوا الْعِلْمِ) بالله ، ف (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ولا سيما الرسل والنبيون وهم الرعيل الأعلى من اولى العلم بالله ، فإنهم
__________________
يزدادون على مثلث
العلم لسائر العلماء علم الوحي الرسالي : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) (٢١ : ٢٥).
ذلك وأفضل
الشهادات الربانية في حقل الكتب الرسالية هو القرآن : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ
إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) (٤ : ١٦٦).
وهي بصورة عامة : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١٣ : ٤٣).
هذا ، وكذلك سائر
اولي العلم ، علما بالله كما الموحدون ، او علما بخلق الله ، حيث العلوم التجريبية
بأسرها ـ لو خليت وطباعها ـ تحيل ازلية المادة .
إذا فالكون بأسره
ـ خالقا ومخلوقا ، وفي كل حقوله ـ شاهد صدق بكل صنوف الشهادة (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا نكير لتوحيده تعالى إلّا نكير فطرته وعقليته وعلمه.
إذا ف (شَهِدَ اللهُ) : ١ باسمه «الله» ٢ وذاته و ٣ صفات ذاته ٤ وصفات فعله ، ٥
ومن الفطر ٦ والعقول ٧ وبقرآنه و ٨ ملائكته وسطاء في حمل التكوين والتشريع ، ٩
وأولوا العلم الرسل ومن يحذو محذاهم ١٠ وسائر اولي العلم حيث الصالح في ذاته يدل
على وحدانيته تعالى.
فكل هذه الشهود
العشرة هي من (شَهِدَ اللهُ) منه او من فعله شهادة عقلية او علمية او واقعية ، وليست
شهادات لفقدان البرهان.
__________________
ومهما دخلت في
سائر الشهادات خلاف العدل والقسط ، ولكن الله في شهادته وفي ربوبيته ككلّ ليس إلّا
:
(قائِماً بِالْقِسْطِ) تشهد لقيامه بالقسط ألوهيته ، فانما يحتاج الى الظلم
الضعيف ، كما وتشهد سائر الشهداء من الملائكة واولي العلم ، دون اي دخل ولا دجل أو
دغل في الشهادة التوحيدية ، فإنما هو قسط فوق العدل ، وليس ظلما دون العدل ، ولا
هي ـ فقط ـ عدل ، فالقسط من اعدل العدل وأفضله ، وهكذا تكون شهادة الله على توحيده
: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فعزته الوحيدة غير الوهيدة ، وحكمته الوحيدة الوطيدة
تشهدان لتوحيده شهادة قاسطة.
تلك هي جملة
براهين التوحيد المستفادة من هذه الغرة الكريمة ، فكما ان وجود الله يملك كل
البراهين المثبتة ، كذلك توحيده وسائر أسماءه الحسنى وصفاته العليا ، فإنه تعالى
قائم بالقسط في كافة مسارح ربوبيته بمصارح آياته آفاقية وانفسية دون إبقاء.
وها نحن نرى على
مدار الزمن في التاريخ الجغرافي والجغرافيا التاريخي ، ان الفترات التي حكمت فيها
شرعة الله وحدها ، هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط واستقامت حياتهم قاسطة ، في
حين نراها في الفترات المتخلفة عن شرعة الله ساقطة.
لذلك نرى آية
الشهادة الإلهية ـ هذه ـ مع زملائها في لسان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «معلقات
بالعرش ما بينهن وبين الله حجاب»
__________________
وذلك لأنهن رافعات
الحجاب عن وجه التوحيد كل نقاب.
(إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا
مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ
اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)
(١٩).
... في الحق «ان
الدين» الطاعة الحقه (عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ) لله خالصا ناصعا دونما خليط من هواك ام أهواء من سواك ،
والإسلام في كل شرعة هو الإسلام لله فيها دونما تخلف عنها قيد شعرة.
إذا فالدين عند
الله في الشرعة الأخيرة هو الإسلام فيها لله ، دونما إبقاء على تهود او تنصر ،
ولذلك سميت هذه الشرعة الإسلام اعتبارا بمضي أدوار سائر الشرائع في دوره ، مهما
كانت كل إسلاما في دوره الخاص به ، (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) (٣ : ٨٥) وهو
إسلام الوجه لله بكل وجه في كل الأدوار الرسالية ، وهو هذا الإسلام الأخير بعد مضي
ادوارها.
(وَمَا اخْتَلَفَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في هذا الإسلام وهو أصله وأثافيّه (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ) من قبل في كتاباتهم بشارات بهذا الإسلام ، ومن بعد في
القرآن العظيم (بَغْياً بَيْنَهُمْ) في هذا الإسلام ، ترسبا على شرعة الطائفية وطائفية الشرعة
فكفرا بآيات الله (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) بالنسبة لهؤلاء المنحرفين عن إسلام الوجه لله.
__________________
(الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) هم أخص من اهل الكتاب ، فالذين لا يعلمون الكتاب إلا اماني
، هم لم يؤتوا الكتاب علميا معرفيا مهما أوتوه مبدئيا ، ومن ادلة الاختصاص (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) فلا يشمل (أُمِّيُّونَ لا
يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ).
وهذا الإسلام الذي
هو الدين عند الله ، ليس فقط إقرارا باللسان فانه ليس دينا وطاعة ، بل هو تبلور
الايمان وتمامه وكماله دخولا في جو السلم على ضوء الطاعة المطلقة لله.
فالإسلام هو احسن
دين مهما كان الايمان دينا وإسلام الإقرار ـ كذلك ـ دينا في حقل الإقرار : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (٤ : ١٢٥) ـ (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) (٢ : ١١٢) ـ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) (٣١ : ٢٢).
إسلام الوجه لله
يشمل كل وجه في الإسلام وهو الدخول في السلم كافة (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢ : ٢٠٨).
وهكذا يؤمر مؤمنوا
كل الشرايع الإلهية ، وحين تنتهي الى الشرعة الأخيرة فهي هي الإسلام فقط الى يوم
الدين : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) والإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين
__________________
واليقين هو
التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل .
(فَإِنْ حَاجُّوكَ
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)
(٢٠).
(فَإِنْ حَاجُّوكَ) اهل الكتاب وسائر الكفار في شرعتك هذه الجديدة الجادة «فقل»
كلمة واحدة قاطعة للحجاج (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ) واسلموا وجوههم (مَنِ اتَّبَعَنِ
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) فأنتم إذا أمثالنا مسلمون بشرعة القرآن ، فقد بعث محمد (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) بالإسلام كسائر الرسل والنبيين (عليهم السلام) (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ)
.
(فَإِنْ أَسْلَمُوا) وجوههم لله فأسلموا (فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ف (لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ)
(وَاللهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ) المسلمين منهم والمتولين.
__________________
هنا إسلام الوجه
لله يشمل كل الوجوه المقامة للدين حنيفا في آية الفطرة ، من الوجوه الروحية
والحسية ، فالإنسان ـ ومعه كل الكائنات ـ هو أمام الله وجه لا يخفى عليه منه خافية
، والمطلوب منه ان يختار إسلام الوجه بكل وجوهه لله ، دخولا في سلم الطاعة المطلقة
لله.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)
(٢٢).
هنا ثالوث من
أبعاد الكفر للبعاد عن شرعة الله وإسلام الوجه لله مهما كانوا كتابيين ام سواهم :
١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ
اللهِ) وحيا وصاحب وحي ٢ ـ (وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) فالقتل بحق حق ولكن قتل النبيين ليس إلا باطلا لأنهم
يحملون بلاغ الحق من الله ، فقتلهم قتل للحق.
٣ (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) وهم حملة الرسالات بعد النبيين أيا كانوا .
__________________
(فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وإذا كانت بشارتهم العذاب الأليم فما هي ـ إذا ـ نذارتهم ،
فانما التعبير يشي بعمق العذاب لهم وتحليقه عليهم لحد لا بشرى لهم إلّا العذاب!.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) إذ فسدت فبطلت ، وذلك مأخوذ من الحبط وهو داء ترم له أجواف
الإبل فيكون سبب هلاكها وانقطاع آكالها ، وهكذا تكون اعمال هؤلاء الأغباش قد تنتفخ
وتتضخّم في الأعين ولكنه الانتفاخ المؤدي الى البطلان والهلاك ، ثم ولا ينصرهم
ناصر ولا يعذرهم عاذر ، وقد أفردنا بحثا فصلا حول الحبوط من ذي قبل فلا نعيد.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)
(٢٣).
سؤال تعجيب وتأنيب
، تعجيب للرسول والذين معه ، وتأنيب بالذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، وتراه نصيبا
من وحي التوراة والإنجيل إذ حرفا عن جهات اشراعهما فلم يبق لهم منه الا نصيب عسيب؟
وقد أوتوا كأصل كل الوحي في الكتابين!.
ام نصيبا من الوحي
ككل ، فما وحي سائر الكتاب بجنب هذا الكتاب المبين إلا نصيبا ضئيلا من الكتاب؟ و (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) حيث تعني الكتابين قد لا يناسبه!.
«نصيبا» هنا قد
تتحمل النصيبين ولكلّ وجه والجمع أوجه ، وخلاصة القول انهم ما أوتوا كل كتاب الوحي
وهم يزعمونهم قد أوتوا كله ثم انقطع به الوحي ، وتراهم إذا أوتوا كل الوحي فلما ذا
يتولى فريق منهم عن كتاب الله حين يدعون وهم معرضون؟.
هنا (كِتابِ اللهِ) هو كل كتابه تعالى ، فليس ـ إذا ـ نصيبا من الكتاب ،
وأعجب بهم وهم لم
يؤتوا الا نصيبا من الكتاب وهم لا يرضون بكتاب الله ككل وهو القرآن حكما!.
وقد يعني (كِتابِ اللهِ) كل ما كتبه الله على عباده ومنه التورات كما في الروايات
ان اليهود حوكموا ـ في احكام عدة كتابية ـ إلى التوراة فتولى فريق منهم وهم معرضون
.
ذلك ، ولكن الآية
ليست لتجمد على طائفة غابرة من اليهود غائرة في خضم التاريخ ، بل هي شاملة لكل من
أوتوا نصيبا من كتاب الوحي هودا او نصارى امن أشبههما ، في الطول التاريخي والعرض
الجغرافي ، فان ذلك التأبي والتولي شيمتهم وطبيعتهم الطائفية العارمة ، لا يرضون
عما عندهم بديلا ، ولا بما عندهم دليلا إذا خالف أهوائهم! و :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)
(٢٤).
«ذلك» التأبي عن
قبول الحق والتجرّؤ على الحق (بِأَنَّهُمْ قالُوا
...)
__________________
قيلتهم العليلة
انهم أبناء الله فلا تمسهم النار ، ولو مستهم ف (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) عبدنا فيها العجل ، وبذلك الضمان والأمان حرروا أنفسهم في
كل تخلفة عن شرعة الله ، فإنهم ـ على زعمهم ـ مثابون على اية حال ، وليس عذابهم ـ لو
كان ـ إلا أياما معدودات محتملات هي متحمّلات.
وهكذا (غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ) فلا يبالون بما يعملون.
(فَكَيْفَ إِذا
جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُون)
(٢٥).
«فكيف» تكون حالهم
بمآلهم في اعمالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ) مع سائر الجموع يوم الجمع (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ
فِيهِ) في الشرائع الكتابية في ميزان العدل السوي (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) نفس «ما كسبت» من خير او شر ، دون زيادة الا في خير ولا
نقيصة في كل من الشر والخير «وهم» هودا ام سواهم «لا يظلمون» انتقاصا عما كسبوا.
وحين ينحصر الوفاء
بما كسبت ، فهو المحور الأصيل ، حيث (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ
ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ
رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)
(٣٠).
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
تُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
قُلْ
إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ
وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا
اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)
(٣٢)
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ٢٦.
آية منقطعة النظير
في مسرح الملك والعزة والذلة سلبا وإيجابا ننفد فيها من مفرداتها الى جملها
فجملتها ، لكي نحصل على مغزاها الصالحة ، ذبا عما يخيل إلى الذين في قلوبهم زيغ من
طالحة بشأنها والله من وراء القصد.
«قل» أنت يا رسول
الهدى كحامل الوحي الأخير ، و «قل» ايها التالي للذكر الحكيم مع الرسول ، قولا
باللسان والأفعال والجنان ، قولا لازما ودعائيا في مختلف الجموع ومحتشد المكلفين
الى يوم الدين.
(قُلِ اللهُمَّ) أمرا من الله ان نخاطب الله في كل الحقول والمسارح ، بكل
المصارح.
(مالِكَ الْمُلْكِ) : «مالك» ملكا حقيقيا لا حول عنه ، دون المالكين سواه ،
فإنهم بملكهم مستودعون فيما يملّكون ومستخلفون فيما يملكون.
«والملك» يعم
الملك ككل ، زمنيا وروحيا ، تكوينيا وتشريعيا ، ام هو مثلث ملك المال دولة وملك المنال دولة في حقلي القيادة : الروحية
__________________
والزمنية ، فمثلث
الملك المحلق على كل ملك يختصه انحصارا فيه وانحسارا عمن سواه إلا من آتاه وديعة
زائلة ، فقد يستعمل الملك في مصطلح الذكر الحكيم في كل من الثلاثة.
وهنا «تؤتى» دون «تهب
او تعطي» للإشعار بان الملك أيا كان ليس عطية ربانية فان قضيتها البقاء دونما تحول
ولا تحويل ، ثم لا عطاء في الملك غير الحق لو صح في الملك الحق.
فانما الملك يؤتى
إيتاء ، زمنيا او روحيا او ماليا ، بحق او بباطل ، والتشريعي منها كله حق ، لأنه
شرعة من الدين ولا باطل في دين الله.
ولكن التكوين ـ وكله
حق ـ يعم تكوين الشر بما يختاره الشرير قضية الاختيار للمكلفين.
فمن الملك الزمني
: (يا قَوْمِ لَكُمُ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) (٤٠ : ٢٩) (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) (٤٢ : ٥١).
وهو بين حق كما
للنبيين وسائر المعصومين الملوك ، وباطل كما للفراعنة والنماردة ، فليس الله
بمؤتيهم الملك مرضاة له حتى يحتج لبني أمية «أليس قد آتى الله عز وجل بني أمية
الملك؟ حيث الجواب : ليس حيث تذهب إن الله عز وجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية
بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو الذي أخذه .
واين إيتاء من
إيتاء ، إيتاء الله لأهله تشريعييا ، ثم إيتاءه لغير اهله تكوينيا بمعنى عدم منعه
تسييرا ، كما (الَّذِي حَاجَّ
إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ
__________________
الْمُلْكَ) وهو نمرود الطاغية
في أحد وجهي الآية وهما معا معنيان.
ومن الروحي : في
وجه لإبراهيم (عليه السلام) : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) (٢ : ٢٥٨) وبكل
الوجوه : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٤ : ٥٣) فالرسالة
الإلهية ملك ، بل هي أفضلها ومن ضمنها الزمني: (إِنِّي رَسُولُ اللهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٧
: ١٥٨)
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (٣٨
: ٣٥).
ذلك ، وهو بين حق
كما شرعه الله وقرره لأنبيائه وأولياءه ، وباطل اغتصبه الذين احتلوا المناصب
الروحية عن أصحابها الصالحين ، فهذه خرافة مجازفة ان واقع المرجعية الدينية ليس
الا بخيرة صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه ، فكل مرجع ديني ـ إذا ـ هو نائبه
المنصوب المرضي عنده.
فان واقع الخلافة
الروحية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان واقعا في الخلاعة اغتصابا لتلك
الخلافة فضلا عن المرجعية الروحية زمن الغيبة ومن ملك الملك فانه من الملك ، فكل
ما يملك يشمله الملك ، من دولة ودولة وقيادة روحية ، حقا ام باطلا.
فقد يجتمع
الإيتاءان تشريعا وتكوينا كما في الملك الحق في مثلثه ام مثناه ام موحّده كما في
الصالحين.
واخرى إيتاء
تشريعي ولم يحصل تكوين ، كالقيادة الزمنية للروحيين الصالحيين حيث تحول بينها
وبينهم طغاة بغاة ، ثم لا ينصرهم في معركتهم الصاخبة المؤمنون معهم قصورا أو
تقصيرا.
وثالثة تحمل
الإيتاء التكويني دون التشريعي كمن يؤتى من هذه الثلاثة ام كلها دون حق شرعي ،
فليس الحصول عليها تغلبا على ارادة الله وتألبا عليها ،
وانما هو تخلف عن
شرعة الله : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣
: ١٧٨)
(وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧
: ١٨٣)
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها) (٢٢
: ٤٨)
، وأصل الاملاء
هذا من الشيطان ثم الله لا يحول بينه وبينهم فينسب اليه كما ينسب الى الشيطان
وبينهما بون الرحمن والشيطان : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٤٧
: ٢٥)
(فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ومن الجامع بين الأولين ام والثالث : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ
عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (٢
: ١٠٢)
(وَآتاهُ اللهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (٢ : ٢٥١) ـ (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) (١٢ : ١٠١) (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٤ : ٥٤).
وذلك المثلث كما
هو بين حق وباطل ، وبين جعل تشريعي وتكويني ، كذلك هو بين شخصي ـ كما في أشخاص
الملوك ـ أو جماعي ـ كما في بيوتات صالحة ام طالحة ام عوان بينهما.
ثم (تُؤْتِي الْمُلْكَ) دون «تعطي» تعميم لعطية الملك وهو الهبة الربانية في حقلي
التشريع والتكوين ، ولإيتائه لمن يؤتاه تكوينا في طالح الملك زمنيا وروحيا ، بمعنى
ألا يحول دون وصول الطالحين إليهما ام إلى أحدهما ، حين يحاولون بمختلف المحاولات
والحيل الوصول إليه ، والصالحون بمعزل عن المحاولات الصالحة لفصله عنهم وصولا
للقواد الصالحين إليه ، حيث الدار العاجلة هي دار الاختيار دون إجبار ، اللهم الا
فيما لا تكليف فيه امّا أشبهه.
إذا فمشية الإيتاء
تعم التكوينية المحلقة على صالح الملك وطالحه ، والتشريعية الخاصة بصالحه.
فمهما كان الملك
الظالم ـ روحيا او زمنيا ـ هو المتغلب على ملكه والغاصب لما في يده ، ولكنه تعالى
ليس بمنعزل عن إيجابه وسلبه ، حيث الارادة الإلهية المحلقة على كل كائن هي قضية
التوحيد الأفعالي ، فقد يحاول الظالم كل محاولة له ممكنة للوصول الى حكم والله
يحول بينه وبين مغزاه ، ام يحاول بعض المحاولات والله لا يحول بينه ومغزاه ، وكما
يراه من الحكمة العالية.
وعلى أية حال ليس
مالك الملك ـ كأصل ـ إلّا هو ، ولا يؤتيه لأحد إلا من يشاءه ، دون جبر ولا تفويض ،
فإنهما تنقيص لساحته وتقويض ، فله الحكم في كل الحقول دون انعزالية تامة تفويضا ،
ولا ايجابية طامة جبرا ، كما ويضل من يشاء ويهدي من يشاء ولا يظلمون نقيرا.
إنه (مالِكَ الْمُلْكِ) أيا كان من الثلاثة بين تشريع وتكوين (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) منهم في صالح الحكمة الربانية امتحانا بامتهان ام سواه ،
بإضفاء النعم عليهم ، وإقرار الأموال الدثرة عندهم ، وبما ترفدهم به من بنين وحفدة
، وعديد وعدّة ، وإلزاما لمن دونهم على طاعتهم متى أجابوا داعيك واتبعوا أوامرك ،
وحين يعدلون عن نهج طاعتك ويفارقون سواء محجتك نزعت منهم الملك ، بان تسلبهم ملابس
نعمك وتجعل أموالهم وأحوالهم ، دولتهم ودولتهم ، غنما ونفلا لغيرهم من عبادك.
ذلك ـ وإيتاء
الملك تشريعيا ككل يخص الصالحين فلا انتزاع له عنهم ، اللهم إلا نقلة لملك الشّرعة
عن قوم إلى آخرين بما بغوا وطغوا على صلاح رسلهم ، كما انتقلت الشرعة الإلهية من
بني إسرائيل الى بني إسماعيل ، وإليكم نصا من التوراة من الأصل العبراني بهذا
الصدد تصديقا للقرآن العظيم :
ففي سفر التكوين (٤٩
: ١٠) : «لوء يا ثور شبط ميهوداه ومحوقق ميبن رغلايو عدكي يا بوء شيلوه ولوء ييقهت
عميم أو ثري لنفن عيروه ...».
«لا تنهض عصى
السلطنة من يهودا ولا الحكم من بين رجليه حتى يأتي شيلوه الذي يجتمع فيه كافة
الأمم ...».
فانتهاض السلطة من
يهودا هو انتقالها من الشعب الاسرائيلي إلى غيرهم ، وهو هنا «شيلوه» من غير
إسرائيل ، إذ لو كان منهم لما قوبل بهم في انتهاض السلطة عنهم إليه وقد يندد بهم القرآن في ادعائهم الجوفاء ان النبوة منحصرة
فيهم (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٤
: ٥٣) (أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)
(٤ : ٥٤).
وقد ورد في الأثر
ان نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته
فأنزل الله هذه الآية وذلك بعد ما أمره ربه ان يسأله
ويروى عنه (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) ان اسم الله الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية .
ذلك! فليكن
الصالحون على مدار الزمن ظروفا لتحقيق مشيئة الله ان يؤتيهم الملك تحقيقا لشرعة
الله في بلاد الله ، دون تكاسل او تعاضل في أسبابه (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
__________________
فهناك توفّر شروط
القيادة روحيا وزمنيا فيمن يحق له ان يقود الأمة ، يجب تحصيلها كفائيا بينهم ،
وهنا محاولات عاقلة صالحة لسائر المؤمنين في سلب القيادة عن الطالحين وإيصالها الى
الصالحين ، ففي نقض شرط او نقصه هنا او هناك الفرصة متاهة لمن يتربصون بهم دوائر
السوء ، لكي يجعلوا القيادة وحتى الروحية منها فريسة لهم بكل إدغال ، وهنا ناقص
الشرط او ناقضة عن تقصير متخلف عن مشيئة الله وشرعته ، قائدا او مقودا.
نجد النقص والنقض
في عصور أئمة الدين المعصومين إذ لم يناصرهم المؤمنون كما يحب فاحتلت مناصبهم
فاختلت موازين القيادتين روحية وزمنية.
ثم نجدهما في زمن
الغيبة لولي الأمر تقصيرا جاهلا او متجاهلا قاحلا من قبل الأمة ، ومن قبل من تحق
لهم القيادة ، مهما بان البون بين القواد والمقودين في أبعاد التقصير او القصور.
ثم الملك قد يكون
عزا كما يرضاه الله ، وهو نفسه ذل فيما لا يرضاه ، كما الانحسار عن الملك ذل فيما
يتوجب تقلده لصالح الأمة ، وهو نفسه عز إذا لزم محاظير اكثر حظرا من تركه.
وكضابطة ثابتة في
إيتاء الملك وسواه وإيتاء العز وسواه : الخير كله بيديه والشر ليس إليه إذ : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) فبيده اصل الخير كله بيديه والشر ليس إليه إذ : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) فبيده اصل الخير في وصله وفصله ، وليس الشر إلا ممن يؤتاه
مهما أمضاه ربنا تحقيقا للمحنة في دار البلية ـ تكوينا ـ وهو لا يرضاه تشريعا.
فمهما كان كل من
الخير والشر من عند الله ، ولكن الخير منه والشر من نفسك : (.. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ
مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا
يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما
أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
وَأَرْسَلْناكَ
لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ٧٩).
ومن خيره في
تدبيره امور الكون غير المختار كما يدبر الكائن المختار وفي رجعة اخرى الى الآية
نقول :
إن (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تحلق الخير على كل أفعاله تعالى ، إذنا في خير او شر وعدمه
في خير او شر ، فحين يريد فاعل تحقيق شره بما قدم له ، والله يعلم ما يريد ويكرهه
، فهلّا يريد الله هنا سلبا ولا إيجابا وقد حرّمه؟ وهذا انعزال عن الربوبية! ام
يريد سلبا والشرير يحقق شره رغم ارادة الله؟ وهذا تغلب على ارادة الله! ام يريد
إيجابا بعد ما اراده الشرير وقدم له ما أمكنه؟ وهذا هو الإيتاء الرباني لما حرّمه
تشريعا ، فلو انه أراد سلبه اضطر الشرير الى تركه وخرجت حياة التكليف عن دور
الامتحان ، فهذه الارادة الربانية ـ إذا ـ خير وليست شرا.
نعم في دوران
الأمر بين ارادة السلب والإيجاب في الشر قضية الحكمة الربانية تقديم الأهم على
المهم ، فان كانت ارادة السلب أهم قدّمت على الإيجاب كما في نار ابراهيم ، وان
كانت ارادة الإيجاب أهم قدمت على ارادة السلب كما في الأكثرية الساحقة من الشرور
الشخصية ، فانما يريد الله السلب في الشرور الجماعية التي فيها استئصال الحق باهله
عن بكرته كما في قصة ابراهيم.
ولا يعني «الخير
كله بيديك والشر ليس إليك» انه لا يريد الشر وان كانت ارادته خيرا ، وانما هو الشر
الذي هو يسببه دونما اختيار لأهله.
وفيما يسد عن الشر
رغم توفر مقدماته الاختيارية ، فقد يجازى الشرير حيث لم يكتف بالنية ، فقد قدم
ماله فيه امكانية ، فليعاقب بما قدم مهما خف عقابه إذ لم يحصل شره!.
اجل (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فليس منه الا الخير مهما كان عندنا شرا وإيلاما ، فقد يمنع
عن سلطة شريرة رغم توفر شروطها حفاظا على الأهم في صالح الحكمة الربانية ، ام لا
يمنع تحريرا لاختيار السوء وإملاء لصاحبه وآخر لآخرين قدموا له ام سكتوا ام لم
يقصّروا ، فكل الأفعال الشريرة لها واجهة شر هي شرارة الفاعل بعقيدته ونيته
وعمليته ، وواجهة خير هي تحقيق الاختيار وتعذيب المختار بسوئه واملاءه ومن ثم
إبلاء الآخرين.
وقد يأتي الشر
خيرا مما في تركه كما قد يأتي الخير شرا مما في تركه ، ف (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ)!.
(تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ
حِسابٍ) ٢٧.
آية الإيلاج هذه
ونظائرها في سائر القرآن هي من أدلة كروية الأرض ، فليست الآفاق لوقت واحد ليلا
ولا نهارا ، بل هي تقتسم إلى ليل بساعاته ونهار بساعاته وهما يتداخلان حسب مختلف
الفصول كما يصلح في الحكمة العالية الربانية.
وهذه عبارة عبيرة
لابقة لمحة عن كروية الأرض ، ان ما ينقصه من النهار يزيده في الليل وما ينقصه من
الليل يزيده في النهار ، ولفظ الإيلاج هو ابلغ الألفاظ تعبيرا عن ذلك التناقص لأنه
يفيد إدخال كل واحد منها في الآخر بلطيف الممازجة وشديد الملابسة فيصبح جزء من
الليل نهارا وآخر من النهار ليلا.
ذلك ـ وكما
الإخراج للحي من الميت وللميت من الحي فاعلية حكيمة أخرى هي الأخرى من صالح
التدبير.
وآية ثانية في
متعاكس الإيلاج تشريع السماح في المعاقبة بالمثل : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ
اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٢٢ : ٦١) تمثيلا
للتشريع العدل بالتكوين العدل ، إذ يولج ليل العذاب في نهار الحياة الظالمة ، كما
يولج نهار العذاب في ليل الحياة المظلومة.
وثالثة تمثيلا للخلق
والبعث بمتعاكس الإيلاج : (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣١ : ٢٩).
فكما انه يولج
الليل في النهار ، كذلك يولج ليل الموت في نهار الحياة ، وكما انه يولج النهار في
الليل كذلك يولج نهار الحياة في ليل الممات ، ف (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ)! إذا فمتعاكس الإيلاج ينعكس ـ بطبيعة الحال ـ على واقع
الحياة بعد الموت آجلا ، كما هو في واقع التشريع قبل الموت عاجلا.
ذلك ـ وكما في
إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي كشريطة تدار طول الحياة برهان لا مرد له
على امكانية الإخراج الأول بعد الموت كما قبله ، كإمكانية الإخراج الثاني واقعا
ملموسا في عاجل الحياة.
ذلك وكما يخرج
الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر .
__________________
كما ومن إيلاج
الليل في النهار حرمان اهل الله ـ أحيانا ـ عن السلطة الزمنية لتحقيق شرعة الله ،
ومن إيلاج النهار في الليل إيتاء غير الآهلين السلطة الزمنية اماهيه ، وهما من
الإيتاء التكويني دون التشريعي.
كما ومن إخراج
الحي من الميت إخراج بلورة الايمان في دولة الكفر ، ومن إخراج الميت من الحي اخطاء
السلطات الحقة فانتقالها الى اهل الباطل.
(وَتَرْزُقُ مَنْ
تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) في النشآت الثلاث ، وليس (بِغَيْرِ حِسابٍ) فوضى جزاف ، بل هو بحساب وتقدير عادل قاسط (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) فانه : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطاءً حِساباً) (٧٨ : ٣٦).
فالحساب هو
المحاسبة مصدر حاسب ، والمحاسبة المنفية لا تناحر (عَطاءً حِساباً) فان حساب الحسابين مختلف.
فثابت الحساب هو
الميزان العدل والفضل في رزقه سبحانه ، وساقط الحساب هو الحدّ من فضل الله ، إذ لا
حد لفضله في مجالاته مهما حدّ عدله فيها حيث التجاوز عن العدل ظلم.
فرزقه بغير حساب
لمن يشاء قد يعني عدم الموازنة بين الصالحات والمثوبات ، وعدم الحد في المثوبات ،
وترك الحساب لصغائر السيئات وترك صغائر الحسنات ، وما أشبهها من حساب لا يناسب
عميم فضله لأهله.
... لقد سبق (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ... بِيَدِكَ الْخَيْرُ) مما ينبهنا بواجب المحاولة الدائبة للحصول على حق الملك
بفضل الله ، وهنا يأتي واجب المفاصلة في اية ولاية بين كتلة الايمان والكفر ، وقد
تختصران في (لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ) :
فهالة الايمان
تقتضي حالة بين السلب والإيجاب في حقل الولاية كما في
كافة الحقول ،
فعلى المؤمن مثلث السلب في ولاية الكفار ، ثم مثلث الإيجاب في ولاية المؤمنين ،
وهما المعبر عنهما في حقل الفروع الدينية بالتولى والتبري ، كلّ في كل الزوايا
الثلاث إلا في حقل التقية وهي الحفاظ على أهم الواجبين.
وليس فحسب المؤمن
بل الإنسان أيا كان يعيش بين إيجابيات وسلبيات ثلاث ، في نفسه وفي عمله شخصيا او
جماعيا ، وعلى المؤمن تحقيق كلمة التوحيد إيجابا في مثلثه وسلبا في ثالوثه.
(لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) ٢٨.
«الكافرون» هنا
يعم ثالوث الكفر إلحادا وإشراكا وتوحيدا كتابيا.
والولاية المنهي
عنها هنا هي مطلق الولاية ما صدقت ، حبا وعمل الحب وقوله ، والسلطة الكافرة ،
ثالوث منحوس من ولاية الكافرين يجمعها التحبب والتودد إليهم كيفما كان.
والاتخاذ في الأصل
هو القصد الى أخذ الشيء والعزم عليه والتمسك به والملازمة له كما (اتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (٤ : ٢٥) ـ (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (١٨ : ٢١) ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) (١٩ : ٨١) :
انقطاعا إليها واقامة على عبادتها ، ففلتة الولاية قد لا يشملها الاتخاذ حتى تخلّف
(فَلَيْسَ مِنَ اللهِ
فِي شَيْءٍ) فانها من اللمم والسيئات غير الكبيرة المكفّرة بترك
الكبيرة : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً).
فالمتخذون
الكافرين اولياء من دون المؤمنين لا يؤمنون بالله مهما ادعوه ، فهم بين ملحد يوالي
الكافرين ولا يوالي المؤمنين ، او مشرك يواليهما مع بعض.
واما المتفلت في
ولاية للكافرين في لفظة قول ام فعل خارجين عن الاستثناء ، فلا يشمله (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).
ثم (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) تعني من دون توحيد الولاية لهم كما «من دون الله» في اتخاذ
من سواه ، فكما الإلحاد والإشراك في ولاية الله محظور ، كذلك هما في ولاية اهل
الله محظور ، فانها استمرار لولاية الله.
إذا فولاية الكفار
محظورة في مثلثها على اية حال ، توحيدا لولايتهم دون المؤمنين ـ وهو الحاد ـ فأنحس
وأنكى ، ام اشراكا لهم بالمؤمنين في ولايتهم ، فما صدقت ولاية الكافرين اتخاذا لها
فهي محظورة ، إذ كما تجب ولاية الله الموحّدة دون إلحاد به فيها ولا اشراك ، كذلك
تجب ـ على هامشها ـ ولاية المؤمنين الموحدة ، دون إلحاد بهم فيها ولا اشراك ، فان
ولاية المؤمنين من خلفيات ولاية الله ، فلا تتخلف عن ولاية الله اشراكا فيها
للكافرين بالله.
فالمراد بالمنع
هنا ليس ان يفردوا بالموالاة فلا تمنع موالاتهم معهم! بل هو المنع من اتخاذهم
اولياء جملة وتفصيلا ، كما اتخاذ من دون الله آلهة يعني ضمهم اليه في الألوهية.
والنهي بات في
ثالوث المثنى ، وهما توحيد الكفار في الولاية ام اشراكهم بالمؤمنين فيها على أية
حال وان كان قليلا ضئيلا ، فان «لا يتخذ» تجتث كل دركات الولاية في ثالوثها.
(وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) كما المشرك بالله والملحد في الله ليس من الله في شيء ، «في
شيء» من مربع الولاية حبا وعمل الحب وقوله وسلطانه ، إذ لا يرضى من عباده إلا
توحيد الولاية له لا لسواه ، وعلى هامشه اهل الله ف (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ (١١٧)) ـ (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ
(بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ
أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...) (٥٨ : ٢٢) ـ (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ
فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦ : ٦٨) ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ...) (٥ : ٥١).
تلك هي المفاصلة
القاطعة دون أية مواصلة في ولاية بين كتلة الايمان والكفر ، لا شذوذ عنها ولا
استثناء فيها على أية حال ، والولاية حبا وقولا وعملا وسلطة زمنية ام روحية ،
موحّدة في اهل الله محبورة ، محظورة في غير اهل الله ولا سيما قلبيا وسلطة روحية
فإنهما لا يلائمان الايمان على اية حال ، وليست التقية الا في الثلاثة الوسطى على
اختلافها في الحظر.
(إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ومع العلم ان التقية لا موقع لها ولا دور إلا في المظاهر ،
نعلم أن الاستثناء محصور فيها محسور عن الباطن ، وهو المحبة القلبية والاعتقاد في
ولايتهم وعقد القلب عليها ، فهي إذا تقية اللسان ، لا ولاء القلب بل ولا ولاء
العمل إلّا عند الاضطرار.
فكما يستثنى مورد
الإكراه في الكفر وليس إلا ظاهره : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١٦ : ١٠٦) كذلك
التقية في ولاية الكفار ليست إلّا فيما سوى القلب اكراها على المظاهر وقلبه مطمئن
بولاية موحدة للمؤمنين.
فقد بقيت عند
التقية الولاية الظاهرة إظهارا للحب قولا او عملا ثم ولاية السلطة ، والاستثناء ظاهر
في أولاهما ، منقسما الى تقية الخوف على اية حال وتقية الحب جذبا لهم الى الايمان
فيمن يرجى منهم ، إذ : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ
إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى
إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) (٦٠ : ٩).
فما أمكن جذب الكفار
إلى الإيمان بتوليهم في ظاهر الحال وعشرة الأعمال ، فهو من تكاليف داعية الايمان
وقد يجب ، وكما لهم كمؤلفة قلوبهم حق من الزكاة الواجبة مهما كانوا أغنياء ، كما
ويسلّم على الكفار بنفس السبب كما سلم ابراهيم (عليه السلام) على آزر من قبل ان
يتبين له انه من اصحاب الجحيم.
وعند الإياس منهم
فلا ولاية إلا عند تقية الخوف على ما هو أهم من محظور الولاية نفسا وعرضا وما
أشبه.
واما ولاية السلطة
ولا سيما الروحية فالتقية فيها أضيق من الأخرى ، حيث السلطة الكافرة قاضية على
خطوط الايمان وخيوطه مهما كانت بصورة تدريجية ، فلا تقية فيها على اية حال ، اللهم
إلا إذا ترجحت ميزانية الحفاظ على النفس والنفيس على وجوب معارضة السلطة الكافرة ،
وحرمة الإبقاء عليها تظاهرا بالولاء ، ولا دور لهذه الرجاحة إلا في غربة غريبة
للمؤمن ، حيث لا يجد ناصرا له في دولة الكفر ، ولا سبيل له للقضاء عليها او
معارضتها عمليا وقوليا ، فقد يتربص المؤمن في دولة الكفر ـ حين لا يجد حيلة لترك
الموالاة ، ولا وسيلة للفرار الى دولة أخرى ـ يتربص نظرة ان يأتي دور المعارضة على
السلطة والقضاء عليها وأية ولاية مسموحة بالنسبة للكافرين هي مقدرة بقدر
__________________
الضرورة في تقية
الحب والخوف ، دون استرسال فيها كما في المؤمنين حيث الضرورات تقدر بقدرها.
(وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فحذار حذار من ولاية الكفار كما اتخاذ من دون الله آلهة ،
حيث الولاية هنا هي من فروع الإلحاد في الله والإشراك بالله ، والمصير الى الله
يقتضي الصمود على ولاية الله وولاية اهل الله (إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ، وترى كيف (يُحَذِّرُكُمُ اللهُ
نَفْسَهُ)؟ والله نفسه لا يتحذر لأنه عدل كريم!.
إنه يحذركم نفسه
لمكانة عدله ، فليس عذابه إلا من خلفيات عدله تعالى ، وعلّ «نفسه» دون «عقابه» قصد
الى خاصة عقابه الذي يأتي من قبله ويصدر عن امره ، دون الذي يجريه على ايدي خلقه ،
حيث العقاب على الوجه الأول أبلغ ألما وأشد مضضا.
ونفس الله هي ذاته
سبحانه دون شيء من كيانه إذ لا يتجزأ ، فهي من إضافة الكائن إلى نفسه ، ولا تأتي
لله إلّا مضافة دون إفراد.
هذا ـ ومن الولاية
الظاهرة للكفار مخالطتهم التي تجركم إلى أهواءهم شئتم أم أبيتم ، مخالطة قولية أو
عملية هي الولاية الوسطى بعد المحبة وقبل السلطة الكافرة ، التي كانت مجالة
للتقية.
فانها في غير تقية
الخوف ككل ، وغير تقية المحبة ـ في مجالاتها غير المحظورة ـ محظورة وقد نزلت فيما
نزلت ـ بشأن الحظر عنها .
__________________
ولأن التقية هي
وقاية الأهم بتفدية المهم فليراع فيها الأهم من المهم دونما فوضى جزاف ، ان يتقى
بأس الكافر في خطر دخولا في الأخطر ، فانما التعرض للهلاك حفاظا على ادنى منه
محظورا هو خلاف التقية المحبورة .
فمن الايمان حفظ
الأوجب في الايمان تفدية للواجب فيه كضابطة ايمانية صارمة ، إذا ف«لا ايمان لمن لا
تقية له»
كما وان «التقية
في كل شيء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله الله له»
و «التقية ترس
الله بينه وبين خلقه»
ولا ترس إلا في
المعركة ففي معركة الصدام بين الأهم والمهم دور للتقية دائر حفاظا على الأهم ، ولا
بد ـ إذا ـ من تمييز الأهم في شرعة الله اجتهادا او تقليدا صالحا.
فالتقية قد تكون
واجبة حينما يحافظ بها على الأهم المفروض ، أم محرمة حينما يهدر الأهم فيصبح
المرفوض كتقية السحرة من فرعون الطاغية ، وثالثة
__________________
تتخير بين المحظورين
وهما المتساويان وقد فرض أحدهما عليك ، ورابعة يترجح احد المحظورين برجاحة غير
مفروضة.
ف (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) لا تعني إلا تقاة الأهم تركا للمهم الواجب وهو ترك توليهم
، إحرازا للأهم الأوجب وهو ترك النفس إذا كانت أنفس من الواجب الآخر.
(قُلْ إِنْ تُخْفُوا
ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(٢٩).
اجل ـ وانه لا
فارق في علم الله بين ما تخفونه في صدوركم وما تبدونه ، (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) بل وككل (وَيَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).
ذلك ، وانه إمعان
في التحذير والتهديد واستجاشة الخشية واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم
والقدرة ، فلا ناصر منها ولا عاذر ، وإلى حاذر العذاب في تجسد الأعمال :
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ
وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)
(٣٠).
(ما عَمِلَتْ مِنْ
خَيْرٍ) علّها تعم مربع العقائد والنيات والأعمال والأقوال ، إذ
أفرد العمل بالذكر ، حيث العقيدة والنية هما عمل الجنان والآخران هما عمل الأركان.
وعلّ «ما عملت»
على اختصاصها بعمل الأركان تطوي العقيدة والنية الصالحتين ، حيث العمل قولا او
فعلا ليس خيرا إلّا بصالح العقيدة والنية.
ثم الوجدان هناك
كما هنا هو وجدان نفس العمل بصورته وسيرته
وصوته ، المسجلة
في مربعة المسجلات : أعضاء وأرضا وملائكة وشهداء ، كما فصلناه في آية الأسرى
والزلزال ونظائرهما.
وكذلك (عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) ولكنما الوجدان في خيره وشره لا يحلّق على كل خير وشرّ ،
وانما الخير الباقي غير الحابط ، والشر الباقي غير المكفر ، كما استثنتها آيات
التكفير والغفر والإحباط.
ثم الخير هو بنفسه
ثواب كما الشر بنفسه عقاب ، ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حيث تبرز ملكوت الخير والشر ، مهما كان جزاء الخير فضلا
وجزاء الشر عدلا.
ولماذا (تَوَدُّ .. أَمَداً
بَعِيداً) في السوء ترجيا للمفاصلة الزمنية البعيدة ، دون المفاصلة
الواقعية وهي هي المخيفة قريبة ام بعيدة؟.
لأنه لا يجد هناك
مفرا عما عمل من سوء حيث يراه لزامه على اية حال ، فيترجى ـ لأقل تقدير ـ أمدا
بعيدا ، يرتاح فيه عن بأسه.
فالعمل السوء
كالقرين السوء لا مفر عنه ولا مفلت إلا ترجى البعد عنه لفترة كما : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ ... حَتَّى إِذا جاءَنا
قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).
وعل (يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) هنا المكررة بعد الأولى ، تعني في كلّ معناه ، فالاولى
تحذير عن موالات الكفار ، والثانية تحذير عن كل الشرور ، إضافة الى ما تحمله
الثاني من شديد الحذر حين تبرز الأعمال كما عملت فلا مجال لناكر او عاذر ، وقد
حذرت الاولى عن وبال الاولى.
ثم (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) تزويد للخيرات في فضل الجزاء ، ورأفة في عدله ، انه يعاقب
اقل ما تستحقه العصاة ، لحد لا يستوجب الظلم بحق المتقين.
ومن صالح الأعمال
وركيزتها اتباع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مدار حب الله :
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)
(٣٢).
و «هل الدين إلا
الحب» فان الدين العقيدة والطاعة هو خلفية واقعية لواقع الحب ،
حيث الحب ـ ومكانه القلب ـ ليس دعوى باللسان ، ولا هياما بالوجدان ، إلا بما يظهر
من الجنان على الأركان ، والا فهو حب جاهل ، ام كاذب قاحل.
ان حب الله في أية
درجة من درجاته لا دور له إلّا بآثاره الظاهرة كما الباطنة ، وهي اتباع الله ، ولا
موقع لاتباع الله إلا باتباع رسول الله ، إذ ليس الله ليوحي إلى محبيه إلا الرسل ،
فانما يحب الله من يحبه إذا اتبع رسوله الحامل لشروطات حبه (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ف «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
وإذا كانت لكم
ذنوب (وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) بذلك الإتباع (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يغفر سيئاتكم إذا
تركتم الكبائر ، ومن اكبر الكبائر التولي عن رسول الله مع الادعاء انك تحب الله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).
فاتباع رسول الله
على ضوء حب الله هو الإيمان ، والتولي عن رسول الله وان كنت تدعي حب الله هو من
الكفر (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) في محكم كتابه وفيما
__________________
امر من طاعة رسوله
«والرسول» رسالة من الله «فان تولوا» عن طاعة الله ورسوله ، او طاعة الله او طاعة
رسوله (فَإِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْكافِرِينَ).
هنا (يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) لا تتعلق إلا ب «فاتبعوني» فالحب الفاضي عن اتباع الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) هو حب لا يتبع حب الله وغفرانه ، فانه تعالى يحب من يحبه
إذا اتبع مرضاته ، بل وليس الحب إلا في اتباع مرضاته ، والحب الفارغ عن مرضاته
فارغ عن حبه ومرضاته ، بل هو مجرد ادعاء جوفاء لا تحمل من الواقعية شطرا إلّا
الدعوى.
وإذا كان حب الله
لا يفيد إلا باتباع شرعته ، فبأحرى لا يفيد حب الرسول وذويه إلا بنفس الإتباع ، و
«حب علي حسنة لا يضر معها سيئة» لا تعني ـ إن صحت ـ انه الحب فقط ، بل لا تأتي
معها سيئة حتى تضر ، او لا تضر معها الصغائر لأنه من كبائر الحسنات كما (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً
كَرِيماً).
وقد يروى عن
الصادق (عليه السلام) قوله : ما أحبّ الله من عصاه ثم تمثل بقوله:
تعصي الإله وأنت
تظهر حبه
|
|
هذا لعمري في
الفعال بديع
|
لو كان حبك
صادقا لأطعته
|
|
إن المحب لمن
يحب مطيع
|
فالحب من خلفيات
الإيمان ، والطاعة من خلفيات الحب ، مثلث لا تفارق في زواياها وحواياها إلّا فصلا
عن صادق الايمان.
فالناس في حب الله
على ضروب شتى.
١ منهم من يؤمن به
ولا يحبه نتيجة الايمان.
__________________
٢ ومنهم من يحبه
كما يؤمن به ولا يطيعه.
٣ ومنهم من يطيعه
على حبه والايمان به ولكنه على خلاف طاعة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ،
وهؤلاء هم شرع سواء في ان الله لا يحبهم ولا يغفر لهم سيئاتهم.
٤ ومنهم من يطيع
رسوله على حب الله والايمان به ، تبنّيا لحياته على تلك الطاعة ، وهم ـ على
درجاتهم ـ ممن يحبهم الله ويغفر لهم سيئاتهم.
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها
قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ
وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا
مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)
(٣٧)
هُنالِكَ
دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ
بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ
اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ
رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)
(٤٤)
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(٣٤).
«آدم» هنا وفي
سائر القرآن هو الوالد الاوّل من هذا النسل الأخير ، كما هو لائح في سائر القرآن
دون ريب حيث جيء باسمه الخاص هذا (٣٥) مرة.
وترى اصطفاءه يلمح
انه كان معه أوادم آخرون ، فاصطفاه الله من بينهم رسولا ، فليس ـ إذا ـ هو الوالد
الاوّل إذ قد يكون هو من مواليدهم وهذا النسل الانساني متنسل مقسما بينهم؟ وليست
قضية اصطفاءه ذلك الهارف الخارف ان هناك كان أوادم آخرون لم يكن هو والدهم ، حيث
الاصطفاء المطلق وفي حقل الرسالة كما هنا لا يقتضي المجانسة بين جمع ، بل يعني
اصطفاءه من بين سائر الخليقة ليكون حامل لواء الدعوة الربانية بين المكلفين! حيث
الرسالة الى العالمين خاصة بالإنس أصالة مهما كانت في الجن أيضا كفروع للرسالة
الإنسانية الى قبيلهم قبل اختتام الوحي.
إذا فلا بد في
الاصطفاء الرسالي من اجتباء الأصفى بين عامة المكلفين ، حتى يصلح الرسول المصطفى
لحمل الرسالة الى العالمين أجمعين.
فالله اصطفاه من
بين قرينيه زوجه وإبليس وذريته الابالسة وسائر الجن حيث (الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ
نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧) ومهما
كان الاصطفاء بحاجة إلى عديد ، فقد يكفي له اثنان يصطفى أحدهما على الآخر ، فضلا
عن آخرين ـ سوى زوجه ـ من قبيل الجن ككل.
وليس اصطفاءه حين
خلقه حتى يقال فكيف ذلك الاصطفاء ولما يخلق زوجه؟ وانما كان بعد عصيانه وهبوطه
وتوبته وتوبة الله عليه : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٤٠ : ١٢٢)
واجتبائه هو اصطفاءه وهو مرحلة تالية لعصيانه فتوبة الله عليه ليتوب وتوبته الى
الله وتوبة ثانية من الله عليه قبولا لتوبته ثم هدايته الى ما قبل عصيانه من
طهارته ثم يأتي دور اجتبائه واصطفائه .
__________________
وهكذا يجاب عن
غائلة العصيان في الرسول المعصوم ، انه اصطفي رسولا بعد توبته النصوح ، الكاملة
الكافلة لتركه على طول خط الحياة الرسالية ، كما فصلناه في طه والبقرة ، وهنا
الاصطفاء الاوّل لآدم يعني الاولية الزمنية ، لا في الرتبة.
ثم (نُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ
عِمْرانَ) المصطفين (عَلَى الْعالَمِينَ) تشمل كافة المرسلين والنبيين ، فنوح ـ وهو أول اولي العزم
ـ اوّل من دارت عليه رحى ولاية العزم الرسالية.
(وَآلَ إِبْراهِيمَ) تعني ابراهيم وآله الابراهيميين رسلا ونبيين ، منذ إسماعيل
إلى خاتم النبيين وعترته المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ومنذ إسحاق ويعقوب وسائر الرسل الاسرائيلين (عليهم السلام)
، وهنا يختص
__________________
بالذكر «آل عمران»
اعتبارا بمريم العذراء الطاهرة المعصومة وابنها المسيح (عليهما السلام) حيث المسرح
هنا في سورة آل عمران سرد القصص الفصل لآل عمران.
فلا يعني عدم
التصريح بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هنا تسريحا له عن موقف الاصطفاء الخاص
، كما ولم يصرح بإسحاق ويعقوب وموسى وسائر الرسل الاسرائيلين ، وموسى هو رأس الزاوية
الرسالية بينهم ، وقد يأتي في نفس السورة التصريح بان محمدا (صلى الله عليه وآله
وسلم) إمام النبيين أجمعين ، ـ مهما لم يكن أمامهم ـ في آية الميثاق.
«ذرية» انتشأ (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) نشأة الروح القدسية مع نشأة الجسم (نُورٌ عَلى نُورٍ)
فليست نشأة الجسم ـ فقط ـ عن جسم بالذي يؤهل الناشئ للقدسية الروحية التي هي
في المنشإ (وَاللهُ سَمِيعٌ) مقالات السائلين وسواهم «عليم» بحالاتهم ومؤهلاتهم فينشئ
الذرية الرسالية عن الرسل.
هذا ـ والى نظرة
تفصيلية في آية الاصطفاء نقول : الاصطفاء هو أخذ صفوة الشيء تخليصا له عما يكدره ،
والصفوة الربانية هي العصمة لا محالة للرسل أمن سواهم ممن يخلفهم في حمل الدعوة
الرسالية المعصومة العاصمة لها عن الانزلاق والانحياق.
فقد يشمل الاصطفاء
هنا آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المعصومين وهم ورثة الكتاب بعده ،
المصطفون في نص آخر : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا
__________________
إِلَيْكَ
مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ
بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا
مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ
سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥ : ٣٠).
واصطفاء آدم ونوح
دون آل آدم وآل نوح ـ وبعدهما آل ابراهيم وآل عمران ـ مما يلمح باختصاصه بهما دون
آلهما ، إذا فلا نبي من آل آدم ونوح ام لا مصطفى منهما ، وهناك شيث وهابيل وإدريس؟.
قد يعني الاصطفاء
قمته في كل دور رسالي ، فآدم نفسه هو المصطفى في الدور الاول الرسالي ككل ثم
النبيون بينه وبين نوح كادريس لم يكونوا من آله مهما كانوا من ذريته.
ولكن إدريس من آله
كما محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من آل ابراهيم ، وعدم ذكر إدريس شخصيا ولا
ضمنيا في آل آدم لا يدل على خساسة شأنه وله خصاصة النبوة السامية أعلى من آدم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ
إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا).
وعلّ عدم ذكره كما
لم يذكر محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر النبيين لان المقام مقام ذكر آل
عمران عرضا عريضا لقصة مريم وعيسى (عليهما السلام) ، ولذلك طوي عن ذكر إسحاق
ويعقوب وموسى (عليهم السلام).
كما وان الآل لا
يذكر لشخص واحد ، فآل آدم ليس ليعني خصوص إدريس ام آدم وإدريس ، ولم يأهل لذلك الاصطفاء
غير إدريس من ذرية آدم (عليهم السلام).
اجل ـ ولأن وراثة
النبوة المصطفاة ليست من وراثة الدم ، إنما هي وراثة
العقيدة مهما حلت
في وراثة الدم (ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ) في الوراثتين واهمهما الثانية.
ونوح هو المصطفى
في الدور الاوّل من ولاية العزم ، ولم يرسل احد من ولده الخصوص.
ثم الآل لغويا كما
يعني أخصّاء الشخص ، كذلك شخصه اعتبارا بكونه عمادا لأخصائه ، ف «آل كل شيء شخصه» و
«الخشب الذي يعمد عليه الخيمة» و «آل الجبل أطرافه».
إذا ف (آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) هما شخص ابراهيم وعمران عمودين لخيمة الأخصاء ، وقد جاء
بجمع المعنى في الذكر الحكيم كال ياسين ـ آل موسى ـ آل هارون ـ آل يعقوب ـ آل لوط
وآل فرعون ، عناية إلى الخيمة بعمودها ، دون الخيمة بلا عمود ، ولا العمود بلا
خيمة.
ثم ولا يختص الآل
: الإخصاء ، بالاخصاء في النسب ، فعلي (عليه السلام) هو من آل محمد وأفضلهم وليس
في النسب ، وسائر ولد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوى الصديقة الطاهرة هم
من آله بواسطتها و «آل فرعون» ـ ولم
يكن له ولد ـ هو من صارم الدليل على عدم
__________________
اختصاص الآل
باخصاء النسل.
وهنا «آل ابراهيم»
قد يشمل كافة الأنبياء وسائر المعصومين الابراهيميين ، حيث الكل كانوا من نسل
ابراهيم منذ إسماعيل وإسحاق والى خاتم النبيين وعترته المعصومين ، ولا يعنى اختصاص
«آل عمران» بعد «آل ابراهيم» إلّا سردا طويلا للعمرانيين : مريم والمسيح (عليهما
السلام).
ولقد اختص آل محمد
(عليهم السلام) من بين آل ابراهيم بذكر خاص في أخلص دعاءه وأخصه : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ
مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ...
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ ...) (٣ : ١٢٩).
ثم اصطفاء آدم (عليه
السلام) من براهين رسالته كما (ثُمَّ اجْتَباهُ
رَبُّهُ) و (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) تساندان منزلته الرسالية.
وهل يشمل «آل
عمران» آلين لعمرانين ، عمران أبي موسى وعمران أبي مريم؟ قد لا يعني إلا الثاني ،
إذ لم يأت في القرآن ـ ولا مرة يتيمة ـ ذكر من أبي موسى ، ثم وبينه وبين أبي مريم (١٨٠٠)
سنة ، ولا تصح عناية الجنس من عمران ، الخاص بهما ، حيث العبارة الصالحة له «آل
عمرانين» والا لشمل آل كل عمران في العالمين.
هذا ـ ولا سيما ان
الآية التالية تخص آل عمران أبي مريم : (إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ ..) فلا دور ـ إذا ـ لآل عمران أبي موسى هنا ، على انه لم يرسل
احد من ولد موسى ولا آله إلا هارون (عليه السلام).
ذلك! فلم يكن لذكر
محمد وآله (عليهم السلام) هنا دور خاص مهما كانوا هم المدار في كل الأدوار ، فلا
موقع ـ إذا ـ لمختلق الأحاديث القائلة ان «آل محمد» أسقطت عن الآية ام ابدل عنها ب «آل فرعون» وانما
__________________
الصحيح هو نص
الآية وعلى غرارها وقرارها رواية ثالثة هي المصدّقة لموافقة القرآن.
__________________
وقد تؤول الأولى
بإسقاط التأويل ، ان جماعة من المحرفين الكلم عن مواضعه اسقطوا تأويل آل ابراهيم
عن آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم أفضل آله.
وكذلك الثانية
انهم فضلوا آل عمران على آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم المذكورون هنا
دونهم.
والاصطفاء على
العالمين درجات أدناها عالمي زمان المصطفى كما في آدم وأوسطها عالمي دور رسالته
كما لنوح وابراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) ، وأعلاها عالمي كل زمان كما في
محمد المصطفى وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
ذلك ـ ولأن «العالمين»
الطليقة تشمل كل الكائنات العاقلة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، فالاصطفاء
المحمدي الطليق يحلق عليهم كلهم ، كما ان الاصطفاء الخاص بعالمي زمن آدم ونوح وآل
ابراهيم وآل عمران يشمل مثلث الإنس والجن ومن لا نعرفهم تماما.
(إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
(٣٥).
في «عمران» معاكسة
النقل بين القرآن ـ حيث يعنيه أبا مريم ـ وبين التوراة إذ تعنيه أبا موسى : عمرام
بمعنى قوم الله ـ ابو موسى
__________________
(الخروج ٦ : ١٨ ـ ٢٠)
وتبديل الميم بالواو وهو من قضايا التعريب.
