بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، لا سيما الإمام المبين وغياث المضطر المستكين عجل الله تعالى فرجه الرشيف ، واللعن المؤبد على أعدائهم أجمعين.



مسألة : (١) لو قبض ما ابتاعه

______________________________________________________

المقبوض بالعقد الفاسد

(١) هذه المسألة ـ بما لها من الفروع ـ من مهمات مسائل المعاملات ، وقد تعرّض لها المصنف قدس‌سره بعد الفراغ من المقدمة الباحثة عمّا يعتبر في صيغة البيع مادّة وهيئة ، كالظهور الوضعي وتقديم الإيجاب على القبول والموالاة بينهما والتنجيز وغيرها ممّا تقدم البحث فيه تفصيلا. إذ يتّجه حينئذ البحث عن حكم المقبوض بالعقد المختلّ بعض شرائطه ، بحيث لم يؤثّر في النقل والتمليك.

ولا يخفى أنّ فساد العقد كما ينشأ من فقد شرط الصيغة ، كذلك ينشأ من خلل في ما اعتبره الشارع في المتعاقدين أو العوضين ، على ما استظهره المصنف في ثامن تنبيهات المعاطاة بقوله : «لأنّ مرادهم بالعقد الفاسد إمّا خصوص ما كان فساده من جهة مجرّد اختلال شروط الصيغة .. وإمّا ما يشمل هذا وغيره ، كما هو الظاهر» (١).

وكيف كان فالمقبوض بالبيع الفاسد موضوع لأحكام سيأتي بيانها بالترتيب إن شاء الله تعالى.

الأوّل : عدم دخوله في ملك القابض.

الثاني : كون القابض ضامنا له.

__________________

(١) راجع هدى الطالب ، ج ٢ ، ص ٢٨٠.


بالعقد (١) الفاسد لم يملكه ، وكان مضمونا عليه (٢).

أمّا عدم الملك فلأنّه مقتضى فرض الفساد (٣).

______________________________________________________

الثالث : وجوب ردّه فورا إلى المالك مع بقائه. ووجوب ردّ بدله ـ من المثل أو القيمة على تقدير تلفه ـ إليه. ويتفرّع على هذا ـ بالنسبة إلى المثلي ـ حكم تعذر المثل ، أو وجوده لكن بأكثر من قيمته المتعارفة. وبالنسبة إلى القيميات يقع البحث عن تعيّن قيمة يوم التلف أو يوم الأداء أو غير ذلك على تقدير اختلاف قيم المقبوض بالبيع الفاسد.

الرابع : ضمان منافعه المستوفاة ، بل الفائتة أيضا. وغير ذلك ممّا سيأتي بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

والمقصود بالبحث فعلا هو الأوّلان أعني بهما عدم الملك وضمان المقبوض بالبيع الفاسد.

(١) الباء للسببية ، يعني : أنّ القبض نشأ من البناء على سببية العقد للملكية وتأثيره فيها ، فيكون القبض بعنوان الوفاء بالعقد ، لا بعنوان إنشاء النقل ، إذ لو علما بفساد العقد وتقابضا بقصد إنشاء البيع كان معاطاة ، على ما سبق التصريح به في ثامن تنبيهات المعاطاة بقوله : «نعم إذا حصل إنشاء آخر بالقبض المتحقق بعده ، تحقق المعاطاة» (١).

(٢) كذا عنون المسألة في الشرائع (٢). وقريب منه ما في قواعد العلّامة ، حيث قال : «ولو قبض المشتري بالعقد الفاسد لم يملك ، وضمن» (٣).

(٣) لأنّ فساد الناقل عبارة عن عدم ترتب الأثر المقصود من العقد عليه ، كالملكية المقصودة من البيع ، فمقتضى عدم تحققه هو بقاء كلّ من المالين على ملك مالكه.

__________________

(١) هدى الطالب ، ج ٢ ، ص ٢٧٤.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٣.

(٣) قواعد الأحكام ، ص ٤٧ (الطبعة الحجرية).


وأمّا الضمان ـ بمعنى (١) كون تلفه عليه (٢) ، وهو أحد الأمور المتفرّعة على القبض بالعقد الفاسد ـ فهو المعروف (٣).

______________________________________________________

ولا حاجة إلى التمسك بأصالة عدم الانتقال ، وذلك لعدم الشك حتى يجري فيه الأصل ، فإنّه بعد العلم بفساد العقد واقعا يعلم بعدم انتقال المالين عن مالكيهما ، ومعه لا شك حتى يعالج بالأصل.

وادّعى صاحب الجواهر قدس‌سره عدم الخلاف في هذا الحكم ، واستدلّ عليه «بالإجماع بقسميه وبالأصل ، بعد فرض بطلان السبب الذي أريد التسبّب به إلى الانتقال ، وفرض عدم إرادة غيره من أسباب الملك حتى المعاطاة» (١) ، فراجع.

(١) هذا المعنى للضمان سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى قريبا في ما يتعلق بشرح مفردات قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

(٢) لا بمعنى كون إتلافه عليه ، لأنّه مما لا إشكال ولا خلاف فيه ، حيث إنّه مقتضى قاعدة الإتلاف ، فالضمان الذي اشتهر بين الأصحاب هو بمعنى كون تلف المقبوض ـ بالعقد الفاسد ـ عليه.

أدلة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد

أ : الإجماع

(٣) وفي الجواهر أيضا : «بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لعموم على اليد» (٢). ولا يخفى أن ما في المتن من «أن الضمان هو المعروف» لا ينافي الإجماع ـ المنقول عن شيخ الطائفة ـ على الضمان ، وذلك للفرق بين التعبير بالمعروف والمشهور ، فالمشهور مشعر بوجود قول آخر في المسألة ، بل هو ظاهر فيه. بخلاف المعروف ، فإنّه مساوق لتعبير الجواهر من عدم الظفر بالخلاف ، ومن المعلوم أنّ عدم وجدان الخلاف يلتئم مع الإجماع المدّعى في المبسوط.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٦

(٢) المصدر ، ص ٢٥٧


وادّعى الشيخ في باب الرّهن ، وفي موضع من البيع الإجماع عليه (١) صريحا. وتبعه (٢) في ذلك فقيه عصره في شرح القواعد.

وفي السرائر : «أنّ (٣) البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب في

______________________________________________________

(١) أي : على الضمان ، وهذا الإجماع هو الدليل الأوّل في المسألة ، وقد ادّعاه الشيخ قدس‌سره في مسألة ما إذا شرط أحدهما في الرّهن شرطا فاسدا ، ككون العين المرهونة مبيعا لو لم يؤدّ المديون الدّين إلى المرتهن ، قال في المبسوط : «إذا رهن رجل عند غيره شيئا بدين إلى شهر ـ على أنّه إن لم يقبض إلى محلّه كان بيعا منه بالدّين الذي عليه ـ لم يصح الرّهن ولا البيع إجماعا ، لأنّ الرّهن موقّت ، والبيع متعلق بزمان مستقبل. فإن هلك هذا الشي‌ء في يده في الشّهر لم يكن مضمونا عليه ، لأنّ صحيح الرّهن غير مضمون عليه فكيف بفاسده؟ وبعد الأجل فهو مضمون عليه ، لأنّه في يده بيع فاسد ، والبيع الصحيح والفاسد مضمون عليه إجماعا» (١) ولا يخفى صراحة الجملة الأخيرة في كون المقبوض بالبيع الفاسد مضمونا على القابض.

وقال أيضا في كتاب البيع ـ في حكم المقبوض بالعقد الفاسد ـ ما لفظه : «فإذا ثبت أنّ البيع فاسد ، نظر ، فإن كان المبيع قائما أخذه مالكه .. وإن كان تالفا كان له أن يطالب بقيمته كل واحد منهما ، لأنّ الأوّل لم يبرء بتسليمه إلى الثاني ، لأنّه سلّمه بغير إذن صاحبه ، والمشتري الثاني قبضه مضمون بالإجماع» (٢).

(٢) يعني : تبع الفقيه كاشف الغطاء ـ في شرح القواعد ـ شيخ الطائفة قدس‌سرهما في دعوى الإجماع صريحا على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد.

(٣) دلالة كلام ابن إدريس قدس‌سره على الإجماع من جهة أنه نسب إلى محصّلي الأحكام الشرعية ـ وهم الفقهاء ـ اتحاد المقبوض بالعقد الفاسد والمغصوب في الحكم بالضمان.

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٢٠٤.

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ١٥٠.


الضمان» (١). وفي موضع آخر نسبه (١) إلى «أصحابنا» (٢).

ويدلّ عليه (٢) النبويّ المشهور «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (٣).

______________________________________________________

(١) نسبة الضمان إلى «أصحابنا» ظاهرة في الإجماع وإن لم تكن صريحة فيه ، قال في السرائر : «ومن ابتاع بيعا فاسدا ، فهلك المبيع في يده ، أو حدث فيه فساد كان ضامنا لقيمته أكثر ما كانت إلى يوم التلف والهلاك ، ولأرش ما نقص من قيمته بفساده ، لأنّه باق على ملك صاحبه ، ما انتقل عنه ، فهو عند أصحابنا بمنزلة الشي‌ء المغصوب ، إلّا في ارتفاع الإثم بإمساكه».

ب : الحديث النبوي «على اليد ..»

(٢) يعني : ويدلّ على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ـ مضافا إلى تظافر نقل الإجماع عليه حديث «على اليد» وهذا هو الدليل الثاني. والاستدلال به يقع في مقامين أحدهما السند ، والآخر الدلالة. أمّا الأوّل فقد نبّه عليه المصنف قدس‌سره بتوصيف هذا النبوي ب «المشهور» ومقصوده : أنّ سنده وإن كان في غاية الضعف ـ بل من أردء الإسناد ، لكون راويه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو سمرة بن جندب لعنه الله ، وعناده للنبي وأهل بيته عليه‌السلام ووقوفه بوجهه في حديث نفي الضرر معلوم ، وكذلك افتراؤه واختلاق الأكاذيب عليه وحثّ الناس على قتال السبط الشهيد عليه‌السلام غير خفي على من راجع ترجمته ـ إلّا أن شهرة الحديث بين عامة الفقهاء وعملهم بمضمونه جابرة لضعف سنده ، بناء على ما هو الحق من عموم دليل حجيّة الخبر الواحد للوثوق الخبري ، وعدم اختصاصه بالوثوق المخبري.

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٨٥.

(٢) المصدر ، ص ٣٢٦.

(٣) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٤ ، الحديث ١٠٦.


.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه فالغرض من «المشهور» هنا ليس مجرّد شهرة الرواية بين الأصحاب ، بل الشهرة العملية فإنّها الجابرة لضعف السند ، كما أنّ إعراضهم عن الرواية الصحيحة كاسر لصحتها. وقد نبّه المصنف على هذه الجهة في قاعدة ما يضمن بقوله : «وأمّا خبر اليد .. وسنده منجبرا» ومن المعلوم أنّ الجابر هو اشتهار الفتوى بمضمون الخبر. فلا وجه لطرحه بضعف رواته ـ بناء على كونه مسندا كما في كتب العامة وفي الخلاف ـ ولا بالإرسال.

وما في المتن من انجبار الضعف بالعمل ـ موافق لما عليه عدة من أساطين الفقه ، قال العلّامة الشيخ البلاغي قدس‌سره : «.. لكنّه قد شاعت روايته بين الفريقين ، وكثرت روايته والاعتماد عليه بين الأصحاب ، بل لم يخل من الاعتماد عليه في الاستدلال فيما رأيناه كتاب يتعرّض لمدارك الأحكام ، ووصفه في جامع الشتات بالمشهور المقبول ، بل ذكر في المضاربة وصفه بالرواية المجمع عليها. وكاشف الغطاء في شرح القواعد بالمستفيض المجمع على مضمونه. وفي الرياض بالمشهور المقبول. وفي غصب مفتاح الكرامة بالمشهور المعمول به في أبواب الفقه. وفي وديعة المقابيس بالقويّة المعروفة المجمع عليها. وفي العناوين بالمنجبر بالشّهرة المتلقّى بالقبول عند العامة والخاصة ، والملحق بالقطعيات في الصدور .. وفي الجواهر أنّه مجبور بالعمل» (١).

هذا بعض الكلام في سند الحديث ، وله تتمة تذكر في التعليقة إن شاء الله تعالى.

وأمّا المقام الثاني ـ وهو دلالة النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ـ فتوضيحه : أن هذه الجملة وإن كانت بظاهرها إخبارا عن كون الشي‌ء المأخوذ فوق يد الآخذ ، إلّا أنّ المناسب لشأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنشاء الحكم الشرعي ،

__________________

(١) العقود المفصلة ، المطبوعة مع تعليقة المكاسب ، ص ٢.


.................................................................................................

______________________________________________________

إمّا التكليفي كما نسب إلى جمع ، وإمّا الوضعي كما استظهره آخرون. ويتمّ ذلك ببيان أمرين :

الأوّل : أنّ المراد باليد ليس هو الجارحة الخاصة ، بل المراد صاحبها ، تسمية للكل باسم الجزء ، كما شاع تسمية الجاسوس عينا ، والترجمان لسانا ، والمستمع أذنا. وعليه فالمقصود باليد هو المستولي على الشي‌ء.

الثاني : أنّ المراد بالموصل هو الشي‌ء المأخوذ بما أنّه مال عرفا. ولمّا كان المال عينا خارجية كما هو الغالب ، أو ما بحكمها ـ كالمنفعة وبعض الحقوق ـ توقّف إسناد الحكم إليها على تقدير فعل مناسب يتعلّق بالمال ، كتقدير الأكل في حلية الطعام ، والشرب في حرمة الدم والخمر ، ونحوهما ممّا ورد في الكتاب والسّنة.

وفي هذا النبوي يدور الأمر بين إرادة التكليف والوضع. فعلى الأوّل إمّا أن يقدّر وجوب الرد والأداء بأن يكون المدلول : «يجب على ذي اليد أداء ما أخذه إلى مالكه» وإمّا أن يقدّر وجوب الحفظ ، بأن يكون المفاد : «يجب على ذي اليد حفظ ما أخذه إلى أن يؤدّيه إلى مالكه».

وعلى الثاني يكون معنى الجملة : «اليد الآخذة لمال الغير ضامنة له». ورجّح المصنف قدس‌سره هذا الاحتمال ، بدعوى ظهورها عرفا في الضمان ، من جهة إسناد الظرف إلى المال ، لا إلى سائر الأعيان والأفعال ، للفرق بين أن يقال : «لزيد عليّ دين» حيث لا يستفاد منه إلّا الإقرار بالدين واشتغال العهدة به ، وبين أن يقال : «كتب عليكم الحج أو الصوم» أو «حرّم عليكم الدّم» فإنّ الظرف ـ في المثال الأوّل ـ أسند إلى الفعل وهو الحج والصوم ، ولا يراد به إلّا الوجوب التكليفي ، وفي المثال الثاني أسند التحريم إلى عين خارجية ، وهو ظاهر في النهي عن الشرب والأكل.

والحاصل : أنّ ظهور الجملة في الحكم الوضعي ـ وهو الضمان ـ ممّا لا ينكر. وبه يتم الاستدلال بالنبوي على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد.


والخدشة (١) في دلالته «بأنّ كلمة ـ على ـ ظاهرة في الحكم التكليفي ،

______________________________________________________

(١) ذكر هذه الخدشة في دلالة الحديث على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد شيخ الطائفة والعلامة والفاضل النراقي قدس‌سره حيث إنّهم استفادوا منه الحكم التكليفي لا الوضعي ، فالأوّلان ذهبا إلى أنّ مفاده وجوب ردّ المأخوذ ، والفاضل ذهب إلى أنّ مدلوله وجوب الحفظ عن التلف.

أمّا شيخ الطائفة قدس‌سره فيظهر منه ذلك في استدلاله بالنبوي على تحريم الغصب ووجوب ردّ المغصوب إلى مالكه. قال في غصب المبسوط بعد ذكر جملة من الآيات والروايات : «وروي عن الحسن عن سمرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١). وقال بعده : «فإذا غصب غاصب من هذا شيئا فإن كان قائما ردّه ، وإن كان تالفا فعليه مثله ، لقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢)».

والظاهر أنه قدس‌سره استفاد من الحديث حكم بقاء العين المغصوبة ، فاستدلّ بالنبوي على وجود ردّها ، واستفاد وجوب ردّ المثل من الآية الشريفة.

وقال أيضا في الوديعة : «وإذا ثبت ذلك فالوديعة جائزة من الطرفين ، من جهة المودع متى شاء أن يستردّها فعل. ومن جهة المودع متى شاء أن يردّها فعل ، بدلالة ما تقدّم من الأخبار والآي. وروى سمرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (٣). ومراده بالآيات والأخبار هو ما دلّ على وجوب ردّ الأمانات والودائع إلى أهلها ، فراجع.

وأمّا العلّامة قدس‌سره فقال في وجوب ردّ العين المغصوبة : «كلّ من غصب شيئا وجب عليه ردّه على المالك ، سواء طالب المالك بردّه أولا ، ما دامت العين باقية ،

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٥٩ و ٦٠.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٩٤.

(٣) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ١٣٢.


فلا يدلّ على الضّمان (١)» ضعيفة (٢) جدّا ،

______________________________________________________

بلا خلاف ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» (١).

وقال في لقطة المختلف : «وقوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه أوجب دفع العين» (٢).

وأمّا الفاضل النراقي قدس‌سره فقال ـ بعد المناقشة في استظهار كلّ من وجوب الأداء والضمان ـ ما لفظه : «فالأظهر تقدير الحفظ من الضياع والتلف ، أو نحوه .. فيكون معنى الحديث : يجب على ذي اليد حفظ ما أخذت إلى زمان أدائه ..» (٣).

وكيف كان فتقريب دلالة الحديث على مجرّد الحكم التكليفي ، واختصاص مدلوله بحال بقاء العين الواقعة تحت اليد هو : أنّ جعل شي‌ء على شخص ظاهر في التكليف ، كأن يقال : إذا بلغ الصغير فعليه الصوم والصلاة. فإنّ المراد بهذه العبارة هو الوجوب التكليفي. وعليه فلا يستفاد من الحديث النبوي حكم وضعي وهو استقرار المال المأخوذ في عهدة الآخذ حتى يجب عليه دفع المثل أو القيمة إذا تلف المال بيده.

(١) يعني : في مطلق موارد وضع اليد على مال الغير ، سواء في المقام وهو المقبوض بالبيع الفاسد ، أم غيره.

(٢) خبر قوله : «والخدشة» وتضعيف لها ، ومحصّله : أنّ ظهور «على» في التكليف مسلّم فيما إذا أسند حرف الاستعلاء إلى فعل كالصلاة والصوم والحج ونحوها ، دون ما إذا أسند إلى مال من الأموال ، كقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (٤) فإنّه ظاهر حينئذ في استقرار النفقة على عهدة الوالد. وكذا الحال في الحديث النبوي ، إذ المراد بالموصول في «على اليد ما أخذت»

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ (الطبعة الحجرية).

(٢) مختلف الشيعة ، ج ٦ ، ص ٨٧.

(٣) عوائد الأيام ، ص ١١٠ ، العائدة الثالثة والثلاثون.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٣.


فإنّ (١) هذا الظهور إنّما هو إذا أسند الظرف إلى فعل (٢) من أفعال المكلّفين ، لا إلى مال من الأموال (٣) ، كما يقال (٤) : «عليه دين» فإنّ لفظة «على» حينئذ لمجرّد الاستقرار في العهدة (٥) ، عينا (٦) كان أو دينا (٧).

ومن هنا (٨) كان المتّجه صحة الاستدلال به على ضمان الصغير بل المجنون

______________________________________________________

هو المال ، فتكون عهدة المأخوذ على الآخذ ، فلو تلف ثبت بدله في ذمّته ، وهذا هو الضمان المبحوث عنه.

(١) هذا تقريب ضعف الخدشة ، وقد عرفته آنفا.

(٢) كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ ونحوها من أفعال المكلّفين ، فإنّ إسناد «على» إلى الفعل ظاهر في التكليف.

(٣) كما في الحديث النبوي.

(٤) غرضه الاستشهاد بظهور إسناد حرف الاستعلاء إلى المال في استفادة الحكم الوضعي لا التكليف.

(٥) فيصح الاستدلال به على الضمان ، بناء على استقلال الأحكام الوضعية في الجعل ، وعدم انتزاعها من التكليف.

(٦) كما إذا كانت العين المأخوذة بالعقد الفاسد باقية لم يطرأ عليها التلف.

(٧) كما إذا تلفت العين ، أو كان المستقر في العهدة ـ من أوّل الأمر ـ دينا ، كالمبيع سلفا.

(٨) أي : ومن ظهور إسناد «على» إلى المال في الضمان ، يتجه الاستدلال بالنبوي المزبور على ضمان الصبي والمجنون كالبالغ والعاقل إذا كان لهما تميّز وشعور ، حيث إنّ الأخذ ظاهر في الإرادة والاختيار. فإن لم يكن لهما شعور لم يصدق «الأخذ» على فعلهما حتّى يصحّ الاستدلال به على الضمان. ولو كان مفاد الحديث الحكم التكليفي امتنع شموله للطفل والمجنون ، لحديث رفع القلم عنهما.


إذا لم تكن يدهما ضعيفة ، لعدم (١) التمييز [التميّز] والشعور.

______________________________________________________

(١) تعليل لتقييد ضمان الصبي والمجنون بعدم الضعف ، إذ لو كانت يدهما ضعيفة لم يصدق «الأخذ» على الاستيلاء على مال الغير ، وكان الحديث النبوي قاصرا عن إثبات ضمانهما حينئذ (*).

__________________

(*) تنقيح البحث في هذه المسألة المعروفة بالمقبوض بالعقد الفاسد يتوقف على بيان أمور :

الأوّل : في موضوعها ، وهو : أنّ مورد البحث على ما يستفاد من كلمات الأصحاب هو كون القبض بعنوان الوفاء بالعقد ومن لوازمه وآثاره. وعدم كونه بنفسه إنشاء للملك كالمعاطاة ، فإنّ الباء في قوله : «بالعقد الفاسد» للسببيّة ، فالقبض بعنوان الإنشاء خارج عن ظاهر كلامهم. إمّا لعدم سببيّة المعاطاة للملك عندهم ، وإمّا لعدم قصد المتعاقدين لها ، فمصبّ كلامهم هو القبض المترتب على العقد الفاسد ، ولذا قال في الجواهر : «نعم لو علم منهما ولو بالقرائن بعد ذكرهما العقد عدم إرادتهما ذلك ، بل قصد الإنشاء بتقابضهما وأرادا حصول الملك أو الإباحة جرى عليه حينئذ حكم المعاطاة ، وكان خارجا عمّا نحن فيه. وبذلك ظهر الفرق بين البيع الفاسد والمعاطاة. لكن قد عرفت سابقا أنّ قصد التملك العقدي غير مشخّص مع فرض تحقق البيع بالمعاطاة التي منها الصيغة الملحونة مثلا. على أنّ الأصحاب قد أطلقوا عدم الملك به وإن لم يكن قصد إلّا الى البيعية. فهذا شاهد على عدم صحة بيع المعاطاة عندهم. ومن هنا يتجه إطلاقهم عدم الملك» (١).

وأنت خبير بعدم شهادة إطلاق كلامهم عدم الملك بعدم صحة المعاطاة ، لتوقف هذه الشهادة على كون المعاطاة عبارة عن مطلق التقابض ولو كان حاصلا مع الصيغة الملحونة ونحوها من أفراد العقد الفاسد كما يراه الشهيد والمحقق الثانيان قدس‌سره. إذ على هذا الفرض يدلّ إطلاق كلامهم عدم الملك في المقبوض بالبيع الفاسد على عدم صحة

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٧.


.................................................................................................

__________________

المعاطاة ، حيث إنّها لو كانت صحيحة كانت مملّكة ، فيحصل الملك بها ، ولم يكن وجه لإطلاق القول بعدم الملك.

لكن المعلوم من كلماتهم أنّ المعاطاة عندهم عبارة عن التقابض الذي يكون آلة لإنشاء البيع ، سواء لم يكن لفظ في البين ، أم كان مع علم المتبايعين بفساده ، وإنشائهما البيع بالتعاطي مع الغضّ عن ذلك العقد الفاسد. وأمّا بدون إنشائهما البيع بالتقابض فلا يكون هنا معاطاة.

والحاصل : أنّ إطلاق كلامهم المزبور لا يدلّ على بطلان المعاطاة.

نعم يمكن أن تكون المعاطاة باطلة لفقدانها لبعض الشرائط ، لكنها لا تندرج تحت عنوان المقبوض بالعقد الفاسد. فالمراد هو المقبوض المترتب قبضه على البيع الفاسد ، لا المقبوض الذي نفس قبضه إنشاء للبيع.

نعم لا تختص الأحكام الآتية بالمقبوض بالعقد البيعي ، بل يعمّ المقبوض بكل عقد فاسد بيعا كان أم صلحا أم غيرهما. وقولهم : «لو قبض ما ابتاعه .. إلخ» إنّما هو لذكرهم هذه المسألة في كتاب البيع ، ولذا قالوا : «ما ابتاعه» وإلّا فالمناسب أن يقال : «لو قبض ما تملّكه أو أراد تملّكه بالعقد الفاسد».

فالمتحصل ممّا ذكرنا : عدم خصوصية بالبيع ، بل العنوان عام ، وهو المقبوض بالعقد الفاسد سواء أكان بيعا أم صلحا أم غيرهما.

الثاني : المراد بالمقبوض هو كون الشي‌ء تحت اليد والتصرف والاستيلاء ، بحيث لو ترتب عليه أثر كصحة عقد السلم والصرف والرّهن وغيرهما ممّا يتوقف عليه صحة العقد ، لترتّب عليه ، فالقبض هنا كالقبض في سائر الموارد.

والحاصل : أنّ المراد بالمقبوض معنى يصحّ الاستدلال على حكمه بقاعدة اليد الآتية.

الثالث : في الحكم المترتب على المقبوض بالعقد الفاسد ، وهو على قسمين تكليفي ووضعي.


.................................................................................................

__________________

أمّا الأوّل فحاصله : أنّ مقتضى القاعدة العقلية والنقلية حرمة التصرف وقبحه في المقبوض بالعقد الفاسد ، لإناطة جوازه بطيب نفس المالك ورضاه ، فيحرم على القابض التصرف فيه إلّا بإذن المالك ، والرّضا المعاوضي المتقوم بالعقد قد ارتفع ، فلا مسوّغ للتصرف ، إذ احتمال تجدّد الرضا ـ بعد ثبوت فساد العقد ـ منفي بالأصل وهو الاستصحاب. ولو نوقش فيه فلا مانع من جريان الاستصحاب الحكمي أعني به استصحاب الحرمة.

مضافا إلى كونه خلاف الفرض ، إذا الكلام في جواز التصرف في المقبوض لأجل الرضا المعاملي ، لا الرّضا الحادث بعد العلم بفساد العقد ، فإنّ الرضا الجديد غير محرز ، وهو منفيّ بالأصل.

فدعوى بقاء الاذن والرضا بالتصرف الذي كان في ضمن العقد ، لأنّ الجنس لا يتقوّم بفصل خاصّ ، غير مسموعة ، لأنّ الرضا ليس جنسا حتى يقال بعدم تقوّمه بفصل خاص ، بل هو أمر بسيط ما به امتيازه عين ما به اشتراكه.

والحاصل : أنّ التصرف في مال الغير حرام إلّا بطيب نفس المالك ورضاه ، ولا يجوز عقلا إلّا بعد إحراز الرضا ، هذا. فما عن المحقق الأردبيلي قدس‌سره من إباحة التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد مما لم يظهر له وجه (١).

وأمّا الثاني : وهو الحكم الوضعي أعني به الضّمان فيدلّ عليه ـ مضافا إلى الشهرة والإجماعات المحكيّة في المتن وغيره ـ «النبوي المشهور» كما في كلام المصنف وغيره ، و «المعمول به عند الفريقين» كما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره (٢) ، وغيره من أساطين الفقه. وغرضهم من نحو هذا التعبير كفاية الوثوق الخبري في العمل بالحديث ، وهو متحقق في المقام ، وذلك لتماميّة أمرين :

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٩٢.

(٢) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٦.


.................................................................................................

__________________

أحدهما : إحراز استناد المشهور إلى هذا النبوي والعمل بمضمونه ، وثانيهما : كون العمل برواية ضعيفة سندا جابرا لضعفها ، وإعراضهم عن رواية قويّة سندا كاسرا لصحتها وموهنا لاعتبارها. والأمر كما أفادوه.

تحقيق سند النبوي «على اليد»

لكن قد نوقش في كلا الأمرين ، أمّا في الكبرى فبمنع كون عمل المشهور جابرا ، وإعراضهم كاسرا ، كما تكرّر في كلمات بعض الأعاظم فقها وأصولا (١). وأمّا في الصغرى فلما في كلامه أيضا وكلام بعض الأجلّة من عدم إحراز عمل قدماء الأصحاب بهذا النبوي «فإنّ جمعا منهم لم يذكروه في كتبهم كما يظهر بمراجعة نكت النهاية والمقنع والهداية والمراسم والوسيلة وجواهر الفقه.

وجمعا منهم وإن أوردوا هذا الحديث في كتبهم كالسيدين وشيخ الطائفة ، بل وابن إدريس أيضا. إلّا أن الظاهر إيراده احتجاجا على المخالفين لا اعتمادا عليه. قال السيّد في الانتصار في مسألة ضمان الصّنّاع : «ومما يمكن أن يعارضوا به لأنّه موجود في رواياتهم وكتبهم ـ ما يروونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قوله : على اليد ما أخذت حتى تؤديه» لظهور كلامه في الإيراد على المخالفين بما هو مسلّم عندهم ، ولا يستفاد منه استناد السيد إليه.

وقريب منه كلام السيّد أبي المكارم في غصب الغنية وإجارتها ، لقوله : «ويحتجّ على المخالف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. إلخ».

وأورده شيخ الطائفة في غير مورد من الخلاف والمبسوط رواية واحتجاجا على القوم كما هو دأبه في كتابيه ، لا استنادا. ففي غصب الخلاف ، مسألة ٢٠ ، بعد عنوانها وذكر خلاف أبي حنيفة قال : «دليلنا أنه ثبت أنّ هذا الشي‌ء قبل التغيير كان ملكه ،

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٨٨ و ٨٩.


.................................................................................................

__________________

فمن ادّعى أنّه زال ملكه بعد التغيير فعليه الدلالة. وروى قتادة عن الحسن عن سمرة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : على اليد ما أخذت حتى تؤديه».

والظاهر أنّ مستنده هو الأصل خاصة. إذ لو كان مستنده هو الحديث لم يكن وقع للاستدلال بعدم الدليل على زوال ملكه ، وعليه فيكون إيراد الحديث لمحض الاحتجاج على أبي حنيفة.

نعم تمسّك به ابن إدريس في غصب السرائر ، ونسبه جزما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عدم عمله بالخبر الواحد ، ثم شاع الاستدلال به بين المتأخرين من زمن العلّامة. مع احتمال أن يكون ذكره احتجاجا عليهم كما يظهر من موضع آخر من غصب السرائر ، حيث قال : «ويحتجّ على المخالف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على اليد. وهذا يوجب حصول الاحتمال بأن سائر الموارد من قبيل الاحتجاج عليهم ، لا التمسك به ، وإن كان خلاف الظاهر.

ولم أر إلى الآن فيما حضرني من كتب العلّامة تمسّكه به لإثبات حكم ، وإنّما نقل عن ابن الجنيد وابن إدريس التمسك به على ما حكي. وحدوث الاشتهار بعده لا يفيد شيئا.

وعليه فالاعتماد على هذا الحديث مشكل ، وترك العمل به مشكل آخر ، مع جزم ابن إدريس بصدوره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع طريقته في العمل بالأخبار. مع احتمال أن يكون ذلك لاجتهاد منه وقيام قرائن عنده ربما لا تفيدنا علما ولا عملا. واختلاف عبارات الحديث بحيث ربما يكشف عن تكرّره وتظافره واعتماد محققي أصحابنا من بعد ابن إدريس إلى عصرنا مع تورّعهم والتفاتهم الى ضعفه ، ولا بدّ من الجبر في مثله ، وهو لا يمكن إلّا باعتماد قدماء الأصحاب عليه ، مع إتقان متنه وفصاحته بما يورث قوّة الاحتمال بأنّه من كلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سمرة ولعلّ بناء العقلاء على مثله


.................................................................................................

__________________

مع تلك الشواهد لا يقصر عن العمل بخبر الثقة. لكن بعد اللتيّا والّتي في النفس تردد (١).

أقول : أمّا المناقشة في كبرى الجبر بالعمل فقد فرغنا من الجواب عنها بما علّقناه على بحث حجيّة الشهرة (٢) ، ومحصّله : أنّ عمل المشهور برواية ضعيفة مع تشتت آرائهم في حجية أخبار الآحاد ، وشدة ورعهم وعلمهم بضعف الراوي وخبثه يوجب الوثوق العقلائي بالصدور ، وهو المناط في سيرة العقلاء في العمل بالأخبار ، ولا مقيّد لها بالوثوق المخبري خاصة.

وأمّا المناقشة في الصغرى ـ بمعنى عدم إحراز استناد قدماء الأصحاب إلى هذا النبوي ـ فغير ظاهرة أيضا.

أمّا قوله : «والظاهر أنّ مستنده هو الأمر الأوّل .. إلخ» ففيه : أنّ كلمات قدماء الأصحاب ومتأخّريهم في مقام الاستدلال مشحونة بذكر الأصل والرواية والإجماع في عرض واحد ، فيقولون : «للأصل ولقول الصادق عليه‌السلام وللإجماع». مع أنّ الأصل ليس في رتبة الدليل ، فالشيخ في الخلاف يذكر الأصل وهو الاستصحاب بقوله : «دليلنا : أنّه ثبت أنّ هذا الشي‌ء قبل التغيير كان ملكه .. إلخ» ثم يعقّبه بحديث على اليد. وبقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل مال امرء مسلم إلّا (بطيب من نفسه) عن طيب نفس منه». فهل يمكن التفكيك بين كلاميه قدس‌سره بأن يقال : إنّ الشيخ أورد الأوّل احتجاجا والثاني استنادا ، مع وحدة السياق ، وذكره لهما بعد قوله : «دليلنا» فإنّ هذه اللفظة قرينة واضحة على كون ما يذكر بعدها دليلا على الحكم ومستندا له. فإنّ الاحتجاج على الخصم وإلزامه بما ألزم به نفسه لا ينافي الاستناد. فظهور كلام الشيخ في الاستناد إلى كلا النبويّين ممّا لا ينبغي إنكاره.

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٤٧ الى ٢٥٠.

(٢) منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٣٩٠.


.................................................................................................

__________________

ونظير هذه المسألة ما أفاده الشيخ في غصب الخلاف (في المسألة ٢٢) : «إذا غصب ساجة فبنى عليها .. إلى أن قال : كان عليه ردّه .. إلى أن قال : دليلنا ما قلناه في المسألة الأولى .. إلى أن قال : وروى سمرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : على اليد ما أخذت حتى تؤديه ، وهذه يد قد أخذت ساجة ، فعليها أن تؤديها. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا بطيب نفسه ، نفس منه ، يدلّ عليه ، لأنّه ما طابت نفسه بالبناء على ساجته» (١).

فإنّ قوله : «وأيضا .. إلخ» يدلّ على أنّ ذكر «على اليد» كان للاستناد.

مضافا إلى أنّه ذكر هذا الحديث بعد قوله : «دليلنا» فكلّ ما يذكره بعد هذا اللفظ يكون حجة ومستندا للحكم ، وإلّا كان عليه قدس‌سره» أن يقول : «ويؤيده». ولو كان مقصوده الاحتجاج على العامة لكان المناسب أن يعبّر بما عبّر به السيد قدس‌سره بقوله : «وممّا يمكن أن يعارضوا به ما يروونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يقول ـ كما عبّر به في بعض الموارد ـ «ويحتج على المخالف» حتى لا يحرز استناد فتواه إلى خصوص هذا الحديث.

ونظير هذا في العمل بالحديث ما نسبه إليه العلّامة في المختلف بقوله : «مسألة : إذا ارتهن الغاصب الغصب صحّ. قال الشيخ في الخلاف : ولا يزول الضمان ، لثبوته قبل الرّهن ، فمن ادّعى براءته منه فعليه الدلالة. ولما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» ثم قال العلّامة : «وقد ذكرنا نحن في بعض كتبنا زوال الضمان ، لأنّه مأذون له في الإمساك ، فيسقط الضمان ، وقول الشيخ لا يخلو من قوّة» (٢).

ولا يخفى دلالة كلامه في تقوية الضمان على عمله بالحديث تبعا للشيخ ، كظهور نفس عبارة الخلاف في الاستناد ، ولا أثر من الاحتجاج على المخالف في كلامه.

وأظهر من ذلك في الاستناد إلى الحديث كلامه في غصب المبسوط ووديعته ،

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤٠٨ و ٤٠٩.

(٢) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٢٢٨ ، مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٤١٧.


.................................................................................................

__________________

حيث جعل الحديث النبوي في عداد ما رواه من السّنة الدّالة على وجوب ردّ المغصوب والوديعة إلى المالك.

هذا مضافا إلى تصريح هذا القائل باستدلال الشيخ بقاعدة اليد ، في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد ـ في الاشكال على المصنف في ما نسبه الى الشيخ من استدلاله بالاقدام ـ حيث قال : «مع أن عبارة الشيخ في بيع المبسوط وغصبه على ما عثرت عليه ليست كما نقلها ، بل ظاهرة بضمان اليد بدليلها» (١).

فلو كان ذكر النبوي لمجرّد التأييد لا الاستناد كان إشكال شيخنا الأعظم على شيخ الطائفة في استدلاله بالاقدام في محله ، ولا يتّجه الاعتراض عليه بأنّ الدليل المتكرر في بيع المبسوط وغصبه هو اليد لا الاقدام. هذا كله في استناد شيخ الطائفة إلى النبويّ.

واستند ابن الجنيد إلى هذا النبوي على ما نقله العلّامة عنه قدس‌سرهما في عارية المختلف ، فقال : «وقال ابن الجنيد : وليس يضمن المعار تلف ما تلف منها إذا كانت السلعة متاعا ، إلّا أن يتعدّى. وما كان منها عينا أو ورقا أو حيوانا ضمن المعار تلف ذلك ، إلّا أن يشترط المال [المالك] سقوط الضمان عنه .. احتجّ بقوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» (٢).

وأورده السيّد أبو المكارم أيضا في الغنية (٣) ، وهو وإن كان في مقام الاحتجاج عليهم ، إلا أنّه لم يعبّر بمثل ما عبّر به السيد المرتضى من قوله : «وممّا يمكن أن يعارضوا به» وإنّما أسند الحديث إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظاهره القطع بصدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه لا يعمل بالأخبار الآحاد المفيدة للظن.

وأورده ابن إدريس في مواضع من السرائر ، فاستدلّ به فيما إذا اختلف شخصان

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٧٠.

(٢) مختلف الشيعة ، ج ٦ ، ص ٧٢.

(٣) غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ج ٤ ، ص ٥٣٦ ، السطر ٢١ وص ٥٣٧ ، السطر ٢٧.


.................................................................................................

__________________

في كون مال وديعة أو قرضا ، وقال : «ويكون القول قول من ادّعى أنّه دين ، لأنّه قد أقرّ بأنّ الشي‌ء في يده أوّلا ، وادّعى كونه وديعة ، والرّسول عليه‌السلام قال : على اليد ما أخذت حتى تردّه .. إلخ» (١). وليس في هذا الكلام شائبة الاحتجاج على المخالفين ، وإنّما عارض رأي شيخ الطائفة في نهايته.

وقال أيضا في مسألة أخرى في باب الرّهن : «والرسول عليه‌السلام قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤديه ، إلّا ما خرج بالدليل» (٢).

وقال في كتاب الغصب : «ويحتجّ على المخالف بقوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتّى تؤدي» (٣).

وقال في كتاب الغصب أيضا : «ومن غصب ساجة فأدخلها في بنائه ، لزمه ردّها ، وإن كان في ذلك قلع ما بناه في ملكه ، لمثل ما قدّمناه من الأدلة ، من قوله عليه‌السلام : لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفس منه. وقوله عليه‌السلام أيضا : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (٤).

ومبناه الأصولي في حجية الخبر غير خفي على من يتصفّح السرائر ، وأنه قدس‌سره لا يسند الحديث الى المعصوم عليه‌السلام إلّا بالقطع ، فقد تكرّر منه هذه الجملة في الإيراد على شيخ الطائفة قدس‌سره : «وقد بيّنا أن أخبار الآحاد عند أصحابنا لا توجب علما ولا عملا ، والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى إلى الأدلة القاطعة» (٥) ونحوه كلامه في باب الرهن (٦).

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٣٧.

(٢) المصدر ، ص ٤٢٥.

(٣) المصدر ، ص ٤٨١.

(٤) المصدر ، ص ٤٨٤.

(٥) المصدر ، ص ٣٢٢.

(٦) المصدر ، ص ٤٢٢.


.................................................................................................

__________________

ولا ينافي حجيّة هذا الحديث عنده واستناده إليه إيراده احتجاجا على المخالف في موضع من كتاب الغصب ، لأنّ غايته إلزامهم بما هو حجة عندهم أيضا. فيكون الحديث مقبولا عند الخاصّة والعامّة ، ولعلّ هذا منشأ استظهار صاحب العناوين وغيره من اتفاق الفريقين على صدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبهذا ظهر أن شبهة إيراده احتجاجا ـ في عبارة الغنية ـ غير جارية في كلام ابن إدريس في المواضع التي استند فيها الى الحديث.

وأمّا العلّامة قدس‌سره فقد أورده في المختلف والتذكرة ، فاستند إلى الحديث في الكتابين ، ونقل في المختلف استدلال الشيخ في الخلاف ، واستدلال ابن الجنيد وابن إدريس به ، وكذا نقل استدلال المشهور به.

أمّا استناده إلى الحديث ففي مواضع ، ففي التذكرة : «كلّ من غصب شيئا وجب عليه ردّه على المالك ، سواء طالب المالك بردّه أو لا ، ما دامت العين باقية ، بلا خلاف ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» (١) وأسنده إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الضمان بالمباشرة ، فراجع (٢).

وقال في المختلف : «إذا ادّعى الراكب الإجارة والمالك العارية المضمونة بعد تلفها قبل مضيّ مدة لمثلها أجرة ، قال الشيخ في المبسوط : القول قول الراكب مع يمينه ، لأنّ صاحبها يدّعي ضمانا في العارية فعليه البيّنة ، والأصل براءة ذمة الراكب. والأقرب أنّ القول قول المالك ، لأنّ الأصل تضمين مال الغير ، لقوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» (٣) ونحوه في الاستناد كلامه في باب اللقطة (٤).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٢ و ٣٨٣.

(٢) المصدر ، ص ٣٧٤.

(٣) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٧٧.

(٤) المصدر ، ص ٨٧.


.................................................................................................

__________________

ونقل استدلال المشهور به بقوله : «مسألة : المشهور أن المقبوض بالسّوم مضمون كالمقبوض بالبيع الفاسد. وقال ابن إدريس : لا يكون مضمونا ، وهو الأقرب ، وله قول آخر في باب الغصب : إنّه مضمون. لنا : الأصل عدم الضمان .. احتجوا بعموم قوله عليه‌السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (١). وهذه الجملة الأخيرة هي المعتمدة في إحراز عمل المشهور بهذا النبوي والفتوى بمضمونه ، وظاهره الأخبار الحسّي باستناد المشهور إليه ، وإلّا كان المناسب أن يقول : «ويحتجّ لهم».

وبهذا ظهر أنّ عدم ظفرنا بالحديث في عدّة من المتون الفقهية القديمة كالمقنع والمقنعة والجواهر والكافي وغيرها غير قادح في استنادهم إليه بعد شهادة مثل العلّامة باستدلالهم به وحجيته عندهم.

كما ظهر أيضا التأمّل فيما ذكره القائل من «عدم ظفره باستدلال العلامة بهذا النبوي ، وإنّما اقتصر على نقل استدلال ابن الجنيد به» إذ عرفت استناد العلّامة إليه في مواضع عديدة ، ونقل استناد شيخ الطائفة وابن إدريس والمشهور به أيضا في مواضع أخرى.

هذا مضافا إلى أنّ دعوى عدم الظفر به في كلام العلّامة ربما ينافي قوله في مقام آخر : «ثم شاع الاستدلال به بين المتأخّرين من زمن العلّامة».

هذا كلّه في إحراز عمل القدماء وبعض المتأخرين كالعلّامة. وأمّا من تأخّر عنه كالشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم فقد أسندوه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا تأمّل ، كما لا يخفى على من راجع الدروس وجامع المقاصد والمسالك وغيرها.

وقد تحصّل من هذا التتبّع في كلمات فقهائنا الأبرار الوثوق بانجبار ضعف سند الحديث. بل لا تبعد دعوى كون المضمون مجمعا عليه بينهم ، وعليه لا مجال للتشكيك في عمل المشهور به كما لا مجال للمناقشة في كبرى الجبر بعملهم.

__________________

(١) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣٢١.


.................................................................................................

__________________

فالحقّ أنّ النبوي المزبور لا يكون أقلّ من خبر الثقة ، فيصح الاستناد إليه والاعتماد عليه في استنباط الحكم الشرعي ، فلا بدّ من عطف عنان البحث إلى دلالته ، فنقول وبه نستعين ، وبوليّه صلوات الله عليه نتوسل ونستجير :

محتملات حديث «على اليد»

إنّ الوجوه المحتملة في معنى الحديث كثيرة :

الأوّل : أنّه يدلّ على الحكم التكليفي ما دام المأخوذ موجودا ، فيختص بحال وجود العين ، ولا يدلّ على حكم ما بعد تلفها ، وللقائلين بذلك مسلكان :

أحدهما : أن يكون متعلق الحكم التكليفي ردّ العين ، فيجب ردّ العين على من أخذها. وهذا الاحتمال يستفاد من كلام الشيخ قدس‌سره في المبسوط ، حيث إنّه ـ بعد بيان تحريم الغصب وإقامة الأدلة الأربعة عليه وذكر النبوي على اليد ما أخذت .. إلخ ـ قال : «والإجماع ثابت على أنّ الغصب حرام ، فإذا ثبت تحريم الغصب فالأموال على ضربين حيوان وغير حيوان ، فأمّا غير الحيوان فعلى ضربين ماله مثل وما لا مثل له ، فما له مثل ما تساوت أجزاؤه ، ومعناه تساوت قيمة أجزائه ، فكلّ هذا له مثل كالحبوب والأدهان والتمور والأقطان والخلول التي لا ماء فيها ، والأثمان ونحو هذا كلّه له مثل ، فإذا غصب غاصب من هذا شيئا فإن كان قائما ردّه ، وإن كان تالفا فعليه مثله ، لقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)» (١) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

وقريب منه عبارة التذكرة : «وكلّ من يثبت يده على مال الغير ولا حقّ له في إمساكه وكان المال باقيا وجب عليه ردّه على مالكه ، بلا خلاف ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي. ولأنّ حق المالك متعلق بماليّته ، وماليّته لا تتحقّق إلّا

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٥٩ و ٦٠.


.................................................................................................

__________________

بردّه إليه» (١).

ولعلّ وجهه عدم تأصّل الوضع بالجعل ، وكونه منتزعا عن الأحكام التكليفية. والمناسب لكونه منشأ لانتزاع الوضع عنه هو وجوب الرّدّ بالنسبة إلى نفس المأخوذ ، لا بدله ، ولا الأعم منه ومن بدله ، لمنافاته للغاية ، ولا وجوب الحفظ.

ثانيهما : ما يفيده كلام الفاضل النراقي قدس‌سره من : أن المراد به وجوب حفظ المال عن الضياع والتلف ، إلى أن يردّه إلى المالك. والوجه فيه : أن الكلام محتاج الى التقدير ، ويدور المقدّر بين الرّد والأداء والضمان. ولا يجوز تقدير ما عدا الحفظ من الرّدّ والأداء والضمان ، لأنّ تقدير الأوّلين يوجب خروج المعنى عن السلاسة ، إذ معناه حينئذ وجوب الرّد حتى يتحقق الرّدّ. وتوقف الحكم على بقاء موضوعه عقلي ، وكذلك انتفاءه بانتفائه ، فالغاية حينئذ عقلية لا شرعية تعبّديّة.

وتقدير الأخير مناف لجعل الغاية أداء نفس المأخوذ ، على ما يقتضيه رجوع الضمير المنصوب مفعولا ل «تؤدّيه» ـ المحذوف في بعض طرق الحديث ، والمذكور في البعض الآخر كما تقدّم في نقل الحديث ـ إلى الموصول.

وجه المنافاة : أنّ الضمان عبارة عن الغرامة المجعولة في ظرف التلف ، إذ لا معنى للغرامة والخسارة مع وجود العين وردّها ، فإنّ ردّ نفس العين ليس غرامة على الآخذ ، بل ردّا للمال إلى مالكه كما لا يخفى.

الثاني : ما عن بعضهم من كون الحديث مسوقا لبيان الحكم الوضعي ، لكن بالنسبة إلى خصوص صورة التلف ، من دون دلالة له على وجوب ردّ العين الذي هو حكم تكليفي ، ولا على ضمانها ما لم تتلف.

وحاصل تقريبه : أنّ تلف العين تحت يده سبب لتعلق الغرامة به ، والمراد بالضمان هو دفع المثل أو القيمة عند التعذّر ، وهو المعبّر عنه بتحمّل الغرامة ، إذ لا يعقل

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٧٤ ، السطر ٢٠.


.................................................................................................

__________________

لضمان العين معنى محصّل ، لأنّ دفع عين المال إلى المالك ليس ضمانا ولا غرامة ، فمعنى الحديث حينئذ : أنّ ضمان ما أخذته اليد ثابت عليه ، وأنّه لا يخرج عن الضمان إلّا بدفع بدله القائم مقامه مثلا أو قيمة ، هذا. وليس معنى الحديث «أنّه يجب دفع عين المال إلى مالكه» إذ لا يحتاج إلى هذا التعبير ، بل العبارة الدالة عليه : «أنّه يجب دفع أموال الناس إلى ملّاكها» فالتعبير بقوله : «على اليد» إنّما هو لبيان معنى آخر يلائم «على اليد» وذلك المعنى هو الضمان الذي هو مجازاة لجناية اليد. وبهذه العناية أسند الحكم إلى اليد ، وجعل عليها ، وقيل : «على اليد ، لا على آخذ المال» ثم قال هذا القائل في جملة كلامه : «وهذا المعنى ـ أي الضمان ـ مما لا يشك فيه مشكّك بعد ملاحظة فهم العرف حتّى من لم يتشرّع بشرعنا أيضا».

الثالث : ما حكي عن بعض ، وهو : أنّ الحديث مسوق لإفادة كلّ من الحكم التكليفي والوضعي ، وأنّ كلا الحكمين مستفادان من الحديث ، فيجب على الآخذ ردّ المأخوذ ، ويكون عهدته أيضا عليه.

ولعلّ وجه الاستفادة هو : أنّ العرف يفهمون من كون العين المتموّلة على شخص أنّ الأعم من العين والبدل يثبت على عهدته ، فلثبوت المأخوذ في عهدة ذي اليد آثار تكليفية ووضعية من حفظه ، وأدائه مع التمكن ، وأداء بدله عند الحيلولة أو عند التلف ، فإنّ معنى اعتباره في عهدته هو كون ذي اليد مرجعا ومأخوذا به ، فيجب عليه ردّه مع بقاء عينه وردّ بدله مع تلفه ، فبنحو الطولية يثبت الحكم التكليفي والوضعي بعد إرجاعه إلى التكليفي ، هذا.

وأورد عليه بما حاصله : أنّ وجوب الردّ إمّا يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» أو من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتّى تؤدّي» ولا يتمّ المدّعى على شي‌ء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ لازم استفادة الحكم التكليفي إنّما هو تقدير الرّد ، ولازم الحكم الوضعي تقدير الضمان بمعنى كون المأخوذ على عهدة الآخذ ، وأنّه لو تلف كان عليه


.................................................................................................

__________________

بدله ، فإفادته للحكمين منوطة بتقديرهما معا ، وذلك مما لا يفي الكلام بإفادته ، فهو أشبه شي‌ء باستعمال الخطاب في إنشائين ، بل هو منه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المغيّا ـ وهو لزوم الخروج عن عهدة المأخوذ على تقدير تلفه ـ ثابت إلى حين الأداء ، وهذا يلائم وجوب الأداء قبل التلف وبعده ، فهو أعم منهما ، ولا دلالة للعامّ على تعيين الخاص ، فلا بدّ من إثبات وجوب الرد قبل التلف بدليل آخر.

إذا عرفت الاحتمالات المتطرقة في معنى الحديث المزبور ، فاعلم : أنّ تنقيح معنى الحديث منوط ببيان أمور :

الأوّل : أنّ الأصل عدم التقدير ، فإذا لم يكن صحة الكلام عقلا منوطة بالتقدير ـ كقوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أو شرعا كقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ـ فلا وجه للالتزام به.

الثاني : أنّ الأصل في الظرف أن يكون مستقرا ، إذ اللغوية منوطة بتقدير فعل خاصّ ربّما لا يكون لتعيين متعلّقه دليل ، فيصير الكلام لأجله مجملا ، فإذا كان الظرف متعلقا ب «يجب» مثلا فلا بدّ من تقدير متعلّق له كالرّد والحفظ والضمان ، ولا قرينة على أحدها ، فيصير الكلام مجملا. بخلاف المستقر فإنّه لا يحتاج الى فعل خاصّ ، بل العامل في الظرف هو أفعال العموم. فمع الدوران بين كون الظرف مستقرّا ولغوا يبنى على كونه مستقرّا متعلقا بفعل من أفعال العموم.

الثالث : أنّ الأصل في كلام الشارع أن يكون في مقام التشريع والإنشاء لا التكوين والاخبار ، فمع الشك في كون كلامه إنشاء أو إخبارا يحمل على الإنشاء ، فلا يصح أن يقال : إنّ معنى «على اليد» هو الاخبار عن كون المال تحت استيلاء الآخذ ، وأنّه لا يرتفع خارجا هذا الاستيلاء إلّا بالرّدّ والأداء.

الرابع : أنّ التشريع يكون من الاعتباريّات التي لها نحو وجود مغاير للوجود التكويني ، فيمكن أن يكون لشي‌ء وجود تكويني ووجود اعتباري ناش من تشريع


.................................................................................................

__________________

الشارع ، فإذا اعتبر الشارع شيئا من الأعيان على شخص كقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) فالاعتبار الشرعي يقتضي أن يكون ذلك الشي‌ء بوجوده الاعتباري على عهدته ، إذ لا معنى لتعلق التشريع بالوجود التكويني ، فلا بدّ أن يكون متعلق الاعتبار موجودا اعتباريا ثابتا على العهدة. يعني : أنّ الثابت بالتشريع هو الموجود الاعتباري ، وكون الشي‌ء بهذا الوجود على العهدة عبارة أخرى عن الضمان ، إذ لا معنى لأن يكون بوجوده الخارجي في العهدة ، بل الموجودات الاعتبارية يكون وعاؤها العهدة ، كالموجودات الذهنيّة التي يكون وعاؤها الذهن.

المختار في معنى حديث «على اليد»

إذا عرفت هذه الأمور تعرف : أنّ مقتضى كون كلّ من التقدير ولغوية الظرف على خلاف الأصل هو أن يكون نفس المال المأخوذ على صاحب اليد ، لا وجوب ردّه أو حفظه أو ضمانه ، لأنّها مبنيّة على لغوية الظرف والالتزام بالتقدير اللذين هما على خلاف الأصل ، كما أنّ مقتضى إنشائية كلام الشارع وكون التشريع من الاعتباريات هو كون المأخوذ بوجوده الاعتباري ثابتا على عهدة الآخذ.

ففي وعاء الاعتبار يكون المأخوذ فوق يده ، كما أنّه بوجوده التكويني يكون تحت يده ، فللمأخوذ وجودان تكويني ، وبهذا الوجود يكون تحت اليد. واعتباري ناش من التشريع ، وبهذا الوجود يكون فوق اليد ، لأنّه مقتضى كلمة «على» الاستعلائيّة. وحيث إنّ الحاكم بكون نفس المال على العهدة هو الشارع ، وثبوته الشرعي على اليد ليس إلّا ثبوتا اعتباريّا مقتضيا لكون الثابت بهذا الثبوت موجودا اعتباريا في العهدة ، لأنّ العهدة وعاء الاعتباريّات ، فالمعنى حينئذ هو : أنّ نفس المال المأخوذ بوجوده الاعتباري ثابت على العهدة ، وهذا الثبوت مستمر إلى أن يحصل الأداء. وهذا الاستمرار يستفاد من كلمة «حتّى» لدلالتها على ما ثبت بما قبلها من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد». وليس هذا


.................................................................................................

__________________

إلّا عبارة عن الضمان ، حيث إنّ مصداق ذلك الموجود الاعتباري مع تلف العين هو الأقرب الى التالف القائم مقامه ، الواجد لغير خصوصيّاته المشخّصة من الجهات النوعية والصنفية.

وقد ظهر ممّا ذكرنا ضعف الاحتمال الأوّل ، أعني به كون مفاد الحديث تكليفا محضا ، وهو وجوب ردّ العين ، أو وجوب حفظها عن التلف ، على الوجهين المتقدّمين عن الشيخ والعلامة والنراقي قدس‌سرهم وأنّ الحديث متكفل للحكم التكليفي المختص بالعين حال بقائها دون حكمها بعد تلفها.

وجه الضعف : أنّه مبني على لغوية الظرف ، وقد عرفت أنّه خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلّا بالقرينة.

كما أنّه ظهر أيضا ضعف الاحتمال الثاني ، وهو كون الحديث مسوقا لبيان الحكم الوضعي بالنسبة إلى خصوص صورة التلف ، بأن يقدّر الضمان ، بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» بأن يقال : على اليد ضمان أي غرامة ما أخذته.

وجه الضعف : أنّ تقدير الضمان خلاف الأصل بعد كون ظاهر الكلام هو اعتبار ثبوت نفس المال المأخوذ على عهدة صاحب اليد. وحيث إنّ الاعتبار يتعلق بالموجودات الاعتباريّة لا التكوينيّة ، فلا بدّ أن يكون الثابت بهذا الاعتبار موجودا اعتباريا ثابتا في العهدة. وهذا الثبوت الاعتباري مستمر حتّى يحصل الأداء بعين المأخوذة التي هي مصداق حقيقي للوجود الاعتباري الذي اعتبره الشارع ، لأنّه واجد للمقوّمات النوعية والصنفية والشخصية. وببدله وهو المثل إن كان مثليا والقيمة إن كان قيميا ، ومع فقد المماثل في المثلي يكون مصداق الأداء منحصرا بالمالية ، هذا.

وكذا ظهر ضعف الوجه الثالث وهو الجمع بين الحكم التكليفي والوضعي ، وذلك لأنّه موقوف على كون الظرف لغوا حتى يتعلق بكلمة «يجب» وعلى كون المتعلق كلمتين وهما : الرد والضمان. ولا قرينة على شي‌ء منهما ، فإنّه مع إمكان الظرف


.................................................................................................

__________________

المستقر لا تصل النوبة إلى الظرف اللغو.

فالمتحصل : أنّ النبوي الشريف يدلّ على كون المال في وعاء الاعتبار على عهدة الآخذ ، فإن كان موجودا ردّه إلى المالك ، لأنّه المصداق الحقيقي لرد المال ، حيث إنّه واجد للمقوّمات النوعية والصنفية والشخصية. فمفاد الحديث على هذا حكم وضعيّ ، ولا يتكفل حكما تكليفيا ، فيرجع في حكمه التكليفي الى ما يدلّ على حرمة حبس الحقوق ووجوب ردّها الى مالكيها.

وبالجملة : فاستدلال المصنف وغيره بهذا النبويّ على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد في محلّه ، هذا.

ثمّ إنّه لا بأس بالتعرّض لبعض الجهات المتعلّقة بالنبويّ المذكور :

١ ـ عدم اختصاص الأخذ بالقهر والغلبة

منها : أنّ الأخذ هل يكون عامّا أم مختصا بما يكون على وجه القهر والغلبة؟ فلا يشمل الأيدي الأمانيّة ، ويكون خروجها عن موضوع الحديث المزبور بالتخصص ، فيختص الحديث بالغصب ، ولا يشمل موارد إذن المالك الحقيقي كاللقطة وغيرها من الأمانات الشرعية ، وتسليط المالك غيره على ماله كالوديعة وغيرها من الأمانات المالكيّة.

وربّما يستشهد لذلك ـ أي الأخذ بالقهر والغلبة ـ بقوله تعالى (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) (١) ، وقوله تعالى (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢) وقوله تعالى (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) وغير ذلك من موارد

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١٢٠.

(٢) سورة الحاقة ، الآية : ٤٥.

(٣) سورة القمر ، الآية ٤٢.


.................................................................................................

__________________

استعماله في الأخذ بالقهر والغلبة. وجعل المحقق النائيني هذا المعنى هو الظاهر (١).

وفيه : أنّ الأخذ لغة هو تناول الشي‌ء مطلقا وإن لم يكن عن قهر وعدوان ، كقوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ) (٢) وقوله عزّ اسمه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) (٣) فتأمل ، وقوله عليه‌السلام : «خذها فإنّي إليك معتذر». وغير ذلك من الموارد.

وخصوصية القهر والغلبة تستفاد من القرائن الحالية أو المقالية ، من باب تعدد الدالّ والمدلول ، وليست من خصوصيات نفس المعنى اللغوي أو العرفي. فيدلّ الحديث الشريف على الضمان في جميع الموارد سواء أكان هناك قهر أم لا ، إلّا ما خرج بالدليل كالأمانات مطلقا.

وبالجملة : فلم يثبت كون مفهوم الأخذ عرفا هو التناول القهري حتى يحمل اللفظ عليه ، فيحمل على معناه اللغوي ، وهو مطلق التناول الذي منه المقبوض بالعقد الفاسد ، والمسروق ، والوديعة ، والعارية. فالأخذ يكون من قبيل المتواطي لا المشكك. ولو سلّم التشكيك فإنّما هو من قبيل التشكيك البدوي الذي لا عبرة به في رفع اليد عن إطلاق مفهومه ، هذا.

٢ ـ اعتبار الإرادة والاختيار في الأخذ المضمّن

ومنها : أنّ «الأخذ» لمّا كان فعلا اختياريّا فلا بدّ من عدم صدوره بلا إرادة ولا اختيار ، فإذا ألقى مال في حجر شخص بحيث صار تحت يده واستيلائه من دون دخل لإرادته واختياره في ذلك لم يصدق عليه الأخذ حتى يشمله الحديث الشريف. وكذا لا يصدق «الأخذ» على تناول الصبي غير المميّز الذي لا شعور ولا تمييز له بحيث

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٧.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ١٩.

(٣) سورة التوبة ، الآية ١٠٣.


.................................................................................................

__________________

لا يلتفت إلى ما يصدر منه من الفعل وعنوانه ، وكذا المجنون.

فيظهر من اعتبار الإرادة في حال الأخذ وكون الآخذ مستشعرا مميّزا لفعله خروج الصبي غير المميز والمجنون والنائم عن حيّز الحديث إذا أمسكوا على شي‌ء من المنقولات واستولوا عليه ، فلا يشملهم الحديث حتى يحكم عليهم بالضمان.

ويشمل الصبي المميّز المستشعر لفعله ، لصدق الأخذ الاختياري على فعله ، وفاقا للمصنّف قدس‌سره ، حيث قال : «ومن هنا كان المتّجه صحة الاستدلال به على ضمان الصغير بل المجنون إذا لم تكن يدهما ضعيفة لعدم التمييز والشعور».

والحاصل : أنّه يعتبر في شمول الحديث كون الفاعل مختارا في فعله ، هذا.

٣ ـ شمول إطلاق الضمان للعلم بالحكم والجهل به

ومنها : أنّ إطلاق الحديث يشمل كون صاحب اليد عالما بالحكم التكليفي ـ وهو وجوب الأداء ـ والوضعي أعني به الضمان ، وجاهلا بهما. كما يشمل كونه عالما بالموضوع وهو العلم بأنه مال الغير أو مغصوب أو مقبوض بالعقد الفاسد ، وكونه جاهلا به كما إذا زعم أنّه مال نفسه أو أنّه وكيل عن مالكه أو وليّ عليه.

٤ ـ إطلاق الضمان لليد الأصلية والتابعة

ومنها : أنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كون اليد أصلية وبين كونها تابعة ، كيد وكيل الغاصب مع عدم علم الوكيل بالغصب ، إذ مع علمه بالغصب لا تصح الوكالة حتّى ظاهرا. وكذا الحال في الوكيل في قبض المبيع بالبيع الفاسد ، وذلك لأنّه يعتبر في صحة الوكالة كون متعلّقها مباحا ، ولذا قال في المسالك في ذيل قول المحقق قدس‌سره : «ولو وكّله في بيع فاسد لم يملك الصحيح» ما لفظه : «كما لو قال : اشتر لي كذا إلى إدراك الغلّات ، أو مقدم الحاج ، أو بعه كذلك ، أو ما شاكله. ولا فرق في ذلك بين أن يكونا عالمين بالفساد


.................................................................................................

__________________

وجاهلين وبالتفريق ، وإنّما لم يملك الصحيح ، لعدم التوكيل فيه فيقع فضوليا» (١).

ففي الصورة المذكورة يكون الوكيل هو الذي يشمله الحديث دون الموكّل.

لا يقال : إنّ المقرّر عندهم أنّ يد الوكيل يد الموكّل ، وكذا يد الأمين يد الحاكم فلا يعدّ يد أحدهما في العرف يدا له ، بل يد الموكّل والحاكم.

فإنّه يقال : إنّ معنى كون يد الوكيل يد الموكّل هو إجراء أحكام يد الموكّل عليه في التصرفات كالآثار المترتبة على قبض المالك ، كفراغ ذمة المقبوض منه بقبض الوكيل ، كفراغ ذمته بقبض الموكل ، فإنّ قبض الوكيل كقبض الموكل في تلك الآثار. وهذا لا ينافي صدق الاستيلاء والتسلط عرفا على يد الوكيل الموجب لضمانه ، فلا وجه لما قيل من : أنّ المالك لا يرجع على الوكيل ، بل على الموكل ، لأنّه صاحب اليد.

والحاصل : أنّ معنى كون يد الوكيل يد الموكّل وقبضه قبضه هو : أنّ القبض ـ الذي من شأنه أن يصدر من الموكّل ـ إذا صدر من الوكيل كان كصدوره من الموكّل في فراغ ذمة المقبوض منه ، أو صحة العقد كالوكيل في عقد الصرف أو السّلم. وإجراء حكم الضمان الثابت للوكيل على الموكل أجنبي عن معنى قولهم : «يد الوكيل يد الموكل» إذ ظاهره هو أنّ كل ما يكون من وظيفة شخص إذا صدر عن غيره وكالة كان كصدوره عن نفس ذلك الشخص في الحكم الشرعي المترتب عليه ، هذا.

٥ ـ إطلاق الضمان لليد المستقلّة والمشتركة

ومنها : أنّ قضية الإطلاق عدم الفرق بين انفراد اليد بالأخذ وتعددها بأن شاركها غيره فيها بحيث أسند إلى المتعدد ، وكان المستولي على المال المأخوذ اثنين في عرض واحد. أو ترتبت إحدى اليدين على الأخرى ، وهذه مسألة تعاقب الأيدي على المغصوب ، وإن كان في كيفية التضمين إشكال ليس هنا محل ذكره ، هذا.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٨٠.


.................................................................................................

__________________

٦ ـ أقسام المأخوذ باليد

ومنها : أنّ المأخوذ قد يكون عينا من المنقول وغيره ، وقد يكون منفعة كسكنى الدار ومنفعة الدكان ونحوهما ، وقد يكون من قبيل الحقوق كحق التحجير ، وقد يكون من قبيل ما لا يدخل تحت الاستيلاء والاستحقاق كالحرّ والخمر والخنزير بالنسبة إلى المسلم ، فهنا أقسام أربعة :

القسم الأوّل : الأعيان الشخصيّة والكلّية

الأوّل : كون المأخوذ هو العين ، وذلك يتصور على نحوين :

أحدهما : أن يكون المأخوذ من المنقولات.

ثانيهما : أن يكون من غير المنقولات ، كالدار والدكّان والأرض ونحوها.

أمّا الأوّل فملخّصه : أنّه لا ريب في صدق أخذ اليد على الاستيلاء عليه بالقبض ونحوه ، فيصدق الأخذ والاستيلاء باليد على ركوب دابة الغير ، فيشمله النبوي «على اليد ما أخذت» وإن لم يحرّكها من مكانها.

وأمّا الثاني فحاصله : أنّ إثبات اليد عليه حقيقة غير ممكن ، لعدم الإحاطة بها كالمنقول ، لكن التصرّف فيه بالدخول ونحوه ممكن ، وهو يتصور على وجهين :

أحدهما : ما يوجب صدق الاستيلاء عليه ، كدخول الجائر ـ عدوانا ـ دار غيره للتصرف والتسلط أو السكنى فيها ، أو إجارتها. وهذا القسم لا إشكال في صدق اليد عليه ، فيشمله النبوي الموجب للضمان.

ثانيهما : ما لا يوجب صدق التسلط والاستيلاء عليه ، كما إذا دخل دار الغير أو بستانه بغير إذن المالك للتفرّج والتنزّه مثلا ، فإنّ الاستيلاء لا يصدق عليه ، فلا يشمله النبوي ، فلا دليل حينئذ على الضمان. وقد صرّح بذلك العلّامة في التذكرة حيث قال : «ولو دخل دار غيره أو بستانه لم يضمن بنفس الدخول من غير استيلاء ، سواء دخلها


.................................................................................................

__________________

بإذنه أو بغير إذنه ، وسواء كان صاحبها فيها أم لم يكن» (١).

ولا فرق في هذا القسم ـ أعني الأعيان ـ بين ما لو كان مفرزا وما لو كان مشاعا ، لإطلاق المأخوذ وعدم اختصاصه بالمفرز ، فيعدّ من سكن دار غيره مع مالكها قهرا ذائد على النصف. ولهذا قال العلامة قدس‌سره في التذكرة : «ولو لم يزعج المالك ، ولكنه دخل واستولى مع المالك كان غاصبا لنصف الدار ، لاجتماع يدهما واستيلائهما عليه. نعم لو كان الداخل ضعيفا والمالك قويّا لا يعدّ مثله مستوليا عليه لم يكن غاصبا لشي‌ء من الدار» (٢).

لا يقال : إنّ الاستيلاء لا يتحقق إلّا على الشي‌ء المعيّن.

فإنّه يقال : إنّ الاستيلاء أمر عرفي يتحقق في المشاع كتحقّقه في المعيّن. ويدل عليه صحة بيع المشاع وصلحه وهبته ووقفه ، فقبضه جائز كالمقسوم.

وأمّا الكلّيّ فلا يدخل تحت اليد وإن قيل به ، لأنّ ما يقع تحت الاستيلاء خارجا هو الفرد كما لا يخفى.

إلّا أن يقال : أنّ وجود الفرد عين وجود الكلي الطبيعي ، فلأجله يدخل الكلي تحت اليد والاستيلاء.

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاق عدم اعتبار كون العين ممّا له قيمة ومالية. ودعوى تبادر ما كان له مالية ممنوعة.

إلّا أن يقال : إنّ الضمان الذي يدل عليه النبويّ ـ وهو تدارك خسارة المال المفوّت أو الفائت ـ لا يتصوّر إلّا فيما له مالية ، فلا بد من شموله للمأخوذ الذي هو مال ، فما ليس كذلك لا يندرج تحت هذا النبوي ، هذا.

ثمّ إنّه لا فرق في ضمان المأخوذ بين بقاء عينه وبين تلفه ، كعدم الفرق في ضمانه بين الأوصاف الطارية عليه من مزجه بشي‌ء أو تغيّر صورته كالطحن ، فإنّ المأخوذ في

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٣٧ ، السطر ١٦.

(٢) المصدر ، السطر : ٢٢.


.................................................................................................

__________________

جميع الصور مضمون على الآخذ. كما لا فرق في الحكم بالضمان بين كون المتصدّي لذلك التصرف نفس الآخذ وغيره ، وإن كان للمالك أيضا الرجوع إلى ذلك المتصرّف ، لكنّه كلام آخر.

كما لا فرق في الأعيان بعد دخولها تحت اليد بين أن تكون مقصودة بالذات في الاستيلاء عليها وبين أن يتحقق الاستيلاء عليها بالتبع ، ولهذا قال في الرياض : «ويضمن حمل الدابة لو غصبها. وكذا غصب الأمة الحامل غصب لحملها بلا خلاف أجده ظاهرا ، لأنّه مغصوب كالأمّ. والاستقلال باليد حاصل بالتبعية لها. وليس كذلك حمل المبيع فاسدا ، حيث لا يدخل في البيع ، لأنّه ليس مبيعا ، فيكون أمانة في يد المشتري ، لأصالة عدم الضمان ، ولأنّ تسلّمه بإذن البائع. مع احتمال الضمان ، لعموم على اليد ما أخذت حتّى تؤدي ، مع الشك في صدق الأمانة عليه وبه قطع الماتن في الشرائع» (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

القسم الثاني : المنافع

القسم الثاني ـ وهو كون المأخوذ منفعة ـ يتصور على نحوين :

أحدهما : المنافع التي لم يستوفها آخذ العين ، كما إذا استولى على دابّة غيره فغصبها منه غاصب قبل استيفاء الأوّل شيئا من منافعها ، فإنّ المنافع بالنسبة إلى الآخذ الأوّل غير مستوفاة ، فلا تدخل تحت عنوان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت» وإن قلنا بضمان الثاني لها ، لمباشرته للاستيفاء بدليل آخر.

وكذا الحال لو بقيت تحت يده ولكن لم يستعملها ولم ينتفع بها ، فإنّه لا يصدق على المنافع حينئذ أنّها مأخوذة ، لعدم استيفائه لها ، وعدم تعلّق فعل منه بها. وإن قلنا بكونها مضمونة عليه لجهة أخرى من جهات الضمان وهي قاعدة الإتلاف ، حيث إنّه

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٣٠١.


.................................................................................................

__________________

أتلف المنافع على المالك ، ولذا قال العلّامة قدس‌سره في التذكرة : «منافع الأموال من العبيد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية ، فلو غصب عبدا أو جارية أو ثوبا أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه ، سواء أتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده بأن بقيت في يده ولا يستعملها ، عند علمائنا أجمع» (١).

ثانيهما : المنافع المستوفاة ، كما إذا ركب الدابة التي غصبها ، أو استخدم العبد أو الجارية مثلا. وهذا كسابقه في عدم صدق الاستيلاء على المنافع ، لأنّ المنفعة غير موجودة بحيث يجتمع طرفاها في زمان واحد ، بل هي تدريجية الوجود ، فلا يتصور الاستيلاء على المنافع من المستولي على العين حتى في صورة استيفائها ، فلا يمكن إثبات ضمانها حتى مع الاستيفاء بحديث اليد. نعم لها سبب آخر للضمان وهو الإتلاف على المالك ، وتدلّ عليه العبارة المتقدمة عن العلامة قدس‌سره.

لكن خالف فيما ذكرناه صاحب الجواهر قدس‌سره ، حيث استدلّ على ضمان المنافع المستوفاة بالحديث المزبور. قال في كتاب العارية : «ولو استعار مستعير من الغاصب ـ وهو لا يعلم بغصبه ـ كان قرار الضمان للمنفعة الفائتة على الغاصب ، لغروره ، وإن كان للمالك أيضا إلزام المستعير بما استوفاه من المنفعة أو فاتت في يده ، لعموم من أتلف وعلى اليد كما هو المشهور بين الأصحاب هنا ، وفي الغصب عند ذكر حكم الأيادي المترتبة على يد الغاصب» (٢).

وأنت خبير بضعف التمسك بقاعدة اليد ، لما عرفت من ظهور «ما» الموصولة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت» في عين خارجيّة استولت عليه اليد. وليست المنفعة موجودة مجتمعة أجزاؤها في الوجود ، بل هي من الموجودات التدريجية المتصرّمة التي يتوقف وجود جزء منها على انعدام سابقه ، فلا تجتمع أجزاؤها في الوجود حتى تأخذها

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ١٦٦.


.................................................................................................

__________________

اليد وتستولي عليها ، فالمتعيّن التمسّك لضمان المنافع مطلقا حتى المستوفاة بقاعدة الإتلاف.

لا يقال : إنّ مجموع منافع الدار سنة مثلا يعدّ في نظر العرف موجودا واحدا ، ولذا يبذل بإزائه الأجرة. وهذا يدلّ على أنّ المنافع كالأعيان مما يمكن أن تنالها اليد وتندرج تحتها.

فإنّه يقال : إنّ الاعتبار العرفي المزبور إنّما يصحّح اعتبار المالية المعتبرة في العوضين ، كاعتبار مالية عين كالحنطة مثلا في الذمّة ، أو عمل كذلك كخياطة ثوب ، أو بناء دار ، فإنّ الاعتبار المزبور لا يوجب صيرورة الكليّ في الذمّة موجودا خارجيا قابلا لأن تدخل تحت اليد. بل يجدي في المالية فقط ، لا في الوجود الخارجي المتوقف عليه صدق الأخذ باليد. فدعوى عدم صدق اليد على المنافع مطلقا في غاية القرب ، هذا.

لكن الانصاف صدق اليد على المنافع كصدقها على الأعيان. توضيحه : أنّ المنفعة هي الحيثية القائمة بالعين التي تستوفى تارة ولا تستوفى أخرى. وإن شئت فقل : إنّ المنفعة ـ التي هي معنى اسم المصدر ـ قائمة بالعين قيام اللازم بالملزوم والعرض بالمعروض ، فمنفعة الدار مثلا هي صلاحيّتها للمسكونيّة. وهذا القابلية ثابتة للعين ، وليست تدريجية الوجود ، فلا يتقوّم باستيفاء المستوفي لها تدريجا ، حتى يستشكل في شمول النبوي لها بعدم كونها موجودة مجتمعة أجزاؤها في الوجود.

نعم لا تصلح المنافع لشمول الأخذ لها بالأصالة. وهذا لا يقدح في شمول النبوي لها كما تقدّم من إطلاق الأخذ للأصالة والتبعية. فما أفاده الجواهر من التمسك بقاعدة اليد في العبارة المتقدمة في غاية المتانة.

نعم بناء على دخل الاستيفاء ـ الذي هو قائم بالشخص المنتفع في حقيقة المنفعة ـ كان ما أفيد من منع جريان النبوي في المنافع في محلّه ، هذا.

لكنّه في غاية الضعف والسقوط ، إذ لا شبهة في صحة إسناد الفوت إلى المنفعة ، بأن يقال : فاتت المنفعة ، أو : فوّتها الغاصب ، أو : استوفاه. وصحة هذه الإضافة منوطة


.................................................................................................

__________________

بكون المنفعة هي الحيثية القائمة بنفس العين التي تستوفى تارة ولا تستوفى اخرى. وليس الاستيفاء الذي هو معنى مصدري دخيلا في مفهوم المنفعة التي هي من الحيثيات القائمة بالعين كالدار ، هذا.

ثمّ إنّه لو شكّ في دخل فعل المنتفع في حقيقة المنفعة القائمة بالعين ـ التي وقعت تحت اليد ـ بحيث رجع الى الشبهة المفهومية بأن يدّعى إجمال مفهوم المنفعة ، لم يمكن التمسك بالحديث المزبور ، لعدم جواز التمسك بالدليل مع عدم إحراز موضوعه. كما إذا شك في أنّ مفهوم العالم الواجب إكرامه هل له سعة يشمل العالم الفلسفي أم لا؟ فلا يجوز التمسك لحكمه بدليل وجوب إكرام العالم كما لا يخفى.

القسم الثالث : الحقوق

القسم الثالث : وهو أخذ الحقوق ، والحكم فيه عند جماعة منهم العلّامة المامقاني قدس‌سره هو حكم المنفعة في عدم تناول حديث اليد لها ، لعدم صدق أخذ اليد عليها (١). وعند جماعة أخرى شمول الحديث لها كشموله للمنافع على ما عن غير واحد ، فغصب الحقوق كالتحجير وحقّ السبق إلى المشتركات كالسوق والمسجد والخان ونحوها كغصب الأعيان والمنافع ، فإنّها تدخل تحت اليد ، لصدق الاستيلاء عليها عرفا. ولا يراد من الأخذ القبض حتى يختص المأخوذ بالأعيان. ولا يشمل غيرها من المنافع والحقوق.

وبالجملة : فغصب العين المتعلّقة للحق كغصب العين المتعلقة للملك في شمول النبوي لها ، وأداء الحق بأداء موضوعه ، فأداء حق التحجير والسبق إلى المشتركات بأداء متعلقّه كالأرض والمسجد وغيرهما.

والحاصل : أنّه بناء على ظهور الأخذ باليد والتأدية في العين خاصّة لا يشمل

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٧٢.


.................................................................................................

__________________

النبوي المنافع والحقوق كما عليه غير واحد على ما تقدم آنفا.

القسم الرابع : ما ليس بملك ولا حقّ

القسم الرابع : أعني به ما لا يدخل تحت التسلط بالتملك أو الاستحقاق كالحرّ والخمر والخنزير بالنسبة إلى المسلم. وحكمه على ما ذكره غير واحد من الأصحاب عدم دخوله تحت الحديث الشريف ، لما مرّ من ظهور النبوي في الضمان ، ولا ضمان في غير المملوك بمجرد اليد. ولأنّ غاية الضمان هو الأداء إلى من يجب الدفع إليه كالمالك ونحوه ، ولا تأدية في غير المملوك ، لعدم وجود المؤدّى إليه ، فخروجه عن الرواية واضح.

ولا فرق في غير المملوك بين أن لا يكون قابلا للتملك من أصله كالحرّ المسلم والخنزير وغيرهما ، فإنّ ذلك غير مضمون باليد ، وبين أن يكون قابلا له ولكن لم يجر عليه ملك أحد كالمباحات ، فإنّه لا ضمان في أخذه.

وعن جماعة تعليل الحكم في الحرّ بأنّه لا يدخل تحت اليد.

فإن أرادوا بذلك أنّه لا يدخل تحت اليد شرعا فهو حسن ، إذ ليس الحرّ مالا مملوكا شرعا حتى يدخل تحت اليد ويكون مضمونا على آخذه. لكن مقتضى القواعد هو الأخذ بالمعنى العرفي. وهو الاستيلاء ، ولا مدخل للشرع في ذلك. بل إرادة اليد الشرعية تنتج عكس المدّعى ، إذ يلزم حينئذ عدم ضمان الغاصب ، لأنّه لا يدله شرعا على المال. ويلزم ضمان من له يد على المال شرعا كالأولياء. وهذا عكس المدّعى.

وإن أرادوا بقولهم : «إنّه لا يدخل تحت اليد» عدم دخوله عرفا تحت اليد ، ففيه منع ، ضرورة أنّ الحريّة والرقّيّة أمران اعتباريّان لا مدخل لهما في الصدق العرفي ، بداهة أنّ كل من تسلّط على إنسان بحيث يتصرّف فيه كيف يشاء يقال : إنّه مستول عليه ، وهو في يده ، من غير فرق فيه بين كونه حرّا ومملوكا.

فالأولى أن يقال في عدم ضمانه : إنّ دليل الضمان لا يشمله إذ المتبادر منه هو


.................................................................................................

__________________

المملوك ، خصوصا بقرينة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتى تؤدّي» ونحو ذلك ، لظهوره في تأدية المأخوذ إلى مالك أمره ، وإلّا فلا معنى للتأدية ، لقيام التأدية بالمؤدّي والمؤدّى والمؤدّى إليه ، فللتأدية إضافات ثلاث ، فلا يشمل ما لا يقبل الملك كالحرّ والخمر للمسلم ، لعدم من يؤدي إليه المأخوذ.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ المملوكية مما لا دخل له في صدق الأخذ والأداء العرفيّين ، فلا يعتبر في الضمان كون المأخوذ مملوكا شرعا. فالقول باعتبار كون المأخوذ ملكا شرعا في صدق الأخذ والأداء خال عن الدليل ، ومناف لأوضاع الألفاظ العربية ، ولا إشعار للأخذ والأداء باعتبار كون المأخوذ مملوكا شرعا.

وعليه فخمر المسلم وخنزيره من جملة مصاديق الحديث ، لثبوت الإضافة العرفية إلى المسلم الموجبة لصدق الأداء إليه المجعول غاية في الكلام.

وكذا الحال في الأوقاف العامة والخاصة ، لثبوت الإضافة إلى الموقوف عليهم المستلزم لتحقق الأخذ والأداء إذا استولى عليها غيرهم.

نعم يخرج الحرّ ، لعدم قابليته للأداء ، لعدم وجود من يؤدّي إليه ولو عرفا ، إذ لا يضاف الحرّ إلى أحد بالمملوكية والاستحقاق. ولولا التقييد بالغاية لقلنا بأنّ من استولى على الحرّ وأثبت يده عليه ضمنه لو تلف تحت يده ، لصدق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت» بالمعنى الذي تقدّم ، وهو كون ضمانه وعهدته عليه لو تلف.

والحاصل : أنّ الحر يخرج عن مقتضى الحديث من جهة عدم قابليّته للأداء لأجل عدم وجود من يؤدّي إليه المأخوذ ولو عرفا ، إذ لا يضاف الحرّ إلى أحد بالمملوكية والاستحقاق عرفا أيضا.

وأمّا الخمر والخنزير فلخروجهما عن مفاد الحديث ، لما دلّ على عدم احترامهما ، وإلّا فلا إشكال في صدق الأخذ والأداء عليهما عرفا ، وفي ثبوت الإضافة العرفية لهما إلى المسلم الموجبة لصدق الأداء إليه المجعول غاية في الكلام ، كصدق الأخذ عليهما.

فالمتحصل : أنّ الحرّ خارج عن حيّز الحديث تخصّصا ، لعدم إضافته إلى أحد حتى


.................................................................................................

__________________

يصدق الأداء عليه وأنّ الخمر والخنزير اللذين هما تحت يد المسلم خارجان عن حيّز الحديث بالتخصيص ، لصدق الأخذ والأداء عرفا عليهما ، فالخروج حينئذ يكون بالتخصيص الناشئ عمّا دلّ على عدم احترامهما. وعدم كونهما معنونين بعنوان من الملكية والوقفية والزكاة وغيرها حتى يكون بدلهما حافظا لذلك العنوان ، فإنّ من أتلف الغنم التي هي زكاة ، كان بدلها المضمون على المتلف معنونا أيضا بعنوان الزكاة ، ويقال : إنّه زكاة كما كان مبدلها زكاة. وهذا بخلاف الخمر والخنزير المضافين إلى المسلم. هذا.

ثم إنّ ما تقدّم في الحرّ كان بالنسبة إلى نفسه. وأمّا بالإضافة إلى منافعه ، فإن استوفاها الآخذ ضمنها ، لأنّ استيفاء عمل الغير يوجب الضمان ، لقاعدة الاستيفاء. وإن لم يستوفها فضمانها مشكل إلّا أن يتمسك فيه بقاعدة الإتلاف. وقد تقدم شطر من الكلام فيه في بحث عمل الحرّ ، فراجع. (١)

وأمّا حديث «على اليد» فلا يشمل منافع الحرّ ، لأنّ اليد على نفس الحرّ كالعدم فضلا عن منافعه ، فلا بدّ من التمسك فيها بقاعدة الإتلاف ، كما تقدم.

٧ ـ المراد من الأداء المجعول غاية للضمان

بقي الكلام في ارتفاع الضمان المدلول عليه بالحديث. اعلم : أنّه قد جعل في الحديث رافع الضمان التأدية ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتّى تؤدي» ومحصل ما يستفاد من هذه الغاية أنّ الغاصب ضامن للمغصوب ، ولا يرتفع ضمانه بمجرّد إذن المالك له في إبقائه تحت يده ، بل المترتب على الاذن ليس إلّا ارتفاع الإثم الذي نشأ عن عدوانية يده ، ولا ملازمة بين ارتفاع الإثم وبين بقاء الحكم الوضعي الثابت إلى أن يتحقق الأداء بتسليمه إلى المالك كما هو قضيّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتّى تؤدي» فلا يرتفع الضمان إلّا بالأداء.

__________________

(١) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٧١ الى ٨٥.


.................................................................................................

__________________

نعم إذا وكّله المالك في التسلّم من قبله ، فتسلّم الغاصب ما غصبه وكالة عن مالكه أمكن القول بارتفاع الضمان حينئذ ، لتبدّل يده العادية باليد الأمانية. فالغاصب لصيرورته وكيلا فعلا صار قبضه وتسلّمه كتسلّم المالك موجبا لارتفاع الضمان عنه ، هذا.

وقد استشكل بعض الفقهاء في ذلك بأنّ ظاهر الحديث هو الضمان ما لم يحصل التسليم والتأدية إلى المالك ، خرج عنه التسليم الى يد الوكيل إذا كان غير الغاصب بالإجماع ، وأمّا الغاصب الوكيل فخروجه غير معلوم ، والأصل يقضي بالعدم ، هذا.

لكنه مندفع بأنّ أدلة الوكالة ـ على فرض تماميتها ـ حاكمة على أدلة الضمان ، لكونها موجبة لتبدل الموضوع الموجب للضمان ، فإنّ موجبه وهو اليد العدوانية يتبدل بسبب الوكالة بالأمانية ، فإذا صارت يد الغاصب أمانيّة ارتفع الضمان. ولا فرق في الحكم بارتفاع الضمان بين الوكيل الغاصب وغيره كما هو مقتضى إطلاق أدلة الوكالة. وإلّا لم يكن وجه لخروج الوكيل غير الغاصب أيضا ، لعدم كونه بالخصوص مورد الإجماع حتى يمتاز به عن الغاصب كما لا يخفى.

ثمّ الظاهر أنّ المراد بالتأدية إلى المالك هو جعله مستوليا عليه. فكما أنّ مجرّد وضع اليد على ثوب الغير ليس غصبا له ، فكذلك مجرّد وضع المالك يده على ما غصب منه من دون استيلائه عليه ـ كما إذا وضع يده على ثوبه الذي غصبه غاصب ـ ليس رافعا للغصب ومصداقا للتأدية الرافعة للضمان. فإذا غصب شخص نقدا من صرّاف ثم دفعه إلى ذلك الصرّاف لينقده لم يكن هذا الدفع ضدّا للغصب وتأدية للمغصوب حتّى يرتفع الضمان ، بل الغاصب ضامن له إذا تلف بآفة سماوية أو أخذه ثالث من يده ، لعدم حصول التأدية الرافعة للضمان.

والحاصل : أنّه لا يصدق التأدية إلى أحد إلّا إذا استولى عليه. ألا ترى أنّ تسليم النقد إلى الصرّاف لينقده لا يسمّى تأدية إليه.

هذا مضافا الى الإجماع المستنبط من تتبّع كلماتهم.


.................................................................................................

__________________

وإلى الأصل مع الإغماض عن دلالة الحديث ، فإنّ الاستصحاب يقضي ببقاء الضمان ما لم يحصل استيلاء المالك على المغصوب.

فتلخص : أنّ براءة ذمة الغاصب عن المغصوب منوطة باستيلاء المالك أو من يقوم مقامه عليه ولو قهرا وبدون اطّلاع الغاصب وإذنه ، كما إذا أخذه المالك بالقهر والغلبة واستولى عليه. فالمدار في حصول البراءة ـ وسقوط الضمان ـ على وصول المال إلى مالكه على وجه يكون مستوليا عليه. وهذا المعنى يتحقق قطعا بما إذا دفع المغصوب الى المغصوب منه بعنوان أنّه ماله وملكه ليتصرّف فيه كتصرف سائر الملّاك في أملاكهم كما اختاره الشهيد الثاني قدس‌سره قائلا : «بأنّ التسليم التام إلى المالك الموجب لارتفاع الضمان هو التسليم بهذا النحو» (١).

وأمّا إذا دفع إليه بنحو آخر كعنوان الأمانة المضمونة كالعارية المضمونة ، أو عارية الذهب والفضة مطلقا ، أو غير المضمونة كالوديعة ، أو بعنوان التمليك الضماني كالبيع منه ، أو الهبة المعوّضة أو الإجارة أو الصلح غير المحاباتي أو نحو ذلك أو التمليك المجّاني كالهبة غير المعوّضة ، ففي كونه رافعا للضمان إشكال.

والتحقيق أن يقال : إنّ رافع الضمان هو التأدية التي هي أمر عرفي ، فلا بدّ من تحقق التأدية عرفا. والظاهر تحققا باستيلاء المالك على التصرفات في العين ، بحيث يكون تصرّفه فيها مستندا إلى مالكيّته لها ولو بزعم ملكية جديدة. فالاختلاف في موجبات الملكية لا يمنع عن صدق التأدية ، فإذا دفع المغصوب إلى مالكه بعنوان التمليك الضماني أو المجّاني كان ذلك ردّا للمال إلى مالكه ، لأنّ التأدية مقدمة للوصول إلى المالك بنحو يكون مستوليا عليه ومتصرفا فيه تصرف الملّاك في أملاكهم ، كما كان متصرفا فيه قبل غصب الغاصب. فالتأدية مقدّمة لعود السلطنة التامة التي كانت ثابتة للمالك ، فلا تصدق التأدية على ردّ المال إلى مالكه بعنوان الوديعة أو العارية ، لعدم كونهما موجبين لعود سلطنة المالك ، إلّا إذا علم بالحال. فحينئذ لا يكون قبول المالك

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ٢٠٥ ؛ الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٥٥.


.................................................................................................

__________________

قبولا للوديعة والعارية ، فلا يتحقق عقداهما.

وعلى كلّ حال إذا شك في كون الرّدّ تأدية رافعة للضمان فالاستصحاب يقضي ببقاء الضمان كما لا يخفى.

واعلم أنّ في حكم التأدية الرافعة للضمان إتلاف المالك لما غصب منه إذا كان موجبا لضمانه لو تعلّق بغير ماله.

توضيحه : أنّ إتلاف المالك تارة يكون بنحو يوجب الضمان لو كان المال لغيره ، كما إذا اعتقد أنّ المتاع الفلاني مال زيد ، فغصبه وأتلفه ، ثم تبيّن أنّه له.

وأخرى بنحو لا يوجب الضمان ، كإتلاف الضيف ما قدّمه المضيف إليه من الطعام بالأكل ، فإنّ هذا الإتلاف لا يوجب الضمان ، فلو غصب زيد شاة عمرو ثم أطعمه إيّاها بعنوان الضيافة ، فحينئذ وإن استولت يد المالك على ماله وأتلفه بالأكل ، لكنّه لا يوجب سقوط ضمان الغاصب ، لتغريره للمالك. بل يتأكد الضمان بقاعدة الغرور ، ولذا يستقر الضمان على الغارّ لو أكل المغرور مال ثالث بتغريره.

واتّضح ممّا ذكرنا سرّ ما أفاده الشهيد قدس‌سره في اللمعة وغيره من الفقهاء من : أنّه لو غصب شاة فأطعمها المالك مع جهل المالك بكونها شاته ضمنها الغاصب (١).

فالمتحصل : أنّ إتلاف المالك على الوجه الأوّل ـ وهو اعتقاد المالك بكون المال لغيره ، فأتلفه بقصد الإضرار بمالكه ـ يرفع ضمان الغاصب. بخلاف ما إذا كان على الوجه الثاني ، فإنّه لا يرفعه.

ولو باع المغصوب من مالكه وشرط عليه إتلافه اليوم ، فاشتراه وأحرقه ، فهل يعدّ هذا من الغرور حتى لا يسقط الضمان ، أم لا؟ فيه وجهان ، أظهرهما صدق الغرور عليه عرفا.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالنبويّ المشهور. وقد علم مما ذكر وجه دلالته على الحكم الوضعي أعني به ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، والله العالم.

__________________

(١) راجع الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٥٤ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٥٧ و ٢٠٥ ؛ شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٢.


ويدلّ على الحكم المذكور (١)

______________________________________________________

الدليل الثالث : أخبار ضمان منفعة الأمة المسروقة

(١) وهو ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ، وهذا دليل ثالث على المدّعى ، ومحصّله استظهار الحكم بضمان الأصل بالأولوية من ضمان المنافع غير المستوفاة ، توضيحه : أنّه ورد في عدّة روايات (١) السؤال عن حكم شراء جارية من السوق ، وأنّه استخدمها أو استولدها المشتري ، ثم تبيّن كونها مسروقة ، وقد ظفر بها مالكها. فأجاب عليه‌السلام بأنّ المشتري يأخذ ولده ، ويردّ الجارية وقيمة الولد إلى مالكها.

وتقريب الاستدلال بها على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو : أنّ جواب الامام عليه‌السلام متضمن لحكمين ، أحدهما : وجوب ردّ الجارية ، وهو مقتضى فرض فساد البيع ، وثانيهما : ـ وهو محل الشاهد ـ كون المشتري ضامنا لقيمة الولد.

والاستدلال بهذا الحكم على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد يتوقف على مقدمتين :

الأولى : إثبات كون موجب الضمان هو اليد ، لا غيرها من موجباته كالإتلاف والاستيفاء والتسبيب.

الثانية : إثبات أولويّة ضمان الجارية من ضمان نمائها.

أمّا الأولى فبيانها : أنّ الضمان مستند إلى التلف الحكمي لا إلى الإتلاف والتسبيب والاستيفاء ، وذلك لوضوح أنّ الجارية ومنافعها مملوكة لسيّدها ، ومن منافعها قابليتها للاستيلاد ، فمن استوفى شيئا من منافعها من كنس وطبخ وخياطة ووطي كان ضامنا لبدلها للمالك ، كضمان من يلقي البذر في أرض الغير ويزرعه فيها ، فإذا استولدها المشتري كان الولد منفعة لها ، لكنّه لم يستوف هذه المنفعة ، لأنّ الولد ينعقد حرّا بحكم الشارع تبعا لأبيه ، ولا ينعقد رقّا حتى يقابل بالمال. وعليه فحكمه عليه‌السلام بضمان نمائها ـ وهو الولد ـ إنّما هو لتلفه على مالك الجارية بسبب حرّيّته

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ـ ٥٩٠ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء.


أيضا (١) قوله عليه‌السلام في الأمة المبتاعة ـ إذا وجدت مسروقة ، بعد أن أولدها المشتري ـ «أنّه يأخذ الجارية صاحبها ، ويأخذ الرجل ولده بالقيمة» (٢)

______________________________________________________

التي هي بحكم التلف السماوي.

فإن قلت : إنّ المشتري بمباشرته للجارية ألقى نطفة الحرّ في رحمها وأتلف على مالكها قابليّتها لأن تصير حاملة بالرّق ، فيكون ضمان قيمة الولد مستندا إلى إتلاف نماء الأمة لا إلى التلف ، لأنّه نظير منع المستأجر أو المالك عن السكنى في الدار ، فإنّ المانع ضامن لاجرة المثل.

قلت : الإتلاف هو إعدام الموجود عن صفحة الوجود ، وهذا غير صادق في المقام ، إذ المشتري بمباشرته معها أحدث نماء لها غير قابل للتملّك ، وعدم تملكه لا يستند إليه ، بل إلى حكم الشارع بحرّيّة الولد تبعا لأبيه في الحرّية ، فلم يبق إلّا أن يكون ضمان قيمة الولد لأجل تلف النماء حكما ، وهو كالتلف الحقيقي السماوي في اقتضائه للضمان.

ويشهد له أن المضمون هو قيمة الولد ، لا قيمة منفعة الجارية وهي قابليّتها للاستيلاد. هذا تقريب كون الضمان للتلف لا الإتلاف.

وأمّا الثانية ـ وهي أولوية ضمان العين من ضمان النماء ـ فواضحة ، لأنّ اليد على المنفعة تابعة لليد على العين ، فإذا حكم الشارع بضمان اليد التابعة فاليد المتبوعة المتأصلة أولى بالضمان قطعا.

هذا بيان الاستدلال بهذه الطائفة على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.

(١) يعني : كما دلّ الإجماع وحديث «على اليد» على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.

(٢) هذا مفاد مرسلة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجل اشترى جارية فأولدها ، فوجدت مسروقة ، قال : يأخذ الجارية صاحبها ، ويأخذ الرجل


فإنّ (١) ضمان الولد بالقيمة ـ مع كونه (٢) نماء لم يستوفه المشتري ـ يستلزم ضمان

______________________________________________________

ولده بقيمته» (١).

وبهذا المضمون روايات أخرى ، منها معتبرة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في الرّجل يشتري الجارية من السوق ، فيولدها ، ثم يجي‌ء مستحقّ الجارية ، قال : يأخذ الجارية المستحقّ ، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ، ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه» (٢). وكان الأولى الاستدلال بهذه المعتبرة لا بالمرسلة ، ولعلّ نظر المصنف إلى وحدة المضمون المتضافر نقله ، لا إلى خصوصيّة الخبر المتكفّل للحكم ، فتأمّل.

(١) هذا تقريب الاستدلال ، وقد تقدم آنفا ، ومحصّله : أنّ ضمان المنفعة ـ غير المستوفاة ـ للمقبوض بالبيع الفاسد يستلزم بالأولويّة ضمان الجارية لو تلفت بيد المشتري.

(٢) أمّا كون الولد نماء ومنفعة للجارية فواضح ، لأنّه قد تكوّن في رحمها. وأمّا أنّ المشتري لم يستوف هذه المنفعة الخاصة كما استوفى سائر خدماتها من كنس وطبخ وخياطة وشبهها فلأنّ الولد تابع لوالده في الحرّيّة ، فهو من حين انعقاد نطفته يتكوّن حرّا ، ومن المعلوم أنّ الحرّ لا يقوّم بالمال.

وعليه فغرض المصنف من قوله : «لم يستوفه» هو دفع ما توهّمه بعضهم من أنّ ضمان المشتري لقيمة الولد يكون لأجل استيفاء منفعة رحم الأمة بإشغاله بنطفته التي هي نطفة حرّ ، كما يضمن قيمة سائر منافعها المستوفاة ، فتكون الرواية أجنبيّة عن ضمان المقبوض بالبيع الفاسد إذا تلف بيد القابض ، لدلالتها على الضمان باستيفاء المنفعة ، وهو ممّا لا ريب فيه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٥.


الأصل بطريق أولى (١).

وليس (٢) استيلادها من قبيل إتلاف النماء (٣) بل من قبيل إحداث

______________________________________________________

وأجاب عنه المصنف بمنع صدق الاستيفاء هنا ، لعدم انتفاع المشتري منها بالولد ، ضرورة عدم مقابلة الحرّ بالمال. وبهذا يظهر الفرق بين الاستيلاد وبين منافعها الأخرى ، لصدق الاستيفاء عليها ، فتكون مضمونة بأجرة المثل ، بخلاف الاستيلاد.

(١) لما عرفت من أنّ اليد على المنافع تكون بتبع اليد على العين ، فإذا كانت اليد التابعة مضمّنة فالأصلية أولى بالتضمين.

(٢) غرضه قدس‌سره دفع إشكال ، محصّله : عدم ارتباط ضمان النماء بما نحن فيه ـ وهو ضمان التلف باليد ـ حتى يصحّ الاستدلال به على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، وذلك لأنّ مورد الرواية ضمان الإتلاف لا التلف ، وبيانه : أنّ استيلاد الجارية أتلف منفعتها على مالكها ، لأنّ رحمها كان مستعدّا لانماء نطفة الرّق ، وقد سلب المشتري عنه ذلك بإشغاله بنطفته. وبهذا يصدق الإتلاف ، ولا يتوقف صدقه على فعليّة النماء ، بشهادة أنّ من سقى أشجار الغير ـ المستعدة للإثمار ـ بماء مالح يمنعه عن الاثمار يصدق عليه عرفا أنّه أتلف ثمرها. وكذا في المقام ، فإنّ الاستيلاد بمنزلة إتلاف النماء ، لانعقاده حرّا ، هذا.

وقد دفعه المصنف قدس‌سره بمنع صدق الإتلاف ـ الذي هو إعدام الموجود ـ هنا ، إذ ليس للجارية نماء موجود حتّى يتلفه المشتري. بل أحدث فيها نماء غير قابل لأن يتملّكه مالك الجارية ، حيث إن حرّية المشتري منعت ـ شرعا ـ عن انعقاد ولده رقّا. وليس مستند عدم دخوله في ملك مالكها فعل المشتري حتى يضاف التلف إليه ، ويصير هو المتلف له. ولمّا كان الولد بمنزلة التلف على المالك كان ضمان قيمته مقتضيا لضمان التالف الحقيقي بالأولويّة.

(٣) حتى يكون أجنبيّا عن المدّعى وهو ضمان اليد.


المشتري نماءها غير (١) قابل للملك ، فهو كالتالف (٢) لا كالمتلف (٣) ، فافهم (٤) (*).

______________________________________________________

(١) حال ل «إحداث» يعني : أحدث المشتري باستيلادها نماء غير قابل للدخول في ملك مالك الجارية ، وعدم دخول هذا النماء الخاصّ في ملكه يستند إلى حكم الشارع بحرّية الولد ، لا إلى وطي المشتري لها.

(٢) أي : التالف بالتلف السماوي ، وهو مورد ضمان اليد.

(٣) حتى يكون موردا لإتلاف مال الغير ، فقاعدة الإتلاف أجنبية عنه.

(٤) لعلّه إشارة إلى : دعوى إمكان صدق الإتلاف على مورد الرواية ، فلا يصحّ الاستدلال بها على المقام.

أو إلى : أنّ الاستيلاد إشغال لها بالولد ، فهو استيفاء لنمائها ، فيكون الولد مضمونا بقاعدة الاستيفاء ، لا باليد التي هي مورد البحث ، هذا.

إلّا أن يقال : إنّ الولد من منافع الجارية ، وليس إشغالها بالمحلّ منفعة لها عرفا ، ولذا تضمّنت الرواية قيمة الولد لا قيمة الأشغال.

أو يقال : إنّ الضمان في مورد الرواية إنّما هو لأجل تسليط الغاصب ، بخلاف المقبوض بالعقد الفاسد ، فإنّ التسليط فيه من نفس المالك وإذنه ولو بعنوان الوفاء بالعقد ، فالضمان في مورد الرواية لا يقتضي الضمان في المقام.

إلّا أن يدّعى القطع بكون مناط الضمان فساد العقد ، وهو جار في المقام ومورد الرواية.

لكن هذه الدعوى لا تخلو عن مجازفة.

__________________

(*) لا يخفى أنّه اختلفت أنظار الأعلام قدس‌سرهم في موجب الضمان في النصوص المتكفلة لضمان قيمة الولد ، فاختار المصنّف أنّه التلف الحكمي ، ووافقه المحقق النائيني قدس‌سره ببيان آخر سيأتي التعرّض له ، ورجّح السيد والمحقق الأصفهاني قدس‌سرهما أنّه إتلاف منفعة الرّحم ، واحتمل المحقق الايرواني قدس‌سره كلّا من الاستيفاء والإتلاف.


.................................................................................................

______________________________________________________

فلعلّ الأولى أن يكون الأمر بالفهم إشارة إلى : أنّ الوطي إذا كان مانعا عن صدق الإتلاف على حدوث الولد غير قابل للملك ، فلا محالة يكون مانعا أيضا عن صدق الضمان باليد ، ضرورة أنّ التلف تحت اليد إنّما يوجب الضمان باليد إذا كان التالف ملكا للمضمون له. ومن المعلوم أنّ الولد ليس كذلك ، لعدم كونه ملكا لصاحب الجارية ، فلا تكون الرواية شاهدة لما نحن فيه من ضمان المأخوذ باليد ، بل تدلّ على ضمان الولد بسبب تعبّديّ غير الأسباب المعروفة. بل عدم تعرّض الرواية لضمان منافع الأمة من حين الشراء إلى زمان الرّدّ يومي إلى عدم ضمان الرّدّ بالنسبة إلى المنافع.

فالمتحصل : أنّ الروايات الدالة على ضمان قيمة الولد لا تدلّ على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ضمان اليد.

__________________

أمّا المحقق النائيني فقد أفاد في تقريب استناد الضمان إلى التلف ـ لا إلى الإتلاف والاستيفاء والتسبيب ـ ما حاصله : «أنّ استيلاد الأمة ليس داخلا تحت العناوين المذكورة ، لعدم استيفاء المشتري منفعة الأمة ، فإنّ استيفاء المنافع إنما هو من قبيل الركوب على الدابة والسكنى في الدار وأكل الثمرة وشرب لبن الشاة ووطي الجارية ونحوها ، وليس الولد منفعة لها ، ولا ممّا كان المشتري سببا لإتلافها ، إذ ليس الولد ملكا لمالك الأمة حتّى يكون المشتري سببا لإتلافه. وعدّ العرف إيّاه منفعتها لا اعتبار به ، لعدم كون نظره متّبعا في تشخيص المصاديق. نعم أوجد المشتري سبب فوت النماء على المالك ، لأنّ وطيه ـ الذي استلزم الحمل ـ صار سببا لفوت المنفعة عليه ، لكن لا ضمان على من منع المالك من التصرّف حتى تلفت المنفعة. وعليه فضمان قيمة الولد لكونه حرّا إنّما هو من جهة تبعية المنافع التالفة للعين المغصوبة ، فيدلّ الخبر على ضمان العين ، لا للأولوية ، بل لأنّ ضمان العين صار سببا لضمان التالف» (١).

أقول : ما أفاده قدس‌سره مخالف لما استظهره المصنّف قدس‌سره من وجهين : أحدهما : إنكار

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٧ و ١١٨.


.................................................................................................

__________________

كون الولد منفعة للجارية ، والآخر : إنكار الأولوية ، وجعل ضمان قيمة الولد مسبّبا عن ضمان العين المغصوبة. وصرّح في آخر كلامه بأنّ حكم الشارع بحرّية الولد تلف حكمي ملحق بالتلف الحقيقي.

أمّا إنكار كون الولد نماء للأمة ـ لعدم تبعية نظر العرف المسامحي في مقام تعيين المصاديق ـ فغير ظاهر ، لصدق المنفعة عليه حقيقة ، خصوصا بملاحظة إطلاق الانتفاع على الولد في ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حكم الجارية المسروقة التي استولدها المشتري : «يردّ إليه جاريته ، ويعوّضه بما انتفع ، قال : كان معناه قيمة الولد» (١) والظاهر أنّ تفسير عوض المنفعة بقيمة الولد من زرارة ، والمهمّ إطلاق المنفعة المستوفاة على الاستيلاد ، إذ لم يذكر في هذه الرواية استيفاء منفعة أخرى من منافع الجارية. وهذا المقدار كاف في عدم العناية والمسامحة في إطلاق المنفعة على الولد.

لكن هذه الرواية ربّما تشكل الأمر على المصنّف قدس‌سره أيضا ، فإنّه وإن اعترف بكون الولد نماء للجارية ، إلّا أنّه ادّعى عدم استيفاء المشتري له ، مع أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «بما انتفع» بل صريحه كون الولد منفعة مستوفاة ، هذا.

وأمّا إنكار الأولويّة فغير ظاهر أيضا ، لما سيأتي في بحث ضمان المنافع المستوفاة من تأمّل بعضهم في صدق الأخذ عليها ، واختصاص حديث اليد بما يقبل الرّدّ إلى مالكه وهو العين. وحينئذ فإذا حكم الشارع بضمان قيمة الولد الذي هو من قبيل منفعة الجارية كان ضمان نفسها ثابتا بالأولويّة ، مع اعترافه بتسبّب ضمان المنفعة عن ضمان العين ، لليد.

نعم يمكن أن يكون نظر المصنّف الى أنّ الانتفاع لا يختص بما يقوّم بالمال حتى يصدق الانتفاع المالي على الولد ، بل هو أعم من المال والاعتبارات العرفية كتحصيل الوجاهة بين الناس ، ولا شكّ في أن الولد منفعة بهذا المعنى.

هذا مضافا إلى غموض قياس الاستيلاد بمنع المالك عن استيفاء منفعة ملكه ، مع

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩١ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢.


.................................................................................................

__________________

ما في المقيس عليه من الاشكال ، لما ذكرناه في ضمان حبس الحرّ الكسوب من أن تفويت المنافع مضمّن كاستيفائها. والوجه في فساد القياس أنّ الوطي ليس سببا للحمل ، وإنّما هو معدّله ، فتسميته سببا كما ترى. هذا بعض ما يتعلق بكلام المحقق النائيني قدس‌سره.

وأمّا كون الضمان للإتلاف فقد ذكرنا تقريبه في التوضيح عن المحقق الايرواني قدس‌سره (١) ، ومحصّله : إتلاف منافع الرّحم ، ومثّل له بضمان من سقى أشجار الغير بماء مالح منع من إثمارها ، لاستناد التلف إلى فعله.

وقريب منه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره ، من «أن النطفة وإن كانت من الرّجل ، إلّا أنّها كانت مكمّلة بدم الامّ ، وكانت تكوّنها حيوانا بالقوى المودعة في الرّحم ، فكان صيرورتها حيوانا من قبل الأمّ ، فقد أتلفها الرّجل على الأب [على المالك] خصوصا إذا قيل بتكوّنه من نطفة المرأة ، وكان اللقاح من الرّجل» (٢).

لكن لا يخلو ما أفاداه من الغموض ، فإنّ الإتلاف يقتضي ضمان الدم التالف وقوى الرّحم ، مع أن المضمون في النصوص قيمة الولد. ودعوى «كون قيمة الولد تقديرا لما أصاب من منافع رحمها ولبنها ، فالمضمون حقيقة هي المنفعة التي أتلفها المشتري بالاستيلاد» ممنوعة بأنّه لا شاهد لهذا الحمل ، فيكون تخرّصا على الغيب.

بل يشهد بخلافه ما ورد في رواية أخرى لزرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه ، فولدت منه أولادا ، ثم أتاها من يزعم أنّها له ، وأقام على ذلك البيّنة. قال : يقبض ولده ، ويدفع إليه الجارية ، ويعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها» (٣) للتصريح بضمان خدمتها مضافا الى ضمان الولد. وعليه فالأقرب ما اختاره المصنّف من كون الضمان للتلف الحكمي لا لسائر موجباته.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٣.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٥.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٤.


ثمّ إنّ هذه المسألة (١) من جزئيات القاعدة المعروفة (٢) «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده (٣). وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

وهذه القاعدة أصلا وعكسا (٤) وإن لم أجدها بهذه العبارة في كلام

______________________________________________________

الدليل الرابع : قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»

(١) الظاهر أنّ غرضه قدس‌سره من التعرّض لقاعدة «ما يضمن» هنا هو إقامة دليل رابع على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ، لكونه من صغريات قاعدة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» المقتضية لاتحاد حكم العقد الصحيح والفاسد في الضمان ، وحيث إنّ البيع الصحيح يقتضي ضمان المشتري بالثمن ، والبائع بالمثمن ، فكذا فاسده.

والأمر كما أفاده قدس‌سره لو تمّت هذه القاعدة في نفسها بأن كانت مجمعا عليها أو دلّ عليها قاعدة الإقدام كما سيأتي نقله عن المسالك. وأمّا إذا كان الدليل عليها قاعدة اليد كما يظهر من المسالك أيضا لم تكن قاعدة «ما يضمن» دليلا مستقلا على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، إذ المدار حينئذ على ما يستفاد من نفس حديث «على اليد» وبناء على هذا يكون تعرّض المصنّف قدس‌سره لهذه القاعدة هنا مماشاة للأصحاب ، حيث يظهر من بعضهم إرسال القاعدة إرسال المسلّمات.

(٢) قال الفقيه المامقاني قدس‌سره : «وصف القاعدة في الرياض بالشهرة ، وفي كتاب الإجارة منها بكونها متّفقا عليها. وفي شرح القواعد بالشهرة وبكونها مجمعا عليها ، وكونها موافقة للقواعد الشرعية» (١).

(٣) لا يخفى أنّ مورد الاستدلال هنا هو هذه الجملة لا عكسها ، إذ المقصود مضمنيّة قبض المبيع بالعقد الفاسد كالمقبوض بصحيحه.

(٤) التعبير بالعكس مسامحة ، وأطلق المحقق الثاني قدس‌سره العكس على أصل القاعدة ، فقال في عدم ضمان المستأجر للعين ـ سواء أكانت الإجارة صحيحة أم فاسدة ـ : «أمّا الصحيحة فظاهر ، للقطع بأنّ ذلك من مقتضياتها. وأمّا الفاسدة

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٧٥


من تقدّم على العلّامة (١) ،

______________________________________________________

فلأنّ كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وبالعكس» (١) فيكون مراده بالعكس هو أصل قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

وكيف كان فإطلاق العكس على «ما لا يضمن» مسامحة ، لعدم انطباق شي‌ء من العكس المستوي وعكس النقيض عليه. أما الأوّل فلأنّه تبديل طرفي القضية مع بقاء الكيف على حاله. وكلاهما مفقود في المقام ، لعدم تبدل الموضوع والمحمول ، ولعدم تغيير الكيف من الإيجاب إلى السلب ، لقولهم : «لا يضمن بفاسده».

وأمّا الثاني فلأنّ عكس النقيض هو تبديل نقيضي الطرفين مع الاختلاف في الكيف. ووجه عدم صدقه على قاعدة «ما لا يضمن» هو : أنّ الكيف وإن كان مختلفا ، إلّا أن التبديل مفقود ، فالصواب التعبير بالنقيض دون العكس. أو التعبير بما في الجواهر (٢) من المفهوم تارة كما في بيعه ، والسالبة أخرى كما في إجارته.

(١) قال في رهن التذكرة : «إذا فسد الرّهن وقبضه المرتهن لم يكن عليه ضمان ، لأنّه قبضه بحكم أنّه رهن. وكلّ عقد كان صحيحه غير مضمون ففاسده أيضا كذلك. وكلّ عقد كان صحيحه مضمونا ففاسده مثله. أمّا الأوّل فلأنّ الصحيح إذا أوجب الضمان فالفاسد أولى باقتضائه. وأمّا الثاني فلأنّ من أثبت اليد عليه أثبته عن إذن المالك ، ولم يلتزم بالعقد ضمانا ، ولا يكاد يوجد التسليم والتسلّم إلّا من معتقدي الصحة» (٣).

ولا يخفى وقوع السهو في العبارة ـ ولعلّه من الناسخ ـ فإنّ المناسب تبديل «أمّا الأوّل» ب «أمّا الثاني» لأن الأوّل في استدلاله هو قوله : «وكلّ عقد كان صحيحه غير مضمون ففاسده أيضا كذلك». وكذا ينبغي تبديل قوله «وأمّا الثاني» ب «وأمّا الأوّل». والأمر سهل.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٢٥٨.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٩ وج ٢٧ ، ص ٢٥٢.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٢ ، ولاحظ كلامه في كتاب الإجارة ، ج ٢ ، ص ٣١٨.


إلّا (١) أنّها تظهر من كلمات الشيخ رحمه‌الله في المبسوط ، فإنّه علّل الضمان في غير واحد من العقود الفاسدة «بأنّه دخل على أن يكون المال مضمونا عليه» (٢).

______________________________________________________

وقد تعرّض قدس‌سره أيضا لذكر القاعدتين في إجارة التذكرة.

هذا كلّه في ورود القاعدة في كلام العلّامة.

وأمّا ورودها في كلمات من تأخّر عنه كالشهيد والمحقق الثانيين والمحقق الأردبيلي وغيرهم قدس‌سرهم فكثير ، وسيأتي نقل بعض عبائرهم في المتن.

(١) غرضه من هذا الاستدراك أنّ قاعدة «ما يضمن» أصلا وعكسا وإن لم ترد بهذه الألفاظ في كلام من تقدّم على العلّامة ، لكنّها تظهر من كلمات شيخ الطائفة قدس‌سره ، وعلى هذا تكون القاعدة جارية على ألسنة القدماء أيضا ، وليست متداولة بين المتأخرين خاصّة. أمّا أصل القاعدة فتستفاد من مواضع من غصب المبسوط. وأمّا عكسها فيستفاد من كتاب الرّهن.

(٢) كقوله في ضمان المقبوض بالبيع الفاسد : «فإن كان المبيع قائما ردّه ، وإن كان تالفا ردّ بدله ، إن كان له مثل ، وإلّا قيمته. لأنّ البائع دخل على أن يسلم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه ، فإذا لم يسلم له المسمّى اقتضى الرجوع إلى عين ماله. فإذا هلكت كان له بدلها. وكذلك العقد الفاسد في النكاح يضمن المهر مع الدخول ، وكذلك الإجارة الفاسدة. الباب واحد» (١).

وقال في موضع آخر : «وهكذا كلّ ما كان قبضا مضمونا ، مثل أن يأخذه على سبيل السّوم ، أو على أنّه بيع صحيح ، أو كان ثوبا فأخذه على أنّه عارية مضمونة ، فكلّ هذا يستقرّ عليه ، لأنّه دخل على أنه مضمون عليه ، فلم يكن مغرورا فيه» (٢).

وقال أيضا : «لأنّه ـ أي المشتري ـ دخل على أنّ العين عليه مضمونة بالبدل» (٣).

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٦٥.

(٢) المصدر ، ص ٨٩.

(٣) المصدر ، ص ٨٥.


وحاصله (١) (*) : أنّ قبض المال مقدما على ضمانه بعوض واقعي أو جعلي موجب للضمان. وهذا المعنى (٢) يشمل المقبوض بالعقود الفاسدة التي تضمن بصحيحها (٣).

______________________________________________________

(١) يعني : وحاصل تعليل الضمان في جملة من العقود الفاسدة ـ بالدخول على الضمان ـ هو : أنّ وضع اليد على مال الغير موجب للضمان إذا كان مقترنا بالبناء على التعهّد ببدله الواقعي ، كما في المقبوض بالسّوم ، أو ببدله الجعلي المسمّى كما في العقود المعاوضية الصحيحة. وهذا الاقدام يمكن أن يكون دليلا على ما ذكره العلّامة والمتأخرون عنه من قولهم : «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» الظاهر في جعل الملازمة في مضمّنية العقد المعاوضي بين صحيحه وفاسده. وعلى هذا فقاعدة «ما يضمن» وإن لم يصرّح بها في كلام من تقدّم على العلّامة قدس‌سره ، إلّا أنها مذكورة في المبسوط تلويحا.

(٢) أي : الدخول على الضمان والاقدام عليه ، ومقصود المصنّف قدس‌سره استظهار جريان قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» في جميع العقود التي توجب صحيحها ضمانا. والوجه في التعميم ـ مع كون كلام الشيخ قدس‌سره مختصا ببعضها كالبيع والإجارة ـ هو جريان الاقدام على الضمان في كل عقد مبني على تعهّد الآخذ حتى في العارية المشروط فيها الضمان أو عارية الذهب والفضة ، فإنّها وإن لم تكن معاوضة ، إلّا أنّ الاستيلاء على العين مبنيّ على الضمان ، هذا.

(٣) كالصلح المتضمن للمعاوضة ، وكالهبة المشروط فيها العوض ، بناء على عدم اختصاص اقتضاء الضمان بنفس العقد ، وشموله للاقتضاء العرضي ، على ما سيأتي في المتن.

__________________

(*) ظاهر هذا التعليل كون سبب الضمان الاقدام ، لكن ظاهر قولهم : «كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» هو سببية نفس العقد كالإتلاف للضمان ، فاستظهار قاعدة «ما يضمن» من هذا التعليل الذي ذكره الشيخ قدس‌سره في المبسوط محل نظر.


وذكر (١) أيضا في مسألة عدم الضمان في الرّهن الفاسد «أنّ صحيحه لا يوجب الضمان ، فكيف بفاسده؟»

______________________________________________________

(١) غرضه استظهار قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» من كلام شيخ الطائفة في رهن المبسوط ، فيما إذا فسد الرهن لاشتماله على شرط فاسد ، قال قدس‌سره : «إذا رهن رجل عند غيره شيئا بدين إلى شهر ، على أنّه إن لم يقبض إلى محلّه كان بيعا منه بالدين الذي عليه ، لم يصحّ الرّهن ، ولا البيع إجماعا ، لأنّ الرّهن موقّت والبيع متعلّق بزمان مستقبل. فإن هلك هذا الشي‌ء في يده في الشهر لم يكن مضمونا عليه ، لأنّ صحيح الرّهن غير مضمون فكيف فاسده؟ وبعد الأجل فهو مضمون عليه ، لأنّه في يده بيع فاسد ، والبيع الصحيح والفاسد مضمون عليه إجماعا» (١).

والشاهد في قوله : «لأنّ صحيح الرّهن غير مضمون فكيف فاسدة» إذ يستفاد منه الملازمة في عدم الضمان بين الرهن الصحيح والفاسد. وحيث إنّه لا خصوصية في عقد الرّهن أمكن استظهار القاعدة الكليّة ، يعني : أنّ كل عقد صحيح لا يقتضي الضمان ففاسده مثله.

وقد تحصّل إلى هنا استظهار أصل القاعدة وعكسها من كلام شيخ الطائفة ، وإن كان تعبيره مغايرا لتعبير العلّامة ومن تأخّر عنه.

__________________

ثم إنّه قد يورد على الشيخ قدس‌سره بأنّ الإقدام بنفسه ليس علّة للضمان ، فلا يصح تعليل الضمان به. لكنّه يندفع بأنّ الاستدلال به ليس لأجل عليّته له ، بل للتنبيه على أنّه ليس بمانع عن تأثير المقتضي ـ وهو القبض ـ كما هو مورد كلامه في جميع الموارد التي استدلّ فيها على ثبوت الضمان مع فساد العقد ، فتعليل الضمان بالاقدام عليه من قبيل تعليل الشي‌ء بعدم المانع عن تأثير مقتضية.

والحاصل : أنّ في تعليل الشيخ دلالة على الملازمة بين الضمان والاقدام وجودا وعدما.

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٢٠٤.


وهذا (١) يدلّ على العكس المذكور.

ولم أجد (٢) من تأمّل فيها عدا الشهيد (٣) في المسالك فيما لو فسد عقد السبق ، فهل يستحق السابق أجرة المثل ، أم لا (٤)؟

______________________________________________________

(١) يعني : قول الشيخ : «انّ صحيحه لا يوجب الضمان فكيف فاسده» يدلّ على العكس المذكور.

(٢) مقصوده من هذه الجملة : أنّ ظاهرهم الاتفاق على الأصل والعكس المذكورين ، إلّا أنّ المخالف هو الشهيد الثاني قدس‌سره حيث تأمّل في أصل القاعدة أي : «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» في كتاب السبق والرماية ، وهذا التأمّل قادح في دعوى الإجماع على الأصل المذكور.

(٣) وكذا المحقق الأردبيلي في ضمان المقبوض بالسوم وبالعقد الفاسد ، حيث ناقش في دليل الضمان ـ من حديث على اليد وقاعدة ما يضمن ـ بقوله : «وصحتهما غير ظاهر ، والأصل يقتضي العدم» (١).

(٤) توضيحه : أن المحقق قدس‌سره فصّل ـ في ما لو تبيّن بعد المسابقة فساد العقد ـ بين كون منشأ الفساد اختلال شرط ممّا يتوقف عليه صحة العقد كتعيين مبدأ المسافة ومنتهاها ، وتعيين ما يسابق عليه ، وتساوي ما به السباق ، وغير ذلك ، وبين كونه مغصوبية العوض وعدم مملوكيته لمن عليه بذله ، فإنّ العقد يقع صحيحا ويتوقف على إجازة المالك ، ولو لم يجز وجب على الباذل مثله أو قيمته.

وأمّا إن كان الفساد من الجهة الأولى فقد نقل الشهيد الثاني قولين في المسألة :

أحدهما : أنّه لا شي‌ء للسابق ، وهو اختيار الشيخ والمحقق «ووجهه : أنّه لم يعمل له شيئا ، ولا فوّت عليه عمله ، ولا عاد نفع ما فعله إليه ، وإنّما فائدة عمله راجعة إليه. بخلاف ما إذا عمل في الإجارة والجعالة الفاسدتين ، فإنّه يرجع إلى أجرة مثل عمله ، لأنّ فائدة العمل للمستأجر والجاعل».

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٩٢.


وكيف كان (١) فالمهمّ بيان معنى القاعدة أصلا وعكسا ، ثم بيان المدرك فيها ، فنقول ومن الله الاستعانة :

______________________________________________________

والقول الآخر للعلّامة وجماعة من المتأخرين ، وهو وجوب أجرة المثل ، قال قدس‌سره : «لأنه عقد استحق المسمّى في صحيحه ، فإذا وجد المفقود عليه في الفاسد وجب عوض المثل. ولا نسلّم أنّ وجه وجوب اجرة المثل في العقدين ونظائرهما رجوع عمل العامل إلى من يجب عليه العوض ، لأنّ العمل في القراض قد لا ينتفع به المالك ، ومع ذلك يكون مضمونا».

ثمّ ناقش الشهيد الثاني في استدلال العلّامة مفصّلا إلى أن قال : «وقاعدة : أنّ كل ما كان صحيحه موجبا للمسمّى ففاسده موجب لأجرة المثل لا دليل عليها كلّيّة ، بل النزاع واقع في بعض مواردها ، فكلّ ما لا إجماع ولا دليل صالح يدلّ على ثبوت شي‌ء فالأصل يخالف مدّعي القاعدة» (١).

والشاهد في قوله : «لا دليل عليها كلّية» وهذا مقصود المصنّف من نسبة التأمّل في قاعدة «ما يضمن» إلى الشهيد الثاني.

ولا يخفى اختلاف كلماته ، فيظهر من مواضع من المسالك وبيع الرّوضة تسليم القاعدة وكلّيّتها ، كقوله في عدم ضمان المحرم المستعير للصيد : «أما مع صحته فالأصل في العارية أن تكون عندنا غير مضمونة .. وأمّا مع فسادها فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه ، كما أسلفناه في مواضع قاعدة كلّيّة» (٢).

(١) أي : سواء وجدت هذه العبارة في كلام من تقدّم على العلّامة أم لا؟ وسواء تمّ تأمّل الشهيد الثاني في عمومها أم لا؟ فالمهمّ .. إلخ. وهذا شروع في تحقيق أصل القاعدة الذي عدّ دليلا على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، والكلام يقع في مقامين ، أحدهما في ما يتعلق بالأصل ، والثاني في ما يتعلق بالعكس.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ١٠٩ و ١١٠.

(٢) مسالك الافهام ، ج ٥ ، ص ١٣٩.


إنّ المراد بالعقد (١) أعمّ من الجائز واللازم ، بل ممّا كان فيه شائبة الإيقاع أو كان أقرب اليه.

______________________________________________________

والكلام في المقام الأوّل يقع في جهات :

الجهة الأولى : في معاني ألفاظ القاعدة ، وهي متضمنة لأبحاث :

الأوّل : في شمول العقد للعقد الجائز وعدم اختصاصه بالعقد اللازم.

الثاني : في معنى الضمان.

الثالث : في أنّ عموم «كل عقد» يكون بلحاظ الأنواع أو الأصناف أو الأفراد.

الرابع : في أنّ اقتضاء العقد الصحيح للضمان هل يختص بذات العقد أم يعم الاقتضاء العرضي الناشئ من الشرط في ضمن العقد؟

الخامس : في أنّ الباء في قولهم : «بصحيحه» سببية أو ظرفية.

الجهة الثانية : في مدرك القاعدة ومستندها.

الجهة الثالثة : في أنّ ضمان المقبوض بالعقد الفاسد هل يختص بحال جهل الدافع بالفساد أم يعمّ صورة علمه به أيضا؟ وسيأتي الكلام في هذه المباحث بترتيب المتن إن شاء الله تعالى.

المبحث الأول : المراد بالعقد ما يشتمل على المعاوضة

(١) هذا شروع في البحث الأوّل من الجهة الأولى ، ومحصل ما أفاده : أنّ المراد بالعقد في قولهم : «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كلّ ما يشتمل على المعاوضة ، سواء أكان عقدا لازما كالبيع والصلح ، أم جائزا كالجعالة بناء على كونها عقدا لا إيقاعا ، وكالهبة المشروطة بالعوض. والوجه في الشمول وجود ملاك الضمان في كلّ من العقد اللازم والجائز.

بل يندرج في القاعدة بعض العناوين الاعتباريّة مما يحتمل كونه إيقاعا أو كان أقرب إلى الإيقاع ، وذلك كالجعالة والطلاق الخلعي ، فإنّه وإن ذهب جمع الى كونهما


.................................................................................................

______________________________________________________

من العقود ، إلّا أنّ القائل بكونهما من الإيقاعات موجود أيضا.

أمّا الجعالة فهي عند جمع كابن إدريس والعلّامة والشهيد والمحقق الثاني وغيرهم قدس‌سرهم عقد جائز. قال العلّامة : «الجعالة عقد جائز من الطرفين إجماعا ، لكلّ منهما فسخها قبل التلبّس بالعمل ، وبعده قبل تمامه ، لأنّ الجعالة تشبه الوصيّة من حيث إنّها تعليق بشرط ، والرجوع عن الوصية جائز ، وكذا ما يشبهها. وأمّا بعد تمام العمل فلا معنى للفسخ ، ولا أجر ، لأنّ الجعل قد لزم بالعمل» (١) هذا.

ولكن استظهر صاحب الجواهر ـ تبعا للشهيد الثاني ـ من عبارة الشرائع كونها إيقاعا ، قال المحقق : «أمّا الإيجاب فهو أن يقول : من ردّ عبدي أو ضالّتي أو فعل كذا فله كذا ، ولا يفتقر إلى قبول .. ويصح على كل عمل مقصود محلّل ، ويجوز أن يكون العمل مجهولا ، لأنّه عقد جائز كالمضاربة» (٢).

قال الشهيد الثاني قدس‌سره في شرحه : «قد اختلف كلام الأصحاب وغيرهم في الجعالة هل هي من قسم العقود أو الإيقاعات؟ والمصنف جعلها من الإيقاع وضعا وحكما ، حيث صرّح بعدم افتقارها إلى القبول ، وهو المطابق لتعريفهم لها ، حيث جعلوها التزام عوض على عمل. ويؤيّده عدم اشتراط تعيين العامل ، وإذا لم يكن معيّنا لا يتصور للعقد قبول ، وعلى تقدير قبول بعض لا ينحصر فيه إجماعا. ومنهم من جعلها من العقود ، وجعل القبول الفعلي كافيا فيها كالوكالة ، والمنفي هو القبول اللفظي. وهو ظاهر كلام المصنف فيما سيأتي حيث جعله عقدا جائزا. والظاهر أنّه تجوّز في ذلك ، إذ لو كان عقدا عنده حقيقة لذكره في قسم العقود لا في قسم الإيقاعات .. إلخ» (٣).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٢٨٨.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ١٦٣.

(٣) مسالك الأفهام ، ج ١١ ، ص ١٤٩ و ١٥٠.


.................................................................................................

______________________________________________________

واختار صاحب الجواهر كونها إيقاعا بقوله : «ولعلّه الأصح ، لما تسمعه من صحة عمل المميّز بدون إذن وليّه بعد وضعها ـ بل قيل في غير المميّز والمجنون وجهان ـ ومن المعلوم عدم صحة ذلك مع فرض اعتبار القبول فيها ولو فعلا ، لسلب قابلية الصبي والمجنون قولا وفعلا عن ذلك ، ولذا لا يجوز معه عقد من العقود الجائزة .. إلخ» (١).

وكأنّ هذه الوجوه أوجبت تردّد المصنّف في كون الجعالة عقدا جائزا ، واحتمل كونها إيقاعا ، ولذا قال : «ممّا كانت فيه شائبة الإيقاع».

وتظهر الثمرة بين كونها عقدا وإيقاعا في ما إذا صدر العمل من العامل خاليا عن قصد العوض والتبرّع مطلقا ، سواء اطّلع على الإيجاب أم لا ، فإنّه يستحق مال الجعالة على الإيقاعية دون العقدية ، هذا.

وأمّا الطلاق الخلعي ففيه أيضا احتمالان بل قولان ، أحدهما كونه عقدا ، والآخر كونه إيقاعا.

والأوّل هو المشهور كما يستفاد من كلام الشهيد الثاني في شرح قول المحقق : «وهل يصح ـ أي بذل الفداء ـ من المتبرّع؟ فيه تردّد ، والأشبه المنع». والثاني هو الذي رجّحه الشهيد الثاني مدّعيا مخالفته لمذهب جميع الأصحاب ، ووافقه الفاضل الأصفهاني قدس‌سره.

ولا بأس بنقل جملة من عبارة المسالك ، فقال : «وأمّا بذله من المتبرّع عنها ، بأن يقول للزوج : طلّق امرأتك بمائه من مالي ، بحيث يكون عوضا للخلع ، ففي صحته قولان ، أظهرهما بين الأصحاب ـ وهو الذي اختاره المصنّف والشهيد وغيرهما من الأصحاب ـ العدم ، فلا يملك الزوج البذل ، ولا يقع الطلاق إن لم يتبع به ، لأنّ الخلع من عقود المعاوضات ، فلا يجوز لزوم العوض لغير صاحب المعوّض ، كالبيع ، لو قال :

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٥ ، ص ١٨٩.


.................................................................................................

______________________________________________________

بعتك كذا بمائة في ذمة فلان» إلى أن قال : «وقول بالصحة لا يعلم قائله من الأصحاب ، لكنّه مذهب جميع من خالفنا من الفقهاء إلّا من شذّ منهم.

ومبنى القولين على أنّ الخلع فداء أو معاوضة ، أو على أنّه طلاق أو فسخ. فعلى الأوّلين يصح من الأجنبي ، لجواز الافتداء منه ، وبذل مال له ليطلّقها ، كما يصحّ التزام المال ليعتق عبده. وقد يتعلّق به غرض بأن كان ظالما بالإمساك ، وتعذّر إزالة يده بالحجة ، أو كان يسي‌ء العشرة ويمنع الحقوق ، فأراد المختلع تخليصها.

وعلى تقدير كونه طلاقا فالطلاق يستقل به الزوج ، فجاز أن يسأله الأجنبي على مال ، كما إذا قال : ألق متاعك في البحر وعليّ كذا» إلى أن قال : «ويرجّح جانب الفداء : الآية الدالة عليه ، إلّا أنّ مفهوم خطابها اختصاصها بها ، لكن مفهوم الخطاب ليس بحجة» (١).

وهذه الجملة الأخيرة تشهد بنفي كون الطلاق الخلعي عقدا ، وأنّه إيقاع ، ويتفرع عليه جواز تبرّع الأجنبي ببذل الفداء ، فراجع تمام كلامه.

واقتصر قدس‌سره في شرح اللمعة على بيان وجهي المنع والصحة ، وإن أمكن استفادة ترجيح كون الخلع إيقاعا «لأنه افتداء ، وهو جائز من الأجنبي».

ونحوه كلام الفاضل الأصفهاني قدس‌سره (٢).

والحاصل : أنّ بذل الفداء في الخلع لا يوجب صيرورته عقدا مؤلّفا من بذل الزوجة وطلاق الزوج ، بل الغرض من البذل إحداث الداعي في نفس الزوج على الطلاق. نظير ما لو التزم رجل لرجل آخر مالا ليعتق عبده أو يطلق زوجته طلاقا رجعيا أو بائنا ، بأن يقول له : «أعتق عبدك أو طلّق زوجتك وعليّ ألف دينار» فإنّ الألف ليس عوضا ، وإنّما يقصد به حصول الرغبة لمن بيده الأمر فيما يراد منه من العتق والطلاق.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٩ ، ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

(٢) كشف اللثام ، ج ١ ، (القسم الثاني) كتاب الطلاق ، ص ١٥١.


والمراد (١) بالضمان في الجملتين هو كون درك المضمون

______________________________________________________

المبحث الثاني : المراد بالضمان في العقد الصحيح والفاسد

(١) هذا هو المبحث الثاني من مباحث الجهة الاولى ، وهو بيان معنى الضمان بحيث يكون جامعا للعقد الصحيح والفاسد ، بأن يراد من الضمان في جملتي «ما يضمن بصحيحه» و «يضمن بفاسده» معنى واحد. وقد فسّره المصنّف قدس‌سره بوجهين :

أحدهما : ما اختاره من أن الضمان كون درك المضمون عليه.

والثاني : ما نقله عن بعض من أنّه «كون تلفه عليه بحيث يتلف مملوكا له».

وتوضيح المعنى الأوّل هو : أنّ الضمان في الجملتين عبارة عن كون درك المضمون وخسارة تلفه على الضامن ، بأن يجب عليه تداركه بأداء بدله من ماله ، فتلف المال المضمون يوجب نقصان مال الضامن ، للزوم تداركه منه.

والضمان بهذا المعنى جامع للضمان في موارد ثلاثة :

أحدها : الضمان المعاوضي في العقود الصحيحة.

ثانيها : ضمان التالف في العقود الفاسدة.

ثالثها : ضمان العين الموهوبة ـ بشرط التعويض ـ إذا تلفت بيد المتهب.

والوجه في جامعية الضمان بهذا المعنى هو : أنّ خسارة تلف المال تكون على عهدة الضامن ، سواء أكانت الخسارة بدفع البدل المسمّى كما في العقد الصحيح ، أم بدفع البدل الواقعي كما في غيره.

مثلا إذا باع زيد كتابه من عمرو بدينار ، فالكتاب هو المال الأصلي المملوك لزيد قبل العقد ، والدينار ماله الفعلي الذي حصّله ببيع كتابه. وبالعكس بالنسبة إلى المشتري ، فالدينار ماله الأصلي والكتاب ماله الفعلي. فإن كان العقد صحيحا اقتضى ضمان كلّ من الطرفين لمال صاحبه بالضمان المعاوضي ، يعني أنّ البائع يتعهّد بالكتاب قبل تسليمه للمشتري بحيث لو تلف بيده التزم بخسارته ودركه من ماله ، لا من مال المشتري. وكذا يتعهّد المشتري بالدينار بحيث لو تلف بيده كانت خسارته عليه لا على البائع.


عليه (١) ، بمعنى (٢) كون خسارته ودركه (٣) في ماله الأصلي (٤) ، فإذا (٥) تلف (٦)

______________________________________________________

وإن كان العقد المعاوضي فاسدا وترتّب عليه القبض ـ فصار الكتاب بيد المشتري ، والدينار بيد البائع ـ كان المشتري ضامنا للكتاب بحيث لو تلف بيده كانت خسارته عليه لا على البائع ، ولو تلف الدينار كان على عهدة البائع لا المشتري.

والدليل على ضمان كلّ منهما لمال الآخر هو الملازمة المستفادة من قاعدة «ما يضمن» بين صحيح العقد المعاوضي وفاسده. هذا توضيح نظر المصنف في أصل معنى الضمان. وأمّا كونه جامعا بين موارد الضمان فسيأتي.

(١) خبر «كون» والضمير راجع إلى «الضامن» المستفاد من كلمة «الضمان».

ثمّ إن تفسير الضمان بهذا الوجه لعلّه لمراعاة قرينة السياق المقتضية لوحدة الضمان في العقد الصحيح والفاسد ، لصدق «تدارك المضمون على الضامن» سواء أكان التدارك بعوض المسمّى كما في الصحيح ، أم بالبدل الواقعي كما في الفاسد. ولا يلزم استعمال لفظ «الضمان» في أكثر من معنى ، وسيأتي تقريبه.

(٢) هذا تفسير لقوله : «كون درك المضمون عليه» وقد عرفته.

(٣) هذا الضمير وضمير «خسارته» راجعان إلى المال المضمون.

(٤) قد عرفت المراد بما هو مال أصلي للضامن ، في قبال ماله الفعلي الذي حلّ محلّ المال الأصلي بالمعاوضة.

(٥) لا يخفى أنّ الضمان المعاوضي يحصل بنفس العقد ، ولا يتقيّد هذا الضمان بتلف أحد العوضين أو كليهما ، فذكر «التلف» إنّما هو لبيان موضوع الخسارة الواردة في المال الأصلي ، إذ لو لا التلف لم ترد خسارة على المتبايعين ، لوضوح أنّ بائع الكتاب يتدارك خروج كتابه عن ملكه بالدينار ، وكذا المشتري يتدارك نقصان ماله بدخول الكتاب في ملكه ، فورود الخسارة على كل منهما يتوقف على تلف مال الآخر بيده.

(٦) يعني : فإذا تلف المضمون وقع نقصان في ماله الأصلي ، لوجوب تدارك المضمون من ماله الأصلي.


وقع نقصان فيه ، لوجوب تداركه منه.

وأمّا مجرّد كون تلفه في ملكه (١)

______________________________________________________

(١) أي : في ملك الضامن ، وهذا إشارة إلى معنى آخر للضمان نسبه الفقيه المامقاني قدس‌سره إلى العالم الجليل الشيخ علي في حواشي الروضة ، قال فيما حكاه عنه : «معنى قولهم في القاعدة : كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده : كل عقد يضمن المال أو الشي‌ء فيه بسبب كونه صحيحا يضمن بسبب كونه فاسدا ، بمعنى : أنّ صحة العقد إن كانت سببا للضمان كان الفساد كذلك. فالبيع الصحيح مثلا سبب في كون المبيع إذا تلف كان من مال المشتري فكذا البيع الفاسد. وما لا يضمن بصحيحه كالعارية ومال المضاربة والوديعة ونحو ذلك ، فإن صحيح مثله لا يوجب الضمان ، فكذا فاسده» (١).

وقد ينسب هذا التفسير إلى صاحب الرياض قدس‌سره في مسألة تقدير الثمن (٢) ، لكن في النسبة تأمّل ، فراجع الرياض. ونسبه المحقق النائيني إلى العلّامة فيما احتمله في الأواني المكسورة وإلى صاحب المقابس (٣). لكنه لا يخلو من تأمل أيضا ، فإنّه نقل عن المحقق التستري دخول المضمون ـ في مطلق موارد الضمان ـ في ملك الضامن آنا ما قبل التلف حتى يقع التلف في ملكه ، وهذا أجنبي عمّا يكون المصنف بصدده من تحديد معنى «الضمان» الوارد في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

وكيف كان فتوضيح تعريف الضمان بأنّه «يتلف مملوكا له» هو : أنّ الضمان بمعنى الخسارة الواردة على مال الضامن ، ووقوع التلف في ملكه. مثلا إذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار ، فإن كان العقد صحيحا وسلّم البائع الكتاب إلى عمرو ، وتسلّم الثمن

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٧٧ ، لكن لم أعثر على هذه العبارة في هامش النسخة المطبوعة من الروضة ، وهي طبعة عبد الرحيم ، فراجع ، ج ١ ص ٣٢٣.

(٢) حاشية السيد الاشكوري على المكاسب ، ص ٤١.

(٣) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٨ ؛ المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ٣٠٣.


.................................................................................................

______________________________________________________

منه ، ثمّ تلف الكتاب بيد المشتري ، كان هو الضامن لماله ، لورود الخسارة عليه بتلف الكتاب.

وإن كان العقد فاسدا وتلف المبيع بيد المشتري فهذا البيع الفاسد يقتضي وقوع التلف في ملك المشتري ، بأن يقدّر دخوله في ملكه قبل التلف آنا مّا ، ويكون دفع البدل خسارة واردة عليه بسبب التلف عنده.

والوجه في العدول عن تفسير الضمان بما أفاده المصنّف ـ من «تدارك المضمون ببدله» ـ إلى تقييد المضمون بكونه مملوكا للضامن هو : أنّ الضمان ـ بمعنى تدارك المضمون ـ مخصوص بالعقد الفاسد ، إذ المقبوض به لو تلف بيد المشتري كانت خسارته عليه ، ووجب عليه دفع بدله إلى البائع. وأمّا في العقد الصحيح فلا يتصور معنى للضمان ـ بمعنى تدارك مال الغير ـ وذلك لأنّ المبيع إذا تلف عند المشتري لم يلزمه شي‌ء أصلا ، لأنّ المال تلف من ملكه ، لا من ملك البائع حتّى يجب على المشتري تداركه ، وحينئذ لم يتضح المراد من كلمة «الضمان» الواردة في قولهم : «ما يضمن بصحيحه».

ولذا عدل هذا القائل إلى تعريف الضمان بنحو ينطبق على مورد العقد الصحيح أيضا ، وقال : «إنّه الخسارة الواردة على الشخص حال كونها مملوكة له» فإنّ هذا المعنى ينطبق على المأخوذ بالعقد الصحيح ، كما تقدم آنفا في مثال الكتاب المقبوض بالبيع الصحيح إذا تلف بيد المشتري ، إذ يصدق عليه أنّ المشتري ضامن بهذا العقد ، ووجه ضمانه هو وقوع التلف في ملكه.

واعترض المصنّف قدس‌سره على هذا التفسير بأنّه أجنبيّ عن معنى الضمان لغة وعرفا ، إذ لا يصدق على «تلف المال المملوك لشخص» أنّه ضامن لماله التالف ، بل المناط في صدقه تدارك الخسارة الواردة على المالك إذا تلف ماله عند غيره بلا إذن المالك ، أو أتلفه ذلك الغير.


بحيث يتلف مملوكا له (١) ـ كما يتوهّم ـ فليس (٢) هذا معنى للضمان أصلا فلا يقال (٣) : إنّ الإنسان ضامن لأمواله.

ثمّ (٤) تداركه من ماله

______________________________________________________

وأمّا ما زعمه هذا القائل من أنّ تصور معنى صحيح لجملة «ما يضمن بصحيحه» يتوقف على تفسير الضمان بأنّه «بحيث يتلف مملوكا له» فممنوع ، إذ المقصود بالضمان في العقود الصحيحة هو الضمان المعاوضي ، بمعنى أنّه بمجرّد العقد يصير المبيع ملكا للمشتري فيضمنه البائع لو تلف عنده ، ويصير الثمن ملكا للبائع ، ويضمنه المشتري بحيث لو تلف وجب عليه بدله. وأمّا إذا تسلّم المشتري المبيع ، وتسلّم البائع الثمن ، ثم تلف فلا ضمان ، لوقوع التلف في ملكه. ولم يعهد صحة إطلاق أنّ كل شخص ضامن لأموال نفسه حتّى يتجه تعريف الضمان بالخسارة الواردة في ملك نفسه ، هذا.

(١) أي : مملوكا للضامن ، يعني : أنّ الجامع بين ضمان المال في العقد الصحيح والفاسد هو وقوع التلف في ملك الضامن.

(٢) هذا جواب قوله : «وأمّا» وردّ تفسير الضمان المنقول عن بعضهم.

(٣) هذا متفرع على قوله : «فليس» والوجه في فساد تعريف الضمان بأنّه «يتلف مملوكا له» هو : أنّه لو كان هذا المعنى صحيحا لزم صدق ضمان الشخص لأموال نفسه التي قد تتلف منه ، مع أنّه لا يصحّ الصدق المذكور ، ويستكشف من عدم صدقه بطلان التعريف المذكور.

(٤) بعد أن اختار المصنّف قدس‌سره تعريف الضمان بأنّه «كون درك المال المضمون على عهدة الضامن» أراد إثبات جامعية هذا التعريف ، وعدم كون الضمان مشتركا لفظيا ، وعدم لزوم التفكيك في معنى الضمان بين جملة «ما يضمن بصحيحه» و «ما يضمن بفاسده».

وتوضيحه : أنّه قد يتوهم اختلاف معنى الضمان في الجملتين ، لأنّه في العقد


تارة يكون بأداء عوضه الجعلي الذي تراضى (١) هو والمالك على كونه عوضا ، وأمضاه الشارع ، كما في المضمون بسبب العقد الصحيح. وأخرى بأداء عوضه

______________________________________________________

الصحيح يكون بالبدل الجعلي المسمّى في العقد كبدلية الدينار عن الكتاب. ولكن الضمان في العقد الفاسد يكون بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة. فإذا قبض المشتري الكتاب وتلف عنده وتبيّن فساد العقد كان اللازم تداركه بعوضه الواقعي لا الجعلي. وبهذا يتفاوت معنى الضمان الذي أفاده المصنّف ، لاختلاف نحوي تدارك مال الغير ، هذا.

وقد دفعه قدس‌سره بأنّ للضمان في جميع موارده مفهوما وحدانيا ، وهو التدارك بمال الضامن ، إلّا أنّ الاختلاف يكون فيما يتدارك به ، إذ هو تارة بدل واقعي ، وأخرى بدل جعليّ ، وثالثة أقلّ الأمرين من البدل الواقعي والجعلي كما سيأتي بيانه في الهبة المعوّضة التالفة قبل دفع العوض ، فللمتّهب الاقتصار في تدارك العين الموهوبة على أقلّ البدلين قيمة ، فإن كان العوض المشترط أقل اكتفى به ، وإن كانت القيمة الواقعية أقلّهما اكتفى به.

والحاصل : أنّ الضمان في جميع موارده بمعنى «تدارك المال المضمون وتحمّل خسارته» ويراد به عند الإطلاق أداء العوض الواقعي ، وفي خصوص العقد الصحيح يراد به أداء البدل الجعلي ، وذلك من باب تعدّد الدال والمدلول وقيام القرينة على إرادة التدارك بالعوض المسمّى ، وهي تعيين البدل في العقد المعاوضي الذي أمضاه الشارع ، كجعل الدينار ـ بالبيع ـ بدلا عن الكتاب.

(١) كتراضي مالك الكتاب ومالك الدينار على كون كلّ منهما عوضا عن الآخر. وكتراضي مالك الدار والمستأجر على كون عشرة دنانير عوضا عن منفعتها مدة شهر مثلا. وهذا التراضي إنّما يترتب عليه الأثر بعد إمضاء الشارع لهذين العقدين وحكمه بصحتهما.


الواقعي ـ وهو المثل أو القيمة ـ وإن لم يتراضيا عليه (١). وثالثة بأداء أقلّ الأمرين من العوض الواقعي والجعلي ، كما ذكره بعضهم (٢) في بعض المقامات ، مثل تلف الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض.

______________________________________________________

(١) كما في صورة فساد العقد وتلف المال ، فإنّ الضمان يكون حينئذ بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة.

(٢) كالشهيد الثاني ، حيث قال : «وحاصل الأمر : أنّ العين الموهوبة المشروط فيها الثواب لو تلفت في يد المتهب أو عابت قبل دفع العوض المشروط وقبل الرجوع ، سواء أكان ذلك بفعله كلبس الثوب ، أم لا ، فهل يضمن المتهب الأرش أو الأصل أم لا؟ قولان : أحدهما عدم الضمان ، وهو الذي اختاره المصنف ، ثم تردّد فيه. وجزم به العلّامة في التذكرة وولده في الشرح .. والثاني : الضمان ، جزم به ابن الجنيد من المتقدمين وبعض المتأخرين ، لعموم على اليد ما أخذت حتّى تؤدّى ، ولأنّه لم يقبضها مجّانا بل ليؤدّي عوضها فلم يفعل ، ولأنّ الواجب أحد الأمرين ، ردّها أو دفع العوض ، فإذا تعذّر الأول وجب الثاني. وهذا هو الوجه.

إذا تقرّر ذلك وقلنا بالضمان مع التلف ، فهل الواجب مثل الموهوب أو قيمته أو أقلّ الأمرين من ذلك ومن العوض؟ وجهان أجودهما الثاني ، لما عرفت من أنّ المتهب مخيّر بين الأمرين ، والمحقّق لزومه هو الأقل ، لأنّه إن كان العوض الأقلّ فقد رضي به الواهب في مقابلة العين. وإن كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا يتعين عليه العوض ، بل يتخيّر بينه وبين بذل العين ، فلا يجب مع تلفها أكثر من قيمتها. وهذا هو الأقوى. ووجه اعتبار القيمة مطلقا أنّ العين مضمونة حينئذ على القابض ، فوجب ضمانها بالقيمة.

وفيه : أنّه مسلّط على إتلافها بالعوض ، فلا يلزمه أزيد منه لو كان أنقص» (١).

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ٦٣ الى ٦٥.


فإذا ثبت هذا (١) فالمراد بالضمان بقول مطلق (٢) هو لزوم تداركه بعوضه الواقعي ، لأنّ هذا (٣) هو التدارك حقيقة ، ولذا (٤) لو اشترط ضمان العارية

______________________________________________________

(١) يعني : فإذا ثبت أنّ معنى الضمان هو كون تدارك المضمون على عهدة الضامن وأنّ التدارك إمّا بالعوض المسمّى وإمّا بالواقعي وإمّا بأقل الأمرين ، فالمراد .. إلخ. وغرضه قدس‌سره أنّ الضمان وإن كان هو التدارك بأحد الأنحاء الثلاثة ، إلّا أنه عند الإطلاق وعدم تقييده بالعوض الواقعي أو الجعلي أو أقلّ الأمرين يحمل على التدارك الحقيقي الذي هو جبر الخسارة بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة.

وأمّا أداء البدل المسمّى أو أقلّ الأمرين فيحتاج إلى دليل على جوازه ، مثل ما دلّ على صحة عقد البيع والإجارة ، المقتضي لضمان كلّ منهما بالضمان المعاوضي ، لا الواقعي ، فلو ثبت الضمان في مورد ولم يقترن معه ما يقيّده بالبدل الجعلي تعيّن تداركه بالعوض الواقعيّ. لما عرفت من أنّ جبران خسارة مال الغير لا يكون إلّا بأداء عوضه الحقيقي ، ولأجله يحمل «الضمان» الوارد في أدلّة ضمان المغصوب مثل «الغاصب ضامن» وغير المغصوب مثل «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» على التعهّد بالبدل الواقعي ، لا غير.

ولا يخفى أن قوله قدس‌سره : «فالمراد بالضمان .. إلخ» تمهيد لردّ ما احتمله بعضهم من حمل الضمان في العقود الفاسدة على العوض الجعلي لا الواقعي ، وسيأتي بيانه.

(٢) يعني : لم يقيّد الضمان بالمسمّى ، ولا بالواقعي ولا بأقلّ الأمرين ، بل ورد قوله «فهو ضامن» فإنّه ينصرف إلى الواقعيّ خاصة.

(٣) أي : لأنّ التدارك بالعوض الواقعيّ هو التدارك الحقيقي ، وغيره منوط بقرينة تدلّ عليه.

(٤) يعني : ولأجل كون الضمان بقول مطلق هو لزوم التدارك بعوضه الواقعي لزم غرامة مثلها أو قيمتها.


لزم غرامة مثلها أو قيمتها (١). ولم يرد (٢) في أخبار ضمان المضمونات ـ من المغصوبات (٣) وغيرها (٤) ـ عدا لفظ الضمان بقول مطلق (٥).

______________________________________________________

(١) فإن كانت العين المعارة مثلية كان ضمانها بمثلها ، وإن كانت قيمية فبقيمتها.

(٢) غرضه قدس‌سره أنّه لم يفسّر لفظ الضمان ـ في أخبار المضمونات ـ بشي‌ء من الواقعي والجعلي وغيرهما ، بل الوارد فيها لفظ «الضمان» فينصرف إلى المعهود منه ، وهو الواقعي من المثل أو القيمة.

(٣) مثل ما في مرسل حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح عليه‌السلام : «لأنّ الغصب كلّه مردود» (١).

(٤) مثل ما ورد في ضمان المستودع مع التفريط في الحفظ من قوله عليه‌السلام : «هو ضامن لها إن شاء ..» (٢).

وما ورد في عدم ضمان المستعير من قوله عليه‌السلام : «ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (٣).

وما روي في ضمان عارية النقدين ، والعارية المشروط فيها الضمان من قوله عليه‌السلام : «لا تضمن العارية إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان» (٤) الحديث. وقوله عليه‌السلام في ضمان المستعير : «إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت فالمستعير ضامن» (٥).

وغيرها من الأخبار الواردة في ضمان الصّنّاع ، والمستأجر المفرّط في العين المستأجرة ، فإنّ الضمان فيها ينصرف إلى التدارك بالبدل الواقعي ، لا غير.