ولقد حمل هذا
جماعة من المبشرين الكنسيين الى تزييف عمران القرآن انه اخطأ (١٨٠٠) سنة! وما
اجهلهم إذ زعموا اختصاص «عمران» في تأريخ الإنسان بابي موسى ، فلا يحق لأبي مريم
او سواه ان يسمى عمران ، لا لشيء إلّا أن عمرام التوراة هو ابو موسى.
(قالَتِ امْرَأَتُ
عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) إذ زعمت ان ما في بطنها ذكر يصح تحرره لخدمة بيت الله دون
خروج عنه وعلها وعدت بذكر او علّها نذرته هكذا ان كان ذكرا لكي يرزقها الله إياه ،
والظاهر هو الاول لمكان الإطلاق وتؤيده الرواية.
ومما يعنيه ذلك
التحرر المنذور هو التحرر عن حقوق الأم المعيشية ، ثم التحرر عن كل عملية سوى خدمة
بيت الله ، مما يدل على ان للام على ولدها حقّ يجوز التنازل عنه لحق أولى بنذر وسواه.
ولان الأب او الجد
هما الاولى بالولد ـ مهما كان للام عليه حق ـ فقضية التحرر المطلق هنا انها كانت
منفردة في هذه الولاية لفقد الأب والجد ، ام كانت هي مأذونة من قبل الولي الأولى
في نذرها لمطلق التحرر ، ام لا يشترط في نذر الام اذن الأب مهما اشترط عدم منعه
ولكنه لا يجوز له منعها عما يحل ولا سيما ذلك الحل الطيب لبيت الله.
__________________
فعلى اية حال انها
نذرت هكذا مما يدل على صحة ونفاذ هكذا نذر بحق الولد شرط الحفاظ على حق الولي
الاولى ـ ان كان ـ وكذلك صالح الولد ولا أصلح له من خدمة الله.
(فَتَقَبَّلْ مِنِّي) ذلك النذر ، تقبلا لتحرره لك (إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ) الدعاء «العليم» بصلاحيات وحاجات العباد.
اجل «محررا» وما
ادراك ما ذلك التحرر؟ انه خروج عن رقية الناس إلى رقية إله الناس فهو ـ إذا ـ تحرر
عما سوى الله «والمحرر للمسجد لا يخرج منه أبدا» .
والنذر لغويا هو
الخوف كما الإنذار هو الإخافة ، إذا فهو الخوف من الله إمّا شكرا لله أن توجب على
نفسك امرا لله محبوبا لدى الله استزادة في العبودية كما فعلته امرأة عمران دونما
شرط على الله ، ومثلها مريم (إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمنِ صَوْماً) (١٩ : ٢٦) حيث لم
تشترطا على الله امرا في نذرهما لله وتوافقه صحاح عدة والموثق المخالف غير موثق او مأول .
__________________
ام توجبه على نفسك
شرط ان يستجيبك الله فيما تخاف من إقبال محظور أو إدبار محبور وأنت لا تستطع بحولك
وقوتك ان تحصل على بغيتك فيها ، حيث الوصول الى المغزى والحصول عليها قد لا يكتفى
فيه بصرف الدعاء ، فلا بد من تقريب قربان الى الله وهو كل محبور لدى الله مندوبا
او مفروضا ، وهذا هو مسرح النذر وشبهه من عهد او يمين.
ثم ولا نذر إلّا
لله كما هنا وفي مريم ، ونية القربة هي لزام كون النذر لله ، فإذا نذر لغير الله ،
ام نذر لله دون نية القربة الى الله ، فلا نذر ـ إذا ـ ولا يفرض عليك امرا.
ومما يشرط في
النذر مشروطا وغير مشروط إمكانية متعّلقه واقعيا وشرعيا ،
__________________
وكونه راجحا في
شرعة الله دونما حرج في تحقيقه ، فغير الراجح لا يحق لله ، والمحرج ليس من دين
الله ف (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فضلا عن غير المقدور او المحظور فانه هزء بالله او مهانة
لله أن تقدم له ما نهى عنه تحذيرا أو تنزيها ، بل وما هو عوان بين الراجح
والمرجوح.
والنذر في فعل
الراجح او الواجب او ترك المرجوح المحرم يعم المشروط وسواه ، والنتيجة اصل الوجوب
او ضعفه او اصل الحرمة او ضعفها ، وخلفيته في تخلّفه دنيويا هي الكفارة وأخرويا هي
العقاب ان لم يثب ويكفر. وكافة الشروط في النذر غير المشروط هي مشروطة في المشروط
، إلّا رجاحة المتوقّع ، فإنما يكفيه السماح الشرعي إباحة أم دونها.
فالفارق بين
المتعلّق والمتوقع في الشروط إنما هو شرط الرجاحة في الأوّل دون الثاني إذ لا نذر
إلا في طاعة الله ، ثم الامكانية مشتركة بينهما ، ولكن القدرة غير المحرجة خاصة
بالمتعلق دون المتوقّع ، حيث المتوقع خارج عن قدرتك مقدورا لله غير مستحيل كونيا
ولا شرعيا ، ولكن المتعلق شرطه كونه ميسورا عندك دون حرج واقعيا وشرعيا.
فتوقع المحظور من
الله ، كما المستحيل على الله حكمة أم سواها ، هو توقع محظور.
كما المتعلّق غير
المقدور واقعيا او المحرج او غير الراجح شرعيا هو محظور او غير مشكور ، حيث النذر
في الأساس يتبني الخوف من الله كما في غير المشروط ، او الخوف مما ترجوه ولا تسطع
عليه ، والكل مشروط بعدم الحظر واقعيا ولا شرعيا ، مهما اختص متعلق النذر بالراجح
الميسور ، والمتوقع يكتفى فيه بعدم الحظر.
فكما لا نذر الا
الله ، كذلك لا نذر فيما ليس راجحا في شرعة الله مهما
كان المتوقع ـ كما
في المشروط ـ لا يشترط فيه إلّا عدم الحظر واقعيا وشرعيا.
فإذا نذر راجحا او
واجبا في متوقع محظور فهو محظور لا ينعقد ، كما وإذا نذر مرجوحا في متوقع محبور لم
ينعقد ، او نذر فعلا محرجا فعلّه فيما دون حرجه ينعقد وفي غيره غير منعقد ، وشرط
الصحة في النذر المشروط عدم تحقق شرطه قبله ، فإذا لا مورد لشرطه وكما في الصحيح .
والصيغة السائغة
الصائغة للنذر هي «لله علي» لا سواها ك «علي» إذ لا نذر إلّا لله ، وأما أن يعاهد
نفسه على أمر دون ان يعاهد الله عليه فلا نذر ، سواء أكان في نذر مشروط او غير
مشروط ولا «على نذر» ولا «لله علي نذر» فان النذر ليس موردا للنذر.
__________________
وكما يشترط في
النذر أيا كان ألّا يحلل حراما او يحرم واجبا ، كذلك ألا يفوّت حقا مفروضا كحق
الزوج لزوجه وحق الوالدين للولد وحق الولد لهما ، فان لكلّ حقا على الآخر ليس
ليفوّته نذر مهما كان في راجح ام واجب هو أدنى من واجب الحق الحاضر في شرعة الله ،
فلا نذر ـ إذا ـ لزوجة إلّا بإذن الزوج إلا فيما لا يفوّت له حقا عليها ام هي
سفيهة فإذا فوّت عليه حقا ام هي سفيهة لم ينعقد نذرها إلّا باذنه ، وينعقد فيما
سواها ، والصحيح المخالف مأوّل أو غير صحيح .
وجملة القول في
النذر ان يكون متعلقة محبورا مقدورا دون الحرج ، ومترقبة في مشروطه مسموحا غير
مستحيل على الله عقليا او في الحكمة.
وفي الحق إن النذر
ولا سيما المشروط منه داخل في حقل الدعاء ، بل وهو أدعى الدعاء ، حيث تفرض على
نفسك ما يرضاه الله حتى يستجيبك الله ما تتقاضاه.
وليس النذر تشريعا
، فإنما هو سماح من الله ان تفرض على نفسك
__________________
راجحا مهما كان
مفروضا وتحرم على نفسك مرجوحا مهما كان محرما مرفوضا ، فهو من العناوين الثانوية
من نوع ثان محدد من قبل الله موضوعا وحكما وشروطا ، كما العناوين الثانوية من
النوع الاول مقررة من قبل الشرع كالاكراه والاضطرار اللذين هما موضوعان للسماح في
قسم من المحرمات.
فلا نذر في معصية
الله كما لا نذر في مباح فعلا او تركا ولا في فعل مرجوح او ترك مندوب ، اللهم إلّا
بعنوان ثان يجعلها راجحا.
وكذلك لا نذر في
تفويت حق او إفراط أو تفريط في حق ، أو إسراف أو تبذير.
وترى ان نذر
الوالدين على الولد منّجز بحق الولد كأنه هو الذي نذر؟ ام لا ينجّز إلا على الناذر
أن يحقق نذره في ولده وعليه القبول قضية وجوب طاعة الوالدين اللهم إلا في أمر محرج
ام مرجوح فضلا عن المحظور ، وإذا خالف الولد فهو عاص ولا شيء على الوالدين حيث
حققا الواجب عليهما ، ثم ومخالفة الولد في النذر المحظور واجبة إذ لا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق.
وهنا نعرف مدى
عمران قلب امرأة عمران ، حيث تتجه الى ربها بكامل الايمان بأعز ما تملكه تحريرا
لغريرة عينها لله كما وهي محررة في طاعة الله ، تحررا عن كل عبودية لكل أحد ، وعن
كل اتجاه إلى أي شيء وأي أحد وأية قيمة سوى الله ، فقد حررتها بنذرها عن كل تقيّد
جماعي بأية مسئولية حتى تتخلى لخدمة الله في بيت الله .
__________________
فالتوحيد الحق في
مثلث : العقيدة والنية والعملية ، هو الصورة المثلى للتحرر المطلق ، إنه يتمثل هنا
في نذر التحرر لقرة العين وفلذة الكبد : الولد ـ ولمّا يولد ـ مما يشي بعمق
الإيمان وخلوص العمران لقلب امرأة عمران.
ولقد كانت تنتظر
لذلك التحرر المنظور المنذور ولدا ذكرا هو المحور في نذرها ، والنذر للمعابد لم
يكن معروفا إلّا للذكران ليخدموا الهيكل وينقطعوا للعبادة والتبتل ، ولكن ها هي
تجدها أنثى وليس الذكر كالأنثى :
(فَلَمَّا وَضَعَتْها
قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ
وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)
(٣٦).
لقد تتحسر امرأة
عمران على ما كان من خيبة رجائها ومعاكسة تقديرها ، وتحزنت إلى ربها إذ كانت ترجو
ذكرا تهبه محررا لبيت الله وتقفه على خدمته ، ولكن الوليدة أنثى والبنات لا يصلحن
لذلك التحرر الطليق ، للزوم مقامهن عند أزواجهن في زواجهن ، ولزوم الخروج عن بيت
الله حالة الحيض والطلق على اية حال.
فهنا (.. قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها
أُنْثى) ليست اخبارا (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما وَضَعَتْ) بل هو تحسّر أنها لا تصلح لذلك التحرر لأنها أنثى ، فقد
تناجي ربها كمعتذرة عن تحرّرها او كئيبة لأنها أنثى ، راجية ان تقبلها ربها على
أنوثتها كما تقبلّها ، مشفقة من ألّا يقبل نذرها.
__________________
هنا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) كجملة معترضة ، هي ذود عن ساحة الرب ان يعلّم ، على ذود عن
ساحتها ان تعلّمه ، وبيان انها قائلة قولها متحسرة في ذلك العرض.
وترى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) هي من قولها ، والعكس أحرى لأنها وضعتها أنثى فليقل «وليست
الأنثى كالذكر»!
ام هي من قول الله
، والجملة المعترضة بحاجة الى برهان لأنها خلاف المتعود من سرد الجمل.
قد تكون هي من قول
الله اشعارا في هذه الاذاعة القرآنية ان الذكر المطلوب هنا ليس كالأنثى الموهوبة ،
بل هي أعلى منه وأولى ، إذ تحمل اضافة الى ما تطلبته من التحرر ، فانها تتقبل
محررة في نفسها ، ووالدة لعيساها وهما من آيات الله الكبرى ، وليست «وليست الأنثى
كالذكر» لتفيد ذلك المعنى.
ثم هي من قولها
على هامش قول الله ، عناية الى غير معناها : ان الذكر ليس معذورا كما الأنثى ، حيث
الأنثى لا تصلح لما يصلح له الذكر ولا سيما في حقل التحرر هكذا ، لأجل ما يلحقها
من الحيض والنفاس ، وما يلزمها من الصيانة عن التبرج للناس ، فإذا خالطت الرجال
افتتنوا بها واستضروا بمكانها كما تفتتن هي بهم ، حيث النساء أوهن عقودا ، وأضعف
عقلية وصمودا ووساوس الشيطان إليهن أسرع ، فأهواءه إليهن أهرع.
ثم العكس يفيد نفس
المعنى ولكن في الأصل رجاحات ليست فيه :
١ (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) اختصار عن قالتين مختلفتي المعنى : قول الله وقولها ، وليس
العكس ليعني ـ فيما يعني ـ قول الله.
٢ حسن التعبير في
وزن الكلام يقتضي تقديم الذكر على الأنثى.
٣ حسن المعنى في
تقدم الأفضل على الفضيل.
٤ يتقدم الذكر
لتقدمه في عناية النذر فيذكر ـ إذا ـ تحسرا على فقده.
وإنها تتحسر عن
فقد الذكر انه ليس كالأنثى ، فلا يتهم في خلوة البيت كما تتهم ، وهو أقوى من
الأنثى ، وهو خلو من اعذار الأنثى ، وهو يصلح للنبوة وما أشبهها دون الأنثى ، و (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) فهل من علاج أن تقوم الأنثى مقام الذكر وتفي بما يفي؟!
فمما تقوي رجاءها في تحقق بغيتها (وَإِنِّي سَمَّيْتُها
مَرْيَمَ) : المرتفعة الغالبة ـ تتغلب على عراقيل الأنوثة ونقائصها
وضعفها وما سواها ، وترتفع عن كل نقائص الانوثة والرجولة بجنب الله.
ثم (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) لا هي فحسب بل (وَذُرِّيَّتَها مِنَ
الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) مما يلمح صراحا انها ألهمت بمستقبل ذريتها ، وعلّ (لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) كقول الرب ألهمت إليها بعد قالتها نفس القول أم عنده.
(فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا
مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)
(٣٧).
التقبل هو قبول
على تكلف ، وإذ لا تكلف في قبول ربنا فقد يعني هنا منتوج كل تكلف في القبول ، وهو
من ربنا يحلق على كل الفضائل والفواضل في القبول ، فلا رد فيه ولا افول ، بل هو
قبول على مدار حياة مريم البتول سلام الله عليها.
فانه تقبّل في
قبول نذرها ان تنوب الذكر ، وتقبّل في جعلها كالذكر ، ثم حسن زيادة حسنى على
قبولها أن جعلها وابنها آية للعالمين.
وهنا نستوحي من
تقبلها منعها عن الزواج ، ام وطهارتها عن الدماء ، فلتبق كالذكور وفوقهم إذ لم
تحتج لرزقها الى خروج حيث ضمنه ربها.
هنا تقبّل رباني
لمريم سلام الله عليها في مربعة الجهات هي :
١ (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي
مُحَرَّراً) (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) محررة لله لخدمة بيت الله.
٢ (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) (فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) ان تكون مريم : مرتفعة ـ في اللغة السريانية ـ غالبة
متغلبة على كل رجس ونقص ونجس في أنوثة وعبودية ، وقد تعني تسميتها مريم تفألا من
أمها علّها تربو على أقرانها وعلى الذكر الذي كانت ترجوه أمها تطبيقا لنذرها ، ثم
لتحقيق هذا المغزى تعيذها بالله وذريتها من الشيطان الرجيم ، تعيذها ان ينالها نقص
في سبيلها كما ينال النساء في خدمة البيت ، او ان يصيبها ما تمس عفافها في خلطها
بعبّاد البيت ، او أن يعترضها ضعف في خدمتها ، او تلحقها تهمة في اختلاطها
بالرجال.
٣ (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) «فتقبلها» معاذة
بالله ، فهو يعيذها من الشيطان الرجيم.
٤ «وذريتها» عيسى (عليه
السلام) وهو الأصل في ذلك المسرح حيث يحتل القمة الرسالية والمرتبة الرابعة من
ولاية العزم بين النبيين (عليهم السلام).
فذلك قبول حسن في
مربع الدعاء والاستدعاء ، أحسن مما إذا كان ذكرا.
فرغم ان الذكر ليس
كالأنثى في قالتها ، (لَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثى) في قول الله ، حيث فاقت كل ذكر في تاريخ الرسالات اللهم
إلا اولياء العزم ولا سيما محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
«فتقبلها ..» ثم (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) منذ ولادتها حتى حملها ووضعها وإلى موتها ، فقد كانت
تترعرع على رقابة الله الخاصة وعينه الحامية لتقبلها محررة مريم معاذة بربها
وذريتها من الشيطان الرجيم ، عصمة ربانية في كل أبعادها إلا الوحي الرسالي.
ولماذا (نَباتاً حَسَناً) بالإنبات ، دون تربية حسنة؟.
علّه للإشارة الى
تحليق المراقبة الربانية لها منذ انعقاد نطفتها وتكاملها جنينا وولادتها والى
موتها ، فانها كلها من الإنبات (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً).
فالسلالة من ماء
مهين هي الصفوة المختارة من المني ، ثم المواد الكيماوية الكامنة في ماء الرجل
والمرأة هي صفوة العناصر الكيماوية المنتزعة من الدم ، الذي هو ايضا بدوره صفوة ما
نتناوله من مشرب ومأكل ، وكل لاحق نابت من سابقه حتى السلالة النطفة ، ثم العلقة
والمضغة والعظام واللحم ، كلّ نابت من سابقه.
وإخراجنا من الأرض
نباتا له دور عام يعم سائر النسل الانساني ، وآخر خاص يخص الأصفياء المخلصين.
فقد يعني (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) كل هذه المراحل ، ولكي تصلح للاصطفاء على نساء العالمين
وتلد المسيح (عليه السلام) ، فقد جمع في الإنبات نباتا حسنا إلى طهارة الوالدين
وطهارتها حين بلغت ، الطهارة الربانية المحلّقة على كل مراحل إنباتها على طول
الخط.
ومن إنباتها
النبات الحسن : (وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا) كفالة النبات الحسن والتربية اللائقة الرسالية ، فقد جعل
الله باقتراعهم كفالتها لزكريا ـ زوج خالتها ـ أمينا مؤمّنا عليها ، مؤمنا بشأنها
، وكان رئيس الهيكل اليهودي من ذرية هارون الذين انتقلت إليهم سدانة الهيكل ،
فنشأت مباركة مجدودة ، يهيئ لها الله من رزقه فيضا متواصلا.
أترى تلك الكفالة
كانت ذات بعدين أولهما خصوص الوحي بشأن كفالته إياها ، وثانيهما الاقتراع تأييدا
وتأكيدا لذلك الاختصاص؟ النص ساكت عن
بعدين اثنين ،
وعلّ «كفلها» تعني كفالته إياها بوحي الاقتراع ، سكوتا عما سكت عنه النص وذودا عن
ساحة القديسين اختصامهم في كفالتها بعد وحيها لزكريا.
هنا فاعل «كفلها»
هو الله وزكريا المفعول الأوّل ومريم هي الثاني ، حيث الكفل متعد بنفسه ، فرغم ان
الولد في كفالة الأبوين عرفا وشرعا ، ولكن مريم النابتة نباتا حسنا بحاجة الى
كفالة عاصمة معصومة لم يكن يحملها هناك إلّا زكريا ، مهما تخرج بالقرعة الشرعية من
بين القديسين المتنازعين بشأنها.
و «المحراب» كأصل
هو محل الحرب فان عبادة الرحمن محاربة الشيطان ، ولان العبادة الخالصة بحاجة الى
الانسراح عما سوى الله ، فالمحراب الحرب. هو ايضا من الحريب : السليب ، يعني عن
اشغال الدنيا ، وهو المقدم في كل مسرح (يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) فالمحراب معنويا هو محل الانسراح عما سوى الله لاخلاص
عبادة الله بحرب الشيطان ، وهو مكانيا المقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد اليه
بسلّم ذي درجات قليلة ، ويكون من فيه محجوبا عمن في المعبد ، و «كلما دخل» مما
يلمح بهذه الخصوصية لمحرابها ، وكما يصرح به (إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرابَ) حيث المعبد المكشوف لا يتصور فيه التسوّر.
والكفالة ـ ككل ـ هي
من المواضيع الشرعية ، سواء في التربية والحفاظ بدنيا او معنويا ام ماليا اماهيه
مما تصح فيه الكفالة.
وأصلها من الكفل :
المركب ، في ركب الحياة كبعض او ككل ، وقد تكفها زكريا في مسير الحياة كفيلا ضامنا
عادلا معصوما في مسيره الى مصيره (كُلَّما دَخَلَ
عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) و «رزقا» يعني ،
رزقا معيشيا إلى رزق معنوي لتكون متحررة عمن يرزقها سوى الله مهما كانت للكفالة
الرسالية دورها
الفعال على عين الله ورعايته.
اجل «رزقا» جليلا
لا يعرف مصدره ولذلك نكّر ، واحتار زكريا من ذلك الرزق المكرور دونما انقطاع ف (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) اي زمان ومن أيّ والسبل المألوفة له ـ وانا الوسيط الوحيد
فيها بظاهر الحال ـ منقطعة عن قمة المحراب ، حيث لا يسمح لأحد غيري ان يدخله ، ف (أَنَّى لَكِ هذا)؟.
(قالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) بتقطع الأسباب المتعودة ، وكما تحررت عنها في ذلك التحرر (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ) نحاسبه نحن في حياتنا المتعودة ، او يحاسبه الله ، مهما
كان رزقه بغير حساب بميزان وحساب.
ويا لها من خنوع
وخشوع امام العطية الربانية ، احتفاظا بالسر الذي بينها وبينه ، والتواضع في
التحدث عن ذلك الرزق السرّ ، دون اية مباهاة وتنفج وتبهّج.
هنا لا نخوض في
مواصفة ذلك الرزق ونوعيته ، ولكننا نعلم حسب النص انه (مِنْ عِنْدِ اللهِ) عندية خاصة مباركة طيبة ، مختلفة عن سائر الرزق المؤتلفة ،
فليكن من الجنة أم خلق الساعة.
فلا يرد نقد
الجمعية الرسولية الامريكية على ذلك الرزق بان «الجنة ليست محل أكل وشرب بل هي محل
التقديس والتسبيح وكل تنعماتها روحية» .
أولا ان (مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا تخص الجنة إلا بتأويل ان الله ساكن الجنة فالرزق من
عنده ليس إلا من الجنة.
__________________
ثانيا ان الجنة
حسب القرآن والعهدين فيها تنعمات مادية اضافة الى الروحية.
ثالثا ان هذه
الجنة علّها جنة آدم والتي صعد إليها المسيح وهي من جنان الدنيا.
ورابعا ان الرزق
من عند الله يعني هنا من غير السبل المتعودة وكما «ان الله سخر الغربان لإيليا
فكانت تأتيه بلحم صباحا ومساء» (امل ١٧ : ٤ و ٦).
كما و «هيأ له
الكعكعة (نوع من الخبز) وكوز الماء فنبهه الملاك للأكل والشرب حتى سار بقوة تلك
الأكلة أربعين يوما» (امل ١٩ : ٥ ـ ٩).
وإذا هم يستغربون
رزق الطاهرة من عند الله حلالا طيبا ، فكيف يستقربون شرب المسيح جديدا من نتاج
الكرمة ـ الخمر ـ في ملكوت الله (متى ٢٦ : ٢٩ ومرقس ١٤ : ٢٥ ولوقا ٢٢ : ١٨) او مما
يأكل منه التلاميذ على مائدة المسيح في ملكوته (لوقا ٢٢ : ٣٠) هذه مريم الطاهرة
العذراء تجد عندها رزقا من عند الله ، وهي منقطعة عن عباد الله ، ثم انظر الى
فاطمة الزهراء مولاة العذراء ، حيث تجد عندها رزقا وتتمثل لأبيها (صلى الله عليه
وآله وسلم) بقول الله عن العذراء با أبت (هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)
.
__________________
هنا زكريا المكفل
مريم لما يرى هذه الكرامة الربانية لها ، تتحرك عنده الرغبة في ذرية طيبة ، حكمة
عالية مرغوبة فيها لامتداد الرسالة في نسله.
(هُنالِكَ دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ).(٣٨)
انه لم تكن حتى
الآن لزكريا ذرية ، وطبيعة الحال في الدعاء انها عند انقطاع الرجاء ، وانقطاع
الأسباب المتعودة لحصول المدعو له ، ف (هُنالِكَ دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ) الذي ربيتني بالتربية الرسالية وهي خارقة العادة (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً
طَيِّبَةً) كخارقة أخرى.
و «من لدنك»
استيهاب من رحمته اللدنية الخاصة ، ليست كالعادة
__________________
بأسبابها العادية (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) فهو ـ إذا ـ تطلّب لخرق الأسباب المألوفة في الإيلاد.
فقد حمل زكريا «هنالك»
مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية ، الطليقة عن المألوف ، رغم ما نحسبه قانونا
لا يتخلف فنشك ـ إذا ـ في كل حادث خارج عن نطاق هذا القانون المزعوم!.
فها هو زكريا
الشيخ الكبير وزوجه ـ العاقران ـ اللذان لم يلدا في صباهما ، هنالك تجيش في قلبه
الرغبة في ذرية طيبة هبة من عند الله ، وحق له وهو يرى بين يديه مريم العذراء
الصالحة الرعناء : (وَزَكَرِيَّا إِذْ
نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ
كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا
لَنا خاشِعِينَ) (٢١ : ٩٠) ـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
زَكَرِيَّا ، إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ، قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ
الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ... وَإِنِّي
خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا) (١٩ : ٦).
(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ
وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) (٣٩).
«هنا» نادته
الملائكة وفي مريم (يا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ...) (٧) ولا منافاة بينهما فان الملائكة هم وسطاء في ذلك البلاغ
المبين.
والتبشير هنا يحمل
مواصفات اربع ليحيى :
١ (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) هي المسيح عيسى بن مريم ، فانه كلمة قالها من قبل وكلمة دالة على الله تكوينيا حيث ولد دون أب ، وكلمة رسولية
__________________
حيث تدل على الله
بربانية اعماله وفعاله وقاله ، وكلمة رسالية تكلم بها المرسل إليهم ، مربع الكلمات
يحملها المسيح (عليه السلام) ولم يحملها كلها سائر الخلق أجمعين ، فقد ولد دون أب
ولادة منقطعة النظير في تاريخ الإنسان ، وآدم لم يكن وليدا حتى يكون هو الاول في
تلك الولادة ، فانما خلق من تراب.
وليس كونه كلمة
آية خارقة للعادة من حيث الولادة ، ليفضله على سائر الرسل ، إذ إنها آية أقوى من
سائر الآيات المبصرة لأن بني إسرائيل هم أغوى من سائر الأمم ، ثم آية القرآن هي
أقوى الآيات الرسولية والرسالية على الإطلاق لأنها تحلق على كافة المكلفين منذ
بزوغها الى يوم الدين.
٢ «وسيدا» : عظيما
في الحقل الروحي علما وتقى ، يمتاز عن كثير من رجالات العلم والتقوى ، الرساليين و
«سيدا» في كل حقول السيادة الصالحة.
فالتصديق بكلمة من
الله ، والسيادة اللّائقة للقيادة ، والحصر عن كل الشهوات ، كل هذه من الشروطات
الأصيلة للنبوّة حيث تجمع القيادتين : الروحية والزمنية.
٣ «وحصورا» مبالغة
الحصر ، وهو الحصر عن الشهوات محرمة ومرجوحة ، دون الراجحة في شرعة الله كالنكاح ،
خلاف ما يهرف بشأنه
__________________
تبجيلا له وتخجيلا
لكل هؤلاء الذين تزوجوا من نبيين وسواهم من الصالحين ، لا! وانما «حصورا» نفسه عن
الشهوات واللهوات المرجوحات ، وحصورا كل وجهه بكل وجوهه إلى الله ، فهو حصور في «لا
إله» ثم حصور في (إِلَّا اللهُ) حسرا عما سوى الله وحصرا في الله.
والحديث الخبيث
المفتري على الرسول الطاهر الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) ، المحلق للذنب على
الكل إلا يحيى (عليه السلام) لأن ذكره مثل هدبة الثوب مضروب عرض الحائط حيث يمس من كرامة الخالق للعورات
والشهوات المحلّلة ، ومن كرامة الصالحين الناكحين حلّا!.
اجل! وقد تعني «حصورا»
فيه فيما تعنيه ، تركه ـ كما المسيح (عليه السلام) ـ للزواج على شبقه ، ترجيحا
لتقدم الدعوة الرسالية على تحقيق الشهوة المحلّلة ، إذ لم تكن ظروفه لتسمح له
بالجمع بين الزواج وتحقيق الرسالة ، معاكسا لمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث
اقتضت ظروفه
__________________
الرسالية زواجا
وأكثر من الأربع المسموح للأمة تحقيقا حقيقا لكرامة الرسالة بضم عوائل كثيرة الى
خضمّه.
إذا ف «حصورا»
المحلق على كل داعية الى الله تختلف ظروفه وطقوسه في البعض من مصاديقه ، فكما
النكاح راجح ام واجب أحيانا ، كذلك هو مرجوح او محرم أحيانا أخرى ، والحصور هو
الذي يتابع صالح الدعوة وفقا لظروفها المواتية المناسبة.
٤ (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وترى هناك أنبياء غير صالحين حتى يوصف هنا «نبيا» ب (مِنَ الصَّالِحِينَ)؟
كلّا ، حيث يعني «نبيا»
رفيع الدرجة ، ولأن رفعة الدرجة درجات هنا يقيد ب (مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني المرسلين ، حيث المرسلون درجات والنبيون منهم أرفع
شأنا وأنبى مكانة ويحيى منهم ، كما و (مِنَ الصَّالِحِينَ) آباء وأمهات منذ آدم الى زكريا.
فلقد استجيبت
الدعوة الحانية ، المنطلقة من القلب الطاهر الحاني ، الذي علق رجاءه بسميع الدعاء
، وهو يملك الإجابة كيف يشاء حيث يشاء ، استجيبت في «يحيى» الذي (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ
سَمِيًّا) ـ (مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) اسمه المسيح عيسى بن مريم «وسيدا» كريما «وحصورا» يحصر
نفسه عن الشهوات ويملك زمام نزعات من الانفلات ، «ونبيا» رفيع المنزلة (مِنَ الصَّالِحِينَ) الرساليين.
ذلك! ولكننا نسمعه
كأنه يستغرب ما استقربه الله ، استغرابا عن عقره وزوجه لا عن رحمة الله :
(قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ
اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)
(٤٠).
ولكن «أنى» سؤال
عن زمن تحقيق البشارة ، وليس استفهام انكار واستبعاد عنها ، فلم يقل «كيف ـ او ـ اين»
وانما «أنّى» ـ ولكي لا تتأخر اكثر مما تأخرت يعرض حاله (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وحال زوجه (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) فأجيب من فوره بتأكيد البشارة «قال كذلك» البعيد البعيد عن
حساب الناس ، العظيم العظيم عند الله (اللهُ يَفْعَلُ ما
يَشاءُ) دون رادع ولا مانع ، فانما امره إذا أراد شيئا ان يقول له
كن فيكون ... فلا ينسب إلى اي عاقل فضلا عن نبي ان يستبعد من رحمة الله ما رجاه
ودعاه ولقد كانت «أنى» في موقعها ـ حين يرى ان البشارة واقعة موقعها ـ إذ يبتهج
بجدارته لها فوزا بحظوتها ، حاصلا على مزيتها ، فتطلب زمن تحققها ، عالما انه يورق
الهشيم ويستنتج العقيم.
وهذه طبيعة الحال
لمن بشر بما يتمناه ، وهي غريبة عن حاله على رجاءه أن يولد له فرط السرور عند اوّل
ما يهجم على سمعه ما تقاضاه ، استئنافا في المعرفة وزيادة في الاستبانة ، ولا اقل
من استعلام زمن الهبة المبشرة.
اجل و (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (١٩ : ٨) عرضا
لحاله البعيدة عن هذه الرحمة الغالية ، بعد ان دعا ربه (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) وهو الرحمة اللدنية الخاصة ، البعيدة عن المألوف تكوينا
وتشريعا ، وهذه شيمة كريمة من الصالحين في دعاءهم عرضا لفقرهم وغناه ، واستعراضا
لسلب اهليتهم في أنفسهم رجاء رحمة الله.
فما اقبحه تأويلا
عليلا قيلة القائل : ان الله لما بشره بالولد ـ وكان عنده ان العاقر لا تلد ـ والعقيم
لا تنسل ـ اعترضه الشيطان حين نادته الملائكة ان ما سمعه انما هو منه لا منهم ،
فشك فيما بشر.
وذلك جهل عظيم من
قائلة وقلة بصيرة بمنازل الوحي ، فإنهم تجل
أقدارهم عن تلاعب
الشيطان بهم ، وان تخلط النداءان عليهم.
فإذا كانت
الملائكة هي التي بشرته كما قال الله ، وقد جرت عادته الرسالية باستماع كلامها ،
وألف مهابطها ، وثلج صدره بما تؤديه عن ربها ، فأي عاذرة له ـ إذا ـ في ان يعترضه
الريب او يختلجه الشك.
ولو كان مرتابا في
بشارته فكيف ينادي ربه فيها (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ
لِي غُلامٌ ...)؟!.
(قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا
رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)
(٤١).
هنا (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وفي مريم (ثَلاثَ لَيالٍ) تتجاوبان في مجموع الثلاث الليالي والأنهار.
والآية المطلوبة
هنا ليست آية لأصل البشارة كأنه شاك فيها ، وانما في زمنها حتى يحضّر نفسه في حالة
خاصة وهالة من عبادة راصّة لاستقبال تلك البشارة والتفصيل الى سورة مريم (عليها
السلام) حيث نفصل فيما فصل الله ونجمل فيما أجمله الله.
(وَإِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ)
(٤٢).
هنا تشافه
الملائكة مريم الطاهرة المصطفاة وحيا دون رسالة تحمل شرعة رسالية ، فلم تصيح به
مرسلة من الله كالرسل ، وكما (أَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) وحيان هما تقدمتان لوحيين رساليين موسوي وعيسوي (عليهما
السلام) ، كما والمؤمنون المستقيمون (تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ
وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) (٤١ : ٣٠ ـ ٣١).
و «اصطفاك» الأولى
دون متعلق ، قد تعني غير الثانية فانها (عَلى نِساءِ
الْعالَمِينَ) دونها ، إذ لا تصح «وطهرك على نساء العالمين» حتى تقبل
العطف.
وهذه العناية
المختلفة هي طبيعة الحال في تكرار ، ولا سيما بوسيط غير المكرر «وطهرك» فلتكن
الاولى اصطفاء غير التطهير المتوسط وغير الاصطفاء الثاني ، فقد تعني اصطفاءها على
ذكر تطلبته أمها محررا ، كما اصطفاها على كل ذكر لا ينجب ولدا دون أنثى وهي أنجبت
دون ذكر ، كما واصطفاها من ذرية الأنبياء المصطفين المرسلين والى سائر الميزات الأنثوية ، ولكنها على قمتها بحاجة الى
طهارة قمة تذود عنها مستلزمات تحررها لخدمة البيت خلطا بالرجال على أية حال ،
فلذلك :
«وطهرك» طهارة
مطلقة تناسب الاصطفاء سببا ونتيجة و «طهرها من ان يكون في ولادتها من آبائها
وأمهاتها سفاح»
ومن أن تأتي سفاحا
... ومن ثم الاصطفاء الثاني : (وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ) اصطفاء يحلق على كل صفوة سامية ، ومن ذلك اختصاصها في خطاب
ربها (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي
..)
.
أترى أن سعة (نِساءِ الْعالَمِينَ) هي عرض المكان وطول الزمان؟ فهي ـ إذا ـ مفضلة على الصديقة
الطاهرة ـ وهي خير نساء العالمين من الأولين والآخرين ـ!.
__________________
رجالا ونساء كما
شرحنا عند تفسيرها في آية التطهير بقول فصل ، فهي خير العالمين ـ كأبيها وبعلها وبنيها
المعصومين ـ رجالا ونساء ، فهي مفضلة على نوح وابراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)
فضلا عن مريم سلام الله عليها.
وما يروى عن
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان «أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم
وآسية امرأة فرعون»
لا يعني مساماتهن
مع بعض ، وانما فضلهن على النساء ، على تفاضلهن فيما بينهن.
ذلك كما وهي سيدة
نساء اهل الجنة لا مريم البتول فهي ـ إذا ـ «أفضلهن عالما»
في الدنيا
والآخرة.
ذلك ـ وليس ذكر
مريم سلام الله عليها مرات في الذكر الحكيم وتطهيرها واصطفاءها إلّا ذودا عنها
وابنها المسيح (عليهما السلام) ملابساتهما من الشبهات التي لم يتورع اليهود
والنصارى ان يلصقوها بهما ، وإلا فلا دافع لذكر النساء بأسمائهن في القرآن كما لم
يذكرن فيه إلا هي.
__________________
أم ان القدر
المعلوم من «العالمين» عالمي زمانها الحاضر ، ام والغابر الى حواء ، واما المستقبل
فلا ، فلأن الاصطفاء ماض ف «العالمين» إذا ماضون ، فلا يعني إلّا ماضيه في الماضين
دون الآتين إلى يوم الدين ، فالشمول لمن يأتي بحاجة الى دليل وليس فليس.
صحيح ان العالمين
في (رَبِّ الْعالَمِينَ) يعمهم كلهم ولكنه بقرينة الرب المحلق ربوبيته على كلهم ،
واما الخلق فقضية محدوديته هي محدودية العالمين إلا بدليل.
واما الصديقة
الطاهرة فهي حسب النص «خير نساء العالمين من الأولين والآخرين».
وحتى لو دل دليل
على اصطفاء مريم على كل نساء العالمين ـ ولن ـ فآية التطهير ترفع دور فاطمة في
العصمة الى القمة المحمدية الفائقة على كل العالمين
__________________
ومكثت بالبيت تعبد
ربها متحررة للخدمة ، مخلصة في القيام بالسدانة حتى صارت مضرب الأمثال ، لان ربها (أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا ...).
تقبلها ربها محررة
للبيت ولا يحق لخادمة البيت ، والمنذور لتلك الخدمة ، المقبولة عند ربها ، لا يحق
لها خدمة أخرى ، لزوج وسواه ، فلا تفكر ـ إذا ـ في زواج وسواه ما استلزم الخروج عن
البيت ، او خدمته داخل البيت ، ولا تعرضها فكرة الخروج لأية حاجة إذ كانت مكفولة
الرب في كل حاجياتها محررة بالبيت.
إذا ففكرة الزواج
او اختيار خطيب لها نائية عن خلدها ، بعيدة عن تحررها ، لأنها تنافي ونذر أمها
وتقبل ربها بقبول حسن.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٣).
«ذلك» الذي
أنبأناك من القصص (مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ومنها الاقتراع بشأن من يكفل مريم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) وذلك بوحي من الله الى زكريا بشأن هذه الكفالة المختصم
فيها بين القديسين (وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).
فقد كان هناك
اختصام بشأن تلك الكفالة الكافلة لصالح مريم سلام الله عليها ، فلأن القرعة لكل
امر مشكل ، أمروا بذلك الاقتراع حسما للموقف بما يشاء الله فيه ، وعلّه دون وحي
خاص بكفالة زكريا رعاية لذلك الجمع القديس.
لقد كانت كفالتها
فريضة بارزة لموقفها الخاص في تحررها ، فمن يكفلها إذا بين هؤلاء المختصمين بشأنها
وهم كلهم صالحون؟ لا سبيل صالحة لتلك
ولأن فاطمة سلام
الله عليها لم تذكر بأي سوء حتى في ألسنة أعدائها فلا موجب لذكرها اللهم إلا في
جماع الطهارة والعصمة العليا مع أبيها وبعلها وبنيها كما في آية التطهير.
(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)
(٤٣).
ذلك التخصص في
خطابها بمثلث القنوت والسجود والركوع لربها ، هو صورة لمّاعة من اصطفاءها على نساء
عالمي زمانها وقبلها ، حيث لم تخاطب من قبلها كآسية وسواها بذلك الخطاب الحنون ،
فهو خطاب رسالي مهما لم تكن هي من الرسل ، تدليلا على القمة البالغة فيها مبلغ
الرسل ، فتخاطب كما يخاطبون ويوحى إليها كما يوحى إليهم اللهم إلا وحي الرسالة.
(اقْنُتِي لِرَبِّكِ) في مطلق الطاعة والعبادة ، ثم في خاصتها التي هي عمود
الدين ، المذكورة بأسمى سماتها في جموع المصلين (وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).
فكما السجود
والركوع هما معنيان بعناية الصلاة ، كذلك الإتيان بهما في جماعة لمكان «مع»
الشاملة لكليهما ، وليس جمعهما إلا في الصلاة ، فقد تأتي هذه الآية في عداد آيات
فرض الجماعة في فرض الصلاة ، ك (وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ) و (لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) وهي سبيل المسجد مكانا لزاما للصلاة.
فليكن القنوت للرب
، والمتمثل كأفضله في الصلاة ، ليكن في جماعة القانتين ، كشعيرة عظيمة جاهرة ليل
نهار أمام الناظرين ، فان (مَعَ الرَّاكِعِينَ) تعم مثلث القنوت والسجود والركوع.
فلقد نمت مريم
وترعرت وشبت واشتد ساعدها وعمر قلبها بتقواها
النمام الذي كان
في أصحابه بالقرعة بتعليم الله سبحانه إياه «وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها» واقترع (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) بين اهل الصفة لتخرج إلى من يبعثهم الى غزوة ذات السلاسل واقترع (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) في غنائم حنين ليخرج سهم عيينة والأقرع ، «واقترع علي (عليه
السلام) في الولد الذي كان بين ثلاثة» وكذلك القرعة لتعيين الشاة الموطوئة التي
دخلت بين الغنم وليست بمعلومة .
وحين يقترع
النبيون في المشاكل وهم اصحاب الوحي فأحرى بنا ان نقترع استنانا بسنتهم كما أمضاها
الله تعالى.
وفي ناصية
الاقتراعات الرسالية ما اقترع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ف كان إذا أراد
سفرا أقرع بين نسائه .
كما «فاقرع (صلى
الله عليه وآله وسلم) بينهم والحق الولد الذي اصابته ـ صارت عليه القرعة» .
«فاقرع بينهم فضمن
الذي أصابته القرعة ثلثي الدية» .
__________________
المصلحة الروحية
القمة إلّا الاقتراع وهو هنا كان بأقلام الوحي حيث كانوا يكتبون بها ، وما أنسبها
بالنسبة لمن يكفل بالوحي ، والدة لصاحب الوحي العظيم المسيح (عليه السلام).
ولم يكن اختصام
هؤلاء الكرام عدائيا كاللئام ، وانما سباقا إلى رحمة الله وهم رفاق في الله وكما
اختصم الملأ الأعلى (ما كانَ لِي مِنْ
عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٣٨ : ٦٩) كما
واهل الجنة (يَتَنازَعُونَ فِيها
كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٥٢ : ٢٣).
ولقد جرى في ذلك
المجرى قلم زكريا في الماء على خلاف المجرى خرقا للعادة ، تبيينا انه هو المخصوص
هنا بكرامة الكفالة على كرامتهم جميعا فقضي الأمر كما أراد الله.
وترى ما هي حدود
القرعة حكميا وموضوعيا في شرعة الله؟.
حين نرى ان الله
تعالى يرضى هنا بالاقتراع ولم يشكل عليه حكم ولا موضوع ، وإنما رعاية لجمع
القديسين ، فبأحرى لنا الاقتراع حين يشكل لنا أمر في موضوع وقد انقطعت كافة السبل
والبراهين لتعيين الموضوع.
لا أقول اننا
نستنبط الحكم بالقرعة ، حيث الأحكام العامة مبينة في الكتاب والسنة ، فانما ذلك هو
الموضوع المبين حكمه ، المجهول مصداقه ، كواجب الكفالة لمريم (عليها السلام) ، ثم
المصداق يتبين بالقرعة والله عالم بالحكم والموضوع ، ولكن المصلحة تقتضي تعيين
الموضوع بالقرعة حسما للاختصام ، وتجنبا عن اي ترجيح بلا مرجح ظاهر.
إذا فالاختصام ـ صالحا
وسواه ـ هو المورد الصالح للاقتراع إصلاحا للموقف وإيلافا للمختصمين ، فأي قضية
أعدل من القرعة إذا فوض الأمر الى الله تعالى لقوله (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ) وكما استعلم موسى (عليه السلام)
(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ
يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
قالَتْ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ
يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٤٧)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ
اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)
إِنَّ
اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ
نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا
بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما
لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)
(٥٨)
(إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ)
(٤٥).
هنا قالات ملائكية
لمريم سلام الله عليها بما أوحى الله ، تحمل البشارة بالمسيح (عليه السلام) مولدا
ورسالة عالية بآيات لها ، قرا لعينها وقرارا لقلبها ، وتخفيفا عن وطئتها بحملها
ووضعها دون بعل ، (يا مَرْيَمُ إِنَّ
اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ).
لقد تهدّرت الأيام
وتهدلت ، ففي يوم مّا وهي في محرابها اضطربت نفسها فجأة وداخلتها رهبة لم تعهدها
من ذي قبل إذ تظهر أمامها ملاك الرب يبشرونها بوليد لها وجيه في الدارين ، ولا وجه
لوجيه وغير وجيه من عذراء لم يمسسها بشر ولم تك بغيا!.
في سائر القرآن
آيات ثلاث تواصف المسيح بن مريم (عليهما السلام) ب «كلمة» ثانيتها : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) (٣ : ٣٩) وثالثتها
: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِنْهُ) (٤ : ١٧١) فما ذا
تعني كلمة الله بحقه (عليه السلام) ولم يوصف اي نبي ولا خاتم النبيين ب «كلمة»؟.
الكلمة لغويا هي
ما تدل على معنى ، شاملة للألفاظ الموضوعة على معانيها ، والموضوعات الدالة على
واضعيها ، والأفعال الدالة على فاعليها وكيانهم فيها ، أماذا من دلالات في دالات
وضعية ام ذاتية ام قصدية أماهيه.
لذلك سميت ذوات
محمد والمحمديين صلوات الله عليهم أجمعين اسماء هي هي الكلمات (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) كما تقدمت في البقرة.
ذلك ـ إلّا ان
اختصاص المسيح (عليه السلام) بوصف الكلمة يزيد على تلك الدلالة الأسمائية بما
يخصصه بالكلمة.
فهو نتيجة كلمة «كن»
و (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) وان كان كل مولود يكون عند قوله تعالى : «كن» فإن كل مولود
سواه إنما يكون ب «كن» على طريق العلوق من الرجال ، ووسيط اللقاح المتعود من
الرجال ، وليس كذلك المسيح (عليه السلام) فليختص بخاصة «كلمة» لخاصة «كن» الخارقة
في بعد ثان بحقه.
فهو الكلمة
الملقاة الى مريم : (وَكَلِمَتُهُ
أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) فالروح هو روحه وعلّ الكلمة ـ إذا ـ هو جسمه : النطفة
الرجولية الملقاة إليها دون وسيط رجل ، ألقيت من المجرى التناسلي بدفع عبر عنه هنا
بالإلقاء وفي غيرها بالنفخ ، وهما مشتركان في معنى الدفع.
وقد تعني كلمة
المسيح ـ فيما عنت ـ كرور ذكره في منزلات كتب السماء المتقدمة لميلاده ورسالته ،
فلما خلقه الله قال : هذه كلمتي المتقدمة ، فقد كانت البشارة ـ التي هي كلمة ـ ابتداء
معرفته بواقعه ، والمطرقة بين يدي مورده.
وكذلك كلمته
التشريعية ـ إضافة إلى تكوينية ـ الدالة عليه ، الهادية اليه.
ومهما شاركت
المسيح سائر الكلمات تكوينية وتشريعية ، لم يكن ليشاركه في «كن» الخارقة ولادة دون
أب ، اللهم إلّا آدم (عليه السلام) ولكنه ـ مع ذلك ـ لا يستحق كرامة هذه «الكلمة»
لعدم ولادته هكذا وإنما خلق من تراب ولعدم جمعه سائر معاني الكلمة ، إلا في بعضها عدّة
وعدّة ضئيلة.
ومهما يكن من شيء
فكلمة اسمه المسيح تصدق كأصدقه على تكوينه
الخارج عن المألوف
، وقد ألقيت الى مريم لقاحا رجوليا دونما رجل!. (وَجِيهاً فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).
«وجيها» عند الله
، وعند المخصوصين بالله والمقربين إلى الله (وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) وهم أفضل الوجهاء عند الله ، وهم السابقون كل الخلق في
معرفة الله وعبادته : (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٥٥ : ١١).
والمقربون هم
الذين قربهم الله إليه بما تقربوا إليه سعيا لأعلى قممه ، فأتم الله تقربهم إليه
بما قربهم ، فعصمهم من كل زلة وضلة.
أجل (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ
مِنْهُ) ليس من صلب رجل وإنما بنفخ منه (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ) وقد تعني تذكير «كلمة» هنا واقع ذكورة المسمّى ، وأنها لا
تعني ـ فقط ـ كلمة لفظية ، بل وتكوينية هي واقع تكوينه المنقطع النظير.
وذلك من غرائب
القرآن وبدايعه وعجائبه ، حيث يذكّر الكلمة في الضمير الراجع إليها رجعا الى
معناها ، فلو قال «اسمها المسيح» لألبس اللفظ إذ لم يتقدم هنا ذكر المسيح (عليه
السلام) ما يؤمن الالتباس.
ثم نراها مؤنثة
الضمير فيما أمن الالتباس (وَكَلِمَتُهُ
أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) حيث تقدمت هناك أسماء المسيح وتعريفاته التي تؤمن الإلباس.
او يقال تأنيث
الضمير الراجع الى «كلمة» مرة وتذكيره أخرى دليل الجواز للصورتين اعتبارا لمجاز
التأنيث.
أو أن المعنيين
معنيّان ، جمعا لأدب اللفظ إلى ادب المعنى ، وذلك من ميّزات القرآن العظيم ، أن
يجمع ميزات الألفاظ الى ميزات المعاني.
ثم (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) هو أجمع اسم وأشمله له (عليه السلام) ، وقد جاء المسيح
إحدى عشر مرة ، وعيسى بن مريم خمسة وعشرون مرة في القرآن كله ، مما يدل على ان
عيسى بن مريم هو اسمه الأصيل ، وعلّ المسيح لقب له يصفه.
(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)
ففي المهد لما
أشارت إليه (قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ...).
«وكهلا» وهو منذ
ثلاثة وثلاثين من سني عمره الشريف او العشرين حيث ابتدأ واقع نبوته ودعوته ، وهو
بين مهده وكهله لم يكلم الناس رساليا ، وإنما في المهد رسوليا ذودا عن ساحته وأمه
وكما كان يبشّر به بلسان يحيى (عليه السلام).
فنبوته ـ وهي بعد
رسالته ـ ابتدأت منذ كهولته ، مهما كان نبيا ينبأ بالوحي غير الرسالي بين
المرحلتين ، كما كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته .
__________________
فلو أنه كان يكلم
الناس رساليا بينهما كما فيهما لكان صحيح العبارة عنه «ويكلم الناس طول عمره ـ او
ـ منذ مهده إلى صعوده» ولكنه (فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلاً) كما يقال مرجعنا مرجع للتقليد في ايران وفي باكستان ، حيث
لا يعني أنه كذلك مرجع في البلاد الفاصلة بينهما فان حق تعبيره ـ إذا ـ في ايران
الى باكستان.
فقد كان تكليمه
الناس (فِي الْمَهْدِ) بشارة تمهيدية لرسالته كهلا ، وذودا عن ميلاده وصمة الرجس
، فهو يحمل خارقة حالية في أصل تكليمه وهو وليد سويعات ، وأخرى استقبالية حيث
يكلمهم رساليا «كهلا».
كما وأن تكليمه «كهلا»
وهو في نفسه خارقة ، تحقيقا لكلامه في المهد ، نور على نور يهدي الله لنوره من
يشاء.
ونرى كهلا يحض فقط
السنّي الثلاث لرسالته الظاهرة؟ وهي ثابتة منذ بعثه الى ابتعاث محمد (صلّى الله
عليه وآله وسلّم)!.
إن تكليمه «كهلا»
ينقسم إلى التكليم الرسالي منذ بعثه الى صعوده جاهرا ظاهرا ، وتكليمه برسالته منذ
صعوده حتى مبعث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم وتكلمه بغير الرسالة
الفعلية حين ينزل ويصلي خلف الإمام المهدي (عليه السلام) ، فإنه منذ الرسالة
المحمدية أصبح من أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) دون عزل عاضل قاحل ، وإنما هو
انعزال فعلي بشأن الائتمام بمن هو أفضل منه ، على عصمته وقداسته الرسالية السامية
، حيث العصمة لا تختص بالرسول والإمام معه أو بعده ، فقد حمل العصمة الثالثة بعد
الأولى وهي نفسها إلا الرسالة.
ولئن رفع المسيح (عليه
السلام) وله ثلاث وثلاثون سنة والكهل ما اجتمع قوته وكمل شبابه مأخوذا من اكتهل
النبات إذا قوي ، ففي غالب الظن
أنه بدأ بالدعوة
الرسالية منذ العشرين ، إلّا إذا دل دليل قاطع على أكثر منه ، وقد يروى عن الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) ان سني دعوته الرسالية بشخصه كانت ثلاث وثلاثين سنة ، إذا
فقد يكون صعوده في ثلاث وخمسين من عمره الشريف ، ورسالته منذ كهولته كما تلمحناها
من «وكهلا» ويدل عليه الإنجيل .
وترى ما هو دور (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) هنا ، بعد (وَجِيهاً فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) هناك؟
قد تعني (مِنَ الصَّالِحِينَ) الصلوح لتلك الرسالة العظمى والنبوة العليا ، دون مطلق
الصلاح الشامل لمطلق الوجهاء والمقربين.
ذلك ـ وكما يلتمسه
سليمان النبي (وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (٢٧ : ١٩) وأفضل
منه ابراهيم من قبل (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٢٦ : ٨٣) ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي
الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٩ : ٢٧).
__________________
هذا ـ وقد تعني (مِنَ الصَّالِحِينَ) فيما عنت تحليق الصلاح على كل كيانه ، كعبارة ناطقة عن كل
نبوة الصلاح وحلقاته بعد ما ذكر قسم منها عظيم ، فهو إذا تعميم بعد تخصيص.
(قالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ٤٧.
«قالت» محتارة من
بشارة الولادة «رب» الذي ربيتني تكوينيا لا أنتج ولدا إلا بأسبابه المقررة عندك ،
وتشريعيا إذ طهرتني عن كل سوء وفحشاء ف «أنى» بالإمكان عاديا (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) لا حلا ولا ـ عوذا بك ـ حراما : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (١٩ : ٢٠).
(قالَ كَذلِكِ) البعيد في حساب الخلق ، العظيم الكريم في تكريم من يشاء (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) بمشيئة طليقة دونما رادع أو مانع (إِذا قَضى أَمْراً) ليكون أيا كان ، فليس يحتاج إلى تقدمات هو مقرّرها
ومقدّرها في متعوّد التكوين (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ) وهو قول الإرادة الربانية ولا مخاطب له إلا التكوين دون
الكائن به فانه من تكوين الكائن (كُنْ فَيَكُونُ) دونما نظرة لآمر آخر او أمر آخر.
(وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ٤٨.
علّ «الكتاب» هنا
ـ وهو جنسه ـ كل كتابات السماء النازلة قبله ، وذلك من شروطات كل رسالة لاحقة أن
يعلّم رسولها سابقتها بسابغتها ، حيث الرسالات ككل هي سلسلة موصولة بعضها ببعض ،
صادرة عن مصدر واحد ، واردة إلى امة واحدة ، مهما اختلفت شكليات وطقوس ظاهرية
فيها.
و «الحكمة» هنا
بعد الكتاب ، هي تحكيم عرى الوحدة بين كتابات السماء في خلد الرسول ، كما هو بأحرى
تحكيم الإنجيل عن أي إنفلات في لفظه
او معناه ،
استفسارا لبعضه ببعض ، واستيحاء فيما يحتاج الى تفسيره من الله.
وذلك بعد تحكيم
فطرته وعقليته وكل إدراكاته وإحساساته بالعصمة البشرية والإلهية تحكيما عن كل
انفراط وانحطاط ليكون حكيما في حمل رسالة السماء والدعوة الرسالية الى الله.
ثم «التورية
والإنجيل» هما أهم مصاديق «الكتاب» قبل القرآن ، وأتمها رباطا بالرسالة العيسوية ،
حيث التوراة تحمل شريعة الناموس التي لم تبدل في الإنجيل إلّا نذرا.
ومما يلمح له
إفراد «التورية والإنجيل» وحدة كلّ منهما ، دون كثرة مختلقة ولا سيما في الإنجيل.
(وَرَسُولاً إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ
اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ٤٩.
أتراه فقط (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) دون كافة المكلفين؟ وكما يروى وولاية العزم في رسالة يحملها المسيح تقتضي طليق الرسالة
والدعوة دون اختصاص!.
إنه (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) كمبدء الدعوة ومنطلقها كما كانت لموسى وابراهيم ونوح (عليهم
السلام) ، وكذلك هذا النبي (صلى الله عليه وآله
__________________
وسلم) الذي بدأت
رسالته في العرب ثم الى الناس كافة.
وهذه طبيعة الحال
لكل داعية ان يتبنى في البداية كتلة خاصة هم اقرب اليه وأحوج الى الدعوة ام وأحرى
لحملها الى سائر المدعوين ، وقد بلغت عامة الرسالة العيسوية لحد (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (٤ : ١٥٩) وهي
كالرسالة الموسوية : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٨ : ٤٣).
ذلك! مع تصاريح
عدة في آيات ان الرسولين أرسلا إلى بني إسرائيل كأم الدعوة في قراها توحيدا
وتوطيدا لعراها : (وَما كانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٢٨ : ٥٩).
ثم وطبيعة الحال
في رسالة ناسخة لما قبلها وإن في حكم واحد ، أن تشمل كافة المكلفين ، ذودا عن اي
ترجيح بلا مرجح ، وتوحيدا للشرعة الحاكمة على العالمين في كل دور من أدوار الشرايع
الخمس (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ) (٤٢ : ١٣) إذا
فكيف بالإمكان تفرق شرعة الله في دور واحد وبإذن الله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٩)
وحاكمية اكثر من شرعة واحدة في دور واحد هي حاكمية الاختلاف القاصد وهو خلاف
الرحمة.
واما واقع اتباع
شرائع عدة في طائل الزمن الرسالي ، فليس الا من واقع التخلف عن شرعة الله ما لم
يأذن به الله ، حيث أمرنا (أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)!.
«ورسولا ... أني»
وذلك هو القالة الثانية بعد دعوى الرسالة (أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ
بِآيَةٍ) ربانية على ما أدعيه من رسالة ، آية قاطعة قاصعة أنني رسول
من الله ، فليست ـ إذا ـ إلّا خارقة ربانية لا يستطيع عليها أحد إلا الله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) كوسيط في تحقيق تخليق الآية الرسالية و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣٥ : ٣) فنسبة
الخالقية إلى المسيح (عليه السلام) ليست إلّا بوساطة فيها والخالق هو الله ، كما
الوالد والد أصالة وقد يعبر عنه بالخالق وسيطا لخلق الله (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٤٠ : ٦٢).
(أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللهِ) فهنا أذنان تكوينيان : خلقا كهيئة الطير وهي الهيئة
الجسدانية للطير بالأجزاء الحيوانية عظما ولحما وعروقا ودما وريشا ، ثم نفخا فيه
تكوينا لروح الطير : (... وَإِذْ تَخْلُقُ
مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِي ...) (٥ : ١١٠) ف «بإذني
.... بإذني» تحلقان على كلا الخلقين : خلق جسم الطير ثم خلق روحها.
إذا فلا دور
للمسيح هنا في «اخلق» إلا اختلاق صورة طينية من الطير ، قد يفوقه فيه عمال
التماثيل ، وأما تحوّل الهيئة الطينية هيئة جسدانية للطير ، ثم نفخ الروح فيها
فتكون طيرا ، أما هما فليسا إلّا بإذن الله.
ودور المسيح هنا ،
الممتاز عمن سواه ، أنه يحمل آية ربانية دالة على رسالته ، أن الله يأذن لما صنعه
أن يكون كهيئة الطير ، ويأذن بما نفخ فيها أن تكون طيرا ، تدليلا على اختصاصه
بالله ، وما هو هنا إلّا رسالة الله.
فلا دور للمسيح في
خلق كشريك لله ، أو مخوّل من عند الله ، وعوذا بالله! فإنما يحمل آية ربانية على
اختصاصه بكرامة الرسالة ، دون أن يحيط علما أو قدرة بآية الله ، وإلا لم تكن آية
خاصة بالله ، ليعرف من خلالها رسالة الله.
وهكذا تكون كافة
الآيات الرسالية لكافة رسل الله بأسرها في حصرها بالله ، دون تدخّل لهم فيها
مستقلين فمستغلين ، ولا مخوّلين ، ولا شركاء لله في آيات الله ، فإنما هم رسل الله
فيما يأتون به من آية رسولية أو رسالية ، ليس لهم من الأمر شيء تكوينا ولا تشريعا
، فانما هم حملة شرعة الله بعصمة ربانية تعصمهم عن الخطإ في البلاغ بأبعاده تحملا
للوحي وإبلاغا وتطبيقا شخصيا وجماعيا.
ذلك! وكذلك
الثلاثة الأخرى بأضرابها من آيات رسولية او رسالية : (وَأُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ) وهو المولود مطموس العين ، أو أعم منه ومن الضرير بعد كونه
بصيرا «والأبرص» الأبيض الجلد بعضا ، وهو داء معروف يصيب الجلد (وَأُحْيِ الْمَوْتى) وكل ذلك كما الطير في بعدية (بِإِذْنِ اللهِ) لا سواه : (وَتُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (٥ : ١١٠) كذلك (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) بإنبائي ، آيات اربع تتجاوب في كونها آية للرسالة العيسوية
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
هذه خطوة أولى
لهذه الرسالة السامية تثبت نفسها ، ومن ثم كتصديق لها وبيان لمادتها الأصيلة :
(وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) ٥٠.
فتصديق ما بين
يديه من التوراة تصديق لرسالة الإنجيل فإن رسالات السماء تتجاوب في جذورها مهما
اختلفت في بعض شواكلها ، إلا أن رسالة الإنجيل هي هي رسالة التوراة اللهم إلا في
تحليل بعض المحرمات الابتلائية او العقابية : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ..) (٤ : ١٦٠) ومن هذه
الطيبات : ـ (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ
الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما
أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ
وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦ : ١٤٦).
ومنها : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي
كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ
كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٧ : ١٦٣).
فقد تكفي في ولاية
العزم بعض الاختلاف بين أحكام الشرعتين نسخا او تكميلا ، توسيعا او تضييقا ،
وشريعة الإنجيل تابعة لشريعة التوراة إلا في تحليل البعض مما حرم في التوراة.
لذلك ترى رسل الجن
يعتبرون شرعة القرآن بعد التوراة دون ذكر للإنجيل : (قالُوا يا قَوْمَنا
إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ...) (٤٦ : ٢٩).
فإنما الدعوة
الرسالية المسيحية تركز على التصليحات الخلقية في الجو اليهودي القاسي ، وتخليص
التوراة عما تدخّل فيها من تحريفات وتجديفات ، رفعا لأعلام شريعة الناموس .
ذلك ـ وقد يصدقه
الإنجيل نقلا عن المسيح (عليه السلام) : «لا تظنوا
__________________
أني جئت لأنقض
الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى
وعلّم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيما
في ملكوت السماوات» (متى ٥ : ١٧ ـ ١٩) .
فالإنجيل تكملة
وإحياء لروح التوراة ، ولروح الدين المطموسة في قلوب بني إسرائيل.
فالتوراة هي قاعدة
الإنجيل ، حيث تحمل الشرعة التي يقوم عليها نظام المجتمع ولم يعدل فيها الإنجيل
إلا القليل ، فإنما هو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين ، وتهذيب وتليين للضمير
القاسي الإسرائيلي.
ثم (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تعني الآية الرسالية وعديدها ومديدها كوحيدها لأنها تتجه
إلى جهة واحدة مهما توحدت أو كثرت.
فلما اكتملت
الادلة الرسولية والرسالية وتبين القصد من هذه الرسالة ، إذا (فَاتَّقُوا اللهَ) عن خلافي «وأطيعون» فيما أدعوا اليه :
(إِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ٥١.
ذلك هو أول
الأحكام العقائدية المسيحية وكما في (مرقس ١٢ : ٢٩) : «أول الأحكام أن نعرف أن
إلهنا واحد» و «ان الحياة الابدية معرفة الله بالوحدانية وان المسيح رسوله» (يوحنا
١٧ : ٣).
ذلك! فالهرطقات
الدخيلة الكنسية الانجيلية في انه «ابن الله» (متى ٣ : ١٧) و «أول مواليده» (رعب ١
: ٩) وانه «هو الله والكلمة»
__________________
(يوحنا ١ : ١) «الأزلي»
(وعب ٩ : ١٤) ومثل يهوه : «الله» (متى ٢٣ : ٣٤ ولوقا ١١ : ٤٩) وما أشبه ، هذه
الخرافات المتخلفة عن شرعة الله هي من الدخائل الشركية المتسربة المترسبة في
الأناجيل! أم مؤوّلة ، فقد تعني الكلمة التي هو الله كلمة القدرة الذاتية ، والتي
عند الله كلمة القدرة الفعلية ومن مظاهرها السيد المسيح وسائر الخليقة.
(فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ
نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ٥٢.
لقد (أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) بقالاته الرسالية الخمس وأهمها خامستها : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ولم يكن الكفر فقط من اليهود الناكرين لرسالته ، المتهمين
إياه أنه وليد السفاح ، بل وممن صدقه ولكنه غالى فيه أنه ابن الله أو الله ، فقد
هلك فيه اثنان محب غال ومبغض قال ، معركة مصيرية صاخبة لا بد من علاجها الصارم ،
ليس يقوم به وحده فليطلب أنصارا إلى الله ، ف : (قالَ مَنْ أَنْصارِي
إِلَى اللهِ)؟
(أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) لا «أنصاري مع الله» خلاف ما قد يهرف بما لا يعرف من
مداليل الكلام توجيها ل (إِلَى الْمَرافِقِ) في آية الوضوء لتكون «مع المرافق» تحويلا عليلا لدلالته
المزعومة على غاية الغسل في اليدين وهي تعني غاية المغسول «اغسلوا أيديكم» الكائنة
(إِلَى الْمَرافِقِ).
أجل (أَنْصارِي إِلَى اللهِ) إذ لا معية في نصرة الله أن يستنصر المسيح كتلة مع الله ،
شركاء ثلاث فيما يريده الله! ولا معنى للمعية هنا فان الله غاية في مسرح التوحيد
وليس سبيلا.
فإنما تعني (أَنْصارِي إِلَى اللهِ) هنا ما تعنيه في الصف : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ
فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
وَكَفَرَتْ
طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)
(١٤) أن يتناصروا في
سبيل الله والحفاظ على دين الله ، لا أن يشاركوا الله في النصرة الى الله .
إن نصرة الله لا
تعني إلّا نصرة دين الله ، وأما النصرة مع الله فقد تكون إشراكا بالله (وَ ما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٢٩
: ٢٢)
(وَكَفى بِاللهِ
وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً)
(٤ : ٤٥).
وانما سميت
النصارى نصارى لأنهم ـ في ذلك المسرح الحاسم ـ أصبحوا أنصار المسيح إلى الله فهم ـ
إذا ـ أنصار الله بنفس المعنى لا أنهم أنصاره مع الله!.
ف (أَنْصارُ اللهِ) هم أنصار الى الله وفي الله ، وليسوا أنصار المسيح أمن
سواه مع الله ، وتقدير «مع» غير وارد في الاضافة بتاتا ، فانما المقدر فيه بين «من
ـ الى ـ في» والأوسط هو المعني هنا كما تطلبه المسيح (عليه السلام) مهما صحت «في».
وكما تعني (أَنْصارُ اللهِ) أنصارا الى الله ، كذلك تعنيه (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ) فهل انهم بعد أنصار مع الله ، ايمانا مع الله بالله؟ فبمن
يؤمن الله والمسيح والأنصار؟!
ف (أَنْصارِي إِلَى اللهِ) و (أَنْصارُ اللهِ) و (آمَنَّا بِاللهِ) تعبيرات ثلاث عما تطلبه المسيح (عليه السلام) منهم في هذه
المعركة الصاخبة.
فلقد كانت ضرورة
رسولية ورسالية ذلك الاستنصار في بزوغ الدعوة
__________________
حيث ابتليت بإحساس
الكفر وهو ظهوره ، وهذه هي قضية كل دعوة أنها إذا بزغت عارضته النكران والمعارضة ،
فلا بد للداعية أن يستخلص من الجموع كتلة مؤمنة صامدة ليمضي معهم قدما في دعوته ،
فلا تذهب هملا وسدى منذ بدايته ، وكما فعله رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
في بيعة العقبة والرضوان ، تركيزا للطاقات وتجميعا للقوات لاستقامة امر الدعوة.
(رَبَّنا آمَنَّا بِما
أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ٥٣.
وتلك هي غاية
الايمان بالرسول ان يكونوا معه أنصارا الى الله ، ايمانا بالله إسلاما لله وايمانا
بما انزل الله وبرسول الله ، وقد يكون ذلك الايمان الصامد ايحاء لهم من الله اضافة
الى ايمانهم سلفا بالله : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ
إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ
بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) (٥ : ١١١) مما يدل
على قمة الإيمان والإسلام بالوحي ، فهم ـ إذا ـ أصبحوا رسلا مع المسيح تحت ظله ،
ولا تجد تنديدا بهم في الذكر الحكيم إلّا تبجيلا وتجليلا بمثلث الوحي والإيمان
والإسلام.
وترى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) تعني شهادة الأعمال يوم يقوم الأشهاد ، علّه هو مهما عنت
معه سواه ، فكما المسيح شاهد من الشهود يوم يقوم الأشهاد (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) هناك ومنهم السيد المسيح إذ نحن معه أنصار الى الله.
وقد تعني ـ مع ما
عنت ـ الشهادة على تبليغ الرسالة بعد ما شهدوا على حقيقتها ، فهذه معية مثلثة
بمثلث الشهادات ، بفارق ان العبارة عن الأخريين «من الشاهدين» وتختص «مع» بالأولى.
وقد تعني رابعة هي
الشهادة على التوحيد في الشاهدين (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) طلبا ان يكتبهم مع اولي العلم : النبيين ، في تلك الشهادة
الغالية.
وخامسة هي شهود
الله ببصيرة القلب وحقيقة اليقين وكما يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) : اعبد ربك كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك.
وسادسة هي شهود
العراقيل ، وتحمّلها في سبيل الدعوة ، أماهيه من شهادات لابقة لائقة بمن هو من
أنصار الله.
(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ٥٤.
«ومكروا» هؤلاء
الذين كفروا وأحس عيسى منهم الكفر ، دون الحواريين ـ وعوذا بالله ـ إذ هم حقا
آمنوا بالله كما وصدقهم الله ، فانما الماكرون هم الكافرون من اليهود حيث اشتروه
بثمن بخمس دراهم معدودة وسلموه ـ فيما زعموه ـ الى الصليب ، وكما يندّد بهم في
الآية التالية (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ويعظم موقف الحواريين (وَجاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...).
لقد اغتالته
اليهود ليقتلوه ويصلبوه بمكر مكروه (وَمَكَرَ اللهُ
وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) : (وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٤ : ١٥٩).
وتراهم كيف مكروا؟
وليس القتل والصلب مكرا إلا تخفيا واغتيالا!؟.
(وَلكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ) في القدر المعلوم مما تعنيه تبين (وَمَكَرَ اللهُ) أنه ألقي صورة المسيح على ما كره فصلب بديلا عنه ورفعه
الله ، فليس الرفع الجاهر مكرا ، انما هو بعد إلقاء صورة المسيح على ما كره ورفعه
خفية ف «شبه لهم»
ان المصلوب هو
المسيح بما مكروا «ما لهم به من علم الاتباع الظن ..»! واما كيف مكروا؟ (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) تلمح انهم دلوا عليه حيلة وغيلة.
والمكر في أصله
سعي بالفساد في خفية ومداجاة ، وهو هو في الماكرين الضالين من الخلق ، وهو
المقابلة بعملية خافية عدلا وجزاء وفاقا من الله إصلاحا لما أفسد الماكرون.
وقد يروى ان
المسيح مع تلاميذه كانوا في غرفة منعزلة عن بأس اليهود المتربصين به دائرة السوء
فدلهم واحد منهم او من اليهود وهو «يهودا أسخر يوطي» على مكانه فالقى الله شبهه عليه فصلب بديلا عنه ، ورواية
الصلب المفصلة عائدة الى آية النساء ، وعندها قول فصل حول تلك المحاولة الماكرة
وما مكرهم الله ذودا عن ساحة المسيح (عليه السلام).
هنا «شبه لهم» دون
«عليهم» لئلا يخيل إلينا انه مجرد شبهتهم في قتله او
__________________
صلبه ، بل و «شبه»
غير المسيح كالمسيح «لهم» هؤلاء الذين أرادوا قتله ، واما الحواريون فقد بشرهم
المسيح ان الله رافعه اليه وان «ايدي اليهود لم تمسه» : «فأرسل الفريسيون ورؤساء
الكهنة خداما ليمسكوه. فقال لهم يسوع انا معكم زمانا يسيرا بعد ثم امضي الى الذي أرسلني
ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون انا لا تقدرون أنتم ان تأتوا» (يوحنا ٧ : ٣٢ ـ ٣٤).
وفرية المكر على
بعض حواري المسيح (عليه السلام) تدفعها صيانة الحواريين حسب القرآن ، وأن ضمير
الجمع في «مكروا» راجع الى «الذين كفروا» مهما تقدم واحد منهم لتحقيق مكرهم أن
دلهم على مكانه مكرا بما اشتروه منه بثمن بخس دراهم معدودة ليحققوا مكر القتل
والصلب بحقه او وان يهوذا كان حسب الظاهر من حوارييه منافقا في مظهره فدل على
مكانه.
(إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ٥٥.
(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ إِذْ قالَ اللهُ) فالمكران هما متقارنان ، وتوفّيه (عليه السلام) ورفعه هما
من تتمة مكر الله حيث «شبه لهم» أولا ورفعه أخيرا فنجاه من بأسهم وبؤسهم.
وترى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) تعني توفي الموت؟ وهو حسب اللغة ومصطلح القرآن أعم من
الموت! فهو لغويا الأخذ وافيا ، سواء كان توفيا يحلق على الإنسان إماتة : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٣٢ : ١١) حيث
يأخذ الأرواح والأجساد في قبضة الصيانة فلا تضل عنه مهما ضلت عمن سواه ، ام إنامة
: (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٣٩ : ٤٢) حيث تضم
النوم الى خضمّ التوفي وهو أخذ الروح الانسانية عن البدن والروح
الحيوانية باقية
بقية للحياة ، وهما يتشاركان في أخذ الروح الانسانية عن البدن كاملة.
ذلك ، ومن التوفي
أخذ الإنسان بكلا جزئيه عن مسرح الحياة الارضية الى حياةسماوية دون إماتة موتا ام
نوما وهذا هو المستفاد من جماع الآيات بحق المسيح (عليه السلام) ، فليس التوفي هو
الإماتة بعينها مهما كانت منها حيث يتوفى الموت : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) (٤ : ١٥) والموت
لا يميت وانما يأخذ الإنسان وافيا طليقا كما يأخذه النوم نسبيا غير طليق ، وثالث
يأخذه وافيا دون إماتة ولا إنامة.
فهنا (وَرافِعُكَ إِلَيَّ) تعني مسرح الأمن عن بأس الكفار «ومطهرك» أمن عن لعنة الصلب
المختلقة بينهم ، وقد يكفي رفعه الى سماءه تطهيرا له عن بأسه في بعدي الصلب ، قتلا
ولعنا ... صحيح ان الله ليس له مكان حتى تعني (رافِعُكَ إِلَيَّ) مكانا لله ، ولكنه قد يعني مكانا عليا كما تعنيه في إدريس (عليه
السلام) : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) (١٩ : ٥٧) وكما
تعنيه ـ ايضا ـ آيات الرجوع الى الله ، والحياة عند الله (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) والرحمة لدى الله ، إذا ف (رافِعُكَ إِلَيَّ) رفع له الى مكان الأمن ومكانة الرحمة غير الخليطة بأية
زحمة وكما وصفت (إِنَّ لَكَ أَلَّا
تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى).
ذلك ، وتزيده
وضوحا آية النساء : (... وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ... وَإِنْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)
(١٥٩).
فلأن أهل الكتاب
حتى المسيحيين منهم لم يؤمنوا به حتى الآن فهو ـ إذا ـ حي إلى الآن وسوف يؤمنون به
زمن القائم المهدي (عليه السلام) لما يرونه
يصلي وراءه (عليه
السلام) ، وكما «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لليهود إن عيسى لم يمت
وانه راجع إليكم قبل يوم القيامة» .
ثم التحول من مسرح
الحياة الأرضية لا يخرج عن خمس تحولات : قتلا ـ صلبا ـ موتا ـ نوما ـ وانتقالا الى
حياة فوق الارضية في جنة من الكواكب قد
__________________
تكون هي جنة آدم
وقد رفع إليها المسيح (عليه السلام).
والأولان منفيان
بآية النساء : (وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ) وكلّ من النوم والموت له صيغته الخاصة ، فلا يعني رفعه
اليه ـ كما هنا وفي آية النساء ـ إلّا رفعه عن ذلك المسرح النكد البائس ، تطهيرا
لساحته عن مكر الذين كفروا ، وذودا عن سماحته لعنة الصلب ، المزعومة لدى الكنسيين
البولسيين ، فقد توفاه الله أخذا وافيا سليما عن بأسهم ثم رفعه اليه استمرارا
لتوفيه.
فليس رفعه اليه
تعالى ـ فقط ـ رفعا معنويا إذ كان رفيعا في معناه ومغزاه ، كما لا يعني رفعه عن
الحياة ، بل هو رفع عن الحياة الأرضية الى حياة سماوية سامية عاشها أبوانا الأولان
سويعات ، ويعيشها السيد المسيح (عليه السلام) قرونا طائلة حتى ينزل الى الأرض زمن
المهدي (عليه السلام). تلك هي الميزة العيسوية ، ومن ثم للذين اتبعوه :
(وَجاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الفوقية هنا الى يوم القيامة قد لا تشمل نفس القيامة فهي ـ
إذا ـ فوقية تناسب الحياة الدنيا تشريعيا وتكوينيا ، والأول يحلق على كافة
الكرامات والاختصاصات في حقل الأحكام الشرعية ، والثاني قد يعني تفوقا بالحجة ، ثم
تفوقا زمنيا إن قاموا بشروط النصرة الربانية.
و (الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) هم المؤمنون به كما آمن الحواريون ، فهم ـ إذا ـ
__________________
المسيحيون
الحقيقيون المتبعون للسيد المسيح عقيديا وخلقيا وعمليا على مختلف درجاتهم ، ما
دامت رسالته وشرعته محكمة ، ولمّا جاء رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم
المسلمون منهم ومن سواهم ، حيث الايمان بشرعة القرآن هو من قضايا الايمان بشرعة
الإنجيل ، وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : إنها لن تبرح
عصابة من امتي يقاتلون على الحق ظاهرين على الناس حتى يأتي امر الله وهم على ذلك
ثم قرأ هذه الآية.
ذلك وقد تعني هذه
الفوقية ـ بما عنت ـ فوقية المسيحيين الملتزمين على الكافرين بالمسيح ، مهما لم
يسلموا ، شرط إلا يعاندوا من آمن به المسيح (عليه السلام) وهو محمد (صلّى الله
عليه وآله وسلّم).
ولقد نرى تفوق
المسيحيين على اليهود قبل الإسلام وبعده حتى الآن ، مهما اختلقت دويلة العصابات
الصهيونية منذ زمن قريب ، فانها من عملاء الاستعمار المسيحي.
والنقطة الرئيسية
في ذلك التفوق الموعود توفية أجور المؤمنين والعذاب الشديد للكافرين منذ الدنيا
الى يوم الدين كما تبين الآيتان التاليتان ، المفرّعتان هذه التوفية على ذلك
التفوق ، بما انه من أهم درجاته وأعظم مكرماته.
فهذه فوقية روحية
مضمونة للذين آمنوا وخلافها على الذين كفروا على طول خط الحياة في الأولى والأخرى
، وقد تجاوبها الفوقية الزمنية إن قاموا بشرائط الايمان كملا ولم يتركوها هملا
وكما قال الله (لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ). حيث المخاطبون هم المعنيون بآيات
__________________
سابقة في خطابات
لتحقيق حيويّات الإيمان .
وأخيرا ف (الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وهي الدولة العاقبة كل الدول بقيادة المهدى من آل محمد (عليهم
السلام) كما تعدنا آيات وروايات متواترات.
ومن ناحية أخرى
يقرر ربّنا سوم العذاب على كفرة اليهود على طول خط الحياة : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ
رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧ : ١٦٧).
ويقرر بالنهاية
سحقا ماحقا لهم في تلك الدولة الكريمة : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً)
(١٧ : ٩).
وقد (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ
ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما
عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٣ : ١٠٩).
ذلك ، ولدرجات
الايمان مدخل عظيم في ذلك التفوق في الأولى والأخرى ، فهؤلاء هم فوق الذين كفروا
الى يوم القيامة في ميزان الله ، كما انهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر
الكفر ـ بكل حقوله ـ بحقيقة الايمان ، والذين يتبعون محمدا (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) منذ مبعثه هم في الوقت ذاته اتبعوا مواكب الرسل ومنهم المسيح (عليه السلام).
(ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) :
__________________
(فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما
لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ٥٦ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ٥٧.
هنا الايمان والكفر
طليقان ، ايمانا بالمسيح وسواه وكفرا به وسواه ، وإنما الأصل هو الايمان وعمل
الصالحات لتوفية الأجور في الأخرى ، ثم الكفر لتوفية العذاب فيها.
(ذلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) ٥٨.
«ذلك» العميق
المدى الظاهرة الهدى (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) يا رسول الهدى (مِنَ الْآياتِ) الباهرة من كتابات السماء (وَالذِّكْرِ
الْحَكِيمِ) وهو القرآن العظيم.
والآيات هنا تعم
الآيات الرسولية والرسالية ، تكوينية وتشريعية ، (وَالذِّكْرِ
الْحَكِيمِ) خصوص بعد عموم يعني القرآن الكريم فانه راية بين الآيات
وهو غاية الغايات إذ تحمله خاتمة الرسالات.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَتَ
اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)
ها
أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما
لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦)
ما
كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً
وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَوْ
يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا
إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى
أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤)
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ٥٩.
مثل عيسى عند المغالين
بحقه يختلف حقا عن مثله عند الله ، فهم يزعمونه ابن الله او الله المتجسد في
الناسوت ، فهو من جوهرة الألوهية ، ومثله عند الله (كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ...).
فإذا كان خلق
المسيح خارقة أن لم يكن له والد ، فخلق آدم خارقتان أن لم يكن له والدان ، وانما (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) في جثمانه هيكلا ترابيا مثال الإنسان (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) إنسانا في الجسم والروح «فيكون» ما كونه الله آدم وسواه
كما قال الله ، وقد يعني (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) خلق جسمه (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) قولا تكوينيا موجها الى جسمه أن كن إنسانا فهو تكوين روحه
من جسمه ، وهذه عبارة اخرى عن (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) في تخليق بنيه.
وقد تكون «فيكون»
بديلا عن «فكان» إشارة الى استمرارية هذه الكينونة الخارقة للمألوف ، دون اختصاص
بآدم ، حيث ثنّي بالمسيح (عليه السلام) ، ومن ثم في كافة الآيات المعجزات.
فان كان المسيح
لخلقه دون أب ابنا لله فليكن آدم المخلوق دون أبوين أخا لله ، وان كان المسيح لذلك
هو الله فليكن آدم أبا لله ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، ثم وان كان المسيح يستحق
الولادة مجازيا تشريفيا ، فليشرّف آدم بسمة الأخوة لله.
ذلك! ولا يصح المجاز
إلا فيما يمكن حقيقته ، وإذ ليس بالإمكان ابن او أخ لله ، فلا تشريف ـ إذا ـ بمجاز
وسواه ، حيث المجاز هو الحقيقة المجاز إذ يجوز اللفظ ويعبر منه الى ما يشابهه.
تنزل هذه الآية
جوابا عما سأله جماعة من اهل نجران «هل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به؟» فقد تحمل اجابة وافية قاطعة لأعذار مؤلهي المسيح
__________________
ومتبنّيه ،
ومختلقي انتسال آدم من إنسان ام ارتقاء من حيوان!.
وذلك التساءل حدث
بعد ما كتب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى اهل نجران يدعوهم فيه الى
الإسلام .
وهنا المماثلة بين
آدم والمسيح (عليهما السلام) ليست إلّا في فقد الأب ، ثم يختص آدم بفقد الأم ايضا
وخلقه رأسا من تراب ، وقد نابت النطفة الرجولية في خلق المسيح مناب اللقاح الرجولي
، ان خلقها الله تعالى دون صلب وألقاها نفخا الى رحم البتولة العذراء وكما فصلناه
في سورة مريم ، وآدم خلق
__________________
دونما صلب ورحم او
نطفة!.
(الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ٦٠.
أترى ان رسول الله
الهدى امترى في الحق من ربه ، ومنه مثل عيسى في خلقه حتى يخاطب ب (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)؟ طبعا لا وألف كلّا ، فانما ذلك التعبير هو قضية الموقف
حيث المتسائلون لم يكونوا ليسكتوا عن قيلاتهم ، وكأن ذلك المثل لا يحمل حقا من
الله.
لذلك يخاطب الرسول
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من باب «إياك اعني واسمعي يا جاره» تأكيدا لحق الجواب
، حسما لكل مرية هي بعيدة عن جادة الصواب.
فهو ـ إذا ـ ك (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ) ـ (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) وكيف يجوز الامتراء والشك والشرك على من باشر برد اليقين
وتلقى عن الروح الأمين .. او ان الخطاب في «ربك» ليس ليختص بمن لا يمتري ، بل هو
كل من يجوز في حقه الامتراء وهو كل مخاطب سامع للبرهان من المكلفين كائنا من كان ،
فهو خطاب الإفراد شاملا كل الأفراد على سبيل الأبدال فيشمل الذين قالوا ـ فيما
غالوا بحق المسيح (عليه السلام) ـ انه الله او ابن الله ، ف «الحق» كله «من ربك»
الذي رباك يا رسول الهدى ، وكل من يصح خطابه ، دون الغالين الدجالين (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) بحق الحق ، ولا تمار فيه مجادلا عن الباطل ، ومحاجا ضد
الحق ، وقد فعلوا فنزلت آية المباهلة.
__________________
ووجه ثالث ـ علّه
معني مع الأولين ـ ان ليس الامتراء هو الشك فقط بل وهو المماراة والمجادلة بشأن
الحق الجلي مع من لا يخضع لبرهان ، فلما ذا ـ إذا ـ المماراة مع المعاندين (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) فكل أمرك الى رب العالمين مع من حاجك حول الحق اليقين ،
الناصع الأمين :
(فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) ٦١.
هذه من غرر الآيات
بشأن الغر الكرام من آل الكساء (عليهم السلام) ، حيث تعبر عن علي (عليه السلام) ب «أنفسنا»
وعن فاطمة (عليها السلام) ب «نساءنا» وعن الحسنين (عليهما السلام) ب «أبناءنا» مما
يدل على أخص الاختصاصات لهؤلاء بالرسالة القدسية المحمدية (صلّى الله عليه وآله
وسلّم).
هنا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) دون (بِما أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) يحمل توسيعا لدائرة العلم ، فهو علم الوحي بعد العلم
العقلي وقد حصلا معا بتلك المماثلة في (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
..).
وذلك مما يؤكد عدم
عناية الشك من امتراءه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو انه المخاطب ب (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
(فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ) في الحق من ربك ، الذي لا مرية فيه ولا ريبة تعتريه (فَقُلْ تَعالَوْا ...) وهذه دعوة صارحة صارخة في هذه الاذاعة القرآنية الى مباهلة
الكاذبين المصرين على كذبهم بعد صراح الحق المبين ، فقد تجوز المباهلة وتفيد حين
تتوفر شروطها ، إذ ليس الحق ليقف مكتوف الأيدي أمام
__________________
الناكرين المكذبين
، فإما تقبّله ببرهان أم دخول في لعنة الله على الكاذبين.
ولقد دعى الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) الذين كانوا يحاجونه في قصة المسيح (عليه السلام) الى
اجتماع حاشد من أعز الملاصقين من الجانبين ، ليبتهل الجميع الى الله في دعاء قاصع
قاطع ان ينزل لعنته على الكاذبين فخافوا العاقبة وابو المباهلة وتبين الحق واضحا وضح الشمس في رابعة النهار.
ولأن الابتهال هو
التأكد في الدعاء ـ من البهل : الدعاء ـ وليس إلّا في مسرح الاضطرار ، ولا أحق من
حق الله عند اهله ـ حين ينكر ويكذب ولا ينفع الدليل ـ ان يستجاب في ابتهال وقد وعد
الله المضطرين الاجابة (أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
__________________
وحين تستجاب
الدعاء بحقنا فهلا تستجاب بحق الحق ولا سيما من رسول الحق في هذه المعركة الصاخبة
ومعه أخص اهله الطاهرين! والمدعوون في هذه المباهلة ثلاثة (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ـ وَنِساءَنا
وَنِساءَكُمْ ـ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) يدعو كلّ من الطرفين أخصاءه الثلاثة، وقد «دعا رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ـ حسب متواتر الأثر ـ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : اللهم
هؤلاء أهلي» .
__________________
ولأن المباهلة هي
ذات جهتين : الدعاء ، واستدعاء اللعن على الكاذب ، فلا بد ـ إذا ـ ان يكون الأبناء
والنساء والأنفس المدعوون فيها من أعزهم وألصقهم بالداعين وأقربهم الى الله
استجابة للدعاء.
فليس ضم الأبناء
والنساء والأنفس إلّا لتأكيد الاستجابة والدلالة على الحق ، ثقة بالحال وتصديقا
للمقال واستيفاء على خصومه بصدقه وكذبهم ، حيث يستجره على تعريض أعز أعزته وأفلاذ
كبده.
لقد خص هنا
الأبناء والنساء بالدعوة لذلك المسرح الخطير لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلب
ولربما فداهم الرجل نفسه وكل نفيسه.
لذلك كانوا في
الحرب يسوقون مع أنفسهم الظعاين لتمنعهم من الهرب ويسمّون الذادة عنها حماة
الحقائق.
ثم خص أحص خواصه
المعبر عنه هنا ب «أنفسنا» رمزا الى انه لنفسه المقدسة كأنه هو ، ففديته مع نفسه
في هذه المعركة الصاخبة تضحية لنفسه مرتين ، كما أن فدية النساء والأبناء تمثل
فدية اخرى ثالثة.
فآية المباهلة هي
من ابرز الآيات الدالات على موقف الامام علي (عليه السلام) المنقطع النظير مع
البشير النذير ، أن لو كان للرسول (صلى الله
__________________
عليه وآله وسلم)
انفس او نفس أخرى لكانت عليا (عليه السلام) دون من سواه ، وقد اجمع المفسرون والمحدثون
والحفاظ انه لم يصاحبه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ابنيه الحسنين وبنته فاطمة (عليهم
السلام) إلّا عليّ صلوات الله عليه.
فلم يعن من أبناءه
إلا سبطيه ولا من نساءه إلّا فاطمته ولا من نفسه إلّا عليّه ، حيث لا يدعو الإنسان
ـ فيما يدعو ـ نفسه ، اللهم إلّا من هو كنفسه ، ولم يكن معه آنذاك من يمثل نفسه
إلّا علي (عليه السلام).
وهنا تجاوب لا حول
عنه بين الآية ومتواتر النقل ، كلّ يؤيد الآخر ويتأيد هو الآخر بالآخر ... ف «قل»
يا محمد لمن حاجك فيه (تَعالَوْا نَدْعُ) نحن ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وأنتم تدعون كما ندعوا.
ولكن «ندع» في
جانب الرسول واحد هو الرسول ، وفي جانبهم جمع المحاجين ، وليس «ندع» إلا اعتبارا
بالطرفين وهما معا ـ لا محالة ـ جمع مهما كان الطرف الأول مفردا.
ف «أبناءنا» تعني
أعز الأبناء في الجانبين دون تحليق على كل الأبناء ، ولقد انحصروا في جانب الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) في الحسنين (عليهما السلام) ، مما يبرهن على صحة انتساب
أبناء البنات الى الجدود ، وكما نسب المسيح (عليه السلام) إلى ابراهيم (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ
... وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى
وَهارُونَ ... وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى ..) (٦ : ٨٥) وهكذا
يستدل الذرية المعصمومة بالذكر الحكيم أمام الناكرين .
__________________
فاختصاص سهم السادة
بالمنتسبين بالأب ـ فقط ـ الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرافة لا تملك
برهانا من كتاب او سنة ، بل هما يعارضان ذلك الإختصاص.
__________________
و «نساءنا» حيث
تعني كل النساء الآهلات للانتساب اليه (صلى الله عليه وآله وسلم) دون خصوص الأزواج
، نراهن اختصرن واحتصرن في قرة عينه وفلذة كبده فاطمة الزهراء سلام الله عليها ،
مما يبرهن على فضلها ، وانها تجمع في نفسها الخاصة كل الانتسابات الرسالية بين
نساءه بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي ـ إذا ـ مفضلة على كل أزواجه وسواهن
من النساء المنتسبات إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ثم «وأنفسنا» هي
في جانب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتمثل في نفس واحدة هي نفسه (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) ولم يكن معه في مباهلته من غير فاطمته وحسنيه إلّا عليّه (عليهم
السلام).
فلو كان للرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) انفس يمثلونه لكان عليا (عليه السلام) لا سواه.
ذلك وقد تواتر عن
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله بحق هذه المماثلة السامية والمباعضة
الحانية : «علي مني وأنا منه لا يؤدي عني إلا علي»
ـ «علي مني مثل
رأسي من بدني» ـ «منزلة علي مني منزلتي من
__________________
الله»
مما يؤكد هذه
النفسية النفيسة العلوية المحمدية.
فكون علي (عليه
السلام) نفس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يدل فقط على أفضليته على سائر
الأمة بأسرهم ، بل وعلى أفضليته على كافة السابقين والمقربين واولي العزم من
النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ، ولا فارق بين محمد وعلي (عليهما السلام) إلا في
الرسالة ، فهو يساميه فيما سواها من العصمة القمة وسائر المدارج القدسية الروحية
والزمنية بأسرها.
ومهما يكن من أمر فقد
«خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه مرط من شعر أسود وكان قد احتضن الحسين (عليه
السلام) وأخذ بيد الحسن (عليه السلام) وفاطمة تمشي خلفه وعلي (عليه السلام) خلفها
وهو يقول : إذا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو
سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على
وجه الأرض نصراني الى يوم القيامة ..» .
__________________
وما أبلغه حجة ان
يباهلهم بعد برهانه المبين ، تعريضا عريضا على كذبهم دونه بجمع «الكاذبين» تأكيدا
أنهم هم جمع النجرانيين دونه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كان واحدا في تلك
المجابهة مهما حمل معه حسنيه وفاطمته وعليّه (عليهم السلام) تأكيدا للحجة وإيضاحا
للمحجة.
ذلك! وكما أن في «ونجعل»
دون «ونسأل» تأكدا بنزول اللعنة لا محاله ، ولم يكن إحضار هؤلاء الأربعة كنماذج عن
الباقين ، وإلا لكان المفروض إحضار اقل الجمع من كلّ من الثلاث ، ولكن الجمع الأول
اختص في مسرح المباهلة بحسنيه والجمع الثاني بفاطمته والجمع الثالث بعليّه مما يدل
على حصر تلك الأهلية فيهم وحسرها عمن سواهم.
__________________
ومن الطريف حوار
بين الامام الرضا (عليه السلام) والمأمون حيث قال : ما الدليل على خلافة جدك علي
بن أبي طالب؟ قال : آية أنفسنا ، قال : لولا نساءنا قال : لولا أبناءنا .
فقد عنى المأمون ب
«لولا نساءنا» انها دليل كون الأنفس هم كل الذكور بقرينة المقابلة فليسوا هم عليا
فحسب ، فأجاب «لولا أبناءنا» ان لو عني ب «أنفسنا» الذكور لشملت الأبناء ، فإفراد
الأبناء دليل اختصاص «أنفسنا» بذكور خصوص ، وهو رجل خاص : علي (عليه السلام) ، حيث
حمل كل نفسيات الرسول في شخصه الشخيص ، فلو كان هناك انفس للنبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) يمثلونه لم تكن إلّا عليا (عليه السلام) الذي هو بدوره نفس الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) إلا في رسالته ، فلا دور لما أورده بعض المجاهيل على انطباق
أبناءنا على الحسنين لمكان التثنية ونساءنا وأنفسنا على فاطمة
__________________
وعلي (عليهما
السلام) لمكان الإفراد ، لأن ذلك من باب الانطباق دون الدلالة اللغوية.
فقد عني من «نساءنا»
أخص النساء وألصقهن بالمباهلين فانحصرن للنبي بفاطمة (عليها السلام) ومن أبناءنا
أخص الأبناء فانحصروا بالحسنين ، بل ولم يكن له أبناء غيرهما ، ثم ومن أنفسنا خير
الممثلين للمباهلين ولم يكن للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الا علي (عليه
السلام) ، واما نساءكم وأبناؤكم وأنفسكم فهم كثرة حسب عديد المباهلين الكاذبين
مهما لم يكونوا حضورا إذ طلب منهم إحضارهم ولكنهم تحاشوا عن ذلك المسرح الخطير
بقية على أنفسهم وأهليهم.
ولقد نرى من ذكر
الجمع وارادة مصداق واحد عديدا في الذكر الحكيم ، ك (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥ : ٥٥) ولا
مصداق له الا علي (عليه السلام) حيث زكى في ركوع الصلاة ، فكان (الَّذِينَ آمَنُوا) عنوانا مشيرا إلى خصوص ذلك المصداق.
وكذلك الجموع التي
نزلت بشأن الوحدات تعميما للأحكام التي تضمنها ك (الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) (٥٨
: ٢)
(وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا
لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا
__________________
إِنَّ
اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) (٣
: ١٨١)
(وَيَسْئَلُونَكَ ما
ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢ : ٢١٩) وما
أشبهها من آيات تذكر جموعا وموارد النزول وحدات ، ام تعني وحدات تجمع في أنفسها
كيان الجموع كما (إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً) (١٦ : ١٢٠) أمّاهيه؟.
ذلك ـ وحين نرى
الإخوة في الدين ـ ككل ـ هم حسب القرآن انفس إخوانهم كما (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا
عَلى أَنْفُسِكُمْ) اجراء للاخوة بالديانة مجرى الاخوة في القرابة ، فبأحرى ان
يكون علي (عليه السلام) نفس الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل أنفسه لو كانت
له انفس او من يمثلونه.
وإذا وقعت النفس
في بليغ العبارة على البعيد النسب كانت أجرى ان تقع على القريب النسب والسبب.
ومن غريب التهريف
في التحريف أن عليا (عليه السلام) أريد هنا من «أبناءنا» دون «أنفسنا» فرارا عن الإقرار
له بتلك المنزلة الكريمة ، ثم وبماذا يفسر «أنفسنا» والداعي أول الحضور فكيف يدعو
نفسه؟.
فآية المباهلة ـ إذا
ـ هي من اظهر الآيات البينات على القدسية القمة لهؤلاء الأربعة ولا سيما علي (عليه
السلام) حيث احتل في قدسيته القمة المحمدية وكأنه نفسه المقدسة ، فهما ـ إذا ـ روح
واحدة مهما تعددا في البدن ، وتفارقا في ظاهر الرسالة الأخيرة!.
__________________
ومما تدل عليه آية
المباهلة ان أبناء البنت هم أبناء أبيها كما هم آباءهم فان «أبناءنا» لا تعني الا
الحسنين.
إذا فكل أبناء
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من فاطمة هم ذريته دون فرق بين المنتسبين
بالأب والأم او المنتسبين بأحدهما إليها سلام الله عليها.
ولا دليل لمن يختص
سهم السادة بالمنتسبين إليها بآباءهم الا الشعر والحديث الجاهليين فليضربا عرض
الحائط فان «ادعوهم لآبائهم» انما هي للأدعياء ، فهل ان الحسنين ـ كذلك ـ من
الأدعياء؟.
(إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ٦٣.
«القصص» ككل هو
اتباع الأثر تحسسا عما فيه أثر لتبني الحياة الحسنى ، وهكذا يقص القرآن القصص الحق
الذي لا مرية فيه ، رفضا للقصص الباطل الذي ملأ الأجواء المضللة.
«ان هذا» الذي قص
من قصة الحوار بين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونصارى نجران (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) وهو المختصر المختصر (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن ذلك التوحيد الوحيد ، الى توحيد الثالوث ـ بزعمهم ـ الوهيد
(فَإِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) عقيديا ـ ف :
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ) (٦٤).
الشرائع الكتابية
مهما اختلفت في البعض من طقوسها العبادية ليست
لتختلف في توحيد
المعبود ، فانه الميزة البارزة القمة للشرعة الكتابية عن الإشراك بالله والإلحاد
في الله ، فالتزام الكتابي بتوحيد الله حق مشترك لا حول عنه إلّا للمرتد عن كتب
الله الداعية إلى توحيد الله ، وانها كلمة جامعة قامعة وقد أتت في كتابات للرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) يدعو فيها الملوك والشيوخ والزعماء إلى الإسلام وكما نقرؤه
في كتابه الى هرقل عظيم الروم .
وهذه الدعوة هي
القاطعة القاصعة في كل حوار ان يتبنى المحاورون كلمة سواء بينهم ، ولا سواء بين
الكتابيين أفضل وأحرى بالبناء من كلمة التوحيد ، وهكذا ندرس من القرآن كيف نحاور
معارضينا كحجة أخيرة حين لا تنفع سائر الحجج وكما نراها هنا بين الرسول (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) والكتابيين.
وكما أن كلمة
التوحيد هي كلمة سواء بيننا وبين كافة الموحدين ، كذلك القرآن كلمة سواء بيننا نحن
المسلمين ، فنحن المتابعون للقرآن كأصل هو رأس الزاوية في كل الاسلاميات ، نقول
للذين اخلدوا الى دراسات غير قرآنية ، تعالوا إلى كلمة القرآن وهي سواء بيننا
وبينكم ، أن نتبناه في كافة الأصول والفروع.
ألستم تقولون إن
القرآن هو الدليل الاول والمحور الأصيل ، فلما ذا لا
__________________
نجده أصيلا في
دراساتكم الحوزوية ، وإذا أقبل طلاب مظلومون الى ذلك الكتاب المظلوم تتقولون في
نواديكم المنكرة انهم ليسوا من طلاب الحوزة الرسميين؟!.
وترى (أَهْلَ الْكِتابِ) ككل كانوا يعبدون غير الله ، والشرعة الكتابية ـ ككل ـ هي
شرعة التوحيد وهم كانوا يطعنون في رأي من عبد غير الله تعالى من مشركة الأمم
ومؤلهي الصنم؟.
اجل فإن منهم من
يعبدون المسيح كما الله حيث اعتقدوا فيه انه الله او ابن الله ، فعبادته ـ إذا ـ هي
عبادة الله! : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (٥ : ١١٦).
ومن ثم فهم عظموا
رؤساءهم ورحبوا علماءهم وقلدوهم في التحليل والتحريم والتأخير والتقديم وتقحموا ما
قحّموهم من فاسد العقيدة والمذاهب الرديئة ، قلدوهم كأنهم آلهة إلّا الله ، تقليدا
طليقا يحلق على ما يناحر العقلية الكتابية ونصوصها : (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
..) (٥ : ٣١).
ذلك وكما نراهم
يركعون ويسجدون للصليب ولتمثال المسيح ، بل ولعلمائهم ، سجودا وتكفيرا وتضاءلا
وخضوعا بالغا ـ كما لله ـ لكبرائهم وديانيهم واولي التقدم في دينهم ، وكذلك ملاك
أمورهم زمنيا او اقتصاديا او ثقافيا ، يطيعونهم حين لا يطيعون الله ، فالربوبيات
الواقعية تربويا لا بد وان تنتهي الى ربوبية الله دونما محادة ومشاقة.
ففيما يسئل رسول
الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ما كنا نعبدهم يا رسول الله! يقول : أما
كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ فقال :
نعم فقال : هو ذاك
.
فالتوحيد الحق هو جماع
التوحيد المحلّق على وحدة الذات وهي مع الصفات والصفات مع بعضها البعض ، ووحدة
الخالقية والمعبودية والطاعة وما الى ذلك من شؤون الألوهية والربوبية في وحدات ،
فمن نقض واحدة منها فقد نقض كامل التوحيد ، داخلا في الإشراك بالله ما لم ينزل به
سلطانا.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) لله في كامل توحيده وأنتم غير مسلمين له.
فالمسلمون لله هم
المعتقدون المحققون كامل درجات التوحيد ، خصيصة تميزهم عمن سواهم ، وأهم مراحل
التوحيد هي توحيد العبودية والطاعة ، فهو التحرر الطليق عن كل عبودية او طاعة سوى
الله ، اللهم إلّا بأمر الله كطاعة رسول الله ، وأما العبودية فكلّا.
في حقول الانظمة
الأرضية تتوفر عبادة من دون الله واتخاذ بعض بعضا أربابا من دون الله ، سواء أكان
في أرقى الديمقراطيات ام في أحط الدكتاتوريات ، مهما كانت تلك العبوديات في سجود
او ركوع ام في طاعات طليقة لغير الله.
ولكن النظام
الاسلامي السامي يحرر الإنسان عن كل عبودية وطاعة لمن سوى الله ، حيوية سليمة
طليقة في بعد واحد هو الله.
ولقد تركزت الدعوة
التوحيدية الموجهة الى اهل الكتاب إلى مثلثة الجهات ، رفضا لثالوث العبوديات.
١ (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) في أية مرحلة من مراحل العبودية ، في السيرة
__________________
والصورة ، في قالة
وحالة أماهيه.
٢ (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) فيما يختص بساحة الربوبية ، في اية دركة من دركات الإشراك
بالله قالة وحالة وفعالة ، عبادة وطاعة وتأثيرا في تكوين او تشريع.
٣ (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) في الربوبية الخاصة بالله ، وسائر الربوبيات المناحرة
لربوبية الله.
وفي (بَعْضُنا بَعْضاً) برهانان اثنان أحدهما على بطلان الربوبية في هذا البين
لمكان المباعضة ، إذ لا يمتاز بعض عن بعض لمشاركتها في الكيان أيا كان ، وثانيهما
على ان الله ليس كمثله شيء فلا مباعضة بين الرب والمربوبين فلذلك يستحق هو
الربوبية لا سواه.
فمهما كان لبعض
على بعض ـ في المتشاركين ـ فضل ، وليس ليأهل ربوبية على قسيمه ، فانها غنى مطلقة
والربوبية فقر مطلق.
فيا له برهانا ما
أوضحه على كلمة التوحيد (لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ) في جميع شؤون الألوهية ، كلمة سواء في العقلية الإنسانية
والكتابية ، فالمتولي عنها متول عنهما على سواء.
وقد ينضم ثالوث
السلب في «لا إله» كما توحيد الإيجاب في «إلّا الله» ولا تعني ساير كلمات التوحيد
وعباراته إلا كلمة الإخلاص هذه (لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ).
وخطاب اهل الكتاب
ـ ككل ـ بكلمة سواء ، تنديد بهم في كافة الانحرافات والانجرافات عن التوحيد الحق ،
هودا كانوا او نصارى ام ومسلمين : (وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).
فليست صيغة «الإسلام
ـ و ـ المسلمون» مما تصوغ كامل التوحيد ، كما وأن صيغة التهود والتنصر ليست لتصوغ
الإشراك بالله ، ف (لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).
وليست (كَلِمَةٍ سَواءٍ) ـ فقط ـ لفظة تقال مهما تأولوها بما لا تعنيه كتوحيد
التثليث او التثنية أماهيه ، ام كانت اعمالهم واتجاهاتهم تضادها ام لا تتجاوب معها
، فقد تعني كلمة التوحيد بعد قالها حالها واعمالها في كافة مدارجها ، فهي التي
يقول الله عنها «كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».
ويا له حوارا ما
أجمله وأنصفه ان يدخل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه والذين معه في جموع
اهل الكتاب ل (كَلِمَةٍ سَواءٍ) دون ان يختصهم بمثلث النهي ، لئلا يكون تعريضا عليهم صراحا
، فانما هو ختام للجدال بالتي هي احسن بأنصف النصفة وهو الالتزام بما هو لزام
الشرعة الكتابية لأهلها هودا ونصارى ومسلمين.
ثم وأخيرا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن (كَلِمَةٍ سَواءٍ) ـ (فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) دونكم دون «أنتم كافرون».
وهنا ندرس من ادب
الحوار الرسالي لكل داعية أنه ـ ككل ـ استجاشة للفطرة والعقلية الانسانية
والوحدوية الكتابية ما يقرب الى الحق ، او ـ لأقل تقدير ـ لا يغرب عنه ، دونما
سباب او انتقام في الخصام.
فرغم عدم السواء
في كلمة التوحيد بيننا وبينهم واقعيا يوجههم الله إليها مبدئيا كتابيا ، ف (سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) بسند الشرعة الكتابية بعد سناد الفطرة
والعقلية
الانسانية فالمتخلف عنها متخلف عن الكلمة السواء مهما كان مسلما او من هود او
نصارى.
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)
(٦٥).
لقد حاج أهل
الكتاب رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إبراهيم كأنه يهودي أو نصراني ،
حجة واقعية من الرسالة الإبراهيمية المقبولة لدى الكل ، فتهوده او تنصره قد يقضي
على (كَلِمَةٍ سَواءٍ) او يتهافتان.
ولكنهم محجوجون في
هذا المسرح قبل كل شيء بأنه (ما أُنْزِلَتِ
التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) فكيف يعقل تهوّده وتنصره (أَفَلا تَعْقِلُونَ)
(أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا
هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) (٢ : ١٤٠).
ذلك ولقد جرت
العادة للمبطلين ان يضموا أنفسهم الى قادة المحقين لكي يبرروا باطلهم كأنه حق ، حينما
كلّت كل حججهم عن إثبات الباطل وتزييف الحق.
(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
(٦٦).
المحاجة الحقة
الصادقة هي التي تتبنى العلم ، والتي لا تتبناه هي من الباطل ، فلتكن لأهل الكتاب
محاجّتان اثنتان حقة وباطلة ، فما هي الأولى؟ والأخيرة ظاهرة من تلك الحوار ، من
المحاجة الحقة للنصارى ما احتجوا به لإثبات رسالة السيد المسيح على اليهود وهم
ناكروها ، ومنها لليهود عليهم ما احتجوا به لإبطال ألوهية المسيح والتثليث أماذا
من حجاجات حقة بينهم أنفسهم.
ومن الباطلة
احتجاجها على المسلمين بالتهود والتنصر لإبراهيم الخليل تثبيتا لاختلاقاتهم
المعارضة للشرعة الكتابية ، والحجاج الحقة ليست لتثبت الحق في الحجاج الباطلة ،
وإنما يقدر كل بقدرة.
(ما كانَ إِبْراهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ)
(٦٧).
لأن التهوّد
والتنصر اختلقا منذ نزول التوراة والإنجيل ، وهما ـ دون ريب ـ أنزلتا بعد إبراهيم (عليه
السلام) فمن المستحيل كون ابراهيم يهوديا او نصرانيا حتى يتمسك في صحتهما بشيخ
المرسلين.
ولكن يبقى سؤال :
كيف يشك أي ذي مسكة أو سفيه أن ابراهيم الذي عاش قبل نزول الكتابين يقرون هو يهودي
او نصراني ، حتى يتطلب ذلك النقاش العريض في عديد من آي الذكر الحكيم؟.
والجواب أن كلّا
من الهود والنصارى كانوا ـ ولا يزالون ـ يدعون ان الشرعة الإلهية هي شرعة التوراة
او الإنجيل ، امتدادا زمنيا خلفيا وأماميا مهما جاء بهما الرسولان ، فليكن ابراهيم
ومن قبله ومن بعده إلى يوم القيامة هودا او نصارى : (وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) فالنبيون الاوّلون والآخرون والذين معهم هم هود في الأصل
او نصارى حتى يستحقوا دخول الجنة.
ومن الامتداد
الخلفي المدّعى : (أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا
هُوداً أَوْ نَصارى ..) (٢ : ١٤٠).
فبناء على هذه
الضابطة المدّعاة ابراهيم الخليل (عليه السلام) هو من الهود او النصارى ، وقضية
الشرعة التوراتية أو الإنجيلية هذه التي نعتقدها فنحن ـ إذا ـ من أتباع إبراهيم
الخليل (عليه السلام).
والقرآن يزيف في
آيات عدّة أولا نزول التوراة والإنجيل إلّا من بعد ابراهيم ، ثم وفي أخرى يصرح
بعديد الشرايع الإلهية : (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٥
: ٤٨)
(لِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ)
(٢٢ : ٦٧).
وذلك هو الشأن
الشائن كل الطائفيّين المتصلبين ، كأن شرعتهم هي شرعة الكل ، فالمتخلف عنها خارج
عن شرعة الله ، تنديدا بسائر كتابات الوحي ورسالاته بأممها.
وترى (حَنِيفاً مُسْلِماً) ليس رجوعا الى مثل الدعوى وقد أنزل القرآن من بعده؟.
كلّا ، حيث
الإسلام هو التسليم لله في كافة الأدوار الرسالية ، فالنبيون والذين معهم كلهم
كانوا مسلمين لله وكما في آيات عدة ، وما اختصاص المسلمين الآخرين باسم الإسلام ،
إلا لمقابلته بالذين يكفرون بشرعة القرآن ، وانها لم تحرّف أو تبدّل فحفظ إسلامه
سليما كما أنزل دون سائر كتابات الوحي حيث حرفت عن جهات اشراعها اصلية وفرعية.
(وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) تأييد أكيد للمعني من إسلام إبراهيم ، فان قضيته التقسيم
إلى مسلم ومشرك ، وكل المسلمين لله في الأدوار الرسالية مسلمون ومن سواهم مشركون
او ملحدون.
وهنا تنحل المشكلة
في محاجتهم فيما ليس لهم به علم ، إذ كانوا يعلمون نزول التوراة والإنجيل ولكنهم
يجهلون ان ليسا هما كتابي الشرعة الإلهية الممدودين خلفيا وأماميا.
هذا ابراهيم ، ثم
ومن هو أولى به انتسابا روحيا هو الأولى في كل الحقول الروحية :
(إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)
(٦٨).