(٥) يعني : غير مقيّد بالبدل الواقعي ولا المسمّى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٠٩ ، الباب ١ من أبواب الغصب ، الحديث ٣

(٢) المصدر ، ج ١٣ ، ص ٢٢٩ ، الباب ٥ من أبواب الوديعة ، الحديث ١

(٣) المصدر ، ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، الباب ١ من أبواب العارية ، الحديث ٦

(٤) المصدر ، ج ١٣ ، ص ٢٣٩ ، الباب ٣ ، الحديث ١

(٥) المصدر ، ج ١٣ ، ص ٢٤٠ ، الباب ٤ ، الحديث ١


وأمّا (١) تداركه بغيره فلا بدّ من ثبوته من طريق آخر ، مثل تواطئهما عليه بعقد صحيح يمضيه الشارع. فاحتمال (٢) «أن يكون المراد بالضمان في قولهم : ـ يضمن بفاسده ـ هو وجوب أداء العوض المسمّى ، نظير الضمان في العقد الصحيح»

______________________________________________________

(١) أي : وأمّا تدارك المضمون بغير البدل الحقيقي من المثل أو القيمة فلا يستفاد من نفس دليل الضمان ، بل لا بدّ من دليل آخر عليه ، وهو مؤلّف من أمرين :

أحدهما : توافق المتعاقدين على أن يضمن كلّ منهما مال الآخر بالعوض المعيّن في المعاملة.

ثانيهما : إمضاء الشارع هذا التراضي حتى يترتب عليه الأثر ، كإمضاء البيع بآية حلّ البيع ، وإمضاء الإجارة والصلح المعاوضي بأدلّة صحّتهما ، وهكذا سائر الموارد.

فإن كان العقد صحيحا كانت صحّته قرينة على إرادة الضمان بالبدل الجعلي ، وإن كان فاسدا تعيّن حمل الضمان في قولهم : «يضمن بفاسده» على التدارك بالبدل الواقعي.

(٢) يعني : بعد كون الضمان حقيقة في الضمان الواقعي أو منصرفا إليه يظهر ضعف احتمال إرادة العوض المسمّى من «الضمان» في جملة «يضمن بفاسده».

والمحتمل ـ كما أفاده الفقيه المامقاني قدس‌سره ـ هو الشيخ الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره في شرح القواعد ، حيث قال بعد ذكر قاعدة «ما يضمن» ما لفظه : «وهي صريحة في أصل الضمان ، إلّا أنّها يحتمل فيها وجهان : أحدهما : الضمان بمقدار ما أقدم عليه من المقابل. وثانيهما : قيمته بلغت ما بلغت ، وهو الظاهر ، لأنّ التقييد غير مفهوم منها» (١).

وهو قدس‌سره وإن احتمل الضمان بالمسمّى ، إلّا أنّه رجّح الضمان بالبدل الواقعي. وعلى هذا فلا بدّ أن يكون غرض المصنف من الاشكال عليه هو : أنّ أصل إبداء احتمال الضمان بالبدل المسمّى في العقد المعاوضي الفاسد ممّا لا ينبغي صدوره من فقيه خصوصا مثل كاشف الغطاء قدس‌سره.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٧٩.


ضعيف (١) في الغاية ، لا لأنّ (٢) ضمانه بالمسمّى يخرجه عن فرض الفساد ، إذ (٣)

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «فاحتمال» ودفع له ، وقد ذكر في دفع الاحتمال وجهان :

أحدهما : ما تكرّر في كلام المصنف من أنّ الضمان بقول مطلق يحمل على التدارك بالبدل الحقيقي.

وثانيهما : ما أفاده بعضهم وهو لزوم الخلف ، توضيحه : أنّ الضمان في العقد الفاسد بمقدار ما أقدم عليه ـ أي المسمّى ـ يوجب خروج العقد الفاسد عن فرض الفساد ويجعله صحيحا ، إذ الضمان بالمسمّى يتوقّف على توافق المتعاوضين وإمضاء الشارع له ، وحيث إنّ المفروض فساد العقد لم يكن توافقهما ممضى شرعا ولا موضوعا للأثر ، فلا وجه لرفع اليد عن الضمان الواقعي الذي هو مقتضى إطلاق «الضمان» والالتزام بالضمان الجعلي.

(٢) فكأنّ هذا القائل فهم استلزام صحة العقد لتعيّن المسمّى ، فإذا فسد كان تعيّن المسمّى بلا معيّن.

(٣) تعليل لقوله : «لا» وهذه مناقشة المصنف في جواب الاحتمال ، وحاصلها : منع توقف الضمان بالعوض المسمّى على صحّة البيع من حين العقد ، بل يمكن تعيّنه بعد تلف أحد العوضين.

توضيحه : أنّه إذا كان العقد فاسدا لم ينتقل المبيع إلى المشتري ، ولا الثمن إلى البائع ، ويحرم التصرف في كل منهما. ولو كان لأحدهما نماء كان لمالكه الأصلي ، هذا مع بقاء العينين. وأمّا إذا تلف أحدهما ـ كما إذا تلف المبيع بيد المشتري ـ فنقول بأنّ الثمن المسمّى في ذلك العقد الفاسد هو الذي يضمنه المشتري ، ويجب عليه تسليمه إلى البائع ، ولا يتعيّن البدل الواقعي من المثل أو القيمة للعوضيّة.

ولا استيحاش من هذا ، لوجود نظيره في الفقه وهو المعاطاة بناء على الإباحة ، لما تقدّم في التنبيه السادس المعقود لبيان الملزمات من : أنّ تلف أحد العوضين ملزم للمعاطاة ، ويتعيّن العوض الجعليّ للعوضية ويتملّكه مالك التالف ،


يكفي في تحقق فرض الفساد بقاء كلّ من العوضين على ملك مالكه (١) وإن كان عند تلف أحدهما يتعيّن الآخر للعوضيّة ، نظير المعاطاة على القول بالإباحة (٢). بل (٣) لأجل ما عرفت من معنى الضمان ، وأنّ التدارك بالمسمّى في الصحيح

______________________________________________________

مع أنّه لم يدخل في ملكه من حين التعاطي المفيد للإباحة.

وعلى هذا فلا ملازمة بين الصحة وتعيّن المسمّى ، حتى يكون ضمان المسمّى في العقد الفاسد مخالفا لفرض الفساد. بل يمكن القول بضمان المسمّى في العقد الفاسد أيضا بعد تلف أحد العوضين.

فالنتيجة : أنّ الاحتمال الذي أبداه كاشف الغطاء قدس‌سره لا يندفع بما أفيد من اختصاص ضمان المسمّى بالعقد الصحيح ، هذا.

(١) بأن كان المالان باقيين على ملك مالكيهما إلى أن يتلف أحدهما ، فحينئذ ينتقل التالف منهما عند التلف ـ آنا ما ـ إلى ملك من تلف عنده ، وبالعكس.

(٢) فإنّ العوضين باقيان على ملك مالكيهما ـ وهما المتعاطيان ـ ولا يتعيّن أحدهما للعوضيّة إلّا بعد تلف الآخر.

ولا يخفى أنّ تنظير المقام بالمعاطاة ـ بناء على الإباحة التي لا يقول بها المصنف ـ إنّما هو لمجرّد دفع الاستبعاد عن تغيير الضمان في العقد الفاسد من الواقعي إلى الجعلي حين تلف أحد المالين ، إذ القائل بالإباحة يلتزم بانتقال التالف قبل التلف آنا ما إلى من تلف عنده ، ويتعيّن العوض الآخر للعوضيّة.

وإلّا فيرد على المصنف قدس‌سره أنّ قياس المقام بالمعاطاة في غير محلّه ، لكون العقد الفاسد فاسدا إلى الأبد ، بخلاف المعاطاة ، فإنّها صحيحة ، ولأجل صحتها ـ بالإجماع المدّعى على الإباحة ـ يتعيّن المالان للعوضية عند التلف ، هذا.

(٣) معطوف على قوله : «لا لأن» وغرضه بيان وجه ضعف الاحتمال الذي أفاده الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره. وقد عرفته ، ومحصّله : أنّ الضمان بقول مطلق يراد به التدارك بالعوض الواقعي ، وأنّ التدارك بالمسمّى يتوقف على أمرين ، أحدهما توافق


لإمضاء الشارع ما تواطئا على عوضيّته ، لا لأنّ (١) معنى الضمان في الصحيح مغاير لمعناه في الفاسد حتى يوجب ذلك تفكيكا في العبارة (٢) ، فافهم (٣).

______________________________________________________

المتعاملين ، والآخر إمضاء الشارع لما تواطئا عليه ، وهذا الأمر الثاني مفقود في العقد الفاسد ، فلا وجه للضمان بالمسمّى فيه.

(١) هذا قد استفيد من قوله قبل أسطر : «ولم يرد في أخبار ضمان المضمونات .. إلخ» وكأنّه قدس‌سره يريد دفع توهّم ، حاصله : أنّ الضمان في العقد الصحيح إن كان بالمسمّى وفي الفاسد بالواقعي لزم التفكيك في مدلول كلمة «ما يضمن بصحيحه» بحمله على ما يضمن بمسمّاه ، وكلمة «ما يضمن بفاسده» بحمله على ضمانه الواقعي ، وهذا التفكيك مخالف لظهور الكلام في إرادة معنى واحد من كلمة «الضمان» في الجملتين.

ومحصّل دفعه : عدم لزوم التفكيك في معنى الضمان ، لأنّه بمعنى تدارك مال الغير بحيث لو تلف كانت خسارته في ماله الأصلي. وهذا جار في كلّ من العقد الصحيح والفاسد ، إلّا أنّ مصداق المال الأصلي مختلف ، فقد يكون ما عيّن في العقد ، وقد يكون هو المثل أو القيمة ، ومن المعلوم أنّ اختلاف مصاديق التدارك لا يوجب تعدّد المفهوم حتى يتوهم التفكيك بين الضمان في صحيح العقد وفاسده.

(٢) أي : التفكيك في الضمان بين جملة «ما يضمن بصحيحه» وجملة «يضمن بفاسده».

(٣) لعلّه إشارة إلى أنّ التفكيك في مفهوم الضمان ممّا لا بدّ منه ، سواء أكان من باب استعمال لفظ الضمان في الواقعي تارة ، وفي المسمّى أخرى ، أم من باب استفادة التدارك الواقعي من إطلاق اللفظ وعدم تقييده بشي‌ء ، والتدارك الجعلي من قرينة تواطؤ المتعاقدين وإمضاء الشارع. هذا تمام الكلام في ثاني أبحاث الجهة الاولى ، وهو معنى الضمان الوارد في القاعدة.


ثمّ (١) العموم في العقود

______________________________________________________

المبحث الثالث : عموم «كل عقد» هل يكون بلحاظ الصنف أو غيره؟

(١) هذا شروع في المبحث الثالث من مباحث الجهة الأولى ، وهو بيان المراد من العموم المدلول عليه بكلمة «كلّ» في قولهم : «كل عقد يضمن ..» أو بكلمة «ما» الموصولة في قولهم : «ما يضمن».

والوجه في عقد هذا المبحث هو : أنّ في العموم احتمالات ثلاثة ، بل أقوالا كذلك ، وتتفاوت الآثار المترتبة على كلّ منها ، فلا بدّ من تحقيق المسألة ، وينبغي الإشارة إلى أمرين مقدمة لتوضيح كلام المصنف قدس‌سره ، فنقول وبه نستعين :

الأوّل : أنّ هذا البحث لا يختص بأصل القاعدة ـ أعني به «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ـ بل يجري في العكس أيضا ، إذ الموضوع فيه «كل عقد لا يضمن بصحيحه» أو «ما لا يضمن» فيجري فيه احتمال نوع العقد أو صنفه أو أشخاص العقود التي ينشئها المتعاقدان.

الثاني : في بيان المراد بالنوع والصنف والفرد ، فنقول : إنّ «العقود» عنوان مشير إلى المعاملات القائمة بطرفين ، سواء تضمّنت معاوضة أم لا ، كالبيع والصلح والإجارة والهبة والجعالة والسبق والرماية والمضاربة والعارية والوديعة والوكالة والرّهن ونحوها ممّا هو معهود في الكتب الفقهية. ويعدّ كلّ منها نوعا ، فالبيع ـ بما له من الأقسام ـ نوع واحد ، لصدق تعريفه من «مبادلة مال بمال ، أو تمليك عين بعوض» على جميعها. وكذا الإجارة نوع واحد ، والصلح نوع ، وهكذا سائر العقود.

ثمّ إنّ لكلّ من هذه الأنواع أقساما هي أصناف ذلك النوع ، كبيع الصّرف والسّلم والحيوان والثمار والنسيئة والمعاطاة ، وبيع الدين وغيرها من الأقسام. وللإجارة أيضا صنفان ، هما إجارة الأعيان والأعمال. وكذلك للصلح أصناف ، فإنّه إمّا يفيد فائدة البيع أو الإجارة أو العارية أو الهبة أو الإبراء. وهكذا العارية ، فإنّها إمّا عارية النقدين وإمّا غيرهما ، والثاني إمّا مشروط بالضمان وإمّا غير مشروط به.


.................................................................................................

______________________________________________________

والمراد بالأفراد هو أشخاص العقود التي تقع خارجا بإنشاء المتعاقدين.

إذا اتضح هذان الأمران ، فنقول : إن أريد بلفظ «كل عقد» العموم بلحاظ الأنواع كان معناه : أنّ جميع أفراد نوع ـ كالبيع ـ إن كان في صحيحها ضمان ، ففي فاسدها الضمان أيضا. وأنّ جميع أفراد نوع كالوديعة إن لم يكن في صحيحها ضمان فلا ضمان في فاسدها أيضا.

وعلى هذا ينحصر مصداق أصل قاعدة «ما يضمن» في البيع والإجارة اللذين يضمن بصحيحهما ، ولا يندرج في هذه القاعدة عقد آخر ، لعدم مضمّنية جميع أفراد العقود ـ بنحو الإطلاق ـ غير البيع والإجارة ، فكأنّ القاعدة أسّست لبيان حكم الضمان في خصوص هذين العقدين.

وإن أريد العموم بلحاظ أصناف كل واحد من العقود كان معنى القاعدة : أنّ كل صنف من أصناف العقود إن كان في صحيحه ضمان فكذا في فاسد ذلك الصنف ، سواء أكان في سائر أصنافه ضمان أم لا. ومعنى عكس القاعدة : أنّ كل صنف ليس في صحيحه ضمان فكذا في فاسده ، سواء أكان في سائر أصناف ذلك العقد ضمان أم لم يكن.

وعلى هذا الاحتمال تتكثّر العقود المندرجة في الأصل ، ولا تنحصر في البيع والإجارة المقتضيين للضمان ، فيقال : إنّ العارية بنوعها مثلا لا ضمان في صحيحها فكذا في فاسدها. ولكن أقسام العارية مختلفة ، ففي بعضها الضمان كعارية النقدين ، فيمكن أن تندرج في أصل القاعدة ، فإذا كانت عارية النقدين فاسدة ـ لاختلال بعض شروطها ـ ثبت فيها الضمان ، لأنّ «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» مع أنّ نوع عقد العارية غير مضمّن.

وكذا تندرج الهبة المشروطة بالعوض في أصل القاعدة ـ بناء على تعميم اقتضاء العقد للضمان لما إذا كان بالذات أو بالعرض ـ مع عدم الضمان في نوع الهبة.


ليس (١) باعتبار خصوص الأنواع ، لتكون أفراده مثل البيع (٢) والصلح والإجارة ونحوها ، لجواز (٣) كون نوع لا يقتضي بنوعه الضمان ، وإنّما المقتضي له بعض أصنافه ، فالفرد الفاسد من ذلك الصنف يضمن به ، دون الفاسد من غير ذلك

______________________________________________________

والحاصل : أنّه بناء على كون العموم بلحاظ الأصناف يلزم دخول بعض أقسام عقد في أصل القاعدة ، وبعضها في العكس ، ولا مانع منه.

وإن كان العموم بلحاظ الأفراد ـ لا الأنواع ولا الأصناف ـ كانت مصاديق أصل القاعدة وعكسها في غاية الكثرة ، لأنّ كل عقد يقع في الخارج فهو بنفسه ـ لا بما أنّه فرد للنوع أو الصنف ـ إن كان مقتضيا للضمان على تقدير صحته كان مقتضيا له على تقدير فساده. وإن لم يكن مقتضيا له على فرض صحته فكذا على فرض فساده.

هذا كلّه في مقام الثبوت والاحتمالات المتطرقة في المراد بالعموم. وأمّا في مقام الإثبات فقد استظهر المصنف الاحتمال الثاني وهو العموم بلحاظ الأصناف ، وسيأتي بيانه.

(١) غرضه استظهار كون العموم بلحاظ الأصناف ، لا الأنواع ولا الأفراد. والمذكور فعلا نفي العموم النوعي ، وأمّا العموم الأفرادي فسيأتي ـ بعد فصل ـ الخدشة فيه.

(٢) هذه الأنواع مثال للعموم في كلّ من أصل القاعدة وعكسها ، وذلك بقرينة ذكر «الصلح» فإنّه بنوعه مما لا يضمن بصحيحه فكذا بفاسده. نعم البيع والإجارة مثالان للنوع في أصل القاعدة لاطّراد الضمان في جميع أصنافهما وأفرادهما.

(٣) تعليل لعدم كون العموم في القاعدة بلحاظ خصوص الأنواع. ومحصّله : أنّه لو كان العموم بلحاظها لزم عدم اطّراد عكس القضية ، مثلا لا يكون الصلح الجامع بين المعاوضي والمحاباتي مقتضيا للضمان ، كما إذا كان مفيدا للهبة أو الإبراء ، فيندرج في عكس القضية ، في أنّ صحيحه لا يقتضي الضمان فكذا فاسده. وكذا الهبة الجامعة بين المشروطة بالعوض وغيرها ، مع أنّ الصلح قد يقتضي الضمان كما إذا كان معاوضيا.

فالمتعيّن كون العموم بلحاظ الأصناف لا الأنواع ، فصنف من الصلح ـ وهو


الصنف. مثلا الصلح بنفسه لا يوجب الضمان ، لأنّه (١) قد لا يفيد إلّا فائدة الهبة غير المعوّضة ، أو الإبراء. فالموجب للضمان هو المشتمل على المعاوضة. فالفرد الفاسد من هذا القسم موجب للضمان أيضا (٢). ولا يلتفت إلى أنّ نوع الصلح الصحيح من حيث هو لا يوجب ضمانا (٣) ، فلا يضمن (٤) بفاسده. وكذا (٥) الكلام

______________________________________________________

المعاوضي ـ يقتضي صحيحه الضمان ، وكذا فاسده. وصنف منه وهو المحاباتي لا يقتضي صحيحه الضمان وكذا فاسده.

وهكذا العارية ، فصنف منها يندرج في الأصل وهو «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وصنف آخر من ذلك النوع يندرج في العكس وهو «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

(١) هذا تعليل لعدم اقتضاء الصلح ـ بما هو نوع من أنواع العقود ـ للضمان ، إذ قد يكون أثره تمليك عين مجّانا وهو الهبة غير المعوّضة ، أو إبراء المديون عمّا في ذمته ، وهو إيقاع ، وربّما يخلو من العوض.

وعلى هذا فلو كان العموم في القاعدة بلحاظ النوع لزم اندراج الصلح ـ بجميع أقسامه ـ في العكس. مع أنّ الصحيح هو التفصيل بين أصنافه ، فبعضها المشتمل على المعاوضة مندرج في الأصل ، وبعضها في العكس. فلا بدّ من كون العموم بلحاظ الأصناف ، وأنّ كل صنف عنوان مستقل ، فإن اقتضى الضمان كان من أفراد الأصل ، وإلّا فمن العكس.

(٢) يعني : كإيجاب الفرد الصحيح من الصلح ـ المشتمل على المعاوضة ـ للضمان.

(٣) يعني : مطلقا ، سواء أفاد فائدة البيع أم الإجارة مما يشتمل على معاوضة بين المصالح والمتصالح ، أم لم يشتمل عليها كالمفيد فائدة الهبة غير المعوّضة ، والإبراء.

(٤) هذا متفرّع على كون العموم بلحاظ أنواع العقود ، ولازمه خروج عنوان الصلح عن قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

(٥) هذا مثال ثان لظهور الثمرة بين كون العموم نوعيا وصنفيا ، فبناء على إرادة الأنواع لا ضمان في الهبة المشروطة بالعوض ، لأنّ جميع أفراد الهبة ـ بما هي مصاديق


في الهبة المعوّضة. وكذا (١) عارية الذهب والفضة.

نعم (٢)

______________________________________________________

لعنوان الهبة ـ غير مضمونة ، فلا تندرج في الأصل. وبناء على إرادة الصنف يتعيّن التفصيل بين الهبة المعوّضة باندراجها في الأصل ، وبين الهبة غير المعوّضة باندراجها في العكس.

(١) هذا مثال ثالث للثمرة بين إرادة النوع والصنف ، فبناء على النوع تندرج العارية بجميع أقسامها في العكس. وبناء على الصنف يفصّل بين عارية الذهب والفضة ـ وعارية الحيوان بناء على ما حكي عن ابن الجنيد ـ فتكون مضمونة سواء في صحيحها وفاسدها. وبين عارية سائر الأشياء فلا ضمان فيها.

(٢) هذا استدراك على إرادة الصنف ، وحاصله : أنّ مقتضى تمسكهم بقاعدة «ما لا يضمن» في استعارة المحرم صيدا هو إرادة النوع ، يعني : حيث إنّه لا ضمان في نوع العارية فلازمه عدم ضمان المستعير ، لفرض فساد العارية ، وبه يشكل إرادة الصنف.

وتوضيحه : أنّ جمعا ذكروا : أنّ المحرم إذا استعار الصيد من المحلّ وجب عليه إرسال الصيد ، وعاريته فاسدة ، ولا يضمن للمعير الصيد الذي أتلفه بإرساله. والدليل على الضمان هو تبعية العارية الفاسدة لصحيحها في عدم الضمان. قال في المسالك : «وأمّا مع فسادها ـ أي العارية ـ فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه كما أسلفناه في مواضع ـ قاعدة كليّة» (١). ومن المعلوم ظهور هذا التعليل في أنّ المدار في الضمان وعدمه هو نوع العقد ، فيشكل مختار المصنف قدس‌سره من إرادة الصنف.

ولكنّه قدس‌سره وجّهه بأنّ مقصودهم بالاستدلال بقاعدة «ما لا يضمن» هو الصنف ، بقرينة تصريحهم في كتاب العارية بضمان عارية الذهب والفضة ، والعارية

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٣٩.


ذكروا (١) في وجه عدم ضمان الصيد الذي استعاره المحرم : أنّ صحيح العارية لا يوجب الضمان ، فينبغي أن لا يضمن بفاسدها. ولعلّ (٢) المراد عارية غير الذهب والفضّة وغير (٣) المشروط ضمانها.

______________________________________________________

المشروطة بالضمان ، إذ لو كان المدار نوع العارية لزم التنافي بين إدراجها في «ما لا يضمن» وبين حكمهم بالضمان في القسمين المذكورين ، ورفع التهافت منوط بالالتزام بالصنف ، فيكون صنف من العارية مشمولا للأصل وهو «ما يضمن» وصنف منها للعكس ، وهو «ما لا يضمن» هذا.

(١) الأولى أن يقال : «ذكر بعضهم» إذ المسألة خلافية ، ففي الشرائع : «ولا يجوز للمحرم أن يستعير من محلّ صيدا ، لأنّه ليس له إمساكه. ولو أمسكه ضمنه ، وإن لم يشترط عليه» (١). نعم رجّح الشهيد الثاني عدم الضمان ، لقاعدة «ما لا يضمن» فراجع ، والتفصيل في محله.

(٢) هذا توجيه استدلال مثل الشهيد الثاني بقاعدة «ما لا يضمن» وقد عرفته آنفا.

(٣) الأولى إسقاط «غير المشروط ضمانها» بناء على ما سيأتي منه قريبا في تفسير القاعدة من كون المقتضي للضمان نفس العقد الصحيح ، ومن المعلوم عدم كون الضمان في العارية المشروطة به من مقتضيات نفس العقد ، بل هو اقتضاء عرضي ناش من الشرط.

إلّا أن يكون غرض المصنف قدس‌سره الاستشهاد بكلام القوم لإثبات العموم الأصنافي لا الأنواعي ، فلا بأس حينئذ بذكر العارية المشروطة بالضمان بعد تصريحهم بضمانها صحيحة وفاسدة.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٢.


ثمّ المتبادر (١) من اقتضاء الصحيح للضمان اقتضاؤه له

______________________________________________________

المبحث الرابع : اعتبار كون الضمان مقتضى العقد لا الشرط

(١) هذا شروع في المبحث الرابع من مباحث الجهة الأولى ، وهو تحقيق أنّه هل يعتبر كون الضمان مقتضى نفس العقد أم يكفي كونه مقتضى الشرط؟ ولا يخفى أنّ المناسب تأخير هذا البحث عن المقام ، لعدم تماميّة البحث الثالث بعد ، فإنّ المصنف وإن رجّح العموم بلحاظ الصنف على النوع ، إلّا أنّ احتمال كونه بلحاظ أشخاص كلّ صنف باق بحاله ، وسيأتي بعد أسطر إبطاله. كما أنّ البحث الخامس وهو أن الباء سببية أو ظرفية مقدّم رتبة على البحث عن اختصاص اقتضاء الضمان بنفس العقد ، أو تعميمه إلى اقتضاء الشرط أيضا.

وكيف كان فتوضيح ما أفاده : أنّ اقتضاء العقد الصحيح للضمان تارة يكون بذاته كالبيع ، وأخرى يكون بالشرط النافذ بأدلة الشروط ، كقوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم» كما إذا شرط في عقد الإجارة أن يكون المستأجر ضامنا للعين ـ مع عدم اقتضاء ذات الإجارة ضمانها ، وأنّ يده على العين أمانيّة لا تضمنها لو تلفت بآفة سماوية لا بتعدّ وتفريط ـ فلو تلفت كان المستأجر ضامنا لها ، لوجوب الوفاء بالشرط الجائز في نفسه ، كوجوب الوفاء بنفس العقد.

وكذا الكلام في ضمان العين المعارة لو شرط المعير ضمانها على المستعير.

ولا إشكال في هذا. إنّما الكلام في ما إذا شرط الضمان في مثل عقد الإجارة والعارية ، ثم تبين بطلان العقد لاختلال بعض شرائط صحته ، فهل تقتضي قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» تبعية الفاسد للصحيح في هذا الضمان العرضي الناشئ من الشرط ، أم لا تقتضيه؟ في المسألة قولان :

أوّلهما : الاقتضاء ، وهو ظاهر صاحب الرياض قدس‌سره في العارية المضمونة تبعا للمسالك.

وثانيهما : عدم الاقتضاء ، وهو مختار المصنّف قدس‌سره. واستدلّ عليه بأنّ المتبادر من قولهم : «كل عقد يقتضي صحيحه الضمان ففي فاسده كذلك» هو اقتضاء العقد


بنفسه (١) (*) ، فلو (٢) اقتضاه الشرط المتحقق في ضمن العقد الصحيح ، ففي الضمان

______________________________________________________

بطبعه للضمان ، لا بالشرط الذي هو أجنبي عن العقد وخارج عنه ، وإنّما يرتبط به بعناية الاشتراط. وعلى هذا فلا ضمان في الإجارة والعارية الفاسدتين المشروط فيهما ضمان العين.

(١) أي : بذاته ، لا بالعرض كالشرط في ضمن العقد.

(٢) هذا متفرع على اختصاص اقتضاء العقد الصحيح للضمان بنفسه ، لا مطلقا ولو بالشرط.

__________________

(*) كما أن المتبادر أو المتيقن ضمان نفس متعلق العقد ، دون توابعه. ففي الإجارة مثلا المتعلق هو المنفعة ، والعين تابعة ، وفي البيع هو العين ، والمنافع تابعة. فالقاعدة ساكتة عن ضمان غير مؤدى العقد من التوابع. ويظهر أثر هذا التفسير في المنافع غير المستوفاة ، فإنّها غير مضمونة في العقد الصحيح ، مع أنّها مضمونة في العقد الفاسد. وقد جعله المصنف نقضا على القاعدة ، لكنّه يندفع بالتفسير المزبور ، لسكوت القاعدة عن ضمان التوابع التي منها المنافع غير المستوفاة ، فتأمل جيدا.

ثمّ إنّ السيّد قدس‌سره عمّم الفساد إلى العرضي بدعوى : أنّ العقد المقرون بالشرط والمجرد عنه صنفان متغايران ، والمفروض إرادة الصنف من عموم مدخول (كلّ) ولذا لا يبقى إشكال في التمسك بهذه القاعدة (١).

وفيه : أنّ الضمان لمّا كان مستندا الى العقد وكان الشرط خارجا عنه ، لأنّ العقد المشتمل عليه عقد وشرط ، ولا يصدق العقد على المركب من العقد والشرط الذي هو التزام خارج عن الالتزام العقدي ، فيكون المراد من صنف العقد في قبال نوعه وشخصه حصص العقد بما هو عقد ، فالقيود الخارجة عن العقد أجنبيّة عن نفس العقد ، وخارجة عن ماهيّته.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٩٤.


بالفاسد من هذا الفرد المشروط فيه الضمان ـ تمسّكا بهذه القاعدة (١) ـ إشكال (٢). كما لو استأجر إجارة فاسدة ، واشترط فيها ضمان العين (٣) ، وقلنا (٤) بصحة هذا الشرط ، فهل يضمن بهذا الفاسد ، لأنّ (٥) صحيحة يضمن به ولو لأجل الشرط أم لا؟ وكذا الكلام في الفرد الفاسد من العارية المضمونة.

ويظهر من الرّياض اختيار الضمان بفاسدها (٦) مطلقا (٧)

______________________________________________________

(١) أي : ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

(٢) فلا وجه لمضمّنية العقد الفاسد المتضمن لشرط صحيح في نفسه ، لعدم كون الضمان مقتضى ذات العقد.

(٣) تقدّم آنفا توضيح هذا الفرع بقولنا : «فلا ضمان في الإجارة والعارية الفاسدتين .. إلخ».

(٤) غرضه من هذه الجملة الحاليّة : أن التنظير بالإجارة الفاسدة ـ المتضمّنة لشرط ضمان العين ـ للاقتضاء العرضي يتوقف على الفراغ من صحة هذا الشرط في نفسه ، فلو تأمّلنا في أصل جوازه كان مثال الإجارة أجنبيّا عن اقتضاء الشرط للضمان ، لوضوح أنّ اقتضاءه له منوط بمشروعية الشرط في نفسه حتى يجب الوفاء به لاشتراطه في ضمن العقد.

(٥) هذا تعليل للضمان بالفاسد فيما إذا كان المقتضي للضمان هو الشرط لا ذات العقد.

(٦) أي : بفاسد العارية المضمونة.

(٧) يعني : حتى إذا كان الضمان باقتضاء الشرط ، الذي هو مورد البحث من حيث الاندراج في قاعدة «ما يضمن» فيظهر من ذلك ذهاب صاحب الرياض قدس‌سره إلى تعميم الضمان إلى الاقتضاء الشرطي أيضا ، إذ لا مدرك للضمان في فاسد العارية المضمونة إلّا هذه القاعدة.


.................................................................................................

______________________________________________________

قال في الرياض ـ في ما لو استعار من الغاصب ، وتلفت العين بيد المستعير ، فرجع المالك على الغاصب ـ ما لفظه : «لم يرجع ـ يعني الغاصب ـ على المستعير ، إلّا مع علمه أو كون العين مضمونة ، فيرجع عليه فيهما ، لاستقرار الضمان عليه في الأوّل ، وإقدامه في الثاني على الضمان ، مع صحة العارية. فكذا عليه الضمان مع الفساد ، للقاعدة الكلية : أنّ كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» (١).

وتوضيح المراد من عبارة الرياض بحيث تكون شاهدة لما استظهره المصنف منها ـ من أنّ الضمان في العقد الصحيح إن كان للشرط الضمني كان كذلك في العقد الفاسد ـ هو : أنّ السيد قدس‌سره حكم بأنّ الغاصب لو أعار العين المغصوبة حتى ينتفع المستعير بها وتلفت عنده رجع المالك على الغاصب ، وأخذ بدل ماله منه ، ولا يجوز للغاصب الرجوع على المستعير ، إلّا في صورتين :

إحداهما : علمه بأنّ العين المعارة مغصوبة ، وليست ملكا للمعير ، مع عدم إذن المالك في التصرف فيها ، فيستقرّ الضمان على المستعير ، لأنّه من تعاقب الأيدي.

ثانيتهما : جهله بالغصب ، لكن كانت العين مضمونة ، إمّا لكونها من الذهب والفضة ، وإمّا لأنّ الغاصب شرط على المستعير ضمان العين.

ففي كلتا الصورتين يضمن المستعير من جهة إقدامه على الضمان. وبهذا تندرج المسألة في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» لأنّ العارية الصحيحة التي أقدم المستعير فيها على الضمان تكون مضمونة ، فكذا يثبت الضمان في فاسدتها ، كما في عارية الغاصب. ووجه فسادها انتفاء شرط الصحة وهو ملك العين والانتفاع ، أو الاذن.

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ١ ، ص ٦٢٥.


تبعا لظاهر المسالك (١).

ويمكن (٢) جعل الهبة المعوّضة من هذا القبيل ، بناء على

______________________________________________________

(١) قال الشهيد الثاني قدس‌سره ـ في شرح قول المحقق : «ولو استعاره من الغاصب وهو لا يعلم كان الضمان على الغاصب .. وكذا لو تلفت العين في يد المستعير» وأنّ في المسألتين قولين ـ ما لفظه : «والحاصل : أنّ المالك مخيّر في الرجوع على كلّ منهما ، فإن رجع على المستعير رجع على الغاصب إن لم تكن العارية مضمونة ، وإلّا رجع عليه بغير ما قدم على ضمانه. وربّما احتمل هنا ضعيفا رجوعه ـ أي رجوع المستعير على الغاصب ـ مطلقا ـ يعني سواء كانت العارية مضمونة أم لا ـ لأنّ استحقاق العين أوجب فساد العارية ، فلا تكون مضمونة ، وهو مغرور مع الغصب ، فيرجع على من غرّه.

ويضعّف بأنّ غروره في الغصب لا مدخل له هنا في الضمان ، لأنّا لم نضمّنه من حيث الغصب ، بل من حيث كونها عارية مضمونة ، ودخوله على ذلك ، فإذا تبيّن فسادها لحق حكم الفاسد بالصحيح كما سلف من القاعدة. وإن رجع المالك على الغاصب لم يرجع على المستعير ، إن لم تكن مضمونة ، وإلّا رجع عليه بما كان يضمنه لو كانت صحيحة» (١).

ودلالتها على تبعية الفاسد للصحيح في الحكم بالضمان ـ حتّى إذا كان للشرط ـ أظهر من عبارة الرياض ، لتصريحه بأنّ ضمان المستعير لا يستند إلى الغصب ، بل إلى كون العارية مضمونة ، لأنّه أقدم على ضمانها ، ومن المعلوم أنّ التعليل بالاقدام ـ مع جهله بالغصب ـ إمّا أن يكون لشرط الضمان في هذه العارية الفاسدة ، وإمّا لكون العين المعارة ذهبا أو فضّة ، هذا.

(٢) غرضه قدس‌سره بيان فرد ثالث لما إذا كان ضمان العوض مستندا إلى الشرط لا باقتضاء ذات العقد ، وذلك كالهبة المشروط فيها العوض ، كما إذا وهب زيد كتابه لعمرو على أن يهبه عمرو دينارا. ففي هذه الهبة المشروطة احتمالان :

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٤١ و ١٤٢.


أنّها هبة مشروطة ، لا معاوضة (١).

وربّما يحتمل (٢) في العبارة أن يكون معناه : أنّ كلّ شخص من العقود

______________________________________________________

الأوّل : أنّ عقد الهبة يفيد تمليك عين مجّانا ، ولا يقتضي بنفسه ضمان العوض ، فأخذ العوض من المتهب يستند إلى الشرط. فتكون الهبة المشروط فيها العوض نظير العارية المشروط فيها الضمان ، في أنّ منشأ الضمان هو الشرط لا ذات العقد. وهذا الاحتمال قوّاه المصنّف قدس‌سره في أوائل البيع عند تعرّضه للنقوض الواردة على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» فراجع (١).

الاحتمال الثاني : أنّ الهبة المعوّضة معدودة من المعاوضات كالبيع والإجارة والصلح المعاوضيّ ونحوها. وعلى هذا يستند ضمان العوض إلى ذات العقد لا إلى الشرط.

(١) إذ لو كانت معاوضة كان اقتضاؤها للضمان ذاتيّا لا شرطيّا ، ضرورة أنّ المقتضي للضمان حينئذ نفس العقد ، لا الشرط المجعول فيه. هذا تمام الكلام في البحث الرابع ، وهو أنّ اقتضاء الضمان مختصّ بذات العقد ، أو يعمّ الشرط.

(٢) هذا رجوع إلى البحث الثالث ، وهو تحقيق أنّ العموم هل هو نوعيّ أم صنفيّ أم فرديّ ، وقد تقدّمت الخدشة في إرادة العموم بلحاظ الأنواع ، وبقي التعرض لاحتمال العموم الأفرادي.

وكيف كان فاحتماله مذكور في الجواهر ـ وإن لم يظهر أنّ المحتمل هو أو غيره ـ بقوله : «بل قد يقال : بشمول هذه القاعدة للفرض ـ أي : فساد الإجارة ـ بناء على إرادة أشخاص العقود منها ، لا أصنافها ، ولا ريب في عدم الضمان في المقام لو فرض صحة العقد المزبور ، فكذا لا يضمن به على الفساد ، للقاعدة المزبورة .. إلخ» (٢).

__________________

(١) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٢٤١ ـ ٢٤٥.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٢٤٧.


يضمن به لو كان صحيحا ، يضمن به مع الفساد.

______________________________________________________

وتوضيحه : أنّهم حكموا في الإجارة الفاسدة بوجوب أجرة المثل ، مع فرض استيفاء المنفعة كلّا أو بعضا ، سواء زادت على المسمّى أم نقصت عنه. واستثنى الشهيدان قدس‌سرهما صورة واحدة ، فحكما بعدم ضمان اجرة المثل فيها ، وهي ما إذا كان منشأ الفساد اشتراط عدم الأجرة ، أو عدم ذكرها في العقد بنحو يستفاد منه إرادة عدم بذل الأجرة. والوجه في عدم وجوب اجرة المثل على من استوفى المنفعة هو : إقدام العامل على العمل مجّانا وبلا عوض.

هذا ما أفاده الشهيدان قدس‌سرهما. ووجّه صاحب الجواهر قدس‌سره هذه الفتوى بجعلها من مصاديق قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بتقريب : أنّ «كلّ عقد يضمن .. إلخ» عنوان مشير إلى أشخاص العقود المنشئة في الخارج ، ويفرض لكلّ عقد حالتان إحداهما الصحة ، والأخرى البطلان. فالمراد بالعقد في أصل القاعدة ـ أعني به «ما يضمن بصحيحه» ـ هو : أنّ كل شخص من العقود مقتض للضمان لو كان صحيحا ، فهو مقتض له لو كان فاسدا. مثلا : بيع الكتاب بالدينار موجب لضمان كلا المتبايعين ، لكونه عقدا معاوضيّا ، فهذا الفرد من البيع إن كان فاسدا ـ لاختلال بعض شرائطه ـ كان مضمّنا أيضا.

والمراد بالعكس أعني «ما لا يضمن» هو : أنّ كل ما صدر مجّانا ـ كالهبة الخالية عن العوض والصلح المفيد للإبراء ـ ممّا لا يفيد الضمان إذا كان صحيحا ، فكذا لا يفيده إذا وقع فاسدا. وعلى هذا فالإجارة الفاقدة للأجرة باطلة شرعا ، لأنّ حقيقة الإجارة «تمليك منفعة بعوض معلوم» أو «التسليط على العين لاستيفاء منفعتها بعوض» فخلوها عن الأجرة مناف لحقيقتها. إلّا أنّ هذه الإجارة مندرجة في «ما لا يضمن» لأنّها لو وقعت صحيحة شرعا لما كانت مضمّنة لمن يستوفي المنفعة ، فكذا لا تكون مضمّنة له على تقدير فسادها.

والحاصل : أنّ المدار في كون عموم القاعدة بلحاظ أشخاص العقود وأفرادها هو فرض حالتين لكل عقد خارجي ، فنفس هذا الفرد إن اقتضى الضمان على تقدير


ورتّب (١) عليه عدم الضمان في ما لو استأجر بشرط أن لا أجرة ، كما اختاره الشهيدان (٢) ، أو باع بلا ثمن (٣)

______________________________________________________

الصحة اقتضاه على تقدير الفساد. وإن لم يقتض الضمان على فرض صحته لم يقتضه على فرض فساده.

وبهذا يندرج مثال الإجارة الفاسدة ـ من جهة خلوّها عن الأجرة ـ في قاعدة «ما لا يضمن». هذا توضيح ما نسبه المصنف إلى بعضهم من إرادة العموم الأفرادي ، وما يترتب عليه من الثمرة.

(١) يعني : ورتّب هذا المحتمل ـ وهو صاحب الجواهر ـ على أنّ معنى العموم هو كل شخص .. إلخ عدم الضمان في ما لو استأجر بشرط عدم الأجرة ، فلا يلاحظ أنّ نوع الإجارة أو كلّ صنف منها مضمّن أو غير مضمّن ، بل المدار على شخص الإجارة الواقعة بين الطرفين ، فإن كان صحيحها مؤثّرا في الضمان فكذا فاسدها ، وإن لم يكن صحيحها مؤثّرا في الضمان فكذا فاسدها.

(٢) قال الشهيد الثاني قدس‌سره ـ في ضمان أجرة المثل لو استوفى المنفعة وكانت الإجارة باطلة ـ ما لفظه : «واستثنى الشهيد رحمه‌الله من ذلك ما لو كان الفساد باشتراط عدم الأجرة في العقد ، أو متضمّنا له كما لو لم يذكر أجرة ، فإنّه حينئذ يقوى عدم وجوب الأجرة ، لدخول العامل على ذلك. وهو حسن» (١).

ولكن المحقق الثاني اعترض على إطلاق كلام الشهيد ، وفصّل بين العمل وبين سكنى الدار ، فراجع (٢).

(٣) هذا المثال غير مذكور في كلام الشهيدين قدس‌سرهما ، وإنّما أضافه المحقق الثاني في ما فصّله في كلاميهما ، فراجع.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٨٤.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ١٢٠ و ١٢١.


كما هو أحد وجهي العلّامة في القواعد (١).

ويضعّف (٢) بأنّ الموضوع هو العقد الذي وجد له

______________________________________________________

وأما العلّامة قدس‌سره فاقتصر على احتمال الضمان وعدمه ، فقال : «وكذا لو قال : بعتك بلا ثمن ، أو : على أن لا ثمن عليك ، فقال : قبلت. ففي انعقاده هبة نظر ، ينشأ من الالتفات إلى المعنى ، واختلال اللفظ. وهل يكون مضمونا على القابض؟ فيه إشكال ، ينشأ من كون البيع الفاسد مضمونا. ودلالة اللفظ على إسقاطه» (١).

وكيف كان فتقريب انتفاء الضمان في البيع بلا ثمن هو : أنّ شخص هذا البيع لو كان صحيحا لم يكن المشتري ضامنا للثمن ، لأنّ البائع أسقطه ، وحيث كان بيعا فاسدا لحقه حكم الصحيح في عدم الضمان.

(١) والوجه الآخر في كلام العلّامة هو الضمان ، لأنّ نوع البيع الصحيح يفيده ، فكذا فاسده ، فيندرج في أصل القاعدة ، لا في عكسها.

(٢) يعني : يضعّف احتمال إرادة الاستغراق بلحاظ الأشخاص والأفراد ، على ما تقدّم في كلام الجواهر. وحاصل التضعيف : أنّ الموضوع في قاعدة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» هو العقد ، وأنّ له قسمين أحدهما صحيح والآخر فاسد ، ويكون الفاسد تابعا للصحيح في الضمان ، ومن المعلوم ظهور التقسيم في فعلية أقسامه ، فلا بدّ من أن يكون للعقد فردان ، أحدهما صحيح فعلا وهو الموجود خارجا جامعا للشرائط ، والآخر فاسد فعلا ، لاختلال شرائطه الشرعيّة وإن كان عقدا عرفيّا.

والتحفّظ على ظهور الموضوع الجامع للقسمين في فعليّتهما يتوقف على كون الاستغراق بحسب النوع أو الصنف ، ولا وجه لإرادة الشخص ، ضرورة عدم تحمّل الفرد الشخصي ـ الموجود خارجا ـ للاتصاف فعلا بوصفين متقابلين وهما الصحة والفساد ، بل يوجد إمّا صحيحا وإمّا فاسدا. ويتوقف الاتّصاف على التقدير والفرض

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٥١ ، الشرط الأول من شرائط بيع السلف (الطبعة الحجرية).


بالفعل (١) صحيح وفاسد ، لا ما (٢) يفرض تارة صحيحا وأخرى فاسدا. فالمتعيّن (٣) بمقتضى هذه القاعدة (٤) الضمان في مسألة البيع (٥) ، لأنّ البيع الصحيح

______________________________________________________

بأن يقال : لو اقتضى هذا الفرد الخارجي ـ كالإجارة بلا أجرة والبيع بلا ثمن ـ الضمان على فرض صحته ، لاقتضى الضمان على فرض فساده. ومن المعلوم أنّ الفرد الواحد من كل عقد له حكم فعلي واحد ، ولا يتعدّد حكمه الشرعي بمجرّد الفرض.

والحاصل : أنّ ظهور القاعدة في فعلية القسمين يمنع عن الحمل على الأشخاص ، وقد سبق أيضا امتناع حمل العموم على الأنواع ، فتعيّن مختار المصنف وهو الحمل على الصنف ، لصحة أن يقال : إنّ الإجارة إن كانت صحيحة ـ لاجتماع الشرائط فيها من ذكر الأجرة وغيرها ـ ففيها وفي فاسدها الضمان ، فالإجارة بلا أجرة فاسدة ، وهي تابعة للإجارة الصحيحة في الضمان. وكذا البيع بلا ثمن ، فإنّه بيع فاسد مضمّن ، لكون نوع البيع وصنفه مقتضيا لضمان المتبايعين.

هذا بناء على صدق عنواني البيع والإجارة عرفا على المثالين. وأمّا إذا قيل بالتجوز في الصيغة ـ وأنّ البيع بلا ثمن إنشاء للهبة ، وأنّ الإجارة بلا أجرة إنشاء للعارية ـ كانا أجنبيّين عن المقام ، لصحتهما هبة وعارية ، ولا ضمان فيهما ، فلاحظ.

(١) يعني : أنّ العقد الصحيح فرد ، والعقد الفاسد فرد آخر ، وكلّ منهما يمكن وجوده خارجا.

(٢) يعني : ليس موضوع القاعدة فردا واحدا من العقد يفرض تارة صحيحا على تقدير اجتماع شرائطه ، وأخرى فاسدا على تقدير اختلالها.

(٣) هذا نتيجة بطلان كون العموم والاستغراق بحسب أشخاص العقود ، كما احتمله صاحب الجواهر قدس‌سره.

(٤) أي : قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

(٥) أي : البيع بلا ثمن. وقد عرفت وجه الضمان فيها آنفا ، وأنّها مورد لأصل القاعدة لا عكسها.


يضمن به (١).

نعم (٢) ما ذكره بعضهم من التعليل لهذه القاعدة «بأنّه أقدم على العين مضمونة عليه» (٣) لا يجري في هذا الفرع (٤). لكن الكلام في معنى القاعدة ، لا في مدركها.

______________________________________________________

(١) فكذا فاسد البيع ، لانطباق عنوان «البيع» عليه.

(٢) هذا استدراك على قوله : «فالمتعين .. الضمان في مسألة البيع» وحاصله : أنّ الشهيد الثاني قدس‌سره استدلّ ـ في كلامه الآتي في المتن ـ بالاقدام على الضمان على قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ومن المعلوم أنّ هذا التعليل لا يجري في «البيع بلا ثمن» ضرورة تحقق الإقدام المجّاني فيه ، المضادّ للإقدام الضماني في البيع مع الثمن. وهكذا سائر العقود المعاوضية.

وعليه فلا ينطبق دليل القاعدة على البيع بلا ثمن ، والإجارة بلا اجرة. فيندرج البيع المزبور في الهبة المجانية التي هي من صغريات العكس ، وهو «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وكذا تندرج الإجارة المزبورة في العارية. وبهذا يشكل حكم المصنف بضمان المشتري للثمن الواقعي في مثال البيع بلا ثمن.

لكنّه قدس‌سره تخلّص عن هذا الإشكال بأنّ الكلام فعلا في معنى القاعدة وتفسير مفرداتها ، لا في مدركها ، حتى يقال : بأنّ الإقدام على الضمان مخصوص بالعقد المتضمن للعوض ، ولا يجري في العقد العاري عنه ، ومن المعلوم أنّ معنى القاعدة شامل للبيع بلا ثمن ، والإجارة بلا أجرة ، هذا.

لكن ينبغي الاهتمام في البحث عن مدرك القاعدة ومقدار دلالته ، ثم حملها على ما يساعد عليه دليلها.

(٣) سيأتي قريبا استفادة هذا التعليل من كلام شيخ الطائفة ، وكذا ورد التصريح به في كلام الشهيد الثاني وغيره.

(٤) وهو البيع بلا ثمن ، والمناسب ذكر مسألة الإجارة بلا أجرة أيضا ، لارتضاعهما من ثدي واحد. هذا تمام الكلام في البحث الثالث ، المتكفل لإثبات كون العموم بحسب الأصناف ، لا الأنواع ولا الأفراد.


ثمّ (١) إنّ لفظة «الباء» في «بصحيحه وبفاسده» إمّا بمعنى «في» بأن يراد : كلّما تحقّق الضمان في صحيحه تحقّق في فاسده (٢).

______________________________________________________

المبحث الخامس : حرف «الباء» ظرفيّة أو سببيّة

(١) هذا شروع في البحث الخامس من مباحث الجهة الاولى ، وهو أنّ «الباء» في «بصحيحه وبفاسده» ظرفية أو سببيّة ، وغرضه قدس‌سره عدم التفكيك في الضمان بين العقد الصحيح والفاسد ، وأنّ كون الباء للظرفية أو السببيّة لا يوجب التفكيك المزبور.

توضيحه : أنّ الباء يستعمل في الظرفية كقوله تعالى (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) ويستعمل في السببيّة كقوله عزّ من قائل (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) وقوله (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ). فعلى الظرفية لا يلزم تفكيك في معنى «الباء» ، فإنّ المعنى حينئذ : أنّ الضمان يكون في كلّ من العقد الصحيح والفاسد.

وعلى السببيّة المطلقة الشاملة لكلّ من العلّة التامّة والناقصة لا يختلف الضمان فيهما أيضا ، لكون العقد في كليهما سببا ناقصا للضمان.

أمّا في الصحيح فلأنّه لو لم يتحقق فيه القبض لم يتحقق الضمان ، لقولهم : «وبالقبض ينتقل الضمان». وأمّا في الفاسد فلكون العقد سببا للقبض الذي هو منشأ للضمان. فللعقد دخل في الضمان في الصحيح والفاسد ، فالسببيّة ملحوظة في كليهما ومصحّحة لاستعمال الباء فيهما في السببيّة.

وبالجملة : فالعقد سبب ناقص للضمان والقبض متمّم له. ولذا لو تلف المبيع قبل القبض كان من مال بائعه ، بل وكذا الثمن. هذا في العقد الصحيح. وفي الفاسد يكون العقد مع الاقدام على القبض مصداقا لليد ، وسيأتي توضيحه.

(٢) وبناء على الظرفية لا يستفاد من القاعدة كون الضمان مقتضى العقد أو هو


وإمّا لمطلق السببيّة الشامل للناقصة (١) ، لا العلّة التامّة ، فإنّ (٢) العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان إلّا بعد القبض كما في السّلم والصّرف (*) ، بل مطلق البيع ، حيث إنّ المبيع قبل القبض مضمون على البائع

______________________________________________________

مع القبض ، وهذا بخلاف كون «الباء» سببيّة ، إذ يجري البحث عن السببية التامّة والناقصة ، كما عرفت.

(١) يعني : لا خصوص السببيّة التامّة حتّى لا يكون القبض مؤثّرا في الضمان.

(٢) هذا تقريب عدم كون العقد الصحيح علّة تامّة للضمان.

__________________

(*) لا يخلو هذا التمثيل من المناقشة ، لأنّ القبض شرط صحة بيعي الصرف والسّلم ، فعدم الضمان فيهما قبله لعدم صحة العقد ، بمعنى عدم وجود العقد الصحيح.

وكيف كان فالأولى أن يكون «الباء» لمطلق السببيّة ، فيكون العقد سببا ناقصا للضمان ، والقبض جزء أخيرا لعلّة الضمان. كما أنّ العقد سبب تام لقلب اليد المالكية إلى غيرها ، ضرورة أنّه بنفس العقد يصير المبيع ملكا للمشتري والثمن ملكا للبائع.

وعليه فالاستيلاء على كلّ من العوضين قبل العقد استيلاء على مال نفسه ، وبعده على مال الغير بدون إذن مالكي ، أو استيمان شرعي أو مالكي يوجب عدم الضمان ، لإطلاق «على اليد» فالعقد جزء السبب للضمان ، وتمام السبب لقلب اليد المالكية.

وأمّا جعل «الباء» للظرفية فغير ظاهر ، لأنّ الظرفية الحقيقية غير حاصلة ، بداهة عدم كون العقد ظرفا حقيقة للضمان ، فلا بدّ من التأويل بجعل استعمالها في الظرفية بمناسبة السببية ، وهو تعسّف كما هو ظاهر. وكذا الظرفية الاعتبارية ، فإنّ الظرف الاعتباري للضمان هو العهدة ، كما هو واضح.

نعم العقد سبب لثبوت الضمان في العهدة. فكلّ من الظرفية الحقيقية والاعتبارية مفقود في العقد ، فلا معنى لجعل الباء للظرفية.


بمعنى أنّ دركه عليه (١) ، ويتداركه (٢) بردّ الثمن ، فتأمّل (٣).

وكذا (٤) الإجارة والنكاح والخلع ، فإنّ المال في ذلك كلّه مضمون على من انتقل عنه إلى أن يتسلّمه من انتقل إليه.

وأمّا (٥) العقد الفاسد فلا يكون علّة تامّة

______________________________________________________

(١) خبر «أنّ» والضمير راجع إلى البائع. وضمير «دركه» راجع إلى المبيع.

(٢) أي : يتدارك البائع المبيع بردّ الثمن إلى المشتري.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ الضمان ـ بمعنى تدارك مال الغير ـ أجنبي عن تلف المبيع قبل القبض ، لأنّ البيع ينفسخ حينئذ ، فيتلف المبيع في ملك مالكه وهو البائع ، وهذا ليس من الضمان في شي‌ء ، لأنّ التالف ملكه ، لا أنّ عليه تداركه من ماله.

وعلى هذا فما أفاده بقوله : «بل مطلق البيع» ـ من جعل عقد البيع في جميع موارده جزء السبب المضمّن وجزءه الآخر هو القبض ـ غير ظاهر ، وذلك لأنّ كون العقد سببا تامّا لضمان المشتري ـ في غير بيع الصرف والسّلم ـ لا ينافي كون المبيع في ضمان البائع قبل قبضه ، لفرض انفساخ هذا السبب التام بتلفه بيد البائع ، ومعه لا يبقى العقد الموجب لضمان المشتري. وهذا بخلاف القبض في بيع الصرف والسّلم ، لدخله في سببيّة العقد للضمان المعاوضي.

(٤) في كون الضمان على من انتقل عنه ما لم يتسلّمه المنتقل إليه. فإذا تلفت الأجرة بيد المؤجر ـ في إجارة الأعمال ـ تلفت منه لا من مال الأجير. وكذا الحال في تلف المهر بيد الزوج ، وتلف عوض الخلع بيد الزوجة ، فالقبض في هذه الثلاثة جزء السبب المضمّن للطرف الآخر.

(٥) هذا في قبال قوله : «فإنّ العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان» وغرضه توجيه سببيّة العقد الفاسد للضمان ، بناء على كون «الباء» سببيّة ، فإنّ العقد الفاسد يكون بحكم العدم فكيف يوجب الضمان؟ ولذا تصدّى لتوجيه سببيّته بأحد وجهين :


أبدا (*) بل يفتقر في ثبوت الضمان إلى القبض ، فقبله لا ضمان. فجعل الفاسد سببا إمّا (١) لأنّه المنشأ للقبض على (٢) وجه الضمان

______________________________________________________

الأوّل : أنّ الضمان في العقد الفاسد وإن كان منوطا بالقبض ، إلّا أنّ الموجب للإقدام على القبض هو العقد الفاسد ، فهو سبب السبب ، ومن المعلوم صحة إسناد الضمان إلى سبب السبب كصحة إسناده إلى نفس السبب أي القبض.

الثاني : أنّ العقد الفاسد بنفسه سبب ناقص للضمان ، وتتوقف عليّته التامّة على تحقق الشرط ، وهو القبض على وجه الضمان لا مجانا. وعليه فالسبب مؤلّف من العقد الفاسد والقبض. وهذا نظير بيع الصرف والسّلم ، إذ يتوقف الضمان ـ في العقد الصحيح ـ على قبض الثمن في السّلم ، والتقابض في الصّرف.

والحاصل : أنّ مطلق السببيّة الجاري في بعض العقود الصحيحة يجري في العقد الفاسد أيضا ، فلا مانع من جعل «الباء» سببيّة ، هذا.

(١) هذا هو الوجه الأوّل لتوجيه جعل «الباء» سببيّة في العقد الفاسد كالصحيح.

(٢) قيد للقبض ، يعني : القبض المبني على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، في قبال القبض المبني على المجّانية ، كما في الهبة والعارية الفاسدتين ، لعدم إقدام المتهب والمستعير على ضمان ما قبضاه بالعقد الفاسد.

__________________

(*) هذه العبارة توهم كون العقد الصحيح دائما أو غالبا أو نادرا علّة تامّة للضمان ، وهذا ينافي قوله : «فان العقد الصحيح قد لا يوجب الضمان. الى قوله : بل مطلق البيع» حيث إنّ المبيع قبل القبض مضمون على البائع ، إلى آخر ما أفاده ، فإنّ ظاهره عدم كون العقد الصحيح علّة تامّة للضمان أبدا ، فالمناسب أن يقول : وأمّا العقد الفاسد فكذلك أيضا في عدم عليّته التامّة أبدا.


الذي هو سبب للضمان (*) ، وإمّا (١) لأنّه سبب (٢) الحكم بالضمان بشرط القبض (**). ولذا (٣) علّل الضمان الشيخ وغيره «بدخوله على أن تكون العين مضمونة عليه» (١). ولا ريب (٤) أنّ دخوله على الضمان إنّما هو بإنشاء العقد الفاسد ، فهو (٥) سبب لضمان ما يقبضه.

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني ، يعني : وإمّا لأنّ العقد الفاسد مقتض للحكم بالضمان بشرط كون القبض على وجه الضمان لا على وجه المجانية ، وبهذا يكون العقد من أفراد مطلق السببيّة.

(٢) فالعقد هو المقتضي للضمان ، لا أنّه سبب السبب كما كان في الوجه الأوّل.

(٣) أي : ولأجل اشتراط الضمان بالقبض علّل شيخ الطائفة وغيره .. إلخ. وغرضه الاستشهاد بكلامهم على صحة الوجه الثاني ، وأنّ العقد الفاسد من أفراد مطلق السببيّة ، إذ بالعقد الفاسد يتحقق إقدام المتعاقدين على الضمان.

(٤) غرضه تطبيق التعليل ـ الوارد في كلام الشيخ ـ على الوجه الثاني ، وهو أنّ الاقدام على الضمان يكون بإنشاء العقد الفاسد.

(٥) يعني : فإنشاء العقد الفاسد سبب لضمان ما يقبضه ، إذ لولاه لما وقع القبض على وجه الضمان المقرّر عند المتعاقدين.

__________________

(*) لا يختص هذا التوجيه بالعقد الفاسد ، بل يجري في الصحيح أيضا ، فلا وجه لتخصيصه بالفاسد.

(**) لكن هذا التوجيه ينافي ما ذكره سابقا بقوله : «ثمّ إنّ المتبادر من اقتضاء الصحيح للضمان اقتضاؤه له بنفسه». وجه المنافاة : أنّ الضمان يكون باقتضاء الشرط لا نفس العقد.

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٥٨ و ٦٥ و ٦٨ و ٨٥ و ٨٩ ؛ مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤


والغرض من ذلك كلّه (١) دفع توهّم أنّ سبب الضمان في الفاسد هو القبض لا العقد الفاسد ، فكيف يقاس الفاسد على الصحيح في سببيّة الضمان ، ويقال :

______________________________________________________

(١) أي : من توجيه سببيّة العقد الفاسد للضمان بالوجهين المتقدمين ، وهما : كون العقد سبب السبب ، أو سببا ناقصا. وغرضه من هذا البيان دفع توهّمين :

الأوّل : أنّ جعل «الباء» للسببيّة في العقد الصحيح أمر معقول. بخلاف العقد الفاسد ، لعدم تأثيره في ضمان المتعاقدين ، إذ تمام المؤثّر في الضمان هو القبض. وعليه فلا معنى لأن يقال : «إنّ العقد الذي يضمن بسببه إن كان صحيحا يضمن بسببه إن كان فاسدا» لما عرفت من عدم دخل العقد الفاسد في الضمان ، وعليه يتعيّن جعل الباء للظرفيّة ، هذا.

وقد دفعه المصنف بصحة إطلاق «السبب» على العقد الفاسد ، إمّا لأنّه سبب السبب ، ومن المعلوم أنّ سبب السبب سبب بمقتضى قياس المساواة. وإمّا لأنّه سبب ناقص ، ويكون مشروطا بالقبض ، لا أنّ تمام السبب هو القبض كما زعمه المتوهّم.

الثاني : أنّ مقتضى سببيّة «الباء» هو كون العقد علّة تامة للضمان ، من دون أن يكون للقبض دخل فيها أصلا ، سواء أكان العقد صحيحا أم فاسدا. ومن المعلوم أنّ هذا الظهور ينافي ما تقرّر عندهم من عدم تأثير العقد الفاسد في الضمان إلّا بالقبض. ولا يرتفع هذا التنافي إلّا بتخصيص قاعدة «ما يضمن» بأن يقال : «كل عقد يضمن بسبب صحيحه يضمن بسبب فاسدة ، إلّا العقد الفاسد قبل القبض» ويبقى للقاعدة موارد ثلاثة وهي العقد الصحيح مطلقا مع القبض وبدونه ، والعقد الفاسد بعد القبض.

وقد دفعه المصنّف قدس‌سره بأنّه لا موجب للتخصيص المزبور أصلا ، إذ لا يراد من سببيّة العقد للضمان عليّته التامة حتى يقع التنافي المذكور ، بل المراد مطلق السببيّة ولو الناقصة ، ولا يستند الضمان في العقد الفاسد إلى خصوص القبض حتى يبقى مجال للتوهم. وعليه فالضمان مستند إلى العقد ، إمّا لأنّه علة العلة ، وإمّا لأنّه مقتض وسبب ناقص له.


كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده؟ (١).

وقد ظهر من ذلك (٢) أيضا فساد توهم أنّ ظاهر القاعدة عدم توقف الضمان في الفاسد على القبض ، فلا بدّ من تخصيص القاعدة بإجماع ونحوه (٣) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : مع أنّه لا يضمن بنفس العقد الفاسد ، بل بالقبض المترتب عليه.

(٢) أي : من تفسير سببيّة الضمان بقوله : «إمّا .. وإمّا» فإنّ السببية بأحد الوجهين المتقدمين تدفع توهم عدم توقف الضمان في الفاسد على القبض ، كما عرفته آنفا.

(٣) كحديث «على اليد» الظاهر في إناطة الضمان بالقبض. هذا تمام الكلام في الجهة الاولى ، وهي شرح مفردات القاعدة.

__________________

(*) لا يخفى أنّ المقبوض بالعقد الفاسد جعل من صغريات القاعدة المعروفة وهي : كلّما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده. والبحث فيه يقع في جهات :

الأولى : أنّ المذكور في التذكرة هو العقد ، فإنّه قال في إجارتها : «وحكم كل عقد فاسد حكم صحيحه في الضمان في وجوب الضمان وعدمه ، فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده ، وما لم يجب في صحيحه لا يجب في فاسده» (١). ونحوه ما عن القواعد.

وفي إجارة جامع المقاصد : «فلأنّ كلّ عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وبالعكس» (٢).

وفي إجارة مجمع الفائدة : «ولما تقرّر عندهم أنّ كلّ ما لا يضمن وبصحيحه لا يضمن بفاسده» (٣).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ١٣٨ ، السطر ١٧ و ١٨.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٢٥٨.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٦٩.


.................................................................................................

__________________

وبالجملة : المذكور في كلمات الأصحاب عدا العلّامة قدس‌سره عنوانان : أحدهما «ما يضمن» والآخر «كل ما يضمن .. إلخ». ومقتضى كونهما من ألفاظ العموم ما لم تقم قرينة على العهد هو مطلق السبب عقدا كان أو إيقاعا أو برزخا بينهما كالنكاح على ما قيل. وتعبير العلّامة بالعقد لا يقدح بعد إجرائهم لهذه القاعدة في غير العقد من الإيقاعات كالخلع والجعالة الفاسدين بناء على عدم كون الجعالة عقدا كما قيل. ومن الأحكام كالشفعة والقسمة عندنا من كونها إفراز حقّ ، لا معاوضة كما عن العامة. واللقطة إن وقع قصد تملكها على وجه الفساد ، هذا.

ويمكن إرادة العقد بمعناه اللغوي أعني به التعهّد ، فيشمل جميع ما ذكرنا.

وكيف كان فاختلاف العبارات في كون الموضوع عنوان العقد كما في التذكرة ، أو «ما يضمن» كما في إجارة مجمع الفائدة ، أو «كلما يضمن» كما في غصب جامع المقاصد غير مهمّ بعد كون العبرة بدليل القاعدة ، لعدم كون هذه القاعدة بنفسها متن رواية معتبرة ، ولا معقد إجماع حتى يبحث في أنّ الموضوع هو مطلق الإنشاء عقدا كان أم إيقاعا ، أو خصوص العقد ، فدائرة موضوع القاعدة سعة وضيقا تابعة لدليلها ، كما لا يخفى.

الجهة الثانية : أنّ الضمان يستعمل في ثلاثة معان :

أحدها : ما اختاره المصنّف قدس‌سره من كون المال متداركا بعوض بحيث تكون الخسارة واقعة في ماله الأصلي ، ففي طرف العقد الصحيح يكون المال متداركا بسبب المعاوضة بماله الأصلي ، بحيث إذا تلف كانت خسارته من ماله الأصلي المجعول عوضا ، وفي طرف العقد الفاسد يكون متداركا بما يؤدّيه عند تلفه بدلا عنه من ماله الأصلي.

وبعبارة أخرى : المراد بالضمان في الجملتين هو كون درك المضمون عليه بمعنى وقوع خسارته في ماله الأصلي ، فتلفه يوجب نقصان ماله ، لوجوب تداركه منه. وقد جعل الضمان بهذا المعنى جامعا للضمان في العقود الصحيحة والفاسدة ، وفي تلف


.................................................................................................

__________________

الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض. ثمّ قال : «انّ المراد بالضمان بقول مطلق هو لزوم تداركه بعوضه الواقعي» وكأنّ مراده أنّ الضمان ظاهر في الضمان الواقعي ما لم تقم قرينة على خلافه ، وقد قامت على الضمان بالمسمّى في المقبوض بالبيع الصحيح ، دون البيع الفاسد ، فيحمل على المعنى الظاهر فيه.

وهذا ليس تفكيكا في الضمان ، لوجود الجامع. واختلاف الخصوصيّات لا ينافي وجود الجامع الذي بلحاظه لم يكن تفكيك ، لكونها من قبيل تعدّد الدال والمدلول.

ثانيها : ما نقله المصنف قدس‌سره وزيّفه ، وهو : كون تلفه عليه وأنّه يتلف مملوكا له ، فالمأخوذ بالعقد الصحيح يكون تلفه منه ، وهو عين كونه خسارة عليه ، والمأخوذ بالعقد الفاسد يكون تلفه موجبا لترتب الخسارة عليه ، للزوم تداركه بالبدل.

وعلى هذا فالتالف تارة نفسه خسارة كما في العقد الصحيح ، فإنّ الكتاب المبيع بدينار مثلا إذا تلف عند المشتري يكون نفسه خسارة على المشتري ، لأنّه ماله. وأخرى بدله خسارة كما في العقد الفاسد ، فإنّ الكتاب المزبور ليس نفسه خسارة على المشتري ، لفرض بقائه على ملك البائع ، بل يكون بدله ـ مثلا أو قيمة ـ خسارة على المشتري.

هذا ما ينسب إلى الشيخ الجليل الشيخ علي رحمه‌الله في حاشية الروضة. وقد تقدّمت عبارته في التوضيح ، فراجع. وقد ينسب الى الرياض أيضا في النقد والنسيئة في مسألة تقدير الثمن.

ثالثها : مطلق التعهد الجامع بين صورتي التلف وعدمه ، فالتعهّد في صورة البقاء يكون بحفظه وردّه إلى صاحبه ، وفي صورة التلف بردّ مثله أو قيمته. يعني : أنّ ما يقتضي صحيحه التعهّد ـ أي عدم المجّانية ـ ففاسده أيضا كذلك. وأمّا كونه بالمثل أو القيمة أو المسمّى فلم يتعرض القاعدة لها حينئذ.

وتظهر الثمرة بين هذه التفاسير الثلاثة في شمول القاعدة أصلا للهبة غير المعوّضة الفاسدة ، كشمول القاعدة لها على التفسير الثاني ، لأنّه يصدق على صحيحها


.................................................................................................

__________________

عند تلف الموهوب أنّه تلف في ملك المتّهب ، ففاسده أيضا كذلك ، مع أنّها داخلة في العكس ، لحكمهم فيها بعدم الضمان.

وعدم شمولها على الأوّل والأخير ، الموجب لعدم دخول الهبة المعوّضة في أصلها ، لعدم صدق التعهّد بدفع المثل أو القيمة عند التلف في ملك المتّهب على تقدير إرادة التعهّد من الضمان ، كما هو المعنى الثالث. كعدم صدق دفع البدل والعوض على تقدير إرادة اللزوم والدرك كما هو المعنى الأوّل ، إذ التلف وإن كان في ملك المتّهب ، إلّا أنّه ليس من ماله الأصلي ، لعدم دفعه شيئا في مقابله بعنوان العوضية ، فتدخل على التقديرين في عكسها ، هذا.

كما تظهر الثمرة بين الأوّل والثالث في شمول الثالث لضمان الحيلولة ، كمن أقرّ بمال زيد لعمرو ، ثمّ أقر لزيد ، فإنّ ضمان القيمة للمالك ضمان بمعنى التعهّد الذي هو المعنى الثالث ، دون الضمان بالمعنى الأوّل وهو لزوم البدل من المثل أو القيمة ، لاختصاصه بصورة التلف. والمفروض في ضمان الحيلولة وجود العين. إلّا أن يعمّم العوض والبدل بالنسبة إلى الموجود والتالف ، فيدخل في المعنى الأوّل أيضا ، لصدق دفع العوض على بدل الحيلولة ، فيدفع البدل المزبور إلى مالك العين.

وكذا تظهر الثمرة في صدق المعنى الثالث ـ وهو التعهّد ـ على الموجود والمعدوم واختصاص المعنى الأوّل بالمعدوم ، إلّا أن يعمّم كما عرفت آنفا.

وكيف كان ففي المعنى الأوّل الذي اختاره المصنّف قدس‌سره : أنّ ردّ مال الغير إلى مالكه لاقتضاء العقد ذلك ليس ضمانا ودركا ، فإذا كان المثمن موجودا في يد البائع وردّ المشتري الثمن لا يصدق أنّه أدّى دركه. بل يقال : إنّه أدّى دينه. وكذا لو كان المبيع في يد المشتري ، وردّ الثمن إلى البائع.

لا يقال : إنّ الثمن درك المبيع ، وكان الشيخ قدس‌سره يعترف بذلك ، ولذا فرض مورد التلف ، ولا شبهة في أنّ دفع الثمن إلى البائع بعد تلف المبيع في يد المشتري ليس إلّا


.................................................................................................

__________________

كدفعه في حال وجود المبيع سواء أكان في يد البائع أم المشتري.

وعليه فتلف المبيع لا دخيل في الضمان بوجه ، لأنّ العقد مع فرض صحته يقتضي الضمان أي رد الثمن إلى البائع مع وجود المبيع عند البائع أو المشتري. كما لا دخيل في كيفية ردّ مال الغير بوجه ، فتلف المبيع لا يعقل أن يكون مضمونا على مالكه ، لعدم تعقّل ضمان الشخص مال نفسه ، كما أنّ ردّ مال الغير كالثمن إلى البائع ليس من قبيل الدرك. فما فرضه جامعا بين العقد الصحيح والفاسد ـ حتى لا يلزم التفكيك في معنى الضمان بين الصحيح والفاسد ـ لا يخلو من غموض ، هذا.

وفي المعنى الثاني الذي زيّفه المصنف قدس‌سره ـ وهو كون تلفه عليه ، وأنّه يتلف مملوكا له ـ أوّلا : استدراك قيد المملوكية ، إذ لا يعتبر في الضمان والتغريم كون التالف مملوكا للضامن ، إلّا بناء على قول من يقول بكون أداء البدل من باب التعاوض القهري شرعا بين التالف وبدله. لكنّه ضعيف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وثانيا : أنّ الإنسان لا يكون ضامنا لأمواله التالفة ، فتلف المال من الشخص لا يحقّق عنوان الضمان.

وثالثا : أنّ مجرّد تلف مال من شخص غير تلفه عليه ، إذ معنى كون تلفه عليه ترتب تدارك التالف وجبران خسارته عليه بسبب التلف. وأمّا كون نفس التلف خسارة فهو خسارة منه بلا تدارك عليه. فعنوان «تلفه» الموجب لتداركه عليه هو معنى الضمان ، وذلك منحصر في الفاسد ، فلا يكون بين تلفه منه وتلفه عليه جامع حتى يكون أحد مصداقيه في الصحيح والآخر في الفاسد.

نعم مجرّد شباهة ضمان الصحيح بضمان الفاسد ـ إمّا من جهة كونه ذا بدل كما في التفسير الأوّل ، وإمّا من جهة الخسارة كما في التفسير الثاني ـ يوجب حسن المقابلة مع الضمان في الفاسد ، كما في قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا).

وربّما يقال : في تصحيح عدم التفكيك المزبور : «بأنّ الضمان في الصحيح


.................................................................................................

__________________

والفاسد كليهما بالمثل أو القيمة ، فإنّ الضمان بالمسمّى في الصحيح قبل القبض ، وهو خارج عن القاعدة الّتي أسّست لتشريع الضمان في موارد ، وهو يتحقق بالقبض ، ويقال : إنّ بالقبض ينتقل الضمان. ومعنى انتقاله أنّ المسمّى ينقلب بعد القبض بالمثل أو القيمة. ومعنى ضمان القابض بعد قبضه ـ مع أنّ المقبوض ملكه ـ أنّه لو تلف وطرأ عليه فسخ أو انفساخ وجب عليه ردّ المثل أو القيمة ، وهو المضمون في الصحيح والفاسد .. إلخ» (١).

فمحصّل كلامه : أنّ القاعدة أجنبية عن ضمان المسمّى ، فالضمان حينئذ هو تدارك المضمون بالمثل أو القيمة مطلقا. أمّا في العقد الفاسد فواضح ، لكون الضمان فيه في صورة التلف بالمثل أو القيمة. وأمّا في العقد الصحيح فلأنّ الضمان فيه أيضا بعد التلف والفسخ أو الانفساخ إنّما هو بالمثل أو القيمة ، هذا.

وأنت خبير بما فيه ، لأنّ حمل قوله : «كلّ عقد يضمن بصحيحه» على أنّه يضمن بعد فسخه وبعد تلف المبيع في غاية الغرابة ، لأنّ المراد بالعقد حينئذ فسخه أو الفسخ بعد العقد والقبض والتلف ، وهو يحتاج إلى التقدير من غير قرينة على أصله ، ولا على تعيين المقدّر. وطرح الدليل أولى من ارتكاب ذلك بلا دليل ، هذا.

مضافا إلى : أنّ قوله : «إنّ الضمان بالمسمّى قبل القبض ، وهو خارج عن القاعدة ، فإنّها أسّست لموارد ضمان اليد» تخريص منه ، لعدم دليل على الخروج ، ولا على تأسيسها لموارد ضمان اليد. فلو أريد بتلك القاعدة قاعدة اليد ، فلا معنى لتغيير عبارته الصحيحة الجامعة بهذه العبارة المجملة المحتاجة إلى التأويل كما لا يخفى ، هذا.

ثمّ إنّ المحقق الأصفهاني قدس‌سره فسّر الضمان بكون الشي‌ء في العهدة. وهذا المعنى جامع بين موارد الضمان. قال في جملة ما أفاده : «وبالجملة : الضمان كما يناسبه معناه الأصلي كون الشي‌ء في ضمن شي‌ء ، فإذا نسب إلى الشخص فمعناه : أنّه في ضمن

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٩.


.................................................................................................

__________________

عهدته. وهذا المعنى قد يكون بتسبيب من الشخص كما في عقد الضمان بأنحائه حتى ضمان النفس ، فإنّ مرجعه إلى تعهّد إحضاره. وكما في مطلق المعاوضات ، لتعهّد كلّ منهما والتزامه بأخذ المال ببدله ، ولذا عبّر عنه بضمان المعاوضة فليس مجرّد كونه ذا عوض أو مملوكا بعوض مناط الضمان ، بل تعهّد أخذه ببدله هو المناسب للضمان. وقد يكون بجعل من الشارع أو العرف كما في التغريمات الشرعية والعرفية ، فإنّهما يعتبران المأخوذ أو المتلف في عهدة الشخص. والعهدة في كل مقام لها آثار تكليفية أو وضعية ، ولكنه لا يختلف معنى العهدة باختلافها ، فكون الضمان تارة ضمان المعاوضة ، وأخرى ضمان التكفل ، وثالثة ضمان الغرامة ، وهكذا ، لا يوجب اختلافا في معناه.

وبناء على ما ذكرناه في معنى الضمان فمفاد القاعدة : أنّه كل مورد كان عهدة مورد العقد على المتعاقدين في الصحيح فعهدته عليهما في الفاسد» (١) انتهى كلامه علا مقامه.

وأورد عليه : «ـ مضافا إلى أنّ ما ذكره في معنى الضمان وأصله اللغوي مخالف للعرف واللغة. والأوّل ظاهر. ويعلم الثاني بالمراجعة إلى كتب اللغة ـ بأنّ كلّ عهدة ليست ضمانا ، فعهدة أداء الدين غير كونه ضامنا له ، والدّين متعلق بالعهدة ، لكن المديون ليس ضامنا ، وبناء العقلاء في باب البيع ونحوه على تسليم العوضين معنى غير الضمان في العرف واللغة ، فلا يقال بعد تحقق البيع : إنّ كلّا من المتبايعين ضامن للأداء أو للمال ، وهو واضح ، فلا جامع بما ذكر بين ضمان اليد والتزام المتبايعين لتسليم العين ، إذ الثاني ليس بضمان» (٢).

أقول : أمّا ما أفاده في مخالفة معنى الضمان عرفا فلم يظهر له وجه ، إذ العرف يساعد على كون الضمان نوع تعهّد بشي‌ء ، وأنّ مناط الضمان عندهم هو التعهد

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٦.

(٢) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٦٢.


.................................................................................................

__________________

والالتزام بأخذ شي‌ء مع البدل ، كالقرض الذي هو تمليك بالضمان.

وأمّا ما أفاده من كونه مخالفا للغة ، ففيه : أنّ في المصباح : «ضمنت المال وبه ضمانا فأنا ضامن وضمين التزمته» (١). وفي الصحاح : «ضمنت الشي‌ء ضمانا كفلت به فأنا ضامن وضمين» (٢) فإنّ التعهد بشي‌ء في ذمته هو الموافق لمعناه اللغوي.

فما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره ـ من معنى الضمان ـ ليس مخالفا لمعناه اللغوي ، كما ليس مخالفا لمعناه العرفي.

وأمّا ما أفاده بقوله : «بأنّ كل عهدة ليست ضمانا» فإن أريد به عدم صدق الضمان اللغوي عليه ، ففيه ما عرفت من صدقه على مطلق التعهد والالتزام. وإن أريد به عدم صدق معناه العرفي على كلّ تعهّد ، ففيه : ـ مضافا الى رجوعه إلى الإشكال الأوّل ، وهو مخالفة الضمان بهذا المعنى للضمان العرفي ، وعدم كونه اشكالا على حدة ـ أنّه وإن كان صحيحا ، لكن المقام ـ أعنى به ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ـ مما يصدق عليه الضمان العرفي.

نعم الإنصاف أنّ الضمان العرفي لا يصدق على العقد الصحيح المعاوضي ، إذ لا يصدق الضمان على الثمن والمثمن ، ولا الضامن على كلّ من المشتري والبائع بالنسبة إلى ما انتقل عنه. فما أفاده المحقق المتقدّم لا يكون جامعا بين العقد الصحيح والفاسد حتّى لا يلزم التفكيك في معنى الضمان بين الجملتين.

ولعلّ الأولى أن يقال : إنّ الضمان عبارة عن كون مال الغير في العهدة ، فيجب دفع عينه مع وجوده ، وبدله مع تلفه حتى يخرج عن عهدته. وهذا ما يساعده العرف واللغة. وليس معناه لزوم التدارك بالعوض الواقعي حتّى يغاير الضمان في العقد الفاسد الضمان

__________________

(١) المصباح المنير ، ص ٣٦٤.

(٢) صحاح اللغة ، ج ٦ ، ص ٢١٥٥.


.................................................................................................

__________________

في العقد الصحيح ، ويلزم التفكيك بينهما ، بل لزوم التدارك مثلا أو قيمة ـ كلزوم دفع العين بنفسها إن كانت موجودة ـ من أحكام الضمان بالمعنى المزبور ، وهو كون مال الغير في العهدة ، فلا يلزم تفكيك في معنى الضمان بين الجملتين.

وتوضيحه : أنّه إذا باع زيد كتاب المكاسب مثلا على عمرو بدينار بيعا صحيحا ، فهنا أمور :

الأوّل : الخسارة الواردة على كلّ منهما بخروج الكتاب عن ملك زيد ، وخروج الدينار عن ملك عمرو ، وهذه الخسارة تجبر بكلّ من العوضين.

الثاني : ضمان زيد الكتاب قبل قبض المشتري له ، وضمان عمرو للدينار قبل قبض البائع له ، فلو تلف الكتاب كانت خسارته على زيد. كما أنّه إذا تلف الدينار كانت خسارته على عمرو ، وهذا ضمان المعاوضة.

الثالث : أنّه بعد التقابض إذا طرء فسخ بإقالة أو غيرها أو انفساخ ، فإن كانت العين باقية دفعها القابض إلى المالك. وإن كانت تالفة دفع بدلها مثلا أو قيمة إليه. وهذا يدلّ على ضمان القابض ، وإلّا امتنع الفسخ مع التلف ، لانتفاء الموضوع.

والقول بامتناع ضمان القابض ، لأنّه ماله ، ولا يضمن الإنسان مال نفسه ، مندفع بأنّه لا مانع من هذا الضمان إذا كان موضوعا لحقّ الغير ، كإتلاف الراهن العين المرهونة ، فإنّه ضامن لها مع أنّها ماله.

وكذا إتلاف المالك منذور التصدّق ، أو العين الزكويّة بعد تعلّق حق الفقراء بها ، بناء على عدم كون الزكاة جزءا من العين ، إذ بناء عليه يكون الضمان تداركا لمال الغير لا لمال نفسه.

وكيف كان فإن كان تطبيق الضمان في العقد الصحيح بلحاظ الأمر الأوّل فليس ذلك من الضمان المصطلح ، ضرورة أنّ كلّا من العوضين صار ملكا لمن انتقل إليه ، فلا يكون ضمانه تداركا لمال الغير.


.................................................................................................

__________________

وإن كان بلحاظ الأمر الثاني فكذلك ، لأنّ تلف المبيع قبل القبض يوجب انفساخ البيع ورجوع المبيع إلى ملك البائع ، فيتلف في ملكه لا في ملك غيره ، فيكون الضمان المصطلح أجنبيّا عنه أيضا.

وإن كان بلحاظ الأمر الثالث كان إطلاقه على الصحيح والفاسد بمعنى واحد ، إذ معنى الضمان فيهما هو كون مال الغير في العهدة ، فمع وجوده يجب ردّ عينه إلى مالكها ، ومع تلفه يجب ردّ بدله من المثل أو القيمة إليه. نعم يكون الضمان بهذا المعنى في الصحيح تبعيّا ، لترتّبه على انحلال العقد ، وفي الفاسد أصليا ، لعدم توقفه على شي‌ء.

وعليه فلا يلزم تفكيك بين معنى الضمان في الفقرتين. بخلاف تفسير المصنّف تبعا للجواهر للضمان في الفقرة الأولى بالمسمّى ، فإنّه يستلزم التفكيك بين الفقرتين في معنى الضمان ، فلاحظ.

فالمتحصل : أنّه على ما ذكرناه من كون الضمان عبارة عن التعهد والالتزام بمال الغير ـ وكون حكم هذا التعهد تارة وجوب دفع عينه مع وجودها ، بناء على كون ردّ العين أيضا ضمانا. وأخرى دفع بدلها من المثل أو القيمة مع تلفها ، لعموم على اليد وغيره ـ لا يلزم اختلاف في معنى الضمان ومفهومه. واختلاف الأحكام ناش عن الأدلة كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية المتعلقة بمعاني الضمان.

الجهة الثالثة : أنّ العموم في قاعدة «ما يضمن بصحيحه .. إلخ» هل هو بلحاظ أنواع العقود أم بلحاظ الأصناف أم بلحاظ الأشخاص؟ وقبل الخوض فيه لا بدّ من تقديم أمرين :

الأوّل : أنّ التقسيم ظاهر في فعلية أقسامه كما هو ظاهر.

الثاني : أنّ القضية الحقيقية وإن كان الموضوع فيها مفروض الوجود ، إلّا أنّه لا بدّ أن يكون المفروض وجوده ممكن الفعلية ، فإن كان ممتنع الفعلية لم يصحّ جعله


.................................................................................................

__________________

موضوعا للجعل والتشريع ، إذ يلزم حينئذ لغوية إنشاء الحكم له.

إذا عرفت هذين الأمرين تعرف أنّه لا يصح أن يكون عموم القاعدة بلحاظ الأفراد ، إذ معنى العبارة حينئذ : كل فرد وشخص من أفراد العقد إذا كان صحيحه مضمونا ففاسده أيضا مضمون. ومن المعلوم أنّ الفرد إمّا يقع فعلا صحيحا أو فاسدا ، ويمتنع اتصافه بالصحة والفاسد معا لتناقضهما ، إذ المراد بهما التمامية وعدمها. فاتصافه بهما يكون فرضيا ، ولا يمكن أن يكون فعليّا ، فلا يصح جعله موضوعا لحكم.

فما في بعض كلمات الأعلام ـ كصاحب الجواهر وبعض أجلّة المعاصرين (١) ـ من «كون عموم القاعدة بلحاظ الأفراد» في غاية الغموض : وإن فرضنا ظهور مثل هذا الكلام في العموم الأفرادي ، كقوله : «أكرم كلّ عالم» لكنّه لا يمكن المصير إلى ذلك فيما نحن فيه كما لا يخفى.

والاعتذار عن إشكال امتناع اتّصاف فرد واحد بالصحة والفساد بما في القواعد الفقهية من قوله : «ليست هذه الجملة بهذه الصورة وهذه الألفاظ واردة في آية أو رواية معتبرة حتّى نقول يجب الأخذ بظاهرها ، وظاهرها كذا وكذا ، بل لا بدّ من الأخذ بها بمقدار ما يدلّ عليه مدركها» اعتراف بورود الاشكال على ظاهر الجملة ، وإنكار لاعتبارها ، لعدم ورودها في آية ولا رواية معتبرة ولا معقد إجماع.

وليس هذا جوابا عن الاشكال ، بل هو اعتراف به مع إنكار اعتبار أصل القضية ، وهذا مطلب آخر.

هذه جملة مما يتعلّق بالقاعدة ، وبقي بعض الكلام حولها سيأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٢٤٧ ؛ القواعد الفقهية ، ج ٢ ، ص ٩٦.


ثمّ إنّ المدرك (١) لهذه الكلية على ما ذكره في المسالك ـ في مسألة الرهن المشروط بكون المرهون مبيعا بعد انقضاء الأجل ـ هو إقدام الآخذ على الضمان.

______________________________________________________

مستند قاعدة «ما يضمن»

الأوّل : إقدام المتعاملين

(١) هذا شروع في تحقيق ما يمكن أن يستدل به على القاعدة ، وهو أمور ، قاعدة الاقدام ، وحديث «على اليد» وقاعدة الاحترام ، وقاعدة نفي الضرر. وسيأتي بيانها مرتّبا إن شاء الله تعالى.

الأوّل : قاعدة الإقدام على الضمان التي ذكرها في رهن المسالك وتوضيحه : أنّه إذا رهن المديون مالا عند المرتهن واشترط فيه كون العين المرهونة مبيعا بالدين إذا حلّ الأجل ولم يؤدّ المديون دينه ، فهل يصحّ ذلك أم لا؟

ذهب الشهيد الثاني قدس‌سره إلى أنّ الرهن والبيع فاسدان. أمّا الرّهن فلأنّه لا يتوقّت إلّا بوفاء الدين ، لا بالأجل كشهر أو سنة مثلا. وأمّا البيع فلأنّه معلّق على عدم وفاء الدين ، والتعليق مبطل ، ثم قال : «فلو قبضه المرتهن على هذا الوجه ضمنه بعد الأجل ، لا قبله ، لأنّه في مدّة الأجل رهن فاسد ، وبعده مبيع فاسد. وفاسد كل عقد يتبع صحيحه في الضمان وعدمه ، فحيث كان صحيح الرهن غير مضمون كان فاسده كذلك. وحيث كان صحيح البيع مضمونا على المشتري ، ففاسده كذلك. والسّرّ في ذلك ـ يعني في الضمان ـ أنّهما تراضيا على لوازم العقد ، فحيث كان مضمونا فقد دخل القابض على الضمان. ودفع المالك عليه. مضافا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) (*).

__________________

(*) لا يخفى دلالة هذا الكلام على استناد قاعدة «ما يضمن» إلى الاقدام واليد ،

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٤ ، ص ٥٥ و ٥٦.


ثم أضاف إلى ذلك (١) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي».

والظاهر أنّه (٢) تبع في استدلاله بالاقدام الشيخ في المبسوط ، حيث علّل الضمان في موارد كثيرة من البيع والإجارة الفاسدين «بدخوله على أن يكون المال مضمونا عليه بالمسمّى ، فإذا لم يسلم له المسمّى رجع إلى المثل أو القيمة» (١).

______________________________________________________

وغرض المصنّف قدس‌سره من الاستشهاد بكلام الشهيد الثاني أنّه قدس‌سره استدلّ على ضمان الرهن بعد الأجل بقاعدة «ما يضمن» ثم استدل عليها بقاعدة الإقدام على الضمان. وعليه فمدرك قاعدة «ما يضمن» هو الإقدام.

(١) يعني : أنّ الشهيد الثاني لم يقتصر ـ في مستند القاعدة ـ على الاقدام فحسب ، بل جعل الحديث النبوي دليلا عليها أيضا.

(٢) يعني : أنّ استدلال الشهيد الثاني بقاعدة الإقدام مسبوق باستدلال شيخ الطائفة بها ـ في موارد عديدة ـ على الضمان.

__________________

كما نقله المصنف عنه. لكنّه في بحث المقبوض بالعقد الفاسد جعل القاعدة دليلا مستقلا على الضمان كاليد والاقدام ، ولا بدّ أن يكون مدرك القاعدة أمرا آخر بنظره ، قال في شرح قول المحقق : «ولو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضمونا عليه» ما لفظه : «لا إشكال في ضمانه إذا كان جاهلا بالفساد ، لأنّه أقدم على أن يكون مضمونا عليه ، فيحكم عليه به ، وإن تلف بغير تفريط. ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي. ومن القواعد المقرّرة في هذا الباب : أنّ كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، وأنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» (٢).

وهذا يقتضي أن يكون للقاعدة مدرك آخر غير الاقدام واليد ، حتى يصح جعلها دليلا ثالثا على الضمان ، إذ لو كان مستندها الاقدام واليد المذكورين في العبارة كانت العبرة بهما ، لا بقاعدة ما يضمن ، فتأمّل في كلامه.

__________________

(١) تقدمت جملة من كلمات الشيخ في ص ٥٨ ، فراجع.

(٢) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤


وهذا الوجه لا يخلو عن تأمّل (١) ، لأنّهما إنّما أقدما وتراضيا وتواطئا بالعقد الفاسد على ضمان خاص (٢) ، لا الضمان بالمثل أو القيمة ، والمفروض عدم إمضاء الشارع لذلك الضمان الخاصّ (٣). ومطلق (٤) الضمان لا يبقى بعد انتفاء الخصوصية حتى يتقوّم بخصوصية أخرى. فالضمان بالمثل أو القيمة إن ثبت فحكم شرعي تابع لدليله ، وليس ممّا أقدم عليه المتعاقدان.

______________________________________________________

(١) ناقش المصنّف قدس‌سره في الاستدلال بقاعدة الإقدام على قاعدة «ما يضمن» بوجوه ثلاثة ، أحدها : منع صغروية العقد الفاسد لقاعدة الإقدام. ثانيها : منع الملازمة بين الاقدام والضمان. ثالثها : منع قاعدة الإقدام كبرويّا ، بمعنى عدم كونها من موجبات الضمان.

توضيح الوجه الأوّل : أنّ الضمان في العقد المعاوضي ـ الممضى شرعا ـ يكون بحسب العوض المسمّى. وفي العقد الفاسد بحسب البدل الواقعي. وعلى هذا نقول : بعدم صلاحية قاعدة الإقدام للاستدلال بها ، وذلك لأنّ الضمان الخاصّ وهو ضمان المسمّى ـ الذي أقدما عليه وتراضيا به ـ لم يسلم ، لفساد سببه أعني به العقد. والضمان الآخر ـ وهو ضمان البدل مثلا أو قيمة ـ ممّا لم يقدما عليه ، فلو ثبت ضمان مع التلف لم يكن ذلك بقاعدة الإقدام ، بل بدليل آخر.

فتوجيه الضمان في العقد الفاسد بقاعدة الإقدام في غير محلّه ، إذ المقدم عليه ـ وهو الضمان المعاوضي ـ غير واقع ، والواقع ـ أعني به الضمان بالمثل أو القيمة ـ غير المقدم عليه ، كما هو ظاهر.

(٢) أي : الضمان الجعلي ، كما إذا باع الكتاب بدينار ، وكان قيمته السوقية أزيد أو أقلّ من الدينار.

(٣) ومن المعلوم عدم العبرة بالإقدام على الضمان الجعلي ، لعدم إمضاء الشارع له ، فهذا الاقدام يكون بحكم العدم.

(٤) إشارة إلى توهّم ودفعه. أمّا التوهّم فهو : أنّ الاقدام على الضمان الخاص


هذا كلّه مع أنّ (١) مورد هذا التعليل أعمّ من وجه من المطلب ، إذ قد يكون الاقدام موجودا ولا ضمان كما قبل القبض (*) ، وقد لا يكون إقدام في العقد الفاسد مع تحقّق الضمان ، كما إذا شرط في عقد البيع ضمان المبيع على البائع

______________________________________________________

وإن كان منتفيا من جهة فساد العقد. إلّا أنّ انتفاء الضمان الجعلي لا يوجب انتفاء إقدامهما وتراضيهما على مطلق الضمان ، ضرورة عدم تواطئهما على المجّانيّة ، ومن المعلوم أنّ مطلق الضمان ينصرف إلى البدل الواقعي. وعليه فلا بأس بجعل قاعدة الإقدام على الضمان والدخول عليه مدركا لقاعدة «ما يضمن».

وأمّا الدفع فهو : أنّ ما أقدم عليه المتعاقدان ضمان خاصّ ، وهو المعاوضيّ ، والمفروض انتفاؤه بفساد العقد ، وينتفي مطلق الضمان أيضا ، والضمان بالبدل الواقعي يتوقّف على الاقدام والرّضا به ، وهو غير حاصل حسب الفرض.

وعليه فثبوت الضمان بالبدل الواقعيّ في العقد الفاسد منوط بدليل يدلّ عليه ، ولا ربط له بإقدام المتعاقدين عليه.

(١) هذا هو الوجه الثاني من المناقشة في استدلال الشيخ والشهيد الثاني قدس‌سرهما بقاعدة الاقدام ، وبيانه : أنّ النسبة بين المدّعى ـ وهو قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ـ وبين الإقدام الذي استدلّا به عليه عموم من وجه ، مع أنّه يعتبر كون الدليل مساويا للمدّعى أو أعمّ منه مطلقا. وهذا الضابط مفقود في المقام ، ضرورة اجتماع الضمان والاقدام تارة وافتراقهما اخرى. فقد يكون الاقدام متحققا ولا ضمان كما في تلف المبيع قبل القبض ، فإنّه يتلف من مال بائعه ، مع أنّ المشتري أقدم على ضمانه بالثمن المسمّى في العقد الصحيح ، وليس بضامن له. وقد لا يكون إقدام على الضمان ـ في العقد الفاسد ـ ومع ذلك يتحقق الضمان ، كما في الأمثلة المذكورة في المتن :

__________________

(*) لكن موضوع كلامهم يكون بعد القبض ، فمقصودهم من كون الاقدام موجبا للضمان أنّه موجب له في المقبوض ، فلا يرد النقض المذكور.


إذا تلف في يد المشتري. وكما إذا قال : «بعتك بلا ثمن» أو : «آجرتك بلا اجرة».

نعم (١) قوّى الشهيدان في الأخير عدم الضمان ، واستشكل العلّامة في مثال البيع في باب السّلم (٢).

______________________________________________________

أحدها : البيع بلا ثمن ، فإنّ المشتري لم يقدم على ضمان المبيع ، لفرض توافقهما على انتقال المبيع إليه مجرّدا عن الثمن. مع أنّ جمعا حكموا بضمان المشتري ، وكون المبيع على عهدته ، فلو تلف وجب عليه دفع بدله إلى البائع.

ثانيها : الإجارة بلا اجرة ، كما إذا آجر المالك داره لزيد شهرا بلا أجرة ، فإنّ المستأجر ضامن لاجرة المثل ، مع عدم إقدامه على الضمان.

ثالثها : شرط ضمان المبيع على البائع إذا تلف عند المشتري : بأن يقول البائع : «بعتك هذا الكتاب بدينار ، بشرط أن يكون تلفه عندك عليّ» فقبل المشتري.

فلو تلف عنده لم يكن الضمان على البائع ، بل على المشتري ، مع أنّه لم يقدم عليه.

هذا كلّه في موارد افتراق الضمان والاقدام. وأمّا مورد الاجتماع فكثير ، كما إذا باع الكتاب بدينار بعقد صحيح ، وتلف بيد المشتري ، فإنّ الاقدام والضمان متحققان.

فالنتيجة : أنّ النسبة بين المدّعى ودليله ـ وهو الاقدام ـ عموم من وجه ، وفي مثله لا يصح الاستدلال.

(١) هذا استدراك على جعل المثالين الأخيرين ـ وهما البيع بلا ثمن والإجارة بلا أجرة ـ من موارد وجود الضمان بدون الاقدام عليه. ومحصّله : أنّ ضمان المشتري والمستأجر في هذين المثالين ليس متّفقا عليه ، لذهاب الشهيدين قدس‌سرهما إلى عدم الضمان ، فالمسألة خلافية.

وعليه فمثال وجود الضمان بدون الاقدام هو ضمان المشتري للمبيع التالف بيده ، مع شرط ضمانه على البائع.

(٢) تقدم في (ص ٩٣ و ٩٤) توضيح المسألة ، ونقل كلام الشهيدين في الإجارة بلا أجرة ، وكلام العلّامة في البيع بلا ثمن ، فراجع.


وبالجملة (١) : فدليل الاقدام ـ مع أنّه (٢) مطلب يحتاج إلى دليل لم نحصّله ـ منقوض (٣) طردا وعكسا (*).

______________________________________________________

(١) ظاهر العبارة أنّها تلخيص ما تقدّم من الاشكال على الاستدلال بقاعدة الإقدام ، لكنّها تتضمّن إشكالا ثالثا على القاعدة لم يسبق له ذكر ، وكان الأنسب تقديمه على الإشكالين السابقين ، ومحصّله : أنّا نطالب الشيخ والشهيد الثاني قدس‌سرهما بالدليل على كون الاقدام من أسباب الضمان ، نظير سببية إتلاف مال الغير واستيفاء منفعته والتسبيب ونحوها له. فلو أغمضنا عن الإشكالين السابقين لم يتّجه أيضا جعل الاقدام مدركا لقاعدة «ما يضمن» لعدم إحراز اقتضائه للضمان ، هذا.

(٢) هذا هو الاشكال الثالث الذي أشرنا إليه من عدم الدليل على كون الاقدام من موجبات الضمان وأسبابه.

(٣) النقض بالطرد والعكس هو ما تقدّم في الاشكال الثاني ، والمراد بالطّرد منع الأغيار ، وهو يقتضي انتفاء الضمان بانتفاء الاقدام ، مع أنّ الضمان موجود بدون الاقدام كما في البيع بلا ثمن ونحوه. والمراد بالعكس جمع الأفراد ، بمعنى ثبوت الضمان في كلّ مورد تحقّق فيه الاقدام ، مع أنّه قد يتحقق الاقدام ، ولا ضمان ، كما في البيع الصحيح إذا تلف المبيع بيد البائع.

والحاصل : أنّ قوله : «طردا وعكسا» إشارة إلى أنّ النسبة بين الدعوى والدليل عموم من وجه. ولعلّ التعبير بالعكس والطرد في مثله لا يخلو من مسامحة.

__________________

(*) لا يخفى أنّ شيخ الطائفة كما استدلّ على الضمان بقاعدة الإقدام المعبّر عنها «بالدخول على أن يكون المال مضمونا عليه بالمسمّى» كما نقلنا مواضع من كلماته ، فكذلك استدل ـ كالشهيد الثاني ـ بقاعدة اليد ، فيمكن أن يكون نظره إلى كلّ منهما مستقلا. ومن مواضع استناده إلى الضمان اليدي قوله في تعاقب الأيدي في البيع الفاسد : «فإذا ثبت أن البيع فاسد ، نظر ، فإن كان المبيع قائما أخذه مالكه وهو البائع الأوّل ، سواء


.................................................................................................

__________________

وجده في يد المشتري الأوّل أو المشتري الثاني ، لأنّه ملكه لا حقّ لغيره فيه. وإن كان تالفا كان له أن يطالب بقيمته كل واحد منهما ، لأنّ الأوّل لم يبرأ بتسليمه إلى الثاني ، لأنّه سلّمه بغير إذن صاحبه ، والمشتري الثاني قبضه مضمون بالإجماع.

فإذا ثبت ذلك فإنّه يجب عليه أكثر ما كانت قيمته. وقيل : إنّه يعتبر قيمته وقت التلف. ثمّ ينظر في قيمة المبيع ، فإن كانت قيمته في يدهما واحدة فإنّه يطالب بقيمته إن شاء المشتري الأوّل ، وإن شاء المشتري الثاني ، لأنّ كل واحد منهما ضامن للقيمة .. إلخ» (١).

وقريب منه كلامه في باب الغصب في بيع العبد المغصوب إذا أعتقه المشتري ، فيضمن أعلى القيم من حين القبض إلى حين العتق ، قال : «لأنّه دخل على أنّه عليه بعوض ، وقد تلف في يده .. إلخ» (٢).

وعليه فالاستدلال على الضمان بكلّ من قاعدتي اليد والاقدام موجود في كلام شيخ الطائفة قدس‌سره. فلا وجه للإيراد على المصنّف قدس‌سره بما حاصله : «أنّه لا موضوع للإشكال على استدلال الشيخ بقاعدة الإقدام ، لأنّ المتكرر في كلماته في باب البيع الفاسد والغصب وغيرهما هو استناد الضمان إلى اليد ، كقوله : وإنّما وجب الضمان عليه ـ أي على المشتري ـ لأنّه أخذ الشي‌ء بعوض ، فإذا لم يسلم العوض المسمّى وجب عوض المثل لما تلف في يده .. إلخ» (٣) (٤).

وذلك لما عرفت من استناد الشيخ إلى كلتا القاعدتين ، كما صنعه الشهيد الثاني أيضا. ولعلّه اقتبسه منه ، وحينئذ ينبغي النظر في كل من اليد والاقدام.

__________________

(١) المبسوط ، ج ٢ ، ص ١٥٠.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٩٨.

(٣) المبسوط ، ج ٢ ، ص ١٤٩.

(٤) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٧٠.


.................................................................................................

__________________

أمّا اليد فتقتضي الضمان ، لأنّ الاستيلاء على مال الغير ـ ما لم يطرأ عليه ما يرفع الضمان من قصد المجّانية ـ مضمّن ، والضمان الاقدامي على مبادلة المالين كالعدم في نظر الشارع ، فيؤثر الاستيلاء المقتضي للضمان أثره.

وأمّا الاقدام فقد أنكر المصنف إقدامهما على ضمان المثل أو القيمة ، وإنّما أقدما على ضمان خاصّ وهو عوض جعلي لم يسلم لهما ، فلا وجه لاستناد البدل الواقعي إلى الاقدام.

وأورد المحقق الخراساني عليه بوجهين ، قال قدس‌سره : «يمكن أن يقال : بأنّهما أقدما على أصل الضمان في ضمن الاقدام على ضمان خاص ، والشارع إنّما لم يمض الضمان الخاصّ ، لا أصله. مع أنّ دليل فساد العقد ليس بدليل على عدم إمضائه ، فافهم» (١).

أمّا الإشكال الأوّل فيمكن أن يقال : إنّ ما أقدم عليه المتعاقدان حصّة من الضمان أي المسمّى ، ودليل فساد العقد يدلّ بالملازمة على انتفاء هذه الحصّة ، ومعه لا يعقل بقاء طبيعة الضمان الموجودة بوجود هذه الحصّة.

وبعبارة أخرى : المضمون المقدم عليه مقيّد من أوّل الأمر بالمسمّى ، ولا تركيب ولا اشتراط في البين حتى يتصوّر بقاء المشروط بعد انتفاء الشرط ، أو بقاء الجزء بعد انتفاء المركّب.

هذا مضافا إلى غموض «تحقق الاقدام على أصل الضمان في ضمن الاقدام على ضمان خاصّ» فإنّ الإقدام على الحصّة وإن كان متضمنا للإقدام على طبيعي الضمان ، إلّا أنّ المفروض إلغاء هذه الحصّة شرعا. وجعل حصة أخرى وهي البدل الواقعي ـ من المثل أو القيمة ـ مقامها ، ومن المعلوم انتفاء الطبيعة بانعدام حصّتها ، هذا.

وأمّا الإشكال الثاني ، فلا يخلو من إجمال في نفسه ، لأنّ مرجع ضمير «عدم إمضائه» إن كان هو الضمان الخاصّ بمعنى عدم دلالة دليل فساد العقد على عدم

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣١.


.................................................................................................

__________________

الضمان الخاصّ ، ففيه : أنّ دليل الفساد يستلزم انتفاء الضمان بالمسمّى ، لانحصار الدالّ عليه في دليل إمضاء العقد ، ومع فرض الفساد كيف لا ينتفي الضمان الخاص؟

وإن كان مرجع الضمير مطلق الضمان ، بأن يراد عدم اقتضاء دليل فساد العقد انتفاء مطلق الضمان ـ كما لعلّه المراد ـ ففيه : أنّه وإن كان محتملا ثبوتا ، إلّا أنّ الضمان حكم شرعي يتوقف على دليل في مقام الإثبات ، والمفروض عدم الدليل عليه بعد حكم الشارع بإلغاء ضمان المسمّى. وكيف يكون إقدام المتعاملين على أصل الضمان مع أنّه أمر قصدي؟ والمقصود هو الضمان بالعوض الجعلي (١).

وبهذا يسلم أوّل إشكالي الماتن ـ على شيخ الطائفة ـ عن مناقشة المحقق الخراساني قدس‌سرهما.

إلّا أنّه لا يبعد ـ كما أفاده المصنّف أيضا ـ أن يكون مراد شيخ الطائفة احترام المال ، وعدم ذهابه هدرا ، إلّا إذا سلب المالك احترامه ، بأن بذله للغير مجّانا. فإذا لم يقدم المتعاقدان على المجّانية كان الضمان في محلّه ، لكونه حينئذ على طبق السيرة العقلائية الممضاة شرعا. فمراد شيخ الطائفة من الاقدام على الضمان بيان عدم الاقدام على المجّانية ، وسلب احترام ماله.

وعلى هذا لا يرد الإشكال الأوّل المذكور في المتن على شيخ الطائفة قدس‌سره.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو قوله : إذ قد يكون الاقدام موجودا ولا ضمان كما قبل القبض .. إلخ ـ فيمكن أن يقال : إنّ الكلام في المقبوض بالعقد الفاسد ، فالإقدام مع القبض دليل القاعدة ، لا مجرّد الاقدام. فلا يرد عليه هذا النقض.

وأمّا قضية شرط الضمان على البائع فلا ترد على قاعدة الإقدام ، لأنّ الضمان المعاوضي موضوع عند الشيخ للحكم بضمان المثل أو القيمة مع عدم صحة المعاوضة وعدم سلامة المسمّى. وشرط الضمان على البائع لا ينافي إقدام المشتري على ضمان

__________________

(١) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني ، ج ١ ، ص ٧٧.


اللهم إلّا أن يستدلّ على الضمان فيها (١) بما دلّ على احترام مال المسلم ،

______________________________________________________

الدليل الثاني : قاعدة الاحترام

(١) أي : في المنافع والأعمال المضمونة في الإجارة الفاسدة ، وهذا إشارة إلى دليل ثالث على قاعدة «ما يضمن». وظاهر العبارة وان اقتضى الاستدلال على ضمان المنافع خاصة ، إلّا أنّ الدليل ـ وهو احترام مال المسلم ـ عامّ ، لصدق الموضوع ـ أي المال ـ على الأعيان والمنافع معا ، وإن كان صدقه على الأعيان أوضح.

وعلى هذا فقاعدة الاحترام دليل على قاعدة «ما يضمن» مطلقا سواء أكان العقد على تمليك الأعيان أم المنافع.

وكيف كان ، فقاعدة الاحترام مصطادة من طوائف ثلاث من الأخبار :

الأولى : ما دلّ على عدم حلّيّة مال المسلم لغيره إلّا عن طيب نفسه ، كمعتبرة سماعة وزيد الشّحّام عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها ، فإنّه لا يحلّ دم امرء مسلم

__________________

المسمّى. نعم لم يقدم المشتري على ضمان المثل أو القيمة ، وهو ليس موضوعا للضمان.

وأمّا البيع بلا ثمن والإجارة بلا اجرة فلا يندرجان في القاعدة موضوعا ، لعدم كونهما عقدا ، إذ البيع والإجارة متقوّمان بالعوضين ، فانتفاء أحدهما يوجب انتفاء ماهيّتهما ، ولعلّهما يندرجان في الهبة والعارية. غاية الأمر أنّهما قد أنشئتا بلفظي البيع والإجارة ، فهما من صغريات «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بناء على صحة إنشائهما بهذين اللفظين. لكن الحقّ عدم صحّته.

ولا بدّ أن يكون النقض بمورد مسلّم ، والشهيدان اختارا عدم الضمان في الإجارة بلا اجرة ، واستشكل العلّامة في الضمان في البيع بلا ثمن.

وبالجملة : فلا يرد شي‌ء من النقوض المزبورة على شيخ الطائفة قدس‌سره.


.................................................................................................

______________________________________________________

ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه [نفسه]» (١).

وكرواية تحف العقول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه قال في خطبة حجّة الوداع : أيّها الناس (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه» (٢). ونحوهما ممّا ذكرناه في أدلّة لزوم المعاطاة ، فراجع (٣).

وتقريب دلالتها على الضمان : أنّ الحرمة المسندة إلى مال المسلم أو المؤمن يراد بها حرمة التصرف ، ومن المعلوم أنّ التصرف في المال أعمّ من الخارجي كما في الأعيان المتموّلة التي ينتفع بها بوجه من وجوه الانتفاع كالأكل والشرب واللبس ونحوها. ومن الاعتباري كالبيع والصلح والهبة والوقف ونحوها. ولا ريب في أنّ الحرمة تكليفية في التصرّف الخارجي ، ووضعية في الاعتباري. وحرمة المال تقتضي ضمان المتصرّف فيه ، هذا.

الثانية : ما دلّ على أنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، كمعتبرة أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه» (٤).

وتقريب دلالتها على الضمان : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزّل حرمة مال المؤمن منزلة حرمة دمه ، وعموم التنزيل يقتضي ثبوت كل حكم ثبت للدم ـ من التكليف والوضع ـ للمنزّل وهو المال ، ومن المعلوم أنّ الدم لا يذهب هدرا ، وهذا هو المناسب لمقام المسلم وعظم شأنه ، لا مجرّد حرمة إراقة دمه تكليفا. فمقتضى عموم التنزيل

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤٢٤ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلي الحديث ١ ؛ والرواية بتمامها مذكورة في ج ١٩ ، ص ١٣ ، الباب ١ من أبواب قصاص النفس ، الحديث ٣.

(٢) المصدر ، ص ٤٢٥ ، الحديث : ٣.

(٣) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٥١٦.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦١٠ ، الباب ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.


.................................................................................................

______________________________________________________

ـ بعد عدم قرينة على خصوص الحكم التكليفي ـ احترام ماله بكلّ احترام لدمه ، ومن الواضح أنّ احترام دمه بعدم إراقته وبدفع الدية ـ لو أهرق ـ حتى لا يذهب هدرا ، فكذا المال ، فينبغي ضمانه لو تلف بيد المتصرّف ، هذا.

الثالثة : ما ورد فيها من التعليل بعدم صلاحية ذهاب حق أحد ، كمعتبرة الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال : نعم ، إذا لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم ، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد» (١).

وتقريب دلالة التعليل هو : أنّ المراد بالحقّ أعمّ من الحقّ المالي وغيره ، لإطلاقه تارة على المال كالخمس والزكاة ونحوهما ، كقوله تعالى (الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ، وكقوله عليه‌السلام : «هلك الناس في بطونهم وفروجهم ، لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا». وأخرى على الحق المصطلح المقابل للحكم والملك ، كحقّ الوصيّة ، كما ورد في موثقة سماعة ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة أهل الذمة؟ فقال لا تجوز إلّا على أهل ملّتهم ، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية ، لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد» (٢) إذ المراد بالحق ـ في التعليل ـ هو حقّ الوصية الثابت للمسلم.

وعلى هذا فيدلّ التعليل على أنّه إذا ثبت حقّ شخص على غيره لم يصحّ ذهابه وفواته بغير عوض ، وهذا معنى الضمان.

وقد تحصّل من هذه الطوائف الثلاث حرمة مال المسلم وضمانه. ولمّا كان صدق «المال» على المنافع والأعمال المحترمة حقيقيا كصدقه على الأعيان ، دلّت قاعدة الاحترام على قاعدة «ما يضمن» مطلقا سواء أكان متعلق العقد عينا أم منفعة ، هذا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٩٠ ، الباب ٢٠ من أبواب أحكام الوصايا ، الحديث : ٣.

(٢) المصدر ، ص ٣٩١ ، الحديث ٥.


وأنّه (١) لا يحلّ إلّا عن طيب نفسه ، وأنّ حرمة ماله كحرمة دمه ، وأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد.

مضافا إلى أدلّة نفي الضّرر (٢) (*).

______________________________________________________

(١) هذا وقوله : «وأنّ حرمة ماله» و «وأنّه لا يصلح» معطوفة على قوله : «احترام» عطف تفسير ، فالمراد بالكلّ قاعدة واحدة وهي قاعدة الاحترام المستفادة من النصوص المتفرقة. ويشهد لهذا قوله بعد أسطر ، «لقاعدتي الاحترام ونفي الضرر» فليس مقصود المصنف جعل كلّ طائفة من الطوائف الثلاث دليلا مستقلّا على ضمان المنافع والأعمال.

الدليل الثالث : قاعدة نفي الضرر

(٢) هذا إشارة إلى دليل آخر على القاعدة ، وهو الأخبار المتضمّنة لنفي الضرر والضرار في الإسلام ، حيث إنّ تلف مال شخص ـ بلا عوض ـ عند غيره بدون إذن مالكه يوجب نقص ماله وتضرّره ، وكذا الحال في استيفاء منفعة الغير بدون أجرة.

ولا يخفى أنّ الاستدلال بقاعدة نفي الضرر على المقام مبنيّ على كون مفاد عموم نفي الضرر نفيه مطلقا وإن كان ناشئا عن عدم جعل الحكم كالمقام ، حيث إنّ المالك يتضرر من عدم حكم الشارع بضمان المنفعة ، ومقتضى حكومة القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة نفيها ، سواء أكانت وجوديّة كوجوب الوضوء الضرري ، أم عدميّة كعدم ضمان المستوفي لمنفعة مملوكة للغير ، فيحكم بالضمان لئلّا يتضرر المالك أو العامل.

__________________

(*) قد يستشكل في دلالة قاعدة الاحترام على الضمان بالتلف : بأنّ تنزيل حرمة مال المؤمن أو المسلم منزلة حرمة دمه يقتضي وجوب حفظه وعدم إتلافه حتى


.................................................................................................

__________________

لا يذهب هدرا. وأمّا مجرّد تلفه عنده بآفة سماويّة فلا ظهور لها في ضمانه ووجوب تداركه بالبدل.

وكذا الحال في روايات الشهادة على الوصية ، فإنّ عدم صلاحية ذهاب حق أحد ظاهر في حرمة تضييعه ، وإشغال ذمته بالإتلاف. والكلام يكون في التلف.

لكن يمكن أن يقال : بأنّه ـ بعد عدم اختصاص الحرمة بالتكليف واستفادة الحكم الوضعي منها كما هو الظاهر ـ لا وجه للاختصاص بالإتلاف ، إذ المقبوض بالعقد الفاسد ليس أمانة مالكية بيد المشتري حسب الفرض ، ومقتضى إطلاق دليل الحرمة على الضمان هو الحكم به مطلقا سواء أكان بالتلف أم بالإتلاف ، ولا قرينة على إرادة الإتلاف خاصّة من حرمة مال الغير.

وعليه فالقاعدة سليمة من هذه المناقشة. وللكلام تتمة تأتي في ضمان المنافع إن شاء الله تعالى.

وأمّا قاعدة نفي الضرر فقد تشكل أوّلا : بأنّها أخصّ من المدّعى ، فإن التالف في العقد الفاسد مضمون بالبدل الواقعي ، وربّما كان أكثر ماليّة من البدل المسمّى ، فلو قيل بالضمان الواقعي كان مخالفا لامتنانيّة القاعدة ، لتضرّر المشتري الذي تلف المبيع عنده مع عدم تقصيره في الحفظ. نعم لا بأس بإثبات الضمان لو كان البدل الواقعي مساويا للمسمّى أو أقلّ منه.

وثانيا : باختصاص القاعدة بالإتلاف الذي هو موردها ، وذلك أجنبي عن التلف الذي هو محطّ البحث ، لإصرار سمرة بالإضرار بالأنصاري وتعمّده فيه.

إلّا أن يقال : إن العبرة : بعموم الوارد ـ وهو لا ضرر ـ لا بخصوصية المورد وهو الإضرار ، بل الغرض نفي الضرر في أحكام الإسلام عن المؤمنين سواء كان الضرر من قبيل التلف أم الإتلاف ، فليتأمّل.


وأمّا (١) خبر اليد فدلالته وإن كانت ظاهرة (٢) ، وسنده منجبرا ، إلّا أنّ مورده مختصّ بالأعيان (٣) (*) ،

______________________________________________________

الدليل الرابع : حديث «على اليد ..»

(١) هذا إشارة إلى الدليل الرابع على قاعدة «ما يضمن» وقد ورد ذلك في كلام الشهيد الثاني قدس‌سره ومحصّله : أنّ النبوي «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» لا بأس به سندا ، لانجبار ضعفه بعمل المشهور ، إلا أنّه أخصّ من القاعدة ، لاختصاص المأخوذ باليد بالأعيان ، لأنّها هي القابلة للأخذ. فتختصّ القاعدة بالعقود المعاوضية الواقعة على الأعيان كالبيع والصلح المعاوضيّ والهبة المشروطة بالعوض ـ بناء على تعميم الاقتضاء للشرط ـ ولا تشمل العقود الواقعة على المنافع كالإجارة الفاسدة ، لأنّها تمليك المنفعة ، وهي لا تؤخذ باليد ، وكذا الجعالة الفاسدة ، مع أنّ قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» تشمل تمليك المنافع أيضا.

وعليه يكون النبويّ أخصّ من المدّعى ، فلا وجه لاستدلال الشهيد الثاني قدس‌سره به على المقام.

(٢) يعني : أنّ دلالة الحديث على الضمان ظاهرة ، لما تقدم من أنّ إسناد الظرف إلى مال ظاهر في الضمان والتعهّد ، لا الحكم التكليفي.

(٣) لم يرد لهذا الحديث مورد ، لعدم قرينة فيه على اختصاصه بالأعيان من سبق سؤال ونحوه. والظاهر أنّ غرض المصنف قدس‌سره اختصاص الموصول بالأعيان بقرينة الأخذ باليد. والمنفعة حيثيّة قائمة بالعين كمسكونيّة الدار ، ولا يمكن وضع اليد عليها حتى تصير مضمونة على الآخذ.

__________________

(*) سيأتي إن شاء الله تعالى ـ في ثالث الأمور المتفرعة على عدم تملك المقبوض بالعقد الفاسد ـ أنّه لا يمنع ذلك من الاستدلال بالنبوي على ضمان المنافع في صورة قبض العين ذات المنفعة.

ووجه الاختصاص أمران :

أحدهما : ما سيأتي من المصنّف من عدم صدق «الأخذ باليد» بالإضافة إلى المنافع.


فلا يشمل المنافع والأعمال (١) المضمونة في الإجارة الفاسدة. فكلّ (٢) عمل وقع من عامل لأحد ـ بحيث يقع بأمره وتحصيلا لغرضه (٣) ـ فلا بدّ من أداء عوضه لقاعدتي الاحترام ونفي الضرر.

______________________________________________________

(١) لا يخفى صدق المنافع والأعمال على مثل خدمة العبد والأمة ، فإنّها منفعة وعمل ، إلّا أنّ المراد هنا بالمنافع ما يقابل الأعمال ، فالمنافع نظير سكنى الدار وركوب الدابة ، والأعمال المضمونة نظير الخياطة والنجارة والطبابة التي هي أفعال الآدمي. وعليه فإذا استأجر دارا بإجارة فاسدة ، أو استأجر خيّاطا لخياطة ثوبه كذلك كان على المستأجر أجرة المثل ، مع أنّ المنفعة غير قابلة للقبض باليد والاستيلاء عليها.

(٢) هذه نتيجة دلالة قاعدتي الاحترام ونفي الضرر على ضمان منافع الأعيان وأعمال الأشخاص. لكن الضمان مشروط بأن يكون العمل ـ كالخياطة والطبابة والكنس ونحوها ـ صادرا من العامل مستندا إلى أمر المستأجر وتحصيلا لغرضه ، بأن يقول مالك القماش للخيّاط : «خطه ثوبا أو قباء» فخاطه ولم يقصد التبرّع ، فإنّ له أجرة مثل عمله.

(٣) فلو كان العمل مقابلا بالأجرة عرفا ، لكنّ العامل تبرّع بالعمل ـ ولم يأمره شخص آخر ـ لم يكن عمله مضمونا بالأجرة. وكذا لا ضمان لو استند العمل إلى أمر الآمر ، لكنّه لم يحصّل غرضه من الأمر ، كما لو أمره بصنع سرير فجعله منضدة مثلا.

هذا كلّه في الوجوه المستدلّ بها على قاعدة «ما يضمن». وقد تحصّل وفاء ثلاثة منها بإثبات الضمان ، وهي اليد ـ بالنسبة إلى العقود على الأعيان ـ والاحترام ونفي الضرر.

__________________

ثانيهما : ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من عدم صدق التأدية في المنافع مطلقا ، فإنّ ظاهر قوله : «حتى تؤدّي» كون عهدة المأخوذ مغيّاة بأداء نفس المأخوذ. والمنافع لتدرّجها في الوجود لا أداء لها بعد أخذها في حدّ ذاتها ، لا كالعين التي لها أداء في حدّ ذاتها وإن عرضها الامتناع ابتداء أو بقاء (١).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٨.


ثم (١) إنّه لا يبعد أن يكون مراد الشيخ ومن تبعه (٢) ـ من الاستدلال على الضمان بالاقدام والدخول عليه ـ بيان (٣) أنّ العين (٤)

______________________________________________________

وسيأتي استدارك بعض الأعمال المضمونة عند عدم استيفاء الآمر منفعة العامل كالسبق في المسابقة الفاسدة.

(١) غرضه توجيه استدلال شيخ الطائفة والشهيد الثاني قدس‌سرهما بقاعدة الإقدام بنحو يسلم من مناقشة المصنّف قدس‌سره. وتوضيحه : أنّ المقتضي للضمان والموجب له عند تلف مال الغير ـ من العين والمنفعة ـ هو قاعدة الاحترام ، وقاعدة اليد ـ بالنسبة إلى الأعيان ، لكنهما ليستا تمام السبب للضمان ، ضرورة توقف وجود المقتضى على علّته التامّة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، والمانع هو تسليط المالك غيره على العين مجّانا أو دفعها إليه أمانة ، أو تبرّع العامل بعمله ، فالتسليط بهذا النحو مانع عن تأثير الاحترام واليد في الضمان.

وأمّا إذا دفع المالك ماله إلى غيره بقصد أخذ عوضه ، وأقدم الآخذ على ضمانه بالعوض فقد تمّ سبب الضمان وهو اليد والاحترام ، بضميمة انتفاء المانع.

وعليه فغرض شيخ الطائفة من الاستناد إلى قاعدة الإقدام ليس إثبات سببيّتها التامّة للضمان ، بل المقصود بيان عدم المانع عن تأثير مقتضي الضمان ، وهو وضع اليد على مال الغير وقاعدة الاحترام. ولمّا لم تكن القاعدة دليلا مستقلّا لم يرد عليها ما تقدّم من المناقشة فيها صغرى وكبرى.

(٢) كابن إدريس ، حيث قال في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد : «لأنّ البائع دخل على أن يسلم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه ، فإذا لم يسلم له المسمّى اقتضى الرجوع إلى عين ماله .. إلخ» (١). وكذا المحقق الثاني (٢).

(٣) خبر «يكون».

(٤) كتسلّم المشتري للمبيع ، فإنّه مبنيّ على دفع الثمن إلى البائع.

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨٨.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢١٦.


والمنفعة (١) اللذين تسلّمهما الشخص لم يتسلّمهما مجّانا وتبرّعا حتّى (٢) لا يقضي (٣) احترامهما بتداركهما بالعوض ، كما في العمل المتبرّع به ، والعين المدفوعة مجّانا (٤) أو أمانة (٥). فليس (٦) دليل الاقدام دليلا مستقلّا ، بل هو بيان لعدم المانع (٧) عن مقتضي اليد في الأموال (٨) واحترام الأعمال.

______________________________________________________

(١) كتسلّم منفعة الدار وهي السكنى فيها ، فإنّ المستأجر أقدم على تسلّمها في قبال الأجرة. هذا في إجارة الأعيان ، وكذا الحال في إجارة الأعمال المحترمة.

(٢) هذا مترتب على المنفيّ وهو التسلّم مجّانا وتبرّعا ، إذ لو كان تسليمهما من قبل مالك العين والمنفعة تبرّعيّا لم يكن لهما احترام حتّى يلزم تداركهما بالعوض.

(٣) أي : لا يحكم احترامهما بتداركهما بالعوض ، وكلمة «العين» مجرور عطفا على «العمل».

(٤) كما في الهبة ، فإنّ تسليم العين مبنيّ على المجّانيّة ، فلا يضمن المتسلّم ـ وهو المتّهب ـ العوض.

(٥) كما في الوديعة والعارية.

(٦) هذه نتيجة توجيه ما أفاده شيخ الطائفة قدس‌سره من جعل الاقدام دليلا على الضمان.

(٧) وهو الاقدام على المجّانيّة ، حيث إنّه يمنع عن تأثير اليد ـ المستولية على الأعيان ـ في الضمان.

(٨) المراد بالأموال هنا هو خصوص الأعيان المتموّلة ، لتصريحه قدس‌سره باختصاص القاعدة بالأعيان. مضافا إلى قوله : «واحترام الأعمال» لظهوره في مغايرة المعطوف للمعطوف عليه. وهذا لا ينافي إطلاق المال على المنافع والأعمال في سائر الموارد.


نعم (١) ذكر في المسالك كلّا من الاقدام واليد دليلا مستقلّا ، فيبقى عليه (٢) ما ذكر سابقا من النقض (٣) والاعتراض (٤).

ويبقى الكلام (٥) حينئذ في بعض الأعمال المضمونة التي لا يرجع نفعها إلى

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على قوله : «فليس دليل الاقدام دليلا مستقلا» وهو يتضمن أمرين :

أحدهما : أنّ توجيهنا لكلام شيخ الطائفة قدس‌سره من جعل الاقدام بيانا لعدم المانع ـ لا دليلا مستقلا على الضمان ـ لا يجري في كلام الشهيد الثاني قدس‌سره ، لظهور استدلاله على قاعدة «ما يضمن» بدليلين ـ وهما الاقدام واليد ـ في كون كلّ منهما دليلا مستقلا على الضمان ، وهذا آب عن الحمل على عدم المانع.

وعليه فالإشكال على قاعدة الإقدام وارد على الشهيد ، ومندفع عن الشيخ.

ثانيهما : أنّ إسقاط قاعدة الإقدام عن كونها دليلا مستقلا على الضمان قد يوجب الإشكال في ضمان بعض الأعمال عند جمع ، مع أنّه لا يتّجه إثبات ضمانه بقاعدة الاحترام ، وسيأتي بيانه.

(٢) يعني : فيبقى على الشهيد الثاني قدس‌سره ما أورده المصنّف قدس‌سره عليه.

(٣) المراد به النقض من حيث الطرد والعكس ، الناشئ من كون النسبة بين الاقدام والضمان عموما من وجه.

(٤) المراد بالاعتراض هو الإشكال الأوّل والثالث ، أي : منع صغرويّة الضمان في العقد الفاسد لكبرى الاقدام ، ومنع كبرويّة سببيّة الإقدام للضمان.

(٥) يعني : ويبقى الكلام في دليل الضمان ـ حين عدم كون الاقدام دليلا مستقلّا على الضمان ـ في بعض الأعمال المضمونة. وتوضيحه : أنّ إثبات ضمان الأعمال المحترمة بقاعدة الاحترام منوط بأمرين :

الأوّل : أن يعود نفع عمل الغير إلى الضامن ، كتسليم القماش الى الخيّاط ليخيط ثوبا ، فيضمن أجرته ، لانتفاعه بعمله.


الضامن ، ولم يقع بأمره ، كالسبق في المسابقة ، حيث حكم الشيخ (١)

______________________________________________________

الثاني : أن يستند العمل ـ كالخياطة ـ إلى أمر من يضمنه ، بأن يقول للخيّاط : «خط هذا القماش ثوبا» أو للنجار : «اصنع هذا الخشب سريرا» فالآمر ضامن للأجرة المسماة ، أو لأجرة المثل. فلو أوجد العامل عملا تبرّعا منه لا بأمر من شخص ولم يعد نفعه إليه لم يكن ضامنا.

وعلى هذا فإذا تسابق شخصان على الخيل وعيّنا السبق كمائة دينار للسابق منهما ، وتبيّن بعد المسابقة فساد العقد ، ففي المسألة قولان :

أحدهما : عدم استحقاق السابق أجرة مثل عمله ، لعدم ما يوجب ضمان المسبوق ، إذ لم يعد نفع العمل إلى المسبوق ، وإنّما المنتفع هو السابق ، لتدرّبه على فنون الحرب ، ولم يقع العمل بأمر من المسبوق. وعلى هذا فلا مورد للنقض والاشكال ، إذ لا ضمان حتى يتفحّص عن دليله.

ثانيهما : استحقاق السابق اجرة المثل ، لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وحيث إنّ عقد السبق والرماية ممّا يضمن بصحيحه فكذا بفاسده. وبناء على هذا القول يشكل إثبات الضمان ، لعدم جريان قاعدة احترام الأعمال ، لانتفاء الأمر بالعمل ، ولعدم عود النفع إلى غير السابق. وأمّا قاعدة الإقدام فالمفروض عدم كونها من موجبات الضمان كما عرفت في توجيه كلام الشيخ قدس‌سره. فما الدليل حينئذ على وجوب بذل اجرة المثل إلى السابق في المسابقة الفاسدة؟

(١) حيث قال ـ بعد حكمه بعدم استحقاق المسمّى إذا فسد عقد المناضلة ـ ما لفظه : «وقال قوم : يستحق اجرة المثل كالبيع والصلح والإجارة. وقال آخرون : لا يستحقّ شيئا ، لأنّه إنّما يجب اجرة المثل في الموضع الذي يفوّت على العامل عمله ، وعاد به نفعه إلى الناضل. كالقراض الفاسد يجب عليه مثل اجرة العامل ، لأنّه فوّت عليه عمله فيما عاد نفعه إليه» (١). والمستفاد من سكوته وعدم الاعتراض على القول

__________________

(١) المبسوط ، ج ٦ ، ص ٣٠٢.


والمحقق (١) وغيرهما (٢) بعدم استحقاق السابق اجرة المثل (٣). خلافا لآخرين (٤).

______________________________________________________

بعدم استحقاق اجرة المثل ارتضاؤه له.

(١) قال قدس‌سره : «إذا فسد عقد السبق لم يجب بالعمل اجرة المثل ، ويسقط المسمّى لا إلى بدل. ولو كان السبق مستحقا وجب على الباذل مثله أو قيمته» (١).

وفي كلامه تفصيل بين كون منشأ الفساد اختلال الشرط ، وبين كونه عدم مملوكية العوض لمن يجب عليه بذله.

(٢) كالشهيد الثاني والمحقق الأردبيلي قدس‌سره (٢).

(٣) وأمّا عدم استحقاق «السبق» المسمّى فواضح ، إذ المفروض فساد العقد.

(٤) كالعلّامة (٣) ونجله فخر المحققين والمحقق الكركي قدس‌سرهم. قال في جامع المقاصد : «إذا فسدت المعاملة بعد المسابقة من جهة العوض فللفساد طريقان ، أحدهما : أن يظهر كون العوض المعقود عليه مما لا يملك في شرع الإسلام ، كما لو ظهر خمرا ، ففي استحقاق السابق على الباذل شيئا قولان : أحدهما : لا يستحق شيئا ، اختاره نجم الدين بن سعيد .. الى أن قال : وأصحّهما واختاره المصنّف هنا ـ أي في القواعد ـ وفي التذكرة وجوب اجرة المثل ، لأنّ كل عقد استحق المسمّى في صحيحه ، فإذا وجد المعقود عليه في الفاسد وجب عوض المثل. والعمل في القراض قد لا ينتفع به المالك ، ومع ذلك يكون مضمونا ، فيرجع إلى أجرة المثل ، الى أن قال : الثاني : أن يكون سبب الفساد استحقاق العوض. ومقتضى عبارة المصنف أنّ القول بسقوط المسمّى لا إلى بدل غير آت هنا. وهو ظاهر عبارة الشرائع. ويلوح من عبارة التذكرة عدم الفرق.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢٤٠.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ١٠٩ و ١١٠ ، مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ١٨٧ ، لاحظ قوله : «ويمكن أن يقال .. إلخ».

(٣) راجع : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٥٦ و ٣٥٧ ؛ قواعد الأحكام ، ص ١٠٦ ، السطر ٦ (الطبعة الحجرية) ؛ تحرير الاحكام ، ج ١ ، ص ٢٦٢.


.................................................................................................

______________________________________________________

وهو الصواب ، فإنّ الدليل في الموضعين واحد ، وكذا الفتوى.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّه مع ظهور العوض مستحقّا هل يجب مثله إن كان مثليّا ، وإلّا فقيمته .. أم تجب اجرة المثل ، لأنّ العوض المسمّى إذا فات وجب قيمة العوض الآخر ، وهي أجرة مثله كما في سائر المعاوضات؟ وجهان أصحّهما الثاني» (١).

والغرض من نقل كلامه ـ المتضمّن لكلام العلّامة أيضا ـ هو وجوب اجرة المثل في المسابقة الفاسدة سواء أكان فسادها لاختلال شرط الصحة كعدم كون العوض قابلا للتملّك شرعا ، فيبطل به أصل العقد. أم كان فسادها لمغصوبيّة العوض ، لصحة العقد الفضولي وتوقفه على إجازة المالك ، ولو لم يجز انتقل الى مثله أو إلى أجرة المثل على الخلاف (*).

__________________

(*) لكن تنظّر فيه الشهيد الثاني قدس‌سره بأنّ الفرق بين عقد المسابقة وغيره من العقود التي يضمن بفاسدها ليس من جهة رجوع النفع وعدمه ، بل لأنّ تلك العقود اقتضت الأمر بالعمل ، بخلاف هذا العقد ، فإنّه لم يقتض ذلك ، فإنّ قوله : «سابقتك» على معنى : أنّ من سبق منّا فله كذا. وقاعدة ما يضمن لا دليل عليها كليّة ، بل النزاع واقع في موارد .. إلخ (٢).

والتحقيق عدم الضمان ، لانتفاء موجباته من الاستيلاء على مال الغير ، ومن الاستيفاء ، ومن الأمر بعمل محترم يصدر من المأمور حتى إذا لم يعد نفعه إلى الآمر في المسابقة الفاسدة ، وإن كان صحيحها مضمّنا لإمضاء الشارع لها ، للاهتمام بأمر الجهاد مع الكفّار. ولو لا هذه الجهة كانت المسابقة من أنواع القمار المنهيّ عنه وضعا وتكليفا.

وعليه فالمسابقة الفاسدة مصداق للقمار المحرّم ، فيكون أكل المال بها أكلا له بالباطل ، إذ المفروض عدم تحقق ما يوجب الضمان ، لأنّه لم يوجد فيها إلّا سبق السابق.

__________________

(١) إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ٣٦٨ ؛ جامع المقاصد ، ج ٨ ، ص ٣٣٧ و ٣٣٨.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ١١٠.


ووجهه (١) أنّ عمل العامل لم يعد نفعه الى الآخر (٢) ولم يقع بأمره (٣) أيضا ، فاحترام (٤) الأموال ـ التي منها الأعمال ـ لا يقضي بضمان الشخص له ، ووجوب

______________________________________________________

(١) يعني : ووجه حكم الشيخ والمحقق بعدم استحقاق أجرة المثل في المسابقة الفاسدة هو عدم انطباق قاعدة الاستيفاء عليها.

(٢) وهو من يجب عليه بذل السّبق.

(٣) إذ لو وقع عمل العامل بأمر من غيره اقتضى احترامه الضمان حتى إذا لم ينتفع الضامن بذلك العمل ، كما إذا أمره بكنس مسجد ، فإنّ الآمر وإن لم تعد منفعة العمل إليه ، لكنه يغترم بمجرّد صدور العمل عن أمره.

(٤) غرضه أنّ قاعدة الاحترام لا تجري في المسابقة الفاسدة ، كما لا يجري فيها قاعدة اليد والاستيفاء ، فلو قيل بوجوب اجرة المثل فيها كان دليله قاعدة الاقدام لا غير ، مع أنّ المصنّف أسقطها عن الدليلية وأرجعها إلى عدم المانع.

__________________

وليس هذا السّبق بأمر المسبوق ، ولا ممّا يعود نفعه إليه ، ولا أنّه أتلف شيئا من أموال السابق. ومع انتفاء هذه الأمور الموجبة للضمان كيف يحكم في المسابقة الفاسدة بالضمان؟

والحاصل : أنّ المسابقة الفاسدة من القمار المحرّم الذي لا يوجب الضمان.

إلّا أن يقال : إن المراد بعود النفع إلى باذل العوض كون العمل صادرا لغرض عقلائي مخرج له عن المعاملة السفهية ، كما إذا استأجر شخصا لكنس مسجد أو بيت عالم أو نقل متاع مؤمن إلى بيته ، فإنّ النفع إن أريد به المال فلا يعود مال في هذه الموارد الى باذل الأجرة ، مع أنّ المعاملة صحيحة ، فإذا فرض فساد هذه المعاملة كانت مضمونة ، كما إذا صدرت صحيحة. فالمسابقة الفاسدة كالصحيحة تصدر عن غرض عقلائيّ ، وهو التهيّؤ للحرب والوقوف على رموزها ، فتكون كالإجارة لكنس مسجد في كون المسابقة من المعاملات العقلائيّة ، فتندرج في «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

وعليه فلا ينتقض قاعدة «ما يضمن» بالمسابقة الفاسدة ، فالمسابقة كالإجارة في كون فاسدها كصحيحها موجبة للضمان. فما أفاده العلامة وثاني المحققين قدس‌سرهما من الضمان في المسابقة الفاسدة هو الجدير بالقبول ، والله العالم.


عوضه (١) عليه ، لأنّه (٢) ليس كالمستوفي له ، ولذا (٣) كانت شرعيّته على خلاف القاعدة ، حيث إنّه بذل مال في مقابل عمل لا ينفع الباذل. وتمام الكلام في بابه (٤).

ثمّ إنّه (٥) لا فرق فيما ذكرنا من الضمان في الفاسد بين جهل الدافع بالفساد ، وبين علمه مع جهل القابض (٦).

______________________________________________________

(١) أي : عوض العمل على الآخر الذي لم يأمر بالعمل ولم ينتفع به.

(٢) أي : لأنّ الآخر لم ينتفع ولم يستوف عمل الغير حتى يكون ضامنا بمقتضى قاعدة الاحترام.

(٣) أي : ولأجل عدم المقتضي للضمان في مثل المسابقة الفاسدة كانت مشروعيّتها على خلاف القاعدة ، لعدم بذل مال في مقابل عمل ينتفع به الباذل.

(٤) وهو كتاب المسابقة إذا تبيّن فسادها بعد العمل.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية المعقودة لبيان مدرك قاعدة «ما يضمن».

عدم اختصاص الضمان بالجهل بفساد المعاملة

(٥) هذا إشارة إلى الجهة الثالثة ، ممّا تعرّض له في شرح قاعدة «ما يضمن» وهي اختصاص الضمان بجهل الدافع بفساد المعاملة ، وتعميمه لكلتا حالتي العلم والجهل به.

ولا يخفى أنّ هذا البحث وإن كان له تعلّق بالقاعدة ، ولكنّه لا يختص بها ، بل يجري في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد سواء أكان الدليل على الضمان حديث «على اليد» أم حديث ضمان قيمة ولد الأمة المسروقة ، أم قاعدة «ما يضمن» أم الإجماع المدّعى في بعض الكلمات.

وكيف كان فينبغي الإشارة إلى أمر قبل توضيح المتن ، وهو : أنّ للمسألة صورا أربع ، وهي : علمهما بالفساد ، وجهلهما به ، وعلم الدافع وجهل القابض ، وبالعكس. إلّا أنّ المذكور في المتن هي الصور الثلاث الأول ، ولم يتعرّض لحكم صورة جهل الدافع بالفساد مع علم القابض به ، ولعلّه اتّكالا على وضوحه.

(٦) الدليل على عموم الضمان ما سيأتي في كلامه من إطلاق النص والفتوى ،


وتوهّم (١) «أنّ (٢) الدافع في هذه الصورة هو الذي سلّطه عليه ، والمفروض

______________________________________________________

وعدم مقيّد له في البين.

(١) هذا تفصيل في الضمان بين علم الدافع بالفساد وجهل القابض به ، وبين غيره. وهذا التفصيل احتمله الشهيد الثاني قدس‌سره أوّلا ، لكنّه عدل عنه وقال : «والأقوى ثبوته ـ أي الضمان ـ في جميع الصور» (١).

واختاره المحقق الأردبيلي قدس‌سره بناء على مرجعيّة أصالة البراءة عن الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد ، لعدم حجيّة حديث «على اليد» ولا قاعدة «ما يضمن» فقال قدس‌سره : «وهو ـ أي عدم الضمان ـ مع الجهل بالفساد قويّ ، ومع علم الآخر أقوى.

ومع علمه بالفساد ـ وبعدم جواز تصرفه ووجوب حفظه ووجوب ردّه إلى مالكه معجّلا ـ كالمغصوب ، وذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك على تقدير الفساد ، وعدم رضاه بكونه عنده .. وأمّا مع الجهل بالفساد ـ سيّما في أمر غير ظاهر الفساد ، وكذا بعد العلم به ، ولكن مع عدم العلم بوجوب الرّد ـ فالضمان غير ظاهر .. الى أن قال : نعم إذا علم عدم الرضا إلّا بوجه البيع أو اشتبه ذلك ، يتوجّه جواز التصرّف ، والضمان على تقدير فهم عدم الرّضا بالمكث عنده ، وكونه أمانة على تقدير غيره» (٢).

وحاصله : أنّه قدس‌سره فصّل بين صورتي العلم بالفساد والجهل به ، فإن كانا جاهلين فعدم الضمان قويّ. وإن كان الآخر ـ أي : الدافع ـ عالما والقابض جاهلا فعدم الضمان أقوى. وإن كان القابض عالما بالفساد وبحرمة التصرّف في المقبوض بالعقد الفاسد ، وبوجوب ردّه إلى مالكه معجّلا فهو ضامن كالغاصب.

(٢) هذا الوجه مذكور في المسالك وإن لم يعتمد عليه. وحاصله : أنّ الدافع ـ مع علمه بالفساد وجهل القابض به ـ سلّط القابض على المقبوض ، وأذن له في

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٩٢ و ١٩٣.


أنّ القابض جاهل» (١) مدفوع (٢) بإطلاق النص والفتوى. وليس (٣) الجاهل مغرورا ، لأنّه (٤) أقدم على الضمان قاصدا.

______________________________________________________

إتلافه والتصرف فيه مع علمه ببقائه على ملكه ، ولا موجب لضمان القابض حينئذ.

(١) إذ لو كان عالما بالفساد كان ضامنا بلا إشكال.

(٢) هذا خبر «توهّم» ودفع للتوهّم المزبور وملخّص الدفع : أنّ إطلاق النص وهو «على اليد» وكذا إطلاق الفتوى يثبت الضمان ويدفع الشك فيه.

(٣) إشارة إلى وجه آخر لنفي الضمان ، وهو قاعدة الغرور ، بتقريب : أنّ الدافع مع علمه بالفساد وجهل القابض به قد غرّه ، إذ لم يكن موظّفا بدفع المال إلى القابض ، ومع ذلك دفعه إليه.

وببيان آخر : قد تقرّر عندهم في باب الضمان «أنّ المغرور يرجع على من غرّه» كما إذا قدّم شخص طعاما لضيفه بعنوان أنّه ملكه أو مأذون في تقديمه للضيف ، فتبيّن عدم كون المضيف مالكا ومأذونا في التصرّف فيه ، فإنّ الآكل ضامن له. ولكنّه يرجع بقيمته على الغارّ وهو المضيف. والوجه في الرجوع إلى الغارّ هو قاعدة الغرور.

والمدّعى انطباق هذه القاعدة على المقام ، لأنّ الدافع العالم بفساد العقد أقبض ماله للطرف الآخر ـ الجاهل بالفساد ـ بعنوان أنّ المال انتقل إلى القابض ، وأخذ عوضه من القابض. وهذا الإقباض خدعة من البائع العالم بالفساد ، لأنّ المشتري يتخيّل صحة المعاملة ووجوب الوفاء بها. ومن المعلوم أنّ إبقاء جهله وإعطاءه ما ليس بنظر البائع مالا للمشتري نحو غرور وخدعة ، ولا وجه حينئذ لضمان المشتري لما تسلّمه من البائع العالم بالفساد ، بل يرجع عليه بماله ، هذا.

(٤) أي : لأنّ الجاهل. وهذا إشارة إلى دفع الوجه المزبور ـ وهو قاعدة الغرور ـ ومحصّله : عدم كون المقام من صغريات هذه القاعدة ، وذلك لأنّ القابض الجاهل ـ كالمشتري ـ قد قبض المال مع ضمانه بالمسمّى الذي يدفعه إلى البائع ، والعالم بالفساد


وتسليط (١) الدافع العالم لا يجعلها أمانة مالكيّة (٢) ، لأنّه (٣) دفعه على أنّه (٤) ملك المدفوع إليه ، لا أنّه (٥) أمانة عنده أو عارية ، ولذا (٦) لا يجوز له التصرّف فيه

______________________________________________________

إنّما سلّط القابض على المال بعنوان أنّه ملكه ، ولم يقصد عنوانا آخر من الأمانة أو العارية ، فلا غرور في البين.

(١) هذا من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وغرض المفصّل الاستناد إلى : أنّ العالم بفساد العقد إذا سلّط الآخر على ماله فقد أسقط حرمة ماله ، فلا وجه لضمان القابض.

وأجاب عنه المصنّف قدس‌سره بما عرفت من أنّ مجرّد التسليط لا يساوق المجّانيّة والاذن في التصرّف ، بل هو أعمّ فإن كان مقرونا بقصد الأمانة أو المجّانيّة لم يضمن الآخذ ، وإن كان مبنيا على كون المال ملكا للآخذ ـ ولو تشريعا ـ كما هو المفروض في البيع الفاسد كان ضامنا ، هذا.

(٢) حتى لا يثبت الضمان ، إذ الأمانة المالكيّة كالشرعيّة رافعة للضمان.

(٣) تعليل لعدم الأمانة المالكيّة ، وحاصله : أنّ المالك لم يدفع المال بعنوان الأمانة ، بل دفعه إليه بعنوان كونه ملكا له.

(٤) هذا الضمير وضميرا «دفعه ، أنّه» راجعة إلى «المقبوض» المستفاد من السياق.

(٥) معطوف على «على» أي : لم يكن دفع المال إلى المدفوع إليه مبنيّا على الأمانة والعارية حتّى يسقط الضمان.

(٦) أي : ولأجل كون دفع المال مبنيّا على كونه ملكا للمدفوع اليه ـ لا بعنوان الأمانة ـ لا يجوز للمدفوع إليه التصرف في المال ، ولا الانتفاع به. ولو كان عارية لجاز الانتفاع به كما هو واضح.

هذا تمام الكلام في المقام الأول وهو البحث عن دليلية قاعدة «ما يضمن» على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد.


والانتفاع به (*) وسيأتي تتمّة ذلك في مسألة بيع الغاصب مع علم المشتري (١).

______________________________________________________

(١) سيأتي في الأمر الثالث ممّا ذكره في العقد المجاز ، حيث قال : «ثم إنّ هنا إشكالا في شمول الحكم بجواز تتبع العقود لصورة علم المشتري بالغصب .. إلخ».

__________________

(*) قد ذكر لهذا التفصيل وجوه :

الأوّل : الأصل ، بتقريب : أنّ أصالة البراءة تنفي الضمان.

وفيه ما لا يخفى ، لحكومة «على اليد» عليه ، سواء أريد به الأصل الحكمي وهو الضمان ، أم أريد به الأصل الموضوعي وهو أصالة عدم تحقق سبب الضمان.

أمّا الأوّل فواضح. وامّا الثاني فلأنّ اليد تقتضي الضمان. إلّا أن يكون هناك مانع وهو الأمانة ، ولا بدّ من العمل على طبق المقتضي حتّى يعلم المانع وهو الأمانة المعلوم عدمها في المقام.

الثاني : التسليط المجّاني المانع عن تأثير اليد في الضمان. توضيحه : أنّ العلم بالفساد موجب للعلم بعدم استحقاق العوض ، وهو مستلزم للإقدام على دفع المال مجّانا.

وفيه : ـ مضافا إلى عدم اختصاص هذا الوجه بجهل القابض ، لجريانه في صورة علمه أيضا ـ أنّه إن أريد عدم تمشي قصد البيع مع العلم بعدم استحقاق العوض ، ولازمه قصد المجّانية ، وهو ينفي الضمان ، ففيه أوّلا : منع الملازمة بين العلم بعدم الاستحقاق وبين امتناع قصد البيع. ويتضح وجه عدم الملازمة بملاحظة التشريع ، فإنّ الغاصب يشرّع مالكيته للمغصوب ثم يبيعه ، فمع علمه بفساد البيع يقصد المعاوضة لا المجّانيّة.

وثانيا : منع الملازمة بين عدم قصد حقيقة البيع وبين مجّانيّة التسليط الخارجي ، لجواز كونه بعوض كما هو كذلك في مقامنا ، ضرورة أنّ تسليط المشتري على المبيع إنّما يكون في مقابل تسليطه البائع على الثمن ، فلا مجّانيّة حتى تمنع عن تأثير اليد في الضمان.

مضافا إلى : أنّ القبض الخارجيّ يكون متفرّعا على البيع الفاسد ، لأنّ الكلام في المقبوض به ، لا على عدم البيع ، فلا مجال لإنكار قصد البيع حتى يكون القبض عنوانا


.................................................................................................

__________________

مستقلّا قصد به المجّانيّة.

فالمتحصل : عدم الفرق في الضمان بين علم القابض وجهله.

نعم الفرق بينهما في ثبوت الحرمة التكليفيّة المنجّزة في صورة علم القابض وعدمها مع جهله ، فلاحظ.

الثالث : قاعدة الغرور ، بتقريب : أنّ الدافع العالم بالفساد قد غرّ القابض الجاهل به ، حيث إنّ المقبض العالم إنّما أقبضه ما هو ماله بنظر القابض خدعة لإتمام المعاملة ، وأخذ عوضه من القابض ، فإبقاء جهله بحاله وإعطاؤه ما ليس بنظره ماله نحو غرور وخدعة ، ومن المعلوم أنّ المغرور يرجع على من غرّه. نعم مع علم القابض لا غرور ولا خديعة.

فهذا الوجه الثالث مختص بصورة جهل القابض.

وفيه أوّلا : أنّه أخصّ من المدّعى ، لاختصاص الغرور بما إذا كان الجاهل القابض مباليا بماله دخل في صحّة المعاملة من الشرائط الشرعيّة ، إذ بدون المبالاة والاقتصار على الصحة العقلائيّة ـ بحيث لو علم بفساد المعاملة شرعا لأقدم عليها أيضا كبيع الخمر والخنزير وغيرهما من البيوع العقلائيّة المنهيّ عنها شرعا ـ لا يصدق الغرور والخدعة ، لأنّ إقدام القابض حينئذ ليس ناشئا من الخدعة أصلا ، بل من عدم مبالاته بالدين. فقاعدة الغرور لا تجري في كلتا صورتي جهل القابض وعلمه ، مع أنّ المدّعى ضمان القابض في كلتيهما ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ الغرور بمعنى الخديعة متقوّم بأمرين :

أحدهما : علم الغارّ ، والآخر جهل المغرور. وانتفاء أحدهما يوجب انتفاء الغرور. وفي المقام وإن كان القابض جاهلا بفساد العقد. إلّا أنّه عالم بالضمان ومقدم عليه ، غايته أنّه أقدم على ضمان المسمّى لا أكثر ، فلا تجري قاعدة الغرور في أصل الضمان. نعم تجري في الزائد على العوض المسمّى ، بداهة أنّ الدافع غارّ بالنسبة إلى هذا الزائد ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

فالمتحصّل : أنّ ما عن المشهور من الضمان في جميع الصور ـ كما في حاشية


وأمّا عكسها (١) وهو «أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فمعناه (٢) : أنّ كلّ عقد لا يفيد صحيحه ضمان مورده (٣) (*) ففاسده لا يفيد ضمانا ،

______________________________________________________

قاعدة : ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده

(١) أي : عكس قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وقد تقدم (في ص ٥٧) المسامحة في التعبير بالعكس كما لا يخفى ، فراجع.

وكيف كان فهذا شروع في المقام الثاني ، وهو البحث عن الجهات المتعلقة بقاعدة «ما لا يضمن» واقتصر المصنّف قدس‌سره هنا على جهات ثلاث ، الأولى : مدلول القاعدة ، الثانية : موارد النقض عليها. الثالثة : مدرك القاعدة ومستندها.

وأمّا المباحث المتقدمة في قاعدة «ما يضمن» ـ من معنى الضمان ، وكون عموم العقود أفراديا أو أنواعيا أو أصنافيا ، واقتضاء ذات العقد للضمان أو كفاية اقتضاء الشرط له ـ فلا حاجة إلى إعادتها ، لاشتراكها بين الأصل والعكس.

(٢) هذا شروع في الجهة الأولى.

(٣) مورد العقد ظاهر في نفس ما تعلّق به العقد ، وما هو مصبّه ، كالعين في عقد البيع ، والانتفاع في العارية ، والمنفعة في الإجارة. لكن المراد به هنا بقرينة ما يأتي في

__________________

الفقيه المامقاني قدس‌سره (١) ـ هو الأقوى ، فلا يقيّد الضمان في قاعدة ما يضمن بشي‌ء من العلم والجهل.

كما أنّ المتحصّل ممّا ذكرنا تمامية كلية القاعدة من ناحية إيجابها أعني به «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ووفاء الأدلة من اليد وقاعدة الاحترام بإثبات إيجابها الكليّ ، فلاحظ وتأمّل.

(*) ظاهره نفي سببيّة العقد للضمان ، لا إثبات سببيّته لعدم الضمان ، فعدم الضمان إنّما هو لعدم المقتضي له ، لا لوجود المقتضي لعدم الضمان.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٢٨١.


كما في عقد الرهن والوكالة والمضاربة والعارية غير المضمونة ، بل المضمونة ـ بناء على أنّ المراد بإفادة الصحيح للضمان إفادته بنفسه (١) لا بأمر خارج عنه كالشرط الواقع في متنه ـ وغير (٢) ذلك من العقود اللازمة والجائزة.

______________________________________________________

كلامه : «ثم إنّ مقتضى ذلك عدم ضمان العين ..» أعم منه وممّا يكون متعلّق متعلّق العقد ، إذ لو لا هذا التعميم لا يستقيم عدم ضمان العين المستأجرة ، حيث إنّ اليد تقتضي ضمانها ، فعدم ضمانها مبنيّ على تعميم متعلق العقد لمتعلق متعلقة. فمورد نفس متعلق الإجارة هو المنفعة ، والعين تكون متعلق متعلق الإجارة. ففي الإجارة الصحيحة ليست العين مضمونة ، وكذا في فاسدها.

(١) هذا متعلّق بقوله : «بل المضمونة» وهو إشارة إلى ما مرّ من اقتضاء العقد بنفسه للضمان ، لا من جهة الشرط الذي هو خارج عن ماهيّة العقد ، ويكون الضمان لأمر خارج عن حقيقته وهو الشرط. فبناء على التعميم تندرج العارية المشروطة بالضمان في أصل القاعدة ، وبناء على الاختصاص تندرج في العكس.