ليس الأولى بإبراهيم
من يدّعون تهوّده وتنصرّه كذبا وزورا ، ولا المنتسبون إليه سببا او نسبا ، انما هم
الذين اتبعوه في حنفه وإسلامه (وَهذَا النَّبِيُّ ...).
فلقد اختصت
الأولوية هنا بالذين اتبعوه وبهذا النبي الذي هو في الحق متبوعه في محتد الإسلام ،
(وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ) على طول خط الرسالات دون فارق بين مؤمن ومؤمن إلا بفارق
درجات الايمان ، دون سائر الفوارق المختلفة المختلقة ، عنصرية أو اقليمية أو
طائفية أماهيه.
ذلك ـ فكذلك إن
اولى الناس بمحمد للذين اتبعوه ، لا الذين انتسبوا اليه بسبب او نسب ام عاصروه
وصاحبوه ، مهما كان الاولى بالقرابة والطاعة اولى من وليه بالطاعة لأنه مجمع
النورين وكما يروى عن علي (عليه السلام) : فنحن مرة اولى بالقرابة وتارة اولى
بالطاعة .
ويروى عن النبي (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) «ان ولي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من أطاع الله
ورسوله وان بعدت لحمته وان عدو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من عصى الله ورسوله
وإن قربت قرابته»
و : إن أولى الناس
بالنبي المتقون فكونوا أنتم بسبيل ذلك فانظروا لا يلقاني الناس
__________________
يحملون الأعمال
وتلقوني بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي ثم قرأ هذه الآية .
فصاحب الطاعة اولى
بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من صاحب القرابة ، والجامع بينهما أولى من
صاحب الطاعة ، كما وان القريب العاصي أغرب من الغريب العاصي وكما قال الله في نساء
النبي : (يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ .. يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ
مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).
وانها ضابطة ثابتة
على مدار الزمن الرسالي ، أن الأصل في الأولوية إيجابية وسلبية هي الطاعة إيجابية
وسلبية ، ثم تزيدها القرابة بدرجاتها درجات أم دركات.
وهذه الصورة
الوضائة المشرقة هي ارق صورة للتجمع الانساني لمجمع واحد ، تمييزا له من القطيع ،
صورة تسمح بتلك الوحدة العريقة غير الوهيدة دون قيود إلا ما يختاره الإنسان من
صالح العقيدة والعملية.
فبامكان الإنسان
أيا كان أن يغير عقيدته وعمله من طالح الى صالح او من صالح إلى طالح فيدخل نفسه في
صالحين ام طالحين ، وليس بامكانه ان يغير لونه وميلاده ونسبه ، مهما كان يملك ان
يغير لغته او شغله او طبقته بصعوبة ، فتبقى الحواجز ـ إذا ـ سارية المفعول لولا
عامل الوحدة العقيدية التي يقرب كل غريب ويغرب كل قريب.
__________________
(وَدَّتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)).
(وَدَّتْ ... لَوْ) تحيل ذلك الإضلال المرتجى (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) و «لا يضلون» في
ودهم هذا (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) حيث يتضاعف ضلالهم وعذابهم بما ودّوا (وَما يَشْعُرُونَ) أنهم (ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).
ذلك وحتى (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) إن لم تقوموا بشرائط الايمان فإضلالهم راجع بالنتيجة إلى
أنفسهم حيث يزدادون جزاء وفاقا : (وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) (٢٩
: ١٣) (لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)
(١٦ : ٢٥).
ففيما لا يضل منكم
بإضلالهم فالحصر حقيقي دون ريب ، إذ ظلت محاولة الإضلال فاشلة إلّا في أنفسهم إذ
يزدادون ضلالا ، وفيما يضل البعض ، فليس الراجع الى المضلّل إلّا ضلال إلى ضلال ،
والمضلّل إنما ضل بسوء اختياره ، فالحصر نسبيّ والخاسر الأصيل هو المضلّل ف (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (٤١
: ٤٦) (مَنْ كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (٣٠ : ٤٤).
ذلك! ولان ذلك
الودّ المضلّل ليس عن إيمان بباطلهم وكفر بحقهم وإنما حسدا وليكونوا سواء : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ) (٢
: ١٠٩)
(وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) (٤
: ٨٩).
ومن إضلالهم إياهم
قولتهم : أنتم تؤمنون بموسى والمسيح كما نحن مؤمنون فما هو برهانكم على رسالة محمد
ونحن به كافرون؟ والجواب أننا نؤمن بالمسيح الذي بشر بمحمد (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) لا المسيح الله او ابن الله
او خاتم الرسل
الناكر لرسالة خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ومنه ان النسخ قول
بالبداء وان الله يجهل ثم يعلم ، والجواب أنه يبين أمد الحكم السابق قضية المصالح
الوقتية في الأحكام المتبدلة ، ثم لا نسخ في أصول الدين وجذور الأحكام ...
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)
(٧٠).
(أَهْلَ الْكِتابِ) هم كلهم ، و «تكفرون» لا تعني ـ فيما عنت ـ صراح الكفر
بالله ، فانما بآيات الله مهما استلزم الكفر بالله.
و (بِآياتِ اللهِ) تعم آيات الربوبية والآيات الرسولية والرسالية ، ومنها هنا
آيات البشارات بالرسالة المحمدية (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الموجودة في كتابات
العهدين عتيقة وجديدة ، كما ومنها الآيات التي كانوا يحرفونها ، وقضية الأهلية
الكتابية تصديق ساير آيات الوحي ثم (وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) ها ، أنها آيات الله ، لأنها في كتاباتكم ، ولأنها في هذه
الرسالة تشبه سائر الآيات الرسالية وزيادة.
(وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) مشاهد المسلمين بهذه الرسالة ، وإذا خلا بعضكم إلى بعض
تصدقون ، (وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) انطباق آيات البشارات على هذه الرسالة السامية.
(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بهذه الآيات أنها حقة في أنفسكم وفيما بينكم.
(وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) عليها في مشهد المسلمين ، فكل هذه الشهادات هنا معنية حيث
المتعلق المحذوف ل «تشهدون» طليق يليق أن يكون كلا من هذه الأربع مهما اختلفت
معانيها ، حيث تتوحد في التنديد بذلك الكفر الماكر ، وانه من أنحس الكفر وأتعسه.
إنهم يكفرون بآيات
الله ـ مطلعين على البشارات وغير مطلعين ـ لا لنقص في الدليل ولكنه المصلحية
والتضليل ، فتقرعهم بينات الآيات بواقع موقفهم المريب المعيب.
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ)
(٧١).
ولقد كانوا يلبسون
الحق ويغمرونه في غمار الباطل ، الأمر الذي درجوا عليه منذ البداية وحتى اللحظات
الحاضرة ، يقدمهم اليهود ويتبعهم النصارى ، و «إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع
وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالا فلو أن الحق خلص لم
يكن للباطل حجة ولو أن الباطل خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث
فيمزجان فيجيئان معا فهنالك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من
الله الحسنى» .
فلبس الحق بلباس
الباطل ولبس الباطل بلباس الحق شيطنة مدروسة على مدار الزمن الرسالي يصطاد بها
السذّج البله الذين لم يعرفوا الباطل والحق حقهما فهم همج رعاع ، أتباع كل ناعق
يميلون مع كل ريح ولا يلجأون الى ركن وثيق.
والمهمة الأولى
والأخيرة لهؤلاء المناكيد كتمان الحق حتى لا يتّبع ، أن يلبس بالباطل كما يلبس
الباطل بالحق ، والحق ضائع في المسرحين.
(لِمَ تَلْبِسُونَ ...
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لبسكم ، و «تعلمون» الحق والباطل ، وأنتم اهل الكتاب الذي
يعرّفكم الحق والباطل فلم تلبسون؟.
__________________
لقد نرى ـ منذ
بزوغ الإسلام حتى الآن جموعا من اهل الكتاب ـ ولا سيما المستشرقين والمبشرين
الصليبيين ـ يدسون في التراث الإسلامي ككل ، اللهم إلا القرآن المصون عن كل تحريف
بما وعد الله ، دسا في الأحاديث والأحداث والتاريخ وعامة التراث وحتى في مختلف
التفسير للقرآن لحد تركوه تيها لا يكاد الباحث غير الدقيق يهتدي فيه إلى معالم
الحق.
فهناك شخصيات
مدسوسة على الأمة الاسلامية ، مغروسة في أصول حقولها ليؤدوا لأعداء الإسلام من
خدمات هامة لا يملكها الأعداء الظاهرون.
وفي الحق إنهم هم
حملة الفتن الهدامة في أمة الإسلام ، وعلى أعقابهم كتل ساذجة جاهلة او متجاهلة
يحسبون هذه الدسائس من صلب الإسلام ، ويتهمون ناكريها بأنهم خارجون عن الدين : أتنكر
حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أنت منكر روايات الائمة من آل الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) وأنت أنت وحدك ترد ما اشتهر بين جماهير المسلمين ، وجادت به
أقلام المؤلفين؟!.
وليتهم في خضمّ
هذه المعارك الصاخبة رجعوا الى عقليتهم الإسلامية ، إلى القرآن الناطق بالحق ،
الفرقان بين كل باطل وحق ، وكما أمرهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما
يقول «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه حبل الله
المتين وسببه الأمين ...».
ولو ان القرآن
احتل الأوساط العلمية والعقيدية اختل الدس والتجديف في كل حقوله ، ولكنّما
المحاولة المستمرة في الوسط الاسلامي ـ وحتى الحوزات العلمية ـ مستمدة من الوسط
الكتابي المستعمر المستحمر ، إنها لا تزال تعمل في إبعاد القرآن وتسفيره عن حوزة
الامة وحيازتها ، اكتفاء بقراءته وتجويده في عبارته ، وتجاهلا عن حق دراسته
وممارسته.
نرى لبسهم الحق
بلباس الباطل بمختلف المحاولات المضلّلة من قالات وفعالات ومنها :
(وَقالَتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
(٧٢).
وقد تعني الآية
وجوها يتحملها الأدب لفظيا ومعنويا ان :
١ «آمنوا بما انزل
على الذين آمنوا» ككل (آمَنُوا وَجْهَ
النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ).
٢ «آمنوا بما انزل
وجه النهار» «واكفروا» به «آخره».
٣ «آمنوا بما انزل
وجه النهار» «واكفروا» بما انزل عليهم «آخره».
والجمع المعني
منها هو الايمان النفاق البارز ببديل الكفر عن الايمان (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وهذه المنافقة
اللئيمة مما تؤثر بطبيعة الحال في الذين لم يقع الايمان موقعه المكين في قلوبهم ،
فحين يرون طائفة من اهل الكتاب يؤمنون يزدادون إيمانا ، وحين يرونهم يكفرون بعد
إيمانهم يرجعون.
ولقد خاب سعيهم
بما أوضح الله من كامن كيدهم وميدهم ، أن سراع الكفر بعد الإيمان ليس من صادق
الإيمان ، ولينتبه المسلمون على طول الخط أنه من مكائد الكتابيين ـ اللئيمة ـ فلا
يدخلوا في هوّاتهم بغوّاتهم.
وهذا أمكر طريقه
وأنكرها في تضليل البسطاء وضعاف العقول ، حيث يوقعهم في البلابل ، إذ يظنون أن أهل
الكتاب اعرف منهم بالبيئة الكتابية ، فإذا ارتدوا بعد إيمانهم لم يكن ذلك الارتداد
إلّا بسبب اطلاعهم ـ بعد تطلعهم الصحيح ـ على بطلان هذا الدين!.
ولقد تطرقوا في
هذا الكيد اللئيم طرقا شتى تناسب مختلف الحقول وشتى العقول ، فاختلقوا جيشا جرارا
بصورة مثقفين فائقين في مختلف العلوم وهم يحملون اسم الإسلام لا لشيء إلا
لانحدارهم من سلالة اسلامية ، رغم انهدارهم عن سلالة الإسلام.
فهم قد يدقون على
تقدمية الإسلام وأخرى على رجعيتها دعاية ضالة للتفلت عنه ، وإبعادها عن مختلف
مجالات الحياة وجلواتها إشفاقا عليها!.
ولا فحسب في
ميادين العلوم التجريبية ، بل وفي العلوم الإسلامية نفسها حيث يمحورون القيلات الشتات
التي هي ويلات على المسلمين ، تاركين كتاب الله وراءهم ظهريا.
فهؤلاء وأولاء ـ وهم
مسلمون! ـ يشاركون ـ جاهلين او متجاهلين ام ومعاندين ـ يشاركون رأس الثالوث الماكر
وهم طائفة مستشرقة ومبشرة من اهل الكتاب ، فهم شركاء ثلاث في سالوسهم بثالوثهم
تأدية لدور التضليل.
(وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى
أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)
(٧٣).
(وَلا تُؤْمِنُوا) من خطاب أهل الكتاب بعضهم بعضا (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) من المسلمين المضللين ومن إخوانكم ـ ككل ـ في الدين ،
والايمان له ليس كالايمان به او ايمانه او معه ، انما هو الوثوق والاطمئنان إلى
إخوتهم في دينهم ، فأسرّوا إليهم وجاهروهم كما تحبون.
(قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى اللهِ) لا هدى الهوى التي أنتم تبغونها ، فهدى الله تعالى طليقة
عن عنصريات وقوميات وطائفيات أو لغات ، ومن هدى الله طليقة
(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) سواكم (مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من شرعة الله وسلطانه ، ولا تعني هذه المماثلة إلّا في اصل
الوحي والشرعة دون درجاتها.
فإذا (يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) فآمنوا به ولهم «او» إذا توليتم (يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) لماذا كفرتم به وأنكرتموه ، ألأن فضل الله بأيديكم؟ (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) لا من تشاءون (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) دونكم أنتم اللئام المتضايقون الأضنّة.
ان الشراسة
الاسرائيلية وتصلّبها العنصري كانت ولا تزال تخيّل إليهم أنهم هم الشعب المختار ،
اختار الله لهم شرعته إلى يوم الدين ، دونما أية حجة وبينة ، صدا عن سبيل الله
وسدا عن فضل الله وهداه إلّا لهم أنفسهم ، فمن سواهم أتباعهم على طول الخط الرسالي
، كلّا! (وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ) :
(يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
(٧٤).
اختصاصا في
الأدوار الرسالية لكل رسالة برسول ، واختصاصا للرسالة الأخيرة بخاتم النبيين وأفضل
الخلق أجمعين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٤٣
: ٣٢)
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (١٧
: ١٠٠).
ذلك! وليس اهل
الكتاب كلهم كفرة ناكرون ماكرون بل هم كما يقول الله :
(وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ
(٧٩) وَلا
يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
فَمَنْ
تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
أَفَغَيْرَ
دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً
وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
قُلْ
آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى
وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ)
(٨٥) (وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ٧٥.
مثال ماثل بين
أيدينا لغايتي الأمانة والخيانة الكتابية ، فمنهم (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كالذين ائتمنوا كتاب الله فأدوه إلى اهل الله بكل البشائر
المودوعة فيه لأهليه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) بخلا عن أداء أمانته على قلتها (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) تقوم على أمانة البشارة وسواها بحجة كتابية لا حول عنها ، و
«ذلك» البعيد البعيد «بأنهم» الخونة لا كلهم (قالُوا لَيْسَ
عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) وهم غير الكتابين
أنفسهم ، سلبا لسبيل القيادة الروحية وسواها وسائر الحقوق عن بني إسماعيل الأميين
كأنها محصورة في الكتابيين أنفسهم محسورة عمن سواهم! (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) دونما تقوى في طغواهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الحق وانهم كاذبون في نكرانه : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ
فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (٤ : ٥٣) تعني ـ فيما
تعنيه ـ الملك الروحي ، فكأن لهم نصيبا من ذلك الملك يملكونه فيختصون به أنفسهم
ولا يؤتون سائر الناس منه نقيرا!.
وقد يعني المثال
الأول قسما من النصارى والثاني اليهود ف (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا
نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ.
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا
مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥ : ٨٢).
وقد تعني «ليس
علينا في الأميين سبيل» كل حق هو لهم ، فلا علينا ان نؤدي حقهم مهما كانت امانة ، فلما
نزلت قال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) : كذب اعداء
الله ما من شيء كان في الجاهلية إلّا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فانها مؤداة
الى البر والفاجر» .
واما كيف خص الله
تعالى أهل الكتاب بتلك الخاصة وفي غيرهم ـ كما هم ـ الخائن والأمين والثقة والضنين؟.
لأنه لا يعني ـ فقط
ـ أمانة المال ، بل والأصل هو الممثل له : امانة الوحي المخصوص بأهل الكتاب ،
ولكيلا يغتر المسلمون بأنهم اهل الكتاب فيأمنوهم على ما ينقلونه لهم من وحي
الكتاب.
ثم ولا نحسبهم على
سواء في خيانة الأمانة ، فلا تمنعنا المشاقة لهم من أن نشهد أن فيهم الثقة وان
كانت الظنة غالبا عليهم ، وان فيهم الأمين وان كانت الخيانة أشبه بطرائقهم.
ولقد سموا
المسلمين أميين زعما منهم ألّا كتاب لهم حيث يحصرونه بالعهدين.
ولقد كان بين
اليهود وبين أقوام من العرب بيوع وقروض فلما أسلموا قالوا : ليس علينا ان نقضيكم
أموالكم لأنكم قد انتقلتم عن دينكم واستبدلتم بمعتقدكم ، حيلة تسلب أموالهم ومطال
ديونهم ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : كذب اعداء الله ...
ومن قيلة اليهود
الغيلة ان غيرنا عبيد لنا يحل لنا أكل أموالهم وهتك اعراضهم و (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ) مهما أكلنا من أموالهم وظلمناهم في سائر حقوقهم.
__________________
إذا ف (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ) تعني كل سبيل روحي او زمني او مالي أم اي حق ، فنحن اصحاب
الحق المطلق ، وهم ليس لهم علينا أي حق ، وكما يلوح كل ذلك من طيّات الآيات التي
تحكي عن مزاعمهم التفوقية على كل الأمم ، لحد يحسبونهم حيوانا خلقهم الله بصورة
الإنسان لكي يصلحوا لخدماتهم!.
هنا (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) تلمح انهم ينسبون هذه الفوقية العنصرية الى الله وهم
يعلمون كذبهم فيه.
وذلك من أخطر
الخطر على الانسانية ، ان تحصر حقوقها ـ الفطرية والعقلية والشرعية اماهيه ـ قبيلا
واحدا من عامة الناس هم بنو إسرائيل أمّن هم ، لا لحق إلا دعوى مكرورة على ألسن
وأقلام سامّة تكدّر جو الحياة على من سواهم.
فرغم أن الانسانية
أمانة ربانية لهم وعليهم ككل ، هم يختصون فضائلها وفواضلها بكل حقوقها بأنفسهم ،
احتلالا قاحلا جاهلا لشرف الإنسانية وميّزاتها.
ولقد برزت هذه
الأنانية الحمقاء بين اليهود كأصل على مدار الزمن ، ومن ثم بين سائر الاختصاصيين
من المستعمرين المستثمرين المستحمرين المستبدين المستكبرين المستضعفين المستخفين ،
أصحاب الأبواب السبع الجهنمية على مدار التاريخ الإنساني.
والقرآن يجرف هذه
الخرافات الزور الغرور بكلمة واحدة : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ثم وليست الكرامة عند الله مما يحمل التقي على الطغوى ،
فانما هي تقوىّ امام الله وامام عباد الله وحتى بالنسبة للحيوانات والنباتات.
كلا والف كلا!
ليست هذه الأنانية مسموحة في اية فطرة او عقلية انسانية فضلا عن شرعة الله.
(بَلى مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ٧٦.
(بَلى مَنْ أَوْفى) من هود او نصارى او مسلمين (مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ) عهد الله ، الذي عاهد عليه الله فطريا وشرعيا ، وعهده نفسه
، والذي عاهد الله عليه ام عاهد عباد الله ام عاهدوه عليه وتقبله بحق «واتقى» الله
في عهوده كلها (فَإِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) سواء حملوا اسم الإسلام او سواه ولقد عهد الله على عباده (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).
فليست كرامة الحب
الربانية بذلك المبتذل الفوضى حتى ينالها كل مدع زورا وغرورا دونما تقوى ، بكل
قيلة وادعاء وويلة في طغوى الحياة ، ان (لَيْسَ عَلَيْنا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
(نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ـ (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) و (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
وهنا نعرف ان
الوفاء بالعهد له صلة وثيقة بتقوى الله ، فلا يتغير في التعامل مع عدو او صديق ،
إذ ليس الوفاء بالعهد مسألة مصلحة ، انما هو تعامل مع الله.
أجل ليس هو
المصلحة ، ولا عرف المجموعة ، ولا قضية ظروف ، بل قضية واقع الخلق الصالحة
الإسلامية السليمة ، اللهم إلا في عهود متخلفة فإنها في الأصل باطلة في ميزان الله
فضلا عن الوفاء بها.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ٧٧.
هنا الرباط بين
عهد الله وايمانهم ، انهم قد يشترون بالعهد وبأيمانهم ليصدّقوا ، على ان لكل وزرا.
(يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللهِ) في مربعه ولا سيما الذي عاهدهم الله عليه من وحي الكتاب
بشارة وسواها (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) ولكنهم اشتروا به ثمنا قليلا.
(وَأَيْمانِهِمْ) على الوفاء بعهد الله ، يشترون بهما (ثَمَناً قَلِيلاً) وكل ثمن بعهد الله قليل في كل قليل وجليل : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) (٤ : ٧٧) من حظوة
الرئاسة وزخرفات مالية أماهيه ، فان عهد الله لا يساوى او يسامى بأي ثمن.
ولماذا «يشترون»
وهم يشرون عهد الله ، لأن المشتري يهمه الثمن المشترى ، فلذلك لا يهمه قليله
وجليله ، وهؤلاء الأنكاد وصلوا في هتكهم لحرمات الله الى تقديم كل حظوة فانية في
هذه الدانية عليها.
لذلك «أولئك»
البعاد البعاد (لا خَلاقَ لَهُمْ) ولا نصيب «في الآخرة» «فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي
شيء يدخل الجنة؟»
حيث شروا بعهد
الله هذا الأركس الأدنى فهم ـ إذا ـ إنما تهمهم هذه الأدنى دون الأخرى و (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ.
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما
صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٦) و «اللهم
إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى» فأولئك لهم خلاق.
__________________
ذلك! وهؤلاء الذين
يشترون بعهد الله ثمنا قليلا هم أنحس من أولاء وأنكى إذ باعوا بالدين الدنيا.
ف (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلام عطف ونظر لطف ورحمة اللهم إلّا (اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ) و (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها) كما (وَلا يُزَكِّيهِمْ) بتوبة او شفاعة او تكفير سيئات بحسنات إذ حبطت اعمالهم
التي كانوا يرونها صالحة ، (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) ـ (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ).
وهذه السلبيات
الأربع من حظوة الآخرة لهؤلاء الأنكاد هي ـ بطبيعة الحال ـ ايجابيات للمتقين ،
فلهم في الآخرة خلاق كما سعوا لها ويكلمهم الله عطفا وينظر إليهم لطفا ويزكيهم
بمختلف التزكيات ، ولهم ثواب عظيم.
هنا «عهد الله»
معني في كل حقوله ، وكذلك «أيمانهم» لله ام لعباد الله ، وكما العهد الفاجر يخلف
العذاب كذلك اليمين الفاجرة ، مهما اختلفت المراحل في كلّ منهما وفاء ونقضا.
وقد رويت عن رسول
الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) روايات عدة بشأن اليمين الفاجرة الشائنة منها قوله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ
مسلم لقى الله وهو عليه غضبان ...»
فضلا عن اقتطاع حق
من الله في زعمه فأغضب واشجى!.
__________________
اجل و «ان اليمين
الغموس»
اهتضام لحق الناس
واهتدام لكرامة الله.
(وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ
__________________
مِنَ
الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ
عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ٧٨.
اللّي هو عطف
الشيء ورده عن الاستقامة إلى الإعوجاج ، ولواه به عطفه بما سواه ليحسب مما سواه.
طرف آخر من مكائد
البعض من اهل الكتاب هو تحريفه بألسنتهم إقحاما لما ليس من الكتاب في الكتاب ام
تحريفا بزيادة او نقيصة في آي الكتاب او إعرابه ، وليّ الألسنة بكتاب يشملهما ولا
سيما الثاني خلطا بما ليس منه فيه بنفس العبارة الكتابية لغة وجملة ولحنا وكما في (راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ
وَطَعْناً فِي الدِّينِ) «لتحسبوه» أنتم
المسلمين غير العارفين بلغة الكتاب «من الكتاب» ويقولون (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ) فيها يلوون «من الكتاب» (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) كذبهم ، وذلك ايضا (بِأَنَّهُمْ قالُوا
لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) فلكي يصدوا كل سبيل للحجة على أنفسهم يستحلون الفرية على
الله حيث الغاية ـ بزعمهم ـ تبرّر الوسيلة.
كما ولهم ليّ في
كتب الكتاب وثالث في تفسير الكتاب تحريفا عن جهات أشراعه ، ورابع في تخلفهم عمليا
عن الكتاب ، قواعد اربع يتبنّون عليها عرش السلطة الروحية الكتابية!.
واللّي الأول يعم
ما حرفوه من الكتاب كتبا وسواه ، ومثلث الكتاب يعني كتاب الوحي توراة وإنجيلا ،
ولأن الملوي باللسان لتحسبوه من الكتاب قد يكون من عند الله في وحي السنة فقد نفى
كونه من عند الله ، تكذيبا ثانيا لما يلوون ، وثالث يؤكدها ويسمهم بسمة الكذب على
أية حال (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وذلك اللّي
والاشتراء والخيانة في أمانة الوحي وسواه من تجديفات ـ هي
بطبيعة الحال ـ من
رجال الدين ، والعلماء العملاء لتشويه سمعة الدين.
فآفة رجال الدين
وعاهتهم على الدين والدينين حين يفسدون هي ان يصبحوا أداة لتشوية الدين باسم الدين
، ليّا بالكتاب ضدّه وبألسنة ضدها.
هؤلاء الذين
يحترفون الدين فيهرفون فيما يحرّفون ضد الدين تلبية لأهوائهم وأهواء آخرين ممن
يستفيدون من أموالهم ومالهم من رغبات وشهوات ، فيحملون نصوصا من الكتاب ويلهثون
بها وراء تلك الأهواء الجهنمية ، ليّا لأعناق هذه النصوص لتوافق أهوائهم السائدة
المايدة ، فإنهم ـ لكي تتحقق أهوائهم من وراء الكتاب ـ يبذلون جهودا لاهثة باحثة
عن كل تمحّل وكل تصيّد لأدنى ملابسة لفظية أماهيه ، ليلبسوها من أهوائهم ما يبغون.
والله يحذر
المسلمين من هذا المزلق الوبيء الذي انتهى بانتزاع أمانة القيادة الروحية من بين
إسرائيل.
ولقد نرى ليّا
وبيئا في الآيات الانجيلية المؤولة الى ثالوثهم وان المسيح ابن الله ، وهم فاضحون
فيما يفتعلون .
__________________
من ذلك لي «الآب»
وهو لغة يونانية بمعنى الخالق ، الى «الأب» مع الحفاظ على مده في اصل الكتاب ،
يلوون ألسنتهم بالآب أبا لتحسبوه من الكتاب نصا على ابوة الله للمسيح (عليه السلام)
وليس الأب من الكتاب وإنما هو الآب فالابن معه ام سواه هو ابن الإنسان ، فقوله (عليه
السلام) لمريم المجدلية : امضي الى اخوتي وقولي لهم : إني صاعد الى آبي الذي هو
آبوكم وإلهي الذي هو إلهكم (يوحنا : ٢٠) لا يعني من «الأب» إلّا الخالق مهما
اسقطوا مدها ام أثبتوها وكما يؤيّده ثانيا «إلهي وإلهكم».
ذلك! وكما يلوون
ألسنتهم ب «بريكليطوس» التي تعني غاية الحمد : أحمد ومحمد ـ فيلفظونها «باراكليطوس»
: المسلي ، ليحرفوها عن محمد النبي الى المسلي الروح القدس ، و «بريكليطوس» هي
المسجلة في الأناجيل قبل الإسلام
__________________
ثم حرفت الى «باراكليطوس»
بعد الإسلام.
ومن ليّهم في
تراجم الكتاب إسقاط «مقرب» في بشارة سفر التثنية بنبي اسماعيلي حيث تقول : «نابىء
آقيم لاهم مقرب إحيحم كموشه ..» : نبيّ أقيم لهم من أقرباء أخيهم كموسى ثم نرى
سائر التراجم كالمتفقة على إسقاط «مقرب» حيث تقول «من وسط بني إسرائيل من إخوتهم
مثلك ـ من إخوتك مثلي» ترجمة مرتجفة مريبة رغم وحدة الأصل في «مقرب» تنحية لهذه
البشارة عن النبي الإسماعيلي الذي بعث من أقرباء أخيهم ، ف «أخيهم» هو بنو عيص كما
في «تث ٢٨ : ٨) وأمر القوم وقل لهم إنكم لحد إخوانكم بني عيص» وأقرباء بني عيص هم
بنوا إسماعيل ، فإن عيص نفسه كان صهرا لإسماعيل .
ومن ليّهم ترجمة «بمئد
مئد شنيم عاسار نسيئيم يولد ..» : بمحمد واثنى عشر اماما يلدهم ـ حيث ترجموها ب «الكثير
جدا واثنى عشر رئيسا» .
هذه وأشباهها كما
تجد قسما منها في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية».
(ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) ٧٩.
لقد نزلت هذه
الآية في خضم الحوار مع نصارى نجران حين سئل : «أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد
النصارى عيسى بن مريم ، فقال رجل من
__________________
اهل نجران نصراني
: أو ذاك تريده هنا يا محمد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : معاذ الله
ان نعبد غير الله او تأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك امرني» .
وكما قال له رجل «يا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد
لك؟ قال : لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فانه لا ينبغي أن يسجد لأحد من
دون الله فأنزل الله هذه الآية ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ترفعوني فوق حقي
فان الله تعالى اتخذني عبدا قبل ان يتخذني نبيا» .
وهنا «ما كان»
تنفي عن اعماق الزمان بمثلثه الدعوة المعاكسة لتوحيد الله لرسل الله وأنبياءه ، أن
يرتقوا زورا وغرورا عن الرسالة الإلهية الى الإلهية نفسها ، نفيا في استحالة ذات
بعدين ، ان يبعث الله من يحاده في ألوهيته ، وأن يتبدل المألوه إلها.
وليست «لبشر» هنا
تختص النفي ببشر ، وانما لأن المدّعى ألوهيته هنا بشر ، وان البشر ـ وهو في أحسن
تقويم ـ إذا لم يصلح له ان يكون معبودا من
__________________
دون الله فبأحرى
من دونه من سائر الخلق ، ثم الآية التالية لها تنفي بوجه عام الألوهية عما سوى
الله.
وهنا (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ ... ثُمَّ
يَقُولَ) دون «ان آتاه الله ثم قال» مما يؤكد الاستحالة في بعديها ،
ان ليس الله يبعث من يتخلف هكذا عن رسالة ، (وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ) (٦٩ : ٤٥) وليست
تتبدل الرسالة الى المرسل نفسه.
و «الكتاب» هنا هو
كتاب الوحي «والحكم» هو الحكم الرسالي بالكتاب ، فقد أوتي المرسل إليهم الكتاب ولم
يؤتوا الحكم الرسالي بالكتاب ، ومن ثم «النبوة» هي الرفعة بين المرسلين بالكتاب ،
فهي المرحلة القمة الرسالية مهما كانت درجات.
ولقد بلغت دركة
الدعاية الثالوثية لحد يستجوب الله فيها المسيح (عليه السلام) البريء فيجيب : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ
اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ
كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ... ما
قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ.) (٥ : ١١٧) و (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ
عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ...) (٤ : ١٧٢).
ان المعرفة
البسيطة بالله تمنع العارف عن دعوى الألوهية ، فضلا عمن يؤتى الكتاب والحكمة والنبوة
، فإنها تحكّم عرى العبودية ، إذ ليست واردة إلا مورد العبودية القمة.
(ما كانَ ... ثُمَّ
يَقُولَ لِلنَّاسِ) (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) : منتسبين الى الرب بمعرفة غالية وعبودية عالية كما نحن
المرسلين ، نحن ب (الْكِتابَ
وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ) ثم أنتم (بِما كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) فعلم الكتاب الرسالي وتعليمه يجعلكم ربانيين بعيدين عن
الدعاوي الخاوية الشركية.
فالربانيون هم
القادة الروحيون ، الحاملون لدعوات الرسل بين المرسل إليهم ، وهم هنا «الناس»
المعنيون ببازغ الدعوة ومنطلقها ، حيث يتربون في حجر الوحي الرسالي ، معرفيا
وعمليا ثم يربّون الناس كما تربوا.
(وَلا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ٨٠.
«يأمركم» منصوب
عطفا على (أَنْ يُؤْتِيَهُ
اللهُ) : ما كان لبشر ... «ولا ان يأمركم» ذلك البشر ، «أيأمركم»
النبي (بِالْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) او «يأمركم» الله بالكفر بتلك الرسالة المضادة (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
فكلما تبلغ النبوة
ذروة عليا يبلغ النبي الى عبودية أسمى ، ولئن استحق المسيح (عليه السلام) ان يدعو
لنفسه لكرامته على الله ، فليبلغ إمامه وامام المرسلين : محمد (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) الى الامامة على الله!.
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ٨١.
آية غرة ترفع من
شأن خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى أعلى القمم التي لا تساوى او
تسامى حيث تحمّله ـ وهو آخر النبيين ـ المجيء إليهم كلهم برسالته القدسية.
هنا زوايا أربع
لذلك الميثاق ، آخذه وهو الله ، والمأخوذ منهم وهم النبيون فلا ذكر لأممهم حتى
يكونوا هم المعنيين ، والمأخوذ له : (رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَكُمْ) واصل الميثاق : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وفي اخرى ميثاق آخر غليظ على النبيين ومعهم خاتمهم : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ
وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٣٣ : ٨)
فالميثاقان إذا مختلفان كل ينصبّ في مصبّ غير الآخر.
صحيح ان (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) ادبيا كما يتحمل كونه من اضافة المصدر الى المفعول كما
ذكرناه كذلك اضافة الى الفاعل ليكون ذلك الميثاق للنبيين على أممهم ، ولكنه معنويا
هنا لا يناسب إلّا الأول لمكان (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ) حيث المخاطبون فيهما هم النبيون إذ لا خبر هنا عن أممهم ،
فقد أخذ الله الميثاق من النبيين عليهم لرسول جاءهم بعدهم مصدق لما معهم.
فذلك ـ إذا ـ ميثاق
رسالي لصالح الرسالة الأخيرة المحمدية إيمانا به سلفا ونصرة له ولمّا يولد ويبعث
في ظاهر حاله.
وترى «إذ» تعني
زمنا واحدا جمع فيه النبيون لمجمع واحد لأخذ ذلك الميثاق منهم عليهم؟ قد يجوز فيما
لا نحيط به علما لكن المفهوم لدينا المعلوم عندنا أن زمن ذلك الميثاق موزع
على زمن النبيين كلّ لحده.
ثم وذلك الزمن
الموزّع لذلك الميثاق هو (لَما آتَيْتُكُمْ ...) ميثاقا عشيرا لإتيانهم كتابا وحكمة.
وقد يحتمل أن «إذ»
تعني زمن خلق كلّ من النبيين أن فطرهم الله على
__________________
ذلك الميثاق ،
ولكن «النبيين» موضوعا لأخذ الميثاق يبعد ميثاق الفطرة المأخوذ منذ خلقهم لا منذ
نبواتهم ، ثم (أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) يبعده ثانيا حيث الفطري رساليا أم خلقيا لا يتخلف.
وقد يقال إن مصير
الإقرار هنا هو مصير الإقرار بالتوحيد في آية الذر حيث تعني ميثاق الفطرة على
التوحيد ، ثم (مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ) غير صريحة ان ذلك الميثاق أخذ عليهم منذ النبوة ، فقد يجوز
انه مأخوذ عليهم منذ خلقهم.
ولكن تلك الفطرة
الخاصة بالنبيين لا يعبر عنها بأخذ الميثاق ، لكنه لا بأس بكونه ضمن المعني من أخذ
الميثاق عليهم حين نبواتهم تأكيدا لما أخذ عليهم حين خلقهم.
إذا فكما الله فطر
الناس على توحيده منذ خلقهم ، كذلك فطر النبيين على الايمان بمحمد (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) ونصرته.
أم تعني «إذ» مربع
الزمان ، قبل خلقهم في أرواحهم حيث كانوا أنوارا روحية ، وعند خلقهم وقبل نبواتهم
وعندها ، ميثاق وثيق رفيق عريق مأخوذ عليهم في هذه المواطن الأربع!.
أترى (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) تعني كل رسول يتلو نبيا منهم ، فهم ـ إذا ـ كل الرسل ، أخذ
الميثاق على كل نبي سبقه أن يؤمن به وينصره؟.
و «رسول» بإفراده
أمام جمعية النبيين لا يناسب جمعية الرسل! ثم وكيف يؤخذ ميثاق الايمان من كل نبي
لكلّ رسول والنبوة أعلى محتدا من الرسالة ، إلا ان يكون الرسول مرسلا الى النبيين
فهم كأمته مهما كانوا قبله ، ومن ثم ليس قضية الرسالة ان يأتي كل رسول تلو سابقة ،
بل وكذلك النبيون اللهم إلّا أولي العزم منهم.
ثم التعبير الواضح
الفاصح عن تتالي الرسل «ثم جاء كلا منكم رسول مصدق له» دون (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَكُمْ) بل «فجاء» دون «ثم» حيث الرسل كانوا تترى دون فصل ، كل هذه
وأشباهها مما تبعد جمعية الأبدال في «رسول» بل وتحيلها.
هنا مادة الميثاق (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) هي منقطع النظير عن كل بشير ونذير ، إلا من يكون رسولا الى
الرسل وإماما في جموع النبيين.
نجد (آمَنَ مَعَهُ) (فَآمَنَ لَهُ) من نبي لنبي ، ثم ولا نجد (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) إلا هنا (ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) وبذلك التأكد الأكيد.
صحيح ان على كل رسول
سابق تصديق اللاحق ، وعلى كل لاحق تصديق السابق ، واما الايمان به فلا يصح إلّا
لمن هو إمام النبيين ورسول إلى المرسلين كما هنا.
وهنا «النبيين»
جمعا محلى باللام تعني مستغرق النبوات ، فلا تعني بعضا دون بعض ، ولا كل الرسل إلا
بطريقة أولى ، فانما «النبيين» وهم أولو النّبوة والرفعة بين المرسلين ومن نبوتهم (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
وَحِكْمَةٍ)
وليس كل رسول يأتيه كتاب مهما أتته حكمة ، فكما أن أولي العزم من الرسل خمسة
، كذلك النبيون منهم وهم اصحاب كتب الوحي ليسوا إلا قسما من المرسلين ، فهم
الأخصاء المتميزون بين المرسلين.
وهنا (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) لها دور العناية بختم الرسالة الإلهية ـ العظمى ـ
__________________
وانها موجهة الى
النبيين سلفا كما وجهت الى أمة الإسلام الأخيرة خلفا.
وفي «رسول» هنا
رغم نبوته العليا ، عناية خاصة الى رسالته الروحية الواسعة إلى كافة النبيين قبله
، والرسول الى النبيين هو ـ بطبيعة الحال ـ يفوقهم رسالة ونبوة.
ف «جاءكم نبي» لا
تعني رسالته إليهم ، وانما مجيء نبي قد يعني التزاور بينهم ولكن (جاءَكُمْ رَسُولٌ) هو مجيئه بالرسالة الإلهية إليهم.
فموقف الرسالة هو
حمل الوحي ببلاغ الدعوة الرسالية كما هنا الى النبيين وفي غيرها الى سائر الأمم
الرساليين.
وموقف النبوة هو
بيان محتد الرسول النبي في نفسه او بين المرسلين.
و (جاءَكُمْ رَسُولٌ) تضم الموقفين ، أصالة في رسالته إليهم ، ولمحة بمحتد هذه
الرسالة السامية انها الى النبيين ، فهو فائق على كافة الرسالات والنبوات.
ونرى القرآن يعبر
ب «الرسول ـ الرسل» في موقف البلاغ الى المرسل إليهم ، وقد يعبر ب «النبي ـ النبيين»
في موقفهم الذاتي شخصيا ام بين المرسلين.
والرسالة قد تكون
الى مرسل إليهم عاديين فرسالة عادية ، ام والى رسل غير نبيين فأنبى وأعلى ، أم
والى نبيين غير اولي العزم وهي الرسالة العليا مختصة باولي العزم من الرسل ، ام
والى اولي العزم وهي فوق العليا وهي التي تعنيها (ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ).
ف «جاءكم نبي»
تثبت فقط نبوته مهما كانت فوق رسالة ، ولكنها لا تثبت رسالة إليهم ، وهي تثبت
إمامته الرسالية على النبيين أجمعين.
فالروح الرسالية
المحمدية محلقة على كل الأرواح الرسالية قبل خلقها في الجسد ، وهي محلقة عليها بعد
خلقها في الجسد وبعثها لرسالتها الختمية.
ومن ميزات هذه
الرسالة الى النبيين واجب الايمان به ونصرته كشرط أصيل لإيتائهم كتبهم ، وكما منها
رسالته لبلاغ الدين ككل مهما اختلفت شرائعهم مع بعض البعض ومع شريعته ، ومنها زرق
الروح البلاغي استقامة لهم كما أمر ، وتضحية في الدعوة كما له وعلى أضواءه
القدسية.
و (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) تعني تصديق رسالاتهم بكتاباتهم ، فلولا تصديقه لما معهم
لما صدقت رسالاتهم ، كما ان (ثُمَّ جاءَكُمْ) دليل خاتمية الرسالية العليا ، وآية (خاتَمَ النَّبِيِّينَ) دليل خاتمية النبوة له ، فهو ـ إذا ـ خاتم النبيين
والمرسلين على الإطلاق.
وإن خاتميته هي
لزام نبوته الرسالية ، فنكرانها ـ إذا ـ نكران لرسالته.
ترى ومتى «جاءكم»
هذا الرسول الأخير وهو الجاني بعد ما مضوا وقضوا برسالاتهم.
«جاءكم» هنا تطوي
الطول التاريخي الرسالي وعرضه الجغرافي ، تعاضيا عن فواصل الزمان والمكان ، بيانا
لمحتد الرسالة الاخيرة انها لا تحض الأمة الأخيرة ، بل وتشمل بروحيتها العالية
كافة النبيين ، ولأنهم بكتبهم وحكمهم تقدمات لقرآن محمد ومحمد القرآن حيث يهيمنان
على النبيين بكتاباتهم ، «اما علمت ان الله تبارك وتعالى بعث رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وهو روح إلى الأنبياء (عليه السلام) وهم أرواح قبل خلق الخلق ...»
مهما
__________________
جاءهم برسالته
إليهم بعدهم مبعثا ، فهو على حد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) اوّل النبيين
ميثاقا وآخرهم مبعثا.
ذلك ، ولكن الآية
ليست لتعني الإيمان به والنصرة له قبل خلقهم في الجسد ، إذ لم تكن لهم حينذاك كتب
ولا نبوات ولا أنه إذا جاء بعدهم ، فإنه خلق قبلهم.
إنما تعني الإيمان
والنصرة (ثُمَّ جاءَكُمْ) طيا لطول الزمان فعليهم أن يؤمنوا كلّ في زمنه بهذا الرسول
وينصروه ، كما عليهم ذلك الإصر عند الرجعة.
ففي مربع فرض
الإيمان والنصرة كمحتملات ، لا تدخل في نطاق الآية إلّا ما بعد خلقهم في الجسد.
وتلك الهيمنة الكبرى
من قضيتها الإيمان السابق والنصر من كافة النبيين لصاحب هذه الرسالة السامية.
ولقد لمحت او صرحت
آيات عدة بهذه الهيمنة لذلك الرسول كآية الشورى : «شرع لكم من الدين وما وصى به
نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا
تتفرقوا فيه ...» (١٣).
حيث اعتبر الوحي
إلى الاربعة الآخرين من أولي العزم وصية أمام الوحي إلى إمامهم محمد (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) لان كتاباتهم تحمل ـ كأصل ـ توصيات لهذه الرسالة الأخيرة ، مهما
حملت شرائع موقّتة لأمم مضت قبلها.
ذلك وكما نرى «رسولنا»
في آياتها الأربع و «رسوله» في الأربع والثمانين ، تعنيان هذا الرسول وكأنه هو
الرسول لا سواه ، مهما شملت جمعية الصيغة الرسالية كل الرسل.
وكما نرى ـ وبأحرى
ـ «النبي» معرفا تختص في عديدها الواحد والأربعين بهذا النبي لا سواه.
وليس ذلك الافراد
في الرسول والنبي لهذا الرسول النبي صدفة غير مقصودة ، بل هو مقصود لبيان محتده
الفريد بين كافة الرسل والنبيين.
ففي مثلث الوحي
والرسالة والنبوة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الأصل والكل فروعه ، وكأن
الوحي إليه هو الوحي فقط إذا قورن بسواه كما في آية الشورى ، وان الرسالة والنبوة
تخصانه كما في كل الآيات التي أتت بهما بإفراد.
ولقد خصت الرسالة
المحمدية بميّزات بين كافة الرسل وعلى حد قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «كنت
نبيا وآدم بين الماء والطين» فكينونات الرسالة المحمدية أربع لا يشترك سائر الرسل
إلّا في أولاها وهي الكينونة الرسالية في علم الله ، دون الثلاثة الأخرى وهي كيان
الإيمان به ونصرته بالتبشير به قبل خلقه وبعثه ، وكيان رسالته في الأرواح الرسالية
كرأس الزاوية ، وكيان الإيمان به ونصرته في رجعته.
وقد نحتمل أن روحه
الرسالية كانت مخلوقة قبل الرسل كلهم ، انبعاثا إليهم فقط دون سائر المكلفين ، وقد
يعنيه المروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في جواب السؤال : متى نبئت؟ نبئت وآدم
بين الماء والطين ـ وآدم مجندل في التراب و....
فقد كانت الروح
الرسالية المحمدية مشرفة في واقعها ـ كما يعلم الله ـ على أرواح النبيين اجمع ،
هيمنة عليهم وسياجا لهم عن أية تبعثرات في رسالاتهم.
وآية الميثاق هذه
تذكر من ميزات هذا الرسول النبي انه خاتمهم ومصدقهم والرسول إليهم فعليهم (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
وَحِكْمَةٍ ...
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) ـ ثم
يأخذ منهم الإقرار
بما أخذ عليهم ميثاقه : (قالَ : أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) إقرارا بهذه الرسالة الختمية والايمان به ونصرته ، وأخذا
بكامل القوات (عَلى ذلِكُمْ) العظيم العظيم ، الثقيل الثقيل «إصرى» إصرا في مثلث
التصديق والايمان والنصرة (قالُوا أَقْرَرْنا) إقرارا ـ بطبيعة الحال ـ شاملا لأخذ الإصر (قالَ فَاشْهَدُوا) على ما أقررتم (وَأَنَا مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ).
والإصر ـ ككل ـ هو
الحمل الثقيل على الآصر وكما (رَبَّنا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (٢
: ٢٨٦)
(وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)
(٧ : ١٥٧).
وترى لو أن الإصر
موضوع عن الأمة المرحومة رحمة عليهم كما في آيته فكيف يحمّله النبيون أجمعون وهم
أحرى بوضع الإصر عنهم ، ثم كيف يصبح واضع الإصر عن أمته إصرا على زملائه النبيين؟!.
الإصر لغويا هو
عقد الشيء وحبسه بقهره كمأصر السفينة الذي يحبسها بقهر عن تفلّتها ، ولكنه قد يكون
عقدا وحبسا بشرّ أو ما لا طاقة به كما في آيتيه ، وأخرى بخير وهو يطاق ، وهكذا
يكون إصر الإقرار بالتصديق والايمان بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم ونصرته
، فانه يحلّق على كل حياتهم الرسالية أن يكرّسوها ـ فيما يكرّس ـ للتعريف والبشارة
بهذه الرسالة السامية ، فذلك ـ إذا ـ إصر في حمله على النبيين ، وإصر في حمل أممهم
على التصديق به!.
فالإصر والإصار
هما الطنب والأوتاد التي يعمد بها البيت ، والرسالة المحمدية هي عماد كل بيوتات
الرسالات ، لولاها لما قام لها عمود ، ولولا زندها لما كان لها وقود.
وقد يصعب ـ بطبيعة
الحال ـ لكل نبي أن يعرف نفسه بين أمته انه ـ كما
هم ـ من أمة رسول
ياتي بعدهم كلهم ، وكما يصعب على الأمم ان يسمعوا منهم ويصغوا كأن رسلهم ليسوا
أصلاء في رسالاتهم ، بل هم مبشرون بهذه الرسالة.
ويصعب في الأجواء
المتعنتة التي لا تقبل الرسالات التي تعيشها ، ان تبشر بالرسالة الأخيرة.
ثم ويصعب الإيمان
به ونصرته على طول الخط ، قبل ان يجيئهم بما يبشرون ويوطئون لمجيئه ، وبعد مجيئه
ان يحشروا لحاضر الايمان به ونصرته.
تلك صعوبات
وصعوبات يعبر عنها هنا ب «إصري» الحمل الرباني على كواهل النبيين في مثلث تصديقه
والإيمان به ونصرته.
وهنا تنحل مشكلة «ثم
جاءكم ـ لتؤمنن به ـ ولتنصرنه» كيف جاءهم ثم كيف ينصرونه وقد قضوا نحبهم قبله؟.
فإنه «جاءهم» في
الروح الرسالي تاما وطاما ، ما ينير عليهم دروب الرسالات بما عرفهم ربهم به في الشبح
الروحي والقمة الرسالية ، كما «جاءهم» يوم الرجعة فقد يرجع بعدهم كلهم ، رسولا
إليهم ، فهم ـ إذا ـ من أمته الرسميين.
و «جاءهم» فيما
بشروا به كأنه الحاضر أمامهم وهو إمامهم ، فليبشروا به أممهم وانهم من أمته .
و «جاءهم» وقد
قضوا نحبهم إلّا مسيحهم ، فليؤمنوا به بعد موتهم كما آمنوا به قبله ولينصروه.
__________________
و «جاءهم» في
الرجعة المهدوية حيث يرجع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته المعصومون
والنبيون كلهم راجعون اعضادا لدولة الحق الأخيرة .
ومن ثمّ (ثُمَّ جاءَكُمْ) لها بعد الجمعية والإفراد : ثم جاء كل واحد منكم حين
يتنّبأ فردا فردا ، ومن ثم جاءكم ككل بعد انقضاء النبوات بأسرها ، وتقيد مجيئه
إياهم فيما يروى ب «لئن بعث وهو حي» تفسير بمصداق له مختلف فيه وهو زمن الرجعة .
فذلك ـ إذا ـ إيمان
متواصل به ونصرته في هذه المسارح كلها ، لم يسبق له نظير ولن ، لكل بشير ونذير.
ولقد نرى بشارات
له تترى في كتابات الوحي على تحرّفها ولا سيما في تلك
__________________
البشارات! نراها
بعشرات وعشرات هي عشيرات للوحي الرسالي على طول الخط ، فيها نبرات الايمان والنصرة
من النبيين لهذا النبي العظيم ، نذكر قسما منها بطيّات آيات تناسبها ، وقد جمعناها
في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية».
فلقد أخذ الله
تعالى ميثاقا رهيبا عجيبا شهده هو وأشهد عليه أنبياءه ، طيّا لكل الفواصل زمانيا
ومكانيا بين النبيين المتتابعين في مختلف الأزمنة والأمكنة ، يجمعهم في ذلك المسرح
الصارح الصارخ وهو يخاطبهم «أأقررتم قالوا أقررنا ..».
ذلك المشهد الهائل
الجليل يرسمه ذلك التعبير العبير ، فيجف له القلب ، وليتذكر السامعون.
وهنالك «إصري»
لمكان العصبية الذاتية ، لشخص الرسول رساليا ولقومه قوميا وعنصريا ، والاتباع ككل
نحلة لهم ، أماذا من عصبيات ، تراها كلها تنحني وتنمحي أمام (رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) تناكرا لكل الآصار :
(قالَ فَاشْهَدُوا) لدي ولدي أممكم
(وَأَنَا مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ) لدى الكل.
فذلك المجيء هو
غير متعود المجيء بين المرسلين ، فانه المجيء في كل حقوله ، رساليا ورسوليا :
إيمانا به في الروح قبل مجيئه في الجسم ، وهذا ما يعنيه الجائي نفسه في قوله : «كنت
نبيا وآدم بين الماء والطين» فلا يعني نبوته في علم الله إذ تعم سائر النبيين ، بل
نبوته في قسم عظيم من لزاماتها وأهمها الإيمان
__________________
به ، والميثاق
للايمان والنصرة له وكما يروى عنه «انا أول النبيين ميثاقا وآخرهم مبعثا» .
(فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)
(٨٢).
(فَمَنْ تَوَلَّى) عن خاتميته في رسالته ونبوته (بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق المؤكد الجمعي (فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) لو كانوا من هؤلاء النبيين ولن ـ وليس هنا «منهم» حتى
يختصهم التولي ـ او كانوا ممن يدعون نبوة قبله او بعده ، ام كانوا من الأمم
المبشّرة بتلك الرسالة الختمية.
ذلك ، فحتى ولو
كانوا من النبيين ، فكما لا تصدق نبواتهم إلا بختم وتوقيع من خاتم النبيين ، كذلك
لا يؤتون كتابا وحكمة إلا شريطة الإيمان به ونصرته.
ذلك! فضلا عن
المرسل إليهم ، فقد انضم النبيون كلهم باممهم الى موكب هذه الرسالة السامية رسالة
واحدة الى امة واحدة ، كما وان الرسالات واحدة الى امة واحدة : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ
زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٢٣ : ٥٣).
ولو ان ميثاق
الايمان والنصر كان ـ فقط ـ بين النبيين أنفسهم ، كلّ لاحق لسابقة ، لم يكن لذلك
التهديد دور ، فانما تهدد هنا الأمم الناكرة لخاتم الرسل (صلّى الله عليه وآله
وسلّم).
ولو ان (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) كان ميثاقا لهم على أممهم لكان صحيح التعبير «ميثاقا
للنبيين على أممهم» أم لو عني من الخطاب في (ثُمَّ جاءَكُمْ) الأمم ، لأتى بذكرهم وإن مرة يتيمة!.
__________________
فالرواية الهارفة
الخارفة ان اقرءوها : «وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين» هي صادرة من مصدر الجهالة والحماقة ، ممن لا يعرف معاني
كلام الله ومغازيه فيتورط في ورطة التحريف والتجديف!.
ذلك الدين الشرعة
الذي يحمله خاتم النبيين هو الدين كله وليس ما سبقته من شرعة إلّا شرعة من ذلك
الدين :
(أَفَغَيْرَ دِينِ
اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً
وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)
(٨٣).
(دِينِ اللهِ) هو طاعته بمختلف شكليات الشرائع الخمس ، وفي كل بأشكال
مختلفة الظاهر ، والكل تتوحد في أنها (دِينِ اللهِ) وطاعته ، فالذي يبغى دين الله عليه ان يبغى شرعته المتشرعة
منه كما يشاء ، دون إخلاد إلى شرعة الفها ، وتصلب عليها نكرانا لشرعة تلحقها.
والمكلف هو بطبيعة
الحال يبتغي دينا وطاعة إمّا للرحمن أو الشيطان أم
__________________
نفاق بينهما عوان
، فالذي يدعي الإيمان ، عليه أن يبتغي دين الله واصبا لأنه دين الله ، لا لأنه
ألفه هو وآباءه الأولون ، فالمبتغي دين الله هو في سبيل الحق ولمّا يصل فانه شك
مقدس يتحرى فيه الشاك عن دين اليقين ، والراسب على شرعة منسوخة دون تحر عن ناسخها
او تجرّ عليه هو على دين غير مقدس ، فانما ابتغاء دين الله هو الصالح بجنب الله لا
سواه مهما تقشف وتزهد في شرعة منسوخة مضى دورها.
ف (دِينِ اللهِ) هو طاعته بمعرفته ، خالصة غير خليطة بسائر الطاعة ، إذا (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) من طاعة لما سوى الله ، إلحادا في الله أو اشراكا بالله ،
فالكافر بالشرعة الأخيرة تثاقلا على السابقة هو كافر بدين الله ، متبع لهواه ،
تارك لأمر مولاه ، لأنه غير مبتغ لدين الله ، فانما يبتغي هواه مهما أظهرها بمظهر
شريعة الله!.
(وَلَهُ أَسْلَمَ) لله ولدين الله (مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعاً) هم المؤمنون الحقيقيون ، إسلاما لطاعته في كل قليل وجليل «وكرها»
حيث لا يستطيعون الخروج عن سلطان علمه وقدرته مهما كفروا.
فالإسلام هنا يعم
تكوينيّه إلى تشريعيه وتشريعيه إلى تكوينيه ، فهما يجتمعان في المؤمنين ويفترقان
في الكافرين حيث هم مسلمون كرها مهما تركوه طوعا ، ثم والكل (إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).
وقد يعني الإسلام
طوعا بالنسبة للكفار ايضا حيث أسلمت فطرهم بما فطر الله وعقولهم إن كانوا يعقلون ،
مهما كفروا بما طغت أهوائهم ، ثم الطّوع بالنسبة للمؤمنين فيه زيادة اتباع أهوائهم
لفطرهم وعقولهم ووحي الله.
وبوجه عام قد يعني
ذلك الإسلام أن ألقوا اليه السّلم ـ كلهم ـ بما يظهر من حاجتهم إلى إرفاقه وفقرهم
الى أرزاقه ، ونقائصهم التي لا تتم إلا بحسن
تدبيره لهم ،
ونعمه السابغة عليهم ، فقد دانوا له طوعا وكرها وولهوا إليه فقرا وضعفا.