(٢) معطوف على «عقد الرهن ..» والمراد بالغير هو العقود التي لا تتضمّن معاوضة كالهبة والوديعة.

__________________

وعلى هذا فلو ثبت الضمان في فاسد العقد الذي لا يضمن بصحيحه لم يكن معارضا لهذه القاعدة ، لتوقّف عدم الضمان على استقصاء سائر أسباب الضمان وإحراز عدمها. وإلّا فمجرّد عدم اقتضاء فاسد العقد للضمان لا يجدي في الحكم بعدم الضمان فعلا.

هذا لو كانت «الباء» للسببيّة ، بخلاف ما لو كانت ظرفيّة ، لظهورها في تبعيّة العقد الفاسد لصحيحة في عدم الضمان ، فلو قام دليل آخر على الضمان كان معارضا لهذه القاعدة لو تمّت في نفسها ، للتنافي بين ما يثبت الضمان في الفاسد وما ينفيه ، فلاحظ.


ثمّ إنّ مقتضى ذلك (١) عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا ، لأنّ صحيح

______________________________________________________

(١) المشار إليه هو قوله في تفسير القاعدة : «أنّ كلّ عقد لا يفيد صحيحه ضمان مورد ففاسده لا يفيد ضمانا» فمقتضى هذه القاعدة عدم ضمان العين المستأجرة في الإجارة الفاسدة ، لأنّ الإجارة الصحيحة لا تفيد ضمان العين فكذا الفاسدة.

وغرضه قدس‌سره بيان أحد النقوض الواردة على قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» ولكنّه خصّ هذه المسألة بالذّكر هنا ولم يجعلها في عداد النقوض الآتية بقوله : «ثم إنّه يشكل اطراد القاعدة في موارد» ولعلّه لخصوصيّة في هذه ، وهي ابتناؤها على الخلاف في أنّ المراد بالعقد في أصل القاعدة وعكسها هل هو خصوص مصبّ العقد كالعين في باب البيع ، والمنفعة في باب الإجارة ، أم ما يعمّ متعلق المتعلق؟

فإن قلنا بالاختصاص لزم التفكيك بين العين والمنفعة في عقدي البيع والإجارة ، لكون العين في البيع موضوعا لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» والمنفعة موضوعا لقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

وينعكس الأمر في باب الإجارة ، إذ المعوّض فيها هو المنفعة ، فتندرج في أصل القاعدة ، وتندرج العين في العكس ، يعني «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

وإن قلنا بالتعميم أي : دخول العين في مصبّ الإجارة ، فلا ضمان في صحيحها وفاسدها. أمّا في الصحيح فلأنّ مالك العين يلزمه تسليم العين للمستأجر ليستوفي منفعتها ، فهو مأذون من قبل المالك ، ويده يد استحقاق. وأمّا في الفاسد فلإقدام المالك على تسليم العين بدون ضمان.

وكيف كان فإذا استأجر زيد من عمرو دارا عاما بمائة دينار ، فإن كانت صحيحة كان المستأجر ضامنا للأجرة المسماة ، ولا يضمن نفس الدار ، فلو تلفت بيده ـ من دون تعدّ وتفريط في الحفظ ـ لم يضمنها ، لكونها أمانة. وإن كانت الإجارة فاسدة ففي ضمانه قيمة الدار قولان :


الإجارة غير مفيد لضمانها ، كما صرّح به (١) في القواعد والتحرير ، وحكي عن التذكرة (٢) وإطلاق (٣) الباقي.

______________________________________________________

أحدهما : الضمان ، وهو المصرّح به في كلام العلّامة السيّد الطباطبائيّ قدس‌سره (١).

والآخر : عدمه ، ولعلّه المشهور ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

(١) أي : بعدم ضمان العين. قال العلّامة في القواعد : «العين أمانة في يد المستأجر لا يضمنها إلّا بتعدّ أو تفريط ، في المدّة وبعدها إذا لم يمنعها مع الطلب ، سواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة» (٢). والجملة الأخيرة صريحة في عدم ضمان العين المستأجرة بالإجارة الباطلة شرعا. ونحوه عبارة التحرير (٣).

(٢) الحاكي هو السيد الفقيه العاملي قدس‌سره (٤) ، حكاه بتصرف في اللفظ ، قال في التذكرة : «إذا كانت الإجارة فاسدة لم يضمن المستأجر العين أيضا إذا تلفت بغير تفريط ولا على عدوان ، لأنّه عقد لا يقتضي صحيحه الضمان فلا يقتضيه فاسدة ، كالوكالة والمضاربة. وحكم كل عقد فاسد حكم صحيحه في وجوب الضمان وعدمه ، فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده ، وما لم يجب في صحيحه لم يجب في فاسده. ولأنّ الأصل براءة الذمّة من الضمان ، لأنّه قبض العين بإذن مالكها ، فلم يجب عليه ضمانها ، لعدم موجب له مع هذا القبض» (٥).

(٣) الأولى أن يقال : «وأطلق الباقي» ليكون مقابلا لقوله : «كما صرّح به في القواعد». وجعله معطوفا على نائب فاعل «حكي» ـ ليكون مفاده حكي التصريح عن التذكرة كما حكي إطلاق الباقي ـ لا بأس به وإن كان خلاف الظاهر. وقد حكى

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٨.

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٩٣ ، السطر ١٥ (الطبعة الحجرية).

(٣) تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ٢٥٢.

(٤) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ١٣٢.

(٥) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣١٨.


إلّا أنّ صريح الرياض (١) الحكم بالضمان ، وحكى (٢) فيها عن بعض «نسبته إلى المفهوم من كلمات الأصحاب» والظاهر أنّ المحكي عنه هو المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة (٣).

______________________________________________________

السيّد العاملي إطلاق الباقين ، فراجع (١).

وكيف كان فالمقصود أنّ عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا يستفاد من تصريح العلامة ومن ظاهر غيره ممّن أطلق عدم الضمان ، ولم يقيّده بالعقد الصحيح ، كالمحقق ، حيث قال : «والعين المستأجرة أمانة لا يضمنها المستأجر إلّا بتعدّ أو تفريط» (٢).

(١) قال في ذيل ما ذكره في شرح قول المحقق قدس‌سره : «ويثبت أجرة المثل في كل موضع تبطل فيه الإجارة» (٣) ما لفظه : «والعين مضمونة في يد المستأجر مطلقا كما نسب إلى المفهوم من كلمات الأصحاب. ولعلّه لعموم الخبر بضمان ما أخذته اليد» (٤).

(٢) يعني : وحكى السيّد الطباطبائي في الرياض نسبة الضمان إلى ما فهمه بعض من كلمات الأصحاب ، والناسب هو المحقق الأردبيلي قدس‌سره.

(٣) قال المحقق المذكور ما نصّه : «ثمّ إنّ الظاهر أنّ العالم كالغاصب لا يجوز له التصرف ، ولا يستحق شيئا ، لما مرّ من أن الاذن إنّما علم بالعقد ، لاعتقاد أنّه صحيح ، ويلزم الطرف الآخر ما يلزمه ، وقد بطل وهو عالم بالفرض ، فيبقى أصل المنع على حاله كما قيل في البيع الباطل ، بل يفهم من كلامهم الضمان مع الجهل أيضا» (٥).

وهذه الجملة الأخيرة محلّ الاستشهاد بكلام المحقق الأردبيلي قدس‌سره ، حيث فهم من كلام الأصحاب ضمان العين المستأجرة.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٢٥٢.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٩.

(٣) المختصر النافع ، ص ١٥٣.

(٤) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٨ ، أواخر الصفحة.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٠.


وما أبعد (١) ما بينه وبين ما عن جامع المقاصد ، حيث قال في باب

______________________________________________________

(١) يعني : وما أبعد ما بين ما أفاده المحقق الأردبيلي قدس‌سره ـ من أنّ المفهوم من كلمات الأصحاب ضمان العين في الإجارة الفاسدة ـ وبين ما أفاده المحقق الكركي قدس‌سره من أنّه يلوح من كلامهم عدم الضمان. وغرض المصنّف قدس‌سره التعجّب من استظهار هذين العلمين ، حيث ادّعى المحقق الأردبيلي أنّ الضمان يفهم من كلامهم ، وادّعى المحقق الكركي ظهور كلامهم في عدم الضمان.

وكيف كان فيحتمل أن يكون اختلافهما في النسبة إلى الأصحاب ناشئا من الاختلاف في فهم معنى قولهم : «كلّ ما يضمن بصحيحه .. إلخ» بأن يقال : إنّ المحقق الأردبيلي قدس‌سره فهم من هذه العبارة : أنّ مورد إثبات الضمان ونفيه عند الأصحاب خصوص متعلّق العقد كالمنفعة في الإجارة ، فلا يعمّ العين المستأجرة ، فلا بدّ حينئذ من الحكم بضمان العين لقاعدة اليد ، لعدم كون العين موردا للعقد.

والمحقّق الثاني قدس‌سره فهم منها أنّ مورد النفي والإثبات عندهم ما يشمل مورد العقد ومتعلّق المتعلّق ، فيعمّ العين المستأجرة ، فيتعارض اليد والقاعدة ، فيرجع إلى البراءة.

والحاصل : أنّ هنا قاعدتين إحداهما ـ وهي اليد ـ توجب الضمان ، والأخرى وهي قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه» تنفي الضمان. والاختلاف إنّما يكون في مفاد الثانية.

فإن كان مفادها عند الأصحاب نفي الضمان عن خصوص مورد العقد ، فلا تشمل العين المستأجرة فاسدا كما زعمه المحقق الأردبيلي. وعليه فمقتضى قاعدة اليد ضمانها.

وإن كان مفادها عندهم نفي الضمان عن الأعمّ من مورد العقد كما استظهره المحقق الثاني من كلام الأصحاب فلازمه نفي الضمان عن العين المستأجرة فاسدا ، إذا المفروض عدم اختصاص قاعدة «ما لا يضمن» بنفس مورد العقد ، وشمولها لمتعلق متعلقة أيضا كالعين المستأجرة ، فإنّ مورد العقد هو المنفعة دون العين.


الغصب : «إنّ الّذي (١) يلوح من كلامهم هو (٢) عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا باستيفاء (٣) المنفعة. والّذي ينساق إليه النظر (٤) هو الضمان ، لأنّ (٥) التصرّف

______________________________________________________

لكنّه بناء على تعميم مورد العقد لمتعلّق متعلقة تندرج الإجارة الفاسدة في قاعدة «ما لا يضمن» فإنّ صحيح الإجارة لا يوجب ضمان العين ، وكذا فاسدها.

(١) العبارة منقولة بتصرّف غير قادح في المقصود ، قال قدس‌سره : «وهل العين مضمونة بالاستيفاء؟ يلوح من كلامهم العدم. والذي ينساق إليه النظر كونها مضمونة ، لأنّ التصرف في العين غير جائز ، فهو بغير حق ، فيكون في حال التصرف استيلاؤه عليها بغير حق ، وذلك معنى الغصب ، إلّا أنّ كون الإجارة الفاسدة ..» (١) إلى آخر ما في المتن. وكلامه مشتمل على أنظار ثلاثة سيأتي بيانها.

(٢) هذا هو النظر الأوّل المذكور في جامع المقاصد ، وهو نسبة عدم ضمان العين ـ في الإجارة الفاسدة ـ إلى الأصحاب. وكان مبنى هذه النسبة تصريح العلّامة في القواعد والتحرير والتذكرة بعدم الضمان.

(٣) متعلق ب «عدم ضمان» يعني : أنّ استيفاء المنفعة وإن أوجبت ضمانها بأجرة المثل ، لكنّها لا تقتضي ضمان العين.

(٤) أي : نظر المحقق الثاني ، خلافا لما استظهره من كلام الأصحاب من عدم الضمان. وهذا ثاني الأنظار في المسألة ، وهو إثبات ضمان العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة ، لكونه من موارد الغصب ، وهو محرّم شرعا ، ويترتّب عليه الضمان.

والوجه في حرمة التصرّف هو فساد العقد حسب الفرض ، ولا إذن من المالك غير الإذن العقديّ ، فكما يضمن المستأجر منفعتها المستوفاة فكذا يضمن العين لو تلفت بيده.

(٥) تعليل للضمان ، وقد عرفته آنفا ، كما عرفت أن هذه الجملة ليست نصّ عبارة جامع المقاصد.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢١٦.


فيه (١) حرام ، لأنّه غصب فيضمنه» ثمّ قال : «إلّا أنّ (٢) كون الإجارة الفاسدة لا يضمن بها كما لا يضمن بصحيحها مناف لذلك (٣) ، فيقال : (٤) إنّه (٥) دخل على عدم الضمان بهذا الاستيلاء وإن لم يكن (٦) مستحقا ، والأصل براءة الذمة من

______________________________________________________

(١) كان المناسب تأنيث هذا الضمير وضمير «فيضمنه» لرجوعهما إلى العين في الإجارة الفاسدة ، وكذا تأنيث ضمير «لأنه» لو لم يرجع إلى التصرّف.

(٢) هذا شروع في بيان النظر الثالث ، وهو الخدشة في الضمان ، وبيانها : أنّ قاعدة اليد وإن اقتضت ضمان العين ، إلّا أنّها معارضة بقاعدة أخرى تقتضي عدم الضمان ، فيتم نظر المشهور الّذين يلوح من كلامهم ذلك ، وتلك القاعدة هي «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بتقريب : أنّ الموجر أقدم على عدم الضمان ، حيث إنّه سلّط المستأجر على العين بلا عوض عنها ، وإن لم يكن المستأجر مستحقا لها من جهة فساد العقد. فإن كان الترجيح مع قاعدة «ما لا يضمن» فلا ضمان.

وإن كانتا متكافئتين تساقطتا ، والمرجع أصالة براءة ذمة المستأجر عن بدل العين التي استوفى منفعتها ، هذا.

(٣) أي : للضمان الذي تقتضيه قاعدة اليد.

(٤) هذا تقريب تطبيق قاعدة «ما لا يضمن» على الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين ، ومحصّله : الاقدام على تسليط المستأجر عليها بلا عوض عنها.

ويستفاد من هذا الكلام أنّ الاقدام على التسليط بعوض يكون من موجبات الضمان ، فيكون المحقّق الثاني موافقا لشيخ الطائفة وابن إدريس قدس‌سرهم في عدّ الاقدام من أسباب الضمان.

(٥) أي : أنّ مالك العين أقدم على عدم ضمانها.

(٦) أي : وإن لم يكن المستولي ـ وهو المستأجر ـ مستحقّا للعين مقدّمة للانتفاع بها ، ووجه عدم استحقاقه لها فساد عقد الإجارة.


الضمان (١) ، فلا يكون العين بذلك مضمونة. ولو لا ذلك (٢) لكان المرتهن ضامنا مع فساد الرهن ، لأنّ استيلاءه بغير حق ، وهو (٣) باطل» (١) انتهى.

______________________________________________________

(١) إن كان الأصل العملي في رتبة الدليل الاجتهادي أعني به قاعدة «ما لا يضمن» فيكون معاضدا لها في تقدمها على قاعدة اليد. وإن كان متأخّرا عنها رتبة ـ كما هو الحق ـ فتكون مؤيّدا ، أو مرجعا على تقدير تساقط القاعدتين بالتعارض.

(٢) أي : ولو لا انطباق قاعدة «ما لا يضمن» على الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين لكان المرتهن .. إلخ.

وغرض المحقق الكركي قدس‌سره من الاستشهاد بمسألة عدم ضمان العين المرهونة ـ في الرهن الفاسد ـ هو تأييد مقالته من عدم ضمان العين في الإجارة الفاسدة ، لكونه من موارد قاعدة «ما لا يضمن» وبيانه : أنّ مجرّد وضع اليد على مال الغير لا يقتضي ضمانه ، بل يتوقّف على عدم إذن مالكيّ ولا شرعيّ ولا استيمان ولا معاوضة ، فلو كان التسليط المالكيّ مبنيّا على عدم ضمان الآخذ لم تقتض يده ضمانا ، وهذا أمر مطّرد في موارد :

منها : الرهن الفاسد ، فإنّ استيلاء المرتهن على العين المرهونة يكون بغير حقّ حسب الفرض ، إلّا أنّها لو تلفت بيده لم يكن عليه بدلها ، لأنّ الراهن سلّط المرتهن على ماله مبنيّا على كونه وثيقة عنده ، لا بعنوان المعاوضة. وبهذا يندرج الرّهن في قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وتجري أصالة البراءة عن الضمان. ولو لا هذا لزم الحكم بضمان الرّهن عملا بقاعدة اليد ، مع أنّهم حكموا بعدم الضمان ، أخذا بالقاعدة وبالأصل.

(٣) يعني : والحال أنّ ضمان المرتهن للعين المرهونة ـ في الرّهن الفاسد ـ باطل ، فكذا لا وجه لضمان العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة ، هذا تمام كلام المحقق الكركي قدس‌سره.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢١٦.


ولعلّ الحكم بالضمان في المسألة (١) إمّا لخروجها (٢) عن قاعدة «ما لا يضمن» لأنّ المراد بالمضمون مورد العقد ، ومورد العقد في الإجارة

______________________________________________________

(١) يعني : ولعلّ حكم الأصحاب بالضمان في مسألة الإجارة الفاسدة ـ على ما نسبه المحقق الأردبيلي إليهم ، وعدم عملهم فيها بقاعدة «ما لا يضمن» المقتضية لعدم الضمان ـ مستند إلى أحد وجهين .. إلخ. وغرضه قدس‌سره من هذه الجملة إلى قوله : «وإمّا لأنّ قاعدة ما لا يضمن معارضة بقاعدة اليد» توجيه الحكم بضمان العين بوجهين ذكرهما صاحب الجواهر قدس‌سره وإن تنظّر فيهما في آخر كلامه ، وسيأتي نقل بعض ما أفاده.

وعلى كلّ منهما يشكل ما تقدّم عن المحقق الكركي من ترجيح القول بعدم ضمان العين عملا بقاعدة «ما لا يضمن» وبأصالة البراءة عن الضمان.

(٢) هذا هو الوجه الأوّل للقول بضمان العين ، وهو مؤخّر ـ ذكرا ـ في الجواهر ، قال قدس‌سره : «على أنّه قد يقال : بعدم اندراج العين في قاعدة ما لا يضمن ، فلا تعارض قاعدة اليد حينئذ ، وذلك لأنّ المراد من الإيجاب والسّلب فيها ما كان مضمونا بسبب العقد ، وما لم يكن مضمونا كذلك. على معنى أنّ الضمان وعدمه مورد العقد كالمنفعة في الإجارة ، والعين في الهبة. ولا ريب أنّ عدم الضمان في العين المستأجرة لا مدخليّة للعقد فيه ، وإنّما هو لكونها أمانة ، فيدور الضمان في الفاسد عليها ، لا من القاعدة المزبورة. وكذلك العين في العارية. فمع فرض عدم الأمانة ـ لما سمعته من تقييد الإذن بالصحة ، والمفروض انتفاؤها ـ يتّجه ما نسباه ـ يعني المحقق الأردبيلي وصاحب الرياض ـ إلى الأصحاب من الضمان .. إلخ» (١).

ومحصّل هذا الوجه : عدم شمول قاعدة «ما لا يضمن» للعين تخصّصا ، بتقريب : أنّ المراد ب «ما يضمن وما لا يضمن» ما وقع عليه العقد ، لا ما هو خارج عنه ويعدّ من حواشيه ، كمتعلّق متعلّقه. فاستفادة حكمه منوطة بملاحظة سائر القواعد والأدلّة ، فإن اقتضت الضمان قيل به ، وإن لم تقتضه قيل بعدم الضمان. هذا بحسب الكبرى.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٢٥٢.


المنفعة ، فالعين يرجع في حكمها إلى القواعد (١). وحيث كانت (٢) في صحيح الإجارة أمانة مأذونا فيها شرعا ، ومن طرف المالك (٣) لم يكن فيه ضمان. وأمّا في فاسدها فدفع الموجر للعين إنّما هو للبناء على استحقاق المستأجر لها ، لحقّ الانتفاع فيها ، والمفروض عدم الاستحقاق (٤) ، فيده عليه (٥) يد عدوان موجبة للضمان.

وإمّا (٦) لأنّ قاعدة

______________________________________________________

وأمّا تطبيقها على المقام فهو : أنّ مورد الإجارة ومتعلّقها هو المنفعة لا العين. فإن كانت الإجارة صحيحة لم يضمنها المستأجر ، لكونها أمانة شرعيّة ومالكيّة ، أمّا الاذن الشرعيّ فلوجوب تسليم العين للمستأجر من باب وجوب الوفاء بالعقد ليستوفي منفعتها. وأمّا الاذن المالكيّ فلأنّ الموجر يأذن للمستأجر في الانتفاع بها ، وهو منوط بتسليمها إليه. ومن المعلوم فقدان هذا الاذن في الإجارة الفاسدة. فيتحقق حينئذ موضوع قاعدة اليد المقتضية للضمان ، وبهذا يتجه حكم صاحب الرياض قدس‌سره بالضمان ، هذا.

(١) من قاعدة اليد واحترام مال المسلم ونفي الضرر وغيرها ، المقتضية للضمان ، أو قاعدة الاستيمان المقتضية لعدمه.

(٢) أي العين. وجواب الشرط قوله : «لم يكن فيه ضمان».

(٣) أمّا الاذن الشرعيّ فلصحّة الإجارة شرعا المقتضية لكون العين أمانة لاستيفاء منافعها مدّة الإجارة. وأمّا الاذن المالكيّ فلتسليمه إيّاها بطيب نفسه للانتفاع بها إذا توقّف الانتفاع بها على التسليم.

(٤) لفساد العقد.

(٥) الضمير راجع إلى العين ، فالأولى تأنيثه.

(٦) معطوف على قوله : «إمّا لخروجها» وهذا إشارة إلى ثاني الوجهين للحكم بضمان العين المستأجرة. قال في الجواهر : «وإن كان قد يوجّه ـ يعني الضمان ـ على تقدير صحّة النسبة إلى الأصحاب بما سمعت من عموم ـ على اليد ـ المعارض للقاعدة المزبورة من وجه ، ويرجّح عليها بالنسبة المزبورة. ودعوى العكس باعتضادها


.................................................................................................

______________________________________________________

بقاعدة الأمانة يدفعها ما سمعته من الرياض أخيرا من أنّه إذا كان الدفع بعنوان الصحّة ، لكون الاذن كالمقيّدة بذلك ـ أي بالصحّة ـ فمع الفساد ينكشف أن لا إذن ، فلا تكون أمانة» (١).

ولا يخفى ابتناء هذا الوجه على شمول قاعدة «ما لا يضمن» للعين المستأجرة وعدم اختصاصها بمورد العقد ومصبّه ، إذ لو اختصّت القاعدة بمورد العقد ومتعلقة لم تكن العين المستأجرة مندرجة فيها ، لعدم كونها أحد العوضين ، فهي خارجة موضوعا عن القاعدة.

وبناء على هذا فتوضيح كون النسبة بين قاعدتي «اليد وما لا يضمن» عموما من وجه هو : أنّ قاعدة «اليد» تجري في المغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد ونحوهما ممّا يكون المضمون عينا ، وتقتضي الضمان. وقاعدة «ما لا يضمن» تجري في العارية ونحوها من موارد الاستيمان ، فتقتضي نفي الضمان. وتجتمع القاعدتان في العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة ، فتنطبق قاعدة اليد عليها ، لعدم كونها أمانة بيد المستأجر ، فتكون مضمونة. وكذلك تنطبق قاعدة «ما لا يضمن» عليها ، وتحكم بعدم ضمانها ، لتبعية الإجارة الفاسدة لصحيحها ، فكما لا تضمن العين في صحيحها فكذا في فاسدها.

وحيث كانت النسبة عموما من وجه ، فإن كان لأحد العامّين مرجّح قدّم على الآخر ، وإن كانا متكافئين تساقطا ويرجع إلى دليل ثالث. هذا بحسب الكبرى.

والمدّعى في كلام صاحب الجواهر قدس‌سره تقديم قاعدة «اليد» في المجمع ـ المقتضية للضمان ـ على قاعدة «ما لا يضمن» النافية له. والوجه في التقديم معاضدتها بفتوى الأصحاب بالضمان ، على ما نسبه المحقق الأردبيلي وصاحب الرياض قدس‌سرهما إليهم. ولا معاضد لقاعدة «ما لا يضمن» لأنّ قاعدة الاستيمان النافية للضمان مخصوصة

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٢٥٢.


«ما لا يضمن» معارضة بقاعدة اليد (١).

والأقوى (٢) عدم الضمان ، فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة (٣) بالعين

______________________________________________________

بما إذا كان دفع العين إلى المستأجر مبنيّا على صحة الإجارة لا مطلقا. هذا توضيح كلام الجواهر.

ويحتمل أن يكون غرض المصنّف قدس‌سره من هذا الوجه الثاني تقديم قاعدة اليد لكونها أخصّ مطلقا من قاعدة «ما لا يضمن» ومن المعلوم أنّ التعارض بين العامّ والخاصّ المطلقين بدويّ ، ويتعيّن التخصيص. فيقال : إنّ قاعدة «ما لا يضمن» تنفي الضمان عن العين في الإجارة الصحيحة والفاسدة ، وقاعدة اليد تقتضي الضمان في الفاسدة ، فتكون «اليد» مخصّصة لقاعدة «ما لا يضمن» وتبقى العين في الإجارة الصحيحة موضوعا لها ، كموضوعيّة سائر العقود الأمانيّة لها.

(١) لا يخفى قصور العبارة عن تأدية المراد ، فإنّ المقصود توجيه ضمان العين في الإجارة الفاسدة ، ومن المعلوم أنّ مجرّد تعارض القاعدتين ليس من أسباب الضمان ، إذ لو كانتا متكافئتين تساقطتا ، والمرجع حينئذ هو أصالة البراءة عن الضمان كما تقدّم في كلام المحقق الكركي قدس‌سره.

وعليه كان الأولى أن يقال : «معارضة بقاعدة اليد ، لكنّها لأخصّيّتها تخصّص قاعدة ما لا يضمن» كما يستفاد هذا التخصيص من قوله : «غير مخصّصة».

(٢) بعد أن بيّن المصنف كلا دليلي الضمان وعدمه قوّى عدم الضمان ، للخدشة في الوجهين المتقدمين عن الجواهر. ومقصوده قدس‌سره إثبات عدم الضمان بدليل اجتهادي وهو قاعدة «ما لا يضمن» لا بالأصل العملي الذي ركن إليه المحقّق الكركي قدس‌سره.

(٣) هذا دفع الوجه الثاني للضمان ، وهو تخصيص قاعدة «ما لا يضمن» بقاعدة اليد.

ومحصّل الدفع : إباء قاعدة «ما لا يضمن» عن التخصيص بقاعدة اليد ، لما تقرّر في بحث تعارض الدليلين من اشتراط التخصيص ببقاء العام على حيثيّة كونه قانونا ، وعدم لزوم الاستهجان العرفي من كثرة التخصيص ، بحيث تبقى تحت العامّ أفراد


المستأجرة ،

______________________________________________________

نادرة ، فيمتنع التخصيص لو ترتّب محذور الاستهجان عليه. ولا فرق في هذا الامتناع بين كون نسبة المتعارضين عموما مطلقا ومن وجه ، لاتّحاد الملاك في كليهما.

وهذه الكبرى منطبقة على المقام. أمّا بناء على كون النسبة عموما من وجه كما صرّح به صاحب الجواهر قدس‌سره فلأنّ غالب العقود المندرجة تحت عموم «ما لا يضمن» مشمولة لقاعدة اليد أيضا ، كالمضاربة والرهن والهبة ونحوها ممّا تقع على الأعيان ، فلو بنينا على تقديم قاعدة اليد لزم اختصاص «ما لا يضمن» بالعارية غير المضمونة ، وهذا في الحقيقة إلغاء لتشريعها بنحو ضرب القانون. وأمّا لو قدّمنا هذه القاعدة على اليد لم يلزم هذا المحذور ، لبقاء موارد عديدة مندرجة تحت اليد المقتضية للضمان كالمغصوب والمقبوض بالسوم وبالبيع الفاسد وغيرها.

وعلى هذا نقول : إنّ العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة باقية تحت قاعدة «ما لا يضمن» بعد البناء على شمول القاعدة لمصبّ العقد ولمتعلّق متعلّقه.

وأمّا بناء على كون النسبة عموما مطلقا فكذا يتعيّن تقديم القاعدة على اليد ، فإنّ الظاهر أخصّيّتها من اليد ، دون العكس ، وذلك لورود هذه القاعدة مورد اليد ، نظير ورود قاعدة التجاوز في مورد استصحاب العدم ، إذ البناء على فعل المشكوك فيه ـ كالرّكوع والسجود ـ مخالف لاستصحاب عدم الإتيان به المقتضي لتداركه ، مع أنّهم بنوا على تقديم القاعدة على الاستصحاب سواء كانا أمارتين أم أصلين محرزين ، أم مختلفين. والوجه في تخصيص دليل الاستصحاب هو ورود القاعدة مورده بحيث يلزم لغويّة تشريعها لو لا التخصيص.

وهكذا الحال في المقام ، لأنّ غالب العقود التي تجري فيها قاعدة «ما لا يضمن» تجري فيها قاعدة اليد ، ولا عكس. فتقديم قاعدة اليد المقتضية للضمان إلغاء لتشريع قاعدة «ما لا يضمن».

هذا كلّه توضيح عدم تخصيص قاعدة «ما لا يضمن» بقاعدة اليد. وعليه فالعين في الإجارة الفاسدة غير مضمونة ، عملا بقاعدة «ما لا يضمن».


ولا متخصّصة (١).

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى ردّ أوّل الوجهين المتقدمين عن صاحب الجواهر قدس‌سره الذي كان حاصله خروج العين المستأجرة موضوعا عن قاعدة «ما لا يضمن» فتشملها القواعد الأخر كقاعدة اليد الموجبة للضمان.

ومحصّل مناقشة المصنّف قدس‌سره فيه هو : اندراج العين المستأجرة في قاعدة «ما لا يضمن» وعدم خروجها عنها تخصّصا كعدم خروجها عنها تخصيصا.

والوجه في بطلان التخصّص المزبور : أنّ المعوّض في إجارة الأعيان ـ كالدار ـ وإن كان هو المنفعة ، إلّا أنّ الوفاء بالعقد يقتضي تسليم العين للمستأجر كي ينتفع بها ، فالعقد يتضمّن شرطا ارتكازيّا متعارفا ، وهو جعل العين أمانة بيد المستأجر. وحيث كان التسليط مالكيّا ومبتنيا على الأمانة كان خارجا عن قاعدة اليد ومندرجا في «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» لما تقرّر عندهم من انتفاء الضمان في موارد الاستيمان.

فإن قلت : يختص كون العين أمانة مالكيّة وشرعيّة ـ بيد المستأجر ـ بصحّة عقد الإجارة ، وأمّا مع فسادها فلا ، إذ لا يستحقّها المستأجر حتى تكون أمانة عنده.

قلت : لا فرق في قصد الاستيمان بين صحة الإجارة وفسادها ، فإنّ المالك يرى نفسه ملزما بالوفاء بالشرط الضمني الارتكازي ، فيجعل العين أمانة بيد المستأجر ، ويكون اعتقاد صحة العقد داعيا له إلى تسليم العين. فلو كانت الإجارة فاسدة لم تقدح في قصد المالك ، وإنّما يلزم تخلّف داعيه إلى التسليم. وقد تقرر عندهم عدم العبرة بتخلّف الدواعي ، كما إذا قدّم المضيف طعاما لضيفه معتقدا بأنّه عالم ، فتبيّن كونه جاهلا ، فلا ريب في جواز الأكل ، لأنّه من قبيل تخلّف الداعي.

وقد تحصّل : أنّ العين المستأجرة ـ فاسدة ـ غير مضمونة على المستأجر لو تلفت بيده ، لشمول قاعدة «ما لا يضمن» لها ، ولا مخصّص لها في البين ، كما عرفت. فالأقوى وفاقا للمحقق الكركي عدم الضمان ، لكن للقاعدة ، لا للأصل العملي.

هذا كله في التخلّص عن النقض الأوّل من النقوض الواردة على القاعدة.


ثمّ إنّه يشكل اطّراد القاعدة في موارد :

منها (١) : الصيد الذي استعاره المحرم من المحلّ

______________________________________________________

الجهة الثانية : موارد النقض على قاعدة «ما لا يضمن»

أ : النقض بعارية الصيد

(١) هذا ثاني النقوض التي أوردوها على قاعدة «ما لا يضمن» والنقض الأوّل ما تقدّم من الإجارة الفاسدة على التفصيل المزبور.

ومحصّل هذا النقض الثاني : أنّ العارية الصحيحة لا توجب الضمان ، مع أنّ فاسدها في الصيد الذي استعاره المحرم من المحلّ يوجب الضمان. وفرض هذا النقض هو ما إذا لم يكن في الحرم ، لأنّ الصيد في الحرم غير جائز لغير المحرم أيضا. فالمسألة مفروضة فيما إذا كان هناك شخصان ، أحدهما محرم خارج الحرم ، والآخر محلّ ، فصاد الثاني حيوانا واستعاره المحرم منه ، فإنّه لا إشكال في وجوب إرساله عليه ، فإن أرسله فلا خلاف في ضمانه لمالكه. وهذا خارج عن مورد البحث ، لكونه إتلافا ولو بإذن الشارع ، فلا ينتقض به القاعدة ، لأنّ عدم الضمان في قاعدة «ما لا يضمن» مختص بالتلف ، فالاتلاف خارج موضوعا عن حيّزها.

وإن أمسكه فإن مات بآفة سماويّة أو كان طائرا فطار ـ وهذا هو مورد نقض قاعدة «ما لا يضمن» على القول بفساد عارية الصيد للمحرم ـ ففيه خلاف بينهم ، فمنهم من ذهب إلى الضمان ، مع أنّ صحيح العارية لا ضمان فيه ، ومنهم من قال بعدمه. بل يظهر من الجواهر (١) عدم وجود مصرّح بالضمان في مفروض البحث أعني التلف السماويّ ، وأنّ حكمهم بالضمان إنّما هو في صورة الإتلاف المترتب على الموت بعد الإرسال.

قال في الشرائع : «ولا يجوز للمحرم أن يستعير من محلّ صيدا ، لأنّه ليس له

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ١٦٥.


بناء (١) على فساد العارية ، فإنّهم (٢) حكموا بضمان المحرم له بالقيمة ، مع أنّ صحيح العارية لا يضمن به. ولذا (٣) ناقش الشهيد الثاني في الضمان على تقديري الصحّة والفساد.

______________________________________________________

إمساكه ، فلو أمسكه ثمّ أرسله ضمنه ، وإن لم يشترط عليه ذلك في العارية» (١). فإنّ ظاهره ترتّب الضمان على الإرسال الذي هو إتلاف الصيد ، فلا يشمل ما نحن فيه وهو التلف.

(١) هذا ظاهر في أنّ فساد استعارة المحرم مسألة خلافيّة كما ستأتي في عبارة المسالك. وعلى كلّ فمنشأ الفساد هو النصوص الناهية عن إمساك الصيد والآمرة بتخلية سبيله. ومن المعلوم اشتراط صحة العارية بحلّيّة الانتفاع بالعين المعارة.

(٢) هذا وجه ورود النقض على قاعدة «ما لا يضمن» وقد عرفته آنفا.

(٣) يعني : ولكون صحيح العارية لا يضمن به ناقش الشهيد في ضمان المحرم قيمة الصيد للمالك على كلّ من تقديري صحة عقد عارية الصيد للمحرم وفساده ، لأنّها إن كانت صحيحة فلا ضمان ، وكذا إذا كانت فاسدة ، لقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

قال في المسالك : «ومقتضى عبارة المصنّف رحمه‌الله وجماعة أنّه يضمنه مع التلف للمالك أيضا بالقيمة ، لأنّهم جعلوها من العواري المضمونة ، وإن لم يشترط فيها الضمان. ودليله غير واضح ، إذ مجرّد تحريم استعارته لا يدلّ على الضمان ، سواء قلنا بفساد العقد أم بصحّته.

أمّا مع صحّته فالأصل في العارية عندنا أن تكون غير مضمونة ، إلّا أن يدلّ دليل عليه ، ولم يذكروا هنا دليلا يعتمد عليه. وأمّا مع فسادها فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه كما أسلفناه في مواضع قاعدة كليّة.

ويمكن الاستدلال على ضمانه هنا بإطلاق النصوص بأنّ المحرم لو أتلف صيدا مملوكا فعليه فداؤه لمالكه ، فيدخل فيه صورة النزاع. وفيه نظر ، لمعارضته بالنص

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٢.


إلّا أن يقال (١) : إنّ وجه ضمانه

______________________________________________________

الصحيح الدالّ على أنّ العارية غير مضمونة ، فكما يمكن تخصيص الأوّل بالصيد المأخوذ بغير إذن المالك ، يمكن تخصيص الثاني بغير الصيد ، فالترجيح غير واضح» (١) (*).

توضيح وجه نظره : أنّه كما يمكن أن يقال بالضمان ، للنصوص الدالّة على «أنّ من أتلف صيدا مملوكا فعليه فداؤه» الشاملة لمورد النزاع ، كذلك يمكن أن يقال بعدم الضمان ، لما دلّ على أنّ العارية غير مضمونة. وكما يمكن تخصيص نصوص الفداء بالصيد المأخوذ بغير إذن المالك ، فتخرج العارية عنها ، فلا ضمان في الصيد المعار ؛ فكذلك يمكن تخصيص ما دلّ على عدم الضمان في العارية بغير الصيد ، ففي عارية الصيد ضمان ، ولم يظهر ترجيح لأحدهما.

(١) هذا توجيه لضمان قيمة الصيد المعار ، مع اقتضاء قاعدة «ما لا يضمن» عدمه. وحاصل التوجيه : خروج عارية الصيد موضوعا عن حيّز قاعدة «ما لا يضمن» المختصة بالتلف. ووجه الخروج كون الضمان للإرسال الذي هو بمنزلة الإتلاف ، فلا نقض على القاعدة.

ولتوضيح التوجيه ينبغي تقديم أمرين :

الأوّل : الالتزام بوجوب إرسال الصيد المعار ، كما هو المشهور ، بل في

__________________

(*) لا يخفى أنّه على ما أفاده في المسالك تكون النسبة بين ما دلّ على ضمان الصيد المتلف بغير إذن المالك ، وبين ما دلّ على عدم الضمان في العارية عموما من وجه ، ومع عدم المرجّح لتخصيص أحد الدليلين في المجمع ـ وهو الصيد المستعار ـ يرجع إلى الأصل ، وهو هنا البراءة عن الضمان.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٣٩ و ١٤٠.


.................................................................................................

______________________________________________________

جامع المقاصد : «لم أظفر إلى الآن بمخالف» (١) وإن تأمّل هو فيه. قال العلّامة قدس‌سره : «لا يحل للمحرم استعارة الصيد من المحرم ولا من المحلّ ، لأنّه يحرم عليه إمساكه ، فلو استعاره وجب عليه إرساله ، وضمن للمالك قيمته. ولو تلف في يده ضمنه أيضا بالقيمة لصاحبه المحلّ ، وبالجزاء لله تعالى ، بل يضمنه بمجرّد الإمساك» (٢).

فلو قلنا بعدم وجوب تخلية سبيله وجواز ردّه إلى المالك المعير لم يتّجه ضمان القيمة حتى يكون مبنى النقض على قاعدة «ما لا يضمن». ويلوح من الشهيد الثاني قدس‌سره عدم تعيّن وجوب الإرسال ، قال قدس‌سره بعد التأمل في فساد عارية الصيد ما لفظه : «فعلى تقدير قبضه له ـ أي قبض المستعير للصيد ـ إن ردّه على المالك لزمه الفداء لله تعالى ، وبري‌ء من حق المالك. وإن تلف في يده فلا شبهة في ضمانه لله تعالى ، لأنّه ثابت عليه بمجرّد الإمساك ، كما في الصيد الذي ليس بمملوك» (٣). فإنّ قوله : «وبري‌ء من حقّ المالك» ظاهر بل صريح في عدم ضمان القيمة بمجرّد الاستعارة ، فلا ضمان على تقدير ردّ الصيد إلى مالكه ، وإنما يجب عليه الفداء والكفّارة.

والحاصل : أنّ مبنى التوجيه المذكور في المتن هو استقرار القيمة على عهدة المحرم المستعير بمجرّد قبض الصيد من المحلّ.

الثاني : أنّ كون المستعير ضامنا لقيمة الصيد لمالكه مع فرض بقاء عينه ـ وعدم إرساله بعد ـ لا بدّ أن يكون للجمع بين دليلين ، أحدهما : حرمة مال المسلم المقتضية لضمان ماله بماله من الخصوصيّات الشخصيّة والصنفيّة والنوعيّة. وثانيهما : وجوب إرسال الصيد وتخلية سبيله وحرمة تسليمه إلى المعير ، فإنّه أمر بإعدام خصوصيّته وشخصيّته.

فمقتضى الجمع بينهما القول بإلغاء احترام الصيد ـ بعينه ـ رعاية لحقّ

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٦٠

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٢٠٩

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٤٩


ـ بعد البناء (١) على أنّه يجب على المحرم إرساله وأداء قيمته ـ أنّ المستقر عليه (٢) قهرا (٣) بعد العارية هي القيمة ، لا العين (*). فوجوب دفع القيمة ثابت

______________________________________________________

الخالق جلّت آلاؤه ، وبقاء ماليّته على عهدة المستعير رعاية لحق المخلوق.

إذا اتّضح ما مهّدناه قلنا في تقريب توجيه المصنّف قدس‌سره : انّ ضمان الصيد ثابت بمجرّد استيلاء المحرم على العين ، حيث إنّه مأمور بالإرسال الذي هو إتلاف ـ ولو تنزيلا ـ ومورد قاعدة «ما لا يضمن» هو التلف لا الإتلاف. فلا ينتقض القاعدة بضمان الصيد المستعار ، لخروجه عن القاعدة موضوعا ، لما عرفت من أنّ موردها التلف ، لا الإتلاف الذي هو المفروض في عارية الصيد.

(١) كما هو المشهور. وأمّا بناء على تخيير المستعير بين الرّد إلى المالك ، وبين الإرسال وضمان قيمة الصيد لم يتم هذا التوجيه. وهذا إشارة الى الأمر الأوّل الذي مهّدناه لتوضيح المتن.

(٢) أي : على المحرم.

(٣) يعني : بحكم الشارع ، وهذا كأنّه خرق لقانون ضمان مال الغير ، إذ لم يعهد اشتغال الذمّة بالبدل من المثل أو القيمة مع بقاء العين ، والتمكّن من إيصالها إلى المالك. ولا بدّ أن يوجّه بأنّ الشارع أبقى ماليّة العين وألغى حرمة خصوصيّتها ، بالأمر بإرساله ، كما أوضحناه في الأمر الثاني.

__________________

(*) هذا غير ظاهر ، إذ لازمه عدم براءة ذمّة المستعير بدفع العين ، لفرض كون ذمته مشغولة بالقيمة. ولا يظنّ من أحد أن يلتزم بذلك. ولعلّه لهذا حمل صاحب الجواهر حكمهم بالضمان على الإرسال ، لا على مجرّد العارية. قال قدس‌سره شارحا لكلام المحقق : «لا يجوز للمحرم أن يستعير من محلّ صيدا ، لأنّه ليس له إمساكه ، بل يجب عليه إرساله. وحينئذ فلو أثم وأمسكه ثم أرسله ضمنه ..» (١).

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ١٦٤.


قبل التلف (١) بسبب وجوب الإتلاف الذي (٢) هو سبب لضمان ملك الغير في كلّ عقد (٣) ،

______________________________________________________

(١) يعني : فلا تنقض قاعدة «ما لا يضمن» بعارية الصيد ، لأنّ ضمان قيمته ثابت قبل التلف ومستند إلى الأمر بإرساله ، الذي هو بمنزلة إتلافه ، ومن المعلوم أنّ الضمان المنفيّ في قاعدة «ما لا يضمن» إنّما هو بعد التلف ، ولا منافاة بين ثبوت الضمان بالإتلاف وما هو بحكمه ، وبين نفيه بالتلف.

(٢) صفة للإتلاف ، لا للوجوب ، لأنّ المضمّن هو الإتلاف لا الأمر به ، لقولهم : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن».

(٣) المراد بالعقد هو الذي يكون موضوعا لقاعدة «ما لا يضمن» فإنّ الإتلاف مضمّن فيه. وأمّا العقد الموضوع لقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فالضمان بالقيمة الواقعيّة ثابت بمجرّد التلف. ولمّا كانت العارية مندرجة في «ما لا يضمن» توقّف الضمان فيها على الإتلاف. هذا توضيح ما أفاده المصنّف قدس‌سره.

ولا يخفى أنّ توجيه الضمان بالإتلاف قد أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره وإن خصّ الضمان بما إذا خلّى سبيل الصيد ، قال قدس‌سره : «ووجوب ذلك ـ أي إرسال الصيد ـ عليه لا ينافي ضمانه لمالكه وإن أقدم ـ أي المالك ـ على إعارته لمن يكون تكليفه إتلافه بالإرسال ، فإنّ ذلك لا يقتضي ذهاب حرمة ماله ، كما لا يقتضي إبطال

__________________

ويظهر منه عدم وجود مصرّح بالضمان لو تلف الصيد بآفة سماويّة بيد المستعير قبل إرساله. ومن العجب أنّ السيد قدس‌سره حكى عبارة الشرائع هكذا قوله : «فلو أمسكه ثم أرسله ضمنه وإن لم يشترط عليه» (١). ولعلّه اعتمد على ما في الجواهر من مزج الشرح بالمتن ، وإلّا فعبارة الشرائع خالية عن ترتّب الضمان على الإرسال ، وإنّما يترتب على الإمساك ، فراجع (٢).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٤.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٢.


لا بسبب التلف (*).

______________________________________________________

سببيّته ـ أي الإتلاف ـ للضمان ، الحاصلة من عموم قوله : من أتلف مال غيره فهو له ضامن ..» (١).

__________________

(*) فيه : أنّ الثابت على المستعير المحرم وجوب الإرسال تكليفا ، وهو بنفسه لا يستلزم الوضع أعني به الضمان واستقرار القيمة في الذمّة ، بحيث يكون نفس وجوب الإرسال ـ كالإتلاف ـ موجبا لاشتغال الذمة بالقيمة ، فإنّ سببيّة وجوب الإرسال للضمان محتاجة إلى دليل. ووجوب إيجاد سبب الضمان ليس من أسباب الضمان ، بشهادة عدم ضمان من يجب عليه أكل طعام الغير حفظا لنفسه عن التلف لو لم يؤكل منه حتّى مات ، فإنّه لا يضمن قيمة ذلك الطعام الذي أمر بإتلافه وأكله ، ولذا لو لم يرسلها بل ردّها إلى المالك لم يضمن له شيئا وإن كان آثما لتركه الإرسال الواجب.

وعليه فالضمان لا يتحقق إلّا بعد التلف ، ويكون مستندا إليه ، فينتقض به القاعدة.

وكيف كان فالنقض بعارية الصيد موقوف على أمور :

الأوّل : فساد العارية ، إذ على فرض صحتها لا يكون الضمان فيها نقضا لقاعدة «ما لا يضمن» بل يكون تقييدا لأدلة عدم ضمان العارية الصحيحة ، كما لا يخفى.

الثاني : التلف ، إذ الإتلاف خارج موضوعا عن مفروض البحث ، فلا بدّ من إثبات كون المقام من التلف.

الثالث : الضمان لو تلف الصيد عند المستعير ، إذ بدونه لا يكون نقضا على القاعدة.

الرابع : عدم زوال ملكيّة المعير المحلّ بتسليم العين إلى المحرم المستعير ، إذ مع زوالها كان الضمان ـ بناء على ثبوته ـ غير مرتبط بالعارية الفاسدة ، لأنّ نفس التسليم إلى المحرم وتسلّم المحرم له بأيّ نحو كان موجب لسقوط ملكه. وهذا أجنبيّ عن الإعارة وعقدها.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ١٦٥.


.................................................................................................

__________________

أمّا الأوّل : فيمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) (١) بعد ظهور الصيد في المصيد أي الحيوان الوحشي ، لا في معناه المصدري ، وذلك بقرينة إضافته في الآية الشريفة المتقدمة عليها إلى البرّ والبحر. وبقرينة قوله تعالى (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ) (٢) وقوله تعالى في الآيتين المتقدمتين ، وهما : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) (٣) و (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (٤). وقد أطلق على الحيوان الصيد باعتبار كونه في معرض الاصطياد ، ولا بأس به ، لأنّه إطلاق شائع.

وتحريم ذات الصيد كغيره من التحريمات المضافة إلى الذوات ـ بقرينة حذف المتعلّق ـ ظاهر في حرمة جميع تقلّباته اصطيادا وحيازة وتملّكا وبيعا وشراء وإعارة واستعارة واستئمانا وإمساكا وغيرها ، بتقريب : أنّ الحرمة بمعنى المنع الشامل للتكليفي والوضعي. وعلى هذا فلا يصح كل تصرف اعتباري وخارجي يتعلّق بالعين التي أضيفت إليها الحرمة ، فلا تصح إعارتها ، إذ لا يصح الانتفاع بها بعد حرمة كل تصرف يتعلق بها. ومن المعلوم اعتبار حليّة الانتفاع بها في صحة العارية.

وبالجملة : فيمكن الاستدلال على فساد عارية الصيد للمحرم بحرمته على المحرم ، بتقريب : أنّ قوله تعالى (حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) ظاهر في حرمة جميع التصرفات المتعلقة به من الاصطياد والإمساك والانتفاع به ، كشرب لبنه وأكل بيضه ونحوهما ، وبطلان بيعه وشرائه وعاريته ووديعته وإجارته ونحوها ، فإنّ حرمة الانتفاع بالصيد تهدم قوام العارية وهو جواز الانتفاع بالعين المستعارة.

إلّا أن يقال : إنّ التحريم المضاف إلى العين ناظر إلى الفعل المناسب لها ، كالتحريم

__________________

(١) سورة المائدة (٥) الآية ٩٦.

(٢) سورة المائدة (٥) الآية ٩٦.

(٣) سورة المائدة (٥) الآية ٩٤.

(٤) سورة المائدة (٥) الآية ٩٥.


.................................................................................................

__________________

المضاف إلى الأمّهات. وعليه فالمراد بحرمة الصيد حرمة أكله ، لأنّ الفعل المناسب هنا هو الأكل. نعم يراد بحرمة الصيد بقرينة النصوص حرمة جميع التقلبات.

وكيف كان فالظاهر فساد عارية الصيد لفقدان شرط صحتها وهو حلّيّة الانتفاع به.

وأمّا الثاني : ـ أعني به صدق التلف ـ فالظاهر ذلك وعدم صدق الإتلاف على الحكم بالإرسال ، فلا موضوع عرفا لقاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن». ولا شرعا ، إذ لم يظهر دليل على تنزيل الإرسال الواجب منزلة الإتلاف حتى يخرج إعارة الصيد عن موضوع قاعدة «ما لا يضمن» ويندرج في قاعدة «من أتلف» الحاكمة على قاعدة «ما لا يضمن» بعد توسعة موضوع قاعدة «من أتلف» ليشمل الإتلاف الحقيقي والتنزيلي.

هذا مضافا إلى : أنّ الإتلاف التنزيلي منوط بوجوب الإرسال ، وهو غير مسلّم ، لذهاب صاحب الحدائق إلى وجوب ردّ الصيد الى مالكه. وعلى هذا فالنقض وارد.

وأمّا الثالث : ـ وهو الضمان ـ فقد عرفت الخلاف فيه ، ومناقشة الشهيد الثاني في ذلك ، وكلام الجواهر ، وهو عدم وجود مصرّح بالضمان في صورة التلف السماوي الذي هو مورد البحث ، فراجع. ومع الخلاف في الضمان لا وجه لجعله من موارد النقض.

وأمّا الرابع : ـ وهو عدم زوال ملكية المعير ـ فقد يستدل له بالآية الشريفة : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) بالتقريب المشار إليه من أنّ حرمة ذات الصيد بنحو الحقيقة الادّعائيّة إنما هي بلحاظ حرمة جميع التقلبات تكليفا ووضعا ، ومنه حرمة الاصطياد مباشرة وتسبيبا ، بل ودلالة وإشارة ، ومنه حرمة إرجاع الصيد إلى بيت مغلق وإلى الصيّاد ، وذلك يستلزم وجوب إرساله الذي لازمه الخروج عن ملك صاحبه.

لكن فيه أوّلا : أنّ استفادة وجوب إرسال مال الغير ـ وحرمة إرجاعه إلى صاحبه ـ من الآية المباركة مشكلة جدّا ، لعدم إطلاق لها يشمل كون الصيد مال الغير.

وثانيا : ـ بعد تسليم الوجوب ـ أنّ كونه ملازما لخروجه عن ملكه ممنوع ، نظير


.................................................................................................

__________________

وجوب أكل مال الغير في المخمصة ، في عدم استلزامه للخروج عن ملك مالكه.

ومثل الاستدلال المزبور في الضعف ما قيل : من كون إيجاب الإرسال مساوقا لسلب جميع الانتفاعات ، وهو ملازم لسلب الملكية التي تعتبر بلحاظ الآثار ، فما لا أثر له لا يعتبر ملكيّته ، كأمر الشارع بإهراق الخمر الكاشف عن عدم مملوكيّتها. وأمره بإرسال المحرم صيده الكاشف عن سلب ملكيّته.

وجه الضعف بعد التسليم في المثالين ـ وهما الأمر بإهراق الخمر وإرسال الصيد ـ أنّه لا وجه له في المقام ، إذ الحكم بالإتلاف مع الضمان مؤكّد للملكية لا مزيل لها. نعم لو نهض دليل على عدم ضمانه بالإرسال كان لما ذكر من سلب الملكيّة وجه.

وما قيل من : «أنّ الأمر في المقام دائر بين التخصيص والتخصص ، وأصالة العموم تقتضي عدم التخصيص ، لأنّ جواز التصرف والإرسال مع بقاء الملكية تخصيص لدليل حرمة التصرّف في مال الغير ، فأصالة الإطلاق تكشف عن خروجه عن ملكه ، وأنّ جواز الإرسال إنّما هو لخروج الصيد عن ملك مالكه» ضعيف.

وجه الضعف أوّلا : أنّ الخروج عن الملك قهرا تقييد لدليل الملكية.

وثانيا : أنّ أصالتي العموم والإطلاق لا تجريان مع العلم بمراد المتكلم كالمقام ، والشك في التخصيص والتقييد كما قرّر في محله.

فالمتحصّل : أنّ عدّ عارية الصيد للمحرم من نقوض قاعدة «ما لا يضمن» غير ظاهر. وعلى تقدير تماميّة النقوض لا يرد طعن على القاعدة عكسا أو أصلا على فرض تماميّتها في نفسها ، لكونها من العمومات القابلة للتخصيص.

بقي التعرّض لإشكال أورده السيد قدس‌سره على المتن ، ومحصّله : أنّ سببيّة الإتلاف لضمان قيمة الصيد مبنيّة على وجوب إرساله على المحرم حتى يكون إتلافا لمال الغير. وليس الأمر كذلك ، إذ المستفاد من النصوص حرمة إمساكه ، وهي لا تستلزم وجوب الإرسال ، لإمكان التخلص من حرمته بردّه إلى المعير ، ومعه لا موجب لضمانه بمجرد


.................................................................................................

__________________

تسلّم الصيد من المعير ، (١) هذا.

أقول : لا ريب في اختلاف مضامين نصوص الباب ، ففي بضعها الأمر بالتخلية. كقوله عليه‌السلام في رواية : «فإذا استوى جناحاه خلّى عنه» (٢) ونحوه قوله عليه‌السلام في رواية «فخلّ سبيلها» (٣) ونحوهما ممّا هو ظاهر جدّا في وجوب الإرسال.

وفي بعضها النهي عن إمساك الصيد ، كرواية شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «حرّم عليك ذبحه وإمساكه» (٤) وإليه نظر السيد قدس‌سره ، لإمكان امتثال هذا النهي بكلّ من الإرسال والرّد إلى المعير إن كان عارية.

ولا ريب في أنّ المجعول شرعا في حقّ المحرم أمر واحد ، وهو إمّا مطلوبية الإرسال ، فتكون مبغوضية الإمساك والحبس بالعرض ، وإمّا بالعكس. ولا يبعد استظهار الاحتمال الأوّل من مجموع النصوص الواردة في الصيد المملوك وغيره ، وأنّه بمجرّد الإحرام يرسله ، وأنّه لا يغلق الباب عليه ولا يؤذيه ، لأنّ من دخله كان آمنا.

مضافا إلى فهم الأصحاب وتعبيرهم بوجوب الإرسال أو التخلية كما يظهر بمراجعة المتون الفقهية كالنهاية وفقه القرآن والشرائع والسرائر والقواعد والمختصر النافع وغيرها ، ونحوها الوسائل أيضا ، فإنّه عنون الباب الثاني عشر من أبواب الصيد بقوله : «انّ الحمام ونحوه حتى الأهليّ إذا دخل الحرم وجب على من هو معه إطلاقه» (٥) ثم ذكر بعض النصوص الناهية عن إمساك الصيد في هذا الباب.

وعليه فتعبير المصنّف قدس‌سره بوجوب الإرسال أقرب إلى مضامين النصوص الآمرة بتخلية سبيل الصيد وإرساله ، خصوصا مع تأييدها بفهم الفقهاء ، وحيث إنّ الأمر بالإرسال أمر بإتلافه كان ضمان قيمته ضمان الإتلاف لا التلف.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٤.

(٢ و ٣) وسائل الشيعة ، ج ٩ ، ص ١٩٩ ، الباب ٢ من أبواب كفارات الصيد وتوابعها ، الحديث ١.

(٤) المصدر ، ص ٢٠٠ ، الحديث ٢.

(٥) المصدر ، ص ٢٠٠.


ويشكل (١) اطّراد القاعدة أيضا في البيع فاسدا بالنسبة إلى المنافع التي لم يستوفها (٢) ، فإنّ هذه المنافع (٣) غير مضمونة في العقد الصحيح ، مع أنّها

______________________________________________________

ب : النقض على القاعدة بمنفعة المبيع فاسدا

(١) معطوف على «يشكل» وهذا نقض ثالث على قاعدة «ما لا يضمن» ومحصّله : منع الملازمة بين البيع الصحيح والفاسد في ضمان المنافع الفائتة ، مع أنّ مقتضى القاعدة تبعية العقد الفاسد للصحيح في عدم الضمان.

وتوضيحه : أنّ المشتري للمبيع ـ بالعقد الفاسد ـ إمّا أن يستوفي منافعه وينتفع به ، كما إذا اشترى دارا فسكن فيها أو سيّارة فركبها ، ولا ريب في ضمانها ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأمر الثالث مما يترتّب على المقبوض بالبيع الفاسد. وإمّا أن لا يستوفي منافعها ، بل فاتت كما إذا لم يسكن في الدار مع قابليتها للسكنى. وهذه المنافع الفائتة غير مضمونة في العقد الصحيح ، ومضمونة في الفاسد ، فإذا فسخ العقد الصحيح بإقالة أو غيرها لم تكن منفعتها الفائتة مضمونة على المشتري ، وإنّما عليه تسليم الدار للبائع وله استرداد تمام الثمن منه.

وأمّا إذا كان البيع فاسدا فقد حكموا بأنّ المشتري كما يضمن العين ـ لو تلفت بيده ـ كذلك يضمن بدل منفعتها الفائتة في المدّة التي كانت الدار تحت يده وسلطنته. وهذا الحكم بالضمان مناف لقاعدة «ما لا يضمن» لأنّ عدم ضمان منافع المبيع بالبيع الصحيح يقتضي عدمه في البيع الفاسد أيضا. مع أنّهم فرّقوا بين البيع الصحيح والفاسد ، وحكموا بضمان المنفعة الفائتة في المقبوض بالبيع الباطل. وهذه التفرقة تكشف عن عدم كون «ما لا يضمن» قاعدة كلّية حتى يرجع إليها في كلّ عقد لم يضمن بصحيحه ، هذا.

(٢) قد تقدّم آنفا وجه تقييد المنافع بعدم استيفائها ، لوضوح أنّ المنافع المستوفاة مضمونة بقاعدة الاستيفاء لا باليد ، فلا مورد للنقض بها على قاعدة «ما لا يضمن».

(٣) أي : المنافع الفائتة.


مضمونة في العقد الفاسد.

إلّا أن يقال (١) : إنّ ضمان العين يستتبع ضمان المنافع في العقد الصحيح والفاسد (٢). وفيه نظر (٣) ، لأنّ نفس المنفعة غير مضمونة بشي‌ء في العقد

______________________________________________________

(١) هذا جواب النقض ، ومحصّله : أنّه لا موضوع للنقض بالمنافع الفائتة ، وذلك لأنّها مضمونة في عقد البيع سواء أكان صحيحا أم باطلا ، فهي داخلة في أصل القاعدة أعني به «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». والوجه في ضمان المنافع مطلقا سواء استوفيت أم فاتت هو : أنّ البيع وإن كان «تمليك عين بعوض» وظاهره خروج منافع العين عن مورد المعاملة ، إلّا أنّ الصحيح ضمان منافعها أيضا. وذلك لكونها ملحوظة في مقام المعاوضة ومؤثّرة في رغبة المشتري عند شراء العين ، بل لزيادة المنفعة وقلّتها دخل في قيمة العين ، كما هو المشاهد من طريقة العقلاء في شراء الأعيان ذوات المنافع. وعلى هذا فنماءات المبيع مضمونة على المشتري ، ويجب عليه ردّ عوضها إلى البائع إذا تبيّن فساد البيع.

وهذا الجواب وإن لم أظفر به بهذا النحو ـ من استتباع ضمان العين لضمان المنفعة ـ في الجواهر وغيره ، لكن في بيان المحقق الكركي قدس‌سره ما يستفاد منه ضمان منافع المغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد ، حيث قال قدس‌سره في جواب إشكال عدم ضمان المنفعة ما لفظه : «لمّا كان المجموع في مقابلة المجموع ، وفاتت المقابلة بفساد العقد كان كل منهما مضمونا بجميع أجزائه ، نظرا إلى مقتضى المقابلة» (١). وظاهره تقسيط الثمن على العين والمنفعة ، وهذا مغاير لما في المتن من الاستتباع الظاهر في كون الثمن بإزاء نفس المبيع وهو العين ، وإنّما تضمن المنافع بالاستلزام والاستتباع ، فلاحظ.

(٢) يعني : فلا يرد النقض ، إذ المفروض ضمان المنافع في العقد الصحيح والفاسد معا ، فهي من مصاديق أصل القاعدة لا عكسها.

(٣) هذا ردّ على استتباع ضمان العين لضمان المنافع في العقد الصحيح والفاسد.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٣٢٤ ، واقتبسه منه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٣٠٤.


الصحيح (١) ، لأنّ (٢) الثمن إنّما هو بإزاء العين ، دون المنافع.

______________________________________________________

وحاصل وجه النظر : أنّ الثمن يبذل بإزاء العين في العقد الصحيح من دون أن يقع شي‌ء منه بإزاء المنافع حتّى تكون مضمونة في العقد الصحيح. وعلى هذا فالمنافع خارجة عن مورد العقد ، فالقاعدة غير متعرّضة لها ، بل يرجع في ضمانها إلى اليد أو قاعدة الاحترام أو غيرهما ، فالنقض غير متوجّه ، لخروج المنافع عن مورد العقد ، والقاعدة ناظرة إلى مورد العقد.

وبعبارة أخرى : انّ منفعة المبيع وإن كانت ملحوظة للمشتري ومتعلقة لغرضه ، إلّا أنّها داعية له على شراء العين ، ومن المعلوم الفرق بين الحيثية التقييدية كما إذا شرط في بيع الكتاب خياطة ثوبه ، وبين الحيثية التعليلية الخارجة عن مصبّ العقد ، كداعويّة برودة الهواء لاشتراء الألبسة الخشنة الحارّة لدفع برودة الشتاء.

والمناط في الضمان هو الحيثيّة التقييدية دون التعليلية ، ولذا قالوا بأنّ تخلّف الداعي عن المعاملة لا يوجب الخيار فيها ولا يبطلها. وعلى هذا فالمضمون في البيع الصحيح هو نفس العين ، كما أنّ المضمون في الإجارة هو نفس المنفعة. فالجواب المذكور غير واف بدفع النقض.

والصحيح في التخلّص عنه أن يقال : إنّ المدار على الضمان وعدمه هو مصبّ العقد ، لا ما يتعلّق به. ولمّا كان الثمن مقابلا بالمبيع لا بمنافعه لم تندرج المنافع في أصل قاعدة «ما يضمن» كما زعمه المجيب عن النقض ، ولا في عكسها كما زعمه الناقض. فإن قلنا بضمانها فبدليل آخر كقاعدة الاحترام. وإن قلنا بعدمه فللاقدام على تسليط المشتري على المبيع لينتفع به ، هذا.

(١) يعني : لا يقتضي نفس البيع الصحيح ضمان منفعة المبيع حتى يقتضيه فاسده ، فلو ضمنها المشتري في البيع الفاسد كان لدليل آخر.

(٢) تعليل لقوله «غير مضمونة» والمستفاد منه أمران ، أحدهما : المناقشة في جواب النقض ، والآخر : ردّ أصل النقض. وقد تقدم توضيحهما آنفا بقولنا : «وحاصل وجه النظر : أنّ الثمن يبذل بإزاء العين» وقولنا : «والصحيح في التخلّف عنه أن يقال ..».


ويمكن نقض (١) القاعدة أيضا (٢) بحمل المبيع فاسدا (٣) ، على ما صرّح به (٤)

______________________________________________________

ج ـ النقض على القاعدة بحمل المبيع فاسدا

(١) هذا نقض رابع على قاعدة «ما لا يضمن» وتوضيحه : أنّه إذا تبايع زيد وعمرو حيوانا حاملا ـ كشاة مثلا ـ بعشرة دنانير ، فإمّا أن يكون المبيع مؤلّفا من الحمل والحامل بأن يقسّط الثمن على كليهما ، وإمّا أن يكون المبيع خصوص الأمّ ، ويبقى الحمل أمانة عند المشتري إلى أن يولد ، فيسلّمه إلى البائع.

فإن كان البيع صحيحا فلا كلام على كلا التقديرين. وإن كان فاسدا توجّه التفصيل بين الفرضين ، فبناء على الأوّل ـ وهو كون المبيع كليهما ـ يكون المشتري ضامنا لكلّ من الحمل والأمّ لو تلفا أو تلف أحدهما.

وبناء على الثاني ـ أي كون المبيع خصوص الأمّ ـ فمقتضى القاعدة عدم ضمان الحمل لو تلف عند المشتري ، لأنّه ممّا لم يضمن في البيع الصحيح ، فيلزم أن لا يضمن في البيع الفاسد أيضا ، مع أنّ جماعة حكموا بضمان هذا الحمل التالف. وهذا نقض على قاعدة «ما لا يضمن».

نعم بناء على عدم ضمان الحمل ـ كما ذهب إليه جمع ـ لم يرد نقض على القاعدة ، هذا.

(٢) يعني : كما أمكن نقض القاعدة بما تقدّم من الموارد الثلاثة.

(٣) متعلّق بالمبيع ، يعني : المبيع بالبيع الباطل.

(٤) اي : بضمان الحمل. قال شيخ الطائفة قدس‌سره : «من غصب جارية حاملا ضمنها وحملها معا. وولد المشتراة شراء فاسدا مثل ذلك» (١). والشاهد في قوله : «وولد المشتراة» حيث إنّه قدس‌سره حكم على الجارية المشتراة بالشراء الفاسد بالضمان ، سواء بالنسبة إليها وإلى حملها. وبهذا يتّجه النقض على قاعدة «ما لا يضمن».

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٦٥.


في المبسوط والشرائع (١) والتذكرة (٢) والتحرير «من كونه مضمونا على المشتري» خلافا للشهيدين (٣)

______________________________________________________

(١) قال المحقق قدس‌سره : «وغصب الأمة الحامل غصب لولدها ، لثبوت يده عليها وكذا يضمن حمل الأمة المبتاعة بالبيع الفاسد» (١).

(٢) قال العلّامة قدس‌سره فيها : «إذا اشترى شراء فاسدا وجب عليه ردّه على مالكه ، لعدم خروجه عنه بالبيع. وعليه مئونة الرّدّ كالمغصوب .. ولو زادت العين في يد المشتري زيادة منفصلة كالولد والثمرة ، أو متصلة كالسمن وتعلّم الصنعة وجب عليه ردّ الزيادة أيضا ، لأنّها نماء ملك البائع ، فيتّبع» (٢).

والشاهد في جعل الولد نماء مضمونا للمبيع بالبيع الفاسد. وكذلك جزم العلّامة بضمان الأمّ والحمل في التحرير والإرشاد (٣).

(٣) قال الشهيد قدس‌سره : «وغصب الحامل غصب الحمل. أمّا حمل المبيع فاسدا أو المستام فلا ضمان فيه. وقال الفاضل : يضمن الحمل في البيع الفاسد. ولعلّه أراد مع اشتراط دخوله» (٤).

أقول : وبهذا الاشتراط صرّح العلّامة في الإرشاد ، حيث قال : «ولو باع الحامل فالولد له ، إلّا أن يشترطه المشتري» (٥). فلعلّ الشهيد أراد إطلاق حكم العلّامة في التذكرة والتحرير بضمان الحمل في المبيع بالبيع الفاسد ، لا إطلاق كلامه في سائر كتبه. وكذا المحقق في الشرائع (٦).

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٣٦.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٩٥.

(٣) تحرير الاحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٧ ؛ إرشاد الأذهان ، ج ١ ، ص ٣٦٢.

(٤) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٠٨.

(٥) إرشاد الأذهان ، ج ١ ، ص ٣٦٦.

(٦) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٥٧.


والمحقق الثاني (١) وبعض آخر (٢)

______________________________________________________

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره في المسالك ـ بعد حكمه بضمان حمل الأمة المغصوبة ـ ما لفظه : «وأمّا ضمان حمل الأمة المبتاعة بالبيع الفاسد فإنّما يتم مع دخوله معها في البيع ، إمّا تبعا كما يقوله الشيخ ، أو مع الشرط. أمّا لو لم يكن داخلا لم يتّجه ضمانه ، لأنّه مقبوض بإذن المالك ، وليس مبيعا فاسدا حتى يضمن بفاسده كما يضمن بصحيحه .. وقد اختلف كلام العلّامة في المسألة. ففي التحرير جزم بضمان الأمة والحمل معا كما ذكره المصنّف ـ يعني المحقّق ـ وفي القواعد جزم بعدم ضمان الحمل. وهو الأصحّ. ولا إشكال مع دخوله في البيع» (١).

وقال في الروضة : «وغصب الحامل غصب للحمل ، لأنّه مغصوب كالحامل ، فالاستقلال باليد عليه حاصل بالتبعيّة لامّه. وكذلك حمل المبيع فاسدا حيث لا يدخل في المبيع ، لأنّه ليس مبيعا ، فيكون أمانة في يد المشتري ، لأصالة عدم الضمان ، ولأنّ تسلّمه بإذن البائع. مع احتماله ، لعموم على اليد» (٢).

واحتماله الضمان غير مذكور في عبارة المسالك المتقدمة.

(١) قال قدس‌سره في شرح قول العلّامة في القواعد : «ويضمن حمل الغصب لا حمل المبيع فاسدا» ما لفظه : «أمّا حمل الغصب فإنّه مغصوب كالأصل. وأمّا حمل المبيع فإنّه ليس مبيعا ، إذ لا يندرج الحمل في بيع الامّ ، فيكون أمانة في يد المشتري ، لأصالة عدم الضمان ، ولأنّ تسلّمه بإذن المالك الذي هو البائع» (٣).

(٢) كالمحقق الأردبيلي قدس‌سره (٤). وقال السيد الفقيه العاملي قدس‌سره بعد سرد أسماء المذكورين في المتن : «ولعلّه ـ أي عدم الضمان ـ قضية كلام الباقين إلّا

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٥٥.

(٢) الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٢٤ و ٢٥.

(٣) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٢٠.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥١١.


تبعا للعلّامة قدس‌سره في القواعد (١). مع أنّ (٢) الحمل غير مضمون في البيع الصحيح بناء على أنّه للبائع (٣). وعن الدروس (٤) توجيه كلام العلّامة بما إذا اشترط الدخول في البيع. وحينئذ لا نقض على القاعدة (٥).

______________________________________________________

من ستعرفه» (١).

(١) تقدّمت عبارة القواعد آنفا. وبالجملة فبناء على القول بعدم ضمان الحمل في بيع الحامل ببيع فاسد لا يتّجه النقض على قاعدة «ما لا يضمن».

(٢) هذا هو النقض على القاعدة بناء على قول شيخ الطائفة والمحقّق وغيرهما من ضمان حمل المبيع فاسدا كضمانه بالغصب ، مع عدم ضمانه في البيع الصحيح ، لكون تمام الثمن بإزاء الحامل ، وعدم تقسيطه عليها وعلى الحمل.

(٣) إذ لو كان الحمل للمشتري ـ في البيع الصحيح ـ كان مضمونا عليه ببعض الثمن ، لكونه جزءا للمبيع.

(٤) غرضه قدس‌سره من نقل توجيه الشهيد قدس‌سره هو سلامة قاعدة «ما لا يضمن» عن النقض بحمل المبيع فاسدا ، ومحصّل التوجيه : أنّ مورد حكم العلّامة ـ في ما عدا القواعد من كتبه ـ بضمان الحمل في بيع الحامل فاسدا هو ما إذا اشترط المشتري على مالك الامّ بجزئيّة الحمل لها ، كما إذا قال : «أشتري هذه الشاة الحامل على أن تكون سخلتها لي» وقبل البائع ، فإنّ المشتري يضمن كلّا منهما بالضمان المعاوضي ، بمعنى وقوع بعض الثمن بإزاء الأم وبعضه بإزاء الحمل. وإذا تبيّن فساد العقد كان الضمان لأجل تخلف الشرط ، لا لاقتضاء ذات العقد.

(٥) لأنّ الحكم بالضمان مع الشرط إنّما يكون لأجل الشرط ، لا لاقتضاء ذات العقد. ومن المعلوم أنّ مورد القاعدة هو اقتضاء نفس العقد للضمان وعدمه ، لا لأمر خارج عن حقيقته كالشرط ، فيخرج عن موضوع القاعدة أصلا وعكسا. فلا نقض.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٢٣.


ويمكن النقض أيضا بالشركة الفاسدة (١) (*) ،

______________________________________________________

د ـ النقض على القاعدة بالشركة الفاسدة

(١) هذا نقض خامس على قاعدة «ما لا يضمن» وهو الفرق بين الشركة الصحيحة والفاسدة. وتقريبه : أنّ الشركة الفاسدة توجب الضمان وحرمة التصرف في المال المشترك ، مع أنّ الشركة الصحيحة لا توجب الضمان ، فينتقض قاعدة «كلّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» بالشركة الفاسدة.

لكن هذا النقض إنّما يتوجّه بناء على عدم جواز التصرّف بسبب الشركة الفاسدة في المال المشترك ، لانتفاء الاذن في التصرّف مع فساد الشركة. كما أنّ الوجه في جواز التصرف بقاء الاذن فيه.

ومنشأ الوجهين أنّ تقييد الإذن بالشركة هل هو بنحو وحدة المطلوب أم تعدده؟ فعلى الأوّل لا يجوز ، وعلى الثاني يجوز ، فلا نقض ، لوجود الاذن الرافع للضمان ، كعدم الضمان في الشركة الصحيحة.

__________________

(*) الظاهر عدم ورود هذا النقض ، لأنّ الشركة إن كانت مقتضية لجواز التصرّف لم يكن فرق بين الشركة الصحيحة والفاسدة في عدم الضمان ، لكون الشريك أمينا ، ولا ضمان على الأمين. وإن لم تكن مقتضية له لم يجز التصرّف مطلقا ، سواء صحّ عقد الشركة أم فسد ، ويثبت الضمان مطلقا ، لعموم «على اليد» من دون مخصّص. فهذا النقض غير وارد.

وقد يقال : بانتقاض أصل القاعدة ـ أعني به : كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ـ بالنكاح الفاسد ، مع علم المرأة بالفساد ، لأنّها حينئذ زانية ، ولا مهر لبغيّ ، فإنّ النكاح الصحيح يوجب ضمان الصداق للمرأة ، دون فاسده.

لكن فيه ما لا يخفى ، لأنّ النكاح خارج عن القاعدة موضوعا ، إذ ليس المهر بإزاء الاستمتاع بالزوجة حتّى يضمن على كلا تقديري صحة العقد وفساده ، بل المهر بإزاء


بناء (١) على أنّه لا يجوز التصرّف بها ، فأخذ المال المشترك حينئذ (٢) عدوانا (*) موجب للضمان (٣).

______________________________________________________

(١) إذ بناء على إذن كلّ واحد من الشركاء لغيره في التصرّف في المال المشترك مطلقا ـ حتّى مع العلم بفساد الشركة ـ لم يرد نقض على القاعدة ، فالنقض مبني على وحدة المطلوب وتقيّد الاذن في التصرّف بخصوص الشركة الصحيحة شرعا.

(٢) أي : حين فساد الشركة وانتفاء الاذن.

(٣) فتنقض قاعدة «ما لا يضمن» إذ لا ضمان في الشركة الصحيحة ، مع أنّ في فاسدها الضمان.

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية ممّا يتعلق بقاعدة «ما لا يضمن» وسيأتي الكلام في الجهة الأخيرة ، وهي دليل الاعتبار.

__________________

الزوجية الاعتبارية ـ سواء أكانت دائميّة أم انقطاعيّة ـ الثابتة بنفس العقد ، لأنّ استحقاق المرأة للمهر إنّما هو بنفس العقد المحقّق للزوجية وإن لم يكن هناك استمتاع ، كما إذا ماتت قبل مباشرة الزوج لها والتمتّع بها.

والحاصل : أنّه ليس هنا شي‌ء يضمنه الزوج بالتلف أو الإتلاف. ومورد القاعدة كون الضمان مسبّبا عن أمر آخر غير العقد كالقبض في العقد ، فإنّ التلف بعده يوجب الضمان ، وقبله لا يوجبه ، بل هو من مال بائعه.

وبالجملة : البضع وسائر الاستمتاعات لا ماليّة لها شرعا ، فلا تقابل بالمال. نعم قد ثبت مهر المثل في بعض الموارد كالوطي بالشبهة ، لاحترام الأعراض.

فالمتحصّل : أنّ ثبوت المهر في النكاح الصحيح ، وعدمه في الزنا أجنبي عن مورد القاعدة.

(*) هذا متّجه في صورة العلم بفساد الشركة دون الجهل به ، فالدليل أخصّ من المدّعى ، فالأولى التمسّك بقاعدة اليد.


ثم إنّ مبنى هذه القضية السالبة (١) ـ على ما تقدّم من كلام الشيخ في المبسوط ـ هي الأولويّة (٢).

______________________________________________________

الجهة الثالثة : مستند قاعدة «ما لا يضمن»

أ : الأولويّة

(١) أي : قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وقد أحسن المصنّف قدس‌سره في التعبير بالقضيّة السالبة الموافق للصناعة ، دون العكس لما مر من كون التعبير بالعكس مبنيّا على المسامحة. وكيف كان فهذا شروع في الجهة الثالثة ـ والأخيرة ـ مما يتعلّق بالقاعدة ، وهي مدركها والدليل عليها. والمذكور في المتن أمران : أحدهما الأولويّة التي استظهرها من عبارة المبسوط ، وثانيهما الأخبار المتفرّقة الواردة في عدم ضمان الأمين ، وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى.

(٢) هذا هو الدليل الأوّل ، وقد نقل المصنّف كلام شيخ الطائفة قدس‌سرهما إجمالا في صدر المسألة وحكيناه هناك بألفاظه ، فراجع (ص ٦٠) والمقصود منه هو استدلاله على عدم ضمان العين المرهونة في الرّهن المتضمن لشرط فاسد ـ مثل كونها مبيعة من المرتهن لو لم يؤدّ الراهن دينه ، قال في المبسوط : «لأنّ صحيح الرهن غير مضمون عليه ـ أي على المرتهن ـ فكيف فاسده» (١).

وهذه العبارة الموجزة يحتمل أن يراد بها التعجّب من الضمان في العقد الفاسد الذي لا يؤثّر صحيحه في الضمان. ويحتمل أن يراد بها أولويّة عدم الضمان في العقد الفاسد من عدمه في العقد الصحيح منه ، كالرهن الصحيح والفاسد. واستظهر المصنّف قدس‌سره هذا الاحتمال.

كما أنّه يحتمل أن يريد شيخ الطائفة ـ بناء على الأولويّة ـ أولويّة عدم ضمان العقد الفاسد ممّا لا يضمن بصحيحه كالرهن ـ من عدم ضمان نفس هذا العقد الذي لا يضمن بصحيحه. ولعلّ هذا ظاهر العبارة. ويحتمل أن يريد قدس‌سره ما استظهره

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٢٠٤.


وحاصلها : أنّ الرّهن لا يضمن بصحيحه فكيف بفاسده؟ وتوضيحه (١):

______________________________________________________

المصنّف من أولويّة العقد الفاسد مما لا يضمن بصحيحه من فاسد العقد الذي يضمن بصحيحه كالبيع.

والانصاف عدم خلوّ المتن من اندماج ، فلا بدّ أوّلا من بيان ما أفاده الماتن في توضيح عبارة المبسوط ، وثانيا من التعرّض لما أفاده في تقريب الأولويّة.

(١) أي : توضيح انتفاء الضمان في الرهن الفاسد ونحوه من العقود التي لا تضمن بصحيحها ، وأمّا كون عدم الضمان في الفاسد للمساواة مع الصحيح أو للأولويّة فسيأتي في المتن بقوله : «وجه الأولويّة».

ومحصّل ما أفاده بقوله : «وتوضيحه» هو : أنّ سبب الضمان الجعليّ في العقود الصحيحة المضمّنة كالبيع والصلح المعاوضيّ والإجارة إمّا أن يكون إقدام المتعاقدين على صيرورة مال كلّ منهما مضمونا بمال الآخر. وإمّا أن يكون السبب إمضاء الشارع لما أقدما عليه ، وحكمه بوجوب الوفاء بما التزما به.

وكلا السببين منتف في مثل الرّهن. أمّا انتفاء الاقدام على الضمان بالمسمّى فواضح ، لأنّ تسليم العين إلى المرتهن ليس بقصد تمليكها له بعوض ، بل بقصد كونها وثيقة عنده ، فتكون أمانة كالعين في الوديعة والعارية والوكالة. وأمّا انتفاء الضمان الناشئ من حكم الشارع بصحّة العقد فلأنّ المراد بالصحة في باب المعاملات إمضاء ما التزم به المتعاقدان ووجوب الوفاء به ، فالإمضاء يكون على طبق الممضى ومماثلا له. ولمّا كان الممضى هو البناء على تسليم العين إلى المرتهن وتسلّمها بلا عوض كان معنى صحة الرّهن شرعا إمضاء ما أقدما عليه من عدم ضمان العين لو تلفت بيد المرتهن.

هذا إذا كان عقد الرّهن صحيحا. وكذا الحال لو كان فاسدا ، فلا ضمان فيه ، لا من جهة الإقدام على الضمان ولا من جهة حكم الشارع وإمضائه. أمّا انتفاء الاقدام فلأنّ الرهن الفاسد فرد من طبيعيّ الرّهن المبنيّ على كون العين المرهونة وثيقة


أنّ الصحيح من العقد (١) إذا لم يقتض (٢) الضمان ـ مع إمضاء الشارع له ـ فالفاسد الذي هو بمنزلة العدم لا يؤثّر (٣) في الضمان. لأنّ أثر الضمان (٤) إمّا من الاقدام على الضمان (٥) ،

______________________________________________________

وأمانة بيد المرتهن. وأمّا انتفاء الضمان من ناحية الإمضاء فلأنّ المفروض فساد العقد وكونه بمنزلة العدم ، فكيف يؤثّر في الضمان؟ بل عدم الضمان في الرّهن الفاسد يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

والمتحصّل : أنّ علّة عدم الضمان مشتركة بين الرّهن الصحيح والفاسد ، فلا بدّ أن يكون المعلول ـ وهو عدم الضمان ـ كذلك. هذا تقريب عدم اقتضاء العقد الفاسد ممّا لا يضمن بصحيحه للضمان. وأمّا أنّه للمساواة أو لأولويّة الفاسد بعدم الضمان فسيأتي إن شاء الله تعالى.

(١) أي : عقد الرّهن ونحوه مما لا يضمن بصحيحه.

(٢) قد تقدّم آنفا وجه عدم اقتضاء الصحة والإمضاء الشرعي للضمان ، ومحصّله : أنّ الإمضاء لا بدّ أن يكون على طبق الممضى ، ولمّا كان الممضى هو الاقدام على الاستيمان لا المعاوضة ، كان حكم الشارع بالصحة تثبيتا لهذا الاقدام ، فيمتنع استناد الضمان إلى الإمضاء.

(٣) هذه العبارة تدلّ على أنّ العقد الفاسد من الرّهن لا يكون مضمّنا ، وأمّا أنّه لمساواته للعقد الصحيح أو لأولويّته منه في عدم الضمان فلا يستفاد منها.

(٤) الإضافة بيانيّة ، وغرضه أنّ الضمان ـ الذي هو أثر الصحة أو الإقدام ـ منتف في العقد الفاسد. وقد عرفت توضيحه آنفا. ولو قال : «لأنّ الضمان ..» كان أسهل تناولا.

(٥) مقصوده قدس‌سره انتفاء المقتضي للضمان. ولا يخفى أنّ استناد عدم الضمان إلى عدم الاقدام على المعاوضة لم يذكر في كلام شيخ الطائفة هنا ، إذ المذكور فيه هو انتفاء الصحّة شرعا ، ولكنّ المصنّف قدس‌سره أضاف إليه انتفاء الاقدام هنا ، لأنّه استفاده من


والمفروض عدمه ، وإلّا يضمن (١) بصحيحه. وإمّا (٢) من حكم الشارع بالضمان بواسطة هذه المعاملة الفاسدة ، والمفروض أنّها لا تؤثّر شيئا (*).

ووجه الأولويّة (٣) : أنّ الصحيح

______________________________________________________

تعليل الضمان في «ما يضمن بصحيحه» في موارد متعددة من المبسوط ـ بالاقدام والدخول على أن تكون العين مضمونة ، فإذا كان الضمان للإقدام في مثل عقد البيع كان عدم الضمان في الرّهن لأجل عدم الاقدام على المعاوضة والمبادلة. ولا بأس بما صنعه المصنّف قدس‌سره استقصاء لجهات البحث.

(١) أي : لو كان الراهن والمرتهن أقدما على الضمان لكان الرّهن الصحيح مؤثّرا في الضمان ، مع أنّ المفروض عدم مضمّنيّته.

(٢) يعني : أنّ الموجب الثاني للضمان هو حكم الشارع بالضمان في هذا الرهن الفاسد ، ولكن لا يجتمع الفساد الشرعيّ مع الضمان ، لأنّ معنى الفساد لغويّة العقد وكونه كالعدم ، والضمان الشرعيّ يدور مدار الجعل ولو إمضاء ، والمفروض عدمه.

(٣) ظاهر العبارة أولويّة الرهن الفاسد ـ بعدم الضمان ـ من البيع الفاسد الذي يضمن بصحيحه ، لا أولويّة الرهن الفاسد بعدم الضمان من الصحيح منه. وتوضيحه :

أنّه قد سبق في (ص ٥٨ و ١١٥) استدلال شيخ الطائفة على الضمان في الفاسد ـ ممّا يضمن بصحيحه ـ بقاعدة الاقدام والدخول على المعاوضة. وناقش المصنّف فيه بأنّه

__________________

(*) هذا الوجه إنّما يتّجه بناء على كون الضمان ناشئا عن العقد بحيث يكون نفس العقد سببا له ، إذ يصح حينئذ أن يقال : إذا لم يكن الصحيح مقتضيا للضمان فالفاسد ـ الذي يكون كالمعدوم في عدم ترتّب أثر عليه ـ أولى بعدم تأثيره في الضمان. وأمّا بناء على كون سبب الضمان ومقتضية غير العقد من اليد والتصرّف فلا بدّ أن يكون عدم الضمان في الصحيح لاقتضاء العقد له ، ولا يلزم من اقتضاء الصحيح للعدم أن يكون الفاسد كذلك ، ومن الواضح أنّ الأمر كذلك أي يكون سبب الضمان غير العقد.


.................................................................................................

______________________________________________________

لا سبيل لإثبات الضمان في مثل البيع الفاسد بقاعدة الإقدام ، لأنّهما أقدما في العقد الصحيح على ضمان خاصّ وهو الضمان الجعلي المسمّى في العقد ، ولم يقدما على طبيعيّ الضمان ، حتّى يثبت الضمان بالبدل الواقعي في العقد الفاسد ، فثبوت المثل أو القيمة في عهدة المتبايعين منوط بالدليل عليه.

فمقتضى قاعدة الإقدام انتفاء الضمان بالمسمّى في البيع الفاسد ، لفرض أنّ الشارع لم يصحّح العقد ولم يمض ما أقدما عليه. مع وضوح أنّ البيع الفاسد يقتضي الضمان من جهة كونه مصداقا لطبيعيّ البيع المتقوّم بالمبادلة والمعاوضة بين المالين.

وعليه نقول : إنّ انتفاء الضمان بالعوض المسمّى في البيع الفاسد ـ لعدم الاقدام على طبيعيّ العوض وعدم إمضاء الضمان الخاص ـ يدلّ بالأولويّة القطعيّة على انتفاء الضمان في مثل الرّهن الفاسد الذي لا يضمن بصحيحه.

ووجه الأولويّة : أنّ الرهن الفاسد لا يتوقّع ترتب الضمان عليه ، وذلك لانتفاء كلّ من الاقدام على الضمان والإمضاء ، بخلاف البيع الفاسد ، فإنّه من جهة كونه مصداقا لمفهوم البيع المتقوّم بالمبادلة والمعاوضة يترقّب منه الضمان ، ومع ذلك لم يترتب عليه.

وهذا البيان كما ترى ظاهر في أولويّة فاسد العقد ـ الذي لا يضمن بصحيحه ـ بعدم الضمان من فاسد العقد الذي يضمن بصحيحه كالبيع. وهو لا يلتئم مع كلام المبسوط ـ بناء على إرادة الأولويّة دون التعجّب والمساواة ـ لدلالته على أولويّة فاسد العقد ـ الذي لا يضمن بصحيحه ـ من صحيحه كالرهن الصحيح والفاسد.

ولذا تكلّف المحقّق الأصفهاني قدس‌سره في توجيه الأولويّة التي ادّعاها المصنّف قدس‌سره ، بأن يقال : إنّ الملحوظ طبيعيّ العقد الصحيح ، فالصّحّة في كلّ عقد تقتضي الضمان ، سواء أكان بيعا أم رهنا ، فإذا لم يثبت الضمان فيه فعلا ـ مع اقتضاء الصحة ثبوته ـ فالفاسد الذي ليس فيه اقتضاء الضمان ـ إمّا لعدم إقدام مضمّن كما في الرهن ، وإمّا لعدم إمضاء مضمّن كالبيع الفاسد ـ أولى بأن لا يوجب الضمان.

وعلى هذا فالرّهن الفاسد أولى بعدم الضمان من الرّهن الصحيح ، لأنّ الصحة بنفسها


إذا كان مفيدا للضمان (١) أمكن أن يقال : إنّ الضمان من مقتضيات الصحيح (٢) ، فلا يجري في الفاسد ، لكونه لغوا غير مؤثّر ، على ما سبق تقريبه (٣) من أنّه أقدم على ضمان خاصّ (٤) ، والشارع لم يمضه ، فيرتفع أصل الضمان (٥) (*).

______________________________________________________

مقتضية للضمان ، وإن لم يبلغ مرتبة الفعلية ، وهذا الاقتضاء الناقص مفقود في الفاسد (١).

(١) هذه الجملة قرينة على أن المصنّف قدس‌سره قاس الأولوية بين نوعين من العقود ، يعني العقد الصحيح المفيد للضمان الذي لا يؤثّر فاسده في الضمان ، وبين العقد الصحيح الذي لا يفيد ضمانا كالرّهن ، فجعل العقد الفاسد ممّا لا يضمن بصحيحه أولى بعدم الضمان من العقد الفاسد الذي يضمن بصحيحه.

(٢) يعني : أنّ الصحة الشرعيّة تقتضي الضمان ، سواء أكان مضمّنا بالفعل أم لا ، فإذا انتفت الصحّة لم يبق المقتضي له.

(٣) حيث قال في الاعتراض على استدلال شيخ الطائفة بالاقدام ما لفظه :

«وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ، لأنّهما إنّما أقدما وتراضيا بالعقد الفاسد على ضمان خاصّ ، لا الضمان بالمثل أو القيمة ، والمفروض عدم إمضاء الشارع لذلك الضمان الخاصّ ، ومطلق الضمان لا يبقى بعد انتفاء الخصوصيّة».

(٤) وهو الضمان بالبدل المسمّى في العقد المعاوضيّ ، كضمان الكتاب بدينار في بيعه به.

(٥) يعني : فيرتفع أصل الضمان في العقد الفاسد الذي يضمن بصحيحه ، فكيف حال العقد الفاسد الذي لا يضمن بصحيحه ، فإنّه أحرى بعدم الضمان؟

هذا كله في تقرير الأولوية ، وسيأتي مناقشة المصنّف قدس‌سره فيها.

__________________

(*) لا يخفى أنّ المحقق الايرواني قدس‌سره استظهر من المتن : أنّ مقصود المصنّف قدس‌سره ملاحظة الأولويّة بين عقدين يقتضي صحيح أحدهما الضمان ، ولا يقتضيه الآخر ، لكنه قدس‌سره لغموض كلام الماتن قال : «ينبغي تقرير الأولويّة هكذا : إنّ

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٥.


لكن يخدشها (١):

______________________________________________________

(١) أي : يخدش الأولويّة ، ومحصّل الخدشة : أنّ مبنى الأولويّة ـ وهو إمكان كون علّة الضمان صحة العقد وإمضاء الشارع لما أقدم عليه المتعاقدان ـ معارض بإمكان دعوى كون الصحة في العقد الصحيح غير المفيد للضمان كالرهن والإجارة ـ بالنسبة إلى العين المستأجرة ـ وإمضاء الشارع لما أقدما عليه من التسليط المجّانيّ هو السبب الرافع للضمان ، والمانع عن تأثير القبض فيه. ولا يجري في العقد الفاسد ، لعدم إمضاء الشارع للتسليط المجّانيّ على ما هو معنى الفساد ، فلا أولويّة.

والحاصل : أنّ لكلّ من الصحيح والفاسد مزيّة ترفع أولويّة الفاسد من الصحيح في عدم الضمان. أمّا مزيّة الفاسد فقد عرفتها من عدم إقدام مضمّن وإمضاء مضمّن. وأمّا مزيّة الصحيح فهي أنّ إمضاءه المقتضي للسلطنة الشرعيّة الرافعة للضمان عند وجود سببه مختصّ به ، فبلحاظ الإمضاء ـ الذي هو أمر وجوديّ رافع للضمان ـ يمتاز الصحيح عن الفاسد ، فلا أولويّة.

واعلم أنّ المذكور في المتن من المناقشة في استدلال شيخ الطائفة قدس‌سره أمران :

أحدهما : ما أفاده المصنّف بقوله : «لكن يخدشها» وغرضه منع أولويّة العقد

__________________

صحيح العقد الذي كان فيه إقدام على الضمان ليس في فاسده إقدام ، لما عرفت أنّ الاقدام حاصل على المسمّى ، ولا ضمان به. وما به الضمان وهو المثل أو القيمة لا إقدام عليه. فإذا كان هذا حال ما كان الإقدام في صحيحه على الضمان موجودا ، فكيف ما لا إقدام في صحيحه على الضمان ، فإنّه بالأحرى أن لا يكون في فاسده إقدام على الضمان» (١).

وهذا كما ترى ملاحظة للأولويّة بين عقدين لا بين صحيح عقد وفاسده ، مع أنّ ظاهر عبارة المبسوط كما تقدّم في التوضيح جعل عدم ضمان فاسد الرهن أولى من عدمه في صحيحه. إلّا أن يتكلّف في توجيه المتن بما أفاده المحقق الأصفهاني ، وأدرجناه في التوضيح ، فتأمّل فيه حقّه.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٥.


أنّه (١) يجوز أن يكون صحّة الرّهن والإجارة (٢) المستلزمة لتسلّط المرتهن والمستأجر على العين شرعا (٣) مؤثّرة في رفع الضمان ، بخلاف الفاسد الذي لا يوجب تسلّطا لهما على العين ، فلا أولويّة (٤).

فإن قلت (٥) : إنّ الفاسد وإن لم يكن له دخل

______________________________________________________

الفاسد من العقد الصحيح بعدم الضمان ، وقد عرفته.

ثانيهما : ما أفاده بقوله : «فان قلت» وأجاب عنه ، ومحصّله منع مساواة العقد الفاسد للصحيح في عدم الضمان ، لوجود المقتضي للضمان في الفاسد ، وعدمه في الصحيح ، فكيف يكون الفاسد أولى بعدم الضمان؟

(١) هذا مرفوع محلّا على أنّه فاعل «يخدشها» والضمير للشأن.

(٢) عطف الإجارة على الرّهن ـ في كون العين غير مضمونة بيد المرتهن والمستأجر للتسليط المالكي ـ مبنيّ على دخول العين المستأجرة في قاعدة «ما لا يضمن» كما استظهره قدس‌سره بقوله : «فالقاعدة المذكورة غير مخصّصة بالعين المستأجرة ولا متخصّصة» وإلّا فبناء على ما ذهب إليه صاحب الرياض وغيره من ضمانها لا تكون الإجارة كالرّهن.

(٣) قيد لقوله : «تسلّط» يعني : فتكون العين أمانة شرعيّة ومالكيّة ، فلا وجه للضمان في العقد الصحيح.

(٤) أي : فلا أولويّة للفاسد من الصحيح في عدم الضمان.

(٥) هذا الاشكال ناظر إلى أصل استدلال شيخ الطائفة قدس‌سره مع الغضّ عن الخدشة التي ذكرها بقوله : «لكن يخدشها» وهو مبنيّ على أمرين :

الأوّل : أنّ حديث «على اليد» يقتضي ضمان المستولي على مال الغير مطلقا ، سواء أكانت يده عدوانيّة أم أمانيّه ، وسواء أكان بعقد صحيح أم لا ، لصدق «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» على جميع موارد الوضع.


في الضمان (١) ، إلّا أنّ مقتضى عموم «على اليد» هو الضمان (٢) ، خرج منه المقبوض بصحاح العقود التي يكون مواردها غير مضمونة على القابض ، وبقي الباقي (٣).

______________________________________________________

الثاني : أنّ هذا العموم خصّص في جملة من العقود الصحيحة ، حيث لا ضمان فيها كالوديعة والعارية والرهن والوكالة ونحوها ممّا يكون التسليط بإذن الشارع والمالك. وأمّا إذا كانت هذه العقود باطلة غير ممضاة شرعا كان وضع اليد فيها مندرجا في عموم «على اليد» كاليد العدوانيّة في موارد الغصب المقتضية للضمان.

وبناء على هذين الأمرين يتّضح منع مساواة العقد الفاسد ـ ممّا لا يضمن بصحيحه ـ للصحيح في عدم الضمان ، فضلا عن أولويّة الفاسد من الصحيح فيه.

والوجه في المنع : أنّ سبب الضمان غير منحصر في ما أفاده شيخ الطائفة قدس‌سره من إقدام المالك على الضمان وإمضاء الشارع له ، حتى يقال بتساوي الصحيح والفاسد في علّة عدم الضمان وهي عدم الاقدام المضمّن وعدم الإمضاء المضمّن. بل للضمان سبب آخر ، وهو قاعدة اليد الشاملة لكلّ من العقد الصحيح والفاسد. إلّا أنّها خصّصت في العقود الصحيحة التي لا ضمان فيها ، كالرهن والوديعة والمضاربة ، ولم تخصّص في فاسد هذه العقود. ومقتضى عموم قاعدة اليد ـ التي هي أمر خارج عن مرحلة العقد ـ هو الضمان في العقد الفاسد. ومعه كيف حكم شيخ الطائفة قدس‌سره بعدم الضمان في الرّهن الفاسد ، استنادا إلى مساواته للصحيح في السببيّة لعدم التضمين؟

(١) لما عرفت من انتفاء علّة الضمان ، وهي الإقدام على الضمان ، وإمضاء هذا الاقدام ، وهذه مشتركة بين الرهن الصحيح والفاسد.

(٢) فالعقد الفاسد من جهة وجود هذا العموم فيه أولى بالضمان من الصحيح.

(٣) والعقد الفاسد ممّا بقي تحته ، لعدم صلاحيّته لتخصيص عموم قاعدة اليد.


قلت (١) : ما خرج به المقبوض بصحاح تلك العقود يخرج به (٢) المقبوض

______________________________________________________

ب : عموم دليل الهبة والأمانات

(١) هذا جواب الاشكال على المساواة بين العقد الصحيح والفاسد في عدم الضمان ، وغرض المصنّف قدس‌سره إثبات الملازمة في عدم الضمان بين العقد الصحيح غير المضمّن وبين فاسده.

وهذا الجواب دليل ثان على قاعدة «ما لا يضمن». ومحصّله : أنّ الدليل المخرج للمقبوض بصحاح تلك العقود عن عموم على اليد ـ على ما اعترف به المستشكل ـ هو المخرج بعينه لفاسد تلك العقود عن العموم المزبور. وذلك الدليل عموم ما دلّ على عدم ضمان من تسلّم مال الغير من دون أن يضمّنه المالك ، من غير فرق في عدم الضمان بين التمليك المجّانيّ كالهبة ، وبين التسليط على الانتفاع بعين مجّانا كالعارية ، أو بعوض كالإجارة ، إلى غير ذلك من موارد الاستيمان المالكيّ ، بعد تساوي صحيح هذه العقود وفاسدها في الجهات الداخليّة والخارجيّة. أمّا الداخليّة فهي عدم الاقدام المضمّن ، وعدم الإمضاء المضمّن. وأمّا الجهات الخارجيّة فهي اليد الموجبة بذاتها للضمان والاذن المالكيّ الرافع له.

والمراد بالاستئمان المالكي هو التسليط عن الرضا وعدم كونه بلا إذن منه حتى تكون يده عادية ، والتسليطات المجانيّة كلّها كذلك. وليس المراد بالاستئمان المالكي الاستنابة في الحفظ ، ضرورة أنّه لا شي‌ء من العقود كذلك إلّا الوديعة.

وبعد فرض تساوي العقود الصحيحة والفاسدة في الجهات الداخليّة والخارجيّة تكونان متساويتين أيضا في الحكم بالضمان وعدمه. فإذا دلّ دليل على عدم الضمان في الصحيحة دلّ على عدمه في الفاسدة أيضا.

(٢) هذا الضمير وضمير «به» المتقدم راجعان إلى «ما» الموصول المراد به عموم ما دلّ على عدم الضمان في موارد الاستيمان.


بفاسدها (١) ، وهي عموم (٢) ما دلّ على : أنّ من لم يضمّنه (٣) المالك سواء ملّكه إيّاه بغير عوض (٤) ، أو سلّطه على الانتفاع به (٥) ، أو استأمنه عليه لحفظه (٦) أو دفعه إليه لاستيفاء حقّه (٧) ، أو العمل فيه بلا اجرة (٨) أو معها ، أو غير ذلك (٩) ، فهو (١٠) غير ضامن.

أمّا (١١) في غير التمليك بلا عوض ـ أعني الهبة ـ فالدليل المخصّص لقاعدة

______________________________________________________

(١) لمساواة فاسد تلك العقود مع صحاحها في الجهة المخرجة لها عن إطلاق «على اليد».

(٢) هذا العموم يستفاد من النصوص المتفرّقة كما سيأتي ذكر جملة منها إن شاء الله تعالى.

(٣) بصيغة التفعيل ، أي : لم يقصد المالك ضمان القابض لماله.

(٤) كما في الهبة بغير عوض ، لكونها تمليكا للعين مجّانا.

(٥) كما في العارية ، فإنّ المالك المعير يسلّط المستعير على العين للانتفاع بها.

(٦) كما في الوديعة ، فإنّها استيمان لحفظ المال عن الضّياع.

(٧) كما في إجارة الأعيان ، فالمؤجر يسلّط المستأجر على العين ليستوفي حقّه منها ، كالسكنى في الدار.

(٨) كما إذا دفع القماش إلى الخيّاط ليخيطه ثوبا تبرّعا منه بالخياطة ، أو دفع القماش إليه ليخيطه ثوبا بأجرة معيّنة. وهذه إجارة على الأعمال المحترمة. فسواء أكان العمل مع أجرة أم بدونها تكون يده على الثوب أمانية لا يضمن تألفها.

(٩) كما في دفع مال المضاربة إلى العامل للتجارة به. وكدفع المال الموكّل في بيعه إلى الوكيل ، فهما غير ضامنين لما بيدهما.

(١٠) جزاء الشرط في قوله : «من لم يضمّنه».

(١١) غرضه قدس‌سره إبداء الفرق بين الهبة غير المعوّضة ، وبين العقود الأمانيّة التي لا تضمن بصحيحها وفاسدها ، والفارق هو عدم صدق الأمانة في باب الهبة ،


الضمان (١) عموم ما دلّ على أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن ، بل «ليس لك أن تتّهمه» (٢).

______________________________________________________

لكونها رافعة للملك ولا تكون العين أمانة بيد المتّهب ، بل هي ملكه ، بخلاف العارية والوكالة والمضاربة والوديعة والرهن ونحوها ، فإنّها مصاديق لعموم ما دلّ على «عدم ضمان الأمين». ولا بدّ حينئذ من دليل آخر لإثبات عدم الضمان في الهبة الفاسدة ، وذلك الدليل هو الأولويّة القطعيّة ، وسيأتي بيانها.

(١) يعني : قاعدة اليد المقتضية للضمان في كلّ استيلاء على مال الغير ، سواء أكان بالعقد أم بغيره ، وسواء أكان العقد صحيحا أم فاسدا.

(٢) كما في رواية مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته ، ولا تأتمن الخائن وقد جرّبته» (١). ورواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ليس لك أن تأتمن من خانك ، ولا تتّهم من ائتمنت» (٢).

وهناك نصوص أخرى دالة على عدم ضمان الأمين في موارد الوديعة والعارية والإجارة على الأعمال ، فمنها : مرسلة أبان

بن عثمان عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث ، قال : «وسألته عن الذي يستبضع المال ، فيهلك أو يسرق ، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال :

ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا» (٣) رواها الكافي والتهذيب بسند كالصحيح عنه عليه‌السلام.

ومنها : صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان ، وقال : ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (٤).

ومنها : معتبرة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٢٩ ، الباب ٤ من أبواب الوديعة ، الحديث ١٠.

(٢) المصدر ، الحديث ٩.

(٣) المصدر ، ص ٢٢٨ ، الحديث ٥.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، الباب ١ من كتاب العارية ، الحديث ٦.


.................................................................................................

______________________________________________________

أتي بصاحب حمّام وضعت عنده الثياب ، فضاعت ، فلم يضمّنه ، وقال : إنّما هو أمين» (١). والتعليل ظاهر في كبرى عدم ضمان الأمين ، وأنّ عدم تضمين الحمّامي إنّما هو لأمانته.

ومنها : معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : لا يضمن الصّائغ ولا القصّار ولا الحائك ، إلّا أن يكونوا متهمين ، فيخوف (فيجيئون) بالبيّنة ، ويستحلف لعلّه يستخرج منه شيئا. وفي رجل استأجر جمّالا فيكسر الذي يحمل أو يهريقه. فقال : على نحو من العامل ، إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء ، وإن كان غير مأمون فهو ضامن» (٢). وظهورها في إناطة الضمان بالتهمة ، وعدمه بالأمانة مما لا ينكر.

ومنها : قول الفقيه عليه‌السلام في مكاتبة الصفّار في ضمان القصّار : «هو ضامن له إلّا أن يكون ثقة مأمونا إن شاء الله» (٣).

إلى غير ذلك من النصوص المتفرقة الواردة في المستعير والمرتهن والودعيّ والمستبضع ، والأجير على العمل كالقصّار والحمّال والجمّال ، والمستأجر للعين ، وغير ذلك المتضمّنة لعدم ضمانهم ، بدعوى : أنّ اشتمال بعضها على تعليل عدم الضمان «بكون الرجل أمينا» يدلّ على قاعدة كلّية ، وهي عدم ضمان المؤتمن وعدم الغرم على كلّ أمين. ومقتضي ترك الاستفصال عدم الفرق بين كون الاستيمان في العقد الصحيح أو الفاسد.

وبدعوى : أنّ التسليم في باب الإجارة والمضاربة والشركة ونحوها يكون من قبيل جعل العين أمانة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧٠ ، الباب ٢٨ من أبواب أحكام الإجارة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧٤ ، الباب ٢٩ من أبواب أحكام الإجارة ، الحديث ١١.

(٣) المصدر ، ص ٢٧٥ ، الحديث ١٨.


أمّا في الهبة الفاسدة فيمكن الاستدلال على خروجها من عموم اليد بفحوى (١) ما دلّ على خروج مورد الاستيمان ، فإنّ (٢) استيمان المالك لغيره على ملكه إذا اقتضى عدم ضمانه له (٣) اقتضى (٤) التسليط المطلق (٥) عليه مجّانا عدم

______________________________________________________

والحاصل : أنّ المدّعى عدم ضمان كلّ من استأمنه الرجل على ماله. وهذا بمنزلة الكبرى ، فكأنّه قيل : «كلّ أمين ليس بضامن». وكون العقود الفاسدة من صغرياته ، لصدق الأمين على المستعير في العارية الفاسدة ، وعلى المستأجر في الإجارة الفاسدة ، إلى غير ذلك. وصغرويّة العقود الفاسدة تثبت بترك الاستفصال.

هذا كلّه في العقود الفاسدة الأمانيّة التي لا تضمن بصحيحها. وأمّا الهبة فسيأتي وجه عدم الضمان بفاسدها.

(١) متعلّق ب «خروج» وهذا وجه عدم الضمان في الهبة الفاسدة حتى تكون قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» شاملة لها كشمولها للعقود الأمانية ، فهي خارجة عن عموم «على اليد» المقتضي للضمان.

وتقريب الأولويّة : أنّ عدم الضمان في صورة قطع العلقة عن المال بالمرّة أولى من عدم ضمانه في موارد الاستيمان التي تبقى إضافة الملكيّة على حالها.

(٢) تقريب للفحوى ، وقد عرفته آنفا.

(٣) أي : للمالك.

(٤) جزاء الشرط ، وجملة الشرط والجزاء خبر قوله : «فإنّ استيمان».

(٥) المراد بالتسليط المطلق هو سلطنة المتّهب على التصرفات الخارجيّة والاعتباريّة المشروعة في العين الموهوبة ، وهذا في قبال تسليط المالك في باب العارية ، لكون متعلّقه الانتفاع بالعين بنفسه. وكذا في باب الإجارة ، فإنّ المستأجر مسلّط على العين في جهة الانتفاع بها واستيفاء حقّه منها ، لا مطلقا ، ولذا لا يجوز له التصرّف الأجنبيّ عن حيثيّة الانتفاع. وكذا في باب البيع ، فإنّ تسليط المالك.


ضمانه بطريق أولى (١). والتقييد (٢) بالمجّانيّة لخروج التسليط المطلق بالعوض كما في المعاوضات ، فإنّه عين التضمين.

فحاصل (٣) أدلّة عدم ضمان المستأمن (٤) أنّ من دفع المالك إليه ملكه على وجه لا يضمنه بعوض واقعيّ ـ أعني المثل والقيمة ـ ولا جعلي فليس

______________________________________________________

وإن كان مطلقا غير مقيّد بتصرّف دون آخر ، إلّا أنّه مقابل بالعوض ، وليس مجّانيّا.

(١) تقدم تقريب الأولويّة آنفا.

(٢) غرضه من هذه الجملة أنّ الموجب لتقييد التسليط المطلق في قوله : «اقتضى التسليط المطلق عليه مجّانا» بالمجّانيّة هو : أنّ للتسليط المطلق على المال فردين ، أحدهما : بلا عوض وهو الهبة ، والآخر معه وهو البيع والصلح المفيد فائدة البيع. وما ذكر ـ من أولويّة التسليط المطلق بعدم الضمان من موارد الاستيمان المالكيّ ـ فمورده الهبة التي لا يضمن المتّهب عوض ما أخذه من الواهب. وأمّا التسليط المطلق في باب البيع ونحوه فحقيقته التضمين ، فلا معنى لتوهّم كونه كالهبة ممّا لا ضمان فيه.

(٣) هذا الحاصل راجع إلى ما أفاده بقوله : «قلت» الذي محصّله خروج العقود الأمانيّة صحيحها وفاسدها عن الحديث النبويّ «على اليد» المقتضي للضمان في مطلق موارد الاستيمان. وعليه فإذا دفع المالك ماله إلى آخر من دون الاقدام على تضمين الآخذ ببدله الواقعي ولا ببدل جعليّ مسمّى لم يكن ماله مضمونا ، فلو تلف لم يلزم تداركه ببدل على الآخذ. وبذلك تمّ الدليل على أنّ «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

(٤) بصيغة المفعول أي : من جعله المالك أمينا على ماله لا يكون ضامنا. هذا تمام الكلام في ضمان نفس المقبوض بالبيع الفاسد ، وسيأتي الكلام في وجوب ردّه وسائر آثاره إن شاء الله تعالى.


عليه ضمان (*).

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد استدلّ على قاعدة «ما لا يضمن» بوجوه :

الوجه الأوّل : الأولويّة. ويكفي في ردّها ما أفاده المصنّف قدس سره من الخدشة.

الوجه الثاني : الأصل ، إذ الضمان حكم وضعيّ ، فإن شكّ في ثبوته ولم يكن عليه دليل ينفى بأصالة البراءة.

وفيه : أنّ هذا مبنيّ على عدم إمكان التمسّك بالنبوي «على اليد ما أخذت» لضعف السند أو غيره. وقد تقدّم البحث فيه ، وأنّه حجة ويصحّ الاستدلال به ، فراجع.

الوجه الثالث : إقدام المتعاقدين على المجّانيّة الرافع للضمان في كل من الصحيح والفاسد.

وفيه : أنّ ما أقدما عليه عنوان خاصّ صحيح ، وقد انتفى ، وارتفاع العنوان يوجب انتفاء السبب الرافع للضمان ، فمقتضى عموم «على اليد» هو الضمان.

الوجه الرابع : الأدلّة الدالّة على عدم الضمان في الأمانات كالوكالة والوديعة ونحوهما ، وذلك كعموم ما دلّ على «أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن ، بل ليس لك أن تتّهمه» وضمّ المصنّف رحمه‌الله إلى ذلك : الفحوى بالنسبة إلى مثل الهبة ، فإنّه إذا لم يضمن فيما لم يكن فيه بذل المال بل كان مجرّد استيمان ، ففيما كان فيه بذل المال يكون عدم الضمان أولى بالقبول.

وأورد عليه : بأنّ الكلام إنّما هو في مثل الشركة الفاسدة ، وكذا الإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين ، وفي مثل حمل المبيع بالبيع الفاسد على القول بكونه مضمونا على المشتري مع عدم الضمان في صحيحه ، وفي مثل استعارة المحلّ من المحرم على تقدير فساد العارية.

وحينئذ نقول : إنّ العموم المزبور ونحوه من أدلة الاستيمان لا يستفاد منها إلّا حكم ما هو استيمان محض قصد منه مصلحة المالك كالوكالة والوديعة ، أو ما كان مثل العارية بالنسبة إلى الصحيح منها الذي هو مورد الاذن ، دون غيره ، إذ ليس في المورد


.................................................................................................

__________________

إلّا الإذن المقيّد بكونه في ضمن العارية الصحيحة أو الإجارة الصحيحة مثلا ، وقد انتفى القيد فينتفى المقيّد بانتفائه.

ودعوى كون مطلق الاذن رافعا للضمان ، خالية عن البرهان ، فإنّ المقبوض بالسوم مع اقترانه بالاذن مضمون على القابض كما عن المشهور. فالحق أنّ هذه القاعدة لم يقم عليها دليل واضح.

فحينئذ نقول : إنّ كلّ مورد قام الدليل على عدم ضمان المقبوض باليد كان ذلك مخرجا له عن عموم «على اليد» وكلّ مورد لم يقم فيه دليل على عدم الضمان فالمرجع فيه قاعدة اليد. وعليه فلا دليل على عدم الضمان في العقود الفاسدة.

فالنتيجة : أنّ قاعدة «ما لا يضمن» خالية عن الدليل. بل مقتضى عموم «اليد» الضمان.

أقول : بناء على تسليم الكبرى ـ وهي : أنّ كل أمين ليس بغارم ـ وتسليم صغرويّة المستأجر والمستعير والمرتهن والودعي والمستبضع بالعقود الفاسدة لكبرى الأمين لا وجه للضمان.

ودعوى «تقيّد الاذن بصحّة العقد بأن يقال : إنّ العقود الفاسدة ليست من موارد الأمانات حتى لا يكون فيها ضمان ، إذ الأمانة فرع الاذن ، وهو مقيّد في العقود بصحتها ، فينتفي الإذن بانتفاء الصحة كانتفاء كل مقيد بانتفاء قيده» خالية عن الشاهد ، بعد صدق عناوين العقود على صحيحها وفاسدها بوزان واحد ، واشتراكها فيما عرفت في التوضيح من الجهات الداخلية والخارجية.

لا يقال : إنّ الاستيمان المالكي هو الاستنابة في الحفظ ، وليس شي‌ء من العقود كذلك إلّا الوديعة ، فاستناد عدم الضمان في قاعدة «ما لا يضمن» إلى الاستيمان المالكي في غير محله. بل لا بدّ من الالتزام بالضمان في تلك العقود.

فإنّه يقال : إنّ المراد بالاستئمان المالكيّ هو التسليط عن الرضا وعدم كونه بلا إذن


.................................................................................................

__________________

حتى تكون يده عادية ، ومن المعلوم أنّ ما ذكره من التسليطات المجّانيّة كلّها كذلك ، فلا تكون اليد عادية حتى يضمن القابض ، بل اليد مأذونة وليس مضمّنة.

وأمّا ما ورد من «أنّ المستعير والمستأجر ، مؤتمنان» فهو تنزيل لهما منزلة من استأمنه المالك حقيقة في عدم الضمان بمجرّد التلف ، لا أنّهما مؤتمنان حقيقة من قبل المالك.

وأمّا ما ورد في النصوص من «أنّه إذا كان مأمونا لا يضمن» فإنّه في قبال المتّهم ، فالفرق بين الأمين والمتّهم هو : أنّ الأمين في صورة دوران الأمر بين التلف والإتلاف لا يحكم عليه بالضمان ، إمّا واقعا كما إذا لم يتلف بالتعدّي أو التفريط ، وإمّا ظاهرا وفي مقام الدعوى ، فليس لصاحب المال مطالبته بالبينة واليمين ، بخلاف المتّهم ، فإنّه يطالب بهما.

فهذه الأخبار في مقام التفكيك بين الأمين والمتّهم في الحكم الظاهريّ ، لا في مقام بيان حكم التلف المحض الذي نتكلّم فيه. ولا يتفاوت فيه بين الأمين والمتّهم. كما أنّه لا تفاوت بينهما في الضمان بالتلف مع التعدي أو التفريط.

ثمّ إنّ لبعض الأعلام كلاما ، وهو : «أنّ ما ورد في مرسلة أبان بن عثمان المتقدّمة ـ من عدم الضمان بعد كون الرجل أمينا ـ يحتمل فيه وجوه ، بعد الخدشة في كون ما ذكر بمنزلة التعليل ، واحتمال أن يكون بيانا لمورد القضيّة ، أي بعد ما جعلته في المورد أمينا لا غرم عليه ، وهذا نحو أن يسأل الطبيب عن الرّمان ، فيقول بعد أن كان حلوا لا مانع منه ، الذي يفهم منه أنّ كلّ حلو لا مانع منه» هذا.

وفيه : أنّ قوله : «بعد أن يكون الرجل أمينا» مساوق لقوله في خبر غياث المتقدّم : «إنّما هو أمين» وظهور مثل هذه التعبيرات في بيان الكبرى الكلّية وهي عدم ضمان كل أمين ـ خصوصا بعد ملاحظة كون وظيفة الشارع بيان الأحكام الكلّية ـ مما لا ينكر ، إذ من


.................................................................................................

__________________

المعلوم أنّ التعليل بكون الرّجل أمينا ظاهر عرفا في حكم كلّي وهو عدم ضمان كلّ أمين ، ولا ظهور له في كونه بيانا للمورد ، فإنّ المورد من قبيل ما إذا أمر الإمام عليه‌السلام بأخذ معالم الدين من أحد الأصحاب ، وقال : «إنّه ثقة» فإنّه لا ريب في كونه تنبيها على وثاقته الموجبة لاندراجه في «الثقة» الذي يكون قوله حجة.

ثمّ قال : «إنّ في الرواية احتمالات : أحدها : أنّ المقصود الاخبار عن قضيّة واقعيّة ، وهي : أنّ الأمين لا تصدر منه الخيانة حتى يضمن ، فلا ضمان عليه واقعا. وعليه فلا يكون تعليلا ليستفاد منه حكم غير المورد».

وفيه : أنّ الاخبار ـ الذي هو حكاية أمر خارجي ـ خلاف الأصل في كلام الشارع ، فإنّ الأصل في كلامه هو الحمل على إنشاء الأحكام. فقوله عليه‌السلام : «ليس عليه غرم» حكم قد علّل بكونه أمينا ، فكأنّه قال عليه‌السلام : «علّة عدم الغرم شرعا هي أمانة الرجل» فموضوع عدم الضمان هو الأمين. كتعليل حرمة الخمر «بأنّه مسكر» الظاهر في كون موضوع الحرمة حقيقة هو المسكر ، وأنّ حرمة الخمر إنّما هي لأجل انطباق موضوع الحرمة أعني طبيعيّ المسكر عليه ، فيكون المقام من قبيل العلّة المنصوصة ، لا من قبيل علّة التشريع.

وإن شئت فقل : إنّ ما نحن فيه من قبيل علّة المجعول ، لا علّة الجعل على ما هو مصطلح بعض المحققين.

ثانيها : «أن يراد بقوله : ـ بعد أن يكون الرجل أمينا ـ أنّه بعد ما اتّخذته أمينا وجعلت المال أمانة عنده لم يحكم عليه بالغرم ، إلّا مع قيام البيّنة. وعلى هذا يمكن أن يقال : إنّ الاتّخاذ أمينا في عقد الوديعة إنّما يصدق مع صحّته. وأمّا مع فساده فلا ، إذ ليس المراد كونه أمينا واقعا أو كونه مورد وثوق المودع ، بل المراد أنّه مع اتّخاذه في العقد أمينا وجعلت بضاعتك أمانة لديه لم يحكم عليه بالغرم ، فلا يكون صادقا في فاسد العقد ، لأنّه لم يتّخذه أمينا مطلقا ، بل في العقد مع البناء على صحته».


.................................................................................................

__________________

وفيه : أنّ كون الرجل أمينا معناه : أنّ كونه أمينا واقعا دعا الناس إلى أن يجعلوا أموالهم أمانة عنده. وهذا الداعي موجود في كلتا صورتي صحة العقد وفساده ، لأنّ إمضاء الشارع لا دخل له في الرضا بكون المال أمانة عند الأمين. بل بعد البناء على أمانته يرضى بجعل المال عنده وديعة سواء أمضاها الشارع أم لا. بل الرضا مقيّد بالأمانة المحرزة بالفرض.

نعم إن كان الموجب لفساد الوديعة اختلال ما هو مقوّم لمفهومها عرفا ـ لا اختلال ما هو شرط لصحّتها شرعا ـ كانت دعوى تقيّد الوديعة بالرضا في محلّها ، حيث إنّ الرضا تعلّق عرفا بالوديعة ، والمفروض عدم تحققها ، فلا موضوع للاستيمان ، فتأمّل.

ثالثها : «أن يراد به أنّه بعد اتّخاذه أمينا لا يكون ضامنا بالتلف السماويّ ، من غير إفراط وتفريط ، فيأتي فيه الاشكال المتقدم».

والفرق بينه وبين سابقه : إنّ هذا الوجه راجع الى الحكم الواقعي ، وهو أنّ التلف من غير إفراط وتفريط ـ لا يوجب الضمان. والوجه السابق راجع الى الحكم الظاهري ، وهو عدم الضمان مع قيام البيّنة. وغرضه من الاشكال المتقدم هو أنّ الاتّخاذ أمينا لا يصدق مع فساد عقد الوديعة.

وفيه ما تقدّم من : أنّ الاتخاذ أمينا لا يتوقّف على صحّة العقد ، بل يتوقّف على أمانته واقعا ، وأن لا يكون العلم بأمانته جهلا مركّبا. وأمّا حكم الشارع بصحّة العقد فليس مقوّما لاتّخاذه أمينا.

رابعها : «أن يكون المراد أنّه بعد ما كان أمينا واقعا لا يضمن. ومقتضى التعليل : أن لا يضمن الأمين بالتلف السماوي مطلقا ، ويضمن غير الأمين. ففي المقبوض بالعقد الفاسد مثلا إذا كان القابض أمينا ثقة لا يضمن ، بخلاف غير الأمين».

والظاهر أنّ غرضه أخصيّة هذه الرواية من المدّعى ، لأنّها تدلّ على عدم ضمان الأمين ، فالمقبوض بالعقد الفاسد غير مضمون على القابض إن كان أمينا ، ومضمون عليه


.................................................................................................

__________________

إن لم يكن أمينا. والمدّعى أعمّ من ذلك ، إذ المقصود من قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» هو عدم الضمان مطلقا وإن لم يكن القابض أمينا.

وفيه : أنّ عدم الضمان في العقود الصحيحة منوط أيضا بالوثوق والأمانة ، لأنّ رضى المالك منوط بالأمانة ، فإن لم يكن أمينا لا يرضى المالك بأن يكون المال أمانة عنده اتّجه من الحكم بالضمان مع الأمانة وإن كان العقد صحيحا ، وبعدم الضمان وإن كان العقد فاسدا ، لأنّ المدار حينئذ الأمانة. فإن كان أمينا فلا ضمان عليه ، وإلّا فعليه الضمان.

خامسها : «أن يراد : كل من استأمنته لا يضمن ، بمعنى أن كل من جعلت الشي‌ء عنده بعنوان الأمانة ليس بضامن ، فيشمل الصحيح والفاسد. وهذان الاحتمالان بعيدان» (١).

وفيه : أنّ الظاهر إرادة هذا المعنى من الرواية ، لأنّ استبضاع المال لا يحصل عادة إلّا عند الأمين ، فالاستيمان متحقق من صاحب المال ، فالمستفاد من الرواية : أنّ كل من استأمنه المالك على ماله وكان القابض أمينا لا يضمن ، فالاستيمان من المالك وأمانة القابض دخيلان في ارتفاع الضمان.

فتحصّل : من جميع ما تقدم أنّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره من ارتفاع الضمان باستيمان المالك يستفاد من النصوص ، فلاحظ وتدبّر.

تكملة : هل المستفاد من الروايات المتفرّقة في هذه الأبواب هو كون الضمان في مورده وعدمه في مورده بنحو الاقتضاء كوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر ، حتى يكون شرطه وجودا أو عدما مخالفا لمقتضى العقد ، فشرط الضمان في العارية مثلا مخالف للكتاب ، وشرط عدمه في عارية الذهب والفضة ـ التي فيها الضمان ـ مخالف لمقتضى العقد المستفاد من الأدلّة الخاصّة الدالّة على الضمان في عاريتهما؟ أم التفصيل بين شرط عدم الضمان في مورد ثبوته ، وبين شرط الضمان في مورد عدمه ، كشرط

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٢٩١ و ٢٩٢.


.................................................................................................

__________________

الضمان في عارية غير الذهب والفضة ، بدعوى : أنّ الظاهر من جعل الضمان كونه حكما اقتضائيّا ، لأنّ ثبوت الحكم لموضوع لا يكون إلّا عن الاقتضاء ، فشرط عدمه مخالف للشرع ، بخلاف شرط الضمان في مورد عدمه ، وذلك لأنّ أدلّة نفي الضمان لا تدلّ على أزيد من عدمه ، ولا تدلّ على أنّه عن اقتضاء ، فإنّ دلالة تلك الأدلّة على ذلك محتاجة إلى قرينة مفقودة. كما أنّ دلالة دليل إباحة شي‌ء على أنّ الإباحة تكون لوجود المقتضي أو لوجود المانع عن جعل الحرمة منوط بدلالة دليل.

أم يقال : إنّ شرط عدم الضمان في مورد ثبوته أيضا ليس مخالفا للشرع ، لإمكان دعوى أنّ تشريع الضمان إنّما هو إرفاق بالمالك ومراعاة لمصلحته ، فأدلّة الضمان منصرفة عن مورد الاشتراط برضا المالك بعدمه.

والحاصل : أنّه يحتمل وجوه :

أحدها : صحّة اشتراط الضمان في مورد عدمه ، واشتراط عدمه في مورد ثبوته ، فالشرط مطلقا ـ أي وجود الضمان وعدمه ـ في مطلق الموارد ليس مخالفا للشرع.

ثانيها : عدم صحة الشرط مطلقا ، أي شرط الضمان في مورد عدمه ، وبالعكس.

ثالثها : التفصيل بين شرط عدم الضمان في مورد ثبوته ، وبين شرط الضمان في مورد عدمه ، بكون الأوّل مخالفا للشرع دون الثاني.

لا يبعد أن يقال : إنّ الظاهر هو الاحتمال الأوّل ، فشرط الضمان في مورد عدمه وشرط عدمه في مورد ثبوته ليس مخالفا للشرع. وذلك لإمكان استفادة هذه الكليّة من جملة من الروايات ، كصحيحة زرارة : «قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : العارية مضمونة؟

فقال : جميع ما استعرته فتوى فلا يلزمك تواه إلّا الذهب والفضة ، فإنّهما يلزمان ، إلّا أن تشترط عليه أنّه متى توى لم يلزمك تواه. وكذلك جميع ما استعرت فاشترط عليك


.................................................................................................

__________________

لزمك. والذهب والفضة لازم عليك وإن لم يشرط عليك» (١). فإنّ المستفاد منه نفوذ شرط الضمان في مورد عدمه ، وشرط عدمه في مورد ثبوته ، إذ عارية غير الذهب والفضة لا ضمان فيها ، لقوله عليه‌السلام : «جميع ما استعرته فتوى ..» وعارية الذهب والفضة فيها الضمان ، وشرط تعدمه ينفيه ، لقوله عليه‌السلام : «فإنهما يلزمان إلّا أن تشترط ..».

وصحيحته الأخرى : «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن وديعة الذهب والفضة؟ قال : فقال : كلّ ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم» (٢) ومن المعلوم أنّ المراد به اشتراط عدم الضمان ، وإلّا فهو من توضيح الواضح كما لا يخفى.

وتدلّ أيضا على صحة الشرط مطلقا ـ الكاشفة عن عدم كون الضمان وعدمه اقتضائيا ـ بعض روايات الإجارة ، فلاحظ.

ولعلّ المستفاد من هذه الروايات نفوذ شرط الضمان وعدمه في جميع الموارد. ففي الأمانات التي نفى الشارع فيها الضمان يجوز شرط الضمان فيها ، كالعين المستعارة والمستأجرة ، ولا يكون الشرط مخالفا للكتاب والسنة. وكذا يجوز شرط عدم الضمان فيما جعل فيها الضمان كعارية الذهب والفضة.

والحاصل : أنّ هذه الروايات ترجّح الاحتمال الأوّل وهو نفوذ شرط الضمان وعدمه في الأمانات ، فيتعيّن في مقام الإثبات ، دون الاحتمالين الآخرين. فجعل الضمان شرعا في بعض موارد الأمانات وعدمه في بعضها الآخر ليس من باب المقتضي والعلّة التامّة ، فيتغير بالشرط الذي هو من العناوين الثانوية المغيّرة للأحكام الأوّليّة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٩ ، الباب ٣ من كتاب العارية الحديث ٢ ، رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن جميل عن زرارة ، والرواية صحيحة كما لا يخفى على من راجع تراجم هؤلاء.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٢٨ ، الباب ٤ من أبواب الوديعة ، الحديث ٤ ، رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز عن زرارة ، والرواية صحيحة.


الثاني من الأمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد : وجوب ردّه فورا إلى المالك (١). والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه على تقدير عدم جواز التصرّف فيه ، كما يلوح (٢) من مجمع الفائدة.

______________________________________________________

وجوب ردّ المبيع فاسدا إلى مالكه فورا

(١) قد تقدّم في أوّل مسألة المقبوض بالعقد الفاسد (ص ٦) أنّه موضوع لأحكام تكليفيّة ووضعيّة ، وقد كان الكلام إلى هنا في عدم التملّك ، وضمان العين لو تلفت بيد الآخذ. وكان المناسب اتباعه ببحث ضمان المنافع المستوفاة والفائتة ، لكنّ المصنّف قدس‌سره قدّم البحث عن حكم تكليفيّ متعلّق بنفس المقبوض بالبيع الفاسد ، وهو وجوب ردّه فورا إلى المالك.

واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة ، وهي الإجماع المنقول في مجمع الفائدة ، والتوقيع الشريف ، والنبويّ ، وسيأتي بيانها.

ولا يخفى أنّ محلّ الكلام وموضوع البحث عن وجوب ردّ المقبوض بالعقد الفاسد إلى مالكه فورا هو القول بعدم جواز التصرّف فيه ، وكون القبض وفاء بالعقد الفاسد. فلو قيل بحصول إذن جديد ـ بعد العلم بالفساد على ما سبق تفصيله في أوّل المسألة وفي ثامن تنبيهات المعاطاة ـ أو قلنا ببقاء الاذن المقارن للعقد وعدم ارتفاعه بفساد العقد لم يبق موضوع لوجوب ردّ المقبوض بالمعاملة الباطلة إلى مالكه فورا كما لا يخفى.

(٢) يعني : يلوح من مجمع الفائدة عدم الخلاف في حرمة التصرّف في المقبوض بالبيع الفاسد ووجوب ردّه فورا إلى مالكه ، قال المحقّق الأردبيلي قدس‌سره : «ومع علمه بالفساد ـ وبعدم جواز تصرّفه وحفظه ووجوب ردّه إلى مالكه معجّلا ـ كالمغصوب ، وذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك على تقدير الفساد ، وعدم رضاه


بل (١) صرّح في التذكرة ـ كما عن جامع المقاصد (٢) ـ «أنّ مئونة الرّدّ على المشتري». وإطلاقه (٣) يشمل ما لو كان في ردّه مئونة كثيرة ،

______________________________________________________

بكونه عنده ، وفتوى العلماء له بذلك ..» (١).

والمراد بعدم الخلاف في المسألة قوله : «وفتوى العلماء». ولكن مورد كلامه قدس‌سره علم المشتري بفساد العقد وبحرمة التصرّف بل بحرمة إمساكه ، وأنّ المالك لو اطّلع على فساد العقد لطالب المشتري بالمبيع ولم يرض بكونه عنده. وهذا أخصّ من محلّ البحث وهو عدم اختصاص حرمة التصرّف ـ وما يترتّب عليها من وجوب الرّدّ فورا ـ بصورة علم المشتري بالفساد ، كما أنّ ضمان المقبوض بالبيع الفاسد لا يختصّ بصورة الجهل بالبطلان على ما سبق تصريح المصنّف به في الأمر الأوّل.

(١) غرضه الترقّي والإضراب عن بناء وجوب الرّدّ فورا على حرمة التصرّف إلى أنّ وجوب الرّدّ كأنّه من المسلّمات ، بشهادة جزم العلّامة به ، وبنى عليه وجوب مئونته لو توقّف الرّدّ عليها. قال قدس‌سره : «إذا اشترى شراء فاسدا وجب عليه ردّه على مالكه ، لعدم خروجه عنه بالبيع ، وعليه مئونة الرّدّ كالمغصوب» (٢).

(٢) الأولى إضافة «أيضا» إليه ، لأنّ غرضه قدس‌سره أنّ المصرّح بكون مئونة الرّدّ على المشتري ليس هو العلّامة خاصّة ، بل المحقّق الكركي صرّح به أيضا. والأمر سهل. قال المحقق الثاني قدس‌سره : «فرع : على المشتري مئونة ردّ المبيع فاسدا إن كان له مئونة كالمغصوب ، ولا يرجع بالنفقة إلّا إذا كان جاهلا بالفساد ، إذ لا يعدّ متبرّعا بنفقته ، إذ لم ينفق إلّا بناء على أنّه ماله ، فإذا فات ذلك رجع كلّ إلى حقّه ، وجعل في التذكرة البائع غارّا» (٣).

(٣) يعني : وإطلاق وجوب الرّدّ ـ المنقول عن التذكرة ـ يقتضي إيجاب مقدّماته التي منها بذل المال سواء أكان قليلا أم كثيرا ، إلّا أن تكون كثرة مئونة الرّدّ ضررا

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٩٢.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٤٩٥.

(٣) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٤٣٥.


إلّا أن يقيّد (١) بغيرها (٢) بأدلّة نفي الضرر (*).

______________________________________________________

على المشتري ، فينفى وجوب بذل المال الكثير عنه. بل مقتضى حكومة قاعدة الضرر نفي وجوب بذل المال وإن كان يسيرا ، إلّا إذا كان بمثابة لا يصدق عليه الضرر.

(١) التعبير بالتقييد دون الحكومة ـ مع أنّ مبناه حكومة دليل نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأوليّة ـ مسامحة ، ولعلّه لأجل أنّ الحكومة قد تخصّص العامّ وتقيّد المطلق ، وقد تعمّم ، فالتعبير بالتقييد مبنيّ على ملاحظة نتيجة الجمع بين الدليلين.

(٢) أي : بغير المئونة الكثيرة ، وهذا الغير هو المئونة المتعارفة أو ما دونها.

__________________

(*) لم يظهر وجه لكون المئونة على القابض ، لأنّ الرّدّ لا يتوقف غالبا على بذل مال حتى يقال : إنّ الزائد على ما يقتضيه طبع الرّدّ من بذل المال على المالك ، بل تمامه يكون على المالك ، لقاعدة نفي الضرر. ولو كان الرّدّ بذاته وطبعه متوقّفا على مئونة لم تكن منفكّة عن مصاديقه ، هذا.

مضافا إلى : أنّ حرمة الإمساك لا تستلزم وجوب الرّدّ ، لعدم الملازمة بين حرمة الضدّ ووجوب ضدّه. وكذا وجوب نقيض الإمساك لا يدلّ على وجوب الرّدّ ، لما قرّر في الأصول.

مع أنّه على القول به ـ لرفع اليد عن المبنى الأصولي ـ يمكن القول بعدم وجوب الرّدّ أيضا ، لأنّه متقوّم برفع يد الدافع وإثبات يد القابض ، والرّفع مقدّم على الإثبات دائما ، فيتصف هو بالوجوب ، دون ما تأخّر عنه.

لكن فيه ما لا يخفى ، لأنّ الرّدّ ليس مركّبا من الرّفع والإثبات ، بل هو عبارة عن الإيصال إلى المالك ، والإثبات منتزع عنه. وأمّا مراد الشيخ الأعظم قدس‌سره من الاستدلال على وجوب الرّدّ بحرمة الإمساك فليس مبنيّا على اقتضاء حرمة الضّدّ لوجوب ضدّه ، بل على فهم العرف من مثل قوله : «يحرم عليك إمساك مال الناس» لزوم الرّدّ إلى المالك ، سيّما بملاحظة تعليل لزوم ردّ الأمانات إلى أهلها بأنّه «لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه».


.................................................................................................

__________________

إلّا أن يدّعى : عدم ملازمة وجوب ردّ الأمانات إلى أصحابها للإيصال إليهم ، وأنّ المراد رفع اليد والتخلية بينها وبين صاحبها. لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة.

وكيف كان لا يكون وجوب الرّدّ مبنيّا على اقتضاء حرمة الضّد لوجوب ضدّه ، فتدبّر.

ويمكن أن يستدلّ على وجوب الرّدّ بروايات متفرّقة في أبواب اللقطة والتجارة والجهاد والوديعة وغيرها ، فلاحظ.

ثمّ إنّ للسيد قدس‌سره تفصيلا ، وهو ما لفظه : «ثمّ على فرض كون الرّدّ واجبا وكون مئونته على القابض إنّما يتمّ فيما إذا كان هو الناقل له عن مكانه. وأمّا إذا كان في مكان القبض وقد انتقل البائع إلى بلد آخر فلا دليل على وجوب نقله إلى ذلك البلد وكون مئونته على القابض ، فتدبر» (١).

واختار المحقّق النائيني قدس‌سره هذا التفصيل بما حاصله : «أنّه يجب الرّدّ إذا نقل القابض المقبوض بالعقد الفاسد إلى بلد آخر مع كون المالك في بلد القبض. وأمّا إذا كان المقبوض في بلد القبض وانتقل المالك إلى مكان آخر لم يجب نقله إليه ، بل يردّه إلى وكيله أو الحاكم ، إذ لا دليل على لزوم الدفع إلى شخص المالك في هذه الصورة» (٢).

وهذا موافق لما فصّله السيّد ، إلّا أنّه لم يتعرض لوجوب ردّ المال في بلد القبض إلى وكيل المالك أو الحاكم ، وصرّح به الميرزا قدس‌سره.

وفيه : أنّ إطلاق دليل وجوب الرّدّ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد .. إلخ» بعد البناء على اعتباره ـ كما هو التحقيق على ما تقدّم ـ كاف في المطلوب ، لأنّ قضيّة إطلاق وجوب الرّدّ إلى المالك عدم الفرق بين كون المقبوض والمالك معا في بلد القبض وبين تفرّقهما ، بأن كان المقبوض في مكان القبض والمالك في بلد آخر ، أو كان المالك في مكان القبض والمال منقولا إلى محلّ آخر. ففي جميع الصور يجب ردّه الى المالك.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٥.

(٢) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٣٢.


ويدلّ عليه (١) : أنّ الإمساك آنا ما تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، فلا يجوز ، لقوله عجّل الله تعالى فرجه : «لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره

______________________________________________________

(١) أي : على وجوب الرّدّ فورا ، وهذا إشارة إلى دليل ثان على المدّعى. وحاصل الاستدلال بهذا التوقيع المبارك على فوريّة وجوب الرّدّ ـ بناء على كون الإمساك تصرّفا ـ أنّ الإمساك آنا ما مصداق للتصرّف المحرّم ، لقوله عليه‌السلام : «لا يجوز لأحد ..» فيجب التخلّص عن هذا الحرام بردّه فورا إلى مالكه.

__________________

نعم إذا استلزم الرّدّ الى المالك ضررا أو حرجا سقط أصل وجوب الرّدّ على فرض وجوده ، ويبقى وجوب تمكين المالك من ماله ورفع اليد عنه.

والحاصل : أنّ الواجب هو الرّدّ إلى المالك إن لم يكن فيه ضرر أو حرج. وأمّا الرّدّ في خصوص مكان القبض لخصوصيّة فيه من كثرة الرغبات ونحوها فلا وجه له ، إذ لا دليل عليه ، وإنّما الدليل دلّ على وجوب الرّدّ إلى المالك سواء أكان في بلد القبض أم لا.

وبالجملة : فالرّدّ واجب مطلقا وفي جميع الصور. إلّا إذا لزم منه الضرر أو الحرج ، فيرفع بقاعدتهما ، وإن كان المال في مكان القبض والمالك فيه أيضا. وإن لم يلزم منه أحد هذين المحذورين وجب الرّدّ إلى المالك وإن كان المالك في مكان ثالث ، أي : لا في محلّ القبض ولا في المكان الذي نقل إليه المال ، كما إذا كان محلّ القبض النجف الأشرف ، والمال نقل إلى كربلاء المقدّسة ، والمالك سافر إلى بغداد.

ولو كان وجه التفصيل لزوم الضرر من الرّدّ في غير مكان القبض فلا بدّ من التفصيل بنحو آخر ، وهو : أنّ الرّدّ إن استلزم الضرر ارتفع وجوبه سواء أكان الرّدّ في محلّ القبض أم غيره ، وسواء أكان المالك في ذلك المحلّ أم غيره. وإن لم يستلزم الضرر وجب الرّدّ من غير فرق فيه بين محلّ الرّدّ وغيره ، وكون المالك في مكان ثالث وغيره ، كما لا يخفى.


إلّا بإذنه» (١).

ولو نوقش (١) في كون الإمساك تصرّفا كفى عموم (٢) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ مال امرء مسلم لأخيه إلّا عن طيب نفسه» (٢) حيث يدلّ على تحريم جميع الأفعال المتعلّقة به ، التي منها كونه في يده.

______________________________________________________

(١) بأن يقال : إنّ «التصرّف» مأخوذ من الصّرف ، فيراد به التقليب والتقلّب ، وهما مفقودان في الإمساك ، فلا يصدق التصرّف على مجرّد الإمساك حتى يكون منهيّا عنه ، ويجب التخلص عنه بالرّد إلى المالك.

(٢) هذا إشارة إلى دليل ثالث على وجوب الرّدّ فورا إلى المالك ، وهو النبويّ الذي رواه زيد الشحّام عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حكاية خطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع ، وفيه : «قال : اللهم اشهد ، ألا من كان عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها ، فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه ..» الحديث.

ورواه صاحب الوسائل (٣) في مكان المصلّي بما يقرب منه ، ولكنّه ليس فيه لفظ «دم».

وكيف كان فتقريب دلالة الحديث على وجوب الرّدّ فورا : أنّ الحرمة المستفادة من «لا يحلّ» منسوبة إلى الذات ـ وهو المال ـ ولا بدّ من تقدير الفعل المناسب ، كما في إسناد الحرمة إلى سائر الأعيان من الخمر والدم والميتة ونحوها. وحيث إنّه لا قرينة تقتضي تقدير فعل خاصّ لزم تحريم جميع الأفعال والشؤون المتعلّقة بالمال ، التي منها إمساكه وجعله في يده ، فإنّ حذف المتعلق يدلّ على العموم.

وعليه فلا وجه لدعوى : «أن حرمة المال تكليفا تقتضي تقدير فعل مناسب

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٧٧ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٦ ، وفيه «فلا يحل» بدل «فلا يجوز».

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٣ ، الباب ١ من أبواب قصاص النفس ، الحديث ٣.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤٢٥ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلي ، الحديث ٣.


وأمّا توهّم أنّ هذا (١) بإذنه ، حيث إنّه دفعه باختياره (٢) فمندفع (٣) بأنّه إنّما ملّكه إيّاه عوضا (*)

______________________________________________________

له وهو التصرّف أو الانتفاع ، وأمّا مجرّد الإمساك فيشكّ في صدق التصرّف عليه ، فيكون التمسّك بهذا النبويّ من التشبّث بالدليل في الشبهة الموضوعيّة». إذ في هذه الدعوى : أنّ حذف المتعلّق يقتضي حرمة كلّ ما يتعلّق بالمال ، ولا وجه لاختصاص المتعلّق بالانتفاع والتصرّف حتى يشك في صدقهما على الإمساك.

خصوصا بملاحظة ورود هذه الجملة تعليلا لوجوب ردّ الأمانات ، فإنّ التعليل يصير نصّا في المورد ، فكيف يدّعى تقدير التصرّف أو الانتفاع؟ إذ لازمه أجنبيّة هذه الكبرى الكليّة عن المورد وهو ردّ الأمانة ، ومن المعلوم أنّ التخلّف عن ردّها إمّا بالتصرّف فيها وإمّا بمجرّد الإمساك ، وكلاهما منهيّ عنه. ومجرّد كون غالب فائدة الأموال التصرّف فيها والانتفاع بها لا يوجب اختصاص العموم ـ المدلول عليه بحذف المتعلّق ـ بهما.

وعليه فقرينيّة حذف المتعلّق على العموم باقية بحالها.

(١) أي : الإمساك ، حاصله : أنّه قد يتوهّم عدم حرمة الإمساك وإن كان تصرّفا ، حيث إنّ المالك قد أذن له بالإمساك حين دفع المبيع إليه ، فيكون الإمساك مأذونا فيه وجائزا.

لكن هذا التوهّم مندفع بأنّ المالك قد دفع المبيع إلى المشتري باعتقاد أنّه ملّكه بإزاء الثمن الذي دفعه المشتري إليه ، والمفروض عدم سلامة العوض له شرعا ، لفساد المعاوضة وبقاء العوضين على ملك مالكيهما.

(٢) الضمائر البارزة في «إذنه ، إنّه باختياره ، بأنه» والمستتر في «دفعه ، ملّكه» راجعة إلى المالك المفهوم من السياق ومن قوله : «امرء مسلم» والضميران البارزان فيهما راجعان إلى المال.

(٣) جواب «وأمّا توهّم» ودفع له ، وقد تقدّم توضيحه آنفا.

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا يختصّ بالمقبوض في العقود المعاوضيّة ، ومحلّ الكلام


فإذا انتفت (١) صفة العوضيّة باعتبار (٢) عدم سلامة العوض له شرعا ، والمفروض (٣) أنّ كونه على وجه الملكيّة المجّانيّة ممّا لم ينشئها المالك (٤).

______________________________________________________

(١) لم يظهر جواب لهذا الشرط في العبارة ، والتقدير «انتفى الاذن» ونحوه.

(٢) متعلّق ب «انتفت» وهذا وجه انتفاء صفة العوضيّة ، إذ بفساد العقد لا يسلم العوض للبائع ، فينتفي إذنه للمشتري بالتصرّف في المبيع.

(٣) غرضه قدس‌سره نفي الأسباب التي يجوز لقابض المال ـ كالمشتري ـ التصرّف فيه. فما أنشأه البائع ـ وهو التمليك بالعوض ـ لم يقع ، لفرض فساد البيع. والملكيّة المجّانية بعنوان الهبة لم ينشئها ، فلا معنى لأن يتصرّف هذا المشتري في المبيع بزعم كونه هبة بلا عوض. وكذلك لم ينشئ البائع عنوان الوديعة حتى يكون المال بيد المشتري أمانة مالكية.

ولو فرض إنشاء أحد هذين بعد العلم بفساد البيع كان خارجا عن محلّ البحث أعني به ترتّب قبض المبيع وإقباض الثمن على ذلك العقد الفاسد وفاء به ، واندرج في مورد التراضي الجديد.

(٤) حتى يكون الاذن في الإمساك باقيا مع فساد البيع.

__________________

أعمّ ، فالصواب في الجواب أن يقال : إنّ الإقباض في العقود التمليكيّة المعاوضيّة والمجّانيّة لمّا كان بعنوان الوفاء بالعقد ، وكون المقبوض ملكا للقابض لم يكن معنى لإذن الدافع ، لأنّه باعتقاده مملوك للقابض ، ولا محصّل لإذن الغير في تصرّف المالك في ماله ، لعدم تسلطه على ذلك.

وأمّا العقود الاستيمانية فالإذن فيها بالتسليط إنّما كان وفاء بمضمون العقد ، ومع فسادها ينتفي الاذن.

نعم قد يحرز طيب النفس بالتصرّف في العقود التمليكيّة المجّانيّة كالهبة الفاسدة ، فعلى فرض حصوله يجوز التصرّف ، لكن لا بدّ من إحرازه ، ولا يكفي احتماله. وعلى تقدير عدمه لا يجوز التصرّف فيه.


وكونه (١) مالا للمالك وأمانة في يده (٢) أيضا ممّا لم يؤذن فيه ، ولو أذن له فهو استيداع جديد (٣). كما أنّه لو ملّكه مجّانا كانت هبة جديدة. ولكنّ (٤) الذي يظهر من المبسوط (١) عدم الإثم في إمساكه (٥) ، وكذا السرائر ناسبا له إلى الأصحاب (٦).

______________________________________________________

(١) معطوف على «كونه» وغرضه سدّ باب احتمال أن يكون المبيع أمانة مالكيّة بيد المشتري.

(٢) حتى يندرج هذا البيع الفاسد في الأمانات المالكية ، ويجوز الإمساك من هذه الجهة ، كما يجوز إمساك ملك الغير في باب الوديعة والعارية ونحوهما.

والوجه في عدم اندراجه في الأمانات واضح ، لأنّ البائع أقدم على تمليك ماله بعوض ، لا على جعله أمانة عند غيره.

(٣) في قبال البيع الفاسد القديم ، والمفروض أنّ هذا الاستيداع المالكيّ لم يتحقّق ، واحتماله لا يكفي في صيرورته أمانة ، بل إذا شكّ فيه اقتضى الأصل عدمه.

(٤) هذا تصريح بما فهم من التقييد في أوّل هذا الأمر الثاني بقوله : «على تقدير عدم جواز التصرّف فيه» لظهوره في وجود قائل بجواز الإمساك أو بجواز التصرّف لو كان الإمساك تصرّفا.

(٥) قال شيخ الطائفة قدس‌سره في المقبوض بالبيع الفاسد : «ويجب عليه ردّه وردّ ما كان من نمائه المنفصل منه ، لأنّ ملك الأوّل لم يزل عنه ، فالتصرّف فيه لا يصحّ ، ويلزمه ردّه على البائع لأنّه ملكه. ولا إثم عليه ، لأنّه قبضه بإذن مالكه» وهذه الجملة الأخيرة ظاهرة في عدم فورية وجوب الرّدّ ، فيجوز للمشتري إمساك المبيع.

(٦) قال ابن إدريس قدس‌سره في المقبوض بالبيع الفاسد : «فهو عند أصحابنا بمنزلة الشي‌ء المغصوب ، إلّا في ارتفاع الإثم بإمساكه» (٢) بناء على أن يكون عدم الإثم في

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ١٤٩.

(٢) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٣٢٦.


وهو (١) ضعيف. والنسبة (٢) غير ثابتة. ولا يبعد إرادة صورة الجهل (٣) ، لأنّه لا يعاقب (٤) (*).

______________________________________________________

الإمساك معقدا لإجماع الأصحاب كإجماعهم على لحوق حكم المغصوب بالمبيع بالبيع الفاسد.

(١) أي : وهذا القول الثاني ـ وهو عدم الإثم الكاشف عن عدم الحرمة ـ ضعيف ، لما تقدّم من دلالة النبويّ على حرمة كلّ فعل يتعلّق بمال الغير بدون إذنه ، ولو لم يصدق التصرّف عليه.

(٢) يعني : ما نسبه ابن إدريس إلى الأصحاب من عدم الإثم في الإمساك غير ثابت ، لاحتمال رجوع الاتّفاق المدلول عليه بقوله : «عند أصحابنا» إلى المستثنى منه خاصّة ، بأن يراد : أنّ كون البيع الفاسد بمنزلة الغصب مجمع عليه من جميع الجهات إلّا جهة الإثم في إمساكه ، فإنّها مختلف فيها. وعليه لا يكون جواز الإمساك مجمعا عليه ، فلا مانع من القول بالحرمة عند مساعدة الدليل.

(٣) أي : صورة جهل القابض بفساد المعاملة.

(٤) ومن المعلوم أنّ عدم العقاب يكشف عن عدم الإثم ، وذلك يلائم حال جهل القابض بفساد المعاملة. ويمكن أن يكون عدم الإثم لتوهّم الإذن المالكيّ كما عليه جماعة. ولعلّ هذا الاحتمال أقرب من الحمل على صورة الجهل ، إذ غايته عدم تنجّز التكليف عليه لا عدم حرمته واقعا ، والمدّعى هو حرمة الإمساك واقعا سواء تنجّز على المشتري بإحراز الفساد أم لم يتنجّز عليه.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني. وسيأتي الكلام في ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد.

__________________

(*) قد ذكر السيد قدس‌سره في حاشيته في الرّدّ على المصنّف قدس‌سره ـ القائل بأنّ الإذن مقيّد بالملكية ، وهي غير حاصلة ـ بما حاصله : أنّ الاذن إنّما تكون بالملكيّة الإنشائيّة ،


.................................................................................................

__________________

والمفروض تحقّقها ، وأنّ البائع بنى ـ ولو تشريعا ـ على كون المشتري مالكا ، لا بالملكيّة الشرعيّة التي لم تحصل لفرض فسادها شرعا.

ثمّ أشكل على ذلك بقوله : «فإن قلت : لم يصدر من البائع إلّا التمليك ، وقد صار لغوا في حكم الشرع بالفرض ، فأين الاذن».

وأجاب عنه بما لفظه : «قلت : هذا التمليك له حيثيّتان ، فهو إذن من حيثية وتمليك من أخرى. ولمّا كان التمليك محتاجا شرعا إلى صيغة صحيحة والمفروض عدمها ، فهو غير مؤثّر من هذه الجهة ، لعدم حصول شرطه. وأمّا من الحيثيّة الأخرى فهي غير مشروطة شرعا ، فيجوز العمل به ، فإنّ الإذن مؤثّر في جواز التصرّف ، من غير اشتراط بصيغة خاصّة ، فيشمله عموم ما دلّ على جواز التصرّف مع الاذن وطيب النفس. وإذا جاز التصرّف فلا يجب الرّدّ إلى المالك فضلا عن كونه فوريّا. نعم لو رجع عن إذنه وطيبه وجب الرّدّ إليه فورا ، فتدبّر» (١).

وحاصله : أنّه لا مانع من تأثير التمليك من حيثيّة الاذن في جواز التصرّف ، وعدم تأثيره من حيثيّة أخرى ، فتأثير الاذن في جواز التصرّف لمّا لم يكن مشروطا بشرط حاصل ، لشمول ما دلّ على جواز التصرّف مع الاذن وطيب النفس له.

وفيه : أنّ جواز التصرّف في المقبوض بالعقد الفاسد منوط بأحد أمرين على سبيل منع الخلوّ : إمّا كون ذلك ملكا للقابض ، وإمّا إذن المالك في التصرّف فيه.

أمّا الأوّل فانتفاؤه معلوم بالفرض.

وأمّا الثاني فكذلك ، إذ لم يأذن فيه المالك أصلا. توضيحه : أنّ الأفعال تارة تتعلّق بالعناوين الكليّة كالأفعال الاعتبارية من بيع الكلّي من الحنطة والشعير وغيرهما ، وكالاذن وطيب النفس. وأخرى تتعلّق بالجزئيّات الخارجيّة كالأكل والشرب والنوم والضرب والقيام والقعود وأشباهها.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٥.


.................................................................................................

__________________

فإن كان الفعل متعلّقا بالشخص كان اعتقاد الفاعل بانطباق الكلّيّ عليه داعيا ، فإذا ضرب شخصا باعتقاد أنّه كافر ، فتبيّن أنّه مؤمن كان هذا من التخلّف في الداعي ، فإنّ الضرب وقع على المؤمن حقيقة ، والتخلّف إنّما هو في اعتقاد كفره.

وإن كان متعلّقا بالكلّي فلا يسري إلى غير مصداقه وإن اعتقد الفاعل بمصداقيّته له. مثلا إذا أذن المالك بدخول العلماء في داره لم يجز لغير العالم الدخول فيها وإن اعتقد المالك بعالميّته. ومن المعلوم أنّ متعلّق الاذن في قوله (عج) : «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» هو العنوان الكلّيّ ، وهو التصرّف في مال الغير بغير إذنه وبعنوان أنّه مال الآذن.