فالذين أسلموا له
هم الملائكة والنبيون ، ثم المؤمنون ، والذين أسلموا كرها هم إبليس وأشباهه من
الجن والإنس وكما قال (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي
إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فقد يدل استنظاره على إقراره بأنه مملوك مدبّر ومصرّف
مسخّر ، وأنه لا يعتصم من الله بمذهب ولا ينجو بمهرب ولا يبقى إلا أن يبقيه ، ولا
يأمن إلا أن يؤمنه ، فهو ـ إذا ـ ممن أسلم في وجه مهما كان في آخر شاردا عن طاعته
، ماردا عن قيادته.
ف (وَلَهُ أَسْلَمَ) هنا طليق يشمل كل مراحل الإسلام تكوينا وتشريعا ، طوعا
وكرها بحيث لا يفلت عنه قالت ، ولا يفوت عنه فائت.
فكما الإسلام
الإيمان هو باكتساب واختيار ، كذلك الإسلام التسليم قبل الإيمان كما (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ) (٤٩ : ١٤) فإسلام
التسليم ظاهرا عن جبن يشمله (وَلَهُ أَسْلَمَ) مع إمكانية المنعة والحياص ، مهما كان سببه الخوف والفرق.
وإسلام التسليم
طمعا في الرغائب ومنى في الفوائد ايضا إسلام مهما كان سببه الرجاء ، وإسلام
التسليم حبا لله وفي الله إسلام ولا سبب له إلا حب الله ، وهذه ثلاث كلها الإسلام
طوعا.
ثم الإسلام كرها
كمن يسلم نفسه للموت إذا حان حينه ولم يكن له سبب للفرار عنه وما أشبه.
فابتغاء غير دين
الله انعزال في زاوية بئيسة تعيسة تخالف الفطرة والعقلية السليمة وشرعة الحق ،
وتخلّف عن موكب الكون ككل ، ف (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ
آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (١٩
: ٩٥)
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (١٣
: ١٥)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٢٢
: ١٨).
هذا إسلام لله على
مدار الزمن ، ومن ثم إسلام في دولة المهدي (عليه السلام) ف «إذا قام القائم (عليه
السلام) لا يبقى أرض ألّا نودي فيها بشهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وهنا طوعا هو
إسلام الايمان وكرها هو إسلام الاستسلام ، فلا يبقى ـ إذا ـ ملحد في الله او مشرك
بالله ، مهما بقيت بقية ضئيلة من أهل الكتاب ، ولكن ليس لهم دور دائر ، فإنهم في
دولة المهدي (عليه السلام) يعيشون تحت ذمة الإسلام ، مراعين شروط الذمة بتمامها.
ولأن دين الله بعد
نزول القرآن منحصر فيه ، منحسر عما سواه ، فابتغاء ما سواه محظور حتى في دراسة
كتابات الوحي اللهم إلّا مقارنة بينها وبين القرآن ، تزييفا لها بما حرفت وتثبيتا
للقرآن.
__________________
لذلك نرى الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) يتغير وجهه بما يكتب للخليفة عمر من جوامع التوراة قائلا : «والذي
نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم إنكم حظى من الأمم وأنا حظكم
من النبيين» .
(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ
وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٨٤).
«قل» كما هو خطاب
للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شخصيا كذلك هو خطاب لكل مكلف بدليا ك (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وما أشبه ، انه رغم العصبيات الجاهلة والعنصريات
والإقليميات القاحلة وتأريخية الشرعة الكتابية وجغرافيتها الماحلة ، يومر رسول
الهدى ان يعلن حقيقة الإسلام والإيمان ، وانهما لا يحدّان بأية حدود إلّا ابتغاء
دين الله ، فيعلن ـ إذا ـ إيمانه والذين معه بجميع الرسالات ، واحترام جمعى الرسل
، معرفة بطليق دين الله الذي لا يقبل الله من المكلفين سواه ، مهما أمر المسلمون
الآخرون باتّباع شرعة القرآن اتباعا لأصل الدين كما امر سائر الأمم قبلها باتباع
شرائعهم : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ
وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) قرآنا وسنة (وَما أُنْزِلَ عَلى
إِبْراهِيمَ) كشريعة اصيلة ثانية ثم (وَإِسْماعِيلَ
__________________
وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) كأتباع للشرعة الإبراهيمية.
ومن ثم (ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) كشريعتين أصيلتين بعد الأوليين ، كما وأن بعد الأربعة (ما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ـ وما اوتي هامشيا ـ «النبيون» على مدار الزمن الرسالي «من
ربهم» وقد يعني ما اوتي نوح ضمن ما اوتي النبيون ، وعلّ عدم اختصاصه بالذكر
لانقطاع الخبر الصادق عما اوتى من صحف.
فذلك هو الايمان
المحلق على كل كتابات الوحي ورسالاتها (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ) في الإيمان بهم وأنهم رسل الله ، لا يتفرقون في حمل رسالة
الله واحدة موحدة في دين الله ، لأنهم في موكبهم الرسالي صادرون من مصدر واحد وإلى
امة واحدة ، لا يتفرقون في أصول الدين وفروعه ، اللهم إلّا طقوسا ظاهرية من فروع
أحكامية حسب الحكمة العالية الربانية (لِيَبْلُوَكُمْ فِي
ما آتاكُمْ)
(وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ).
وهنا (أُنْزِلَ عَلَيْنا) قد يعني أخص مما أنزل اليه ، إنزالا دون وسيط كما في «أنزل
معه» فهما يعنيان في سائر القرآن الإنزال الرسالي مهما جاء يتيما لغير الرسل (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا) وانزل اليه هو طليقه الشامل للامة.
وذلك لان النص هنا
يعني الرسول كأصل لمكان «قل» مهما شمل الأمة لمكان «آمنا».
لذلك ترى في أخرى (أُنْزِلَ إِلَيْنا) حيث تعني الأمة مهما عنت الرسل فيما يتلوها : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٢ : ١٣٦).
ثم «ما أوتي» أعم
مما أنزل ، حيث الإيتاء يشمل الآيات الكونية لتلك
النبوات ،
المتوفرة لموسى وعيسى ومن بينهما من النبيين ، والإنزال قد يختص بالآيات الكتابية
شرعة وآية رسالية ، وهكذا تكون الآيات النازلة على محمد (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) ثم لا تذكر آية كونية لإبراهيم إلى الأسباط مهما كانت لهم آيات.
او يقال (وَالنَّبِيُّونَ) والشاملة لهم كلهم تجمع إلى الآيات النازلة عليهم ، الآيات
المؤتاة إياهم ، فرسولنا العظيم هو الوحيد المنقطع النظير بينهم في ان ما انزل
عليه فيه الكفاية عما يؤتى أي نبي من آيات عينية (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ..).
ذلك هو الإسلام في
سعته لكل الرسالات الإسلامية ، وفي الإيمان لكافة الرسل وكتاباتهم ، إذا ف :
(وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ)
(٨٥).
فالشرائع الإلهية
كلها إسلام الله بدرجاتها ، ولكن لا إسلام بعد الإسلام الأخير ، فابتغاء ما سواه
من شرعة غابرة منسوخة او شرعة مدعاة بعده ، إنه ابتغاء لغير الإسلام المرتضى.
وكيف لا وقد «أرسله
بحجة كافية وموعظة شافية ودعوة متلاقية ، أظهر به الشرائع المجهولة ، وقمع به
البدع المدخولة ، وبين به الأحكام المفصولة ، فمن يبتغ غير الإسلام دينا تحقق
شقوته ، وتنفصم عروته ، وتعظم كبوته ويكون مآله إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل».
ف «الإسلام» هنا
يخص الإسلام الأخير موردا وان كان يعم سائر
__________________
الإسلام واردا ،
فالنص هنا (وَمَنْ يَبْتَغِ) يشمل منذ ذلك الإسلام حتى يوم القيام ، وأما سابق الإسلام
فقد لا يشمله صيغة الاستقبال : (وَمَنْ يَبْتَغِ) مهما كانت كافة الشرايع إسلاما ، اللهم إلا أن تعني ضابطة
ثابتة من القضايا الحقيقية التي تحلق على مثلث زمن التكليف ، وذلك أشبه بحق
الإسلام والإسلام الحق.
ذلك هو الإسلام
كما يريده الله ، دون الإسلام الذي تريده الأهواء المتأرجفة المتفاوتة في أجيال
نكدة من الناس النسناس الخناس ، ولا كما تصوره أغلبية أعداءه المتربصين به كل
دوائر السوء ليجعلوه اسما بلا معنى أو رسما بلا مغزى او شعارا بلا شعور ام زادا ـ فقط
ـ لأهل القبور!.
بل هو إسلام الله
، طليقا في كافة الحقول الحيوية ، فإن لله أحكاما تحلّق على كل متطلبات الحياة
ولزاماتها ورجاجاتها ، دونما حاجة إلى أنظمة مختلفة مختلقة للحياة.
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)
إِلاَّ
الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ
(٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ
الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما
لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ
كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
(٩٥)
أترى ان الله «يهدي
(قَوْماً كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ)؟ أن يهديهم توفيقا لهم رفيقا ليتوبوا :
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
(٨٦).
لا تعني الهداية
المنفية هنا التشريعية لأنها عامة غير مخصوصة بفريق دون آخرين ، ولا التكوينية
المسيّرة لأنها منفية عن القبيلين ، إنما هي هداية التوفيق للتوبة وقبولها ، فإنها
خاصة بالصالحين ثم الضالين المتحرين عن الهدى ، فهم (ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا).
أفبعد الإيمان
بالبينات والشهادة بحق الرسول يكفرون؟ وفي ذلك عناد للحق وتضليل للمؤمنين ، وهذا
من أظلم الظلم في مثلثه : بأنفسهم وبالحق وبحق الآخرين المتزعزين بذلك الكيد
المكين!.
مهما كانت هذه
الشهادة أقوى والكفر بعدها أغوى ـ كما في كفرة أهل الكتاب بعد إيمانهم ـ كان
الارتداد أظلم وأطغى ، فالارتداد دركات كما الإيمان درجات.
(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)
(٨٧).
«لعنة» تلبسهم
وتغمسهم في الدارين ، من الله ألّا يهديهم سبيل الرشاد ، ومن (الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ألّا يطلبوا لهم من الله هدى ، بل لعنا وبيلا.
وترى هؤلاء ملائكة
الله يلعنونهم بسند إيمانهم وكفر هؤلاء ، فكيف يلعنهم (النَّاسِ أَجْمَعِينَ) وفيهم كفار هم سناد وعتاد لهؤلاء الأنكاد؟.
علّ «أجمعين» يعني
جمع الناس إلى الملائكة والملائكة الى الناس ، مهما استثني عن الناس نسناس ، ام
وهم كل الناس ، فالمؤمنون منهم يلعنون بسند الايمان ، والكافرون منهم المتأثرون
بارتدادهم يستلعنون حيث يضاعف العذاب
لهؤلاء المضللين
بما ارتدوا عارفين : (رَبَّنا آتِهِمْ
ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (٣٣ : ٦٨) ، وسائر
الكفار ايضا يلعنونهم يوم الدين ويتلاعنون : (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (٢٩
: ٢٥)
(كُلَّما دَخَلَتْ
أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ..) بل ويوم الدنيا حيث يلعنون الضالين مهما حسبوهم انهم
المؤمنون ، ولكن اللعنة تجد واقع موردها كما يشاء الله.
وحتى إذا عرفوا
أنهم أنفسهم الضالون ولكنهم بتأييدهم الكفار يلعنونهم واقعيا حيث يزدادونهم عتوا
ونفورا.
(خالِدِينَ فِيها لا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)
(٨٨).
(خالِدِينَ فِيها) : في ثالوث اللعنة ، في نار الله الموقدة التي تطلع على
الأفئدة (لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ) وكما لا يستزاد ، وإنما هو جزاء العدل الوفاق قدر الكفر
الواقع ، خلودا يضاهي خلود الكفر (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) حين الحكم بالعذاب فلات حين مناص وقد فات يوم خلاص.
ذلك للذين لم
يتوبوا عما ارتدوا ولم يصلحوا ما أفسدوا بما ارتدوا :
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٨٩).
«تابوا» إلى الله (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الارتداد المضلّل «وأصلحوا» ما فسد تحت وطأته ، إصلاحا
لأنفسهم الماردة ولأنفس الآخرين الشاردة عن الإيمان بما ارتدوا .
__________________
والقدر المعلوم من عدم قبول التوبة هو
الموت على الكفر :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)
(٩٠).
فازدياد الكفر بعد
الارتداد عن إيمان دليل العناد في اللّاإيمان فهم المضلّلون ـ إذا ـ لكتلة الايمان
و (لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ) لأكيد الكفر المعاند ، المضلل للبسطاء.
وليس يعني (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) ـ فيما يعنيه ـ ازدياد الزمان إلى وقت الموت ، حيث تتكفله
الآية التالية لها.
فكما لا تقبل توبة
الكافر حين يموت على كفره ، كذلك حين يزداد كفرا بعد ارتداده ، ثم تقبل توبات
الآخرين على شروطها :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما
لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)
(٩١).
فاستحالة الملكية
ل (مِلْءُ الْأَرْضِ
ذَهَباً) واستحالة الافتداء به لو ملك ضنّة بتلك الثروة الهائلة ـ وقد
سئلوا ما هو أيسر من ذلك فضنوا ـ ثم وعدم قبولها منهم لو افتدوا ، ذلك المثلث من
الاستحالة يفسر قدر الإحالة في «لن» ف (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا
بِهِ مِنْ
__________________
عَذابِ
يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٣٦).
و «أولئك» الأنكاد
البعاد (لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) في الآخرة (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) شفعاء وسواهم ـ ينفعهم نصرهم لو نصروهم.
وترى توبة المرتد
الفطري كما الملي تقبل ـ ان تاب وأصلح ـ ظاهرا كما تقبل باطنا؟ طليق النص (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقتضي طليق القبول في بعدية ، فتقبل توبة الفطري ظاهرا كما
الباطن كقبول توبة الملي.
فانما الموت على
الكفر هو الذي يقطع التوبة عن قبولها وتحقّق مفعولها : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٢١٧).
فهناك (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) لا تختص بالملي حيث الفطري قد يكفر بعد ايمانه كما الملي ،
و «ايمانهم» هو واقعه قبل الكفر فطريا ومليا.
وكذلك هنا «عن
دينه» الكائن أيا كان ، مليا او فطريا.
اجل قد لا تقبل
توبة المرتد وان تاب بعد ارتداده مليا او فطريا ، وهو المكرّر لارتداده المستزيد
في كفره : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً
لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (٤ : ١٣٧).
وذلك لضخامة كفره
ووخامته ، حيث لا يجبرها شيء ، و «لم يكن» نفي مؤكد مؤبد لا يقبل اي استثناء ابدا .
__________________
فكما لا تقبل توبة
المرتد الذي يموت وهو كافر ، كذلك الذي يزداد كفرا بارتداده مرتين ، وهما يعمان
الفطري والملي ، ثم من سواهما تقبل توبته فطريا او مليا شريطة الإصلاح لما أفسد
بارتداده.
ولا ينافي عدم
قبول التوبة في الدنيا أو الآخرة وعده تعالى ـ طليقا ـ أنه يقبلها : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)
(٤٢ : ٢٥).
إذ تعني خاصة
التوبة بشروطها دون عامتها الفوضى ، فهي غير مقبولة بعد الموت إطلاقا ، ولا قبل
الموت إلا إذا كانت نصوحا مصلحا دون ازدياد الكفر بعد كرور الارتداد ، كما تدل
عليها آياتها الأخرى فإن القرآن يفسر بعضه بعضا وينطق بعضه على بعض.
تلحيقة بقول فصل
حول الواو في (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) :
لقد أشبعنا الكلام
بطيات الفرقان حول ان القول بالزائد في القرآن زائد من القول ، رغم ما تورط فيه
ضعفاء العقول.
فمن قيلهم ان
الواو هنا زائدة لا تعني اي عناية ، وآخر أنها مقحمة كما في (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها) حيث تعني (فُتِحَتْ أَبْوابُها).
والجواب ـ ككل ـ تحليقا
على كل ما يزعم زيادته في القرآن ـ أنه لا شيء من كلمات وحروف جاءت في القرآن إلا
لمعنى مفيد ، مهما كان تجويدا لظاهر البيان كما الباء في خبر «ليس» أما أشبه.
فالزيادات
والنقائص في الكلام إنما يضطر إليها للمضطرين فيها لضرورة قافية شعرية أماهيه ، مدا
للمقصور وقصرا للممدود ، او زيادة زائدة ونقيصة بائدة ، فحين تهجم القافية ويغل
الزمام عن يد الشاعر يضطر الى زيادة او نقيصة.
فأما إذا كان
الكلام محلول العقال ، مخلوع العذار ، ممكّنا من جري المضمار ، غير محجور بينه
وبين غاياته ، فان شاء صاحبه أرسل عنانه فخرج جامحا ، أو شاء قدع لجامه فوقف جانحا
، لا يحصره أمد دون أمد ، ولا يقف به حد دون حد ، فلا تكون الزيادة فيه إلا عيّا
واستراحة ولغوبا وإلاحة.
ولكن كلام الله
مرفّع عن كل إلاحة ولغوب ، فانه المتعذر المعوز ، والممتنع المعجز.
ذلك ، بل قد يرتفع
عن ذلك كلام الفصحاء فضلا عما هو أعلى وهو في القمة العليا! ... إننا نجد كلام
الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو بعد النبي العظيم (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء ، نجده على علو طبقته وحلو طريفته وانفراد
طريقته ، إذا حوّل ليلحق غاية من أداني غايات القرآن وجدناه ناكصا متقاعسا ،
ومقهقرا راجعا ، وواقفا بليدا ، وواقعا بعيدا ، على أنه كلام يسبق كل المجارين ،
عاليا على المسامين.
ذلك! فضلا عن كلام
من دونه فإذا قيس إليه وقرن به شال في ميزانه ، وقصر عن رهانه ، وصار بالإضافة
إليه قالصا بعد سبوغه ، وقاصرا بعد بلوغه ، وليصدق قول أصدق الصادقين : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا
يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢) .
ثم الواو في (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) تعني ـ فيما تعنيه ـ عدم حصر «لن تقبل» على اللاافتداء ،
كأنه إن لم يفتد بملء الأرض ذهبا ـ لو ملكه هناك ـ «لن تقبل توبته» فيقول هنا (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) فالمفتدي وسواه سواء في (لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ).
__________________
(لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)
(٩٢).
«لن» تحيل نيل
البر أيا كان (حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ) وأما غير المحبوب مبغوضا كان او عوانا بينهما فلا ينيل
إنفاقه خيرا ، وعلّ العوان ـ ايضا ـ داخل في نطاق «ما تحبون» مهما كان أدناه فان
قضية الملك حبه مهما لم يكن مرغوبا والإنفاق هنا هو في سبيل الله إذ لا خير في غير
سبيله تعالى.
و «ما تحبون» يعم
النفس والنفيس من النواميس الخمس : نفسا وعقلا ودينا ومالا وعرضا أن ينفق كلّ في
سبيل الله ، إما عن بكرته كالتضحية بالنفس والمال ، ام مع الحفاظ على أصله كالقوات
النفسية والفوائد المالية التي تنفق في سبيل الله ، وكذلك الإرشادات العقلية
والعلمية ، وتعريض العرض ـ فيما يجوز ـ للحفاظ على عرض أعرض كعرض الدين والديّنين
، وكل ذلك تشمله (حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ).
ذلك وكما «مما
تحبون» الشرعة التي تعود تموها ان تنفقوها في سبيل الله ومرضاته وتبدلوها بشرعة
محكّمة بعدها.
ولأن للمحبوب
درجات كذلك لنيل الخير في إنفاق الدرجات درجات ، كما والإنفاق في كمه وكيفه ومورده
درجات.
ولقد أشار الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) الذي ينفق مما يحب ان يجعله في قرابته الفقراء ، فإنه أحب
من غيرهم وهذا «مما تحبون» موردا.
__________________
ومن الإنفاق
الأحسن كيفية ما كان دون سؤال ولا سيما بالنسبة للوالدين ، ف «الإحسان أن تحسن
صحبتها وأن لا تكلفها أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين ...» .
ومما تنفقون مادة
طيبات المكاسب فان «تحبون» هو الحب على ضوء الإيمان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٣ : ٢٦٧).
هنا «مما تحبون»
دون «ما تحبون» تبعّض الإنفاق كيلا تضلوا حاسرين عما تحبون ككل ، والرواية القائلة
«ما تحبون» تخالف النص هنا ، وتخالف هنالك الآيات في الإنفاق العوان
بين الإفراط والتفريط ، ولم يكن إطعام الطعام من أهل بيت الرسالة القدسية مسكينا
ويتيما وأسيرا ، إطعاما لكل المحبوب إذ
__________________
كان عندهم ما
يبدلوا به عنه وان على صعوبة فأبدلهم الله بأحسن منه.
وترى ما هي رباط
الآية بما قبلها ، المنددة بالمتصلبين على القومية الكتابية ، والمتلونين في
الايمان والكفر؟
علّها لأن التجاهل
والتنازل عما هم عليه من شرعة انتقالا إلى شرعة أخرى ولا سيما إلى نبي غير
إسرائيلي ، هو معدود في عداد الإنفاق مما تحبون ، فإيثار حب الله على ما تحبون
يقتضي الانتقال عن كل شرعة سابقة ـ مهما كانت طولها وطولها ـ إلى الشرعة الأخيرة.
وذلك مما يوسّع
نطاق الإنفاق المحبوب في الآية ، دون حصر في إنفاق المال حسرا عن سائر الإنفاق.
إن انفاق المحبوب
في حب الله يختص بما يمكن إنفاقه مشكورا محبورا ، وأما غير الممكن او المنكور
والمحظور فلا ، فانفاق النفس في سبيل الله فيما يتوجب أو يرجح ، وانفاق المال كذلك
عوانا بين الإفراط والتفريط ، وانفاق العقلية الصالحة والعلم النافع والعظة الحسنة
أماهيه من إنفاقات صالحة ، إنها كلها مشمولة لطليق الآية دونما تحدّد بحد إلّا ما
حدده الله.
فالإنفاق مما تحب
ـ ولا سيما إذا كان من أحب ما تحب ـ ذلك رمز إلى انك تؤثر حب الله على كل حب ،
مهما كان ما تحب شيئا قليلا ضئيلا ، كما ان الإنفاق مما لا تحب رمز الى عدم
الإيثار وانك لا تفضّل حب الله على حبّك مهما كان ما لا تحب شيئا كثيرا محبوبا لمن
تنفق ، اللهم إلا ألّا تجد إلّا ما تنفقه ، وأنك في طويتك تفضل محبوب ربك على
محبوبك.
إذا فإطعام علي
وفاطمة والحسنين كسير خبزهم هو من أفضل الإنفاق : (وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٧٦ : ٨) وفي نفس
الوقت إطعامك طعاما أفضل منه وأنت لا تحبه ليس من أفضله ولا فضيله ،
اللهم إلّا أن
يحبه المنفق عليه ولذلك ينفقه عليه المنفق.
فالإنفاق الصالح
يرتكن أولا على الحب الأفضل ، ثم الإنفاق من الأفضل أو الفضيل دون الرذيل ثم
الكيفية الفضلى.
ذلك ، (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) في حبه وكيفه وكمه ومورده (فَإِنَّ اللهَ بِهِ
عَلِيمٌ) لا عليكم أن تبدوه إلا إذا لزم الأمر بعيدا عن الرئاء
والسمعة.
ذلك ، فهل ترى
الذي ينفق مما لا يحبه ولا يبغضه لا ينال خيرا وقد أنفق؟ انه ينال خيرا إذا تمت
اركان السماحة والرجاحة في الإنفاق ، ولكنه لن ينال البر ككل حتى ينفق مما يحب ،
والبر هو واسع الخير من البرّ لا اصل الخير ، وهنا بر بديل بر ، حيث الإنفاق مما
تحب بر تنال به البر (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
فالمنفق في سبيل
الله إذا لم يأت بمحظور في إنفاقه مأجور قدر إنفاقه ، ولكنه لن ينال البر حتى ينفق
مما يحب.
وفي الإنفاق في
سبيل الله مما تحبون تحرّر من شح النفس على النفس والنفيس ، فالمنفقون مما يحبون
يصعدون في ذلك المرتقى الراقي السامق الوضيء أحرارا خفافا طلقاء ، لا يرتبطون بشيء
إلّا الله والحب في سبيل الله ، وهم ينالون البر والخير الواسع حسب السعة في
إنفاقهم مما يحبون فطوبى لهم وحسن مآب.
وترى حين تحب شيئا
يكرهه الله ، او تكره شيئا يحبه الله ، فهل تنال البر في انفاق ما تكرهه في حب
الله او ما تحبه في كره الله؟.
للمحبوب هنا بعدان
اثنان (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ويحبه الله ، وكون الإنفاق في سبيل الله هو قضية الإيمان
بالله يجعل محبوب الله محبوبا لنفسه ، ومحبوبه ليس إلّا محبوبا لله ، وهنا زاوية
ثالثة للمحبوب ان يحبه المنفق
عليه حتى يتم مثلث
الحب فيتم نيل البر من الله.
فمن ينفق في الله
ما يكرهه ويكرهه الله يكرهه الله : (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى
لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)
(١٦ : ٦٢).
فالمحور الأصيل في
نيل البر «ما تحبون» كمؤمنين ، وقد تشمل الزاوية الثالثة للمنفق عليه كما المنفق
في سبيله ، فحين تحب شيئا يحبه الله ولا يحبه المنفق عليه فعليك ألا تحب إنفاقه ،
فليست مادة الحب ما تحبه ـ فقط ـ لنفسك ، بل ولمن تنفق عليه.
(وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) قد تعني مثلثة الجهات ، «على حبه لهم ـ على حبه للمطعم ـ وعلى
حبه لله وحب الله» وذلك أحسن الإنفاق.
ويتلوه ان تنفق ما
لا تحبه ويحبه الله إنفاقا ويحبه المنفق عليه سؤلا.
والمحور الأصيل في
«على حبه» هو حب الله وله درجات أعلاها مثلث الحب كما في (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ).
فما لم يكن
الإنفاق على حب الله (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ) فيه وليس المؤمن ليحب ما لا يحبه الله.
إذا ف «مما تحبون»
تعني ما تحبون في محبة الله وتحبونه ـ كذلك ـ لأهل الله ، وكلما كان الإنفاق أحب
إليكم كمؤمنين بالله كان البر أبر لكم من الله.
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ
حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ)
(٩٣).
أترى ما هي الرباط
بين هذه الآية وما قبلها ، ولا دور للطعام هنا سلبا وإيجابا على الإطلاق؟.
علّها ـ بمناسبة
الحوار الاسلامي الكتابي حول الشرعة الجديدة ـ وجه الى الرسول (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) اعتراض على حلية لحوم الإبل والبقر والغنم بكل أجزاءها ، ناقمين عليه
ذلك التحليل الطليق والتوراة يحرمها ، فأجاب (كُلُّ الطَّعامِ كانَ
حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ...).
وهنا «كل الطعام»
وليس «كل الطعام» لتعني الطعام المعروف حلّه في شرعة الإسلام ـ وطليق الحل هو مصب
اعتراضهم على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ او والطعام الحل في الشرعة
الابراهيمية فان بني إسرائيل كسائر المكلفين ـ هم وأنبياءهم ـ كانوا أتباع الشرعة
الابراهيمية (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) و «كل الطعام»
الحل في شرعة ابراهيم هو الحل في شرعتنا ، إذ لا تناسخ شرعيا في حل الطعام إلا
عقوبيا كما حرم قسم منه في شرعة التوراة.
وهنا يتهدم صرح
زعمهم أن النسخ مستحيل ، حيث خيّل إلى اهل التوراة انها هي الشرعة الإلهية منذ
البداية الى النهاية ، فلا شرعة ـ إذا ـ بعدها كما لم تكن قبلها ، إلا إعدادات لها
، وتخيل ثان ان ما حرم عليهم من الطيبات لم تكن عقوبة.
وقد يروى ان
إسرائيل حرّم على نفسه لحم الإبل ـ أماذا ـ مما فيه عروق إذ كان يهيج عليه وجع
الخاصرة او نذر إن عافاه الله من وجعه ألا يأكل ما فيه عرق حيث تأذى به.
__________________
وأيا كان التحريم
ودوره لم يكن تشريعا يخص الله تعالى ، ولا حكما ناسخا لشرعة ابراهيم إذ لم يكن
إسرائيل من اولي العزم ، فانما كان تحريما شخصيا لمصلحة ملزمة كما حرم الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) ما احلّه الله في شرعته على نفسه من زوجة قضية الفضيحة
الدعائية من بعض نساءه حتى كفل الله أمره فرجع الى الحل.
وقد حرمت التوراة
عقوبيا على أهلها ـ طيبات أحلت لهم : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦ : ١٤٦) ـ (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا
حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ..) (٤ : ١٦٠) ثم
نراها ان المسيح (عليه السلام) أحلها : (وَرَسُولاً إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ ... وَلِأُحِلَّ
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ...) (٣ : ٥٠).
فالطعام الذي حرمه
إسرائيل على نفسه لمصلحة شخصية وقائية ليس ليحرم على أحد فضلا عن أن تحرمه التوراة
اتباعا لما حرّم (قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ألا نسخ ولا جديد في حكم التوراة تحريما وسواه ، كما وترون
ليس فيه تحريم ما حرم إسرائيل على نفسه اتباعا لما حرّم بل فيها حل
__________________
كل الطعام الحل
على المسلمين ، إلا ما حرمت على بني إسرائيل عقوبة لبغيهم.
وهنا (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) تلمح بقيلتهم الكذب ان إسرائيل حرم في التوراة ما حرمه
عليه نفسه ، كقيلتهم ان ابراهيم كان يهوديا ، والقرآن يذب هذا التحريم الخاص عن
التوراة ، لأنه كان (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) ، وذلك القبل يعم «حلا .. وحرم» فكلا الحل العام والتحريم
الخاص كان من قبل أن تنزل التورات.
ثم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) فيه قضاء حاسم على استحالة النسخ ، حيث تنسخ التوراة حلية
بعض الطيبات ، وعلى مزعمة عدم التحريم عقوبة لأنهم شعب الله الخصوص.
فقد تصرح التوراة
ان للإبل منافع كثيرة ووهب إسرائيل ثلاثين إبلا ذات لبن أخاه عيص (التكوين ٣٢ : ١٥)
ولكنها محرمة في شرعة التوراة (اللاويين ١١ : ٤ والتثنية ١٤ : ٧).
ثم في اللاويين ١١
: هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض ٣ كل ما شق ظلفا
وقسمه ظلفين ويجترّ من البهائم فإياه تأكلون ٤ إلّا هذه فلا تأكلوها مما يجترّ
ومما يشق الظلف : الجمل لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم والدب والأرنب
والخنزير ... وجميع البهائم التي لها ظلف ولكن لا تشقه شقا أو لا تجتر فهي نجسة
لكم وكل ما يمشي على كفوفه من جميع الحيوانات الماشية على أربع فهو نجس لكم.
ذلك وكما حرمت
عليهم الشحوم (اللاويين ٣ : ١٦ و ١٧ و ٧ : ٢٤ ـ ٢٧).
فقد اعترضوا على
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما اعترضوا
كيف يأكل لحم
الإبل وقد حرمه إسرائيل ، فيجيب القرآن انه من إسرائيل كان تحريما خاصا على نفسه
وقائيا ، من قبل أن تنزل التوراة ، ثم التوراة حرمه عقوبيا ومن ثم أحله فيما أحله
المسيح (عليه السلام) واستمر الحل في الإسلام.
وفي نظرة ثانية
إلى الآية نقول (إِلَّا ما حَرَّمَ
إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) استثناء منقطع لأن إسرائيل ليس داخلا في بنيه ، ولا ما
حرمه على نفسه داخلا في عموم التحريم ، فقد يلمح انقطاع الاستثناء باستغراق الحل
في «كل الطعام».
ثم (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) يصح تعلقها بكلّ من «كان حلا» و (إِلَّا ما حَرَّمَ) والجمع أجمع والاول أوقع إذ «كان» هو أصل الكلام
والاستثناء ـ ولا سيما المنقطع كما هنا ـ فرع لا يأخذ زمام المتعلقات إلا ضمنيا
إذا صح المعنى.
إذا ف (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا ... مِنْ قَبْلِ
أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) فليست المحرمات التوراتية أبدية ، ومنها عقوبية يدل عليه
حلّها قبل نزول التوراة وبعد نزول الإنجيل وكما في متى : ٣ : ٤ انه يحل لحم الجمل
ولبس وبره وجلده.
كما و (كُلُّ الطَّعامِ ... إِلَّا
ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) حسما لزعم أن التوراة حرمت ما حرمه إسرائيل.
(قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعم استحالة النسخ وأبدية التوراة ، وأن محرمات فيها
عقوبية لبغيهم (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) وهم كاذبون في رغم الحرمة الأبدية لما حرم فيها ومنها لحم
الإبل حيث كانوا ينددون بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كيف يأكل ما حرمته
التوراة كشرعة أبدية دائمة.
و «إسرائيل» هي في
أصلها العبراني «ييسرائل» : عبد الله ، ولكن
التوراة فسّرتها
في قصة فنوئيل : صارع الله فصرعه فأخذ منه بركة النبوة!.
(فَمَنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
(٩٤).
افتراء الكذب على
الله قبل ذلك البيان ظلم ولكنه (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) كأنه الظلم لا سواه (فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) لأنهم على بينة من القرآن بحجته بعد التوراة ، وعلى بينة
من صدق هذه الرسالة القرآنية.
(قُلْ صَدَقَ اللهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
(٩٥).
(قُلْ صَدَقَ اللهُ) في كل قال وأنتم كاذبون ، فان كنتم صادقين انكم على ملة
ابراهيم (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) فلا تشركوا بالله فانه (ما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) بالله في أي شأن من شؤون الربوبية.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)
(٩٧)
إعلان صارخ في هذه
الإذاعة القرآنية ـ العالمية ـ بأولية مطلقة لبيت الله الحرام ، ردا على شطحات
يهودية أن القدس أقدس منه فليكن هو المطاف
__________________
والقبلة وكما كان
في فترة ، والأصل على مدار الزمن الرسالي هو الكعبة المباركة قبلة ومطافا للعالمين!
: (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ..) (٢ : ١٤٢).
يذكر البيت الحرام
في ساير القرآن عشرا مجردا كما هنا ، وثلاثا منسوبا فيها إلى الله ، وثلاثا أخرى
إلى الناس ، مما يدل على أنه ليس لله بيتا كما للناس ، فهو للناس بيت قبلة ومطاف
ومعتكّف ، ولله بيت يعبد فيه ، فهو بيت الله وبيت الناس .
وهنالك مواصفات
لهذا البيت العتيق في عدة آيات ، منها هنا سبع ، عدد السموات السبع والأرضين السبع
والأسبوع السبع والطواف بالبيت وبالصفاء والمروة السبع ، والجمرات السبع ، كما وان
عدد أبواب الجحيم سبع تسكّر بسبعي الطواف وسبعات الجمرات.
١ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
...)
علّ الصلة القريبة
لهاتين الآيتين بما قبلهما ـ ولا سيما واتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ـ أن من أهل
الكتاب معترضين على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا تأمر باتباع ملة
ابراهيم فكيف تستقبل الكعبة وتطوف حولها ونحن نقدس
__________________
القدس وهو كعبتها
وشرعتها من شرعة ابراهيم؟ فجاء الجواب : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
..) وكذلك الآيات التي تقول إن ابراهيم هو الذي رفع القواعد من
البيت.
الأول هو السابق
الذي لا يسبقه أو يقارنه مثيل له في الممكنات ، أم ولا يتأخر هو عنه كما الله
تعالى ، حيث هو الأول لا ثاني له والآخر لا أول قبله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥٧ : ٣) والأول
هنا هو من الأول إذ له أمثال بعده مهما كانت درجات ، كما هو في الدرجة القمة
العليا ، لا يساوى او يسامى.
و «بيت» كمطلقه هو
مكان البيتوتة والرياحة ، بدنيا او روحيا او هما معا ، فسواء أكانت أرضا ملساء ،
ام وعليها بناية ، فليشمل أرض الكعبة وهي مكان البيت كما يشملها بعد عمارتها.
والأولية هنا
مطلقة تطم الزمنية والمكانية وفي المكانة ، مهما كان القصد
__________________
__________________
من (بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) بيوت العبادة فالواضع هو الله ، والموضوع لهم هم كل الناس ، فلا بيت يضعه
الناس ، بالإمكان ان يوضع لكلّ الناس دونما اختصاص.
إلّا انه يشمل
بيوت الناس بجنب بيوت الله ، فهو الأول زمانا إذ وضعه الله للناس قبل كل وضع
وموضوع له ، حين دحى الأرض من تحتها.
إن مكان البيت هو
الأم لسائر الأمكنة الأرضية ، كما مكة هي أم القرى من الناحية الرسالية ، فللبيت
بمكانه أمومتان اثنتان ، فهو «أم القرى» في كافة الجهات ، حيث دحيت كل شرعة إلهية
ـ كأصل ـ منها ، كما دحيت الأرض كلها من تحتها.
والوضع هنا تكويني
وتشريعي ، و «للناس» تعم جميع الناس طول الزمن الرسالي ، مطافا للطائفين وقبلة
للمصلين ، وكما نرى قبور النبيين وسائر الصالحين قبل الإسلام تجاه الكعبة المباركة
دونما استثناء ، في القدس نفسه وفي الخليل ودمشق ولبنان وايران أم أيا كان من بلاد
تضم قبور هؤلاء الكرام ، وكما حجه النبيون اجمع فهذا أقدس بيت على الإطلاق ، فان واضعها هو الله
__________________
الجليل ، والمهندس
هو جبرئيل ، والباني هو الخليل والتلميذ إسماعيل ، لذلك ف «المقام بمكة سعادة
والخروج منها شقوة»
وهي «دعامة
الإسلام ..»
والصلاة فيه تسوى
الف الف صلاة والطواف به صلوة ، والمقام عنده فيه الفضيلة الكبرى ، كما
الصوم في رمضانه مائة الف .
لقد رسم الخط حول
مكان البيت وبناه آدم الصفيّ ورفع القواعد منه
__________________
الخليل الوفيّ ،
ووضع الحجر الأسود في مكانه الآن بعد خرابه هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ويظهر عنده متكئا ظهره على جداره القائم المهدي (عليه السلام) فأم القرى هي
العاصمة الإسلامية الكبرى كما كانت لرسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهي
على طول خط الرسالات أم القرى لا تساوى ام تسامى.
ولماذا (وُضِعَ لِلنَّاسِ) وهو (مُبارَكاً وَهُدىً
لِلْعالَمِينَ) أجمعين ، من الجنة والناس ومن سواهما من المكلفين أجمعين؟.
علّه لأنهم هو
المحور الأساس في التكوين والتشريع ، والجنة هم على هامش الناس ثم لا خبر لنا عن
سائر العالمين.
(لَلَّذِي بِبَكَّةَ
...)
ولماذا (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) دون «الكعبة» وهي أخصر ، او «مكة» وعلّها أظهر؟ علّه إذ قد
تسمى غيره «كعبة» مهما أصبحت بعد علما له! وأن «الكعبة» تختص بالمبني عليه تلك
البناية ، و (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) تشملها قبل البناية وبعدها ، والأولية الزمنية بالنسبة
لبيوت العبادة المبنية ليست للكعبة المشرفة ،
__________________
وانما لمكان البيت
وبالنسبة لكافة البيوت عبادة وسواها ، مبنية وسواها.
ثم «بكة» من البك
وهو الدفع حيث يدفع عنها من يقصد تهديمها هتكا من الطغاة اللئام لم يقصدها جبار
بسوء الا اندقت عنقه .
وهو الزحام لأنه
مزدحم الحجاج والمعتمرين ، والأول يخص البيت والثاني محطّه البيت مهما عم الزحام
كل البلد الحرام ، ف «انما سميت مكة بكة لان الناس يتباكون فيها»
و «لأنها يبتك بها
الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنما
يكره في سائر البلدان»
و «لان الناس يبك
بعضهم بعضا فيها بالايدي»
لا «لبكاء الناس
حولها وفيها»
لاختلاف «بكّ» عن «بكى»
في اصل اللغة والمعنى.
واما «مكة» فهي من
المكّ : الدّحو والتحريك ، حيث مكّ الله الأرض من تحتها ، وعلّ اختصاص «بكة»
بالذكر هنا دون «مكة» وهما تعنيان البلد الحرام ، للتأشير الى أن مظهر البركة
والهدى فيها للعالمين بادى من أذان الحج من بانيها الخليل ، مهما كانت قبلة ومطافا
قبله.
وقد تعني «مكة»
البلد الحرام كله ، او الحرم كله ، و «بكة» هي موضع البيت ، او موضع الحجر الذي
يبك الناس بعضهم بعضا.
__________________
٢ ـ ٣ (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)
علهما حالان لمربع
المتعلقات : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) : مباركا وهدى ـ وضع : مباركا وهدى ـ للناس : مباركا وهدى
ـ للذي ببكة : مباركا وهدى ، بركات بعضها فوق بعض وهدايات منذ وضعه الله الى يوم
الدين.
ثم «مباركا» اسم
مفعول من بارك ، والبرك هو في الأصل ثبات الشيء ويستعمل في كل فضل وفيض ماديا او
معنويا او هما معا ف «ان للحق دولة وللباطل جولة» فهذا البيت مبارك ثابت النفع دون
زوال ، ومنه استقرار العبادة فيه واليه والطواف حوله دونما نسخ وتحوير.
وفي الأصل
العبراني ٦ : ٦ ـ ٦ : بارك ركع ـ سجد ـ أحنى الركبة ، و : ٦ : ٦ ـ ٦ : : برك بارك
ـ مجّد ـ رحّب ـ حنّأ ـ هنّأ ، و : ٦ : ٦ ـ ٦ : براكاه مباركة ـ تهنئة ـ تحية ـ تسبيح.
والبيت الذي ببكة
فيه كافة البركات مادية ومعنوية : (حَرَماً آمِناً
يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢٨
: ٥٧) (وَارْزُقْ أَهْلَهُ
مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ
كَفَرَ ..) (٢
: ١٢٦).
ومن أهمها البركات
الجماعية ثقافية وعقيدية وسياسية واقتصادية أماهيه ، فانه : «قياما للناس ـ ومثابة
وأمنا ..» و (لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ..) (٢٢ : ٢٨).
وتراه كيف يكون (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) وحتى المسلمين لم يتبركوا به ويهتدوا كما يحق فضلا عن سائر
العالمين؟.
إن بركته وهداه
للعالمين فرض وواقع ، فرض لمن استطاع اليه سبيلا ، وواقع لغير المستطيعين من
المسلمين ، لو ان الأولين حجّوه كما يجب شاهدين فيه
منافع لهم وللكتلة
المؤمنة ، ثم واقع بصورة أوسع حيث تؤسس الدولة الإسلامية العالمية على كاهل الكون
ايام المهدي القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ذلك! ولأن «للناس»
هنا طليقة غير محدودة بناس دون ناس ، نتأكد أنه (وُضِعَ لِلنَّاسِ) كلهم دون طائفية او اقليمية او عنصرية لناس البيت كما في
سائر البيوت.
ثم «وضع» دون «بني»
للتدليل على كل وضع فيه تكوينيا وتشريعيا وبركة وقبلة ومطافا وعبادات أخرى ، وسائر
البيوت لا أولية لها في هذه الأوضاع ولا تسامي او تساوي الكعبة المباركة على
الإطلاق.
كما وان صيغة
المجهول مع «الناس» نائبا للفاعل دليل ان الفاعل الواضع ليس من الناس ، إذا فذلك
وضع تكويني وتشريعي من الله تعالى في اولية طليقة حقيقة بالأولوية الطليقة تشريعا
وتكوينا.
٤ (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ
إِبْراهِيمَ ...)
وتراها فقط «آيات»
تخرق العادات ، دالة على الله بوحدانيته ، فما هيه؟ ولم يذكر هنا إلّا (مَقامُ إِبْراهِيمَ) وهي آية واحدة!.
أم هي علامات
مؤشرات الى الأفضلية القمة المرموقة لهذا البيت بالنسبة لأي بيت؟ وقد لا تسمى
العلامات ـ فقط ـ آيات ، ولم تأت بمعنى العلامة إلّا التي في الشعراء (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ)
(١٢٨).
أم هي آيات
تشريعية تخصه ، وتكوينية خارقة ، وسواها علما لاختصاصه بين سائر البيوت بكل هذه
الآيات؟ كأنها هيه جمعا بين المحتملات.
ونجد في مثلث
الآيات المذكورات : (مَقامُ إِبْراهِيمَ ـ
وَمَنْ
دَخَلَهُ ... ـ وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) تأشيرا عشيرا إلى كلها ، ف (مَقامُ إِبْراهِيمَ) تكوينية ،
(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) تعمها والتشريعية (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ) تشريعية ، والتكوينية منها تعم الخارق للعادة ومطلق
العلامة.
فآية تشريعية
منقطعة النظير تدل على أوّليته التشريفية (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ) ولم يضع الله بيتا على مدار الزمن الرسالي ، يفرض حجه لمن
استطاع اليه سبيلا إلا الكعبة المشرفة.
وأخرى هي فرض
الأمن لمن دخلها زائدا على ما سواها من بيوت الله وسواها.
وثالثة تحريم
الصيد وقطع الشجر في حرمها دون سواها ، وما الى ذلك من محرمات وواجبات فيها وفي
إحرام حجها وعمرتها.
وآية تكوينية
خارقة العادة هي الرابعة من آياته البينات بكّ من قصده بسوء كما حصل في اصحاب
الفيل : (أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)؟! وما هدم حينما هدم توهينا كأصحاب الفيل .
__________________
وخامسة هي موضع
قدم ابراهيم من الحجر الموجود في المقام حيث هو الآن ، إذ أثرت قدمه المباركة حين
بنى البيت وحين أذّن في الناس بالحج .
وسادسة ان الطيور
المحلقة على فضاء المسجد الحرام ، تكسّر عند وصولها الى فضاء الكعبة ، اللهم إلّا
شاردة ماردة ، فقد تراها ـ ككل ـ ممتنعة من العلو على البيت الحرام ، فلا يطير
طائر إلا حوله من غير ان يعلو فوقه وقد تناصر الخبر وتواتر الأثر بذكره.
ولقد شاهدت أنا
عند مقامي بمكة المكرمة في سنتين من سني هجرتي من شر الطاغوت الشاه عليه لعنة الله
، شاهدت متقصدا تلك الآية البينة ، فرأيت امتناع الطير من التحليق فوق البيت ، حتى
لقد كنت أرى الطائر يدنو من مكان
__________________
سحيق ومنزع عميق
في أحدّ طير أنه وأمدّ خفقان جناحه حتى أظن انه قد قطع البيت عاليا عليه وجائزا به
، فما هو إلا ان يقرب منه حتى ينكسر منحرفا ويرجع متيامنا او متياسرا فيمر عن يمين
البيت او شماله ، كأن لافتا يلفته او عاكسا يعكسه ، وذلك من أطراف ما شاهدته هناك
وجربته ، اللهم عد بي الى بيتك واجعلني فيه من أنصار مهديك القائم عجل الله تعالى
فرجه ، وكما رجوته حين أقمت فيه ولكن الله قضى امرا كان مفعولا.
وسابعة هي بئر
زمزم حيث نبع فوارا أرتزيا منذ مس إسماعيل عقبه على أرضه ، ولا يزال نابعا يزيد
ولا ينقص ، ثم وماءه لا يتسنّه على طول المكوث مكشوفا على أية حال.
وثامنة هي قصة
الخليل (عليه السلام) لما أمر في المنحر بذبح ابنه إسماعيل ، فأخذ يضغط على المدية
ولكنها لا تقطع حيث «الخليل يأمرني والجليل ينهاني».
وتاسعة هي ترك
الذباب والبراغيث في منى يوم الأضحى ويومين بعدها ، وأرضها مليئة بالأشلاء العفنة
والنتنة ، فلا تجد أية مؤذية فيها!.
وعاشرة هي حصى
الجمار التي تؤخذ من المشعر الحرام بالملايين الملايين سنويا ، وليس سبيل ماء ولا
مهب رياح شديدة! ثم ترى ذهاب تلك الحصى وخلو مواضعه منه على كثرة الرامين به
واجتماعه في مواضعه.
وحاد يعشرها انها
تجبى إليها ثمرات كل شيء ، والبلد الحرام نفسه كان قاحلا لا ماء فيه ولا كلاء ،
وحتى الآن وهما فيه قدر الحاجة لا ثمرات فيه من نفسه إلّا من كل أكناف العالم.
وثاني عشرها الأمن
النسبي فيه ـ مهما شذ فيه اللّاأمن ـ حيث الحروب وإراقة الدماء بعيدة عنه اكثر من
غيره بكثير ، ولحدّ لا تجد فيه افتراس السباع
فضلا عن غيرها ،
كما وهو من احكامه تشريعيا.
فترى الوحش
والسباع إذا دخلته وصارت في حدوده لا تقتل بعضها بعضا ، ولا يؤذي بعضها بعضا ، ولا
تصطاد فيه الكلاب والسباع سوانح الوحوش التي جرت عادتها بالاصطياد لها ، ولا تعدو
عليها في أرض الحرم كما تعدو عليها إذا صادفتها خارج الحرم.
فهذه آية عظيمة من
آيات الله البينات في هذا البيت المبارك تدل دلالة عظيمة على أن الله تعالى هو
الذي أبان هذا البيت بذلك من سائر بقاع الأرض ، حيث حال بين السباع فيها وبين
مجاري عاداتها وحوافز طباعها وعمل النفوس السليطة التي ركبت فيها حتى تمنع من
مواقعة الفرائس وقد اكثبت لها وصارت أخذ أيديها ، بل وتأنس بأضدادها وتأنس الأضداد
بها!.
وقد تعني (مَقامُ إِبْراهِيمَ) كل هذه الآيات لأنها في مقامه الكعبة حيث رفع قواعدها ،
ومقامه الواضع قدمه عليه حيث موضع قدمه ، ومقامه الزمزم حيث مقام اسماعيله بأمه ،
ومقامه المنحر ومنى ، فكل هذه يصدق عليها مقام إبراهيم ، زمان قيامه ومكانه وأصل
قيامه بما قام ، وإنما خص بالذكر أمن المقام وفرض حج البيت ، كنموذجين من الآيات التكوينية
والتشريعية.
كما وان مقام
ابراهيم أيا كان لهذا البيت المبارك هو من الآيات البينات لفضله على القدس وما
سواه من البيوت المقدسة طول الرسالات ، حيث ترى موضع قدم الخليل في الصخرة حيث
ألان الله سبحانه له أصلادها بعد الصلابة وخلخل أجزاءها بعد الكثافة حتى أثرت قدمه
فيها راسخة وتغلغلت سانحة كما يتغلغل في الأشياء الرخوة والأرض الخوارة.
فلذلك البيت فضله
المنقطع النظير ، لا يخلو قريبا من طائف او مصل ، ولا بعيدا من مستقبل له في صلاة
وسواها ، آناء الليل وأطراف النهار ، فان
قضية كروية الأرض
دوران الآفاق فتداوم أوقات الصلوات الخمس في كل الأوقات دونما استثناء.
و (مَقامُ إِبْراهِيمَ) ادبيا قد يكون مبتدء خبره المحذوف «منها» او بدلا من «آيات»
مع «من دخله ـ ولله ...» او عطف بيان.
٥ (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ...).
أتراه أمنا شرعيا؟
ولا يخص البيت! فكل داخل في بيت وسواه وخارج عنه آمن في شرعة الله إذا لم يستحق
خلاف الأمن كالجاني!.
ام امنا واقعيا؟
ولم يأمن فيه سيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما السلام) وكثير مثله تقتيلا او
نفيا وتشريدا! فكيف يكون الأمن من ميّزاته بين البيوت وسواها من مدخل او مخرج؟!.
وقد سأل ابراهيم
أمنه : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ...) (٢ : ١٢٦) فاستجيب
له : (وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً)
(١٢٥)!.
قد يعني «آمنا»
أمنا زائدا على سواه شرعيا وواقعيا كما هو الواقع طول تاريخه المجيد ، ولم يختص به
أصل الأمن بنوعيه ، وإنما أصبح أمنه الخاص فيهما من ميزاته.
فالكعبة آمنة كما
هنا ، والحرم الحاوي لها ولمكة كلها آمن : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً) (٢٨ : ٧٥) ولكن
اين أمن من أمن.
فالداخل في الكعبة
أو المسجد الحرام آمن مهما كان مجرما ، ولكن يضيّق عليه في المأكل والمشرب حتى
يخرج فيقام عليه الحد ، إلّا إذا جنى في نفس المسجد الحرام أو الكعبة المباركة
فيقام عليه الحد فيما جنى والكعبة المباركة
__________________
هي منقطعة النظير
في ذلك الأمن كما في سواه.
ثم «آمنا» يعم بأس
الآخرة إلى الدنيا وبأحرى ، إلّا إذا دخل غير تائب عما اقترف ، غير خارج عن معصية
الله وهو في حرم الله ، فانه ناقض أمنه ، لأنه ناقص في دخوله .
__________________
وأمن الداخل في
الكعبة او المسجد الحرام أءمن من الداخل في مكة او الحرم ، ولم يأت «آمنا» لداخل
إلّا هنا ، ثم «بلدا ـ او ـ حرما آمنا».
وقد يقال ان ضمير
الغائب في «دخله» راجع ـ فقط ـ الى البيت ، فلا أمن إذا إلّا للداخل في نفس البيت
، دون المسجد الحرام فضلا عن الحرم كله؟.
لكن المرجع الأقرب
الصالح لرجوعه إليه هو (مَقامُ إِبْراهِيمَ) ويسع الحرم كله ، اضافة الى آيات أمن مكة ، والحرم كله
وتظافر الروايات ان المأمن هو الحرم كله .
والقول ان «فيه» راجع
الى البيت ، فمقام ابراهيم لا بد وان يكون ـ فقط ـ في نفس البيت ف «من دخله» يعني
مقام ابراهيم وهو نفسه في البيت فلا يعني الحرم كله؟.
قد يجاب عنه إضافة
الى ما قد مناه أن «فيه» تعني في البيت بما يتعلق به وهو الحرم كله ، كما (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) لا يعني انه نفسه محل الذبح.
ثم وليس من
المتعوّد دخول نفس البيت إلّا للخصوص من الزائرين ، دون العامة فضلا عن المجرمين.
__________________
وكذلك (مَقامُ إِبْراهِيمَ) ليس داخل البيت نفسه ، حتى القدر المتيقن منه وهو الحجر
المقام فضلا عن سواه من مقامه الواسع.
ثم (كانَ آمِناً) دون «أمن» وهي أخصر ، قد تلمح لعمق الأمن وثباته الى يوم
الدين ، ف «كان» تضرب الى عمق الماضي ، و «آمنا» الشامل لمثلث الزمان يستجرّ الأمن
الى عمق المستقبل ، فقد يأمن داخله عما مضى من ذنوبه وما يأتي إلّا ان يحدث حدثا
يبطل دخوله في البيت.
وترى «من دخله»
يخص الناس دون الحيوان؟ وأمن الإنسان ـ بطبيعة الحال وبأحرى ـ أمن للحيوان ، ف «من»
هنا يشمل كل ذي روح إنسانا وحيوانا ثم وسائر آيات أمن الحرم لا تخص الإنسان : (حَرَماً آمِناً ...).
أو يصح ان يكون
حرم الله آمنا للإنسان وليس آمنا للحيوان وهي أحوج إلى الأمن!؟ ثم الأمن مطلق يعم
النفس والعرض والمال ، فلا يطالب المديون في الحرم ولا يروّع .
٦ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ...)
اللّام في «لله»
ليست للانتفاع إذ لا ينتفع الله من حج العباد وسواه من فعالهم ، وإنما لاختصاص
العهدة على الناس لله ، ف «على الناس» ليست
__________________
لتثبت ـ فقط ـ فرض
الحج على الناس ، بل هو مع العهدة الثابتة عليهم ، فلا تسقط بتركه ولا بالموت إذا
استطاع إليه سبيلا لوقت مّا وتركه دون عذر.
و «الناس» هنا كل
الناس من مختلف الملل والنحل دونما تمييز ، وكما أمر ابراهيم الخليل بأذانه العام
: (وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ ..) (٢٢ : ٢٧) وآية
ثالثة مدنية (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ ...) ولكنها لا تخاطب إلّا من يحج ، أم هو شاغل بأداء مناسكه ،
حيث الإتمام لا يصح إلّا فيما اشتغلت به.
ولقد أذّن النبي
كما أمر في أخريات العهد المدني قبيل الفتح ، مرة للمسلمين حيث أمر المؤذنين ان
يؤذنوا .. واخرى للملل الستة.
فلما نزلت آية
الحج هذه جمع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أهل الأديان الستة المسلمين
والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال : «ان الله تعالى كتب
عليكم الحج فحجوا فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا لا نؤمن به ولا
نصلي إليه ولا نحجه فأنزل الله تعالى قوله : (وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)
.
__________________
وترى كيف تفرض
فريضة على الناس كلهم من استطاع .. واصل الشروط في صحتها الايمان بالله واليوم
الآخر والإسلام ، فكيف تفرض على المشركين وسواهم من غير المؤمنين؟ إنها فريضة
جماهيرية يستطيعها كل من استطاع إليه سبيلا ، ومن السبيل إليها تحصيل شرطها الأصيل
وهو الإسلام ، وليس الحج فقط فرضا على كافة المستطيعين من المكلفين بل هو في كل
فرائض الدين كما الصلاة والزكاة : «قالوا (ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ. قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ.
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ.) (٧٤ : ٤٥).
وهنا الأساس في
فرض الحج هم كافة الناس وعلى هامشهم الجن وسائر المكلفين : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وأما الكفار القصّر المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة ولا
يهتدون سبيلا إلى الايمان غير مقصرين فلا ، كما المسلمون غير البالغين او المجانين
او المرضى والفقراء او المحجوزين عن الحج ، أم أيا كانوا ممن لا يستطيع إليه سبيلا
لا يشملهم فرضه كما في سائر الفرائض.
إلا ان الحج فيها
تأكيدات اكثر من غيرها إلّا الصلاة ، ف «لله» تأكيد لفرضه أنه من حقوق الألوهية ، و
«على الناس» تأكيد ثان ، وثالث إذ قدم عامة الناس كأنه فرض عليهم دونما شروط ، ثم
استثنى ب (مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) ظروف الحرج والعسر عن أداءه ، وفي الإبدال تثنية للمراد
فتأكيد له حيث يلمح المبدل عنه كأنه فرض مطلق ، ثم البدل بيان لحدّه ، وذلك تأكيد
__________________
أكيد لفرض الحج
على المستطيعين ، ثم (وَمَنْ كَفَرَ ...) تهديد شديد بالكافر بفرضه ، ثم التارك له على فرضه وهو
مؤمن به وهو الكفر عمليا قرنا بكفر عقائدي!.
(.. حِجُّ الْبَيْتِ)
لقد ذكرت هذه
الفريضة مرات عشر في القرآن كله ، تسعا «الحج» فتحا ، ومرة يتيمة كما هنا (حِجُّ الْبَيْتِ) كسرا ، وليس بين التسع آية تحمل فرض الحج كهذه إلّا آية
الأذان ، فما هو الحج هنا والحج في غيرها؟.
«الحج» في الأصل
هو القصد ، ثم اصطلاحا في شرعة الله هي القصد الأصل من الزيارات ، فهو القصد إلى
زيارة بيت الله ، وهو كثرة القصد الى من يراد تعظيمه ، وهو الكف ، والغلبة بالحجة
، والقدوم ، وكثرة التردد ، وقد يضمها كلها حج البيت ، فانه القصد الى من تعظمه
زيارة لبيته الحرام بديلا عن زيارته نفسه المستحيلة ، ومن شروطه الأصيلة الكف عن
غير الله ، والكف في هذه السبيل عن محارم الله ، وقد يتمثل الكف في تلبيات الإحرام
، وهو الغلبة بدليل على هواك والغلبة بمؤتمره على النسناس ، او ان الناس حضروه كما
يجب ، وشهدوا منافع لهم كما يجب ، وقاموا قومتهم الجماهيرية على النسناس المعارضين
شرعة الناس ، إذا فالحج حجة وغلبة بالحجة! ، وهو القدوم الى بيت الله ، وكثرة
التردد اليه ، ويجمعها كلها القصد القاطع لزيارة بيت الله.
واما «الحجّ» فهو
اسم لذلك المصدر ، فهو حاصل الحج ، زيارة مقصودة ، فليس لله على الناس ـ فقط ـ حجّ
البيت وهو قصده ـ دون واقعه ، بل حجّ البيت ، وهو الزيارة المقصودة بكل مناسكها ،
والمقصودة بكافة جنباتها السياسية العبادية الجماهيرية.
و (حِجُّ الْبَيْتِ) تعم الحج والعمرة فهما كالظرف والمجرور إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا
اجتمعا ، ف (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) تفصل بينهما ، والحج بمفردها تشملهما ، فالعمرة واجبة كما
الحج ، سواء أكانت مع الحج ، ام مفردة لمن يستطيع الحج معها او لا يستطيعه.
ف (حِجُّ الْبَيْتِ) هو زيارة البيت ، عمرة مفردة ، ام تمتعا مع حجها ، ومن
آياتها (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (٩ : ٣) فيقابله
الحج الأصغر وهو العمرة مفردة وتمتعا ، إذا فهي حج كما هو حج.
ومما يفرض العمرة
كما الحج (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
__________________
اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ ...) (٢ : ١٩٦).
(مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً ..)
«من» هنا بدل عن «الناس»
إذا فالناس المستطيعون إليه سبيلا هم المعنّيون بفرض الحج ، وهل إنه أمر بفوره فور
استطاعته لوقته فلا يجوز تسويفه دون عذر؟ طبعا نعم! فإنه قضية أصل الأمر ، ولا
سيما المحدّد بالاستطاعة الحاصلة ، فليؤدّ فورها لموسمه.
وهل تكفي حجة
الإسلام مرة واحدة طول عمر التكليف؟ طبعا نعم! فلو كانت فرضا أكثر منها أم كل سنة
ما دامت الاستطاعة لصرحت بها الآية ، والآتي بها مرة مستطاعة لم يكفر بها عمليا إذ
حققها ، فلا تندد به (وَمَنْ كَفَرَ) و (حِجُّ الْبَيْتِ) ليست لتدل على اكثر من مرة واحدة ، إلا إذا صرحت الآية أو
صرحت به السنّة ، والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول جوابا عن سؤال : «أفي
كل عام يا رسول الله؟ لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن
تعملوا بها ، الحج مرة فمن زاد فتطوع» .
__________________
والاستطاعة هي طلب
الطوع عقليا وعقلائيا وماليا وأمنيا من صحة وحفاظ عرض ونفس وسواهما من النواميس
الخمس ، وأمن طريق ، أمّا ذا من طوع دون عسر ولا حرج ، لا في طريق الحج قبله ولا
في مناسكه ولا في رجوعه ، بحيث لا يتعسر او يتحرج بسبب الحج.
فمادة الوجوب هنا
هي استطاعة سبيل إلى حجّ البيت ، وطبعا دون عسر ولا حرج ، وليس تفسيرها بالزاد
والراحلة في المستفيضة المروية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة اهل
بيته (عليهم السلام) ، إلا تفسيرا بالأكثرية الساحقة من مصاديق الاستطاعة حيث
القلة القليلة هم المستطيعون دون زاد حاضر وراحلة ، بل المشاة هم السابقون في آية
الحج على الرّكب : (وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ ...) (٢٢ : ٢٧) .
إذا ف «حجة
الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين ولقد كان أكثر من حج مع النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) مشاة» (١) وليس من عنده زاد وراحلة إلا ممن يستطيع الحج ، لا
أنه المستطيع لا سواه .
__________________
ثم المحتاج الى
زاد حاضر وراحلة ، ان استطاع الحصول عليها دون عسر ولا حرج ، فهو ممن استطاع اليه
سبيلا ، وليس تحصيلهما تحصيلا للاستطاعة ، إلّا إذا كانا هما ـ فقط ـ الاستطاعة ،
كيف لا وقد أمر الفقير ان يخدم القوم ويخرج معهم .
__________________
كيف لا! وآية
الأذان تقدم المشاة على الركب : (وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ ...) (٢٢ : ٢٧).
هنا «يأتوك» دون «يأتونك»
جواب لأمر الأذان ، والأمر بالأمر يخلف واجب الأمر ، ثم «رجالا» جمع راجل (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) : هزيل «يأتين» : كل ضامر بركبها ، و (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) يعم (رِجالاً وَعَلى كُلِّ
ضامِرٍ) : يأتوك ـ يأتين : (مِنْ كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ).
ولأن «سبيلا» هي
الطريق المنحدرة ، فإذا كانت السبيل اليه حاصلة فقد استطاع اليه سبيلا ، وإذا
استطاع الحصول على هذه السبيل ، إزالة لعسرها أو حرجها ، دونما عسر او حرج فيها
فقد استطاع اليه سبيلا ، حيث السبيل المستطاعة هي الميسورة وإن بوسائط قريبة ام
غريبة.
إذا فالملحد له
اليه سبيل بالإيمان بالله فانه ميسور ببراهينه ، والمشرك له إليه سبيل بتوحيد الله
، والكتابي له إليه سبيل بالإسلام ، والمسلم الفقير المريض الذي ليس له أمن الطريق
أمّاذا من السبل غير الحاصلة بالفعل ، انه له اليه سبيل ما استطاع الحصول على
المال والصحة وأمن الطريق اما هي من السبل دون حرج ولا عسر ، فالمستطيعون الى الحج
سبيلا ـ إذا ـ هم الاكثرية المطلقة من الناس ، فلذلك (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).
وما اشتراط الزاد
والراحلة إلّا اشتراطا لكونهما ميسورين حاضرا وسواه ، فرب زاد وراحلة غير ميسورين
وهما حاضران ، ام هما ميسوران وليسا بحاضرين ، فالأصل هو استطاعة السبيل الى الحج
بمقدمات قريبة ام بعيدة ما دامت غير حرجه ولا معسورة.
والاستطاعة
المشروط بها فرض الحج تعم العقلية والعقلائية والشرعية
والبدنية والأمنية
والمالية والعرضية أمّاهيه مما تجعل الحج بطوع الحاج دونما عسر ولا حرج.
فما أمكن منها
الحصول عليها بمحاولات مستطاعة كتحصيل الزاد والراحلة والصحة البدنية والحالة
الأمنية أماهيه ، وجب الحصول عليها ، فان هذه الإمكانية هي من استطاعة السبيل الى
الحج ، حيث السبل إليه مختلفة ، وما لم يمكن او كان في عسر أو حرج فلا يجب ،
فالمدار هو استطاعة السبيل اليه أيا كان وأيان ، دونما حصر بزاد وراحلة ام وصحة
وامنية فعلية ما أمكن الحصول عليه واستطاع السبيل اليه.
ثم الاستطاعة قد
تكون فردية كما بيناها ، واخرى اجتماعية ، فلئن حج عامة المكلفين بقي وجوب الحج
على جمع من الجماهير المؤمنة ثابتة إذ يحرم تعطيل هذا المؤتمر السنوي الاسلامي
العالمي ، كما تلمح له الآية (عَلَى النَّاسِ) وتصرح مستفيضة الروايات.
٧ (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنِ الْعالَمِينَ)
والكفر هنا راجع
الى نكران فرض الحج فانه المحور الأصيل في الآية
__________________
ومن ثم عمل الحج بفارق أن الأوّل كفر عقيدي والثاني عملي ، ثم الكفر بثواب
الحج إن أتى به وعدم العقاب على تركه سواء أتى به في هذه الحالة ام ترك ، وهذه الأربع
كلها معنية ب (وَمَنْ كَفَرَ ..) حيث الآية تشمل هذه الزوايا : فرضه ـ تطبيقه ـ ثوابه ،
وعقاب تركه ـ ثم وتركه ، كما والأحاديث تدلنا على هذا الإطلاق.
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها
__________________
عِوَجاً
وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ
تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
وَأَمَّا
الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ
(١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ
ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما
عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)
(١١٢)
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٩٨).
استفهام إنكاري
بتعريض عريض أن كيف يكفر الكتابي بآيات الله وهو عشيرها لكونه من اهل الكتاب ،
وذلك النكران هو أضل سبيلا لهم أولاء الأنكاد وللذين آمنوا ببساطة ولمّا يقع
إيمانهم موقعه الصامد ، حاسبين أن لو كان القرآن ورسوله حقا من الله لآمن به أهل
الكتاب قبلنا ، إلّا من هداه الله ونجاه بما جاهد في سبيل الله وكرّس حياته لله ف (الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً
وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧).
(لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللهِ) رسالية ورسولية ، النازلة بعد ما أنزل إليكم من كتاب (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) في كفركم وبمختلف أساليب التضليل ، لا تخفى عليه منكم
خافية ، وقد كانوا يظنون ان الله لا يعلم كثيرا مما يعملون (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ. أَوَلا
يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٢ : ٧٦).
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً
وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
(٩٩).
ليس فحسب أنكم (تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) في أنفسكم ، بل و (تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) صدا بكفركم ، وآخر بإيمانكم ثم كفركم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وثالث بدعاياتكم الباطلة الخواء ، عائشين ثالوث الصد عن
سبيل الله من آمن ، حال أنكم (تَبْغُونَها عِوَجاً) تطلّبا للسبيل العوجاء (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) سبيل الله لمكان الكتاب ، و «شهداء» الحق بما شهد لكم
الكتاب ورسول الكتاب ، «وأنتم» يجب عليكم ان تكونوا «شهداء» الحق لمن لم يشهده (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) على ماذا
تعملون بكفرهم
وصدكم عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا!.
فشهادة الحق
والشهادة بالحق والشهادة على الحق وشهادة نكران الحق هي زوايا اربع من (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) مما يضخّم مسئولية الكافرين الصادين عن سبيل الله.
ذلك كيد لعين لئيم
من اهل الكتاب الكافرين ، فحذار حذار للذين آمنوا أن يتخذوا فريقا منهم أولياء
لأنهم اهل الكتاب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)
(١٠٠).
وإنما حذروا عن
طاعة فريق منهم وطاعة غير المؤمن محظور أيا كان؟
لأن اهل الكتاب
فرق ثلاث ، منهم الصادون عن سبيل الله وهم الذين حذّر عن طاعتهم ، ومنهم المؤمنون
بهذا الرسول وكتابه وهم آهلون للطاعة في سبيل الله وهم قادة الايمان بسند الكتاب ،
ومنهم عوان لأنهم (أُمِّيُّونَ لا
يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ) لا يدعون إلى شيء حتى يطاعوا وهم حائرون في أمرهم أنفسهم ،
مهما افترقوا إلى متحر عن الحق ليتبعه ، ومهمل يعيش حائرا مائرا ، والجامع بينهما
ألا دور لهما في دعوة حتى يأتي دور الطاعة سلبا وإيجابا ، ثم ولما ذا يطاع أهل
الكتاب؟ ألكي يهدوكم سبيل الرشاد؟ وأنتم راشدون بكتاب الله ورسوله! :
ذلك وكما قال رسول
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حينما دس يهودي بين الأوس والخزرج فأخذا يتقاتلان
: «يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله
الى الإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به
بينكم ترجعون الى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من
عدوهم فألقوا السلاح
وبكوا وعانق
الرجال بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سامعين
مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله ...» .
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ
وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)
(١٠١).
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ) بعد ايمانكم ـ بطاعتهم ثم كفركم ـ مهما دخلت فيكم الدعايات
الكتابية الكافرة وأنتم أقوى منهم حجة ، (وَأَنْتُمْ تُتْلى
عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) خالصة عن كل دس وتجديف ، آيات هي دلالات ذات بعدين على
الحق ، إذ تدل بنفسها على انها من الله ، ثم تدل على حظائر القدس ، وهي اتقن
الآيات الرسالية على مدار الزمن الرسالي.
ثم (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) وليس فيهم رسولهم ، فأنتم مزودون بالحجتين
__________________
البالغتين
الإلهتين؟؟؟ وهم خواء عنهما ، لا يعيشون إلا خليطا من وحي السماء بوحي الأرض ف (كَيْفَ تَكْفُرُونَ)؟!
ثم (وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ)
بالله كأصل في كافة الحالات ولا سيما في أجواء التضليل والتجديل ، وبكتاب الله
ورسوله دلالة صادقة معصومة على الله لأنه اعتصام بالله ، حيث يذكر بعد (آياتُ اللهِ وَرَسُولُهُ)
بل هو الأصل والسبيل الوحيد في الاعتصام بالله ، ثم زيادة الهدى من الله تتبنّاه :
(وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).
فمن يزعم انه
معتصم بالله ، تاركا لكتاب الله ورسوله ، فقد ضل ضلالا مبينا ، ف (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ...).
اجل هناك اعتصام
بالله دون وسيط وهو ان تدعوا الله ان يهديك ويغفر لك ذنوبك ، ولكنه لا يفيد ما لم
تعتصم بالله بوسيط كتابه ورسوله وهما العاصمان بالله عن ورطات الجهل والطغوى الى
درجات العلم والتقوى ف «من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله ما أهمه من امر
الدنيا والآخرة ومن تشاعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية هلك» .
و «أيما عبد أقبل
قبل ما يحب الله عز وجل أقبل الله قبل ما يحب ومن اعتصم بالله عصمه الله ومن أقبل
الله قبله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على
__________________
الأرض ...»
و «المعصوم هو
الممتنع بالله من جميع محارم الله» .
فمثلث الاعتصام
بالله ينجي اهل الله عن ثالوث الصد عن سبيل الله (فَقَدْ هُدِيَ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢
: ٥٤)
(.... فَهَدَى اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢
: ٢١٣).
وهنا (تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ
وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) مما يثبت ان الكتاب والسنة يكفيان في التدليل على الحق
المطلق في أجواء التضليلات فضلا عما سواها ، فما دام الرسول فينا فهو الذي يهدينا
الى ما خفي عنا من دلالات الكتاب وتأويلاته وإذا ارتحل عنا فسنته الثابتة المعروفة
بموافقة الكتاب هي الحجة بعد الكتاب ، ثم لا حجة بعدهما لأي سلب او إيجاب ، في أي
قليل او جليل.
ولأن العترة
الطاهرة المعصومة هم حملة السنة الصالحة نسمع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
يقول فيما تواتر عنه : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» فمهما صدقنا ما
يروى عنه : «وسنتي» بدلا عن عترتي ما كنا نصدق حاملا للسنة إلا الأمناء المعصومين
وهم عترته.
ف «سنتي» لأنها
سنتي ، ثم «عترتي» لأنهم المأمونون على سنتي ، كما
__________________
وهم الذين يفسرون
الكتاب حقه كما أنا الرسول.
ولو أن هناك غير
الكتاب والسنة هاديا الى الصراط المستقيم ـ من إجماعات وشهرات ونظرات واجتهادات
بقياسات واستحسانات واستصلاحات وأشباهها من غير الكتاب والسنة ـ لجاء ذكره ـ وإن
مرة يتيمة او اشارة ـ في الذكر الحكيم.
فانما هو الاعتصام
بالله في خضم الضلالات والتضليلات مهما قويت فان الله أقوى والمضلون هم أضعف
وأغوى.
وماذا بعد الهدي
الى صراط مستقيم ، فالمؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف ...
وهنا اعتصام فردي للحفاظ على الايمان الفردي ، دفعا لمكائد الصادين عن سبيل الله ،
ثم اعتصام جمعي جماهيري للمؤمنين بالله يعصمهم عن المكائد الجماهيرية الكافرة ،
ويحافظ على دولة الايمان عالية خفاقة ، تبين الآيات التالية شروطا متأصلة لذلك
الاعتصام.
هذه الآيات تبين
لنا الشروط الايجابية الأربع والسلبية الثلاث والنتائج المنتوجة على ضوء تطبيقها
ومنها (لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذىً ...) :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(١٠٢).
ركيزة أولى بعد
الايمان تقوم عليها الجماعة المسلمة تحقيقا لكيانها وتأدية لدورها ، صمودا في وجه
أعداءها الألداء ، هي تقوى الله حق تقاته والموت مسلما ، فبدون هذه الركيزة تكون
الأمة فالتة في تجمّع جاهل قاحل مهما ملكت من ادعاءات وحملت من أسماء براقة مشرقة
ك : «المؤمنون».
(اتَّقُوا اللهَ) ولكن كيف وكم وإلى اين؟ (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ) كما وكيفا (وَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مدى وغاية ، أن تصبح حياة الإيمان تقوى حقة
حقيقية بحذافيرها
في كل صغيرة وكبيرة.
وليس ل (حَقَّ تُقاتِهِ) حدّ يتصور ، فكلما أوغل القلب في هذه السبيل تكشفت له آماد
وآفاق وجدت له أشواق ، في تيقظ من شوقه الى درجات فوق ما ارتقى.
وقد يروى عن أحق
الأتقياء في (حَقَّ تُقاتِهِ) ـ «ان يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى»
و «لا يتقي الله
عبد حق تقاته حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما اخطأه لم يكن ليصيبه» .
إذا فبادروا العمل
وخافوا بغتة الأجل فانه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق ما فات اليوم
من الرزق رجى غدا زيادته وما فات أمس من العمر لم ترج اليوم رجعته الرجاء مع
الجائي واليأس مع الماضي ف (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
.
__________________
والتقى الحقة هي
المحلّقة على ظاهر التقي وباطنه علما واعتقادا وعملا صالحا اسرارا وإعلانا ف : «الدنيا
كلها جهل إلا مواضع العلم والعلم كله حجة إلا ما عمل به والعمل كله رياء إلا ما
كان مخلصا والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم له» .
وترى كيف يؤمر
المؤمنون ان يتقوا الله حق تقاته وهو غير مستطاع لأحد او مستحيل على كل أحد حتى أوّل
العابدين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فضلا عمن دونه من المؤمنين؟.
فهل إنها منسوخة
بآية الاستطاعة (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) (٦٤ : ١٦)؟ و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها) (٣ : ٢٨٦) و (إِلَّا ما آتاها) (٦٥ : ٧)! فكيف
يكلفهم بغير ما يستطيعون ، وما لم يؤتهم من الطاقة حتى يتقون (حَقَّ تُقاتِهِ)؟.
فرواية النسخ منسوخة ـ لأن فيها نسخا للمحال بالممكن ـ أو مأولة بمعنى
التخصيص ، أنها خصت بآية الاستطاعة بقدر المستطاع فحق تقاته من الرعيل الأعلى ،
غير المستطاع ممن دونهم ، انه لا يكلف به من لا يستطيعه ، فل (حَقَّ تُقاتِهِ) درجات ، لا يكلف منها أحد إلا قدر استطاعته ، فقد تحلّق (حَقَّ تُقاتِهِ) على كل مدارج «تقاته» حسب المستطاع ، و (مَا اسْتَطَعْتُمْ) بيان
__________________
ل (حَقَّ تُقاتِهِ) انه ليس الحق الاول للسابقين في «تقاته» فأين النسخ او التخصيص
اللهم إلّا التفسير والتوضيح.
ذلك ، فل (حَقَّ تُقاتِهِ) درجة مستحيلة على الكل وهي كما يحق لساحته تعالى ، واخرى
مستطاعة للرعيل الأعلى غير مستطاعة لمن دونهم ، وثالثة مستطاعة لمن دونهم ، ولا
تعني (حَقَّ تُقاتِهِ) إلا الأخيرين كلّا في درجته حسب المستطاع.
فلا يعني (حَقَّ تُقاتِهِ) إلا الحق المطلوب منهم ، المستطاع لهم ، كلّ على قدره
وقدره ، فكما الايمان درجات كذلك تقوى الايمان درجات من أعلاها كما لأول العابدين
الى أدناها كما لآخر العابدين وبينهما عوان من المتقين.
وعلّ الخطاب هنا
في أعلاه موجه الى المعصومين (عليهم السلام) كما في «وجاهدوا في الله حق جهاده هو
اجتباكم ... ملة أبيكم ابراهيم» (٢٢ : ٧٨).
ثم المستحيل على
العباد هو معرفة الله حق معرفته وعبادته حق عبادته ، واما تقواه حق تقاته فكما قال
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «ان يطاع فلا يعصى وان يذكر فلا ينسى» وهذا يطم
في خضمّه كل مراتب التقوى الحقة حسب مختلف القابليات والفاعليات ، شاملة لحق
العدالة والعصمة ، ثم العاصي المقصر خارج عن نطاق الآية ، والمعصومون هم في قمتها
العالية.
ولا يعني «يذكر
فلا ينسى» أن المؤمن مأخوذ بذكره تعالى أبدا فانه غير مستطاع إلا للمعصومين حيث
الغفلات المتاهة تخلّله ، والشهوات المباحة تتوسطه ، والنوم والإغماء والتقية
والمرض تحول دونه.
فانما أمروا أن
يتقوا الله حق تقاته كما يستطيعون ، وليهابوا بلوغ أدنى حدود المعصية ، ويقفوا عن
اولى مراتب السيئة ، فلا يقتربوها كيلا يقترفوها ،
فالمعاصي حمى الله
ومن حام حوم الحمى أوشك ان يوقع فيها ، فاجعل بينك وبين الحرام حاجزا من الحلال ،
فانك متى استوفيت جميع الحلال تاقت نفسك الى فعل الحرام ، وكلما كثرت الزواجر كانت
على المعاصي اردع ، والى فعل الطاعات أحوش واجذب.
ذلك ـ فمن جانب
جميع ما نهاه الله عنه دون مقارفة ولا مقاربة ، وأتى بجميع ما امره الله به ، وكل
ذلك قدر المستطاع دون إهمال ولا تقصير ، فقد اتقى الله حق تقاته.
وترى بعد كيف (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) والموت مسيّر لا مخير؟ وكما (إِنَّ اللهَ اصْطَفى
لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢ : ١٣٢).
هنا النهي موجه
الى الموت دون إسلام ، ناظرا الى عاقبة الأمر لمن اتقى الله حق تقاته ، فلا تكفي
هذه التقوى الحقة لفترة من حياة التكليف ، بل والاستمرار فيها تكليف فوق تكليف ،
ومهما كان الموت مسيرا ، فالموت حالة الإسلام مخيّر ، أن يستمر التقي في تقواه ،
او تكون كل لاحقة منه خيرا من أولاه ، تقدما على طول خط الحياة في تقوى الله ، دون
تنازل عن حدها المستطاعة ولا وقفة عليه.
وفي صيغة أخرى إن
الإنسان مكتوم عنه أجله أيا كان لما في كتمانه من مصلحة تربوية ، فلا يعرف متى
تكون منيّته ، وعلى أي جنب صرعته ، فحين ينهاه الله أن يموت إلا مسلما فقد ألزمه
في كل حال على ذلك الإسلام ، إذ لا يأمن على أية حال أن يموت عبطة او هرما.
ذلك ومن جملة كمال
إسلام المؤمن التوبة واستدراك الذنوب الفارطة ، فقد الزمه سبحانه بما أمره ونهاه ـ
مع التمسك بفرائض الأوقات وطاعاتها
واجتناب محارمه
ومقبحاته ـ ان يستدرك ماضيه بتوبته لكيلا يموت إلا وهو مقطوع بإسلامه السليم.
ثم هنا خطاب
المؤمنين ان يتقوا الله حق تقاته مما يشي بان التقوى أخص من الايمان ، ومن ثم (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) غاية لتقوى المؤمنين مما يوضع أنه الإسلام بعد الإيمان
بوسيط التقوى ، فليس هو الإسلام قبل الايمان ولا مع الايمان وتقواه ، بل هو
الإسلام لله خالصا مخلصا نتيجة لتقوى الإيمان ، إذا فالإسلام الأول وهو الإقرار
ذريعة الايمان والايمان ذريعة التقوى والتقوى ذريعة للإسلام الثاني فهو ذروة الايمان
والتقوى ونتيجة لهما.
(وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
(١٠٣).
إن ذلك الايمان
والتقوى والإسلام لا تصح إلا أن تتبنّى اعتصاما بحبل الله جميعا ، فبدونه ليست هي
عاصمة لحامليها ولا معصومة عن الاخطاء الموجهة إليها الهاجمة عليها.
والحبل حبلان مادي
ومعنوي ، سمي به لأن المتعلق به ينجو مما يخافه كالمتشبث بالحبل إذا وقع في غمرة
أو ارتكس في هوّة ، وكذلك الحبل العهد وثيقا حيث يستأنس بها من المخاوف ، والحبال
يستنقذ بها من المتالف وهذا هو التشابه بينهما.
فكلما كان صاحب
الحبل أعلم وأقوى فحبله أعصم وأنجى ، فحبل الله ينجي المتمسك به من كلّ عطب وهوّة
ويعصمه عن كل خوفة.
لقد امر الله
المؤمنين ـ ككل ـ ان يتقوا الله حق تقاته ولا يموتن ألا وهم مسلمون ، فلا بد ـ إذا
ـ من حبل رباني يعتصمون به في حق تقاته ، فالتقوى
دون حبل هي قد
تكون طغوى فان الله يحب ان يعبد كما يحب.
والاعتصام هو طلب
العصمة وهي درجات ثلاث ، عصمة بشرية دون حبل الله ، وعصمة غير المعصومين بحبل الله
، وعصمة المعصومين بحبل الله.
فلان العصمة
البشرية بالفطرة والعقلية والفكرة لا تكفي لها هديا الى صراط مستقيم ، ثم العصمة
المطلقة خاصة بالمعصومين ، لذلك يؤمر المؤمنون ان يعتصموا بحبل الله جميعا حتى
يحصلوا على عصمة دون الطليقة ، فكما المعصومون يعصمون علميا بحبل الله ، كذلك من
دونهم ، كل على قدره.
الاعتصام بحبل
الله جميعا يعصم المعتصمين فطريا وعقليا وفكريا ، علميا وعقيديا وخلقيا ، سياسيا
وحربيا واقتصاديا وسلطويا ، فهذه العشرة الكاملة من العصمة فردية وجماعية مضمونة
للمعتصمين بحبل الله على أقدارهم (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
وذلك الاعتصام
يعتمد على أركان : المعتصم ـ المعتصم به ـ المعتصم عنه ـ المعتصم لأجله.
فالمعتصم هم
المؤمنون على درجاتهم من أعلى الايمان كما المحمديون (عليهم السلام) ، وإلى أدناه
وبينهما متوسطون في الإيمان ، حيث الكل مأمورون بتقوى الله حق تقاته ، ومن حقها
التقوى الجماعية بعد الفردية.
والمعتصم به هو
حبل الله ، وهو وحي الله الأصيل غير الدخيل.
والمعتصم عنه هو
كافة المزالق في الحياة الفردية والجماعية.
والمعتصم لأجله
الحصول على كامل مرضات الله في معرفته وطاعته وعبادته.
وعلى هذه الأركان
الأربع يتبنى عرش الايمان الصالح الصامد.
وللاعتصام بحبل
الله شروط ثلاثة هي الاعتصام جميعا ـ للمعتصمين
جميعا ـ بحبل الله
جميعا ، فان «جميعا» تتعلق بهذه الثلاث جميعا.
و (بِحَبْلِ اللهِ) على وحدته تعم الحبل الرسولي الى الحبل الرسالي ، وحدة
ثنوية وثنوية ووحدوية ، فان محمدا هو القرآن والقرآن هو محمد ، طالما كان القرآن
بنفسه أطول وأدوم وأكمل وأعظم من محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهما وحدة
متماسكة متجاوبة في كافة الحقول دونما اي أفول إلّا شخص الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) ولكن سنته باقية كما القرآن ، مهما لم تتبين إلا بالقرآن كما القرآن
يتبين بها تفسيرا باطنيا وتأويلا.
وكما المعصوم
بالروح القدسي والعصمة الربانية يعتصم علميا بالقرآن ، كذلك سائر المعتصمين بالقرآن
يعتصمون به على درجاتهم في العصمة البشرية وفرقان من الله (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقاناً).
فلان القرآن هو
طليق النور من نور السماوات والأرض ، فالاستنارة به للمعتصمين به تعصمهم على أقدار
أنوارهم البهية المرضية.
ليس القرآن كتاب
العلوم الرسمية التي تفتح أبوابها لكل شارد ومارد ، إنما (أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) فلا تفتح أبوابه المعنية في عناية الله إلّا لأهل الله.
وخير المخارج عن
المضايق هي مخارج الآيات و «من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ..
قد جعل الله لكل شيء قدرا» (٦٥ : ٢).
فإتقان اللغة
والأدب وإتقان التدبر والتفكير في استفسار الآيات بعضها ببعض ، إن ذلك كله راحلة
لسفر القرآن والزاد هو التقوى التي بها توصل إلى مرادات الله جل وعلا.
ثم وجميعا في
جمعية الاعتصام نفسه تعني جميع الطاقات والامكانيات التي تصلح لذلك الاعتصام حيث
تصلحه.
فعلى كل مؤمن
بالرسالة الاسلامية تجميع كل طاقاته في مهام أوقاته
وأحسنها وانضرها
وانظرها ، تكريسا لها كلها للاعتصام بحبل الله ، تقديما له على سائر الحبال وكما
قال : (وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ).
ذلك والى تدبر
واسع حول آية الاعتصام بحول الله الملك العلام.
ولنعرف «حبل الله»
جيدا جادا لكي نتمكن من الاعتصام به جميعا ولا نتفرق عنه او فيه؟ «حبل الله» لا
تحمله إلّا هذه الآية اليتيمة ، اللهم إلّا (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ
وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) (٣ : ١١٢) وقد
تعني (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) حبل الله هنا مهما اختلفا محتدا في شريعتي القرآن
والتوراة.
فقد يخيل الى
البسطاء انه غير مفسّر في القرآن ، والقرآن هو ككلّ حبل الله ، إذ لا وسيط ـ منذ
بزوغ الإسلام حتى القيامة الكبرى ـ بين الله وبين المرسل إليهم إلا القرآن كأصل
ثابت لا عوج له ولا حول عنه ولا أفول لشمسه ، ومن ثمّ الرسول وذووه المعصومون (عليهم
السلام) تفسيرا له وتأويلا ، وحبل القرآن أتم وأدوم وأكمل وأعظم ، والحبل الظاهر
الدائم هو المحور الأصيل لواجب الاعتصام على مدار زمن التكليف ، كما انه الحبل للرسول
والائمة من آل الرسول (عليهم السلام).
فهو الصراط
المستقيم والنور المبين وحجة الله على الخلق أجمعين والشهيد لرب العالمين ،
فمواصفات القرآن في نفسه بأسمائه وفي آيات منه تؤكد لنا انه حبل الله المتين وسببه
الأمين لا يعوج فيقام ولا يزيغ فيستعتب ، وكما يروى عن ثاني الحبلين رسول القرآن (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) قوله : «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء الى الأرض»
و «ان هذا القرآن سبب طرفه بيد
__________________
الله وطرفه
بأيديكم فتمسكوا به فانكم لن تضلوا ولن تضلوا بعده أبدا»
و «إني تارك فيكم
كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة» .
ذلك حبل الله
الأصيل ، ومن ثم الرسول البديل الدليل على الله الجليل ، ثم الذين يحملون ذلك
الروح الرسالي المعصوم ، الذين يقال عنهم : «أولنا محمد ـ أوسطنا محمد ـ آخرنا
محمد وكلنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)» فإنهم هم الصادرون عن محمد كما محمد
صادر عن الله في كتاب الله وسنته الشارحة لكتاب الله.
صحيح أن (بِحَبْلِ اللهِ) بإفراده يعني حبلا واحدا لا ثاني له ، وإلا لقال حبلي الله
أو حباله ، ولكن محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو القرآن كما القرآن هو محمد (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) فرقدان لا يفترقان وقد أشير إليها قبل بعد (وَأَنْتُمْ تُتْلى
عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) مما يبرهن ثنوية الحبل
__________________
حال وحدويته ،
وكذلك الآيات الآمرة باتباع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مصرحة بهذه التثنية
الموحدة الموحدة.
لذلك لا يصدق أي
حديث يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) او حملة علم الرسول (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) إلّا إذا وافق كتاب الله ـ أم لأقل تقدير ـ لم يخالفه ، شريطة
اطمئنان بصدوره عنهم بوجه صالح دونما تقية.
فلذلك نجد في
الحديث المتواتر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ان حبل الله هما الثقلان ،
أحدهما أطول ـ اكبر ـ أفضل ـ أول ـ أعظم ـ وهو كتاب الله والآخر الأصغر هم عترة
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رواه بمخمّس الافضلية للكتاب الفريقان في
قمة التواتر من أحاديث الإسلام عن زهاء ثلاثين من اصحاب الرسول (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) ونفر من الصحابيات عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
__________________
__________________
__________________
__________________
وقد يروى ان
الخليفة عمر سأل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد ما يقول كتاب الله وعترتي
ـ اما كتاب الله فقد عرفناه فمن عترتك يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
فقال : عترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» .
ولا ريب ان اهل
بيته هم المعنيون معه في آية التطهير والمباهلة واولي الأمر وأشباهها ، فهم الائمة
الاثنى عشر المعصومون والصديقة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين.
__________________
وعدم افتراقهم عن
كتاب الله يعني انهم ليسوا حجة مضادة مفترقة عن كتاب الله فإنهم صادرون عنه ، فما
يروى عنهم من خلاف للكتاب نصا او ظاهرا مستقرا ليس ليصدّق عليهم.
وعدم افتراق كتاب
الله عنهم عام في تأويله ، خاص في تفسيره ، فإنهم معلموا الكتاب بعد الله ورسوله.
والثقل الأصغر حسب
ما يروى عن والدهم الأكبر علي امير المؤمنين (عليه السلام) «هم الدعاة وهم النجاة
، وهم أركان الأرض ، وهم النجوم بهم يستضاء ، من شجرة طاب فرعها وزيتونة طاب أصلها
، نبتت من حرم وسقيت من كرم ، من خير مستقر إلى خير مستودع ، من مبارك إلى مبارك ،
صفت من الأقذار والأدناس ، ومن قبيح ما يأتيه شرار الناس ، لها فروع لا تنال ،
حصرت عن صفاتها الألسن ، وقصرت عن بلوغها الأعناق ، وهم الدعاة وهم النجاة ،
وبالناس إليهم الحاجة ، فأخلفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم بأحسن
الخلافة فقد أخبركم أيها الثقلان أنهما لن يفترقا هم والقرآن حتى يردا علي الحوض
فألزموهم تهتدوا وترشدوا ولا تتفرقوا عنهم ولا تتركوهم فتفرقوا أو تمرقوا» .
__________________
وإذا كان الثقل
الأصغر هكذا فالأكبر ـ إذا ـ أنبل وأعلى ، والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو
رأس الزاوية في الثقل الأصغر وهم خليفته في تعليم الثقل الأكبر وتطبيقه.
ولأن الاعتصام لا
بد وان يكون بمعتصم حاضر على مدار الزمن فهو القرآن أولا وأخيرا وليس الثقل الأصغر
له دور إلا دور البيان المعصوم والتطبيق المعصوم ، ولا سبيل للوصول إليهم بعد ما
قضوا نحبهم إلا أحاديثهم المروية عنهم ، ولا سبيل للتأكد من صدورها عنهم إلا
موافقتها للثقل الأكبر.
ثم الاعتصام ـ وهو
طلب العصمة ـ بحبل الله طليق في كافة الحقول الحيوية الايمانية والتقى والإسلامية
فردية وجماعية ، فطرية ـ عقلية ـ فكرية ـ ثقافية ـ عقيدية ـ خلقية ـ عملية ـ سياسية
ـ حربية واقتصادية.
فلا تكفي العقلية
الانسانية ان تعصم الإنسان حتى في نفسها فضلا عن سائر الحقول العشرة العشيرة
للإنسان في حياته الفردية والجماعية.
والعصمة الطليقة
لا تحصل إلا بعصمة المعصوم بالحبل المعصوم ، ثم دونها بعصمة معصومة بالشورى مع
تفكير صالح وتطبيق صالح لمرادات الله تعالى.
فلا عصمة في مثلث
الايمان التقوى الإسلام إلّا بالاعتصام بحبل الله ، وليس فحسب اعتصاما شخصيا ، ان يتقبّع
كلّ في زاويته الخاصة في اعتصامه
__________________
بالقرآن ، بل «جميعا»
في كل حقوله فإن (أَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ).
صحيح ان حبل الله
ـ في بعدية ـ معصوم ، والاعتصام بالمعصوم عاصم ، ولكن الأخطاء العارضة في ذلك
الاعتصام لا تجبر في الأكثر إلا بشورى الاعتصام ، فهنالك العصمة الكاملة الكافلة
لحياة اسلامية سامية ، اللهم إلا اخطاء قليلة لا محيد عنها للمعتصمين غير
المعصومين ، مهما جبرت الشورى الصالحة فيه قسما عظيما من تلكم الأخطاء.
وذلك دواء لأواء
الفتن المقبلة علينا وكما في خطبة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «فإذا أقبلت
عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين
لا يعوج فيقام ولا يزيغ فيستعتب» «واعتصموا .. ولا تفرقوا» في ثالوثه المنحوس :
تفرقا عن حبل الله ، تفرقا فيه ، وتفرقا فيما بينكم في ذلك الاعتصام عن حبل الله
أو فيه.
فالمتفرقون عن
كتاب الله إلى روايات او نظرات او إجماعات وشهرات ، او قياسات واستحسانات او
استصلاحات أمّاذا من مصادر ، هم متفرقون عن شرعة الله المتمثلة ككل في حبل الله.
كما المتفرقون عن
الحبل الثاني زعما منهم انه حسبنا كتاب الله ـ والسنة المباركة لزامه تبيينا
وتفسيرا وتأويلا ـ هم ـ كذلك ـ متفرقون عن شرعة الله.
فالاعتصام الوحدوي
بالحبلين هو العاصم ، فترك احد الحبلين الى الآخر تفرق عنهما جميعا فإنهما لا
يفترقان و «حسبنا كتاب الله» هي كلمة حق أريد بها الباطل ، حق كما قال الله «او لم
يكفهم انا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم» وباطل حين يراد بها تنحية السنة
الرسالية عن الكتاب ، حيث الكتاب الذي هو حسبنا يأمرنا باتباع الرسول ، فالتارك
لسنة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الآخذ بكتاب الله ، كما التارك له الآخذ
بسنة الرسول (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) هما
من المقتسمين (الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ) ، بفارق ان الآخذ بالسنة أضل سبيلا فانها لا تعرف إلا
بكتاب الله ، مهما لم يعرف تأويل الكتاب إلّا بالسنة.
فالذي يصدق بالمتن
، هو ـ بطبيعة الحال ـ يصدق بالهامش الذي كتبه الماتن نفسه ، وليست السنة
الاسلامية إلّا هامشا بيانيا من الماتن نفسه.
وان اختلاف
الهوامش عن المتون في الكتابات غير الإلهية ، هو قضية اختلاف الماتن والمحشي في
النظرات العلمية ، وأما متن الوحي وهامشه فلا فرق بينهما إلّا جملة وتفصيلا.
لذلك ليست السنة
لتخالف الكتاب او تنسخه ، كما التبصرة القانونية لا تنسخ القانون ، وانما تشرحه
وتوضّحه ، مهما كان من غير المقنن ، فضلا عن السنة الاسلامية التي هي عبارة ثانية
شارحة للمقنن!.
ذلك وكما
المتفرقون عن حبل الله اعتصاما لطائفة وتركا له لأخرى ، والمتفرقون في حبل الله
بشطحات الآراء في تفاسير شاردة ماردة ، والمتفرقون فيما بينهم في مادة الاعتصام
وكمه وكيفه ، كل أولئك شرع سواء في تركهم الاعتصام بحبل الله جميعا دون طليق
التفرق عنه وفيه وبين ، مهما اختلفت دركاته.
فكما الله واحد في
كافة شئون الربوبية وكل تفرق بشأنه مارد عن توحيده ، كذلك كتابه الكريم واحد في
كافة الشئون التربوية ، فكل إلحاد فيه أو إشراك به أو تفرق فيه او عنه ، كل ذلك
مارد شارد.
فالذلة هي لزام
المتفرقين في حقل ذلك الحبل (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) فربانية الاعتصام هي التمسك الصالح بكتاب الله ، ثم (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) هو ذو بعدين: الثقل الأصغر وهم الناس المعلمون لكتاب
__________________
الله ، والكتلة
المؤمنة ككل وهم الناس المتعلمون من الحبلين بجمعية المحاولات والشوراءات في ذلك
الاعتصام.
فالعصمة الاسلامية
عن كل بأس وبؤس فردي وجماهيري مكفولة على ضوء الاعتصام بحبل الله جميعا دون تفرق ،
حيث الحبل في بعدية معصوم ، وجمعية الاعتصام بحبل الله عاصمة ، مهما لم تبلغ هذه
العصمة مبلغ العصمة المطلقة للمعصومين ولكنها تبلغ إلى أشرافها حيث تقل الأخطاء في
ذلك الاعتصام المشرّف.
ذلك «واذكروا نعمة
الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا» و (نِعْمَتَ اللهِ) هنا الوحيدة غير الوهيدة هي الوحدة الإيمانية بألفة القلوب
، فقد تألف العقول والعلوم ، والقلوب شتّى ، والنص القرآني هنا يعمد إلى مكمن
المشاعر ـ الأصيل ـ وهو القلب ، تصويرا للقلوب كحزمة مؤلفة متآلفة.
فقد كانوا اعداء
متناحرين لا يأمنون لحياة فألف الله بين قلوبهم بنعمة
__________________
الوحدة الايمانية
المترابطة ف : (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ
اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٨ : ٦٣).
وعامل التأليف بين
قلوبهم بالله هو حبل الله : قرآن محمد ومحمد القرآن ، فإنهما يؤلفان بالله بين
القلوب الداعية لذكر الله ، الداعية إلى الله ، (فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) في الله ، تاركين كافة المفارقات والمنازعات .
فكل وحدة وهيدة
زهيدة إلّا ما كانت بين القلوب في اعتصام جماهيري بحبل الله ، فلا تنفصم بأي فاصم
، ولا تنقصم او تنقسم باي قاصم او قاسم.
«واذكروا ... إذ
كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ...» وشفا حفرة هو أشرافها ، فان شفى
الشيء حرفه وطرفه المائل اليه وقد كانوا على شفا حفر النيران ، في جهالات وشهوات
ولهوات وكل رذالات الحياة ، فليست هذه النار ـ إذا ـ نار الدنيا ، بل هي الأخرى ، فشفاها هي الحياة الدنيا الكافرة ، و (حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) هي النار البرزخية ومن وراءها الأخرى ، وليس بين شفاها
__________________
وحفرتها إلا فاصل
الموت ، وقد شبه هنا المشفي ـ بسوء عمله ـ على دخول النار ، بالمشفي ـ لزلة قدمه ـ
على الوقوع في النار ، استعارة لطيفة ما ألطفها : «أفمن أسس بنيانه على شفا جرف
هار فانهار به في نار جهنم» (٩ : ١٠٩) وضمير التأنيث في «منها» راجع الى ثالوث :
شفا ـ حفرة ـ من النار ـ إذ نجّاهم الله منها كلها ، او ان (حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) تعم النارين ، فالأولى هي العقبات السوء الى الاسوء
فالأسوء ، حيث المجتمع المبني على شتات القلوب والأهواء ليس ـ على أية حال ـ إلّا
في نار هي شفا حفرة من نار هي أحرّ وأشجى ، حتى يسقطوا في هوات النار الأخرى.
فالحياة
اللّاايمانية ، بل والايمانية غير المعتصمة جميعا بحبل الله ، إنها حياة رذيلة على
أشراف سقطات في حفر النيران ، اللهم إلّا اعتصاما بحبل الله جميعا (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ
النَّاسِ) و (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
فيا لها نعمة ما
أعظمها إن يخرجوا منها الى غيرها ويا لها مصيبة إن لم يؤمنوا بها فيرغبوا عنها ، ولقد أنقذنا الله تعالى من نار الدنيا والآخرة بحبله
المتين القرآن المبين والرسول الأمين ، ولعمر محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم
تنزل «محمد» في لفظ التنزيل مهما كان واردا في واقع التأويل.
فحياة التكليف غير
المعتصمة بحبل الله جميعا هي (شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ)
__________________
و (شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي
نارِ جَهَنَّمَ) في شطري البرزخ والقيامة.
قول فصل حول حديث
الثقلين :
اولية الثقل
الأكبر وكونه أفضل واكبر وأعظم من الثقل الأصغر هي في الكيان ، وأطوليته في الزمان
، والأخيرة باهرة حيث لا افول للقرآن والثقل الأصغر ميتون ف (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
واما التفاضل في
الكيان فقد يعنى منه معنيان :
١ محمد صلّى الله
عليه وآله وسلّم وهو رأس الزاوية في الثقل الأصغر ، هو قبل هذه العصمة الإلهية عصم
بعصمة بشرية ، مزودة بهدي رباني من روح القدس ، ثم عصم بعصمة ربانية قمة متصلة بقلبه
ومنفصلة بحامل الوحي ، ومن ثم بعصمة وحي القرآن والسنة ، ووحي القرآن دون ريب هو
أثقل من كل العصم التي تزود بها فانها كمقدمات وتهيئات والعصمة القرآنية هي الغاية
القصوى.
إذا فالقرآن هو
الثقل الأكبر ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأصغر ، طالما الرسول (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) بما حوى قلبه القرآن بكل حلقاته وحقوله ، هو اكبر من احد الثقلين
، إلّا ان حديث الثقلين يعني المقارنة بين الكيانين.
٢ ان العصمة
الإلهية هي أثقل من العصمة البشرية في كل دور من ادوارها ، فضلا عن مثلثها ، فهي ـ
إذا ـ اكبر منها على أية حال ، ومهما كان مجمع الثقلين أفضل من كلّ منهما ولكن
الثقل الأكبر لا ريب انه أطول وأدوم.
فلا ملجأ زمن غيبة
الثقل الأصغر إلّا الثقل الأكبر ، ثم الأصغر يعرف بموافقة الأكبر ، «وانهما لن
يفترقا حتى يردا علي الحوض».
فالأصغر لن يفترق
عن الأكبر فان عصمته العلمية ليست إلا بالأكبر ، وبلاغه الرسالي ليس ـ في الأصل ـ إلا
عن الأكبر ، وسناده في كل قليل وجليل ليس إلا إلى الأكبر ، وهو يعيش الثقل الأكبر
في النشآت الثلاث.
والأكبر لن يفترق
عن الأصغر حيث يأمر بالرجوع الى الأصغر (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وانه لا يعرف تأويلات ومآخذ أحكامه ألا الأصغر ، ولا يحكم
به عاصما معصوما إلا الأصغر ، ولا ينذر به ويذكر كأكمل ما يرام إلّا الأصغر.
فليس يعني عدم
افتراق الأكبر عن الأصغر انه ـ ككل ـ لا يفهم إلا بتفسير الأصغر ، لأنه بيان للناس
، فإنما الأليق لتبيينه وتطبيقه والحكم به ، واللائق لتأويله هو الأصغر ، وحين لا
يكون الثقل الأصغر ثقلا لو افترق عن الأكبر فما ذا تكون أحوال سائر الأمة المفترقة
عن الثقل الأكبر.
إن افتراق الحوزات
الإسلامية عن الثقل الأكبر ملموس محسوس ككل ، ثم المدعوون اتصالهم بالثقل الأصغر
خاوون فانه لا يعرف إلّا بالعرض على الأكبر ، إذا فهم تاركوا الحبلين ، حبل من
الله : القرآن ، وحبل من الناس هم اهل بيت القرآن.
و «ما ان تمسكتم
بهما لن تضلوا ابدا» تحكم بضلالنا إذ تركنا التمسك بهما إلى مستمسكات أخرى هي
ويلات على الامة الإسلامية السامية.
و «لن يفترقا»
ليست لتعني افتراقا في السلطة الروحية الزمنية حيث ينتقص بزمن الغيبة ، انما هو
افتراق وحي الكتاب عن وحي السنة ، فالسنة لا تفترق عن الكتاب فانها الوحي الفرع
الهامش المفسر والمأول للوحي الأصل ، وهي مستفادة من القرآن ، فلا تنسخه او
تخالفه.
والكتاب لا يفترق
عن السنة لأنه الذي يأمر باتباع السنة وان الرسول
(صلّى الله عليه
وآله وسلّم) هو المذكّر بالقرآن (فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).
لقد كان الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) صاحب الحبلين ، فخلف عن الأصغر ـ وهو نفسه ـ عترته ، وخلف
عن الأكبر ـ وهو القرآن ـ نفسه ، إذ لا بديل عنه ، وإنما البديل في غير الأصيل
الذي يعرضه الموت دون القرآن الذي يجري كجري الشمس.
وإن الذلة مضروبة
على كل أمة رسالية (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) فالحبل الأوّل هو الحبل الرسالي الذي يحمله وحي الله ،
والثاني هو الرسولي الذي يحمله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن ثم
عترته ، ثم المؤمنون بالرسالة حيث كان (أَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ).
فلا حياة صالحة
إيمانية إلا بالاعتصام بالحبلين الربانيين ، ونحن تركناهما إلى حبال متفرقة متشتتة!.
فالاعتصام بغير
المعصوم مأثوم ، والاعتصام بالمعصوم بقسمة العضين مأثوم ، والاعتصام بأحد الثقلين
دون الآخر مأثوم ، والاعتصام بالثقلين دون جمعية فيه وفي الجماعة المسلمة كما في
جمعية حبل الله ، مأثوم ، فانما الاعتصام العاصم المعصوم هو الاعتصام بحبل الله
جميعا دون أي تفرق عنه أو فيه أو بين المعتصمين ، فإن حبل الله يجمع المعتصمين به
ولا يفرق ، إذا اعتصموا به كما يحق ، تحرّيا عن مرادات الله ، دون تحميل ولا
تدجيل.
لقد روى حديث
الثقلين عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ستة مواضع : يوم عرفه على ناقته
القصوى وفي مسجد خيف وفي خطبة يوم الغدير في حجة الوداع ويوم قبض في خطبته على
المنبر وفي بيته عند وفاته ، وعند
رجوعه عن سفر له ،
ويا لها من مواضع هامة عامة تضم الغفير من المسلمين! .
ومن ألفاظه «عن
أبي سعيد الخدري عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه قال: اني أوشك ان ادعى
فأجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى
الأرض وعترتي أهل بيتي وإنّ
__________________
اللطيف الخبير
أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما.
ومنها ما رواه عنه
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : خرج علينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) في مرضه الذي توفي فيه ونحن في صلاة الغداة فقال : اني تركت فيكم كتاب الله
عز وجل وسنتي فاستنطقوا القرآن بسنتي فانه لن تعمى ابصاركم ولن تزل أقدامكم ولن
تقصر أيديكم ما أخذتم بهما ثم قال : أوصيكم بهذين خيرا.
ولقد بلغت الأهمية
الكبرى الرسالية في حديث الثقلين لحد يكرره الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في
تلكم المجامع الستة أخيرتها في خطبته يوم وفاته ثم في بيته ، ونحن نعلم انه لم
يكتب في شيء من مهام الدين إلّا بعض كتاباته إلى الأمراء والملوك دعوة إلى الإسلام
، ثم نراه يطلب ان يكتب عند وفاته كما تواتر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لما
حضر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن
الخطاب قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده
فقال عمر : إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف
أهل البيت فاختصموا منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) كتابا لا تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف
عند النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) : «قوموا» .
__________________
ومن حديث امير
المؤمنين علي (عليه السلام) قال : لما ثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
مرضه والبيت غاص بمن فيه قال : ادعو لي الحسن والحسين فجاؤا فجعل يلثمهما حتى أغمي
عليه فجعل علي (عليه السلام) يرفعهما عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ففتح عينيه وقال : دعهما يتمتعا مني وأتمتع منهما فستصيبهما بعدي أثرة ثم قال :
ايها الناس قد خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي اهل بيتي فالمضيع لكتاب الله
تعالى كالمضيع لسنتي والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي أما إن ذلك لن يفترق حتى اللقاء
على الحوض .
ومن حديث فاطمة
الزهراء (عليها السلام) قالت سمعت أبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه الذي قبض
فيه يقول : ـ وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ـ أيها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا
وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إني مخلف فيكم كتاب ربي عز وجل وعترتي أهل
بيتي ثم أخذ بيد علي فقال : هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا
علي الحوض فأسألكم ما تخلفوني فيهما» .
__________________
ومن حديث ابن عباس
ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجع من سفر له وهو متغير اللون فخطب
خطبة بليغة وهو يبكي ثم قال : ايها الناس قد خلفت فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي
وارومتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ألا وإني أنتظرهما ألا وإني أسألكم يوم
القيامة في ذلك عند الحوض ألا وإنه سترد علي يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الامة
راية سوداء فأقول : من أنتم فينسون ذكري فيقولون نحن أهل التوحيد من العرب فأقول :
أنا محمد نبي العرب والعجم فيقولون : نحن من أمتك فأقول : كيف خلفتموني في عترتي
وكتاب ربي فيقولون : أما الكتاب فضيعنا وأما عترتك فحرصنا على أن نبيدهم فأولّي
عنهم فيصدرون عطاشا قد اسودت وجوهم ، ثم ترد راية أخرى أشد سوادا من الأولى فأقول
لهم : من أنتم؟ فيقولون كالقول الأوّل نحن من اهل التوحيد فإذا ذكرت اسمي قالوا :
نحن من أمتك فأقول : كيف خلفتموني في الثقلين كتاب الله وعترتي؟ فيقولون : أما
الكتاب فخالفناه ، وأما العترة فخذلنا ومزقناهم كل ممزق فأقول لهم : إليكم عني
فيصدرون عطاشا مسودة وجوههم ، ثم ترد راية أخرى تلمع نورا فأقول : من أنتم؟
فيقولون : نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى نحن أمة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ونحن بقية أهل الحق حملنا كتاب ربنا وأحللنا حلاله وحرمنا حرامه وأحببنا ذرية محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم) فنصرناهم من كل ما نصرنا به أنفسنا وقاتلنا معهم وقتلنا
من ناواهم فأقول لهم : ابشروا فانا نبيكم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولو
كنتم كما وصفتم ثم اسقهم من حوض فيصدرون رواء ألا وان جبرئيل اخبرني بان امتي تقتل
ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء الا ولعنة الله على ما قاتله وخاذله ابد الدهر.
ومن حديث الحسن بن
علي (عليهما السلام) في خطبة له قال خطب جدي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوما
فقال بعد ما حمد الله واثنى عليه ،
معاشر الناس إني
ادعى فأجيب ، واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ان تمسكتم بهما لن
تضلوا وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فتعلّموا منهم ولا تعلّموهم فإنهم أعلم
منكم ولا تخلوا الأرض منهم ولو خلت لانساخت بأهلها ثم قال : اللهم إنك لا تخلي
الأرض من حجة على خلقك لئلا تبطل حجتك ولا تضل أولياءك بعد إذ هديتهم أولئك
الأقلون عددا والأعظمون قدرا عند الله عز وجل ولقد دعوت الله تبارك وتعالى أن يجعل
العلم والحكمة في عقبي وعقب عقبي وفي زرعي وفي زرع زرعي إلى يوم القيامة فاستجيب
لي» .
ولان الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) والائمة من آل الرسول هم مجمع الثقلين فهم ـ إذا ـ أفضل من
أحدهما وكما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «اني تارك فيكم الثقلين
كتاب الله وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أفضل لكم من كتاب الله لأنه مترجم لكم
عن كتاب الله» .
ذلك ولكن الرسول
وعترته دون القرآن هم دون القرآن كما القرآن دونهم هو فوقهم.