وبعبارة أخرى : إذا أحرز عنوان الاذن في التصرّف في ماله جاز التصرّف. وأمّا الاذن في التصرّف في مال غيره فلا معنى له. ومن الواضح أنّ إذن المالك لغيره في التصرّف في ماله بعنوان أنّه ماله مفقود في المقبوض بالعقد الفاسد ، ضرورة أنّ الدافع سلّم المال إلى القابض بعنوان أنّه ماله لا مال الدافع ، ولم يسلّمه إليه بعنوان العارية ونحوها. وحيث إنّ القابض لم يصر مالكا للمقبوض ولا مأذونا من قبل مالكه في التصرّف فيه لم يجز له التصرّف فيه ، لبقائه في المستثنى منه. وهو : «لا يجوز لأحد أن يتصرّف .. إلخ».

والحاصل : أنّ جواز التصرّف للقابض منوط بإحراز إذن المالك للقابض بالتصرّف في المقبوض بما أنّه ملك للدافع ، لا بما أنّه ملك للقابض ، إذ لا معنى لإذن غير المالك بتصرف المالك في ماله ، فما أفاده الشيخ قدس‌سره من عدم جواز تصرف القابض هو الأقوى.


الثالث (١) : لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل الرّدّ (٢) كان

______________________________________________________

ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد

أ : المنفعة المستوفاة

(١) البحث في هذا الأمر عن حكم آخر من أحكام المقبوض بالعقد الفاسد لو كان له منفعة ، وهو ضمانها ، والكلام في مقامين أحدهما في المنافع المستوفاة ، والآخر في المنافع الفائتة. فإذا اشترى دارا صالحة للسكنى فيها ببيع فاسد ، وتسلّمها من البائع فهل يضمن اجرة مثل السكنى فيها كما يضمن قيمة الدار أم لا؟ وهكذا الكلام في سائر الأعيان ذوات النماء والمنفعة لو بيعت بعقد باطل شرعا.

وقدّم قدس‌سره الكلام في المنافع المستوفاة ، وحكم بضمانها وفاقا للمشهور وخلافا لابن حمزة الطوسي كما سيأتي.

(٢) هذا من القيود المحقّقة لموضوع ضمان المنافع نظير قولهم : «ان رزقت ولدا فاختنه» في سوقه لبيان موضوع الحكم ، ولذا يكون مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع. وكذا في المقام لوضوح أنّ منافع المبيع بعد ردّه إلى المالك غير مضمونة على المشتري


عليه عوضها (١) على المشهور (٢). بل ظاهر ما تقدّم من السرائر (٣) ـ من كونه بمنزلة المغصوب ـ الاتّفاق على الحكم (٤).

ويدلّ عليه (٥) عموم قوله : «لا يحلّ مال امرء مسلم لأخيه إلّا عن طيب

______________________________________________________

إلّا بالاستيلاء على العين مرة ثانية عدوانا ، فيصير أجنبيا عن حكم المقبوض بالعقد الفاسد ومندرجا في الغصب.

(١) كما إذا اشترى شاة فانتفع بلبنها وصوفها وسائر نماءاتها ، فيجب عليه ردّ عوضها. ولا يخفى أنّ التعبير بالعوض ـ كما في المتن ـ أولى من التعبير بالأجرة الظاهرة في بدل عمل محترم أو منفعة عين كركوب الدابة. وأمّا المنافع الأخرى التي هي أعيان أيضا كثمرة الشجرة المبيعة بالبيع الفاسد ولبن الشاة كذلك ونحوهما فالأولى التعبير عن بدلها بالعوض دون الأجرة.

(٢) كما في مفتاح الكرامة (١).

(٣) تقدّم كلام السرائر في الأمر الثاني ، فراجع (ص ٢٠٩) (٢) وغرض المصنّف الإضراب والعدول عن مجرّد شهرة ضمان عوض المنفعة المستوفاة إلى كون الحكم إجماعيّا ، لاتّحاد المقبوض بالبيع الفاسد مع الغصب في الأحكام ما عدا الإثم في الإمساك.

(٤) وسيجي‌ء في عبارة التذكرة تصريحه باتفاق علمائنا على ضمان المنافع المستوفاة وغيرها (٣).

(٥) أي : يدلّ على ضمان المنافع المستوفاة عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ»

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ٧٤٨.

(٢) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٣٢٦.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١.


نفسه» بناء (١) على صدق «المال» على المنفعة ،

______________________________________________________

وتقريب الاستدلال يتمّ ببيان أمرين :

الأوّل : أنّ المنافع أموال حقيقة ، سواء أكانت أعيانا تابعة لأعيان اخرى كالثمرة للشجرة ، أم أعراضا وحيثيّات قائمة بالأعيان كالسكنى في الدار والأعمال المحترمة كالخياطة ، لما تقدّم في أوّل كتاب البيع من أنّ مناط ماليّة الأشياء هي رغبة العقلاء فيها وتنافسهم عليها ، ولا ريب في عدم اختصاص رغبتهم بالأعيان المتموّلة ، بل تعمّ المنافع أيضا. ويشهد لماليّة المنافع حكمهم في مسألتين :

إحداهما : جواز جعلها ثمنا في باب البيع ، مع أنّ حقيقته المبادلة بين مالين ، ولو لم تكن المنفعة مالا لما صحّ جعلها عوضا عن المبيع ، بل يتعيّن كون كلا العوضين من الأعيان على ما ذهب إليه الوحيد البهبهاني قدس‌سره وبعض آخر.

ثانيتهما : جواز جعلها صداقا في باب النكاح ، مع وضوح اعتبار ماليّته.

الثاني : أن الحلّ المضاف إلى المال ظاهر في التكليف كما في نظائره. وهذا أجنبيّ عن المدّعى ، وهو ضمان المنافع المستوفاة في المبيع بالعقد الفاسد ، ولذا ينبغي تقريب الاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل مال ..» بأن يقال : إنّ حلّ المال المتلف عبارة عن عدم تعلّقه بذمّة المتلف وعدم كونه مطالبا بالأداء ، ومقتضى عدم حلّه استقراره على عهدة المتلف له. وهذا هو ضمان ما استوفاه المشتري من المنافع ، فإنّ وزان الاستيفاء في المنافع وزان الإتلاف في الأعيان في كونه مضمّنا.

وبهذا التقريب جاز التمسّك بالنبويّ المذكور لضمان توابع المغصوب من ولد الشاة واللبن والصوف ونحوها من التوابع التي هي من الأعيان التي يصدق عليها المال إذا تلفت ، فإنّ مناط الضمان في الجميع صدق التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، والمفروض ماليّة المنافع بأقسامها ، هذا.

(١) مبنى هذا البناء هو ظاهر كلام الفيروزآبادي في القاموس من تعريف المال


ولذا (١) يجعل ثمنا في البيع وصداقا في النكاح (*).

______________________________________________________

بما يختص بالأعيان ، وكذا العلّامة الطريحي في المجمع (١). لكنّه مزيّف ولم يعتمد عليه المصنّف في أوّل البيع ، حيث قال : «وأمّا العوض فلا إشكال في جواز كونها منفعة». وقال أيضا : «إنّ الصلح قد يتعلق بالمال عينا أو منفعة ..» (٢). وكذلك رجّح ماليّة المنفعة بالاستشهاد بجواز وقوعه ثمنا في البيع وصداقا في النكاح ، ولو لم تكن مالا تعيّن كون الثمن والصداق من الأعيان.

(١) أي : ولأجل كون المنفعة مالا يجعل ثمنا وصداقا.

__________________

(*) في كلا الشاهدين منع. أمّا في الأوّل فلعدم اعتبار كون الثمن مالا بعد صدق البيع العرفي على تبديل العين بمنفعة أو حقّ ، كصدقه على تبديلها بعين. وكذا الحال في الصداق.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على ضمان المنافع بوجوه أخر :

منها : قاعدة اليد ، بالتقريب الذي تقدّم في ما يتعلق بمباحث اليد (ص ٤٠).

إلّا أن يستشكل فيه بأنّ الأخذ وإن لم يكن مختصّا بالأعيان الخارجية ، لصحة إضافة الأخذ إلى العلم والبيعة والعهود والمواثيق ، فيراد باليد هنا الاستيلاء الصادق على أخذ المنافع ، إلّا أنّ ذيله يمنع عن الأخذ بظهور الصدر ، حيث إنّه لا يعقل ردّ المأخوذ بعينه في المنافع المتصرّمة الوجود ، إذ لا تضمن قبل وجودها في الخارج ، وبعد وجودها تنعدم ، فيمتنع أداؤها إلى المالك.

والمستفاد من النبويّ اعتبار إمكان أداء المأخوذ ذاتا وإن صار ممتنعا بالعرض حتى ينتقل إلى البدل ، خصوصا على النسخة المشتملة على قوله : «حتى تؤديه» لكونه كالصريح في ردّ نفس المأخوذ.

__________________

(١) القاموس المحيط ، ج ٤ ، ص ٥٢ ؛ مجمع البحرين ، ج ٥ ، ص ٤٧٥.

(٢) راجع هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٥٩ و ٢٣٧.


.................................................................................................

__________________

ومنها : قاعدة الإتلاف ، وهي من القواعد العقلائيّة التي لم يردع عنها الشارع ، بل أمضاها في موارد كثيرة. مثل ما ورد في شهادة الزور ، كصحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن كان الشي‌ء قائما بعينه ردّ على صاحبه ، وإن لم يكن قائما بعينه ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» (١) ونحوه غير من روايات الباب.

ومثل ما ورد في تلف الرّهن بتفريط المرتهن ، كموثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يرهن الرّهن بمائة درهم ، وهو يساوي ثلاثمائة درهم ، فيهلك ، أعلى الرّجل أن يردّ على صاحبه مأتي درهم؟ قال : نعم ، لأنّه أخذ رهنا فيه فضل وضيّعه ..» (٢) الحديث.

ونحوها سائر روايات الباب ، فإنّ التعليل يدلّ على ضمان كلّ من ضيّع مال الغير ، إذ لا خصوصيّة عرفا للرّهن ، بل موضوع الضمان هو تضييع مال الغير وإن لم يكن رهنا. وهذا هو قاعدة الإتلاف.

ثمّ إنّ المراد بالإتلاف على ما يستفاد من النصوص التي تستند إليها قاعدته ما يعمّ الأكل والشرب والتضييع والإفساد ، فلو لم يصدق مادّة الإتلاف ـ وهي التلف ـ في مورد ولكن صدق التضييع والإفساد كفى في جريان قاعدة الإتلاف.

فما في حاشية المحقق الايرواني قدس‌سره : من «أنّ المتبادر من إتلاف المال إخراجه عن المالية بتضييعه ، لا إتلافه في سبيل الانتفاع به كأكل المأكول وشرب المشروب» (٣). لا يخلو من غموض ، لما عرفت من أنّ المستفاد من الروايات ما يعمّ ذلك. ولا دليل على ما أفاده.

مضافا إلى : أنّ الأكل والشرب مصلحة للآكل والشارب ، وإتلاف حقيقة لمال

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٢٣٩ ، الباب ١١ من كتاب الشهادات ، الحديث ٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من كتاب الرّهن ، الحديث ٢.

(٣) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٦.


.................................................................................................

__________________

المالك ، فلم لا تشمله القاعدة.

فالمتحصّل : أنّ الاستدلال بقاعدة الإتلاف لضمان المنافع المستوفاة ـ بعد صدق المال على المنافع عرفا كما هو كذلك وعدم العبرة بما يظهر من بعض اللغويّين من اختصاص المال بالعين ذات المنفعة ، لتقدّم العرف العامّ عليه ـ في محلّه. فالاعدام والإفساد والتضييع كلّها موضوع لقاعدة الإتلاف. ففي معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سئل عن القصّار يفسد؟ فقال : كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» (١).

وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام رفع إليه رجل استأجر رجلا ليصلح بابه ، فضرب المسمار فانصدع الباب ، فضمّنه أمير المؤمنين عليه‌السلام» (٢).

وأبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل كان له غلام ، فاستأجره منه صائغ أو غيره. قال : إن كان ضيّع شيئا أو أبق منه فمواليه ضامنون» (٣).

ومنها : قاعدة الاحترام المستفادة من موثّقة أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه» (٤) بتقريب : أنّ إتلاف ماله يوجب الضمان ، ولا يذهب هدرا ، كما أنّ دمه لا يذهب هدرا. ومن الواضح شموله للمنافع المستوفاة كشموله للأعيان ، لكون المنافع ممّا يصدق عليه المال.

والمناقشة فيه «بأنّ الظاهر من حرمة المال بقرينة سائر الجمل المذكورة في الرواية هو الحكم التكليفي ، فإنّ سبّ المؤمن وأكل لحمه بمعنى اغتيابه حرام تكليفي

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧١ ، الباب ٢٩ من أبواب الإجارة ، الحديث ١.

(٢) المصدر ، ص ٢٧٤ ، الحديث ١٠.

(٣) المصدر ، ص ٢٥١ ، الباب ١١ من أبواب الإجارة ، الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦١٠ ، الباب ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.


.................................................................................................

__________________

فقط. ووحدة السياق تقتضي كون حرمة المال أيضا تكليفيّة محضة ، فلا يستفاد الحكم الوضعي وهو الضمان من هذه الرواية» (١).

مندفعة أوّلا : بأنّه لا موجب للحكم الوضعيّ في سائر الجمل ، لأنّ الفسوق والكفر والمعصية كالصريح في الحرمة التكليفيّة ، ولذا عبّر بغير هذه التعبيرات في المال ، فلا مانع من حرمة المال تكليفا ووضعا. وهذا بخلاف النهي عن السباب والغيبة والقتل الظاهر في التكليف خاصة.

وثانيا : بأنّ تشبيه حرمة المال بحرمة الدم ظاهر في الضمان ، وأنّ ماله كدمه لا يذهب هدرا. فحمل هذه الجملة ـ كسائر الجمل ـ على الحكم التكليفي فقط أو جعلها مجملة كما في بعض الكلمات (٢) ليس كما ينبغي.

نعم يمكن المناقشة في قاعدة الاحترام بأخصّيّتها من المدّعي الذي هو ضمان المنافع سواء أكان المقبوض مالا لمسلم أم غيره. وروايات القاعدة تتضمّن حرمة مال المسلم ، وهذه الإضافة ظاهرة في كونها حيثيّة تقييديّة ، فمال المسلم من حيث إضافته إلى المسلم محترم ، فالاحترام إنّما هو لهذه الحيثيّة ، لا لحيثيّة المال ليكون الاحترام مترتبا على المال من حيث كونه مالا حتى يكون دليلا على ضمان منافع المبيع فاسدا المستوفاة.

اللهم إلّا أن يتشبث بعدم الفصل في حرمة المال بين المسلم ومن بحكمه كالذّميّ.

ومنها : الروايات الدالّة على عدم حلّيّة مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه ، وعلى حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه (٣). بعد ما عرفت من صدق المال على المنافع ، ولذا تقع ثمنا في البيع وصداقا في النكاح. وقد تقدّم ذلك.

ومنها : ما ورد في جملة من الروايات من : «أنّه لا يصلح ذهاب حق أحد» كحسن الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦١٠ ، الباب ١٥٨ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٣.

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٩١.

(٣) ذكرنا مصادرها في ص ١٢٤ فراجع.


.................................................................................................

__________________

على غير أهل ملّتهم؟ قال : نعم ، إذا لم يجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم ، انّه لا يصلح ذهاب حق أحد» (١).

والاستدلال بها منوط بصدق الحقّ على المال ، وبكون عدم صلوح ذهابه كناية عن ضمانه ، وإلّا فلا وجه للاستدلال بها على الضمان كما قيل. ومورد بعض هذه الروايات الوصية ، ومقتضاها أنّ للمسلم أن يوصي بماله ، وهذا حقّ له ، ولا يصلح ذهاب حقّه. وهذا المعنى أجنبيّ عمّا نحن فيه.

مضافا إلى ما قيل من : أنها لا تشمل صورة التلف ، فالدليل أخصّ من المدّعى.

إلّا أن يقال : إنّه إذا كان الحق لازم الرعاية ، مع أنّه ليس مالا ، وإضافته إلى من له الحق أضعف من إضافة المال إلى مالكه ، فرعاية المال أولى.

أو يقال : إنّ حقّ أحد إذا ثبت على ذمّة غيره فلا يصح ذهابه بغير عوض ، وهذا يدلّ على الضمان.

وأمّا ورود الروايات في باب الوصيّة فلا يمنع عن الاستدلال بها على الضمان ، لإباء التعليل بعدم صلوح ذهاب حق أحد عن الاختصاص بباب الوصيّة ، وبملّة دون أخرى. إلّا إذا قام دليل على التخصيص وعدم حرمة المال ، كما ورد في الحربي.

ومنها : قاعدة نفي الضرر في الشريعة المقدسة المستفادة من عدّة روايات.

تقريب الاستدلال بها : أنّ الحكم بعدم ضمان القابض لمنافع المال بالعقد الفاسد ضرر على المالك ، فينفى بالقاعدة.

ونوقش فيه بأنّها لا تدلّ على الضمان سواء أريد بها نفي الحكم الضرري أوّلا كما هو مقتضى النفي البسيط وعليه المصنّف. أم أريد بها النفي المركّب أعني نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما عليه صاحب الكفاية وبعض المحققين.

وجه عدم الدلالة : اختصاص أدلّة نفي الضرر برفع الأحكام الوجوديّة الضرريّة كوجوب الوضوء ولزوم البيع. وأمّا إذا كان الضرر ناشئا من عدم جعل حكم كالضمان.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٩٠ ، الباب ٢٠ من كتاب الوصايا ، الحديث ٣.


.................................................................................................

__________________

في المقام ، فقاعدة نفي الضرر لا تنفيه ليثبت الجعل الشرعي كالضمان.

ولكن يمكن دفع هذه المناقشة بأنّ العدم تارة يراد به العدم الواقعي كعدم الوجوب وعدم الحرمة. وأخرى يراد به إنشاء عدمهما ، كأن يقول الشارع «لا يجب أو لا يحرم».

فإن أريد بالعدم المعنى الأوّل لم يرتفع بقاعدة الضرر ، لعدم كونه حكما حتى يرفعه دليل نفي الضرر.

وإن أريد به المعنى الثاني كان مجعولا مشمولا لقاعدة نفي الضرر ، والأعدام بعد تشريع الأحكام تكون مجعولة ولو بالإمضاء ، لأنّ إبقاء الشارع لها مع تشريع الأحكام جعل لها بقاء ، لا إخبار ببقاء الأعدام الواقعية على حالها كما تخيّله بعض. وهذا المقدار من الجعل كاف في نفيها بقاعدة الضرر ، لأنّ إمضاء تلك الأعدام ـ ولو بمثل أصالة عدم الضمان ـ من الإسلام أيضا ، فيشمله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» أو «في الدين». فعدم ضمان المنافع المستوفاة حكم ضرريّ ينفى بقاعدة الضرر.

والحاصل : أنّ إبقاء عدم ضمانها حكم ضرريّ ينفى بقاعدته.

هذا بناء على كون مفاد قاعدة نفي الضرر نفي نفس الحكم الضرري كما عليه المصنّف قدس‌سره.

وأمّا بناء على كون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فالأمر أوضح ، لأنّه يقال : إنّ استيفاء المنافع مجّانا ضرريّ ، أو تفويت منافع العين المملوكة للغير بإمساك العين ضرريّ ، فيرتفع حكمه أعني عدم الضمان ويثبت الضمان.

لا يقال : إنّ المقام يكون من تعارض الضررين ، لأنّ اشتغال ذمّة القابض ضرر أيضا كتضرّر الدافع.

فإنّه يقال : إنّ الضرر ـ وهو النقص ـ لا يرد على الدافع ، لأنّه يدفع بدل المنفعة التي استوفاها ، لا أنّه يتضرّر حتى يندرج في تعارض الضررين ، فإنّ دفع عوض المال الذي دخل في كيسه ليس نقصا في المال ، بل دفع لمال الغير ، كأداء الثمن.

ومنها : قاعدة الاستيفاء ، فإنّ استيفاء مال الغير من دون إذن المالك في استيفائه مجّانا موجب للضمان إجماعا ، وعليه السيرة العقلائيّة التي لم يردع عنها الشارع.

وهذه الوجوه لو نوقش في بعضها ففي البعض الآخر منها كفاية.


خلافا للوسيلة (١) ، فنفى الضمان ، محتجّا بأنّ «الخراج بالضمان» كما في النبويّ المرسل (٢). وتفسيره (٣) : أنّ من ضمن شيئا وتقبّله لنفسه فخراجه له. فالباء

______________________________________________________

(١) قال ابن حمزة قدس‌سره : «فإذا باع أحد بيعا فاسدا وانتفع به المبتاع ، ولم يعلما بفساده ، ثم عرفا ، واستردّ البائع المبيع ، لم يكن له استرداد ثمن ما انتفع به ، أو استرداد الولد إن حملت الأمّ عنده وولدت ، لأنّه لو تلف لكان من ماله ، والخراج بالضمان» (١).

وصريح كلامه قدس‌سره اختصاص عدم ضمان المنافع المستوفاة في المبيع بالعقد الفاسد بصورة جهلهما بالفساد ، مع أنّ عنوان البحث في المتن شامل لصورة علمهما أو علم أحدهما بالفساد.

وكيف كان فيكفي للتعرّض لكلام ابن حمزة قوله بعدم الضمان موجبة جزئيّة وهي صورة الجهل بالبطلان. ومحصّل استظهاره من الحديث النبويّ هو : أنّ من أقدم على ضمان شي‌ء وتقبّله لنفسه بتضمين المالك فالخراج ـ أي : ما يخرج من ذلك الشي‌ء من الفوائد والمنافع ـ له مطلقا ، سواء أمضى الشارع هذا الضمان أم لا. ومن المعلوم أنّ المشتري في المقام أقدم على ضمان المبيع بتضمين البائع إيّاه على أن يكون خراجه له مجّانا ، فضمان المبيع عليه ومنافعه له ، حتى على تقدير فساد المعاملة.

(٢) قال ابن أبي جمهور الأحسائيّ «وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قضى بأنّ الخراج بالضمان» ثم قال : «ومعناه : أنّ العبد مثلا يشتريه المشتري ، فيغتله حينا ، ثم يظهر على عيب به ، فيردّ بالعيب أنّه لا يردّ ما صار إليه من غلّة وهو الخراج ، لأنّه كان ضامنا له ولو مات» (٢).

(٣) هذا التفسير إلى قوله : «والفائدة بإزاء الغرامة» استظهار المصنّف من كلام ابن حمزة قدس‌سرهما ، وتوجيه استدلاله بالحديث.

__________________

(١) الوسيلة (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٧٤٤ ، السطر ٣٣.

(٢) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢١٩ ، الحديث ٨٩.


للسببيّة (١) أو المقابلة (٢) (*). فالمشتري (٣) لمّا أقدم على ضمان المبيع وتقبّله (٤) على نفسه بتقبيل البائع وتضمينه إيّاه على (٥) أن يكون الخراج له مجّانا كان (٦) اللازم

______________________________________________________

(١) لأنّ ضمان المبيع سبب لملكيّة المنافع. وجه تسمية «الباء» بالسببيّة أنّها تدخل على الأسباب ، كقوله تعالى (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(٢) «باء» المقابلة هي التي تدخل على الأعواض ، مثل «اشتريته بألف ، وكافيت إحسانه بضعف» ففي المقام إذا ثبت الخراج كان ضمان العين عوضا عنه ، فتدبّر.

(٣) قد عرفت في توضيح ما استدلّ به شيخ الطائفة على قاعدة «ما لا يضمن» من قاعدة الإقدام : أنّ كل واحد من البائع والمشتري أقدم على الضمان المعاوضيّ ، فالبائع يضمّن المشتري المبيع ، ويجعله على عهدته ويتقبّله المشتري ، ويضمّن البائع الثمن ويتقبّله هو. وبعد هذا الاقدام لو كان نماء للمبيع كان ملكا للمشتري في قبال ضمانه للمبيع.

(٤) أي : تقبّل المشتري المبيع على نفسه وضمنه ـ بعد تمليك البائع وتضمينه ـ مبنيّا على أن تكون منفعته للمشتري مجّانا ، فلو استوفاها لم يلزمه عوضها.

(٥) يعني : أنّ الشرط الارتكازيّ المبنيّ عليه البيع هو كون النماء للمشتري سواء صحّ البيع أم فسد.

(٦) جواب الشرط في قوله : «لمّا أقدم».

__________________

(*) قد يقال : إنّ «الباء» كما يحتمل أن تكون للسببيّة ، يحتمل أن تكون للمقابلة ، فيكون الكلام مجملا ، والاستدلال بالحديث على عدم الضمان مبنيّ على السببيّة ، فلا يصحّ.

لكنّه مندفع بأنّ الأصل في الباء السببية ، بل يمكن إرجاع المقابلة ـ بنحو من العناية ـ إلى السببيّة أيضا.


من ذلك (١) أنّ خراجه له على تقدير الفساد (٢). كما أنّ الضمان عليه (٣) على هذا التقدير أيضا.

والحاصل (٤) : أنّ ضمان العين لا يجتمع (٥) مع ضمان الخراج. ومرجعه (٦) إلى أنّ الغنيمة والفائدة بإزاء الغرامة.

وهذا المعنى (٧) مستنبط من أخبار كثيرة متفرّقة ، مثل قوله ـ في مقام الاستشهاد على كون منفعة المبيع في زمان الخيار للمشتري ـ : «ألا ترى أنّها

______________________________________________________

(١) أي : من الاقدام على ضمان المبيع على أن يكون خراج المبيع له مجّانا.

(٢) كما أنّ الخراج للمشتري مجّانا على تقدير الصحة ، لوحدة الدليل وهو الاقدام على تضمين العين بشرط مجّانيّة المنفعة.

(٣) أي : كما أنّ ضمان العين يكون على المشتري على تقدير فساد العقد ـ ولو ببدله الواقعيّ لا الجعليّ ـ إذ ليس مدار ضمان العين على صحّة البيع شرعا ، بل على جعل المتعاملين وإقدامهما ، وهو موجود في كلتا صورتي إمضاء الشارع وعدمه.

(٤) يعني : حاصل تفسير ابن حمزة للحديث النبويّ هو عدم اجتماع ضمان العين والمنفعة في باب البيع.

(٥) إذ المفروض كون ضمان العين سببا لملكيّة المنافع للضامن ، فلا يجتمع الضمانان ـ أي : ضمان العين والمنافع ـ على ضامن العين ، كالمشتري ، فلا بدّ أن يكون ضامنا للعين فقط ، لأنّ ضمان العين عوض المنافع.

(٦) أي : ومرجع عدم اجتماع ضمان العين مع ضمان الخراج هو : أنّ الغنيمة تكون بإزاء غرامة العين وبدلا لها.

(٧) أي : كون ضمان العين سببا لملك الخراج ، بحيث يكون ضامن العين مالكا لمنافعها ـ المعبّر عنها بالخراج ـ ليترتّب عليه عدم ضمان المنافع التي استوفاها من المقبوض بالعقد الفاسد.


.................................................................................................

______________________________________________________

وغرض المصنّف قدس‌سره من هذا بعد نقل تفسير الحديث على رأي ابن حمزة قدس‌سره هو تأييد هذه المقالة بما ورد في غير واحد من الأخبار ، مثل ما دلّ على أنّ منفعة الدار المبيعة ببيع خياريّ تكون ملكا للمشتري في الزمان المتخلّل بين البيع والأخذ بالخيار.

ففي موثّقة إسحاق بن عمار ، قال : «حدّثني من سمع أبا عبد الله عليه‌السلام وسأله رجل وأنا عنده ، فقال : رجل مسلم احتاج الى بيع داره ، فجاء إلى أخيه ، فقال له :

أبيعك داري هذه ، وتكون لك أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك ، على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليّ؟ فقال : لا بأس بهذا ، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه ، قلت : فإنّها كانت فيها غلّة كثيرة فأخذ الغلّة ، لمن تكون الغلة؟ فقال : الغلّة للمشتري ، ألا ترى أنّها لو احترقت لكانت من ماله» (١).

وفي رواية معاوية بن ميسرة : «قال : سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل باع دارا له من رجل ، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر ، فشرط أنّك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك ، فأتاه بماله ، قال :

له شرطه. قال له أبو الجارود : فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين ، قال : هو ماله. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أرأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري» (٢).

وتقريب دلالتهما على مدّعى ابن حمزة قدس‌سره هو : أنّ الامام عليه‌السلام حكم بدخول منافع الدار ـ في مدّة الخيار ـ في ملك المشتري المستوفي لها ، ولا يكون ضامنا لعوضها للبائع بعد فسخ العقد. والوجه في عدم ضمانها هو ضمانه لنفس المبيع وبذل الثمن بإزائه ، وهذا المطلب هو مفاد حديث «الخراج بالضمان».

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٥٥ ، الباب ٨ من أبواب الخيار ، الحديث ١ ، والمراد بالحاصر هو الجدار.

(٢) المصدر ، الحديث ٣.


لو أحرقت كانت من مال المشتري» (*).

ونحوه في الرهن (١) وغيره (٢).

______________________________________________________

(١) كموثق إسحاق بن عمّار ، قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : الرّجل يرهن الغلام والدار فتصيبه الآفة ، على من يكون؟ قال عليه‌السلام : على مولاه ، ثم قال : أرأيت لو قتل قتيلا على من يكون؟ قلت : هو في عنق العبد. قال عليه‌السلام : ألا ترى فلم يذهب مال هذا ، ثم قال : أرأيت لو كان ثمنه مائة دينار فزاد وبلغ مأتي دينار لمن كان يكون؟ قلت : لمولاه ، قال عليه‌السلام : كذلك يكون عليه ما يكون له» (١).

(٢) لعلّ مراده قدس‌سره ما ورد في باب الإجارة من أنّه يجوز لمن استأجر أرضا أن يؤجرها بأكثر ممّا استأجرها بشرط أن تكون الأجرة الثانية مغايرة للأجرة الاولى في الجنس ، أو أن يحدث في الأرض ما يقابل التفاوت بأن يحفر فيها نهرا ونحو ذلك. فيقال في تقريب دلالتها على مدّعى ابن حمزة : إنّ المستأجر الأوّل لمّا ضمن الأجرة للمالك أو للسلطان أو لمن بيده أمر الأرض كانت الفائدة الحاصلة بالإجارة الثانية عائدة له ، لا لمالك الأرض.

__________________

(*) الظاهر عدم ارتباطهما بهذا المعنى أي كون ضامن العين مالكا لخراجها لأجل ضمان العين. بل هي في مقام بيان كون العين في مدة الخيار ملكا للمشتري ، وأنّ ملكيّة المنفعة لقاعدة تبعيّتها في الملكيّة للعين.

وبعبارة أخرى : قاعدة تبعية المنافع للعين في الملكيّة سارية في جميع موارد ملكيّة العين مطلقا وإن لم يكن ضمان للعين بإزاء مال كالمجّانيّات من الهبة ونحوها ، فإنّ ملكيّة العين مطلقا تقتضي ملكيّة المنفعة.

فليس المقصود سببيّة ضمان العين لملك المنفعة وخراجها. ولا قاعدة «من له الغنم فعليه الغرم» فالأخبار المشار إليها أجنبيّة عن مدّعى ابن حمزة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٦ ، الباب ٥ من أبواب الرهن ، الحديث ٦.


وفيه (١) : أنّ هذا الضمان ليس هو ما أقدم عليه المتبايعان حتى يكون

______________________________________________________

ففي معتبرة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرّجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى ، ثم آجرها ، وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، وله في الأرض بعد ذلك فضل ، أيصلح له ذلك؟ قال : نعم إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك فله ذلك» الحديث (١).

هذا ما يتعلّق بالجهة الثانية وهي تأييد مقالة ابن حمزة الطوسي أعلى الله مقامه.

(١) هذا شروع في الجهة الثالثة مما يتعلّق بكلام ابن حمزة ، وهو المناقشة فيه ، والمذكور في المتن وجوه ثلاثة من الإيراد ، أفاد أوّلها المصنف ، ثم تعرّض للوجهين الآخرين وردّهما.

أمّا مناقشة المصنف في كلام ابن حمزة فتوضيحها : أنّه قد تقدم (في ص ١١٦) الإيراد على استدلال شيخ الطائفة بالإقدام على الضمان في البيع الفاسد بما محصّله : أنّ ما أقدما عليه من العوض المسمّى لم يسلم لهما ، ولم يقدما على البدل الواقعي حتى يضمناه. وكذلك يقال في المقام ، حيث إنّ ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ضمان قهريّ شرعيّ ، وليس ضمانا اختياريّا للمتبايعين حتى يستلزم ملكيّة المنافع لضامن العين. والمفروض أنّ الضمان الموجب لملكيّة المنافع هو الضمان المعاوضيّ الذي أقدم عليه المتعاقدان وأمضاه الشارع.

وبالجملة : الضمان المستلزم لملكيّة الخراج هو الضمان المقيّد بقيد الاقدام والإمضاء ، دون الضمان القهريّ الذي يكون من باب الغرامة المعبّر عنها بالضمان الواقعيّ ، والمفروض أنّ الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد ليس من الضمان المعاوضيّ الاختياريّ الذي أقدم عليه المتعاقدان وأمضاه الشارع ، بل من الضمان القهريّ الذي لا يوجب ملكيّة المنافع.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٣ ، ص ٢٦١ ، الباب ٢١ من أحكام الإجارة ، الحديث ٣.


الخراج بإزائه (١) ، وإنّما هو أمر قهريّ حكم به الشارع كما حكم (٢) بضمان المقبوض بالسّوم والمغصوب. فالمراد بالضمان (٣) الذي بإزائه الخراج التزام (٤) الشي‌ء على نفسه وتقبّله له مع إمضاء الشارع له (*).

وربّما ينتقض ما ذكرنا (٥) في معنى الرواية بالعارية المضمونة ،

______________________________________________________

(١) بمقتضى «الخراج بالضمان» وجه عدم الاقدام على ضمان المبيع فاسدا هو : أنّه مضمون بالبدل الواقعيّ مع أنّ المقدم عليه ضمان جعليّ.

(٢) بإطلاق «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

(٣) يعني : في حديث : «الخراج بالضمان» وغرضه قدس‌سره ـ بعد أن نفى كون ضمان المقبوض بالعقد الفاسد من الضمان المعاوضيّ الاختياريّ الممضى شرعا ـ أنّ المراد بالضمان الموجب لملكية المنافع هو معناه المصدريّ أي التزام الشي‌ء على نفسه وتقبّله له ، مع إمضاء الشارع له. والضمان بهذا المعنى مفقود في المقبوض بالعقد الفاسد ، فلا يكون ضمان العين فيه موجبا لملكيّة المنافع حتى لا يضمنها.

(٤) خبر قوله : «فالمراد».

(٥) من كون الضمان في الحديث هو الضمان الاختياريّ الممضى شرعا الذي نبّه عليه بقوله : «فالمراد بالضمان الذي بإزائه الخراج ..» دون الضمان القهري الجاري في المقبوض بالبيع الفاسد.

وتوضيح النقض الوارد على إرادة الضمان الاقداميّ الاختياريّ هو : أنّ المستعير إذا أقدم على ضمان العارية ـ بأن شرطه المعير عليه ـ وأمضاه الشارع لم يوجب هذا الإقدام مالكيّة المستعير لمنافعها ، لما تقرّر عندهم من أنّه لا يملك منافع العارية ، وإنّما يملك الانتفاع الذي عيّنه المالك له. وبهذا يشكل جعل مدلول الحديث

__________________

(١) لكنه لا قرينة عليه ، فيحتمل أن يراد به اسم المصدر ، يعني كونه في العهدة ، كما يحتمل إرادة معان أخر منه سيأتي بيانها.


حيث إنّه (١) أقدم على ضمانها ، مع أنّ خراجها ليس له (*) لعدم تملّكه للمنفعة ، وإنّما تملّك الانتفاع الذي عيّنه المالك (٢) ، فتأمّل (٣).

______________________________________________________

مخصوصا بالضمان الاقداميّ الممضى شرعا ، فإنّ الشارع الممضى للعارية المضمونة لم يحكم بمالكيّة المستعير لخراجها.

(١) أي : أنّ المستعير أقدم على ضمان العين ولم يتملّك الخراج.

(٢) كما في الشرائع ، حيث قال : «ويقع بكل لفظ يشتمل على الاذن في الانتفاع» وقال أيضا : «ولا يجوز إعارة العين المستعارة إلّا بإذن المالك ، ولا إجارتها ، لأنّ المنافع ليست مملوكة للمستعير وإن كان استيفاؤها» (١).

(٣) لعلّه إشارة إلى كفاية جواز استيفاء الخراج ـ بلا ضمان له مع ضمان العين ـ في صدق «الخراج بالضمان» إذ حاصل المعنى حينئذ : أنّ ضمان العين رافع لضمان المنافع ، سواء صارت ملكا لضامن العين أم لا.

أو إلى : فقدان تملّك الانتفاع في العارية أيضا ، بل تباح المنافع له بإذن مالك العين ، فكأنّ معناه : أنّ ضمان العين يمنع عن ضمان المنافع وإن لم تصر مملوكة لضمان العين ، فلا ينتقض ـ إرادة الضمان الاختياريّ ـ بالعارية.

أو إلى : أنّ معنى «الخراج بالضمان» هو كون الخراج في مقابل ضمان العين بعنوان كونها ملكه في حال الانتفاع بالعين ، ومن المعلوم أنّ العارية المضمونة ليست كذلك ، لأنّها لم تضمن بعنوان كون العين ملكا للمستعير ، فلا نقض.

__________________

(*) المعروف في العارية أنّها إباحة الانتفاع بمنافع ملك الغير مجّانا مع بقاء المنفعة على ملك مالك العين ، نظير إباحة الطعام للضيف ونثار الأعراس. قال في التذكرة : «ليس للمستعير أن يعير». وقال في وجهه : «إنّه غير مالك للمنفعة ، ولهذا

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧١ و ١٧٣.


والحاصل (١) : أنّ دلالة الرواية لا تقصر عن سندها في الوهن ، فلا يترك

______________________________________________________

(١) هذا ملخّص ما أورد به المصنف على ابن حمزة قدس‌سرهما النافي لضمان المنافع المستوفاة مستدلّا بالحديث النبويّ. ومحصّل الكلام : أنّ الحديث موهون سندا ودلالة. أمّا سندا فلأنّه مرويّ بطرقنا مرسلا ، ولا عبرة بالمراسيل ما لم تنجبر بعمل المشهور ، وقد عرفت إعراض المشهور عن المدلول الذي استظهره ابن حمزة ، بل ادّعى الإجماع على ضمان المنافع المستوفاة. وهذا الحديث وإن روي مسندا بطرق العامّة لكنّه مرميّ بضعف بعض رجاله كما سيأتي في التعليقة.

وأمّا دلالة فلأنّ محتملات الحديث كثيرة ، ولا معيّن لما استظهره ابن حمزة منه ، ويكفي في ردّه ما أفاده المصنف من اختصاصه بموارد الاقدام المضمّن الممضى شرعا.

وعليه فلا معارض لما يدلّ من القواعد الجارية في ضمان مطلق الأموال

__________________

لا يجوز أن يؤجر» (١).

ويحتمل ـ كما قيل : ـ أن تكون العارية تمليك المنفعة مجّانا ، كالهبة التي هي تمليك العين مجّانا ، كما أنّ الإجارة تمليك المنفعة بعوض ، في مقابل البيع الذي هو تمليك العين بعوض. ففي التذكرة في مقام الاستدلال على مشروعيّة العارية ما لفظه : «أما الإجماع فلا خلاف بين علماء الأمصار في جميع الأعصار في جوازها والترغيب فيها. ولأنّه لمّا جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع ، ولذلك صحّت الوصيّة بالأعيان والمنافع جميعا» (٢) وهو صريح في كون العارية من هبة المنافع.

لا يقال : إنّه على هذا يجوز للمستعير إجارة العين المستعارة ، مع أنّ من المسلّم عدم جوازها.

فإنّه يقال : إنّ عدم جواز إجارتها إنّما هو لأجل شرط انتفاع المستعير بنفسه ، ولو شرطا ضمنيّا مبنيّا عليه عقد العارية.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٢٠٩ ، السطر ١٤.

(٢) المصدر ، السطر ٢٧.


لأجلها قاعدة ضمان مال المسلم واحترامه وعدم حلّه (١) إلّا عن طيب النفس.

وربّما يردّ هذا القول (٢)

______________________________________________________

ـ سواء أكانت أعيانا أم منافع ـ كقاعدة الاحترام.

(١) هذا عطف تفسير للاحترام ، وليس دليلا آخر على ضمان مال المسلم.

(٢) أي : قول ابن حمزة قدس‌سره بعدم ضمان المنافع المستوفاة ، ويستفاد هذا الرّدّ من العلّامة وغيره حيث استدلّوا على ضمان منافع المبيع فاسدا بالروايات المتقدّمة في الأمر الأوّل ـ وهو ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ـ المتضمنة لحكم الامام عليه‌السلام بضمان منافع الأمة المسروقة. قال السيد العاملي قدس‌سره في بيع الفضولي : «إذا لم يجز المالك رجع في عين ماله ونمائه متصلا أو منفصلا ، وعوض منافعه المستوفاة وغيرها .. وفي رواياتهم ما يدل عليه ..» (١). وقال في موضع آخر : «ويرجع به ـ بالمبيع فاسدا ـ وبزوائده متّصلة كالسمن ومنفصلة كالولد ، وبمنافعه المستوفاة وغيرها كما في المبسوط وغيره ، والمخالف ابن حمزة» (٢).

وحاصل الرّدّ : أنّ الجارية المسروقة كما تكون بنفسها مضمونة على المشتري الجاهل بالحال. كذلك تكون منافعها من الولد والخدمة واللبن مضمونة عليه. ولو كان ضمان العين ـ في البيع الفاسد ـ موجبا لحلّيّة المنافع للمشتري لم يكن وجه لحكم الشارع بضمان نماءاتها.

وعليه فضمان المنافع مناف لما استظهره ابن حمزة من حديث «الخراج بالضمان» فلا بدّ من حمله ـ بعد فرض اعتباره سندا ـ على البيع الصحيح كما صنعه العلّامة (٣) قدس‌سره ، هذا تقريب الرّدّ على ابن حمزة ، وستأتي خدشة المصنف فيه.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٩٨.

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٩.

(٣) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣١٩.


بما ورد (١) في شراء الجارية المسروقة : من ضمان قيمة الولد (٢) وعوض اللبن ، بل عوض كلّ ما انتفع.

وفيه (٣) : أنّ الكلام في البيع الفاسد الحاصل بين مالكي العوضين (٤) من

______________________________________________________

(١) كخبر زرارة ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل اشترى جارية من سوق المسلمين ، فخرج بها إلى أرضه ، فولدت منه أولادا ، ثم أتاها من يزعم أنّها له ، وأقام على ذلك البيّنة. قال : يقبض ولده ، ويدفع إليه الجارية ، ويعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها» (١).

(٢) لا يخفى أنّ ضمان قيمة الولد واللبن وسائر المنافع لم يرد في رواية واحدة ، بل تضمّنتها نصوص متفرقة ، ففي صحيحة جميل «ويدفع إليه المبتاع ـ وهو المشتري ـ قيمة الولد» وفي رواية زرارة المتقدّمة ضمان عوض اللبن والخدمة ، وفي خبر آخر ضمان كل ما انتفع ، فمقصود الرّادّ على ابن حمزة ورود ضمان هذه في الأخبار المتفرّقة.

(٣) هذه مناقشة المصنّف قدس‌سره في التمسك بهذه الروايات لردّ ابن حمزة. وحاصل المناقشة : أنّ مورد الأخبار المتقدّمة أجنبيّ عن مسألة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، وعدمه ، لأنّ الكلام بين ابن حمزة وبين المشهور إنّما هو في المقبوض بالعقد الفاسد ، من غير جهة الغصب ، كما يدلّ عليه قوله في ذيل عبارته في الوسيلة : «فإن غصب إنسان أو سرق مال غيره .. الى قوله : وإن لم يكن عارفا كان له الرجوع عليه بالثمن وبما غرم للمالك» حيث إنّه يدلّ على غرامته للمالك غير الثمن من عوض المنافع ، ولا وجه له إلّا ضمانها للمالك.

(٤) وهذا أجنبيّ عن أخبار ضمان منافع الجارية المسروقة ، إذ ليس بائعها مالكها ، بل هو غاصب ، ولا ملازمة في الضمان بين منافع المغصوب المبيع ، وبين منافع

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٤ ونحوه الحديث ٢.


جهة (١) أنّ مالك العين جعل خراجها له (٢) بإزاء ضمانها بالثمن ، لا (٣) ما كان فساده من جهة التصرّف في مال الغير (*).

______________________________________________________

المبيع فاسدا لاختلال شرط صحّته.

(١) متعلّق ب «الكلام» يعني : أنّ وجه البحث في مسألة ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد هو : أنّ البائع أقدم على جعل منافع المبيع ملكا للمشتري في قبال الثمن ، فإمضاء هذا الاقدام وعدم إمضائه غير مرتبط بضمان نماء الجارية المسروقة التي يكون ضمانها من جهة الغصب.

(٢) أي : للمشتري ، في قبال الثمن الذي يدفعه إلى البائع.

(٣) معطوف على «جهة» يعني : ليس كلامنا في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد شاملا لمطلق موارد الفساد حتى من ناحية مغصوبيّة العوضين أو أحدهما ، حتى نستدلّ على ضمان المنافع بنصوص الجارية المسروقة ، بل محلّ الكلام فساد العقد من غير ناحية الغصب ، بأن كان العوضان مملوكين.

__________________

(*) قد يشكل هذا الجواب بمنافاته لما تقدّم منه من الاستدلال بفحوى أخبار ضمان منفعة الجارية المسروقة على ضمان نفس الجارية لو تلفت بيد المشتري.

وجه المنافاة : أنّ الاستدلال بالفحوى منوط باتّحاد المقبوض بالعقد الفاسد والمغصوب حكما ، سواء أكان منشأ فساد العقد اختلال شرط الصيغة أو العوضين أو المتعاملين ، كما أنّ إطلاق عنوان المسألة شامل لجميع مناشئ الفساد. ومن المعلوم أنّ ما أفاده هنا من قوله : «لا ما كان فساده من جهة التصرّف في مال الغير» يقتضي اختصاص مدلول هذه الأخبار بما كان منشأ بطلان العقد عدم تملّك العوضين خاصّة ، ومعه كيف يتّجه الاستدلال بفحواها على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد مطلقا؟ وجعلها في عداد حديث اليد وغيره ممّا يدل على ضمان المبيع بالبيع الفاسد؟


وأضعف من ذلك (١) ردّه بصحيحة أبي ولّاد المتضمنة لضمان منفعة

______________________________________________________

(١) المشار إليه هو ردّ قول ابن حمزة بنصوص ضمان منافع الجارية المسروقة. وهذا إشارة إلى وجه آخر لردّ مقالة ابن حمزة قدس‌سره. وتوضيحه : أنّه ورد في صحيحة أبي ولّاد الحناط السؤال عن اكتراء بغل من الكوفة إلى مسافة معيّنة ـ وهي قصر بني هبيرة ـ لاستيفاء دين من غريم ، فلمّا خرج من الكوفة ووصل إلى قنطرتها أخبر بخروج الغريم إلى مكان آخر ، وهو النيل ، فتابعه أبو ولّاد إلى أن ظفر به ببغداد ، وفرغ ممّا بينه وبينه ، ورجع إلى الكوفة ، وقد طال سفره من مبدئه إلى منتهاه خمسة عشر يوما ، وهي أزيد بكثير من المدّة المتعارفة للسير من الكوفة إلى قصر بني هبيرة والرجوع منه إلى الكوفة. فأراد أبو ولّاد التحلّل من المكاري ببذل اجرة أخرى زائدة على الأجرة المعيّنة أوّلا ، فلم يرض بها صاحب البغل ، فتراضيا بالترافع إلى قاضي الجور ، فحكم ببراءة ذمّة أبي ولّاد من الأجرة الزائدة ، مستدلّا بحديث الخراج بالضمان ، فاسترجع صاحب البغل من هذا القضاء الجائر.

إلى أن تشرّف أبو ولّاد للحجّ وزار الامام الهمام أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين ، وقصّ عليه قصّته ، فقال عليه‌السلام : «في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركاتها» وحكم على أبي ولّاد بضمانه لاجرة البغل في جميع المدّة التي خرج به من الكوفة حتى عوده إليها ، لأنّه استوفى منفعته بإجارة فاسدة ، لإخلاله بالشرط ، فصار البغل مغصوبا ، فيضمنه كما يضمن ما استوفى من منافعه.

وعليه تكون هذه الصحيحة ردّا على ابن حمزة القائل بأنّ ضمان العين لا يجتمع مع ضمان منافعها ، هذا.

وناقش المصنّف قدس‌سره في هذا الرّدّ مقتصرا على قوله : «وأضعف منه ذلك» وجه الأضعفيّة : أنّه ليس في الغصب ـ الذي هو مورد صحيحة أبي ولّاد ـ عقد فاسد ، بخلاف ما قبلها ، فإنّ فيه عقدا بين المشتري وغير المالك ، ومن المعلوم أنّ الغصب


المغصوب المستوفاة (١) ، ردّا على أبي حنيفة القائل بأنّه إذا تحقّق ضمان العين ـ ولو بالغصب ـ سقط كراها ، كما يظهر (٢) من تلك الصحيحة.

نعم (٣) لو كان القول المذكور موافقا لقول أبي حنيفة في إطلاق (٤) القول بأنّ الخراج بالضمان انتهضت الصحيحة وما قبلها (٥) ردّا عليه.

هذا كله في المنفعة المستوفاة.

______________________________________________________

أجنبيّ عن العقد الفاسد الذي هو مورد كلام ابن حمزة ، إذ الغصب خال عن العقد.

(١) صفة للمنفعة ، والمراد بالمنفعة المستوفاة في هذه الصحيحة هو الركوب على الدابّة والسّير بها.

(٢) يعني : كما يظهر قول أبي حنيفة ـ بسقوط ضمان الأجرة بسبب ضمان العين ـ من تلك الصحيحة ، وسيأتي متن صحيحة أبي ولّاد إن شاء الله تعالى في (ص ٤٨٢ إلى ٤٨٨).

(٣) استدراك على عدم كون الصحيحة ردّا على ابن حمزة ، وحاصله : أنّ الصحيحة تنهض للردّ على ابن حمزة إذا كان قائلا بإطلاق «الخراج بالضمان» بحيث يشمل الغصب كما يقول به أبو حنيفة. وأمّا إذا لم يقل بذلك ، وكان قائلا باختصاص «الخراج بالضمان» بالعقود المعاوضيّة وعدم شموله للغصب لم تنهض الصحيحة للرّدّ عليه.

(٤) المقصود من إطلاق «الخراج بالضمان» أنّ كلّ مورد تحقّق فيه ضمان العين كان منفعته مجّانا وبلا عوض ، سواء أكان بالعقد الصحيح كما يقول به أصحابنا ـ عدا ابن حمزة ـ أم أعمّ منه ومن العقد الفاسد كما هو رأي ابن حمزة ، أم أعمّ منهما ومن الأعيان المغصوبة كما يقول به أبو حنيفة ، لعدم تضمينه أبا ولّاد عوض انتفاعه بالبغل الذي صار مغصوبا بيده من قنطرة الكوفة إلى النيل ، ثمّ إلى بغداد ، ثمّ إلى الكوفة.

(٥) وهو نصوص الجارية المسروقة ، فإنّها أيضا صالحة لردّ مقالة أبي حنيفة ، لما تقدم من صراحتها في ضمان اللبن والخدمة وسائر منافعها. فكما تكون نفس الجارية مضمونة فكذا نماؤها ، وهذا معارض بالتباين لما استفاده أبو حنيفة من


.................................................................................................

______________________________________________________

حديث «الخراج بالضمان» (*).

هذا ما يتعلّق بتوضيح المتن في ردّ استدلال ابن حمزة بالحديث النبويّ ، وبقيت مباحث أخرى تأتي في التعليقة إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) وربّما ينتقض قاعدة «الخراج بالضمان» بالمنافع التي تملك بالإرث تبعا للأعيان ، أو بالأصالة ، حيث إنّها ليست بسبب ضمان العين وتعهّدها ببذل مال بإزائها.

وفيه : أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان» ليس في مقام حصر سببيّة ضمان الأعيان لملكيّة المنافع ، بل في مقام نفي الضمان عن المنافع فيما إذا حصل تعهّد ببذل عوض بإزاء العين. فكأنّه قيل : كلّ من ضمن عينا ملك منافعها ، وهو لا يدلّ على تسبّب ملكيّة المنافع عن ملكيّة العين على وجه الحصر ، فيمكن أن تكون ملكية المنافع بسبب آخر.

وهذا نظير أن يقال : «البيع سبب للنقل والانتقال» وهو لا ينافي سببيّة الصلح والهبة مثلا لهما ، ولا ينفي سببيّة غير الضمان لملكيّة المنافع ، لأنّ «الخراج بالضمان» قضية لقبيّة لا مفهوم لها ، فلا تدلّ على الحصر أصلا.

ثمّ إنّه لا بأس بعطف عنان البحث إلى النبويّ «الخراج بالضمان» سندا ودلالة ، فنقول وبه نستعين وبوليّه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين وعجّل فرجه الشريف نتوسّل ونستجير : ينبغي البحث في مقامين ، أحدهما : في السند ، والآخر في الدلالة.

أمّا المقام الأوّل فمحصّله : أنّه لم يرو هذا الحديث في جوامعنا الروائيّة ، وإنّما روي مرسلا في بعض الكتب الفقهية كالخلاف والمبسوط والوسيلة والسرائر وغيرها ، فالاعتماد عليه منوط بإحراز عمل المشهور به.


.................................................................................................

__________________

نعم روي بسندين في كتب العامّة ، واختلفوا في صحّة كلا الطريقين ، وروايتهم له تارة بعنوان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان» أو «قضى بالخراج الضمان» وأخرى مع ذكر السبب. فعن السيوطي : «القاعدة الحادية عشر ، قال : الخراج بالضمان حديث صحيح أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حيّان من حديث عائشة. وفي بعض طرقه ذكر السبب ، وهو : أنّ رجلا ابتاع عبدا فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ، ثمّ وجد به عيبا ، فخاصمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فردّه عليه ، فقال الرجل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد استعمل غلامي ، فقال : الخراج بالضمان» (١).

والسند الأوّل هو ما عن سنن ابن ماجة «بالإسناد عن مسلم بن خالد الزنجي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : إن رجلا اشترى عبدا .. إلخ». والسند الثاني : «مخلّد بن خفاف عن هشام بن عروة عن أبيه .. إلخ».

واختلفوا في صحّة الطريقين ، فعن تاج العروس نقل تصحيح جماعة. وعن ابن حزم : «لا يصح حديث الخراج بالضمان ، لانفراد مخلّد بن خفاف ومسلم بن خالد الزنجي به» وعن الزبيدي : «ضعّف البخاري حديث مخلّد بن خفاف».

وأمّا السند الآخر فعن الحاكم تصحيحه ، إلّا أنه حكي عن الذهبي : «اختلاف كلام ابن معين فيه ، فتارة يقول : لا بأس به. وأخرى : إنّه ثقة. وثالثة : إنّه ضعيف. وعند السّاجي : كثير الغلط ، ويرمى بالقدر».

فالمتحصّل من كلماتهم بعد التتبّع فيها : أنّ هذا الحديث ليس ممّا اتفق الكلّ على صحّته ، بل اعتباره عند العامّة مورد الخلاف. هذا ما يرجع إلى سنده الذي لا يحصل

__________________

(١) الأشباه والنظائر ، ص ١٢١ ، نقلا عن هامش تقريرات السيد المحقق الخويي ، محاضرات في الفقه الجعفري ، ج ٢ ، ص ١٧١ و ١٧٢.


.................................................................................................

__________________

الوثوق بصدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا من ناحية عملهم به فالعاملون به كثيرون من المذاهب الأربعة ، إلّا أنّه لمّا لم يكن جدوى في وثوقهم به عندنا ، فالأولى الاقتصار على ذكر من عمل به من فقهائنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم. وإن شئت الوقوف على أقول العامة وعملهم بالحديث فراجع ما تتبّعه العلّامة السيد المقرم في تعليقه على تقريرات السيد الخويي قدس‌سرهما (١).

وأمّا الإمامية أعلى الله كلمتهم فقد أسنده شيخ الطائفة قدس‌سره إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلاف والمبسوط.

فقال في الخلاف : «إذا اشترى جارية حاملا ، فولدت في ملك المشتري عبدا مملوكا ، ثم وجد بالأمّ عيبا ، فإنّه يردّ الامّ دون الولد ، وللشافعي فيه قولان : أحدهما : مثل ما قلناه ، والثاني : له أن يردّهما معا ، لأنّه لا يجوز أن يفرّق بين الأمّ والولد فيما دون سبع سنين. والأوّل أصحّ عندهم. دليلنا : عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخراج بالضمان» (٢).

وقال في المبسوط : «فصل في أنّ الخراج بالضمان : إذا كان لرجل مال فيه عيب فأراد بيعه وجب عليه أن يبيّن للمشتري عيبه ، ولا يكتمه ، أو يتبرّء إليه من العيوب. والأوّل أحوط. فإن لم يبيّنه واشتراه إنسان فوجد به عيبا كان المشتري بالخيار إن شاء رضي ، وإن شاء ردّه بالعيب واسترجع الثمن. فإن اختار فسخ البيع وردّ المبيع نظر ، فإن لم يكن حصل من جهة المبيع نماء ردّه واسترجع ثمنه ، وإن كان قد حصل نماء وفائدة فلا يخلو من أن يكون كسبا من جهته أو نتاجا وثمرة. فإن كان كسبا مثل أن يكتسب بعمله

__________________

(١) محاضرات في الفقه الجعفري ، ج ٢ ، ص ١٦٩ الى ١٧٤.

(٢) الخلاف ، ج ٣ ، ص ١٠٨ ، المسألة : ١٧٦ من كتاب البيع.


.................................................................................................

__________________

أو تجارته أو يوهب له أو يصطاد شيئا أو يحتطب أو يحتش ، فإنّه يردّ المعيب ولا يردّ الكسب بلا خلاف ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان. فالخراج اسم للغلّة والفائدة التي تحصل من جهة المبيع» إلى أن قال : «وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخراج بالضمان معناه : أنّ الخراج أن يكون المال يتلف من ملكه ، ولمّا كان المبيع يتلف من ملك المشتري ، لأنّ الضمان انتقل إليه بالقبض كان الخراج له» (١).

واستند قدس‌سره الى هذا الحديث في بيع المصرّاة ، فقال : «ولا يردّ اللبن الحادث ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى أنّ الخراج بالضمان» (٢).

وقال في السرائر في عدم ضمان العين المرهونة : «ويحتجّ على المخالف بقوله عليه‌السلام : الخراج بالضمان ، وخراجه إذا كان للراهن بلا خلاف ، وجب أن يكون من ضمانه» (٣).

وقال العلّامة في المختلف ـ بعد نقل كلام ابن حمزة في الوسيلة ـ ما لفظه : «والمعتمد أنّ النماء للبائع ، لأنّ الملك باق عليه ، والنماء يتبع الملك. وقوله عليه‌السلام :

الخراج بالضمان محمول على الصحيح ، وإلّا لكان الغاصب مالكا للمنافع ، لدخول الأصل تحت ضمانه» (٤).

وظاهر العبارتين اعتمادها على الحديث. ولو كان في سنده غمز لكان المناسب التخلّف منه بطرحه كلّيّة ، لا بحمله على العقد الصحيح.

نعم يحتمل في كلام ابن إدريس إيراده احتجاجا على المخالفين لا استنادا ، وإن

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ١٢٦.

(٢) المصدر ، ص ١٢٥.

(٣) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٢٠.

(٤) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣١٩.


.................................................................................................

__________________

أمكن التخلّص عن هذا الاحتمال بمخالفته للظاهر ، ولو كان الغرض الاحتجاج عليه بما هو مسلّم عندهم كان الأولى أن يقول : «ويحتج على المخالف بما يرويه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» مع أنّه قدس‌سره أسنده إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد تقدم نظيره في حديث «على اليد».

نعم يشكل تعليل العلّامة : «وإلّا لكان الغاصب مالكا للمنافع ..» بعدم صلاحيّة هذا الوجه لأن يكون منشأ لحمل «الخراج بالضمان» على خصوص الصحيح ، ضرورة قابليّة عمومه للتخصيص بأدلّة الغصب كصحيحة أبي ولّاد.

وقال في الجواهر : «المشهور نقلا وتحصيلا ـ بل في ظاهر التذكرة الإجماع ـ على أنّ المبيع يملكه المشتري في زمن الخيار بالعقد» إلى أن قال : «وقيل به وبانقضاء مدة الخيار» واستدلّ عليه بأمور ، إلى أن قال : «والنبويّ الخراج بالضمان الذي معناه أنّ الربح في مقابلة الخسران ، فإنّ الخراج اسم للفائدة الحاصلة في المبيع ، والمراد أنّها للمشتري ، كما أنّ الضرر الحاصل بالتلف عليه ، فهو دالّ على المطلوب ، وإن كان مورد الحديث خيار العيب» (١).

أقول : الغرض ممّا ذكرناه من سند الحديث وعمل الفقهاء به من العامّة ـ كما حكي ـ وبعض الخاصّة هو : أنّه هل يوجب ذلك السند والعمل وثوقا بصدور الحديث حتى يصحّ الركون إليه والاعتماد عليه أم لا؟ فإن حصل ذلك وصلت النوبة إلى البحث عن معنى الحديث.

وقد حكي عن شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سره : «انّا تتبعنا غاية التتبّع فلم نجدها في كتب الإمامية رضوان الله تعالى عليهم صحاحها وغير صحاحها ، بل وجدناه في كتب العامّة بطرق متعدّدة في موارد عديدة». ولعلّ غرضه قدس‌سره عدم الظفر به مسندا في جوامعنا

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٣ ، ص ٧٨.


.................................................................................................

__________________

الروائيّة ، وإلّا فقد عرفت روايته مرسلا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل نسبه شيخ الطائفة إلى النبيّ جازما ، ولم يقل : «وروي عنه». هذا بعض الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني وهو الدلالة فلنذكر كلام بعض اللغويّين في معنى الخراج والضمان ، ثمّ ما يحتمل في مفاد الحديث.

أمّا الخراج ففي مفردات الراغب : «والخراج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض ، وقيل : العبد يؤدّي خرجه أي غلّته ، والرّعيّة تؤدّي إلى الأمير الخراج» (١).

وقال ابن منظور : «وقال الزجّاج : والخراج اسم لما يخرج ، والخراج غلّة العبد والأمة ، والخرج والخراج الاتاوة ، تؤخذ من أموال الناس» ثم قال : «وأما الخراج الذي وظّفه عمر على السواد وأرض الفي‌ء ، فإنّ معناه الغلّة أيضا .. ولذلك يسمّى خراجا يؤدونها كل سنة .. وقيل للجزية التي ضربت على رقاب أهل الذمة : خراج ، لأنّه كالغلّة الواجبة عليهم. ابن الأعرابي : الخرج على الرؤوس ، والخراج على الأرضين» (٢).

وقال العلّامة الطريحي قدس‌سره : «الخرج والخراج ـ بفتح المعجمة فيهما ـ ما يحصل من غلّة الأرض. وقيل : يقع اسم الخراج على الضريبة والفي‌ء والجزية والغلّة ، ومنه خراج العراقين» (٣).

وقال ابن الأثير : «الخراج بالضمان يريد ما يحصل من غلّة العين المبتاعة عبدا كان أو أمة أو ملكا. وذلك أن يشتريه فيستغلّه زمانا» إلى أن قال : «ويكون للمشتري ما استغلّه ، لأنّ المبيع لو تلف في يده لكان من ضمانه ، ولم يكن على البائع شي‌ء. والباء في (بالضمان) متعلّقة بمحذوف ، تقديره : الخراج مستحقّ بسبب الضمان» (٤).

__________________

(١) مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، ص ١٤٥.

(٢) لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٢٥١ و ٢٥٢.

(٣) مجمع البحرين ، ج ٢ ، ص ٢٩٤.

(٤) النهاية ، ج ١ ، ص ٣٢١.


.................................................................................................

__________________

هذا ما يتعلّق بمعنى كلمة الخراج.

وأمّا الضمان فهو التكفّل بالشي‌ء. قال في المجمع : «وضمنت الشي‌ء ضمانا كفلت به ، فأنا ضامن وضمين ، وضمنت المال التزمته» (١) ونحوه ما في الصحاح والمصباح (٢).

وهذا المعنى ما يساعده العرف العام ، فإنّ الضمان العرفي هو كون مال الغير في العهدة ، سواء أكان سببه اختياريّا كقبول شرط ضمان العين المستأجرة أو عارية غير الذهب والفضة ، أم قهريّا كإتلاف مال الغير غفلة أو في حال النوم.

وأمّا ضمان الشخص لمال نفسه فلا معنى له ، وليس ذلك معنى لغويّا ولا عرفيّا للضّمان ، فإنّ البيع ليس إلّا المبادلة بين المالين ، ولا يخطر الضمان فيه أصلا ، فلا يصح أن يقال : إنّ المنافع غير مضمونة على المشتري ، لأنّه ضمن العين ، وضمانها يوجب أن تكون منافعها للضامن.

بل يقال : إنّ المنافع ـ تبعا للعين ـ مملوكة للمشتري ، فلا يضمنها ، إذ لا معنى لضمان الشخص مال نفسه ، وجعل ماله في عهدته.

بل يقال : إنّ المنافع غير مضمونة عليه ، لعدم ضمانه لها من جهة كونها ماله ، فاستوفى مال نفسه ، ولا معنى لضمان مال نفسه.

ففي مورد الحديث يقال : منفعة العبد المستوفاة غير مضمونة على المشتري في الزمان المتخلّل بين عقد البيع وبين ردّ العبد لأجل العيب على البائع. وجه عدم الضمان : أنّ الخراج كمنفعة العبد غير مضمون على المشتري ، لأنّ المشتري لم يجعلها في عهدته.

__________________

(١) مجمع البحرين ، ج ٦ ، ص ٢٧٥.

(٢) صحاح اللغة ، ج ٦ ، ص ٢١٥٥ ؛ المصباح المنير ، ص ٣٦٤.


.................................................................................................

__________________

وكذا لم يجعلها الشارع في عهدته. والمفروض أنّ ثبوت الخراج على العهدة منوط بصيرورة الخراج في العهدة ، وبدون صيرورته في العهدة لا ضمان على من استوفى الخراج.

ففي مورد الحديث يقال : إنّ المشتري لا يضمن منافع المبيع المعيب ما لم يردّ المبيع على البائع أخذا بخيار العيب. وجه عدم ضمانها : أنّ المشتري لم يجعلها في عهدته ، لأنّه استوفاها بعنوان كونها مملوكة له بتبعية مملوكية أصل المبيع له. وقاعدة التبعيّة تقتضي كون المنافع كنفس العين ملكا لمالك العين ، ولا معنى لضمان شخص لمال نفسه كما هو الظاهر.

فكأنّه قيل : الخراج كائن على عهدة من استخرجه بسبب ثبوت عهدته عليه. وفي مورد الحديث ليس الخراج ـ أي المنفعة ـ على المشتري ، لأنّه لا بدّ أن تكون عهدة المنفعة على المشتري إذا ضمن وتعهّد ، والمفروض عدم تعهّده لبدل المنفعة ، فلا ضمان عليه. هذا ما خطر ببالي في معنى هذا الحديث ، وليكن هذا أحد المعاني المحتملة فيه ، وسيأتي بيانه.

وكيف كان فيحتمل في مفاد جملة : «الخراج بالضمان» وجوه :

الاحتمال الأوّل : ما استفاده ابن حمزة ، حيث استدلّ به على عدم ضمان المنافع المستوفاة ، وقد خرج منه منافع المغصوب ، حيث إنّها مضمونة على الغاصب بصحيح أبي ولّاد الآتي إن شاء الله تعالى ، فإنّه يخصّص النبويّ المزبور.

وحاصل هذا الاحتمال : أنّ المراد بالخراج مطلق المنافع الشامل للخراج المصطلح وغيره. ويراد من الضمان المعنى اللغوي أعني به مطلق التعهّد ، سواء أكان أمرا اختياريّا مترتّبا على العقود الصحيحة أو الفاسدة ، أم كان أمرا غير اختياريّ مترتّبا على الغصب. فالمراد : أنّ المنافع الحاصلة من الأموال المأخوذة بالعقود الصحيحة


.................................................................................................

__________________

أو الفاسدة ، أو المأخوذة غصبا مملوكة للضامن ، وأن ضمان العين سبب لملكيّة المنافع ، فتدلّ الرواية على عدم ضمان المنافع المستوفاة كما عليه ابن حمزة وفاقا لشيخ الطائفة. وخلافا للحنفيّة ، إذ المحكيّ عنهم : «ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه ، لأنّها حصلت على ملك الغاصب ، إلّا أن ينتقص باستعماله ، فيغرم النقصان.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من كلمة «الخراج» فيه ما هو المعروف المتبادر منه من الخراج والمقاسمة. والمراد من كلمة «الضمان» فيه ضمان الأراضي الخراجيّة بسبب التقبّل والإجارة. ولعلّ هذا أقرب الاحتمالات ـ كما في تقرير سيدنا الخويي قدس‌سره (١) ـ وإن لم يذكر في كلمات الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم.

وملخّص هذا الاحتمال : أنّ المتقبّل للأرض الخراجية يملك ما يخرج منها من الغلّة بسبب الضمان والتقبّل ، ولا ربط لهذا المعنى بمورد البحث.

الاحتمال الثالث : أن يراد بالخراج مطلق المنافع الخارجة عن الشي‌ء ، لا خصوص الخراج المصطلح ، ويراد بالضمان مطلق العهدة ، سواء أكانت اختياريّة كالمترتّبة على العقود الصحيحة والفاسدة ، أم غير اختياريّة كالعهدة المترتّبة شرعا على الغصب.

وحاصل هذا المعنى : أنّ منافع الأموال المأخوذة بالعقود الصحيحة أو الفاسدة أو بالغصب مملوكة للضامن بسبب ضمانه للعين أو بإزاء ضمانه لها ، ولازم هذا الضمان عدم ضمان المنافع التي يستوفيها ضامن العين ، سواء أكان استيفاء المنفعة في حال التملك كالعبد الذي اشتراه ، فاستغلّه ، ثمّ ردّه بالعيب السابق ، فإنّ مقتضاه كون الغلّة للمشتري. أم في غير حال التملك كانتفاع البائع بالمبيع الذي تلف قبل قبض المشتري له ، فإنّ المنافع التي استوفاها البائع من المبيع تكون له ، لأنّ ضمانه عليه بمعنى : أنّه ينتقل

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ١٣٣.


.................................................................................................

__________________

إليه المبيع آنا ما قبل التلف ، فيتلف من ماله.

وعلى هذا المعنى يتمّ ما أفتى به أبو حنيفة من عدم ضمان الغاصب لما يستوفيه من منافع العين المغصوبة ، ولا يلتزم به ابن حمزة ولا غيره ، فلا يكون النبويّ بهذا المعنى سندا للقول بعدم ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد.

نعم يكون دليلا لأبي حنيفة على عدم ضمان الغاصب لمنافع العين المغصوبة.

الاحتمال الرابع : أن يراد بالضمان خصوص الضمان الاختياري المترتّب على العقود الصحيحة الممضاة شرعا كالبيع والإجارة ونحوهما ، وبالخراج المنافع المستوفاة. فيكون المعنى : من تقبّل العين بعقد صحيح يملك منافعها بالتبع.

وهذا الاحتمال أجنبيّ عن المدّعى ، وهو استيفاء منافع المقبوض بالعقد الفاسد ، فلا يصحّ استدلال ابن حمزة قدس‌سره بالنبويّ على هذا الاحتمال.

الاحتمال الخامس : أن يراد بالخراج ـ كما في الاحتمال الثالث ـ معناه المصدريّ أي الانتفاع بالشي‌ء ، فيختصّ بالمنافع المستوفاة ، وبالضمان الضمان المعاملي الاختياريّ مطلقا ولو لم يمضه الشارع ، فيشمل العقود الصحيحة والفاسدة. وعلى هذا المعنى يصحّ استدلال ابن حمزة قدس‌سره بالنبويّ.

لكن لا بدّ في صحة الاستدلال من كون النبويّ ظاهرا في هذا المعنى بحيث يتبادر في أذهان العرف عند إلقاء الكلام إليهم ، وهو كما ترى. بل قد عرفت أنّ الظاهر من لفظ الخراج ما هو المعروف في باب الخراج والمقاسمة ، كما في حاشية العلّامة الشهيدي قدس‌سره (١). وأنّ المراد بالضمان ضمان الأراضي الخراجيّة بسبب التقبّل والإجارة من السلطان العادل أو الجائر. ومن المعلوم أنّ هذا المعنى أجنبيّ عمّا نحن فيه من ضمان المنافع المستوفاة من العين المقبوضة بالعقد الفاسد ، هذا.

مضافا إلى : ما في هذا الاحتمال الخامس من الإشكال ، إذ لازمه ضمان البائع

__________________

(١) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب ، ص ٢٢١.


.................................................................................................

__________________

للمشتري منافع المبيع بالبيع الفاسد إذا استوفاها قبل تسليمه إلى المشتري.

وأيضا : لازمه ضمان غاصب المبيع للمشتري إذا استوفى المنافع ، إذ المفروض ضمان المشتري للمبيع ، فمنافعه له ، فإذا غصبه غاصب واستوفى منافعه كان ضامنا للمشتري لا البائع. وهذا من الفساد بمكان من الوضوح. فدعوى القطع ببطلان هذا الاحتمال في محلها.

الاحتمال السادس : ما في حاشية المحقق الخراساني قدس‌سره وهو : «أنّ خراج الأرض كمّا وكيفا على من ضمنها إنّما هو بحسب ضمانها» (١).

الاحتمال السابع : ما خطر ببالي ، وهو : أنّ المراد بالضمان معناه العرفي ، وهو صيرورة مال الغير في العهدة ، والمراد بالخراج إمّا معناه المصدري وهو الانتفاع بالشي‌ء ، وإمّا حاصل المعنى المصدريّ وهو ما يخرج من الشي‌ء ويعدّ منفعة له. وعلى الأوّل يختصّ بالمنافع المستوفاة ، وعلى الثاني يكون أعم منها ، فيشمل المنافع غير المستوفاة أيضا.

فمعنى الحديث ـ والله العالم ـ أنّ المنافع مطلقا أو خصوص المستوفاة ثابتة على الشخص بسبب صيرورتها في عهدته ، كما إذا غصب مال الغير ، فإنّ العين ومنافعها مضمونة عليه ، فبدل المنافع ثابت عليه ، لصيرورتها في عهدته بسبب الغصب. وهذا المعنى يستفاد من قرينة المورد ، وهو شراء العبد المعيب واستيفاء المشتري منافعه وردّه بعد ظهور العيب ، فإنّ البائع طلب من المشتري بدل منافع العبد بقوله : «يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه قد استغلّ عبدي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ عمله للمشتري ، لأنّ الخراج بالضمان».

وحكي أنّ عمر بن عبد العزيز قضى ـ في عبد اشتراه شخص واستعمله ثم انكشف كونه معيبا فردّه ـ «بأنّ عمله للبائع» يعني : أنّ المشتري ضامن للمنافع التي استوفاها من العبد قبل فسخ البيع. ثم قيل لعمر بن عبد العزيز : إنّه روي عن عائشة أنّ مثله وقع في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان».

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣٤.


.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فبعد البناء على كون الخراج ظاهرا في مطلق المنافع ـ الذي هو حاصل المصدر ـ أو في الانتفاع بالشي‌ء الذي هو المعنى المصدريّ ، وكون الضمان معناه العرفيّ المتبادر منه حين إطلاقه ، وكون الظرف مستقرّا ، يكون محصّل معنى الحديث : أنّ المنافع ثابتة على الشخص بسبب صيرورتها في عهدته وضمانه ، فما لم يتحقق عهدتها على شخص لا يحكم بضمانه لها وخسارتها عليه.

وهذا المعنى ينطبق على مورد الحديث ، وهو كون منافع العبد للمشتري ، وذلك لأنّ المشتري لم يضمن المنافع أي لم يجعل بدلها في عهدته ، لأنّه استوفى منافع ماله ، ولم يستوفها ضامنا لها ، إذ لا معنى لضمان مال على عهدة مالكه ، فلا وجه لتضمين المشتري بالنسبة إلى المنافع المملوكة له بقاعدة تبعية المنفعة للعين في الملكيّة.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّ حديث «الخراج بالضمان» لم يثبت الوثوق بصدوره ، ولا يكفي مجرّد تشبّث شيخ الطائفة به في ثلاثة موارد ، وكذا تشبّث ابن حمزة به وغيرهما ممن عرفت في المقام الأوّل.

مضافا إلى إجماله وعدم ظهوره فيما ادّعاه ابن حمزة والشيخ قدس‌سرهما ، فلا يصحّ التمسّك بهذا النبويّ لعدم ضمان المنافع التي استوفاها قابض العين بالعقد الفاسد.

ثمّ إنّ المحقق النائيني قدس‌سره ـ على ما في تقرير بحثه الشريف ـ استظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان» معنى لا بأس بالتعرّض له ، فإنّه ـ بعد بيان : أنّ مفاد الحديث بمناسبة الحكم والموضوع هو الضمان الجعليّ الفعليّ الأصليّ الممضى شرعا ، وبعد دعوى عدم شموله للبيع الفاسد والضمان القهريّ كما في ضمان المغصوب ـ أفاد ما توضيحه : أنّ الضمان بمعناه المصدري المعبّر عنه بالفارسيّة «عهده گرفتن يا قرار دادن چيزى در عهده» يتصوّر على أنحاء :

أحدها : أن يكون جعل شي‌ء في العهدة ببذل عوض في مقابله ، كما في العقود المعاوضيّة من البيع ونحوه.

ثانيها : أن يكون هذا الجعل بسبب الشرط من دون بذل عوض في مقابل ما جعله في عهدته ، كشرط الضمان في عارية غير الذهب والفضة ، وفي كلّ عقد صحيح.


.................................................................................................

__________________

أو بسبب التعبّد كحكم الشارع بالضمان في عارية الذهب والفضة.

وكلّ واحد من هذين القسمين تارة يكون في العقد الصحيح ، وأخرى في الفاسد ، لأنّ العقد المعاوضيّ أمّا صحيح وإمّا فاسد. وكذا العقد المشروط بالضمان ، أو كان الضمان فيه بالتعبّد. فالأقسام أربعة.

وظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخراج بالضمان» هو كون الضمان معاوضيّا وثابتا ببذل العوض. والوجه في هذا الاستظهار هو دخول باء السببيّة على كلمة «الضمان» الظاهرة في كون الضمان ببذل العوض ، لا بالشرط. فالأموال تبذل بإزاء تعهّد المال بإزائها ، فالمبيع مثلا يبذل بعوض في عهدة المشتري ، فبسبب تعهد المشتري لعوض الجميع يبذل له المبيع ، فكأنّه قيل : الأموال مبذولة بسبب التعهّد بعوضها.

فيختصّ الحديث بما إذا كان الضمان ببذل العوض ، ولا يشمل الضمان بالشرط كضمان عارية غير الذهب والفضّة ، ولا بالتعبّد كضمان عاريتهما. كما يختصّ بالعقد الصحيح ، لوجهين :

الأوّل : ظهور كلمة «الخراج بالضمان» في كون التعهّد بالمبيع مثلا ببذل الثمن في مقابله هو المنشأ لكون الخراج كالمبيع له. وهذا مختصّ بما إذا كان العقد صحيحا ، لأنّ في العقد الفاسد يكون الضمان بالمثل أو القيمة ، لا بالعوض المسمّى في العقد. فضمان العوض اسم لما هو كذلك واقعا. وهو منتف في العقد الفاسد.

الثاني : أنّ منشأ الضمان في العقد الفاسد هو اليد ، ولذا يراد بالضمان فيه معناه الاسم المصدريّ ، فلو أريد تعميمه للعقد الفاسد لزم إرادة معنى اسم المصدر منه كما فهمه أبو حنيفة. فقاعدة «الخراج بالضمان» بعد اختصاصها بالعقد الصحيح لا تصلح لإثبات عدم ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد كما في الوسيلة.

ثمّ إنّ بذل العوض يكون بإزاء الأموال سواء أكانت باقية مع الانتفاع بها كالدار والدكّان ، أم تالفة كالشبع المترتّب على أكل الخبر ، فإنّ الغرض منه يستوفى بإعدامه


.................................................................................................

__________________

بالأكل كالعقاقير ، فإنّ ترتّب خواصّها وما هو مناط ماليّتها منوط بإعدامها.

وكيف كان فالظاهر من الضمان في الحديث الضمان المعاوضيّ ، بقرينة الباء في «بالضمان» الظاهرة في السببيّة أو المقابلة ، ومقتضاهما السببيّة والمقابلة من الطرفين ، بمعنى : كون تملّك المنافع داعيا إلى الضمان والتعهّد بالعوض ، فلحاظ تملك المنافع علّة غائيّة للضمان أي بذل العوض ، فالمنفعة علّة غائيّة للبذل ، ومتقدّمة تصوّرا عليه ومتأخرة عنه في الخارج ، كما هو شأن العلّة الغائيّة ، فيصحّ أن يقال : تملّك المنافع سبب للضمان ، والضمان سبب لكون المنافع له ، فالضمان متأخّر عن لحاظ تملّك المنفعة ، كما أنّ وجود المنفعة خارجا متأخّر عن الضمان.

فالمتحصّل : أنّ الحديث ظاهر في الضمان المعاوضيّ الصحيح ، ولا يشمل العقد الفاسد. كما أنّه لا يشمل الضمان الحاصل بالشرط أو التعبّد من دون بذل عوض في مقابله ، لكونه خلاف مقتضى الباء من السببيّة أو المقابلة. فلا يصحّ الاستدلال به على ضمان المنافع المستوفاة من المقبوض بالعقد الفاسد ، لما عرفت من ظهوره في الضمان المعاوضي الصحيح ، أو إجماله (١).

وقد نوقش في كلام المحقق النائيني قدس‌سره تارة بإنكار ظهور الخبر في المعنى الأخير وهو منشأ ضمان العين ، والداعي إليه تملّك المنافع لينحصر بباب البيع. وجه الإنكار : أنّ الضمان بهذا المعنى لا ينطبق على جعل الثمن مقابل العين وبالعكس ، ولا على القرار والعقد ، فإنّها ليست ضمانا عرفا ولغة.

واخرى : بأنّ جعل مبنى استظهار الجعليّ المعاوضيّ ظهور الباء في السببيّة أو المقابلة ، ثم دعوى أن مقتضى السببيّة أن تكون من الطرفين ، مع أنّها لا تقتضي ذلك بلا شبهة ، عجيب.

وثالثة : بأنّ حمل السبب على العلّة الغائيّة خلاف ظاهر آخر.

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٣٣.


.................................................................................................

__________________

ورابعة : بأنّ المقابلة من الطرفين لا محصّل لها.

والكلّ كما ترى ، إذ في الأولى : أنّ الضمان المعاوضيّ وإن لم يكن ضمانا عرفا ولغة ، إلّا أنّ قرينيّة مورد النبويّ ـ وهو شراء العبد المعيب ـ توجب الحمل عليه ، وإلّا امتنع تطبيقه على المورد.

وفي الثانية : أنّ الاستظهار المزبور خارج عن طريقة أبناء المحاورة بعد البناء على ظهور الباء في السببيّة والمقابلة.

وأمّا الاستعجاب من أن تكون قضيّة السببيّة من الطرفين ، ففيه : أنّ المراد بالسبب في المعاملات هو الداعي إلى إنشاء المعاملة ، ومن المعلوم أنّه موجود في الطرفين ، فإنّ الدّاعي للمشتري إلى شراء الكتاب مثلا هو الانتفاع به ، والداعي للبائع إلى بيع الكتاب هو انتفاعه بالثمن.

ومنه يظهر ما في المناقشة الثالثة من الإشكال ، إذ لحاظ احتياج كلّ من المتعاقدين علّة غائيّة لإنشاء المعاملة ، بحيث لولاه لم يقدما عليها. فحمل السبب على العلة الغائيّة ليس على خلاف الظاهر وليس مخالفا لطريقتهم ، فإنّ السببيّة مساوقة للعليّة.

وفي الرابعة : أنّ المقابلة من المتضايفات ، فلا يتّصف شي‌ء بالمقابلة إلّا مع اتّصاف غيره بها ، كالأبوّة والبنوّة والاخوّة وغيرها. فيتّصف كلّ من العوضين بالمقابلة. وكيف يمكن أن يكون الثمن مقابلا للمبيع ولا يكون المبيع مقابلا للثمن؟

فالمتحصّل : أنّ الاستظهار المنسوب الى المحقّق النائيني ـ بقرينة الباء وكذا مورد الرواية من بيع العبد والجارية المعيبين ـ في محلّه. لكنّه متّجه في المتن الذي يشتمل على الموردين المزبورين. وأمّا المتن الخالي عنهما فإثبات ظهوره في الضمان المعاوضيّ الصحيح مشكل جدّا.

وعلى كلّ حال لا يصحّ الاستدلال بالنبويّ المذكور لنفي ضمان المنافع المستوفاة من المقبوض بالعقد الفاسد بعد الغضّ عن ضعف سنده ، إمّا لإجماله ، وإمّا لظهوره في العقد المعاوضيّ الصحيح الذي هو أجنبي عن المقام.


وأمّا المنفعة الفائتة (*) بغير استيفاء (١)

______________________________________________________

ب : ضمان المنفعة الفائتة

(١) هذا شروع في المقام الثاني ممّا تعرّض له في الأمر الثالث المنعقد لبيان حكم منافع المقبوض بالبيع الفاسد ، وقد تمّ الكلام في المقام الأوّل وهو ضمان المنافع المستوفاة خلافا لابن حمزة منّا. والمراد بالمنفعة الفائتة هي المقابلة للمستوفاة ، سواء أكانت عينا ـ كنفس المبيع ـ كثمرة الشجرة المبيعة فاسدا ، ولبن الشاة كذلك وصوفها ، أم كانت حيثيّة متصرّمة الوجود قائمة بالعين ، وهي المعبّر عنها بالمنافع

__________________

(*) قد يقال : إنّ المنافع الفائتة هي الحكميّة. وأمّا المنافع العينيّة المتصلة كالسمن ، والمنفصلة كالصوف واللبن ونحوهما فلا إشكال في ضمانها ، لصدق المال عليها ، وصدق الأخذ بمعنى الاستيلاء عليها ، فيشملها الموصول في «ما أخذت» وعليه فمصبّ الأقوال في المنافع غير المستوفاة هي الحكميّة.

لكنّه ممنوع ، لما سيأتي في المتن من استدلال المصنّف قدس‌سره على عدم ضمان المنافع الفائتة بإخبار الجارية المسروقة التي حكم الامام عليه‌السلام فيها بضمان خصوص النماء المستوفي كاللبن والولد والخدمة ، دون ما فات منها ، حيث إن مقتضى المقابلة عدم ضمان اللبن لو لم ينتفع به ، كما إذا استأجر مرضعة للولد ولم يرتضع منها ، فذهب لبنها هدرا.

مضافا إلى : التصريح بالأعمّيّة في بعض الكلمات كقول العلّامة قدس‌سره : «ويضمنه وما يتجدّد من منافعه ، الأعيان أو غيرها ، .. إلخ» (١).

وعليه فلم يتّضح وجه اختصاص المنفعة الفائتة بالحكمية ، مع عموم المدّعى والدليل ، فلاحظ.

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٨١ ، السطر ٢٧ ، (الطبعة الحجرية) ونحوه تصريح المحقق في منافع المغصوب ، وإطلاقه في منافع المبيع فاسدا ، فراجع شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٤ و ٢٤٥.


فالمشهور فيها (١) أيضا (٢) الضمان. وقد عرفت (٣) عبارة السرائر المتقدّمة.

______________________________________________________

الحكميّة كسكنى الدار والأعمال المحترمة المملوكة كخدمة العبد.

وكيف كان فقد أفاد المصنّف قدس‌سره أنّ الأقوال في حكم المنافع الفائتة خمسة :

أوّلها : الضمان ، وهو المشهور ، بل المدّعى عليه الإجماع.

ثانيها : العدم وهو الظاهر من فخر المحققين قدس‌سره.

ثالثها : التفصيل بين علم البائع بالفساد وجهله به ، بالضمان في الثاني وبالعدم في الأوّل.

رابعها : التوقّف في صورة علم البائع بالفساد ، والضمان في صورة الجهل.

خامسها : التوقّف عن الحكم بالضمان ، وبعدمه مطلقا سواء علم البائع بالبطلان أم لم يعلم.

واضطربت كلمات المصنّف في المسألة ، فاختار القول الأوّل في بدء كلامه ، واستدلّ له بوجهين ، ثم ناقش فيهما ، ثم رجّح القول الثاني لوجوه ثلاثة تقتضي عدم الضمان ، ثم جعل التوقّف هو الإنصاف في المسألة ، ثم رجّح في آخر كلامه القول الأوّل وهو الضمان مطلقا. وستأتي الوجوه بالترتيب إن شاء الله تعالى.

(١) أي : في المنفعة الفائتة ، وهذا شروع في القول الأوّل في المسألة.

(٢) يعني : كالمنافع المستوفاة التي تقدّم أنّ المشهور فيها هو الضمان.

(٣) يعني : في أوّل بحث المقبوض بالبيع الفاسد ، حيث قال : «وفي السرائر : أنّ البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب» وغرض المصنّف من الإشارة إلى كلام ابن إدريس قدس‌سره هو استفادة الإجماع المنقول على ضمان المنافع الفائتة في المقبوض بالبيع الفاسد. وذلك لمساواته للمغصوب في ما عدا حرمة الإمساك ، ولمّا كانت المنافع الفائتة مضمونة في باب الغصب فهي كذلك في المقام.

وعلى هذا فالمدّعى وإن كان شهرة القول بالضمان في المنفعة غير المستوفاة ، إلّا أنّ من يعتمد على الإجماع المنقول بخبر الواحد يلزمه الأخذ به ، ولا سبيل له إلى القول بعدم الضمان أو التوقّف فيه.


ولعلّه (١) لكون المنافع أموالا في يد من بيده العين ، فهي مقبوضة في يده ،

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ الضمان ، وهذا استدلال للقول المشهور ، والمذكور منه في المتن وجهان :

الوجه الأوّل : قاعدة اليد ، فإنّها كما تجري في الأعيان وتثبت ضمانها ، كذلك تجري في المنافع ، وذلك لأمرين مسلّمين :

أحدهما : أنّ المنافع أموال حقيقة ، لما تقدّم في أوّل بحث البيع من جواز كون الثمن منفعة ، مع أنّه تعتبر ماليّة العوضين ، لوضوح كون البيع مبادلة مال بمال.

ثانيهما : أنّ المناط في ضمان العين ـ وهو قبضها والاستيلاء عليها ـ متحقق في المنافع أيضا ، حيث إنّها مقبوضة بقبض العين. والدليل على صدق «القبض» على المنفعة ما ذكروه في مسألتين :

الأولى : أنّ الإجارة هي «تمليك منفعة بعوض» فيجب على الموجر تسليم المنفعة إلى المستأجر وفاء بالعقد ، ومن المعلوم أنّ قبضها يكون بقبض العين ، فإذا أقبض الموجر داره للمستأجر فقد أقبضه سكناها. ولو لم تكن المنافع قابلة لوقوعها تحت اليد لم يكن مجرّد تسلّم المستأجر للدار استيلاء على سكناها. مع أنّه لا ريب في دخول المنفعة في ضمان المستأجر ، وثبوت الأجرة عليه بنفس تسلّطه على العين. وهذا كاشف عن قابلية المنافع للقبض كالأعيان.

الثانية : أنّهم اعتبروا في بيع السّلم قبض الثمن في مجلس العقد ، وجوّزوا وقوع المنافع المملوكة ثمنا ـ كسكنى الدار وخدمة العبد والجارية ـ كما إذا باع طنّا من الحنطة سلفا وجعل المشتري خدمة الجارية سنة عوضا عنه ، فحكموا بصحته ، وأنّ تسليم الجارية ـ لينتفع البائع بخدمتها ـ تسلّم للثمن حقيقة. وهذا كاشف عن قابليّة المنافع للقبض والوقوع تحت اليد ، ولو لا بالاستقلال بل بتبع الأعيان. ولو اختصّ القبض والاستيلاء بالأعيان الخارجيّة لزم بطلان عقد السّلم في الفرض المزبور ، مع أنّ ظاهرهم صحته بلا ريب.


ولذا (١) يجري على المنفعة حكم المقبوض إذا قبض العين ، فتدخل المنفعة في ضمان المستأجر (٢). ويتحقّق (٣) قبض الثمن في السّلم بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمنا ، وكذا (٤) الدار المجعول سكناها ثمنا.

مضافا (٥) إلى أنّه مقتضى احترام مال المسلم ، إذ كونه في يد غير مالكه

______________________________________________________

وبهذا يتّجه الاستدلال بحديث «على اليد» على ضمان المنافع مطلقا سواء استوفيت أم فاتت. هذا تقريب الدليل الأوّل ، وسيأتي تقريب الدليل الثاني وهو قاعدة الاحترام.

(١) يعني : ولأجل كون المنافع أموالا في يد من بيده العين يجري على المنفعة حكم المقبوض إذا قبض العين. وغرضه قدس‌سره الاستشهاد بما ذكره الفقهاء في المسألتين المتقدّمتين آنفا.

(٢) هذا إشارة إلى المسألة الأولى ، فإنّ المنفعة في باب الإجارة تكون كالمبيع ، فكما يكون المبيع في ضمان البائع قبل إقباضه للمشتري ، فكذا المنفعة تكون في ضمان الموجر قبل تسليم العين إلى المستأجر. وأمّا بعد التسليم فتدخل في ضمانه ، ولو تلفت ولم يستوفها فقد تلفت من ماله لا من مال الموجر. والغرض من هذا الفرع صدق قبض المنفعة بقبض العين.

(٣) هذا إشارة إلى المسألة الثانية ، وهي جعل المنفعة المملوكة ثمنا في بيع السّلم ، سواء أكانت سكنى دار أم كتابة عبد أم خدمة جارية ، فيتحقّق قبض الثمن فيها بقبض الجارية أو العبد أو الدار. ولو كانت «اليد» مختصّة بالأعيان أشكل جواز وقوع هذه المنافع ثمنا في بيع السّلم.

(٤) معطوف على «الجارية» يعني : يتحقق قبض الثمن بقبض الدار المجعول سكناها ثمنا في السّلم. والجامع بين منفعة الدار وخدمة الجارية هو كونهما حيثيتين قائمتين بالعين وهي الدار والجارية.

(٥) هذا إشارة إلى الدليل الثاني على ضمان المنافع الفائتة في المقبوض بالبيع


مدّة طويلة (١) من غير اجرة مناف (٢) للاحترام.

لكن يشكل الحكم (٣) ـ بعد تسليم كون المنافع أموالا

______________________________________________________

الفاسد ، وهو قاعدة احترام مال المسلم. وتقريبها ـ بعد صدق المال على المنفعة ـ أنّ احترام المسلم وشرفه يقتضيان حرمة التصرّف في ماله بدون إذنه ، وحرمة حبسه عن مالكه مدّة طويلة من غير اجرة في قبال منافعه ، سواء استوفى ذلك الغير منفعته أم لا. وعليه فاحترام ماله يقتضي ضمان بدل ما تلف منه أو فات بيد الغير ، فلا احترام لماله بدون الضمان.

(١) الظاهر أنّه لا خصوصيّة لطول المدة ، إذ المناط في الضمان فوت المنفعة التي يبذل بإزائها المال ، ولعلّ ذكرها من جهة الترديد في صدق «فوت المال» على فوات المنفعة في مدّة قصيرة ، كإشغال دار الغير ساعة أو أقلّ.

(٢) خبر قوله : «كونه».

(٣) يعني : يشكل الضمان الذي ذهب إليه المشهور. وغرض المصنّف المناقشة في الدليلين المتقدّمين. وحاصل الاشكال على الأوّل أمران :

أحدهما : أنّ الموصول في «ما أخذت» هو المال ، ولم يحرز صدق «المال» على المنافع حتى تندرج في الضمان اليديّ. فيحتمل اختصاصه بالأعيان المتموّلة ، ويكفي في شبهة شمول المال للمنافع كلام ابن الأثير المنقول في اللسان : «المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضّة ، ثم أطلق على كلّ ما يقتني ويملك من الأعيان ، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل ، لأنّها كانت أكثر أموالهم» (١) لظهور قوله : «من الأعيان» في عدم ماليّة المنافع والحقوق.

وعليه فالمنافع خارجة عن حديث «على اليد» موضوعا ، ولا بدّ من التماس دليل آخر على ضمانها.

ثانيهما : أنّ مجرّد صدق «المال» على المنفعة لا يكفي في الضمان ما لم تندرج تحت

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٦٣٦.


.................................................................................................

______________________________________________________

عموم قاعدة «على اليد» والمفروض عدم اندارجها تحته ، لأنّ صلة الموصول في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أخذت» لا تشمل المنافع ، لظهوره في كون المأخوذ باليد قابلا ـ بنفسه ـ للرّدّ والأداء ، ولا يكون ذلك إلّا عينا ، فإنّها تؤخذ وتردّ. بخلاف المنفعة ، لكونها حيثيّة قائمة بالعين ، وليست بنفسها قابلة للأخذ والرّدّ ، هذا.

فإن قلت : قد تقدّم في مسألتي الإجارة وبيع السّلم تحقق قبض المنفعة بقبض العين ، ومعه لا وجه لمنع شمول الصلة ـ وهي «أخذت» ـ للمنفعة ، ودعوى اختصاصها بالأعيان. فإمّا أن يقال : بصدق الأخذ على المنفعة بتبع وضع اليد على العين ، ومقتضاه دلالة الحديث على ضمان المنافع حتى الفائتة منها. وإمّا أن يقال : بأنّ ما يقبل الأخذ والقبض هو خصوص العين ، ومقتضاه الإشكال في المسألتين المتقدّمتين ، لأنّ الكلّ من باب واحد ، هذا.

قلت : إنّ المنفعة تحصل في اليد وتقبض بقبض العين ، ولذا يصحّ وقوعها ثمنا في بيع السّلم ، ويتحقّق قبضها بتسليم العين ذات المنفعة ، ولكن لا يصدق «أخذ المنفعة» عند وضع اليد على العين ، فالأخذ أضيق مفهوما من القبض ، لأعمّيّته ، لصدقه على كلّ من المقبوض استقلالا ، والمقبوض تبعا. بخلاف الأخذ الظاهر في المأخوذ بالأصالة. وبهذا ظهر الفرق بين المسألتين وبين المنافع الفائتة ، لعدم صدق «الأخذ» عليها حتى تندرج في حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

فإن قيل : لا وجه لاختصاص صلة الموصول ـ وهي : أخذت ـ بالأعيان التي تتناولها الجارحة الخاصّة ، وإلّا يلزم عدم شمول الحديث لوضع اليد على الأموال غير المنقولة كالبساتين والدور والدكاكين ، مع أنّه لا ريب في تحقق وضع اليد بمجرّد الاستيلاء عليها. وهذا يكشف عن عدم إرادة معنى «الأخذ» حقيقة ، وإنّما هو كناية عن مطلق الاستيلاء. وبناء على هذا المعنى الكنائي نقول بصدق الاستيلاء على كلّ من العين والمنفعة ، ويتعيّن حينئذ الحكم بضمان المنافع الفائتة كالمستوفاة ، هذا.


حقيقة (١) ـ بأنّ (٢) مجرّد ذلك (٣) لا يكفي في تحقّق الضمان ، إلّا (٤) أن يندرج في عموم

______________________________________________________

قلنا : لا ريب في صدق «الأخذ» على الاستيلاء على الأعيان غير المنقولة كالدار والبستان ، لكنّه لا يوجب شموله للمنفعة أيضا ، وذلك فإنّ الأخذ وإن كان كناية عن الاستيلاء ، إلّا أنّ الاستيلاء الحقيقيّ على شي‌ء يقتضي أن يكون المستولي عليه موجودا حقيقيّا قارّا ، سواء أكان الاستيلاء عليه باليد كالمفتاح والكتاب ونحوهما ممّا يتناول بالجارحة الخاصة ، أم بالتصرّف فيه بالجلوس والمشي وسائر أنحاء التقلّب.

وأمّا المنفعة التي لا وجود لها بالفعل حين الاستيلاء على العين ـ بل إمّا توجد تدريجا على تقدير الاستيفاء ، وإمّا لا توجد أصلا على تقدير الفوات ـ فلا وجه للتكلّف في صدق «الاستيلاء» عليها بمجرّد الاستيلاء على العين ، لما عرفت من أنّها معدومة فعلا ، فكيف يستولي عليها؟.

والحاصل : أنّ حديث «على اليد» لا يشمل المنافع الفائتة ، لمنع صدق الموصول عليها ، فالاستدلال به على ضمانها مشكل. وستأتي المناقشة في الاستدلال بقاعدة الاحترام.

(١) هذا إشارة إلى أوّل الإشكالين على الاستدلال بقاعدة اليد. ومقصوده بقوله : «حقيقة» أنّ المناط في شمول القاعدة للمنافع هو صدق «المال» بمعناه الحقيقيّ عليها ، وإلّا فلا عبرة بعدّها من الأموال بالمسامحة والعناية كما هو واضح.

(٢) هذا هو الإشكال الثاني على الاستدلال بقاعدة اليد ، وقد عرفته آنفا.

(٣) أي : مجرّد كون المنافع أموالا حقيقة لا يكفي في ضمان المنافع الفائتة.

(٤) متعلّق بقوله : «لا يكفي» وهذا تمهيد لبيان عدم شمول الصّلة للمنافع ، لعدم قابليّتها للأخذ.


«على اليد ما أخذت». ولا إشكال (١) في عدم شمول صلة الموصول للمنافع. وحصولها (٢) في اليد بقبض العين لا يوجب صدق الأخذ (*).

______________________________________________________

(١) يعني : والحال أنّه لا إشكال في عدم شمول «أخذت» للمنافع ، لما عرفت آنفا.

(٢) مبتدأ خبره «لا يوجب» وغرض المصنّف من هذا بيان الفارق بين المنافع الفائتة وبين مسألتي الإجارة وثمن بيع السّلم ، بصدق قبض المنفعة فيهما بقبض العين ، دون المقام ، حيث إنّ دليل الضمان هو حديث اليد المشتمل على مادّة «الأخذ» وهي غير صادقة على المنفعة. وقد تقدم توضيح المطلب بقولنا : «فان قلت .. قلت» فلاحظ.

__________________

(*) لم يظهر الفرق بين قبض المنافع في الإجارة وأخذها هنا ، لأنّ الأخذ والحصول في اليد المعبّر عنه بالقبض متقاربان ، بل هما بمعنى ، ففي اللسان : «أخذت الشي‌ء آخذه أخذا : تناولته» (١) وقال في القبض : «قبضت الشي‌ء قبضا : أخذته .. والقبض : التناول للشي‌ء بيدك ملامسة» (٢).

وعليه فلم يتّضح الفارق بين القبض والأخذ حتى يصدق الأوّل على المنفعة ولو بتبع الاستيلاء على العين ، دون الثاني.

وتوجيه المطلب بما في حاشية سيّدنا الأستاد قدس‌سره من «أنّ الأخذ إذا أخذ موضوعا لحكم شرعي لا يكفي في تحقّقه القبض بالتبع تشبّثا بإطلاق : ما أخذت» (٣) لا يخلو عن غموض أيضا إذا لو كان القبض التبعي مسامحيّا أشكل صدق القبض في بابي الإجارة والسّلم أيضا ، لعدم العبرة بالمسامحات العرفية في مقام التطبيق. ولو كان القبض التبعيّ حقيقيّا لزم صدقه على المنفعة في المقام ، بعد ترادف الأخذ والقبض لغة ، فالفرق بينهما غير متّضح ، هذا.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٤٧٢.

(٢) لسان العرب ، ج ٧ ، ص ٢١٤.

(٣) نهج الفقاهة ، ص ١٣٦.


ودعوى (١) «أنّه كناية عن مطلق (٢) الاستيلاء الحاصل في المنافع بقبض الأعيان» مشكلة.

وأمّا احترام مال المسلم فإنّما (٣) يقتضي عدم حلّ التصرّف فيه وإتلافه بلا عوض ، وإنّما يتحقّق ذلك (٤) في الاستيفاء.

______________________________________________________

(١) غرض المدّعي إثبات شمول الحديث للمنفعة مع الغضّ عن صدق قبضها بقبض العين ، بل لأنّ «الأخذ» هنا بمعنى الاستيلاء كناية ، ومن المعلوم صدق الاستيلاء عرفا على كلّ من العين والمنفعة.

وقد منع المصنّف قدس‌سره هذه الدعوى بقوله : «مشكلة» وتقدم توضيحهما بقولنا : «فان قيل .. قلنا».

(٢) هذه الكلمة قرينة على أنّ «الأخذ» وإن كان بمعنى الاستيلاء في الجملة حتى يتحقّق ذلك بالنسبة إلى ما لا ينقل من الأموال ، إلّا أنّه لا موجب للتوسعة في معناه بجعل الأخذ كناية عن مطلق الاستيلاء كي تندرج المنافع في الحديث ، لكون هذا المفهوم العامّ خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه بلا قرينة.

(٣) هذا إشكال المصنّف على الاستدلال بقاعدة الاحترام لضمان المنافع الفائتة ، وحاصل الاشكال : أنّ ظاهر القاعدة ضمان المنافع المستوفاة ، لأنّ الإتلاف عبارة عن إعدام الموجود ، وهو لا يتحقّق إلّا في استيفاء المنافع وإتلاف الأعيان ، فيقال : إنّ حرمة مال المسلم تقتضي ضمان من أتلفه لئلّا يذهب هدرا ، كما أنّ دمه لا يذهب هدرا ، ومن المعلوم أجنبيّة هذا المعنى عن ضمان المنافع الفائتة ، فإنّها تالفة لا متلفة حتى يلزم تداركها ببدلها.

وقد تحصّل : أنّه لا مقتضي للقول المشهور من ضمان المنفعة الفائتة في المبيع بالبيع الفاسد ، لما عرفت من الخدشة في الدليلين ، وهما قاعدتا اليد والاحترام.

(٤) أي : إنّما يتحقّق التصرّف فيه وإتلافه فيما إذا استوفى المنفعة ، وهذا خارج عن محلّ البحث وهو المنفعة الفائتة.


فالحكم (١) بعدم الضمان مطلقا (٢) كما عن الإيضاح ، أو مع علم البائع بالفساد ، كما عن بعض آخر (٣) موافق (٤) للأصل (٥) السليم.

مضافا إلى : أنّه قد يدّعى (٦) شمول قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره ـ بعد إبطال المقتضي للضمان ـ إبداء المقتضي لعدم الضمان وفاقا لفخر المحققين ، وهذا المقتضي لنفي الضمان أمور ثلاثة :

أوّلها : الأصل السليم عن الحاكم والمعارض.

وثانيها : قاعدة «ما لا يضمن».

وثالثها : أخبار بيع الجارية المسروقة التي ضمّنت المشتري خصوص المنافع المستوفاة ، وسيأتي بيانها.

(٢) أي : مع علم البائع بالفساد وجهله به ، فالإطلاق في قبال تفصيل بعض بين صورتي العلم والجهل.

(٣) لعلّ مراده من البعض هو العلّامة في القواعد ، حيث استشكل في ضمان المنافع الفائتة. فقال : «ولا يملك المشتري ما يقبضه بالبيع الفاسد ، ويضمنه وما يتجدّد من منافعه ، الأعيان أو غيرها ، مع جهل البائع أو علمه مع الاستيفاء ، وبدونه إشكال» (١) بناء على ما فهمه المحقّق الكركيّ من العبارة من جعل مورد الاشكال علم البائع بالفساد وعدم استيفاء المشتري للمنفعة ، فراجع.

(٤) خبر قوله : «فالحكم».

(٥) وهو أصالة البراءة عن الضمان عند فوت المنفعة بيد المشتري ، ولا معارض لهذا الأصل من دليل اجتهاديّ أو أصل عمليّ.

(٦) هذا وجه آخر استدل به بعضهم على عدم ضمان المنفعة الفائتة في المقبوض بالبيع الفاسد ، وهو مبنيّ على اختصاص قاعدتي «ما يضمن وما لا يضمن» بمصبّ العقد ومورده ، على ما سبق من المصنّف قدس‌سره التنبيه عليه ، وفرّع عليه عدم ضمان العين

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٨١ ، السطر ٢٧ (الطبعة الحجرية).


بفاسده» ومن المعلوم (١) أنّ صحيح البيع لا يوجب ضمانا للمشتري للمنفعة ، لأنّها (٢) له مجّانا. ولا يتقسّط (٣) الثمن عليها. وضمانها (٤) مع الاستيفاء لأجل الإتلاف ، فلا ينافي القاعدة المذكورة ، لأنّها (٥) بالنسبة إلى التلف لا الإتلاف.

______________________________________________________

المستأجرة بالإجارة الفاسدة ، بدعوى : أنّ متعلّق المعاوضة فيها هو المنفعة ، فتندرج العين في قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

وكذا يقال في المقام : بأنّ صحيح البيع لا يوجب ضمان المشتري للمنفعة ، حيث إنّ الضمان المعاوضيّ يقع بين المبيع والثمن ، ومنافع المبيع ليست طرفا للمعاوضة ولا تقابل بشي‌ء من الثمن ، فلا تضمن لو تلفت وفاتت. كما أنّ العين المستأجرة لا تضمن لو تلفت بيد المستأجر.

نعم إتلاف العين واستيفاء المنفعة يوجب الضمان ، لقاعدة الإتلاف ، وهذا لا ينافي قاعدة «ما لا يضمن» المختصّة بمورد التلف ، لا الإتلاف كما لا يخفى.

(١) هذا تقريب شمول قاعدة «ما لا يضمن» للمنفعة الفائتة ، وقد عرفته آنفا.

(٢) يعني : لأنّ المنفعة تكون للمشتري مجّانا ، لكون تمام الثمن بإزاء نفس العين.

(٣) بأن يكون مقدار من الثمن بإزاء العين ، ومقداره بإزاء المنفعة حتى تندرج المنافع ـ كنفس العين ـ في قاعدة «ما يضمن» ليكون نتيجة تقسيط الثمن ضمان منافع المبيع بالبيع الفاسد سواء استوفيت أم فاتت.

(٤) مبتدأ خبره «لأجل» وغرضه دفع توهّم المنافاة بين نفي الضمان للمنافع بقاعدة «ما لا يضمن» وبين الالتزام بالضمان في استيفائها ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : «نعم إتلاف العين ..».

(٥) يعني : لأنّ قاعدة «ما لا يمضن» نافية للضمان في مورد التلف ، ولا تتعرّض لحال الإتلاف أصلا حتى يتحقق التنافي بينها وبين ما يوجب الضمان كالإتلاف والاستيفاء.


مضافا إلى الأخبار (١) الواردة في ضمان المنافع المستوفاة من الجارية

______________________________________________________

(١) هذا ثالث الوجوه المستدلّ بها على عدم ضمان المنافع الفائتة ، ومحصّله : استفادة عدم الضمان من السكوت في مقام بيان مورد الضمان في الجارية المسروقة ، ثم إثباته في المقبوض بالبيع الفاسد بالأولويّة القطعيّة ، فهنا أمران ينبغي توضيحهما.

الأوّل : أصل دلالة الأخبار على عدم ضمان المنفعة الفائتة في مورد بيع الجارية المسروقة.

الثاني : أولويّة المقام بعدم الضمان.

أمّا الأوّل فبيانه : أنّه قد ورد في جملة من الأخبار سؤال الراوي عن حكم جارية مسروقة بيعت ، فاستولدها المشتري وانتفع بلبنها وخدمتها ، فحكم عليه‌السلام بضمان قيمة الولد واللبن واجرة مثل خدمتها من طبخ وكنس وطحن ونحوها من المنافع التي استوفاها المشتري في المدّة التي مكثت عنده ، كقوله عليه‌السلام ـ كما في خبر زرارة ـ : «ويعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها» (١) وسكت عليه‌السلام عن ضمان منافعها الفائتة ، مع كون السائل بصدد استعلام وظيفته الفعليّة وما تشتغل عهدته به ، ومن المعلوم أنّ السكوت في مقام البيان بيان العدم.

فإن قلت : إنّ كون هذه الأخبار ناظرة إلى المنفعة الفائتة حتى يستفاد عدم ضمانها من السكوت محلّ تأمّل ، لأنّه عليه‌السلام اقتصر على بيان ضمان قيمة الولد والمنافع المستوفاة ، ولم يفرض فوت بعض منافع الجارية حتى يتحقق موضوع للكبرى المقرّرة ، وهي : أنّ السكوت في مقام البيان بيان العدم.

قلت : ليس كذلك ، لأنّ مورد السؤال منزّل على المتعارف ، ولا ريب في أنّ للجارية منافع يستوفى بعضها ويفوت بعضها الآخر ، وليست تستخدم بمثابة لا يفوت شي‌ء من منافعها. ولو شكّ كفى استفادة الإطلاق من ترك الاستفصال ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٤ ، وقد تقدم في ص ٤٩ و ٥٠ نقل بعض هذه الأخبار ، فراجع.


المسروقة المبيعة الساكتة (١) عن ضمان غيرها (٢) في مقام البيان (*).

______________________________________________________

إذ لم يسأل عليه‌السلام عن أنّ المشتري هل استخدمها في تمام منافعها أم في مقدار منها؟ وعليه ففوت المنفعة مفروض في الرّواية ، ويتّجه الاستدلال بسكوته عليه‌السلام عن ضمان المنافع الفائتة ، واقتصاره على ضمان المستوفاة.

وأمّا الأمر الثاني ـ وهو الأولويّة ـ فتقريبه : أنّ الأخبار الواردة في بيع الجارية المسروقة لم تضمّن المشتري عوض المنفعة الفائتة ، مع كون موردها شراءها من الغاصب الأجنبيّ عن المالك ، وكون مقتضى أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال هو ضمان المشتري للمنفعة الفائتة أيضا ليرجع على الغاصب من جهة غروره. فإذا كان البائع مالكا للجارية كان عدم ضمان المشتري أولى قطعا ، لأنّ المالك أقدم على البيع وتسليمها إلى المشتري.

هذا تمام الكلام في تقريب دلالة هذه الطائفة على انتفاء الضمان في المنفعة الفائتة. وكذا الكلام في رواية أخرى وهي صحيحة محمّد بن قيس الآتية.

(١) صفة ل «الأخبار» وهذا إشارة إلى الكبرى المقرّرة في الأصول من : أنّ السكوت في جواب السؤال عن الوظيفة الفعليّة دليل على عدم الحكم ، ففي المقام لو كان المشتري ضامنا لبيّنه الإمام عليه‌السلام ، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، مع عدم حكمة ظاهرة في تأخيره.

(٢) أي : غير المنافع المستوفاة ، وهذا الغير هو المنافع الفائتة.

__________________

(*) قد يقال : إنّ تلك الأخبار ليست في مقام بيان حكم المنافع من حيث الضمان وعدمه ، والتعرّض لدفع قيمة الولد إلى مالك الجارية إنّما هو لدفع توهم رقيّة الولد وكونه ملكا لمالك الجارية ، لأنّه نماء ملكه. ولو كانت في مقام بيان حكم المنافع فلا بدّ من بيان ضمان المنافع المستوفاة التي هي مضمونة على مستوفيها قطعا ، ومن المعلوم عدم التعرّض لها مع استيفائها عادة ، كخدمة الجارية في المدّة التي كانت عند المشتري.


وكذا (١) صحيحة محمّد بن قيس الواردة في من باع وليدة أبيه بغير إذنه ،

______________________________________________________

(١) معطوف على «الأخبار» ومقصوده أنّ الأمرين المتقدمين في تلك الأخبار ـ من السكوت والأولويّة ـ جاريان في صحيحة محمّد بن قيس أيضا ، فالتقريب مشترك بينهما.

أمّا الصحيحة فقد رواها شيخ الطائفة بإسناده عن علي بن الحسن بن فضّال ، عن سندي بن محمّد وعبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قضى في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب ، فاشتراها رجل ، فولدت منه غلاما ، ثم قدم سيّدها الأوّل ، فخاصم سيّدها الأخير ، فقال هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني. فقال : خذ وليدتك وابنها. فناشده المشتري ، فقال : خذ ابنه ـ يعني الذي باع الوليدة ـ حتى ينفذ لك ما باعك. فلمّا أخذ البيّع الابن قال أبوه : أرسل ابني. فقال : لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني ، فلمّا رأى سيّد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه» (١).

وسيأتي الكلام في مفاد الصحيحة في بيع الفضول إن شاء الله تعالى. إلّا أنّ

__________________

لكن فيه : أنّ أخبار الباب متعدّدة ، وقد صرّح في بعضها بضمان خدمتها. كما أدرجناه في التوضيح ، ومعه لا مجال لدعوى اختصاص القيمة بالولد لأجل دفع توهّم رقيّة الولد وكونه ملكا لسيّد الجارية ، فلاحظ.

ولم يظهر من المتن اعتماد المصنّف قدس‌سره على خصوص الرواية المتضمّنة لقيمة الولد حتى يتّجه ما ذكر ، بل مقصوده الاستدلال بمجموعها ، وقد عرفت اشتمال بعضها على ضمان ما أصاب من خدمتها ، وهو المنفعة المستوفاة ، فيبقى مجال استفادة عدم ضمان المنفعة الفائتة من السكوت.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩١ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث : ١ ، ورواه ثقة الإسلام بسنده ، وفيه «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام».


فقال عليه‌السلام : «الحكم أن يأخذ الوليدة وابنها» وسكت عن المنافع الفائتة. فإنّ (١) عدم الضمان في هذه الموارد (٢) ـ مع كون العين لغير البائع (٣) ـ يوجب عدم الضمان هنا (٤) بطريق أولى.

والانصاف أنّ للتوقّف في المسألة ـ كما في المسالك تبعا للدروس والتنقيح (٥) ـ مجالا.

______________________________________________________

المقصود من نقلها فعلا دلالتها على عدم ضمان ما فات من الجارية المبيعة بغير إذن مالكها. فإنّه عليه‌السلام قضى أوّلا للمالك بأخذ الجارية من المشتري ، وكذا ولدها الذي هو منفعتها ، ولم يضمّن المشتري ما فات من منفعتها في المدّة التي كانت عنده. وحيث إنّ الصحيحة في مقام بيان الوظيفة الفعليّة كان اقتصاره على ضمان قيمة الولد دليلا على عدم استقرار عوض المنفعة الفائتة على عهدة المشتري. هذا تقريب أصل الدلالة. وأمّا أولويّة المقام ـ وهو البيع الفاسد مع إقدام المالك على البيع ـ فقد تقدّمت آنفا.

(١) هذا تقريب الأولويّة ، وأمّا الدلالة على عدم ضمان المنفعة الفائتة فمنشؤها السكوت.

(٢) يعني : مورد الصحيحة وموارد بيع الجارية المسروقة ، لظهورها في تعدّد الواقعة ، لأنّ المسؤول في بعض الأخبار أبو جعفر عليه‌السلام ، وفي بعضها أبو عبد الله عليه‌السلام.

(٣) يعني : ليس المبيع ملكا للبائع ، إذ البائع فضول ، إمّا غاصب كما في الجارية المسروقة ، وإمّا غير غاصب كما في صحيحة محمّد بن قيس.

(٤) أي : في المقبوض بالبيع الفاسد ، إذ قد ينشأ الفساد من اختلال بعض شروط الصيغة خاصّة ، مع اجتماع شروط العوضين والمتعاقدين ، بأن يكونا مالكين أو مأذونين في التصرّف. هذا تمام الكلام في وجه عدم الضمان وسيأتي التوقّف في المسألة.

(٥) قال الفاضل المقداد قدس‌سره : «وأمّا مع الفوات فوجهان ، من أصالة البراءة ، ومن أنّها منافع عين مضمونة فتضمن» (١).

__________________

(١) التنقيح الرائع ، ج ٢ ، ص ٣٢.


وربّما (١) يظهر من القواعد في باب الغصب عند التعرّض لأحكام البيع الفاسد اختصاص الاشكال والتوقّف بصورة علم البائع ، على ما استظهره السيد العميد والمحقّق الثاني من عبارة الكتاب (٢) ،

______________________________________________________

وقال الشهيد قدس‌سره في حكم البيع الفاسد : «ويرجع صاحب العين بمنافعها المستوفاة ، فلو فاتت بغير استيفاء فوجهان» (١).

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره : «ولو فاتت بغير استيفاء فوجهان» (٢).

ولكنّه في موضع آخر من البيع رجّح الضمان فقال : «وكما تضمن العين تضمن منافعها ؛ سواء استوفاها أم لا ، على الأقوى» (٣).

وكيف كان فقد جعل المصنّف قدس‌سره هنا ـ وفي عبارته الآتية قريبا ـ التوقّف مقتضى الإنصاف في المسألة ، ولعلّه لأجل تمانع وجهي الضمان وعدمه لو تمّ المقتضي في كلّ منهما ، بعد عدم ترجيح أحدهما على الآخر. لكنّه قدس‌سره عدل عن هذا الإنصاف إلى القول المشهور وهو الضمان اعتمادا على الإجماع المصرّح به في التذكرة ، وسيأتي.

(١) غرضه قدس‌سره من هذه العبارة ـ إلى عدّ الأقوال في المسألة ـ هو : أنّ الأقوال في ضمان المنافع الفائتة أربعة ، إلّا أنّ اختلاف شرّاح القواعد في الاستظهار من العبارة جعلها خمسة ، ففخر المحقّقين قدس‌سره جعل مصبّ إشكال العلّامة في ضمانها أعمّ من علم البائع بالفساد وجهله به ، ولكنّ المحقّق الثاني والسيد العميد استظهرا من عبارة القواعد اختصاص التوقّف في ضمان المنافع الفائتة بما إذا علم البائع بالفساد ، فلو كان جاهلا به كان ضامنا لها.

(٢) يعني : عبارة كتاب القواعد ، وهي قول العلّامة المتقدم في (ص ٢٦٠) وفيه : «وبدونه إشكال» فإن كان مرجع ضمير «بدونه» الاستيفاء ، اتجه ما استظهره

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩٤.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤.

(٣) المصدر ، ص ١٧٤.


وعن الفخر (١) حمل الإشكال في العبارة على مطلق صورة عدم الاستيفاء.

فيتحصّل (٢) من ذلك كلّه أنّ الأقوال في ضمان المنافع غير المستوفاة خمسة.

______________________________________________________

فخر المحقّقين من التوقّف في ضمان المنافع الفائتة مطلقا سواء علم البائع بالبطلان أم جهل به.

وإن كان مرجع الضمير الاستيفاء مع قيد «علمه» اتّجه ما استظهره المحقّق الثاني ، إذ المعنى حينئذ : «انّه مع علم البائع بالفساد إذا فاتت المنفعة ففي الضمان إشكال وتوقّف» فيتألّف موضوع توقّف العلّامة من أمرين : أحدهما علم البائع بالبطلان ، والآخر عدم استيفاء المشتري للمنفعة.

قال المحقّق الثاني في ضمان المنافع : «فلا تفاوت في كون المتجدّد في البيع عينا كالولد أو منفعة كسكنى الدار ، ولا في كون البائع عالما بالفساد وجاهلا ، ولا بين أن يستوفي المشتري فاسد المنفعة وعدمه ، على إشكال في بعض الصور ، وهو ما إذا علم البائع بفساد البيع ولم يستوف المشتري المنفعة» (١).

(١) الحاكي لكلام فخر المحققين هو السيّد الفقيه العاملي قدس‌سرهما ، قال في الإيضاح ـ في شرح عبارة القواعد المتقدمة : «وبدونه إشكال» ـ ما لفظه : «ينشأ من تبعيّة الأصل ، ولأنّ الأصل في قبض مال الغير الضّمان إلّا بسبب عدمه ، ولم يثبت. ومن أنّها لم تقبض بالبيع الفاسد ولا بالغصب. والحقّ الثاني ، لأنّ مال الغير يجدّد في يده بغير فعلهما ، فكان كالثوب تطيره الريح» (٢).

وما ذكره قدس‌سره من وجه عدم الضمان بقوله : «ومن أنّها لم تقبض بالبيع الفاسد ولا بالغصب» جار في صورتي علم البائع بالفساد وجهله به ، ومقتضاه أنّه فهم من عبارة والده توقّفه في ضمان المنافع الفائتة مطلقا بلا فرق بين العلم والجهل.

(٢) يعني : بعد أن اختلف شرّاح القواعد في مراد العلّامة قدس‌سره من قوله : «وبدونه إشكال» فقد تحصّل أقوال خمسة في حكم المنافع الفائتة.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٣٢٤.

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٣٠٥ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٩٤.


الأوّل : الضمان ، وكأنّه للأكثر (١).

الثاني : عدم الضمان ، كما عن الإيضاح (٢).

الثالث : الضمان ، إلّا مع علم البائع (٣) ، كما عن بعض من كتب على الشرائع.

الرابع : التوقّف (٤) في هذه الصورة ، كما استظهره جامع المقاصد والسيد العميد (١) من عبارة القواعد.

______________________________________________________

إلّا أن يقال : بأن الأقوال ثلاثة ، والتوقّف ليس قولا ، بل هو تردّد في الحكم ، فتأمّل.

(١) تقدم الاستدلال له بقاعدتي اليد والاحترام ، وناقش فيهما المصنف ، وبقي وجه آخر وهو الإجماع المنقول ، فلا منافاة بين إنكار الضمان ، للخدشة في القاعدتين ، وبين إثباته للإجماع.

(٢) واستدلّ عليه في عبارته المتقدّمة بقوله : «لأنّ مال الغير يجدّد في يده بغير فعلهما ..» ويمكن المناقشة فيه بأنّ المشتري قبض المبيع باختياره ، ويكفي في قبض المنافع قبض العين ، فقياس المقام بإطارة الريح في غير محلّه.

(٣) لعلّ وجهه ـ كما عن بعض ـ أنّ البائع مع علمه بفساد البيع هو المقدم على تسليط المشتري على المنافع مجّانا ، فلا وجه حينئذ لضمان المشتري للمنافع.

لكن فيه أوّلا : أنّ قضية هذا الوجه عدم ضمان المنافع مطلقا حتى المستوفاة منها ، وهو كما ترى.

وثانيا : أنّ مجرّد التسليط ليس رافعا للضمان ، لا مكان بناء البائع تشريعا على صحّة المعاملة ، وكون التسليم إلى المشتري بعنوان الوفاء بالمعاملة ، فالتسليط معاوضيّ ، والرافع للضمان هو التسليط المجّانيّ وبلا عوض.

(٤) وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في التعليقة وجهه وضعفه.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٣٢٤ ؛ كنز الفوائد ، ج ١ ، ص ٦٧٦.


الخامس : التوقّف مطلقا (١) كما عن الدروس والتنقيح والمسالك ومحتمل القواعد ، كما يظهر من فخر الدين.

وقد عرفت (٢) أنّ التوقّف أقرب إلى الانصاف.

إلّا (٣) أنّ المحكيّ عن التذكرة : «أنّ منافع الأموال من العبد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية ، فلو غصب عبدا أو جارية أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه سواء أتلفها بأن استعملها ، أو فاتت تحت يده ، بأن بقيت مدّة في يده لا يستعملها ، عند (٤) علمائنا أجمع (٥)».

______________________________________________________

(١) يعني : مع علم البائع بالفساد وجهله به.

(٢) حيث قال قبل أسطر : «والانصاف أنّ للتوقّف في المسألة كما في المسالك .. إلخ».

(٣) يعني : أنّ المانع عن التوقّف هو الإجماع الذي ادّعاه في التذكرة على ضمان الغاصب للمنافع مطلقا ـ من المستوفاة وغيرها ـ بعد البناء على كون يد المشتري فيما نحن فيه من اليد العادية خصوصا مع علمه بفساد العقد.

وكذا يظهر الإجماع من عبارة السرائر من قوله : «المنافع تضمن عندنا بالغصب» (١).

وتقدّم منه أيضا : «أن البيع الفاسد يجري عند المحصلين منزلة المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم بإمساكه».

(٤) هذا متعلّق بقوله : «مضمونة بالتفويت والفوات» يعني : أنّ ضمان مطلق المنافع اتّفاقيّ.

(٥) ثم قال العلّامة قدس‌سره : «وبه قال الشافعيّ وأحمد بن حنبل ، لأنّ المنافع مضمونة بالعقد الفاسد ، فتضمن بالغصب كالأعيان .. إلخ» (٢).

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٧٩.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١.


ولا يبعد (١) أن يراد باليد العادية مقابل اليد الحقّة ، فيشمل (٢) يد المشتري فيما نحن فيه ، خصوصا (٣) مع علمه ،

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره من هذا الاستظهار : أنّ عبارة التذكرة تحتمل وجهين :

أحدهما : اختصاص معقد الإجماع بباب الغصب ، لأنّ المتيقّن من قوله : «تحت اليد العادية» هو الغصب الذي يكون استيلاء الغاصب اعتداء على مال الغير. وبناء على هذا الاحتمال يمتنع الاستدلال بإجماع التذكرة على ضمان المنفعة الفائتة في المبيع بالبيع الفاسد ، وذلك لتعدّد الموضوع ، إذ ليست يد المشتري عادية حتّى تندرج في موضوع حكمهم بالضمان في منافع المغصوب.

ثانيهما : شمول «اليد العادية المضمّنة» للمقام ، لوضوح أنّ اليد على مال الغير إمّا حقّة ، لاستنادها إلى إذن مالكي أو شرعي ، وإمّا عادية ، ولا ثالث لهذين القسمين. ولا ريب في أنّ يد المشتري ـ على المبيع بالبيع الفاسد ـ ليست حقّة واقعا ، لفرض فساد السبب المملّك. نعم قد يزعم استحقاقه للتصرّف فيه في صورة الجهل بالفساد ، لكن لا عبرة بهذا الاعتقاد ، لأنّ المناط في جواز التصرّف تملّكه للمبيع واقعا. وحيث لم يدخل في ملكه كانت يده عادية وإن لم يعلم به المشتري.

وعلى هذا الاحتمال لا يختصّ الاعتداء على مال الغير بباب الغصب ، بل تندرج منافع المبيع بالبيع الفاسد فيه ، فتتّجه دعوى الإجماع على ضمان المنفعة الفائتة.

واستظهر المصنّف قدس‌سره هذا الاحتمال الثاني ، لما ذكرناه آنفا من صدق «اليد العادية» على كلا المقامين ، ولا قرينة على الاختصاص بباب الغصب. بل في ما نقلناه من التذكرة قرينة على أنّ ضمان منافع المبيع فاسدا أوضح وجها من باب الغصب ، فلاحظ قوله : «لأنّ المنافع مضمونة بالعقد الفاسد ، فتضمن بالغصب».

(٢) لعدم كون يد المشتري حقّة بعد فساد العقد واقعا.

(٣) وجه الخصوصيّة : أنّه لو نوقش في صدق «اليد العادية» على يد المشتري الجاهل بفساد العقد ـ بأنّه يزعم استحقاق التصرّف في المبيع ـ فلا ريب في صدقها


سيّما (١) مع جهل البائع به.

وأظهر منه (٢) ما في السرائر في آخر باب الإجارة من «الاتّفاق أيضا على ضمان منافع المغصوب الفائتة» (١) مع قوله في باب البيع : «انّ البيع الفاسد عند أصحابنا بمنزلة الشي‌ء المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم عن إمساكه» (٢) انتهى.

وعلى هذا (٣) فالقول بالضمان لا يخلو عن قوّة ، وإن كان المتراءى من ظاهر

______________________________________________________

على يده عند علمه بالفساد ، لاعتقاده حينئذ بأنّ استيلاءه على المبيع اعتداء على البائع.

(١) وجه الخصوصيّة : أنّ البائع العالم بفساد البيع ربما يرضى بتسلّط المشتري على المبيع ، فيشكل صدق «اليد العادية» على يد المشتري. وأمّا مع جهل البائع بالفساد وعلم المشتري به فلا ريب في صدق الاعتداء كما تقدّم آنفا.

(٢) يعني : وأظهر من كلام التذكرة ـ في دعوى الإجماع على ضمان المنافع مطلقا استوفيت أم فاتت ـ كلام ابن إدريس قدس‌سره بعد ضمّ كلامه في باب البيع الفاسد إلى ما أفاده في الغصب من تصريحه بضمان المنفعة الفائتة. فيتحصّل منه الإجماع على ضمانها في البيع كالغصب.

ووجه أظهريّة عبارة السرائر في الإجماع على ضمان المنافع الفائتة هو أنّ تعبير العلّامة باليد العادية يحتمل وجهين كما ذكرناه ، لكن تعبير ابن إدريس بضمان منافع المغصوب وكون البيع الفاسد بمنزلة المغصوب لا يقبل الحمل على معنى آخر.

(٣) أي : وبناء على الإجماع الذي حكاه ابن إدريس والعلّامة فالقول بالضمان قويّ.

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٧٩.

(٢) المصدر ، ص ٣٢٦.


صحيحة أبي ولّاد (١) اختصاص الضمان (١) في المغصوب بالمنافع المستوفاة من البغل المتجاوز به إلى غير محلّ الرخصة.

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره دفع توهّم يورد به على الحكم بضمان المنافع الفائتة في البيع الفاسد. ومحصّل التوهّم : أنّ صحيحة أبي ولّاد الواردة في البغل المغصوب خصّت الضمان بالمنافع المستوفاة ، فحكم الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام على أبي ولّاد بضمان اجرة مثل كراء البغل بالنسبة إلى خصوص المنفعة المستوفاة ، لقوله عليه‌السلام : «أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كرى البغل من النيل إلى بغداد ، ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه إيّاه» وسكت عليه‌السلام عن ضمان ما فات من منفعة البغل في المدّة ، فإنّ قطع هذه المسافة يتحقق بأقلّ من خمسة عشر يوما ، فيتراءى من ذلك أنّ ذمّته لم تشتغل إلّا بأجرة المنافع التي استوفاها من البغل ، دون ما لم يستوفها من المنافع ، فإنّ طيّ المسافة المزبورة إذا تحقق في مدّة عشرة أيّام كانت منافع البغل الفائتة في مدّة الخمسة غير مضمونة على مستأجر البغل.

والحاصل : أنّ المنافع التي فاتت في مدّه الخمسة التي لم يستعمل البغلة فيها غير مضمونة ، فالصحيحة تدلّ على عدم ضمان المنافع غير المستوفاة.

ومحصّل دفع التوهّم هو : أنّ ضمان المنفعة الفائتة من المغصوب من مسلّمات الفقه ، فلو فرض ظهور سكوت الامام عليه‌السلام في عدم ضمانها قلنا بأنّ هذا الظهور معرض عنه ، ومن المعلوم أنّ إعراض جميع الأصحاب عنه يوهن أصالة الجدّ فيها ، فلا يمكن التمسّك به لإثبات عدم الضمان في باب الغصب ، فكيف يعارض به الإجماع على ضمان المنفعة الفائتة للمبيع بالبيع الفاسد.

ثمّ إنّ تعبير المصنّف قدس‌سره بقوله : «وإن كان المتراءى .. إلخ» ظاهر في عدم جزمه بالاستظهار المزبور. ولعلّ وجهه أنّ سيره لم يكن من الطريق المتعارف في هذه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٥ ، الباب ١٧ من أبواب الإجارة ، الحديث ١.


إلّا أنّا لم نجد (١) بذلك عاملا في المغصوب الذي هو موردها (٢) (*).

______________________________________________________

الأعصار من الكوفة إلى بغداد ، فإنّ السير في هذا الزمان من الطريق المتعارف من الكوفة إلى بغداد وبالعكس بالبغال والحمير يتحقّق في مدّة ثمانية أيّام تقريبا ، لكن السّير في مورد الصحيحة كان على غير المتعارف ، لأنّه ركب من الكوفة إلى النيل الواقع في الواسط ـ ويسمى فعلا بالحيّ ـ ومن النيل إلى بغداد ، وقيل : إنّ السير على هذا النحو يحتاج إلى زمان أوسع.

وعلى هذا فلا يبقى للصحيحة ظهور في عدم ضمان المنافع غير المستوفاة حتى يقال : إنّه موهون بالاعراض عن العمل بها في موردها وهو الغصب ، فكيف يمكن التعدّي عن موردها إلى المقام ، وهو منافع المقبوض بالعقد الفاسد؟

(١) هذا دفع التوهّم ، وقد أوضحناه آنفا.

(٢) أي : مورد صحيحة أبي ولّاد.

__________________

(*) قد عرفت أن الأقوال في المسألة خمسة :

الأول ـ وهو المشهور ـ : الضمان مطلقا.

الثاني : عدمه كذلك ، كما ظهر من عبارة الإيضاح.

الثالث : التفصيل بين علم البائع بالفساد وجهله به ، بعدم الضمان في الأوّل ، وبالضمان في الثاني.

الرابع : التوقّف عن الحكم بالضمان في الصورة الثالثة ، وهي صورة علم البائع.

الخامس : التوقّف في الضمان مطلقا.

لكن لا يستقيم عدّ التوقّف في هاتين الصورتين من الأقوال ، لأنّ مرجع التوقّف إلى عدم الحكم ، ومن المعلوم أنّه ليس قولا ورأيا في المسألة. وعليه فالأقوال ثلاثة ، ثالثها : التفصيل بين علم البائع بالفساد وجهله به ، بالضمان في الثاني ، وعدمه في الأوّل.

أمّا القول المشهور ـ وهو الضمان مطلقا ـ فقد استدلّ له بوجوه :

أحدها : الإجماع الذي يظهر من عبارة السرائر المتقدّمة.


.................................................................................................

__________________

ثانيها : قاعدة اليد ، بعد صدق «الأخذ» على المنافع بأخذ الأعيان ، كما أفاده المصنّف قدس‌سره.

ثالثها : قاعدة الاحترام المستفادة من جملة من الروايات الدالّة على «أنّ حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» والمفروض كون المنافع من الأموال ، لتنافس العقلاء عليها ، فمنعها عن المالك بدون الضمان ينافي حرمة مال المؤمن.

رابعها : قاعدة نفي الضرر ، حيث إنّ عدم ضمان من فوّت منافع الغير ضرر عليه ، فينفى بقاعدته.

خامسها : قاعدة الإتلاف ، كما استدلّ بها السيد قدس‌سره «فإنّ الاستيلاء على العين ومنع المالك عن الانتفاع بها تفويت وإتلاف لمنافعها. ومقتضى قاعدة الإتلاف ضمانها. ولأجل هذه القاعدة نحكم بضمان منافع المغصوب التي لم يستوفها الغاصب» (١).

سادسها : قوله عجل الله تعالى فرجه وصلّى عليه وجعلناه فداه : «فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» (٢).

سابعها : ما في حاشية المحقّق الخراساني قدس‌سره من «أنّ الدّليل على ضمان المنافع هو الدليل على ضمان الأعيان ، لكون ضمانها من آثار ضمانها ولوازمه. ولا يتفاوت في ذلك بين كونها مستوفاة وغير مستوفاة كما لا يخفى. والظاهر أنّ هذا هو الوجه في ضمانها مطلقا في باب الغصب قولا واحدا. ولا أظنّ اختصاص ذلك الباب بوجه غير جار في الباب. إلّا أن يكون هو إجماع الأصحاب. لكنّه لا يظن أن يكون مدركهم أيضا إلّا ما ذكرنا ، فافهم» (٣).

وحاصله : أنّ الوجه في ضمان المنافع المستوفاة وغيرها هو : أنّ من آثار ضمان

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٩٦.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٧٧ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث ٣.

(٣) حاشية المكاسب ، ص ٣٤.


.................................................................................................

__________________

العين ضمان منافعها ، فدليل ضمان العين دليل على ضمان منافعها. وادّعى قدس‌سره أنّ هذا هو الوجه في ضمانها مطلقا في باب الغصب. إلّا أن يكون الوجه في ضمان منافع المغصوب مطلقا هو الإجماع المفقود هنا ، لكون الأقوال في ضمان منافع المقبوض بالعقد الفاسد متعدّدة ، هذا.

أمّا الاستدلال بالإجماع ففيه أوّلا : عدم الاتّفاق ، لكون المسألة ذات أقوال ، كما عرفت.

وثانيا : أنّ من المحتمل كونه مدركيّا ، بأن يكون مستندهم في الضمان ما تقدّم من قاعدتي اليد والاحترام.

وثالثا : بأنّه من الإجماع المنقول الذي تقرّر في الأصول عدم حجيّته.

مضافا إلى : أنّ الظاهر من عبارة السرائر ترتيب خصوص وجوب الرّدّ من أحكام الغصب على المقبوض بالعقد الفاسد ، ضرورة أنّ الغاصب إذا استولد الجارية المغصوبة لا يلحق به الولد ، لأنّه زان ، بخلاف ما إذا أولدها من قبضها بالعقد الفاسد ، فإنّ الولد يلحق به.

وتوجيه إجماع السرائر والتذكرة بما في تقرير شيخ مشايخنا المحقّق النائيني قدس‌سره من قوله : «ولكنّه لا يخفى انّ اختياره الضمان أخيرا ليس لاعتماده على الإجماع المنقول ، مع أنّه قدس‌سره منكر لحجّيّته في الأصول ، بل اعتمد على نقل الإجماع من جهة كشف اتفاق الأعلام على شمول قاعدة اليد والاحترام للمنافع» (١) لا يخلو من الغموض ، إذ فيه أوّلا : أن لازم الاتفاق على شمول قاعدتي اليد والاحترام للمنافع عدم الاختلاف في ضمان المنافع غير المستوفاة. وقد عرفت تعدّد الأقوال فيه.

وثانيا : أنّ موضوع القاعدتين ـ أعني بهما اليد والاحترام ـ من الموضوعات العرفيّة التي يكون المرجع في معرفتها العرف ، وليس بيد الفقيه بما هو فقيه. فالإجماع

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٣٤.


.................................................................................................

__________________

التعبّديّ القائم على تشخيص المفهوم العرفيّ أو تطبيقه على مصاديقه غير الإجماع الذي هو حجّة ـ أعني به الإجماع ـ على الحكم الشرعي.

نعم إذا كان الموضوع من الموضوعات المستنبطة التي لا بدّ فيها من الرجوع الى الفقيه ، كالغناء ، والمفازة والصعيد والآنية وغيرها وكان مرجع الإجماع إلى تحديد الموضوع الذي يترتّب عليه الحكم الشرعيّ ، فهو وإن كان وجيها. إلّا أن جماعة ناقشوا في صدق اليد على المنافع ومنهم المصنّف ، حيث قال قبل أسطر ـ بعد تسليم كون المنافع أموالا ـ ما لفظه : «بأنّ مجرّد ذلك لا يكفي في تحقّق الضمان. إلّا أن يندرج في عموم «على اليد ما أخذت ، ولا إشكال في عدم شمول صلة الموصول للمنافع».

ومع هذه المناقشة ـ بل نفي الاشكال عن عدم صدق اليد على المنافع ـ كيف يمكن أن يدّعى رجوع الإجماع إلى الاتّفاق على صدق اليد على المنافع؟ وقد تقدّم كلام الإيضاح وتنظير المنافع بالثوب الذي أطارته الريح ، فإنّه ظاهر في إنكار صدق اليد على المنافع ، فلا بدّ أن يراد بالإجماع الاتّفاق على نفس الحكم أعني به الضمان ، لا على دليل الحكم ، ولا على تحديد موضوعه. لكن قد عرفت عدم الإجماع على الضمان ، هذا.

ثمّ أفاد المحقق المذكور في وجه الضمان ما حاصله : «أنّ المقتضي له وهو اليد الشاملة للعين أصالة والمنافع تبعا ـ لصدق اليد والأخذ عليهما ـ موجود ، والمانع عنه مفقود ، لأنّه إمّا قاعدة «ما لا يضمن» في كلتا صورتي العلم بالفساد والجهل به. وإمّا تسليط البائع للمشتري على المنافع مجّانا في صورة علم البائع بالفساد.

وكلاهما مفقود ، إذ الأوّل مختصّ أصلا وعكسا بمصبّ العقد وهو العين في المقام ، والمنافع خارجة عنه ، فيرجع فيها إلى القواعد الأخر.

والثاني لا يستلزم المجّانيّة الرافعة للضمان ، لإمكان البناء على الصحة تشريعا» (١).

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٣٤.


.................................................................................................

__________________

انتهى ملخّصا.

ويتوجّه عليه : أنّ جعل وجود المقتضي وهو اليد مفروغا عنه أوّل الكلام ، لما عرفت من المناقشة في صدق اليد على المنافع ، لظهور النبويّ في اعتبار كون المأخوذ بنفسه قابلا للرّدّ ، وليست المنافع كذلك. فالظاهر قصور الحديث عن شموله للمنافع. فمع عدم تسلّم وجود المقتضي لا تصل النوبة إلى البحث عن وجود المانع أو عدمه.

بل لو سلّمنا صدق اليد على المنافع أمكن المناقشة فيه أيضا بأنّ اليد المضمّنة هي خصوص العادية ، وهي مفقودة هنا ، لعدم منع القابض للمالك عن استيفاء المنافع كما لا يخفى.

نعم قاعدة الاحترام ـ بناء على عدم اختصاصها بالحكم التكليفيّ ـ تجري في المنافع غير المستوفاة. وكذا قاعدة الإتلاف فيما إذا استند تفويت المنافع إليه على التفصيل الآتي.

وأمّا الاستدلال بقاعدة اليد ، ففيه : أنّ اليد وإن كانت كناية عن الاستيلاء الصادق على الأعيان والمنافع ، وليس المراد بها خصوص الأخذ بالجارحة الخاصّة قطعا ، وإلّا يشكل الأمر في غير المنقولات كالأرض والدار ونحوهما ، لكن الذيل وهو «حتى تؤدي» ظاهر في كون المأخوذ بنفسه مردودا ، فيختصّ النبويّ بما كان في نفسه قابلا للرّدّ وإن امتنع عرضا كالتلف.

وبالجملة : فجعل اليد كناية عن الاستيلاء الشامل للأعيان والمنافع لا يجدي في شمول النبويّ أيضا للمنافع ، مع قرينيّة «حتى تؤدّي» على كون المأخوذ بعينه قابلا للرّدّ ، فيختصّ النبويّ بالأعيان.

وأمّا قاعدة الاحترام فهي متوقّفة على صدق المال على المنفعة ، لإضافة نفي الحل إلى المال في قوله عليه‌السلام : «حرمة ماله كحرمة دمه» أو «لا يحل مال امرء مسلم» ومع الصدق لا ينبغي الإشكال في صحة الاستدلال بها.


.................................................................................................

__________________

ودعوى كونها في مقام بيان الحكم التكليفي ـ وأنّه لا يجوز التصرّف فيه بدون إذنه ، بقرينة السياق المستفاد من الجمل السابقة ، كقوله : «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر ، وأكل لحمه معصية» إذ لا ريب في ظهورها في الحكم التكليفيّ ـ غير مسموعة ، لأنّه خلاف إطلاق الحرمة ، فاحترام المؤمن وشرفه يقتضي حرمة التصرّف في ماله بدون إذنه ، وضمانه أيضا لو أتلفه متلف بغير إذنه الرافع للضمان.

وأمّا قاعدة الإتلاف فهي منوطة أيضا بصدق المال على المنافع ، وإلّا فلا إشكال فيها من حيثيّة أخرى.

والإتلاف وإن كان إعدام الموجود ، إلّا أنّ التّفويت الّذي هو إبداء المانع عن الوجود يستفاد من النصوص الّتي هي مدرك قاعدة الإتلاف أيضا.

فالاتلاف أعمّ من إعدام الموجود ومن المنع عن الوجود.

وقد يستشكل في جريان القاعدة في المنافع المستوفاة فضلا عن غير المستوفاة بما في حاشية سيّدنا الأستاذ قدس‌سره من : أنّ المستفاد من أدلّة القاعدة خصوص الإضرار بالعين بالجناية على ذاتها أو صفاتها ، فلا تشمل المنافع الّتي هي اعتبار محض ، فالتمسك بقاعدة الإتلاف لضمان المنافع مطلقا مشكل (١).

لكن يمكن أن يقال : إنّ المراد بالنقص هو العرفي الصادق على المنافع التي هي اعتبار محض ، فتفويت المنافع بلا عوض جناية عرفا على المنفعة التي هي صفة العين.

وأمّا قاعدة الضرر فلا إشكال في التمسّك بها أيضا ، بعد صدق النقص على فوت المنافع تحت يد قابض العين. والاشكال عليها بما قيل من : «أنّها ناظرة إلى الأحكام الشرعيّة التي ينشأ منها الضرر ، وعدم الضمان ليس حكما شرعيّا ، فلا تجري القاعدة فيه» مندفع بما عرفت من : أنّ عدم الضمان كسائر الأعدام بعد تشريع الأحكام أيضا حكم شرعيّ يحكم عليه القواعد الثانويّة كقاعدتي الضرر والحرج ، فإنّ تفويت المنافع على

__________________

(١) نهج الفقاهة ، ص ١٣٦.


.................................................................................................

__________________

مالكها ضرر عليه ، لكونها مالا عرفا ، فينفى بقاعدة نفي الضرر فإتلافها يوجب الضرر وهو النقص في مال مالكها ، لا أنّه يوجب عدم النفع ، كما لا يخفى.

وأمّا قوله عجّل الله تعالى فرجه وصلّى عليه : «فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف ..» فحاصل الكلام فيه : أنّ عدم حلّيّة التصرّف ـ الذي هو فعل اختياريّ ـ ظاهر في الحرمة التكليفيّة المستتبعة للمؤاخذة والعقوبة ، وعدم حلية المال ظاهر في التبعيّة والخسارة ، وذلك هو الضمان. فحرمة المال يراد بها الحكم الوضعيّ أعني به الضمان ، وحرمة الفعل كالتصرّف يراد بها الحكم التكليفيّ أعني به الحرمة. وهذا هو ظاهر الرواية.

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره في عبارته المتقدّمة ففيه : أنّه إن أراد اقتضاء أخذ العين ضمان منافعها ـ لتحقّق الاستيلاء عليها بجميع حيثيّاتها وشؤونها بسبب الاستيلاء على العين ـ فيرد عليه ما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من : أنّ المنافع لا فعليّة لها ، لأنّها موجودات بالقوّة ، فلا يصدق عليها الاستيلاء (١).

لكن لا يخفى أنّ هذا ما يقتضيه النظر الدّقّي العقليّ الذي لا عبرة به في المقام. وأمّا النظر العرفي فيساعد على صدق الاستيلاء على المنافع غير المستوفاة. ولذا يصحّ جعلها طرفا لإضافة الملكيّة ، فإنّ الإجارة تمليك لتلك المنافع الّتي هي حيثيّات قائمة بالعين ، فلا يعتبر في صحّة تمليكها ، ولا في صدق الاستيلاء عليها فعليتها ، بل المدار في صدق الاستيلاء عليها وصحّة اعتبار الملكيّة لها عرفا وجودها الشأنيّ كقابليّة الدار للسكنى ، لا الوجود الفعلي ، حتّى يقال : إنّها قبل فعليتها إعدام ، فلا يصحّ الاستيلاء عليها.

فالاستيلاء على العين من قبيل الواسطة في الثبوت للاستيلاء على منافعها ، لا من قبيل الواسطة في العروض كحركة السفينة ونحوها بالنسبة إلى جالسهما ، إذ لو كان من قبيل الواسطة في العروض لزم عدم ضمان حابس الحرّ الأجير المقدّر عمله بأجرة ، لأنّ الاستيلاء على العين لا يوجب ضمانها حتى تضمن منافعها عرضا ، فلا بدّ من الحكم

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٨.


.................................................................................................

__________________

بعدم ضمان حابس الحرّ ، إذ لا ضمان لنفس العين التي استولى عليها ذاتا ـ وهي الحرّ ـ حتى يصح نسبته عرضا إلى منفعته وهي عمله.

وإن أراد أنّ نفس ضمان العين بدليله الخاصّ مستلزم لضمان منافعه من دون سبب آخر بالإضافة إلى منافعها ، فيرد عليه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره (١) من أنّه يشبه الجزاف ، إذ معناه أنّ ضمان شي‌ء بموجبه سبب لضمان شي‌ء آخر ، فنفس الضمان يكون من أسباب الضمان. مع أنّه لا شبهة في ضمان المنافع المستوفاة بدون ضمان العين ، كما إذا اشترى عينا مسلوبة المنفعة مدّة ، فاستوفى منافعها في تلك المدة ، فإنّ المنافع مضمونة والعين غير مضمونة حتى يكون ضمانها بضمان العين. وكما إذا استوفى عمل الحرّ ، فإنّ الحرّ غير مضمون ، مع أنّ عمله المستوفي مضمون إلى غير ذلك.

نعم لا مانع من أن يكون الحديث دليلا على قاعدة التبعيّة ، يعني : أنّ ضمان العين في موارده يوجب ضمان ما يعدّ من توابعها من باب التبعيّة ، كتمليك العين الموجب لتمليك منافعها تبعا ، لكون البيع تمليك العين لا المنفعة ، فإنّ التبعيّة جارية في كثير من الموارد كالطهارة والنجاسة والإسلام والكفر وغير ذلك.

ولا يرد عليه : أنّ لازمه أن يكون ضمان شي‌ء بسببه سببا لضمان شي‌ء آخر. وجه عدم الورود : أنّ ذلك الشي‌ء إن كان من توابع العين المضمونة فلا مانع من ضمانه تبعا. وإن لم يكن من توابعها لم يلزم ذلك أصلا ، للاختصاص بالتوابع ، لا كل شي‌ء ولو كان أجنبيا عن مورد اليد. فلا يلزم أن يكون سبب ضمان الدار مثلا موجبا لضمان العبد.

ومن هنا يظهر الاشكال فيما ذكره قدس‌سره من النقض باستيفاء منافع العين المسلوبة المنفعة واستيفاء عمل الحرّ ، فإنّ اليد تدلّ على عقد إيجابيّ ، وهو أنّ العين إذا صارت مضمونة صارت منافعها مضمونة أيضا. ولا تدلّ على عقد سلبي وهو عدم ضمان المنافع إذا لم تكن العين مضمونة.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٨.


.................................................................................................

__________________

والحاصل : أنّ المدلول عقد إيجابيّ أعني به ضمان المنافع بتبع ضمان العين ، وليس المدلول عدم ضمان المنافع تبعا لعدم ضمان العين ، فيرجع في ضمان منفعة الدار المسلوبة المنفعة وعمل الحرّ المستوفي ونحوهما إلى دليل آخر ، كقاعدة الاحترام وغيرها ، هذا.

مضافا إلى : أنّ قاعدة اليد المقتضية لضمان المنافع التابعة لما أخذته اليد من العين من العمومات القابلة للتخصيص.

فالمتحصّل : أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره من التمسّك بقاعدة اليد لضمان المنافع المستوفاة وغيرها مما لا بأس به.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّ ما عن المشهور من ضمان المنافع غير المستوفاة لا يخلو من قوة.

إلّا أن يناقش في صدق الأخذ على المنافع وإن صدق عليها القبض بأخذ العين ، بأن يقال : إنّ الأخذ لا يصدق على التخلية ورفع المانع عن استيلاء الغير ، بخلاف القبض ، فإنّه يصدق عليه. والأخذ ظاهر في الاستيلاء المقرون بالغلبة ، والمقبوض بالعقد الفاسد يكون مبنيّا على الوفاء بالعقد لا القهر والغلبة ، فالتمسّك بقاعدة اليد لضمان المنافع غير المستوفاة مشكل جدا.

فإن دلّ دليل آخر على الضمان كقاعدة الاحترام وغيرها فلا كلام ، وإلّا فتصل النوبة إلى الأصل المقتضي لعدم الضمان.

إلّا أن يدّعى أنّ موضوع الضمان لمّا كان من الموضوع المركّب أمكن أن يقال : إنّ الاستيلاء على مال الغير محرز وجدانا ، وجزءه الآخر وهو عدم الرضا محرز بالاستصحاب ، فيتمّ موضوع الضمان.

إلّا أن يستشكل في الاستصحاب بأنّ القبض لمّا كان بعنوان الوفاء بالعقد. فالرّضا محرز ، دون عدمه حتى يستصحب ، ويثبت به الضمان ، والله العالم.


.................................................................................................

__________________

وأمّا القول بعدم الضمان مطلقا وهو المنسوب إلى فخر المحقّقين قدس‌سره فقد عرفت وجهه من عبارته التي نقلناها عنه في التوضيح ، وضعفه.

وأمّا القول بالضمان في صورة جهل البائع بالفساد ، وعدمه في صورة علمه به فقد تعرّضنا لوجهه بقولنا : «وجه الاشكال أنّ المالك مع علمه بالفساد .. إلخ».

وأمّا التوقّف في صورة علم البائع بالفساد فوجهه ما تقدّم في التوضيح من تسليط البائع.

لكن فيه : أنّه لو تمّ اقتضى عدم الضمان لا التوقّف فيه.

وأمّا التوقّف مطلقا فوجهه تضارب الأدلة.

أقول : لعلّ الأقرب التفصيل ، بأن يقال : إنّ المشتري مع علمه بالفساد يضمن ، لقاعدة الإتلاف ، حيث إنّ عدم انتفاع المالك بماله مستند إلى قبض المشتري العالم بعدم استحقاقه للقبض الموجب لكون يده عادية ، فلو لم يقبضه كان البائع قادرا على الانتفاع بماله ، فالمشتري غاصب فوّت المنافع على المالك ، فيضمن. ومع جهله بالفساد لا يضمن ، لأنّ فوت المنافع لا يستند إلى المشتري ، بل إلى البائع الدافع للمبيع إليه ، لبنائهما على صحّة العقد ، فلا يعدّ يد المشتري عادية. نعم إذا علم بالفساد وتساهل في دفع المبيع إلى البائع ضمن جميع المنافع من المستوفاة وغيرها.

وبالجملة : فصدق اليد العادية على يد المشتري مع جهله بالفساد ، وكون قبضه مبنيّا على زعم صحّة العقد الموجب لعدم التزامه بردّ المبيع إلى المالك العالم بالفساد محلّ تأمّل بل منع.

نعم إذا نهض دليل على «أنّ كلّ من وقع تحت يده مال الغير ضامن له إلّا ما خرج بدليل» كان لضمان المنافع من المستوفاة وغيرها وجه. وعليه فلا يحكم بضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء إلّا مع علم المشتري بالفساد ، بحيث يستند فواتها إلى فعله وإلّا فلا دليل على الضمان أصلا.


.................................................................................................

__________________

أمّا اليد فلعدم صدقها على المنافع غير المستوفاة أوّلا ، ولعدم كونها عادية على تقدير صدقها عليها ثانيا. إذ الظاهر أنّ المراد بالعادية ـ بناء على تعنون اليد بها ـ ما لا يحكم شرعا ولو ظاهرا بعدم العداونيّة كالمقبوض بالعقد الفاسد ، فإنّ يد القابض قبل علمه بفساد العقد ليست عادية ، للحكم بصحّة العقد ظاهرا بمقتضى أصالة الصحة ، فلا تكون يده عادية ، بل حقّة في ظاهر الشرع.