هذا الثقلان هما
المثقلان المعتصمين بهما جميعا عن كل خفة واستخفاف فكما «المؤمن كالجبل الراسخ لا
تحركه العواصف ولا تزيله القواصف» كذلك ـ وبأحرى ـ الامة المعتصمة بحبل الله جميعا
، وهو الثقلان ، لا يستخفها مستخف.
__________________
وكلما كان
الاعتصام أقوم كان ثقل الأمة أعصم ، وإلى القمة العليا في زمن القائم المهدي عجل
الله تعالى فرجه الشريف.
فإنه من الثقلين ،
يحكّم الثقل الأكبر وهو من الأصغر ، فلا تبقى ـ إذا ـ أرض إلّا نودي فيها بالتوحيد
والرسالة الإسلامية.
إن آية الاعتصام
هي القمة في محاور الأمر المؤكد في هذه الآيات التي تتبنى قوة المؤمنين ، فتقوى
الله حق تقاته غير ميسورة إلّا بذلك الاعتصام ، وحين تتفلت أفراد من المؤمنين أو
جماعات عن ذلك الاعتصام فهنا أمر وقائي للحفاظ على ذلك الاعتصام الذي يحتضن حق
تقاة الله ، وقد تكفلته هنا آيتان فرضا لمثلث الدعوة الى الخير والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بفصل آيات خمس فيها تنديدات شديدة بالمسودّة وجوههم المتخلفين عن
حبل الله.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(١٠٤).
(مِنْكُمْ أُمَّةٌ) في تكوين هذه الأمة دليل الكفائية في ذلك الفرض الجماهيري
وقاية للامة ككلّ عن كل تشرد وتخلف ، وحماية لتحقيق الواجبات الفردية والجماعية ،
حيث التخلف هو طبيعة الحال في أية امة من الأمم ، فواجب الوقاية لهم يفرض عليهم
تكوين أمة داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر «وأولئك» الأركام داعين
ومدعوين (هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وخطاب «ولتكن» هو
موجه إلى كافة المؤمنين ، دون خصوص الداعين لمكان «منكم» فعلى المؤمنين ككل تكوين
هذه الأمة من أنفسهم ، انتخابا لنخبة صالحة إن كانت كائنة ، ام تكوينا لها ـ ان لم
تكن ـ قدر الكفاية لواجب الدعوة والأمر والنهي.
وقد تعني «من» هنا
التبيين إلى جانب التبعيض ، تبعيضا بالنسبة
للمسلمين أنفسهم ،
وتبيينا بالنسبة لكافة المكلفين ، ان يكون المؤمنون أنفسهم ككلّ دعاة الناس إلى
الخير ثم أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر.
فواجب الدعوة
والأمر والنهي في الوسط الإسلامي كفائي ، وفي الوسط العالمي عينيّ إذ لا كفاية في
دعوة البعض ، ولا أقل من أن يكونوا دعاة الناس بغير ألسنتهم ، وأمثولات الحق
بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم.
وواجب التكوين ذو
بعدين اثنين ان يصنع كلّ نفسه لصالح الدعوة ويصنع آخرين لها أو يدعوهم لذلك الصالح
الجماهيري ، تواصيا بينهم بذلك الحق الحقيق بالتواصي كرأس الزاوية في التواصي
الإيماني السامي.
و «الخير» المدعو
إليه هنا هو خير الايمان والتقوى والإسلام المتبنية خير الاعتصام بحبل الله جميعا
دون تفرق ، والجامع لها على حد قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «إتباع
القرآن وسنتي»
الذي يتوحد في
الاعتصام بحبل الله جميعا دون تفرق ، فكما حبل الله واحد في أصله ، كذلك الخير ،
فأصل الخير هو حبل الله كما ان حبل الله هو الخير.
ثم الخير هنا
مبتدء بالسلب وهو ترك ما يناحر الاعتصام بحبل الله ، ومختتم بالإيجاب وهو نفس
الاعتصام ، وهكذا يكون كل خير كما ومبدء كل خير هو المركب من السلب والإيجاب : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).
إذا ف «الخير» تعم
خيرا ثقافيا ـ عقيديا ـ خلقيا وعمليا ، إيجابا للواجبات وسلبا للمحرمات ، وهذا هو
رأس الزاوية في «الحافظين لحدود الله» ثم يأتي
__________________
دور الأمر والنهي
بشروطهما المسرودة في الكتاب والسنة ، فلا أمر ولا نهي قبل الدعوة الصالحة إلى
الخير ، ف (ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٦ : ٢٥).
وأيم الله إن هذه
لآل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن تابعهم يدعون إلى الخير ويأمرون وينهون
عن المنكر
دون هؤلاء الذين
يجب ان يدعوا الى الخير ويؤمروا وينهوا.
ولقد أمضينا القول
الفصل حول هذين العمادين الإسلامين على ضوء قوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) و (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) واضرابهما فلا نعيد .
والجدير بالذكر
هنا ضرورة الطاقة القوية الصامدة في هذه الأمة الداعية الآمرة الناهية ، ولا سيما
الأخريان ، حيث إن القضية الطبيعية للأمر والنهي هي السلطة الصالحة لتنفيذهما قدر
المقدور.
لا أقول إنها هي
السلطة الزمنية ، فقليل هؤلاء المرسلون والذين معهم لهم تلك السلطة ، وواجب الدعوة
والأمر والنهي كان عليهم لزاما أوليا.
إنما أقول ، هي
الطاقة النفسية والثقافية أماهيه من طاقات تسمح لتلك الدعوة الصارمة والأمر والنهي
من وراءها.
فهذه الزوايا
الثلاث المحمّلة على تلك الأمة ليست باليسيرة الهينة ، حيث
__________________
تصطدم بطبيعة
الحال بشهوات الناس ونزواتهم ومصلحياتهم ، بغرورهم وكبريائهم ونخوتهم ، وفيهم
جبارون غاشمون ، والهابطون الكارهون لكل صعود روحي او عملي ، وفيهم المسترخي
المهمل الكاره لكل جدّ واشتداد ، فلتتزود تلك الأمة بكل قوة وسداد ، وهزم واجتهاد
واستعداد لمواجهة المكاره المضنية والمعارك الدموية (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ).
وتعقيبة الآية هذه
الواصفة لهذه الامة الداعية بالإفلاح ، هي من عساكر الدلائل على اشتراط المعرفة
بالخير وفعل المعروف وترك المنكر للداعي الآمر الناهي ، فان فاقدها أم فاقد أحدها
ليس من المفلحين ، بل هو من الفالجين المفلجين!.
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)
(١٠٥).
(لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) عن حبل الله ، وعن الاجتماع في الاعتصام به «واختلفوا»
فيما بينهم عن جمعية الاعتصام ، اعتصاما بحبل وتركا لآخر ، ام تبعيضا في كل حبل
كتابا وسنة ، وذلك السقوط الجارف الخارف (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الداعية إلى الوحدة الإيمانية الجماهيرية ، وأية بيّنة
أبين من بينة الوحي الصارم وهو حبل الله المعتصم به لمن أراد الاعتصام.
«وأولئك» الحماقى
البعاد (لَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) في الأولى والأخرى ، إذ يعيشون شفا حفرة من النار ... أجل
وإن الاختلاف في المذاهب هو نتيجة طبيعية للتفرق عن حبل الله ، أن يتخذ كلّ لنفسه
وذويه مذهبا يعتبره كأنه الإسلام كله وما سواه كفر ، وكما ابتليت الأمة الإسلامية
كالذين من قبلهم بذلك فاختلفوا بعد ما تفرقوا أيادي سبا ، وفصلت بينهم شتى المذاهب
واستعبدتهم السلطات الاستعمارية ، فأصبحت الأمة الإسلامية على سعتها وسيادتها شذر
مذر أيادي
سبا! وقد تواتر عن
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنباءه عن افتراق الأمة الإسلامية إلى ثلاث
وسبعين فرقة واحدة منها ناجية وهي الجماعة تعني المعتصمين بحبل الله جميعا ، دون أية جماعة فان كل
فرقة جماعة لا محالة ، فالفرقة المعتصمة بحبل الله في ثقليه هي الفرقة الناجية ،
وغيرها من الفرق غير ناجية! مهما كانت سنة او شيعة ، ف (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).
وفي أخرى ان
الواحدة ما انا عليه اليوم واصحابي وهم الذين معه في حمل هذه الرسالة السامية بحذافيرها.
__________________
وترى التفرق
والاختلاف في الفروع الأحكامية لاختلاف في تفهم البينات ، ولان المجتهدين ليسوا
بمعصومين ، هل هو داخل في تهديد العذاب الأليم؟.
كلّا ، وإنما هو
التفرق عن حبل الله والاختلاف فيه أو عنه بعد البينة علما وعتوا وتقصيرا ، وأما
القصور بعد صالح الجهد والاجتهاد ـ جمعا بين جمعية الاعتصام التي تضمن شورى بينهم
ـ فلا ، بل هو مشكور محبور مهما كان للمخطئ غير المقصر أجر واحد وللمصيب أجران.
(يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)
(١٠٦).
هنا اسوداد خاص
للوجوه الخصوص ، هؤلاء الذين كفروا بعد ايمانهم اهل كتاب او مسلمين حيث تفرقوا
واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات ، وهي ضمن سائر الوجوه الكافرة ، ومن العجاب أن
كل مذهب يذهب الى ان غيره من المسودة وجوهم باختلاق روايات وتكلف تأويلات تفرقا في ذلك
__________________
واختلافا بعد ما
جاءتهم البينات ، وإن المسودة وجوههم هم المتخلفون عن الاعتصام بحبل الله جميعا ،
ومن المجمع عليه ضروريا بين كافة المسلمين أن عليا (عليه السلام) من المبيضة
وجوههم ، فالذين معه هم من هؤلاء الوجوه النيرة ، فسواهم سواهم ، وعلى الجملة فهذه
الوجوه المسودة هي من ضمن سائر الوجوه الكالحة : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٣٩
: ٦٠)
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٨٠
: ٤٠) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٧٥
: ٢٤).
ثم هنا (فَذُوقُوا الْعَذابَ) يعم خالده وسواه ، فان الضالين من المسلمين ليسوا على سواء
، فمنهم من يذ(ق العذاب ثم ينجو ، وفي ذوق العذاب دون دخوله تلميح مليح
أنهم لا يستحقون دخول النار ولا خلوده ، إلا من يستحقه بارتداد وسواه من شاكلة
الكفر بعد الايمان.
(وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)
(١٠٧).
فالخلود في رحمة
الله هو الأبدية اللانهائية فإنها عطاء غير مجذوذ قضية الفضل في واسعة الرحمة ،
وذوق عذاب الله مقدر بقدر الاستحقاق فإنه جزاء وفاق قضية العدل فإنه مضيق ،
واللّانهائية في العذاب ظلم فانها جزاء غير وفاق. هكذا ينبض المشهد بحوار مع
المعتصمين بحبل الله والكفار في دار
__________________
القرار ، معروضة
عليهم في دار الفرار ، نبهة لهم عن غفوتهم ، وأدركا بعد سهوتهم و :
(تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ)
(١٠٨).
«تلك» البعيدة
المدى ، القريبة الهدى (آياتُ اللهِ) رسولية ورسالية (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) ـ آيات بالحق ـ نتلوها بالحق ـ عليك حالكونك بالحق ، بسبب
الحق ومصدره ، مصاحبة للحق ، لغاية الحق ، بيانا للحق ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) بل هم أنفسهم يظلمون ، وكما في حديث قدسي «خلقتهم ليربحوا
علي لا لأربح عليهم» .
ف «تلك» المساير
والمصاير ، تلك الحقائق البينة الصادرة من رب العزة غير السادرة ، «تلك» هي (آياتُ اللهِ) دون من سواه ، دالة بأنفسها انها ربانية المصدر والصدور ، (نَتْلُوها عَلَيْكَ) يا حامل الرسالة الأخيرة «بالحق» الثابت الحقيق بالبقاء
دون نسخ ولا تجديف او تحريف (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) وهو القوي العزيز ، فإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف!.
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
(١٠٩).
وترى ماذا يعني
رجوع الأمور إلى الله ، وهي في علمه وسلطانه ، غير خارجة عنهما ما وجدت؟ إنه تعالى
ملّكنا في دار التكليف والامتحان أمورا نحن فيها مستخلفون ليبلونا أينا أحسن عملا
، ثم عند تقضّي هذه الدار وانتقال هذه الحال ترجع أمورنا المخيرة لنا الى الله
مسيّرة علينا ، وكما كنا أجنة في بطون أمهاتنا دون حول ولا قوة إلّا بالله.
إن الأمور
المسيّرة هي راجعة الى الله على أية حال حيث لا فاعل لها إلا الله ، فانما الأمور
المخيرة هي الراجعة الى الله في يوم الله ، حيث الله يحاسبها
__________________
ويجازي عليها ،
وقد كان قبل يعلم مصادرها ومسايرها ومصائرها ، والى ما ترجح أوائلها وأواخرها ، فقد
رجعت الآن إلى ما كان يعلم الله فاتقوه ان توافوه بمعاصيكم ومآسيكم.
كما وان ناسا في
هذه الأدنى ربما يخيل إليهم زورا وغرورا أنهم يملكون لأنفسهم أم ولسواهم نفعا أو
ضرا دون تخويل من الله أو تمويل ، إضافة للمخصوص بالله إلى أنفسهم ، خلعا لبعض
صفاته عنه الى خلقه ، فإذا انحسر قناع الشك ، وانكشف غطاء الرأس ، واضطر الناس الى
معارف وانقطع التكليف وتقوضت الدنيا بحذافيرها ، علم الجميع ألّا مؤثر في الكون
إلا الله (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) على أية حال في الأولى والأخرى مهما اختلفتا تخييرا
وتسييرا.
فهنا الرجوع ليس
إلّا بالنسبة لمعرفة الغافلين ، وليس حقيقة الرجوع لأنها كائنة على أية حال.
ذلك! وأصل الرجوع
هو الانعطاف والانقلاب بشيء ، لا أنه كان عندك ففارقك تماما او بعضا ، وإنما
الانعطاف بعد الانحراف ، والانقلاب بعد الانغلاب ، فالسابقون هم راجعون بأمورهم
إلى الله إذ ما يشاءون إلا أن يشاء الله وكما يروى عن علي (عليه السلام): لو كشف
الغطاء ما ازددت يقينا.
(كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)
(١١٠).
أترى من هم
المعنيون هنا ب «كنتم»؟ أهم أمة الإسلام كلهم ومنهم ـ وهم أكثرهم ـ فسقة يدعون إلى
الخير ويؤمرون وينهون وقد لا يأتمرون او ينتهون! ثم ولا تختص الفريضتان بهذه الأمة
، بل تحلقان على كل الأمم الرسالية حفاظا عليها : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ام هم
الأمة الآمرة
الناهية ، وهم عدول الأمة الإسلامية وربانيّوها ، المتوفرة فيهم شروطات الأمر
والنهي ، حيث الخطاب يخص السابق ذكرهم في (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ)؟ فكذلك الأمر في ثاني الأمرين وهو أممية ذلك الفرض الرسالي
دون اختصاص بالدعاة المسلمين!.
فهم الأمة الوسط
بين الرسول والأمة ، التي وجبت لها دعوة ابراهيم (عليه السلام) : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٢ : ١٢٨).
ذلك! مهما شملت
هذه الأمة في ذيلها ربّانيّ الامة الاسلامية ، فهما ـ بين كل الأمم الداعية في
التاريخ الرسالي ـ خير امة أخرجت للناس وهم كل المرسل إليهم ، أم هم المسلمون
الأوّلون إذ كانوا خير أمة آمرة ناهية مؤمنة؟ ومتى كانوا هم كلهم كذلك ثم تحوّلوا
عن ذلك! أفي العهد المكي؟ ولم يكن هناك أي مجال لأمر او نهي أللهم إلّا امن الحفاظ
على أنفسهم وعقائدهم! ام في العهد المدني؟ والآية نازلة فيه! أم في بدايته؟
والنهاية كانت أحسن من البداية وقد تمركزت دولة الإسلام!.
ثم وهم بداية
ونهاية في ذلك العهد لم يكن الآمرون منهم والناهون إلّا الأقلين ، وكما الحالة نفس
الحالة في كل الأدوار الإسلامية!.
هنا «أمة» هم
الأمة الآمرة الناهية ، فالآمرون الناهون من المسلمين هم خير الدعاة في تاريخ
الدعوات على مدار الزمن الرسالي ، لا سيما بمن
__________________
فيهم من السدة
العليا لرسولية والرسالية محمد وعترته المعصومون (عليهم السلام) صحيح أن الأمة الإسلامية هي خير الأمم رسوليا ورساليا
لإسلامها السليم ، ولكنهم ليسوا ـ ككلّ ـ خير الأمم ، وانما هو مبدئيا بارز في
دعاتهم إلى الله ، وخيرهم ـ كما هم خير الدعاة ـ هم الدعاة المعصومون (عليهم
السلام).
فالخطاب هنا يشمل
مثلث الدعاة إلى الله في هذه الأمة ، والمعصومون منهم هم رأس الزاوية ، ثم
الربانيون ، ومن ثم سائر الآمرين ـ من الامة ـ والناهين.
إذا فهو خطاب
يحلّق على كل الأدوار الرسالية الإسلامية منذ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
إلى يوم الدين ، فهم أولاء الثلاثة هم (خَيْرَ أُمَّةٍ) آمرة ناهية على مدار الزمن الرسالي بكل خيوطه وخطوطه.
«أخرجت» اصطفاء
بين الكل «للنّاس» كل الناس ، فهم كل من سواهم من سائر المكلفين مسلمين وكتابيين
وسواهم.
وقد تلمح «كنتم»
الماضية ، دون «أنتم» الطليقة عن اي زمان خاص ، أن الميزة البارزة في دعاة هذه
الأمة ماضية في بشارات من كتابات
__________________
الوحي ، وكما
نراها فيها كما هي ماضية في علم الله ، فلا تخالفوه ، وحقّقوه
بأعمالكم ليكون آكد لحجتكم على أعدائكم تحقيقا حقيقا لتلكم البشارات ، وإلا فقد
يجد الطاعن منهم فيكم مطعنا والغامز مغمزا.
إذا فلا تعني «كنتم»
هنا إلا العليّة من هذه الأمة دون الدنية او الوسيطة البسيطة ، أنهم كانوا قبلئذ «خير
أمة» ثم غيروا منذ الخطاب!.
إذا فهي ماضية في
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعترته الطاهرة والذين معهم طول الزمن دعاة
إلى الله حتى القيامة الكبرى.
ومما يبرهن بقاء
هذه الكينونة المشرفة الماضية واقع الداعية الإسلامية من رباني الأمة مهما قلوا ،
كما و «تأمرون وتنهون» في مضارعتهما دليل استمرارية هذه الخيرية بالخيرين ، ف (كُنْتُمْ ... تَأْمُرُونَ
..) ماض بعيد مستمر مع الزمن الرسالي الاسلامي دونما انقطاع
مهما لم تكن فيهم الكفائة بتقصير من قصّر.
__________________
وصحيح ان الدعاة
المعصومين (عليهم السلام) هم خير أئمة ولكن لقط الآية (خَيْرَ أُمَّةٍ) تعني خير الأمم الداعية الآمرة الناهية ، فهم في التنزيل (خَيْرَ أُمَّةٍ) وفي التأويل «خير أئمة» كقادة لهؤلاء الأكارم.
ولقد تكفي آية
الفتح بيانا لهم وتعريفا بهم : (... وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى
سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
ف اختلاق «أنتم خير امة» دلالة على ثبوت هذه المواصفة لهم دون تقض قضية المضي
في «كنتم» ليس إلّا لسوء الفهم وقلة الحزم.
وما أجهله في تفهم
معاني القرآن من يبتدر باختلاق أمثال هذه المختلقات
__________________
الزور ، تزييفا
لموقف القرآن (وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)!.
ف (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) هو الإخراج التصفوي من كل الناس المرسل إليهم على مدار
الزمن الرسالي ، أخرجهم الله إلى الوجود في آخر الزمن بين من من الدعاة على ضوء
هذه الرسالة السامية الأخيرة ، فعليهم ـ إذا ـ دعوة الناس جميعا إلى الخير ، سواء
ناس الإسلام ومن سواهم من الناس ، حملا لحمل الرسالة الإسلامية بكل أعباءها
الثقيلة إلى مشارق الأرض ومغاربها كأفضل ما يرام ، حيث الدعوة في مادتها ومدتها ،
في عدّتها وعدّتها شاملة كاملة.
وخير أدوارها
المحلقة على كافة المكلفين هو دور القائم المهدي من آل محمد صلوات الله عليهم
أجمعين الذي به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، وعلى الأمة
الإسلامية على مدار الزمن وقبل آخر الزمن تحقيق هذه الفضيلة الكبرى قدر المستطاع
والإمكانية ، تخليصا لأنفسهم عن حكم الطواغيت وتعبيدا لطريق المهدي عجل الله تعالى
فرجه الشريف.
والمواصفات الثلاث
لهم : (تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ ـ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ ـ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللهِ) في كونهم خير أمة ، تقتضي أنهم في القمة المرموقة من هذه
الثلاث ، فان أصولها مشتركة بين الأمم كلها ، وكما ان «كنتم تأمرون» تضرب الى
اعماق الماضي الرسالي بشارة ، كذلك استمرارية استقبالية واقعا مهما تخلف عن واجبهم
متخلفون ، فإنهم لا يعنون من «كنتم» ولا «تأمرون».
__________________
وكما ان الدعاة
المعصومين من هذه الأمة هم خير أمة أخرجت للناس ، فليكن كذلك من يخلفهم من
الربانيين المسلمين ، ثم المسلمون ككل.
و «أخرجت» مجهولة
لتشمل الإخراج الرباني أمرا منه في «ولتكن» وانتصابا للقمة العليا وهم المعصومون
في الرسل والرسالات ، وانتخابا من الأمة هذه الأمة الصالحة للدعوة والأمر والنهي.
فما لا بد منه في
كافة الأمم الرسالية إخراج امة منهم لهذه المسئولية الكبرى التي هي استمرارية
للرسالات حيث تعنيهم ـ فيما تعني ـ (الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ
وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).
فكما الرسل
والائمة المعصومون هم الأمة العليا في حمل مسئوليات الرسالات كأصول فيها ، والله
هو المكّون لهم والمنتصب إياهم ، كذلك سائر الدعاة الى الله ، الآمرين الناهين ،
يجب تكوينهم في كل أمة ، وذلك على عواتق الأمم كلهم ، أن يكونوا هؤلاء الدعاة
الذين هم خلفاء الرسل وربانيو الأمم.
ف (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) تعني دعاة الإسلام الآمرين الناهين ، انهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) توحيدا للأمة الداعية الآمرة الناهية على مدار الرسالات
كما الرسل واحدة وأممهم امة واحدة في أصل الدعوة مصدرا ومسيرا ومصيرا مهما اختلفت
شكليات من فروع لهم شرعية.
فكما (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ) على وحدتهم ، كذلك «أمة» الدعوة بعد الرسل ، وكما أن خاتم
الرسل هو خير الرسل ، كذلك الدعاة ـ معه وبعده ـ الى الله هو (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) في (تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) حيث الدعوة درجات بمادتها وشكليتها وحملتها.
فقد أراد الله
تعالى قمة القيادة لهذه الأمة البارعة ، لتقود الناس ككل الى
كل مصالح الدين
والدنيا على ضوء الاعتصام بحبل الله جميعا وتقوى الله حق تقاته.
فلا مجاملة هنا
ولا محاباة او مصادفة ، إنما هو امر قاصد هادف ان تكون الإمامة العليا لهذه الأمة
، فكما أن رسولها هو رسول الرسل ووليهم ، كذلك أئمتها وسائر الأمة.
ليس توزيع
الاختصاصات والكرامات هنا كما كان ولا يزال يزعمه اهل الكتاب (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فانما هو العمل الإيجابي الجاد لحفظ الحياة الايمانية
الجماهيرية على رعاية الله ، بكل ما يتطلبه هذه التكاليف من متاعب ، قضية الأمر
والنهي الصارم اللذين يتبناهما الإيمان الصارم مهما كلف الأمر الإمر في هذه السبيل
الشائكة الملتوية المليئة بالاشواك والعقبات ، فإن زادهم في هذه السبيل هو الإيمان
بالله ، اعتصاما بحبل الله جميعا دون تفرق ، بتقوى الله حق تقاته ، لكي يمضوا في
طريقهم الشاقة الطويلة قدما ، احتمالا لكل تكاليفها وهم يواجهون الطغاة البغات بكل
عرامتها وشقوتها وشدتها.
ذلك! (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) ككل «لكان خيرا لهم ، إذ يصبحون» ـ إذا ـ من خير امة أخرجت
للناس ، ولكن (مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) فالإيمان خير لهم في أولاهم وأخراهم ، فهنا يستعصمون به من
الفرقة والهلهلة المحلقة على كل حياتهم وحيوياتهم ، ويكسبون السودد ـ الذي يخافون
على زواله ـ وزيادة ، وهناك في الأخرى رحمة الله ورضوانه.
وهنا «المؤمنون والفاسقون»
معرّفين تاشيرا الى المعلوم من أحوالهم لدى المتفرسين من المؤمنين ، وليس يختص «المؤمنون»
هنا بمن آمن منهم بالفعل إذ لا يشملهم (أَهْلُ الْكِتابِ) بل هم من لا يفسق عن الايمان مقصرا ، وأما القصور
عن الايمان
بالرسالة الأخيرة مع الحفاظ على أصل الإيمان ، فهو يدخل القاصرين في المؤمنين.
وترى بإمكان
الفاسقين منهم ان يضروا خير أمة أخرجت للناس ، المتوفرة فيها المواصفات السابغة
السابقة؟ كلا! :
(لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ١١١.
الأذى هي دون الضرر
او الضرر الأدون وإلّا لتناقض المستثنى منه إلا بانقطاعه منه ، وعلّ القصد منها ما
يقولونه بألسنتهم تعريضا بكم وتعييرا لكم ، دون واقع الاصطدام بإيقاع الغليظ
المكروه الشديد.
ام وأذى الجراح
والقراح والقتل بدنيا إن يقاتلوكم ، دون ضرر الغلبة بحجة أم سلطة عسكرية أماهيه ،
فحسن استثناء «أذى» من (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) حيث إن تلك الأذى هي بالنسبة لتلك الإضرار كأنها لا تضر إذ
لا تؤثر عميقا ولا تجحف ، فحاصل المعنى «لن يضروكم الا ضررا قليلا».
ولم تذكر الأذى في
سائر القرآن إلّا في قليل الضرر اللهم إلا إذا أفردت بذكر ، فعامته ك (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).
ذلك ومتى بلغ
الأمر الى المدافعة والمقاتلة وانتهى الوعيد إلى المواقعة كان المؤمنون أقوى ظهورا
وأشدا استظهارا ، والكفار أنقض ظهورا وأضعف عمادا وأكثر استدبارا ، وذلك من ملاحم
الغيب ودلائل صحة هذه النبوة السامية وكما رأينا في ماضي تاريخنا المجيد أن اليهود
لم يقاتلوا المسلمين إلا منحوهم أكتافهم وأجزروهم لحومهم كبني قريظة وبني قينقاع ،
ويهود خيبر وبني النضير وكم لهم من نظير!.
ف «لن» لها دور
الإحالة لمدخولها وهو هنا «يضروكم» وهم فسقة اهل الكتاب وافسقهم اليهود و «لن
يضروكم» هؤلاء بحذافيرهم أي ضرّ بأنفسكم وعقائدكم وكل كيانكم الإسلامي السامي «إلا
أذى» وهو دون ضرّ (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عليكم.
أترى بعد أن تلك
الإحالة تعم كافة المسلمين وهو خلاف الواقع الملموس طول القرون الإسلامية حتى الآن؟.
كلّا ، فإنها خاصة
بمن خوطبوا من ذي قبل بتحقيق شروط السيادة : اعتصاما بالله ـ حيث تتلى عليهم آيات
الله وفيهم رسوله ـ وبتقوى الله حق تقاته ، وأن يعيشوا على طول الخط مسلمين لله ،
وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا ، وتكن منهم أمة داعية آمرة ناهية ،
وأخيرا يصبحوا من خير أمة أخرجت للناس ، إذا ف «لن يضروكم» أنتم المخاطبون بهذه
الأوامر ، المحققون لها كما أمرتم (لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)!.
فلأن الأذى هي دون
الضرر فالاستثناء ـ إذا ـ منقطع ، أو هو الضرر القليل الضئيل فمتصل ، وعلى أية حال
فالنص يبشر باستحالة الضرر من فسقة اهل الكتاب على هؤلاء المؤمنين القائمين بشرائط
الإيمان ، المسرودة من ذي قبل.
فالانهزامات
العقيدية والثقافية والعسكرية أماهيه لمن يسمون مسلمين ليست إلا من خلفيات
الانهزامات الإيمانية (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
إنه ليست صيغة
الإسلام والإيمان هي العاصمة لحامليها عن الشر والضر ، الكافلة للخير ، ولا أن
صيغة التهود والتنصر هي القاضية على حامليها ، إنما الكافل هو الإيمان الصامد أيا
كان ف : (لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ١١٢.
هذه تضرب عليهم
الذلة إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، ثم تضرب عليهم المسكنة دون استثناء ،
وأخرى تضربهما عليهم دون ذكر للحبلين : (وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٢ : ٦١).
وهذه مقيدة بتلك
قضية تقييدها وطبيعة الحال في زوال تلك الحال.
ومن الذلة الدائبة
على اليهود سوم العذاب عليهم من المجاهدين مسلمين وسواهم في دويلاتهم النحسة
الويلات كما قال الله (وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ
الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ
ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧ : ١٦٨).
وترى الذلة
المضروبة «عليهم» : فسقة اهل الكتاب ، هي التشريعية لمكان (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي وجدوا في تحري المؤمنين الملاحقين إياهم ، حيث الثقف هو
الحذق في إدراك الشيء ومنه الثقافة فانها حذق في ادراك العلوم.
فبحذق المؤمنين
تكميلا لشروط الإيمان ، وحذقهم في ملاحقة المؤذين من فسقة اهل الكتاب ، (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)
(فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) (٨
: ٥٧)
(مَلْعُونِينَ
أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٣٣ : ٦١) (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (٣ : ١٩١) فحذار
حذار ألّا يثقفوكم بفاشل إيمانكم ف (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا
لَكُمْ
أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ
وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٦٠ : ٢).
أم وهي الذلة
التكوينية حيث الفسق ذل في نفسه وذل في المجتمع الصالح ، وذل عند الفاسق نفسه إذ
لا يفلح الفاسقون مهما أبرقوا وأرعدوا ردحا من الزمن ، و «ذلك» الضرب في ذلة وسكنة
(بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما
عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ ..) ولكن لا على أية حال ومهما تحولت الأحوال ، بل هي دون
الحبلين ف (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يصد عنهم الذلة تشريعا وتكوينا ، فما هما الحبلان؟.
(بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) معروف انه «حبل الله» اعتصاما بالله وبكتاب الله وتنكير «حبل»
تلميح بان كل قدر من حبل الله له عصمته عن الذلة ، فإذا اكتمل يصبح عاصما طليقا عن
كل ضرّ.
فبزوغ الإيمان من
فسقه اهل الكتاب هو «حبل من الله» ولمّا يكمل ، ثم تكامل إيمانهم بشروطه تكامل
لاعتصامهم بحبل الله ، فليس الاعتصام إلا بقدر فتل الحبل ، ولا الذلة إلا على قدر
فلّ الحبل ، إذا ف «حبل من الله» طليقة بالنسبة لكل درجات الحبل : رسوليا ورساليا
، فحين يؤمن الكتابي الفاسق بكتابه كما يحق فلا ذلة له ، مهما لم يؤمن برسالة
الإسلام قصورا كما في آية اللاسواء التالية ، وحين يؤمن بهذه الرسالة ولمّا يكمل
إيمانه تكامل عزه ، حتى يصل إلى القمة المعنية بالآيات السالفة اعتصاما كاملا بحبل
الله.
وهكذا الأمر (حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) حيث تقصد بعد الله بكتابه ، رسول الله ، ثم الدعاة
الرساليين ثم سائر المؤمنين ، او ومن ثمّ سائر الناس أجمعين حيث الجمعية المعاضدة
لها أثرها عضدا مهما كانت باطلة فضلا عن الجمعية
الحقة الحقيقية
وبين «حبل من الله» و «حبل من الناس» عموم من وجه ، ف «حبل من الله» فقط هو الاعتصام
بالله وبكتاب الله ف «حبل من الناس» فقط هو الاعتصام بالناس غير الرساليين ، ومجمع
بينهما هو الناس الرساليون معصومين وسواهم من المؤمنين حيث يجتمع هنا الحبلان مع
بعضهما البعض.
ولقد بين الحبلان
في آية الاعتصام (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) ف (بِحَبْلِ اللهِ) هو الأصل ل (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) و «جميعا» هو
الأصل ل (حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) ولا سيما الثقل الأصغر رسولا وعترته .
فالحبلان العاصمان
يعصمان المعتصمين بهما عن كل ذل ومسكنة في كافة الحقول الحيوية ضمانا صارما من
الله وهو حسبنا ونعم الوكيل : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).
(وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) وكما نلمسها في اليهود مهما كانوا أثرياء فإنهم مساكين
فقراء في ذوات نفوسهم.
وترى ان هذه
المسكنة تزول عنهم كما الذلة بحبل من الله وحبل من الناس؟ طليق المسكنة بعد
الاستثناء يقول : لا ، ثم (لَوْ أَنَّهُمْ
أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ
__________________
مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)
(٥ : ٦٦) ، هذه
واضرابهما من الواعدة زوال الذلة والمسكنة تقول : نعم ، فقد تلمح تأخر المسكنة
بطليقها تأخر زوالها عن هؤلاء الفسقة ، أم وبأحرى أن زوال الذلة يكفيه حبل من الله
وحبل من الناس ، وليس زوال المسكنة ليكفيه حبل ما الموافق لبقاءهم على دينهم
قاصرين ، وكما نرى اليهود القاصرين في مسكنة بيّنة ، وهذا هو الفارق بين الذلة
والمسكنة هنا ، حيث الثانية هي لزام التأخر عن كامل الحبلين كما هو ملموس في
اليهود!.
وذيل الآية
المعلّل للذلّ والمسكنة يقرر أنهم هم فسقة اليهود ، إذ لم يعهد من النصارى أن
يقتلوا النبيين ، فمصب الآية منذ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) ـ حتى ـ «المسكنة» هم اليهود ، مهما شمل استحالة الضر كل
فسقة اهل الكتاب لمكان رجوع ضمير الجمع إلى (وَأَكْثَرُهُمُ
الْفاسِقُونَ) حيث لا يختص بفسقة اليهود.
إذا فثالوث :
الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ـ يشمل كل فسقة أهل الكتاب على قدر فسقهم ومروقهم
، ولا سيما اليهود المغضوب عليهم وهم أشد عداوة للذين آمنوا وأضر ضراوة عليهم كما
قال الله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا
نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥ : ٨٣).
وترى إذا السابقون
كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق فما على اللاحقين الذين لم يقتلوا؟ ذلك لأنهم سلسلة
موصولة طوال تاريخهم المنحوس المدسوس ، فأولئك قتلوا الأنبياء وهؤلاء قتلوا
النبوات ، فلو وصلت أيديهم إليهم لقتلوهم ، فهم نمط واحد على طول الخط ، فتشملهم
الذلة والمسكنة كذلك (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ).
وقتل الأنبياء
وسواهم هو في مثلث مهما اختلفت زواياه :
١ سفك دمائهم
بأيديهم عنادا وعتوا على رسالات الله.
٢ التسبب لتقلهم
ان يذيعوا عنهم أمورا يسبب قتلهم .
٣ الرضا بما فعل
القتلة حيث الراضي بفعل قوم هو منهم.
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)
مَثَلُ
ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
__________________
أَصابَتْ
حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ
وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا
لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ
(١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ
بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ
مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(١٢٩)
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ ١١٣ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ١١٤ وَما يَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ١١٥.
إن اللّاسواء بين
اهل الكتاب هو قضية عدل الله كما اللاسواء حاكم بين المسلمين وسائر الموحدين على
شتات مذاهبهم ، ف «ليسوا» اهل الكتاب الماضي ذكرهم بسوء «سواء» ام (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) آخرين منهم ف (مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) إذا هي ذات تعلقين اثنين.
فبمجرد أن فلانا
يهودي أو نصراني لا يقضى عليه بذلة ومسكنة أماهيه من أحكام الكفرة العصاة المعتدين
، حيث العبرة الأصيلة في ميزان الله هي الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات
، كما وأن مجرد اسم الإسلام والإيمان ليس لزامه الأمان من ذلك الحكم العدل الحكيم.
وهذه الآيات
الثلاث تحمل عشرة كاملة من ميزات بين موجبات ومنتوجات لزمرة ـ مهما كانت قليلة ـ من
أهل الكتاب ، تعدّهم أخيرا من المتقين.
وهذه ضابطة ثابتة
في منطق القرآن أن الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات ليست لتهدر على أية
حال ، مهما كان حاملها كتابيا أو مسلما ، ف (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٦٢) .
وترى هنا (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) تعني الكتابيين الذين آمنوا بشرعة الإسلام؟ وصالح التعبير
عنهم «المؤمنين» او (الَّذِينَ آمَنُوا) لسابق كونهم كتابيين ثم
__________________
آمنوا! ، إنهم هم
المؤمنون من أهل الكتاب سواء الذين آمنوا منهم بالفعل فندد بهم زملاؤهم الكتابيون أم لمّا يؤمنوا وهم يتحرون عنه ، أم القاصرون عن معرفة
الإسلام مهما كانوا تالين الكتاب ، وقد شملهم (لَيْسُوا سَواءً) مهما كان الأول هامشيا لأن حساب السواء لم يكن من الأحبار
المنددين بمن أسلم منهم.
هذا ، والى تلك
العشرة الكاملة العشيرة لأهل التقى من اهل الكتاب :
١ (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) في تحقيق الحق وإبطال الباطل ، دون فشل ولا كسل ، حيث
الفاشلون الكسالى من أية امة كتابية او مسلمة لا تحسب بحساب المتقين.
إذا ف «قائمة» تعم
كل قيامة وقوامة بالعدل والقسط وما يحق القيام به وفيه وله وعليه وإليه في شرعة
الله وكما يذكر من مهامها :
٢ (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) فالليل الرياحة حين تتلى فيه آيات الله ، تكون المتلوة فيه
أخلص وأنبى : (إِنَّ ناشِئَةَ
اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً).
و (آياتِ اللهِ) دون المسماة بتوراة او إنجيل ، تلمح ان القصد منها آيات
الوحي غير الخليطة بسواها ، فهي القرآن وما قبله من آيات وحي التوراة والإنجيل.
وترى إذا كان
التوراة والإنجيل محرفين كما يصرح به القرآن فكيف بإمكان
__________________
مؤمني أهل الكتاب
ولا سيما القاصرين منهم ان يتلوا آيات الوحي منهما؟.
قد يعني من (آياتِ اللهِ) ما يعرفونها من أصل الوحي مهما اخطأوا قاصرين ، دون الآيات
التي يعرفونها دخيلة في وحي الكتاب.
فتلاوتهم للتوراة
والإنجيل تعني تلاوة آيات الله ما لم تتبين لهم منها أنها دخيلات متسربات.
او يقال «يتلون»
حسب المستطاع حيث يحاولون ـ فقط ـ تلاوة آيات الله دون المختلفات الزور والغرور.
ولأن هؤلاء هم
الذين يعلمون الكتاب اجتهادا او تقليدا فهم أولاء الذين يميزون الأصيل من الآيات
عن الدخيل ، فهم بامكانهم تلاوة آيات الله ، ثم آيات الله تعم مع سائر كتب السماء
القرآن العظيم ، والمحاول إيمانيا أن يتلوا آيات الله مهما غلط فيها او عنها الى
الدخيلة فيها قاصرا صادق عليه انه يتلوا آيات الله.
٣ (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) لله دون سواه من مسيح وسواه عند من حسبوه ابن الله او الله
، وأما الساجدون لمن سوى الله مسيحا وسواه فهم الضالون مهما كانوا قاصرين ، حيث
الفطرة الإنسانية السليمة تشجب السجود لغير الله مع السجود لله.
وهنا (هُمْ يَسْجُدُونَ) تعم السجود لآيات الله وهو غاية الخضوع الطليق لها في كل
مراحلها ، الى السجود في الصلاة لله ، والى غاية الخضوع لله ، فلا تخص سجودا خاصا
حيث الكل هو شريطة صالح الإيمان دون تبعيض.
٤ (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) ايمانا صالحا غير دخيل ، حيث التثليث وما أشبه من انحرافات
عن الإيمان بالله ليس ايمانا بالله ، وكذلك اليوم الآخر كما هو مسرود في آيات
الله.
٥ ـ ٦ (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهما البعد الثاني من الإيمان لفاعل المعروف وتارك المنكر
، ولأن الأمر والنهي بحاجة اساسية الى معرفة المعروف والمنكر وعمل المعروف وترك
المنكر ، فهم أولاء العدول منهم كما وهم علماء لمكان (يَتْلُونَ آياتِ
اللهِ) دون اختصاص بعلمائهم فان شرط المعرفة بالمعروف والمنكر
والائتمار والانتهاء يحصل بتقليد كما يحصل باجتهاد ، مهما كان على المقلد الاجتهاد
السليم في تقليده.
٧ (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) في كل ميادين سباقات الخيرات ، دون ركود ولا جمود ،
فحياتهم كلها حركات في مسارعة الخيرات.
٨ (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهم الرابع من مربع الصراط المستقيم : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩).
٩ (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ
يُكْفَرُوهُ) كفرانا لكونهم كتابيين ام لسابق حالهم قبل ان يكونوا
مسلمين.
١٠ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) يثيبهم كما يتقون مسلمين ام كتابيين.
وهذا العشرة لا
تجتمع إلا في نبلاء اهل الكتاب وقليل فيهم قاصرون ، وكثير هؤلاء الذين آمنوا أم هم
يتحرون عن صالح الإيمان فهم مسلمون.
فلا كفران لمساعي
المتقين أيا كانوا ، دون ان تنقص منها سابقة سوء هم عنها الآن خارجون ، وطالما
الكتابي الذي يؤمن أم هو في سبيل الإيمان مكفّر عند من يجهل المقاييس ولكنه غير
مكفور عند الله بل هو مشكور ، بل إن المؤمن مكفر وذلك أن معروفه يصعد الى الله عز
وجل ولا ينتشر في الناس والكافر مشهور وذلك ان معروفه للناس ينتشر في الناس ولا
يصعد إلى الله .
__________________
وقد يروى عن أول
العابدين : «يد الله فوق رؤوس المكفرين ترفرف بالرحمة»
، و «كان رسول
الله مكفرا لا يشكر معروفه ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي ومن كان
أعظم معروفا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا الخلق وكذلك نحن أهل
البيت مكفرون لا يشكر معروفنا وخيار المؤمنين مكفرون لا يشكر معروفهم» .
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ١١٦.
هنا «كفروا»
اللامحة إلى حادث الكفر بعد إيمان تعم الكفر بعد الإيمان واقعيا ، أم إيمان هو
قضية الفطرة السليمة والعقلية غير الدخيلة ، والكفران هما بدركاتهما مشمولان ل (الَّذِينَ كَفَرُوا) ونتيجته (لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في الدنيا والآخرة «وأولئك» البعاد هم (أَصْحابُ النَّارِ) على مدار الحياة في الأولى والأخرى (هُمْ فِيها خالِدُونَ) قدر كفرهم دون خلود لا نهائي مزعوم!.
(مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ
حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ
وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ١١٧.
رغم انه لا بد في
الإنفاق أن يثمر نتاجا قدره ، ولكنهم (مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) إنفاقا فيها وفي سبيلها ـ مهما كان في زعمهم في سبيل الله
__________________
وهم خالفوها الى
سواها حيث يبغونها عوجا والإفكل إنفاق هو في هذه الحياة ، سواء أكانت لها أم
للأخرى ، ولقد كانت اليهود تنفق أموالا طائلة لإيذاء رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) وإلاتاحة به ، كأنهم ينفقونها في سبيل الله ، وهو في الحياة الدنيا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) (٨ : ٣٦).
ذلك مثله (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) والصرّ هو الشدة والسرعة التي تصحبها لهيب النار أم برودة
ثلجيّة لا تبقي للحرث باقية ، وكلاهما من شؤون النار حريقا او زمهريرا فكلما كان صرّ إنفاقهم وشدته عدة وعدة اكثر ، كان هلاكهم
في عدتهم وعدتهم أوفر ، فإنفاق الكافر أيا كان لا يخلو عن ثالوثه المنحوس للكفر
المحبط لأعماله :
إنفاقا في سبيل
الله ، او الذي يزعمه انه في سبيل الله ، او يعلمه انه في الصد عن سبيل الله مهما
اختلفت دركاتها.
وذلك المثل يلمح ـ
ضمن ما يمثل انفاق الكفار ـ ان الصر إنما يصيب حرث قوم ظلموا أنفسهم ، مهما شمل
حرث من سواهم محنة دون من أصابهم مهنة.
(وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ) مثلا وممثلا بهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) وذلك الهلاك لما ينفقون ليس إلا من خلفيات ظلمهم أنفسهم.
__________________
ثم (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) تشمل ثالوث الظلم ـ نفسا وسواها وبالحق ـ حيث المرجع فيها
أنفسهم ، مهما انضرّ به غيرهم (وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ) بإهلاك حرثهم عن بكرته (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) حيث كفروا فأحبط الله اعمالهم فانه عليهم أضر وأنكى.
(وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٤٠ : ٣١) لا ظلما
بهم بما أمرهم ونهاهم وجازاهم ، ولا ظلما منهم بأنفسهم وسواهم ، فلا ظلم في ساحة
الربوبية على أية حال ، فإنما الظالم هم العباد بسوء اختيارهم.
ذلك! فهم أولاء
الانكاد البعاد الذين تنكبوا المنهج الجامع لمفردات الخيرات ، الحافلة للمبرات
الكافلة للمكرمات ، فاختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة حبل الله
جميعا ، فعملهم ـ إذا ـ وكل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ، هباء ، إذ لا قيمة
لخير إلّا ان يتبنى منهج صالح الإيمان.
ذلك ، وإلى تحذير
من هؤلاء الملاعين ، المبايعين للدين بهذا الأركس الأدنى من زخرفات الحياة الدنيا
، كيلا ينفر المؤمنون بما يعرفون فينضروا بما يضرون إسرارا وإعلانا :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ) ١١٨.
البطانة خلاف
الظهارة ، وتستعار لمن تختصه بالاطلاع على خفيات أمورك المستسرة ، فقد تكون بطانة
خير فمحبورة مشكورة ، ام بطانة شرة فمحظورة محذورة .
__________________
و (بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) تعم من سوى المؤمنين ، ملحدين او مشركين او مسلمين :
منافقين او الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، ولكن (لا يَأْلُونَكُمْ ... وَدُّوا
... قَدْ بَدَتِ ...) تستثني الآخرين ، كما وقد تستثني غير المعاندين من الكفار
، ولكن غير المؤمن أيا كان لا يصلح أن يكون بطانة للمؤمن ، مهما اختصت هذه العلل
لسلبية البطانة بالأعداء الألداء منهم.
و «بطانة» هنا قد
تكون ذات تعلقين اثنين (لا تَتَّخِذُوا
بِطانَةً) هي «من دونكم» و «لا تتخذوا من دونكم بطانة» فدون المؤمنين
لا يصلح لكونهم بطانة للمؤمنين ولا سيما في جمعية المصالح الإسلامية التي هي بحاجة
إلى شورى العابد من أمة الإسلام كما فصلناها على ضوء آية الشورى.
وهنا مربع الحكم
الحكيمة تعلّل «لا تتخذوا» لنكون على بصيرة في أمرنا معهم :
١ (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) والخبال لغويا هو الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا
، كما بالنسبة للمنافقين في أخرى : (لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ
الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ
الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٩ : ٤٨).
و «خبالا» في
آيتنا ، نكرة في سوق النفي ، تشمل كل خبال ثقافي ـ عقيدي ـ خلقي ـ اقتصادي ـ سياسي
، أمّا ذا من فساد واضطراب.
__________________
و «يألونكم» :
يقصرونكم من الألو : التقصير ، فهم أولاء لا يقصرونكم خبالا وفسادا في أيّ من
حقوله ، فذلك مدى جهدهم في خبالكم ما استطاعوا إليه سبيلا ، فإن لم يقدروا على
خبالكم بذات أيديهم فهم ـ لأقل تقدير ـ يودونه :
٢ (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) : ودوا عنتكم ـ في مصدرية «ما» ـ والذي عنتموه ـ في
موصوليته ـ والعنت هو الأمر الذي يخاف منه التلف ، فهم ـ إذا ـ لا يألونكم خبال
العنت وسواه حيث يودون أن يكون كل أمركم إمرا وصعوبة وهلاكا حيث يبغضونكم على أية
حال :
٣ (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ) أتوماتيكيا رغم ما يحافظون على قيلاتهم أمامكم ، فما يضمر
أحد أمرا إلّا وقد يظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
٤ (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) مما تبدو من أفواههم ، وهذه هي آيات عداءهم العارم ـ (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).
ويا لها من صورة
بينة السمات ، ظاهرة الوصمات لاعداءنا الالداء ، تنطق لائحة بدخائل هذه النفوس
البئيسة التعيسة ، تسجل المشاعر الباطنة والانفعالات الظاهرة والحركات المتأرجفة
ذاهبة وآئبة ، وكل ذلك لنموذج بشري شرير في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ،
نستعرضها في حالنا ومستقبلنا كما عرضوا علينا في ماضينا.
هؤلاء الانكاد
الذين يتظاهرون للمسلمين بالمودة في ساعة القوة ، فتكذبهم كل خالجة منهم وخارجة ،
وينخدع بهم المسلمون لظاهر رحمتهم غفلة او تغافلا من باطن زحمتهم فيمنحونهم الثقة
والوداد ، وهم لا يألونهم خبالا ونثرا لأية شائكة في طريقهم ما سنح لهم وفسح من شر
وضر.
تلك الصورة كانت
منطبقة تماما على قسم من اهل الكتاب الحضور زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
حيث جاوروه في المدينة بكل غيظ كظيم مضمر على المسلمين ، والنوايا الخبايا السيئة
التي كانت تجيش في صدورهم ، والبعض من المسلمين كانوا ـ ولا يزالون ـ ينخدعون
بمظاهرهم الحلوة ، فيلقون إليهم بالمودة ، ويأمنونهم على اسرار لهم كبطانة امينة ،
فجاء ذلك التنوير التحذير ، دون اختصاص بزمن دون زمن ، بل هو حقيقة ثابتة تواجه
ذلك الواقع المرير الشرير من هؤلاء المنافقين ، اهل كتاب او مسلمين.
ذلك! فهل من عقل
الإيمان أن تودوهم وتحبوهم دونما عائدة إلا ضرا؟.
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا
لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ١١٩.
«ها» تنبيه لهامة
الموقف الخطير «أنتم» المسلمين «أولاء» «تحبونهم» أولاء الكافرين ، وذلك خلاف
العقلية الإيمانية ، فأنتم «أنتم» المؤمنون الصالحون و «أولاء» أولئكم الكائدون
الحاقدون ، فكيف «تحبونهم» و «الحال أنهم» لا يحبونكم ، أفحبا من ناحية إمام بغض
من أخرى ، ودون أن يؤثر ذلك الحب تخفيضا من ذلك البغض البغيض ، بل تعزيزا لبغضهم ،
وتمكينا لهم من خبال وإدغال؟.
ثم (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) هذا القرآن وما بين يديه من كتاب ، وهم لا يؤمنون بالكتاب
كله ، ولا حقّا بالكتاب بعضه ، إذ لا يتبعون كتاباتهم فضلا عن كتابكم.
وقد تلمح (بِالْكِتابِ كُلِّهِ) دون «الكتب كلها» بوحدة الكتاب لوحدة الأمم الكتابية بوحدة
الرسالات.
ثم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا
خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) إذ يرونكم جميعا وهم شتى ، ولكم قوة وسداد وهم في ضعف
وبداد ، ولا جواب لهم في بغضهم البغيض إلّا :
(قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ومنها صدوركم المليئة من بغض المؤمنين ، وهنا (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أمرا ، يعاكس (وَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) نهيا ، وهما في مجرى واحد في حالة الإختيار ، فمهما لم يكن
الموت تحت الإختيار ولكن الإسلام والكفر هما تحت الإختيار ، فقد تعني (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) استمروا بغيظكم المميت عن حيويتكم ، او حتى الموت ، امرا
تحذيريا هو ابلغ من النهي ك (اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).
وقد تعني باء
الغيظ كلا المعية والسببية ، فذلك الغيظ يميت صاحبه حين لا يجد مفلتا منه ولا من
سببه ، وهو معه أينما حل وارتحل حتى الموت ، واستمرارية الغيظ تزيد فيه وتزيد حتى
يميت.
وفي ذلك لمحة أن
استمرارية الغيظ بمزيد هي من أسباب الموت ، لأنها حالة نفسية رديئة لا تستطيع
النفس أن تتحملها ، فيوما مّا هي تتغلب عليها فتميت صاحبها.
وإذا كان الغيظ في
سبيل الطاغوت فالموت موتان لصق بعض وردف بعض ، موتا حال حياته روحيا ، وموتا يقضي
على حياته جسميا فيتم الموت ويطم كل كيانه : (ظُلُماتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ) ، واما (بِذاتِ الصُّدُورِ) دون «الصدور» مجردة ، فلأن «ذات» : الصاحبة هي مؤنث «ذو» :
الصاحب ، وصاحبة الصدور هي التي تصحبها من الضيق والإنشراح بكفر أو إيمان أم أي
كان من حالات محبورة او محظورة.
وترى لماذا هنا
وفي كثير سواه (بِذاتِ الصُّدُورِ) دون «ذات القلوب» وهي اصل الروح وعمقه؟.
علّه لأن القلوب
ايضا هي من ذات الصدور بكل حالاتها ومجالاتها : (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦).
فكل حالة حسنة او
رديئة ، منشرحة او ضيّقة في الصدور هي المؤثرة بالمآل في القلوب ، فالقلوب هي من
ذات الصدور وليست الصدور هي من ذات القلوب.
ثم ابتلاء ما في
الصدور تقدمة لتمحيص ما في القلوب : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ
ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) (٣ : ١٥٤).
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ) ١٢٠.
«ان تمسسكم» حالة «حسنة»
مادية او معنوية ، فردية أو جماعية أمّاهيه من حياة حسنة «تسؤهم» هذه الحسنة إذ (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما
عَنِتُّمْ).
(وَإِنْ تُصِبْكُمْ) حالة «سيئة» من ضيق معيشي او انهزام حربي ام نكسة عقيدية
أماهيه (يَفْرَحُوا بِها) ولا علاج في تلكم المواجهة المعاندة إلّا الصبر والتقوى.
(وَإِنْ تَصْبِرُوا) في كل حسنة وسيئة ، وما يسوءون ويفرحون ، دون انفلات عن
ثابت الإيمان «وتتقوا» عن المحاظير التي هي نتيجة طبيعية لاختلاف الحالات
والواجهات ، إذا (لا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئاً) اللهم إلا أذى بسيطة متحمّلة (إِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فهو الذي يدافع عنكم بدافع إيمانكم : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا) (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) وهو الذي
يحيطكم علما
بمكائدهم ومصائدهم فتحذروهم مهما كانوا أقوياء فإنهم كائدون أغوياء ، وان الله لا
يهدي كيد الخائنين ، وهو الذي يجازيهم بكيدهم فإنه بما يعملون محيط علما وقدرة.
وهنالك محور
الرجاء لمس المصيبة وإصابتها هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الذين معه : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ
وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ. قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ
لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٩ : ٥١).
فيا عجباه من
غفوتنا وغفلتنا حين تصفعنا التجارب المرّة من هؤلاء المنافقين مرة تلو مرة ولكننا
لا نفيق ، ونرى المؤامرات تترى علينا بمختلف الأزياء بل اننا فيها نحيق ، فاتحين
لهم قلوبنا ، وآخذيهم رفقاء الطريق ، فمن هنا نذل ونضعف ونستخذى ونلقى كل عنت
وخبال حيث يدس في صفوفنا.
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
(١٢٢).
من السيئات التي
أصابت المسلمين هي الهزيمة العظيمة في أحد ، ففرحت بها أعداءهم من أهل الكتاب
والمشركين ، وهكذا ترتبط آية الغدوّ بسابقتها : (وَإِنْ تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها).
وهنا تذكرة عابرة
خاطفة بغزوة أحد وسبب الهزيمة ، ثم انتقالة إلى غزوة بدر السابقة عليها تدليلا على
استمرارية الرحمة الغالية الربانية لهذه الأمة ما قاموا بشروطها ، وأن هزيمة الحرب
هي من قضايا الهزيمة عن واجب التطبيق للإمرة الرسالية في حقل الحرب ام وسواها.
ومن ثم تستمر
التذكرة بحرب أحد وما خلّفت من بلورة الإيمان لقلة قليلة ، ومن زلزلة الاطمئنان
وتأرجف الايمان لكثرة كثيرة ، كدرس للأمة الإسلامية مع الأبد ، نبراسا ينير الدرب
على المجاهدين في خطوط النار للأخذ بالثأر والقضاء على العار ، ومتراسا يتترسون به
في تقدمات الحرب وتقدّماتها.
وهنا انتقالة
لطيفة عطيفة من معركة الجدال والتنوير والتوجيه والتحذير ، إلى معركة النضال في
الميدان ، الى معركة أحد ومن قبلها بدر.
وهنا تنضم عراك في
الضمير بطي العراك الدموية الفادحة ، ومعركة الضمير هي أوسع المعارك في مختلف
النضال والجدال.