إلّا أن يقال : إنّ اليد وإن لم تشمل يد القابض حدوثا ، لكنّها بعمومها الأزماني تشملها بعد علمه بالفساد بقاء.

وأمّا ضمانها على القول به في الغصب فلصدق الإتلاف والتفويت عليها ، وكون حبس العين الذي هو فعل الغاصب سببا لفواتها على المالك كما لا يخفى.

وأمّا قاعدة الاحترام فهي غير جارية ، للتعارض ، لأنّ احترام مال مؤمن لا يقتضي سلب احترام مال مؤمن آخر بلا وجه. ولا يكون الإضرار بمؤمن آخر من مقتضيات احترام مال مؤمن غيره ، ضرورة أنّ المشتري لم يهتك حرمة مال البائع ، بل قبضه بعنوان مال نفسه.

نعم مع العلم بالفساد وحبسه يصدق الهتك.

وأمّا قاعدة الضرر فهي معارضة بمثلها في طرف المشتري ، إذ المفروض أنّ أخذ بدل المنافع الفائتة من المشتري ضرر عليه ونقصان في ماله ، إذ لم يعد إليه نفع.

وأمّا قاعدة الاستيفاء فلا موضوع لها ، إذ المفروض عدم استيفائها.

وأمّا أصالة الضمان فموردها الشكّ في تحقّق موضوعها ، وهو الاستيلاء على مال الغير بدون رضا مالكه ، فيقال : إنّ الاستيلاء محرز وجدانا ، وعدم الرضا تعبّدا للاستصحاب ، فيتمّ موضوع الضمان ، كسائر الموضوعات المركّبة المحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها الآخر بالتعبّد.

وليس المقام كذلك ، لأنّ الشكّ في ضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء ليس ناشئا


.................................................................................................

__________________

من الشكّ في طيب نفس المالك حتى يستصحب عدمه. بل الشك نشأ عن احتمال صدق أصل اليد أو اليد العادية على المنافع غير المستوفاة وعدمه. وهذا لا يجري فيه الأصل ، لأنّه بعد قبض العين إمّا يصدق اليد على منافعها ، وإمّا لا تصدق عليها ، فالشّكّ يكون في قابليّة المنافع لوقوعها تحت اليد ، وهذا الشكّ مانع عن التمسّك بقاعدة اليد ، لكون الشبهة مصداقيّة ، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب لا يثبت القابليّة.

نظير الشكّ في تحقّق التذكية ، للجهل بقابليّة الحيوان لها ، فإنّ الأصل لا يجري في القابليّة ولا يثبتها ، لأنّ الحيوان إمّا خلق قابلا للتذكية ، وإمّا خلق غير قابل لها. نظير القرشيّة ، فإنّ الأصل في العدم المحموليّ لا يثبت عدم القابليّة وعدم قرشيّة المرأة إلّا بناء على الأصل المثبت. وفي العدم النعتيّ الذي هو موضوع الأثر لا يجري ، لعدم العلم بالحالة السابقة.

وقد ظهر من هذا البيان عدم المجال لأصالة الضمان في المنافع غير المستوفاة ، لأنّه على تقدير صدق اليد عليها لا ينبغي الإشكال في الضمان ، وعلى تقدير عدمه لا ينبغي الإشكال في عدم الضمان ، فتنتهي النوبة إلى الأصل المحكوم وهو أصالة البراءة عن الضمان.

بل يمكن أن يقال بعدم الضمان ولو مع صدق اليد على المنافع أيضا ـ بعد البناء على كون اليد المضمّنة هي العادية ، واليد غير المضمّنة هي الأمانيّة ـ لأنّه يشك في صدق العدوانيّة عليها ، فيتشبّث بأصالة البراءة لنفي الضمان.

فالمتحصّل : أنّه في صورة علم المشتري بالفساد تكون المنافع مضمونة عليه. وفي صورة جهله به لا ضمان عليه. أمّا في الصورة الأولى فلكون يده عادية كالغاصب ، بل هو نفسه. وأمّا في الثانية فللأصل بعد عدم الدليل على الضمان. وليكن هذا قولا سادسا في المسألة.

فقد ظهر وجه العقد السلبيّ أعني به عدم الضمان في صورة جهل المشتري بالفساد ، كما ظهر وجه العقد الإيجابيّ ، وهو الضمان في صورة علم المشتري بالفساد.


.................................................................................................

__________________

كما ظهر أيضا وجه عدم دخل علم البائع وجهله بالفساد في الضمان وعدمه ، والله العالم.

ثمّ إنّ سيّدنا الخويي قدس‌سره التزم بعدم الضمان ، لوجهين :

«أحدهما : عدم جريان قاعدة الإتلاف في تلك المنافع ، لعدم استناد الإتلاف إلى القابض ، حيث إنّه لم يزاحم المالك في استيفائها.

ثانيهما : عدم جريان السيرة على ضمانها بمجرّد تلفها تحت يد القابض من دون استناد إليه.

وناقش في الوجوه التي استند إليها القائلون بالضمان ـ من قاعدتي اليد والاحترام وحديث الحلّ والإجماع ـ بعدم جريان قاعدة اليد في المنافع غير المستوفاة ، لعدم قابليّتها للردّ.

وبعدم جريان قاعدة الاحترام فيها ، إذ ليس مقتضاها أزيد من توقّف جواز التصرّف على إذن المالك.

وبأنّ حديث الحلّ لا يدلّ إلّا على حرمة التّصرّف تكليفا.

وبأنّ الإجماع غير ثابت أوّلا. وعلى تقديره يكون المتيقّن من معقده هو وجوب الرّدّ فقط ، لا جميع أحكام الغصب» (١) انتهى ملخصا.

وتوضيح ما له وعليه تقدم فيما اخترناه.

فروع ترتبط بضمان المنافع

أ : ضمان عمل الحرّ الكسوب المحبوس

ثمّ إنّه يناسب المقام التعرّض لبعض الفروع المبتلى بها في هذا العصر :

الأوّل : ما إذا حبس ظالم حرّا كسوبا ، فهل يضمن ما فات عنه في مدّة الحبس من العمل الذي يبذل بإزائه المال أم لا؟ فيه قولان ، وقد ذكرناه في بحث عمل الحرّ ، فراجع (٢).

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ١٣٨ الى ١٤٤.

(٢) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٧٥ إلى ٨٥.


.................................................................................................

__________________

ب : جواز مطالبة المستأجر بتخلية العين المستأجرة

الثاني : ما إذا استأجر دكّانا واتّجر فيه مدّة مديدة ، وباع جملة من متاعه نسية ، وبعد انتهاء مدّة الإيجار أخرجه المؤجر عن الدكّان وأخذه منه ، وهذه الإخراج يوجب تضرّر المستأجر ، لذهاب أمواله التي تكون على الناس ، لعدم معرفتهم بمكانه الفعلي حتى يؤدّوا إليه. وكذا يتضرّر المستأجر بترك تجارته مدّة حتى يتهيّأ له محلّ جديد ، ويعرف الناس مكانه ليعاملوا معه ويؤدّوا أمواله ، فهل تكون هذه الخسارات على عهدة المؤجر أم لا؟ للمسألة صورتان :

الأولى : ما إذا لم يشترط المستأجر على المؤجر بقاءه في الدكّان إلى مدّة مديدة يريد استيجاره فيها. والثانية : ما إذا اشترط على المؤجر ذلك.

أمّا الأولى فملخّص البحث فيها : أنّ مقتضى سلطنة المؤجر على ماله جواز أخذ الدّكّان من المستأجر ، وعدم ثبوت حقّ للمستأجر في الدّكّان ، إذ المفروض عدم اشتراط حقّ لبقائه. ومجرّد استيجاره الدكّان مدّة مديدة لا يوجب حقّا له بحيث يسقط سلطنة المالك على دكّانه ، ويجب عليه إبقاء المستأجر فيه.

والظاهر عدم موجب لضمان المؤجر لخسارات المستأجر ، لأنّ المديونين يجب عليهم الفحص عن الدائن ومكانه مقدّمة لأداء دينهم ، فالضرر الوارد على المستأجر من ناحية أمواله التي له على الناس مستند إلى تقصير المديونين في أداء ديونهم ، لا إلى المؤجر ، فلا يجري شي‌ء من أسباب الضمان ـ كقواعد الضرر والإتلاف واليد والاحترام ـ في المقام ، لأنّ مناط شمولها لمورد هو عدم توسّط إرادة فاعل مختار بين موارد هذه القواعد ، والشخص الذي يراد تضمينه لا بدّ من استناد الفعل اليه ، نظير إرسال الماء إلى دار الجارّ مثلا ، فإنّ انهدام الدار حينئذ منسوب إلى مرسل الماء ، لعدم توسّط فعل فاعل مختار بين الانهدام وبين إرسال الماء حتى يستند الانهدام إليه.


.................................................................................................

__________________

بخلاف المقام ، فإنّ الخسارات المتوجّهة إلى المستأجر ناشئة من تقصير المديونين ، فيتوسّط بين تلف أمواله وبين أخذ المالك دكّانه إرادة فاعل مختار أعني به المديونين ، فلا يستند تلف الأموال إلى المالك حتى يكون ضامنا لها ، بل يستند إلى فعل المديونين ، وهو تقصيرهم في الأداء. هذا ما يرجع إلى أمواله التي على الناس.

وأمّا ما يرد عليه من ضرر تعطيل تجارته إلى زمان ظفره بمحلّ لها ، فليس ضررا أي نقصا ماليّا ، بل هو من عدم النفع ، فلا تشمله قاعدة الضرر.

وبالجملة : فما نحن فيه أجنبيّ عن قاعدة نفي الضرر ، إمّا لعدم صدق الضرر ، وإمّا لعدم كونه مستندا إلى مالك الدكّان. وكذا قاعدة الاحترام ، لأنّ مال المالك أيضا محترم ، وهو يتصرّف في ماله لقاعدة السلطنة.

نعم لو فرض كون أخذ الدكّان من المستأجر علّة تامة لفوات مال أو عمل ذي قيمة منه ـ كما إذا كان محلّ الخياطة منحصرا بذلك الدكّان ، بحيث لا يمكن اشتغاله بها في غيره ، ويتّصف إخراجه عن الدكّان بالتفويت ـ أمكن أن يقال بالضمان ، وأنّ الخياطة الفائتة منه مضمونة على مالك الدكّان ، إذا أعطي المستأجر أجرة المثل ، بحيث لا يتضرّر المالك من بقاء المستأجر في الدكّان ، ولا من جهة أخرى.

والوجه في الضمان حينئذ قاعدة الضرر من دون معارض ، إذ المفروض عدم تضرّر المالك ببقاء المستأجر في الدّكّان ، حتى يقال : بوجوب دفع ضرر عن الغير ، وهو المستأجر ، وتحمّله عنه. بل ليس في البين إلّا قاعدة السلطنة ، وهي محكومة بقاعدة الضرر.

والحاصل : أنّه على تقدير كون فعل المالك ـ أي أخذ الدكّان من المستأجر ـ علّة تامة لضرر المستأجر ، أو وقوعه في الحرج والمشقة يمكن القول بضمان المالك له إن لم يكن في البين سوى قاعدة سلطنة المالك على ماله.


.................................................................................................

__________________

ولا بأس ببيان صور المسألة ، وهي : أنّ قاعدة الضرر في ناحية المستأجر تارة لا معارض لها إلّا قاعدة سلطنة المالك. واخرى يعارضها قاعدة الضرر في ناحية المالك ، أو قاعدة الحرج ، فللمسألة صور :

إحداها : كون سلطنة المالك ضررا على المستأجر أو حرجا عليه من دون لزوم ضرر على المالك ، فحينئذ يقدّم حق المستأجر على حقّ المالك ، لكون سلطنة المالك حينئذ ضررا أو حرجا على المستأجر ، فتنفى بقاعدة الضرر أو الحرج.

ثانيتها : أن يتعارض الضرران ، كما إذا تضرّر المالك ببقاء المستأجر في الدكّان ، وتضرّر المستأجر أيضا بتخلية الدكّان.

ثالثتها : كون التخلية حرجا على المستأجر ، وعدمها حرجا على المالك ، فيتعارض قاعدتا الحرج.

رابعتها : كون التخلية ضررا على المستأجر ، وعدمها حرجا على المالك.

خامستها : عكس ذلك ، بأن تكون التخلية حرجا على المستأجر ، كما إذا وقع في مشقّة استيفاء أمواله من الناس ، وعدمها ضررا على المالك ، فيقع التعارض في هاتين الصورتين بين قاعدتي الضرر والحرج ، فيرجع إلى قاعدة السلطنة ، فللمالك إلزام المستأجر بالتخلية.

وبالجملة : هنا كبريان في قاعدة الضرر : إحداهما : حرمة الإضرار بالغير ، بأن يكون فعله علّة تامّة أو الجزء الأخير منها لورود الضرر على الغير.

ثانيتهما : عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير.

وللمسألة المبحوث عنها صور يندرج بعضها في القاعدة الاولى ، وبعضها الأخر في القاعدة الثانية. ومجموع الصور المتصورة في هذه المسألة تسعة :

الأولى : عدم الضرر لا للمالك في عدم التخلية ، ولا للمستأجر في التخلية.


.................................................................................................

__________________

والحكم فيه وهو سلطنة المالك على إلزام المستأجر بالتخلية واضح لا غبار عليه.

وبقيّة الصور أربع منها مركّبات ، ومثلها بسائط.

أمّا المركّبات فهي : تضرّر كلّ من المالك بعدم التخلية والمستأجر بالتخلية ، وحرجيّة التخلية وعدمها للمالك والمستأجر ، وكون التخلية ضررا على المستأجر وحرجا على المالك ، وعكس ذلك.

وفي هذه الصور الأربع ـ بعد تعارض الضررين أو الحرجين أو المختلفين ـ يرجع إلى قاعدة سلطنة المالك المقتضية لجواز إلزامه المستأجر بتخلية الدكّان. هذا بناء على كونها من صغريات كبرى التعارض.

وأمّا بناء على صغرويّتها لكبرى عدم وجوب دفع الضرر والمشقّة عن الغير ، فيقدّم حقّ المالك على المستأجر ، إذ لا يجب على المالك دفع الضرر أو المشقّة عن المستأجر ، فلا بدّ من التأمّل في أنّ الضرر أو الحرج الوارد على المستأجر هل هو ناش عن فعل المالك أو غيره؟

فعلى الأوّل تسقط سلطنة المالك بضرر المستأجر ، كسقوط سلطنة المالك على حفر بالوعة في داره إضرارا بجاره ، فإنّ ضرر الجار يسقط سلطنة الحافر على حفر البالوعة في داره ، لكونه من صغريات الإضرار بالغير.

وعلى الثاني لا تسقط سلطنة المالك ، لكونه من صغريات كبرى عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير.

وأمّا البسائط ، وهي الضرر على المالك فقط ، والحرج عليه كذلك ، والضرر على المستأجر فقط ، والحرج عليه كذلك ، فالحكم في الأوليين منها سلطنة المالك على إلزام المستأجر بالتخلية ، لوضوح عدم مانع من قاعدة السلطنة. وفي الأخريين منها يكون


.................................................................................................

__________________

الحق للمستأجر إن كان فعل المالك موجبا لوقوع المستأجر في الضرر والحرج الرافعين لسلطنة المالك ، وإلّا فسلطنة المالك باقية على حالها ، لعدم وجوب دفع الضرر أو المشقّة عن الغير.

ولو نوقش في سلطنة المالك ففي استصحابها غنى وكفاية ، حيث إنّه قبل الإيجار كان سلطانا على شؤون دكانه ، والآن كما كان ، فتأمّل جيّدا.

هذا كلّه في الصورة الاولى وهي عدم الشرط على المالك.

وأمّا الصورة الثانية وهي ما إذا شرط المستأجر على المالك في ضمن عقد لازم أن يؤجره الدّكّان إلى مدّة مديدة كعشرين سنة ، فليس للمالك إلزام المستأجر بالتخلية ، بل عليه أن يؤجره الدكّان بعد مضي السنة الاولى من مدّة الإجارة ، فلو لم يؤجره وأجبره بالتخلية ، فتضرّر المستأجر بتخلية الدكّان ضمن المالك كلّ ضرر يرد على المستأجر من ناحية التخلية ، لقاعدة الضرر ، حيث إنّه صار سببا لوقوعه في الضرر ، فلو آجر المالك دكّانه من غير المستأجر المشروط له فله فسخه وإجباره المالك بأن يؤجره منه.

ففائدة الشرط قصور سلطنة المالك عن الإيجار من الغير. بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ المالك فيها مسلّط على ماله ، ولا ملزم له بان يؤجر الدكّان من المستأجر. فالإجارة الثانية فضوليّة منوطة بإجازة المستأجر الأوّل ، وله أخذ مال لإسقاط حقّه من المالك أو المستأجر الثاني ، كما أنّ له إسقاط هذا الحقّ مجّانا.

ثمّ إنّه مع الشرط المزبور ليس للمستأجر الشارط إلّا إلزام المالك بأصل الإيجار ، وليس له إلزامه بالإيجار بمبلغ معيّن ، إلّا إذا شرطه على المالك أيضا في ضمن عقد لازم ، بأن شرط عليه بأن يؤجره الدكّان عشر سنين مثلا كلّ سنة بكذا ، فحينئذ يكون الشرط بالنسبة إلى أصل الإيجار والأجرة نافذا ، فيجب على المالك الوفاء بهما كما لا يخفى.

وهل يجوز للمستأجر أن يأخذ مالا من المالك أو الأجنبيّ لإسقاط حقّه؟ الظاهر


.................................................................................................

__________________

ذلك. أمّا بالنسبة إلى المالك فلا ينبغي الإشكال فيه ، لأنّ فائدة إسقاط الشرط دفع قصور سلطنة المالك ، وهذا غرض عقلائيّ. وأمّا بالنسبة إلى الأجنبيّ فلأنّ بذل المال لرفع الموانع عن الوصول إلى الأغراض العقلائيّة ممّا جرت عليه السيرة الممضاة شرعا ، وحيث إنّ الشرط كجزء أحد العوضين يكون حقّا للشارط وقابلا بنفسه للنقل والانتقال إن لم يكن هناك مانع كشرط تقوّم الشرط بنفس المشروط له صريحا أو ضمنا.

ففي مسألتنا إن كان شرط الإيجار على المستأجر مقيّدا بنفسه لم ينتقل إلى وارثه ، كما لا يقبل النقل إلى غيره. نعم هو قابل للإسقاط مجّانا ومع العوض ، سواء أكان معطي العوض نفس المشروط عليه أم الأجنبي.

كما أنّه بدون شرط المباشرة يكون الشرط قابلا للانتقال القهري كالإرث ، إذ مع الشكّ لا مانع من استصحابه إلى زمان موت المشروط له ، فيشمله ما دلّ على أنّ ما تركه الميّت فلوارثه. هذا كلّه إذا كان حقّ المستأجر ناشئا من مجرّد الشرط الضمنيّ.

وأمّا إذا كان ناشئا من بذل السرقفليّة إلى المؤجر كان تابعا لكيفيّة المعاهدة بينهما ، وتتصور المسألة بوجوه ليس هنا محل ذكرها ، واستوفينا الكلام فيها في رسالة المسائل المستحدثة ، وفقنا الله لنشرها.

ج : حق الطبع والنشر

الثالث : أنّه إذا عمل عملا يوجب نقصان ماليّة مال الغير ، كما إذا كان وجيها عند الناس ، وجعل محلّ تجارته في مكان يوجب كساد تجارات غيره ، أو نزّل سعر السّلع فأقبل الناس إليه وأدبروا عن غيره ، أو طبع كتابا عزيز الوجود وصار بذلك كثير الوجود وقليل الثمن ، فهل يوجب ذلك ضمانا على من تسبّب تنزّل الماليّة أم لا؟


.................................................................................................

__________________

الحقّ التفصيل بين الموارد ، بأن يقال : إنّ العمل المزبور إن كان تصرّفا في ملك الغير ـ كما إذا طبع ما ألّفه غيره بدون إذن مؤلفه وصار الطبع سببا لتنزّل قيمة الكتاب ـ ضمن المتصرّف النقص الماليّ الحاصل بسبب الطبع ، حيث إن الكتاب مملوك ذاتيّ للمؤلّف بمعنى كونه نتيجة لعمله وفكره ، والناس مسلّطون على أموالهم ، ولا يجوز التصرّف فيه إلّا بإذنهم وطيب نفوسهم. ولو كان التصرّف منقّصا لماليّته ضمن النقص ، لأنّه أتلف ماليّة مال الغير. والتصرّف العدوانيّ يوجب الضمان بالنسبة إلى نفس المال وماليّته ، كما إذا غصب ثلجا أو ماء في مفازة وأراد أن يؤدّي الثلج في الشتاء أو الماء على الشاطئ ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

والحق عدم الضمان في شي‌ء من الموارد ، لأنّ قاعدة الضرر لا تجري أوّلا ، لأنّ الضرر عبارة عن النقص في المال أو العرض أو الطرف. والمقام يكون من نقص الماليّة ، لا من نقص المال ، إذ لم يرد نقص في نفس المال.

وثانيا : على تقدير جريانها متعارضة ـ بعد وضوح كونها من الأحكام الامتنانيّة ـ لتضرّر النوع بغلوّ سعر تلك السلعة التي صارت عزيزة الوجود ، ومن المعلوم أنّ الضرر النوعيّ أهمّ من الشخصي.

نعم في مثال طبع الكتاب من غير إذن مؤلّفه يكون للمؤلّف حق إجازة النشر وعدمها ، فلو طلب من طابعه مالا لأن يأذن له في نشره كان له ذلك ، لأنّ النشر تصرّف فيما ألّفه ، فله المنع عن النشر وأخذ المال لرفع هذا المنع.

فالمتحصّل : أنّه لا ضمان في غير قضيّة طبع الكتاب بغير إذن المؤلّف. وأمّا هو فقد عرفت أنّ للمؤلّف أخذ مال للإجازة في نشره. وأمّا كونه شريكا في المطبوع ـ لكون ما فيه من المطالب من نتائج أعمال المؤلّف المملوكة له بالملكيّة الذاتيّة ـ فهو غير واضح ، إذ الكتاب مملوك بالملكيّة الاعتبارية لطابعه. وأمّا المطالب فهي وإن كانت نتيجة أعمال المؤلّف وأفكاره ، لكنّها ليست مملوكة له بالملكيّة الاعتباريّة. ولو بني على


.................................................................................................

__________________

التضمين بالملكيّة الذاتيّة لزم من ذلك تضمين حابس الحرّ الكسوب وإن لم يستوف عمله. والظاهر عدم التزامهم بذلك ، لأنّهم لم يلتزموا بكفاية الملكيّة الذاتيّة في الضمان ، واعتبروا فيه الملكيّة الاعتباريّة.

لكن يبقى حينئذ سؤال الفرق بين استيفاء الحابس عمل الحرّ وعدمه ، بالضمان في الأوّل دون الثاني ، إذ الاستيفاء لا يجعل عمل الحرّ مملوكا اعتباريّا له حتى يضمنه الحابس.

نعم إذا صار أجيرا ، ثم حبسه الحابس كان ضامنا لعمله ، سواء استوفاه أم لا ، لأنّ عمل الحرّ بسبب الإجارة صار ملكا اعتباريّا للمستأجر ، فيضمنه الحابس كضمان عمل العبد بالحبس ، فإنّ عمله مملوك للسيّد ملكيّة اعتباريّة تبعا لرقبته.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّه لا وجه للضمان في الأمثلة المزبورة.

نعم في طبع الكتاب بدون إذن المؤلّف وإن لم يكن ضمان على الطابع ، إلّا أنّ اختيار نشر مطالبه وكتمانها بيده ، لأنّها نتيجة عمله ، فهي مملوكة له بالملكيّة الذاتيّة. ومقتضى «الناس مسلّطون على أنفسهم» سلطنته على ما هو من شؤون نفسه وأعماله ، فله الاذن في نشر مطالبه مجّانا ومع العوض.

وأمّا القرطاس والخطوط فهي مملوكة للطابع ملكيّة اعتباريّة ، والمؤلّف أجنبيّ عنهما.

ويمكن أن يقال : إنّ المؤلّف يصير مالكا لماليّة مطالب الكتاب لا نفس الخطوط والنقوش ، وتكون مالكيّته لها نظير مالكيّة الزوجة بالإرث ماليّة الأبنية ، إذ لا ترث من نفس البناء ، بل ترث من قيمة الأبنية.

وعليه فالمراد بما تداول كتبه من «أن حق الطبع محفوظ للمؤلّف» إن كان حقّ النشر فلا بأس به. وإن كان غيره فلا بدّ من النظر فيه. وأمّا إذا كتب هذه الجملة غير المؤلّف فلا أثر له.


الرابع (١) : إذا تلف المبيع ،

______________________________________________________

٤ ـ ضمان المثليّ بالمثل

(١) بعد أن ثبت في المبحث الأوّل ضمان المشتري لما أخذه بالبيع الفاسد ، فتلف ـ وأنّه يجب عليه ردّ بدله إلى البائع ـ يقع الكلام في خصوصيّة هذا البدل المضمون ، وأنّه هل يكفي ردّ ما يشاركه في النوع وهو ماليّته المتحقّقة في ضمن مطلق الأموال من النقود والسّلع المختلفة؟ أم لا بدّ من رعاية خصوصيّته الصنفيّة بدفع ما يكون أقرب إلى التالف مما يشترك معه في الصفات الدخيلة في الرّغبات ، ويلزم حينئذ البحث عن ضمان التالف المثليّ بالمثل ، والقيميّ بالقيمة. وهو بحث مبسوط لما فيه من الفروع التي تعرّض المصنّف قدس‌سره لجملة منها ، فعقد هذا الأمر الرابع المتضمّن لمقامات ثلاثة :

أوّلها : تعريف المثليّ.

ثانيها : دليل اعتبار ضمان المثليّ بمثله ، وهي وجوه ثلاثة ، الإجماع المتضافر نقله ، والإطلاق المقاميّ ، وآية الاعتداء بالمثل. وإن كان مفاد هذه الوجوه مختلفا كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

ثالثها : حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا ، وأنّه يتخيّر الضامن بين دفع المثل أو القيمة ، أو أنّه يتخيّر المالك بين مطالبة ما شاء منهما ، وغير ذلك ممّا سيأتي بالتفصيل.

ثمّ إنّ الداعي لمعرفة مفهوم المثليّ هو وقوع هذا العنوان في دليلين :


فإن كان مثليّا وجب مثله (١) بلا خلاف (٢) ، إلّا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي.

______________________________________________________

أحدهما : الإجماع على ضمان المثليّ بمثله ، وعدم إجزاء أداء قيمته مع إمكان المثل.

وثانيهما : الآية الشريفة المجوّزة للاعتداء بالمثل. فيلزم حينئذ تمييز موضوع الحكم ليترتب عليه آثاره ، ولأجله قدّم المصنّف قدس‌سره البحث الموضوعيّ ، هذا.

(١) هذا هو الدليل الأوّل على أنّ المثليّ يضمن بالمثل. ونقل الإجماع تمهيد للبحث المبسوط عن تعريف المثليّ.

(٢) هذا العنوان مقابل لما سيأتي في الأمر السابع في حكم ضمان القيميّ : «لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا فقد حكي الاتفاق على كونه مضمونا بالقيمة» .. ثم قال : «فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي».

والعبارة المنقولة عن ابن الجنيد هي : «إن تلف المضمون ضمن قيمته أو مثله إن رضي صاحبه» (١). فإن كان مراده بالمضمون ما هو أعمّ من المثليّ والقيميّ كان معناه مخالفة ابن الجنيد في ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، لحكمه بضمان القيمة مطلقا إلّا مع رضا المالك بالمثل. فيتّجه حينئذ ما نسبه المصنّف إليه هنا وفي الأمر السابع من أنّ المخالف لضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة هو أبو علي الإسكافي.

وإن كان مراده بالمضمون خصوص القيميّ ـ كما احتمله جماعة منهم الشهيد قدس‌سره بقوله : «ولعلّه يريد القيميّ» ـ فما نسبه إليه هنا من قوله : «عدا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي» لا يخلو من غموض ، لكون مصبّ كلام الإسكافي خصوص المضمون القيميّ ، ولا تعرّض فيه للمثليّ أصلا ، حتى يكون مخالفا لإجماع أصحابنا على ضمان المثليّ بالمثل (*).

__________________

(*) واحتمل قويّا السيّد المحقّق الخويي قدس‌سره وقوع السّقط في عبارة المتن ، فكأنّه قال : «إذا تلف المبيع فإن كان مثليّا وجب مثله ، وإن كان قيميّا وجبت قيمته ، بلا خلاف

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤١.


وقد اختلف (١) كلمات أصحابنا في تعريف المثليّ. فالشيخ (١) (٢) وابن زهرة (٢) وابن إدريس (٣) والمحقّق (٤) وتلميذه والعلّامة (٥) وغيرهم (٣) «قدّس الله أسرارهم»

______________________________________________________

(١) هذا شروع في تحقيق معنى المثليّ ، وقد اقتصر في أوّل كلامه على تعريف المشهور وحام حوله ، ونقل بعد الفراغ منه تعاريف أخر.

(٢) نقلنا عبارة المبسوط في (ص ٢٦) فراجع ، ومن جملتها قوله : «فماله مثل ما تساوت أجزاؤه. ومعناه : تساوت قيمة أجزائه .. إلخ».

(٣) قال السيد الفقيه العامليّ بعد عدّ كتب الجماعة المصرّح بأسمائها في المتن :

«والمهذّب البارع والمقتصر والتنقيح ، وفيه وفي المسالك والكفاية : أنّه المشهور» (٦).

__________________

في ذلك بين الأصحاب ، إلّا عن الإسكافي ، فإنّه حكم بضمان المثل في القيميّ أيضا» (٧).

وهذا التوجيه منوط بظهور كلام الإسكافي في الاحتمال الثاني ، وهو إرادة القيميّ. وأمّا بناء على إطلاق كلامه فلا نقص في عبارة المتن ، لاقتصار المصنّف في هذا الأمر الرابع على بيان حكم المثليّ ، وفي الأمر السابع على ضمان القيميّ ، ولا مانع من كون الإسكافي مخالفا في المسألتين ، هذا.

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٥٩ و ٦٠ ؛ ونحوه في الخلاف ، ج ٢ ، ص ١٠٣ ، المسألة ٢٩ كتاب الغصب.

(٢) غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٥٣٧

(٣) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨٠

(٤) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٣٩ ؛ وتلميذ هو الفاضل الآبي في شرحه على المختصر النافع ، لاحظ كشف الرموز ، ج ٢ ، ص ٣٨٢

(٥) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ١٠ ؛ قواعد الأحكام (الطبعة الحجرية) ص ٧٩ ؛ تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩

(٦) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ١٤١

(٧) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ١٤٥ و ١٤٦


ـ بل المشهور على ما حكي (١) ـ «أنّه ما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة».

والمراد (٢) بأجزائه ما يصدق عليه

______________________________________________________

(١) قال الشهيد الثاني قدس‌سره : «والمشهور بين الأصحاب ما ذكره المصنّف من أنّ المثليّ ما يتساوى قيمة أجزائه ، أي : أجزاء النوع الواحد منه ..» (١). والحاكي عنه هو السيّد الفقيه العاملي قدس‌سره كما عرفت آنفا.

(٢) غرضه قدس‌سره توجيه تعريف المشهور للمثليّ ـ بحيث يسلم عن بعض ما يرد عليه ـ ببيان المراد من الأجزاء ، وتوضيحه : أنّ الجزء يقابل الكلّ ، كما أنّ الجزئيّ يقابل الكلّيّ ، فالجزء يطلق على أبعاض المركّبات كالرأس والرقبة واليد بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الإنسان ، ومن المعلوم عدم صدق الكلّ ـ كزيد ـ على أجزائه ، فلا يقال : إنّ يده إنسان. وهذا بخلاف الجزئيّ ، لصحّة حمل الكلّيّ على أفراده ، فيقال : زيد إنسان.

وعلى هذا ، يرد على تعريف المشهور للمثليّ ما حكاه الشهيد الثاني قدس‌سره بقوله : «واعترض بأنّه إن أريد بالأجزاء كلّ ما تركّب عنه الشي‌ء ، فيلزم أن لا تكون الحبوب مثليّة ، لأنّها تتركّب من القشور والألباب. والقشر مع اللّب مختلفان في القيمة. وكذا التمر والزبيب ، لما فيهما من النّوى والعجم. وإن أريد بالأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة فيلزم أن لا تكون الدراهم والدنانير مثليّة ، لما يقع في الصّحاح من الاختلاف في الوزن ، وفي الاستدارة والاعوجاج ، وفي وضوح السّكّة وخفائها ، وذلك ممّا يؤثّر في القيمة» (٢).

وحاصل الشقّ الأوّل من الاعتراض هو : أنّ المشهور حكموا بكون الحنطة والشعير مثليّين ، مع أنّ التعريف غير صادق عليهما ، إذ الصبرة من الحنطة تحتوي على حبّات مشتملة على ألباب وقشور ، ومن الواضح عدم مساواتهما في القيمة ، فألحقّه من اللباب إذا قوّمت بدينار مثلا كانت الحقّة من القشور درهما لا خمسة دراهم ، مع مساواتهما في المقدار من وزن أو كيل.

__________________

(١ و ٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٢.


اسم الحقيقة (١).

والمراد (٢) بتساويهما من حيث القيمة تساويهما بالنسبة ، بمعنى (٣) كون قيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة البعض الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث

______________________________________________________

ولأجل دفع هذا الاعتراض وجّه المصنّف قدس‌سره تعريف المثليّ بأنّ المراد ب «الأجزاء» هنا هو الأفراد والجزئيّات التي تصدق عليها طبيعة واحدة ، كالحنطة الصادقة على كلّ حبّة من حبّاتها.

فملخّص هذا التعريف : أنّ المثليّ هو «ما يكون أفراده متساوية قدرا وقيمة» فالحنطة من المثليّات ، لأنّ فردين منها متساويان في المقدار والقيمة كالمنّين منها مثلا ، فإنّ كلّ واحد من المنّين يسوى خمسة دراهم مثلا. فالمثلي على هذا هو الكلّيّ الذي تكون أفراده المساوية في المقدار مساوية في الماليّة أيضا.

وأمّا بناء على إرادة ظاهر لفظ «الأجزاء» فموضوع المثليّة هو الفرد ، ومثليّته بلحاظ تساوي أجزائه معه. وموضوع المثليّة بناء على خلاف ظاهر الأجزاء هو الكليّ الذي تتساوى أفراده ومصاديقه في القيمة ، ولا يرد إشكال حينئذ.

(١) كمنّ من الحنطة ـ مثلا ـ بالنسبة إلى منّ آخر منها ، فيصدق حقيقة الحنطة على كلا المنّين ، مع تساويهما قيمة.

(٢) هذا مترتّب على توجيه التعريف بإرادة الجزئيّات من «الأجزاء» فالمثليّ هو ما تتساوى قيم أفراده ، فإذا كان المنّ من الحنطة عشرة دراهم كان نصف المنّ منها خمسة دراهم ، وربعه درهمين ونصف ، وهكذا. ولا يكون العبرة بقيمة اللباب والقشور حتى يقال بكون قيمة اللّب أضعاف قيمة القشر. مع وضوح عدم صدق عنوان «الحنطة» على القشر الذي هو بعض المركّب ، بل لا بدّ من إضافته إليها فيقال : قشر الحنطة. وهذا بخلاف إرادة الأفراد ، فإنّ كلّ مقدار منها كالمنّ والحقّة والأوقيّة مصداق حقيقيّ لطبيعيّ الحنطة كما لا يخفى.

(٣) هذا معنى التساوي في القيمة ، وقد عرفته آنفا.


المقدار ، ولذا (١) قيل في توضيحه : إنّ المقدار منه إذا كان يستوي قيمة فنصفه يستوي نصف تلك القيمة. ومن هنا (٢) رجّح الشهيد الثاني كون المصوغ من النقدين قيميّا ، قال : «إذ لو انفصلت نقصت قيمتها» (*).

______________________________________________________

(١) يعني : ولأجل تساوي الأفراد قيمة ومقدارا قيل في توضيح التساوي .. إلخ ، والقائل هو السيّدان الطباطبائي والعاملي قدس‌سرهما : «والمراد بتساوي قيمة أجزائه تساوي قيمة أجزاء النوع كالحبوب والأدهان ، فإنّ المقدار من النوع الواحد يساوي مثله في القيمة ، ونصفه يساوي بنصف قيمة» (١).

(٢) أي : وممّا قيل في توضيح التساوي ـ المأخوذ في تعريف المثليّ ـ رجّح ثاني الشهيدين قدس‌سرهما كون المصوغ من النقدين قيميّا ، لأنّه لو انفصل نقصت قيمته ، فبعد الانفصال لا يساوي قيمة نصفه الفعلي نصف قيمة المجموع قبل الانفصال ، فقيمة نصفه بعد الانفصال خمسة دنانير مثلا ، مع أنّ قيمته قبل الانفصال كانت سبعة دنانير مثلا.

قال في الاشكال على ما أفاده المحقّق قدس‌سره من قوله : «ولو كان في المغصوب صنعة لها قيمة غالبا كان على الغاصب مثل الأصل وقيمة الصنعة» ما لفظه : «وهذا ـ أي لزوم الرّبا من دفع قيمة الصنعة ـ أقوى ، فضمانها بالقيمة أظهر. مع أنّا نمنع من بقائه ـ أي المصنوع من النقدين ـ مثليّا بعد الصنعة ، لأنّ أجزاءه ليست متّفقة القيمة ، إذ لو انفصلت نقصت قيمتها عنها متّصلة كما لا يخفى» (٢).

__________________

(*) لا يخفى أنّ كلام الشهيد الثاني قدس‌سره مبنيّ على كون موضوع المثليّ هو الفرد ، ومثليّته ملحوظة بالنسبة إلى أبعاض الفرد ، لا الكليّ بالنسبة إلى أفراده ، كما هو مقتضى قول المصنّف : «والمراد بأجزائه ما يصدق عليه اسم الحقيقة» فتدبّر في العبارة.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤١ ؛ رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٣٠٣ ، السطر ٢٧

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٩١


قلت : وهذا (١) يوجب أن لا يكون الدرهم الواحد مثليّا ، إذ (٢) لو انكسر نصفين نقص قيمة نصفه عن نصف قيمة المجموع.

إلّا أن يقال (٣) (*) : إنّ الدرهم مثلي بالنسبة إلى نوعه ، وهو الصحيح

______________________________________________________

(١) المشار إليه هو قوله : «إنّ المقدار منه إذا كان يساوي قيمة فنصفه يساوي قيمة نصفه» وغرض المصنّف قدس‌سره الإيراد على تعريف المشهور حتّى بعد توجيه السيّد العاملي قدس‌سره له ، وحاصله : أنّه بناء على كون المناط في المثليّ مساواة قيمة نصفه لنصف قيمة كلّه يلزم خروج مسكوك النقدين ـ وهما الدرهم والدينار ـ عن ضابط المثليّ واندراجهما في القيميّ ، فإذا كان الدينار الصحيح يساوي عشرة دراهم لم يكن قيمة نصف الدينار خمسة دراهم ، بل أقلّ ، لأنّ السّكّة المنقوشة على الذهب دخيلة في قيمته ، وليست المادّة بخصوصها مدار ماليّته ، فكيف جعل المشهور الدرهم والدينار مثليّين مع عدم انطباق التعريف عليهما؟

وبهذا ظهر أنّ الذهب والفضّة لا يكونان مثليّين. أمّا المصوغ من أحدهما فلما أفاده الشهيد الثاني قدس‌سره من عدم مساواة قيمة نصفه لنصف قيمة تمامه ، مثلا إذا كانت قيمة سوار عشرة دنانير ووزنها مثقالين لم تكن قيمة مثقال من المكسور منه خمسة دنانير ، بل هي أقلّ منها. وأمّا المسكوك منهما فلما أفاده المصنّف قدس‌سره ، لنفس التقريب. ولعلّه اقتبس المطلب من تعليل الشهيد الثاني قدس‌سره «إذ لو انفصلت نقصت قيمته».

(٢) هذا تعليل ورود الاشكال على المشهور الّذين جعلوا الدرهم مثليّا ، مع أنّهم اعتبروا مساواة قيمة النصف ـ مثلا ـ لنصف قيمة المجموع.

(٣) غرضه قدس‌سره توجيه عدّ المشهور الدرهم من المثليّات ، وتوضيحه : أنّ

__________________

(*) لكن على هذا يكون المصوغ من النقدين أيضا مثليّا ، كالخاتم ، والسوار ، والخلخال ونحوها ، لتساوي أمثالها في القيمة كالدرهم الصحيح.

ثمّ إنّ هذا التوجيه غير وجيه ، لأنّ معنى النقص هو ما ذكر في التوضيح من كون موضوع المثليّة الفرد ، والتوجيه مبنيّ على كون موضوع المثليّة هو الكليّ ، وإرادة الأفراد من الأجزاء.


ولذا (١) لا يعدّ الجريش مثلا للحنطة ، ولا الدقاقة مثلا للأرز.

ومن هنا (٢) يظهر أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد ، بل كلّ صنف من

______________________________________________________

«الدرهم» جنس يشتمل على نوعين :

أحدهما : الصحيح ، وهو الذي تكون سكّته وهيئته محفوظة.

وثانيهما : المكسور والمعيوب ، كما إذا انكسر نصفين أو أكثر ، أو عاب بأن انمحى نقشه المضروب عليه.

فإن كان موضوع مثليّة الدرهم هو الجنس الصادق على السليم والمعيب انتقض تعريف المثليّ ، لأنّ النصف المكسور من الدرهم لا يسوى قيمة نصف الدرهم الصحيح ، لزوال ماليّة هيئته بالكسر ، وصيرورة العبرة في ماليّته بنفس المادّة وهي الفضّة.

وإن كان موضوع المثليّة خصوص النوع الصحيح لم ينتقض تعريف المثليّ ، إذ لا ريب في أنّ الدراهم الصّحاح متساوية في الماليّة ، وليست الدراهم المكسورة مندرجة في النوع الصحيح حتى يقال بعدم مساواة أبعاضها. والظاهر أن مناط المثليّة عندهم هو النوع لا الجنس ، ولذا لا يعدّون الجريش والطحين مثلا للحنطة ، مع انطباق الجنس عليهما.

(١) يعني : ولكون المثليّة ملحوظة بالنسبة إلى النوع ـ كما وجّهه بقوله : إلّا أن يقال ـ لا يعدّ الجريش مثلا للحنطة. والجريش هو الحنطة المطحونة بطحن غير ناعم ، بحيث تبقى قطعا صغارا. فالحنطة جنس لها أنواع ، منها الحبّات غير المطحونة ، ومنها : الجريش ، ومنها الطحين. فإذا اشتغلت الذمّة بحقّة حنطة لم تفرغ بدفع حقّة من نوع آخر كالجريش.

(٢) يعني : ومن لحاظ المثليّة بالنسبة إلى النوع ـ لا الجنس ـ يظهر أنّ المثليّة ملحوظة في النوع بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع فقط ، لا سائر أنواع الجنس.


أصناف نوع واحد مثليّ بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع أو الصنف (١).

فلا يرد (٢) ما قيل من : «أنه إن أريد التساوي بالكلّية ، فالظاهر عدم صدقه على شي‌ء من المعرّف ، إذ ما من مثليّ إلّا وأجزاؤه مختلفة في القيمة كالحنطة ، فإنّ قفيزا من حنطة تساوي عشرة ، ومن اخرى تساوي عشرين.

وإن أريد التساوي في الجملة فهو في القيميّ موجود كالثوب والأرض» (٣) انتهى.

______________________________________________________

(١) فالرّز في عصرنا له أنواع وأصناف عديدة ربّما يكون سعر النوع الجيّد ضعف سعر المتوسّط أو الردي‌ء. وهكذا الحنطة ، ونحوهما سائر السّلع.

(٢) هذا متفرّع على كون مناط المثليّة هو النوع والصنف ، دون مجرّد ما يصدق عليه الحقيقة. وغرضه قدس‌سره دفع ما أورده المحقّق الأردبيليّ قدس‌سره على تعريف المشهور ، ومحصّله : أنّ تفسير المثليّ ب «ما تساوت أجزاؤه» إمّا غير منطبق على شي‌ء ممّا عدّ مثليّا ، وإمّا غير مانع الصدق على الغير وهو القيميّ.

وبيانه : أنه إن أريد بالتساوي التساوي الكلّيّ ومن جميع الجهات ، فالظاهر عدم صدقه على شي‌ء ممّا عدّ مثليّا ، لاختلاف أجزاء كلّ مثليّ في القيمة ، فإنّ قفيزا من حنطة يساوي عشرة ، ومن حنطة أخرى يساوي عشرين ، مع أنّ الحنطة من أظهر أفراد المثليّ.

وإن أريد بالتساوي التساوي في الجملة أي التقارب في القيمة ـ في قبال الأشياء المختلفة قيمها بكثير ، كالتفاوت بين سعر الحنطة والشعير والأرز مثلا ـ لزم دخول جملة من القيميّات في التعريف ، لتقارب قيم كثير من الحبوبات والأقمشة والثياب ونحوها ، مع أنّهم جعلوها من القيميّ. وعليه فجعل ضابط المثليّ التساوي الكلّيّ غير سديد. هذا تقريب إشكال المحقّق الأردبيلي قدس‌سره (١).

(٣) هذه العبارة تختلف يسيرا مع ما في مجمع الفائدة ، وكلامه قدس‌سره متضمّن لشقّ ثالث للمنفصلة لم تذكر في المتن ، وهي قوله : «وإن أريد مقدارا خاصّا فهو حوالة على المجهول».

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٢ و ٥٢٣.


وقد لوّح هذا المورد (١) في آخر كلامه إلى دفع إيراده بما (٢) ذكرنا من : أنّ كون الحنطة مثليّة معناه أنّ كلّ صنف منها متماثل الأجزاء (٣) ومتساو في القيمة ، لا بمعنى أنّ (٤) جميع أبعاض هذا النوع متساوية في القيمة. فإذا كان المضمون

______________________________________________________

(١) وهو المحقّق الأردبيلي قدس‌سره ، فإنّه جعل مناط المثليّة النوع أو الصنف ، ودفع به الإيراد المتقدّم في كلامه.

ولا يخفى أنّ تماثل الأفراد في النوع والصنف غير مصرّح به في مجمع الفائدة ، لكن يستفاد منه ذلك. قال قدس‌سره : «والذي يقتضيه القواعد أنّه ـ أي المثليّ ـ لفظ بني عليه أحكام بالإجماع ، وكأنّه بالكتاب أيضا ، مثل ما تقدّم ، والسّنّة أيضا ، وليس له تفسير في الشرع ، بل ما ذكر اصطلاح الفقهاء ، ولهذا وقع فيه الخلاف ، فيمكن أن يحال إلى العرف ، إذ الظاهر أنه ليس بعينه مرادا ، فإنّ المثل هو المتشابه والمساواة في الجملة. وهو موجود بين كلّ شي‌ء .. فكلّ شي‌ء يكون له مثل في العرف ، ويقال له : إنّ هذا له مثل عرفا ، فيؤخذ ذلك .. ويؤيّده أنّه على تقدير ثبوت كون المتلف مثليّا مثل الحنطة لا يؤخذ بها كلّ حنطة ، بل مثل ما تلف عرفا .. إلخ» (١).

ومثّل أيضا بسنّ الجمل والثوب والفرس العتيق ، حيث إنّ المضمون هو المماثل للتالف عرفا. وهذا هو النوع أو الصنف في تعبير المصنّف.

(٢) متعلق ب «دفع» والمراد بالموصول قوله : «إلّا أن يقال : إنّ الدرهم مثليّ بالنسبة إلى نوعه».

(٣) أي : متساوية الأفراد ومتساوية في القيمة.

(٤) يعني : أنّ تماثل الأجزاء وتساويها قيمة ملحوظ بالنسبة إلى أبعاض الصنف الذي هو أخص من النوع ، فالحنطة الحمراء والصفراء نوعان ، ولكلّ منهما أصناف كالحبّات والجريش والطحين ، فإذا كان المضمون حقّة من الجريش الأحمر كان الواجب دفع هذا المقدار من هذا الجريش ، لا دفع نفس الحنطة الحمراء

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٥ و ٥٢٦.


بعضا من صنف فالواجب دفع مساويه من هذا الصنف ، لا القيمة (١) ولا بعض من صنف آخر (٢).

لكن الانصاف (٣)

______________________________________________________

ولا دقيقها ، ولا حنطة صفراء.

(١) لاختصاص وجوب دفع القيمة بما إذا كان التالف قيميّا ، والمفروض كونه مثليّا كالحنطة.

(٢) لفرض أنّ مناط المثليّة هو الصنف لا الجنس ولا النوع ، فلو كان المضمون دقيقا من الحنطة الحمراء لم تفرغ الذمّة بدفع دقيق حنطة أخرى ، لعدم تماثل الحنطتين كما عرفت.

فتحصّل من كلام المصنّف قدس‌سره أنّه ـ وفاقا للمحقّق الأردبيلي وغيره ـ وجّه تعريف المشهور للمثليّ بإرادة تساوي جزئيّات الأصناف ، هذا. وسيأتي عدم تماميّة التعريف حتّى بالنظر إلى هذا التوجيه.

(٣) أورد المصنّف قدس‌سره على تعريف المشهور بوجهين ، الأوّل : أنّ جعل مدار المثليّة هو الصنف مخالف لظاهر كلمات المشهور ، لأنّهم يطلقون المثليّ على الجنس ، لا الصنف. فقد عرفت تعريف المثليّ في عبارة المبسوط وتنظيره له بالتمور والأدهان والحنطة والشعير ، وظاهره أنّ كلّ ما يصدق عليه التمر فهو مثليّ ، مع كونه على عشرات الأصناف. وهكذا لكلّ من الحنطة والشعير والأدهان أقسام كثيرة. ويترتّب على مثليّة جنس واحد ـ بماله من الأصناف ـ كفاية دفع صنف في مقام تفريغ الذمّة المشغولة بصنف آخر. مع أنّه لا ينطبق تعريف المثليّ على الأصناف ، لعدم تساوي صنف لجزئيّات صنف آخر قيمة.

ودعوى «توجيه إطلاق المثليّ على جنس الحنطة بلحاظ تساوي أجزاء صنف واحد قيمة ، لا بلحاظ تساوي قيمة أفراد كلّ ما يصدق عليه الحنطة ، فيتمّ تعريف المشهور حينئذ» ممنوعة ، لتوقّفه على الإضمار في التعريف ، بأن يقال : «المثليّ


أنّ هذا (١) خلاف ظاهر كلماتهم ، فإنّهم يطلقون المثليّ على جنس الحنطة والشعير ونحوهما ، مع عدم صدق التعريف عليه (٢). وإطلاق (٣) المثليّ على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه وإن لم يكن بعيدا ، إلّا (٤) أنّ انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار (٥) بعيد جدّا.

إلّا (٦) أن يهملوا خصوصيّات الأصناف الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها ،

______________________________________________________

هو ما تساوت أجزاء كلّ صنف من أصنافه ، وما تساوت أجزاء كل نوع من أنواعه» ولا ريب في أنّ الإضمار والتقدير خلاف الأصل ، ولا يصار إليه بلا قرينة.

(١) أي : جعل مدار المثليّة على الصنف خلاف ظاهر كلماتهم ، لأنّهم يطلقون المثليّ على الجنس لا الصنف.

(٢) أي : على الجنس ، إذ المفروض صدق التعريف أي تماثل الأجزاء ـ أي الأفراد ـ على أفراد الصنف ، لا أفراد الجنس. فجعل جنس الحنطة من المثليّات لا وجه له.

(٣) مبتدأ خبره جملة «وإن لم يكن بعيدا» وقد أوضحناه بقولنا : «ودعوى توجيه .. إلخ».

(٤) هذا استدراك على قوله : «وإن لم يكن بعيدا» وهو جواب الدعوى ، وقد عرفته أيضا.

(٥) أي : باعتبار مثليّة الأنواع أو الأصناف. وجه البعد : لزوم المسامحة في التعريف ، للاحتياج إلى الإضمار ، بأن يقال : «ما يتساوى أجزاء أنواعه أو أصنافه» مع عدم البناء على المسامحة في التعاريف.

(٦) ظاهر العبارة أنّ غرضه قدس‌سره توجيه انطباق التعريف المذكور على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه على نحو يسلم عن هذا البعد. لكنّه ليس كذلك ، لأنّ هذا الإهمال يوجب كون الإطلاق بلحاظ نفس الجنس لا بلحاظ الأنواع والأصناف.


كما التزمه بعضهم ، غاية الأمر (١) وجوب رعاية الخصوصيّات عند أداء المثل عوضا عن التالف (٢) أو القرض ، وهذا أبعد (٣) ، هذا.

______________________________________________________

ولكن الصحيح أنّ قوله : «إلّا أن يهملوا» معادل لقوله قدس‌سره : «باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه».

فالأولى في تأدية المطلب أن يقال : إنّ إطلاقهم المثليّ على الجنس إن كان باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه من باب توصيف الشي‌ء بحال متعلّقه ، فهو وإن لم يكن بعيدا ، إلّا أنّ انطباق التعريف المذكور عليه بهذا الاعتبار بعيد جدّا.

وإن كان باعتبار إهمال الخصوصيّات النوعيّة والصنفيّة الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها ولحاظ جنس الشي‌ء من حيث هو ، فهو وإن كان يقرب معه انطباق التعريف على الجنس بلا مسامحة ولا احتياج إلى الإضمار ، بأن يكون المعنى :

ما يتساوى أجزاؤه في القيمة من حيث هو مع قطع النظر عن الأوصاف النوعيّة والصنفيّة ، وإن كانت تتفاوت فيها مع ملاحظتها.

لكن هذا الإهمال بنفسه أبعد ، لأنّ مقتضى التعريف للمثليّ حينئذ أنّه لا يجب على الضامن إلّا ما صدق عليه التعريف ، فلا معنى لوجوب رعاية الخصوصيّات عند الأداء ، وإلّا فلا فائدة في التعريف.

وبالجملة : الغرض من التعريف تشخيص ما يتحقّق بدفعه فراغ الذمّة عمّا اشتغلت به من مال الغير ، ومن المعلوم دخل القيمة الناشئة من الخصوصيّات الصنفيّة في الضمان ، فلا معنى لإهمال الخصوصيات.

(١) يعني : أنّهم أهملوا خصوصيّة مساواة أفراد صنف لأفراد صنف آخر قيمة ، ولكن لا بدّ من رعاية خصوصيّة المضمون في مقام تفريغ الذمّة. ففرق بين مقام تعريف المثليّ وبين مقام الأداء.

(٢) يعني : في المقبوض بالعقد الفاسد ، في قبال ضمان البدل بالقرض.

(٣) يعني : أنّ إهمال الخصوصيّات في التعريف أبعد من الإضمار ، لأنّ الغرض من تعريف المثليّ تشخيص ما اشتغلت به ذمّة الضامن ، فلا وجه لوجوب رعاية


مضافا إلى (١) : أنّه يشكل اطّراد التعريف

______________________________________________________

الخصوصيّات عند الأداء ، إذ مقتضى مثليّة كلّيّ هو جواز إعطاء أيّ فرد منه أداء لما في الذمّة ، من غير ملاحظة الخصوصيّات.

(١) هذا هو الإشكال الثاني على تعريف المثليّ بما في كلام المشهور من «أنّه ما تساوت قيمة أجزائه» بناء على إرادة تساوي أفراد الصنف. وحاصل الاشكال : أنّ التعريف إمّا غير جامع للأفراد على تقدير ، وإمّا غير مانع للأغيار.

توضيحه : أنّ «تساوي أفراد الصنف الواحد قيمة» إن أريد به تساويها فيها بالدّقة ـ بحيث لا يكون بينها تفاوت في القيمة أصلا ـ لزم خروج أكثر المثليّات عن التعريف ، وذلك لأنّ أفراد الصّنف الواحد من الأجناس المثليّة وإن كانت متشابهة في جهات ، لكنّها تتفاوت في بعض الخصوصيّات الدخيلة في ماليّة السّلعة.

مثلا إذا كان طنّ من الحنطة الحمراء مائة دينار ـ أي ما يساوي ألف درهم ـ لم تكن قيمة أوقيّة منها درهما ، بل قيمتها أزيد منه ، لتفاوت المبيع جملة لقيمته مفردا ، فلا يصدق تعريف المثليّ ب «ما تساوت قيمة أجزاء صنف واحد» على الحنطة ، مع كونها من أظهر أفراد المثليّ. وهكذا الحال في سائر السّلع والأمتعة.

وإن أريد بتساوي الأفراد قيمة تقارب قيم الجزئيات ـ لا تساويها ـ لم يكن التعريف مانعا للأغيار ، لصدق هذا المعنى على كثير من القيميّات ، فإنّ أفراد القيميّ وإن لم تتساو في الصفات والخصوصيّات ، إلّا أنّ أسعارها متقاربة ، بل ربّما تتساوى. مثلا : الكتابة والفطانة ونحوهما من صفات الكمال دخيلة في قيمة الجارية التي لها أنواع كالروميّة والزنجيّة والتركيّة وغيرها ، فيمكن أن تكون الجارية المضمونة روميّة كاتبة ، ولكن للضامن دفع جارية تركيّة خدومة وفطنة تساوي تلك في القيمة ، فيلزم صدق تعريف المثليّ على الإماء ، مع أنّها من أظهر أفراد القيميّ.

وعلى هذا فتعريف المثليّ إمّا غير جامع للأفراد ، وإمّا غير مانع للأغيار ، فلا جدوى فيه ، ولا بدّ من التماس تفسير آخر له.


ـ بناء على هذا (١) ـ بأنّه إن أريد تساوي الأجزاء من صنف واحد من حيث القيمة تساويا حقيقيّا ، فقلّما يتّفق ذلك في الصّنف الواحد من النوع ، لأنّ أشخاص ذلك الصّنف لا تكاد تتساوى في القيمة ، لتفاوتها بالخصوصيّات (٢) الموجبة لزيادة الرغبة ونقصانها ، كما لا يخفى.

وإن أريد (٣) تقارب أجزاء ذلك الصنف من حيث القيمة ـ وإن لم يتساو حقيقة ـ تحقّق ذلك في أكثر القيميّات ، فإنّ لنوع الجارية أصنافا متقاربة في الصفات الموجبة لتساوي القيمة ، وبهذا الاعتبار (٤) يصحّ السّلم فيها ، ولذا (٥) اختار العلّامة في باب القرض من التذكرة [على ما حكي عنه] أنّ ما يصح فيه

______________________________________________________

(١) أي : بناء على اعتبار تساوي أفراد كلّ صنف من أصناف المثليّ ، لا تساوي أفراد الطبيعة.

(٢) وأقلّ تلك الخصوصيّات بيعها جملة وبمقدار كثير ، وبيعها بمقدار قليل كالحقّة والأوقيّة.

(٣) معطوف على قوله : «وإن أريد تساوي الأجزاء من صنف واحد» وهذا إشارة إلى إشكال عدم مانعيّة التعريف عن الأغيار ، وقد تقدّم بقولنا : «وإن أريد بتساوي الأفراد قيمة تقارب قيم الجزئيات .. إلخ».

(٤) أي : باعتبار تحقّق تقارب صفات أصناف الجارية ، الموجبة لتساوي القيمة بمعنى التساوي العرفي المسامحيّ لا الحقيقيّ. ولأجل الاكتفاء بذلك المقدار في رفع الجهالة القادحة في صحّة البيع يصح السّلم فيها. فلو كانت متباعدة الصفات المانعة عن صدق التساوي العرفي ـ بحيث لم يكتف بذلك في رفع الغرر ـ لم يصحّ السّلم فيها من جهة الغرر.

(٥) أي : ولأجل تحقّق التقارب ـ الموجب للتساوي العرفيّ في القيميّات ـ اختار العلّامة أنّ القيميّات التي يصحّ فيها السّلم مضمونة في القرض بمثلها. فلو لم يتحقق التقارب فيها كيف يحكم بضمان بعضها بالمثل ، والمراد منه الفرد الآخر


السّلم من القيميّات مضمون في القرض بمثله».

وقد عدّ (١) الشيخ في المبسوط الرّطب والفواكه من القيميّات ، مع أنّ كلّ نوع منها مشتمل على أصناف متقاربة في القيمة ، بل متساوية عرفا.

______________________________________________________

المماثل للعين المقترضة المتقارب لها في الصفات ، بل لا بدّ من الحكم بضمان القيمة فيها مطلقا ، لعدم وجود المثل حينئذ.

ففي التذكرة : «مال القرض إن كان مثليّا وجب ردّ مثله إجماعا .. وإن لم يكن مثليّا ، فإن كان ممّا ينضبط بالوصف ـ وهو ما يصحّ السّلف فيه كالحيوان والثياب ـ فالأقرب أنّه يضمنه بمثله من حيث الصورة .. وأمّا ما لا يضبط بالوصف كالجواهر والقسيّ وما لا يجوز السّلف فيه تثبت فيه قيمته» (١).

وهذه العبارة تتكفّل الكبرى ، وهي الملازمة بين القرض وبيع السّلم ، بإناطة كليهما بكون المال ممّا ينضبط بالوصف. وطبّق هذه الكبرى في عبارة أخرى على الجارية ، فقال : «الأموال إمّا من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم ، فالأوّل يجوز إقراضه إجماعا. وأمّا الثاني فإن كان ممّا يجوز السّلم فيه جاز إقراضه أيضا .. وهل يجوز إقراض الجواري؟ أمّا عندنا فنعم ، وهو أحد قولي الشافعي ، للأصل ، ولأنّه يجوز إقراض العبيد ، فكذا الجواري ، ولأنّه يجوز السّلف فيها فجاز قرضها كالعبيد» (٢).

وغرض المصنّف قدس‌سره الاستشهاد به على تحقق تقارب أفراد القيميّ في القيمة ، كتقارب أفراد المثليّ ، فينتقض تعريف المثليّ بكثير من القيميّات.

(١) غرضه قدس‌سره الاستشهاد ثانيا على تقارب قيمة القيميّات ، فينتقض تعريف المثليّ بها ، لاشتراكهما في تقارب أسعار أفرادها. قال شيخ الطائفة قدس‌سره : «وإن غصب شجرا فأثمرت كالنخل ونحوها ، فالثمار لصاحب الشجر .. وإن تلف رطبا فعليه قيمته ، لأنّ كلّ رطب من الثمار كالرّطب والتّفاح والعنب ونحوها إنّما تضمن بالقيمة.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥ ، السطر ٤ الى ٩.

(٢) المصدر ، السطر ٢٧ إلى ٢٩.


.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان رطبا فشمّسه فعليه ردّه إن كان قائما ، ومثله إن كان تالفا ، لأنّ الثمر له مثل» (١).

ولا يخفى أنّه قدس‌سره جعل الثّمار كالتمور مثليّا على ما نقلناه عنه (في ص ٢٦) ويمكن حمله على ما فصّله هنا بين الثمرة الرّطبة والمجفّفة ، فالرّطبة قيميّ ، والمجفّفة مثلي. وتحقيق ما هو الحقّ من كلاميه موكول إلى محلّه.

وقد تحصّل : أنّ المصنّف قدس‌سره اعترض بوجهين على تعريف المثليّ بما في كلام المشهور ، واستشهد بعبارتي التذكرة والمبسوط لإثبات الشقّ الثاني من الإيراد الثاني ، وهو انتقاض التعريف بكثير ممّا عدّوه قيميّا ، لأنّ تقارب قيم أفراد الصنف جهة مشتركة بين المثليّ والقيميّ ، كما عرفت.

فإن قلت : لا ينتقض تعريف المثليّ بما ذكر من أفراد القيميّ ، وذلك لأنّ الأفراد المتقاربة أو المتساوية قيمة من كلّ صنف من أصناف المثليّ كثيرة ، كالحنطة والشعير ، وأمّا تساوي سعر أفراد صنف من أصناف القيميّ فنادر. فلو سلّمنا دخول بعض القيميّات في تعريف المثليّ لم يقدح ذلك في انطباق التعريف على المثليات ، وعدم انطباقه على غالب القيميّات.

قلت : الغرض من التعريف تحديد ما تشتغل ذمّة الضامن به ، إمّا المثل أو القيمة ، فيلزم تعريف كلّ منهما بما يجمع الأفراد ويمنع الأغيار ، ومن المعلوم أنّ دخول بعض أفراد القيميّ في تعريف المثليّ قادح في التحديد ، ومجرّد قلّة مورد النقض وندرته لا يوجب سلامة التعريف. لأنّ التعريف مبنيّ على شرح الحقيقة ، لا على ما هو الغالب خارجا.

نعم يوجب عزّة الوجود الفرق بين المثليّ والقيميّ في حكمة الحكم بضمان المثل في الأوّل ، وضمان القيمة في الثاني ، لا في تشخيص مصاديق أحدهما عن مصاديق الآخر الذي هو المطلوب هنا.

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٩٩ و ١٠٠.


ثمّ (١) لو فرض أنّ الصّنف المتساوي من حيث القيمة في الأنواع القيميّة عزيز الوجود ـ بخلاف الأنواع المثليّة ـ لم يوجب (٢) ذلك إصلاح طرد التعريف.

نعم يوجب ذلك (٣) الفرق بين النوعين في حكمة الحكم بضمان المثليّ بالمثل ، والقيميّ بالقيمة.

ثمّ إنّه عرّف المثليّ بتعاريف أخر أعمّ من التعريف المتقدّم ، أو أخصّ.

فعن التحرير : «أنّه ما تماثلت أجزاؤه ، وتقاربت صفاته (٤)» (١).

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى دخل يرد على قوله : «تحقّق ذلك في أكثر القيميّات» وأوضحناه بقولنا : «فان قلت» وهو ـ كما أفاده سيّدنا الأستاذ قدس‌سره ـ من صاحب الجواهر قدس‌سره حيث قال : «ولا يرد النقض بالثوب أو الأرض ، الذي يمكن رفعه بعدم غلبة ذلك ـ أي التساوي أو التقارب قيمة ـ فيهما. وفرض بعض الأفراد كذلك لا يناسب اطراد قواعد الشرع» (٢).

(٢) هذا جواب الشرط في «لو فرض» وهو دفع الدخل المتقدّم ، وقد عرفته أيضا.

(٣) أي : يوجب عزّة الوجود في تساوي أفراد كلّ صنف من أصناف القيميّ ـ وكثرة تساوي أفراد كلّ صنف من المثليّ ـ الفرق بين النوعين في الحكمة الداعية للحكم بضمان المثليّ بمثله ، والقيميّ بقيمته. ومن المعلوم خروج الجهات التعليليّة عن موضوعات الأحكام ، فالعبرة بما أخذ في لسان الدليل. وقد ثبت انطباق تعريف المثليّ على بعض القيميّات ، وهذا المقدار كاف في بطلان تعريف المشهور. هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بتفسير المثليّ بما تساوت أجزاؤه في القيمة. وقد ظهر الاشكال فيه.

(٤) هذا التعريف مساو لتعريف المشهور بناء على توجيهه بتساوي أفراد الصنف لا الجنس ، وأخصّ منه بناء على ظاهره من تساويها في الحقيقة النوعيّة.

__________________

(١) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) نهج الفقاهة ، ص ١٣٨.


وعن الدروس والرّوضة البهيّة : «أنّه المتساوي الأجزاء والمنفعة (١) المتقارب الصفات» (١).

وعن المسالك والكفاية : «أنّه أقرب التعريفات إلى السّلامة» (٢).

وعن غاية المراد : «ما تساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعية» (٣) (٢).

وعن بعض العامّة «أنّه ما قدّر بالكيل أو الوزن» (٤) (٣).

______________________________________________________

(١) قال المحقّق القميّ قدس‌سره ـ في ما حكي عنه ـ : «ولعلّ المنفعة في كلامه عطف على القيمة المقدّرة ، يعني المتساوي الأجزاء في القيمة والمنفعة. ويمكن أن يكون نظره في زيادة المنفعة إلى إخراج مثل الحنطة والحمّص معا إذا تساويا في القيمة ، وقيل النوع الواحد في تعريف المشهور يكفي عن ذلك ، وفي زيادة تقارب الصفات إلى ملاحظة الأصناف كما ذكرنا».

وكيف كان فتعريف الدروس أخصّ من سابقه ولا حقه كما لا يخفى.

(٢) هذا أعمّ ، وهو قريب من تعريف المشهور بناء على إرادة التساوي في الحقيقة ، لا في النوع والصنف. وأمّا بناء على توجيهه بالتساوي في قيمة أفراد الصنف كان تعريف الشهيد قدس‌سره أعمّ ، كأعمّيّته من تعريف الدروس والرّوضة.

(٣) هذا أيضا أعم من تعريف مشهور الخاصّة ، لأنّ كثيرا من القيميّات لا تباع جزافا ، بل لا بدّ من تقديرها بكيل أو وزن كالفواكه الرّطبة ، والحبوب ، والمعاجين.

ولا يخفى أنّ التعاريف الثلاثة المنقولة عن العامّة مشتركة في ضبط المثليّ بالمكيل والموزون ، ويكون اختلافها بالإطلاق والتقييد ، فهذا التعريف مطلق ، ويشتمل التعريف الثاني والثالث على قيد زائد.

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣ ؛ الروضة البهيّة ، ج ٧ ، ص ٣٦.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٣ ؛ كفاية الأحكام ، ص ٢٥٧.

(٣) غاية المراد ، ص ١٣٥.

(٤) روضة الطالب ، ج ٤ ، ص ١٠٨.


وعن آخر منهم : «زيادة جواز بيعه سلما» (١).

وعن ثالث منهم : «زيادة جواز بيع بعضه ببعض» (٢). إلى غير ذلك ممّا حكاه في التذكرة (٣) عن العامّة (*).

______________________________________________________

(١) فيصير أخصّ من تعريف المثليّ ب «مطلق ما يقدّر كمّه بالكيل أو الوزن» لتوقّف بيع السّلم على إمكان ضبط المبيع بالوصف. فما يعتبر فيه المشاهدة كالجلود لا تباع سلما.

(٢) كجواز بيع الحنطة بمثلها كيلا أو وزنا ، والتمر بمثله ، وهكذا. فيندرج فيه كلّ مكيل أو موزون جاز بيعه ببعض آخر من جنسه ، وهو صادق على جملة من القيميّات.

(٣) قال فيها ـ بعد حكاية تعريف شيخ الطائفة والتعاريف الثلاثة عن العامّة ـ : «وقال بعضهم : المثليّات هي التي تقسم بين الشريكين من غير حاجة إلى تقويم .. وقال آخرون : المثليّ ما لا يختلف أجزاء النوع الواحد منه في القيمة .. ويقرب منه قول من قال : المثليّات هي التي تتشاكل في الخلقة وفي معظم المنافع ، أو ما يتساوى أجزاؤه في المنفعة والقيمة. وزاد بعضهم : من حيث الذات لا من حيث الصفة .. إلخ» (١) مما لا جدوى في نقله ، فراجع.

__________________

(*) وفي حاشية المحقّق الايرواني قدس‌سره على المتن : «والأحسن أن يعرّف المثليّ بما تشابهت أفراده وجزئيّاته في الصورة والصفات ، اللازم منه التساوي في الرغبات ، اللازم منه التساوي في الماليّة. وعلى هذا فجنس الحنطة المختلف الأنواع والأصناف اختلافا فاحشا إن لم يكن مثليّا صادقا عليه التعريف ، فأصنافه النازلة مثليّة البتة» (٢).

ويمكن أن يقال : إنّ تفريغ ما في الذمّة مقام ، وتعريف المثليّ وتمييز كون شي‌ء

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٧.


.................................................................................................

__________________

مثليّا عن كونه قيميّا مقام آخر ، لأنّ تفريغ الذمّة إنّما يحصل بأداء ما اشتغلت به من الجهات الكليّة والشخصيّة الدخيلة في الماليّة. فالمثليّة إنّما تكون بلحاظ الجامع الذي له أفراد كثيرة متماثلة في الصفات التي تختلف بها الرغبات. فكلّ كلّيّ تكثر أفراده المتماثلة في الصفات الموجبة لاختلاف الرغبات الدخيلة في اختلاف المالية يكون مثليّا ، والقيميّ بخلافه.

وعلى هذا فمنتوجات المعامل الحديثة من الفروش والظروف وغيرهما مما يغلب اتّفاقها في الصفات المختلفة بها الرغبات كلّها مثليّة ، لتساويها في المقدار والهيئة.

وعليه فالذهب والفضّة المسكوكان وكذا غير المسكوكين ـ إذا لم يكونا مصوغين ـ من المثليّات. وأمّا المصوغان فهما من القيميّ ، لاختلاف الصياغة في الصفات الموجبة لتفاوت الرّغبات ، واختلاف الماليّة. وكذا الحال في الحديد والنحاس.

وقيل في ضابط المثليّ والقيميّ : إنّ ماليّة الأموال تارة تكون باعتبار الجامع والجهات الكليّة من دون لحاظ المشخّصات الفرديّة كالحنطة ، فإنّ ماليّتها إنّما تكون بالحنطيّة ، والحمرة والصفرة وغيرها من الجهات الكليّة نظير كتابة زيد لانسانيّته.

واخرى تكون بلحاظ الجهات الشخصيّة والخصوصيّات الفرديّة. فالأوّل هو المثليّ ، والثاني هو القيميّ.

وعلى هذا فالمثليّ هو الكليّ الذي تكون ماليّة أفراده بالجهات الكليّة الجنسيّة أو النوعيّة أو الصنفيّة ، بحيث لا دخل للخصوصيّات الشخصيّة في ماليّتها.

ولعلّه يرجع إلى هذا التعريف ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «فالأولى تعريفه بما كثر أفراده التي لا تفاوت فيها بحسب الصفات المختلفة بحسب الرغبات» (١). والقيميّ بخلافه كالفرس ، فإنّ مناط ماليّته هي الجهات الشخصيّة.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣٥.


ثمّ (١) لا يخفى أنّه ليس للفظ المثليّ حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة. وليس

______________________________________________________

(١) هذا تتمّة البحث عن معنى المثليّ ، وتمهيد لبيان حكم الشك في كون المضمون مثليّا أو قيميّا. وتوضيحه : أنّ تعرّض الفقهاء لتفسير المثلي والقيميّ منوط بوقوع لفظهما موضوعا لحكم شرعيّ في لسان الدليل ، كموضوعيّة «الصعيد» لجواز التيمّم به ، وموضوعيّة «المفازة والوطن والغناء» لأحكام اخرى ، فلو لم يتعلّق به حكم لم يكن شأن الفقيه تحقيق معنى اللفظ. هذا بحسب الكبرى.

وأمّا بحسب الصغرى فلم يرد لفظ «المثليّ» في نصوص الضمان حتى يبحث عن مفهومه. فالداعي لبيان معناه هو الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل ، فيلزم حينئذ تعريفه لتمييز المضمون ، وأنّه مثليّ أو قيميّ.

وعلى هذا نقول : إمّا أن يكون «المثليّ» بمعناه اللغوي وهو المماثل و «الشبيه» (١) وإمّا أن يكون منقولا عن اللغة إلى معنى آخر شرعيّا أو متشرعيّا ، كنقل ألفاظ الصلاة والزكاة والحجّ ونحوها عن معانيها اللغويّة إلى ما ينسبق إلى أذهان المتشرّعة. وإمّا أن يكون بمعناه العرفيّ ، وهو أعمّ من اللغويّ. هذا بحسب الثبوت.

__________________

فما تنتجها المعامل الحديثة يكون مثليّا ، لأنّ ماليّته بجهاته الكلّيّة ، مثل كون الظرف المنتج فيها من القسم الكذائيّ. وكذا الذهب والفضة المسكوكان وغير المسكوكين قبل الصياغة. وأمّا بعدها فإن كانت مصنوعة في المعامل فهي مثليّة أيضا ، لتساوي أفراد كلّ صنف منها في الوزن وعيار الذهب. وإن كانت مصوغة باليد كانت قيميّة ، لاختلاف الصياغة في الصفات الموجبة لتفاوت الرّغبات واختلاف الماليّة. وإن أمكن جعلها مثليّة أيضا ، لإمكان صوغ أسورة عديدة متساوية وزنا وقدرا.

هذا كلّه إذا أحرز كون المضمون مثليّا أو قيميّا. وأمّا إذا شكّ فيه ، فسيأتي البحث عنه في آخر هذا الأمر الرابع إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) المصباح المنير ، ص ٥٦٣.


المراد معناه اللغوي ، إذ (١) المراد بالمثل لغة المماثل (*). فإن أريد من جميع الجهات فغير منعكس (٢) ، وإن أريد من بعضها فغير مطّرد (٣). وليس (٤) في النصوص

______________________________________________________

وأمّا بحسب مقام الإثبات فلا يراد منه المعنى اللغويّ وهو المماثل ، لما تقدّم من الإشكال الثاني على تعريف المشهور ، حيث إنّه غير جامع لأفراد المثليّ لو أريد التماثل من جميع الجهات ، وغير مانع عن دخول بعض القيميّات فيه لو أريد التماثل من بعض الجهات.

وأمّا المعنى الثاني ـ وهو نقله إلى اصطلاح شرعيّ أو متشرّعيّ ـ ففيه : أنّه لا حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة في مثله.

فيتعيّن إرادة معناه العرفي بأن يقال : إنّ الفقهاء بصدد بيان مفهومه عرفا.

نعم اختلف المجمعون في مثليّة جملة من الأشياء ، والقاعدة تقتضي الحكم بضمان المثليّ بمثله إذا كانت مثليّته متفقا عليها ، والرجوع في الأمور المختلف فيها إلى وجه آخر سيأتي بيانه.

(١) تعليل لعدم إرادة معنى «المثل» لغة في مبحث الضّمان.

(٢) يعني : فغير منطبق على أفراد المعرّف ، بمعنى عدم كونه جامعا لأفراده.

(٣) أي : غير مانع عن دخول أفراد القيميّ في التعريف.

(٤) هذا إشارة إلى الكبرى المتقدّمة بقولنا : «وتوضيحه : أنّ تعرّض الفقهاء .. إلخ»

__________________

(*) هذا خلط بين المثل الذي هو مباين للمال التالف ، وبين المثليّ الذي هو كلّيّ ينطبق عليه ويصحّ حمله عليه بالحمل الشائع ، وكلامنا في الثاني الذي عرّف بتعاريف. والمثل بالمعنى الأوّل موضوع لأداء ما في الذمّة ، لصدق الأداء الرافع للضمان عليه ، لكونه الفرد المماثل للتالف من جميع الجهات الدخيلة في ماليّة التالف. ولم يتصدّ أحد لتعريفه وإن تصدّوا لتعريف المثليّ الذي هو الكليّ. والإشكالات الطّرديّة والعكسيّة واردة على تعريف المثليّ ، لا تعريف الفرد المماثل للتالف.


حكم يتعلّق بهذا العنوان حتى يبحث عنه.

نعم (١) وقع هذا العنوان في معقد إجماعهم على «أنّ المثليّ يضمن بالمثل وغيره بالقيمة» ومن المعلوم أنّه لا يجوز الاتّكال في تعيين معقد الإجماع على قول بعض المجمعين مع مخالفة الباقين (٢). وحينئذ (٣) فينبغي أن يقال : كلّما كان مثليّا باتفاق المجمعين فلا إشكال في ضمانه بالمثل ، للإجماع (*). ويبقى ما كان مختلفا فيه بينهم كالذهب والفضة غير المسكوكين. فإنّ صريح الشيخ في المبسوط كونهما من القيميّات (٤) ،

______________________________________________________

وكان المناسب تقديم الوجه الداعي لهذا البحث المفصّل عن معنى المثليّ.

(١) استدراك على ما يفهم من قوله : «وليس في النصوص ..» يعني : أنه وإن لم يرد لفظ المثليّ في الأخبار ، لكنّه ورد في دليل تعبّديّ آخر وهو الإجماع.

(٢) سيأتي في المتن ذكر بعض موارد اختلاف الفقهاء في المثليّة والقيميّة ، مع اتّفاقهم على أصل الحكم وهو ضمان المثليّ بالمثل.

(٣) أي : وحين عدم جواز الاتكال ـ في تشخيص صغريات المثليّ ـ على قول بعض المجمعين فينبغي أن يقال .. إلخ. وقد ذكر المصنّف من موارد المختلف في مثليّتها وقيميّتها أمورا أربعة ستأتي في المتن.

(٤) قال قدس‌سره فيه : «وأمّا إذا كان ـ أي التالف ـ من جنس الأثمان لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون ممّا فيه صنعة ، أو لا صنعة فيه ، فإن كان ممّا لا صنعة فيه ـ وهو

__________________

(*) ظاهر هذه العبارة وقوله : «وحينئذ فينبغي أن يقال .. إلخ» أنّ مثليّة بعض الأموال وقيميّة الآخر تعبّديّة ، فلا بدّ من الرجوع إلى الدليل الشرعيّ في تعيينه وهو الإجماع بالنسبة إلى بعض الموارد. والظاهر أنّه ليس كذلك ، لأنّ المثليّة والقيميّة من الموضوعات العرفيّة التي يرجع فيها إلى العرف ، فإتّفاق المجمعين في بعض الموارد ، واختلافهم في الآخر إنّما هو من حيث كونهم من أهل العرف ، لا من حيث إنّهم من أهل الشرع. هذا ما قيل ، فتأمل فيه.


وظاهر غيره (١) كونهما مثليّين. وكذا الحديد والنحاس والرصاص ، فإنّ ظواهر عبارة المبسوط (٢) والغنية والسرائر كونها قيميّة. وعبارة التحرير (١) صريحة في كون أصولها مثلية ، وإن كان المصوغ منها قيميّا.

______________________________________________________

النقرة ـ فعليه قيمة ما أتلف من غالب نقد البلد .. فأمّا إذا كان فيها صنعة ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون استعمالها مباحا أو محظورا. فإن كان استعمالها مباحا كحليّ النساء وحليّ الرّجال مثل الخواتيم والمنطقة .. فإن كان غالب نقد البلد من غير جنسها قوّمت به .. إلخ» (٢). والمستفاد منه تقويم الذهب والفضّة بنقد البلد ، سواء كانا سبيكتين ، أم مصوغتين.

(١) كابن إدريس والمحقّق والعلّامة وفخر الدين والشهيد والمحقّق الثاني ، على ما حكاه عنهم السيد الفقيه العاملي قدس‌سرهم ، ذكر ذلك شارحا لقول العلامة : «والذهب والفضة يضمنان بالمثل ، لا بنقد البلد» (٣).

(٢) قال فيه : «فإن كان ـ أي التالف ـ من غير جنسها ـ أي جنس الأثمان ـ كالثياب والخشب والحديد والرصاص والنحاس والعقار ونحو ذلك من الأواني كالصّحاف وغيرها فكلّ هذا وما في معناه مضمون بالقيمة» (٤).

وفي التذكرة أيضا ، حيث قال بعد ذكر عديد من الأشياء : «والأظهر عندهم أنّها بأجمعها مثليّة» (٥). وكلامه قدس‌سره ناظر إلى أصولها ـ كما نسبه المصنّف إليه في التحرير ـ لا المصنوع منها.

__________________

(١) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٦٠ و ٦١.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٨ ؛ تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٤.

(٤) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٦٠ ؛ غنية النزوع ، ص ٥٣٧ ، السطر ١٣ ؛ السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨٠.

(٥) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨١ ، السطر ٣١.


وقد صرّح الشيخ (١) في المبسوط (١) بكون الرّطب والعنب قيميّا ، والتمر والزبيب مثليّا.

وقال في محكيّ المختلف : «إنّ (٢) في الفرق إشكالا» بل (٣) صرّح بعض من قارب عصرنا (٢) «بكون الرّطب والعنب مثليّين».

وقد حكي (٤) عن موضع من جامع المقاصد : «أنّ الثوب مثليّ» والمشهور خلافه.

وأيضا (٥) فقد مثّلوا للمثليّ بالحنطة والشعير. ولم يعلم أنّ المراد نوعهما

______________________________________________________

(١) تقدّم نقل كلامه آنفا ، فراجع. وهذا ثالث موارد الاختلاف.

(٢) قال بعد نقل كلام الشيخ قدس‌سره : «وفي الفرق إشكال» (٣).

(٣) الوجه في الإضراب هو : أنّ العلّامة لم يجزم بمثلية الرّطب والعنب ، وإنّما استشكل في الفرق بين العنب والزبيب بجعل العنب قيميّا والزبيب مثليّا. وأمّا المحقّق القميّ قدس‌سره فلم يتردّد في مثليّة الرّطب والعنب ، فيكون مخالفا لشيخ الطائفة قدس‌سره.

(٤) هذا مورد رابع ممّا اختلفوا في كونه مثليّا أو قيميّا ، قال المحقّق الثاني قدس‌سره بعد نقل تعريف المبسوط : «ونقض بالثوب ونحوه ، فإنّ قيمة أجزائه متساوية ، وليس بمثليّ» (٤). ولم يظهر أنّ النقض بالثوب منه أو من غيره من الفقهاء.

(٥) لم يختلفوا في كون الحنطة والشعير مثليّين ، فغرض المصنف قدس‌سره أنّهما وإن كانا متيقّنين من المثليّات ، إلّا أنّه لم يظهر منهم أنّ المثليّة هل هي ملحوظة بالنسبة إلى أفراد طبيعة نوعيّة كالحنطة مثلا ، فأنواعها وأصنافها أفراد الكلّيّ المثليّ؟ أم أنّها

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٦٠ و ٩٩ و ١٠٠.

(٢) هو المحقّق القمي في جامع الشتات ، ج ٢ ، ص ٥٤٣ و ٥٤٤.

(٣) مختلف الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٣٥.

(٤) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٤٣ و ٢٤٤ ، والحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤١.


أو كلّ صنف (١) ، وما المعيار في الصنف؟ وكذا التمر.

والحاصل : أنّ موارد عدم تحقّق الإجماع على المثليّة فيها كثيرة (٢) ، فلا بدّ (٣)

______________________________________________________

ملحوظة بالنسبة إلى الأصناف ، فكلّ صنف مثليّ بالنسبة إلى خصوص جزئيّاته ، لا بالنسبة إلى سائر الأصناف. وهل المراد بتساوي الأجزاء في القيمة تساويها من جميع الجهات أو من بعضها؟

(١) حيث إنّ للتمر عشرات الأصناف ، فهل مناط مثليّته صدق الحقيقة ، أم النوع.

(٢) كالأراضي ، فقد اختلفوا في ضمانها بالمثل أو بالقيمة.

حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا

(٣) هذا شروع في المقام الثالث ممّا تعرّض له في الأمر الرابع ، وهو حكم الشك في كون التالف مثليّا أو قيميّا. وكان المناسب بيان الأدلة على أصل اعتبار المثل ، ثم التعرض لحكم الشك. وقد اقتصر قدس‌سره على نقل إجماعهم على الحكم ، وأخّر الوجهين الآخرين.

وكيف كان ففي تردّد المضمون بين المثليّ والقيميّ وجوه أربعة :

أوّلها : الضمان بالمثل معيّنا.

ثانيها : الضمان بالقيمة كذلك.

ثالثها : تخيير الضامن بين المثل والقيمة.

رابعها : تخيير المالك بينهما.

واضطربت كلمات المصنّف قدس‌سره في حكم المسألة ، فرجّح أوّلا تخيير الضامن بين دفع المثل والقيمة ، ثم تخيير المالك لو كان تخيير الضامن مخالفا للإجماع. ثم قوّى تخيير المالك من أوّل الأمر. ثم عاد إلى تقوية تخيير الضامن ، وفي آخر البحث ذهب إلى اقتضاء أدلة الضمان ثبوت المثل في العهدة ، لكونه أقرب إلى التالف ، وسيأتي بيانها بالترتيب إن شاء الله تعالى.


من ملاحظة أنّ الأصل (١) الذي يرجع إليه عند الشك هو الضمان بالمثل أو بالقيمة أو تخيير المالك أو الضامن بين المثل والقيمة؟

ولا يبعد أن يقال (٢) : إنّ الأصل هو تخيير الضامن ، لأصالة (٣) براءة ذمّته

______________________________________________________

(١) ظاهره هو الأصل العمليّ من البراءة أو الاشتغال ، لكن المراد به أعمّ منه ومن الأصل اللفظيّ ، لما سيأتي من الاستدلال بحديث «على اليد» على تخيير المالك.

(٢) أشرنا آنفا إلى أنّ المصنّف قدس‌سره رجّح بدوا تخيير الضامن في مقام تفريغ ذمّته بين أداء المثل والقيمة. وهو مبنيّ على أمرين :

أحدهما : جريان أصالة البراءة عن ضمانه بأمر زائد على ما يختاره.

ثانيهما : الإجماع ـ بل الضرورة ـ على عدم وجوب الجمع بين المثل والقيمة.

أمّا الأوّل فتوضيحه : أنّ الضامن يعلم باشتغال ذمته بما تلف عنده من مال الغير ، ولكنّه ـ عند الشكّ في كون التالف مثليّا وقيميّا ـ إذا أدّى أحدهما إلى المالك يشكّ في اشتغال عهدته بأمر زائد على ما أدّاه ، ومن المعلوم جريان أصالة البراءة النافية لضمانه بشي‌ء آخر. فإن دفع المثل نفى ضمانه بالقيمة بالأصل. وإن دفع القيمة نفى به ضمانه بالمثل.

هذا بناء على ما حقّق في الأصول من جريان الأصل في الأحكام الوضعيّة كجريانه في التكليفيّة. وإن قلنا باختصاص الجعل بالتكليف جرى الأصل في منشأ الانتزاع وهو وجوب الغرامة.

وأمّا الثاني فلأنّه لولا الإجماع على عدم وجوب الجمع بين الخصوصيّتين اقتضت أصالة الاشتغال دفع المثل والقيمة معا تحصيلا للقطع بالفراغ.

وبتماميّة الأمرين يتّضح وجه تخيير الضامن.

(٣) بناء على كون الفرق بين المثل والقيمة هو الفرق بين الأقلّ والأكثر ، فيكون الشك في وجوب المثل شكّا في وجوب الأكثر. وأمّا بناء على كونهما من قبيل المتباينين ـ لكون المراد من القيمة في المقام النقد الواقع ثمنا كالدينار والدرهم ـ


عمّا زاد على ما يختاره. فإن فرض (١) إجماع على خلافه

______________________________________________________

فيرجع عند الشك في أحدهما بعينه إلى أصالة الاحتياط.

(١) شرع المصنّف من هذه العبارة في ترجيح تخيير المالك بين مطالبة المثل أو القيمة ، وسلك لإثباته طريقين ، أحدهما : بالنظر إلى الإجماع على عدم تخيير الضامن في مقام تفريغ ذمّته ، والآخر : مع قطع النظر عن هذا الإجماع.

أمّا الأوّل ـ وهو تخيير المالك مع الالتفات إلى الإجماع ـ فيدلّ عليه وجهان :

أوّلهما : أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك ، كما إذا زعم الضامن كونه مخيّرا ، فأدّى القيمة إلى المالك ، ولم يرض بها ، إذ يشك حينئذ في فراغ ذمّة الضامن عمّا اشتغلت به قطعا ، ومقتضى استصحاب بقاء ما في العهدة عدم حصول البراءة بدفع ما يختاره الضامن ولم يرض به المالك. وقد تقرّر حكومة الاستصحاب على الأصل غير المحرز كالبراءة ، فلا سبيل لإثبات تخيير الضامن بالتمسّك بأصالة البراءة.

ثانيهما : حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» حديث إنّ الضمير المحذوف الراجع إلى «ما» الموصول ظاهر في تحقق الأداء ـ المسقط للضمان ـ بردّ نفس العين ، إلّا إذا رضي المالك بردّ غيرها ، فلا يرتفع الضمان بردّ غير العين إلّا برضا المالك ، ومرجع هذا إلى تخيير المالك. فلو أدّى الضامن القيمة المغايرة للعين المضمونة ـ ولم يرض المالك بها ـ دلّ الحديث على بقاء مال الغير في عهدة الآخذ ، وعدم حصول الغاية ـ وهي : حتّى تؤدّي ـ المفرّغة لما في الذمّة.

وأمّا الثاني : ـ أعني به ثبوت تخيير المالك مع الغضّ عن الإجماع على عدم تخيير الضامن ـ فيقتضيه أصالة الاشتغال ، للشكّ في فراغ ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك. ولا ريب في أنّ الاشتغال اليقينيّ يقتضي البراءة اليقينيّة المنوطة بدفع المثل والقيمة معا. نعم الإجماع قائم على عدم وجوب الجمع بينهما.

ولكنّه لا يثبت تخيير الضامن ، وإنّما يثبت تخيير المضمون له ، لأنّه مالك لذمّة


فالأصل (١) تخيير المالك ، لأصالة عدم (٢) براءة ذمّته بدفع ما لا يرضى به المالك.

______________________________________________________

الضامن ، فله مطالبة ما شاء.

فإن قلت : إنّ أصالة البراءة معارضة لقاعدة الاشتغال ، فتتساقطان ، لكونهما في رتبة واحدة ، فلا يبقى مرجّح لتخيير المالك من أوّل الأمر ، وينتهي الأمر إلى الطريق الأوّل المنوط بالاعتماد على الإجماع على عدم تخيير الضامن.

قلت : لا معارض لأصالة الاشتغال هنا ، لعدم جريان أصالة البراءة في أمثال المقام ممّا يكون المتعلّق دائرا بين المتباينين ، وهما المثل والقيمة ، إذ لو كانت القيمة هي مجرّد ماليّة المضمون الموجودة في جميع الأعيان المتمولّة كانت هي الأقلّ ، وكان المثل الواجد للجهات الصنفيّة المشتركة مع التالف هو الأكثر ، فيكون المقتضي لجريان أصالة البراءة عن وجوب دفع الأكثر موجودا ، وهي معارضة لقاعدة الاشتغال المقتضية لتخيير المالك.

ولكن المراد بالقيمة في باب الضمان هو النقد الواقع ثمنا كالدرهم والدينار والأنواط التي يعامل بها. ومن المعلوم أنّ المثل والنقد متباينان ، لعدم كون القيمة بعضا من المثل حتى تجري أصالة البراءة عن الأكثر ، كما تجري في الزائد على المتيقّن عند دوران الدّين بين تسعين ومائة درهم مثلا.

وعليه فقاعدة الاحتياط تجري بلا معارض ، وبعد الإجماع على عدم وجوب أداء الخصوصيّتين يتّجه تخيير المالك في قبول المثل أو القيمة. هذا تقريب القول بتخيير المالك.

(١) هذا الأصل أعمّ من العمليّ واللفظيّ ، لأنّه استدلّ بحديث «على اليد» وهو دليل اجتهاديّ.

(٢) أي : استصحاب بقاء المضمون على عهدة الضامن ، وقد عرفته بقولنا : «أوّلهما : أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك .. إلخ».


مضافا إلى عموم (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» فإنّ مقتضاه (٢) عدم ارتفاع الضمان بغير أداء العين ، خرج ما إذا رضي المالك بشي‌ء آخر (٣).

والأقوى (٤) تخيير المالك من أوّل الأمر (٥) ، لأصالة الاشتغال.

والتمسّك (٦) «بأصالة البراءة» لا يخلو من منع (٧).

نعم يمكن أن يقال (٨):

______________________________________________________

(١) هذا أصل لفظيّ يقتضي تخيير المالك. وقد أوضحناه بقولنا : «ثانيهما : حديث ـ على اليد ـ حيث إن الضمير .. إلخ».

(٢) أي : مقتضى عموم «على اليد» عدم ارتفاع الضمان .. إلخ.

(٣) وبقي ـ ما لم يرض المالك به ـ في عموم «على اليد» المقتضي للضمان بقاء ، كاقتضائه له حدوثا بمجرّد وضع اليد.

(٤) هذا هو الطريق الثاني لإثبات تخيير المالك ، وقد عرفته بقولنا : «وأمّا الثاني .. فيقتضيه أصالة الاشتغال .. إلخ».

(٥) يعني : مع قطع النظر عن الإجماع على عدم تخيير الضامن.

(٦) مبتدأ خبره «لا يخلو من منع» وهو دفع دخل ، وقد تقدّم توضيحهما بقولنا : «فإن قلت : إن أصالة البراءة معارضة لقاعدة الاشتغال .. قلت : لا معارض لأصالة الاشتغال .. إلخ».

(٧) إمّا لما ذكرناه من كون العلم الإجماليّ بالمثل والقيمة من قبيل العلم الإجماليّ بالمتباينين ، وإمّا لما قيل من كونه من التعيين والتخيير الذي هو مجرى أصالة التعيينيّة ، فتأمّل.

(٨) هذا نظره الثالث في المسألة ، وهو إثبات التخيير بين المثل والقيمة عقلا بمناط دوران الأمر بين المحذورين ، لا التخيير الشرعيّ كما تقدّم في النظرين السابقين ، وهما تخيير الضامن وتخيير المالك.

وهذا الوجه يعتمد على مقدّمتين :


.................................................................................................

______________________________________________________

الأولى : عدم تماميّة شي‌ء من الأقوال الأربعة ، وهي تعيين المثل ، وتعيين القيمة ، وتخيير الضامن ، وتخيير المالك ، إذ لو نهض دليل على ترجيح أحدها تعيّن المصير إليه ، سواء أكان الدليل الشرعي أصلا لفظيّا كحديث «على اليد» أم عمليّا كالاستصحاب والاشتغال والبراءة. فإذا نوقش فيها ـ إمّا لقصور المقتضي وإمّا لوجود المانع وهو المعارضة ـ تصل النوبة إلى تعيين الوظيفة بحكم العقل.

الثانية : قيام الإجماع على عدم تخيير المالك بين مطالبة المثل والقيمة ، إذ لو تمّ هذا الإجماع كان الدليل الاجتهاديّ على تخييره شرعا موجودا ، ومعه لا مجال للتمسك بالأصل العمليّ العقليّ المتأخّر رتبة عن الأصول الشرعيّة.

وبناء على هاتين المقدّمتين نقول : إنّ المستقرّ في عهدة الضامن إمّا المثل أو القيمة ، فإن رضي المالك بما يؤدّيه الضامن فلا كلام. وإن لم يرض به فإن كانت الذمّة مشغولة بالمثل واقعا ودفع القيمة إلى المالك لم تفرغ ذمّته عمّا اشتغلت به. وإن كانت مشغولة بالقيمة كذلك وأدّى المثل لم تفرغ ذمّته. كما أنّه لو كان على الضامن هو المثل لم يكن للمالك الامتناع عن قبوله ، وليس له مطالبة القيمة ، وكذا لو كان عليه القيمة لم يكن للمالك الإباء عن قبولها.

فيدور أمر كلّ من الضامن والمالك بين المحذورين. أمّا الضامن فلأنّ ما عليه واقعا إحدى الخصوصيّتين مع فرض عدم وجوب الجمع بينهما.

وأمّا المالك فلاستحقاقه واقعا أحد الأمرين لا كليهما ، ولا تخيير شرعا بينهما حسب الفرض. فيقال بالتخيير عقلا من باب الاضطرار. كما يقال في تخيير المجتهد في مقام الفتوى في ما لو اختلفت الأمّة على قولين ، ولم يقم على أحدهما دليل بالخصوص ، ولم يجز إبداع رأي ثالث في المسألة ، فيتخيّر عقلا في الفتوى على


ـ بعد عدم الدليل لترجيح أحد الأقوال (١) ، والإجماع (٢) على عدم تخيير المالك ـ بالتخيير (٣) في الأداء ، من جهة دوران الأمر بين المحذورين (*) أعني (٤) : تعيّن المثل بحيث لا يكون للمالك مطالبة القيمة ، ولا للضامن الامتناع (٥) ،

______________________________________________________

طبق أحد القولين ، هذا.

(١) هذا إشارة إلى المقدّمة الأولى. وعدم ترجيح بعض الأقوال مبنيّ على الغضّ عمّا جعله أقوى من تخيير المالك.

(٢) بالجرّ معطوف على «عدم» يعني : وبعد الإجماع على عدم تخيير المالك. وهذا إشارة إلى المقدّمة الثانية.

(٣) متعلق ب «يقال» يعني : يقال بالتخيير العقليّ.

(٤) هذا بيان المحذورين. فإن كان المضمون خصوص المثل وجب على الضامن بذله ، ولم يجز للمالك الامتناع عن قبوله. وإن كان المضمون خصوص القيمة وجب على الضامن أداؤها ولم يجز للمالك مطالبة المثل. وحيث إنّ الواقع مجهول لم يمكن تحصيل العلم ببراءة الذمّة ، فيحكم العقل بالتخيير بين أداء المثل والقيمة.

(٥) أي : الامتناع عن بذل المثل.

__________________

(*) فيه : أنّ المقام أجنبيّ عن الدوران بين المحذورين اللذين يحكم فيه العقل بالتخيير ، وذلك لأنّه إنّما يكون في أمرين لا يمكن فعلهما ولا تركهما ، كدوران الأمر بين وجوب شي‌ء وحرمته ، أو وجوب شي‌ء ووجوب ضده ، في الضدّين اللّذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون. وليس المقام كذلك ، لإمكان تحصيل اليقين بالبراءة بدفع المثل والقيمة إلى المالك ، ليأخذ المالك ما شاء منهما ، وإن لم يخرجا عن ملكه بمجرّد الدفع. ومع إمكان تحصيل اليقين بالبراءة بهذا النحو لا تصل النوبة إلى القرعة.


وتعيّن (١) القيمة كذلك (٢) ، فلا متيقّن (٣) في البين. ولا يمكن (٤) البراءة اليقينيّة عند التّشاحّ (٥) ، فهو (٦) من باب تخيير المجتهد في الفتوى.

______________________________________________________

(١) معطوف على «تعيّن المثل» يعني : أنّ منشأ كون المقام من موارد الدوران بين المحذورين هو تعيّن أحد الأمرين واقعا ، والمفروض عدم طريق إلى إحرازه.

(٢) يعني : بحيث لا يكون للمالك مطالبة المثل ، ولا للضامن الامتناع عن بذل القيمة.

(٣) إذ ليس المثليّ والقيميّ من قبيل الأقلّ والأكثر حتى يكون الأقل هو المتيقن ، بل هما متباينان ، فلا تجري البراءة في المثليّة.

(٤) لكونهما متباينين. وعدم الاحتياط في الماليّات ، فالمضمون له لا يستحقّ واقعا إلّا أحدهما.

(٥) بأن لا يأذن الضامن إلّا بقبض ما عليه واقعا ، ولا يرضى المالك أيضا إلّا بما له واقعا ، والمفروض جهلهما بالواقع ، فلا يمكن تحصيل اليقين بالبراءة.

(٦) حيث إنّ الضامن يدور أمر أدائه بين المحذورين ، إجزاء المثل بخصوصه ، والقيمة كذلك ، لعدم القدر المتيقّن الذي تحصل به البراءة ، فيتخيّر الضامن حينئذ. نظير تخيير المجتهد في الفتوى بما يختاره من المحذورين اللذين دار أمره بينهما ، كما إذا قام عنده خبران متعارضان أحدهما يأمر بفعل والآخر ينهى عنه ، فإن كان الخبر الآمر صادرا واقعا وجبت الفتوى بمضمونه ولم تجز الفتوى بالحرمة. وإن كان الخبر الناهي صادرا وجبت الفتوى بالحرمة وحرمت الفتوى بالوجوب.

وحيث إنّ المفروض تردّد الصادر واقعا بين الخبرين فقد تردّد الأمر عنده بين الوجوب والحرمة ، فلا محالة يفتي بمضمون أحدهما ، هذا.


فتأمّل (١) (*) هذا.

______________________________________________________

(١) لعلّه إشارة إلى : أنّ تخيير المجتهد إنّما هو في تعارض الخبرين دون مثل المقام.

أو إلى : أنّ التخيير منوط بعدم ترجيح لأحد الأقوال ، والمفروض وجود المرجّح لتخيير المالك من أوّل الأمر ، فلا وجه لتنظيره بتخيير المجتهد.

__________________

(*) إذا شكّ في كون مال مثليّا أو قيميّا لأجل الشبهة المفهوميّة فهل الأصل يقتضي تعيّن المثل أو القيمة أو تخيير الضامن أو المالك؟ احتمالات. قد عرفت في التوضيح مبانيها.

وقبل بيان الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه عند الشك في المثليّة والقيميّة لا بدّ من تقديم مقدّمتين نافعتين في جميع موارد الضمانات.

إحداهما : أنّ القيميّ والمثليّ من المتباينين أو الأقلّ والأكثر. فإن أريد بالقيمة مطلق الماليّة السارية في جميع الأموال كانا من قبيل الأقلّ والأكثر ، لأنّ المثليّ حينئذ مال خاصّ علاوة على الماليّة المشتركة بين سائر الأموال ، فتكون المثليّة خصوصيّة زائدة على المالية المشتركة.

وإن أريد بالقيمة خصوص ما هو المرتكز في الأذهان والمتسالم عليه من النقود الرائجة التي تقدّر بها ماليّة الأموال وتتمحض في الماليّة كانا من المتباينين. وربّما يكون هذا ظاهر كلام اللغويّين.

ثانيتهما : أنّ الذمّة في باب الضمانات هل تشتغل بنفس الأعيان ، بمعنى كون نفس العين على عهدة الضامن مطلقا من غير فرق في ذلك بين ضمان اليد والإتلاف ، ويكون أداء المثل أو القيمة أداء لها ، لأنّه حكم العرف ، فإنّهم يحكمون بضمان المثل في المثلي والقيمة في القيميّ ، إذ لو كان له مثل عادة لا يعدّ إعطاء غيره أداء لها؟ أم تشتغل الذمّة بالمثل مطلقا ، ويكون أداء القيمة بتعذّره نحو أداء له ، أو بدلا اضطراريّا ، أم تشتغل ابتداء في المثليّ بالمثل ، وفي القيميّ بالقيمة مطلقا كما نسب إلى المشهور ، أم تشتغل بالقيمة مطلقا حتّى في ضمان اليد. أم يفصّل بين ضمان اليد وغيره.


.................................................................................................

__________________

قد يقال : لو بني على المتعارف وتنزيل الإطلاقات الواردة في الضمان عليه كان مقتضى ذلك ضمان الماليّة مطلقا وليست الخصوصيّات العينيّة ملحوظة في نظر العرف إلّا عبرة إلى مرتبة ماليّة المال ، ولذا لو سقط المثل عن الماليّة لم يلتفتوا إليه أصلا. ولا يرون دفعه تداركا. وكذا لو زاد في الماليّة لا يرون المالك مستحقّا لأزيد من قيمة ماله.

وبالجملة : ليس النظر في الأموال إلّا إلى ماليّتها. بل لو كانت خصوصيّة مال مطلوبة كان ذلك لأمر خارجيّ غير دخيل في حيثيّة الضمان. وإنّما يدور الضمان مدار التمول في أي عين كان بلا خصوصيّة للنقدين ، ولا للمماثل ولا لغيرهما.

وهذا في غاية الغرابة ، إذ لازمه ارتفاع الضمان بجبران الماليّة بأيّ مال كان ، فلو أتلف منّا من حنطة زيد ، ودفع إليه مقدارا من الدهن يساوي قيمة منّ الحنطة ـ وإن لم يرض به المالك ـ لزم منه براءة ذمّة الضامن ، وهو كما ترى خلاف ما عليه العقلاء في باب الضمانات ، إذ لا يرون هذا أداء لما أتلفه ، فإن العقلاء كما يحكمون بأصل الضمان كذلك يحكمون بكيفيّته. فدعوى كون الضمان مطلقا بالماليّة ـ من دون رعاية الخصوصيّات الدخيلة في الرغبات والماليّة ـ في غاية الغرابة.

فالحقّ أن يقال : إنّ حكم العقلاء في باب الضمانات هو ثبوت نفس العين التالفة المضمونة على عهدة الضامن ، فالاستيلاء على العين الموجب للضمان يوجب ثبوتها في الذمّة. وهذا وجود اعتباريّ للعين ، فبدون التلف يكون خروجه عن عهدتها بدفع عينها إلى مالكها ، ومع التلف يكون أداؤها بإعطاء مماثلها إن كان مثليّا ، وقيمتها إن كان قيميّا. وثمرة ثبوت العين في الذمة هو كون المدار في القيميّة قيمة يوم الأداء لا يوم التلف.

وهذا ـ أي ثبوت نفس العين في الذمّة إلى وقت الأداء ـ ممّا تقتضيه الأدلّة الشرعية أيضا كحديث «على اليد» فإنّ ظاهره كون نفس المأخوذ على الآخذ ومستعليا


.................................................................................................

__________________

عليه كما هو قضيّة كلمة على الاستعلائيّة ، حيث إنّ الظرف مستقرّ متعلّق بفعل من أفعال العموم ، فكأنّه قيل : المأخوذ ثابت على الآخذ ، فالثابت على العهدة محمول على نفس المأخوذ ، نظير قوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) حيث إنّ الرّزق بنفسه ثابت على المولود له ، وجعل شي‌ء على شخص ظاهر في كونه على عهدته ، ولذا استظهر الأصحاب من هذه الآية المباركة ملكيّة النفقة للزوجة ، والتفصيل في محله.

وبالجملة : لا مانع من جعل شخص المأخوذ على العهدة اعتبارا كما في الكفالة ، فإنّ الشخص المكفول يكون على عهدة الكفيل اعتبارا ، فإن كانت العين موجودة كان أداؤها بنفسها ، وإن كانت تالفة كان أداؤها بما هو أقرب إليها. ولا يعارضها سائر أدلّة الضمانات كآية الاعتداء على فرض دلالتها على ضمان المثل والقيمة ، لأنّ ظاهرها تجويز الاعتداء بهما أي التقاصّ ـ يعني : على عهدة الغاصب ما يكون تقاصّه بالمثل أو القيمة ـ وهو لا يدلّ على أنّ ما في العهدة نفس العين أو القيمة أو المثل ، إذ لو كان ما على العهدة نفس العين فلازمه أيضا التقاصّ بالمثل أو القيمة ، فهذا اللازم أعمّ من كون ما في الذمّة نفس العين أو المثل أو القيمة.

فظهور «على اليد» يكشف عن كيفيّة الضمان ولا ينافيه الآية الشريفة ، ولا دليل احترام مال المؤمن وأنّه كدمه ، إذ لا يدلّ على كيفية الضمان ، بل يدلّ على نفس الضمان وعدم هدره. وكذا سائر أدلّة الضمانات ، فإنّها لو لم تكن ظاهرة في ضمان نفس العين وثبوتها على العهدة ليست ظاهرة في الخلاف. فالبناء العقلائيّ الذي يساعده الدليل الشرعيّ كحديث «على اليد» قد استقرّ على كون الثابت في ذمّة الضامن نفس العين ، هذا.

لكن يمكن أن يقال : إنّ ما وقع تحت اليد هو الموجود الخارجيّ ، ولا ريب في انعدامه بالتلف ، فلا بدّ أن يسقط الضمان بسبب التلف ، إذ الماهيّة المعرّاة عن الوجود الخارجيّ لم تقع تحت اليد ، ولا يمكن وقوعها عليه. فلا يستفاد من حديث اليد ضمان المأخوذ بعد التلف.


.................................................................................................

__________________

والحاصل : أنّ الحديث في مقام بيان وجوب ردّ المأخوذ الموجود إلى مالكه ، ولا يدلّ على وجوب ردّ بدله بعد التلف ، لأنّ ظاهره كون المضمون ما هو الموجود خارجا ، لا الأعمّ منه ومن المعدوم الذي يعتبر موجودا باقيا ، فلا يستفاد من الحديث اعتبار نفس العين على العهدة بعد التلف ، كما لا يستفاد ذلك أيضا من أدلّة الضمانات.

فالمرجع حينئذ في كيفيّة الضمان هو العرف ، ومن المعلوم أنّهم يحكمون بضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ ، لأنّ ذلك أقرب إلى التالف ، وصدق الجبران وتدارك الفائت عليه أولى من غيره ، كمطلق الماليّة ، فالضمان من أوّل الأمر يتعلّق ببدل التالف مثليّا أو قيميّا ، لا بنفس العين بوجودها الاعتباريّ ، فإنّه وإن كان ممكنا ثبوتا ، لكنّه لا دليل عليه إثباتا.

ثمّ إنّ الظاهر ـ كما أشير إليه ـ عدم تعبّد في نفس الضمان ولا في كيفيّته ، بل كلاهما من الأحكام العقلائيّة ، فما اشتهر بين الأصحاب من ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ممّا يساعده الارتكاز العقلائيّ ، فالضمان عندهم عبارة عن عهدة الخسارة للمال بالتلف. ولا ينافي هذا الارتكاز شي‌ء من أدلّة الضمان ، فالضمان المأخوذ في أدلّته ليس إلّا عهدة الخسارة في صورة التلف ، وجبران الخسارة بمقتضى الارتكاز العقلائيّ إنّما هو بالمثل في المثليّ ، وبالقيمة في القيميّ.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم : أنّ مقتضى العلم الإجمالي باشتغال ذمّة الضامن بإحدى الخصوصيّتين اللّتين هما بدل التالف ـ لحكم العقل بأنّ الضمان هو تدارك خسارة التالف ببدله الأقرب إليه ، وهو المثل أو القيمة ـ هو الاحتياط بدفع المثل والقيمة إلى المضمون له ، غاية الأمر أنّه يجب على المالك أخذ أحدهما ، للإجماع على عدم الاحتياط في الماليّات ، ولقاعدة الضرر. ولو لم يرض بأحدهما فالظاهر تعيّن القرعة بناء على جريانها في الشبهات الحكمية ، وإلّا فالصلح القهري.


ولكن يمكن أن يقال (١) : إنّ القاعدة المستفادة

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى دليل آخر على أصل الحكم بضمان المثليّ بالمثل ـ كما سيأتي تصريحه به في المتن بقوله : نعم الانصاف عدم وفاء الآية كالدليل السابق عليه بالقول المشهور ـ والظاهر أنّ غرضه قدس‌سره من التعرّض له هنا ـ بعد الفراغ عمّا يقتضيه الأصل العمليّ في الشك في كون التالف مثليّا وقيميّا ـ هو : استفادة حكم المسألة من الدليل الاجتهاديّ أعني به إطلاق أخبار الضمان مقاميّا ، في قبال ما تقدّم من استفادته من الأصل العمليّ المقتضي لتخيير الضامن شرعا ، أو تخيير المالك كذلك ، أو التخيير عقلا.

__________________

ولا تجري أصالة البراءة في إحدى الخصوصيّتين ـ وهي المثليّة ـ ليكون نتيجته تخيير الضامن ، وذلك لكون المقام من المتباينين كما مرّ سابقا ، لا من الأقل والأكثر.

كما لا تجري أصالة التعيينيّة القاضية بتعيّن المثل ، لأنّ موردها العلم بوجوب شي‌ء تعيينا أو تخييرا ، كوجوب تقليد المجتهد الأعلم المردّد بين كونه بنحو التعيينيّة والتخييريّة. وهذا أجنبيّ عن مطلوبيّة كلّ واحدة من الخصوصيّتين كالمثليّة والقيميّة ، فإنّ الضمان تعلّق بالخصوصيّة المثليّة أو القيميّة.

كما لا وجه لتخيير المالك ، ببيان : أنّ ما يختاره المالك إمّا هو البدل الواقعيّ الذي اشتغلت به ذمّة الضامن ، فيكون مسقطا قهريّا ، وإمّا هو بدل البدل ، لرضاء المالك بغير الجنس في مرحلة الوفاء ، فيكون مسقطا أيضا. فمختار المالك مسقط للذمّة قطعا دون غيره ، لأنّه مشكوك المسقطيّة ، والأصل عدم سقوطه إلّا بما يختاره المالك.

إذ فيه : أنّ الكلام في إجراء الأصل بالإضافة إلى ما اشتغلت به ذمّة الضامن من المثل بالخصوص أو القيمة كذلك ، لا بالنسبة إلى ما يرضى به المالك بدلا عن ماله التالف ، لأنّه قد يكون القيمة في المثليّ والمثل في القيميّ ، وقد يكون شيئا آخر ممّا لا ينضبط. ومن المعلوم أنّ دفعهما معا مستلزم للعلم بأداء ما في الذمّة ، سواء رضي المالك بأحدهما بالخصوص أم لا. فالقطع ببراءة الذمّة لا يتوقّف على دفع ما يختاره المالك ، ونسبة الأصل إلى كليهما على حدّ سواء.


من إطلاقات الضمان (١)

______________________________________________________

وتوضيح ما أفاده : أنّ مادّة «الضمان والغرامة» وما بمعناهما قد وردت في كثير من النصوص المتكفلة لحكم المغصوب ، والأمانات التي فرّط أصحابها فيها كالعين المستأجرة واللّقطة والعارية والوديعة ، وكان السائل يستفهم عن وظيفته الفعليّة المبتلى بها ، ولم يستفصل منه الامام عليه‌السلام عن أنّ المضمون مثليّ أو قيميّ ، وإنّما حكم عليه‌السلام بالضمان أو بما يؤدّيه ، كما يستفاد أيضا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» ممّا ظاهره استقرار المأخوذ على عهدة الآخذ إلى أن يردّه إلى المأخوذ منه.

ومن المعلوم أنّ إهمال خصوصيّة المضمون ـ مع تفاوت الأموال في مالها مثل وما ليس لها مثل ـ لا بدّ أن يكون لأجل إيكال الأمر إلى ما هو المتعارف بين العقلاء في ما يضمنون به ، وعدم إبداع طريقة أخرى في مقام تفريغ الذمّة.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى نرى استقرار سيرتهم على أنّ من وضع يده على شي‌ء مملوك للغير لزمه ردّه إليه ، وإن تلف لزمه ردّ أقرب شي‌ء إليه ، ومع تعذّره يؤدّي قيمة التالف.

ولا ريب في أنّ الأقرب إلى التالف هو مماثلة في جميع الجهات المعتبرة في الماليّة والأوصاف الدخيلة في رغبة العقلاء فيه ، سواء أكان متّحدا مع المثليّ الذي اصطلح عليه الفقهاء قدس‌سرهم ، أم لم يكن كذلك. فالحيوان مطلقا ليس مثليّا بنظر الفقهاء ، ولكن لا يبعد ضمانه عرفا بما يماثل التالف من جميع الجهات ، ولو تعذّر فبقيمته.

وعليه فهذا الدليل يقتضي الضمان أوّلا بمثل التالف ، ثم بقيمته ، ومعه لا مجال للتخيير أصلا.

(١) حاصله : أنّ المستفاد من بناء العرف الممضى شرعا ـ بمقتضى الإطلاقات المقاميّة الثابتة لأدلّة الضمان المتفرّقة في أبواب الفقه ـ هو : أن الضمان في جميع موارده يكون بالمثل ، ثمّ بالقيمة ، ومعرفة المثل موكولة إلى العرف ، ولا تتوقّف على الإجماع على كون الشي‌ء مثليّا أو قيميّا.


في المغصوبات (١) والأمانات المفرّط فيها (٢)

______________________________________________________

نعم لو شكّ العرف فالمرجع الأصل المتقدّم.

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاقات هو الترتيب ، بمعنى أنّ اللازم أوّلا هو المثل ، وبعد إعوازه قيمة التالف. بخلاف مقتضى الأصل ، فإنّه التخيير ، لا الترتيب. ويدلّ على هذا الترتيب ما سيأتي من قوله : «وقد استدلّ في المبسوط .. إلخ» على التقريب الآتي.

(١) كالنبوي : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) بناء على اختصاص الأخذ بالقهر كما قيل ، فيختصّ الحديث بباب الغصب. وكمرسلة حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح عليه‌السلام : «لأنّ الغصب كلّه مردود» (٢) بناء على عدم اختصاصه بحال بقاء العين المغصوبة ، وشموله لردّها ببدلها.

(٢) فمنها : ما ورد في ضمان الأجير ، كمعتبرة زرارة وأبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : في رجل كان له غلام ، فاستأجره منه صانع أو غيره.

قال : إن كان ضيّع شيئا أو أبق منه فمواليه ضامنون» (٣) حيث دلّ على ضمان مولى الأجير الذي ضيّع مال المستأجر ، مع أنّ الأجير أمين. ولم يفصّل عليه‌السلام في أنّ المضمون مثليّ أو قيميّ ، وإطلاق الضمان منزّل على المتعارف.

ومنها : ما ورد في ضمان الدابّة ، كمعتبرة عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : «سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره ، فنفقت ، ما عليه؟ قال : إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها ، وإن لم يسمّ فليس عليه شي‌ء» (٤) حيث إنّ الدابّة أمانة بيد المستأجر فرّط فيها بمخالفته للشرط ، فضمنها ، ولم يذكر عليه‌السلام أنّ

__________________

(١) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٤ ، الحديث ١٠٦.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٠٩ ، الباب ١ من أبواب الغصب ، الحديث ٣.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥١ ، الباب ١١ من أبواب الإجارة ، الحديث ٢.

(٤) المصدر ، ص ٢٥٦ ، الباب ١٦ من أبواب الإجارة ، الحديث ١ ، ونحوه الحديث ٢ و ٣ و ٤ و ٦ ، من الباب ١٧ ، ص ٢٥٧ و ٢٥٨.


.................................................................................................

______________________________________________________

ضمانها بالمثل أو بالقيمة.

ومنها : ما ورد في ضمان الصنّاع ، كمعتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سئل عن القصّار يفسد ، فقال : كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» (١). ولم يبيّن عليه‌السلام المضمون به ، مع أنّ ما يعطى الأجير لإصلاحه قد يكون مثليّا وقد يكون قيميّا.

ومنها : ما ورد في ضمان الوصيّ المفرّط في المال الموصى به ، كمعتبرة محمّد بن مسلم ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل بعث بزكاة ماله لتقسم ، فضاعت ، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال : إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن .. إلى أن قال : وكذلك الوصي الذي يوصى إليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربّه الذي أمر بدفعه إليه ، فإن لم يجد فليس عليه ضمان» (٢).

ولا تبعد دعوى قوّة الإطلاق في هذه الرواية ، لأعمّيّة المال الزكويّ والموصى به ممّا هو مثليّ في مصطلح الفقهاء ، وقيميّ عندهم ، فيحمل الضمان على المتعارف عند العقلاء.

ومنها : ما ورد في ضمان الملتقط ، كخبر الحسين بن يزيد عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول في الضالّة يجدها الرّجل فينوي أن يأخذ لها جعلا ، فتنفق ، قال : هو ضامن. فإن لم ينو أن يأخذ لها جعلا ونفقت فلا ضمان عليه» (٣).

ومنها : ما ورد في ضمان الودعيّ مع التفريط ، كخبر محمّد بن الحسن ، قال :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧١ ، الباب ٢٩ من أبواب الإجارة ، الحديث ١ ، وبمضمونه أكثر أخبار الباب ، وهي أزيد من عشرين حديثا.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٤١٧ ، الباب ٤٦ من أبواب الوصايا ، الحديث ١ ، ونحوه سائر أحاديث هذا الباب والباب ٣٧.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٦٩ ، الباب ١٩ من أبواب اللقطة ، الحديث ١.


وغير ذلك (١) هو (٢) الضمان بالمثل ، لأنّه (٣) أقرب إلى التالف من حيث الماليّة والصفات ، ثمّ بعده (٤) قيمة التالف من النقدين وشبههما (٥) ، لأنّهما أقرب من

______________________________________________________

«كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : رجل دفع إلى رجل وديعة ، وأمره أن يضعها في منزله [أو لم يأمره] فوضعها في منزل جاره ، فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها عن ملكه؟ فوقّع عليه‌السلام : هو ضامن لها إن شاء الله» (١).

ومنها : غير ذلك من النصوص المتفرقة في أبواب الرهن وغيرها التي ورد فيها كلمة «الضمان» ولم يعيّن المضمون به. ولو كان ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة كان إهمال هذه الجهة ـ مع كون السائل في مقام استعلام وظيفته الفعليّة ـ تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة بلا مصلحة واضحة فيه.

(١) أي : غير المغصوب وغير الأمانة المفرّط فيها ، ومثال هذا الغير هو عارية الذهب والفضة أو العارية المشروط فيها الضمان ، فإنّ المستعير ضامن إن لم يكن مفرّطا ، كما ورد في صحيحة عبد الله بن سنان ، قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تضمن العارية إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان ، إلّا الدنانير ، فإنّها مضمونة وإن لم يشرط فيها ضمانا» (٢). والتقريب كما تقدّم آنفا.

(٢) خبر قوله : «ان القاعدة المستفادة».

(٣) يعني : لأنّ المثل العرفيّ أقرب إلى التالف من قيمته. ووجه الأقربيّة واضح.

(٤) أي : بعد الضمان بالمثل ، والمراد بالبعديّة هو الرّتبيّة ، أي : تأخّر جواز دفع القيمة عن تعذّر المماثل العرفيّ.

(٥) مما يجعل ثمنا في المعاملات بمنزلة النقدين كالفلوس الرائجة المصوغة من غير النقدين ـ كالنحاس والرصاص والقرطاس وغيرها ـ ممّا يعامل معها في الأسواق معاملة النقدين.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٢٩ ، الباب ٥ من أبواب الوديعة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٩ ، الباب ٣ من أبواب العارية ، الحديث ١.


حيث المالية (١) ، لأنّ ما عداهما يلاحظ مساواته للتالف بعد إرجاعه إليهما.

ولأجل الاتّكال على هذا الظهور (٢) لا تكاد تظفر على مورد واحد من هذه الموارد (٣) ـ على كثرتها ـ قد نصّ الشارع فيه على ذكر المضمون به ، بل كلّها ـ إلّا ما شذّ وندر (٤) ـ

______________________________________________________

(١) لأنّهما متمحّضان في الماليّة ، ولذا يقدّر بهما ماليّة الأموال.

(٢) أي : الضمان بالمثل ثم بالقيمة.

(٣) يعني : الموارد التي حكم الشارع فيها بالضمان كالغصب والأمانات المفرّط فيها.

(٤) يعني : أنّ الشارع قد نصّ في موارد نادرة على المضمون به ، وأنّه قيمة التالف ، كما ورد في عدّة نصوص : منها : صحيحة أبي ولّاد الحنّاط التي تقدّم مفادها (في ص ٢٣٤) وسيأتي متنها في كلام المصنّف (في ص ٤٨٢) ، والمقصود منها قول أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق «صلوات الله وسلامه عليها» : «قيمة بغل يوم خالفته» (١) فالمضمون به هو خصوص الماليّة ، وليس الضمان مطلقا حتى يحمل على المفهوم منه عرفا ، وهو المماثل في الصفات زيادة على المماثلة في الماليّة.

ومنها ، ما تقدّم في أخبار (٢) بيع الجارية المسروقة من ضمان قيمة الولد واللّبن والخدمة ، فراجع (ص ٤٩ و ٥٠).

ولا يخفى أنّ اعتبار القيمة في هذا المورد ليس تخصيصا في الحكم بالضمان بالمثل إن وجد وإلّا فبالقيمة. وذلك لأنّ مورد الحكم بضمان المثل هو ما له مثل عرفا ، فلو لم يكن له مثل كذلك كان ضمانه بالقيمة موافقا لبناء العقلاء. فإنّ الولد ممّا لا يوجد له مماثل حتى يضمن به ، مع انعقاده حرّا. وكذلك لا يبعد أن يكون ضمان البغل بقيمته لأجل عدم المماثل له في جميع الصفات الدخيلة في ماليّته.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٥ ، الباب ١٧ من أبواب الإجارة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩١ ، الباب ٨٨ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ١ وغيره.


قد أطلق (١) فيها الضمان.

فلو لا الاعتماد (٢) على ما هو المتعارف لم يحسن من الشارع إهماله في موارد البيان.

______________________________________________________

ومنها : ما ورد في خبر السكونيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ان أمير المؤمنين سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنّها وبيضها ، وفيها سكّين ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوّم ما فيها ، ثم يؤكل ، لأنّه يفسد ، وليس له بقاء ، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن» (١). وظاهر الجملة الأخيرة ـ بل صريحها ـ ضمان السّفرة بقيمتها ، ولعلّه لأجل ندرة المماثل في غالب الصفات.

ومنها : ما ورد في ضمان المرتهن إذا فرّط في العين المرهونة من قوله عليه‌السلام : «إنّه إن استهلكه ترادّ الفضل بينهما» (٢) بناء على أنّ الدّين غالبا يكون في النقدين ، والرّهن من الأعيان ، فحكم عليه‌السلام بترادّ الفضل ، فإن كان الدّين أزيد قيمة من الرّهن وجب على الراهن ردّ الزائد إلى المرتهن. وإن كان الدين أقلّ ماليّة من الرهن وجب على المرتهن ردّ الفضل إلى الراهن.

ومنها : غير ذلك ممّا يظفر به المتتبّع في أخبار أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وسيأتي نقل جملة منها في الأمر السابع ، فلاحظ (ص ٤٥٦ و ٤٥٧).

(١) خبر «كلها».

(٢) هذا تقريب الإطلاق المقاميّ الدالّ على إمضاء البناء العرفيّ على ضمان التالف بما هو أقرب إليه أعني به المماثل عرفا ، وبتعذّره فالقيمة.

هذا تمام الكلام في الوجوه المتصوّرة في ضمان التالف المشكوك كونه مثليّا وقيميّا ، ومقتضى الإطلاق المقاميّ هو الضمان بما يشابه التالف ويماثله عرفا ، ثم بقيمته.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٧٢ ، الباب ٢٣ من أبواب اللقطة ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من أبواب الرهن ، الحديث ١ وغيره.


وقد استدلّ (١) في المبسوط والخلاف على ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة بقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) بتقريب : أنّ مماثل ما اعتدى هو المثل في المثليّ والقيمة في غيره (٢).

______________________________________________________

(١) هذا وجه ثالث استدلّ به للقول المشهور ، وهو ضمان التالف المثليّ بالمثل ، وكان الوجه الأوّل الإجماع المحكيّ ، والثاني الإطلاق المقاميّ ، وقد عرفت أنّ مفاد هذه الوجوه مختلف من حيث إفادة الترتيب بين المثل والقيمة وعدمه.

(٢) ما نسبه المصنف إلى شيخ الطائفة قدس‌سرهما من استدلاله بالآية الشريفة على ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ـ قد صرّح به في موضعين من غصب الخلاف ، ولم أظفر به في غصب المبسوط بعد ملاحظته بتمامه ، وإنّما استدلّ فيه بالآية الشريفة على ضمان المثليّ بمثله ، لا على ضمان القيميّ بالقيمة.

قال في الخلاف : «المنافع تضمن بالغصب كالأعيان ، مثل منافع الدار والدابّة والعبيد والثياب ، وبه قال الشافعيّ. وقال أبو حنيفة : لا تضمن المنافع بالغصب بحال .. دليلنا ، قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). والمثل مثلان ، مثل من حيث الصورة ، ومثل من حيث القيمة. فلمّا لم يكن للمنافع مثل من حيث الصورة وجب أن يلزمه من حيث القيمة. وعلى المسألة إجماع الفرقة. وأخبارهم تدلّ عليها» (٢).

وهذه العبارة صريحة في أنّه قدس‌سره استظهر من الآية الشريفة ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، لكون القيمة مثلا للتالف من حيث ماليّته. وهذا المقدار من المماثلة كاف في استفادة ضمان القيميّ بقيمته من الآية المباركة. ونحوه كلامه في ضمان العقار بقيمته ، فلاحظ (مسألة ١٨) من الغصب.

وقال في غصب المبسوط ـ بعد تقسيم الأموال إلى حيوان وغير حيوان ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٩٤.

(٢) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤٠٢ ، المسألة : ١١ ، وص ٤٠٦ ، المسألة : ١٨ ، ونحوه كلام ابن إدريس ، فراجع السرائر ، ج ٢ ، ص ٤٨٥.


واختصاص (١) الحكم بالتلف عدوانا لا يقدح بعد عدم القول بالفصل.

وربما يناقش في الآية : بأنّ مدلولها اعتبار المماثلة في مقدار الاعتداء (٢)

______________________________________________________

وغير الحيوان إلى ما له مثل ، وما لا مثل له ـ ما لفظه : «فإذا غصب غاصب من هذا شيئا ، فإن كان قائما ردّه. وإن كان تالفا فعليه مثله ، لقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) .. إلخ». ونقلناه في (ص ٢٦) فراجع. وهذه العبارة ظاهرة في دلالة الآية الشريفة على ضمان المثليّ بالمثل ، وليس في كلامه قدس‌سره دلالتها على حكم القيميّ أصلا ، فلاحظ.

وبما نقلناه عن شيخ الطائفة قدس‌سره ظهر أنّ ما أفاده الفقيهان الشيخ المامقاني وسيدنا الأستاذ قدس‌سرهما ـ من اقتصار عبارة المبسوط على دلالة الآية الشريفة على حكم المثليّ دون القيميّ (١) ـ وإن كان متينا ، إلّا أنّ المصنّف قدس‌سره عزاه إلى الخلاف أيضا. وقد عرفت صراحة كلامه فيه في استفادة حكم القيميّ أيضا من الآية الشريفة.

كما ظهرت المسامحة في تعبير الماتن ـ من نسبة الاستدلال بالآية على كلّ من المثليّ والقيميّ ـ إلى المبسوط والخلاف معا.

(١) نوقش في الاستدلال بالآية الشريفة ـ على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بمثله ـ بوجهين ، الأوّل : أن الآية الشريفة أجنبيّة عن المدّعي ـ الذي هو ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة في البيع الفاسد ـ لاختصاص الآية بالتلف العدواني ، ومن المعلوم أنّ محلّ الكلام هو تلف المقبوض بالعقد الفاسد ، لا إتلافه ، وليس فيه اعتداء خصوصا مع الجهل بالفساد.

وأجاب عنه المصنّف قدس‌سره ، بأنّ الآية وإن اختصّت بمورد الاعتداء ، إلّا أنّه يلحق به المقبوض بالبيع الفاسد بعدم القول بالفصل بين باب الغصب وما نحن فيه. وعليه فلا بأس بدلالة الآية على ضمان المثليّ بمثله.

(٢) هذا هو الوجه الثاني من المناقشة ، والمناقش هو السيّد العلّامة الطباطبائي قدس‌سره حيث قال في إنكار تعلّق الحكم بعنوان المثلي ما لفظه : «وفيه نظر ، لاحتمال كون

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣٠٣ ؛ نهج الفقاهة ، ص ١٤٢.


.................................................................................................

______________________________________________________

المراد بالمثل فيه مثل أصل الاعتداء ، لا مثل المعتدى فيه الذي هو ما نحن فيه ، فتأمّل» (١).

وتوضيحه : أنّ المماثلة بين الاعتدائين ليست بحسب الذات ، لأنّها من ضروريّات كونهما اعتداء. فالمماثلة إنّما تكون بينهما بحسب المعتدى به ، وهو مدخول الباء في قولنا : «اعتدى عليه» بضربة أو بإتلاف ماله أو قطع يده أو غير ذلك.

وجهة المماثلة بالمعتدى به تارة تكون بلحاظ ذاتيهما ، كما إذا اعتدى عليه بالضرب ، فيعتدي عليه بالضرب.

واخرى تكون بلحاظ الكمّ ، كأن يضربه مرّة ، فيشتمه مرّة.

وثالثة بلحاظ الأثر الخاصّ المترتّب عليه ، كأن يضربه ضربا مؤديا إلى بكائه ، فيجازيه بالشتم مثلا المؤدّي إلى بكائه.

ورابعة بلحاظ الماليّة ، كأن يتلف من أمتعة زيد ما يساوي درهما ، فيأخذ زيد درهما من أمواله.

ثم إنّ كلمة «ما» في الآية الشريفة إمّا مصدريّة ، فيكون المعنى «(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ) اعتدائه». وإمّا موصولة ، فيكون المعنى «(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ) الذي (اعْتَدى) به (عَلَيْكُمْ)» والمتحصّل من المعنيين واحد ، إذ الجهات الملحوظة في المماثلة بين الاعتدائين ترجع إلى الجهات الملحوظة بين الأمرين المعتدى بهما.

ومرجع مناقشة الرّياض إلى أنّ الظاهر المماثلة في مقدار الاعتداء ، يعني : في جنسه ، فإن كان الاعتداء بالضرب كان جزاؤه به ، فكأنّه قال : «من (اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) اعتداء (بِمِثْلِ) اعتدائه (عَلَيْكُمْ)» فإن ضربكم فاضربوه ، وإن شتمكم فاشتموه ، هذا بناء على المصدريّة. أو : «(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) بشي‌ء هو مثل الظلم الذي وقع (عَلَيْكُمْ) ، فان شتمكم فاشتموه» وهذا بناء على كون «ما» موصولة. والمعنى على التقديرين واحد ، وهو المماثلة في نوع الظلم كالشتم والضرب.

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٣٠٣ ، السطر ٣٢.


لا المعتدى به (١). وفيه نظر (٢).

______________________________________________________

(١) يعني : لا مقدار المعتدى به ، كما إذا ضربه مرّتين ، فلا تدلّ الآية على ضربه مرّتين.

(٢) وجهه ـ على ما حكي عنه في الحاشية ـ أنّ ظاهر الآية اعتبار المماثلة في الاعتداء والمعتدى به (*).

__________________

(*) فيه : أنّ المماثلة في مقدار الاعتداء لا تنفكّ عن المماثلة في مقدار المعتدى به ، فتأمّل.

والانصاف أنّ الآية لا تخلو عن الدلالة على الضمان وإن وردت في الحرب ، لكن لا قصور في دلالتها على الضمان ، فإنّ إطلاق جواز الاعتداء بالمثل يشمل المورد وهو الحرب ، غاية الأمر أنّ المراد بالمماثلة هنا المماثلة في نفس الاعتداء في الزمان ، يعني : إذا حاربكم المشركون في أشهر الحرام ، فيجوز لكم أن تحاربوهم في أشهر الحرام أيضا. وإن لم يلزم المماثلة في نفس الحرب ، كما إذا قتلوا من المسلمين عددا خاصّا أو رمى أحدهم سهما في عين مسلم أو قطع رجله ، فلا يجب أن يكون الجزاء مثله ، فإنّ اعتبار هذه المماثلة منفيّ بدليل خارجيّ.

فالمماثلة في الآية المباركة بمعونة الدليل الخارجيّ متمحّضة في الحرب في الشهر الحرام ، لا في كيفية الحرب. وهذا التقييد لانفصاله لا ينافي إطلاق اعتبار المثليّة في سائر الموارد.

ولذا قال في مجمع البيان : «وفي هذه الآية دلالة على أنّ من غصب شيئا وأتلفه يلزمه ردّ مثله. ثمّ إنّ المثل قد يكون من طريق الصورة في ذوات الأمثال ، ومن طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له» (١).

فما قيل من : أنّ الآية أجنبيّة عن الضمان بتقريب «أنّ ظاهرها أنّ الكفّار إن اعتدوا عليكم فاعتدوا عليهم ، كما أنّهم اعتدوا عليكم ، فإذا لم يكن المثل في موردها كذلك

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٨٨.


.................................................................................................

__________________

ـ أي : لا يراد بالمثل في مورد ورود الآية المماثلة في مقدار الاعتداء ـ لا يمكن استفادة ضمان المثل في غير موردها بإطلاقها. والمثليّة في أصل الاعتداء لا تجدي في إثبات المطلوب. بل القرينة المذكورة أي عدم تقدير المقابلة بالمثل وجواز التجاوز عنه في المورد قائمة على عدم دخول الماليّات فيها ، فهي إمّا مختصّة بالحرب ، أو شاملة لما هو نظيره كمدافعة اللّص والمهاجم» (١).

يقال عليه : بأن تقييد مورد الآية بدليل خارجيّ لا يقدح في إطلاق المثل وليس هذا من قبيل خروج المورد المستهجن ، لكفاية المماثلة بين نفس الاعتدائين في شمول الدليل للمورد.

وكذا لا يرد ما أورده المصنّف قدس‌سره على الاستدلال بالآية الشريفة من : أنّ المماثلة العرفيّة قد تتحقّق في القيميّات عند المشهور كالكرباس ، فإنّه عندهم من القيميّات مع حكم العرف بكونه من المثليّات ، فلا تنطبق الآية على مدعى المشهور ، فلا يصحّ الاستدلال بها عليه.

وجه عدم الورود : أنّ المدّعى هو ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، والآية وافية بذلك ، والاختلاف في مفهوم المثليّ والقيميّ يرجع إلى النزاع في الصغرى. وهذا أجنبي عن أصل الكبرى وهي ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة.

وبالجملة : النزاع الصغرويّ لا يقدح في تسلم الكبرى.

وعليه فالاستدلال بالآية تامّ. وإجماعهم على مثليّة شي‌ء أو قيميّته إن كان تعبديّا فهو يخصّص أو يقيّد الآية. والمتحصّل بعد التقييد : أنّ المماثل العرفي للتالف مضمون على الضامن ، إلّا إذا قام الإجماع على أنّه لا بدّ في ضمانه بالمماثل من كون غالب الأفراد مماثلا للتالف ، لا فرد نادر كما في القيميّات ، فإنّ أكثر أفراد القيميّ ليست مماثلة في الصفات الموجبة لاختلاف الرغبات ، بخلاف المثليّ كما تقدّم سابقا.

وإن لم يكن تعبّديا ، بل ذهابهم إلى المثليّة أو القيميّة إنّما هو لكونهم من العرف ، فلا حجيّة فيه في مقابل العرف العام.

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٣٢٦.


نعم (١) الانصاف عدم وفاء الآية ـ كالدليل السابق عليه (٢) ـ بالقول (٣) المشهور ، لأنّ (٤) مقتضاهما وجوب المماثلة العرفيّة في الحقيقة والمالية.

______________________________________________________

(١) استدراك على ما أفاده من اقتضاء الآية الشريفة وبناء العقلاء الضمان بالمثل. وغرضه قدس‌سره المناقشة في الدليلين المتقدّمين بعدم وفائهما بالقول المشهور ، لكون النسبة بين الدليل والدعوى عموما من وجه ، وهو غير مفيد.

ومحصّل المناقشة : أنّ المراد بالمثل ـ في الآية والإطلاق المقاميّ ـ هو ما يعدّ عرفا مثلا للتالف في أمرين ، أحدهما في الحقيقة النوعيّة ، وثانيهما في الماليّة. ومن المعلوم أنّ الآية والعرف يقتضيان الضمان بالمثل ـ بهذا المعنى ـ حتى في القيميّات ، لإمكان مساواة أفراد بعض القيميّات في الماليّة فضلا عن المساواة في الحقيقة. مع أنّ المشهور حكموا بضمان القيميّ بقيمته سواء وجد مثله أم لم يوجد ، وسواء أكانت قيمة المثل ـ على فرض وجوده ـ مساوية لقيمة المتلف أم أزيد أم أقلّ ، هذا.

واستشهد المصنف قدس‌سره بكلماتهم في مسألتين لإثبات عدم مطابقة الدليل مع المدّعى.

الأولى : ما إذا أتلف شخص ذراعا من كرباس ، وأمكنه تحصيل مماثله عرفا ، فإنّ الآية والعرف يقتضيان وجوب أداء ذراع من الكرباس إلى المالك ، مع أنّ المشهور على كون الأقمشة والثياب قيميّات ، وأنّ الواجب دفع قيمة ذلك الذراع المتلف لا مماثلة في الصفات والماليّة.

الثانية : الجناية على عبد مملوك للغير ، وسيأتي بيانه.

(٢) وهو الإطلاق المقاميّ المقتضي للضمان بالمماثل العرفيّ ، لا المثل في مصطلح الفقهاء.

(٣) متعلّق ب «وفاء» وقد عرفت وجه عدم الوفاء بالقول المشهور ، المبنيّ على ضمان المثليّ بالمثل الذي عرّفوه بما تساوت أفراده قيمة.

(٤) تعليل لعدم الوفاء ، حيث إنّ المدّعى أمر ، ومدلول الدليلين أمر آخر.


وهذا (١) يقتضي اعتبار المثل حتّى في القيميّات ، سواء وجد المثل فيها أم لا (٢). أمّا مع وجود المثل كما لو أتلف ذراعا من كرباس طوله عشرون ذراعا متساوية من جميع الجهات ، فإنّ مقتضى العرف والآية إلزام الضامن بتحصيل ذراع آخر (٣) من ذلك ولو بأضعاف قيمته ، ودفعه إلى مالك الذراع المتلف ، مع أنّ القائل بقيميّة الثوب لا يقول به (٤).

وكذا (٥) لو أتلف عليه عبدا ، وله في ذمة المالك ـ بسبب القرض أو السّلم ـ عبد موصوف بصفات التالف ، فإنّهم لا يحكمون بالتهاتر القهريّ ،

______________________________________________________

(١) أي : وجوب المماثلة يقتضي .. إلخ.

(٢) المقصود من ضمان التالف بمماثله عرفا ـ حتى مع فقد المثل ـ هو انتقال ضمان المثل إلى ضمان قيمته لا قيمة التالف ، لإمكان اختلاف القيمتين ، بأن تزيد قيمة المثل المتعذر عن قيمة التالف ، وسيأتي في المتن توجيهه.

(٣) لأنّ هذا الذراع الآخر مماثل للذراع التالف ، والمفروض دلالة الآية الشريفة والإطلاق المقاميّ على أنّ المضمون به هو المثل لا القيمة ، فعلى الضامن تحصيل ذراع آخر ولو كانت قيمته أضعاف قيمة الذراع المتلف. مع أنّ المشهور القائلين بقيميّة الأقمشة والثياب يقولون بكفاية أداء قيمة ما أتلفه ، وعدم اشتغال العهدة بمثل المتلف.

(٤) يعني : فلا ينطبق مفاد الآية الشريفة على ما يدّعيه المشهور من ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، بل تدلّ على ضمان التالف بما يكون مماثلا له عرفا ، وإن كان عند المشهور من القيميّات.

(٥) يعني : وكذا نظير الكرباس كون التالف عبدا ، فإنّهم حكموا فيه بضمان قيمته وإن كان له مماثل ، ولذا لم يحكموا بالتهاتر القهريّ فيما إذا أتلف عبدا موصوفا بصفات العبد الذي يكون للضامن على المالك. فلو كان العبد مثليّا عند المشهور كان عليهم الحكم بالتهاتر ، لكونهما من المثليّ.


كما يشهد به (١) ملاحظة كلماتهم في بيع عبد من عبدين.

______________________________________________________

كما إذا كان لزيد عبد روميّ أبيض اللون كاتب ، فاقترضه عمرو منه ، وحصل لعمرو عبد بهذه الأوصاف ، فأتلفه زيد. فإن كان العبد مثليّا لزم القول بالتهاتر القهريّ. لكنّهم قالوا باشتغال ذمّة عمرو بقيمة ما اقترضه من زيد ، وباشتغال ذمّة زيد بقيمة ما أتلفه من عمرو. ومن المعلوم أنّ اشتغال الذمّتين بالقيمة دليل على أنّ العبد عندهم معدود من القيميّات حتى مع وجود المماثل العرفيّ.

وكذا الكلام إذا باع زيد من عمرو ـ سلما ـ عبدا موصوفا بصفات معيّنة ، ثمّ أتلف عمرو عبدا موصوفا بتلك الصفات من زيد ، فبناء على الأخذ بظاهر الآية الشريفة وببناء العقلاء لا بدّ من القول بالتهاتر القهريّ ، وفراغ كلتا الذمّتين عمّا اشتغلتا به ، لكنّهم حكموا بوجوب أداء العبد المبيع سلما إلى المشتري عند الأجل ، ووجوب أداء قيمة العبد المتلف إلى المالك. ومن المعلوم أنّ هذه الفتوى تكشف عن عدم الأخذ بالآية والإطلاق المقاميّ ، فكيف يستدلّ بهما على القول المشهور من ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة؟

(١) أي : كما يشهد بعدم حكمهم بالتهاتر ملاحظة كلماتهم .. إلخ. قال المحقّق قدس‌سره : «إذا اشترى عبدا في الذمّة ، ودفع البائع إليه عبدين ، وقال : اختر أحدهما ، فأبق واحد. قيل : يكون التالف بينهما ، ويرجع بنصف الثمن ، فإن وجده اختاره ، وإلّا كان الموجود لهما ، وهو بناء على انحصار حقّه فيهما. ولو قيل : التالف مضمون بقيمته ، وله المطالبة بالعبد الثابت في الذمّة كان حسنا. وأمّا لو اشترى عبدا من عبدين لم يصحّ العقد ، وفيه قول موهوم» (١).

توضيحه : أنّ مسألة بيع عبد من عبدين يبحث عنها تارة في فروع شرطيّة العلم بالمبيع ، فيقال : كما يصحّ ابتياع الجزء المشاع من الكلّيّ كنصف الدار ، كذلك يصحّ ابتياع الكلّيّ في المعيّن بشرط تساوي الأجزاء كقفيز من كرّ. فلو لم تتساو الأفراد

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٦٠.


.................................................................................................

______________________________________________________

الكلّيّ لم يصحّ البيع. ومثّل له المحقّق قدس‌سره بذراع من الثوب ، وجريب من الأرض ، وعبد من عبدين ، وشاة من قطيع (١).

والوجه في البطلان تفاوت الأجزاء ـ أي الأفراد ـ في الصفات الدخيلة في ماليّتها ، فلا يرتفع الغرر. خلافا للشيخ وابن البرّاج والشهيد ، حيث ذهبوا إلى صحّة بيع عبد من عبدين عملا برواية محمّد بن مسلم المخالفة للأصول الشرعيّة كما في المسالك (٢).

واخرى : في بيع الكلّيّ في الذمّة ـ لا الجزء المشاع ولا الكلّيّ في المعيّن ـ بأن اشترى زيد من عمرو عبدا موصوفا بصفات معيّنة تخرجه عن الجهالة ، فدفع البائع عبدين إلى المشتري ، وقال له : اختر أحدهما. فتسلّمهما المشتري وأبق أحدهما قبل أن يختار. هذا صورة المسألة. ولا ريب في صحّة البيع لاجتماع شرائطها فيه.

إنّما الكلام في أنّ العبد الآبق هل يتلف على كلا المتبايعين ويرجع المشتري على البائع بنصف الثمن. ولو لم يظفر بالآبق كان العبد الموجود ملكا لهما ، لانحصار حقّ المشتري في العبدين؟ أم يكون الآبق مضمونا على المشتري خاصّة بقيمته ـ سواء زادت على قيمة العبد الموجود أم نقصت منها أم ساوتها ـ وله مطالبة عبد من البائع ، لأنّ المبيع عبد كلّيّ ثابت في ذمته إلى أن يتسلّمه المشتري. فيه قولان.

وعلى كليهما يتّجه ما نسبه المصنّف قدس‌سره إلى الأصحاب من عدم الحكم بالتهاتر. أمّا بناء على الأوّل فلأنّ العبد الآبق تلف من كليهما ، فيضمن كلّ منهما نصف قيمته. ويرجع المشتري بنصف الثمن الذي بذله للمبيع الكلّيّ. ولو كان العبدان مثليّين وتساوت قيمتهما لم يكن وجه لرجوع المشتري على البائع بنصف الثمن ، ولم يجب عليه أداء نصف قيمة الآبق إلى البائع ، بل حصل التهاتر القهريّ ، وسقط ما في ذمّة

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٨.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٣٩٦.


نعم (١)

______________________________________________________

البائع ـ من نصف الثمن ـ بما في ذمّة المشتري من نصف قيمة الآبق.

وأمّا على القول الثاني الذي استحسنه المحقّق قدس‌سره فعدم التهاتر أوضح ، فإنّ الآبق مضمون بقيمته على المشتري ، لكونه مقبوضا بالسّوم ، فيجب دفع تمام قيمته إلى البائع. كما أنّ للمشتري مطالبة عبد منه وفاء لبيع عبد كلّىّ بثمن معيّن. ومن المعلوم أنّ العبدين لو كانا مثليّين وممّا تساوت قيمتهما لحصل التهاتر القهريّ ، فلم يكن للمشتري مطالبة عبد من البائع ، ولم تكن على عهدته قيمة الآبق. لكن لأجل عدم المماثلة لا يقال بالتهاتر ، بل كلّ منهما بحسب قيمته.

وقد ظهر أنّ قول المصنّف قدس‌سره : «كما يشهد به ملاحظة كلامهم» إشارة إلى ما نقلناه عن المحقّق في بيع عبد كلّيّ في الذمّة ، فإنّه شاهد على عدم التزامهم بالتهاتر في القيميّات.

وأمّا بيع عبد من عبدين موجودين خارجا فهو شاهد على عدم المماثلة بين العبدين ونحوهما. ولكنّه أجنبيّ عن التهاتر ، كما أوضحناه. فما في كلام بعض الأجلّة (١) من الاستشهاد بعبارتين من الخلاف وعبارة من الشرائع لا يخلو من بعد ، فلاحظ.

(١) هذا استدراك على ما ذكره من عدم التزام المشهور بضمان المثل في القيميّات ـ الذي هو مقتضى الآية والعرف ـ ومحصّله : أنّه يستفاد من ذهاب جماعة إلى جواز ردّ العين المقترضة في القيميّات ضمان القيميّ بالمثل ، لأنّ العين المقترضة تكون مماثلة عرفا للقيمة المستقرة على عهدة المقترض ، فجواز ردّ نفس العين ـ دون القيمة ـ مستند إلى آية الاعتداء الظاهرة في اعتبار المماثلة بين البدل والمبدل. ولو لم تكن الآية دالّة عليه لم يجز الاقتصار في أداء القرض على دفع العين ، بل كان المتيقّن دفع القيمة من النقدين.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣٠٥.


ذهب جماعة (١) منهم الشهيدان (٢) في الدروس والمسالك إلى جواز ردّ العين المقترضة إذا كانت قيميّة.

لكن لعلّه (٣) من جهة صدق أداء القرض (*) بأداء العين ، لا من جهة

______________________________________________________

(١) ومنهم شيخ الطائفة والمحقّق الأردبيليّ ، على ما حكاه عنهما السيّد الفقيه العامليّ قدس‌سرهم (١).

(٢) قال الشهيد قدس‌سره : «ويردّ البدل مثلا أو قيمة. ولو ردّ العين في المثل وجب القبول. وكذا في القيميّ على الأصحّ. ونقل فيه الشيخ الإجماع. ويحتمل وجوب قبولها إن تساوت القيمة أو زادت وقت الرّدّ ، وإن نقصت فلا» (٢).

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره : «وأولى بالجواز لو ردّ العين ، لأنّ الانتقال إلى القيمة إنّما وضع بدلا عن العين ، فإذا أمكنت ببذل المقترض كانت أقرب إلى الحق ..» (٣).

(٣) أي : لعلّ ذهابهم إلى جواز ردّ العين المقترضة. وغرضه المناقشة في الاستدراك بأنّ مجرّد جواز ردّ العين القيميّة المقترضة لا يكشف عن التزامهم بضمان القيميّ بالمثل ، واشتغال ذمّة الضامن بالكلّيّ الجامع بين العين وبين فرد آخر مماثل لها

__________________

(*) لا يصدق الأداء حقيقة إلّا على ما إذا كان ما يؤدّي به فردا لما في الذمّة لانطباقه قهرا عليه. فإذا كان ما في الذمّة هو القيمة لم يصدق أداؤه على دفع العين ، ولا يعدّ دفعها أداء لما في الذمة.

نعم يصدق الأداء مجازا من باب الوفاء بغير الجنس مع تراضي الطرفين ، والوفاء بغيره معاوضة على ما في الذمّة ، لا أداء حقيقيّ له.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٥٧.

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٣٢٠.

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٤٤٩.


ضمان القيميّ بالمثل (١). ولذا (٢) اتّفقوا على عدم وجوب قبول غيرها وإن كان مماثلا لها (٣) من جميع الجهات.

______________________________________________________

من جميع الجهات الماليّة. بل لا بدّ من إحراز استناد جواز ذلك إلى كون العين المقترضة عندهم كأمثالها فردا من الكلّيّ الّذي استقر على عهدة المقترض ، وذلك غير معلوم ، إذ لعلّه من جهة صدق أداء القرض بأداء العين ، لا من جهة كون العين فردا من كلّيّ المثل ـ بالمعنى الذي عرفته ـ حتى يدلّ على ذهابهم إلى ضمان القيميّ بالمثل كما يستفاد من الآية.

وعليه فالإشكال الذي أورده المصنّف على المشهور من التزامهم بضمان القيميّ بالقيمة ـ مع دلالة دليلهم على وجوب المماثل عرفا ـ باق بحاله.

(١) حتى تكون فتوى هؤلاء الجماعة عملا بآية الاعتداء والعرف من اشتغال الذمّة بالمثل حتى في القيميّات.

(٢) أي : ولأجل كون جواز ردّ العين المقترضة من جهة صدق أداء القرض على ردّها ـ لا من جهة ضمان القيميّ بالمثل حتى يكون جواز ردّ العين من باب جواز ردّ المثل الكلّيّ وأدائه ببعض أفراده ـ اتّفقوا على أنّه لا يجب على المقرض قبول فرد آخر مماثل للعين من جميع الجهات. فلو كان ضمان المديون بفرد من أفراد الكلّيّ الذي تكون العين من مصاديقه وجب على الدائن قبول نفس العين أو فرد آخر مثلها. فعدم وجوب قبول غير العين ـ على المقرض ـ يكشف عن عدم اشتغال ذمّة المقترض بالمثل في اقتراض القيميّ. مع أنّك قد عرفت دلالة آية الاعتداء على استقرار المماثل العرفيّ على عهدة الضامن ، ولا تصل النوبة إلى الضمان بالقيمة إلّا بتعذّر المثل ، وهذا ممّا لا يقول به المشهور.

(٣) هذا الضمير وضمير «غيرها» راجعان إلى العين المقترضة المفروض كونها قيميّة.


وأمّا (١) مع عدم وجود المثل للقيميّ التالف فمقتضى الدليلين (٢) عدم سقوط المثل من الذّمّة بالتعذّر ، كما لو تعذّر المثل (٣) في المثليّ ، فيضمن (٤) بقيمته يوم الدفع ولا يقولون (٥) به.

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «أمّا مع وجود المثل فيها» وغرضه بيان شقّ آخر من المنفصلة حتى يظهر عدم وفاء الآية والإطلاق المقاميّ بقول المشهور ، لكون النسبة بين الدليل والدعوى عموما من وجه. فإن كان المثل العرفيّ موجودا كما في الكرباس والعبد افترق الدليل عن قول المشهور بأنّ مقتضى الدليلين الضمان بالمثل ، والمفروض عدم التزامهم به ، لأنّهم يضمّنون المتلف بقيمة المتلف.

وإن لم يكن المثل موجودا افترقا في مورد آخر ، توضيحه : أنّ المشهور يقولون بضمان القيميّ التالف بقيمة يوم التلف ، مع اقتضاء الدليلين بقاء ما يماثل ذلك القيميّ في الذمّة ، وعدم سقوط ضمانه بالتعذّر ، فلو أراد الضامن التخلّص ممّا في عهدته لزمه أداء قيمة يوم الدفع إلى المالك ، كما هو الحال في المثليّ الذي يتعذّر مثله ، فإنّه لا يسقط عن ذمّته إلّا بأداء قيمته يوم الأداء. مع أنّ المشهور حكموا في القيميّ بأنّ ما عليه هو قيمة يوم تلف المضمون ، ولا يضمن زيادة قيمته من يوم التلف إلى يوم الأداء ، وهذا الحكم مما يأباه الآية والعرف.

(٢) وهما الآية والعرف ، إذ لا وجه لسقوط القيميّ بمجرّد تعذّره عن الذمّة ـ حتى يتعيّن عليه قيمة يوم التلف ـ مع اقتضاء هذين الدليلين اشتغال الذمّة بمثل التالف حتى في القيميّ ، فيلزم اتّحاد حكم المثليّ والقيميّ المتعذّرين.

(٣) فإنّه لا يسقط عن ذمّة الضامن بمجرّد تعذّره ، ولا ينتقل إلى قيمته يوم تعذّره.

(٤) هذه نتيجة بقاء المثل في الذمة ، سواء في المثليّ والقيميّ.

(٥) يعني : والحال أنّ المشهور لا يقولون بضمان قيمة يوم الأداء ـ في القيميّ ـ


وأيضا (١) فلو فرض نقصان المثل عن التالف من حيث القيمة نقصانا فاحشا ، فمقتضى ذلك (٢) عدم وجوب (٣) إلزام المالك بالمثل ، لاقتضائهما اعتبار المماثلة في الحقيقة والماليّة ، مع أنّ المشهور كما يظهر من بعض (٤)

______________________________________________________

بل يقولون بضمان قيمة يوم تلف العين القيميّة ، وهذه الفتوى مخالفة لمفاد الدليلين كما عرفت ، وهذه المخالفة أيضا من موهنات الاستدلال بالآية والعرف على مذهب المشهور.

(١) هذا إشكال آخر على الاستدلال بالآية والعرف لمذهب المشهور ، وحاصله : أنّ مقتضى الآية والعرف عدم جواز إلزام المالك بأخذ المثل الذي نقصت قيمته نقصانا فاحشا ، إذ مقتضاهما اعتبار المماثلة في الحقيقة والماليّة ، والمفروض زوال المماثلة في الماليّة بنقصان القيمة. مع أنّ المشهور لم يلتزموا به ، بل التزموا بجواز إلزام المالك بأخذ المثل حتى في هذه الصورة.

(٢) أي : فمقتضى الآية والعرف. وإفراد اسم الإشارة باعتبار «ما تقدّم» وإلّا كان الأولى أن يقال : «ذينك».

(٣) كذا في نسخ متعددة ، والصواب تبديل «وجوب الإلزام» بجوازه ، أو إرادة الجواز من الوجوب وإن كان بعيدا.

والوجه في عدم جواز الإلزام بالمثل هو : أنّ المماثلة المعتبرة عرفا في الصورة والماليّة مفقودة. كما إذا أتلف فاكهة في أوّل أوانها ، وهي ـ لعزّتها ـ تباع أضعاف قيمة وقت وفورها ، فأراد الضامن دفع ذلك المقدار من الفاكهة أوان كثرتها ، فإنّ المماثلة تكون حينئذ في صدق الحقيقة ، فقط دون الماليّة ، مع أنّ الآية والإطلاق المقاميّ يقتضيان الانتقال إلى قيمة وقت التلف حتى تراعى المماثلة في المالية.

(٤) قال السيد العاملي قدس‌سره : «فلو بقي له ـ أي للمثل ـ قيمة وإن قلّت ، فالمثل


إلزامه (١) به ، وإن قوّى خلافه بعض (٢). بل وربّما (٣) احتمل جواز دفع المثل

______________________________________________________

بحاله ، كما هو صريح جامع المقاصد ، وقضيّة ما لعلّه يفهم من كلام التذكرة» (١).

وقال المحقّق الثاني : «هذا الحكم ـ أي وجوب أداء القيمة ـ إنّما يستقيم مع خروج المثل عن التقويم أصلا ، فلو بقي له قيمة وإن قلّت فالمثل بحاله» (٢). ويلوح منه اتّفاق الأصحاب عليه ، بقرينة اتّفاقهم على الانتقال إلى القيمة لو سقط المثل عن الماليّة رأسا ، هذا.

(١) قد سقط هنا كلمة «جواز» أي : جواز إلزام الضامن بالمثل ، يعني : مع أنّ المشهور ذهبوا إلى جواز إلزام المالك بأخذ المثل وإن نقصت قيمته نقصانا فاحشا ، وهذا التجويز مناف لمقتضى الآية والعرف.

(٢) يعني : أنّ هذا البعض قوّى انتقال ضمان المثل إلى القيمة كي لا يتضرر المضمون له بنقصان ماليّة المثل (٣).

(٣) هذا متعلق بقوله : «مع أنّ المشهور .. إلزامه به» وغرضه : أنّ المشهور اقتصروا على جواز أداء المثل المنحطّ قيمته جدّا ، كما نقلناه آنفا عن مفتاح الكرامة ، ولكن العلّامة (٤) قدس‌سره احتمل جواز دفع المثل الساقط عن الماليّة ، كما إذا أتلف الماء في المفازة وأدّاه على الشاطئ. والإتيان بكلمة «بل» لأجل أنّه لو قيل بفراغ الذمّة بدفع المثل الساقط عن الماليّة رأسا ، كان فراغها بدفع المثل المنحطّ قيمته أولى ، لبقاء شي‌ء من ماليّته بعد.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢ ، آخر الصفحة.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٨.

(٣) لم أظفر على من يقوّي الانتقال إلى القيمة حتى مع بقاء مقدار من ماليّة المثل ، نعم قوّاه جمع في الخروج عن التقويم ، وهو أمر آخر. فراجع الجواهر ، ج ٣٧ ، ص ٩٩ ؛ الدروس الشرعيّة ، ج ٣ ، ص ١١٣ ، وغيرهما.

(٤) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ ، السطر ٢٦ (الطبعة الحجرية).


ولو سقط من القيمة بالكلّيّة ، وإن كان الحقّ خلافه (١) (*).

______________________________________________________

(١) لأنّه خلاف التغريم المعتبر في الضمان. ففرق بين سقوط العين عن الماليّة وسقوط المثل عنها ، حيث إنّ العين تردّ بلحاظ ملكيّتها لا بلحاظ ماليّتها ، لكن التضمين والتغريم بلحاظ ماليّتها ، فيجب حفظ الماليّة في الثاني دون الأوّل ، فالمثل إذا سقط عن الماليّة لا يصدق على ردّه التغريم المقوّم للضمان ، فلا يخرج الضامن عن عهدة الضمان بردّ المثل الساقط عن الماليّة ، بخلاف ردّ العين ، فإنّه يصدق عليه أداء ملك الغير ، وردّه إلى مالكه.

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا الاشكال إنّما يرد على الاستدلال بالآية الشريفة بناء على كون المراد المماثلة بنحو الإطلاق ومن جميع الجهات. لكن الظاهر أنّ المراد بها المماثلة من حيث الحقيقة مع حفظ الماليّة تحقيقا للتغريم والتضمين بالمال. فمقتضى الآية غير مخالف لمسلك المشهور ، كيف؟ والمرجع في فهم معنى الآية هو العرف ، فما يحكم به العرف في باب الضمان من ضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ هو المستفاد من الآية الشريفة.

فالمراد بالمثل في الآية وفي كلام المشهور واحد. والنسبة بينهما هي التساوي ، لا الأعمّ والأخصّ من وجه ، لأنّ المراد بالمثل في الآية هو المماثل العرفيّ للتالف من حيث الحقيقة والماليّة ، كما هو قضيّة إطلاق المماثلة وإن لم يكن مماثلا للتالف من حيث الحقيقة والماليّة. فيراعى المثليّة من حيث الماليّة. فالأوّل هو المثليّ والثاني هو القيميّ.

نعم يقيّد إطلاق المثل بالنسبة إلى الأفراد التي تقلّ مماثلتها للتالف ، كما إذا كان المال التالف غنما وكان فرد من الأغنام مماثلا له في الصفات ، فإنّ مقتضى الآية لزوم دفع الفرد المماثل للتالف ، وإن كان فردا نادرا من حيث المماثلة للتالف. لكن قيّد هذا الإطلاق بأنّ دفع المماثل للتالف لازم في صورة كثرة الأفراد المماثلة للتالف لا ندرتها ، وهذا التقييد قد ثبت بالإجماع ، ولولاه لكان الضمان بالمماثل ، وإن كان منحصرا في فرد.


.................................................................................................

__________________

فالمتحصّل بعد التقييد وجوب دفع المماثل فيما إذا كان أكثر أفراد الطبيعيّ الجامع بينها وبين التالف متفقة في الصفات الموجبة للرغبات والماليّة ، فإطلاق المثل يقيّد بالقيميّات ، يعني : أنّ ضمان القيميّ يكون بالقيمة وإن وجد له مماثل.

وإن شكّ في كون التالف مثليّا أو قيميّا فيتمسّك بالعامّ ، لأنّه المرجع في المخصّص المجمل المفهوميّ المردّد بين الأقل والأكثر ، حيث إنّه المرجع في أصل التخصيص والتخصيص الزائد ، فإنّ وجوب دفع المثل خصّص بما إذا كثرت الأفراد المماثلة للتالف حقيقة وماليّة ، وقد خرج عن وجوب دفع المثل ما لا يكون كذلك ، لأنّه يجب حينئذ بمقتضى الإجماع لزوم دفع القيمة. فمع الشكّ في المثليّة والقيميّة يشكّ في تخصيص العامّ زائدا على المتيقّن قيميّته ، فيتمسّك في نفي الشك بالعامّ ، ويحكم بلزوم دفع المماثل العرفيّ للتالف.

هذا بناء على إرادة المماثل العرفيّ الشامل للمثليّ والقيميّ ، وأمّا بناء على إرادة المثل المشهوريّ المقابل للقيميّ فالآية لا تتكفّل حكم القيميّ حتّى تعمّه ويلتزم بتخصيصها بالإجماع ، بل لا تتكفّل إلّا لحكم المثليّ ، يعني : ضمان المثليّ بالمثل ، فالآية ساكتة عن حكم ضمان القيميّ. وحينئذ فلو شكّ في المثليّة والقيميّة فلا عموم حتى يرجع إليه ، فالمرجع حينئذ قاعدة الاشتغال ووجوب تسليم الضامن كلّا من المثل والقيمة ليختار أيّ واحد منهما شاء كما تقدّم سابقا.

والحقّ أن يقال : إنّ التمسك بالآية الشريفة مشكل ، لأنّه إن أريد بالمثل فيها المماثلة المطلقة من حيث الاعتداء والمعتدى به في كل مورد ، سواء أكان من الدماء أو الأعراض أو الأموال ـ كما إذا اعتدى شخص على غيره في عرضه كشتمه أو سرقة ماله أو غيبته أو قذفه إلى غير ذلك من أنحاء الاعتداء ـ لزم تخصيص الأكثر المستهجن كما لا يخفى.

ولزم أيضا خروج المورد ، وذلك مستهجن. توضيحه : أنّ مورد الآية هو ابتداء المشركين بالقتال في الأشهر الحرم ، والمماثلة من جميع الجهات أن تكون في أصل


فتبيّن (١) أنّ النسبة بين مذهب المشهور ومقتضى العرف والآية عموم

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة الإشكالين المتقدّمين ، ومحصّلها : أنّ الدليل الثاني والثالث على ضمان المثليّ بالمثل ـ وهما الآية والعرف ـ قاصران عن إثبات مدّعى المشهور ،

__________________

الحرب وكيفيّتها وكمّها ، بأن يجازيهم المسلمون في نفس القتال ومقداره ، فإن قتلوا من المسلمين عددا خاصّا بكيفيّة خاصّة كالقتل بالسّهم أو السيف لزم على المسلمين ذلك من دون زيادة ، مع أنّه ليس كذلك.

وإن أريد بالمثل فيها المماثلة في نفس الاعتداء من دون نظر إلى الجنس المعتدى به وكيفيّته ومقداره لزم أن يكون قتالهم جائزا بالاعتداء منهم بالسرقة مثلا ، فإن سرقوا من المسلمين في الأشهر الحرم جاز لهم قتال المشركين فيها. وهذا كما ترى.

فالظاهر أنّ المراد بالمثل بقرينة المورد خصوص القتال من دون لحاظ كمّه وكيفه ، والتّعدّي عنه لا بدّ أن يكون إلى ما هو مناسب له كاللصّ والمهاجم ، فلا وجه للاستدلال بالآية على الضمان أصلا ، فإنّ بناء العقلاء الممضى كاف في إثبات أصل الضمان ، وكيفيّته أي ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة. وفي صورة الشك في المثليّة والقيميّة يرجع الى قاعدة الاشتغال على التقريب السابق ، لا إلى عموم الآية ، لما عرفت من أجنبيّتها عن مسألة الضمان.

هذا كلّه مضافا إلى : أنّ الشك في القيميّة يلازم الشك في المثليّة أيضا ، لما مرّ من كونهما متباينين. فالشكّ في حدود مفهوم أحدهما يستلزم الشكّ في حدود مفهوم الآخر ، فلا وجه للرجوع إلى عموم الآية مع الشكّ في حدود مفهوم موضوعه وهو المثل المشهوريّ.

وإلى : أنّ الآية في مقام بيان جواز الاعتداء في مقابل الاعتداء ، فإذا أتلف مال زيد جاز لزيد إتلاف ماله ، وهذا غير الضمان أعني الغرامة ، فلا تدلّ الآية على الضمان ، بل تدلّ على جواز إتلاف مال الغير جزافا.


من وجه ، فقد يضمن بالمثل بمقتضى الدليلين (١) ولا يضمن به عند المشهور كما في المثالين المتقدّمين (٢). وقد ينعكس الحكم (٣) كما في المثال الثالث (٤). وقد يجتمعان (٥) في المضمون به كما في أكثر الأمثلة.

ثمّ (٦) إنّ الإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة ـ على تقدير تحقّقه ـ لا يجدي

______________________________________________________

لكون النسبة بين الدليل والمدّعى عموما من وجه.

فمورد الافتراق من ناحية الدليل هو مثل إتلاف ذراع من كرباس وعبد من عبدين ، فالدليل يقتضي الضمان بالمثل ، لوجود المماثل العرفيّ في الصورة والماليّة ، مع أنّ المشهور قالوا بضمان القيمة.

ومورد الافتراق من ناحية قول المشهور هو تنزّل قيمة المثل تنزّلا فاحشا ، فإنّهم حكموا بضمان المثل ، مع أنّ الدليل يقتضي الضمان بالقيمة ، إذ الملحوظ في التغريم ماليّة التالف والاتّحاد في الصورة ، والمفروض تفاوت الماليّة بمقدار كثير لا يتسامح فيه.

ومورد الاجتماع كلّ مضمون مثليّ باصطلاح الفقهاء مع عدم اختلاف قيمة المضمون والمثل.

وحيث كانت النسبة عموما من وجه لم يمكن إثبات هذا المدّعى بهذا الدليل.

(١) وهما آية الاعتداء وبناء العرف.

(٢) وهما العبد والثوب ، فإنّهما مضمونان بالمثل بمقتضى الآية والعرف ، وبالقيمة عند المشهور.

(٣) يعني : أنّ الآية والعرف يقتضيان الضمان بالقيمة ، مع أنّ المشهور على الضمان بالمثل ، كما في نقصان الماليّة فاحشا.

(٤) وهو تنزّل قيمة المثل.

(٥) تثنية الضمير في «يجتمعان» باعتبار عدّ الدليلين شيئا واحدا ، وجعل مذهب المشهور طرفا آخر. ومراده بأكثر الأمثلة : الأمثلة الواقعيّة للضمان ، وليس غرضه الإشارة إلى شي‌ء ذكره سابقا.

(٦) هذا تمهيد لبيان حكم الشكّ في القيميّة والمثليّة ، وحاصله : أنّه ـ بعد البناء


بالنسبة إلى ما لم يجمعوا على كونه قيميّا (١) ، ففي موارد الشكّ يجب الرجوع إلى المثل بمقتضى الدليل السابق (٢) وعموم الآية بناء على ما هو الحق المحقّق من أنّ

______________________________________________________

على تخصيص الآية بالإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة دون المثل ـ لا يجدي هذا الإجماع في موارد الشك في القيميّة والمثليّة ، لعدم الإجماع فيها ، فلا بدّ من الرجوع فيها إلى عموم الآية القاضي بلزوم دفع المماثل العرفيّ ، لأنّه المرجع في المخصص المجمل المفهوميّ المردّد بين الأقل والأكثر.

كما إذا ورد «أكرم الشعراء» وخصّصه بمخصّص منفصل مجمل مفهوما مردّد بين الأقل والأكثر مثل «لا تكرم فسّاق الشعراء» بناء على تردد الفسق بين مخالفة مطلق التكليف الإلزاميّ وبين ارتكاب الكبائر خاصّة ، فقد تقرّر في الأصول تخصيص العام بالمتيقّن من مفهوم الخاصّ ، والرجوع في الأكثر ـ كمقترف الصغيرة ـ إلى عموم إكرام الشعراء.

وكذا الحال في المقام ، فإنّ عموم الآية يقتضي الضمان بالمثل حتى في القيميّ ، لكنّه خصّص بالإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة. ومع إجمال مفهوم القيميّ يقتصر في التخصيص على المتيقّن منه ، ويرجع في مورد الشك إلى عموم الآية.

وعلى هذا فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي بعد وجود الأصل اللفظيّ وهو أصالة العموم.

(١) كما أنّ الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل لا يجدي بالنسبة الى ما لم يجمعوا على كونه مثليّا ، كما عرفته مفصّلا. فالضمان بالمثل منوط بإجماعين : أحدهما على أصل الحكم ، والآخر على الموضوع ، وهو كون التالف مثليّا بنظر المجمعين.

وكذا الحال في الضمان بالقيمة في القيميّات ، فلو لم يكن التالف قيميّا عند الكلّ كان ضمانه بالمماثل العرفيّ عملا بمقتضى الآية والعرف.

(٢) وهو بناء العرف المنزّل عليه إطلاق الضمان في أخبار كثيرة.


العامّ المخصّص بالمجمل مفهوما المتردّد بين الأقلّ (١) والأكثر (٢) لا يخرج عن الحجّيّة بالنسبة إلى موارد الشك.

فحاصل الكلام (٣) : أنّ ما اجمع على كونه مثليّا يضمن بالمثل مع مراعاة

______________________________________________________

(١) المراد بالأقلّ هو الأشياء التي أجمع الفقهاء على كونها قيميّة كالعقار.

(٢) المراد بالأكثر هو ما يشكّ في مثليّته وقيميّته. وقد أشار المصنف إلى جملة منها (في ص ٣١٧ و ٣١٨).

(٣) أي : حاصل ما يترتّب على الدليلين المذكورين من الآية وبناء العرف. وهذا الحاصل يتكفّل النظر النهائي في ضمان التالف سواء أحرز كونه مثليّا أو قيميّا أم شكّ فيه.

أمّا المثليّ الذي أجمع الأصحاب على مثليته فيضمن بمماثله مع مراعاة الصفات الدخيلة في الماليّة ، سواء ساوى قيمته ـ يوم الأداء ومكانه ـ قيمة التالف ، أم نقص عنه. أمّا مع المساواة فلا ريب في سقوط المضمون عن العهدة. وامّا مع النقص غير المسقط عن الماليّة بالكلّيّة فلوجهين :

أحدهما : الإجماع المحكيّ على إهمال نقصان قيمة المثل عن قيمة التالف ، كما إذا كان قيمة التالف عشرة دنانير ، وقيمة مثله يوم الأداء ـ وبلد الأداء ـ خمسة دنانير ولولا هذا الإجماع كان مقتضى الآية والعرف رعاية المماثلة في المالية كما حقّقه المصنّف قدس‌سره.

ثانيهما : الأخبار الواردة في ضمان دراهم أسقطها السلطان عن المعاملة بها ، وضرب دراهم أخرى وروّجها ، فتقلّ مالية الدراهم المنسوخة. وقد حكم الامام عليه‌السلام بأنّ ذمة المديون مشغولة بتلك الدراهم الأولى لا الدراهم الجديدة. فإنّ هذه الأخبار تدلّ على أنّ التالف المثليّ مضمون بمثله حتى مع حطّ قيمته ، هذا.

وأمّا القيميّ الذي أجمعوا على كونه قيميّا فيضمن بالقيمة سواء وجد مماثلة في الصفات أم لم يوجد.


الصفات التي يختلف بها الرّغبات ، وإن فرض نقصان قيمته ـ في زمان (١) الدفع أو مكانه ـ عن قيمة التالف ، بناء على (٢) تحقّق الإجماع على إهمال هذه التفاوت.

مضافا إلى الخبر (٣) الوارد في «أنّ اللازم على من عليه دراهم وأسقطها السلطان وروّج غيرها هي الدراهم الأولى».

______________________________________________________

وأمّا التالف المشكوك مثليّته وقيميّته ـ لاختلاف الأصحاب في ذلك ـ فإن تساوت قيمة المضمون وقيمة المدفوع بدلا عنه الحق بالمثليّ ، ولا يجزي أداء القيمة. وإن اختلفت القيمتان الحق بالقيميّ ، ولا يكفي دفع المماثل الذي نقصت قيمته عن قيمة المضمون ، هذا.

(١) يعني : أنّ منشأ نقصان قيمة المثل عن قيمة التالف أحد أمور ثلاثة ، إمّا هو الزمان بأن كان التالف عزيز الوجود ، كالفاكهة في أوّل أوانها ، فأدّاه الضامن في موسم وفورها. وإمّا هو المكان كما إذا ضمن في بلد يعزّ وجود التالف فيه ، لكونه منقولا إليه من بلد آخر ، فأدّاه الضامن في بلد ثالث يكون المثل فيه أنقص قيمة من بلد الضمان.

وإمّا هو الزمان والمكان معا. والأمثلة واضحة. والمقصود أنّ تنزّل قيمة المثل لا يقدح في فراغ الذمّة ، للإجماع والنصّ.

(٢) قيد لقوله : «يضمن بالمثل وإن فرض نقصان» وهذا إشارة إلى أوّل الوجهين على عدم قدح نقصان قيمة المثل عن قيمة المضمون.

(٣) هذا وجه ثان لكفاية ردّ مثل المضمون وإن نقص قيمته عنه ، والمراد بالخبر هو الجنس لا الشخص ، لورود هذا الحكم في خبرين. كمكاتبة يونس إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «أنّه كان لي على رجل عشرة دراهم ، وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم ، وجاءت دراهم [بدراهم] أعلى من تلك الدّراهم الاولى ، ولها اليوم وضيعة ، فأيّ شي‌ء لي عليه؟ الاولى التي أسقطها السلطان ، أو الدراهم التي أجازها


وما أجمع على كونه قيميّا يضمن بالقيمة ، بناء (١) على ما سيجي‌ء من الاتّفاق على ذلك (٢) ، وإن وجد مثله (٣) أو كان (٤) مثله

______________________________________________________

السلطان ، فكتب : لك الدّراهم الاولى» (١).

بتقريب أنّ الدراهم الأولى الساقطة عن الرّواج لم تخرج عن الماليّة رأسا ، لأنّ مادّتها فضّة ، وهي لا تسقط عن القيمة بمجرّد إسقاط الهيئة والسّكّة ، وإنّما تنقص قيمتها عن الدراهم الرائجة. مثلا إذا كانت عشرة من الدراهم الاولى تساوي دينارا ، فبعد إسقاطها يكون الدينار بعشرين منها أو بثلاثين ، وهذا هو تنزّل المالية ، لا السقوط عن التقويم رأسا.

(١) متعلّق ب «يضمن بالقيمة» يعني : أنّ ضمان ما أجمعوا على قيميّته بالقيمة مبنيّ على تسلّم الكبرى ، وهي ضمان القيميّ بقيمته لا بمماثله عرفا ، فلولا هذا الإجماع اقتضت الآية الشريفة ضمانه بالمماثل ، ثم بالقيمة.

(٢) أي : على ضمان القيميّ بالقيمة ، قال في الأمر السابع : «فالمرجع في وجوب القيمة في القيميّ وإن فرض تيسّر المثل له ، كما في من أتلف عبدا من شخص باعه عبدا موصوفا بصفات ذلك العبد بعينه .. هو الإجماع كما يستظهر».

(٣) كما لو أتلف ذراعا من كرباس طوله عشرون ذراعا ، فإنّ مثل التالف ليس بعزيز الوجود ، ومع ذلك فالمضمون به هو القيمة ، للإجماع على قيميّة الأقمشة والثياب.

(٤) كما لو أتلف عبدا ، وله على سيّده بسبب القرض أو السلم عبد بصفات التالف ، فإنّهم لا يحكمون بالتهاتر ، بل على المتلف قيمة العبد المتلف. وعلى المقترض أو البائع سلما أداء ما في ذمّته من العبد إلى مالكه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٤٨٨ ، الباب ٢٠ من أبواب الصرف ، الحديث ٢.


في ذمّة المالك (١).

وما (٢) شكّ في كونه قيميّا أو مثليّا يلحق بالمثليّ ، مع عدم اختلاف قيمتي المدفوع والتالف ، ومع الاختلاف الحق بالقيميّ (٣) ، فتأمّل (٤).

______________________________________________________

(١) ولولا الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة كان اللازم التهاتر في مثال إتلاف العبد.

(٢) هذا حكم الشكّ في مثليّة التالف وقيميّته ، وقد أوضحناه آنفا.

(٣) لعلّ وجه إلحاقه بالقيميّ هو عدم إمكان المثل المماثل للتالف في الماليّة ، فيصير من قبيل تعذّر المثل الموجب لجواز دفع القيمة.

(٤) لعلّه إشارة إلى : أنّ مقتضى الدليلين السابقين اعتبار المماثلة في المالية ، والمفروض فقدانها ، فالدليلان قاصران عن الدلالة على الاجتزاء به. ولعدم الدليل على الاكتفاء بالقيمة يدور الأمر بين المثل والقيمة ، والمرجع فيه أصالة الاشتغال كما تقدّم.

أو إشارة إلى : أنّه مع فرض تحقّق الإجماع على إهمال التفاوت بين قيمتي التالف والمدفوع لا وجه لإلحاق المثليّ بالقيميّ مع اقتضاء الآية الضمان بالمثل.


الخامس (١) : ذكر في القواعد : «أنّه لو لم يوجد المثل إلّا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب الشراء تردّد» انتهى (٢).

______________________________________________________

٥ ـ ارتفاع ثمن المثليّ

(١) هذا البحث متفرّع على ما تحقّق في الأمر الرابع من ضمان المثليّ بالمثل ، للوجوه الثلاثة المتقدّمة من آية الاعتداء وإطلاق نصوص الضمان مقاميّا والإجماع ، فيحرز اشتغال الذمّة بالمثل. هذا مع عدم تفاوت قيمتي المثل من زمان ضمانه إلى زمان أدائه. وأمّا إذا ارتفعت قيمته بأن صارت قيمته أضعاف قيمته وقت ضمانه فهل يجب على الضامن تحصيل المثل أم يكفي ردّ ثمنه الذي كان حين ضمانه؟

وكذا يتّجه هذا البحث بناء على قصور الأدلّة عن إثبات ضمان المثليّ بمثله ، وقلنا بتخيير المالك بين مطالبة المثل والقيمة.

وأمّا بناء على القول بتخيير الضامن بينهما لم يبق موضوع لهذا البحث ، لجواز اقتصار الضامن على القيمة ، هذا.

(٢) العبارة الموجودة في القواعد وفي متن جامع المقاصد ومفتاح الكرامة هي : «ولو تعذّر المثل إلّا بأكثر من ثمن مثله ، ففي وجوب الشراء نظر» (١).

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ (الطبعة الحجرية) ؛ مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٤ ؛ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦٠.


أقول (١) : كثرة الثمن إن كانت لزيادة القيمة السوقيّة للمثل (٢) ، بأن صار

______________________________________________________

ووجه النظر ما أفاده في التذكرة بقوله : «إذا أتلف المثليّ وجب عليه تحصيل المثل ، فإن وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه بلا خلاف. وإن لم يجده إلّا بأزيد من ثمن المثل ففي إلزامه بتحصيله إشكال. ينشأ من أنّ الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم كالرّقبة في الكفارة والهدي. ومن أنّ المثل كالعين ، وردّ العين واجب وإن لزم في مئونته أضعاف قيمته. وللشافعيّة وجهان. أظهرهما الأخير. وربّما يمكن الفرق بين المثل والعين بأنّه تعدّى في العين دون المثل ، فلا يأخذ المثل حكم العين» (١).

والأوّل وجه لعدم وجوب الشراء ، والثاني وجه لوجوبه كما لا يخفى.

وجعل المحقّق الثاني قدس‌سره منشأ نظر العلامة قدس‌سره : «لزوم الضرر المنفيّ عن الضامن ، فلا يجب عليه الشراء بأكثر من ثمن المثل. وأنّ القدرة على المثل موجودة ، فيجب شراؤه» ثمّ رجّح الوجوب كما صنعه العلّامة في التحرير (٢).

(١) ناقش المصنّف قدس‌سره في تردّد العلّامة وحكم بوجوب شراء المثل سواء أكانت زيادة قيمته لأجل ارتفاع قيمته السوقيّة ، لارتفاع أسعار السّلع بحيث قل ما تتساوى قيمة الأمتعة في مبدأ الشهر ومنتهاه ، أم كانت لأجل عزّة وجود المثل ككونه عند من يضنّ به ، ولا يبيعه إلّا بأكثر من قيمته المتعارفة.

ولو كان كثير الوجود لم يرتفع قيمته السوقيّة. لكنّه قدس‌سره في بادئ الأمر فصّل بين الصورتين ، كما سيتّضح.

(٢) هذا هو أحد منشئي كثرة ثمن المثل. ومحصّله : أنّ تردّد العلّامة إن كان في صورة ارتفاع القيمة السوقيّة ، لم يكن له وجه ، لأنّ وجوب الشراء إجماعيّ ، كما إذا

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٤ ، أواخر الصفحة.

(٢) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.


قيمته أضعاف قيمة التالف يوم تلفه ، فالظاهر أنّه لا إشكال في وجوب الشراء ولا خلاف ، كما صرّح به في الخلاف ، حيث قال : «إذا غصب ماله مثل كالحبوب والأدهان فعليه مثل ما تلف في يده ، يشتريه بأيّ ثمن كان بلا خلاف» (١).

وفي المبسوط : «يشتريه بأيّ ثمن كان إجماعا» (٢) انتهى.

ووجهه عموم النصّ والفتوى (١) بوجوب المثل في المثليّ.

ويؤيّده فحوى (٢) حكمه بأنّ تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف

______________________________________________________

أتلف زيد حنطة من عمرو ، فأراد ردّ مماثلها بعد عام ، وقد بلغت قيمة الحنطة ضعف ما كانت عليه ، فإنّه لا ريب في وجوب الشراء مقدّمة لأداء المثل إلى المضمون له.

ويدلّ عليه وجوه ثلاثة ، أوّلها : الإجماع الذي ادّعاه شيخ الطائفة في المبسوط والخلاف.

ثانيها : إطلاق آية الاعتداء ، القاضي بوجوب ردّ المثل سواء توقّف على الشراء أم لا ، وسواء أكان شراؤه بثمن المثل أم بأزيد منه.

ثالثها : إطلاق فتوى الأصحاب بوجوب ردّ المثل مهما كلّف من مئونة.

(١) الظاهر أن المراد بعموم النص عموم آية الاعتداء ، والمراد بالعموم هو الإطلاق الأحوالي كما أوضحناه.

(٢) تقريب الفحوى : أنّ دفع المثل مع نقصان قيمته عن قيمة التالف إنّما هو لصدق المماثلة ، فإذا صدق عليه أنّه مماثل مع عدم مماثلته للتالف في الماليّة بحدّها ، فصدق المماثل عليه مع بلوغه قيمة التالف وزيادة يكون بالأولويّة ، لأنّه مماثل له في الحقيقة والماليّة حقيقة لا عناية لمجرّد المماثلة في الصورة.

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤١٥ ، المسألة ٢٩ من كتاب الغصب.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ١٠٣.


لا يوجب الانتقال إلى القيمة. بل ربّما احتمل بعضهم ذلك (١) مع سقوط المثليّ في زمان الدفع عن الماليّة (٢) كالماء على الشاطئ (٣) والثلج في الشتاء.

وأمّا (٤) إن كان لأجل تعذّر المثل وعدم وجدانه إلّا عند من يعطيه بأزيد

______________________________________________________

ويمكن تقريب الفحوى بنحو آخر ، وهو : أنّ حكمهم بعدم الانتقال إلى القيمة في صورة التنزّل يقتضي عدم مراعاة قاعدة «نفي الضرر» بالنسبة إلى تضرّر المالك به ، فعدم مراعاة قاعدة الضرر بالنسبة إلى الضرر الوارد على الضامن ـ بازدياد ثمن المثل ـ أولى ، لأنّ الضامن أقدم على ضرر نفسه.

(١) أي : عدم الانتقال إلى القيمة مع سقوط المثل عن التقويم ، والمحتمل هو العلّامة في القواعد ، من دون ترجيح له ولا لخلافه ، وقد تقدم كلامه في الأمر الرابع. ومال إليه في الجواهر (١).

(٢) متعلّق بقوله : «سقوط».

(٣) يعني : أتلف الضامن الماء في مفازة حيث يبذل المال الكثير لتحصيله ، فأراد دفع ذلك المقدار من الماء على شاطئ النهر بحيث لا يبذل فلس بإزائه.

وكذا الحال في إتلاف الجمد والثلج في حرّ الصيف ، فأراد دفع مماثلهما في الشتاء.

(٤) هذا عدل قوله : «إن كانت لزيادة القيمة السوقيّة» وكان الأولى أن يقال : «وإن كانت لأجل تعذّر المثل ..» وكيف كان فلم نظفر في العبارة بجواب «وأمّا» فلاحظ وتأمّل.

واحتمال «كون ـ والظاهر ـ غلطا ، وأنّ الصواب اقترانه بالفاء ليكون جواب الشرط» ضعيف ، إذ بعد فرض كون النسخة الصحيحة كذلك لا يصلح لأن يكون جوابا ، لعدم الارتباط بين الشرط والجزاء ، إذ لا يكون قوله : «والظاهر» مرتبطا بما قبله ، فإنّ الجواب لا بدّ أن يكون مترتّبا على الشرط ، وهو مفقود هنا كما لا يخفى.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٩٩.


ممّا يرغب فيه الناس مع (١) وصف الإعواز ، بحيث يعدّ بذل ما يريد مالكه بإزائه ضررا عرفا. والظاهر أنّ هذا هو المراد بعبارة القواعد ، لأنّ الثمن في الصورة الأولى ليس بأزيد من ثمن المثل ، بل هو ثمن المثل. وإنّما زاد على ثمن التالف يوم التلف. وحينئذ (٢) فيمكن التردّد في الصورة الثانية

______________________________________________________

مع أنّ مقصوده حمل ترديد العلّامة قدس‌سره على هذه الصورة الثانية ، وهذا الحمل أجنبيّ عن بيان الحكم الذي يناسب الجزاء.

(١) متعلق بقوله : «يرغب» يعني : أنّ رغبة الناس فيه مع إعوازه لا تقتضي زيادة قيمته بمقدار يريده مالكه ، فزيادة الثمن حينئذ ليست لارتفاع القيمة السوقيّة عند الإعواز ، بل لأجل طمع المالك وإجحافه ، بحيث يعدّ بذل ما يطلبه بائع المثل ضررا عرفا.

وحاصل الفرق بين الصورة الاولى ـ وهي ما أفاده بقوله. «كثرة الثمن إن كانت لزيادة القيمة إلخ» ـ والصورة الثانية وهي قوله : «وأمّا إن كان لأجل تعذّر المثل إلخ» هو : أنّه في الصورة الاولى لا يصدق «الأكثر من ثمن المثل» إذ المفروض ارتفاع قيمة المماثل للتالف ، فالثمن الفعليّ للمثل هو نفس ثمن المثل ، لا أكثر منه. نعم هو أكثر من ثمن التالف يوم تلفه.

بخلاف الصورة الثانية ، فإنّه يصدق عليها ذلك ، إذ المفروض كون الثمن الذي يريده المالك أكثر من قيمته السوقيّة التي يرغب فيها الناس بوصف الإعواز ، كما إذا كانت قيمته السوقيّة بهذا الوصف عشرة دراهم والمالك يريد خمسة عشر درهم ، فإنّ صدق «أكثر من ثمن المثل» عليه حينئذ من الواضحات ، ويصدق عليه أنّ المالك مجحف في هذه المعاملة ، فيتّجه البحث عن وجوب شراء المثل وعدمه.

(٢) يعني : حين إرادة بائع المثل أكثر من الثمن السوقيّ لمثل التالف بوصف إعوازه. والظاهر زيادة هذه الكلمة ، للزوم التكرار ، لوضوح أنّ مفروض الصورة الثانية إرادة بائع المثل زيادة على ثمنه الواقعي ، فلا حاجة إلى كلمة «حينئذ»


ـ كما قيل (١) ـ من أنّ الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم كالرقبة في الكفّارة والهدي ، وأنّه (٢) يمكن معاندة البائع وطلب أضعاف القيمة ، وهو ضرر (٣).

ولكن الأقوى مع ذلك (٤) وجوب الشراء وفاقا للتحرير كما عن الإيضاح (١) والدروس وجامع المقاصد ، بل إطلاق السرائر (٥) ، ونفي الخلاف

______________________________________________________

وعلى تقدير إسقاطها أمكن جعل «فيمكن» جوابا لقوله : «وأمّا» الشرطيّة.

والأولى أن يقال : «في هذه الصورة» بإسقاط كلمة «الثانية». أو إبقاؤها ، وإن كان إسقاطها أولى ، للاستغناء عنها باسم الإشارة ، وهي «هذه».

(١) القائل هو العلّامة قدس‌سره في التذكرة ، وقد تقدّمت عبارته آنفا.

(٢) معطوف على «أنّ الموجود» يعني : أنّه يمكن معاندة بائع المثل بأن يطلب أضعاف قيمته الواقعيّة ، وهذا الوجه أفاده السيد العميد قدس‌سره (٢).

(٣) هذا وجه تنزيل الموجود بأكثر من ثمن المثل منزلة المعدوم كالرقبة في الكفّارة ، ومن المعلوم أنّ الضرر منفيّ في الشريعة.

(٤) أي : مع كون الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم ـ وطلب أضعاف قيمته ضررا على الضامن ـ يكون الأقوى وجوب الشراء ، قال المحقّق الثاني : «والأصحّ الوجوب ، فإنّ الضرر لا يزال بالضرر ، والغاصب مؤاخذ بأشقّ الأحوال ، فلا يناسبه التخفيف ، وهو الأصحّ» (٣).

(٥) الإتيان بكلمة «بل» لأجل أنّ ابن إدريس لم يكن من المصرّحين بوجوب شراء المثل إذا زاد ثمنه على ثمن التالف ، فنسبة هذا الحكم إليه إنّما هي لاقتضاء إطلاق

__________________

(١) الحاكي هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٤. راجع تحرير الاحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩ ، إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٨ ، الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣.

(٢) كنز الفوائد ، ج ١ ، ص ٦٦١.

(٣) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦٠.


المتقدّم عن الخلاف ، لعين ما ذكر في الصورة الاولى (١).

ثمّ إنّه لا فرق (٢)

______________________________________________________

كلامه بوجوب ردّ المثل ، سواء تغيّرت الأسعار أم لم تتغيّر. ولو كان نظره قدس‌سره إلى صورة مساواة ثمن المثل لثمن التالف لنبّه عليه ، ومن المعلوم أنّ عدم تقييد وجوب أداء المثل بصورة المساواة كاشف عن إطلاق الحكم. قال قدس‌سره : «فمن غصب شيئا له مثل وجب عليه ردّه بعينه ، فإن تلف فعليه مثله» (١). والجملة الأخيرة هي محطّ نظر المصنّف قدس‌سره من نسبة الإطلاق إليه ، وهو كذلك.

نعم قال في موضع آخر : «فأمّا ماله مثل فعليه مثله يوم المطالبة ، تغيّرت الأسعار أم لم تتغيّر ..» (٢). وهذا تصريح بالإطلاق ، بناء على أنّ المراد بالتغيّر الارتفاع ، ولعلّ المصنّف قدس‌سره لم يظفر بهذه العبارة ونسب الإطلاق إلى ابن إدريس قدس‌سره.

(١) وهي كون زيادة الثمن لأجل رواج السوق ، فإنّ ما ذكر فيها ـ من عموم النصّ والفتوى ـ آت هنا ، ولا مجال لقاعدة الضرر ، لأنّها مخصّصة بأدلّة الضمان. فالمتعيّن الرجوع إلى إطلاق تلك الأدلّة المخصّصة.

نعم تجري قاعدة نفي الحرج إذا لزم الإجحاف بحال الضامن ، فإنّ هذه القاعدة تنفي وجوب الشراء.

إلّا أن يقال : إنّ قاعدة نفي الحرج أيضا مخصّصة بتلك الأدلّة المخصّصة ، خصوصا بملاحظة «مؤاخذة الغاصب بأشق الأحوال».

(٢) لإطلاق أدلّة الضمان ، يعني : كما أنّ إطلاقها يقتضي وجوب شراء المثل بأكثر من ثمن المثل ، لارتفاع الأسعار مرّ الزمان ، كذلك يقتضي وجوب شرائه في بلد آخر ـ غير بلد تلف العين ـ إذا طالبه المالك بالمثل. سواء أكانت قيمتا البلدين متساويتين أم كانت قيمة بلد المطالبة أزيد.

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨٠.

(٢) المصدر ، ص ٤٩٠.


في جواز مطالبة (١) المالك بالمثل بين كونه في مكان التلف أو غيره. ولا بين كون قيمته في مكان المطالبة أزيد من قيمته في مكان التلف أم لا ، وفاقا (٢) لظاهر المحكيّ (١) عن التحرير والتذكرة والإيضاح والدروس وجامع المقاصد.

وفي السرائر : «أنّه الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلّة وأصول المذهب» (٣).

______________________________________________________

والوجه فيه اشتغال ذمة الضامن بالمثل ، فللمضمون له مطالبة حقّه. إلّا إذا تعذّر تحصيله ، فينتقل إلى قيمته حينئذ كما سيأتي تفصيله في الأمر السادس إن شاء الله تعالى.

(١) المصدر مضاف إلى الفاعل ، وضمير «كونه» راجع إلى المثل.

(٢) وخلافا لما في المبسوط من «لزوم قيمته في بلد الغصب ، أو يصبر حتى يصل إليه ليستوفي ذلك ، للضرر المنفي» (٢). لكن قد عرفت الإشكال في العمل بقاعدة الضرر من عدم شمولها للحكم الثابت بعنوان الضرر كالضمانات.

(٣) كلام ابن إدريس قدس‌سره لا يختصّ بردّ المثل في غير بلد التلف ، لتصريحه بأنّه حكم بدل التالف سواء أكان مثليّا أم قيميّا ، فلاحظ قوله : «إذا غصب منه مالا مثليّا بمصر ، فلقيه بمكّة ، فطالبه به. فإن كان المال له مثل ، فله مطالبته ، سواء اختلفت القيمة في البلدين ، أم اتّفقت. وإن كان لا مثل له ، فله مطالبته بقيمته يوم الغصب ، دون يوم المطالبة ، إذا أهلكه وأتلفه في يوم غصبه .. ولأنّ المغصوب منه لا يجب عليه الصبر إلى حين العود إلى مصر ، بل يجب على الغاصب ردّ مثل الغصب إن كان له مثل ، أو قيمته إن لم يكن له مثل ، فإنّ هذا الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلّة ، ولا يعرج إلى

__________________

(١) الحاكي هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢. ولاحظ تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩ ، تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ و ٣٨٤ ، إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٧ ، الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٤ ، جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٢.

(٢) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٧٦.


وهو (١) كذلك ، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم (٢)» (١). هذا (٣) مع وجود المثل في بلد المطالبة.

وأمّا مع تعذّره فسيأتي حكمه في المسألة السادسة (*).

______________________________________________________

خلافه بالآراء والاستحسان» (٢).

ومنه ظهر أنّ كلمة : «وأصول المذهب» غير موجودة في ما بأيدينا من نسخة السرائر وإن نقله عنه السيد العاملي أيضا.

(١) يعني : أنّ ما حكي عن جمع ـ من جواز المطالبة بالمثل في غير بلد التلف ـ هو المتعيّن ، لعموم سلطنة الناس على أموالهم.

(٢) فإنّ إطلاقه يقتضي سلطنة المالك على المطالبة في كلّ مكان وزمان وبأيّ سعر كان ، وليس للضامن حبسه عنه.

ومع هذا الإطلاق لا حاجة إلى التمسّك بمثل «على اليد» أو «كلّ مغصوب مردود» حتى يورد عليه بقصوره ، بدعوى «انصرافه إلى خصوص مكان ذلك المال».

لكن يمكن أن يقال : إن كانت سلطنة المالك على المطالبة في بعض الصور حرجيّة فتنفى بقاعدة الحرج ، فلا بدّ من ملاحظة موارد المطالبة زمانا ومكانا ، وعزّة وكثرة للمثل ، وتنزّلا وترقّيا من حيث القيمة. ففي كل مورد تكون مطالبة المالك حرجيّة يرتفع جوازها بنفي الحرج ، فتأمّل.

(٣) أي : جواز المطالبة في غير بلد التلف.

__________________

(*) تحقيق المقام : أنّه قد استدل بآية الاعتداء على وجوب شراء المثل ولو بأكثر من قيمة مماثله. لكن قد عرفت الإشكال في الاستدلال بها على ما نحن فيه.

وقد استدلّ أيضا عليه بالإجماع تارة ، وبأنّ الحكم بعدم وجوب الشراء على الغاصب يستلزم الضرر على المالك اخرى.

__________________

(١) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٢ ، الحديث : ٢٩ وص ٤٥٧ ، الحديث ١٩٨.

(٢) السرائر ، ج ٢ ، ص ٤٩٠ و ٤٩١.


.................................................................................................

__________________

ولا يعارض ضرر المالك بضرر الضامن ليندرج المقام في تعارض الضررين كي لا يجب الشراء بأكثر من ثمن المثل. وذلك لأنّ ضرر الضامن إنّما نشأ عن إقدامه ، فلا تجري قاعدة الضرر في حقّه ، فتجري في طرف المالك بلا معارض ، فيجب شراء المثل ولو بأكثر من ثمن المثل.

لكن فيه : أنّ الاقدام ليس إلّا في الغصب وما هو بمنزلته من العلم بفساد العقد الموجب للقبض. وأمّا مع الجهل بالفساد فلا إقدام ، فالضرران متعارضان. ومقتضى أصل البراءة عدم وجوب شراء المثل بأكثر من القيمة السوقيّة.

إلّا أن يقال : إنّ استصحاب بقاء ما في الذمّة من المثل وعدم انتقاله إلى القيمة يقضي بلزوم شراء المثل بأيّ ثمن كان.

والذي ينبغي أن يقال هو : أنّ قاعدة الضرر لا تجري في الضمانات ، لأنّ موضوعها الضرر ، كالخمس والزكاة ، فإنّ المقتضي لوجود شي‌ء يمتنع أن يكون رافعا له ، فقاعدة الضرر لا تجري في الضمانات أصلا ، فلا موضوع لتعارض ضرري المالك والضامن ، ولا لدفعه بقاعدة الإقدام من ناحية الضامن.

مضافا إلى ما فيها : من كونها أخصّ من المدّعى ، لاختصاصها بالغصب وما هو بمنزلته ، إذ لا إقدام على الضمان في غير الغصب.

فالمرجع إطلاق أو عموم أدلّة الضمان وعموم سلطنة الناس على أموالهم. هذا بالنسبة إلى الصورة الأولى المذكورة في المتن ، وهي كون زيادة القيمة لأجل الرواج السوقيّ ، لا العناد المالكيّ ولا طمعه. ومع هذا الإطلاق لا تصل النوبة إلى أصل عملي من استصحاب أو براءة أو اشتغال.

نعم إذا لزم الحرج كما إذا كان مجحفا لم يجب الشراء ، لقاعدة نفي الحرج.

وأمّا الصورة الثانية ـ وهي كون زيادة القيمة غير مستندة إلى الرواج بل إلى عناد بائع المثل أو طمعه ـ فحكمها كما في المتن حكم الصورة السابقة ، لجريان ما ذكر من الأدلة من عموم النص والفتوى والإجماع المستفاد من نفي الخلاف ـ في الخلاف ـ في


.................................................................................................

__________________

هذه الصورة حرفا بحرف.

وبالجملة : فإطلاق أدلّة ضمان المثليّ بالمثل محكّمة ، فيجب شراؤه ولو بأكثر من ثمن المثل ، إذ المفروض عدم جريان قاعدة الضرر في الضمانات. وعلى تقدير جريانها تسقط بمعارضتها لضرر المالك. فيبقى إطلاق أدلّة الضمان سليما عن المعارض ، ومقتضاه وجوب شراء المثل بأيّ ثمن كان.

إلّا أن يقال : إنّ قاعدة الضرر لا ترفع الحكم المجعول في مورد الضرر إذا كان الضرر بمقدار يقتضيه طبع الحكم كما في الصورة الأولى. وأمّا إذا كان الضرر زائدا على ذلك ومترتّبا على أمور خارجة عمّا يقتضيه طبع الحكم ، كما إذا كان مترتّبا على عناد بائع المثل أو طمعه ، فينفى بقاعدة الضرر ، لأنّه خارج عن حيطة الضمان العقلائيّ وكون المثل في عهدة الضامن.

وبعبارة أخرى : ليس الضرر الزائد جزء ماليّة المثل الثابت على عهدة الضامن ، وما ثبت بالضمان هو المثل بماليّته السوقيّة لا بالماليّة الخاصّة التي يريدها شخص للطمع أو العناد ، فإنّ ذلك خارج عن حيطة الضمان الشرعي والعرفيّ.

وعليه فلا يجب شراء المثل في الصورة الثانية ، لقاعدة الضرر بالنسبة إلى الضامن ، فينتقل إلى القيمة.

لكن يمكن أن يقال : بناء على إطلاق لفظيّ لأدلّة الضمان ـ كآية الاعتداء والروايات ـ لا تجري قاعدة الضرر في الصورة الثانية أيضا ، إذ المفروض وفاء الإطلاق بجعل الحكم الضرريّ بالنسبة إلى الضرر الزائد على القيمة السوقيّة ، وحيث إنّ موضوع هذا الحكم هو الضرر فلا يرتفع بقاعدة الضرر ، فحينئذ لا فرق في وجوب الشراء بين الصورتين.

نعم بناء على كون مستند الحكم بكيفيّة الضمان ـ أي ثبوت المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ في عهدة الضامن ـ هو الدليل اللبّيّ من السيرة أو الإجماع ، فالمتيقّن هو وجوب الشراء في الصورة الأولى ، فيرجع في الصورة الثانية إلى الأصل العمليّ ، وهو


.................................................................................................

__________________

استصحاب الضمان بالمثل ، إن لم تجر قاعدة الضرر في الشراء بالزيادة على القيمة السوقيّة ، لمعارضتها بضرر المالك ، أو حرجه. ولو كان الشراء حرجيّا ولم يعارضه ضرر المالك أو حرجه لم يلزم شراؤه ، لكون الحرج رافعا له ، فلا يجري حينئذ استصحاب بقاء المثل في الذمّة حتى يجب شراء المثل بثمن كثير يريده بائع المثل.

فتلخّص ممّا ذكرناه : أنّه في الصورة الثانية لا يجب الشراء بأكثر من ثمن المثل ، من غير فرق في ذلك بين كون دليل الضمان بناء العقلاء أو الإجماع أو مثل آية الاعتداء.

أمّا على الأوّلين فلأنّ الضمان العرفيّ مبنيّ على المتعارف عندهم من اعتبار القيمة السوقيّة ارتفاعا وانحطاطا ، فلو تنزّل السعر السوقيّ ليس للمالك الامتناع عن أخذ المثل. كما أنّه لو ترقّى ليس للضامن الامتناع من إعطاء المثل ، بل يجب عليه شراؤه ولو بأكثر من ثمن المثل.

فإذا كانت كثرة الثمن غير مستندة إلى القيمة السوقيّة بل إلى الأغراض الأخر ـ كالعناد أو الطمع ـ فهي غير مضمونة عرفا على الضامن ، لأنّ الدليل لبّيّ. والمتيقّن منه هو ضمان المثل بقيمته السوقيّة قلّت أو كثرت ، فلا يشمل ما إذا كانت كثرة الثمن لغير الرواج السوقيّ ، فتنفيه قاعدة الضرر أو الحرج.

وحينئذ لا يجري استصحاب بقاء المثل في الذمّة ، لأنّ الدليل الاجتهاديّ ينفي الضمان ، ويجعل المثل الموجود في هذه الصورة كالمثل المتعذّر ، فينتقل إلى القيمة. كما أنّ قاعدة السلطنة القاضية بجواز مطالبة المالك بالمثل ـ وإن كثر ثمنه لا لأجل رواج السوق ـ محكومة بقاعدة الضرر أو الحرج.

وأمّا على الثالث فلأنّ المنساق منه عرفا أيضا هو الضمان العقلائيّ الذي يبنى عليه إطلاق أدلة الضمان. وعلى تقدير الإطلاق تكون قاعدة الضرر حاكمة عليه ، وتخصّه بالضمان المتعارف أعني به القيمة السوقيّة.

وبالجملة : فدليل الضمان لفظيا كان أم لبّيّا لا يقتضي وجوب شراء المثل بثمن لا يقتضيه رواج السوق ، بأن نشأ عن داع نفسانيّ كالطمع والعناد.


السادس (١) : لو تعذّر المثل في المثليّ ،

______________________________________________________

(١) هذا الأمر من فروع الأمر الرابع الذي تحقّق فيه أنّ المقبوض بالبيع الفاسد إذا تلف عند القابض يضمن بمثله إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا. خلافا لما نسب إلى ابن الجنيد. فبناء على اشتغال ذمّة الضامن بمثل التالف ـ في المثليّ ـ يتّجه البحث عن حكم تعذّر المثل ، وانقلاب المضمون إلى القيمة. ويقع الكلام في تعيين قيمة المثل المتعذّر هل هو ثمنه يوم الأداء إلى المضمون له ، أم يوم تعذّر المثل ، أم غير ذلك من الاحتمالات التي سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى؟

ولا بأس ـ قبل توضيح المتن ـ بالإشارة إلى أمرين :

الأوّل : أنّ تعذّر المثل قد يكون ابتدائيّا أي من حين تلف العين ، بأن يعزّ وجود المتاع المثليّ في مدّة من الزمن ، فتلفت العين فيها. وقد يكون طارئا ، بأن يوجد المثل حين تلف العين ولم يحصّله الضامن تساهلا حتى تعذّر المثل.

وانقلاب الضمان بالمثل إلى الضمان بالقيمة وإن كان في كلتا الصورتين. إلّا أنّ المقصود بالبحث فعلا كما صرّح المصنّف قدس‌سره به بقوله : «إذ لا فرق في تعذّر المثل بين تحقّقه ابتداء كما في القيميّات ، وبين طروّه بعد التمكّن كما فيما نحن فيه» هو التعذّر الطاري. وأمّا إذا فقد المثل وقت التلف فسيأتي حكمه.

الثاني : أنّ وجوب أداء ما في الذمّة لا يتوقّف على مطالبة من له الحق كما في المغصوب ، فإنّ الغاصب مأمور بردّه ـ بنفسه أو ببدله ـ إلى المغصوب منه ، سواء طالبه به أم لم يطالبه ، لإطلاق «أنّ المغصوب مردود». والمبيع بالبيع الفاسد يكون كالمغصوب في عدم توقّف وجوب ردّه إلى مالكه على المطالبة. نعم إن لم نقل بحرمة إمساكه كما تقدّم من شيخ الطائفة والحلّي قدس‌سرهما لم يجب ردّه فورا بدون المطالبة.


فمقتضى القاعدة (١) وجوب دفع القيمة

______________________________________________________

والصحيح من الوجهين هو الأوّل كما حقّقه المصنّف قدس‌سره في الأمر الثاني ، وأنّه يجب ردّه فورا إلى مالكه.

وهذا جار في صور ثلاث : إحداها : بقاء المبيع بالبيع الفاسد. ثانيتها : تلفه مع كونه مثليّا ممكن الحصول. ثالثتها : تلفه مع كونه قيميّا.

فيجب ردّ المبيع ـ في الصورة الاولى ـ وبدله في الصورتين الأخريين إلى مالكه فورا.

وبقي حكم صورة واحدة ، أعني بها كون المبيع مثليّا ، وقد تلف وتعذّر تحصيله ، وقد عقد المصنف هذا الأمر لتحقيقه ، وتعرّض لجهات من البحث.

الاولى : اشتراط انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة بمطالبة المالك.

الثانية : تعيين القيمة التي تجب بمطالبة المالك ، هل هي قيمة المثل يوم الإعواز أم يوم الدفع أم غيرهما؟ وفي هذه الجهة تفصيل الاحتمالات المذكورة في قواعد العلّامة قدس‌سره.

الثالثة : في أنّ محلّ النزاع هل يختصّ بالتعذر الطاري أم يعمّ الابتدائيّ؟

الرابعة : في أنّ مناط إعواز المثل فقده في بلد التلف.

الخامسة : في كيفيّة تقويم المثل مع فرض تعذّره وفقده.

السادسة : في جواز مطالبة الضامن بالمثل لو وجد في بلد آخر غير بلد التلف.

السابعة : في حكم خروج المثل الموجود عن الماليّة والتقويم ، وأنّه ملحق بتعذّر المثل أم لا؟

وسيأتي الكلام في كلّ منها إن شاء الله تعالى.

(١) هذه هي الجهة الاولى. وتوضيحها : أنّ المصنّف قدس‌سره بنى انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة على مطالبة المالك ، إذ لو لم يطالب لم يكن دليل على إلزامه بقبول القيمة ، لفرض أنّ ذمّة الضامن مشغولة بالمثل ، ومجرّد التعذّر والإعواز لا يسقط المثل عن العهدة ، للفرق بين الأحكام التكليفيّة التي تتغيّر بطروء العناوين الثانويّة ، وبين الأحكام الوضعية كالضمان ، فلو صبر المالك إلى أن يتيسّر للضامن أداء المثل لم يتّجه إلزامه بقبول القيمة ، هذا.


مع مطالبة (١) المالك ، لأنّ منع المالك ظلم (٢) ، وإلزام الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر ، فوجب القيمة جمعا بين الحقّين (٣).

مضافا إلى قوله تعالى :

______________________________________________________

وأمّا إذا طالبه المالك بقيمة المثل المتعذر ، فقد استدلّ المصنف قدس‌سره بوجهين على وجوب بذل القيمة على الضامن.

أحدهما : الجمع بين حقّي المالك والضامن. والآخر : آية الاعتداء ، وسيأتي بيانهما.

(١) وجه تقييد وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك هو استقرار المثل في ذمّة الضامن ، وعدم كون القيمة في رتبة المثل ، بل هي في طوله ومتأخّرة عنه رتبة. وهذا التقييد لا ينافي كون المقبوض بالبيع الفاسد كالمغصوب ممّا يجب ردّه بنفسه أو ببدله إلى المالك فورا ، وذلك لعدم كون القيمة واجدة لخصوصيّة المثل المستقرّ في العهدة حتى يكون أداؤها مسقطة له ، وسيأتي مزيد توضيح له.

(٢) هذا أوّل الوجهين على وجوب أداء القيمة على الضامن ، استدلّ به المحقّق الأردبيلي قدس‌سره وغيره (١). وهو مقتضى الجمع بين حقّي المالك والضامن.

أمّا حقّ المالك فهو استحقاقه للقيمة بعد إسقاط الأوصاف النوعيّة التي هي من حقوقه ، فله المطالبة بالقيمة ، فلو أبى الضامن عن دفع القيمة إلى المالك كان ظلما عليه ، وهو قبيح عقلا وممنوع شرعا.

وأمّا حقّ الضامن فهو : أنّ مطالبة المثل منه غير جائزة ، لسقوط التكليف بسبب تعذّره ، فلو ألزمناه بدفع المثل كان ظلما عليه ، وهو منفيّ عقلا وشرعا.

والجمع بين الأمرين ـ بحيث لا يستلزم ظلما على أحدهما ـ إنّما هو بإلزام الضامن بأداء القيمة لو طالبه المالك بها.

(٣) وهو حقّ المالك والضامن.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٧ ؛ مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٢ و ٢٤٣.


(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) فإنّ الضامن إذا ألزم بالقيمة مع تعذر المثل لم يعتد عليه (٢) أزيد مما اعتدى (٣).

______________________________________________________

وبالجملة : ـ بعد البناء على كون ذمّة الضامن مشغولة بالمثل حتى يعدّ تعذّره وعدم سقوط الأوصاف النوعيّة بدون إسقاط المالك لها ـ لا وجه لإلزام الضامن إيّاه بقبول القيمة ، بل له الانتظار إلى أن يوجد ، إذ المفروض عدم كون تعذّر المثل مسقطا له عن ذمّة الضامن ، وموجبا للانتقال إلى القيمة ، فلا موجب لإلزام المالك بقبول القيمة.

ولا يقاس إعواز المثل بتلف العين ، حتى يقال : إنّ الإعواز يوجب الانتقال إلى القيمة ، كما أنّ تلف العين يوجب الانتقال إلى المثل إن كان مثليّا والقيمة إن كان قيميّا.

وذلك لأنّه لا معنى لبقاء العين التالفة في الذمّة ، لامتناع أدائها بعد تلفها. فالانتقال إلى المثل أو القيمة بالتلف قهريّ ، بخلاف إعواز المثل ، إذ لا مانع من ثبوت كلّيّ المثل في الذمّة إلى زمان الأداء ، ولذا لا يجوز للضامن إلزام المالك بالقيمة. كما لا يجب على الضامن إلّا دفع قيمة يوم الأداء ، لما مرّ من عدم كون الإعواز موجبا للانتقال إلى القيمة ، بل المثل باق في ذمّته إلى يوم الأداء ، فتعتبر القيمة يوم الدفع ، لأنّه زمان الانتقال إلى القيمة.

(١) هذا ثاني الوجهين على وجوب أداء القيمة. وهو مبني على ما تقدم من شيخ الطائفة قدس‌سره من : أنّ المماثلة أعم من كونها في الصورة ـ وهي المشاركة في الحقيقة ـ ومن كونها في المالية خاصة. وحيث إنّ القيمة مماثلة للتالف في المالية دلّت الآية الشريفة على أنّه يجوز للمالك الاعتداء على الضامن بأخذ قيمة ماله منه ، فمطالبة القيمة اعتداء بالمثل ، لا بأزيد منه حتى تحرم.

(٢) هذا الضمير والضمير المستتر في «اعتدى» راجعان إلى الضامن.

(٣) لأنّ القيمة مثل التالف في الماليّة ، والمفروض دلالة الآية على جواز الاعتداء بالمماثل.


وأمّا (١) مع عدم مطالبة المالك فلا دليل على إلزامه بقبول القيمة ، لأنّ المتيقن (٢) أنّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك ، وجمع (٣) بين حقّ المالك بتسليطه

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «مع مطالبة المالك» وقد تقدّم وجه تقييد وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك بقولنا : «وبالجملة بعد البناء على كون ذمّة الضامن مشغولة بالمثل .. إلخ».

(٢) هذا التعليل ظاهر في أنّ الوجه الأوّل ـ وهو الجمع بين الحقّين ـ لا يجري في ما إذا صبر المالك حتى يتيسّر المثل ، ولم يطالب الضامن بالقيمة ، لأنّه مالك للمثل في ذمّة الضامن. فهو مسلّط شرعا على المطالبة ببدل المثل المتعذر ، كما أنّ له الانتظار وعدم أخذ القيمة.

وأمّا الوجه الثاني ـ أعني به آية الاعتداء ـ فيستفاد من التعليل المزبور أيضا عدم وجوب دفع القيمة في صورة عدم مطالبة المالك بها. وذلك لأنّ المخاطب بجواز الاعتداء على المعتدي ـ كالضامن في ما نحن فيه ـ هو المالك ، لقوله تعالى (فَاعْتَدُوا) المنسلخ عن الوجوب. فللمعتدى عليه تغريم المعتدي بالمماثل ، الشامل للمماثلة في مجرّد الماليّة خاصّة ، وله الانتظار إلى زمان تيسّر المثل المصطلح الذي هو أقرب إلى التالف ، لمساواته له في الحقيقة والماليّة معا. وعلى كلّ فليس أمر تفريغ الذمّة عن المثل أو القيمة موكولا إلى الضامن حتى يجوز له تفريغ ذمّته عمّا اشتغلت به فورا كي ينقلب ضمانه من المثل إلى القيمة ، هذا.

(٣) هذا وقوله : «وحقّ الضامن» قرينة على أنّ غرضه من قوله : «لأنّ المتيقّن» هو عدم المجال للاستدلال بالجمع بين الحقّين على جواز أداء القيمة حتى مع عدم مطالبة المالك بها.

لكن يستفاد منه أيضا وجه عدم دلالة الآية الشريفة ، لقوله قدس‌سره : «أمّا عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل» لظهوره في توقف انقلاب ما في الذمّة من المثل إلى القيمة على المطالبة التي هي من شؤون سلطنته على ماله التالف أو المتلف.


على المطالبة ، وحقّ الضامن بعدم تكليفه (١) بالمعذور (٢) أو المعسور (٣). أمّا مع عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل.

وما ذكرنا (٤) يظهر من المحكي (١) عن التذكرة والإيضاح ، حيث ذكرا في ردّ بعض الاحتمالات الآتية (٢) في حكم تعذّر المثل ما لفظه : «أنّ المثل لا يسقط بالإعواز ، ألا ترى أنّ المغصوب منه لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة به. وإنّما المصير إلى القيمة وقت تغريمها» انتهى.

______________________________________________________

(١) أي : تكليف الضامن.

(٢) فيما إذا لم يوجد المثل أصلا ، فلو كلّف الشارع الضامن بدفع المثل كان معذورا عن امتثاله.

(٣) فيما إذا وجد المثل في بلد بعيد بحيث لا يخلو تحصيله ونقله من مشقّة شديدة منفيّة شرعا.

(٤) أي : عدم سقوط المثل عن ذمّة الضامن بالتعذّر والإعواز ـ مجرّدا عن مطالبة المالك والانتقال إلى القيمة ـ إنّما هو لمطالبة المالك ، بمقتضى سلطنته على مطالبة ماله ، والكلام المحكيّ عن التذكرة والإيضاح كالصريح في ذلك ، فإنّ كلمة «تغريمها» تدل على إناطة أداء القيمة بمطالبة المالك غرامة ماله.

ولا يخفى أنّ العلّامة قدس‌سره وجّه بالعبارة المنقولة في المتن الاحتمال الرابع من الاحتمالات العشرة المحكيّة عن الشافعيّة. والاحتمال الرابع هو ضمان أقصى القيم من يوم الغصب إلى وقت التغريم. وليس في كلامه ردّ بعض الاحتمالات ، إلّا من جهة استلزام تقوية بعضها تضعيف ما عداها ، فراجع التذكرة.

__________________

(١) الحاكي هو السيد الفقيه العاملي قدس‌سره في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢. لاحظ : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ٢٥ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٥.

(٢) ستأتي بقوله : «ثم إن في المسألة احتمالات أخر ذكر أكثرها في القواعد».


لكن أطلق (١) كثير منهم الحكم بالقيمة عند تعذّر المثل.

ولعلّهم (٢) يريدون صورة المطالبة ، وإلّا (٣) فلا دليل على الإطلاق (٤).

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ إطلاق كثير منهم الحكم بالقيمة وقت تغريم الضامن ـ وعدم تقييده بالمطالبة ـ يقتضي الانتقال إلى القيمة عند تعذّر المثل مطلقا وإن لم يطالب المالك.

قال السيّد الفقيه العاملي قدس‌سره : «أمّا أنّه ينتقل إلى القيمة عند التعذّر فهو مما طفحت به عباراتهم كما ستسمع ، بل هو إجماعيّ .. وأمّا أنّها تلزم يوم الإقباض لا الإعواز ـ وإن حكم بها الحاكم يوم الإعواز ـ فممّا صرّح به في الخلاف والمبسوط والغنية والسرائر والشرائع والتحرير والتذكرة والدروس وجامع المقاصد والمسالك ومجمع البرهان ، وهو قضيّة من اقتصر على لزوم القيمة يوم الإقباض كالإرشاد وغيره» (١).

وأنت ترى خلوّ كلامهم من قيد مطالبة المالك. وبه يشكل ما ذهب إليه المصنّف قدس‌سره وغيره من اشتراط وجوب دفع القيمة بمطالبة المالك.

(٢) غرضه توجيه الإطلاق المزبور ، وحاصله : أنّه يمكن أن يريدوا خصوص صورة المطالبة ، لا مطلقا حتى يكون مرادهم انتقال المثل بالإعواز إلى القيمة.

(٣) يعني : وإن لم نحمل إطلاق حكمهم بالقيمة ـ عند تعذّر المثل ـ على خصوص صورة مطالبة المالك أشكل الأخذ بظاهر كلامهم ، لعدم دليل على إطلاق انقلاب المثل إلى القيمة.

(٤) كما هو مذهب القائلين بثبوت العين في الذمّة ، ولا ينتقل إلى البدل من المثل أو القيمة ، خلافا لغيرهم كالمصنّف وجماعة ، حيث ذهبوا إلى الانتقال إلى البدل بمجرّد تلف العين والإعواز.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٢ و ٢٤٣.


ويؤيّد ما (١) ذكرنا : أنّ المحكيّ عن الأكثر في باب القرض «أنّ المعتبر في المثل المتعذر قيمته يوم المطالبة» (٢).

نعم (٣) عبّر بعضهم بيوم الدفع ،

______________________________________________________

(١) من عدم سقوط المثل عن ذمّة الضامن بمجرّد الإعواز والتعذّر لو لم يطالبه المالك بالقيمة. وجه التأييد أنّ تعبير الأكثر «باعتبار قيمة العين المقترضة ـ المتعذّر مثلها ـ يوم مطالبة المالك» يدلّ على كون موضوع كلامهم خصوص صورة المطالبة ، فبدونها لا موجب لانقلاب ما في الذمّة ـ من المثل ـ إلى القيمة.

والتعبير بالتأييد ـ دون الدلالة ـ لوجهين ، أحدهما : أنّه استشهاد بكلام الأكثر ، لا بدليل معتمد من نصّ أو إجماع ، ومن المعلوم أنّ فتوى الأكثر أو المشهور لا تصلح دليلا على حكم شرعيّ.

وثانيهما : أنّه يحتمل أن يريدوا أنّ الانقلاب إلى القيمة كان في يوم تعذّر المثل لا في يوم المطالبة. كما يحتمل أن يختصّ الحكم بباب القرض ، لا في جميع موارد الضمان حتى المقبوض بالبيع الفاسد.

(٢) الحاكي هو السيّد الفقيه العاملي ، قال قدس‌سره في شرح قول العلّامة : «ولو تعذّر المثل في المثليّ وجبت القيمة يوم المطالبة» ما لفظه : «كما في السرائر والتذكرة وجامع المقاصد ـ لما ستسمعه عنه في الدراهم ـ ومجمع البرهان والمسالك والكفاية والمفاتيح ، لأنّ الثابت هو المثل إلى أن يطالبه» (١).

(٣) استدراك على التأييد ، وغرضه قدس‌سره أنّ العلّامة قدس‌سره لم يعبّر بقيمة يوم المطالبة ، وإنّما قال في المختلف : «والأجود يوم الدفع» (٢). فبناء على وجوب رعاية قيمة يوم دفعها إلى المالك لا يتوقف انقلاب المثل المتعذّر إلى القيمة على مطالبة المالك ، بل نفس التعذّر موجب للانتقال. ومن المعلوم منافاة هذا لمذهب الأكثر ، ولا يصحّ التأييد المزبور.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٤٨.

(٢) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣٩٢.


فليتأمّل (١).

وكيف كان (٢) فلنرجع إلى حكم المسألة ، فنقول :

______________________________________________________

(١) لعلّه إشارة إلى : أنّه لا بدّ أن يراد بيوم المطالبة يوم الدفع أيضا ، ضرورة أنّ المطالبة بنفسها لا تصلح سببا لانتقال الحقّ من المثل إلى القيمة ، وإلّا لزم الانتقال إلى قيمة يوم المطالبة فيما إذا طالب ولم يقدر عليه الضامن ، أو عصى ولم يؤدّ القيمة إلى أن زادت أو نقصت ، ومن المعلوم أنّه ليس كذلك. فالتعبير بيوم المطالبة إنّما هو بالنظر إلى الغالب ، وهو اتّحاده مع يوم الدفع.

لكن يشكل هذا الحمل بأنّ العلّامة قدس‌سره نقل أوّلا فتوى ابن إدريس باعتبار يوم المطالبة ، ثم أورد عليه بأنّ الأجود قيمة يوم الدفع ، فكيف يمكن إرادة يوم واحد وهو يوم المطالبة والدفع المترتّب عليها حتى يكون اختلاف التعبير لفظيّا؟

فالأولى جعل الأمر بالتأمّل إشارة إلى كفاية نظر الأكثر في مقام التأييد لو صحّ في نفسه.

(٢) أي : سواء تمّ التأييد المزبور ـ بتوجيه يوم الدفع بيوم المطالبة ـ أم لم يتم ، فلنرجع إلى حكم المسألة ، وهذا شروع في الجهة الثانية ، وهو تعيين القيمة التي يجب على الضامن دفعها إلى المالك. فنقل المصنّف قدس‌سره قولين في بادئ الأمر ، ثم نقل احتمالات اخرى عن قواعد العلّامة.

أمّا القولان فأوّلهما للمشهور ، وهو اعتبار قيمة يوم الأداء ، وثانيهما للحلّيّ والعلّامة في بعض المواضع ، وهو اعتبار قيمة وقت تعذّر المثل.

واختار الماتن مذهب المشهور ، واستدلّ عليه بأنّ المثل لمّا لم يسقط عن ذمّة الضامن بمجرّد إعوازه فهو باق على عهدته إلى زمان أداء قيمته ، فإن دفعها سقط المثل ، وإلّا فلا ، فزمان الانتقال إلى القيمة هو زمان دفعها ، فيتعيّن رعايتها ، ولا عبرة بقيمة يوم التعذّر ، ولا أقصى القيم من زمان التلف أو الإعواز إلى الأداء.


إنّ المشهور (١) أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع ، لأنّ المثل ثابت في الذمّة إلى ذلك الزمان ، ولا دليل على سقوطه بتعذّره ، كما لا يسقط الدّين بتعذّر أدائه. وقد صرّح بما ذكرنا المحقّق الثاني (٢). وقد عرفت (٣) من التذكرة والإيضاح ما يدلّ عليه (٤).

ويحتمل (٥) اعتبار وقت تعذّر المثل. وهو للحلّيّ في البيع الفاسد ،

______________________________________________________

(١) كما في مفتاح الكرامة ، حيث قال بعد عبارته المنقولة (في ص ٣٨١) : «والحاصل : انّي لم أجد مخالفا منّا في ذلك ، بل ولا متأمّلا في هذا الباب إلّا قوله في الإيضاح : إنّ الاحتمال الرابع أصحّ ، وإلّا قوله في المفاتيح : وقيل وقت الإعواز» (١).

(٢) حيث قال ـ في ردّ القول بضمان أعلى القيم من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز ـ ما لفظه : «ويضعّف بأنّ المثل لا يسقط من الذمّة بتعذّره ، وأداء الدين لا يسقط بتعذّر أدائه ، ولهذا لو تمكّن من المثل بعد ذلك وجب المثل دون القيمة ، فما دام لم يأخذ المالك القيمة فالمثل باق في الذمّة بحاله» (٢).

(٣) قبل أسطر ، حيث قال : «وما ذكرنا يظهر من المحكيّ عن التذكرة والإيضاح .. إلخ» (٣).

(٤) أي : ما يدلّ على اعتبار قيمة يوم الدفع ، وكلام التذكرة والإيضاح وإن كان تعليلا لاشتراط دفع القيمة بمطالبة المالك ، لكنّه يدلّ أيضا على أنّ الملحوظ قيمة يوم الدفع ، لترتبه على المطالبة ، إذ لا عبرة بدفع القيمة التي لم يطالبها المالك من الضامن.

(٥) هذا الاحتمال هو القول الثاني في المسألة ، لا محض احتمال ، فإنّ ابن إدريس قدس‌سره اختاره في بعض موارد البيع الباطل ، حيث قال : «وإن أعوز المثل فعليه ثمن المثل

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٣.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٤.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٥.


وللتحرير في باب القرض (١) ، وعن محكيّ المسالك (٢)

______________________________________________________

يوم الإعواز» (١). خلافا لما اختاره في كتاب الغصب بقوله : «فإن أعوز المثل فله قيمته يوم إقباضها» (٢).

(١) قال السيّد العامليّ في إعواز المثل إذا كانت العين المقترضة مثليّة : «وقيل وقت التعذّر ، وهو خيرة التحرير ، ونسب إلى الشيخ في النهاية والقاضي وابن إدريس في موضع من كتابه فيما إذا تعذّرت الدراهم ، وهو خيرة الكتاب ـ يعني القواعد ـ في ذلك كما يأتي ، ويظهر من الإيضاح أيضا ، لأنّه وقت الانتقال إلى البدل الذي هو القيمة» (٣).

(٢) يعني : في بعض مواضع المسالك ، وهو ما أفاده في شروط العوضين ـ في عدم انعقاد البيع بحكم أحدهما ـ بقوله : «ولا يخفى أنّ هذا كلّه في القيميّ. أمّا المثليّ فيضمن بمثله ، فإن تعذّر فبقيمته يوم الإعواز على الأقوى» (٤).

لكن الشهيد الثاني قدس‌سره قوّى في باب القرض ضمان قيمة يوم المطالبة (٥) وفي باب الغصب قال : إنّ الأظهر عند الأصحاب قيمة يوم الإقباض ، فراجع.

وعليه كان المناسب التنبيه على أنّ قيمة يوم الإعواز ليست نظره بقول مطلق ، بل هي مختاره في خصوص كتاب البيع ، والعهدة على الحاكي الذي لم أظفر به ، ولم أجده في مفتاح الكرامة ، بل عدّ السيد الشهيد الثاني في المسالك من القائلين باعتبار قيمة يوم المطالبة ، كما تقدّمت عبارته (في ص ٣٨١).

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٨٥.

(٢) المصدر ، ص ٤٩٠.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٤٨.

(٤) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٧٤.

(٥) المصدر ، ص ٤٤٧.


لأنّه (١) وقت الانتقال إلى القيمة.

ويضعّفه (٢) أنّه إن أريد بالانتقال (٣) انقلاب ما في الذمّة إلى القيمة في ذلك الوقت (٤) فلا دليل عليه (٥). وإن أريد عدم وجوب إسقاط ما في الذّمّة إلّا

______________________________________________________

(١) أي : لأنّ وقت تعذّر المثل هو وقت الانتقال إلى البدل. وهذا التعليل متكرّر في كلمات أرباب هذا القول ، وقد نقله عنهم السيّد العامليّ قدس‌سره في عبارته المتقدّمة.

(٢) ضعّف المصنف قدس‌سره احتمال اعتبار ثمن المثل يوم الإعواز بما حاصله : أنّه إن أريد بالانتقال انقلاب ما في الذمة من المثل إلى القيمة في ذلك الوقت ـ أي وقت الإعواز ـ حتى لو لم يطالب المالك بها ، ففيه : أنّه لا دليل على سقوط المثل بمجرّد الإعواز وانتقاله إلى القيمة.

وإن أريد بالانتقال وجوب إسقاط ما في الذمة من المثل بالقيمة في صورة مطالبة المالك ، فهو وإن كان صحيحا. لكنّه لا يوجب سقوط المثل وثبوت القيمة في الذمّة. ولذا لو أخّر الاسقاط عذرا أو عصيانا بقي المثل في ذمّة الضامن إلى أن يتحقّق الاسقاط. وإسقاطه في كلّ زمان إنّما يتحقّق بأداء قيمته في ذلك الزمان ، وليس مكلّفا بإسقاطه بقيمة زمان آخر.

مثلا إذا كان ثمن المثل وقت تعذّره وإعوازه عشرة دنانير ، وبعد مضيّ شهر خمسة عشر دينارا ، فإن طالب المالك الضامن يوم التعذّر كان مكلّفا بأداء العشرة لإسقاط ما في ذمّته بها. وإن طالبه بعد شهر كان الضامن مكلّفا بأداء خمسة عشر دينارا ، ولا يكفي أداء عشرة دنانير حينئذ ، لأنّ تفريغ الذمّة في كلّ زمان منوط بدفع قيمة المثل في زمان الاسقاط ، لا قيمة الأزمنة السابقة. وعليه فلا عبرة بما اختاره جماعة من كون المدار ثمن المثل يوم إعوازه.

(٣) أي : في قولهم : «لأنّ يوم التعذّر وقت الانتقال إلى البدل الذي هو القيمة».

(٤) أي : وقت تعذّر المثل.

(٥) بل الدليل على خلافه موجود ، وهو عدم إناطة الحكم الوضعيّ ـ كالضمان ـ


بالقيمة ، فوجوب (١) الاسقاط بها (٢) وإن حدث يوم التعذّر مع المطالبة ، إلّا (٣) أنّه لو أخّر الاسقاط بقي المثل في الذمّة إلى تحقّق الاسقاط. وإسقاطه في كلّ زمان بأداء قيمته في ذلك الزمان (٤). وليس في الزمان الثاني (٥) مكلّفا بما (٦) صدق عليه الإسقاط في الزمان الأوّل (٧) ، هذا.

______________________________________________________

بالتمكّن ، فالعهدة مشغولة بالمثل حتى في وقت إعوازه.

(١) يعني : ففيه : أنّ وجوب الإسقاط بالقيمة وإن حدث يوم التعذّر مع المطالبة ، إلّا .. إلخ.

(٢) يعني : أنّ حدوث وجوب دفع القيمة يوم التعذّر مشروط بمطالبة المالك قيمة المثل في يوم التعذّر ، فلو لم يطالب لم يحدث يوم الإعواز وجوب دفع القيمة.

(٣) يعني : أنّ حدوث وجوب أداء القيمة يوم الإعواز لا يكفي في سقوط المثل عن الذمّة ، وانتقال الضمان إلى ثمن المثل. والشاهد على عدم تبدّل المثل بالقيمة بمجرّد التعذّر هو : أنّ المالك لو طالبه بها يوم الإعواز ـ حتى يسقط ما في ذمّة الضامن من المثل ـ ولكنّه لم يؤدّ القيمة في ذلك اليوم وأراد أداءها بعد شهر وجب عليه مراعاة القيمة الفعليّة ، لا قيمة يوم التعذّر. وهذا دليل على أنّ وقت الانتقال من المثل إلى القيمة هو يوم الأداء ، لا يوم الإعواز.

(٤) فإن أدّى قيمة يوم الإعواز ـ مع مطالبة المالك ـ كان هو المسقط لما في ذمّته ، وكان زمان انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة متحدا مع زمان الاسقاط. وإن أدّى القيمة بعد الإعواز بشهر لم تكف قيمة يوم التعذّر إذا كانت أقلّ من قيمة يوم الدفع.

(٥) وهو زمان إسقاط ما في الذمّة من المثل.

(٦) المراد بالموصول هو ثمن المثل المتعذّر يوم تعذّره.

(٧) وهو زمان تعذّر المثل مع مطالبة المالك بالقيمة ، فإنّه زمان حدوث وجوب القيمة ، ولكنّه ليس زمان إسقاط المثل ، ولا زمان انقلابه إلى القيمة.

هذا ما أفاده في تضعيف احتمال اعتبار قيمة يوم الإعواز ، وتثبيت مختار المشهور.


ولكن (١) لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدّم سابقا ـ من (٢) الآية ومن أنّ المتبادر من إطلاقات الضمان هو وجوب الرجوع إلى أقرب الأموال إلى التالف بعد تعذّر المثل ـ توجّه (٣) القول بصيرورة التالف قيميّا بمجرّد تعذّر المثل (٤) ، إذ لا فرق في تعذّر المثل بين تحقّقه ابتداء كما في القيميّات (٥) وبين طروّه بعد التمكّن كما فيما نحن فيه.

______________________________________________________

(١) استدراك على ما اختاره المشهور ـ من كون العبرة بقيمة يوم الدفع ـ وتأييد للقول باعتبار قيمة يوم الإعواز. وحاصل الاستدراك : أنّ مقتضيات الأدلّة مختلفة ، فإن استندنا إلى الجمع بين الحقّين ـ وأنّ تعذر المثل لا يسقطه عن الذمّة ـ اتّجه القول بضمان قيمة يوم الدفع. وإن استندنا في لزوم القيمة في المثل المتعذّر إلى آية الاعتداء وإطلاقات الضمان القاضية بلزوم الرجوع إلى أقرب الأموال إلى التالف اتّجه القول بانقلاب المثل بمجرّد تعذّره إلى القيمة ، إذ لا فرق في تعذّر المثل بين كونه بالأصالة كما في القيميّات ، وبين كونه بالعرض بعد التمكّن منه كما نحن فيه ، فيكون العبرة في انقلاب المثليّ إلى القيميّ يوم تعذّره وإعوازه ، لا يوم أدائه.

(٢) هذا وقوله : «ومن أنّ المتبادر» بيان للموصول في قوله : «ما تقدّم سابقا» أي : في الأمر الرابع. والمراد بالآية آية الاعتداء بالمثل التي استدلّ بها شيخ الطائفة قدس‌سره على ضمان المثليّ بالمثل ، والقيميّ بالقيمة.

(٣) جواب الشرط في قوله : «لو استندنا».

(٤) سواء طالبه المالك بقيمة المثل المتعذّر أم لم يطالبه بها ، وسواء أسقط الضامن ما في ذمّته يوم الإعواز أم أخّره إلى زمان آخر. والوجه فيه كون ثمن المثل أقرب إلى العين التالفة أو المتلفة عند تعذّر المثل ، فيكون يوم الإعواز وقت الانقلاب إلى القيمة.

(٥) فإنّ المثل متعذّر فيها بحسب الخلقة ، فالتعذّر في القيميّات ابتدائيّ ، بخلاف تعذّر المثل في المثليّ بعد التمكن من دفعه ، فإنّه عارضيّ.


ودعوى (١) اختصاص الآية وإطلاقات الضمان بالحكم بالقيمة بتعذّر المثل ابتداء لا يخلو عن تحكّم (٢) (*).

______________________________________________________

(١) غرض المدّعي الذبّ عن مقالة المشهور من ضمان قيمة يوم الدفع ، ببيان : أنّ الآية والإطلاق وإن اقتضيا اعتبار قيمة يوم الإعواز ، لكنّهما مختصّان بالتعذّر الابتدائيّ ، بأن لم يوجد مماثل التالف من أوّل الأمر ، فيقال بضمان القيمة يوم الإعواز. وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه من التعذّر الطاري ، فالذمّة مشغولة بالمثل ، لوجوده حال تلف العين ، وإعوازه لا يوجب الانقلاب إلى القيمة ، بل الموجب له هو الاسقاط بتسليم الثمن إلى المالك.

(٢) إذ المناط في كليهما تعذّر وجود المثل ، وهو جار في القيميّ والمثليّ الذي تعذّر وجوده ، سواء أكان طارئا أم ابتدائيّا. ولا مقيّد في البين حتى تختصّ الآية بالتعذّر البدويّ.

لكن يمكن إبداء الفرق بينهما بأنّ اعتبار المثل في القيميّ لغو ، إذ المفروض عدم كونه مرجوّ الحصول ، بخلاف المثل المتعذّر في المثليّ ، فإنّه مرجوّ الحصول. وهذا الفرق يوجب الفرق بين القيميّ والمثليّ المتعذّر المثل عند العرف المحكّم في باب الضمانات ، فإنّ تضمين الضامن بالمثل في القيميّات لا أثر له ، فيلزم اللغويّة بل الامتناع ، لكونه من التكليف بغير المقدور ، إذ لا يرجى وجوده في زمان حتى يصحّ إشغال ذمّته بالمثل ، فمن أوّل الأمر يجعل في ذمّته القيمة. فلا تحكّم في الفرق بين القيميّ المتعذّر مثله إلى الأبد وبين المثليّ المتعذر مثله المرجوّ وجوده بعد حين ، بانقلاب القيميّ بمجرّد إعوازه إلى القيمة ، وانقلاب المثل المتعذر إلى القيمة يوم الدفع.

وقد تحصّل من كلمات المصنّف قدس‌سره : أنّ المشهور بين الأصحاب اعتبار قيمة يوم الدفع ، وغير المشهور هو اعتبار قيمة يوم إعواز المثل. وسيأتي الكلام في وجوه اخرى ذكرها العلّامة في التذكرة والقواعد.

__________________

(١) قد يتمسك لإثبات القيمة بقاعدة الميسور ، بتقريب : أنّ دفع المثل الواجد.


.................................................................................................

__________________

للصفات النوعيّة معسور ، فيسقط وجوب أدائه ، ويبقى الميسور وهو نفس الماليّة ، فيجب أداؤها.

لكن فيه : أنّ المثل والقيمة متباينان ، وليسا من قبيل المركّب المتعذّر بعض أجزائه ، فلا تكون القيمة ميسورا للمثل حتى تجري فيها قاعدة الميسور.

ثم إنّ ما أفاده ، المصنّف قدس‌سره من «أنه ليس للضامن إلزام المالك بقبول القيمة عند إعواز المثل وعدم مطالبة المالك» مبنيّ على ما نسب إلى المشهور في باب الضمان من اشتغال الذمّة بالمثل في المثليّ معلّقا على التلف في صورة البقاء ، ومنجّزا في صورة التلف ، إذ بناء عليه يكون المثل في الذمّة ، وإعوازه لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، فإذا صبر المالك إلى أن يوجد المثل فليس للضامن إلزامه بالقيمة.

وأمّا بناء على كون الثابت على عهدة الضامن نفس العين ، فمع إعواز المثل يجوز دفع القيمة ولو مع عدم مطالبة المالك ، وليس له الامتناع عن قبولها ، لأنّ القيمة حينئذ نحو أداء للعين بجهتها الماليّة ، كما أنّ المثل أداء للعين بجهتها النوعيّة مراعاة لحال المالك ، لكونه أقرب إلى التالف. فمع إعواز المثل ومطالبة القيمة يجب أداؤها ، لأنّه مع تعذّر المرتبة الكاملة يجب دفع النازلة.

وقد وجّه هذا المبنى ـ أي : اشتغال الذمّة بنفس العين ، الموجب لجواز مطالبة قيمة المثل ووجوب أدائها على الضامن ـ بوجوه :

الأوّل : حديث «على اليد» بدعوى : ظهوره في أنّ الثابت في الذمّة ولو بعد التلف نفس العين بخصوصيّتها الشخصيّة والنوعيّة والماليّة.

وفيه أوّلا : عدم دلالة حديث «على اليد» على الضمان ، بل يدلّ على الحكم التكليفيّ وهو وجوب الأداء ما دامت العين موجودة ، فتأمّل.

وثانيا : ـ بعد تسليم دلالته على الضمان ـ أنّه لا يفهم العرف منه إلّا ضمان المثليّ


.................................................................................................

__________________

بالمثل والقيميّ بالقيمة ، واعتبار كون العين على العهدة قيد زائد لا ينتقل إليه أذهان أبناء المحاورة. بل يمتنع اشتغال الذمّة بالعين بخصوصيّاتها المشخصة ، لامتناع أدائها بعد تلفها ، فلا تشتغل الذمّة إلّا ببدلها من المثل أو القيمة.

وثالثا : أنّه لم يثبت كون دليل الضمان بالمثل أو القيمة لمراعاة حال المالك حتى يكون له الاعراض عن مرتبة والأخذ بمرتبة أخرى ، ولذا لو كان المثل موجودا ليس له الاعراض عن المثليّة ومطالبة القيمة ، بل يجب عليه قبول المثل.

الثاني : أنّ اليد إذا وقعت على العين وقعت عليها بخصوصيّتها الشخصيّة والنوعيّة والماليّة ، فجميع تلك الجهات تقع على عهدته. ومقتضى دليل السلطنة جواز إلقاء المالك خصوصيّة المثليّة ، ومطالبة خصوصيّة الماليّة. من غير فرق في ذلك بين كون مقتضى دليل اليد عهدة نفس العين بشؤونها ، وبين كونه ضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ ، حيث إنّ ضمان المثل وكونه على العهدة متضمّن لضمان القيمة أيضا ، فله إلقاء جهة المثليّة ومطالبة القيمة.

وفيه ـ مع أنّ لازم ذلك جواز إلقاء خصوصيّة المثل والعين وجواز مطالبة القيمة حتى مع وجود العين والمثل ، وهو كما ترى ـ أنّ دليل الضمان لا يدلّ إلّا على ضمان نفس العين على المبنى الأوّل ، والمثل في المثليّ على المبنى الثاني. وليس في ضمان العين ضمانات ، ولا في ضمان المثل ضمانان عرضا أو طولا حتى يصحّ للمالك إسقاط جهة ومطالبة جهة أخرى ، إذ ليست شؤون العين مضمونة ، بل المضمون نفس العين التي لها مثل وقيمة ، وهكذا المثل على المبنى الثاني.

وأمّا دليل السلطنة على الأموال فلا يقتضي جواز مطالبة غير ما على عهدة الضامن وهو المثل في المثليّ ، ولا معنى لاقتضائه أداء القيمة إلّا إذا قيل بتبدّل المثل بالقيمة عند الإعواز ، وهو أوّل الكلام.


.................................................................................................

__________________

الثالث : ما في المتن من : أنّ منع المالك ظلم ، وإلزام الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر ، ومقتضى الجمع بين الحقّين وجوب القيمة.

وفيه : أنّ كون منع المالك عن القيمة ظلما منوط بثبوت القيمة على عهدة الضامن ، وهو أوّل الكلام ، ومع ضمان المثل إلزام الضامن بغير ما للمضمون له لعلّه ظلم.

ودعوى «اشتمال المثل على الماليّة ، فتعذّره لا يسلب سلطنة المالك عن الماليّة ، فله مطالبة القيمة» مدفوعة بما مرّ آنفا من عدم كون شؤون العين مضمونة. فالعهدة لا تشتغل إلّا بالمثل ، لا به وبالقيمة ، ولا دليل على كون التعذّر بمجرده موجبا للانقلاب كما تقدّم.

نعم إذا تعذّر المثل إلى الأبد أو إلى أمد بعيد كان منع المالك عن القيمة ظلما. فإطلاق كلام المصنّف القاضي بوجوب القيمة مع التعذّر ولو إلى أمد قريب محلّ النظر.

كما أنّ ما أفاده من الجمع بين الحقّين أيضا محلّ التأمّل ، لأنّ نفي الإلزام بالتعذّر غير ثبوت الحق للضامن ، كما أنّه ليس للمالك حقّ المطالبة مع تعذّره ، وحقّ مطالبة القيمة له غير ثابت مع اشتغال الذمّة بالمثل فقط.

الرابع : ما في المتن أيضا من التمسّك بقوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) حيث إنّ الضامن إذا ألزم بالقيمة مع تعذّر المثل لم يعتد عليه أزيد ممّا اعتدى.

وكذا إطلاقات أدلّة الضمان ، إذ المتبادر منها وجوب الرجوع إلى ما هو الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل ، وهو القيمة. فالتعذّر يوجب الانتقال إلى القيمة ، كالتعذّر الابتدائي في القيميّات. ولا فرق بين التعذّر الابتدائيّ والعارضيّ.

وفيه أوّلا : أنّ الآية وردت في الاعتداء الحربيّ ، وليست راجعة إلى باب الضمان أصلا.

وثانيا : أنّه ـ بعد الغضّ عمّا ذكر ـ لا يكون إلزام الضامن بالقيمة اعتداء بالمثل ، بل بغيره ، ولم يرخّص الشارع فيه.


.................................................................................................

__________________

إلّا أن يقال : إنّ القيمة اعتداء بالمثل ، لمماثلتها للتالف في المالية.

ولو سلّم دلالة الآية على عدم الاعتداء زائدا على مقدار اعتداء الغاصب أو الضامن ، لكن لا تدلّ على جواز الاعتداء بكلّ شي‌ء لا تزيد ماليّته على ماليّة المضمون ، لعدم كون الآية في مقام بيان ذلك ، حيث إنّها بصدد بيان المنع عن التعدّي بالزيادة ، لا جواز الأخذ بكل ما لا يزيد ماليّته عن ماليّة المضمون.

وثالثا : أنّه فرق بين التعذّر الابتدائيّ كالقيميّات والتعذّر العارضيّ ، بأنّ التعذّر العارضيّ لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، لرجاء وجود المثل فيه. بخلاف الابتدائي ، فإنه لا يرجى وجوده ، فالتكليف بدفع المثل فيه ممتنع ، فلا يمتنع فيه التكليف بدفع المثل.

الخامس : أنّ صبر المالك إلى أن يوجد المثل ضرر عليه ، وهو منفي ، فله المطالبة بالقيمة.

وفيه أوّلا : أنّ التأخير ليس ضررا دائما ، فالدليل أخصّ من المدّعى.

وثانيا : أنّ لزوم التأخير لتعذّر المثل عقليّ ، وليس بشرعيّ حتى يرفع بقاعدة الضرر.

وثالثا : أنّ شأن قاعدة الضرر نفي الحكم ، لا إثبات أمر مباين أو مخالف ، كإثبات القيمة مع ضمان المثل.

ومنه يظهر الكلام في دليل نفي الحرج لو كان التأخير حرجيّا.

السادس : بناء العقلاء على مطالبة القيمة عند تعذر المثل ، وإلزام الضامن بأدائها.

وفيه : أنّ المتيقّن منه ـ بعد ثبوته واتّصاله بزمان المعصوم عليه‌السلام ـ هو تعذّر المثل إلى الأبد ، أو إلى أمد بعيد جدّا. وأمّا إذا كان أمد التعذّر قليلا فلا.

السابع : الالتزام بانقلاب المثل بمجرّد التعذّر إلى القيمة ، بتقريب كون الوضع منتزعا عن التكليف ، ومن المعلوم امتناع التكليف بأداء المتعذّر. وعدم سقوط الضمان


.................................................................................................

__________________

رأسا ، لأنّ سقوطه مخالف للضرورة ، فالتكليف لا محالة يتوجّه إلى أداء القيمة. وينتزع من هذا التكليف الحكم الوضعيّ أعني به اشتغال الذمّة بالقيمة ، وهو المطلوب. فللمالك مطالبة القيمة. فالتعذّر أوجب التكليف المنتزع عنه الشغل المترتّب على انقلاب المثل إلى القيمة ، وليس للضامن التأخير.

وفيه : مع إمكان استقلال الوضع وعدم تبعيّته للتكليف فعلا كما في إتلاف الصبيّ مال غيره ـ فإنّه ضامن مع عدم تكليف فعليّ عليه بوجوب الأداء ـ فلا ينتزع عن وجوب أداء القيمة اشتغال الذمّة بالقيمة ، إذ من الممكن كون ذمّته مشغولة بالمثل ، ومع ذلك جاز للمالك مطالبة الضامن بالقيمة ، لعدم إمكان وصوله إلى المثل. وحبس ماله إلى زمان وصوله إلى المثل ضرر عليه ، وهو منفيّ.

والحاصل : أنّ سلطنة المالك على مطالبة القيمة ووجوب أدائها على الضامن ليست لانقلاب المثل إليها ، بل لأقربيّتها إليه في مقام التأدية.

وهذا نظير بدل الحيلولة ، والقول بأن ظاهر قاعدة اليد ضمان نفس العين ، وأداء المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ نحو أداء لها من غير انقلاب العين إليهما.

الثامن : لغويّة جعل المثل المتعذّر في الذمّة سيّما إذا كان التعذّر إلى الأبد. وكذا التكليف بأدائه ، بل هو ممتنع ، لعدم القدرة عليه ، فلا محالة ينقلب المثل بمجرّد تعذّره إلى القيمة.

وفيه : أنّه لا يلزم اللغويّة مطلقا. أمّا في صورة تعذر المثل إلى أمد قريب فواضح. وأمّا مع تعذّره إلى الأبد فلأنّ بقاء المثل في الذمة يوجب اعتبار قيمة يوم الدفع ، بخلاف ما إذا قلنا بتبدله بمجرّد التعذّر ، فإنّ المدار على قيمة يوم التعذّر.

فالمتحصل : أن الوجوه المستدل بها على الانقلاب لا تخلو من مناقشة.

نعم لا بأس ببناء العقلاء المحكّم في باب الضمان على اعتبارهم القيمة


.................................................................................................

__________________

بمجرّد تعذّر المثل ، بمعنى انقلاب ما في ذمّة الضامن من المثل إلى القيمة ، أو بمعنى سلطنة المالك على مطالبة ماليّة ماله وإن كان المثل في ذمة الضامن. وذلك إمّا لكون المثليّة من حقوق المالك ، وله إسقاطها. وإمّا لكون الصبر ضررا عليه.

لكن ينبغي تقييد سلطنة المالك على مطالبة القيمة بما إذا لم يكن دفع القيمة مضرّا بحال الضامن أزيد من الضرر الوارد من نفس الضمان ، وإلّا فليس للمالك مطالبة القيمة ، إلّا إذا كان الضمان اعتدائيّا ، كما إذا غصب الضامن أو قبض المبيع مع علمه بفساد المعاملة ، فإنّ الإقدام حينئذ يوجب جواز المطالبة منه بالقيمة وإن كانت ضررا عليه.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّه لا دليل على انقلاب المثل عند إعوازه إلى القيمة وإن قلنا بجواز مطالبة القيمة لجهة من الجهات ، فإنّ إعواز المثل لا يخرج المضمون عن المثليّة ، ولذا لو فرض الإعواز في مدّة طويلة ثم وجد المثل وجب بحكم العقلاء أداء المثل ، ووجب على المالك قبوله ، وليس له الامتناع. ولو امتنع ردّه إلى الحاكم.

فأداء القيمة عند إعواز المثل نحو أداء له في هذه الحالة من دون انقلاب العين إليها ، فإنّ انقلاب المباين إلى مثله بمجرّد التعذّر ممّا لا يساعده دليل ، إذ بقاؤه في الذمّة ليس منوطا بوجوده خارجا ، وإلّا لم يصحّ إحداثه كما في السّلم ، فإنّ بيع حنطة في الذمّة إلى أجل معلوم مع عدم وجودها حين البيع صحيح بلا إشكال. فلو كان وجود الكلّيّ خارجا شرطا لاشغال الذمّة بالكلّيّ لم يصحّ بيع السلف في هذه الصورة أصلا.

ومنه يظهر عدم الإشكال في بقائه على الذمّة ، وعدم انقلابه بمجرّد إعواز أفراده إلى كلّيّ آخر ، فإنّ البقاء لا يزيد على الحدوث ، فعدم وجود المثل في الخارج لا يوجب انقلاب الحقيقة المثليّة إلى الحقيقة القيميّة المباينة لها ، إذ ليس الميزان في القيميّ عدم وجود المثل له في الخارج.

والحاصل : أنّ إعواز المثل لا يوجب خروج الشي‌ء عن المثليّة ، وهو الموافق لارتكاز العقلاء أيضا في باب الضمانات ، ولذا لو أعوز المثل مدّة طويلة ، ثم وجد


.................................................................................................

__________________

فللمالك مطالبته ، وليس له الامتناع عن قبوله إذا دفعه الضامن إليه كما تقدّم آنفا. كما أنّه بناء على انقلاب المثليّ بمجرّد تعذّر المثل إلى القيمة يجب على المالك قبول القيمة ، وليس له الامتناع ، لأنّه لا حقّ له في المثل حتى يصبر إلى أن يوجد ، بل حقّه نفس القيمة ، فيجب عليه قبولها ، وإن لم يقبلها تردّ إلى الحاكم.

وممّا ذكرنا من عدم مساعدة ارتكاز العقلاء على انقلاب المثل إلى القيمة بمجرّد إعوازه ـ وأنّ هذا الارتكاز هو الموجب لانصراف أدلّة الضمان إليه ـ يظهر ما في كلام المصنّف قدس‌سره : «ولكن لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدّم سابقا من الآية ومن أنّ المتبادر .. إلخ» من الإشكال ، إذ لا يستفاد منها إلّا الضمان العقلائيّ الذي قد عرفت أنّه ليس ضمان المثليّ إلّا بالمثل ، سواء أعوز المثل أم لا ، فإنّ الإعواز لا يوجب خروج الشي‌ء عن حقيقته.

فالمتحصّل : أنّ تعذّر المثل لا يوجب انقلاب المال المثلي إلى القيميّ.

ثمّ إنّ في زمان اعتبار القيمة احتمالات ووجوها كثيرة ، وتحقيق ما هو الحقّ منها موقوف على بيان أمور :

الأوّل : أنّه قد مرّ سابقا عدم الدليل على انقلاب المثل عند تعذّره إلى القيمة ، وإن كان المستند في لزوم القيمة آية الاعتداء والمتبادر من إطلاق الضمان ، ببيان : أنّ الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل هو القيمة ، فينقلب المثل عند إعوازه إلى القيمة.

وذلك لما عرفت من أنّ إعواز أفراد طبيعة لا يوجب الانقلاب إلى طبيعة أخرى ، فإنّ المثليّ ـ كما تقدّم سابقا ـ مغاير للقيميّ ومباين له ، فكيف تنقلب المثليّة الى القيميّة بإعواز أفراد المثليّ؟ نعم القيمة عند تعذّر المثل أقرب إلى التالف في مقام التأدية ، وهذا غير الانقلاب.

الثاني : أنّ مقتضى «على اليد ما أخذت» ضمان العين المأخوذة بجميع صفاتها الحقيقيّة والانتزاعيّة والإضافيّة ممّا لها دخل في الرغبات واختلاف القيم ، فالدابّة مثلا


.................................................................................................

__________________

بمالها من الصفات المزبورة وكذا الثلج المأخوذ في الصيف وفي قارّة أفريقا مضمونان على المستولي عليهما ، ولذا يكون وصف الصحّة مضمونا ، لوقوعه تحت اليد تبعا ، فإذا كانت العين المغصوبة أو المقبوضة بعقد فاسد موجودة وجب ردّها مع أداء قيمة الصفات التالفة.

وإذا تلفت وجب ردّ مثلها بصفاتها إن كانت مثليّة ، وإن كانت قيميّة وجب ردّ أعلى القيم من زمن الغصب أو الأخذ بالبيع الفاسد إلى زمان التلف ، إن كان ارتفاع القيمة لأجل الصفات ، لا لزيادة القيمة السوقيّة التي لا ترجع إلى وصف من أوصافها.

الثالث : أنّ الاحتمالات في زمان اعتبار القيمة كثيرة ، ونذكر مهمّاتها ومهمّات مبانيها.

ومحصّل الكلام فيها : أنّه إمّا أن نقول بأنّ مقتضى أدلّة الضمان هو وقوع العين في العهدة في المثل والقيميّ حتى حال التلف والتعذّر ، ولا تنقلب إلى غيرها إلى زمان الأداء بالمثل أو القيمة.

وإمّا أن نقول بأنّ مقتضاها ضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ ، بمعنى : أنّ العين إذا تلفت يقع على العهدة بدلها ، وهو المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ.

وعلى هذا الاحتمال إمّا نقول ببقاء المثل على العهدة إلى وقت الأداء حتى مع إعوازه مطلقا ، وأنّ دفع القيمة إلى المالك عند التعذّر نحو أداء للمثل. وإمّا نقول بانقلابه بمجرّد التعذّر إلى القيمة. وبانقلاب العين في الاحتمال الأوّل ، وهو وقوع العين على العهدة وقت تعذّر الأداء.

هذه هي الاحتمالات المعتدّ بها من الاحتمالات المتصورة في المقام.

فإن قلنا بالاحتمال الأوّل ـ وهو كون العين على العهدة ـ فعن بعض المحقّقين : أنّ الاعتبار بقيمة يوم الأداء ، ببيان : أنّ ماليّة العين حال الأداء لا تحتاج إلى عناية ، بخلاف غير حال الأداء كحال التعذّر أو التلف أو المطالبة ، فإنّها تحتاج إلى عناية ومعيّن.

بل نفس التكليف بأداء ماليّة العين تقتضي تعيّن ماليّتها عند تعلّق الأداء بها ، لأنّها


.................................................................................................

__________________

قيمتها بالفعل ، وهي نحو أداء للعين. والتكليف وإن لم يتعلّق إلّا بنفس العين دون القيمة ، إلّا أنّ عدم إمكان ردّها بنفسها أوجب المصير إلى ماليّتها ، إذ المضمون هو العين بماليّتها ، دون ذات العين بدون الماليّة. فنفس دليل الضمان يقتضي ضمان ماليّة المضمون ، ولا يحتاج ضمانها إلى دليل آخر. وتقييد ماليّتها بغير وقت الأداء محتاج إلى مئونة زائدة ، فمقتضى الضمان العرفيّ الممضى شرعا هو قيمتها الفعليّة.

فلا يرد عليه : أنّ هذا التقريب قاصر عن إثبات مطلوبهم ، لأنّ التكليف على هذا المبنى لم يتعلّق بأداء القيمة والماليّة ، ضرورة عدم انقلاب العين إلى القيمة ، وليس دليل لفظيّ دالّ على وجوب أداء قيمة العين حتى يستظهر منه ما ذكر ، هذا.

نعم الإشكال في أصل المبنى «بعدم دليل على وقوع العين في العهدة بعد التلف مع عدم إمكان أدائها أصلا» في محلّه ، لاحتياجه إلى عناية زائدة ، فإنّ اعتبار وجود العين على العهدة ممّا لا يتبادر في أذهان العقلاء الحاكمين بالضمان. بل تلف العين يوجب اشتغال الذمّة ببدلها مثلا أو قيمة. كما أنّ تلف المثل يوجب الانتقال إلى البدل إلّا مع رجاء وجود المثل في زمان غير بعيد ، هذا.

وقد يقال : باعتبار قيمة يوم التلف مع فرض كون العين على العهدة ، ببيان : «أنّ الماليّة بلحاظ حال التلف ماليّة حقيقية موجودة مضمونة. وأمّا الماليّة قبل التلف فهي موجودة ، لكنّها غير مضمونة ، ولذا لا يجب تداركها مع دفع العين إذا نقصت قيمتها.

والماليّة بعد التلف ليست موجودة ، بل مفروضة بفرض وجود العين ، ولا تدارك حقيقة إلّا للماليّة المتحقّقة بتحقّق العين ، لا الماليّة المقدّرة للعين المفروضة.

فالنتيجة هي الاعتبار بقيمة يوم التلف ، لا يوم الأداء كما هو مقتضى الوجه الأوّل.

نعم إنّما تكون العبرة بيوم الأداء إذا قلنا بأنّ مقتضى أدلة الضمان كون الثابت على العهدة المثل لا العين ، لأنّ المثل ثابت عليها إلى زمان الأداء ، فالاعتبار بيومه ، لأنّ المثل كلّي ثابت في الذمة له ماليّة موجودة لا مفروضة. وهو الفارق بين بقاء العين على العهدة


.................................................................................................

__________________

إلى زمان التفريغ ، وبقاء المثل إلى زمان الأداء ، فإنّ العين حيث كانت شخصيّة وقد تلفت فلا وجود ولا ماليّة لها إلّا بالفرض. بخلاف المثل ، فإنّه كلّيّ لا يتوقّف اشتغال الذمّة به على وجود شي‌ء يطابقه خارجا ، فلا تلف له ، فماليته حال الأداء متحققه لا مفروضة» (١).

وفيه : أنّ الفرق بين بقاء العين على العهدة إلى زمان التفريغ ، وبقاء المثل إلى زمان الأداء غير ظاهر ، لأنّ ماليّة الكلّيّ ليست باعتبار نفسه ، بل باعتبار ماليّة مصاديقه المحقّقة أو المقدّرة ، فمصاديقه التي تكون تحت قدرة الضامن جهة تعليليّة لصيرورة الكلّيّ في الذمّة مالا ، نظير الأوراق النقديّة ، فإنّ ماليّتها باعتبار الذهب أو الفضّة أو غيرهما ممّا جعل بإزائها ومنشأ لماليّتها ، ويقال لها : «رصيد».

وعليه فالكلّيّ إذا كان على ذمّة معتبرة ـ أمكن لصاحبها إيجاد مصاديقه مهما أراد ، أو يطالب آجلا أو عاجلا ـ يكون مالا ، ومع عدم الإمكان مطلقا لا تعتبر له الماليّة ، فكما أنّ ماليّة الكلّيّ باعتبار غيره وهو مصاديقه ، فكذلك ماليّة العين التي هي في الذمّة باعتبار أنّها مضمونة ، وأنّ صاحب الذمة قادر على أدائها بمثلها أو قيمتها. والعين المعدومة خارجا غير معدومة في صقع الاعتبار ، ولها ماليّة باعتبار إمكان تأديتها بالمثل أو القيمة.

فلا فرق بين الكلّيّ في الذمّة. والعين فيها ، لا من جهة المعدوميّة من جهة والموجوديّة من أخرى ، فإنّ كلّا منهما معدوم خارجا وموجود اعتبارا. ولا من جهة الماليّة ، لأنّ كلّا منهما بذاته مع الغضّ عن إمكان تحقّق مّا لا مالية له. ولهذا لا يعتبر الكلّيّ في ذمّة من لا يقدر على إيجاد مصداقه عاجلا ولا آجلا ، ولا ماليّة له. فالعين المعتبرة في ذمّة من أمكنه أداء مثلها أو قيمتها مال ، والمسألة عقلائيّة لا عقليّة ، فالاعتبار على هذا المبنى ـ أي كون العين في الذمّة ـ بقيمة يوم الأداء مع اعتبار جميع الأوصاف الدخيلة في الرغبات.

__________________

(١) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني ، ج ١ ، ص ٩٤.


.................................................................................................

__________________

وأمّا ما أفيد من «عدم ضمان الماليّة قبل التلف وإن كانت موجودة» فإن أريد بها القيمة السوقيّة فلا بأس به ، لما قيل من أنّ مجرّد زيادة القيمة السوقيّة ما لم ترجع إلى وجود وصف أو فقدانه لا توجب الضمان ، لعدم مساعدة العرف عليه ، إذ القيمة معتبرة بإزاء الشي‌ء وصفاته الموجبة للرغبات ، ولا تلاحظ القيمة وصفا لنفس الشي‌ء.

وإن أريد بها الأعمّ منها ومن الأوصاف الدخيلة في الرغبات ، فهي مضمونة بدليل الضمان كما تقدّم.

وعليه فالأولى أن يقال : إنّ مقتضى هذا المبنى ـ أي : كون العين في الذمّة ـ وجوب الخروج عن عهدة العين التي في عهدته. بأداء قيمتها التي هي نحو أداء لها ، والعرف يحكم بأنّ أداءها يتحقق بأداء قيمتها الفعلية ، لا القيم الأخر ، فلو كان قيمتها حال الأداء مائة مثلا وقبله خمسين ، فأداء الخمسين ليس نحو أداء لها.

وكذا الحال بناء على كون مفاد دليل الضمان ضمان المثل في المثليّ والقيمة في القيميّ ـ في قبال المبنى المتقدّم وهو ضمان نفس العين ـ فإنّه بناء على بقاء المثل في الذمة إلى وقت الأداء وعدم انقلابه بالتعذّر إلى القيمة يجري فيه ما مرّ من كون العبرة بقيمة يوم الأداء.

وأمّا بناء على انقلاب المثل بتعذّره إلى القيمة ، فإن كان التعذّر بدويّا أي من زمان تلف العين ـ فالعبرة بقيمة العين يوم التلف ، لأنّه يوم الانقلاب إلى القيمة.

ولا وجه لاعتبار قيمة الأزمنة المتخللة بين تلف العين وأداء القيمة ، إذ القيمة في تلك الأزمنة فرضيّة لا حقيقيّة. فالضمان إنّما ثبت في الماليّة الموجودة ، وهي زمان تلف العين ، فالقيمة قيمة العين ، لا قيمة المثل حتى يلاحظ قيمة يوم الأداء ، نظرا إلى ثبوت كلّيّ المثل في الذمّة إلى زمان الأداء.

وإن كان التعذّر طارئا ، فعلى القول بكون المثل والقيمة كليهما غرامة نفس العين ـ وأنّ ضمان المثل في المثليّ لسدّ خلل مال الغير بمقدار الإمكان ، وهو ماهيّته النوعية ،


.................................................................................................

__________________

ومع عدم الإمكان من هذه الجهة لا بدّ من ضمان قيمتها ، لأنّها سدّ لخللها في هذا الحال بالمقدار الممكن ـ فلا بدّ حينئذ من اعتبار قيمة يوم تلف العين أيضا.

وعلى القول باشتغال العهدة مع التعذّر الطاري بالمثل فلا بدّ من الخروج عن عهدته ، لا عهدة العين ، إذ المفروض عدم اشتغال الذمّة بها ، بل بالمثل ، فلا وجه لاعتبار قيمتها ، فالعبرة حينئذ بقيمة المثل يوم التعذّر.

هذا بناء على ضمان المثل في المثليّ. وأمّا بناء على كون العين على العهدة إلى زمان تعذّر المثل ثم انقلابها إلى القيمة ، فالمدار على قيمة يوم تعذّر المثل ، لأنّه وقت انقلابها إلى القيمة.

فالمتحصّل : أنّه بناء على وقوع العين على العهدة تكون العبرة بقيمة يوم الأداء.

وبناء على وقوع المثل في الذمّة ففي تعذّره البدويّ تكون العبرة بقيمة يوم تلف العين ، لأنّه زمان انقلاب العين بالقيمة ، فيكون كتلف القيميّ في كون العبرة بقيمة يوم التلف.

وفي تعذّره الطاري تكون العبرة أيضا بقيمة يوم تلف العين بناء على كون المثل والقيمة كليهما غرامة نفس العين. وبقيمة يوم تعذر المثل بناء على اشتغال الذمّة بالمثل ، لا قيمة العين التالفة ، لعدم اشتغال الذمّة بالعين ، فلا وجه لاعتبار قيمتها ، هذا.

تتمة : اعلم أنّ من الأقوال اعتبار أعلى القيم من حين أخذ العين إلى زمان التلف. ووجهه ما أشير إليه سابقا من كون العين بجميع أوصافها الدخيلة في الرغبات مضمونة ، فالقيمة العالية الناشئة من الأوصاف الثابتة له حال الأخذ مضمونة ، لوقوع الأوصاف تبعا للعين تحت اليد ، فلو تنزّلت قيمتها بعد الأخذ كان الضمان باقيا ، فمع تلف العين تصير قيمتها العالية مضمونة.

وأمّا بعد التلف فلا وجه لضمان زيادة قيم الأمثال إلى حين تعذّر المثل أو الأداء ، لأنّ العين التالفة خرجت عن تحت اليد ، ووقوعها على العهدة على القول به ـ أو وقوع


.................................................................................................

__________________

مثلها على القول الآخر ـ مغاير لكونهما تحت اليد الذي هو الموجب للضمان ، فلا وجه لضمان زيادة قيم أمثال العين في صورة وقوع المثل على الذمّة ، أو العين المفروضة الوجود في صورة وقوع العين بوجودها الاعتباري على الذمّة ، فيسقط كثير من الاحتمالات كأعلى القيم من حين الأخذ إلى حين الإعواز أو المطالبة أو الأداء ، أو من حين التلف إلى زمان الإعواز ، أو غيره مما ذكر.

فما قيل من : «أن الانقلاب إلى القدر المشترك بين العين والمثل أي أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان إعواز المثل وجيه ، لأنّ القول بضمان القيميّ بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف ينتج في المقام ضمانه بأعلى القيم من زمان أخذ العين إلى زمان إعواز المثل ، لأنّ معنى الضمان بأعلى القيم هو استقرار مراتب القيمة السوقيّة في عهدة الضامن بشرط تلف المضمون ، فإذا تعذّر ردّ المثل بقي ارتفاع قيمته على العهدة ، كما أنّ ارتفاع قيمة العين أيضا عليها» (١).

ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لما مرّ آنفا من أنّ الموجب للضمان هو كون الشي‌ء تحت اليد. وأمّا كونه على العهدة فهو مغاير لما يوجب الضمان ، ولذا لو كان عليه صاع من الحنطة بسبب القرض أو البيع ولم يؤدّ مع المطالبة لم يضمن ارتفاع قيمته ، إذ لا وجه للضمان بعد عدم كون ما على العهدة تحت اليد. فالقول بضمان أعلى القيم في الغصب إلى زمان التلف لا ينتج ما ذكر من ضمان أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان إعواز المثل.

وتوهّم شمول آية الاعتداء لذلك بتقريب : أنّ عدم أداء العين والمثل حين ارتفاع قيمته اعتداء يعتدى فيه بالمثل ، وهو القيمة ، فاسد ، لأنّ الاعتداء مع المطالبة اعتداء في تأخير أداء ما في ذمّته ، لا اعتداء في قيمته.

مضافا إلى عدم دلالة الآية الشريفة على الضمان كما مرّ مرارا.

والحاصل : أنّ ما ذكر ليس له وجه ، فضلا عن كونه وجيها.

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٤٢.


ثمّ إنّ في هذه المسألة (١) احتمالات أخر (٢) ، ذكر أكثرها في القواعد (٣) ، وقوّى بعضها في الإيضاح ، وبعضها بعض الشافعيّة.

______________________________________________________

الوجوه المحتملة في قيمة المثل المتعذّر ، ومبانيها

(١) أي : مسألة تعذّر المثل.

(٢) أي : غير اعتبار القيمة يوم تعذّر المثل الذي نسبه إلى الحلّيّ في البيع ، وإلى التحرير في باب القرض.

(٣) قال العلّامة قدس‌سره فيه : «ولو تلف المثليّ في يد الغاصب والمثل موجود فلم يغرمه حتى فقد ، ففي القيمة المعتبرة احتمالات : الأوّل : أقصى قيمته من يوم الغصب إلى التلف ، ولا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال. الثاني : أقصى قيمته من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز. الثالث : أقصى القيم من وقت الغصب إلى الإعواز. الرابع : أقصى القيم من وقت الغصب إلى وقت دفع القيمة. الخامس : القيمة يوم الإقباض» (١).

وأضاف إلى هذه احتمالات أخرى في غصب التذكرة ، فراجع.

ولا يخفى أنّ الاحتمال الخامس هو مذهب المشهور الذي اختاره المصنّف ، وقد تقدّم وجهه ومبناه ، وهو عدم سقوط المثل عن الذّمّة بمجرّد الإعواز ، بل يتوقف سقوطه على أداء ثمن المثل ، ولذا تكون العبرة بقيمة يوم الدفع والإقباض. ويبتني عليه الاحتمال الرابع أيضا كما سيأتي.

وأمّا سائر الاحتمالات فمبنيّة على استقرار القيمة في عهدة الضامن بأحد أنحاء ثلاثة :

الأوّل : انقلاب العين المثليّة التالفة إلى القيمة بسبب إعواز المثل.

الثاني : انقلاب نفس المثل إلى القيمة.

الثالث : انقلاب الجامع المشترك بين العين التالفة والمثل المتعذّر إلى القيمة.

وهذا المبنى الثالث لم يشر إليه المصنّف قدس‌سره هنا ، ولكنّه أشار إليه في تفصيل مباني

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ (الطبعة الحجرية).


وحاصل جميع الاحتمالات (١) في المسألة مع مبانيها : أنّه إمّا أن نقول باستقرار المثل في الذّمّة إلى أوان الفراغ منه بدفع القيمة ، وهو الذي اخترناه (٢) تبعا للأكثر من اعتبار القيمة عند الإقباض ، وذكره في القواعد خامس الاحتمالات.

وإمّا (٣) أن نقول بصيرورته (٤) قيميّا عند الإعواز.

______________________________________________________

الاحتمالات بقوله : «وإن قلنا : إنّ المشترك بين العين والمثل صار قيميّا» وكان المناسب التنبيه على إجماله هنا كما نبّه على إجمال سائر المباني.

وكيف كان فكلام المصنّف قدس‌سره حول مباني الاحتمالات المذكورة في قواعد العلّامة قدس‌سره يقع في مقامين :

أحدهما : مقام الثبوت ، وبيان ما يمكن أن يكون وجها لكلّ واحد من الاحتمالات.

ثانيهما : مقام الاثباب ، وهو الاستظهار من أدلّة الضمانات.

(١) أي : جميع الاحتمالات المتصورة في هذه المسألة ممّا تقدّم وغيره ممّا سيأتي.

(٢) يستفاد اختياره له من بيانه وعدم المناقشة فيه ، حيث قال : «ان المشهور أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع .. إلخ».

(٣) معطوف على قوله : «إمّا أن نقول» وقد أشرنا آنفا إلى أنّ : منشأ ما عدا الاحتمال الخامس ـ من الاحتمالات المذكورة في القواعد ـ هو هذا الشّقّ من القضيّة المنفصلة أعني استقرار القيمة في ذمّة الضامن عند الإعواز.

(٤) مقتضى السياق رجوع الضمير إلى «المثل» الذي تقدّم في قوله : «إمّا أن نقول باستقرار المثل في الذّمّة إلى أوان الفراغ منه» فالمراد بقوله : «وإمّا أن نقول» هو : أن نقول بصيرورة المثل المتعذّر قيميّا ، أي انقلاب المثل إلى القيمة.

ولكن يشكل هذا الإرجاع من جهة أنّ المصنف رتّب عليه احتمالين :

أحدهما : انقلاب المثل إلى القيمة ، وهذا يلتئم مع إرجاع الضمير إلى المثل.


فإذا صار كذلك (١) ، فإمّا أن نقول : إنّ المثل المستقرّ في الذّمّة (٢) قيميّ فيكون القيميّة صفة للمثل بمعنى : أنّه لو تلف وجب قيمته. وإمّا أن نقول : إنّ المغصوب انقلب قيميّا بعد أن كان مثليّا.

فإن قلنا بالأوّل (٣) ، فإن جعلنا الاعتبار في القيميّ

______________________________________________________

ثانيهما : انقلاب نفس العين المثليّة التالفة إلى القيمة ، لما سيأتي من قوله : «وإمّا أن نقول : إنّ المغصوب انقلب قيميّا بعد أن كان مثليّا» ومن المعلوم أنّ انقلاب نفس العين التالفة إلى القيمة أجنبيّ عن صيرورة المثل قيميّا ، لأنّ المدار على قيمة العين لا قيمة المثل المتعذّر ، وإن كان تعذّره واسطة ثبوتيّة لتبدّل ضمان العين بالثمن.

وكيف كان فمراد المصنّف من قوله : «وإمّا أن نقول بصيرورته قيميّا» هو تبدّل ضمان المثل بضمان القيمة ، إمّا قيمة المثل ، وإمّا قيمة العين التالفة أو المتلفة.

إلّا أن يوجّه إرجاع الضمير إلى «المثل» بأنّ المثليّ يصير قيميّا ، سواء أكانت القيمة قيمة المثل أم قيمة العين المضمونة ، فيصحّ جعله مقسما لقسمين ، فتدبّر.

(١) يعني : فإذا صار قيميّا عند إعواز المثل ، لا عند دفع القيمة الذي نسبه المصنّف إلى المشهور واختاره كما عرفت.

(٢) كما فهمه المحقّق الثاني (١) من قول العلامة قدس‌سرهما. وعليه فتكون القيمة بدلا عن المثل الذي هو بدل عن العين ، فتصير القيمة بدل البدل ، في قبال الاحتمال الآخر وهو كون القيمة بدلا عن العين ، نظير بدليّة المثل عنها ، فيكون للعين بدلان : المثل والقيمة ، لكنّهما ليسا بدلين عرضيّين بل طوليين ، وبدلية القيمة مشروطة بتعذّر المثل. أمّا بدليّة المثل فمطلقة.

(٣) المراد بالأوّل هو أوّل الاحتمالين المبنيين على انقلاب المثل قيميّا عند الإعواز ، وقد أفاده بقوله : «فإمّا أن نقول : إنّ المثل المستقرّ في الذّمّة قيميّ ..» وليس المراد بالأوّل بقاء المثل في الذّمّة إلى أوان أداء القيمة ، لما عرفت من أنّه لو قلنا

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٤.


بيوم التلف (١) ـ كما هو أحد الأقوال (٢) ـ كان (٣) المتعيّن قيمة المثل يوم الإعواز ، كما صرّح به (٤) في السرائر في البيع الفاسد ، والتحرير في باب القرض ، لأنّه (٥) يوم تلف القيميّ.

وإن جعلنا الاعتبار فيه (٦) بزمان الضمان ـ كما هو القول

______________________________________________________

ببقاء المثل في عهدة الضامن إلى يوم الإقباض تعيّنت قيمته في ذلك اليوم ، ولا مجال لسائر الاحتمالات.

(١) وهو الموافق للمرتكز العرفيّ في الضمان بالقيم من تدارك الخسارة الماليّة ـ الواردة على المالك بتلف العين ـ بما يساوي تلك الخسارة حين التلف.

(٢) بل في الدروس والروضة نسبته إلى الأكثر ، كما نقله المصنف في الأمر السابع. والوجه فيه : أنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف ، إذ الواجب قبله إنّما هو ردّ العين.

(٣) جواب الشرط في «فإن جعلنا» وجملة الشرط والجزاء جواب لقوله : «فإن قلنا ..».

(٤) أي : كما صرّح ابن إدريس والعلّامة قدس‌سرهما ـ في بعض المواضع ـ بتعيّن قيمة المثل يوم إعوازه. وقد تقدّم كلامهما وكلام الشهيد الثاني في بيع المسالك ، فراجع (ص ٣٨٤ و ٣٨٥).

(٥) يعني : لأنّ يوم إعواز المثل هو يوم تلف القيميّ ، فلا بدّ من رعاية قيمة المثل يوم تعذّره.

ولا يخفى أنّ تعيّن قيمة المثل يوم الإعواز ليس من الاحتمالات المذكورة في القواعد ، وإنّما ذكره العلّامة قدس‌سره في التذكرة سابع الاحتمالات ، ونبّه المصنّف قدس‌سره عليه ، لترتّبه على القول بالانقلاب وبضمان القيميّ يوم تلفه.

(٦) أي : وإن جعلنا الاعتبار في القيميّ بزمان الضمان ـ لا يوم التلف ـ اتّجه القول بضمان قيمة زمان تلف العين ، لأنّ زمان تلف العين هو أوّل أزمنة ثبوت المثل في


الآخر في القيميّ (١) ـ كان (٢) المتّجه اعتبار زمان تلف العين (٣) ، لأنّه (٤) أوّل أزمنة وجوب المثل في الذّمّة المستلزم (٥)

______________________________________________________

الذّمّة ، لأنّ الذّمّة لا تشتغل بالمثل ما دامت العين موجودة ، فإذا تلفت انتقل الضمان إلى البدل وهو المثل ، وحيث إنّ المفروض إعواز المثل ضمنه بقيمته يوم تلف العين.

وبعبارة أخرى : إنّ اشتغال الذّمّة بقيمة المثل زمان تلف العين منوط بأمرين :

أحدهما : القول بأنّ القيميّ المغصوب يضمن بقيمة يوم غصبه ، ضرورة أنّ وضع اليد على مال الغير مقتض لاشتغال العهدة به. ولا عبرة بقيمته في سائر الأزمنة كيوم تلفه أو يوم مطالبة الملك ببدل التالف.

ثانيهما : أنّ المثليّ انقلب يوم إعوازه بالقيميّ.

وبناء عليهما يتّضح وجه ضمان قيمة المثل يوم تلف العين ، وذلك لأنّ تلفها يوجب استقرار المثل في الذّمّة ، فالمضمون في يوم التلف هو المثل ، وحيث تعذّر الوصول إلى المثل ـ كما هو المفروض ـ وانقلب قيميّا ، فلا بدّ من رعاية قيمته يوم استقراره في العهدة وهو يوم تلف العين.

(١) هو لشيخ الطائفة في موضع من المبسوط ، ولغيره أيضا كما سيأتي في الأمر السابع.

(٢) جواب الشرط في قوله : «وإن جعلنا ..».

(٣) يعني : اعتبار ثمن المثل في يوم تلف العين المضمونة بالغصب أو بالقبض بالبيع الفاسد كما في المقام.

(٤) يعني : لأنّ زمان تلف العين أوّل أزمنة ثبوت المثل في الذّمّة ، فانقلب ضمان العين بضمان المثل ، وحيث إنّ المثل متعذّر ، ضمن ثمنه يوم تعذّره ، كما إذا تلفت العين في أوّل الشهر ، وتعذّر المثل في آخر الشهر ، فيضمن ثمن المثل في أوّل الشهر الذي تلفت العين فيه ، لا ثمنه في يوم إعواز المثل كما كان في الاحتمال السابق على هذا الاحتمال.

(٥) صفة ل «وجوب المثل» والمراد بالوجوب هو الثبوت.


لضمانه بقيمته عند (١) تلفه (٢). وهذا (٣) مبنيّ على القول بالاعتبار في القيميّ بوقت الغصب كما عن الأكثر.

وإن جعلنا (٤) الاعتبار فيه بأعلى القيم من زمان الضمان إلى زمان التلف ـ كما حكي عن جماعة من القدماء (٥) في الغصب ـ كان المتّجه الاعتبار بأعلى

______________________________________________________

(١) متعلّق ب «ضمانه» لا «بقيمته» وظرف القيمة ـ وهو زمان تلف العين واشتغال الذّمّة بالمثل ـ محذوف.

(٢) هذا الضمير راجع إلى العين ، وضميرا «لضمانه ، بقيمته» راجعان إلى المثل ، فكأنّه قيل : وجوب المثل في الذّمّة مستلزم لضمان خصوص قيمة المثل الثابتة عند تلف العين ، لا سائر قيمة.

(٣) أي : ضمان قيمة يوم التلف مبنيّ على القول بكون العبرة في القيميّ بزمان الغصب ، لأنّه وقت الضمان كما عن الأكثر ، والمفروض أنّ زمان اشتغال الذّمّة بالمثل هو زمان تلف العين.

(٤) معطوف على «وإن جعلنا» ومقصوده قدس‌سره بيان مبنى الاحتمال الثاني المتقدّم عن القواعد ، وهو ضمان أعلى القيم من يوم تلف العين إلى زمان إعواز المثل ، فأفاد : أنّه لو قلنا في القيميّ المغصوب بمقالة جماعة من قدماء الأصحاب ـ من ضمان أعلى القيم من زمان الغصب إلى زمان التلف ـ اتّجه الاحتمال الثاني وهو ضمان المثليّ المتعذّر وجوده بأعلى القيم من تلف العين إلى الإعواز ، وذلك لأنّ زمان الضمان بالمثل هو زمان تلف العين ، كما إذا تلفت أوّل الشهر وتعذّر المثل في آخره ، فإنّ المثل المنقلب إلى القيميّ صار مضمونا في تمام الشهر ، فلو ارتفعت قيمته وسط الشهر وانخفضت في يوم إعواز المثل ضمن تلك القيمة العليا.

(٥) قال السيّد العامليّ قدس‌سره : «هو خيرة الخلاف والمبسوط والنهاية في موضع منهما ، والوسيلة والغنية والسرائر والإيضاح واللمعة والمقتصر والتبصرة ـ على إشكال ـ وكذا شرح الإرشاد للفخر ، وفي بيع المختلف نسبته إلى علمائنا ، وفي


القيم من يوم تلف (١) العين إلى زمان الإعواز.

وذكر هذا (٢) الوجه في القواعد ثاني الاحتمالات.

وإن قلنا (٣) : إنّ التالف

______________________________________________________

غصبه : انّه أشهر. واستحسنه في الشرائع ، وكأنّه قال به أو مال إليه. وفي الكفاية والمسالك : أنّ في خبر أبي ولّاد ما يدلّ على وجوب أعلى القيم بين الوقتين ، وكأنّه قال به وقوّاه في الروضة أيضا .. إلخ» (١).

(١) لما عرفت من أنّ يوم تلف العين أوّل زمان ضمان المثل بقيمته عند تلفها ، وآخر زمانه زمان تلف المثل أعني به زمان إعوازه.

(٢) أي : اعتبار أعلى القيم من يوم تلف العين إلى زمان إعواز المثل.

هذا تمام الكلام في الاحتمالات الثلاثة المبتنية على انقلاب المثل إلى القيمة بالإعواز.

أوّلها : اعتبار قيمة المثل يوم الإعواز ، وهو مبنيّ على القول بضمان القيميّ بقيمة يوم تلفه.

ثانيها : اعتبار قيمة المثل يوم تلف العين ، وهو مبنيّ على القول بضمان القيميّ بقيمة يوم ضمانه ودخوله في العهدة. وحيث إنّ ضمان المثل تحقّق في يوم تلف العين اعتبر ثمنه فيه ، لا في يوم إعوازه وتعذّره.

ثالثها : اعتبار أعلى قيم المثل من زمان تلف العين إلى زمان إعواز المثل ، وهذا مبنيّ على ضمان القيميّ المغصوب بأعلى القيم من زمان الضمان إلى زمان التلف.

وسيأتي الكلام فيما يبتني من الوجوه على القول الآخر في المثليّ المتعذّر ، وهو ضمان قيمة نفس العين لا قيمة المثل.

(٣) معطوف على قوله : «فان قلنا بالأوّل» يعني : وإن قلنا بالثاني ـ وهو انقلاب التالف المثليّ قيميّا ، لا انقلاب المثل المعوز إلى القيمة ـ ففيه احتمالان :

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٤.


انقلب (١) قيميّا احتمل (٢) الاعتبار بيوم الغصب

______________________________________________________

أحدهما : كون العبرة بقيمة يوم الغصب.

والآخر : كون العبرة بأعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف. وسيأتي توضيحهما.

(١) ليس المراد بالانقلاب اتّحاد المثليّ المتعذّر مع القيميّ حقيقة ، لما تقدّم في الأمر الرّابع من التقابل بينهما وتباينهما ، فالمثلي ما تساوت أجزاؤه ، والقيميّ ما لا تتساوى أجزاؤه. بل المراد إجراء حكم القيميّ في المثليّ المتعذّر. فكما أنّ الضامن للتالف القيميّ مخاطب بتفريغ ذمّته بأداء القيمة ، فكذا في المضمون المثليّ الذي كان موجودا حين تلف العين ثم طرأ عليه التعذّر ، فإنّه مخاطب بأداء قيمة التالف بعد أن كان مخاطبا بأداء المثل.

(٢) وجه هذين الاحتمالين واضح ، وهو اتّحاد حكم المثليّ المتعذّر المنقلب إلى القيميّ مع حكم القيميّ بالأصالة. فإن قلنا بضمان الأعيان القيميّة بقيمة يوم غصبها تعيّن ضمان العين المثليّة ـ التي طرأ التعذّر على أمثالها ـ بقيمة يوم ضمانها ودخولها في العهدة. فكأنّ هذه العين المثليّة قيميّة من أوّل الأمر ، فتضمن بما تضمن به الأعيان القيميّة.

وإن قلنا بضمان القيميّ بأعلى القيم من الغصب ـ أو الضمان ـ إلى يوم التلف اتّجه القول بضمان المثليّ المتعذّر بأعلى قيمته من حين غصبه إلى تلفه.

ولا يخفى أنّ المصنّف قدس‌سره اقتصر ـ بناء على الانقلاب ـ على احتمالين ، وأهمل الاحتمال الأوّل الذي رتّبه على ضمان القيميّ بقيمة يوم تلفه.

والوجه في إهمال ذكره ـ كما في حاشية الشيخ المامقاني قدس‌سره ـ وجود المانع عن جريانه بناء على مفروض البحث وهو انقلاب المثليّ قيميّا ، وذلك لأنّ الكلام في المثليّ الذي تعذّر مثله ، ومن المعلوم أنّ الضامن كان مخاطبا يوم تلف العين بأداء المثل دون قيمة العين ، ولهذا لم يمكن إلزام المالك بقبول القيمة لو دفعها الغاصب يومئذ.


كما في القيميّ (١) المغصوب ، والاعتبار بالأعلى منه (٢) إلى يوم التلف. وذكر هذا أوّل الاحتمالات في القواعد.

وإن (٣) قلنا : إنّ المشترك بين العين والمثل صار قيميّا

______________________________________________________

وعليه فلا يصحّ أن يكون المناط قيمة العين عند تلفها (١).

(١) أي : القيميّ بالأصالة ، وهو ما لا تتساوى أجزاؤه. والمراد بيوم الغصب يوم القبض.

(٢) أي : من يوم غصب العين إلى يوم تلفها بوصف كونها قيميّة ، وهو يوم إعواز المثل.

(٣) معطوف على «فإن قلنا بالأوّل» وهذا مبنى الاحتمال الثالث المذكور في القواعد ، وهو ضمان القيمة العليا من حين الغصب إلى التلف.

وحاصل هذا المبنى : أنّ المدار في ضمان المثليّ الذي تعذّر مثله ليس هو العين بخصوصها حتى تضمن بقيمة يوم غصبها أو يوم تلفها ، ولا هو المثل بخصوصه حتى يضمن بقيمة يوم تلف العين الذي هو زمان اشتغال الذّمّة بالمثل ، ولا بيوم إعوازه الذي هو كتلفه. بل المدار على قيمة الجامع بين العين والمثل ، بمعنى : أنّ المنقلب قيميّا هو القدر المشترك بينهما أي الصفات الكلّيّة والجهات النوعيّة والصنفية الموجبة لماليّة الشي‌ء ، إذ هي الأمر المشترك الموجود في العين التالفة ومثلها اللذين هما من مصاديق الكلّيّ المثليّ. وتعذّر هذا الأمر المشترك منوط بتلف العين وتعذّر المثل ، ضرورة توقّف تعذّر الكلّيّ وتلفه على تلف جميع أفراده.

مثلا إذا وضع يده على صاع من الحنطة المملوكة لزيد وتلفت عنده ، اشتغلت ذمّته بما يماثلها في الصفات الدخيلة في ماليّتها ، فلو أهمل حتى تعذّر المثل تبدّل الضمان بصنف الحنطة الكلّيّة الجامعة للعين والمثل.

والمناسب لهذا المبنى احتمالان مما احتمله العلّامة قدس‌سره.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣١٠.


جاء (١) احتمال الاعتبار بالأعلى من يوم الضمان (٢) إلى يوم تعذّر المثل ، لاستمرار (٣) الضمان فيما قبله (٤) من (٥) الزمان إمّا للعين ، وإمّا للمثل. فهو (٦) مناسب لضمان الأعلى من حين الغصب إلى التلف.

______________________________________________________

أحدهما : الاحتمال الثالث ، وهو ضمان أعلى القيم من يوم الضمان والقبض إلى يوم إعواز المثل ، فإذا كانت قيمة الحنطة زمان الغصب دينارا ، ثم صارت يوم تلفها نصف دينار ، ويوم تعذّر المثل دينارا ونصف دينار ، كان المضمون به هو الأخير ، لأنّ المستقرّ في العهدة ليس خصوص العين ولا خصوص المثل ، بل كلّيّ الحنطة إلى زمان إعوازها. ولا ريب في أنّ ارتفاع القيمة من حالات العين المضمونة ، فيكون مضمونا.

ثانيهما : الاحتمال الرابع ، وهو ضمان أعلى القيم من يوم الضمان إلى يوم أداء القيمة ، لأنّه يوم تفريغ الذّمّة من الكلّيّ المثليّ المستقرّ في العهدة من يوم الضمان ، ويتوقّف الفراغ عنه على أداء قيمته.

(١) وجه مجي‌ء هذا الاحتمال ما ذكرناه من استقرار الكلّيّ في ذمّة الضامن ، لا خصوص العين التالفة ، ولا خصوص المثل المتعذّر.

(٢) المراد بيوم الضمان هو يوم الغصب ، ويوم قبض المبيع بالبيع الفاسد.

(٣) تعليل لتوجّه احتمال الضمان بأعلى القيم من زمان الضمان إلى زمان إعواز المثل الذي هو يوم سقوط خصوصيّة المثل عن الذّمّة ، وتبدّله بضمان الجامع بين العين والمثل.

(٤) أي : قبل يوم تعذّر المثل.

(٥) بيان ل «ما» الموصولة ، يعني : أنّ الضمان مستمرّ من يوم الضمان إلى يوم الإعواز.

(٦) الظاهر رجوع الضمير إلى استمرار الضمان قبل تلف المغصوب إلى زمان تعذّر المثل ، وعليه فلا بدّ من حمل «التلف» على إعواز المثل لا تلف العين ، إذ لو أريد تلف العين لم يتّجه ضمان ارتفاع قيمة الأمثال من هذا اليوم ـ الذي هو مبدأ استقرار المثل في الذّمّة ـ إلى زمان الإعواز ، وذلك لفرض كون المضمون خصوص العين من يوم غصبها إلى يوم تلفها ، لا الماليّة المشتركة بين المثل والعين.


وهذا (١) ذكره في القواعد ثالث الاحتمالات.

واحتمل (٢) الاعتبار بالأعلى من يوم الغصب إلى دفع المثل (٣).

ووجهه (٤) في محكيّ التذكرة والإيضاح : بأنّ المثل لا يسقط بالإعواز ، قالا : «ألا ترى أنّه لو صبر المالك إلى وجدان المثل استحقّه (٥) ، فالمصير إلى القيمة عند تغريمها» والقيمة الواجبة على الغاصب أعلى القيم.

______________________________________________________

(١) المشار إليه قوله : «احتمال الاعتبار بالأعلى من يوم الضمان إلى يوم تعذّر المثل» وهو ثالث الاحتمالات المتقدمة في عبارة القواعد.

(٢) معطوف على قوله : «جاء احتمال» وغرضه قدس‌سره أنّه لو قلنا بضمان الماليّة الجامعة بين العين التالفة والمثل المتعذّر احتمل القول بضمان القيمة العليا من حين الضمان إلى زمان أداء الغرامة ، وهي قيمة المثل.

والوجه في هذا الاحتمال : أنّ ذمّة الضامن مشغولة بالجامع بين العين والمثل ، والمسقط هو أداء القيمة إلى المالك ، فلو ارتفعت قيمة المثل بعد زمان تعذّره كان هذا الارتفاع مضمونا أيضا.

(٣) الصواب أن يقال : «إلى دفع القيمة» كما هو صريح عبارة القواعد والتذكرة.

إلّا أن يلتزم بتقدير مضاف ، بأن يقال : «دفع قيمة المثل المفروض تعذّره» فيكون دفع القيمة أداء للمثل المتعذّر من جهة ماليّته ، لا من جهة مثليّته ، هذا.

(٤) أي : وجّه العلّامة وفخر المحقّقين ضمان أعلى القيم ـ من يوم الغصب إلى أداء القيمة ـ بأنّ المثل لا يسقط .. إلخ.

(٥) هذه العبارة منقولة بالمعنى ، وإلّا فعبارة التذكرة والإيضاح هي : «ملك المطالبة به» ثم زاد في التذكرة قوله : «وإنّما المصير إلى القيمة عند تغريمها».

وهذا الاحتمال الرابع مختار فخر المحققين ، لقوله بعد ذكر مآخذ الاحتمالات الخمسة : «والأصحّ الرابع» (١).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٥.


وحاصله (١) : أنّ وجوب دفع قيمة المثل يعتبر (٢) من زمن وجوبه (٣) إلى وجوب مبدله أعني العين ، فيجب أعلى القيم منها (٤) ، فافهم (٥).

______________________________________________________

وكيف كان فالحاكي لعبارتي التذكرة والإيضاح هو السيّد العامليّ ، وعبارة المتن نصّ كلامه (١).

(١) هذا الحاصل مذكور في مفتاح الكرامة أيضا ، فراجع. يعني : حاصل توجيه العلّامة وفخر الدين للاحتمال الرابع هو : أنّ وجوب دفع قيمة المثليّ الذي بقي مثله في الذّمّة إلى يوم غرامة القيمة ـ وسقط بدفع القيمة إلى المالك ـ إنّما يعتبر بنحو القهقرى من أوّل زمان وجوب قيمة المثليّ ، وهو زمان دفعها ، وينتهي إلى زمان ثبوت مبدل القيمة أعني نفس المال المثليّ المغصوب ، وهو زمان غصب العين.

وعليه فيكون هنا وجوبات عديدة بعدد القيمة إن اختلفت في أجزاء هذا الزمان المتخلّل بين المبدء والمنتهى ، فيجب دفع الأعلى من هذه القيم ، إذ المفروض أنّ القيمة الواجبة على الغاصب هي أعلى القيم.

والأولى : أن يعبّر هكذا : «وحاصله : أنّ إسقاط وجوب دفع قيمة المثل يلاحظ من زمن ثبوت القيمة .. إلخ».

(٢) أي : يلاحظ من زمن وجوب القيمة ـ أي ثبوتها ـ إلى ثبوت مبدل القيمة وهو نفس المال المثليّ المغصوب.

(٣) الوجوب بمعنى الثبوت في الذّمّة ، وضميره وكذا ضمير «مبدله» راجعان إلى القيمة ، فالمناسب تأنيث الضميرين ، وإن صحّ تذكيرهما أيضا باعتبار الرجوع إلى البدل المستفاد من قوله : «إلى وجوب مبدله». والأمر سهل.

(٤) الأولى إسقاط كلمة «منها» بأن يقول ـ كما في مفتاح الكرامة ـ : «فيجب الأقصى» أو «أقصى القيم».

(٥) لعلّه إشارة إلى ضعف القول بصيرورة القدر المشترك قيميّا ، الذي هو أحد

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢.


إذا عرفت هذا (١) فاعلم : أنّ المناسب لإطلاق كلامهم لضمان المثل في المثليّ هو أنّه مع تعذّر المثل لا يسقط المثل عن الذّمّة ، غاية الأمر يجب إسقاطه مع

______________________________________________________

جزأي هذا الاحتمال الرابع. وأمّا الجزء الآخر ـ وهو ثبوت المثل إلى زمان دفع القيمة ـ فقد قوّاه سابقا.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل وهو بيان مآخذ الاحتمالات الخمسة.

وقد تحصّل مما أفاده المصنّف قدس‌سره من أوّل الأمر السادس إلى هنا وجوه في ضمان قيمة العين المثليّة التالفة مع إعواز المثل.

الأوّل : اعتبار ضمان قيمة يوم الدفع والمطالبة ، وهو المنسوب إلى المشهور ، وهو خامس الاحتمالات المذكورة في القواعد ، وقد عبّر عنه بقيمة يوم الإقباض.

الثاني : اعتبار قيمة يوم تعذّر المثل. واختاره ابن إدريس والعلّامة والشهيد الثاني ، في بعض المواضع.

الثالث : اعتبار قيمة يوم تلف العين ، الذي هو زمان استقرار المثل في العهدة.

الرابع : اعتبار أعلى القيم من يوم تلف العين إلى زمان إعواز المثل.

الخامس : اعتبار قيمة يوم ضمان العين.

السادس : اعتبار أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم تلف العين.

السابع : اعتبار أعلى القيم من يوم ضمان العين إلى زمان أداء قيمة المثل. وقد عرفت مبنى كلّ واحد منها.

استظهار بعض الوجوه المتقدّمة من أدلّة الضمان

(١) هذا شروع في المقام الثاني ، وهو بيان ما يستفاد من الأدلّة وكلمات الأصحاب. ومحصّله : أنّ الدليل على ضمان المثليّ بالمثل إمّا هو الإجماع أو المتبادر من إطلاقات الضمان الدالة على التغريم بما هو أقرب إلى التالف. فإن اعتمدنا على الإجماع قلنا باقتضائه لضمان قيمة يوم أدائها ، وذلك لاستقرار المثل على عهدة الضامن بمجرّد تلف العين ، ولم يقيّد اشتغال الذّمّة بالمثل بعدم تعذّره وإعوازه ، فلا يوجب تعذّره


مطالبة المالك. فالعبرة بما هو إسقاط حين الفعل (١) ، فلا عبرة بالقيمة إلّا يوم الاسقاط وتفريغ الذّمّة.

وأمّا بناء (٢) على ما ذكرنا (٣) من أنّ المتبادر من أدلّة الضمان التغريم بالأقرب إلى التالف فالأقرب كان (٤) المثل مقدّما مع تيسّره. ومع تعذّره ابتداء

______________________________________________________

انتقال الضمان إلى القيمة حتى يكفي أداء ثمنه يوم إعوازه ، بل يبقى المثل في الذّمّة إلى إسقاطه بمطالبة المالك ، فتكون العبرة بقيمته يوم أدائها. وقد تقدّم وجهه عند بيان رأي المشهور ، وهكذا في مبنى الاحتمال الخامس.

وإن اعتمدنا على المتبادر من أدلّة الضمان انقلب الضمان إلى القيمة ، وسيأتي.

(١) أي : حين الإسقاط ، إذ المفروض بقاء المثل على عهدة الضامن ، ولا يسقط إلّا بدفع القيمة. فالعبرة بقيمة يوم الاسقاط ، لا يوم إعواز المثل.

(٢) هذا في مقابل ما ذكره بقوله : «فاعلم أنّ المناسب لإطلاق كلامهم لضمان المثل في المثليّ .. إلخ» وإطلاق كلامهم إنّما هو لعدم تقييدهم ذلك بصورة التمكّن من المثل ، فأطلقوا ضمان المثل في المثليّ ، ولم يقيّدوه بصورة التمكّن من دفع المثل ، وهذا الإطلاق يقتضي بقاء المثل في الذّمّة ولو مع إعوازه.

وأمّا بناء على ما ذكرنا ـ من أنّ المتبادر من أدلّة الضمان التغريم بالأقرب إلى التالف ، فالأقرب ـ كان المثل مقدّما مع التمكّن من دفعه إلى المالك ، ومع عدم التمكّن منه كان المتعيّن دفع القيمة. فالاعواز يوجب انقلاب المثليّ إلى القيميّ ، فالقيمة قيمة للمثل حال الإعواز ، فيكون عدم التمكّن العارضيّ من دفع المثل كعدم التمكّن بالأصالة كما في القيميّات. فالمثل الثابت في الذّمّة ينقلب إلى القيمة من زمان الإعواز.

(٣) أي : في كلّ من الأمر الرابع والسادس ، فقال في السادس : «ولكن لو استندنا في لزوم القيمة في المسألة إلى ما تقدّم سابقا من الآية ومن أنّ المتبادر من إطلاقات الضمان .. إلخ» فراجع (ص ٣٨٨).

(٤) جواب «وأمّا بناء». و «فالأقرب» بالجرّ معطوف على «بالأقرب».


كما في القيميّ أو بعد التمكّن كما فيما نحن فيه كان (١) المتعيّن هو القيمة ، فالقيمة (٢) قيمة للمغصوب من حين صار قيميّا وهو حال الإعواز ، فحال الإعواز معتبر من حيث إنّه أوّل أزمنة صيرورة التالف قيميّا ، لا من حيث ملاحظة القيمة قيمة للمثل دون العين.

فعلى القول باعتبار يوم التلف في القيميّ توجّه ما اختاره الحلي رحمه‌الله (٣).

ولو قلنا (٤) بضمان القيميّ بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف (٥) ـ كما عليه جماعة من القدماء (١) ـ توجّه (٦) ضمانه فيما نحن فيه بأعلى القيم من حين الغصب إلى زمان الإعواز (٧) ،

______________________________________________________

(١) جواب «ومع تعذّره» المتضمن للشرط.

(٢) يعني : أنّه بناء على المتبادر من إطلاقات الضمان يتعيّن القول في المثليّ ـ المتعذّر مثله ـ بضمان قيمته يوم الإعواز ، لأنّه يوم صيرورة العين المثليّة قيميّة.

(٣) من الاعتبار بقيمة يوم تعذّر المثل وإعوازه ، لأنّه يوم تلف العين بوصف القيمية ، إذ قبل هذا الزمان كان التالف مثليّا ، وإنّما صار قيميّا بسبب الإعواز

(٤) هذا مقابل قوله : «فعلى القول باعتبار يوم التلف» والأولى لرعاية المشاكلة أن يقال : «وعلى القول بضمان القيميّ بأعلى القيم .. إلخ».

وكيف كان فتوضيح كلامه قدس‌سره : أنّه بناء على القول بضمان القيميّ بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف توجّه ضمان المثليّ فيما نحن فيه ـ أعني به إعواز المثل ـ بأعلى القيم من حين الغصب في المغصوب ، ومن زمان القبض في المقبوض بالعقد الفاسد ، وكان هذا هو الاحتمال الثاني في عبارة القواعد.

(٥) وهو الوجه لما حرّرناه في التعليقة بقولنا : «تتمة اعلم أنّ من الأقوال اعتبار أعلى القيم .. إلخ.

(٦) جواب الشرط السابق.

(٧) الذي هو بمنزلة تلف العين القيميّة ، لكن قد ذكرنا في التتمّة المشار إليها خلافه.

__________________

(١) نقلنا أسماءهم عن مفتاح الكرامة ، فراجع ص ٤٠٨.


إذ (١) كما أنّ ارتفاع القيمة مع بقاء العين مضمون بشرط تعذّر أدائه المتدارك (٢) لارتفاع (٣) القيم ، كذلك بشرط تعذّر المثل في المثليّ ، إذ مع ردّ المثل يرتفع ضمان القيمة السوقيّة (٤).

وحيث كانت العين فيما نحن فيه مثليّا كان أداء مثلها عند تلفها كردّ عينها في إلغاء ارتفاع القيم ، فاستقرار (٥) ارتفاع القيم إنّما يحصل بتلف العين والمثل.

فإن قلنا (٦) : إنّ تعذّر المثل يسقط المثل ـ كما أنّ تلف العين يسقط العين ـ

______________________________________________________

(١) تعليل لاعتبار تعذّر المثل في ضمان ارتفاع القيمة ، المستفاد من تقييد «الأعلى» بغاية الإعواز. يعني : أنّ ارتفاع القيمة إنّما لا يضمن إذا أمكن دفع العين ، ولم ينته الأمر إلى دفع القيمة ، بل كان ارتفاع الضمان بسبب دفع العين أو مثلها. وأمّا إذا انتهت النوبة إلى دفع القيمة لتلف العين وتعذّر المثل فارتفاع القيمة يكون حينئذ مضمونا ، وهذا الارتفاع المضمون يكون من زمان الضمان إلى زمان تعيّن القيمة وثبوتها في الذّمّة ، أو إلى زمان أدائها بناء على ثبوت المثل في الذّمّة إلى زمان الأداء.

(٢) باسم الفاعل صفة ل «أدائه» يعني : أنّ أداء العين كان جابرا لارتفاع القيمة ، لكن حيث تعذّر أداؤها ـ لفرض تلفها ـ صار الغاصب ضامنا لارتفاع القيمة.

(٣) اللام للتعدية ، مثل «خرجت لزيد من الدار» بمعنى : أخرجته من الدار.

(٤) لتفرّع ضمان القيمة السوقيّة ـ في الأعيان المثليّة ـ على إعواز المثل.

(٥) هذا متفرّع على كون ردّ المثل ـ في الأعيان المثليّة التالفة ـ بمنزلة ردّ نفس التالف ، في عدم اشتغال الذّمّة بأعلى القيم. فإذا لم يتحقّق ردّ العين لتلفها ولا ردّ المثل لاعوازه ضمن أعلى قيمتيهما. وهل المضمون ارتفاع القيمة من زمان الغصب إلى زمان الإعواز ، أم هو من حين الغصب إلى حين أداء القيمة؟ فيه خلاف سيأتي مأخذ كلّ منهما في المتن.

(٦) هذا تفصيل لقوله : «فاستقرار ارتفاع القيم ..».


توجّه القول بضمان القيمة من زمان الغصب إلى زمان الإعواز (١) ، وهو أصحّ الاحتمالات في المسألة عند الشافعيّة على ما قيل (٢).

وإن قلنا (٣) : إنّ تعذّر المثل لا يسقط المثل وليس كتلف العين (٤) كان (٥) ارتفاع القيمة فيما بعد تعذّر المثل أيضا مضمونا (٦) ، فيتوجّه ضمان القيمة من حين الغصب إلى حين دفع القيمة ، وهو المحكيّ عن الإيضاح. وهو أوجه الاحتمالات على القول بضمان ارتفاع القيمة مراعى بعدم ردّ العين أو المثل (٧).

______________________________________________________

(١) أي : إعواز المثل الذي هو كتلف العين في كونه سببا لسقوط المثل.