لقد كان النصر
أولا في بدر ثم الهزيمة ثانيا في أحد ، وكما الانتصار كان عظيما حيث غلبت فيه فئة
قليلة على فئة كثيرة بإذن الله ، كذلك كانت الهزيمة ايضا عظيمة ، ولكنّما الهزيمة
خلفت ـ رغم أوجاعها وأجواءها المحرجة ـ انتصارا معرفيا ويقظة بعد غفوة للكتلة
المؤمنة ، ولكي لا يغتروا بانتصارهم الاوّل ، فيتركوا شروطاته المقررة في شرعة
الله.
فلقد محصّت في هذه
الهزيمة نفوس وميّزت صفوف وصنوف ، وانطلق المسلمون متحررين عن كثير من أغباش
التصورات الخاطئة التي هي عشيرة الفتح الخارق للعادة بطبيعة الحال.
فميعان قيم وتأرجح
مشاعر من نزوة الفتح المبين من ناحية ، وتسرب منافقين وقليلي الايمان من أخرى ، ما
كانت تجبر إلا بهزيمة مّا هي في نفس الوقت من خلفيات تخلف عسكري عن امر القائد
الرسالي.
ولم تكن حصيلة
الهزيمة بأقل عائدة من حصيلة الفتح أم هي اكثر ، فتلك هي حصيلة ضخمة ما أحوج الأمة
الإسلامية إلى دراستها طوال تاريخها ، ولكي تأخذ حذرها وأهبتها في كل مواجهة
نضالية من ذلك الرصيد العظيم.
«و» اذكر من ضمن
الذكريات الحربية الفاشلة لفشل من المسلمين (إِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ) خرجت غداة من أهلك في المدينة إلى خارجها : «أحد» ـ حال
انك «تبوئ» إيواء لبواء الحرب الدفاعية (تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) لأنك قائد الحرب على ضوء القيادة الرسالية المحلقة على
كافة المصالح الروحية والزمنية.
فليس لأحد ان يبوئ
المؤمنين مقاعد للقتال والرسول فيهم إلّا هو ، فعليك يا رسول الهدى تنظيم
التكتيكية الحربية أمّاهيه من تكتيكات نظامية وانتظامية ، وهامة الأمور الجماعية
للمسلمين ، فإنك الحاكم بين الناس بما أراك الله في كل ما يتطلب الحكم من خلافات
روحية أو زمنية : (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٤ : ١٠٥).
وليس مجال الحكم
بين الناس ـ في الأكثرية الساحقة ـ إلّا فيما هم فيه يختلفون من مصالح معيشية ـ جماعية
ـ اقتصادية ـ حربية ، اماهيه.
فلا تعني الرسالة
الإلهية ـ فقط ـ مصالح المحراب والعبادة ، بل ومصالح الحرب والإبادة لمن يتربصون
باهل الحق كل دوائر السوء.
وكما أن تكاليف
المحراب مقررة بوحي الله ، كذلك تلتيكات الحرب هي بوحي من الله ، فإنهما معا
مدلولان ل (لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ).
فهذه خرافة قاحلة
أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شاور أصحابه بشأن غزوة أحد أيخرج إليه خارج
المدينة فيغزوهم أم يظل داخلها فيدافع عن الأهلين ، فأشاروا عليه بالخروج وكان من
رأيه المقام داخل المدينة! .
__________________
__________________
وكيف يرتإي ان
يغزى في عقر داره فيذل ، ويرشده من أصحابه إلى الخروج فلا يذل؟ ام كيف يتبع خلاف
رأية وهو الحاكم بما أراه الله! ، وقد
__________________
يروى عن حفيده
الصادق (عليه السلام) انه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان رأيه الخروج.
__________________
__________________
كلا وكما ان تبوّئ
مقاعد للقتال كان من شئونه القيادية ، كذلك الخروج إلى تلكم المقاعد ، وانتصاب
الجموع الخاصة لها ، كل ذلك كان من رأيه الخاص بما أراه الله ، مهما شاور المسلمين
في ذلك ليشير عليهم صالح الأمر إن اخطأوا ويثبتهم تشجيعا لهم إن أصابوا ، وكما
استصوب رأي المشيرين عليه بالخروج دون المشيرين بالمقام داخل البلد.
وان لمكان القتال
ومقاعدها مكانة هامة في النجاح ، يجب تقريرهما على القائد العام للقوات المسلحة
حيث يراهما من المصلحة في صالح الحرب.
(وَاللهُ سَمِيعٌ) أقوالهم «عليم» بأحوالهم ، إذ تقوّلوا قيلات حول الحرب
ومكانها ومقاعدها ، وتحولوا حالات : (إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ).
لقد مشى النبي (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) يومئذ على رجليه يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال بنفسه الشريفة
وهم قرابة الف تقابلهم ثلاثة آلاف من قريش ، كنفس القياس بين الجيشين يوم بدر ،
فلما تخلف من تخلف بغية الغنيمة ، خلّف ذلك انهزاما دمويا وكارثة قارصة بلبل حالة
المؤمنين وزلزل طائفة منهم واثبت آخرين ، امتحانا من الله للمؤمنين وامتهانا
للمتخلفين.
(إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ..).
هنالك واقع الغل
والفشل من طائفتين أولاهما عبد الله بن أبي ومعه قرابة ثلث الجيش حيث تخلف إذ خالف
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأيه في المقام بالمدينة للدفاع قائلا :
يخالفني ويسمع للفتية ، فيتبعهم عبد الله بن عمر وابن حرام والد جابر بن عبد الله
يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله او ادفعوا ، قالوا :
لو نعلم قتالا لاتّبعناكم وهم كما قال
__________________
الله : هم يومئذ
للكفر أقرب منهم للإيمان فرجع عنهم وسبّهم ، فهؤلاء لم يحضروا القتال حتى يقال
فشلوا ، فانما فلّوا وتخلفوا.
ولماذا ولى الرسول
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأس النفاق عبد الله بن أبي على ثلث الجيش؟ لكي يعرّف
به والذين معه انهم منافقون مهما تظاهروا انهم موافقون ، فالمعركة معركة امتحان
وامتهان ضمن أنها ميدان دفاع.
ولقد فصلت الآيات
الآتية بشأن حرب احد أبعادا هامة من الواقعة ، نتحدث على ضوءها كما تتحدث ، فهذه
هي الطائفة الاولى من «طائفتان».
والأخرى هي
الخمسون الذين قررهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عبد الله بن جبير حيث
تركوا قاعدتهم للقتال طمعا في الغنيمة ففشلوا ، ومن ثمّ هم الفشل ولا فشل ـ وهو
فتّ في عضد التصميم بجبن ـ (وَاللهُ وَلِيُّهُما) فولى أمرهما فلم تفشلا ، وهما حيان من الأنصار : بنو سلمة
من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد الله بن أبي ، همّتا باتباعه فعصمهما
الله فثبتوا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولقد بقيت رابعة وليهّا علي
(عليه السلام) لم تفل ولم تفشل ولم تهم بالفشل حفاظا على رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) وأمره.
فقد افترقت اصحاب
أحد اربع فرق وانكسر المسلمون بهزيمة عظيمة لما خولف أمر رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) أولا فيما ارتآه من الخروج للحرب خارج المدينة فخالفه ابن أبي ،
وثانيا ما قرره من مقاعد القتال وأهمها لابن جبير حيث تفرق جل أصحابه فحصل ما حصل!.
أترى الحال في «والله
وليهما» مدح لهما بتلك الولاية الربانية؟ ام قدح فيهما لماذا همتا بفشل والله
وليهما؟ إنها مدح من ناحية حيث عصمهما الله بتلك
الولاية عن تلك
الهوة الجارفة إذ لم تخرجا عن ولاية الله بذلك الهم فهم داخلون في ولاية الله و (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا).
وقدح فيهما من
اخرى لماذا همتا (وَاللهُ وَلِيُّهُما) فيما وعد من النصر!. (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولا سيما في همّ العصيان ، فإذا توكلوا عليه يعصمهم
بولايته العشيرة للمؤمنين.
وهكذا يجب على
المؤمنين أن يتوكلوا على الله مضيّا في أمر الله ، واحترازا عن نهي الله ، فلو أن
الله وكّل أمورنا إلينا دونما عصمة منه وتسديد لما نجى منا أحد عن ورطات الهلاك ،
كيف لا والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ على محتده العظيم ـ يقول : ربنا لا
تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا ، ويقول الله فيه (وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً
قَلِيلاً) وفي يوسف «وهم بها لولا أن رأى برهان ربه».
ذلك ، وكيف (هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ
تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ...) إذ كنتم ذلا لله وظلا لرسول الله ، ثم ولم ينصركم في أحد
أن لم تكونوا ذلا ، وكنتم أقوياء دون ذلّة في عدّة او عدّة :
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(١٢٣).
وترى كيف (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) وفيهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
__________________
والمؤمنون
الصالحون ، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)؟ فهل نزلت «وأنتم قليل» ام ضعفاء كما قيل؟ وهو قول عليل يختلقه الضعفاء حيث يعارض متواتر
القرآن! .. إنها كماهيه (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) تعني القلة المستضعفة ، وهي ذلة بحساب الخلق الجاهلين ،
مهما كانوا أعزة بحساب الخالق (وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(٨ : ٢٦).
إذا ف (أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ) هي عبارة أخرى عن (أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) تتجاوبان في عناية واحدة ، كما وتعقيبتهما واحدة : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وقد تكون «أذلة»
جمعا للذّل لا الذّل ، فهم كانوا ببدر ذلّا لله ـ وتحت ظله ـ ولرسوله دون شماس ،
فلذلك نصرهم الله وهم قليل مستضعفون ، ولكنهم انهزموا في أحد لتركهم ذلّهم إلى
شماسهم.
وقد يكون المعنيان
معنيين وما أحسنه جمعا تجاوبا مع أدب اللفظ وحدب المعنى ، أن الله نصركم لأنكم
مستضعفون خضّعا لله ولأمره.
و «أذلة» جمع قلة
قد تؤيد ذلة القلة في عدّة وعدّة حربية ، وهم مع ذلك ذلّ بطوع الرسول دون شماس.
فلقد كانوا في بدر
ثلاثمأة وثلاثة عشر رجلا بفرس واحد وجمال قليلة ربما ركب جمع منهم جملا واحدا
وجلّهم مشاة ، والكفار هم قرابة ألف ومعهم مائة فرس بأسلحة كثيرة.
__________________
ولأن غزوة بدر هي
بداية الغزوات الإسلامية ، وقد شاهد الصحابة من صلابة المشركين في مكة وقوتهم
وثروتهم وهم أولاء لا يملكون ما يملكه هؤلاء من عدّة وعدّة ، فهم كانوا ـ على
إيمانهم ـ أذلة في حساب الكفار ، بل وفي حسبانهم أنفسهم قضية ظاهر الحال ، وهم مع
ما هم عليه من ذلة وذلة كانوا ذلا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا
يخافون في الله أية قوة قاهرة ظاهرة.
ذلك! (فَاتَّقُوا اللهَ) لا سواه «ولا تعبدوا الا إياه» (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله بما نصركم يوم بدر وينصركم إن كنتم متقين شاكرين (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ...).
(إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ
بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)
(١٢٥).
(نَصَرَكُمُ ... إِذْ
تَقُولُ) فهما ـ إذا ـ يختصان ببدر ، نصرة وقولة ، ولكنه نقلة كانت
في أحد تنديدا بهم أن لم يصبروا ويتقوا حتى ينصرهم فيه كما نصرهم ببدر ، اللهم إلا
في بدايته ولمّا يتركوا مقاعدهم.
ثم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ ..) سئوال تأنيب ينفي الإحالة المزعومة بالنسبة لتلك الكفاية
بإمداد ملائكي ، كأن فيهم من زعم ألّا يفيد الإمداد إلّا بالجيوش الأرضية ، حيث
القلة المسلمة ترى نفير المشركين لمحاربتهم لأوّل مرة ، وهم مفاجئون بها إذ خرجوا
لالتقاء طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا الموقرة بالسلاح ، وقد أبلغهم الرسول (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) ما أوحي إليه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم في هذه المفاجأة
المفاجعة ، وهم ـ على إيمانهم ـ بشر يحتاجون إلى خارقة العون في هذه الحالة
الاستثنائية في صورة تبلغ مشاعرهم المألوفة ، وقد أبلغهم ذلك الإمداد شرط الصبر
على تلقّي صدامات الهجمة الفاتكة الهاتكة ، والتقوى
التي تربط القلب بالله
في الإنتصار والانهزام.
ذلك ـ وبأحرى ان
تتعلق «إذ» بمحذوف معروف هو «اذكر» فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إذا ـ كان
يوم أحد تنديدا بالمتخلفين من جيشه عن اصل الحرب او عن مقاعدهم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآن كما كان يوم بدر «أن يمدكم ربكم ... بلى يكفيكم» ان
كنتم مؤمنين الآن كما كنتم يوم بدر ، بلى و (إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا) كما صبرتم واتقيتم يوم بدر (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ) زيادة على بدر لاستمرارية الصبر والتقى و (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى)
.
وترى كيف (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُنْزَلِينَ) يوم بدر ، والكفار كانوا يرونهم مثليهم رأى العين : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣ : ١٣) وهو
ألفان ، بل والف كما (فَاسْتَجابَ لَكُمْ
أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٨ : ٩) ، فأين
ثلاثة آلاف من ألفين ، ثم اين هم من ألف؟.
ان الالف المردفين
هم اردفوا ألفين آخرين ، مما يوضح ان ثلاثة آلاف لم ينزلوا دفعة واحدة ، فانما «جاءت
الزيادة من الله ..» .
واما (مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) فهو موقف آخر من بدر كنصرة ثانية ، فواقع
__________________
النصرة كان بثلاثة
آلاف من الملائكة منزلين من حيث تحارب ولا ترى ، وظاهر النصرة أنهم كانوا يرونهم
مثليهم ـ لا لأنهم كانوا مثليهم ـ وانما ـ رأى العين.
ثم «بلى» يكفيكم
ذلك الإمداد الملائكي غير المرئي ، بلى و (إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا) كما صبرتم في بدر (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هذا) كما أتوكم (يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) خمسة هنا بديلا عن ثلاثة هناك ، و «مسوّمين» هنا بديلا عن
«منزلين» ـ فقط ـ هناك ، وقد صدقهم الله وعده في بداية أحد فأمدّهم بخمسة آلاف من
الملائكة مسومين كما صدقهم في بدر : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ
وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ
..) (١٥٢).
والتسويم هو
التعليم علامة ، وهو هنا علّه يجمع إلى علامة الحرب بالمظاهر الجندية ، علامة
ملائكية تميزهم عن سائر الجيش.
وقد تجمع «مسومين»
ـ حالا ـ بين حال المؤمنين والملائكة ، مهما كان تسويهمها على سواء أو مختلفين .
(وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا
مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)
(١٢٦).
ما جعل الله ذلك
الإمداد الملائكي إلّا بشرى لكم للانتصار ولتطمئن
__________________
قلوبكم به ، لا
لأن النصر مربوط النياط ـ ككل ـ بأمثال هذه الإمدادت ، وإنما هي موجبات ظاهرة
تلتقي مع ظواهر النظرات (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا
مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) سواء أكان بأسباب ظاهرة كهكذا إمداد ام غير ظاهرة كسائر
النصر.
هنا القرآن ـ كأضرابه
فيه ـ يحرص على تقرير هذه القاعدة الرصينة المتينة في التصور الإسلامي ، ان مرد
الأمور كلها إلى الله وليس نزول الملائكة إلا بشرى لهم واطمئنانا لقلوبهم أنسا
بالمألوف.
(لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ)
(١٢٧).
ولماذا (نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ... وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ)؟ (لِيَقْطَعَ طَرَفاً ...
أَوْ يَكْبِتَهُمْ).
فهناك غاية محدودة
لنصر الله هي أن يقطع طرفا من الذين كفروا ، نفسا او نفيسا ، وأرضا أو سلطة أو أية
فاعلية ، وهذه حاصلة منذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحاضري الائمة وزمن
الغيبة الكبرى ، ولأن الطرف من الهيكل عضو له أيا كان ، فقد تصور الذين كفروا
هيكلا واحدا له أطراف ، وقد يعني هنا لينقص عددا من أعدادهم او عددا من إعدادهم
فيوهن عضدا من أعضادهم ، كواجب نضالي على الذين آمنوا ، مستمر على طول الخط حتى
يصل إلى «او يكبتهم» :
فهنا غاية غير
محدودة لذلك النصر هو «أو يكبتهم» : يصرعهم ـ ككل ـ لمكان ضمير الجمع دون تبعيض
كان في ليقطع ، يصرعهم على وجوهم ، ويهلكهم ويلعنهم ويهزمهم ويذلهم ويغيظهم ـ والكل
معان للكبت ـ (فَيَنْقَلِبُوا
خائِبِينَ) آيسين لا أمل لهم في رجوع إلى كيان أيا كان ، وهذا في
الدولة الاسلامية الأخيرة العالمية حيث لا يبقى للكفر رطب ولا يابس ، اللهم إلّا
شرذمة من أهل
الكتاب في ذمة الإسلام ، لا دور لهم في الحكم.
فكل نصر من الله
للمؤمنين محدد بحدود صبرهم وتقواهم حتى يصل الأمر الى اصحاب صاحب الأمر الذين هم
نخبة التاريخ الرسالي ككلّ ، أصحاب ألوية وجيشا وأنصارا آخرين من الراجعين معه ،
عجل الله تعالى فرجه.
ذلك! وبصورة عامة
الكبت كتب على الكافرين على مدار الزمن قليلا او جليلا ف: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧ : ٥).
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)
(١٢٨).
ترى ما هو الأمر
المسلوب عنه مستغرقا ، وبماذا نصب «او يتوب او يعذبهم»؟.
أتراه كل أمر حتى
المختارة في حقل التكليف؟ ويعارضه واقع الإختيار وأدلته في الكتاب والسنة ، وبراهينه
العقلية والفطرية! ثم ولا رباط بين سلب الإختيار وموقف الحرب المحرّض فيها بتقديم
كل مكنة ممكنة ، وبالصبر والتقوى! ثم (أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) وهما ليسا من أمره لا تخييرا ولا تسييرا.
فلا رباط لهذه
الجملة ولا تعلق في تصحيح مذهب المجبرة المسيّرة ، الواهي المتهافت ، وهم يسمعون
الله تعالى يأمر نبيه أن يدعو الكفار إلى الله ، مكررا دعاءه على أسماعهم ، مصرا
على إصغائهم ، ناهجا لهم طريق الإيمان ومناره ، ومنذرا ومحذرا ، وموقظا ومبشرا ،
وآخذا بحجزهم من التهافت في النيران ، فكيف له من أمر التكليف شيء؟!.
ام هو أمر الأمر
والنهي بعد الدعوة؟ وهما معها قوائم ثلاث لكيان الداعية
في الدعوة! فسلبها
ـ إذا ـ استئصال للرسالة عن بكرتها ، واسترسال للمرسل إليهم في نكرتهم.
أم هو امر التكوين
والتشريع ثم له أمر الشرعة بقيادتها في كل حقولها الرسالية للداعية؟ وذلك واقع لا
مردّ عنه ، وهناك النصر الموعود والواقع قبل ، وهنا التوبة عليهم او تعذيبهم بعد ،
كلاهما من الأمر التكويني الذي ليس له منه شيء ، ثم وليس مشرّعا كما ليس مكونا ،
فإنما هو رسول يحمل شرعة الله دون تخلف عنها قيد شعره ، دون زيادة او نقيصة.
فالهداية والإضلال
، والثواب والعقاب ، وما أشبه ، كل ذلك من أمره تعالى ، اللهم إلا هداية الدلالة
وضلالة تركها ، فإنهما من فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لا محالة دال
دون ترك على أية حال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
اجل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) من هداهم وضلالهم ، من ثوابهم وعقابهم ، من استصلاحهم او
استئصالهم او تدبير مصالحهم او تهديرها ، او تقديم آجالهم او تأخيرها.
فلقد كان (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) إذا رأى من الكفار تشديدا في تكذيبه ، ومبالغة في إطفاء
نوره سأل الله تعالى ان يأذن له في الدعاء عليهم باستئصال او تعجيل عذاب ، فكان
تعالى قد يأذن وقد لا يأذن تبيينا له أنه سبحانه العالم بمسائر الأمور ومصايرها ،
لعلمه ان منهم من يؤمن ويتوب ـ كالوحشي قاتل حمزة ، وأضرابه ـ فيكون ـ إذا ـ زائدا
في عداده ، وعضدا من أعضاده.
او يأتي من ظهره
من يظهر به الدين ويزيد في المسلمين ، إذ يعلم سبحانه
من المغارب
مطالعها ومن المغارس طوالعها ، ومن أوائل التلاقح والتزاوج عواقب التولد والنتائج.
ولقد نزلت هذه الآية
يوم أحد إذ شجّت جبهته ، وكسرت رباعيته ، واستقطرت دماءه على صفحته المباركة وهو
مع ذلك حريص على دعاءهم ، ومجتهد في إنقاذهم ... أم وهو عازم على الدعاء عليهم
مستأذنا ربه سبحانه فهم أن يدعوا عليهم فقال : كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو
يدعوهم الى الله ويدعونه الى الشيطان ، ويدعوهم الى الهدى ويدعونه الى الضلالة ،
ويدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، فهم ان يدعو عليهم فانزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ...) فكف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الدعاء
عليهم .
فليس له من أمر
النصر الخارق لعادته ، ولا من أمر الهدى والضلالة والثواب والعقاب أما شابه من
امور تكوينية او تشريعية ، ليس له شيء ، فانما هو رسول ، كل كيانه رسالة الله ،
دون مشاركة مع الله فيما يختص من تكوين او تشريع بالله ، ولا تفويض له في أي أمر
حتى الولاية الشرعية ، ف (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) دون ما يراه ، فضلا عمن سواه.
ثم ترى (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ) معطوفان على (لِيَقْطَعَ طَرَفاً
..)
__________________
ف (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جملة معترضة بينهما؟ وهو فتّ في عضد الفصاحة وثلم في جانب
البلاغة! وهو لا يناسب كونه غاية ل «نصر الله» فان (يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لا تمت بصلة للنصر ، فقد يتوب ولا نصر وقد لا يتوب مع
النصر!.
أو ان «او» فيها
بمعنى «إلّا أن» أو «حتى» كما هما من معانيها؟ وهو الظاهر هنا معنويا كما هو أدبيا
أن (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) من التوبة عليهم وعذابهم إلا ان يتوب الله عليهم او يعذبهم
، يتوب عليهم إن تابوا اليه ، او يعذبهم فإنهم ظالمون.
إذا ف «إلّا» هنا
استثناء منقطع ، ان ليس لك من الأمر شيء إلّا لله.
ام و «حتى يتوب
عليهم او يعذبهم» فهنالك امر المتابعة لأمر الله ، ولماذا ـ إذا «او» بدلا عن «حتى»
او «إلّا أن»؟ علّه لعناية المعنين مع العلم أن عناية العطف هنا غير مناسبة ، ام
انه ـ ايضا ـ معني معهما عطفا لكلا التوبة والعذاب على القطع والكبت ، فقد «نصركم
الله ببدر ـ وما النصر إلا من عند الله» ليقطع او يكبت او يتوب او يعذب ، وليس لك
فيها من الأمر شيء ، وما أجمله جمعا بين مثلث المعاني ل «أو» لم تكن تعنيها لا حتى
ولا إلّا أن ، وما أقبحه تحريفا من لا يعرف مغازي كلام الله فيختلق تجديفا.
وفي الحق (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كجملة مستقلة ـ مهما عنت ما عنت فيما احتفت بها ـ هي من
خلفيات ملابسة في السياق تقتضيها ، فيرد قول
__________________
بعضهم «هل لنا من
الأمر شيء» وقول آخرين (لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) ليقول لهم ولأضرابهم ـ حين ليس لرسول الهدى من الأمر شيء
فبأحرى لمن سواه.
فليس لهم ـ ككل ـ من
الأمر شيء لا في نصر ولا هزيمة ، إلّا قدر ما يسعون او يفشلون ، وبذلك ينسلخ
المسلمون بأشخاصهم من بطر النصر وخطر الهزيمة ، ويطامنون من الكبرياء التي يثيرها
الانتصار في نفوسهم ومن الزهو الذي تتنفج به أرواحهم وتتنفخ أوداجهم.
فليس لهم ـ ككل ـ رسولا
ومرسلا إليهم ـ شأن إلا تأدية الواجب في كل حقل ، ثم نفض أيديهم من النتائج.
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(١٢٩).
(لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) إذ لا تملك مما في السماوات وما في الأرض شيئا (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) ملك التشريع والتكوين ، ف (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) ان يغفر له حين يستحقه ، بأن يشاء هو المغفرة ويعمل له ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ان يعذبه حين يستحقه بان يشاء هو العذاب بما يعمل له.
إذا ففاعل «يشاء»
فيهما هو الله حيث يشاء مغفرة وعذابا ، وهو المغفور له والمعذب حيث يشاء هما
فيشاءهما الله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ).
ذلك ، ولكنه سبقت
رحمته غضبه ، كما تلمح له هذه التعقيبة (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) فبرحمته يغفر ما لم يناف عدله سبحانه ، كما بعدله يعذب حين
لا مجال لغفره ورحمته.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)
وَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ
عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ
لِلنَّاسِ
وَهُدىً
وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)
(١٣٨)
هذه الآيات تظهر
كأنها منقطعة الصلة عما قبلها وما بعدها من عرض الغزوتين بدر وأحد ، ولكنها قريبة
الصلة وعريقتها بالحرب حيث تأمر بمحاربة الأهواء والشهوات ، وتطهير النفوس ، فهي
بين سلبيات وإيجابيات ، سلبا لكل ثلب وإيجابا لكل واجب.
فكما أن جهاد
النفس وسط في جهاد الكفار ، كذلك آياتها تتوسط بين آيات الجهاد.
ولان الجهاد من
أفضل سبل الله وهو بحاجة إلى انفاق النفيس كإنفاق النفس ، فلا بد ـ إذا ـ من
التحريض إلى الإنفاق ، وليس المرابي ولا سيما بالأضعاف المضاعفة ممن ينفق ، فليترك
الربا ثم لينفق ، ثم ليسارع الى مغفرة الرب.
ولان المشركين
كانوا يأخذون الربا أضعافا مضاعفة لينفقوا في سبيل حرب المسلمين ، فخيّل الى
المسلمين انه ليس محظورا حيث يصرف في حرب المشركين ، وأن الجو يومذاك كان ـ ككل ـ جو
أكل الربا أضعافا مضاعفة ، لذلك تتقدم آية النهي عنها في هذه الآيات التسع الوسيطة
بين الغزوتين :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ١٣٠.
لقد أسلفنا قولا
فصلا حول الربا بتضاعيفها وكل حقولها على ضوء آية البقرة ، فإنما علينا هنا أن نقف
عند أضعاف مضاعفة دون إعادة لما مضى.
أترى أن هذا النص
يحرّم من الربا ـ فقط ـ أضعافا مضاعفة ، ليتوارى
المرابون وراءه
بقالتهم القالة الغائلة ، المفهوم من هذا النص أن الضعف في الربا والضعفين وما
دونهما ليست محظورة ، وانما هي الأضعاف المضاعفة؟.
كلا ثم كلا! حيث
الأضعاف المضاعفة هنا ليست شرطا لأصل الحرمة ، إنما هي مواصفة لواقع كان في
الجزيرة وهو طبيعة الحال في النظام الربوي.
فالنظام الربوي
يقيم دورة المال ـ كأصل ثابت ـ على الأضعاف المضاعفة ، فهو عملية متكررة على مدار
الزمن ، ومتركبة من الأضعاف المضاعفة من أخرى ، فليست مقصورة على واقع الحال في
الجزيرة ، بل قد تضخمت وتضاعفت ما تضاعفت الجماهير وتضخمت ، وتقدمت في الاقتصاد
الظالم الغاشم.
لقد كان يكفي نص
آية البقرة لحرمة أصل الربا مهما كانت درهما ، فليست ـ إذا ـ لتتقيّد بآية الأضعاف
المضاعفة ، فان آية البقرة نص في إطلاقها ، لا تقبل اي تقيد مهما كان بنص ينفي
الحرمة في بعض مواردها ، وآية الأضعاف لا تنفي حرمتها في اي مورد ، انما تثبت حرمة
مغلظة في اضعاف مضاعفة ، والمتوافقان من الإطلاق والتقييد لا يتعارضان حتى يقيد
مطلقهما بمقيدهما ، اضافة الى ان نص الإطلاق لا يقبل اي تقييد في نفسه من مقيد
سلبي ، فضلا عن الايجابي كآيتنا هذه.
والأضعاف المضاعفة
، هي الربا المضاعفة على رأس المال في بيع او دين أم أية معاملة ربوية ، أن يزاد
في الأجل فيضاعف الربا على ما قررت ، ثم تستمر المضاعفات حتى تصبح الألف آلافات
دون أي حق إلّا مزيد الأجل ، وذلك هدم لأركان الإقتصاد من أصولها.
__________________
(لا تَأْكُلُوا ...
وَاتَّقُوا اللهَ) في أكل الربا وما سواها من باطل الأكل والعمل (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في حياتكم الإنسانية والإيمانية ، شقا لعراقيل الحياة
بسفينة التقوى ، قضاء حاسما على الطغوى ، فإن الإسلام يعني للأمة المسلمة نظافة
حيوية في كل حقولها ، والنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على معركة النضال أمر
قاصد مفهوم في المنهج التربوي الإسلامي ، فإن النظام الربوي لا يلائم إيمان الجهاد
وجهاد الإيمان ، فلا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويجاهد في سبيل الله ويخاف النار
التي أعدت للكافرين :
(وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ١٣١.
فآكل الربا أضعافا
مضاعفة هو مع الكافرين في نارهم المختصة بهم ، حيث النار دركات ، منها ما يختص
بالكافرين ، كما منها ما يختص بالمنافقين ومنها ... فلا يدخل آكل الربا مهما كان
مسلما النار التي يدخلها عصاة المسلمين.
ذلك! ولأن الربا
تخلّف ويلات بشعة لا تنجبر ، وتعمل حريقا عريقا على حياة المجتمع فتحرقها عن
بكرتها وتخرق ألفتها ، فهي نار تدخل آكلها (النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).
فترى إن أكل الربا
كفر بالله وإن كان آكله مسلما؟ أجل انه كفر عملي داخل في طليق الكفر ، ثم وكما ان
الكفر دركات ، كذلك (النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) دركات ، فلا يعني دخول المرابي في هذه النار تسويته مع
سائر الكفار في دركات النار ، ثم وأكل الربا وان كان كافرا عمليا فقد يورد صاحبه
الى كفر عقيدي حين يحلل الربا بالمآل ليبرر موقفه من أكل الربا.
وهنا (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) دليل وجود النار بمعداتها ، والقدر المعلوم منها نار
البرزخ ، واما نار القيامة الكبرى فليست الآن موجودة كما وزبانيتها لا
تحصل الا بوقودها
وهي رءوس الكفر والأعمال الكافرة.
فقد يعني الإعداد
للنار حاضر معدات النار في حياة التكليف من الوقود الأصيل وما دونه ، أم وإعداد
مكانها وهو في السماوات والأرض ، ولكن إعداد الجنة اكثر فانها مخلوقة حسب آية
النجم.
(وَأَطِيعُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ١٣٢.
طاعة لله طليقة عن
اي تخلف ، حقيقة لساحة الربوبية ، هي طاعة في كتابه ، ثم وطاعة الرسول (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) في سنته الجامعة على ضوء كتاب الله وطاعته : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ).
(أَطِيعُوا ...
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وترى حين تكون طاعة الله والرسول منجحة مفلحة فما هو دور
الترجي على وشك الشك في (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ)؟.
علّه لأن الرحمة
الربانية غير واجبة لفاعليها فهي من فضله وليست من عدله ، فهي ـ إذا ـ غير محتمة
عليه فيصح الترجي لها لمن أطاع الله ورسوله؟
ولكنها واجبة عليه
بما كتبها على نفسه للتائبين من ذنوبهم فضلا عن المطيعين جملة وتفصيلا : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦ : ٥٤) كما (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ..) (٦ : ١٢) ، فالحشر
الرحمة والرحمة في الحشر مكتوبان عليه تعالى بما كتب على نفسه فكيف (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؟ ، علّه لأن الطاعة الحاضرة لله والرسول لا يضمن الموت على
الطاعة ، فعلّه يموت عليها ، وعلّه لا ، وذلك مجال الترجي للمؤمنين ككل ، ولكن
المعصومين السابقين والمقربين ، المضمون لهم الموت على طهارة العصمة ، هم كذلك
مضمونه لهم الرحمة ، ولكنهم ـ على
ضمانها ـ يترجونها
اعتبارا على عدم استحقاقها كأصل اولى مهما كتب ربكم على نفسه الرحمة.
وقد تعني «لعلكم»
تعليق واقع الرحمة على واقع الطاعة طبقا عن طبق. ثم لطاعة الله والرسول درجات ،
ومهما كانت رحمة الثواب مضمونه لمن مات على الطاعة ولكن رحمة الغفران عن السيئات
غير مضمونة إلا لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، وكذلك رحمة ترفيع الدرجات ، ف (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) تشمل كافة الرحمات واجبات وراجحات في الدنيا والآخرة ،
وكلها تتبنى طاعة الله والرسول ، درجات من الرحمات بدرجات من الطاعات (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى).
ذلك وكما نرى هذه
الغاية المترجّاة في ست أخرى من الآيات منها : (وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٣ : ١٣٢).
فلا رجاء في رحمة
لمن لم يطع الله والرسول ، إنما هو للمطيع مهما اختلفت درجات الرجاء الي قمتها
المعنية وللمعصومين.
ثم وليس فحسب أن «أطيعوا
..» ما صدق أنها طاعة ، بل :
(وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ) ١٣٣.
«سارعوا» هي سباق
في السرعة ، و (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) تعم مغفرة الدنيا والآخرة ، كما وتعم الى مغفرة السيئات
الحاصلة مغفرة السيئات الهاجمة ولمّا تحصل في الأولى.
والمسارعة إلى
المغفرة تعني المسارعة إلى أسبابها المعنيّة في الكتاب والسنة جملة وتفصيلا.
__________________
هنا «سارعوا» وفي
الحديد (سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
(٢١) ، فلا بد من سباق
في سرعة وسرعة في سباق ـ على مدار حياة التكليف ـ (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) وهي كما لمحنا إليه لا تخص مغفرة عن عصيان ، بل وعن عروضه
، ثم مغفرة في ترفيع درجة ، فهي مثلث من المغفرة لكلّ زاوية أهلها حسب سباقه
ومسارعته.
وقد يروى عن رسول
الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سبب نزول هذه الآية انها تفضيلة للأمة
المرحومة على سائر الأمم ولكنها مؤوّلة بما لا ينافي عدل الله ، فانما هي مزيد
الرحمة.
واما (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ) فتراه عرضا وجاه الطول؟ وليس (السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ) هما ـ فقط ـ عرضا حتى يقابل عرضهما طولهما!.
أم هو عرض السعة
السطحية؟ فكذلك الأمر فإنهما كرتان معمقتان دون سطح فقط كما ليستا عرضا فقط!.
ام هو سعة
السماوات والأرض بمثلث العرض والطول والعمق الدائرية أماهيه؟ وهذا هو المعنى
الصالح هنا للعرض ، حيث العرض في المسطحات هو أقل الامتدادين وأكثرهما ، وفي
المجسمات هو اقصر الامتدادات الثلاث
__________________
وأطولها ، وفي
الأسطوانات والمخروطيات عن امتداد قواعدها وسهامها ، فعرض السماوات والأرض هو
الأبعاد الكروية الأسطوانية.
ثم ترى ان
السماوات والأرض هما بنفسهما مكان الجنة فأين ـ إذا ـ النار؟
فهل هما متداخلتان
دون زحام بينهما مكانا ولا مكانة ، فهما لأهل الجنة جنة ولأهل النار نار ، كما
الغارقون في النار (أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا ناراً) (٧١ : ٢٥) بلا
زحام بين الماء والنار الكامنة فيه بتدبيره تعالى؟ وهكذا تؤول الروايات القائلة «إذا
جاء النهار فأين الليل» ولكنها بعد غير مرضية.
__________________
(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) لا تناسب انهما مكانها ، فصحيح التعبير عن ذلك العرض : «وجنة
هي السماوات والأرض» ثم وآية الحديد توضحها اكثر لمكان (كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ولا بد من مفارقة بين المشبه والمشبه به ، مهما تشابها في
جهة او جهات ، وإذا كانت الجنة في نفس السماوات والأرض ، فهي نفسها مكانا دون أن
يشبههما.
ثم (جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) وأضرابها دليل اختلاف مكانهما دون أي تداخل مهما أمكن في
قدرة الله ، ولكنه تداخل ـ على صحته ـ دون مرجح ، بل هو مزعج لأهل الجنة باشتراكهم
مع اهل النار في المكان ، ثم (إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وارِدُها ... ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ
اتَّقَوْا) ـ وكثيرا أضرابها ـ تدل على الخروج عن النار لمن اتقى ولا
خروج في المتداخلين ، بل هو عروج عن حالة سيئة الى حالة حسنة.
وبعد كل ذلك فمكان
الجنة معروف في آية النجم (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى)
(١٥).
فكما السدرة
المنتهى هي منتهى الكون المحلّق على السماء السابعة ، كذلك جنة المأوى التي عندها
، فليس جواب «فأين النار إذا»؟ إلّا أنها تحت الجنة المأوى ، سواء أكان السماوات
والأرض بتمامهما ، أم بعضا منهما ، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ) مما يدل على أنها لا تحلق على كل السماوات والأرض ، وإلا
لم تصح «جيء» ثم الجنة فوق النار لآية النجم و (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) اي تعلو
__________________
النار ، مهما
كانتا قريبتين إلى بعض البعض لمكان الترائي والمناداة ، ام غريبين والترائي بينهما
بسبب رباني كما نجده هنا بضعاف الأسباب الخلقية.
فقد تعني الآيتان
ان مثلث السعة للجنة هو سعة السماوات والأرض ويا لها من سعة لا تتصور ، ونحن بعد عاجزون عن تقدير سعة
أرضنا تماما.
وأما (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) فقد تعني ما عنته من حيث الإعداد (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ولكن الجنة موجودة الآن حسب آية النجم وما أشبهها ، مهما
كانت الصالحات في الجنة كما الطالحات في النار هي المعدات للثواب والعذاب ، ولكن
سبق رحمته غضبة ، وسعة رحمته أكثر من عدله تقتضي في الجنة إعدادا اكثر من النار ،
كما وأن نفس الجنة بحاصلها وما سيحصل كلها من فضل الله.
وآيات خراب
السماوات والأرض لا تخرّب الجنة التي هي محيطة بالسماوات والأرض ، مهما خربت جحيم
البرزخ وجنّته بخراب السماوات والأرض ، حيث ينتهي دورهما بانتهاءهما ، وعلى أية
حال (أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ) وتراهم من هم ، إنهم :
(الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ
عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ١٣٤ وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ١٣٥.
هذه المواصفات
الست هي بين مثلث الإحسان ، كما (وَاللهُ يُحِبُّ
__________________
الْمُحْسِنِينَ) تعقيبة لها ، ومثلث الازالة لخلاف الحسن والإحسان :
١ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ ...)
(السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ) هما الفعلاء المؤنث من سرّ وضرّ ، وهما وصفان لمحذوف هو
طبعا معروف ك «الحياة ـ الحالة» الأكثر سرّا او ضرا.
وكما «ينفقون» يعم
كل نفس ونفيس ، كذلك (السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ) تعمان كل أبعاد الحياة السارة والضارة.
فليس إنفاقهم فقط
في السراء ثم هم في الضراء يبخلون ، فإنما حياتهم هي الإنفاق في الإقبال والإدبار
، حين السرّ والضر كحالة عامة أم في جانب الإنفاق ، فهم أولاء في سرورهم وحزنهم ،
في يسرهم وعسرهم ـ وعلى أية حال ـ الإنفاق أنفسهم ونفائسهم في سبيل الله فلا
يفشلون ولا ينجلون ، أجل وإن السراء لا تبطرهم فتلهيهم عن الإنفاق ، ولا الضراء
تضجرهم فتنسيهم ، فلهم أرواح شفيفة عفيفة منطلقة من كل القيود والأغلال التي
تقيّدهم وتحول بينهم وبين حق الإنفاق وصالحه.
وهنا يتقدم
الإنفاق على سائر الست لأن له دوره العظيم العميم في عامة مسائل الإيمان ومنها
الجهاد في سبيل الله الذي يتطلب الإنفاق من خالص النفس والنفيس.
٢ (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) : غيظهم أنفسهم على الآخرين وغيظ الآخرين عليهم وعلى آخرين
، كظما مثلثا للغيظ ، الذي له دور عظيم في إخماد نيران الفتن بين المؤمنين ،
والكظم في الأصل هو شد القربة بعد امتلاءها ، فكظم الغيظ هو شده بعد الامتلاء منه
بحيث كان يتفجر منه لولا شدّه.
ف من كظم غيظا وهو
يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا
و «ما من جرعة أحب
إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظم عبد لله الا ملأ الله جوفه إيمانا» .
وان كظم الغيظ وهو
صرعة النفس الطائشة ، هو أشد من كل صرعة ، ف «ليس الشديد بالصرعة ولكن الذي يملك
نفسه عند الغضب»
«.. ان يمتلي
الرجل غيظا ثم يغلبه»
فقد ئ«وجبت محبة
الله على من أغضب فحلم»
«ألا إن الغضب
جمرة توقد في جوف ابن آدم ألم تروا إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فإذا وجد أحدكم
من ذلك شيئا فليلزق بالأرض ، ألا إن خير
__________________
الرجال من كان
بطيء الغضب سريع الفيء وشر الرجال من كان بطيء الفيء سريع الغضب فإذا كان الرجل
سريع الغضب سريع الفيء فانها بها وإذا كان بطيء الغضب بطيء الفيء فانها بها ...» .
فالقدرة على
الإنفاذ ـ كما في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ هي من شروط الإحسان في
كظم الغيظ ، حيث العاجز على الإنفاذ ، الخائف منه ، هو مكظوم غيظه بطبيعة الحال
شاء ام أبى ، اللهم إلّا غيظا دون خلفية له على صاحبه.
__________________
ثم وليس كظم الغيظ
بصورة طليقة إحسانا ، فقد يكظم الغيظ في حالة حاضرة ليحقد ويضطغن فيتحول الغيظ
الفائر الى إحنة غائرة ، والغضب الظاهر الى حقد دفين ، وحاضر الغيظ هي اقل محظورا
من غائره ، ولا يعني كظم الغيظ إلّا هضمه عن بكرته ، عن ظاهره وغائره ، في مثلث
القال والحال والفعال ، في الحاضر والاستقبال.
٣ (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) عفوا طليقا عن
مظالمهم التي تقبل العفو ، وأما العفو الذي يشجّع على الظلم فليس ممنوحا ولا
مسموحا ، إنما هو العفو الذي لا محظور فيه ، ولا سيما الذي يحوّل سيّئا إلى حسن
وإلى أحسن ، وذلك واجب كل مسلم لأنه قضية واجب الإحسان في سبيل الدعوة إلى الله (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وهم هنا المنفقون الكاظمون العافون ، فقد يتحول الإنفاق
والكظم والعفو إلى الاساءة كأن ينفق في سبيل اللهو بدلا عن سبيل الله ، ويكظم
الغيظ عمن يجب تأديبه وضربه او قتله ، او يعفى عمن يشجّع بعفوه إلى تخلف اكثر
وأكثر ، فانما هذه الثلاث ممدوحة إذا كانت في سبيل الله ، إحسانا الى عباد الله
الذين يستحقونه.
٤ ـ ٥ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً
أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ...) والفاحشة هي المعصية المتجاوزة حدّها في ذاتها ام الى غير
فاعلها شخصيا أم جماعيا ، ومن الثاني المعصية المتجاهر بها حيث تشجع الجماهير على
اقترافها ، أو الجامعة بينهما فأشد وأنكى ، فذلك المثلث من المعصية فاحشة مهما
اختلفت دركاتها.
ثم (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) عام بعد خاص ، فان العصيان أيا كان ظلم بالنفس سواء أكان
فاحشة ام سواها ، صغيرة ام كبيرة.
وهنا (ذَكَرُوا اللهَ) دليل على أن العصيان هو من خلفيات النسيان ،
فالذاكر الله وهو
يعرفه بالربوبية لا يعصى الله بفاحشة أم سواها ، فإنما يعصم الإنسان عن اي عصيان
ذكر الله بعد معرفته.
ولأن النسيان هو
من أسباب العصيان فلا يجبر العصيان إلّا بذكر الله ، ثم (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) طلب الغفر بقال وحال وأعمال ، فليس الاستغفار مجرد القال
والقلب قال والعمل خال عن الاستغفار ، فالاستغفار فعل أصله من القلب ثم يظهر في
القال والفعال.
(وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) سؤال إيقاظ للغافلين وإيعاظ للمتساهلين ، وتأنيب بمن يظن
أن هناك من يغفر الذنوب إلّا الله ، أو لا غافر للذنوب حتى الله.
ويا للسماحة
الطليقة الربانية ، أن الله لا يدعونا إلى سماحة فيما بيننا حتى يطلعنا على جانب
عميم من سماحته ، انه يعفو عن كل فاحشة وظلم بالنفس عند الذكر والاستغفار ، شرط أن
:
٦ (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا
وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الإصرار على ما كان نتيجة النسيان بعد ما ذكروا الله
واستغفروه ، وعلّهما المعنّيان ب (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) مهما عنت معهما الإصرار عن علم بمادة الإصرار حظرا ، دون
جهل سائد او تجاهل عامد ، والإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه
بتوبة فذلك الإصرار
ف «لا صغيرة مع
الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار»
بل
__________________
و «لا والله لا
يقبل الله شيئا من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه» .
ذلك لأنه دليل على
عدم الإيمان حين لا تسوءه سيئة ، فالخوف من العقاب يبعث العاصي على الاستغفار
والندم .
و «انه والله ما
خرج عبد من ذنب بإصرار ، وما خرج عبد من ذنب إلا بإقرار» ولقد كان يدعو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «اللهم
اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساءوا استغفروا» .
إنه ليس (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
اللهُ) مثيرة للاستهتار ، فإنما تخجل العاصي وتطمعه في الغفران
وتثير الاستغفار.
فلقد يعلم الله
ماذا خلق ومن ذا خلق ، خلق هذا الإنسان بما يحيط به ،
__________________
وبالشهوة والحيونة
أمام الفطرة والعقلية الإنسانية ، فقد تهبط به حمأة الشهوة إلى دركات من الفاحشة
فينزو نزوة الحيوان ، ويترك حظوة الإنسان.
إن الله يعلم منه
كل ذلك لأنه هو الذي خلقه وقدّره ، فلا يقسو عليه في تخلفاته ولا يبادر إلى طرده
من رحماته ما دامت شعلة الإيمان في قلبه غير منطفية ، ونداوته غير منتفية ، عارفا
ربه وما يتوجب عليه أمامه ، فيأمره بالذكر بعد النسيان ويغفر له حين يستغفره (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
اللهُ).
فليس الله بذلك
الغفر الواسع داعيا إلى الترخص تمجيدا للعاثر الهابط ، والعاهر الخابط ، ولا يهتف له
بجمال المستنقع كما الواقعية البشعة تهتف له ، فانما هي إقالة عثرة واستجاشة
الرجاء اليه في النفس الإنسانية كما يستجيش فيها الحياد ، فهو يربيه بين كفتي
ميزان الخوف والرجاء ، دونما رجاحة لإحداهما على الأخرى لكيلا يتأرجف.
أولئك هم المؤمنون
في الحق ، الموعوظون الموعودون بالغفران ، دون المستهترين المصرين غير الذاكرين
الله ولا المستغفرين ، فإنهم خارج الأسوار ، مؤصدة في وجوههم تلك الذاكرين الله
ولا المستغفرين ، فإنهم خارج الأسوار ، مؤصدة في وجوههن تلك الأستار ، ولكنهم ـ على
ما هم عليه ـ لا يعاجلون بالعقوبة ، فلهم كما لسواهم مفتوحة باب التوبة إن أنابوا
إلى الله ، وعلينا أن نتخلق بأخلاق الله فلا نعاجل من ظلمنا بالعقوبة ما فيه مجال
للإصلاح ، أم لا يخاف منه الإفساد.
فهنالك ـ لما تنزل
هذه الآية ـ يصرخ إبليس بعفاريته قائلا : «من لها حتى قال الوسواس الخناس أنا لها
، قال : بماذا؟ قال : أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا
__________________
الخطيئة فإذا
واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار ، فقال : أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة».
ف «رحم الله عبدا
لم يرض من نفسه أن يكون إبليس نظيرا له في دينه وفي كتاب الله نجاة من الردى
وبصيرة من العمى ودليل إلى الهدى وشفاء لما في الصدور فيما أمركم به من الاستغفار
مع التوبة ...» .
فحين يهددنا إبليس
«يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما كانت أرواحهم في أجسادهم ، يتهدد بقول الله
: وعزتي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني»
ف «استغفر ربك حتى
يكون الشيطان هو المحسور»
وأنت
__________________
مأجور ، أو اعلم
أنه «لا يمل الله حتى تمل»
فليس الإصرار
إعادة الذنب مع التوبة والاستغفار ، إنما هو ترك الندم بلا توبة واستغفار.
(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) ١٣٦.
«أولئك» الأكارم «جزاءهم»
عند ربهم في الدارين (مَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ) «وجنات» في البرزخ
والقيامة (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ـ دون خروج عنها ـ عطاء غير مجذوذ (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) فلبئس أجر الخاملين التاركين عمل الإيمان إلى قولته ام
وعقيدته.
(قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) ١٣٧.
(قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ) في أمم خلت ، بقرون مضت «سنن» حسنة وسيئة (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) سيرا تاريخيا جغرافيا في أرض التكوين والتدوين وأفضله
القرآن فانه معرض عريض للأرضين «فانظروا» نظر العقلية النابهة ، نظر البصر الى
البصيرة (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) في حياتهم الدنيا فضلا عن الأخرى ... ذلك وإن القرآن يربط
غابر الإنسان بحاضره وحاضره بغابره ، ثم ينتج من خلال الغابر والحاضر إلى مستقبل
زاهر لو أن الناس اعتبروا فعبروا قناطر الحياة بسيارات العبر ، وشقوا أمواج الفتن
بسفن المعتبر.
__________________
أجل وان في الأمم
الخالية معتبرا متبصّرا ، فانظروا الى فراعنة التاريخ ونماردته حيث لم ينفعهم
جمعهم وسلطانهم شيئا ، ولا حمتهم شواهق قصورهم ولا ذخائر كنوزهم ، فهم بعد أحاديث
لم تبق منهم باقية إلّا باغية من معاثر ، ثم ومآثرهم الظالمة الطاغية.
٣ (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً
وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ١٣٨.
«هذا» القرآن ،
وهنا «هذا» البيان (بَيانٌ لِلنَّاسِ) دون خفاء ولا غطاء «بيان» لهم كلهم ، ثم (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) فمهما كان هدى دلالية للناس كلهم ، فليس هدى واقعية إلّا
للمتقين ، الذين إذا وقوا ببيان اتقوا وإذا هدوا اهتدوا.
ومن الفارق بين
البيان والهدى والموعظة ، ان البيان ليس إلا عن خفاء ، خفاء الجهل بالحق ، او خفاء
التجاهل عنه ، ام خفاء التصديق به ، فالبيان أيا كان يفيد إزالة الشبهة ، والهدى
بيان لطريق الرشد ، والموعظة بيان لمحاظير طريق الرشد ، فالمتقي إنما يحتاج الى
الهدى ـ حيث يتحرى عنها ـ فيتبعها ، ثم إلى الموعظة فيتحرز عما يوعظ به ، وغير
المتقي يحتاج الى بيان حتى يجتاح جهله او تجاهله.
فلا اثر للبيان ما
لم يكن التقوى ، إلا أن من البيان ما يبعث على التقوى ، لأن غير المتقي جاهل بما
يحرضه على التقوى.
فالقرآن بيان
للناس ككل ، لمن تبين به : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١٦ : ٨٩) و (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ
لِما فِي الصُّدُورِ) (١٠ : ٥٧) ف (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤٥ : ٢٠) ، وإذا
كان (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) فليكن تفهمه ميسورا لهم كناس ، فالمعتذرون عن فهمه او
تفهمه سواء في كونهم من النسناس الخناس ، أكانوا من المؤمنين به المغالين تقصيرا
في
تفهمه ، وانه خاص
بالمعصومين (عليهم السلام) ، ام كانوا ممن قالوا (قُلُوبُنا غُلْفٌ
بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ).
فالقرآن (بَيانٌ لِلنَّاسِ) ما تبينوا ، بيان في ظواهره ومظاهره ، ثم في إشاراته
ولطائفه ، مهما اختصت حقائقه بكل تأويل بالرسول وعترته المعصومين (عليهم السلام :
، ف (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).
ذلك ـ وإلى تعبئة
وتقوية وتأسية وتثبيت ، رجوعا الى ما مضى من مآسي غزوه أحد ، وبإجابات جادة عن
شطحات الأقاويل حول هزيمته العظيمة :
الفهرس
(سورة آل عمران) : التصوير
في الإرحام في بحث علمي......................... ١٥
ـ ١٩
آة التقسيم إلى محكمات ومتشابهات في قول فصل ـ التعريف
بها والاجابة عن اثنى عشرسوالاً حول مواضيع الآة ـ نظرات ثلاث حول
الآة......................................................................... ١٩
ـ ٤٩
كسف «شهد الله انه لا اله الا هو» شهادة لنفسه؟ هس عشرة كاملة من
مختلف الشهادات القاطعة ٦٢ ـ ٦٧
«ان الذين عند الله الاسلام»؟ فان حاجوك................................... ٦٧ ـ ٧٠
كيف «تؤتي الملك من تشاء و...»؟ إنه بين إيتاه تكويني وتشريعي............... ٧٥ ـ ٨٣
آات إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هي من
ادلة كروية الأرض...... ٨٣ ـ ٨٦
ولاية الكافرين؟ «إلا ان تتقوا منهم تقاة»..................................... ٨٦
ـ ٩٢
حضور الاعمال يوم يقوم الاشهاد........................................... ٩٢
ـ ٩٤
هل «ان الله اصطفى آدم» تلمح لكونه وليداً من غيره؟ كلا..................... ٩٨ ـ ٩٩
من هم آل ابراهم وآل عمران............................................. ٩٩ ـ ١٠٥
ولادة مرين العجيبة في دعاء امها وفي واقعها يقول فصل ـ : كيف
نذرت ما في بطنها محررا؟ كلام حول النذر ١٠٥
ـ ١٢١
«هنالك دعا زكريا ربه ..» هل ان «حصوراً» تعني الحصر عن الزواج وهو
سنة ايمانية؟! ١٢١ ـ ١٢٥
ليس «أنى يكون لي غلام» تشكك في وعدالله............................. ١٢٥ ـ ١٢٧
هل ان مريم (ع) اصطفيت على كل نساء العالمين حتى الصديقة
الطاهرة سلام الله عليها؟
وهي في العصمة القمة؟................................................. ١٢٧
ـ ١٣١
كلام حول الكفالة والاقتراع............................................. ١٣١
ـ ١٣٣
المسيح (ع) كلمة من الله؟ «ويكلم الناس في المهد» ليست دليلا
على رسالته الفعلية حينه ١٣٧ ـ ١٤٤
كيف «... انى اخلق لكم ..»؟ و «هل من خالق غير الله»!............... ١٤٥ ـ ١٤٨
هل ان الانجيل يحمل شرعة مستقبلية...................................... ١٤٨ ـ ١٥٠
اعتراف المسيح حسب الأناجيل الموجودة بأنه عبدالله........................ ١٥٠ ـ ١٥١
«من انصارى الى الله» لا تعني «إلى» هنا وفي آية «الى المرافق» و
«الى اموالكم» إلا ما تعنيه «إلى» في غيرها ١٥١
ـ ١٥٤
ما هو رفع المسيح (ع) الى الله ـ آية المباهلة في قول فصل.................... ١٥٦ ـ ١٨١
«الى كلمة سواء ..»؟.................................................. ١٨١
ـ ١٨٧
محمد (ص) رسول الى الرسل على ضوء آية الميثاق في قول فصل.............. ٢١٥ ـ ٢٢٩
«لن تنالوا البر حتى تنفقوا............................................... ٢٤٥
ـ ٢٤٩
«اول بيت وضع للناس ..»؟ آياته البنيات .. كيف «من دخله كان
آمناٌ» ولا امن فيه كليا؟ ما هي استطاعة السبيل الى حج البيت في قول فصل................................................................. ٢٥٤
ـ ٢٨١
ما هو «حق تقاته؟ قول فصل حول الاعتصام بحبل الله جميعا ـ وحول
ـ حديث الثقلين ٢٨٩ ـ ٣١٩
فرض تكوين الأمة الآمرة الناهية على كاهل الامة الاسلامية................. ٣١٩ ـ ٣٢٢
من هم «خيرامة اخرجت للناس»؟....................................... ٣٢٧
ـ ٣٣٥
كيف «لن يضروكم إلا الذي ..»؟ وقد أضرونا كثيراً واستعمرونا!............ ٣٣٥ ـ ٣٣٧
ما هما «حبل من الله وحبل من الناس»؟................................... ٣٣٧ ـ ٣٤١
«ليسوا سواء ..» فهل ان صالحي اهل الكتاب ينجون! اجل إذا اكتملت
فيهم عشرة كاملة ٣٤٤ ـ ٣٤٨
حرب أحد وتفاصيل العظيمة في وقول فصل............................... ٣٥٦ ـ ٣٧١
«ليس لك من الأمر شيّ؟.............................................. ٣٧١
ـ ٣٧٥
الربا أضعافاً مضاعفة................................................... ٣٧٧
ـ ٣٧٩
اين «جنة عرضها السماوات والأرض»؟................................... ٣٨١ ـ ٣٨٥
«هذا بيان للناس» فمن هم الناس؟...................................... ٣٩٥ ـ ٣٩٦
|