(٢) القائل هو العلّامة في التذكرة ، قال قدس‌سره : «وللشافعيّة في القيمة المعتبرة عشرة أوجه .. ثالثها : وهو الأصح عندهم ، القيمة المعتبرة أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم الإعواز ، لأنّ وجود المثل كبقاء عين المغصوب من حيث إنّه كان مأمورا بتسليم المثل ، كما كان مأمورا بردّ العين ، فإذا لم يفعل غرم أقصى قيمته في المدّتين. كما أنّ المتقوّمات تضمن بأقصى قيمتها لهذا المعنى ، ولا نظر إلى ما بعد انقطاع المثل ، كما لا نظر إلى ما بعد تلف المغصوب من المتقوّم» (١).

(٣) هذا عدل قوله : «فإن قلنا : إنّ تعذّر المثل يسقط المثل».

(٤) حتى يسقط المثل بالإعواز كسقوط العين بتلفها.

(٥) جواب الشرط المتقدّم أعني به «وإن قلنا : انّ تعذر .. إلخ».

(٦) إذ المفروض بقاء المثل في العهدة وعدم سقوطه بتعذّره ، فارتفاع قيمته بعد تعذّره مضمون كضمانه قبل تعذّره ، فيتوجه حينئذ ضمان القيمة من حين الغصب إلى زمان دفع القيمة كما حكي عن الإيضاح.

(٧) يعني : بأن يكون ضمان ارتفاع القيمة مشروطا بعدم إمكان ردّ العين أو المثل ، فمع إمكانهما وردّهما لا يضمن ارتفاع القيمة.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣.


ثمّ اعلم : أنّ العلّامة ذكر في عنوان هذه الاحتمالات «أنّه لو تلف المثليّ والمثل موجود ، ثم أعوز» (١) وظاهره اختصاص هذه الاحتمالات بما إذا طرء تعذّر المثل بعد تيسّره في بعض أزمنة التلف (٢) ، لا ما تعذّر فيه المثل ابتداء.

وعن جامع المقاصد : «أنّه يتعيّن حينئذ (٣) قيمة يوم التلف» (٤)

______________________________________________________

هذا تمام الكلام في الجهة الثانية المتكفلة لتعيين قيمة العين المثليّة المضمونة عند إعواز المثل. وسيأتي التنبيه على أنّ مورد البحث وموضوعه هو التعذّر الطارئ لا البدويّ. وقد جعلناه في صدر الأمر السادس جهة ثالثة ممّا يتعلّق بتعذّر المثل.

وإن أمكن جعله تتمة للجهة الثانية ، والأمر سهل.

اختصاص انقلاب الضمان إلى القيمة بالتعذّر الطارئ

(١) هذا منقول بالمعنى ، وإلّا فعبارة القواعد هكذا : «ولو تلف المثليّ في يد الغاصب والمثل موجود ، فلم يغرمه حتى فقد ففي ..» وقريب منها عبارة التذكرة (١).

وكيف كان فالمقصود أنّ موضوع كلامهم بانتقال الضمان من المثل المتعذّر إلى القيمة هو التعذّر الطاري على المثل ، لا ما كان متعذّرا حين تلف العين أو قبله ، فإنّه مضمون بالقيمة حين التلف ، كما يظهر من المحقّق الثاني قدس‌سره وسيأتي كلامه.

(٢) أي : أزمنة تلف العين ، والظرف متعلّق ب «تيسّره».

(٣) أي : حين تعذّر المثل ابتداء ، أي : حين تلف العين.

(٤) الحاكي لكلامه السيّد العاملي قدس‌سره (٢). واعتبار قيمة يوم التلف يستفاد من ضمّ كلاميه في موضعين :

أحدهما : قوله في ضمان القيميّ المغصوب ـ في تضعيف رأي المبسوط ـ : «وإنّما

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ ، (الطبعة الحجرية) ؛ تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣.

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٠.


ولعلّه (١) لعدم تنجّز التكليف بالمثل عليه في وقت من الأوقات.

ويمكن أن يخدش فيه (٢) بأنّ التمكّن من المثل ليس بشرط لحدوثه في

______________________________________________________

ينتقل إلى القيمة عند التلف» (١).

ثانيهما : قوله في ضمان المثليّ المتعذّر مثله : «لو لم يكن المثل موجودا وقت التلف فالظاهر أنّ الواجب قيمة التالف. أمّا مع وجوده وعدم التغريم إلّا بعد فقده فإنّه قد استقرّ في الذّمّة ، فيرجع إلى القيمة» (٢).

فيحمل قوله : «فالظاهر أن الواجب قيمة التالف» على قوله : «وإنّما ينتقل إلى القيمة عند التلف» ويصحّ ما نسبه المصنف إليه.

(١) يعني : ولعلّ تعيّن قيمة يوم التلف لأجل عدم تنجّز التكليف بالمثل على الضامن في وقت من الأوقات ، لفقدانه من أوّل الأمر.

(٢) أي : في هذا الوجه. وحاصل الخدشة : إنّ اشتغال الذّمّة بالمثل ليس مشروطا بالتمكّن من أداء المثل ، لا حدوثا ولا بقاء.

ولا يخفى أنّه نوقش في كلام جامع المقاصد بوجهين مذكورين في الجواهر أيضا ، أحدهما حلّي ، والآخر نقضيّ. وارتضى المصنّف الحليّ وتأمّل في النقضيّ.

قال في الجواهر ـ بعد نقل ما استظهره جامع المقاصد من ضمان قيمة يوم التلف في التعذّر البدويّ ـ ما لفظه : «وقد يناقش بعدم المنافاة بين ثبوته في الذّمّة وبين تعذّر أدائه في ذلك الوقت. ودعوى صيرورته قيميّا واضحة المنع ، إذ المثليّ لا يتعيّن كونه كذلك بتعذر المثل. وإلّا لزم عدم وجوب دفعه لو تمكّن منه بعد ذلك قبل الأداء ، لثبوت القيمة حينئذ في الذّمّة ، ولا أظنّ القائل المزبور يلتزمه ، لوضوح ضعفه. فالمتجه ثبوت المثل في ذمّته على كلّ حال. وتعذّر أدائه حال التلف لا يقتضي عدم ثبوته في الذّمّة ، فإن عدم التمكّن من وفاء الدين لا يقتضي عدم ثبوته في الذّمّة ، وحينئذ لم يكن

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٤٦.

(٢) المصدر ، ص ٢٥٢.


الذّمّة ابتداء ، كما لا يشترط في استقراره استدامة ، على ما اعترف (١) به مع طروء التعذّر بعد التلف (٢). ولذا (٣) لم يذكر أحد هذا التفصيل في باب القرض.

وبالجملة (٤) : فاشتغال الذّمّة بالمثل إن قيّد بالتمكّن لزم الحكم بارتفاعه

______________________________________________________

للتقييد المزبور فائدة» (١).

والإيراد النقضيّ على كلام جامع المقاصد هو قوله : «وإلّا لزم .. لوضوح ضعفه» وما قبله وما بعده هو الإيراد الحلّي الذي ارتضاه المصنّف وأثبته في المتن.

(١) أي : اعترف المحقّق الثاني بعدم اشتراط التمكّن من المثل في استقرار المثل في الذّمّة استدامة ، لأنّه اختار أنّ المعتبر قيمة يوم الإقباض. ولو كان التمكّن من المثل شرطا في صحّة تعلّقه بالغاصب كان اللازم سقوط المثل بمجرّد تعذّره ، وتحقّق الانتقال إلى القيمة ، وقد قال في جامع المقاصد في شرح قول العلامة قدس‌سره : «الخامس القيمة يوم الإقباض» ما نصّه : «هذا هو الأصحّ ، لأنّ الواجب هو المثل ، فإذا دفع بدله اعتبرت البدليّة حين الدفع ، فحينئذ يعتبر القيمة».

وقد نقل المصنف تصريح جامع المقاصد ـ بما ذهب إليه المشهور ـ في أوائل هذا الأمر من كون العبرة بقيمة يوم الدفع بقوله : «وقد صرّح بما ذكرنا المحقّق الثاني ..» ، فراجع ص (٣٨٤).

(٢) أي : تعذّر المثل بعد تلف العين.

(٣) أي : ولعدم دخل التمكّن من المثل في اشتغال الذّمّة به ابتداء لم يذكر أحد التفصيل ـ في باب القرض بين وجود المثل وعدمه ، بأن يقال : مع التمكّن من المثل في المثليّ يثبت في ذمّة المقترض مثله ، ومع عدم التمكّن منه يثبت قيمة العين المقترضة ، بل أطلقوا القول في ذلك ، وقالوا : إنّ العين المقترضة إن كانت مثلية ثبت مثلها في ذمّة المقترض ، وإن كانت قيميّة ثبت قيمتها.

(٤) هذه خلاصة الخدشة ، ومحصّل الكلام : أنّ حصر موضع البحث بالتعذّر

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٩٧ و ٩٨.


بطروء التعذّر ، وإلّا لزم الحكم بحدوثه مع التعذّر من أوّل الأمر.

إلّا أن يقال (١) : إنّ أدلّة وجوب المثل ظاهرة في صورة التمكّن وإن لم يكن مشروطا به عقلا (٢) ، فلا تعمّ صورة العجز (*). نعم (٣) إذ طرء العجز فلا دليل على سقوط المثل وانقلابه قيميّا (٤).

______________________________________________________

الطارئ غير سديد ، إذ لو كان اشتغال الذّمّة بالمثل مقيّدا بتمكّن الضامن منه لزم الحكم بالانقلاب إلى القيمة بمجرّد التعذّر ، سواء طالب المالك به أم لم يطالب ، مع أنّهم اشترطوا أداء القيمة بالمطالبة. وهذا يكشف عن عدم إناطة استقرار المثل في العهدة بتيسّره. ولو لم يكن مقيّدا بتمكّن الضامن تعيّن القول بضمان المثل في الأعيان المثليّة حتى مع تعذّره البدوي.

(١) غرضه توجيه ما أفاده العلّامة والمحقّق الثاني قدس‌سرهما ـ من اختصاص موضوع البحث بالتعذّر الطارئ ـ بما حاصله : أنّ اشتغال الذّمّة بالمثل وإن لم يكن منوطا عقلا ولا عرفا بالتمكّن من أداء ما اشتغلت به الذّمّة ، لكن الدليل لا يدلّ إلّا على اشتغال الذّمّة في صورة التمكّن من أدائه ، فلا تعمّ صورة العجز الابتدائيّ ، فلو وجد المثل ـ حين تلف العين ـ اشتغلت العهدة به ، سواء أدّاه إلى المالك أم لم يؤده إليه حتى أعوز ، فيبقى المثل في الذّمّة إلى إسقاطه بمطالبة المالك.

(٢) مرجعه إلى قصور مقام الإثبات عن شمول صورة التعذّر الابتدائي ، وقد عرفته.

(٣) هذا تتمّة للتوجيه المتقدّم بقوله : «إلّا أن يقال» وغرضه التفصيل في مفاد الدليل بين التعذّر الطاري والابتدائيّ.

(٤) يعني : ومع عدم الدليل على الانقلاب يرجع إلى الاستصحاب.

__________________

(*) مجرد العجز لا يكفي في ثبوت القيمة ، بل المثبت لها هو اعتبار التمكّن في ثبوت المثل حتّى ينتفي بانتفائه ، ويثبت القيمة. وبدون اشتراط التمكّن يدور الأمر بين المثل والقيمة ، ولا دليل على تعيّن القيمة.


وقد يقال (١) على المحقّق المذكور : إنّ اللازم ممّا ذكره أنّه لو ظفر المالك بالمثل قبل أخذ القيمة لم يكن له المطالبة. ولا أظنّ أحدا يلتزمه (٢). وفيه تأمّل (٣).

______________________________________________________

(١) هذا هو الإيراد النقضيّ الذي أورده صاحب الجواهر على المحقّق الكركي قدس‌سرهما القائل بضمان قيمة يوم التلف في تعذّر المثل ابتداء.

وحاصل النقض : أنّه لو كان الوجه في الانتقال إلى قيمة وقت التلف عدم تنجّز التكليف بالمثل على الضامن في وقت من الأوقات انتقض كلامه بما إذا كان المثل متعذّرا من أوّل الأمر ، ولكن لم يأخذ المضمون له القيمة ، ثم وجد المثل.

والوجه في ورود النقض هو : أنّ المحقّق الكركي يدّعي اشتغال ذمّة الضامن في هذا التعذّر البدويّ بثمن المثل من حين تلف العين المضمونة ، ولم يستقرّ في عهدته المثل أصلا ، فالتمكّن من المثل بعد التلف لا يوجب تبدّل القيمة به. مع أنّه لا سبيل للالتزام بكفاية دفع القيمة مع وجود المثل.

وهذا كاشف عن غموض ما أفاده المحقّق الثاني من عدم اشتغال الذمّة بالمثل في موارد التعذّر البدويّ. فالصحيح اتّحاد التعذّر البدويّ والطارئ حكما ، هذا.

(٢) أي : يلتزم بعدم جواز مطالبة المثل من الضامن إذا تيسّر المثل بعد إعوازه وقبل أخذ القيمة. والوجه في عدم الالتزام بعدم جواز المطالبة هو اشتغال الذّمّة بالمثل.

(٣) تأمّل المصنّف قدس‌سره في ورود هذا النقض على المحقّق الثاني ، وذلك لإمكان الالتزام بجواز المطالبة بالمثل في مورد النقض ، وهو لا ينافي اشتغال الذّمّة بالقيمة في التعذّر الابتدائيّ. والوجه في عدم التنافي بين الحكمين هو : أنّ اشتغال الذّمّة بالمثل مشروط بالتمكّن منه ، ولمّا كان متعذّرا حين التلف ـ كما هو المفروض ـ قلنا : إنّه لا يتنجّز التكليف بالمثل على الضامن ، فإن دفع القيمة سقط المثل عن ذمّته.

__________________

ثمّ إنّ الحقّ عدم الفرق في الحكم الوضعي أعني به اشتغال ذمّة الضامن بالمثل بين صورتي التعذّر البدوي والطاري ، كما في القرض والسّلم.

نعم في الحكم التكليفيّ ـ أعني به وجوب الأداء ـ يكون بينهما فرق ، فإنّه في التعذّر البدويّ يمتنع الوجوب ، لامتناع أداء المثل دائما إذا كان التعذّر كذلك ، لكنّه لا يمتنع


.................................................................................................

______________________________________________________

وإن لم يدفعها حتى تيسّر المثل لم تفرغ ذمّته بأداء القيمة ، بل يجب عليه دفع المثل ، وذلك لصيرورة كلّ تكليف مشروط فعليّا بفعليّة شرطه ، وبهذا يسلم كلام المحقّق الكركي عن نقض صاحب الجواهر قدس‌سره.

__________________

عن شغل الذّمّة بالمثل. ولا أثر للإعواز بدويّا كان أم طارئا في هذا الحكم الوضعيّ.

نعم توجّه الخطاب بوجوب أداء المثل تكليفا منوط بالقدرة عليه ، وفائدة شغل الذّمّة بالمثل هو تقويمه حال الأداء. نعم إذا ثبت إجماع تعبّديّ على انقلاب المثليّ بسبب التعذّر إلى القيميّ كان ذلك مخصصا لما دلّ على ضمان المثليّ بالمثل والقيميّ بالقيمة ، لكن ثبوته مشكل ، وإلّا لم يقع فيه الخلاف.

والحاصل : أنّ حكم تعذّر المثل حكم تعذّر العين ، لا حكم تلفها ، ومن المعلوم أنّ تعذّر العين لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، بل العين تبقى في الذّمّة ، وإنّما يجب على الضامن بدل الحيلولة.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ المراد بالإعواز الواقع في معقد الإجماع هو معناه العرفيّ ، لا العقليّ الموقوف على فقدان جميع أفراد الكليّ ، لأنّ الإعواز كسائر الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنّة ومعاقد الإجماعات ، فيخصّص الإجماع قاعدة السلطنة المقتضية لتسلّط الناس على مطالبة أموالهم سواء كانت خارجيّة أم ذميّة ، فالمالك للمثل الذّمّي مسلّط على مطالبة مثل ماله ، إلّا إذا أعوز المثل. فحينئذ ينتقل بسبب الإجماع إلى القيمة. والإعواز على تفسير العلّامة من عدم وجدانه في البلد وما حوله لا يناط بالتعذّر والتعسّر.

لكن الظاهر خلافه ، لاعتبار المشقّة عرفا في تحقّق الإعواز ، فبدون المشقّة لا ينتقل المثل إلى القيمة استنادا إلى عموم سلطنة المالك على مطالبة ماله.

وما ذكرناه من اعتبار المشقّة في الإعواز هو المتيقّن من معقد الإجماع لو لم يكن ظاهره ، والتعبير بالتعذّر إشارة إلى المشقّة العرفيّة ، وليس المراد بالتعذّر التعذّر العقليّ ، لعدم إناطة شي‌ء من الأحكام الشرعيّة بالأمور العقليّة. فعلى هذا يمكن أن لا يكون في


.................................................................................................

__________________

تحصيل المثل من خارج نواحي البلد لشخص مشقّة ، ويكون لغيره مشقّة.

فالأولى إحالة المشقّة إلى العرف. وعلى أيّ حال يكون التعذّر شخصيّا لا نوعيّا ولو شكّ في تحقّق الإعواز مفهوما لإجماله فالمعوّل قاعدة السلطنة ، لكون الشك في التخصيص الزائد ، هذا.

لكن الحقّ عدم ثبوت إجماع تعبّديّ على انقلاب المثليّ بتعذّر المثل إلى القيمة ، بل المثل باق في الذّمّة حتى بعد التعذّر.

الثاني : أنّه لا فرق في التعذّر بين أن يكون خارجيّا وشرعيّا ، كما إذا فرض تنجّس جميع أفراد الكليّ المثليّ بحيث لا يمكن تطهيرها مع توقّف الانتفاع المحلّل بها على طهارتها كالدّهن والخلّ ونحوهما ممّا لا يقبل التطهير.

الثالث : أنّه لا فرق في التعذّر بين الذاتي كفقدان الأمثال في الخارج ، وبين العارضي كعدم وصوله إليه لحبس ونحوه ، فإنّ المناط في التعذّر ـ وهو عدم القدرة العرفية على أداء المثل ـ موجود في الجميع.

الرابع : هل يجوز للضامن إجبار المالك على أخذ القيمة مع إعواز المثل أم لا؟ الظاهر العدم ، إذ ليست القيمة متعلّقة للضمان حتى يجوز للضامن إجباره على أخذ القيمة ، بل تعلّق الضمان بالمثل ، فللمالك الصبر إلى أن يوجد المثل وعدم أخذ القيمة.

وهل يجوز للمالك إجبار الضامن على أخذ القيمة منه؟ الظاهر ذلك ، لقاعدة السلطنة الموجبة لجواز مطالبة ماله مع الإعواز ، والصبر إلى تمكّن الضامن من أداء المثل نفسه.

ودعوى كون إجبار الضامن على أخذ القيمة منه ضررا عليه ، فينفى بقاعدته ، غير مسموعة ، لأنّ أخذ القيمة منه ليس ضررا عليه ، بل أداء لما في ذمّته بعد رضا المالك بإلغاء الخصوصيات الدخيلة في متعلّق الضمان أعني به المثل.

إلّا أن يقال : إنّ القيمة ليست مالا للمالك حتى يكون له السلطنة عليها ، وإنّما المال الثابت له في الذّمّة هو المثل ، فليس له إجبار الضامن بالقيمة.


.................................................................................................

__________________

اللهم إلّا أن يدّعى : أنّ الضمان قد تعلّق بكلّ من المثليّة والماليّة ، وله رفع اليد عن المثليّة والأخذ بالماليّة. لكن قد تقدّم سابقا ما فيه ، فتدبّر.

الخامس : هل العبرة في تقويم المثل مع فرض عدمه بقيمة يوم الإعواز أم يوم الأداء أم يوم المطالبة أم غيرها ممّا بنى عليه في المسألة؟ فلا وجه للترديد بين قيمته في غاية العزّة أو المتوسّط ، إذ المفروض تعيّنها بما بني عليه في المسألة من قيمة يوم إعواز المثل أو غيره مما تقدّم. وبعد اختيار قيمة يوم معيّن لا يبقى مجال للترديد بين حالات القيمة ممن كونها في غاية العزّة ومتوسّطها.

السادس : هل المدار على قيمة المثل المتعذّر في بلد المطالبة أم في بلد الضمان أم في بلد الأداء إذا اختلفت القيم في البلاد؟ الظاهر أنّ المناط قيمة بلد الأداء ، لأنّه بناء على ما هو المشهور المنصور من بقاء المثل في ذمّة الضامن إلى حين الأداء المسقط له لا بدّ من مراعاة قيمة يوم الأداء ، سواء كان الأداء في بلد الضمان أم غيره من البلاد. وقد تقدّم سابقا أنّ ارتفاع قيمة المثل المتعذّر من زمان اشتغال الذّمّة به إلى يوم الأداء غير مضمون ، لأنّ ماليّة الارتفاع المزبور مالية فرضية ، ودليل الضمان لا يشمل غير الماليّة الحقيقية.

نعم لو كانت القيمة مرتفعة بسبب خصوصية بلد التلف فتلك الخصوصية الحافّة بالعين أو المثل مضمونة ، فلا بد من ملاحظة مرتبة من الماليّة ناشئة من خصوصية بلد التلف ، فإذا كان بلد المطالبة غير بلد التلف ، فالمضمون هي القيمة التي روعي فيها خصوصية بلد التلف.

ولو بني على الانتقال إلى القيمة ـ وكونها بدلا عن المثل عند إعوازه ـ تعيّن قيمة بلد التعذّر إن كانت مخالفة لبلد المطالبة في مالية المثل ، إذ المفروض انقلاب المثل من زمان التعذّر إلى القيمة ، فالمتعيّن قيمة يوم إعوازه.


ثمّ إنّ المحكيّ عن التذكرة «أنّ المراد بإعواز المثل : أن لا يوجد في البلد وما حوله» (١). وزاد في المسالك قوله : «ممّا ينقل عادة منه إليه كما ذكروا في انقطاع المسلم فيه» (٢).

______________________________________________________

هل مناط تعذّر المثل فقده في البلد وما حوله؟

(١) هذه جهة رابعة ممّا يتعلّق بإعواز المثل ، وهي بحث عن تحديد الموضوع أيضا ، وأنّ مناط الإعواز هل هو فقد المثل في جميع الأمكنة ، أم فقده في خصوص بلد التلف وحواليه أم الرجوع فيه إلى العرف؟

قال في التذكرة : «إذا غصب عينا من ذوات الأمثال وتلفت في يده أو أتلفها والمثل موجود فلم يسلّمه حتى فقد أخذت منه القيمة ، لتعذّر المثل ، فأشبه غير المثليّ. والمراد من الفقد أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه» (١).

(٢) هذا منقول بالمعنى ، وإلّا فعبارة المسالك هكذا : «والمراد من الفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد وما حوله ممّا ينقل منه إليه عادة ، كما بيّن في انقطاع المسلم فيه» (٢).

وحاصل ما أفاده في انقطاع المسلم فيه في بلد البائع ـ وإمكان تحصيله من بلد آخر ـ أنّه إن نقله البائع باختيار فهو. وإن لم ينقله إليها ، فإن لم يكن في نقله إليها مشقّة أجبر على النقل. وإن كان فيه مشقّة لم يجبر على نقله إلى البلد» (٣).

فإن كان مراده قدس‌سره من عدم المشقّة هو اعتياد النقل من خارج البلد إلى بلد المعاملة كان كلامه في بيع السّلم موافقا لما أفاده هنا من تعارف النقل من مكان آخر إلى البلد ، وإلّا لم يتّحد مفاد الكلامين ، فلاحظ.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ١٢.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٣.

(٣) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ٤٣١.


وعن جامع المقاصد : «الرجوع فيه (١) إلى العرف».

ويمكن أن يقال (٢) : إنّ مقتضى عموم وجوب أداء مال الناس (٣) وتسليطهم (٤) على أموالهم ـ أعيانا (٥) كانت أم في الذّمّة ـ

______________________________________________________

(١) قال قدس‌سره : «واعلم أنّ المراد من تعذّر المثل أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه. كذا ذكر في التذكرة. ولم يحدّ ما حواليه. والظاهر أنّ المرجع فيها إلى العرف» (١).

وعلى هذا التحديد لا يعتبر التعذّر والتعسّر في تحصيل المثل.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة القواعد المتقدمة هو كون المرجع في تحديد حوالي البلد العرف ، لا في تحديد الإعواز ـ كما هو ظاهر المتن ـ فالصواب تأنيث ضمير «فيه».

(٢) غرضه قدس‌سره تضييق دائرة الإعواز ، وأنّ مقتضى عموم وجوب ردّ الأموال إلى مالكيها هو وجوب ردّها مع وجودها ولو في بلاد نائية ، وكان في تحصيلها مئونة كثيرة ، فدائرة الإعواز حينئذ تكون أضيق ممّا ذكره المحقّق الكركي قدس‌سره.

(٣) كقوله عليه‌السلام : «المغصوب مردود» (٢) بناء على شموله لردّ المثل أو القيمة ، وعدم اختصاصه بردّ نفس المغصوب.

(٤) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس مسلّطون على أموالهم» (٣).

(٥) خبر مقدّم ل «كانت» والجملة مبيّنة ل «أموالهم» يعني : لا فرق في سلطنة الملّاك على أموالهم بين كونها أعيانا خارجيّة كالدينار ، والكتاب والدار ونحوها ، أم أعيانا كلّيّة في ذمّة الآخرين ، فإنّها أموال أيضا ، بشهادة جواز بيعها وشرائها كما تقدّم في أوّل بحث البيع. ولو لا هذا التعميم لم يمكن التمسّك بحديث السلطنة

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٤٥.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٠٩ ، الباب ١ من كتاب الغصب ، الحديث ٣.

(٣) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٢ و ٤٥٧.


وجوب (١) تحصيل المثل كما كان يجب ردّ العين أين ما كانت ، ولو كانت في تحصيله مئونة كثيرة (٢) ، ولذا (٣) كان يجب تحصيل المثل بأيّ ثمن كان. وليس (٤) هنا تحديد التكليف بما عن التذكرة.

نعم لو انعقد الإجماع على ثبوت القيمة عند الإعواز تعيّن ما (٥) عن جامع المقاصد.

______________________________________________________

لإثبات جواز مطالبة المالك من الضامن بدل ماله التالف أو المتلف ، لوضوح عدم كون ما في الذّمّة عينا خارجيّة حتى يتسلّط المالك عليها.

(١) خبر قوله : «إنّ مقتضى» يعني : أنّ مقتضى عموم الأدلّة وجوب تحصيل المثل على الضامن ، كما يجب عليه ردّ العين أينما كانت.

(٢) كما تقدّم تفصيله في الأمر الخامس.

(٣) أي : ولأجل اقتضاء الأدلّة العامّة وجوب تحصيل المثل كان تحصيله واجبا بأيّ ثمن كان.

(٤) غرضه الإيراد على ما أفاده العلّامة قدس‌سره في التذكرة من إناطة وجوب أداء المثل على الضامن بتيسّره في البلد وحواليه. ومحصّل الإيراد : أنّ مقتضى عموم الأدلّة وجوب أداء المثل حتى لو توقف على نقله من بلد بعيد عن بلد الضمان أو المطالبة ، وبهذا يتضيّق دائرة الإعواز والانقلاب إلى القيمة ، هذا.

ويحتمل أن يكون ما في التذكرة تحديدا لجواز مطالبة المالك للضامن بالقيمة ، لا لانقلاب المثل بها ، وإن كان يجب على الضامن تحصيل المثل.

(٥) من الرجوع في معنى الإعواز إلى العرف ، لأنّ الإعواز الواقع في معقد الإجماع كغيره ـ من الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنّة ومعاقد الإجماعات ـ في الرجوع في مفاهيمها إلى العرف ، فيكون الإجماع مخصّصا لعموم دليل السلطنة ، وتختص سلطنة المطالبة بالمثل بما إذا كان موجودا في البلد ونواحيه.

وعليه فقوله : «نعم لو انعقد» تقييد لعموم ما دلّ على وجوب أداء مال الناس وسلطنتهم على أموالهم ، سواء توقّف الرّدّ على تحمّل مشقّة أم لا.


كما أنّ (١) المجمعين إذا كانوا بين معبّر بالإعواز ومعبّر بالتعذّر كان (٢) المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ ـ وهو المتعذّر ـ لأنّه المجمع عليه.

______________________________________________________

(١) غرضه : أنّه لو تمّ الإجماع على ثبوت القيمة عند إعواز المثل ترتّب عليه أمران :

أحدهما : تقييد إطلاق الأدلّة العامّة المقتضي للفحص عن المثل في سائر البلاد ، ونقله إلى بلد المطالبة مقدّمة لأدائه إلى المالك.

ثانيهما : الاقتصار في تقييد الإطلاق على القدر المتيقّن ، والرجوع فيما عداه إلى الإطلاق.

توضيحه : أنّ الأصحاب ـ الّذين أجمعوا على انتقال الضمان من المثل المتعذّر إلى القيمة ـ عبّروا تارة ب «فإن تعذّر المثل ضمن قيمته يوم الإعواز» واخرى ب «ولو أعوز المثل».

والظاهر أنّ «التعذّر» أخصّ من «الإعواز» لظهور التعذّر في فقدان جميع أفراد الكلّيّ حقيقة ، بخلاف الإعواز الذي يراد منه معناه الإضافيّ ، وهو فقدان الأمثال في البلد ونواحيه ، وإن كانت موجودة في سائر البلدان. ولمّا كان التعذّر أضيق دائرة من الإعواز توقّف تقييد الأدلّة العامّة على صدق «التعذّر» ويرجع في ما عداه إلى الإطلاق المقتضي لجواز المطالبة بالمثل ، لعدم اتفاقهم على انتقال الضمان إلى القيمة بمجرّد الإعواز.

هذا بناء على عدم ترادف اللفظين في عبارات المجمعين ، وإلّا فبناء على إرادة معنى واحد منهما ومن «الفقد» المذكور في عبارتي التذكرة والقواعد ـ بأن يراد التعذّر الحقيقيّ في الجميع ، أو العرفيّ الإضافيّ كذلك ـ لم يختلف الحال في تقييد الأدلّة العامّة ، لعدم كون التعذّر أخصّ من الإعواز حينئذ. وكذا الحال إذا كان كلّ من الأعمّ والأخصّ مذكورا في بعض معاقد الإجماعات ، إذ لا ينافي الإجماع على الأخصّ الإجماع على الأعمّ.

(٢) جواب «إذا كانوا» يعني : كان المتيقّن في رفع اليد عن عموم مثل دليل السلطنة الرجوع إلى الأخصّ.


نعم (١) ورد في بعض (٢) أخبار السّلم : «أنّه إذا لم يقدر المسلم إليه (٣) على

______________________________________________________

(١) استدراك على ما تقدّم من تعيّن الاقتصار على عنوان «التعذّر» لكونه أخصّ من «الإعواز» وحاصله : أنّ المراد بالتعذّر ليس هو فقد جميع أفراد الكلّيّ حقيقة ، بل المراد به التعذّر العرفيّ المساوق للإعواز ، وذلك بشهادة ما ورد في أخبار السّلم من : أنّ عدم القدرة على إيفاء المسلم فيه يوجب الخيار للمشتري. ومن المعلوم أنّ المراد به التعذّر العرفيّ المتحقق بفقد المسلم فيه في البلد وحواليه.

وعليه فتعبير عدّة من المجمعين ب «لو تعذّر المثليّ» محمول على عدم حصول المثل عادة لا عقلا. فما تقدّم من قوله : «كان المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ» ممنوع ، إذ لا أخصّيّة ولا أعمّيّة بين عنواني التعذّر والإعواز ، بل هما متساويان في الصّدق.

(٢) كمعتبرة الحلبي ، قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أسلم دراهمه في خمسة مخاتيم من حنطة أو شعير إلى أجل مسمّى ، وكان الذي عليه الحنطة والشعير لا يقدر على أن يقتضيه جميع الّذي له إذا حلّ ، فسأل صاحب الحقّ أن يأخذ نصف الطعام أو ثلثه أو أقلّ من ذلك ، أو أكثر ، ويأخذ رأس مال ما بقي من الطعام دراهم؟ قال : لا بأس. والزّعفران يسلم فيه الرجل دراهم في عشرين مثقالا أو أقلّ من ذلك أو أكثر. قال : لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الزعفران أن يعطيه جميع ماله أن يأخذ نصف حقّه أو ثلثه أو ثلثيه ، ويأخذ رأس مال ما بقي من حقّه درهم [دراهم]» (١).

والغرض أنّ كلمة «لا يقدر» التي وردت تارة في سؤال السائل وقرّره الامام عليه‌السلام ، وأخرى في ذيل الرواية في كلامه عليه‌السلام لا يراد بها التعذّر العقليّ ، بل المراد هو العرفيّ. وقد عبّر عنه في نصوص أخر بالعجز وعدم الوجدان ونحوهما ، والمقصود ـ كما تقدّم حكايته عن المسالك ـ هو الانقطاع في البلد ونواحيه.

(٣) وهو البائع.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٦٩ ، الباب ١١ من أبواب السلف ، الحديث : ٧.


إيفاء المسلم فيه تخيّر (١) المشتري» ومن المعلوم أنّ المراد بعدم القدرة ليس التعذّر العقليّ المتوقّف على استحالة النقل من بلد آخر ، بل الظاهر منه عرفا (*) ما عن التذكرة (٢). وهذا (٣) يستأنس به للحكم فيما نحن فيه.

______________________________________________________

(١) تخيير المشتري ـ بين الفسخ والانتظار إلى أن يتمكّن البائع من تسليم المبيع سلما ـ يستفاد من معتبرة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ عند عجز البائع عن إيفاء المسلم فيه ـ : «فليأخذ رأس ماله أو لينظره» (١).

(٢) وهو قوله : «والمراد من الفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه» (٢).

(٣) يعني : أنّ الحكم في باب السّلم إذا علّق على عدم القدرة ـ المنزّلة على الموضوع العرفيّ دون العقليّ ـ استؤنس به للحكم في ما نحن فيه وهو تعذّر المثل ، وقد تقدم في عبارة المسالك جعل التعذّر في المقامين من باب واحد.

والحاصل : أنّ المناسب أن يكون المناط في المقامين واحدا ، بأن يقال : إنّ المراد بالتعذّر فيهما هو العرفيّ. هذا تمام الكلام في الجهة الرابعة من جهات البحث في إعواز المثل.

__________________

(*) إذا كان الظاهر من عدم القدرة في أخبار السلم معناه العرفي ، فليكن التعذّر في المقام كذلك. إلّا أن يكون الفرق بينهما بعدم تصوّر التعذّر المطلق في موارد نصوص أخبار السّلم من الجذع والحنطة وغيرهما ، فإنّ هذه الموارد قرينة على عدم إرادة التعذّر المطلق من تلك الأخبار ، فالمراد التعذّر العرفي. بخلاف المقام ، فإنّه ليس فيه قرينة على إرادة التعذّر العرفي ، فيراد منه التعذّر المطلق.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٧٢ ، الباب ١١ من أبواب السلف ، الحديث ١٤.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ١٦.


ثمّ إنّ (١) في معرفة قيمة المثل مع فرض عدمه إشكالا ، من (٢) حيث إنّ العبرة بفرض وجوده ولو في غاية العزّة كالفاكهة في أوّل زمانها أو آخره (٣) ، أو وجود (٤) المتوسّط؟

______________________________________________________

المعيار في قيمة المثل المتعذّر

(١) هذه هي الجهة الخامسة ، وحاصلها : أنّ قولهم : «إذا تعذّر المثل وجبت قيمته» يواجه إشكالا ، وهو : أنّ المثل إن كان موجودا أمكن معرفة قيمته ، سواء أكانت أعلى من قيمته السوقيّة أم لا. وإن لم يكن موجودا ـ كما هو المفروض ـ لم يكن سبيل إلى معرفة قيمته حتى يؤدّيها الضامن إلى المالك ، إلّا بفرض وجود المثل.

ولمّا كان المثليّ ذا أسعار متفاوتة بتفاوت الأزمنة ، فهل يلزم تقويم المثليّ بأعلى القيم كما هو الحال في الفاكهة أوّل أوانها ، وكذا في آخرها ، أم أنّ المناط قيمته في أوساط زمان وجوده ، بحيث يكون أقل قيمة في هذه الفترة؟ فيه احتمالان. اختار المصنّف قدس‌سره اعتبار قيمته في أوّل زمان وجوده وآخره ، بشرط أن يرغب العرف في شرائه ، فلو ارتفع سعر المتاع بحدّ لا يرغب في معاملته إلّا القليل منهم لم يكن عبرة به أصلا. فالمدار حينئذ على قيمته العالية في أوّل وجوده وآخره بشرط إقبال النوع على بيعه وشرائه ، هذا.

(٢) هذا بيان الاشكال ، وقد عرفته آنفا.

(٣) أي : آخر زمان الفاكهة ، يعني : أنّ العبرة بعزّة وجود الفاكهة سواء في أوّل أوانها أم آخرها.

(٤) عطف على «في غاية العزّة» يعني : أنّ العبرة بقيمة متوسّطة بين زماني عزّة الفاكهة ، وهو أوان وفورها ، فيقال : إنّ هذه الفاكهة لو كانت موفورة كان قيمتها كذا درهما مثلا ، وهذا هو قيمتها المضمونة في ظرف الإعواز والتعذّر ، لا قيمتها في زمان عزّتها وغلائها.


الظاهر هو الأوّل (١) (*) لكن مع فرض وجوده بحيث (٢) يرغب في بيعه وشرائه ، فلا عبرة بفرض وجوده (٣) عند من يستغني عن بيعه ، بحيث (٤) لا يبيعه إلّا إذا بذل له عوض لا يبذل الراغبون في هذا الجنس بمقتضى رغبتهم.

______________________________________________________

(١) وهو كون العبرة بفرض المضمون في زمان عزّته وارتفاع قيمته ، لا في زمان وفوره وتنزّل قيمته.

(٢) هذا قيد للقيمة المضمونة ، وحاصله ـ كما تقدّم بيانه ـ أنّ المثل المتعذّر تارة يفرض وجوده في بعض الأزمنة بنحو يرغب في اقتنائه كثير من الناس ، كالفاكهة في أوّل وقتها ، ضرورة كونها أغلى قيمة من زمان وفورها وهو الزمان المتوسّط بين أوّل أوانها وآخرها. لكن يبذل العقلاء هذه القيمة الغالية لتحصيلها.

واخرى يفرض وجوده بنحو لا يرغب النوع في تحصيله ، لارتفاع قيمته جدّا. وكون ثمنه مجحفا بحيث لا يبذله إلّا القليل من أغنياء الناس. نعم قد يضطرّ عامّة الناس إلى شرائه لعلاج مثلا مهما كان ثمنه ، لكن المناط في المقام هو الرغبة في تحصيله في الحالات العاديّة ، لا حالة الاضطرار والإلجاء.

والمناط في تقويم المثل المتعذّر هو الفرض الأوّل ، أي : بذل ثمن المثل في زمان عزّته ، لكن لا مطلقا ، بل خصوص الثمن الذي يبذله غالب الناس ، هذا.

(٣) الضمائر البارزة من «وجوده» إلى «يبيعه» راجعة إلى المثل المتعذّر.

(٤) هذا بيان للاستغناء عن بيع المثل ، يعني : فوجود هذا المثل لا يقدح في صدق التعذّر.

__________________

(*) بل المتعيّن هو قيمة المثل فيما بني على زمان التقويم من يوم الإعواز ، أو يوم المطالبة ، أو يوم الدفع فالنزاع المزبور لا مورد له ، فلا وجه للإشكال المذكور في المتن ، لأنّ منشأ الاختلاف إن كان اختلاف الفصول ، فتعيين قيمة يوم التعذّر أو غيره يرفع الاشتباه. وإن كان منشؤه اختلاف الأيّام في عزة الوجود وذلّته فالتعيين المزبور أيضا يرفع الاشتباه. وإن كان منشؤه اختلاف الأمكنة والبلدان فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.


نعم (١) لو ألجئ إلى شرائه لغرض آخر بذل ذلك (٢) ، كما لو فرض الجمد في الصيف عند ملك العراق ، بحيث لا يعطيه (٣) إلّا أن يبذله (٤) بإزاء عتاق الخيل وشبهها (٥). فإنّ (٦) الراغب في الجمد في العراق من حيث إنّه راغب (٧) لا يبذل هذا العوض بإزائه ، وإنّما يبذله من يحتاج إليه لغرض آخر (٨) كالإهداء إلى سلطان قادم إلى العراق مثلا ، أو معالجة (٩) مشرف على الهلاك به ، ونحو ذلك من الأغراض ، ولذا (١٠) لو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذّر

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على قوله : «لا يبذل الراغبون» يعني : أنّ عامّة الناس الّذين لا يبذلون الثمن الكثير ـ لشراء سلعة في حال الاختيار ـ قد يبذلونه عند عروض عنوان ثانويّ كالعلاج ، كشراء بعض الفواكه الشتويّة في فصل الصيف بأضعاف قيمتها في الشتاء ـ حتى في أوّل أوانها ـ لكن هذا ليس معيارا لتقويم المثل المتعذّر.

(٢) أي : ذلك العوض الكثير.

(٣) أي : أنّ الملك لا يعطي الجمد والثلج مجّانا ، كما لا يعطيه بإزاء عوض متعارف ، بل يعطيه في قبال الخيل الجياد ذات القيمة الغالية جدّا.

(٤) أي : يبذل الملك الجمد بإزاء جياد الخيل.

(٥) كالجواهر والأحجار الكريمة التي تباع بأغلى الثمن.

(٦) تعليل لقوله : «فلا عبرة بفرض وجوده» وقد عرفته آنفا.

(٧) يعني : من حيث إنّه راغب في تحصيل الجمد على الوجه المتعارف ، لا من حيث إنّ رغبته في الجمد يكون لغرض آخر يقتضي بذل ثمن كثير بإزائه.

(٨) فإنّ هذا المثال أجنبي عن المقام ، لأنّ العبرة في القيمة بالقيمة السوقيّة ، لا ما يطلبه المالك اقتراحا.

(٩) معطوف على «الاهداء» وضمير «به» راجع إلى الجمد ، ومتعلّق ب «معالجة».

(١٠) أي : ولأجل إناطة فرض وجود المثل بغرض غير نادر الوقوع ، فلو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذّر ، ولا يوجب جريان حكم وجود المثل عليه.


كما ذكرنا في المسألة الخامسة (١). فكلّ (٢) موجود لا يقدح وجوده في صدق التعذّر ، فلا عبرة بفرض وجوده (٣) في التقويم عند عدمه.

ثمّ إنّك (٤)

______________________________________________________

(١) حيث قال فيها : «وأمّا إن كان لأجل تعذّر المثل وعدم وجدانه إلّا عند من يعطيه بأزيد مما يرغب فيه الناس .. إلخ» فراجع (ص ٣٦٦).

(٢) هذه نتيجة كون المعيار في قيمة المثل المتعذّر بفرض وجوده بنحو يرغب في شرائه الناس ولو بثمن غال ، لكونه في أوان عزّة وجوده. وعلى هذا فلا عبرة بوجوده عند مثل السلطان ، فهذا الوجود ملحق بالتعذّر ، ولا يكون مناطا للقيمة التي يجب على الضامن أداؤها إلى المالك.

(٣) هذا الضمير وضمير «عدمه» راجعان إلى المثل ، يعني : أنّ وجوده عند الملك مثلا ليس معيارا للتقويم عند فقد المثل في الظروف المتعارفة. وبهذا ينتهي الكلام في الجهة الخامسة.

هل العبرة بقيمة بلد التلف أو المطالبة أو أعلى القيمتين؟

(٤) هذه سادسة الجهات المبحوث عنها في مسألة إعواز المثل في ضمان العين المثليّة التالفة أو المتلفة. وحاصلها : أنّ المالك يجوز له المطالبة بالمثل ـ عند وجوده ـ مطلقا سواء أكان بقيمته المتعارفة أم بأزيد منها ، وسواء أكان في بلد المطالبة أم في مكان آخر. والوجه فيه : ما تقدّم من اشتغال عهدة الضامن بالمثل ، فيتعيّن عليه أداؤه ، خصوصا مع مطالبة ذي الحق.

وأمّا إذا تعذّر المثل في بلدي التلف والمطالبة ، واختلفت قيمته فيهما ، بأن كان ثمنه في بلد التلف عشرة دنانير مثلا ، وفي بلد آخر اثني عشر دينارا ، فهل يستحقّ المالك المطالبة بالقيمة العليا أم لا؟ فيه وجوه ثلاثة.

أوّلها : تعيّن قيمة المثل في بلد تلف العين.


قد عرفت (١) أنّ للمالك مطالبة الضامن بالمثل عند تمكّنه ولو كان في غير بلد الضمان ، وكان قيمة المثل هناك أزيد (٢).

وأمّا مع تعذّره وكون قيمة المثل في بلد التلف مخالفا لها في بلد المطالبة ، فهل له (٣) المطالبة بأعلى القيمتين ، أم يتعيّن قيمة بلد المطالبة ، أم بلد التلف؟ وجوه (٤) (*)

______________________________________________________

ثانيها : تعيّن قيمته في بلد المطالبة.

ثالثها : أعلى القيمتين. وسيأتي وجه كلّ منها إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : في أواخر المسألة الخامسة ، حيث قال : «ثمّ إنّه لا فرق في جواز مطالبة المالك بالمثل بين كونه في مكان التلف أو غيره .. إلخ» فراجع (ص ٣٦٩).

(٢) وذلك لأنّ المضمون هو المثل ، فلا بدّ من أدائه إلى المالك من دون لحاظ قيمته.

(٣) أي : للمالك.

(٤) أمّا الاعتبار ببلد التلف فلعلّه مبنيّ على انقلاب ما في الذّمّة من المثل إلى القيمة ، وكون القيمة قيمة العين ، لأنّ دخالة خصوصية بلد التلف في ماليّة العين تقتضي لزوم جبران تلك الماليّة في بلد المطالبة إن كان غير بلد التلف ، فإنّ تلك المرتبة من الماليّة الناشئة من خصوصيّة بلد تلف العين لا بدّ من تداركها ، لفرض كونها ماليّة تحقيقيّة ، لا تقديريّة حتى لا تضمن.

وأمّا الاعتبار ببلد المطالبة فلعلّه مبنيّ على بقاء العين أو المثل في الذّمّة إلى زمان المطالبة ، إذ القيمة الّتي يدفعها الضامن تكون قيمة لما في الذّمّة ، فإذا استحقّ

__________________

(*) الأوجه أن يقال ـ كما أفيد ـ في إتلاف المال في بلد ومصادفة المالك للمتلف في بلد آخر لا يوجد مثله فيه مع اختلاف قيمة ذلك البلد لقيمة بلد التلف : إنّ العبرة بقيمة بلد المطالبة ، لبقاء المثل في الذّمّة ، فللمالك مطالبته به متى شاء وأينما شاء ، لأنّ الحقّ له ، فالمناط قيمة زمان الدفع ومكانه ، فحال المكان حال الزمان في ذلك.


وفصّل الشيخ (١) في المبسوط في باب الغصب

______________________________________________________

المالك المطالبة به في بلد معيّن استحقّ تطبيق ما في الذّمّة على الفرد الخارجيّ في ذلك البلد ، فتكون خصوصيّة البلد من قيود ما يستحقه المالك ، فلا بدّ من دخلها في التقويم.

وأمّا اعتبار أعلى القيمتين فهو مبنيّ على ضمان ارتفاع القيم ، وكون المضمون الجامع بين العين والمثل ، وبقاء المثل في الذّمّة إلى زمان المطالبة. ولكن قد تقدّم عدم ضمان القدر المشترك بين التالف والموجود.

(١) لا بأس بنقل جملة من كلامه وقوفا على حقيقة الأمر ، قال قدس‌سره : «إذا غصب منه مالا مثلا بمصر فلقيه بمكّة ، فطالبه به ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون لنقله مئونة ، أو لا مئونة لنقله. فإن لم يكن لنقله مئونة كالأثمان ، فله مطالبته به ، سواء كان الصّرف في البلدين متّفقا أو مختلفا ، لأنّه لا مئونة في نقله في العادة. والذّهب لا يقوّم بغيره ، والفضّة لا يقوّم بغيرها إذا كانا مضروبين. وإن كان لنقله مئونة لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون له مثل أو لا مثل له. فإن كان له مثل كالحبوب والأدهان نظرت. فإن كانت القيمتان في البلدين سواء كان له مطالبته بالمثل ، لأنّه لا ضرر عليه في ذلك. وإن كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل وفيما لا مثل له سواء ، فللمغصوب منه إمّا أن يأخذ من الغاصب بمكّة قيمته بمصر ، وإمّا أن يدع حتّى يستوفي ذلك منه بمصر ، لأنّ في النقل مئونة ، والقيمة مختلفة ، فليس له أن يطالبه بالفضل .. إلخ» (١).

وهذه العبارة وإن كانت بظاهرها أجنبيّة عن محلّ البحث ـ من تعذّر المثل في بلد التلف والمطالبة ـ لاختصاصها بصورة وجود المثل في بلد المطالبة ، ولذا يتفرّع عليه أنّ القيمة المدفوعة إلى المالك هي بدل الحيلولة. لكنّ المناسبة ـ الداعية لتعرّض كلام الشيخ هنا ـ هي اتّحاد حكم المثليّ مع القيميّ فيما لو اختلفت قيمة المثل في بلدي

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٧٦.


«بأنّه إن لم يكن في نقله (١) مئونة كالنقدين فله المطالبة بالمثل ، سواء كانت القيمتان مختلفتين أم لا. وإن كان في نقله مئونة فإن كانت (٢) القيمتان متساويتين كان له المطالبة أيضا (٣) ، لأنّه (٤) لا ضرر عليه في ذلك ، وإلّا (٥) فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف ، أو يصبر

______________________________________________________

التلف والمطالبة ، وتوقّف نقل المثل على مئونة ، كما هو صريح قوله : «وإن كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل وفيما لا مثل له سواء» وأنّ المالك مخيّر بين مطالبة قيمة بلد التلف وبين الانتظار حتى العود إلى بلد التلف لاستيفاء المثل.

(١) أي : في نقل المغصوب. وهذا هو الشقّ الأوّل في عبارة المبسوط ، ومحصّله : جواز مطالبة المالك بالمثل في غير بلد الغصب والضمان ، سواء اتّحدت قيمة المثل في البلدين أم لا.

(٢) هذا هو الشقّ الثاني ، وهو تساوي قيمة بلد الغصب والمطالبة مع توقّف النقل على مئونة. وحكمه جواز المطالبة في غير بلد الضمان.

(٣) يعني : كالشقّ الأوّل الذي لم يتوقّف نقل المثل ـ من بلد الغصب إلى بلد المطالبة ـ على نفقة.

(٤) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لجواز المطالبة بالمثل في غير بلد الغصب ، ومحصّله : أنّ الضامن لا يتضرّر بأداء المثل إلى المالك ، لفرض تساوي قيمته في البلدين.

(٥) هذا هو الشقّ الثالث ، يعني : وإن لم تكن القيمتان متساويتين ـ مع توقّف النقل على مئونة ـ صار المثليّ كالقيميّ في أنّ المالك يتخيّر بين أخذ قيمة المثل في بلد التلف ، وبين الصبر حتى الرجوع الى بلد التلف ، وأداء المثل فيه إلى المالك.


حتى يوفيه بذلك البلد» (*) ثمّ قال : «إنّ الكلام في القرض كالكلام في الغصب» (١).

وحكي نحو هذا (٢) عن القاضي أيضا ، فتدبّر (٣).

______________________________________________________

(١) بخلاف السّلم ، فليس للمشتري مطالبة المسلم فيه ـ ولا بدله ـ في غير بلد العقد ، سواء أكان لنقله مئونة أم لا. كذا أفاده شيخ الطائفة قدس‌سره تلو عبارته المتقدّمة.

(٢) أي : حكي نحو هذا التفصيل عن القاضي (١) كما حكي عن شيخ الطائفة قدس‌سرهما.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ هذا التفصيل بشقوقه أجنبيّ عن موضوع البحث ، لأنّ مورد كلامه هو صورة وجود المثل في بلدي التلف والمطالبة ، ومورد البحث هو تعذّر المثل ، فكان الأنسب نقل كلام المبسوط في ذيل الفرع المتقدّم في الأمر الخامس في قبال قول الحلّيّ والعلّامة والفخر والشهيد قدس‌سرهم القائلين بجواز مطالبة المثل عند التمكّن منه مطلقا كما صنعه في الجواهر.

مع أنّ الشقّ الأوّل من تفصيله راجع إلى جواز المطالبة في غير بلد التلف من دون تعرض فيه لتعيين القيمة. والشق الثاني راجع إلى جواز المطالبة في صورة تساوي

__________________

(*) الحق أن يقال : إنّ اعتبار زمان القيمة كاعتبار مكانها. فعلى القول ببقاء العين أو المثل على العهدة فالعبرة بقيمة بلد الأداء ، كما تقدّم في زمان الأداء. ولا فرق بين الزمان والمكان من هذه الجهة.

وعلى القول بأنّ أداء القيمة عند تعذّر المثل غرامة للعين. فالعبرة بقيمة بلد تلف العين.

وعلى القول بكون التعذّر موجبا لضمان القيمة ، فالتعذّر البدويّ موجب لضمان قيمة بلد التلف ، والتعذّر الطاري موجب لضمان قيمة بلد التعذّر. وفي جميع الصور لا بدّ من لحاظ الأوصاف الدخيلة في الرغبات والماليّة.

__________________

(١) المهذب ، للقاضي ابن البرّاج ، ج ١ ، ص ٤٤٣.


ويمكن أن يقال (١) : إنّ الحكم باعتبار بلد القرض ، أو السّلم (٢) ـ على القول به

______________________________________________________

القيمتين ، وهو غير محلّ الكلام. والشقّ الثالث راجع إلى عدم جواز المطالبة بالمثل في غير بلد التلف ، وموضوعه وجود المثل ، وهو غير محلّ البحث.

(١) الظاهر أنّ غرضه قدس‌سره من هذه العبارة المناقشة في تفصيل المبسوط ، وبيانه : أنّ قوله في الشّقّ الثالث : «وإلّا فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف أو يصبر حتى يوفيه بذلك البلد» مشكل ، لاقتضاء أدلّة الضمان ـ كآية الاعتداء بالمثل ـ اشتغال عهدة الضامن ببدل المغصوب ، وللمالك مطالبته منه ، سواء أكانا في بلد الضمان أم في بلد آخر ، وسواء تساوت القيم في البلدين أم اختلفت. ولا مقيّد في البين حتى يختصّ جواز المطالبة بما إذا كانا في بلد الضمان ، أو تساوت القيمتان في البلدين. بل مقتضى إطلاق الدليل استحقاق المطالبة في بلد آخر حتى إذا كانت القيمة فيه أزيد من بلد الضمان. مع أنّ شيخ الطائفة قدس‌سره منع المالك من مطالبة الزيادة ، وخيّره بين مطالبة قيمة المثل في بلد الضمان وبين الانتظار حتى يؤدّي الضامن البدل في بلد الضمان.

نعم نقول باستحقاق المطالبة بالبدل في خصوص بلد القرض والسّلم ، وذلك لانصراف إطلاق العقد إليه وعدم تقييده بأداء المضمون في مكان آخر كانصراف إطلاق عقد البيع إلى نقد بلد المعاملة لا نقد بلد آخر. وأمّا الغصب وما بحكمه ـ كالمقبوض بالبيع الفاسد ـ فلا عقد حتى يختصّ استحقاق مطالبة البدل ببلد الضمان ، بل مقتضى إطلاق دليل الضمان جواز المطالبة به في بلد آخر حتى مع تفاوت القيمتين.

(٢) قد عرفت فيما نقلناه عن المبسوط أنّ شيخ الطائفة قدس‌سره ألحق القرض بالغصب ، ومقتضاه جريان الشقوق الثلاثة فيه ، ولم يحكم بتعيّن بلد القرض ، وإنّما صرّح بتعيّن بلد العقد في بيع السّلم خاصّة.

وكيف كان فالفرق بين القرض والسّلم ـ بنظر شيخ الطائفة ـ لا يدفع إشكال المصنف عليه ، لأنّ غرضه إبداء الفارق بين الغصب وما بحكمه ، وبين القرض والسّلم.


مع الإطلاق ـ لانصراف (١) العقد إليه ، وليس (*) في باب الضمان ما يوجب هذا الانصراف (٢).

بقي الكلام في أنّه هل يعدّ (٣) من تعذّر المثل خروجه عن القيمة كالماء على الشاطئ إذا أتلفه في مفازة ، والجمد في الشتاء إذا أتلفه في الصيف ، أم لا؟ الأقوى ـ بل المتعيّن ـ هو الأوّل (٤) ،

______________________________________________________

(١) خبر «إنّ» وضمير «اليه» راجع إلى بلد القرض أو السّلم.

(٢) فالفارق بين الغصب والقرض والسّلم فقدان الانصراف في الأوّل ، لانتفاء موضوعه أعني به العقد. بخلاف القرض والسّلم ، فإنّ عقدهما منصرف إلى بلد العقد.

هذا ما يتعلق بالجهة السادسة.

لحوق حكم سقوط المثل عن الماليّة بتعذّره

(٣) هذه سابعة جهات البحث في الأمر السادس ، وتفترق عن الجهات الستّ المتقدّمة في أنّ الكلام في هذه الجهة ليس في إعواز المثل وعدم وجوده خارجا ، بل في إلحاق سقوطه عن الماليّة بتعذّره حتى ينقلب الضمان إلى القيمة مع تيسّر الكلّي المثليّ ، وذلك كالماء إذا أتلفه في مفازة ، فأراد أداء مقدار مساو له على شاطئ النهر ، والمفروض عدم مالية الماء عليه ، فهل يكفي ردّ المثل ، أم يجب ردّ قيمة التالف في زمان الضمان ومكانه ، أم قيمة المثل آنا قبل سقوطه عن الماليّة؟ وجوه ، ستأتي.

(٤) وهو كون سقوط المثل عن القيمة كتعذّر المثل ، لأنّ المماثلة المعتبرة في ضمان

__________________

(*) إلّا أن يقال : إنّ المنساق من أدلّة الضمانات أيضا اعتبار بلد التلف ، أو البلد الذي وصل إليه العين ، إذ مقتضى المماثلة والبدليّة المستفادة من التغريم ذلك ، فإذا اختلفت القيم باختلاف الأمكنة ، فلا بدّ من اعتبار قيمة بلد تلف العين ، أو بلد وصولها إليه ، فلا يبقى حينئذ فرق بين المقام والقرض والسّلم.


بل حكي عن بعض (١) نسبته إلى الأصحاب وغيرهم ، والمصرّح (٢) به في محكيّ التذكرة والإيضاح والدروس قيمة المثل في تلك المفازة (٣).

______________________________________________________

المثل يراد بها المماثلة في الحقيقة النوعيّة والماليّة ، إذ المماثلة في الحقيقة النوعيّة فقط ـ بأن تشملهما حقيقة واحدة كصدق طبيعة الماء والجمد على الماء على الشاطئ والثلج في الشتاء مثلا ، من دون الماليّة ـ لا توجب المماثلة المقصودة في باب الضمان ، وهي المماثلة في الحقيقة والماليّة معا.

(١) الحاكي هو السيّد العاملي قدس‌سره : «وفي جامع المقاصد نسبته إلى الأصحاب وغيرهم» (١). وعبارة المحقّق الكركي قدس‌سره هذه : «فالمختار هو وجوب القيمة ، ولا محيد عن مختار الأصحاب وغيرهم في ذلك» (٢).

وظاهر نسبته إلى الأصحاب إجماعهم على الانتقال إلى القيمة.

(٢) الظاهر أنّ غرضه الخدشة في الإجماع المستفاد من كلام المحقّق الكركي قدس‌سره وذلك لأنّهم اختلفوا في القيمة المستقرّة في عهدة الضامن ، هل هي قيمة المغصوب كالثلج التالف في الصيف ، أم قيمة المثل؟ ذهب العلّامة في التذكرة والقواعد ، وفخر المحققين والشهيد (٣) إلى اعتبار قيمة المثل في مثل تلك المفازة ـ في مثال إتلاف الماء في الصيف ـ أو قيمة مثل ذلك الجمد. وذهب المحقّق الكركي إلى ضمان قيمة المغصوب (٤) ، لا المثل ، ومعه كيف يدّعى الإجماع على ضمان قيمة المغصوب؟

(٣) يعني : أنّ العبرة في تقويم المثل ـ الذي سقط عن القيمة ـ بقيمته في تلك المفازة ، أي : قيمته في المكان الذي أتلفه فيه.

بناءً على عدم ضمان إرتفاع القيمة السوقيّة وإنحطاطها. فحينئذٍ يكون

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٢.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ؛ إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٧ ؛ الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣.

(٤) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٥.


ويحتمل آخر مكان أو زمان سقط المثل به عن الماليّة (١) (*).

______________________________________________________

المضمون آخر زمان أو مكان ماليّته ، لأنّه بعد فرض ضمان ماليّة المال المضمون كنوعيّته ـ وعدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة ـ يكون المدار في الضمان آخر أزمنة وأمكنة ماليّته ، بمعنى سقوطه عن الماليّة بعد ذلك الزمان والمكان.

مثلا إذا كان قيمة إناء الماء في المفازة درهمين ، فتوجّها نحو الشاطئ ، وتنزّلت قيمته إلى نصف درهم ، لقرب المسافة إلى النهر ، ولم تقلّ عن هذا الثمن بعدها ، بل سقطت عن الماليّة بالكليّة ، كان المدار على آخر مكان الماليّة ، وهو نصف الدرهم في المثال.

وكذا الحال في إتلاف الجمد في الصيف وهو زمان ارتفاع قيمته ، وتتنزّل ماليّته في فصل الخريف شيئا فشيئا كلّما قرب الشتاء ، فالمدار على قيمته النازلة التي تسقط عنها بعد ذلك الزمان كآخر أيّام الخريف. وهكذا سائر الأشياء المثليّة.

__________________

(*) الأولى التعرّض لحكم سقوط نفس العين عن الماليّة أوّلا ، ثم التكلم في حكم سقوط المثل عن الماليّة ، فنقول : قد أفاد المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ما لفظه : «إذا سقط العين عن الماليّة فمقتضى عموم على اليد المستفاد منه كون عهدة العين على ذي اليد كونها مغيّاة بأداء المأخوذ ، فلا ينبغي الشكّ في خروج العين عن العهدة بأدائها وإن سقطت عن الماليّة. كما لا ريب في الخروج عن عهدة العين بأدائها مع تنزّل قيمتها. فيعلم منه أنّ الواجب أداء نفس المأخوذ ، لا بما له من الصفة الاعتباريّة أعني الماليّة ، وإلّا فلا فرق بين سقوطها عن الماليّة رأسا وسقوط مقدار معتدّ به عن ماليتها. ومقتضى دليل من أتلف مال الغير فهو له ضامن ليس إلّا تدارك المال بالحمل الشائع ، لا تدارك الماليّة (١).

وهو قدس‌سره تبع شيخه المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) ، وحاصله : أنّ ردّ العين وإن سقطت

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٧.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٣٩.


.................................................................................................

__________________

عن الماليّة ، لكنّه يصدق عليه أنّه ردّ لما أخذه.

هذا إذا كان دليل الضمان «على اليد» فإنّ إطلاق «حتى تؤديه» يقتضي خروج العين عن العهدة بأدائها مطلقا وإن سقطت عن الماليّة.

وأمّا لو كان قاعدة الإتلاف ، فالظاهر منها هو إتلاف المال ـ لا إتلاف الماليّة ـ فسقوط المأخوذ عن الماليّة لا يقدح في ارتفاع الضمان بردّها ، وليس إخراج العين من مكان إلى آخر لا ماليّة لها فيه إزالة لماليّتها ، وليس كجعل الخل خمرا بعلاج ، لأنّه إزالة لوصف الخليّة ، ويتبعه زوال الماليّة ، فضمانه من حيث إزالة الصفة ، لا من حيث إزالة الماليّة.

وفيه : ما مرّ مرارا من : أنّ الأوصاف الدخيلة في الرغبات وزيادة القيم سواء أكانت حقيقية أم اعتباريّة أم إضافيّة مضمونة ، لوقوعها تحت اليد تبعا. وهذا غير القيمة السوقيّة المختلفة زيادة ونقيصة التي هي غير مضمونة كما تقدّم سابقا.

وعليه فصفة الثلج ـ وهي كونه في الصيف ـ توجب الرغبة والماليّة ، بخلاف كونه في الشتاء ، فصفة الصيفيّة كصفة الخليّة مضمونة ، فإذا أبقى الثلج إلى زمان الشتاء لا يكفي ردّه في ارتفاع الضمان ، لبقاء ضمان صفة الصيفيّة الإضافيّة الدخيلة في قيمته في ذمّته ، من غير فرق في ذلك بين كون العين في صورة التلف على العهدة أو المثل.

ويظهر ممّا ذكرنا حال الدراهم التي يسقطها السلطان ، فإنّ الدرهم الموصوف بكونه معتبرا ورائجا مضمون على قابضه ، فلا بدّ في مقام الأداء وتفريغ الذّمّة من لحاظ هذا الوصف ، بأن تلحظ العين وتجبر موصوفة بهذا الوصف ، وإلّا فلم يؤدّ ما عليه ، فإنّ دليل الضمان يشمل العين وصفتها باعتبار واحد ، سواء سقطت العين عن الماليّة رأسا كما إذا كانت مواد الفلوس الرائجة من القرطاس ونحوه ممّا إذا أسقطه السلطان سقط عن الماليّة رأسا ، لعدم الماليّة للمادّة. أم نقصت ماليّتها ، كما إذا كانت مادّتها من الذهب أو الفضّة ، وإسقاط السلطان له أثّر في ماليّته من حيث السكّة فقط دون مادّته ، فإنّ المضمون


.................................................................................................

__________________

هو العين بوصفها الدخيل في الماليّة ، فالدراهم المزبورة مضمونة بوصفها السّكيّ.

ولا بدّ من حمل إطلاق كلام الأصحاب من «أنه إذا اقترض دراهم ، ثم أسقطها السلطان ليس عليه إلّا الدراهم الاولى» (١) على الدراهم التي لم تخرج عن الماليّة.

كما كان الأمر في الدراهم كذلك ، لأنّ مادّتها كانت من الفضّة التي لها ماليّة. فلا وجه لتنظير المقام أعني به خروج المثل عن الماليّة بالدراهم التي أسقطها السلطان ، وذلك لعدم خروج موادّ الدراهم عن الماليّة.

وأمّا قاعدة الإتلاف فالظاهر أنّ التعبير في دليلها ب «مال الغير». دون «ملك الغير» إنّما هو لأجل إناطة الضمان بماليّة المتلف ، لا بمجرّد إضافة الملكيّة ، إذ لو كانت هي المدار في الضمان لزم التعبير بملك الغير ، فالماليّة ملحوظة على نحو الموضوعيّة في باب الضمان.

نعم الاستيلاء على ملك الغير وإن كان حراما أيضا ، إلّا أنّه ما لم يكن مالا ليس بمضمون ، بل الحرمة تكليفيّة محضة.

فما أفاده قدس‌سره من «عدم ضمان الماليّة ، بل المضمون نفس المال» ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أنّ كلّ صفة لها دخل في الماليّة مضمونة تبعا للعين ، فنقل العين من مكان إلى مكان آخر لا ماليّة لها فيه إزالة لماليّتها الناشئة عن الصفة الإضافيّة ، فإنّ الثلج المضاف إلى زمان خاص ومكان كذلك صفة دخيلة في ماليّته تلزم رعايتها.

تتمّة : إذا شكّ في خروج العهدة بدفع العين المضمونة التي سقطت عن الماليّة ، فهل الأصل يقتضي الاشتغال ولزوم دفع القيمة أيضا ، أم لزوم دفع العين فقط ، أم القيمة كذلك؟ وهذا الشكّ ناش عن أنّ التدارك هل يجب أن يكون بالماليّة أو بخصوصيّة العين

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣٩.


.................................................................................................

__________________

أو بكلتيهما؟ ومقتضى الأصل بقاء العين بماليّتها على العهدة ، وعدم سقوطها بأداء ما سقطت عن القيمة إلّا بأدائها وقيمتها ، فلا وجه لأن يقال : إنّ أداء العين موجب لسقوط الضمان ، واشتغال الذّمّة بخصوصيّة المال مشكوك فيه ، فينفى بالبراءة.

بل يقال : إنّ ضمان العين المتمولّة قد ثبت قطعا واشتغلت بها الذّمّة يقينا ، ودفع العين الساقطة عن الماليّة إلى المالك يوجب الشك في سقوط الضمان ، ومقتضى الاستصحاب بقاء العهدة إلى أن تؤدّى القيمة أيضا ، فاستصحاب بقاء العهدة يقضي بلزوم دفع القيمة أيضا.

وقد نوقش في هذا الأصل بما في حاشية المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من «أنّه لا مجال لهذا الأصل ، إذ لم يثبت للعهدة أثر شرعا وعرفا إلّا وجوب دفع العين ، فلا معنى للتعبد بالقيمة من التعبد ببقاء العين إلّا بالأصل المثبت ، لأنّ بقاءها مع دفع العين ملزوم عادة أو عقلا لوجوب التدارك بالماليّة. نعم أصالة بقاء الخروج عن عهدة العين بدفعها قبل سقوطها عن الماليّة لا بأس بها» (١).

وفيه : أنّ أصالة بقاء شغل الذّمّة يستلزم عقلا وجوب الخروج عن العهدة ، وهذا اللازم أعمّ للحكم الواقعيّ والظاهريّ ، نظير وجوب الإطاعة عقلا الذي هو لازم أعمّ للحكم الواقعيّ والظاهريّ ، ووجوب مقدّمة الواجب ، فإنّهما حكمان عقليّان للوجوب الأعمّ من الواقعيّ والظاهريّ.

فإذا ثبت وجوب شي‌ء بالاستصحاب مثلا ترتّب عليه الحكمان العقليان المذكوران ، كما يترتّبان على الوجوب الواقعيّ الثابت بالعلم الوجدانيّ. ومن المعلوم أنّه لا شائبة لمثبتيّة الأصل في هذه الموارد. نظير استصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلا ، فإنّ

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٧.


.................................................................................................

__________________

لازمه العقليّ لزوم الإطاعة بإتيان صلاة الجمعة ، لكون الوجوب المستصحب كالوجوب المعلوم لازم الإطاعة عقلا. والمقام كذلك ، إذ العقل كما يحكم بلزوم الخروج عن عهدة مال الغير مع العلم بالاشتغال ، كذلك يحكم به مع استصحاب الاشتغال ، لكون الاستصحاب حجة كحجّيّة العلم عليه ، مع الفرق بينهما من حيث التعبد في الأوّل.

فالمتحصّل : أنّ الغرض من الاستصحاب إثبات الاشتغال فقط ، الذي هو موضوع لحكم العقل بلزوم الخروج عن العهدة بأيّ شي‌ء يمكن ، ومن المعلوم أنّ أداء العين الساقطة عن الماليّة لا يوجب العلم بالخروج عن العهدة ، بل يتوقف العلم به على أداء القيمة أيضا.

ويمكن أن يقال : بعدم الحاجة إلى الاستصحاب ، بل نفس قاعدة الاشتغال كافية في لزوم دفع القيمة أيضا ، لتوقّف اليقين بالفراغ عليه.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره أخيرا من الأصل الآخر ـ وهو أصالة بقاء الخروج عن عهدة العين بدفعها قبل سقوطها عن الماليّة ـ ففيه : أنّه من الأصل التعليقيّ ، إذ لا معنى للتنجيزيّ مع عدم تحقّق الدفع. وحجيّة الاستصحاب التعليقيّ الراجع إلى التعليق في الموضوع ـ كالمقام ، لأنّ تقريبه حينئذ هو : أنّه لو دفع العين قبل خروجها عن الماليّة لكانت مسقطة للعهدة ، والآن كما كان ـ محلّ الاشكال ، لعدم إحراز وحدة الموضوع في حالتي اليقين والشكّ ، مع سقوط العين عن الماليّة في حال الشك.

فالاستصحاب التنجيزيّ القاضي ببقاء العهدة محكّم ، فلا يمكن الاكتفاء في سقوط العهدة بدفع العين الساقطة عن الماليّة ، بل لا بدّ من دفع كلّ من العين والقيمة. أمّا العين فلكونها بشخصها مضمونة. وأمّا القيمة فلكونها كذلك أيضا.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد بالقيمة قيمة يوم سقوط العين عن الماليّة ، لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة ، لا قيمة يوم الأخذ ، ولا يوم الأداء ، ولا أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان الأداء ، أو إلى زمان التلف.


فرع (١) : لو دفع القيمة في المثل المتعذّر مثله ، ثمّ تمكّن من المثل

______________________________________________________

القدرة على المثل بعد دفع القيمة

(١) هذا فرع آخر ممّا تعرّض له المصنّف من المباحث المتعلّقة بإعواز المثل ، وهو : حكم تمكّن الضامن من أداء المثل بعد تعذّره ودفع قيمته إلى المالك ، فهل يجب عليه أداء المثل أم لا؟ ذكر المصنف مباني ثلاثة ، يقتضي اثنان منها عدم الوجوب ، ويحتمل الوجوب بناء على الثالث.

وتوضيحه : أنّه إمّا أن نقول بعدم سقوط المثل عن الذّمّة بسبب التعذّر ، وإمّا أن نقول بسقوط المثل بسبب تعذّره واستقرار القيمة. وبناء على الانقلاب نقول تارة :

إنّ المغصوب بمجرّد تعذّر مثله يصير قيميّا ، واخرى : إنّ نفس المثل بتعذّره ـ الذي هو كالتلف ـ يصير قيميّا. فهذه مبان ثلاثة.

فعلى الأوّل ـ وهو عدم سقوط المثل بالإعواز ـ لا يجب دفع المثل إلى المالك ، لأنّ ما في الذّمّة كان هو المثل إلى زمان دفع القيمة ، ولمّا كان إعطاء القيمة بالتراضي فقد سقط المثل ، لكونه من قبيل الوفاء بغير الجنس مع التراضي ـ كما في القرض ـ ومن المعلوم سقوط ما في الذّمّة به ، فلا وجه لوجوب دفع المثل بعد التمكّن منه.

وعلى الثاني ـ وهو سقوط المثل بالتعذر وصيرورة المغصوب المثليّ قيميّا ـ لا يجب أداء المثل أيضا ، لكون سقوطه بدفع القيمة أولى من الفرض الأوّل ، لأنّ نفس القيمة المدفوعة مصداق لكلّيّ القيميّ الثابت في ذمّة الضامن ، ومن المعلوم أنّ دفع مصداق الطبيعيّ رافع لما في العهدة حقيقة.

وبعبارة اخرى : إنّ نفس القيمة حقّ المضمون له واقعا ـ بناء على انقلاب المضمون المثليّ إلى قيمته ـ فأداؤها إلى المالك أداء حقّه الواقعيّ ، فيتعيّن سقوط الضمان حينئذ.

وعلى الثالث ـ وهو سقوط المثل وانقلابه بقيمته لا بقيمة العين ـ يكون السقوط لأجل كون القيمة بدل الحيلولة عن المثل. فمع التمكّن من أدائه يحتمل وجوب المثل.


فالظاهر (١) عدم عود المثل في ذمّته ، وفاقا للعلّامة رحمه‌الله (٢) ومن تأخّر عنه (٣) ممّن تعرّض للمسألة ، لأنّ المثل كان دينا في الذّمّة سقط بأداء عوضه مع التراضي ، فلا يعود ، كما لو تراضيا (٤) بعوضه مع وجوده. هذا (٥) على المختار من عدم سقوط المثل عن الذّمّة بالإعواز.

وأمّا على القول بسقوطه (٦) وانقلابه قيميّا ، فإن قلنا بأنّ المغصوب انقلب

______________________________________________________

هذا حكم الشقوق الثلاثة. ومذهب الماتن هو الأوّل.

(١) هذا مختار المصنّف قدس‌سره وفاقا لجمع ، وهو مبنيّ على مذهب المشهور من عدم سقوط المثل بالتعذّر ، كما تقدّم في أوائل هذا التنبيه السادس بقوله : «إنّ المشهور أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع ، لأنّ المثليّ ثابت في الذّمّة إلى ذلك الزمان ، ولا دليل على سقوطه بتعذّره».

(٢) قال في القواعد : «ولو غرم القيمة ثمّ قدر على المثل فلا تردّ القيمة ، بخلاف القدرة على العين» (١).

(٣) كالشهيدين والمحقّق الكركيّ وغيرهم قدس‌سرهم كما نسبه إليهم السيد العاملي قدس‌سره (٢).

(٤) يعني : أنّ عدم عود المثل المتعذّر إلى الذّمّة ـ بعد القدرة عليه ـ يكون نظير تراضي المالك والضامن على القيمة في صورة التمكّن من المثل ، فلو أخذها المالك لم يكن له مطالبة المثل.

(٥) أي : عدم عود المثل إلى عهدة الضامن مبنيّ على المختار .. إلخ.

(٦) مقتضى السياق رجوع الضميرين إلى «المثل المتعذّر» لكنّه في «انقلابه» لا يخلو من تكلّف. وقد تقدم نظيره في (ص ٤٠٤) فراجع.

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ ، السطر ٢٤ (الطبعة الحجرية).

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٣ ؛ ولاحظ : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، السطر ٣٧ و ٣٨ ؛ الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣ ؛ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥٥ و ٢٥٦ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٤.


قيميّا عند تعذّر مثله (١) فأولى (٢) بالسقوط ، لأنّ المدفوع نفس ما في الذّمّة.

وإن قلنا : إنّ المثل بتعذره ـ النّازل (٣) منزلة التلف ـ صار قيميّا (٤) احتمل (٥) (*) وجوب المثل عند وجوده ، لأنّ (٦) القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل ، وسيأتي (٧) أنّ حكمه عود المبدل عند انتفاء الحيلولة.

______________________________________________________

(١) هذا هو مبنى الشقّ الثاني ، المتقدّم بقولنا : «وبناء على الانقلاب فتارة نقول إنّ المغصوب بمجرّد تعذّر مثله يصير قيميّا».

(٢) هذا حكم الشقّ الثاني ، وهو أولوية سقوط المثل عن الذّمّة من الشقّ الأوّل ، لما عرفت من انتقال حقّ المضمون له من المثل إلى القيمة ، فكأنّ العين المضمونة قيميّة من أوّل ضمانها ، لا مثليّة ، فكيف يجب دفع المثل بعد أداء قيمة المضمون؟

(٣) صفة لتعذّر المثل ، يعني : أنّ تعذّر المثل يكون بمنزلة تلف جميع أفراده ، الموجب لتبدّله بالقيمة.

(٤) هذا مبنى الشقّ الثالث ، وقد عرفته بقولنا : «واخرى نقول : إنّ نفس المثل بتعذّره يصير قيميّا».

(٥) هذا حكم الشق الثالث ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «وعلى الثالث ..

يكون السقوط لأجل ..».

(٦) تعليل لاحتمال وجوب المثل ، يعني : أنّ القيمة بدل ماداميّ ، فإذا وجد المبدل سقط البدل عن الاعتبار ، ويرجع الحكم إلى المبدل.

(٧) يعني : في الأمر السابع بقوله : «ثم إنّه لا إشكال في أنّه إذا ارتفع تعذّر ردّ العين وصار ممكنا وجب ردّها إلى المالك».

__________________

(*) لكن هذا الاحتمال ضعيف جدّا ، لأنّه مع فرض الانقلاب يكون ما على العهدة خصوص القيمة ، لا غيرها ، فدفع القيمة رفع لمصداق ما على العهدة ، فلا معنى


.................................................................................................

__________________

لرجوع المثل ، إذ لم يكن في الذّمّة مثل حتى يرجع بعد وجوده.

نعم في صورة عدم سقوط المثل عن العهدة يتّجه القول بكون القيمة من قبيل بدل الحيلولة ، بدعوى : أنّ القيمة غير جابرة لحيثيّتي النوع والماليّة ، بل جابرة لخصوص حيثيّة الماليّة ، وبدليّتها ناقصة ، فمع التمكّن من الجبران التامّ تعيّن ذلك.

وكيف كان فتفصيل الكلام في المقام : أنّه على القول ببقاء العين على العهدة إلى زمان التدارك والأداء ، وكون أداء المثل أداء ناقصا ، للعذر عن الأداء التامّ بسبب التلف ، وكون أداء القيمة عند تعذّر المثل أداء للعين بوجه أنقص من أداء المثل.

وكذا على القول بكون المثل على العهدة ، وأنّ أداء القيمة أداء ناقص للمثل ، للعذر عن الأداء التام يتعيّن القول بعود المثل ، لارتفاع العذر بوجود المثل عن الأداء التّام ، فلا يكفي الأداء الناقص ، لعدم كونه أداء عند رفع العذر.

والحاصل : أنّ أداء ما في الذّمّة بغير مصداقه أداء ناقص ، ومع التمكّن من أدائه التامّ لا يعدّ الناقص أداء له. نعم لو أسقط صاحب الحق خصوصيّة ما في الذّمّة من العين أو المثل ، وطالب الضامن بأداء غيره ، فمقتضى القاعدة سقوط حقّه عن المثل ولو مع وجوده فضلا عن إعوازه.

هذا كلّه بناء على كون القيمة أداء ناقصا للمثل.

وأمّا بناء على كونها أداء تامّا للمثل ، كما أنّ نفس المثل أداء كامل وجبران تامّ للعين في المثليّات ، فإذا تعذّر المثل ودفع القيمة كانت القيمة تمام الغرامة ومسقطة لما في العهدة ، فليست القيمة غرامة ناقصة ، بل هي تامّة ، فمع وجود المثل يكون هو تمام غرامة العين ، ومع فقده أو كون العين قيميّة تكون القيمة تمام غرامتها وجابرة لتمام الخسارة ، ومعه لا معنى لبقاء المثل على العهدة.

ولا وجه للتفصيل الذي أفاده المصنّف قدس‌سره من «أنّه مع بقاء المثل في الذّمّة لا يعود المثل ، لسقوطه بالقيمة مع التراضي ، ومع سقوط المثل وانتقاله إلى القيمة يحتمل


.................................................................................................

__________________

القول بعوده بعد وجوده ، لكون القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل» وذلك لأنّ الأمر بالعكس ، فإنّ المثل إذا سقط عن الذّمّة وانتقل إلى القيمة ، فالقيمة المدفوعة حينئذ نفس ما على عهدة الضامن ، فيكون من الوفاء بالجنس ، فلا محيص عن السقوط. ولا وجه لعود المثل إلى الذّمّة بعد كون القيمة عين ما في الذّمّة. فلا بدّ في الحكم بعود المثل بعد التمكّن منه من الالتزام ببقاء المثل في العهدة ، وعدم انتقاله بسبب التعذّر إلى القيمة حتى تكون القيمة عند تعذّره من بدل الحيلولة.

ويمكن التفصيل بوجه آخر ، وهو : أنّه إذا كان دفع القيمة بعنوان الصلح عمّا في الذّمّة ، سواء أكان هو العين أم القيمة ، فيسقط ما في العهدة ، ولا يبقى مورد لبدل الحيلولة.

وإن كان بعنوان الغرامة وتدارك ما على الضامن ، فعلى القول بانتقال العين أو المثل المتعذّر إلى القيمة حقيقة فالقيمة المدفوعة عين حقّه ، فلا مورد لبدل الحيلولة حينئذ أيضا.

وعلى القول ببقاء العين أو المثل في الذّمّة إلى زمان التدارك ، وأنّ القيمة غرامة ناقصة ، فالقيمة عند تعذّر المثل تكون من بدل الحيلولة ، لأنّ البدليّة الناقصة العذرية ترتفع ، وتنتقل إلى البدليّة التامّة الاختياريّة.

ولعلّ هذا التفصيل أولى من سابقه ، لأنّه على تقدير كون العين أو المثل في الذّمّة إذا صالح المالك ما على عهدة الضامن بالقيمة فقد سقط ما عليه. ولا معنى لبدل الحيلولة حينئذ.

وعلى تقدير انقلاب العين التالفة أو المثل المتعذّر إلى القيمة تكون القيمة المدفوعة عين ما على العهدة ، لا بدلا عنه حتى يقال : إنّه بدل الحيلولة ، فلا موضوع لبحث البدليّة أصلا.


السابع (١) : لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا (٢) فقد حكي (٣) الاتّفاق على

______________________________________________________

ضمان القيميّ بالقيمة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر بيان جهة أخرى مما يتعلّق بالمبيع بالبيع الفاسد إذا تلف بيد المشتري ، وهي كيفيّة ضمان القيميّات ، وأنّها مضمونة بالقيمة أو بما يماثلها. فإن كانت مضمونة بالقيمة لم يكن للمالك إلزام الضامن بالمثل ، ولا للضامن كذلك. وكذا الحال لو كان القيميّ ـ كالمثليّ ـ مضمونا بالمثل. فيقع البحث في مقامين :

أحدهما : في الدليل على ضمان القيميّ بالقيمة ، لا المثل.

ثانيهما : في تعيين القيمة بحسب تفاوتها في الأزمنة من يوم القبض والتلف ، وأعلى القيم بينهما ، وغير ذلك ممّا سيظهر.

(٢) قد أشرنا إلى تعريف القيميّ في الأمر الرابع ، وأنّه ما يكون مدار ماليّته على الجهات الشخصيّة ، وهذا ممّا يحكم به العرف في باب الضمان.

(٣) هذا شروع في المقام الأوّل ، وقد استدلّ بوجوه على ضمان القيميّ بالقيمة.

الأوّل : الإجماع المنقول الذي ادّعاه الفقيه المتتبّع السيد العاملي قدس‌سره ـ بعد حكاية الشهرة عن الشهيد ـ بقوله : «لا أجد فيه في الباب خلافا ، إلّا ما يحكى عن أبي علي ، وما يظهر من قرض الخلاف ، وما لعلّه يظهر من المحقّق في باب القرض .. وكيف كان فقد اتّفقوا هنا ـ يعني في باب الغصب ـ من غير تأمّل ولا خلاف» (١).

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٣ و ٢٤٤.


كونه مضمونا بالقيمة (١). ويدلّ عليه الأخبار المتفرّقة (٢) في كثير من القيميّات ،

______________________________________________________

(١) خلافا للإسكافي والشيخ والمحقّق في باب القرض.

لكن صحّة نسبة الخلاف إلى الإسكافي لا تخلو عن إشكال ، لعدم ظهور عبارته المحكيّة فيما نسب إليه ، وتقدّم التعرّض له عند كلام المصنّف في أوّل التنبيه السادس ، وسيأتي أيضا. وأمّا مخالفة شيخ الطائفة والمحقّق قدس‌سرهما فهي مبنية على ثبوت التلازم بين القرض والمقام أعني به المقبوض بالعقد الفاسد ، المحكوم بحكم الغصب ، وهو غير ثابت.

(٢) أي : ويدلّ على ضمان القيميّ بالقيمة الأخبار المتفرّقة الواردة في كثير من القيميّات المضمونة بالإتلاف والالتقاط ونحوهما من موجبات الضمان ، وهذه الأخبار دليل ثان على المدّعى ، وقد تقدّم بعضها في (ص ٣٣٨) كرواية بيع الجارية المسروقة ، وكرواية السفرة وغيرهما ، ونذكر بعضها الآخر هنا ، فنقول وبه نستعين :

منها : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، قال : «سألته عن رجل أصاب شاة في الصحراء ، هل تحلّ له؟ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هي لك أو لأخيك أو للذئب ، فخذها وعرّفها حيث أصبتها ، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها ، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها ؛ ان جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردّها عليه» (١).

وتقريب الدلالة : أنّ الشاة المضمونة بالالتقاط قيميّة ، فتضمن بقيمتها ، لقوله عليه‌السلام : «يطلب ثمنها أن تردّها عليه».

ومنها : رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام ، قال : «وسألته عن الرجل يصيب اللقطة ، فيعرفها سنة ، ثم يتصدّق بها ، فيأتي صاحبها ، ما حال الذي تصدّق بها؟ ولمن الأجر؟ هل عليه أن يردّ على صاحبها أو قيمتها؟ قال : هو ضامن لها ، والأجر له ، إلّا أن يرضى صاحبها ، فيدعها والأجر له» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٦٥ ، الباب ١٣ من أبواب اللقطة ، الحديث ٧.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ ، الباب ٢ من أبواب اللقطة ، الحديث : ١٤.


فلا حاجة (١) إلى التمسّك بصحيحة أبي ولّاد الآتية في ضمان البغل (*)

______________________________________________________

والشاهد في كون الملتقط ضامنا لقيمة اللقطة ، لأنّه عليه‌السلام قرّر السائل في اشتغال عهدته بالقيمة ، وقال : «هو ضامن لها».

ومنها : ما رواه زيد بن علي عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : «أتاه رجل تكارى دابة فهلكت ، وأقرّ أنّه جاز بها الوقت ، فضمّنه الثمن ولم يجعل عليه كراء» (١). بتقريب : أنّ الدّابة الهالكة قيميّة ، والمستأجر المفرّط ضامن لقيمتها.

ومنها : مرسلة الصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في حديث : «وإن وجدت طعاما في مفازة فقوّمه على نفسك لصاحبه ثم كله ، فإن جاء صاحبه فردّ عليه القيمة» (٢). والتقريب كما تقدّم.

ومنها : رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام : «أنّه قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم ، فاحترقت ، واحترق متاعهم؟ قال : يغرم قيمة الدار وما فيها ثم يقتل» (٣).

والدلالة ظاهرة أيضا ، فإنّ بعض الأمتعة المحترقة قيمي عادة ، وقد حكم عليه‌السلام بضمان قيمة الدار والأثاث.

ومنها : روايات أخر وردت في تلف العين المرهونة سيأتي ذكرها عند تعرّض الماتن لها.

(١) هذا تعريض بما في الجواهر من الاستدلال ـ على ضمان القيميّ بالقيمة ـ

__________________

(*) أورد المحقّق الايرواني قدس‌سره عليه بأنّ «إظهار الاستغناء عن الصحيحة ، ثم العود إلى الاستدلال بها بعد سطرين ليس كما ينبغي» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٧ ، الباب ١٧ من أبواب الإجارة ، الحديث ٥.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٥١ ، الباب ٢ من أبواب اللقطة ، الحديث ٩.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٢١٠ ، الباب ٤١ من موجبات الضمان ، الحديث ١.

(٤) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠١.


.................................................................................................

______________________________________________________

بصحيحة أبي ولّاد الآتية ، وبنصوص ضمان العبد المشترك المعتق بعضه ، قال صاحب الجواهر قدس‌سره : «نعم للمصنّف ـ وهو المحقّق ـ في كتاب القرض ضمان القيميّ بمثله ، وقد سمعت الكلام فيه هناك. كما أنّك سمعت الكلام في المحكيّ عن ابن الجنيد المحتمل لإرادة ما لا ينافي المشهور منه. وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه ، لظهور صحيح أبي ولّاد وغيره ممّا دلّ على ضمان الحيوان عبدا كان أو غيره في كون الكلام القيمة ، ومنه نصوص العتق لشريك ، المقتضي للسراية المأمور بها بالتقويم ، فليس للمتلف دفع المثل العرفي إلّا مع رضا المالك. كما أنّه ليس للمالك اقتراحه» (١).

والمستفاد منه : الاستدلال على اعتبار القيمة في ضمان القيميّات بطائفتين من الأخبار.

الأولى : صحيحة أبي ولّاد ، الظاهرة في ضمان البغل بالقيمة ، لقوله عليه‌السلام : «نعم قيمة بغل يوم خالفته» ولمّا كانت البغال والحمير والدّوابّ معدودة من القيميّات ، فلو تلفت اشتغلت الذّمّة بأثمانها لا بأمثالها. وعليه فالصحيحة دليل على تعيّن القيمة في بدليّتها عن العين القيميّة المضمونة.

الثانية : ما ورد من أنّه لو كان عبد مشتركا بين جماعة ، فأعتق أحدهم نصيبه ،

__________________

والأمر كما أفاده ، إذ لو كانت الصحيحة وافية بإثبات ضمان القيميّ بقيمة يوم الغصب أو التلف لم يكن وجه في الاشكال على صاحب الجواهر قدس‌سره المستدلّ بها. وإن لم تكن وافية به لم يبق مجال لقوله بعد سطرين «فيردّه إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة : منها صحيحة أبي ولّاد الآتية.

ويتأكد الإشكال بناء على ما عن نسخة التهذيب ـ التي عوّل عليها المصنّف ـ من تعريف «بغل» الظاهر في إرادة البغل المعهود ، لا بغل كلّيّ حتى يحتمل ضمان القيميّ بالمثل ، بأن تكون القيمة بدلا عن البدل.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٠.


.................................................................................................

______________________________________________________

تعيّن عليه دفع قيمة سائر حصصه إلى شركائه ، حتّى يتحرّر العبد كاملا بالسراية. ومن المعلوم أنّ العبيد والإماء قيميّات وليست مثليّة ، فضمان قيمة العبد دليل على أنّ القيميّ لا يضمن إلّا بالقيمة.

وهذه النصوص جمعها الشيخ الحرّ قدس‌سره في باب عنوانه «أنّ من أعتق مملوكا له فيه شريك ، كلّف أن يشتري باقيه ويعتقه إن كان موسرا مضارّا ، وإلّا استسعى العبد في باقي قيمته ، وينعتق ، فإن لم يسع خدم بالحصص» (١).

ففي معتبرة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في عبد كان بين رجلين ، فحرّر أحدهما نصفه ، وهو صغير ، وأمسك الآخر نصفه حتى كبر الذي حرّر نصفه. قال : يقوّم قيمة يوم حرّر الأوّل ، وأمر الأوّل أن يسعى في نصفه الذي لم يحرّر حتى يقضيه» (٢).

ونحوه سائر أخبار الباب.

وتقريب الدلالة : أنّ تحرير العبد إتلاف لمال الشريك. وحيث إنّ المضمون قيميّ ـ وهو العبد ـ كان ضمانه بالقيمة ، لقوله عليه‌السلام : «يقوّم قيمة». هذا توضيح نظر الجواهر.

وناقش المصنّف فيه بمنع دلالة صحيحة أبي ولّاد ونصوص تحرير العبد المشترك على ضمان القيميّ بالقيمة. أمّا الصحيحة فلظهورها في ضمان القيميّ بالمثل لا بالقيمة ، فإنّ كلمة «بغل» في قوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» نكرة ، وهي ظاهرة في كون ذي القيمة بغلا غير معيّن ، ويتّجه مذهب القائل بأنّ الثابت في الذّمّة بغل غير معيّن ، وأنّ القيمة بدل عنه ، لا أنّ المضمون قيمة البغل التالف.

وأمّا نصوص العتق فلأنّ الأمر بتقويم العبد ـ المعتق بعضه ـ غير ظاهر في

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٢٠ ، الباب ١٨ من أبواب كتاب العتق.

(٢) المصدر ، ص ٢١ ، الحديث ٤.


ولا بقوله عليه‌السلام : «من أعتق شقصا من عبد قوّم عليه» (١). بل الأخبار كثيرة (٢).

______________________________________________________

ما نحن فيه من ضمان القيميّ بالقيمة ، لاحتمال كون التقويم معاوضة شرعيّة قهريّة ، رعاية لحرّيّة العبد المبعّض.

والمتحصل : أنّ صحيحة أبي ولّاد وأخبار تحرير بعض العبد غير وافية بإثبات المدّعى ، وهو تعيّن القيمة في ضمان القيميّات.

(١) لم أظفر بهذا المتن في جوامع الأخبار من الوسائل وغيره ، فلعلّ المصنّف نقله بالمعنى ، أو اعتمد على ما رواه شيخ الطائفة مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

(٢) يعني : أنّ الأخبار الكثيرة ظاهرة في ضمان القيميّ بالقيمة ، وهي سليمة عن المناقشة ، ومعها لا حاجة إلى الصحيحة ونصوص العتق اللّتين استند إليهما صاحب الجواهر قدس‌سره ، مع ما فيهما من الخدشة كما عرفت آنفا.

ثم إنّه لا بأس بالإشارة إلى نكتة ، وهي : أنّ المصنّف قدس‌سره ادّعى هنا كثرة الأخبار الدالّة على اعتبار القيمة في القيميّات ، لقوله : «الأخبار المتفرّقة في كثير من القيميّات» وقوله : «بل الأخبار كثيرة». وهذا ربّما ينافي ما نبّه عليه في الأمر الرابع من جعل الأخبار المتكفّلة للضمان بالقيمة نادرة جدّا ، حيث قال هناك : «إلّا ما شذّ وندر». فإن كانت هذه الأخبار شاذّة لم يتّجه قوله هنا من : «أنّها كثيرة» وإن كانت كثيرة لم يتجه رميها بالندرة والشذوذ في التنبيه الرابع.

قلت : الظاهر عدم التنافي بين التعبيرين ، فإنّ ندرتها تكون بالقياس إلى النصوص المشتملة على مادّة الضمان والتغريم بصيغ عديدة في مطلق المضمونات. سواء أكانت مثليّة أم قيميّة ، وهي أزيد من مائة رواية قطعا كما لا يخفى على المتتبّع ، وقد ادّعى المصنف هناك انصراف إطلاقها إلى الأقرب إلى المضمون ، وهو المثل ثم القيمة.

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٣٩٦ ، المسألة : ٢ من كتاب الغصب ، وقريب منه بزيادة «وله مال» في عوالي اللئالي ، ج ٣ ، ص ٢٩٨ ، الحديث ٢٤.


بل قد عرفت (١) أنّ مقتضى إطلاق أدلة الضمان في القيميّات هو ذلك (٢) بحسب المتعارف (*).

إلّا (٣) أنّ المتيقّن (**) من هذا المتعارف ما كان المثل فيه متعذّرا.

______________________________________________________

وأمّا دعوى كثرة أخبار ضمان القيميّ فصحيحة أيضا ، لتحقّق الكثرة بعشر روايات أو ما يقارب العشرة. ولا ريب في أنّ ما ورد فيه لفظ «الثمن أو القيمة» لا يقلّ عن هذا العدد ، كما ذكرناها بمصادرها ، فلاحظ.

(١) يعني : في الأمر الرابع ، حيث قال : «إنّ القاعدة المستفادة من إطلاقات الضمان في المغصوبات والأمانات المفرّط فيها وغير ذلك هو الضمان بالمثل .. ثم بعده قيمة التالف ..».

وهذا إشارة إلى دليل ثالث على اعتبار القيمة في المضمونات القيميّة ، وتقريبه : أنّ الأخبار المتفرّقة المشتملة على مادّتي «الضمان والغرامة» لم يتعرّض فيها لكيفيّته مع كونها واردة في مقام البيان ، فعدم تعرّض المتكلّم لبيان الكيفيّة دليل على إحالتها على العرف ، ومن المعلوم أنّهم يحكمون بأداء ما هو أقرب إلى التالف ، فإن كان مثليّا تعيّن أداء المثل ، وإن كان قيميّا تعيّن دفع القيمة.

وعليه فمناط هذا الوجه استفادة الحكم من الأدلّة العامّة في الضمانات ، سواء أكان المضمون مثليّا أم قيميّا.

(٢) خبر قوله : «ان مقتضى» والمشار إليه هو الضمان بالقيمة.

(٣) استدراك على قوله : «بل قد عرفت أنّ مقتضى إطلاق» وغرضه المناقشة في دلالة الطائفتين من الأخبار على ضمان القيميّ بالقيمة. أمّا الطائفة الأولى فسيأتي منع إطلاق دلالتها.

__________________

(*) بل مقتضى ما تقدّم هناك : أنّ القاعدة المستفادة من أدلّة الضمان هو الضمان بالمثل ، لأنّه أقرب إلى التالف من حيث المالية والصفات ، فتشمل القيميّات.

(**) هذا غير ظاهر ، لعدم تفرقة العرف ظاهرا في القيميّ ـ بالمعنى المقابل للمثليّ ـ بين تيسّر المثل وتعذّره ، فإنّ المثليّ والقيميّ ماهيّتان متباينتان ، وتعذّر أفراد.


 

______________________________________________________

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي إطلاقات الضمان ـ فيشكل الاستدلال بها على ضمان القيميّ بالقيمة مطلقا حتى مع تيسّر المثل العرفي للعين التالفة القيمية. وجه الاشكال : أنّ مناط الأخذ بالإطلاق المقامي هو عدم بيان كيفيّة خاصة ، وإحالة الأمر إلى العرف في مقام البيان. ومن المعلوم توقف الإطلاق على عدم تعارف سيرتهم على أمر آخر. مع أنّه لا ريب عندهم في كون المثل أقرب إلى التالف حتى في القيميّات.

وعليه تختص الروايات المطلقة بما إذا تعذّر المثل ، مع أنّ المدّعى عام وهو ضمان القيميّ بالقيمة سواء تيسّر المثل أم تعذّر.

__________________

إحداهما في الخارج لا يوجب انتقال ما ثبت منهما في ذمّة إلى أخرى ، ولا وجه لرفع اليد عن إطلاق ما دلّ على ضمان القيميّ بالقيمة ، الشامل لصورة تعذّر المثل كما صنعه المصنّف قدس‌سره.

وكيف كان فيحتمل ـ في مسألة ما لو كان التالف المبيع بالبيع الفاسد قيميّا ـ وجوه ثلاثة : أحدها : الضمان بالقيمة مطلقا. ثانيها : الضمان بالمثل كذلك. ثالثها : ضمان المثليّ بالمثل ، والقيميّ بالقيمة.

وقد استدلّ المصنّف قدس‌سره لضمانه بالقيمة بالإجماع والروايات المتفرّقة في كثير من القيميّات ، بحيث لا يكون للضامن والمضمون له التخلّف عن الضمان بالقيمة.

لكن الظاهر عدم استفادة كيفيّة الضمان وخصوصيّاته من نفس أدلّة الضمان ، كقاعدتي اليد والإتلاف وقاعدة احترام مال المسلم ، لعدم تعرّضها لخصوصيّات الضمان. فمقتضى الإطلاق المقاميّ هو إيكال كيفيّة الضمان إلى العرف. وبعد انقسام الأموال إلى قسمين مثليّ وقيميّ وتباينهما ماهيّة يحكم العرف بضمان كلّ منهما بالمثل ، فالمثليّ يضمن بالمثل ، لأنّه المماثل له عرفا ماهيّة وماليّة. والقيميّ يضمن بالقيمة ، لأنّها مثله عرفا.

وهذا الأمر العقلائيّ الارتكازيّ ممّا بنى عليه الشرع ، لعدم تعرّضه لكيفيّة الضمان مع كونها محلّ ابتلاء النوع ليلا ونهارا. وهذا الإهمال دليل على إحالة كيفيّة الضمان إلى العرف.

نعم ربّما يستظهر بمعونة ترك الاستفصال من بعض الروايات لزوم الغرامة


.................................................................................................

__________________

بالقيمة في مطلق الضمانات ، كموثّق إسحاق بن عمّار ، قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يرهن الرهن بمأة درهم وهو يساوي ثلاثمائة درهم فيهلك [فيهلكه] أعلى الرّجل أن يرد على صاحبه مأتي درهم؟ قال : نعم ، لأنّه أخذ رهنا فيه فضل وضيّعه. قلت : فهلك نصف الرّهن؟ قال : على حساب ذلك. قلت : فيترادّان الفضل؟ قال : نعم» (١). فإنّه بسبب ترك الاستفصال ظاهر في أنّ الرّهن ـ سواء أكان مثليّا أم قيميّا وسواء أكان المثل متعذّرا أم لا ، وسواء وجد للقيميّ مثل أم لا ـ إذا هلك بالتفريط فهو مضمون بالقيمة ، لكون سقوط مائة درهم دليلا على أنّ الضمان بالقيمة ، وإلّا فلا وجه للسقوط. كما أنّ لزوم تأدية مأتي درهم دليل على أنّ الدراهم على عهدته في المثليّ والقيميّ مطلقا.

ونحوه غيره من الروايات المذكورة في الباب المذكور الدالّة على أنّ التالف مضمون بالقيمة مطلقا وإن كان مثليّا ، لأنّ معنى ترادّ الفضل أنّه إن كان الرّهن زائدا على الدّين سقط من الضمان بمقدار الدين ، وأخذ الراهن فضله. وإن كان الرّهن ناقصا عن الدّين سقط من الدين بمقداره ، وأخذ المرتهن البقيّة.

ولا معنى للسقوط والتهاتر إلّا الضمان بالقيمة ، إذ لو كان العهدة مشغولة بالمثل أو العين لم يكن وجه للتهاتر ، بل لا بدّ في المثليّ من أداء المثل ، وفي القيميّ تبقى العين على العهدة إلى زمان الأداء ، فالتهاتر القهريّ لا وجه له إلّا مع الضمان بالقيمة.

مضافا إلى : تصريح الروايات بالسقوط القهري ، ففي صحيحة أبي حمزة ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول عليّ عليه‌السلام : يترادّان الفضل؟ فقال : كان عليّ عليه‌السلام يقول ذلك. قلت : كيف يترادّان الفضل؟ فقال : إن كان الرّهن أفضل ممّا رهن به ثم عطب ردّ المرتهن الفضل على صاحبه. وإن كان لا يسوى ردّ الراهن ما نقص من حق المرتهن. قال : وكذلك قول عليّ عليه‌السلام في الحيوان وغير ذلك» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من أحكام الرهن ، الحديث ٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من كتاب الرهن ، الحديث ١.


.................................................................................................

__________________

وقريب منه صحيحة محمد بن قيس (١) وغيرها من الروايات الدالّة على كون الضمان بالقيمة.

وتدلّ عليه أيضا روايات متفرّقة ، كموثّقة السكونيّ عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام : «أنّه قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم فاحترقت الدار ، واحترق أهلها ، واحترق متاعهم؟ قال : يغرم قيمة الدار وما فيها ثم يقتل» (٢) فإنّ تغريمه قيمة الدار وما فيها من المتاع ولو كان مثليّا ظاهر في كون الضمان مطلقا بالقيمة.

إلّا أن يقال : إنّ «ما فيها» معطوف على القيمة ، فيكون المراد حينئذ أنّه يغرم قيمة الدار ، ويغرم ما فيها ، من دون تعرّض للقيمة وغيرها. لكنّه خلاف الظاهر ، فتبعد إرادته بلا قرينة.

كبعد احتمال أنّ متاع الدار في مورد قضاء أمير المؤمنين «عليه الصلاة والسلام» كان قيميّا لا يوجد مثله ، لأنّ ظاهره أنّ ذلك من قضاياه الكلّيّة ، لا أنّه قضيّة خارجيّة.

ولو سلّم ذلك كانت حكاية أبي عبد الله عليه‌السلام كافية في إفادة الحكم ، لبعد كونه عليه‌السلام ناقلا للتاريخ. فلو كان متاع البيت قيميّا وكان حكم المثليّ غير القيميّ كان عليه بيان خصوصيّة الواقعة الدخيلة في الحكم.

وعلى كل حال يستفاد منها قاعدة كلّيّة ، وهي : أنّ إتلاف مال الغير موجب لضمان القيمة.

وموثّقة سماعة ، قال : «سألته عن المملوك بين شركاء ، فيعتق أحدهم نصيبه ، فقال : هذا فساد على أصحابه ، يقوّم قيمة ويضمن الثمن الذي أعتقه ، لأنّه أفسده على أصحابه» (٣). فإنّ موردها القيميّ والتعليل بالإفساد يدلّ على عليّة كلّ إفساد للضمان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢٩ ، الباب ٧ من كتاب الرهن ، الحديث : ٤.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٢١٠ ، الباب ٤١ من أبواب موجبات الضمان ، الحديث : ١.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٢٢ ، الباب ١٨ من كتاب العتق ، الحديث ٥.


.................................................................................................

__________________

وإن لم يكن عتقا. ويمكن أن تكون هذه الموثّقة من أدلّة قاعدة الإتلاف.

وصحيحة أبي ولّاد الآتية التي موردها القيميّ أيضا.

وبالجملة : فالروايات الدالّة على الضمان بالقيمة على طائفتين :

إحداهما : ما وردت في ضمان خصوص القيميّات بالقيمة كالعبد والجارية.

ثانيتهما : ما وردت في المضمون مطلقا سواء أكان مثليّا أم قيميّا كالرهن التالف واحتراق ما في الدّار وغلّة الأرض ، وغير ذلك مما يقتضي الإطلاق كون التالف المضمون بالقيمة مثليّا أو قيميّا.

والظاهر عدم التنافي بينهما ، لأنّ ما دلّ على الضمان بالقيمة في القيميّات لا تنفي ضمان المثليّات بها حتى يجب حمل المطلق ـ وهو ما دلّ على الضمان بالقيمة مطلقا وإن كان المضمون مثليّا ـ على المقيّد ، ليكون مقتضى الحمل اختصاص ضمان القيمة بالقيميّات.

فالمتحصل : أنّ مقتضى الروايات ضمان الأشياء مطلقا ـ وإن كانت مثليّة ـ بالقيمة. ولا بدّ في الخروج عن إطلاقها من دليل على التقييد. وقد ادّعي أنّه الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل. قال في الجواهر : «انّه من قطعيّات الفقه» (١). وعن غاية المراد «أطبق الأصحاب على ضمان المثليّ بالمثل ، إلّا ما يظهر من ابن الجنيد» لكنّه أوّل كلامه أيضا.

والحقّ أن يقال : إنّ القدر المتيقن من الإجماع على ضمان المثليّ بالمثل هو صورة وجود المثل دون نادر الوجود ومتعذرة ، فإنّ إطلاقات ضمان القيمة محكّمة في غير المتيقن ، وهو وجود المثل ، لأنّه مقتضى مرجعيّة العام في المخصص المجمل.

والحاصل : أنّ الإجماع لمّا كان لبّيّا فلا بدّ في تخصيصه من الأخذ بالمتيقّن منه وهو وجود المثل ، دون نادرة ومتعذرة. وعلى هذا فالروايات وافية بكيفيّة الضمان ، فلو كان بناء العرف على غير تلك الكيفيّة كان الروايات رادعة عنها.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٨٥.


بل (١) يمكن دعوى انصراف الإطلاقات الواردة في خصوص بعض

______________________________________________________

(١) غرضه المناقشة في دلالة عدّة من الأخبار الواردة في ضمان القيميّات ، كما ناقش في إطلاقات الضمان. وحاصلها : أنّ المدّعى عامّ ، وهو : ضمان كلّ قيميّ بالقيمة كضمان المثليّ بمثله ، مع أنّه يمكن منع إطلاق بعض الأخبار لحالة وجود مماثل عرفيّ للقيميّ المضمون ، ففي صحيحة أبي ولّاد : «قيمة بغل يوم خالفته». إذ من المحتمل كون الثابت في ذمّة الضامن بغلا غير معيّن ، وإنّما تعطى القيمة بدلا عنه ، لا بدلا عن نفس البغل التالف أو المتلف. ولا سبيل لاستفادة ضمان قيمة البغل التالف حتى مع وجود بغل مماثل له في الصفات والماليّة.

وكذا يمكن أن يكون تقويم العبد ـ وأداء قيمة ما بقي منه غير محرّر ـ لأجل

__________________

فتلخص من جميع ما ذكر أنّ القيميّات مطلقا مضمونة بالقيمة ، والمثليّات أيضا مضمونة بالقيمة ، إلّا إذا كان المثل موجودا بوجود غير عزيز. وأمّا مع عزّة وجوده فضلا عن فقدانه فضمانه بالقيمة أيضا.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفيد في مباحث تعذّر المثل ـ سواء أكان التعذّر بدويّا أم طارئا ـ لا بدّ من تطبيقها على ما بيّناه هنا ، بأن يقال : إنّ التعذّر مطلقا يوجب الانقلاب إلى القيمة ، أخذا بإطلاق ما دلّ على الضمان بالقيمة وإن كان مثليّا ، واقتصارا على المتيقّن من الإجماع ، وهو ضمان المثليّ بالمثل إذا كان موجودا ، دون ما إذا كان مفقودا أو عزيز الوجود. فالمثل بمجرّد فقدانه أو عزّة وجوده ينتقل ضمانه إلى القيمة ، هذا.

وأمّا الروايات الدالّة على الضمان بالمثل في القيميّ فهي مختصّة بالقرض ، ولا ربط لها بما نحن فيه.

مضافا إلى : أنّها ضعيفة السند.

فروايات المقام كما عرفت منحصرة بالطائفتين المتقدمتين. وروايات القرض أجنبية عن باب الضمانات المبحوث عنها.


القيميّات كالبغل والعبد ونحوهما لصورة (١) تعذّر المثل كما هو الغالب (٢). فالمرجع (٣) في وجوب القيمة في القيميّ وإن فرض تيسّر المثل له ـ كما (٤) في من أتلف عبدا من شخص باعه عبدا موصوفا بصفات ذلك العبد بعينه.

______________________________________________________

تعذّر المثل ، بحيث لو تيسّر عبد مماثل للمعتق مالية وصفة يحلّ محلّه كان مقدّما على دفع القيمة ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الإطلاقات المختصّة بالقيميّات تنقسم إلى طائفتين ، فما كان منها متكفّلا لضمان قيمة العبد والبغل أمكن انصرافها إلى صورة تعذّر المثل كما هو الغالب في العبد والبغل. فلا يكفي أداء القيمة مع تيسّر المثل. وما كان منها متكفّلا لضمان قيمة سائر الأمتعة يمكن إطلاقها لحالتي تيسّر المماثل وتعذّره.

(١) متعلق ب «لانصراف».

(٢) يعني : أنّ الغالب في بعض القيميّات تعذّر المثل العرفيّ.

(٣) غرضه أنّه ـ بعد انصراف إطلاقات أدلّة ضمان القيميّ بالقيمة إلى صورة تعذّر المثل ، وعدم شمولها لصورة تيسّر المثل ـ لا بدّ من القول ، بضمان القيميّ بالمثل مع وجوده ، مع أنّهم لم يلتزموا به ، بل التزموا بالقيمة حتى مع تيسّر المثل ، فدليلهم على الضمان بالقيمة في القيميّ مطلقا ولو مع وجود المثل هو الإجماع.

(٤) ذكر المصنّف قدس‌سره مثالين لتيسّر المثل ، أحدهما : أن يبيع شخص عبدا كلّيّا موصوفا بصفات تميّزه عمّن سواه بثمن معيّن ، وأتلف المشتري على البائع عبدا مملوكا له بصفات العبد المبيع ـ قبل أن يسلّمه البائع منه ـ فإنّهم لم يحكموا بالتهاتر وتساقط ما في ذمّتي البائع والمشتري ، بل قالوا باستقرار المبيع في ذمّة البائع ، وبضمان المشتري قيمة العبد الذي أتلفه على البائع. وهذا الحكم شاهد على ضمان القيميّ بالقيمة ، سواء تيسّر المثل أم تعذّر.

ثانيهما : مثال الكرباس ، فإنّ الأذرع منه متماثلة ، ولكن يجب دفع قيمة الذراع المتلف ، لا مثله.


وكما لو أتلف عليه ذراعا من مائة ذراع كرباس منسوج على طريقة واحدة لا تفاوت في أجزائه أصلا ـ هو الإجماع (١) كما يستظهر.

وعلى تقديره (٢) ففي شموله لصيرورة تيسّر المثل من جميع الجهات تأمّل. خصوصا (٣) مع الاستدلال عليه (٤) كما في الخلاف وغيره بقوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) بناء (٥) على أنّ القيمة مماثل للتالف في الماليّة فإنّ (٦) ظاهر ذلك جعلها (٧) من باب الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل.

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «فالمرجع».

(٢) يعني : وعلى تقدير تحقّق الإجماع ، وغرضه المناقشة في شمول الإجماع ـ على فرض ثبوته ـ للمثل الموجود المماثل للتالف القيميّ من جميع الجهات ، فالإجماع على ثبوت القيمة في هذه الصورة غير ثابت ، لأنّه دليل لبّيّ ، والمتيقّن منه غير هذه الصورة.

(٣) وجه الخصوصيّة ظهور الآية الشريفة في تعيّن المماثل للتالف من جميع الجهات وإن كان التالف قيميّا ، إلّا إذا تعذّر المثل ، فإنّ القيمة حينئذ مما يعدّ مماثلا للتالف.

(٤) أي : على وجوب القيمة في القيميّ ، وقد تقدّم في (ص ٣٣٩) نقل استدلال شيخ الطائفة قدس‌سره بالآية الشريفة على كلّ من وجوب المثل في المثليّ ، والقيمة في القيميّ ، فراجع.

(٥) هذا البناء هو استدلال شيخ الطائفة ، وليس أمرا آخر ، إذ لو لم تكن القيمة مماثلة للتالف كانت الآية الشريفة أجنبيّة عن المدّعى. وعليه فالاستدلال بها منوط بالتوسعة في المماثلة كما تقدّم مشروحا في (ص ٣٣٩).

(٦) تعليل لقوله : «خصوصا» وقوله : «ذلك» إشارة إلى «الاستدلال».

(٧) أي : جعل القيمة من باب الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل ، فتكون المماثلة في الماليّة.


وكيف كان (١) فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي (٢) ، وعن الشيخ والمحقّق في الخلاف والشرائع في باب القرض (٣).

فإن أرادوا ذلك (٤) مطلقا

______________________________________________________

(١) أي : سواء أكان مقتضى إطلاقات ضمان القيميّات ضمانها بالقيمة مطلقا سواء تيسّر المثل أم تعذّر ، أم كان مقيّدا بتعذر المثل ، فقد حكي .. إلخ.

وغرضه من هذا الكلام الخدشة في الإجماع بمخالفة ابن الجنيد في مطلق المضمون ، ومخالفة شيخ الطائفة والمحقّق في خصوص باب القرض. وهل تقدح هذه المخالفة في تحقّق الإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة أم لا؟ سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

(٢) أمّا أبو علي فقد تقدّم كلامه في أوّل الأمر السادس ، فراجع (ص ٢٩٥) وأمّا الشيخ والمحقّق فيظهر منهما في باب القرض ثبوت نفس مثل العين المقترضة في ذمّة المديون ، قال في الخلاف : «إذا لم يجد مال القرض بعينه وجب عليه مثله ، وعليه أكثر أصحاب الشافعيّ .. دليلنا : أنّه إذا قضى مثله برئت ذمّته ، وإذا ردّ قيمته لم يدلّ دليل على براءتها. وأيضا : فالذي أخذه عين مخصوصة ، فمن نقل إلى قيمتها فعليه الدلالة» (١).

وقال في الشرائع : «وما ليس كذلك ـ أي مثليّا ـ يثبت في الذّمّة قيمته وقت التسليم. ولو قيل يثبت مثله أيضا كان حسنا» (٢).

(٣) وأمّا في باب الغصب فوافقا المشهور من التفصيل بين المثليّ والقيميّ.

(٤) أي فإن أرادوا وجوب المثل في القيميّات. ناقش المصنّف قدس‌سره في القول بضمان القيميّ بالمثل بعدم خلوّه من شقّين ممنوعين.

توضيحه : أنّ القائلين بوجوب المثل في القيميّ إن أرادوا ذلك مطلقا سواء تيسّر المثل أم تعذّر ، ففيه : أنّه مردود بإطلاقات روايات ضمان القيميّات بالقيم في

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ١٧٥ ، رقم المسألة : ٢٨٧.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٦٨.


.................................................................................................

______________________________________________________

موارد كثيرة ، كصحيحة أبي ولّاد الآتية ، وروايات تقويم العبد المشترك الذي أعتق بعض مواليه شقصه ، وروايات سقوط الدين بتلف الرّهن ، المتقدّمة في (ص ٣٣٨) وروايات متفرّقة اخرى وردت في ضمان القيميّات. ولم يقيّد وجوب أداء القيمة فيها بتعذّر المثل حتى يستكشف منها أنّ العين التالفة تضمن بالمثل سواء أكانت مثليّة أم قيميّة كي يكون أداء القيمة ـ في القيميّات ـ بدلا عمّا اشتغلت به الذّمّة وهو المثل.

وعليه فمقتضى أصالة الإطلاق ضمان القيميّ بالقيمة ، وأنّها بدل عن العين المضمونة ، وليست بدلا عن المثل.

وإن أرادوا من ضمان القيميّ بالمثل ضمانه عند تيسّر المثل ـ لا مطلقا ـ لم يكن ذلك بعيدا ، لوجهين :

أحدهما : ظهور آية الاعتداء في اعتبار المماثلة بين التالف وبدله ، ومن المعلوم أنّ المماثل للتالف القيميّ هو المثل العرفيّ لا القيمة ، فمع تيسّره يتعيّن في البدليّة عن المضمون.

ثانيهما : قاعدة نفي الضرر الجارية في حقّ المالك ، وذلك لأنّ الجهات النوعيّة دخيلة في الضمان ، لتحقّق المماثلة فيها ، دون الجهات الماليّة المعرّاة عن الصفات النوعيّة ، لعدم تحقّق المماثلة حينئذ بين التالف وبدله. فمع تيسّر المثل يتضرّر المالك بقبول القيمة ، لفقدان الصفات النوعيّة ، فإنّ الحنطة ـ في الغرامات ـ بدل الحنطة التالفة المضمونة ، دون القيمة ، فخصوصيّة الحنطية مثلا يتضرّر المالك بفقدها. وعليه فيلزم ردّ المثل في القيميّات مع الإمكان.

هذا ما يقتضيه الوجهان. لكن المانع من القول بوجوب المثل المتيسّر ـ في ضمان القيميّات ـ هو عدم القول بالفصل ، لأنّهم بين قائل بضمان القيميّ بالقيمة مطلقا ـ كما هو المشهور ـ سواء وجد المماثل العرفي أم لا ، وبين قائل بضمانه بالمثل مطلقا ، كما يظهر من شيخ الطائفة وغيره في باب القرض ، بلا فرق ـ أيضا ـ بين تيسّر المثل


حتّى (١) مع تعذّر المثل ، فتكون (٢) القيمة عندهم بدلا عن المثل حتى يترتّب عليه وجوب قيمة (٣) يوم دفعها ـ كما ذكروا ذلك (٤) احتمالا في مسألة تعيّن القيمة (٥) متفرّعا على هذا القول (٦) ـ فيردّه (٧) إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة.

______________________________________________________

وتعذّره ، ولم يقولوا ببدليّة القيمة عن المثل في صورة التعذّر حتى يستكشف منه الطولية ، ويكون القيمة بدلا عمّا هو بدل التالف.

والحاصل : أنّ ما ذهب إليه شيخ الطائفة والمحقّق في باب القرض ـ من ترجيح ضمان القيميّ بالمثل ـ لا سبيل للأخذ به في القرض ، فضلا عن القول به في المغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد.

(١) بيان للإطلاق.

(٢) هذا متفرع على اشتغال الذّمّة أوّلا بالمثل ، فيكون هو بدل التالف ، ولو تعذّر كانت القيمة بدل المثل لا بدل التالف.

(٣) يعني : إذا كان وجوب دفع القيمة مترتّبا على تعذّر المثل ترتّب عليه وجوب دفع قيمة يوم الأداء ، لا يوم التلف ، ولا يوم تعذّر المثل ، ولا أعلى القيم ، ولا غير ذلك.

ووجه احتمال قيمة يوم الدفع هو : أنّ المثل ثابت في الذّمّة إلى وقت الأداء ، فقيمة يوم الدفع هي ثمن المثل المنتقل إلى القيمة.

(٤) أي : وجوب قيمة يوم الدفع.

(٥) يعني : المسألة التي وقع فيها البحث عن أنّ الواجب هل هو قيمة يوم القبض أو يوم التلف أو أعلى القيم أو غير ذلك؟ مما سيأتي التعرّض له قريبا.

(٦) أي : أنّ القول باعتبار قيمة يوم الدفع متفرّع على القول بضمان القيميّ بالمثل مطلقا ولو مع تعذّره ، فإنّ مقتضاه حينئذ قيمة يوم الدفع ، كما عرفت آنفا.

(٧) جواب الشرط في قوله : «فإن أرادوا ذلك» وهذا إشارة إلى أوّل الشّقّين ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «ففيه أنه مردود بإطلاقات روايات ضمان القيميّات ..».


منها : صحيحة أبي ولّاد الآتية (١).

ومنها : رواية تقويم العبد.

ومنها : ما دلّ على «أنّه إذا تلف الرّهن بتفريط المرتهن سقط من دينه بحساب ذلك» فلولا (٢) ضمان التالف بالقيمة لم يكن وجه لسقوط الدّين بمجرّد ضمان التالف.

ومنها : غير ذلك من الأخبار الكثيرة (٣) (*).

______________________________________________________

(١) لقوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» الظاهر في اعتبار قيمة البغل سواء وجد بغل مماثل للبغل الذي اكتراه أبو ولّاد ، أم لم يوجد. وهكذا حال الإطلاق في روايات عتق العبد.

(٢) هذا تقريب دلالة أخبار تلف العين المرهونة على ضمان القيميّ بالقيمة ، لا بالمثل. ومحصّله : أنّ العين المرهونة لو كانت مضمونة بالمثل لم يكن وجه للحكم بسقوط ما يساويه من الدّين ، بل كان المرتهن ضامنا للمثل ، وكان الدين ـ بتمامه ـ باقيا على عهدة الراهن ، ولا تهاتر في البين. مع أنّ الامام عليه‌السلام حكم بسقوط المقدار المساوي للدين عن ذمّة المديون ، ولم يفصّل بين تيسّر مثل الرهن وتعذّره. وهذا كاشف عن ضمان القيميّ بالقيمة مطلقا سواء تيسّر المماثل العرفي أم تعذّر.

(٣) يعني : من الأخبار المتفرّقة في أبواب العارية والوديعة والإجارة واللقطة

__________________

(*) كرواية السفرة المطروحة في الطريق التي تقدمت في (ص ٣٣٨). لكن الاستدلال بها مشكل ، لقوّة احتمال كونه من باب جواز التصرّف بالقيمة ، نظير التملّك بالقيمة. وباب التقويم مغاير لباب التضمين ، ولذا لا بأس بالالتزام بالتقويم حتى في المثليّ ، بل البيض واللحم اللذان هما في مورد الرواية المزبورة من المثليّات ، فلاحظ وتأمّل. فجعل رواية السكونيّ من الروايات الدالّة على ضمان التالف بالقيمة لا يخلو من تأمّل.


.................................................................................................

______________________________________________________

وغيرها ، ولا بأس بالتيمّن بذكر بعضها.

فمنها : معتبرة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أعار جارية ، فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة ، فقضى أن لا يغرمها المعار. ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابّة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة» (١).

بتقريب : أنّ الجارية والدابّة قيميّتان ، وهما مضمونتان بالتعدّي عليهما ، ولم يقيّد عليه‌السلام الضمان بالقيمة بتعذّر المثل. فاللازم الحكم بضمانها مطلقا.

ومنها : ما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : «سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره ، فنفقت ، ما عليه؟ قال : إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها. وإن لم يسمّ فليس عليه شي‌ء» (٢). وقد أطلق عليه‌السلام الضمان ، مع أنّ المضمون قيميّ ، ولم يقيّد اشتغال الذّمّة بالقيمة بتعذّر المثل.

ومنها : ما ورد في ضمان الغسّال والصّبّاغ والقصّار والصّائغ والبيطار والدلّال ونحوهم ، مع أنّ ما بأيديهم من الأعيان المضمونة قيميّات غالبا ، كمعتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سئل عن القصّار يفسد؟ فقال : كلّ أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» (٣).

ومنها : ما ورد في ضمان الجمّال والحمّال والمكاري والملّاح ونحوهم إذا فرّطوا أو كانوا متّهمين ولم يحلفوا ، أو شرط عليهم الضمان ، مثل ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في الجمّال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال : إن كان مأمونا فليس

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، الباب ١ من كتاب العارية ، الحديث ٩ ، ونحوه سائر أحاديث الباب.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٥ ، الباب ١٦ من أحكام الإجارة ، الحديث : ١ ، ونحوه الحديث : ٢ ، ٣ ، ٤ و ٦ من الباب ١٧ ، ص ٢٥٧ و ٢٥٨.

(٣) المصدر ، ص ٢٧١ ، الباب ٢٩ من أحكام الإجارة ، الحديث ١ ونحوه كثير من روايات الباب البالغة عشرين حديثا.


وإن أرادوا (١) أنّه مع تيسّر المثل يجب المثل لم يكن (٢) بعيدا ، نظرا إلى ظاهر آية الاعتداء ونفي الضرر ، لأنّ (٣) خصوصيّات الحقائق قد تقصد.

اللهمّ (٤) إلّا أن يتحقّق إجماع على خلافه

______________________________________________________

عليه شي‌ء. وإن كان غير مأمون فهو ضامن» (١).

ومنها : ما ورد في ضمان اللقطة ، كرواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام : «سألته عن الرّجل يصيب اللقطة ، دراهم أو ثوبا أو دابّة ، كيف يصنع؟

قال : يعرّفها سنة ، فإن لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله حتى يجي‌ء طالبها فيعطيها إيّاه ، وإن مات أوصى بها. فإن أصابها شي‌ء فهو ضامن» (٢).

فقد أطلق الحكم بالضمان ، مع أنّ اللقطة قد تكون قيميّة كالدابّة والثوب ، ولم يقيّد ضمان القيمة بإعواز المماثل للتالف.

ومنها : غير ذلك مما لا يخفى على المتتبّع.

(١) معطوف على قوله : «فإن أرادوا ذلك مطلقا» وهذا هو الشّقّ الثاني من المنفصلة ، وقد تقدّم توضيحه بقولنا : «وإن أرادوا من ضمان القيميّ بالمثل ضمانه عند تيسّر المثل ..» راجع (ص ٤٧٠).

(٢) جواب الشرط في قوله : «وإن أرادوا» وظاهره وإن كان تسليم كلام شيخ الطائفة والإسكافي والمحقّق ، لكنّه سيأتي منعه بقوله : «اللهم إلّا أن يتحقق إجماع على خلافه».

(٣) تعليل للضرر ، وقد أوضحناه بقولنا : «وذلك لأن الجهات النوعية دخيلة في الضمان .. إلخ» راجع (ص ٤٧٠).

(٤) هذا منع قوله : «لم يكن بعيدا» وغرضه دفع دخل خصوصيّات الحقائق في الغرامة ، وحاصل الدفع : أنّه إذا قام إجماع على عدم دخل تلك الخصوصيّات في

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٧٦ ، الباب ٣٠ من أحكام الإجارة ، الحديث ٧. ونحوه كثير من روايات الباب.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ ، الباب ٢ من أبواب اللقطة ، الحديث ١٣. ونحوه الحديث ١٤.


ولو (١) من جهة أنّ ظاهر كلمات هؤلاء (٢) إطلاق القول بضمان المثل ، فيكون الفصل بين التيسّر وعدمه (٣) قولا ثالثا في المسألة.

ثمّ إنّهم (٤) اختلفوا في تعيين القيمة في المقبوض بالبيع الفاسد ، فالمحكيّ في

______________________________________________________

الضمان لم يجب حينئذ مراعاتها.

(١) يعني : ولو كان طريق استكشاف الإجماع ـ على عدم دخل خصوصيّات الحقائق في الضمان ـ إطلاق كلمات الإسكافي والشيخ والمحقّق قدس‌سرهم. والمراد من إطلاق قولهم بضمان المثل هو الإطلاق الشامل لصورة تعذّر المثل وتيسّره.

(٢) وهم الإسكافي والشيخ والمحقّق.

(٣) يعني : فيكون الفصل ـ بضمان المثل في الأوّل والقيمة في الثاني ـ قولا ثالثا خارقا للإجماع على ضمان القيميّ بالقيمة ، من غير فرق بين تيسّر المثل وتعذّره.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل ، وهو إثبات ضمان القيميّ بالقيمة لا بالمثل. وسيأتي الكلام في المقام الثاني.

الأقوال في القيمة المعتبرة في ضمان القيميّ

أ : اعتبار قيمة يوم التلف

(٤) هذا شروع في المقام الثاني ، وهو تعيين حدّ القيمة المستقرّة على عهدة الضامن ، إذا اختلفت بحسب الأزمنة ، فهل يضمن قيمة يوم الغصب والقبض ، أم قيمة يوم التلف ، أم قيمة يوم الأداء أم أعلى القيم؟ أقوال.

والمحكيّ عن جماعة هو اعتبار قيمة يوم تلف العين ، لأنّ الواجب ردّ العين ، وإنّما تحقّق الانتقال إلى القيمة بالتلف ، فيوم التلف يوم اشتغال الذّمّة بالقيمة (*).

__________________

(*) والقول بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف ، لأنّه كالغاصب المأخوذ بأشقّ الأحوال ، ولأنّ العين مضمونة في جميع الأوقات السالفة ، ومقتضى الاشتغال لزوم


.................................................................................................

__________________

الخروج عن العهدة. نسب هذا القول إلى ابن إدريس.

وقول بضمانه بقيمته يوم قبضه ، اختاره في الشرائع ، وربّما نسب إلى الأكثر ، لأنّه زمان تعلّق الخطاب بالخروج عن العهدة ، ولصحيحة أبي ولّاد الآتية ، بعد وضوح عدم الفرق بين موردها وبين المقبوض بالعقد الفاسد.

وقول بضمانه بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف بشرط أن يكون التفاوت بسبب نقص في العين أو زيادة ، فلو كان باختلاف السوق لم يضمن. واعتبر قيمة العين يوم التلف.

وهذا منسوب إلى الشهيد في المسالك. ووجهه : أنّه لا بدّ أن يكون المضمون أمرا متأصّلا ، وليس ذلك إلّا الزيادة العينيّة ، وأمّا مجرّد الزيادة السوقية فهو أمر اعتباريّ لا يضمن. مضافا إلى دلالة خبر البغل عليه (١).

وقول بضمان قيمة يوم الأداء ، وهو الذي اختاره السيد في حاشيته ، بدعوى : أنّ نفس العين باقية في العهدة ، ويجب الخروج عنها ، لكن لمّا لم يمكن ردّ نفسها وجب دفع عوضها ، فهي بنفسها باقية في العهدة إلى زمان الأداء ، فالعبرة في القيمة إنّما هي بيوم الأداء.

هذه عمدة الأقوال في المسألة ومبانيها.

وقبل الخوض في تحقيق ما ينبغي الاعتماد عليه من الأقوال لا بأس بتأسيس الأصل في المسألة حتى يكون هو المرجع إذا لم نستفد من الأدلّة شيئا ، فنقول :

إنّه قد يقال : إنّ قاعدة الاشتغال تقتضي وجوب أعلى القيم من زمان القبض إلى زمان الأداء ، فلا بدّ من دفع أعلى القيم ، لتوقّف يقين الفراغ عليه.

لكن الحقّ أنّ المقام من مجاري أصالة البراءة ، لكون الشكّ بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين.

__________________

(١) مسالك الافهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٧.


غاية المراد (١) عن الشيخين وأتباعهما تعيّن قيمة يوم التلف. وعن الدروس والرّوضة نسبته إلى الأكثر.

والوجه فيه على ما نبّه عليه جماعة منهم العلّامة في التحرير : «أنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف ، إذ الواجب قبله هو ردّ العين» (١).

وربّما يورد عليه (٢) : أنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة ، أمّا كون المنتقل إليها قيمة يوم التلف فلا.

______________________________________________________

(١) قال الشهيد قدس‌سره فيه : «وأمّا الضّمان بالقيمة يوم التلف فلأنّ الواجب العين ، وإنّما تحقّق الانتقال إلى القيمة بالتلف. وهو مذهب الشيخين وأتباعهما. وخالف ابن إدريس في ذلك ، وأوجب ضمانه بأعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف» (٢).

ونسبه في الدروس (٣) إلى الأكثر. ونقله عنه الشهيد الثاني في الرّوضة ، وهو مذهب ابن البرّاج والعلّامة في المختلف كما في المسالك (٤).

ولكن في كونه اختيار الأكثر تأمّلا ، لمعارضته بما أفاده المحقّق من جعل قول الأكثر ضمان قيمة يوم الغصب ، فراجع (٥).

كما أنّ ما نسب إلى شيخ الطائفة قدس‌سره لا يخلو من شي‌ء ، إذ في موضع من المبسوط (٦) والخلاف ضمان أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف ، واستحسنه المحقّق.

(٢) حاصل الإيراد على كلام العلّامة قدس‌سره هو : أنّ يوم التلف وإن كان يوم انتقال ضمان العين إلى ضمان قيمتها ، ولكنّ مجرّد هذا الانتقال غير كاف في تعيين قيمة

__________________

(١) تحرير الاحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) غاية المراد ، ص ٨٦ ، السطر ١٧.

(٣) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٣ ؛ الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٤١.

(٤) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٦.

(٥) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٠.

(٦) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٧٢ و ٧٥ ؛ الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤٩٣ ، المسألة ٩ ؛ شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٠.


ويدفع (١) بأنّ معنى ضمان العين عند قبضه كونه في عهدته ، ومعنى ذلك (٢) وجوب تداركه (٣) ببدله عند التلف حتّى يكون عند التلف كأنّه

______________________________________________________

وقت التلف ، إذ ربّما يجب أداء أعلى القيم من يوم الغصب إلى التلف. وعليه فلا بدّ من التماس دليل آخر على تعيين قيمة وقت التلف.

ولا يخفى عليك أنّه لم أظفر بمن أورد ـ بهذا الإيراد ـ على القول بضمان قيمة يوم التلف. نعم أورد به المحقّق والشهيد الثانيان وغيرهما على القول بضمان قيمة يوم الغصب «من أنّه أوّل وقت دخول العين في ضمان الغاصب» فأوردوا عليه : «بأنّ معنى ضمان العين حينئذ هو أنّها لو تلفت وجب بدلها وهو القيمة ، لا بمعنى وجوب قيمتها والعين باقية ..» (١).

وهذا الاشكال يمكن تقريره بالنسبة إلى القول بضمان قيمة يوم التلف ، فيقال : إنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة ، وأمّا ضمان خصوص قيمة هذا اليوم فغير لازم.

(١) حاصل هذا الدفع : أنّ استدلال العلّامة قدس‌سره سليم عن الإيراد المتقدّم ، وذلك لأنّ وضع اليد على مال الغير يوجب ضمانه أي دخوله في عهدته ، ويجب عليه ردّه إلى مالكه ما دام موجودا ، ويجب تداركه ببدله بردّ قيمته ـ لكونه قيميّا حسب الفرض ـ إذا تلف ، بحيث تسدّ القيمة مسدّ نفس العين التالفة ، فكأنّها لم تتلف ولم ترد خسارة على المالك أصلا. ومن المعلوم أنّ جبران خسارة المالك يكون بأداء قيمة يوم التلف ، لكون هذه القيمة مساوية في الماليّة للعين التالفة ، ومعه لا وجه لرعاية قيمة العين في المدة المتخللة بين الضمان والتلف ، إذ لم تكن تلك القيم مضمونة حال وجود العين.

وعليه فلا يرد على كلام العلّامة قدس‌سره ما أفيد ، هذا.

(٢) أي : ومعنى كون العين في عهدة الضامن وجوب تداركه .. إلخ.

(٣) الضمائر في «تداركه ، ببدله ، كأنّه ، له ، مقامه» والمستتر في «يكون ، يتلف» راجعة إلى «العين» فالأولى تأنيثها.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٤٦ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٥ و ١٨٦ ؛ جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠١.


لم يتلف (١). وتداركه (٢) على هذا النحو بالتزام مال معادل له قائم مقامه.

وممّا ذكرنا (٣) ظهر أنّ الأصل في ضمان التالف ضمانه بقيمته يوم التلف ، فإن خرج المغصوب من ذلك (٤) مثلا فبدليل خارج.

نعم (٥) لو تمّ ما تقدّم عن الحلّيّ في هذا المقام من «دعوى الاتّفاق على كون

______________________________________________________

(١) في جبرانه من حيث الماليّة ، والجابر هو المال حين تلف العين.

(٢) هذا كالصغرى لكبرى الضمان ، فكأنّه قال : الضمان كلّية هو الجبران ، فكأنّه لم يتلف شي‌ء على المالك. والجبران يتحقّق بأداء مال معادل في الماليّة للعين التالفة قائم مقامها. والنتيجة تعيّن قيمة وقت التلف.

(٣) يعني : من وجوب تدارك التالف عند التلف ـ وكون هذا معنى الضمان ـ ظهر .. ، وغرضه تأسيس قاعدة كلّيّة في ضمان القيميّ في كافّة الموارد ، سواء أكان موجب الضمان غصبا أم قبضا بعقد فاسد أم قبضا بالسّوم ، أم عارية مشروطة بالضمان ، أم وديعة كذلك ، أم غير ذلك من أسباب الضمان. ففي جميعها ينبغي تدارك العين القيميّة بقيمتها وقت التلف ، لأنّه وقت انتقال الضمان من العين إلى القيمة.

ولو نهض دليل على ضمان المغصوب بقيمته يوم الغصب كان تخصيصا في أصالة الضمان بقيمة يوم التلف ، ولا مانع من هذا التخصيص ، ولكنه لا يلحقه سائر موارد الضمان ، إلّا إذا تمّ إجماع ابن إدريس قدس‌سره على اتّحاد المبيع بالبيع الفاسد مع الغصب في الأحكام عدا الإثم في الإمساك ، فإنّه يقتضي ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بقيمة يوم الغصب لو ثبت ضمان المغصوب به.

(٤) أي : من الأصل المقتضي لضمان التالف ـ كلّيّة ـ بقيمة يوم التلف.

(٥) استدراك على الأصل الذي قرّره بقوله : «وممّا ذكرنا ظهر أنّ الأصل» وغرضه إخراج المبيع بالبيع الفاسد عن الأصل المزبور ، وإلحاقه بالمغصوب في كونه مضمونا بقيمة يوم القبض ، لا يوم التلف.


المبيع فاسدا بمنزلة المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم» ألحقناه (١) بالمغصوب إن ثبت فيه حكم مخالف لهذا الأصل (٢).

بل (٣) يمكن أن يقال : إذا ثبت في المغصوب الاعتبار بقيمة يوم الغصب كما هو ظاهر صحيحة أبي ولّاد الآتية كشف ذلك عن عدم اقتضاء إطلاقات الضمان لاعتبار قيمة يوم التلف ، إذ (٤) يلزم حينئذ أن يكون المغصوب ـ عند كون قيمته يوم التلف أضعاف ما كانت يوم الغصب ـ غير واجب التدارك عند التلف ، لما (٥) ذكرنا من أنّ معنى التدارك التزام بقيمته يوم وجوب التدارك.

______________________________________________________

(١) أي : ألحقنا المبيع فاسدا بالمغصوب ، وضمير «فيه» راجع إلى المغصوب.

(٢) المقتضي للضمان بقيمة يوم التلف.

(٣) غرضه إلحاق المقبوض بالعقد الفاسد بالمغصوب مع الغضّ عن الإجماع الذي ادّعاه الحلّيّ على كون المقبوض بالعقد الفاسد كالمغصوب ، فيكون استدراكا عن قوله : «نعم لو تمّ ما تقدّم .. إلخ» وحاصله : أنّ مفاد الإجماع إلحاق خصوص المبيع فاسدا ـ من موارد الضمانات ـ بالمغصوب في كون المدار على قيمة يوم القبض ، فيبقى غيره من الموارد تحت الأصل المزبور المقتضي لضمان قيمة يوم التلف.

ومفاد قوله : «بل يمكن أن يقال» إلحاق جميع موارد الضمان بالمغصوب ، إذ لو فرض كون قيمة يوم التلف أضعاف قيمته يوم القبض لزم أن يكون الغاصب أحسن حالا من غيره في هذا الفرض ، وهو زيادة قيمته يوم التلف على قيمته يوم الغصب ، وهو باطل بالضرورة ، فينقلب الأصل المزبور إلى أصالة الضمان بقيمة يوم التلف في جميع موارد الضمان ، فصحيحة أبي ولّاد تكشف عن عدم إطلاق في أدلّة الضمان يقتضي اعتبار قيمة يوم التلف.

(٤) تعليل للكشف المزبور ، وحاصله : لزوم التالي الفاسد ، وهو كون الغاصب أحسن حالا من غيره.

(٥) علّة لقوله : «يلزم» وبيان لوجه اللزوم ، يعني : يترتّب اللازم الباطل المزبور


نعم (١) لو فرض دلالة الصحيحة على وجوب أعلى القيم أمكن جعل التزام الغاصب بالزائد (٢) على مقتضى التدارك مؤاخذة له بأشقّ الأحوال.

فالمهمّ حينئذ (٣) صرف الكلام إلى معنى الصحيحة بعد ذكرها ليلحق به البيع الفاسد ، إمّا لما ادّعاه الحلّيّ (٤) ، وإمّا لكشف الصحيحة عن معنى التدارك والغرامة في المضمونات (٥) ، وكون العمدة في جميعها بيوم الضمان كما هو أحد الأقوال فيما نحن فيه من البيع الفاسد.

______________________________________________________

على كون ما ذكر من معنى التدارك.

(١) استدراك على وجوب التدارك بقيمة يوم التلف. وحاصله : أنّه لو فرضنا دلالة الصحيحة على وجوب أعلى القيم ـ كما استفاده الشهيد الثاني قدس‌سره ـ اختصّ ذلك بالغصب ، لكون الغاصب مأخوذا بأشقّ الأحوال.

(٢) المراد بالزائد على مقتضى التدارك هو التفاوت بين أعلى القيم وقيمة يوم التلف أو يوم الغصب ، وهذا التفاوت عقوبة مختصّة بالغاصب ، لكونه مأخوذا بأشقّ الأحوال ، ولا يجري في سائر الضّمناء.

(٣) أي : حين تفاوت مقتضى الأصل في باب الضمان بتفاوت الاستظهار من الصحيحة.

(٤) من إجماع المحصّلين على كون المقبوض بالعقد الفاسد كالمغصوب إلّا في ارتفاع الإثم على إمساكه.

ب : ضمان القيميّ بقيمة يوم الضمان

(٥) سواء أكان موجب الضمان هو الغصب أم القبض بالبيع الفاسد أم العارية المشروطة أم اللقطة أم غيرها.


وحيث (١) إنّ الصحيحة مشتملة على أحكام كثيرة وفوائد خطيرة (٢) فلا بأس بذكرها جميعا (٣) ، وإن كان الغرض متعلّقا ببعضها.

فروى الشيخ في الصحيح (٤) عن أبي ولّاد ، قال : «اكتريت بغلا الى قصر بني هبيرة (٥) ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل (٦) ، فتوجّهت نحو النّيل ،

______________________________________________________

الاستدلال بصحيحة أبي ولّاد على اعتبار قيمة يوم الضمان

(١) غرضه من هذه الجملة توجيه نقل جميع الصحيحة ، مع أنّ محلّ الاستدلال بها على ضمان يوم التلف أو يوم الغصب جملتان منها.

ومحصّل التوجيه : اشتمال الصحيحة على أحكام كثيرة ، والوقوف على جهل أئمّة الضلال بأحكام الشريعة الغرّاء ، وتلاعبهم بدين الله ، وما يستتبعه ذلك من حبس قطر السماء وبركات الأرض ، فالحمد لله الذي هدانا لولاية أوليائه عليهم‌السلام وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

(٢) سيأتي ذكر جملة من هذه الأحكام في التعليقة بعد الفراغ من توضيح كلمات المصنّف فيما يتعلّق بمورد الاستدلال بها.

(٣) لكنّه قدس‌سره لم يف بما وعده من ذكر تمام الصحيحة ، وسنذكر تتمّتها.

(٤) وكذا رواها ثقة الإسلام قدس‌سره بسند صحيح ، فالسند صحيح بطريقيه ، ولا تختصّ الصحّة بطريق شيخ الطائفة قدس‌سره ، لكن لا مفهوم لتعبير المصنّف ، وإنّما غرضه وجود طريق صحيح لهذا الخبر الشريف.

(٥) هذا الموضع يسمّى في عصرنا الحاضر بالهاشميّة ، وهو من أقضية محافظة بابل [الحلّة] يبتعد عن الحلّة قرابة عشرين كيلومترا. وأمّا القصر فلم يبق منه سوى أطلال. وأمّا ابن هبيرة فهو من عمّال بني أمية ـ لعنهم الله ـ في أواخر عهدهم وسلطنتهم. كذا قيل.

(٦) وهو قرية بين كوفة وبغداد ، ففي اللّسان : «ونيل : نهر بالكوفة ، وحكى الأزهري ، قال : رأيت في سواد الكوفة قرية يقال لها : النيل ، يخرقها خليج كبير يتخلّج


فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتّبعته وظفرت به وفرغت ممّا بيني وبينه (١) ، ورجعت إلى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوما. فأخبرت (٢) صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلّل منه فيما [ممّا] صنعت وأرضيه ، فبذلت له خمسة عشر درهما ، فأبى أن يقبل (٣) ، فتراضينا بأبي حنيفة وأخبرته بالقصّة ، وأخبره الرّجل.

فقال لي : ما صنعت بالبغلة؟

قلت : رجّعته سليما. فقال (٤) : نعم بعد خمسة عشر يوما.

قال : فما تريد من الرجل؟

قال (٥) : أريد كراء بغلي ، فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوما.

______________________________________________________

من الفرات الكبير» (١).

(١) هذا الضمير وضمائر «أنّه ، توجّه ، فاتّبعته ، به» راجعة إلى «الغريم» المراد به المديون.

(٢) الوجه في إخبار صاحب البغل هو مخالفة أبي ولّاد لعقد الإجارة ، لأنّ السير من الكوفة إلى قصر بني هبيرة ـ ذاهبا وجائيا ـ يقلّ عن عشرة أيّام ، فكان تصرّفه وركوبه على البغل مخالفا لمقتضى الإجارة ، فأراد أبو ولّاد استرضاء صاحب البغل والاستحلال منه.

(٣) يعني : أنّ صاحب البغل لم يقنع بخمسة عشر درهما ، وزعم استحقاقه اجرة أزيد منها.

(٤) يعني : فقال صاحب البغل : إنّ أبا ولّاد وإن أرجع البغل سليما ، لكنّه أرجعه بعد خمسة عشر يوما ، وهو أكثر من مدّة الإجارة المتعارفة للذهاب من الكوفة إلى قصر ابن هبيرة والرجوع منها إلى الكوفة.

(٥) يعني : قال صاحب البغل : أريد كراء البغل في مدّة خمسة عشر يوما ، وهو أكثر من خمسة عشر درهما التي اقترحها أبو ولّاد.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٦٨٦.


فقال (١) : إنّي ما أرى لك حقّا ، لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة ، فخالف (٢) ، فركبه إلى النيل وإلى بغداد ، فضمن قيمة البغل وسقط الكراء ، فلمّا ردّ البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكراء.

قال (٣) : فخرجنا من عنده وأخذ صاحب البغل يسترجع فرحمته ممّا أفتى (٤) به أبو حنيفة ، وأعطيته (٥) شيئا وتحلّلت منه. وحججت تلك السنة ، فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بما أفتى به أبو حنيفة.

فقال (٦) : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها ، وتحبس الأرض بركاتها.

______________________________________________________

(١) يعني : فقال أبو حنيفة للمكاري : لا أرى لك حقّا على أبي ولّاد أصلا ، لا خمسة عشر درهما ، ولا أزيد منها ، بل تستحقّ الدراهم التي تراضيتما عليها ـ أوّلا ـ حين اكتراء البغل من الكوفة إلى قصر بني هبيرة.

(٢) يعني : فخالف أبو ولّاد مقتضى الإجارة ، وعدل بطريقه من قرب قنطرة الكوفة إلى النيل ، ولم يذهب إلى قصر بني هبيرة.

(٣) يعني : قال أبو ولّاد : فخرجنا من عند القاضي وأخذ صاحب البغل يقول :

إنّا لله وإنّا إليه راجعون. لكون قضائه جائرا مخالفا للعدل والانصاف الذي تدعو دين الفطرة إليه ، ولم يخف بطلانه على عقل أبسط الناس ـ وهو المكاري ـ وإن خفي على عقل فقيه العراق بحسب زعمه.

(٤) التعبير بالفتوى ـ مع أنّهما ترافعا إلى القاضي ـ لأجل أنّ النزاع في الحكم الكلّيّ ، فكان فصل الخصومة بالفتوى ، لا ببيان حكم قضيّة شخصية.

(٥) ضمير الفاعل من هنا إلى «فأخبرت» راجع إلى أبي ولّاد ، وضمير المفعول والمجرور في «منه» راجع إلى صاحب البغل.

(٦) أي : فقال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : في مثل هذا القضاء ـ المخالف لما أنزله الله تعالى ـ تحبس السماء ماءها .. إلخ.


فقلت (١) : لأبي عبد الله عليه‌السلام : فما ترى أنت جعلت فداك؟

قال عليه‌السلام (٢) : أرى له عليك مثل كراء (٣) بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء بغل راكبا من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه (٤) إيّاه.

قال (٥) : فقلت : جعلت فداك ، قد علّفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟

فقال (٦) : لا ، لأنّك غاصب.

______________________________________________________

(١) أي : قال أبو ولّاد لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما هو حكم الله في هذه المسألة؟

(٢) أي : قال الإمام أبو عبد الله عليه‌السلام : أرى لصاحب البغل عليك .. إلخ.

(٣) يعني : عليك مثل أجرة بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء بغل راكبا من النيل الى بغداد ، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة.

(٤) أي : تعطي صاحب البغل هذا الكراء ، والظاهر أنّ المراد قنطرة الكوفة لا نفس المدينة ، لأنّ أبا ولّاد لم يخالف مقتضى الإجارة قبل بلوغه قنطرة الكوفة ، وإنّما خالفه من القنطرة إلى النيل ، ثمّ منه إلى بغداد ، ومنه عائدا إلى الكوفة.

والوجه في هذه المحاسبة كون المسافة ومدّة الركوب على البغل أزيد من السير المتعارف من كوفة إلى بغداد ، ثم منه إلى كوفة ، لكون القصر والنيل خارجين عن الجادّة المعمولة بين كوفة وبغداد ، فلأجل ذلك تزداد اجرة المثل ـ في الطريق التي سلكها أبو ولّاد ـ على اجرة السير المتعارف ، فيكون ضامنا لمنفعة البغل المستوفاة.

(٥) يعني : قال أبو ولّاد : قد علّفت البغل بدراهم في مدّة ركوبي عليه. وغرض أبي ولّاد من هذا الكلام : التخلّص من بعض الأجور ـ التي حكم الامام عليه‌السلام بضمانها ـ بأنّ استيفاء ركوب البغل في المسافة المذكورة وإن لم يكن بعقد إجارة ، إلّا أنّه صرف دراهم في تعليف البغل ، فينبغي حطّ بعض اجرة المثل بإزاء التعليف ، هذا.

(٦) يعني : قال الامام الصادق عليه‌السلام : لا تستحقّ على المكاري مئونة التعليف لأنّك غاصب ، وليس تصرّفك في البغل مستندا إلى إذن مالكيّ أو شرعيّ حتى يكون


قال (١) : فقلت : أرأيت ، لو عطب (٢) البغل ونفق أليس كان يلزمني (٣)؟

قال (٤) : نعم ، قيمة بغل يوم خالفته.

قلت (٥) : فإن أصاب البغل

______________________________________________________

مئونته على المالك.

(١) يعني : قال أبو ولّاد : فقلت للإمام عليه‌السلام : أرأيت .. إلخ. والظاهر أنّ أبا ولّاد استغرب من حكمه عليه‌السلام بضمان اجرة المثل وبوجوب الإنفاق على البغل ، وذلك لما سمعه من قاضي الكوفة من أنّه لمّا صار ضامنا لرقبة البغل بالغصب كانت منفعته ـ كالركوب ـ مملوكة له ، فلذا استفهم أبو ولّاد منه عليه‌السلام ، وقال : لو هلك البغل في المدّة التي كانت عنده غصبا ، فهل يكون مضمونا؟ وهل يجب دفع قيمته إلى المكاري أم لا؟

فأجاب عليه‌السلام : نعم ، لو هلك البغل عندك كنت ضامنا لقيمته ، لأنّك غاصب وكذلك تكون ضامنا لاجرة المثل ، ووجب عليك تعليفه. ولا وجه لحكم القاضي الجائر اعتمادا على حديث : «الخراج بالضمان» لعدم كون مورده الغصب أصلا ، كما تقدّم تفصيله في الأمر الثاني.

(٢) من باب «تعب» بمعنى : هلك. كذا في المصباح (١). وفيه أيضا : «ونفقت الدابّة نفوقا من باب قعد : ماتت» (٢). والظاهر أنّ المراد من «العطب» هنا هو الموت عن الكسر ، والنفوق هو الموت حتف الأنف.

(٣) بالتخفيف ، أي : هل تكون القيمة لازمة عليّ ومضمونة لو هلك البغل؟

(٤) يعني : قال الامام عليه‌السلام : لو هلك البغل لزمك قيمته يوم خالفت عقد الإجارة.

(٥) هذا قول أبي ولّاد. وهو سؤال أيضا عن ضمان البغل ، لكن الفارق بينه وبين سابقه أنّ السؤال الأوّل كان عن ضمان الرقبة لو مات البغل. وهذا سؤال عن

__________________

(١) المصباح المنير ، ص ٤١٦.

(٢) المصدر ، ص ٦١٨.


كسر أو دبر (١) أو عقر [غمز].

فقال : عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه.

فقلت (٢) : من يعرف ذلك؟

______________________________________________________

ضمان الطرف والأعضاء من كسر أو قرحة أو عرج. فأجاب عليه‌السلام : بضمانها أيضا كالرقبة.

وطريق معرفته تقويم البغل صحيحا من كلّ عيب ، وتقويمه مع ذلك الكسر أو العرج أو القرحة ، فالتفاوت بين القيمتين هو المضمون. كما إذا قوّم سليما بعشرة دنانير ، ومعيبا بثمانية ، فالأرش ديناران يجب دفعهما إلى المكاري.

(١) قرحة الدابّة ، و «العقر» بمعنى الجرح. وفي بعض النسخ «غمز» وهو ميل الدابّة من رجلها والعرج الضعيف. وأمّا «الغمر» بالراء فلم يظهر له معنى يناسب المقام.

(٢) هذا قول أبي ولّاد ، وهو استفهام عن طريق معرفة الأرش ـ الذي يضمنه لو اعتلّ البغل عنده ـ بعد معرفة أصل ضمان العيب. وأجابه عليه‌السلام بأنّ لمعرفة أرش العيب طرقا.

فإن توافق المكاري وأبو ولّاد على قيمة البغل صحيحا ومعيبا ، فيدفع الأرش إليه.

وإن اختلفا في القيمة ، بأن ادّعى صاحب البغل زيادة قيمته ، وأنكرها أبو ولّاد ، حتّى يكون أرش ما بين الصحّة والعيب أقلّ ، كما إذا ادّعى المكاري أنّ قيمة الصحيح عشرة دنانير ، وقيمة المعيب ثمانية ، فيطالب بدينارين. وادّعى أبو ولّاد أنّ قيمة البغل السليم عشرة وقيمة المعيب تسعة ، فيكون ضامنا لدينار. فيحلف المكاري على ما يدّعيه. أو يأتي بشهود على أنّ قيمة البغل يوم الاكتراء عشرة دنانير مثلا.

فإن لم يأت المكاري بشهود ولم يحلف على دعواه بأن وجّه اليمين إلى منكر زيادة القيمة حلف أبو ولّاد على الثمن القليل وثبت دعواه.


قال عليه‌السلام : أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو (١) على القيمة فيلزمك فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة (٢) لزمك ذلك. أو (٣) يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا ، فيلزمك.

فقلت (٤) : إنّي كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني.

فقال : إنّما رضي بها وحلّلك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم. ولكن ارجع إليه ، فأخبره بما أفتيتك به ، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شي‌ء عليك بعد ذلك» الخبر (٥).

______________________________________________________

(١) يعني : صاحب البغل ، فيحلف على القيمة العليا ، فتثبت في ذمّة أبي ولّاد.

(٢) يعني : على القيمة الدّنيا ، فتلزمك وتستقرّ على عهدتك.

(٣) هذا عدل لقوله : «إمّا أن يحلف» يعني : أنّ للمكاري إثبات دعواه بإحدى طريقين : الحلف والبيّنة.

(٤) هذا قول أبي ولّاد ، وغرضه من هذا السؤال حطّ مقدار من اجرة المثل التي حكم الامام عليه‌السلام باستقرارها في ذمّته ، فقال : إنّي أشفقت على المكاري بعد حكم قاضي الكوفة ، وأعطيته دراهم وتحلّلت منه ، فهل يجوز احتسابها من اجرة المثل ، أم أنّها لا تحسب منها ويجب أداء أجرة المثل كاملة؟

فأجاب عليه‌السلام : بأنّ رضى المكاري بتلك الدراهم وتحلّلك منه كان ناشئا من جهله بما يستحقّه عليك واقعا ، فرضي بما أعطيته إيّاه. ولكن أخبره بالحكم الواقعيّ وما يستحقه عليك من اجرة المثل ، فإن حلّلك من اجرة المثل ورضي بما أعطيته سابقا فهو ، وإلّا فادفع إليه ما يستحقه من اجرة المثل كاملة.

(٥) ذيل الصحيحة : «فلمّا انصرفت من وجهي [حجّتي] ذلك لقيت المكاري ، فأخبرته بما أفتاني به أبو عبد الله عليه‌السلام ، وقلت له : قل : ما شئت حتى أعطيكه. فقال : قد حبّبت إليّ جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ووقع له في قلبي التفضيل ، وأنت في حلّ ،


ومحلّ الاستشهاد فيه فقرتان :

الأولى : قوله : «نعم قيمة بغل يوم خالفته» إلى ما بعد ، فإنّ الظاهر (١)

______________________________________________________

وإن أحببت أن أردّ عليك الذي أخذته منك فعلت» (١).

والمراد بالموصول في «بما أفتاني به» هو اشتغال ذمّة أبي ولّاد بأجرة مثل البغل من الكوفة إلى النيل ، ومنه إلى بغداد ، ومنه عائدا إلى الكوفة ، وقد حكم أبو حنيفة بعدم استحقاق المكاري لهذه الأجرة. فلمّا سمع المكاري فتوى الامام الصادق عليه‌السلام باستحقاقها فرح بها وطابت نفسه من أبي ولّاد ، وأسقط ماله في ذمّته ، بل لم يكتف المكاري بهذا الاسقاط ، فقال : لو شئت يا أبا ولّاد أرجعت إليك الدراهم التي أعطيتنيها بعد قضاء أبي حنيفة.

واعلم أنّ هذه الصحيحة قد يستدلّ بها تارة على اعتبار قيمة يوم الغصب. كما عليه جماعة ومنهم المصنّف في بادئ الأمر. واخرى على ضمان يوم التلف كما عليه آخرون ، وثالثة على ضمان أعلى القيم من الغصب إلى التلف كما عليه الشهيد الثاني ، وسيأتي التعرّض لجميع ذلك إن شاء الله تعالى.

(١) استدلّ المصنّف قدس‌سره بجملتين من هذه الصحيحة المباركة على مدّعاه من ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب ، كما أفاده ـ قبل ذكر الصحيحة بأسطر ـ بقوله : «بل يمكن أن يقال : إذا ثبت في المغصوب الاعتبار بقيمة يوم الغصب كما هو ظاهر صحيحة أبي ولّاد الآتية».

الجملة الأولى : قوله عليه‌السلام في جواب أبي ولّاد : «نعم قيمة بغل يوم خالفته».

وحاصل تقريب الاستدلال بها : أنّ «اليوم» قيد للقيمة بأحد وجهين : إمّا بإضافة «القيمة» المضافة إلى «البغل» إليه ، بأن يضاف القيمة أوّلا إلى البغل ، وثانيا

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الباب ١٧ من كتاب الإجارة ، الحديث ١ ، الا أنّه أسقط ذيله ، وذكر تمامه في الكافي ج ٥ ، ص ٢٩٠ و ٢٩١. ثمّ إنّ الرواية على طريقة الكافي صحيحة ، وكذا على طريقة الشيخ ، لأنّه رواها بإسناده إلى أحمد بن محمد وطريقه إليه صحيح ، فلا إشكال في الصحيحة من حيث السند ، فلاحظ.


أنّ «اليوم» قيد للقيمة ، إمّا بإضافة القيمة المضافة إلى البغل (*)

______________________________________________________

إلى اليوم ، فيكون المتحصّل من هذه الإضافة : أنّ المضمون قيمة يوم المخالفة ، يعني : قيمة البغل الثابتة له يوم الغصب ، وهو زمان الميل عن قنطرة الكوفة إلى النيل.

وإمّا بجعل «اليوم» قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل ،

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد اختلفت نسخ الحديث ، ففي الكافي والوسائل ومرآة العقول نقلها بتنكير «البغل» في كلام أبي عبد الله عليه‌السلام الدالّ على ضمان الكراء وضمان البغل. وفي الوافي والتهذيب نقله معرّفا باللام في جميع الموارد. وفي غصب الوسائل نقله منكّرا في بعض الموارد ومعرّفا في بعضها الآخر.

وكيف كان فالظاهر أنّ أبا حنيفة تمسّك فيما حكم به من عدم ضمان أجرة المثل بحديث «الخراج بالضمان» بزعم أنّ الخراج ـ أي المنافع ـ بإزاء ضمان العين ، فكأنّ قيمة العين عوض منافعها ، لأنّ ماليّة العين إنّما هي بإزاء منافعها ، فالقيمة المبذولة بإزائها إنّما هي قيمة فوائدها ، لأنّ العين المجرّدة عن المنافع لا ماليّة لها. وهذا شي‌ء لا تستبعده العقول ، فيما إذا تلفت العين تحت يد من استوفى خراجها.

لكن ما حكم به أبو حنيفة مخالف للعقل والعدل الإسلاميّ ، ولذا استرجع صاحب البغل ، وتحلّل منه أبو ولّاد ، إذ المفروض بقاء العين واستيفاء المنافع ، فلو لم يضمن من استوفاها كان ظلما على المالك ، هذا.

ثمّ إنّ الظاهر عدم الفرق في صحة الاستدلال بالصحيحة بين تنكير البغل وتعريفه في مقدار الكراء ، لما مرّت إليه الإشارة سابقا من عدم دخل الهويّة بما هي في القيم والرغبات. وإنّما الدخيل فيها هو الخواصّ والأوصاف الموجبة لاختلاف القيم والرّغبات ، مثل كون البغل قويّا سريع السير مرتاضا غير شموس ، فقوله عليه‌السلام : «له عليك كراء بغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل» يراد به البغل المماثل لبغله بحسب فهم العرف وارتكاز العقلاء ، لا كراء كلّ بغل شاء ، سواء كان مخالفا لبغله أم لا. ومع المماثلة لا فرق بين كراء شخص بغله وكراء مماثله ، كما لا يخفى.


إليه (١) ثانيا ، يعني : قيمة يوم المخالفة للبغل ، فيكون إسقاط حرف التعريف (٢) من البغل للإضافة (*)

______________________________________________________

حيث إنّ الإضافة إمّا تفيد التعريف إن أضيف إلى المعرفة ، أو الاختصاص إن أضيف إلى النكرة. فالقيمة بعد أن أضيفت إلى البغل أفادت الاختصاص ، أي : اختصاص القيمة بالبغل لا غيره.

وحاصل هذا التقريب : أنّ القيمة المختصّة بالبغل هي قيمته يوم الغصب ، في مقابل قيمته يوم التلف. أو أعلى القيم أو غيرهما من القيم التي تنسب إلى البغل.

وقد أشار إلى هذا التقريب بقوله : «وإمّا بجعل اليوم قيدا .. إلخ».

(١) أي : إلى اليوم ، بأن أضيفت القيمة مرّة إلى البغل ، وثانية إلى اليوم كما ذكرناه آنفا. ولكن صريح كلامه في السطر الآتي إضافة «البغل» إلى «يوم المخالفة» ولذا سقط اللام من «البغل» ومعنى هذا الكلام : إضافة «القيمة» إلى «بغل» وإضافة «بغل» إلى «يوم المخالفة» إذ لو كانت «القيمة» مضافة مرّتين إحداهما إلى «البغل» والأخرى إلى «يوم المخالفة» لم يكن وجه لسقوط حرف التعريف من «بغل» لعدم كونه مضافا إلى «يوم» كي يحذف منه اللام.

(٢) وهو الألف واللام من «البغل» لأجل إضافة «البغل» إلى «يوم خالفته» وغرضه من هذا الكلام دفع ما يتوهّم من : أنّ تنكير «البغل» إنّما هو للإشارة إلى أنّ ذا القيمة ليس خصوص البغل الذي هو مورد البحث ، بل المضمون قيمة بغل مماثل لهذا البغل ، فتكون الرواية دليلا لمذهب من جعل القيميّ مضمونا بالمثل.

ومحصّل دفع هذا التوهّم : أنّ البغل ليس نكرة ، بل هو معرّف باللام ، غاية الأمر أنّ اللام سقط لأجل الإضافة ، فالمراد بالبغل هو خصوص البغل الذي اكتراه أبو ولّاد.

__________________

(*) لا يخفى أنّ اللام يسقط عن المضاف لا المضاف إليه كالبغل في الصحيحة. كذا قيل. ولكن نفس «البغل» مضاف إلى اليوم ، فيسقط عنه حرف التعريف ، وإن كان «البغل» مضافا إليه أيضا ل «قيمة» مثل : جاءني عبد سلطان بلدكم.


لا (١) لأنّ ذا القيمة بغل غير معيّن ، حتى توهم الرواية مذهب من جعل القيميّ مضمونا بالمثل (٢) ، والقيمة إنّما هي قيمة المثل (٣).

وإمّا (٤) بجعل «اليوم» قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل (*).

______________________________________________________

(١) أي : ليس منشأ إسقاط حرف التعريف هو كون البغل الذي يجب دفع قيمته كلّيّا غير معيّن حتى يكون المضمون هو البغل المماثل للتالف ـ الذي اكتراه أبو ولّاد ـ وتكون القيمة بدل البدل.

(٢) كالاسكافيّ ومن وافقه من كون المضمون مضمونا بمثله ، ولا تستقرّ القيمة في ذمّة الضامن إلّا بتعذر المثل.

(٣) لا قيمة نفس التالف ، فإنّها غير مضمونة بناء على ضمان القيميّ بالمماثل عرفا.

(٤) هذا هو الشقّ الثاني من شقّي الاستدلال بالجملة الاولى من الصحيحة على ضمان يوم الغصب ، وقد أوضحناه بقولنا : «وإمّا بجعل اليوم قيدا للاختصاص ..» راجع (ص ٤٩٠).

وقد تحصّل من كلام المصنف قدس‌سره إلى هنا : وفاء الجملة الاولى من الصحيحة ـ بطريقين ـ لإثبات ضمان المغصوب القيميّ بقيمة يوم غصبه ، لا بقيمة يوم التلف.

__________________

(*) لا يخفى أنّ الاستدلال بقوله عليه‌السلام : «نعم قيمة بغل يوم خالفته» على كون الضمان بقيمة يوم الغصب مبنيّ على رجوع القيد أعني به «يوم خالفته» إلى القيمة ، بأحد وجوه :

الأوّل : إضافة القيمة إلى البغل ، والبغل إلى اليوم بنحو تتابع الإضافات كقول الشاعر : «وليس قرب قبر حرب قبر» بناء على تنكير البغل ، إذ مع تعريفه لا تصحّ إضافته معنى ، وإنّما تصح إضافته لفظا.


.................................................................................................

__________________

الثاني : إضافة القيمة إلى البغل واليوم معا.

الثالث : إضافة المتحصّل من المضاف والمضاف إليه ـ وهو القيمة المتخصصة بالبغل ـ إلى اليوم.

الرابع : كون اليوم ظرفا للقيمة من دون إضافة شي‌ء إليه ، فيكون اليوم منصوبا بالاختصاص سواء أكان البغل منكّرا منوّنا بإضافة القيمة إليه ، كما في نسختي الكافي والوسائل ومرآة العقول ، فإنّ البغل مذكور فيها بالتنكير. فالبغل حينئذ مجرور منوّنا بإضافة القيمة إليه. أم كان البغل معرّفا باللام كما في التهذيب والوافي ، يعني : قيمة البغل المعهود يوم المخالفة. فتدلّ على أنّ المضمون قيمة يوم الغصب ، هذا.

أمّا الوجه الأوّل فلا يصار إليه في المقام ، لأنّ البغل من الذوات غير القابلة للتقييد بالزمان ، لعدم اختلاف الأعيان باختلاف الأزمان ، كما هو شأن التقييدات ، فلا يصلح الزمان لأن يكون قيدا. كما لا يصح تقييد الدار والدّكّان ونحوهما بالزمان ، فلا يقال : «دار أو دكّان أو خان يوم» كما لا يقال : «بغل يوم الغصب ، أو يوم الجمعة» إلّا باعتبار قيمتها التي هي معنى حدثيّ. بخلاف قوله : «وليس قرب قبر حرب قبر» لصحّة كون «حرب» قيدا للقبر.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو إضافة القيمة إلى كلا الأمرين عرضا ـ فهو غير معهود في الاستعمالات ، إذ يتوقف ذلك على لحاظين مستقلّين متباينين ، وذلك في استعمال واحد ممتنع.

مضافا إلى : أنّه على فرض صحّته في نفسه لا يمكن المصير إليه في المقام ، إلّا بناء على تنكير البغل. وأمّا مع تعريفه باللام فلا يصحّ ذلك ، لأنّ البغل لإضافته إلى «يوم» لا بدّ من تجريده عن اللام.

وبالجملة : فإشكال هذا الوجه الثاني ـ مضافا إلى امتناع تعدّد اللحاظين ـ عدم معهوديّته في الاستعمالات الشائعة.


.................................................................................................

__________________

وأمّا الوجه الثالث ـ وهو إضافة المجموع المتحصّل من المضاف والمضاف إليه إلى اليوم ـ فلا بأس به.

ومحصّله : أنّه يلزمك الحصّة الخاصّة من القيمة أعني بها قيمة البغل الثابتة له في يوم المخالفة ، فهذه القيمة الخاصة مضمونة على الغاصب. فالظرف ـ وهو اليوم ـ متعلّق بالثابت. ومثل هذا كثير في الاستعمالات العرفيّة ، فيقال : ماء رمان زيد ، وحبّ رمان عمرو.

وأمّا الوجه الرابع ـ وهو كون اليوم منصوبا على الظرفيّة وظرفا للقيمة ـ فهو أيضا ممّا لا بأس به ، لأنّ «القيمة» بمعنى ما يتقوّم به ، وهو معنى حدثيّ قابل للتقيّد بالزمان.

لكن يحتمل رجوع القيد ـ أعني يوم المخالفة ـ إلى قوله عليه‌السلام : «نعم» الذي بمعنى يلزمك ، يعني : «يجب عليك في يوم المخالفة قيمة البغل» فيدلّ على أن حدوث الضمان يكون يوم المخالفة ، ولا يدلّ على تعيين القيمة ، وأنّها قيمة يوم المخالفة أو يوم الغصب.

ومع هذا الاحتمال تكون الصحيحة مجملة ، فلا يصح الاستدلال بها على ثبوت قيمة يوم الغصب. فيرجع في تعيين القيمة إلى القواعد. وقد تقدّم سابقا أنّ مقتضاها ضمان قيمة يوم التلف ، هذا ما احتمله جمع منهم صاحب الجواهر ، وسيأتي نقل كلامه في التوضيح ان شاء الله تعالى.

لكن يبعّده أمران :

أحدهما : ما يستفاد من كلام المصنّف من لغويّة ذكر القيد ـ أعني يوم المخالفة ـ الذي هو راجع إلى قوله عليه‌السلام : «نعم» لأنّه يبيّن حينئذ مبدء الضمان وهو يوم الغصب ، وذلك معلوم عند السائل.

ثانيهما : أنّ لازم رجوع القيد إلى قوله : «نعم» انتقال العين إلى القيمة قبل تلفها ، لأنّ السائل فرض المخالفة مع بقاء العين. وقد حكم الامام عليه‌السلام بضمان قيمة البغل. وهذا ممّا لم يقل به أحد. فلا بدّ من ترجيح احتمال رجوع القيد ـ أعني به يوم المخالفة ـ إلى


.................................................................................................

__________________

القيمة بأحد الوجهين المتقدمين ، فتكون الصحيحة على هذا دليلا على ضمان قيمة يوم الغصب كما هو مدّعى من ادّعى ذلك.

لكن يمكن أن يقال : إنّها دليل على ضمان قيمة يوم التلف. تقريبه : أنّ أبا ولّاد يسأل عن الضمان إذا عطب أو نفق ، ومن المعلوم أنّ الذهن غير المشوب بالمناقشات ينقدح فيه من قوله : «لو عطب أو نفق أليس يلزمني» أنّه يلزمني قيمة البغل حال تلفه ، لأنّها قيمته الفعليّة ، لا قيمته في الزمان الماضي أو المستقبل.

ولمّا كان ضمان التلف تحت يده موهما لضمانه مطلقا ولو لم يكن التلف في حال الغصب فقد دفع هذا التوهّم بقوله عليه‌السلام : بأنّ ضمان التلف ليس ثابتا مطلقا ، بل في خصوص حال الغصب. فتلف البغل قبل الغصب ـ وهو في المثال من الكوفة إلى قنطرتها ـ لا يوجب الضمان. فيوم المخالفة قيد لضمان التلف ، يعني : أنّ التلف يوجب الضمان إذا وقع في حال الغصب ، لا مطلقا ، ففي جوابه عليه‌السلام تصديق لقول أبي ولّاد وردع له.

أمّا تصديقه فمن جهة لزوم القيمة عند التلف التي هي في ارتكازه وارتكاز العقلاء قيمتها حال التلف ، لأنّها قيمتها الفعليّة.

وأمّا ردعه فمن جهة أنّ إطلاق ضمان التلف يقتضي ثبوت الضمان من وقت الأخذ ، فردعه الامام عليه‌السلام بأنّ الضمان على فرض التلف ثابت من وقت الغصب. فقوله عليه‌السلام : «يوم خالفته» قيد لقوله عليه‌السلام : «نعم» أو للفعل المدلول عليه به كما هو ظاهر التركيب اللغويّ. والقيمة التي ورد عليها التصديق هي قيمة يوم التلف. فكأنّه قيل : إذا مات البغل حال الغصب والمخالفة ضمن قيمته ، ومن المعلوم أنّ قيمته الفعلية هي قيمته يوم التلف.

ولا فرق في هذا الاستظهار بين تنكير البغل وتعريفه ، لما تقدّم سابقا من عدم دخل الهويّة بما هي في القيم والرغبات ، وأنّ الدخيل فيها هي الخواصّ والأوصاف ، كقوّة البغل وسرعة سيره وكونه مرتاضا غير شموس ، هذا.


.................................................................................................

__________________

والّذي ينبغي أن يقال : إنّ قول السائل : «أيلزمني» المترتّب على العطب والنفوق ، إمّا بمعنى عهدة العين ، وإمّا بمعنى لزوم دفع البدل فعلا ، وإمّا بمعنى لزومه على تقدير التلف ، وهو الضمان بالقوّة في كلام المشهور.

أمّا الأوّل فهو غير مرتّب على العطب ، لأنّه مترتّب على مجرّد الغصب ، فلا يصحّ جعل العطب في كلام السائل شرطا للزوم ضمان القيمة ، ولا جعل اللزوم جزاء لقوله : «فلو عطب» لفقدان الترتّب المعتبر بين الشرط والجزاء ، حيث إنّ العهدة مضافة إلى العين ، لأنّ فاعل «أيلزمني» هو البغل ، لا بدله أعني به القيمة ، فلا بدّ من الاقتصار على قوله : «نعم» لأنّه يسأل عن ضمان العين ، فيكفيه قوله : «نعم» فلا يتعلّق اللزوم المستفاد منه بقيمة البغل.

وأمّا الثاني ـ وهو لزوم دفع البدل فعلا ـ فهو قابل لترتّبه على العطب ، إذ المترتّب عليه هو القيمة لا العين ، لفرض تلفها ، فيتعيّن حينئذ أن يكون «يوم خالفته» قيدا للقيمة ، لا لقوله : «يلزمني» لعدم اللزوم الفعليّ للقيمة من يوم المخالفة ، بل لزوم القيمة فعلا مترتّب على العطب الواقع في ظرف المخالفة.

لكن يشكل إرادة اللزوم الفعليّ للقيمة في يوم المخالفة مع إمكان إرادة اللزوم التقديريّ وإرادة العهدة منه ، إذ المفروض بقاء العين.

وأمّا الثالث ـ أعني به لزوم دفع البدل على تقدير التلف ، وهو الضمان بالقوّة ـ فهو مترتّب على فرض وجود العطب ، لا على العطب الفعليّ ، ومن المعلوم أنّ قوله : «أرأيت لو عطب البغل .. إلخ» بيان لمعنى الضمان بالقوّة ، أعني به لزوم البدل على تقدير التخلّف بجعل العطب مقدّما ، وجعل لزوم البدل تاليا. وهذا اللزوم التقديريّ هو الذي سمعه من أبي حنيفة ، لا اللزوم الفعليّ ، إذ لم يكن في الواقعة عطب فعليّ.

ومنه ظهر أنّه لا وجه لاستفادة اللزوم الفعليّ ، فإنّه مرتّب على العطب الفعليّ ، لا على فرضه بجعله واقعا موقع الفرض والتقدير الذي هو مفاد مدخول أداة الشرط.


وأمّا ما احتمله جماعة (١) من «تعلّق الظرف بقوله : نعم ، القائم مقام قوله عليه‌السلام : يلزمك يعني : يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل»

______________________________________________________

(١) هذا الاحتمال مذكور في مفتاح الكرامة والمستند والجواهر (١) ، عارضوا به دلالة الفقرة على ضمان المغصوب بقيمة يوم غصبه. والفاضل النراقي قدس‌سره وإن رجّح الضمان بقيمة يوم الغصب ، إلّا أنّه استفاده من الفقرة الثانية الآتية ، وهي قوله عليه‌السلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا ..».

قال في الجواهر في ردّ استظهار ضمان قيمة يوم الغصب ـ ما لفظه : «وفيه : احتمال تعلّق الظرف بالفعل المدلول عليه بقوله : نعم ، فيكون المراد : يلزمك يوم المخالفة قيمة البغل لو عطب ، بمعنى أنّها تتعلّق بك ذلك اليوم. وحينئذ فحدّ القيمة غير مبيّن فيه ، فلا ينافي ما دلّ على القيمة يوم التلف الذي ستعرف أنّه الأصحّ. ودعوى أنّ الأوّل ـ وهو ضمان قيمة يوم الغصب ـ أظهر ممنوعة».

__________________

وعليه فيتردّد الأمر بين أن يكون «يوم المخالفة» قيدا للقيمة ، وأن يكون قيدا للزوم التقديري المستفاد من قوله عليه‌السلام : «نعم» فتكون الرواية ساكتة عن وقت القيمة. فالنتيجة : أنّ الصحيحة لا تكون ظاهرة في اعتبار قيمة يوم الغصب ، كما ادّعاه القائل باعتبار قيمة يوم المخالفة ، لتطرّق احتمال قيديّة يوم المخالفة لكلّ من القيمة واللزوم. فعلى الأوّل يكون المدار على قيمة يوم الغصب وعلى الثاني يكون المدار على قيمة يوم التلف ، لأنّ معناه حينئذ : يلزمك يوم المخالفة قيمة البغل ، ومن المعلوم أنّ قيمته الفعليّة عند التلف هي قيمته حال التلف.

فتلخّص : أنّ الصحيحة إمّا ظاهرة في اعتبار قيمة يوم التلف ، أو مجملة ، ولا ظهور لها في اعتبار يوم الغصب.

__________________

(١) راجع : مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٤ ؛ مستند الشيعة ، ج ٢ ، ص ٣٦٨ ؛ جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠١ و ١٠٢.


فبعيد (١) جدّا (*) ،

______________________________________________________

والوجه في تعلّق الظرف ـ وهو : يوم ـ بفعل «يلزم» هو اعتبار تعلّق الظرف بفعل أو شبه فعل ، ولا يصلح تعلّقه ب «نعم» وإنّما يتعلّق بفعل «يلزمك» الذي دلّ عليه كلمة «نعم».

وعليه فبناء على احتمال تعلّق الظرف ب «يلزمك» لا تدلّ هذه الجملة على ضمان يوم الغصب ، وإنّما تدلّ على استقرار قيمة المضمون بمجرّد الغصب ، وأمّا حدّ قيمة المضمون فغير مدلول عليه ، فلا يعلم أنّها قيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو غيرهما. هذا. وسيأتي إيراد المصنّف قدس‌سره على هذا الاحتمال.

(١) جواب «وأما ما احتمله».

__________________

(*) بل قريب جدّا ، لأنّ الظاهر أنّ أبا ولّاد يسأل عن أصل الضمان ، وإلّا كان المناسب أن يقول : أيّ شي‌ء يلزمني يوم المخالفة؟

ولا يبعد أن يكون منشأ السؤال ما قاله أبو حنيفة من : أنّ ضمان الأصل لا يلائم ضمان الكراء ، لأنّ الخراج بالضمان ، فلمّا رأى السائل أن الامام عليه‌السلام أثبت الكراء ، أراد أن يستفسر منه أنّه مخالف لأبي حنيفة في الكراء ، وضمان الأصل ، أو في الكراء فقط.

وبتقريب آخر : أنّ أبا حنيفة ادّعى الملازمة بين ضمان البغل وسقوط الكراء ، لكون الخراج بالضمان ، وحيث إنّه عليه‌السلام ردّ عليه بأن الكراء ثابت ، زعم أبو ولّاد ـ أو احتمل ـ أنّ ثبوت الكراء كاشف عن عدم ضمان الأصل ، للملازمة بين ثبوت الضمان ونفي الكراء ، على ما أفتى به أبو حنيفة ، فسأل أنّه مع ثبوت الكراء هل يثبت الضمان؟ وقال : «أرأيت لو عطب .. إلخ».

وبالجملة : سأل أبو ولّاد عن ضمان الأصل ، باحتمال سقوطه مع ثبوت الكراء. فأجاب عليه‌السلام بثبوت الضمان التعليقيّ ، يعني : لو عطب أو نفق ، لكن ـ لا مطلقا ـ بل يوم المخالفة ، فكأنّه قال : يلزمك يوم المخالفة وغصب مال الغير قيمة بغل إذا عطب أو نفق.


بل غير ممكن ، لأنّ (١) السائل إنّما سأل عمّا يلزمه بعد التلف بسبب المخالفة ، بعد العلم بكون زمان المخالفة زمان حدوث الضمان ، كما يدلّ عليه (٢) : «أرأيت لو عطب البغل أو نفق ، أليس كان يلزمني؟» فقوله : «نعم» يعني : يلزمك بعد

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم الإمكان ، توضيحه : أنّ ملاحظة السؤال تقتضي علم السائل بأنّ لزوم القيمة وضمانها يكون بعد تلف البغل ، لأنّ أبا ولّاد علّق لزوم القيمة على العطب والنفوق ، فلو كان ظرف اللزوم هو التلف امتنع أن يكون «يوم خالفته» قيدا له ، إذ يلزم حينئذ أن يكون ظرف اللزوم يوم المخالفة أيضا. وهذا ينافي تعليق اللزوم على العطب والنفوق ، فلا بدّ أن يكون «يوم المخالفة» قيدا لغير اللزوم.

هذا مضافا إلى : أنّ ظاهر السؤال هو السؤال عن المقدار اللازم بالتلف بعد العلم بثبوت الضمان بالتلف ، فلا بدّ من حمل الجواب على إرادة بيان المقدار ، وذلك يقتضي تعليق الظرف بغير اللزوم ، وإلّا لم يكن جوابا عن السؤال ، لفرض علم أبي ولّاد بأصل لزوم القيمة.

(٢) هذه الدلالة مبنيّة على كون الاستفهام تقريريّا لا حقيقيّا ، فبناء على الاستفهام التقريريّ تدلّ كلمة «يلزمني» على علم أبي ولّاد بأنّ ضمان القيمة يكون بعد تلف البغل.

__________________

فهذا المعنى التعليقيّ ثابت بالفعل يوم الغصب كما قيل بذلك أيضا في خبر «على اليد» فمضمون الصحيحة موافق لخبر «على اليد» مع اختلاف غير جوهريّ ، وهو ذكر القيمة ، لكون المورد من القيميّات ، فلاحظ.

فالمتحصّل : أنّ نتيجة هذا الاحتمال هي ضمان قيمة البغل على فرض التلف. والضمان يكون من يوم المخالفة والغصب ، يعني : يحدث الضمان المعلّق على موت البغل من يوم الغصب. وأمّا كون القيمة قيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو غيرهما فالصحيحة ساكتة عنها ، ومقتضى القواعد كما تقدّم سابقا هو قيمة يوم التلف.


التلف بسبب المخالفة قيمة بغل يوم خالفته (١).

وقد أطنب بعض (٢) من جعل الفقرة ظاهرة في تعلّق الظرف بلزوم القيمة عليه ، ولم يأت بشي‌ء يساعده التركيب اللغويّ ، ولا المتفاهم العرفيّ.

الثانية (٣) : قوله : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل

______________________________________________________

(١) فيكون المضمون قيمة يوم المخالفة لا يوم التلف.

(٢) لعلّه إشارة إلى ما حكاه في الجواهر عن بعض بقوله : «نعم ربّما قيل : إنّه ظاهر فيه ـ يعني في تعلّق الظرف بالفعل المدلول عليه بقوله عليه‌السلام : نعم ـ باعتبار أنّ سؤال الراوي عن الضمان بسبب التلف ، لا بسبب المخالفة. فمطابقة الجواب للسؤال تقتضي أن يكون المراد منه : نعم يلزمك يوم خالفته هذا الحكم ، يعني : يصير حكمك في هذا اليوم لزوم قيمة البغل إن هلك. والمتبادر منه بعد معلوميّة أنّه ليس المراد قيمته ميّتا هو أقرب زمان حياته إلى الموت ، وهو قبيل التلف. وهذا معنى قيمته يوم التلف. بل لعلّ تنكير ـ بغل ـ يومي إلى ذلك أيضا ، إذ هو إشارة إلى أنّه يفرض الميّت حيّا ، وإلّا فلا ريب أنّه لا يكفي قيمة أيّ بغل يكون. وهو مناسب لكون الظرف لغوا متعلّقا بقوله : يلزمك. وإلّا فلا يناسب التنكير ، إذ البغل يوم المخالفة حيّ بالفرض والاستصحاب ، فالأولى تعريفه» (١).

(٣) يعني : الفقرة الثانية ـ من صحيحة أبي ولّاد ـ الظاهرة في ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب ، لا يوم التلف ولا أعلى القيم ، وهي قوله عليه‌السلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون .. إلخ».

بتقريب : أنّ البغل لو أصابه كسر أو دبر كان على أبي ولّاد دفع أرش ما بين الصحيح والمعيب إلى المكاري. والمناط في تقويم البغل صحيحا هو يوم الاكتراء. والظاهر أنّ مراد الامام عليه‌السلام من يوم الاكتراء هو يوم مخالفة أبي ولّاد لمقتضى عقد الإجارة ، وذلك لكون البغل في يوم الاكتراء أمانة بيد أبي ولّاد لاستيفاء المنفعة منه.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٢ و ١٠٣.


يوم اكتري كذا وكذا» فإنّ إثبات (١) قيمة يوم الاكتراء من (٢) حيث هو يوم الاكتراء لا جدوى فيه (٣) ،

______________________________________________________

فلا يكون مضمونا ، إذ الموجب للضمان هو اليد العدوانيّة المتحقّقة بالغصب ، والمفروض في هذه الصحيحة تحقّق المخالفة عند وصول أبي ولّاد إلى قنطرة الكوفة. وبما أنّ المسافة بين كوفة وقنطرتها قريبة ، فإمّا أن يكون وصوله إلى القنطرة عصر يوم الاكتراء لو خرج من الكوفة صباحا ، وإمّا أن يكون وصوله إليها بعد يوم. ومن المستبعد جدّا تغيّر قيمة البغل بعد ساعات أو بعد يوم واحد.

وعلى هذا يكون المناط في تقويم البغل المضمون هو يوم الغصب المعبّر عنه بيوم الاكتراء. والشاهد عليه أنّه لم يقل أحد باعتبار قيمة يوم الاكتراء حتى لو اختلفت مع قيمة يوم المخالفة والغصب. ولذا قال في الجواهر : «ثمّ إنّ الظاهر بناء قوله عليه‌السلام : حين اكتري على غلبة عدم التفاوت في هذه المدّة القليلة. وعلى الاستصحاب. وإلّا فلم يقل أحد باعتبار القيمة حين اكترى» (١).

(١) هذا تقريب دلالة الفقرة الثانية على ضمان قيمة وقت الغصب ، وقد عرفته آنفا. ويستفاد هذا التقريب من الفاضل النراقي قدس‌سره حيث قال : «فإنّ معناه : فيلزمك قيمة البغل حين اكتري. ولا يرد أنّه ليس حين المخالفة ، فيلزم القيمة قبل المخالفة ، وهو مخالف للإجماع. لأنّه لا فاصلة يعتدّ بها بين وقتي المخالفة والإكراء في المورد كما يدلّ عليه صدر الحديث» (٢).

(٢) يعني : لا من حيث إنّ قيمة يوم الاكتراء متحدة مع قيمة يوم المخالفة ، فإن الجدوى في القيمة بلحاظ الاتحاد موجودة.

(٣) أي : في إثبات قيمة يوم الاكتراء.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٣.

(٢) مستند الشيعة ، ج ٢ ، ص ٣٦٨.


لعدم (١) الاعتبار به ، فلا بدّ (٢) أن يكون الغرض منه (٣) إثبات قيمة يوم المخالفة ، بناء (٤) على أنّه يوم الاكتراء ، لأنّ الظاهر من صدر الرواية (٥) أنّه خالف المالك بمجرّد خروجه من الكوفة. ومن المعلوم (٦) أنّ اكتراء البغل لمثل تلك المسافة

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم الجدوى في إثبات قيمة يوم الاكتراء بالبيّنة. وجه عدم الاعتبار ما عرفته من أنّ يوم الاكتراء زمان حدوث اليد الأمانيّة غير الموجبة للضمان أصلا ، والموجب له إنّما هو اليد العدوانيّة المتحقّقة بالمخالفة في نفس يوم الاكتراء ، أو في اليوم اللاحق له ، ومن المعلوم عدم اختلاف قيمة البغل في هذه المدّة القليلة. فلو لم يكن المدار في الضمان على قيمة يوم الغصب لم يكن وجه لتعرّض قيمة يوم الاكتراء الذي هو زمان حدوث اليد الأمانيّة.

(٢) هذا متفرّع على عدم العبرة بقيمة يوم الاكتراء لو لم تكن متّحدة مع قيمة يوم المخالفة.

(٣) هذا الضمير وضمير «به» راجعان إلى : إثبات قيمة يوم الاكتراء.

(٤) هذا البناء هو ظاهر الصحيحة ، لقرب المسافة بين كوفة وقنطرتها.

(٥) وهو قول أبي ولّاد : «فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل ، فتوجّهت نحو النيل» فقوله : «توجّهت نحو النيل» ظاهر في أنّ مخالفة أبي ولّاد ـ بعدوله عن طريق قصر أبي هبيرة إلى طريق النيل ـ كانت من يوم الاكتراء ، أو بعده بيوم واحد ، لا أكثر.

(٦) غرض المصنف : أنّ استظهار ضمان يوم الغصب ـ من تعبير الامام عليه‌السلام بيوم الاكتراء ـ مبنيّ على أمرين مسلّمين :

أحدهما : أنّ المسافة بين كوفة وقصر أبي هبيرة قريبة ، فلو أراد أبو ولّاد اكتراء بغل لهذه المسافة لم يستأجر بغلا قبل خروجه بأسبوع مثلا ممّا يمكن اختلاف قيمة البغل فيه ، بل كان يستأجر البغل قبل ساعات أو قبل يوم.

ثانيهما : أنّ قيمة البغل لا تتفاوت عادة في ساعات قلائل.

وبناء على هذين الأمرين يتّجه دلالة الفقرة الثانية على ضمان يوم الغصب.


القليلة إنّما يكون يوم الخروج أو في عصر اليوم السابق. ومعلوم أيضا عدم اختلاف القيمة في هذه المدة القليلة.

وأمّا قوله عليه‌السلام (١) في جواب السؤال عن إصابة العيب : «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه» فالظرف (٢) متعلّق به «عليك»

______________________________________________________

(١) بعد أن استظهر المصنّف قدس‌سره من الفقرة الثانية ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب تعرّض لما ينافي هذا الاستظهار. والمنافي فقرة أخرى في الصحيحة ، وهي قوله عليه‌السلام : «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه».

وتوضيحه : أنّ أبا ولّاد سأل عن حكم تعيّب البغل وإصابة كسر أو عرج به ، فأجاب عليه‌السلام بقوله : «عليك قيمة ..» وظاهره وجوب أداء أرش العيب الحادث بقيمة يوم ردّ البغل الى مالكه ، بأن يقوّم البغل يوم ردّه صحيحا تارة ومعيبا اخرى ، فالتفاوت بين القيمتين مستقر في ذمّة أبي ولّاد. ومن المعلوم أنّ هذا الظهور مناف لما أفاده المصنّف قدس‌سره من استقرار قيمة يوم المخالفة على عهدة أبي ولّاد ، إذ لا فرق في ضمان قيمة يوم الغصب بين كون المضمون قيمة نفس البغل لو تلف بيد المستأجر ، وبين كونه أرش العيب ، فلو كانت العبرة بقيمة وقت الغصب لزم تقويم الأرش بذاك اليوم. ولو كانت العبرة بقيمة يوم ردّ العين المغصوبة لزم تقويم العين ـ لو تلفت ـ بقيمة يوم الأداء ، هذا.

(٢) جواب قوله : «وأمّا» ودفع المنافي المتقدّم ، وحاصل الدفع : أنّ التنافي المزبور مبنيّ على رجوع «يوم» إلى «قيمة ما بين الصّحّة والعيب» بأن يكون المعنى : «عليك قيمة يوم الردّ» وأنّ العبرة في الأرش بتقويم البغل يوم ردّه إلى المكاري.

ولكن هذا الاستظهار ممنوع ، لرجوع الظرف إلى «عليك» وتعلّقه به. يعني : «عليك يوم تردّ البغل قيمة ما بين الصّحّة والعيب» وعليه لا يكون الأرش مقيّدا بتقويم البغل صحيحا ومعيبا يوم ردّه ، حتى يستفاد منه ضمان قيمة وقت الأداء. بل مفاده وجوب ردّ الأرش ، بلاد دلالة على تعيين القيمة يوم الردّ أو يوم الغصب أو غيرهما.


لا قيد للقيمة (١) ، إذ (٢) لا عبرة في أرش العيب بيوم الرّد إجماعا ، لأنّ (٣) النقص الحادث تابع في تعيين يوم قيمته لأصل العين. فالمعنى : عليك أداء الأرش يوم ردّ البغلة (*).

______________________________________________________

هذا كله بناء على النسخة التي عوّل عليها المصنف قدس‌سره. وأمّا بناء على سقوط كلمة «يوم» من الرواية ـ كما ادّعاه صاحب الجواهر قدس‌سره من أنّ نسخة التهذيب المصحّحة المحشّاة التي تحضره قد سقط منها لفظ اليوم ، وأنّ المذكور فيها : قيمة ما بين الصّحّة والعيب تردّه عليه ـ فالأمر أوضح ، ولا موضوع لتوهّم التنافي ، إذ لا توقيت في القيمة حتى يحتمل تعلّق «اليوم» بالقيمة ، بل المدلول وجوب أصل الأرش من دون تعيين مقداره بحسب الأزمنة ، هذا.

(١) حتى تتقيّد القيمة بخصوص يوم ردّ البغلة.

(٢) تعليل لعدم كون الظرف قيدا للقيمة. والمراد ب «يوم تردّه» يوم ردّ العين المغصوبة ، لا ردّ الأرش.

(٣) حاصل هذا التعليل : أنّ المناط في تعيين مقدار أرش العيب ـ الحادث في العين المغصوبة ـ ليس هو يوم ردّ العين ، حتى يكون قرينة على جعل «يوم تردّه» متعلّقا بالقيمة ، بل الأرش تابع الأصل العين ، فإن قلنا بضمان قيمة يوم الغصب تعيّن تقويم الأرش بقيمة ذاك اليوم. وإن قلنا بضمان أعلى القيم كان الأرش تابعا له في التقويم ، وهكذا وعلى هذا فلا خصوصيّة في أرش العيب توجب تقويمه بقيمة يوم ردّ العين حتى يكون الظرف قيدا للقيمة.

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا الاشكال بعينه جار في جعل الظرف وهو «يوم» قيدا ل «عليك» حيث إنّ يوم ردّ العين ليس زمان حدوث وجوب القيمة في الذّمّة إجماعا ، بل زمان ثبوت القيمة على العهدة يوم حدوث العيب ، لا يوم ردّ العين.


ويحتمل (١) أن يكون قيدا للعيب ، والمراد (٢) العيب الموجود في يوم الرّدّ ، لاحتمال (٣) ازدياد العيب إلى يوم الردّ ، فهو المضمون ، دون العيب القليل الحادث أوّلا.

______________________________________________________

(١) هذا الاحتمال في قبال ما استظهره بقوله : «فالظرف متعلّق بعليك» وسيأتي تضعيف الاحتمال. والغرض من إبداء هذا الاحتمال تقوية ضمان الأرش بقيمة يوم الرّدّ ، لا تبعية الأرش لأصل العين في القيمة المضمونة.

وتوضيح الاحتمال : أنّ كلمة «يوم» قيد ل «العيب» فيكون المعنى على هذا : «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب الموجود في يوم ردّ العين ، لا قيمة العيب السابق على الرّدّ». فلو كان أرش العيب وقت حدوثه دينارا ، فاتّسع الجرح وازداد العيب إلى يوم ردّ العين ، فبلغ التفاوت بين البغل الصحيح والمعيب دينارين وجب على أبي ولّاد دفع دينارين حين ردّ البغل إلى المكاري.

ونتيجة هذا الاحتمال مخالفة قيمة الأرش لقيمة نفس البغل ، فالعبرة في البغل بقيمة يوم المخالفة والغصب ، والعبرة في مقدار الأرش بقيمة العيب يوم ردّ العين.

وبناء على هذا الاحتمال يشكل ما أفاده المصنف قدس‌سره من جعل «يوم» متعلّقا ب «عليك» وجه الإشكال : دلالة هذه الجملة على اعتبار قيمة معيّنة ، وهي قيمة يوم ردّ البغل المعيب.

(٢) يعني : إذا كان «يوم» متعلّقا ب «العيب» كان المراد من القيمة قيمة العيب في يوم ردّ العين ، لا قيمة العيب في زمان حدوثه.

(٣) تعليل لإرادة العيب الموجود حين الرّدّ.

__________________

وقد نوقش في هذا الاستدلال بوجوه :

أحدها : دلالته على ضمان العين المستأجرة بدون شرط الضمان ، وهو مخالف للقواعد.

وقد دفع بأنّ المراد بيوم الإكتراء يوم المخالفة فلا يلزم الاشكال المزبور.


.................................................................................................

__________________

ثانيها : منافاة قوله عليه‌السلام : «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه» لضمان قيمة يوم المخالفة ، لمنافاة قيمة يوم الرّد ليوم الغصب. ولا فرق في ضمان القيمة من حيث الوقت بين قيمة العين إذا تلفت وبين قيمة صفاتها.

وقد دفع تارة بأنّ «يوم» متعلق ب «عليك» لا قيد للقيمة ، فمعناه حينئذ : عليك يوم الرّدّ قيمة ما بين الصّحّة والعيب من دون تعرّضه لزمان القيمة ، فلا ينافي ما استدلّ به على اعتبار قيمة يوم الغصب.

واخرى : بأن اعتبار تعيين الأرش بقيمة يوم الدفع مخالف للإجماع.

وفيه : أنّ الإجماع غير محقّق ، ولذا طلب السيّد والنائيني من المصنف قدس‌سرهم مدركه.

فالأولى أن يقال : إنّ تعيين الأرش بقيمة يوم الدفع مخالف للقواعد.

وثالثة بأنّ قاعدة «الأقرب يمنع الأبعد» تقتضي رجوع القيد أعني به «اليوم» إلى العيب دون القيمة ، فمعناه حينئذ وجوب ردّ قيمة العيب الموجود حين الرّد ، دون ما ارتفع ولم يبق إلى زمان ردّ العين. وهذا ما تقتضيه قاعدة «على اليد» الموافقة لسيرة العقلاء.

ورابعة بابتناء المناقشة على اشتمال الصحيحة على كلمة «يوم». وقد أنكر في الجواهر ذلك ، وقال : «إنّ الموجود فيما حضرني من نسخة التهذيب الصحيحة المحشاة (تردّه عليه) من دون لفظ اليوم. ومعناه : وجوب ردّ الأرش لا غير ، فلا توقيت فيه» لكن الصواب على هذا تأنيث ضمير «تردّه» لرجوعه إلى القيمة. إلّا أنّ الأمر سهل في التذكير والتأنيث.

ثالثها : أنّ قوله عليه‌السلام : «إمّا أن يحلف هو» ظاهر في ثبوت جميع الحقوق من الحلف والردّ والبيّنة للمالك ، وهو مخالف لقاعدة «البيّنة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه». والمصنف قدس‌سره جعل هذه الفقرة مؤيّدة لكون المدار على قيمة يوم التلف ، وموهنة لكون المدار على قيمة يوم الغصب.

ومحصّل كلامه : أنّه إذا اختلف الغاصب والمالك في قيمة العين المغصوبة وكانت العبرة بقيمة يوم المخالفة كان المالك مدّعيا ، لدعواه زيادة القيمة المخالفة للأصل ، وكان الغاصب منكرا ، لإنكاره تلك الزيادة.


.................................................................................................

__________________

وعليه فمقتضى القاعدة توجّه الحلف على الغاصب لا المالك. بل الواجب على المالك إقامة البيّنة على دعواه.

لكنّ الصحيحة تدلّ على كون كلّ من اليمين وإقامة البيّنة على المالك. وهذا خلاف المقرّر من كون البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر ، فإن كان المالك مدّعيا فوظيفته إقامة البيّنة ، لا اليمين. وإن كان منكرا فوظيفته الحلف. فتوجيه الوظيفتين إلى المالك خلاف موازين القضاء.

فعلى القول بكون العبرة بقيمة يوم الغصب تكون الصحيحة مخالفة للقواعد من جهتين :

الاولى : أنّ دعوى الزيادة من المالك مخالفة للأصل ، فلا تتوجّه إليه اليمين.

الثانية : أنّ اليمين إذا توجّهت إلى المالك لم تسمع منه البيّنة ، فكيف حكم الامام عليه‌السلام بقبول كلا الأمرين من المالك؟

فلا بدّ حينئذ من حمل الصحيحة على أنّ العبرة بقيمة يوم التلف ، لا يوم الغصب ، إذ يصحّ على مبنى يوم التلف توجّه كلا الأمرين إلى المالك. وذلك لأنّ الإمام عليه‌السلام تعرّض في الفقرة المزبورة لصورتين من صور التنازع بين المالك والغاصب.

الصورة الأولى : اتّفاق المالك والغاصب على أنّ قيمة يوم الاكتراء كذا وكذا ، ولكن اختلفا في تنزّله عن تلك القيمة يوم التلف ، وعدم تنزله عن تلك القيمة ، فإنّه حينئذ يجب الأخذ بقول المالك ، لأنّ الغاصب يدّعي نقصان القيمة ، والمالك ينكره ، فيقدّم قول المالك مع يمينه ، لكونه موافقا للأصل أي استصحاب قيمته السابقة.

مثلا إذا اتّفقا على أنّ قيمة البغل يوم الاكتراء عشرون دينارا ، لكن الغاصب يدّعي نقصانها إلى يوم التلف ، وادّعى المالك بقاءها على حالها. فلا شبهة في كون قول المالك موافقا للأصل ، فيقدّم مع يمينه. بخلاف قول الغاصب ، فإنّه مخالف للأصل ، فوظيفته إقامة البيّنة.


.................................................................................................

__________________

الصورة الثانية : أنّ يتّفق المالك والغاصب على أنّ قيمة يوم التلف متّحدة إجمالا مع قيمة يوم المخالفة ، لكنّهما اختلفا في تعيين تلك القيمة ، بأن ادّعى المالك أنّ قيمته يوم المخالفة عشرون دينارا ، وادّعى الغاصب أنّها عشرة دنانير. ومن المعلوم أنّ المالك حينئذ يدّعي زيادة القيمة ، فيجب عليه إقامة البيّنة على ذلك. أمّا الغاصب فهو منكر لتلك الزيادة ، فيتوجّه عليه اليمين.

والحاصل : أنّه بناء على حمل الصحيحة على كون المدار في تعيين القيمة على قيمة يوم التلف أمكن تصوير التغاير بين إلزام المالك بالحلف ، وبين إلزامه بإقامة البيّنة.

وأمّا بناء على كون المناط قيمة يوم الغصب ، فتصوير التغاير بين الأمرين بعيد جدّا ، لأنّه على هذا لا بد من حملها على صورة اتّفاق المالك والغاصب على قيمة اليوم السابق على يوم المخالفة. أو على قيمة اليوم اللاحق ليوم المخالفة ، ثم ادّعى الغاصب نقصان القيمة السابقة.

لكنّه خلاف الظاهر من الصحيحة ، فلا يمكن الالتزام به ، مع عدم القرينة عليه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام المصنّف.

ويرد عليه : أنّ حمل الصحيحة على إرادة يوم التلف ، ثم فرض توجّه الحلف في صورة ، وتوجّه البيّنة على المالك في صورة أخرى ، خلاف الظاهر جدّا ، لاستلزامه فرض صورتين مغايرتين. مع أنّ ظاهر العطف ب «أو» هو التخيير في صورة واحدة بين الحلف وإقامة البيّنة. فجعل جملة «إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك. أو يأتي صاحب البغل بشهود .. إلخ» مؤيّدة لإرادة يوم التلف ـ دون يوم المخالفة والغصب ـ ممّا لا وجه له.

مضافا إلى : إمكان فرض هاتين الصورتين بناء على كون العبرة بقيمة يوم الغصب أيضا ، بأن يكون المالك في إحداهما مدّعيا عليه البينة ، وفي أخراهما منكرا عليه اليمين. كما إذا اتّفقا في قيمة يوم الاكتراء ، واختلفا في قيمة يوم الغصب ، فإنّ المالك حينئذ


.................................................................................................

__________________

لادّعائه الزيادة إلى يوم الغصب مدّع ، والغاصب منكر. وإن ادّعى الغاصب تنزّل القيمة ، وأنكره المالك انعكس الأمر ، وصار المالك منكرا ، والغاصب مدّعيا.

لكن هذا الفرض أيضا خلاف ظاهر العطف بكلمة «أو» من التخيير في صورة واحدة ، لا في صورتين متغايرتين.

مضافا إلى : أنّه خلاف اتّحاد زماني الاكتراء والغصب. وقد ظهر من الأبحاث المتقدّمة وحدة زمانهما.

فمقتضى الجمود على هذا الظاهر لزوم تخصيص عموم ما ورد من «أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» بظاهر هذه الصحيحة من توجّه كلّ من الحلف والبيّنة على المالك في خصوص الدابة المغصوبة ، أو في مطلق القيميّ المغصوب.

لكنّه في غاية البعد ، إذ لم يعهد من أحد الالتزام بهذا التخصيص.

ولعلّه لأجل هذا البعد قال المحقق الايرواني : «إنّ قضيّة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر قضيّة واردة في المخاصمات. وفي مورد الرواية لم تفرض مخاصمة. بل الراوي سأل عن أنّه من يعرف قيمة البغل وهو تالف؟ فقال عليه‌السلام : إمّا أنت أو هو ، فيكون الحلف من كلّ منهما لأجل أن يذعن الطرف المقابل الجاهل بالقيمة ، لا لأجل إلزام خصمه المنكر له» (١).

وهذا ما تقتضيه أصالة العموم فيما إذا شكّ في التخصيص ، بعد العلم بعدم كون شي‌ء محكوما بحكم العام ، والشك في كون خروجه عنه بالتخصص أو التخصيص ، فإنّه تجري أصالة العموم ، ويثبت لازمها أعني به عدم فرديّته للعامّ حتى يكون خروجه بالتخصيص. فإنّه لم يثبت في مورد الرواية الترافع إلى الحاكم حتى يندرج الحلف فيه في اليمين المعتبرة في ميزان القضاء ، بل اندراجه فيها مشكوك فيه ، فلا مانع من جريان أصالة العموم في دليل «كون اليمين على المنكر والبيّنة على المدّعى» وإثبات كون ما نحن فيه خارجا عن موضوع دليل العموم تخصّصا ، لاختصاص ذلك بباب الخصومات.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٢.


.................................................................................................

__________________

فلا يرد : أنّ حمل الرواية على كون العبرة بقيمة يوم الغصب يستلزم مخالفة القواعد من ناحيتين : إحداهما : أنّ دعوى المالك زيادة القيمة مخالفة للأصل ، فلا تتوجّه إليه اليمين ، بل وظيفته البيّنة.

ثانيتهما : أنّه إذا توجّهت اليمين إلى المالك لم تسمع منه البيّنة. مع أنّ الامام عليه‌السلام حكم بقبول كلّ من البيّنة واليمين من المالك ، فلا بدّ من حمل الرواية على كون العبرة بقيمة يوم التلف.

ثم إنّ هذين الإشكالين إنّما يتوجّهان بناء على إرادة قيمة البغل من قوله : «فمن يعرف ذلك». وهو الذي أوقعهم في حيص وبيص من التخصيص أو التخصّص.

وأمّا بناء على إرادة قيمة ما بين الصّحيح والمعيب كما هو الظاهر ، لأنّ الجملة المتضمّنة للسؤال عن تلف العين وضمانها والجواب عنها قد تمّت ، والسائل بعد ذلك سأل عن ضمان عيب العين مع بقائها ، فأجاب عليه‌السلام عنه بضمان قيمة ما بين الصحيح والمعيب. فقوله عليه‌السلام : «من يعرف ذلك» ظاهر في الرجوع إلى قيمة البغل صحيحا ومعيبا ، لا قيمة البغل من حيث هو كما كان ذلك مبنى كلماتهم.

وعلى هذا الاحتمال يمكن أن يقال : إنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك» هو الحلف على قيمة البغل المعيب الموجود بين أيديهما. ومن المعلوم أنّ في اختلاف قيمة المعيب يكون صاحب البغل منكرا ، لأنّه يريد جلب النفع إلى نفسه ، فينكر زيادة قيمة المعيب بخلاف الغاصب ، فإنّه يريد دفع الضرر عن نفسه ، فيدّعي زيادة قيمته.

مثلا إذا كان قيمة الصحيح أربعين درهما ، وادّعى الضامن أنّ قيمة المعيب ثلاثون درهما ، وأنكره المالك ، وقال : «بل قيمته عشرون درهما» فوظيفة المالك حينئذ اليمين ، لأنّه منكر للزيادة التي يدّعيها الضامن ، وهي العشرة ، فيحلف أو يردّ الحلف إلى صاحبه.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكترى كذا وكذا» فصريح في أنّ اختلافهما راجع إلى قيمة البغل حال الصّحّة لا حال العيب ، وإن كان هذا الاختلاف لتشخيص ما به التفاوت بينهما. ومن المعلوم أنّ القول في هذا


.................................................................................................

__________________

الاختلاف قول الضامن ، لأنّه ينكر الزيادة التي يدّعيها المالك. فإذا ادّعى المالك أنّ قيمة البغل صحيحا خمسون درهما ، وأنكر الضامن ، كان المالك مدّعيا والضامن منكرا ، فالرواية متعرّضة لصورتين من صور الدّعوى :

إحداهما : اختلاف قيمة المعيب بعد اتّفاقهما على قيمة الصحيح ، كما إذا اتّفقا على أنّ قيمة الصحيح أربعون درهما ، واختلفا في أنّ قيمة المعيب ثلاثون أو عشرون وحينئذ يكون المالك منكرا لما يدّعيه الضامن من كون قيمته ثلاثين ، ولذا يحلف أو يردّ الحلف إلى الضامن.

ثانيتهما : عكس الصورة الأولى ، وهي صورة اتّفاقهما على قيمة المعيب كعشرين درهما ، والاختلاف في قيمة الصحيح كما إذا ادّعى المالك أنّها أربعون ، وأنكر الضامن ، وقال : بل ثلاثون ، فحينئذ يكون المالك مدّعيا ، ولذا طولب بإقامة البيّنة.

فالمتحصّل : أنّه لا يلزم تخصيص قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه».

ويمكن حمل قوله عليه‌السلام : «إمّا أن يحلف هو .. إلخ» على بيان طرق معرفة القيمة على حسب اختلاف حالات المالك والغاصب ، لا على بيان طرق حكم الحاكم بمقدار القيمة ، كي يتعيّن حمل الكلام على بيان وظيفة الحاكم المنوطة بالبيّنة ، ثم يمين المنكر ، ثم اليمين المردودة.

فالغاصب إن كان جاهلا ـ مع علم المالك ـ فإخباره مع يمينه حجّة. وإن كان الغاصب عالما والمالك جاهلا فأخبار الغاصب مع يمينه حجّة وطريق إلى معرفة المالك بالقيمة. وإن كان كلاهما جاهلين بالقيمة فالبيّنة حجّة وطريق لهما. فلا تشمل الرواية صورة الترافع والتنازع إلى الحاكم حتى يلزم انخرام قاعدة : البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه.

كما أنّه قد تحصّل ممّا تقدّم : عدم دلالة الصحيحة ـ بفقرتيها ـ المزبورتين ـ على كون العبرة في ضمان القيميّات بقيمة يوم الغصب. فالعبرة إمّا بقيمة يوم التلف ، وإمّا بأعلى القيم.


لكن (١) يحتمل أن يكون العيب قد تناقص إلى يوم الرّد ، والعبرة حينئذ (٢) بالعيب الموجود حال حدوثه ، لأنّ المعيب لو ردّ إلى الصّحّة أو نقص (٣) لم يسقط ضمان ما (٤) حدث منه وارتفع على (٥) مقتضى الفتوى.

فهذا الاحتمال (٦) من هذه الجهة (٧) ضعيف أيضا (٨) ،

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره تضعيف احتمال كون «اليوم» قيدا للعيب ، بتضعيف منشئه ، وهو احتمال ازدياد العيب إلى يوم ردّ العين.

ومحصّل التضعيف : أنّ احتمال ازدياد العيب ـ بعد حدوثه ـ معارض باحتمال نقصانه إلى يوم الرّدّ ، كما إذا تصدّى الغاصب معالجة البغل ومداواته ، فزال العيب أو نقص ، فلو كانت العبرة في الأرش بالعيب الموجود حال ردّ البغل لزم عدم ضمان الغاصب شيئا بإزاء العيب ، أو ضمانه قيمة أقلّ من قيمة العيب يوم حدوثه. مع أنّ المناط قيمة الأرش يوم حدوثه ، على ما يظهر من فتاواهم من ضمان العيب ، حتى إذا نقص أو زال بيد الضامن. ولأجل هذه الفتوى يشكل المصير إلى احتمال تعلّق «يوم» بالعيب ، بل المتعيّن تعلّقه ب «عليك» هذا.

(٢) أي : حين تناقص العيب وزواله تدريجا.

(٣) المراد بنقصان المعيب نقص عيبه.

(٤) المراد بالموصول هو العيب ، أي : العيب الذي حدث في المغصوب ، ثم ارتفع.

(٥) متعلّق ب «لم يسقط» يعني : أنّ الدليل على استقرار أرش العيب حال حدوثه على عهدة ضامن العين هو فتوى الأصحاب.

(٦) أي : احتمال كون «يوم» قيدا للعيب ، وهو الذي تقدّم بقوله : «ويحتمل أن يكون قيدا للعيب .. إلخ».

(٧) أي : من جهة فتوى الأصحاب بضمان العيب الحادث مطلقا حتى إذا زال أو نقص.

(٨) أي : كضعف ما تقدّم بقوله : «وأمّا قوله عليه‌السلام في جواب السؤال عن إصابة العيب».


فتعيّن (١) تعلّقه بقوله : «عليك» (٢). والمراد : بقيمة ما بين الصّحّة والعيب : قيمة التفاوت بين الصّحّة والعيب ، ولا تعرّض في الرواية ليوم هذه القيمة ، فيحتمل يوم الغصب (٣) ، ويحتمل يوم حدوث العيب (٤) الذي هو يوم تلف وصف الصّحّة ، الذي هو بمنزلة جزء العين في باب الضمانات والمعاوضات.

وحيث (٥) عرفت ظهور الفقرة السابقة عليه (٦) واللاحقة له في (٧) اعتبار

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة بطلان كلّ من تعلّق «اليوم» ب «قيمة» وتعلّقه احتمالا ب «العيب».

(٢) فمعناه حينئذ «عليك يوم ردّ العين قيمة ما بين الصّحّة والعيب» من دون تعرّض لزمان هذه القيمة ، فيحتمل أن يكون زمان التقويم يوم الغصب ، ويحتمل أن يكون يوم حدوث العيب ، الذي هو يوم تلف وصف الصّحّة ، ومن المعلوم أنّ وصف الصّحّة جزء معنوي مقابل بجزء من الثمن ، كالأجزاء الخارجيّة.

(٣) لتبعية ضمان الأجزاء ـ التي منها وصف الصّحّة ـ لضمان يوم الغصب.

(٤) يعني : إذا قلنا بضمان العين المضمونة التالفة بقيمة يوم التلف ترتّب عليه ضمان العيب بقيمة يوم حدوثه ، لأنّه زمان تلف وصف الصّحّة الذي هو كالجزء الخارجيّ في الضمان

(٥) يعني : أنّ جملة «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه» لمّا كانت مجملة ، لدوران قيمة العيب بين قيمة يوم غصب العين وبين قيمة يوم حدوث العيب ، ولم تكن منافية لاستظهار قيمة يوم الغصب ، تعيّن رفع إجمالها بالرجوع إلى ما ورد في صدر الصحيحة وذيلها ممّا يدلّ على ضمان قيمة يوم الغصب.

(٦) أي : على قوله عليه‌السلام : «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه» والمراد من الجملة السابقة قوله عليه الصلاة والسلام : «قيمة بغل يوم خالفته». والمراد بالجملة اللاحقة قوله عليه‌السلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكتري كذا وكذا» فإنّ ظاهر هاتين الجملتين اعتبار قيمة يوم الغصب.

(٧) متعلّق ب «ظهور الفقرة.».


يوم الغصب تعيّن حمل هذا (١) أيضا (٢) على ذلك (٣).

نعم (٤) يمكن أن يوهن ما استظهرناه من الصحيحة

______________________________________________________

(١) أي : جملة «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه» والوجه في التعيّن هو لزوم حمل المجمل على المبيّن.

(٢) أي : كما حملنا جملة «يوم الاكتراء» على يوم الغصب ، لعدم العبرة في باب ضمان العين المستأجرة بيوم الاكتراء.

(٣) أي : على يوم الغصب. وبهذا يظهر عدم وجود معارض للصحيحة لإرادة يوم الغصب من الصّدر والذيل.

هذا تمام الكلام في ما استظهره المصنف قدس‌سره من ضمان يوم الغصب. وسيأتي تعرّضه لاستظهار ضمان يوم التلف.

تضعيف دلالة الصحيحة على اعتبار قيمة وقت الضمان

(٤) استدراك على ما استظهره المصنّف قدس‌سره ـ من فقرتي الصحيحة ـ من ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب. وغرضه تضعيف هذا الظهور ، واستفادة ضمان قيمة يوم التلف وفاقا لجماعة.

وحاصل الاستدراك : أنّ الموهن لما استظهرناه من الصحيحة من اعتبار قيمة يوم الغصب هو : أنّ الحكم بضمان يوم المخالفة مبنيّ على ما هو الغالب في مورد الرواية من عدم اختلاف قيمة البغل في مدّة خمسة عشر يوما ، لا لأجل خصوصيّة فيه ، فلا يبقى للرواية ظهور في دخل خصوصيّة ليوم المخالفة كما هو المدّعى.

لا يقال : على هذا فما الوجه في العدول عن التعبير ب «يوم التلف» إلى التعبير ب «يوم المخالفة» مع إخلاله بالمقصود ، لاحتمال كون المدار عليه.

فإنّه يقال : وجهه دفع توهّم أمثال صاحب البغل من العوام ، وهو كون العبرة بالقيمة التي اشترى بها البغل.


بأنّه (١) لا يبعد أن يكون مبنى الحكم (٢) في الرّواية ـ على ما هو الغالب في مثل مورد الرّواية ـ من (٣) عدم اختلاف قيمة البغل في مدّة خمسة عشر يوما. ويكون السّر (٤) في التعبير بيوم المخالفة دفع ما ربما يتوهّمه أمثال صاحب البغل من العوام أنّ (٥) العبرة بقيمة ما اشترى به البغل وإن نقص بعد ذلك ، لأنّه (٦) خسّره المبلغ الذي اشترى به البغلة.

______________________________________________________

(١) متعلّق ب «يوهن» وبيان لوجه توهين ما تقدم من استفادة ضمان يوم الغصب من الصحيحة.

(٢) وهو ضمان قيمة يوم الغصب ، المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام : «قيمة بغل يوم خالفته» ومن قوله عليه الصلاة والسلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكتري كذا وكذا» لدلالة الجملتين على كون العبرة بقيمة يوم الغصب ، كما تقدّم مفصّلا.

(٣) بيان ل «ما هو الغالب».

(٤) هذا دفع دخل مقدّر ، تقدّم بيانهما بقولنا : «لا يقال .. فإنه يقال ..» فغرض المصنّف إسقاط خصوصيّة «يوم المخالفة» عن دخله في تقويم المضمون.

(٥) الجملة في محلّ نصب على أنّها بيان للضمير المنصوب في قوله : «يتوهمه» أو أنّها مجرورة ب «من» البيانية المبيّنة للموصول في «ما ربما».

يعني : أنّ صاحب البغل وعوام الناس يتخيّلون ويتوهّمون ضمان التالف بثمنه الذي اشتروه حتى إذا نقص عنه بعده ، لصيرورة البغل فارضا قد ضعف عن السّير عليه مسافة مديدة ، فإنّهم لا يعتنون بهذا النقص ويطالبون بثمن الاشتراء. فأراد عليه الصلاة والسلام تنبيه المكاري على أنّه لا يستحقّ ثمن الاشتراء ، وإنّما يستحقّ قيمته الفعليّة في يوم المخالفة وإن كان أقلّ بكثير من قيمة الشراء.

(٦) تعليل لتوهّم المكاري استحقاق قيمة الاشتراء ، يعني : لأنّ أبا ولّاد ـ الذي اكترى البغل ـ أورد خسارة على المكاري ، قدرها الثمن الذي بذله المكاري لشراء البغل.

هذا أصل توهين استظهار قيمة يوم الغصب ، ثمّ أيّده المصنّف بأمرين ، كما يأتي


ويؤيّده التعبير (١) عن يوم المخالفة في ذيل الرّواية ب «يوم الاكتراء» (٢) فإنّ فيه إشعارا بعدم عناية المتكلّم بيوم المخالفة من حيث إنّه يوم المخالفة (٣).

إلّا أن يقال (٤) : إنّ الوجه في التعبير ب «يوم الاكتراء» مع كون المناط يوم المخالفة (٥) هو التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء ، لكون

______________________________________________________

وإن ناقش في أوّلهما.

(١) هذا هو المؤيّد الأوّل لإسقاط يوم المخالفة عن الموضوعيّة ، يعني : ويؤيّد كون الحكم ـ في الصحيحة ـ مبنيّا على الغالب التعبير عن يوم المخالفة ب «يوم الاكتراء» كما تقدّم في الفقرة الثانية. ولو كان الحكم مترتّبا على خصوص يوم المخالفة والغصب لم يكن وجه للتعبير ب «يوم الاكتراء» حتى لو فرض اتّحاده مع يوم المخالفة. فالتعبير «بيوم الاكتراء» مشعر بعدم اعتناء الامام عليه الصلاة والسلام بقيمة البغل في يوم المخالفة ، وأنّ تعبيره عليه‌السلام «بيوم المخالفة» في الجملة السابقة يكون لأجل وحدة قيمة البغل في يومي المخالفة والاكتراء. وعليه فلا سبيل لاستظهار ضمان قيمة البغل في يوم الغصب من الصحيحة.

(٢) أي : فإنّ في التعبير ب «يوم الاكتراء» إشعارا بعدم موضوعيّة قيمة البغل يوم الغصب.

(٣) بل من حيث كون القيمة في يوم المخالفة مساوية لها في يوم الاكتراء إلى يوم الرّد ، ومن هنا يصحّ التعبير عن قيمته بقيمة يوم الاكتراء والردّ والمخالفة.

(٤) غرضه الخدشة في التأييد والتحفّظ على كون «يوم المخالفة» ملحوظا على نحو الموضوعيّة ، وحاصله : أنّه مع كون العبرة بقيمة يوم المخالفة يكون النكتة في التعبير عنه ب «يوم الاكتراء» هي التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء ، لكون البغل في يوم الاكتراء بمحضر المكارين ، فيسهل الاطّلاع على قيمته.

بخلاف وقت المخالفة ، لعدم حضورهم عند قنطرة الكوفة حتى يتيسّر تقويم البغل بالمراجعة إليهم. وعليه فالعبرة بقيمة المضمون في زمان الغصب ، هذا.

(٥) كما استظهره المصنّف من قوله عليه الصّلاة والسّلام : «قيمة بغل يوم خالفته».


البغل فيه غالبا (١) بمشهد من الناس وجماعة من المكارين (٢). بخلاف زمان المخالفة من حيث (٣) إنّه زمان المخالفة.

فتغيير التعبير ليس لعدم العبرة بزمان المخالفة ، بل للتنبيه على سهولة معرفة القيمة بالبيّنة. كاليمين (٤) ـ في مقابل قول السائل (٥) : «ومن يعرف ذلك؟» فتأمّل (٦).

______________________________________________________

(١) أي : في يوم الاكتراء.

(٢) الّذين هم خبراء بثمن البغال والدّوابّ.

(٣) لمّا كان يوم الاكتراء والمخالفة واحدا في مورد الصحيحة ، وكانت العبرة بقيمة يوم المخالفة ، لزم تقييد «اليوم» عند ترتب حكم على حيثيّة المخالفة. فغرضه قدس‌سره من قوله : «من حيث إنّه زمان المخالفة» أنّ مناط معرفة قيمة البغل يوم الاكتراء لا زمان المخالفة ، فالعبرة في الضمان بيوم الغصب ، وطريق معرفة القيمة إخبار المكارين الّذين يسهل حضورهم في زمان الاكتراء ، ويصعب في زمان المخالفة.

(٤) يعني : كمعرفة القيمة باليمين في السهولة.

(٥) يعني : في جواب سؤال أبي ولّاد ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : «أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود ..».

(٦) لعلّه إشارة إلى : أنّ الخدشة في المؤيّد ـ المتقدمة بقوله : «إلّا أن يقال» ـ لا يوجب ارتفاع التوهين في أصل المطلب.

أو إلى : أنّ الخدشة في المؤيّد ممنوعة. وأنّ التعبير ب «يوم الاكتراء» موهن لاستظهار ضمان قيمة يوم المخالفة. وما ذكر من «سهولة معرفة القيمة بالبيّنة وصعوبتها في يوم المخالفة» غير وجيه ، لأنّه ـ بعد اقتران المخالفة زمانا بالاكتراء ـ يسهل معرفة قيمة البغل في كلّ من زمان الاكتراء والمخالفة ، فلو كانت العبرة بيوم المخالفة تعيّن التعبير به.


ويؤيّده (١)

______________________________________________________

وعليه فالتعبير ب «يوم الاكتراء» كاشف عن عدم موضوعيّة يوم المخالفة ، هذا.

(١) هذا مؤيّد ثان لكون الحكم في الرّواية ـ من ضمان قيمة يوم المخالفة ـ مبنيّا على الغالب ، لا لموضوعيته له. وحاصل وجه التأييد : أنّ قوله عليه‌السلام : «أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك .. إلخ» يدلّ على عدم خصوصيّة في تقويم البغل بيوم المخالفة ، إذ لو كانت العبرة بخصوص يوم المخالفة لم يكن وجه لكون قول المالك مقدّما على قول المستأجر ، مع كون قوله مخالفا للأصل ، لأنّه يدّعي زيادة القيمة بعد الاكتراء ، وهذه الدعوى مخالفة لأصالة براءة ذمّة الضامن ، أو مخالفة لاستصحاب عدم الزيادة.

ولم يكن أيضا وجه لقبول بيّنته ، لأنّ من يقبل قوله فليس عليه البيّنة ، بل البيّنة على صاحبه.

وبالجملة : فهذا كلّه مخالف لموازين القضاء ، وموهن لظهور الصحيحة في كون العبرة بقيمة يوم الغصب.

وبتعبير آخر : أنّ الامام عليه الصّلاة والسّلام جعل طريق إثبات القيمة الزائدة التي يدّعيها المكاري ـ حتى تستقرّ على عهدة أبي ولّاد ـ أمرين ، أحدهما : الحلف ، والآخر : إقامة البيّنة. وجعل عليه‌السلام طريق إثبات القيمة التي يدّعيها أبو ولّاد خصوص اليمين المردودة.

وعليه نقول : لو كانت العبرة بقيمة البغل يوم الغصب ، أشكل تطبيق جواب الامام عليه الصّلاة والسّلام على موازين باب القضاء. أمّا أوّلا : فلأنّ مالك البغل مدّع لزيادة قيمته يوم الغصب على قيمته يوم الإكتراء بيمينه ، ومن المعلوم أنّ قوله مخالف لأصالة عدم الزيادة. ولا وجه لتقديم قوله بمجرّد يمينه ، لأنّ المتّبع في باب القضاء توجيه الحلف أوّلا إلى المنكر ، فإن حلف ثبت قوله ، وإن ردّها إلى المالك فحلف ثبت قوله.


أيضا (١) قوله عليه‌السلام فيما بعد (٢) في جواب قول السائل : «ومن يعرف ذلك؟» قال : أنت وهو ، امّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك. فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه. أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون على أنّ قيمة البغل يوم اكتري كذا وكذا ، فيلزمك» الخبر ، فإنّ (٣) العبرة لو كانت بخصوص يوم

______________________________________________________

مع أنّه عليه الصّلاة والسّلام قدّم قول المالك بحلفه على القيمة ، فقال : «إمّا أن يحلف هو على القيمة ..».

وأمّا ثانيا : فلأنّ المقرّر في باب القضاء «البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر» فالوظيفة الأوّليّة لكلّ منهما تغاير وظيفة الآخر ، فعلى المدّعي إقامة البيّنة لإثبات مقصوده ، وعلى المنكر اليمين للتخلّص من دعوى المدّعي. ومن المعلوم عدم صدق عنواني «المدّعي والمنكر» على شخص واحد حتى تثبت دعواه بكلّ من اليمين والبيّنة. مع أنّه عليه الصّلاة والسّلام جمع بين اليمين والبيّنة في حقّ المالك هذا.

ولا مخلص من هذين الإشكالين إلّا بجعل العبرة بقيمة يوم التلف ، إذ يمكن توجيه كلّ من تقديم قول المالك ، وتوجيه اليمين والبينة معا إلى المالك كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : كما تأيّد الحكم ـ بضمان قيمة يوم التلف ـ بالمؤيّد الأوّل.

(٢) يعني : بعد الفقرة الأولى ، وهي قوله عليه الصّلاة والسّلام : «نعم قيمة بغل يوم خالفته».

(٣) هذا تعليل لقوله : «ويؤيّده أيضا» وبيان لوجه التأييد ، وحاصله ـ كما عرفت تفصيله ـ أنّه لو كانت العبرة بضمان قيمة يوم الغصب لزم مخالفة موازين باب القضاء من جهتين. إحداهما : قبول قول المالك المدّعي لزيادة قيمة البغل ، والمفروض مخالفة دعواه لأصالة عدم الزيادة.

ثانيتهما : الجمع بين قبول يمينه وقبول بيّنته ، مع امتناع كون شخص واحد مدّعيا ومنكرا.


المخالفة لم يكن وجه لكون القول قول المالك مع كونه مخالفا للأصل (١). ثم لا وجه لقبول بيّنته (٢) ، لأنّ من كان القول قوله ، فالبيّنة بيّنة صاحبه.

وحمل (٣) الحلف هنا على الحلف المتعارف الذي يرضى به المحلوف له

______________________________________________________

(١) أي : استصحاب عدم زيادة القيمة على قيمة ما قبل يوم المخالفة.

(٢) أي : بيّنة المالك ، ومن المعلوم أنّ قبول بيّنته مخالف لما تقرّر من أنّ من يقبل قوله لا تقبل بيّنته ، وإنّما تقبل من صاحبه.

(٣) مبتدأ خبره «خلاف الظاهر» والحامل هو صاحب الجواهر قدس‌سره وقد بسط الكلام لتثبيته ، ولئلّا يلزم طرح الصحيحة من جهة مخالفتها لموازين القضاء ، قال قدس‌سره : «قلت : لكن قد يقال : يمكن حمله على إرادة بيان أنّ ذلك طريق لمعرفة القيمة مع التراضي بينهما في ذلك ، لا أنّ المراد بيان تقديم قوله مع عدم التراضي. وإلّا لم يكن معنى لقوله عليه‌السلام : أو يأتي بشهود ، ضرورة عدم الحاجة إليهم في إثبات قوله ، بناء على أنّ القول قوله .. إلى أن قال : فلا دلالة في الصحيح المزبور على فرض المسألة بما عند الأصحاب من كون المراد شغل ذمّة الغاصب بالزائد وعدمه. بل إن لم يحمل على ما ذكرنا من التراضي بينهما على اليمين لم يكن معنى لقوله عليه‌السلام : تعرفها أنت وهو ، ضرورة كون المعرفة للمالك حينئذ ، بناء على أنّ القول قوله. وليس المراد من قوله عليه‌السلام ـ فإن ردّ اليمين عليك ـ اليمين المردودة المصطلحة ، إذ تلك إنّما هي على نفي ما يدّعيه المنكر ، لا على إثبات ما يدّعيه الغاصب. فلا محيص حينئذ عن حمل الصحيح المزبور على ما ذكرناه ، وإلّا نافى قواعد القضاء ، فتأمّل جيّدا ، والله العالم» (١).

وغرضه قدس‌سره من هذا الحمل توجيه العمل بهذه الصحيحة بنحو لا ينافي ما تقرّر في باب القضاء من «أن البينة على المدّعي واليمين على من أنكر» وادّعى صاحب الجواهر عدم دلالة الصحيحة على كون مورد تقديم قول المالك وقبول بيّنته ـ معا ـ هو إنكار الغاصب زيادة قيمة المغصوب ، بل مورده التداعي. وأقام

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٢٢٤ و ٢٢٥.


.................................................................................................

______________________________________________________

قرائن داخليّة على مدّعاه ، وكان المناسب توضيحها تسهيلا للأمر على إخواننا المشتغلين أيّدهم الله تعالى. لكن لخوف الإطالة والخروج عن حدود التوضيح نقتصر على شرح ما لخّصه المصنّف في المتن ، فنقول وبه نستعين :

إنّ المراد بالحلف في قوله عليه الصّلاة والسّلام : «إمّا أن يحلف هو ..» ليس الحلف الذي يكون ميزانا لفصل الخصومة حتى يلزم مخالفة قاعدة «اليمين على المنكر والبيّنة على المدّعي» بل المقصود بالحلف هنا هو اليمين المتعارفة عند عامّة الناس بداعي تصديق الطرف الآخر وإذعانه بالمحلوف عليه ، كما يشاهد في مقام المعاملة ، فيحلف البائع مثلا على أنّ المبيع كلّفه كذا دينارا ، أو أنّه صرف عليه كذا مبلغا ، فيصدّقه المشتري ، ويرضى بالثمن ، ولولا اليمين بالأسماء المقدّسة لم تقنع نفس المشتري بما يدّعيه البائع.

وكذا الحال في حلف الموجر على الأجرة التي يجعلها على داره أو دكّانه.

ومن هذا القبيل اختلاف أبي ولّاد والمكاري في قيمة البغل ، فلو ادّعى المكاري قيمة عليا وحلف عليها رضي أبو ولّاد بها ، واحتمل عدم تصديقه إيّاه بدون الحلف.

وعلى هذا فلا ربط للحلف المذكور في الصحيحة بباب القضاء حتى تنخرم قاعدة «اليمين على من أنكر» إذ لا أثر في الصحيحة من الترافع إلى القاضي في خصوص معرفة قيمة البغل ، هذا.

فإن قلت : لو كان المراد من الحلف هو المتداول في مقام المماكسة عند المعاملة لم يكن وجه لتعبير الامام عليه الصّلاة والسّلام : «فان ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه» لأنّ ظاهر «الرّدّ» هو كون الحلف حقّا للمالك ابتداء ، وأنّ الحاكم الشرعيّ يأمر المالك بالحلف ، فإن أبى منه وجّهه الحاكم إلى الغاصب ، ومن المعلوم أنّ «ردّ اليمين» من شؤون القضاء وفصل الخصومة عند الحاكم والترافع إليه ، فلا وجه لحمل «الحلف» على ما يتداول بين عامّة الناس في مقام المعاملة ، هذا.


ويصدّقه (١) فيه من دون (٢) محاكمة. والتعبير (٣) بردّ [بردّه] اليمين على الغاصب من جهة أنّ المالك أعرف بقيمة بغله ، فكان الحلف حقّا له ابتداء خلاف (٤) الظاهر.

______________________________________________________

قلت : التعبير ب «ردّ اليمين» لا ينافي إرادة الأيمان المتعارفة بين الناس ، وذلك لخصوصيّة في هذه القصّة ، وهي أنّ تقديم قول المكاري ـ بضميمة حلفه على القيمة ـ ناش من كونه أعرف بقيمة بغلة من غيره ، فلذا حكم الامام عليه الصّلاة والسّلام بتوجّه اليمين إليه أوّلا ، فإن حلف ثبتت القيمة العليا في ذمّة أبي ولّاد ، وإن ردّ اليمين عليه ، فحلف على القيمة النازلة لزم على المكاري قبولها.

والحاصل أنّه : لا مانع من حمل الحلف في الصحيحة على الحلف المتعارف بين الناس ، ولا يراد به الحلف المعتبر في فصل الخصومة حتى يشكل استظهار قيمة يوم الغصب من الصحيحة.

(١) الضمير المستتر راجع إلى المحلوف له وهو أبو ولّاد ، والضمير البارز راجع إلى الحالف وهو المكاري. وضمير «فيه» راجع إلى «المحلوف عليه» المستفاد من العبارة ، والمراد به قول المكاري.

(٢) متعلّق ب «يرضى» يعني : أنّ الطرف الآخر يرضى بما يحلفه الحالف ، ولا حاجة إلى مراجعة المحكمة للحلف فيها.

(٣) مبتدأ خبره قوله : «من جهة» وتقدّم توضيح الدخل وجوابه بقولنا : «إن قلت .. قلت».

(٤) خبر قوله : «وحمل» وردّ له. وحاصل الرّدّ : أنّ شأن الإمام عليه الصّلاة والسّلام بيان الحكم الشرعيّ الكلّيّ ، والقانون العامّ لحلّ المنازعة بين المكاري وأبي ولّاد ، وليس عليه‌السلام بصدد إرجاعهما إلى ما تعارف بين الناس لحلّ المرافعة ، إذ لا عبرة بها لو لم تنطبق على الموازين الشرعيّة. هذا ما أفاده المصنف قدس‌سره وقد بيّن في التعليقة ما يتعلّق به ، فراجع.

فتحصّل : أنّ المؤيّد الثاني لضمان قيمة يوم التلف ـ دون قيمة يوم المخالفة ـ سليم عن الخدشة المتقدّمة.


وهذا (١) بخلاف ما لو اعتبرنا يوم التلف ،

______________________________________________________

(١) هذا مرتبط بقوله : «فإنّ العبرة لو كانت بخصوص يوم المخالفة» وتتمّة للمؤيّد الثاني ، وحاصله : أنّ مدلول الصحيحة إن كان ضمان قيمة يوم التلف لم يلزم خرق قواعد باب القضاء أصلا ، لإمكان حمل حكمه عليه الصّلاة والسّلام «بتقدّم قول المكاري بيمينه» على صورة من صور نزاعهما في قيمة البغل ، وحمل حكمه صلوات الله وسلامه عليه بقبول بيّنته على صورة أخرى.

توضيحه : أنّ اختلاف المكاري وأبي ولّاد في قيمة البغل يفرض تارة فيما إذا اتّفقا على قيمته يوم المخالفة بأن كانت خمسين درهما مثلا ، وادّعى أبو ولّاد نقصان ثمنه يوم التلف بأن صارت أربعين درهما ، وأنكر المكاري هذا النقص ، فيحمل قوله عليه الصّلاة والسّلام : «إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك» على هذه الصّورة ، وهو مطابق لقاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» وحيث إنّه لا بيّنة لأبي ولّاد على دعوى نقصان القيمة يتجه قبول قول المكاري بيمينه ، لموافقته لاستصحاب بقاء قيمة البغل على حالها.

وأخرى فيما إذا اتّفقا على عدم تغيير قيمته السوقيّة من زمان الغصب إلى زمان التلف ، وإنّما اختلفا في قيمته السابقة ، فالمكاري يدّعي أنّها خمسون درهما ، والغاصب ينكره ويقول إنّها أربعون درهما. ويحمل قوله عليه الصّلاة والسّلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود ..» على هذه الصّورة ، لكون الغاصب منكرا للزيادة ، ويطابق قوله للأصل ، والمكاري مدّعيا للزيادة ، وعليه إقامة البيّنة على أنّ قيمة البغل خمسون درهما ، وليس في هذا مخالفة لقانون القضاء «البيّنة على المدّعي» بل هو مصداق للقاعدة المسلّمة.

وثالثة فيما إذا اتّفقا على قيمة البغل يوم الغصب وأنّها خمسون درهما مثلا ، وادّعى المالك ارتفاعها إلى ستّين درهما يوم التلف ، وأنكر الغاصب هذا الارتفاع ، وأنّ القيمة لم تزدد على الخمسين. وهذه الصّورة وإن لم تذكر في الصحيحة ، لكن يعلم


فإنّه (١) يمكن أن يحمل توجّه اليمين على المالك على (٢) ما إذا اختلفا في تنزّل القيمة يوم التلف ، مع اتّفاقهما أو الاطّلاع (٣) من الخارج على قيمته سابقا. ولا شكّ حينئذ (٤) أنّ القول قول المالك.

ويكون سماع البيّنة (٥) في صورة اختلافهما في قيمة البغل سابقا مع

______________________________________________________

حكمها من حكم الصّورة الأولى ، فيحلف الغاصب على نفي زيادة القيمة ، وإن نكل وردّ اليمين على المكاري وحلف على ارتفاع القيمة ، استقرّ على عهدة الغاصب حينئذ.

فالنتيجة : أنّ الصحيحة إن دلّت على اعتبار قيمة يوم الغصب لزم إمّا مخالفة قواعد القضاء كما عرفته مفصّلا ، وإمّا حمله على فرد نادر من موارد النزاع كما سيأتي توضيحه قريبا. وإمّا على التعبّد كما سيأتي أيضا. وإن دلّت على ضمان قيمة يوم التلف كان قبول قول المكاري بيمينه وقبول بيّنته مطابقا لموازين القضاء ، بعد حمل مورد الحلف على صورة ، ومورد البيّنة على صورة أخرى ، هذا.

(١) هذا تقريب مطابقة الصحيحة لموازين باب القضاء بناء على أمرين :

أحدهما : كون العبرة بقيمة يوم التلف.

ثانيهما : التفكيك بين موردي تقدّم قول المالك بيمينه ، وبين قبول يمينه ، كما عرفت.

(٢) متعلّق ب «أن يحمل».

(٣) يعني : أنّ اتّفاقهما على القيمة السابقة إمّا لعلمهما بها ، وإمّا لاستعلام القيمة من الخبراء والمقوّمين.

(٤) أي : حين اتّفاقهما على قيمته سابقا. والوجه في تقديم قول المالك حينئذ هو إنكاره لما يدّعيه الغاصب من نقصان قيمة المعيب.

(٥) هذه صورة ثانية من صور نزاعهما في قيمة البغل. وفي هذا الفرض تكون وظيفة المالك إقامة البيّنة ، ولا مورد ليمينه ولا ليمين الغاصب ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «واخرى فيما إذا اتفقا على عدم تغيير قيمته السّوقيّة .. إلخ».


اتّفاقهما على بقائه عليها إلى يوم التلف ، فيكون (١) الرّواية قد تكفّلت بحكم صورتين من صور تنازعهما. ويبقى بعض الصور ، مثل : (٢) دعوى المالك زيادة قيمة يوم التلف عن يوم المخالفة (٣). ولعلّ حكمها ـ أعني حلف الغاصب ـ يعلم من حكم عكسها (٤) المذكور في الرّواية.

وأمّا على تقدير كون العبرة في القيمة بيوم المخالفة فلا بدّ (٥) من حمل

______________________________________________________

(١) هذا متفرّع على ما تقدّم من حمل مورد قبول حلف المالك على الصّورة الاولى ، وحمل مورد قبول بيّنته على الصّورة الثّانية.

(٢) هذه هي الصّورة الثّالثة من صور النزاع ، وقد تقدّم توضيحها أيضا.

(٣) يعني : عن قيمة يوم المخالفة ، المتّفق عليها بينهما.

(٤) أي : الصّورة الاولى ، وهي اختلافهما في تنزّل القيمة ـ يوم التلف ـ عن قيمتها السّابقة المتّفق عليها.

هذا كلّه في توجيه الصّحيحة بناء على كون العبرة بقيمة يوم التلف.

(٥) غرضه من هذا الكلام إلى الشروع في استفادة ضمان أعلى القيم هو توجيه الصّحيحة بناء على دلالتها على ضمان قيمة يوم المخالفة ، بذكر وجهين ، والمناقشة فيهما.

توضيح الوجه الأوّل : أنّه يمكن تطبيق الصحيحة على قاعدة «الحلف وظيفة المدّعى عليه ، والبيّنة وظيفة المدّعي» بحمل قوله عليه الصّلاة والسّلام : «إما أن يحلف هو فيلزمك» على صورة من صور النزاع ، وهي ما إذا اتّفقا على قيمة البغل في اليوم السابق على يوم المخالفة ، بأن كانت خمسين درهما ، ثم اختلفا في قيمته يوم المخالفة ، بأن ادّعى الغاصب نقصانها يوم المخالفة إلى أربعين درهما ، وادّعى المالك بقاءها على الخمسين درهما ، إذ يكون المالك حينئذ منكرا ، لموافقة قوله لأصالة عدم النقصان ، فيتّجه قبول قوله مع يمينه.

وكذا الحال لو اتّفقا على قيمة البغل في اليوم اللاحق ليوم المخالفة ، وهي خمسون درهما ، ولكن الغاصب يدّعي كونها في يوم المخالفة أربعين ، فيتّجه قبول يمينه ، لموافقة قوله للاستصحاب القهقرائيّ الدالّ على كون قيمته يوم المخالفة خمسين درهما.


الرّواية على ما إذا اتّفقا على قيمة اليوم السّابق على يوم المخالفة ، أو اللاحق له (١) ، وادّعى الغاصب نقصانه عن تلك (٢) يوم المخالفة. ولا يخفى بعده (٣).

وأبعد منه (٤) حمل النّصّ على التّعبّد ، وجعل حكم خصوص الدابّة

______________________________________________________

والحاصل : أنّه بناء على حمل الصحيحة على هذه الصورة من صورة النزاع لا يلزم مخالفة قاعدة القضاء. لكن ردّه المصنّف قدس‌سره بالبعد ، وسيأتي توضيحه كما سيأتي توضيح الوجه الثاني إن شاء الله تعالى.

(١) أي : ليوم المخالفة.

(٢) أي : عن تلك القيمة المتّفق عليها ، والظرف منصوب ل «نقصانه» أي : وقع النقصان في يوم المخالفة.

(٣) لعلّ وجهه عدم ابتلاء الغاصب بالبغل قبل المخالفة ليتمشّى منه موافقة المكاري على قيمته قبل الاكتراء ، فيلزم حينئذ حمل الصحيحة على فرد نادر ، لأنّهما لو اتّفقا على قيمة البغل قبل المخالفة بيوم ـ أو بعدها كذلك ـ كانت دعوى الغاصب نقصان القيمة في يوم المخالفة بعيدة جدّا ، إذ ليست البغال كسائر أموال التّجارة التي تتغيّر أسعارها وأثمانها تغييرا فاحشا في يوم أو يومين.

وحيث كان هذا الحمل بعيدا كان الأولى حملها ، على الصّورتين المتقدّمتين المبتنيتين على ضمان يوم التلف.

(٤) أي : من حمل الرّواية على ما إذا اتّفقا .. وهذا التّوجيه الثاني يستفاد من فتوى شيخ الطائفة قدس‌سره في موضعين من النهاية ، ولا بأس بنقل كلامه فيهما تسهيلا للأمر على إخواننا أعزّهم الله تعالى.

فنقول : قال ـ في باب بيع الغرر والمجازفة وما يجوز بيعه وما لا يجوز ـ ما لفظه : «ومن غصب غيره متاعا ، وباعه من غيره ، ثمّ وجده صاحب المتاع عند المشتري كان له انتزاعه من يده. فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع رجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه إيّاه .. فإن اختلف في قيمة المتاع كان القول قول صاحبه مع يمينه بالله تعالى» (١).

__________________

(١) النهاية ، ص ٤٠٢.


أو مطلقا مخالفا للقاعدة المتّفق عليها نصّا وفتوى من «كون البيّنة على المدّعي

______________________________________________________

ووجّهه المحقّق بقوله : «إنّما كان القول قول المالك ، لأنّ الثابت في الذّمّة هو الشي‌ء المغصوب ، فإذا ادّعى الغاصب أنّ القدر المدفوع هو قيمته ، وأنكر المالك ، كان القول قوله ، لأنّ الغاصب يدّعي خلاص ذمّته ممّا هو ثابت فيها بالقدر المدفوع ، وأنّ القدر هو قيمة ما في الذّمّة. وعلى هذا التخريج لا تكون هذه الصورة خارجة عن الأصل» (١).

هذا كلّه فيما اختاره شيخ الطائفة في بيع المغصوب في كتاب المتاجر.

وقال في باب الإجارة ـ في من اكترى دابّة على أن يركبها إلى موضع مخصوص ، فتجاوزه ـ ما لفظه : «ومتى هلكت الدابّة ـ والحال ما وصفناه ـ كان ضامنا لها ، ولزمه قيمتها يوم تعدّى فيها. فان اختلفا في الثمن كان على صاحبها البيّنة ، فإن لم تكن له بيّنة كان القول قوله مع يمينه. فإن لم يحلف وردّ اليمين على المستأجر منه لزمه اليمين ، أو يصطلحان على شي‌ء. والحكم فيما سوى الدّابّة فيما يقع الخلف فيه بين المستأجر والمستأجر منه ، كانت البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» (٢).

وهذا الكلام صريح في اختصاص الدّابّة المغصوبة بحكم ، وهو الجمع بين مطالبة البيّنة من المالك ، ثم قبول قوله مع اليمين. والوجه فيه ـ كما صرّح به المحقّق في نكت النهاية (٣) ـ العمل بصحيحة أبي ولّاد. فتكون مخصّصة لقاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» وأمّا غير الدّابّة مما يقع الخلاف في ثمنه فمشمول لعموم القاعدة.

وقد ظهر بما نقلناه من كلمات الشيخ والمحقّق قدس‌سرهما اختلاف كلامي الشيخ في بابي البيع والإجارة ، ففي بيع المغصوب حكم بتقديم قول المالك مطلقا ، سواء أكان المغصوب دابّة أم غيرها. وفي باب الإجارة خصّ الحكم بالدّابّة المغصوبة

__________________

(١) النهاية ونكتها ، ج ٢ ، ص ١٧٩.

(٢) النهاية ، ص ٤٤٦.

(٣) النهاية ونكتها ، ج ٢ ، ص ٢٨٠ و ٢٨١.


واليمين على من أنكر» كما حكي عن الشيخ في بابي الإجارة والغصب (١).

______________________________________________________

عملا بصحيحة أبي ولّاد. ولأجل هذا الاختلاف عبّر المصنّف ب «أو» فقال : «خصوص الدّابّة أو مطلقا».

إذا اتّضح ما ذكرناه ـ من صحّة نسبة هذا الحمل إلى شيخ الطائفة قدس‌سره ـ قلنا في توضيحه : إنّ الأصل المقرّر في باب القضاء من «أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» حكم شرعيّ كلّيّ كسائر القواعد الشرعيّة العامّة القابلة للتخصيص كقاعدة التجاوز والفراغ ولا ضرر ولا تعاد ونحوها. وليست أحكاما كلّيّة آبية عن التخصيص.

وحيث كانت صحيحة أبي ولّاد جامعة لشرائط الحجّيّة تعيّن تخصيص القاعدة المقرّرة في باب القضاء بها ، ويقال : إنّ النزاع في ثمن الدّابّة المغصوبة مختصّ بحكم تعبّديّ ، وهو تقديم بيّنة المالك وقبول يمينه ، ولا يندرج في عموم «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» هذا.

وقد ناقش المصنف قدس‌سره في هذا الحمل بأنّه أبعد من الحمل السابق. ولعلّ وجه الأبعديّة عدم ذهاب أحد إلى التعبّد وتخصيص قاعدة «البيّنة على المدّعي ..» مع كون تخصيص العامّ جمعا عرفيّا واضحا. ويكفي لإثبات عدم عرفيّة هذا التخصيص إعراض جماعة ممّن نقل فتوى الشيخ عنه ، واعتراضهم عليه كابن إدريس والمحقّق والعلّامة وغيرهم (١) قدّس الله أسرارهم.

(١) المراد من الغصب هو بيع المغصوب ، لا باب الغصب.

هذا تمام الكلام في ترجيح استظهار ضمان المغصوب بقيمة يوم التلف من صحيحة أبي ولّاد ، وعدم وفائها بإثبات ضمان يوم الغصب. وسيأتي الكلام في استظهار ضمان أعلى القيم من الصحيحة.

__________________

(١) راجع : السرائر ، ج ٢ ، ص ٤٦٥ ؛ شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٨٧ ، المسألة الثانية ؛ مختلف الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٥٠ ؛ مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٢١.


وأضعف من ذلك (١) الاستشهاد بالرواية على اعتبار أعلى القيم من حين

______________________________________________________

ج : القول الثالث : ضمان أعلى القيم

(١) المشار إليه هو الاستشهاد بالصحيحة على كون العبرة بقيمة يوم الغصب. وقد نبّه على ضعفه بقوله : «نعم يمكن أن يوهن ما استظهرناه من الصحيحة بأنّه لا يبعد .. إلخ».

واستدلّ على ضمان أعلى القيم من يوم الغصب إلى التلف بوجوه :

أوّلها : صحيحة أبي ولّاد ، على ما صرّح به الشهيد الثاني قدس‌سره وإن لم يذكر تقريب دلالة الصحيحة على ذلك. قال في المسالك في عدّ الأقوال المذكورة في ضمان القيميّ : «وثانيها : ضمان القيمة يوم التلف .. وهذا القول قويّ. إلّا أنّ في صحيحة أبي ولّاد ـ فيمن اكترى البغل وتجاوز به محلّ الشرط ـ ما يدلّ على وجوب أعلى القيم بين الوقتين. ولولاها لما كان عن هذا القول عدول» (١).

وقوّى هذا القول في شرح اللمعة «لمكان هذا الخبر الصحيح».

ولكنّه قدس‌سره استدلّ بالصحيحة ـ قبل سطر ـ على ضمان قيمة يوم الغصب ، حيث قال : «وفي صحيح أبي ولّاد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في اكتراء البغل ومخالفة الشرط ما يدلّ على هذا القول» (٢).

وكيف كان فيمكن أن يكون نظره ـ في دلالة الصحيحة على قيمة زمان الغصب ـ إلى الظهور البدويّ في جملة «نعم قيمة بغل يوم خالفته» كما في مفتاح الكرامة (٣).

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٦ ؛ الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٤٣ و ٤٤ ؛ وحكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ج ٦ ، ص ٢٤٤.

(٢) الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٤٢.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٤.


.................................................................................................

______________________________________________________

وقد تقدّم بيان المصنّف قدس‌سره في كيفيّة الدّلالة.

وأمّا دلالة الصحيحة على ضمان أعلى القيم من زمان الغصب إلى التلف فلم يبيّنها الشهيد الثاني قدس‌سره ويمكن توجيهما بوجهين.

أحدهما : استفادة الحكم من جملة «نعم قيمة بغل يوم خالفته» بإلغاء المعنى الحدثي ، وإرادة المعنى الاسمي على ما سيأتي توضيحه في التعليقة. ولعلّ هذا الوجه ظاهر الجواهر ، حيث قال قدس‌سره : «اللهم إلّا أن يقال : إنّه بناء على تعلّق الظرف بالفعل المستفاد من قوله : نعم ، يكون المراد أنّ ابتداء الضمان من ذلك اليوم إلى يوم التلف ، فيضمن الأعلى منه حينئذ. بل إن جعل متعلقا بالقيمة يكون المراد منه ذلك أيضا ، لعدم معقولية ضمان القيمة مع وجود العين ، فيكون الحاصل : أنه تلزمه القيمة مع العطب من يوم المخالفة» (١).

ثانيهما : استفادة الحكم من مجموع الجملتين ، وهما : قوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» وقوله عليه‌السلام : «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه». بتقريب : أنّ القيمة المضمونة ليست خصوص قيمة يوم الغصب ، بل المستقرّ على ذمّة أبي ولّاد ـ عند تعيّب البغل ـ هو إحدى القيم من زمان الغصب إلى زمان التلف ، أو إلى ردّه معيبا إلى المكاري. ومن المعلوم اقتضاء إطلاق القيمة بين هذين الوقتين ضمان الجامع بين القيم ، وأداء هذا الجامع منوط بدفع الأعلى.

فلو كان ثمن البغل يوم المخالفة خمسين درهما مثلا ، ثم ارتفع إلى ستّين ، وتنزّل إلى أربعين ، وكان في يوم تلفه أو يوم ردّه معيبا خمسا وأربعين كان على عهدة الضامن ستّون درهما ، لإطلاق قوله عليه‌السلام «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب» لاستقرار القيمة العليا بمجرّد ارتفاع القيمة في الفترة بين الغصب والرّد ، أو بين الغصب والتلف. ولا تفرغ الذّمّة بأداء القيمة النازلة ، لعدم كونها جامعة بين القيم المختلفة في المدة التي كانت العين تحت يد الغاصب.

__________________

(١) جواهر الكلام ؛ ج ٣٧ ، ص ١٠٤.


الغصب إلى التلف كما حكي عن الشهيد الثاني ، إذ (١) لم يعلم لذلك وجه صحيح ، ولم أظفر بمن وجّه دلالتها على هذا المطلب (٢).

نعم استدلّوا على هذا القول (٣) بأنّ العين مضمونة في جميع تلك الأزمنة التي منها زمان ارتفاع قيمته.

وفيه (٤) أنّ ضمانها

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «وأضعف» والتعبير به إنّما هو لعدم الظفر بوجه دلالة الصحيحة على ضمان أعلى القيم ، وهذا بخلاف دلالتها على ضمان يوم الغصب ، فإنّها ليست ببعيدة ، ولذا استظهره جماعة كالفاضل النراقي وغيره ، وكذا المصنّف في بادئ الأمر ، وإن عدل عنه إلى ترجيح اعتبار قيمة يوم التلف.

(٢) قد وجّهه صاحب الجواهر قدس‌سره كما أشرنا إليه آنفا ، لكنه ضعّفه لكونه ضمانا تقديريا لا تحقيقيّا ، فراجع.

(٣) كذا في مفتاح الكرامة والجواهر (١) أيضا ، والمستدلّ بهذا الوجه جماعة ، منهم الفاضل المقداد وابن فهد الحلّي قدس‌سرهم. وكذا الشهيد الثاني (٢) ، إلّا أنّه ناقش فيه واعتمد على صحيحة أبي ولّاد ، فراجع المسالك.

وكيف كان فحاصل هذا الوجه الثاني القول بضمان أعلى القيم بين الغصب والتلف هو : أنّ العين مضمونة في جميع أزمنة الغصب والمخالفة ، ومن تلك الأزمنة زمان ارتفاع قيمتها ، ولا تفرغ الذّمّة بدفع قيمة يوم الغصب أو يوم التلف لو كانت أقلّ القيم في هذه المدّة ، لفرض اشتغال الذّمّة بالقيمة العليا.

(٤) هذا ردّ الوجه المزبور لإثبات ضمان أعلى القيم بين الغصب والتلف ، وهو مذكور ـ مختصرا ـ في كلام الشهيد الثاني والسيّد العامليّ وصاحب الجواهر (٣) قدس‌سرهم ،

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٤ ؛ جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٤.

(٢) لاحظ : التنقيح الرائع ، ج ٤ ، ص ٧٠ ، المهذّب البارع ، ج ٤ ، ص ٢٥٢ ، مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٧.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٤ ، جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٤ ، مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٧.


في تلك الحال (١) إن أريد به وجوب قيمة ذلك الزمان لو تلف فيه فمسلّم ، إذ تداركه لا يكون إلّا بذلك ، لكن المفروض أنّها (٢) لم تتلف فيه.

وإن أريد به استقرار قيمة ذلك الزمان (٣) عليه فعلا (٤) وإن تنزّلت بعد ذلك ، فهو (٥) مخالف لما تسالموا عليه من عدم ضمان ارتفاع القيمة مع ردّ العين.

______________________________________________________

وحاصله : أنّه إن أريد بضمان العين في أزمنة الغصب وجوب قيمة ذلك الزمان على تقدير تلفها فيه ، فهو مسلّم ، إذ تداركها حينئذ منحصر بذلك. لكنّه خلاف المفروض ، لأنّها لم تتلف ، وهذا الضمان التقديريّ لم يصر فعليّا.

وإن أريد به أنّ قيمة ذلك الزمان قد استقرّت عليه وثبتت على عهدته فعلا ـ وإن لم تتلف العين وتنزّلت قيمته بعد ذلك ـ فهو مخالف لما تسالموا عليه من عدم ضمان ارتفاع القيمة مع ردّ العين.

وإن أريد به استقرار القيمة على الغاصب بمجرّد الارتفاع مراعى بالتلف ، ـ يعني : إن تلفت العين كان ارتفاع القيمة مضمونا ، وإن لم تتلف وردّها على صاحبها لم يضمن تلك القيمة العليا ـ قلنا : إنّ هذا الاحتمال وإن لم يخالف اتّفاقهم على عدم ضمان ارتفاع القيمة لو ردّ العين ، إلّا أنّ الموهن للالتزام به هو مخالفته لأصالة براءة الذّمّة عن القيمة المرتفعة ، والمفروض عدم وجود حجّة على اشتغال الذّمّة بتلك القيمة العليا.

وبهذا ظهرت الخدشة في استدلال الجماعة على ضمان أعلى القيم.

(١) أي : في حال ارتفاع القيمة.

(٢) أي : أنّ العين لم تتلف في زمان ارتفاع قيمتها حتى تضمن بتلك القيمة المرتفعة ، وعليه فضمان هذه القيمة تقديريّ ، يعني : لو تلفت العين في ذلك الزمان لكانت مضمونة بتلك القيمة العليا.

(٣) أي : الزمان الذي ارتفعت فيها قيمة العين المضمونة.

(٤) هذا و «عليه» متعلّقان ب «استقرار» أي : استقرار القيمة العليا على الضامن لمجرّد ارتفاع القيمة في بعض الأزمنة وإن تنزّلت بعده.

(٥) جواب قوله : «وإن أريد به».


وإن أريد استقرارها (١) عليه بمجرّد الارتفاع مراعى بالتلف ، فهو (٢) وإن لم يخالف الاتّفاق ، إلّا أنّه (٣) مخالف لأصالة البراءة من غير دليل شاغل (٤) عدا ما حكاه في الرياض (١) عن خاله العلّامة قدّس الله تعالى روحهما من قاعدة نفي الضرر الحاصل (٥) على المالك.

وفيه (٦) نظر ، كما اعترف به بعض من تأخّر.

______________________________________________________

(١) أي : استقرار القيمة المرتفعة على الضامن لمجرّد الارتفاع ، لكنّها منوطة بالشرط المتأخّر ، وهو التلف في زمان تنزّل القيمة.

(٢) أي : فاستقرار القيمة العليا وإن لم يخالف الاتّفاق ـ إذ معقد الاتّفاق على عدم ضمان ارتفاع القيمة إنّما هو مع ردّ العين ، وأمّا مع التلف فلا اتفاق على عدم ضمانه ـ إلّا أنّ وجوب أعلى القيم مخالف لأصالة البراءة.

إلّا أن يقال ـ كما عن الوحيد البهبهاني قدس‌سره ـ بجريان قاعدة نفي الضرر عن المالك ، الحاكمة على أصل البراءة.

(٣) أي : أنّ استقرار ارتفاع القيمة مخالف لأصالة البراءة المقتضية لعدم اشتغال الذّمّة بالقيمة العليا.

(٤) أي : شاغل لذمّة الضّامن.

(٥) صفة للضرر ، ووجه تضرّر المالك هو عدم تمكّنه من العين في زمان ارتفاع قيمتها ، ومن المعلوم أنّ الضرر منفيّ في الشريعة.

(٦) أي : وفي كون نفي الضرر شاغلا للذّمّة بأعلى القيم نظر ، كما اعترف صاحب الجواهر بهذا النظر ، حيث قال ـ في ذيل بيان وجه تردّد المحقّق قدس‌سره في اعتبار زيادة القيمة ونقصانها بعد التلف ـ ما لفظه : «ولعلّه لذا قيل : إنّ وجه القول قاعدة الضرر ، وذلك لأنّ عدم تمكينه منها حين ارتفاع القيمة ضرر عليه ، وتفويت لتلك المنفعة العليا ، ومن هنا كان خيرة العلّامة الأكبر الآغا محمد باقر البهبهاني قدس‌سره فيما

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٣٠٤.


نعم (١) يمكن توجيه الاستدلال المتقدم من كون العين مضمونة في جميع

______________________________________________________

حكي عنه. إلّا أنّك قد عرفت فيما تقدّم اقتضاء القاعدة المزبورة ضمان الأعلى مع فواته وإن ردّ العين نفسها ، وهو مخالف للإجماع بقسميه ، بل قد عرفت عدم الضّمان فيما لو منعه من بيع ماله بقيمة عالية» (١).

وحاصله : أنّ الضامن مكلّف بأداء العين ما دامت موجودة مهما كانت قيمتها ، ولم تشتغل ذمّته بالبدل حتى تقتضي قاعدة نفي الضرر الاشتغال بأعلى القيم.

هذا تمام الكلام في الوجه الثاني مما استدلّ به على ضمان أعلى القيم من زمان الغصب إلى زمان التلف ، وسيأتي تقريبه بوجه آخر يمكن جعله وجها ثالثا للحكم.

(١) هذا استدراك على مناقشته في الوجه الثاني بقوله : «وفيه أنّ ضمانها في تلك الحال ..» وغرضه تقريب الوجه المزبور ببيان آخر يسلم عن المناقشة ، وحاصله : وحدة مناط الضّمان في الحيلولة والتلف ، توضيحه : أنّ العين المضمونة لو تلفت حين ارتفاع قيمتها تضمن قيمتها العليا ، لكون زمان التلف وقت اشتغال الذّمّة بالبدل بعد ما كانت مشغولة بالعين.

والوجه في الضّمان حرمان المالك عن العين وعدم تمكّنه من الانتفاع بماله. وهذا المناط موجود في صورة بقاء العين في يد الضامن حين ارتفاع قيمتها ، فإنّها وإن لم تتلف ، لكنّ حيلولة الضامن بين المالك وملكه ، ومنعه عن التّصرّف فيه موجبة لضمان القيمة المرتفعة وإن كان تلفها في زمان تنزّل قيمتها.

نعم لا يقتضي هذا الوجه ضمان أعلى القيم لو ردّ الضامن العين إلى المالك في زمان تنزّل القيمة ، وذلك لأنّ ردّ العين يوجب تدارك تلك القيمة العليا ، ولو لا هذا التدارك لزم ردّ التفاوت ـ بين القيمة الفعليّة وأعلى القيم ـ عند ردّ العين. هذا محصّل التوجيه ، وسيأتي في المتن مزيد توضيح له.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٥.


الأزمنة ـ بأنّ (١) العين إذا ارتفعت قيمتها في زمان وصار ماليّتها مقوّمة بتلك القيمة (٢) ، فكما أنّه إذا تلفت حينئذ (٣) يجب تداركها بتلك القيمة ، فكذا إذا حيل بينها (٤) وبين المالك حتى تلفت ، إذ (٥) لا فرق ـ مع عدم التمكّن منها ـ بين أن تتلف أو تبقى.

نعم (٦) لو ردّت تدارك تلك الماليّة بنفس العين. وارتفاع (٧) القيمة السوقيّة أمر اعتباريّ لا يضمن بنفسه ، لعدم كونه مالا ، وإنّما هو مقوّم لماليّة المال ، وبه تمايز الأموال كثرة وقلّة.

______________________________________________________

(١) متعلّق ب «توجيه» وبيان له.

(٢) أي : القيمة المرتفعة.

(٣) أي : حين صيرورة ماليّة العين مقوّمة بتلك القيمة العليا.

(٤) أي : بين العين وبين المالك.

(٥) تعليل لوجوب تدارك العين بالقيمة العليا.

(٦) استدراك على ضمان القيمة العليا ، يعني : أنّ مناط ضمان أعلى القيم وإن كان موجودا في صورة بقاء العين عند الغاصب ، إلّا أنّ ردّ العين ـ في زمان تنزّل القيمة ـ جابر لتلك القيمة العليا.

(٧) هذا دفع دخل ، حاصله : أنّ القيمة المرتفعة لو كانت مضمونة لم يختلف الحال بين بقاء العين ـ وردّها بعد ذلك ـ وبين تلفها ، فكيف حكم الماتن بتدارك القيمة العليا بردّ العين وعدم ضمانها؟

وحاصل الدّفع : أنّ ارتفاع القيمة السوقيّة أمر اعتباريّ غير مضمون ، وإنّما المضمون هو العين المتموّلة التي استولى عليها الضامن. وهذا الأمر الاعتباريّ ليس بمال حقيقة ، بل يكون مقوّما لماليّة العين ، ولهذا حكموا بفراغ ذمّة الضامن بردّ نفس العين ما لم تسقط عن الماليّة ، كما تقدّم في التنبيه السادس في مثال الماء على الشاطئ


والحاصل (١) : أنّ للعين في كلّ زمان من أزمنة تفاوت قيمته مرتبة من الماليّة أزيلت يد المالك منها ، وانقطعت سلطنته عنها ، فإن ردّت العين فلا مال سواها يضمن (٢). وإن تلفت استقرّت عليها تلك المراتب ، لدخول الأدنى تحت الأعلى (٣). نظير ما لو فرض للعين منافع متفاوتة متضادّة ، حيث إنّه يضمن الأعلى منها (٤).

______________________________________________________

والثلج في الشتاء.

ففي المقام يفصّل بين تلف العين وبقائها ، فإن تلفت في زمان ارتفاع قيمتها ضمن قيمتها حين التلف. وإن بقيت ونقص قيمتها وردّها إلى المالك لم يضمن ارتفاع قيمتها ، وإن كان مناط الضمان ـ وهو حرمان المالك عن ماله في زمان أعلى القيم ـ موجودا في حالتي البقاء والتلف.

(١) يعني : وحاصل توجيه الاستدلال على ضمان أعلى القيم هو : أنّ للعين .. إلخ.

(٢) لما تقدّم من أنّ ارتفاع القيمة ورغبة العقلاء وإن كان مقوّما لماليّة المال ، إلّا أنّ المضمون هو المال ، لا الماليّة ، فلا يضمن أعلى القيم لو ردّ العين إلى مالكها.

(٣) فلا يلزم الجمع بين القيمة العليا والمتوسطة والنازلة ، بل يكفي دفع القيمة الجامعة بين تمام القيم ، وهي أعلى القيم خاصّة.

(٤) ولا يضمن جميع تلك المنافع الفائتة ، قال في الجواهر : «إنّما الكلام فيما لو تعدّدت منافعه كالعبد الخيّاط الحائك ، ففي القواعد في موضع منها : والمنافع المباحة مضمونة بالفوات تحت اليد والتفويت. ولو تعدّدت المنافع كالعبد الخيّاط الحائك لزمه أجرة أعلاها ، ولا تجب اجرة الكلّ ..» (١) والمسألة لا تخلو من بحث ، فراجع الجواهر. وإلى هنا تمّ توجيه المصنّف قدس‌سره للاستدلال ، وسيأتي الاستشهاد عليه بكلام العلّامة قدس‌سره.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٦٧.


ولأجل ذلك (١) استدلّ العلّامة في التحرير للقول باعتبار يوم الغصب بقوله : «لأنّه زمان إزالة يد المالك» (٢).

ونقول في توضيحه : إنّ كلّ زمان من أزمنة الغصب قد أزيلت فيه يد المالك من العين على حسب ماليّته (٣) ، ففي زمان أزيلت من مقدار درهم ، وفي آخر عن درهمين ، وفي ثالث عن ثلاثة ، فإذا استمرّت الإزالة إلى زمان التلف وجبت غرامة أكثرها ، فتأمّل (٤).

______________________________________________________

(١) أي : لأجل كون الحيلولة سببا للضمان استدلّ .. إلخ ، لأنّ إزالة يد المالك حيلولة حقيقة بين المال ومالكه ، ومانعة عن سلطنة المالك على ماله.

والظاهر أنّ نظر المصنّف في قوله : «ولأجل ذلك» إلى جعل إزالة يد المالك وقطع سلطنته عن ماله موجبة للضمان ، ولذا جعل العلّامة انقطاع السلطنة سببا له ، لأنّ يوم الغصب زمان انقطاع السلطنة. فنظر المصنّف قدس‌سره منحصر في أصل الضمان من ناحية إزالة يد المالك عن ماله ، لا في كيفيّته ، وإلّا كان عليه الالتزام بأعلى القيم كما قرّبه في المتن.

وبعبارة أخرى : تعليل العلّامة ناظر إلى ضمان يوم الغصب ، مع أنّ المصنّف في مقام الاستدلال على ضمان أعلى القيم ، فالاستشهاد بعبارة التحرير لإثبات ضمان أعلى القيم منوط بتقريب آخر ، وهو ما أفاده المصنّف بقوله : «إن كل زمان من أزمنة الغصب ..».

(٢) قال في التحرير : «فالأكثر على ضمان القيمة يوم الغصب ، لأنّه الوقت الذي أزال يده عنه» (١).

(٣) أي : ماليّة العين في كل زمان من أزمنة الغصب ، فالأولى تأنيث الضمير.

(٤) الظاهر أنّه إشارة إلى ما ذكرناه من عدم ابتناء قول العلّامة ـ بضمان قيمة يوم الغصب ـ على ما أفاده المصنّف ، بل على خصوص كون سلب سلطنة المالك موجبا للضمان.

أو إشارة إلى : عدم كون الحيلولة عن القيمة كالحيلولة عن العين ، بكون حيلولة

__________________

(١) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.


واستدلّ في السرائر وغيرها على هذا القول (١) بأصالة الاشتغال ، لاشتغال ذمّته بحقّ المالك ، ولا يحصل البراءة إلّا بالأعلى.

وقد يجاب (٢) بأنّ الأصل في المقام البراءة ، حيث إنّ الشكّ في التكليف بالزائد.

______________________________________________________

العين موجبة لضمان القيمة العليا ، بخلاف الحيلولة عن القيمة مع بقاء العين ، فإنّها لا توجب ضمان ارتفاع القيمة.

(١) أي : على القول بضمان أعلى القيم من حين الغصب إلى التلف ، وهذا إشارة إلى وجه ثالث يظهر من كلام ابن إدريس ، قال قدس‌سره : «فإن لم يردها ـ أي العين المغصوبة ـ حتى هلكت العين لزمه ضمان قيمتها بأكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ، لأنّه إذا أدّى ذلك برئت ذمّته بيقين ، وليس كذلك إذا لم يؤدّه» (١).

وعلّله في باب البيع «ببقاء المال على ملك صاحبه ، ما انتقل عنه» (٢). وظاهره وجود الدليل على ضمان أكثر القيم ، فراجع.

وكيف كان فتقريب اقتضاء قاعدة الاشتغال الضمان بالقيمة العليا هو : أنّ ذمّة الضامن اشتغلت بماليّة المغصوب في جميع المدّة من القبض إلى التلف ، ومنها زمان ارتفاع القيمة ، ويشكّ في فراغ الذّمّة بدفع القيمة النازلة أو المتوسّطة ، وقد تقرّر اقتضاء الاشتغال اليقينيّ للفراغ كذلك.

(٢) الظاهر أنّ المجيب هو صاحب الجواهر قال قدس‌سره : «ودعوى أنّه ـ أي الوجه ـ قاعدة الاشتغال .. يدفعها ما تحقّق في الأصول من أنّ مثله يجري فيه أصل البراءة ، ضرورة رجوعه إلى الشّكّ في التكليف بين الأقلّ والأكثر» (٣).

ومحصّله : أنّ الشكّ في ضمان القيمة السفلى أو العليا يكون من موارد الشكّ في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، وهو مجرى أصالة البراءة لا الاشتغال.

__________________

(١) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٤٨١.

(٢) المصدر ، ص ٣٢٦.

(٣) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٦.


نعم (١) لا بأس بالتّمسّك باستصحاب الضّمان المستفاد من حديث اليد (*).

______________________________________________________

(١) استدراك على عدم صغرويّة المقام لقاعدة الاشتغال ، وغرضه قدس‌سره إثبات وجوب أعلى القيم بوجه رابع وهو الاستصحاب ، بتقريب : أنّ حديث «على اليد» يدلّ على الضمان بمجرّد الاستيلاء على مال الغير إلى زمان أدائه أو أداء بدله ، فالحالات الطارئة على العين مضمونة ، ومنها ارتفاع قيمتها ، فلو تلفت العين حين نقص قيمتها ، ودفع تلك القيمة النازلة إلى المالك يشكّ في فراغ ذمّته عمّا اشتغلت به قطعا ، ومن المعلوم أنّ مقتضى الاستصحاب وجوب دفع أعلى القيم. هذا.

ولا يخفى أنّه لو جرى الاستصحاب كان حاكما على كلّ من أصالة الاشتغال المثبتة لأعلى القيم ، وأصالة البراءة النافية له. وظاهر سكوت المصنّف قدس‌سره ارتضاؤه له ، إلّا أن يستفاد مبناه ممّا تقدّم من تسالمهم على عدم ضمان ارتفاع القيمة لو كان التلف حين نقصها.

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد استدلّ على اعتبار أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف بوجوه :

الأوّل : ما أفاده الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، وتقدّم كلامه في التوضيح.

وقيل في توجيه الاستدلال على ذلك : بأنّ المغصوب مضمون على الغاصب في جميع أزمنة الغصب التي منها زمان ارتفاع القيمة ، إذ يصدق على ذلك زمان المخالفة أيضا ، ضرورة أنّ المراد من يوم المخالفة في الصحيحة إنّما هو طبيعي يوم المخالفة الذي يصدق على كلّ يوم من أيّام الغصب ، لا اليوم الخاصّ.

وعليه فإن ردّ الغاصب نفس المغصوب فهو ، وإلّا فإن ردّ أعلى القيم فقد ردّ قيمة يوم المخالفة بقول مطلق ، لدخول القيمة السفلى في القيمة العليا ، ضرورة أنّه لا يجب على الغاصب قيم متعدّدة بتعدّد أيّام المخالفة. كما أنّه لو ردّ القيمة النازلة لما ردّ قيمة يوم المخالفة بقول مطلق ، بل أدّى قيمة بعض أيّام المخالفة.


.................................................................................................

__________________

وبالجملة : مبنى هذا التوجيه إرادة معنى اسم المصدر من المخالفة ، بحيث ينسلخ عن المعنى المصدري أي إحداث المخالفة ، وإرادة الجنس أو الاستغراق من «اليوم» فيعمّ جميع أيّام المخالفة التي منها يوم أعلى القيم. لأنّ علّة الضمان ـ وهي الغصب ـ ما دامت موجودة لاقتضت الضمان ، فلا اختصاص لآن حدوث الغصب. فتدلّ على لزوم قيمة كلّ يوم تكون المخالفة فيه موجودة حتى يوم أعلى القيم ، ولازمه ضمان أعلى القيم الجامع لقيم تمام أيّام المخالفة ، هذا.

وفيه : أنّه خلاف الظاهر من المخالفة حدوثا ، وهو منحصر بوقت واحد. والظاهر أنّه اشتبه الضمان التعليقيّ بالتنجيزيّ ، فإنّ القيمة العليا مضمونة مع التلف. وأمّا بدونه فلا ، فلو تنزّلت قيمته لأجل السوق ـ لا لزوال صفة دخيلة في الماليّة ـ لم يضمن الغاصب تلك القيمة المرتفعة.

وبالجملة : ضمان أعلى القيم فعلا منوط بالتلف في يوم أعلى القيم ، والضمان المعلّق على التلف لا يثبت فعليّة الضمان في غير حال التلف.

وعليه فالاستدلال بالصحيحة على الضمان الفعلي لأعلى القيم غير وجيه ، لأنّ ضمان قيمة العين في أزمنة الغصب وإن كان ثابتا ، لكنّه تعليقيّ ، لكونه معلّقا على التلف. ومع بقاء العين وردّها إلى المالك لا ضمان لأعلى القيم إجماعا.

الثاني : ما حكاه السيّد صاحب الرياض عن خاله الوحيد البهبهانيّ قدس‌سرهما : من قاعدة الضرر الوارد على المالك (١). ولكن تنظّر فيه الجواهر بما مرّ في التوضيح (٢).

ويرد على الجواهر : أنّ الإجماع على عدم جريان قاعدة الضرر في صورة ردّ نفس العين لا يقتضي سقوط القاعدة في غيره من الموارد التي لا إجماع على خلافها ، فلا مانع من إجراء القاعدة في صورة تلف العين.

فالعمدة في عدم جريان قاعدة الضرر في مورد تلف العين هي : أنّ القاعدة تنفي

__________________

(١) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٣٠٤.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٥.


.................................................................................................

__________________

الحكم الضرريّ ، ولا تثبت حكما يلزم من عدم ثبوته الضرر كالمقام ، فإنّ قاعدة الضرر لا تثبت الضمان الذي يلزم من عدم جعله الضرر على المالك.

الثالث : أنّ الغاصب باستيلائه على مال الغير اشتغلت ذمّته به ، فلو أدّى المغصوب بعينه أو قيمتها العليا مع تلفها برئت ذمّته قطعا. وأمّا لو أدّى قيمتها المتوسّطة أو السّفلى ، فلا يعلم بصدق التأدية وبفراغ ذمّته ، فيستصحب اشتغال ذمّته إلى أن يؤدّي القيمة العليا.

وفيه : أنّ المورد من صغريات الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، فيؤخذ بالأقلّ ، لأنّه المتيقّن ، وتجري البراءة في الزائد عليه ، فالشكّ إنّما هو في حدوث الاشتغال بالأكثر ، لا في البقاء حتى يجري فيه الاستصحاب.

ولو سلّم ، فإن جرى الاستصحاب في ضمان نفس العين في الذّمّة فلازمه دفع الغاصب قيمة يوم الرّدّ ، لا أعلى القيم. وإن جرى في ضمان القيمة فيرد عليه : أنّ المتيقّن هو اشتغال ذمّته بالقيمة النازلة ، وأمّا الزائد عليها فهو مشكوك فيه ، فتجري فيه البراءة. فما هو المتيقّن قد ارتفع قطعا ، وغيره لم يتعلّق به اليقين من الأوّل.

والحاصل : أنّ الاستصحاب إمّا لا يجري أصلا ، وإمّا يجري ولكن الثابت به هو قيمة يوم الرّدّ ، لا أعلى القيم.

الرابع : ما أفاده المحقّق الايرواني قدس‌سره من قوله : «فالأحسن في الاستدلال على ضمان أعلى القيم أنّه يصدق عنه صعود القيمة أنّ الغاصب معتد يوم صعود القيمة بماليّة صاعدة ، ومقتضى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى) جواز أخذ تلك الماليّة منه بعد التلف مجازاة لاعتدائه» (١).

وفيه : ما تقدّم سابقا من عدم دلالة الآية على الضمان ، فضلا عن الضمان بأعلى القيم.

الخامس : ما أفاده المصنّف من استصحاب الضمان.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٢.


.................................................................................................

__________________

وفيه : أنّه إن أريد به ضمان نفس العين حتى بعد تلفها بأن تكون العين على العهدة إلى يوم الأداء ، ففيه : أنّ مقتضاه اعتبار قيمة يوم الأداء ، سواء أكانت أعلى القيم أم غيره. وإن أريد به ضمان القيمة فالثابت منها هو الأقلّ ، لكون الزائد منفيّا بالبراءة.

نعم إذا شكّ في أنّ الثابت على العهدة عند تلف العين هو المثل أو القيمة ـ وحيث إنّهما متباينان ـ فاللازم دفع القيمة العليا ، لتوقّف العلم بالفراغ عليه.

والحاصل : أنّ العلم بأداء ما في الذّمّة منوط بإعطاء القيمة العليا ، سواء أكان ما في الذّمّة نفس العين أم القيمة أم المثل ، فإنّ استصحاب ما في الذّمّة جار إلى دفع أعلى القيم إلى زمان الأداء ، هذا.

تكملة : لا يخفى أنّ ما ذكر من ضمان ارتفاع القيمة إنّما هو بحسب الأزمنة. وأمّا بحسب الأمكنة ، فعلى القول باعتبار يوم التلف ـ كما ربّما يستفاد من صحيحة أبي ولّاد وسائر أدلّة الضمان ـ لا ينبغي الإشكال في ضمان مكان التلف أيضا ، لأنّ ظاهر أدلّة ضمان القيمة في القيميّات التالفة هو القيمة الفعليّة ، وهي قيمة حال التلف في مكان التلف ، لدخل المكان في القيمة. وأمّا قيم سائر الأمكنة فهي تقديريّة ، كتقديريّة سائر الأزمنة ، إذ يقال : لو كان هذا الشي‌ء في مكان كذا كانت قيمته كذا. وهذا خلاف ظاهر أدلّة الضمان.

وعلى القول باعتبار زمان الغصب ـ كما استظهره الشيخ وغيره من صحيحة أبي ولّاد ـ فيشكل الالتزام بقيمة مكان التلف ، لأنّ اعتبار قيمة يوم الغصب في مكان يقع فيه التلف بعد ذلك ممّا لا يستظهر من الأدلة ، فإنّه تقييد في الأدلّة من غير دلالة فيها عليه ، بل تعيين قيمة يوم الغصب يدفع اعتبار قيمة مكان التلف.

لا يقال : إنّ مقتضى الجمع بين الضمان بيوم التلف كما هو قضية إطلاق أدلّة الضمان ، وبين صحيحة أبي ولّاد الدالة على اعتبار يوم الغصب هو ضمان قيمة يوم الغصب في مكان التلف.


.................................................................................................

__________________

فإنّه يقال : مضافا إلى عدم دلالة صحيحة أبي ولّاد على ضمان قيمة يوم الغصب كما تقدم إنّه ليس جمعا عرفيا ، لأنّ الصحيحة على فرض دلالتها على ضمان يوم الغصب ظاهرة في ضمان ذلك المكان أيضا ، لا المكان الآخر ، فإنّ اعتبار المكان الآخر قيد زائد ينفيه إطلاق أدلّة الضمانات.

وبالجملة : فالمضمون هو القيمة الفعليّة حال التلف المنوطة بلحاظ مكان التلف.

وأمّا بناء على اعتبار قيمة يوم الغصب فالمدار على قيمته في مكان الغصب كزمانه ، لأنّ حدوث ضمان القيمة كان بزمان الغصب المستلزم لدخل خصوصيّة مكان الغصب فيه ، لدخل ذلك المكان في القيمة المقدّرة بيوم الغصب.

وينبغي التعرّض للفوائد التي تظهر من صحيحة أبي ولّاد.

الأولى : أنّ الافتراء على الله سبحانه وتعالى يوجب الحرمان من فضله ، واستحقاق عذابه وغضبه ، لقوله عليه‌السلام ـ بعد ما قصّ عليه أبو ولّاد الواقعة ـ : «في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض بركتها» بل المستفاد منه حرمان الآخرين أيضا ، وإحاطة البلاء بهم ، وعدم اختصاص العقوبة الدنيويّة بالمفتري عليه جلّ وعزّ ، لأنّ حبس قطر السماء وبركة الأرض ضيق على الجميع ، حتى الصبيان والحيوانات ، فيلزم احتراق الكلّ بنار أشعلها المفتري ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا.

الثانية : ضمان المنافع المستوفاة بأجرة المثل ، حيث إنّ أبا ولّاد استوفى منفعة البغل ، فركبه إلى النيل ثمّ إلى بغداد ، ثمّ منه إلى الكوفة. لقوله عليه‌السلام : «أرى له عليك مثل كرى البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل .. توفيه إياه».

والمستفاد منه أمور :

الأوّل : ضمان كراءات ثلاثة ، لاختلاف المسافات بين كلّ بلدين ، ولا يكفي دفع أجرة واحدة للسير من كوفة إلى بغداد ثم العود إلى كوفة. وذلك لعدم السّير من الطريق المتعارف ، وعدم كون «النيل» في الجادّة المستقيمة بين كوفة وبغداد. ولا ريب حينئذ


.................................................................................................

__________________

في اختلاف أجور المثل ، فتكون كلّها مضمونة.

الثاني : أنّ الغاصب يضمن اجرة مثل المنفعة المستوفاة ، فلا تفرغ الذّمّة بدفع أقلّ منها ، ولا يجوز للمغصوب منه مطالبة زيادة عليها. نعم يستحقّ المالك الأجرة المسمّاة أيضا. ولا ينافيه عدم استيفاء المنفعة الخاصة التي وقع العقد عليها بين المكاري وأبي ولّاد.

والوجه في عدم المنافاة : أنّ المكاري سلّمه البغل ليسير عليها إلى قصر بني هبيرة ، فخالفه أبو ولّاد بإرادته واختياره بعد أن أخبر بخروج الغريم إلى النيل.

الثالث : نفي قاعدة «الخراج بالضمان» التي استند إليها قاضي الكوفة ، فإنّ الإمام عليه‌السلام ضمّن أبا ولّاد اجرة المنافع مع كونه ضامنا لنفس العين ، كما ورد في فقرتين من الصحيحة. وعليه فقاعدة «الخراج بالضمان» إمّا ساقطة من أصلها ، وإمّا مخصوصة بالعقد الصحيح كما تقدّم شطر من الكلام حولها في الأمر الثالث ، فراجع (ص ٢٣٦ الى ٢٥٠).

الرابع : عدم ضمان المنافع الفائتة ، لأنّ الصحيحة تكون في مقام بيان تمام الوظيفة ، فسكوتها عن المنافع غير المستوفاة دليل على عدم ضمانها. وهذا ربّما يعارض القول بضمانها كما مرّ تفصيله في الأمر الثالث.

ويمكن الجواب عنه بعدم كون الصحيحة في مقام بيان جميع ما يضمنه أبو ولّاد ، لأنّ السؤال كان عن خصوص المنافع المستوفاة ، فتدبّر.

أو يقال : بالاعراض عن هذا السكوت ، فلا معارض للقول بالضمان.

الثالثة : عدم احترام مال يصرفه الغاصب في حفظ العين المغصوبة ، حيث إنّه عليه‌السلام أجاب السائل ـ عن الدراهم التي صرفها في تعليف البغل ـ بقوله : «لا لأنك غاصب».

ويستفاد منه أيضا أنّ مخالفة مقتضى عقد الإجارة توجب تبدل اليد الأمانيّة بالعادية الضمانيّة ، وإلّا فالعين المستأجرة أمانة بيد المستأجر لا يضمنها لو تلفت بنفسها.


.................................................................................................

__________________

الرابعة : ضمان القيميّ بالقيمة ، لقوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» بناء على إرادة البغل المغصوب ، لا قيمة بغل مثله ، وإلّا دلّت على ضمان المغصوب بالمثل وإن كان قيميّا. وقد تقدّم تفصيله في الأمر السابع.

كما يستفاد من هذه الفقرة ضمان قيمة يوم القبض بناء على استظهار المصنّف قدس‌سره أوّلا ، أو قيمة يوم التلف كما قال به آخرون.

الخامسة : صحّة ضمان الأعيان الخارجيّة ، لأنّ ضمان قيمة يوم الغصب يكشف عن صيرورة العين مضمونة في يوم الغصب. لكن الضمان في صورة وجود العين تعليقيّ ، وفي صورة تلفها تنجيزيّ ، ضرورة أنّ العين ما دامت موجودة وجب ردّها لا قيمتها ، فضمان قيمتها معلّق على تلفها ، فتبدّل اليد الأمانيّة بالعدوانيّة يوجب ضمانا تعليقيّا لم يكن قبل التبدّل المزبور ، إذ مع فرض أمانيّة اليد لا ضمان أصلا لا فعليّا ولا تعليقيّا كما لا يخفى ،

السادسة : ضمان التفاوت بين الصّحّة والعيب.

وبعبارة أخرى : ضمان وصف الصّحّة في العين المغصوبة. وذلك لقوله عليه‌السلام ـ في جواب سؤال أبي ولّاد عن إصابة كسر وشبهه بالبغل ـ : «عليك قيمة ما بين الصّحّة والعيب يوم تردّه عليه». وظاهره اعتبار الأرش بقيمة يوم الرّدّ ، لا يوم حدوثه.

السابعة : أنّه يستفاد من قوله عليه‌السلام : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا ، فيلزمك» اعتبار الاستصحاب ، حيث إنّ قيمة يوم الاكتراء تستصحب إلى زمان الغصب ، فإنّ إطلاق اعتبار قيمة يوم الاكتراء يقتضي اعتبارها ولو مع تخلّل زمان بين زماني الاكتراء والغصب يمكن تغيّر القيمة فيه ، فإنّ قول المالك بعدم تنزّل القيمة من يوم الاكتراء إلى يوم الغصب يكون موافقا للأصل أعني به الاستصحاب.


.................................................................................................

__________________

ومنه يظهر تقدّم قول المالك أيضا في صورة اتّفاقهما على قيمة معيّنة في يوم الاكتراء ، واختلافهما في التنزّل وعدمه ، حيث إنّ قول المالك بعدم التنزّل موافق للأصل.

والحاصل : أنّ الجملة المزبورة تدلّ ولو بالالتزام على اعتبار الاستصحاب في قيمة يوم الاكتراء.

الثامنة : أنّ الجملة المزبورة تدلّ على حجّيّة الاستصحاب في مؤديات الطرق والأمارات ، وأنّ مؤدّى الأمارات كالمعلوم في جريان الاستصحاب فيها إذا شكّ في بقائها ، فإنّ هذه الجملة تصلح لإثبات أعمّيّة اليقين المعتبر في الاستصحاب من الوجدانيّ والتعبّديّ ، فلا حاجة إلى إثبات أعمّيّة اليقين إلى التّشبّث بأدلّة حجّيّة الأمارات ، ودعوى : أنّها تنزّل غير العلم منزلة العلم ، كما هو ظاهر.

التاسعة : إن المناط في الخروج عن العهدة بإحلال صاحب الحق هو كون الداعي إلى الإحلال أمرا واقعيّا ، لا الأعمّ منه ومن الاعتقاديّ وإن خالف الواقع. وهذه الفائدة يكثر نفعها في الفقه جدّا.

وتستفاد هذه من جوابه عليه‌السلام لكلام أبي ولّاد : «إني أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني» حيث قال عليه‌السلام : «إنّما رضي فأحلّك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم ، ولكن ارجع إليه وأخبره بما أفتيتك به ..».

العاشرة : إنّ الإبراء إيقاع ، فلا يتوقّف على القبول ، لقوله عليه‌السلام : «فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شي‌ء عليك».

هذا ما استفدناه من الصحيحة ، وقد أشار الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى تضمّنها لها بقوله : «مشملة على أحكام كثيرة وفوائد خطيرة» ولعلّه أراد منها ما ذكرناه من الفوائد ، أو أراد ما هو أزيد منها ، ممّا ربّما تظهر بالتأمل فيها. وفّقنا الله تعالى للاستنارة بكلمات أوليائه الأئمّة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.


ثمّ إنّه (١) حكي عن المفيد والقاضي والحلبي : الاعتبار بيوم البيع في

______________________________________________________

د : ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بقيمة يوم البيع

(١) هذا إشارة إلى قول رابع في ضمان المقبوض بالبيع الفاسد ، ذهب إليه الشيخ المفيد والقاضي ابن البرّاج وأبو الصلاح الحلبي قدس‌سرهم على ما نقله عنهم العلّامة في المختلف في بيع الغرر والمجازفة (١).

وهذا القول يختصّ به حكم المبيع فاسدا ، ولا يشمله حكم المغصوب ، فلا يضمن المبيع بيوم قبضه ولا بيوم تلفه ولا بأعلى القيم بينهما ، بل يضمن بقيمة يوم البيع سواء قبضه المشتري فيه أم لا. كما أنّ ظاهر هذا القول التفصيل في فساد البيع بين أن يستند إلى جهالة الثمن وعدم تعيينه في العقد ، فيضمن المبيع بقيمة يوم البيع ، وبين غيرها من اختلال شرط الصّحّة ، فيضمن بقيمة القبض والأخذ.

وكيف كان فهذه الفتوى تظهر من النهاية أيضا ، حيث قال : «ومن اشترى شيئا بحكم نفسه ، ولم يذكر الثمن بعينه كان البيع باطلا ، فإن هلك الشي‌ء في يد المبتاع كان عليه قيمته يوم ابتاعه .. إلخ» (٢). والشاهد في هذه الجملة الأخيرة ، حيث أوجب على المشتري قيمة يوم البيع ، لا قيمة يوم القبض.

ولعلّ نظرهم في هذا الحكم إلى صحيحة رفاعة الخنّاس ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ساومت رجلا بجارية فباعنيها بحكمي ، فقبضتها منه على ذلك ، ثمّ بعثت إليه بألف درهم ، فقلت : هذه ألف درهم حكمي عليك أن تقبلها ، فأبى أن يقبلها منّي. وقد كنت مسستها قبل أن أبعث إليه بالثمن ، فقال : أرى أن تقوّم الجارية قيمة عادلة ، فإن كان قيمتها أكثر ممّا بعثت إليه كان عليك أن تردّ عليه [إليه] ما نقص من القيمة. وإن كان ثمنها أقلّ ممّا بعثت إليه فهو له. قلت : جعلت فداك : إن وجدت بها عيبا بعد ما مسستها؟ قال : ليس لك أن تردّها ، ولك أن تأخذ قيمة ما بين الصّحّة

__________________

(١) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٣ و ٢٤٤ ؛ المقنعة ، ص ٥٩٣ ؛ الكافي لأبي الصلاح ، ص ٣٥٣ ، ولم أظفر بالمطلب في جواهر الفقه لابن البرّاج.

(٢) النهاية ونكتها ، ج ٢ ، ص ١٤٥ و ١٤٦.


ما كان فساده من جهة التفويض (١) إلى حكم المشتري.

ولم يعلم له (٢) وجه. ولعلّهم (٣) يريدون به يوم القبض ، لغلبة اتّحاد زمان

______________________________________________________

والعيب منه» (١).

والشّاهد في قوله عليه‌السلام : «أرى أن تقوّم الجارية قيمة عادلة» وذلك بناء على تماميّة أمور ثلاثة :

الأوّل : فساد البيع الذي فوّض فيه تعيين الثمن إلى المشتري ـ كما هو مورد الرواية ـ على ما هو المشهور ، بل قيل بعدم خلاف فيه إلّا من صاحب الحدائق. فلو قيل بصحّته خرجت المسألة عن المقبوض بالبيع الفاسد.

الثاني : صيرورة الجارية بعد المسّ أم ولد ، حتى تصير بمنزلة التالف ، ويتّجه حينئذ ضمان قيمتها ، لامتناع ردّها إلى بائعها شرعا.

الثالث : أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : «قيمة عادلة» قيمة يوم البيع.

فإن تمّت هذه الأمور الثلاثة كانت الصحيحة دليلا تعبّديّا على لزوم قيمة يوم البيع فيما كان منشأ فساده تفويض الثمن إلى تعيين المشتري بعد العقد ، ويختصّ بمورده. وإن لم تتم ـ كما هو الظاهر ـ كان المقبوض بالبيع الفاسد محكوما بحكم الغصب.

(١) يعني : إيكال تعيين الثمن إلى المشتري ، بأن يقول البائع له : «بعتك هذا بما حكمت به من الثمن» أو : «بعتك هذا بأيّ ثمن شئت». وهو باطل عندهم ، لفقد الشرط وهو معلوميّة العوضين.

(٢) أي : ولم يعلم لاعتبار قيمة يوم البيع وجه. بل المناط في ضمان المبيع فاسدا بيوم القبض ، وصحيحة رفاعة غير ظاهرة في اعتبار قيمة يوم البيع من حيث إنّه يوم البيع ، لظهورها في تحقّق القبض في يوم العقد ، فلو اعتبر تقويم الجارية بقيمة يوم البيع احتمل أن يكون لاتّحاده مع يوم القبض ، فيتحد مفادها مع قول المشهور من ضمان يوم القبض.

(٣) غرضه توجيه كلامهم حتى لا يخرج عن حيّز الأقوال المذكورة في ضمان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢٧١ ، الباب ١٨ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث : ١.


البيع والقبض ، فافهم (١).

ثمّ إنّه (٢) لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف

______________________________________________________

المغصوب ، إذ بناء على ظاهر كلمات هؤلاء ينفرد المقبوض بالبيع الفاسد ـ بضمان قيمة يوم البيع ـ عن المغصوب ، فالمصنّف احتمل إرادة يوم القبض من «يوم البيع» حتى لا ينفرد المقبوض بالبيع الفاسد بحكم يخصّه.

(١) لعلّه إشارة إلى بعد هذا التوجيه ، لأنّه خلاف الظاهر من دون قرينة.

وقد تحصّل من الأبحاث المتقدّمة في الأمر السابع : أنّ القيميّ يضمن بقيمته يوم تلفه ، لا بقيمة يوم القبض والغصب ، ولا بأعلى القيم بين الغصب والتلف ، من دون فرق بين المغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد. ولا بين كون منشأ الفساد تفويض الثمن إلى حكم المشتري ، أو اختلال شرط آخر.

وسيأتي لبحث ضمان القيمي تتمّة تتضمّن أمورا ثلاثة :

أحدها : حكم زيادة قيمة القيميّ بعد تلفه.

ثانيها : اختلاف قيمة القيميّ بحسب الأمكنة في ما كان بلد الغصب مغايرا لبلد التلف.

ثالثها : ضمان ارتفاع القيمة لو كان لزيادة في العين.

حكم زيادة ثمن القيميّ بعد التلف

(٢) هذا شروع في الأمر الأوّل ، وتوضيحه : أنّ محطّ الأقوال المتقدّمة ـ من ضمان قيمة يوم الغصب أو التلف أو الأعلى بينهما ـ إنّما هو زيادة قيمة العين المضمونة في المدّة التي كانت عند الضامن ، فلو لم ترتفع قيمتها عنده حتى تلفت ، وزادت قيمة أمثالها بعده لم تكن هذه الزيادة مضمونة ، لما عرفت من أنّ موضوع الأقوال المتقدّمة بقاء العين حتى يدّعى ضمان أعلى قيمها ، لوقوع العين في حالة زيادة القيمة تحت يد الضامن ، ومن المعلوم فقد هذا المناط لو كان ارتفاع القيمة بعد التلف.


على جميع الأقوال (*) إلّا أنّه تردّد فيه (١) في الشرائع.

______________________________________________________

وهذا وإن كان واضحا ، إلّا أن المحقق قدس‌سره تردّد فيه ، وقال : «ولا عبرة بزيادة القيمة ولا بنقصانها بعد ذلك ـ أي التلف ـ على تردّد» (١).

ووجّهه الشهيد الثاني بقوله : «نعم لو قلنا بأنّ الواجب في القيميّ مثله ـ كما ذهب إليه ابن الجنيد مخيّرا بين دفع المثل والقيمة ، ومال إليه المصنّف في باب القرض ـ اتّجه وجوب ما زاد من القيمة إلى حين دفعها ، كما في المثليّ. والمصنّف رحمه‌الله تردّد في ذلك ، لما ذكرناه من الشك في كون الواجب في القيميّ المثل أو القيمة» (٢).

ونحوه كلامه في الرّوضة فراجع. ومحصّله : أنّ الشك في المبنى يستلزم الشكّ في الفروع المبتنية عليه.

(١) أي : في عدم العبرة بزيادة القيمة بعد التلف.

__________________

(*) بل ينافيه القول باعتبار قيمة يوم الأداء ، لكونها قيمة للتالف بعد مراعاة قيمته في أزمنة تلفه. ويشهد له آية الاعتداء وقاعدة نفي الضرر بناء على صحّة التمسّك بهما في الضمانات ، فيكون ما بعد التلف كما قبله.

إلّا أن يريد المصنف من قوله : «جميع الأقوال» خصوص الأقوال الثلاثة التي تعرّض لها في الأمر السابع ، وهي اعتبار قيمة يوم الغصب والتلف والأعلى بينهما ، إذ لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على هذه الأقوال الثلاثة.

وما في بعض الكلمات من «توجيه عدم ضمان زيادة القيمة بعد التلف حتى على

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٠.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٨٨ ؛ الروضة البهية ، ج ٧ ، ص ٤٠ ونحوه في جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٠٥.


ولعلّه (١) ـ كما قيل (٢) ـ من جهة احتمال كون القيميّ مضمونا بمثله ، ودفع القيمة إنّما هو لإسقاط المثل (٣).

وقد تقدّم (٤) أنّه مخالف لإطلاق النصوص والفتاوى.

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ تردّد المحقّق قدس‌سره. وقوله : «من جهة» خبر قوله : «ولعلّه».

(٢) القائل ـ كما عرفت ـ هو الشهيد الثاني وغيره.

(٣) فيكون المثل مستقرّا في الذّمة إلى زمان دفعه أو دفع قيمته ، فلم ينتقل الضمان من المثل إلى القيمة بمجرّد تلف العين المضمونة حتى لا يضمن ارتفاع القيمة بعد التلف.

(٤) هذا ردّ مبنى تردّد المحقّق قدس‌سره وقد نبّه عليه المصنّف قدس‌سره في أوائل هذا التنبيه بقوله : «فإن أرادوا ذلك مطلقا حتى مع تعذّر المثل فتردّه إطلاقات الروايات الكثيرة في موارد كثيرة .. إلخ».

وحاصله : مخالفة كلام ابن الجنيد لإطلاق نصوص ضمان القيميّات ، وفتاوى الأصحاب بضمان القيميّ بالقيمة سواء وجد المثل أم لم يوجد.

واقتصر في الجواهر في ردّه على قوله : «وهو كما ترى».

__________________

القول بأنّ القيميّ مضمون بالمثل ، لأنّ عمدة دليل الضمان قاعدة اليد ، وهي لا تشمل المثل الذي على العهدة ولو قلنا بضمان ارتفاع القيم ، وذلك لأنّ موضوع دليل اليد هو الاستيلاء على مال الغير ، وكون الشي‌ء على العهدة غير كونه تحت اليد والاستيلاء ، فما في العهدة خارج عن دليل اليد موضوعا» (١) لا يخلو من غموض ، لأنّه بعد صدق اليد يصدق الأداء ـ الذي جعل غاية للعهدة ورافعا لها ـ على كلّ من العين وبدلها ، فلا بدّ من إرادة معنى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» ينطبق على كلّ ممّا تحت اليد وفوق العهدة.

__________________

(١) كتاب البيع ، ج ١ ، ص ٤٣٠.


ثمّ إنّ ما ذكرنا (١) من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة.

وأمّا إذا كان بسبب الأمكنة كما إذا كان في محلّ الضمان بعشرة ، وفي مكان التلف بعشرين ، وفي مكان المطالبة بثلاثين ، فالظاهر اعتبار محلّ التلف (٢) ، لأنّ (٣) ماليّة الشي‌ء تختلف بحسب الأماكن ، وتداركه بحسب (٤) ماليّته.

______________________________________________________

ارتفاع القيمة بسبب الأمكنة

(١) هذا هو الأمر الثاني المذكور في تتمّة مباحث ضمان القيميّ ، وحاصله : أنّ ما تقدّم من الخلاف ـ في كون القيميّ مضمونا بقيمة يوم الغصب أو يوم التلف أو الأعلى بينهما ـ ناظر إلى اختلاف قيمة المضمون بحسب الأزمنة. وقد تحقّق عدم ضمان ارتفاع القيمة ما دامت العين باقية. وأمّا إذا نقل الغاصب العين إلى بلد آخر فتلفت فيه ، وطالبه المالك بها في بلد ثالث ، وتعدّدت الأسعار في البلاد الثلاثة ، فهل يقال بضمان أعلاها أم تتعيّن قيمة بلد الغصب أم بلد التلف؟

اختار المصنف قدس‌سره اعتبار قيمة مكان التلف ، لأنّ اشتغال الذّمّة بالبدل حصل فيه. ولا مجال للقول بضمان أعلى القيم ، ولا مكان الغصب ، وإن قيل بكلّ منها فيما اختلفت القيم بحسب الأزمنة ، هذا.

(٢) هذا بناء على اعتبار قيمة يوم التلف. وأمّا بناء على اعتبار يوم الغصب فلا كما ذكرناه في التعليقة ، فراجع.

(٣) توضيحه : أنّ وجود المال في مكان يكون من الصفات الدخيلة في الرغبات والماليّة التي تكون مضمونة على الضامن ، ومن المعلوم أنّ تدارك الشي‌ء يكون بماليّته المختلفة بصفاته ، فالمتعيّن ماليّة محلّ التلف.

(٤) خبر «وتداركه».


ثمّ (١) إنّ جميع ما ذكرنا من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة الناشئة من تفاوت رغبة الناس. وأمّا إذا كان حاصلا من زيادة العين (٢)

______________________________________________________

ضمان ارتفاع القيمة بسبب الزيادة العينيّة

(١) هذا هو الأمر الثالث ، وهو ناظر إلى تحديد موضوع البحث ـ في ضمان القيميّ ـ من جهة أخرى. وحاصله : أنّ ما ذكرناه من عدم ضمان ارتفاع القيمة ـ خلافا للقائل باعتبار أعلى القيم ـ ناظر إلى ارتفاع القيمة السوقية مع بقاء العين على حالها ، وعدم حدوث تغيير فيها.

فلو ارتفعت القيمة عند الغاصب لأجل زيادة عينيّة كسمن الشاة ، أو تعلّم صنعة ككتابة العبد المغصوب وخياطته ـ ثم عادت العين إلى ما كانت عليه حين الغصب حتّى تلفت عند الغاصب ـ كانت هذه الزيادة أو الصفة مضمونة ، كضمان العين المغصوبة ، لوضوح دخل تلك الصفة في رغبات الناس التي هي مدار ماليّة الأشياء.

ومثّل له الشهيد الثاني قدس‌سره بقوله : «حتى لو غصب جارية قيمتها مائة ، فسمنت وبلغت القيمة ألفا ، وتعلّمت صنعة فبلغت ألفين ، ثم هزلت ونسيت الصنعة ، فعادت قيمتها إلى مائة ، ردّها وغرم ألفا وتسعمائة. ولو علّم العبد المغصوب سورة من القرآن أو حرفة فنسيها ، ثم علّمه حرفة أو سورة أخرى فنسيها أيضا ضمنهما» (١).

(٢) يعني : حصلت زيادة في العين المغصوبة عند ما كانت بيد الغاصب ، ثم زالت ـ كما تقدّم آنفا في كلام المسالك ـ كانت الزيادة مضمونة ، فإن ردّ العين إلى المغصوب منه لزمه ردّ قيمة الزيادة الفائتة معها. وإن تلفت العين لزمه ردّ القيمة العليا ، وهي قيمة العين حال تلك الزيادة. ولا يكفي ردّ قيمة يوم التلف. قال المحقق قدس‌سره : ـ فيما زادت القيمة لزيادة صفة ثم زالت ـ : «أمّا لو تجدّدت صفة غيرها ، مثل أن سمنت فزادت قيمتها ، ثم هزلت فنقصت قيمتها ، ثم تعلّمت صنعة فزادت قيمتها ، ردّها

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ٢٢٠.


فالظاهر كما قيل (١) عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم. وفي الحقيقة (٢) ليست قيم التالف مختلفة ، وإنّما زيادتها في بعض أوقات الضمان لأجل الزيادة العينية الحاصلة فيه (٣) ، النازلة (٤) منزلة الجزء التالف.

نعم (٥) يجري الخلاف المتقدم في قيمة هذه الزيادة الفائتة ، فإنّ العبرة بيوم فواتها أو يوم ضمانها أو أعلى القيم؟

______________________________________________________

وما ضمن بفوات الأولى» (١).

(١) القائل صاحب الجواهر قدس‌سره ، قاله بعد عبارة المحقّق المتقدّمة : «بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ..» (٢).

(٢) غرضه أنّ ضمان أعلى القيم للصفة الزائلة مغاير للقول بضمان نفس المغصوب بأعلى القيم بين الغصب والتلف. والفارق بينهما : أنّ القيمة السوقيّة للعين المغصوبة لم تختلف من حين غصبها إلى حين تلفها لو بقيت بحالها ، بشهادة عدم زيادة قيمة أمثالها. فارتفاع قيمتها في حال سمنها أو تعلّم الصنعة يكون في مقابل هذه الزيادة أو الصفة ، وحيث إنّهما بمنزلة جزء المغصوب كان زوالهما بمنزلة نقص جزء من العين المغصوبة ، فتكون مضمونة. كما إذا غصب دابة فعرجت عنده ، فإنّه يضمن الأرش على ما تقدّم مفصّلا في صحيحة أبي ولّاد.

(٣) أي : في التالف ، وهو العين المغصوبة.

(٤) صفة للزيادة العينيّة.

(٥) استدراك على قوله : «ففي الحقيقة ليست قيم التالف مختلفة» الذي ملخصه : أنّ العبرة بضمان قيمة يوم التلف مع تلك الزيادة التالفة.

ومحصّل الاستدراك : أنّه إذا غصب عبدا قيمته ألف درهم ، وبقي عنده سنة وتعلّم الخياطة عنده ، فإن لم تتغير قيمة هذه الصنعة بأن كانت ألف درهم كان ضامنا

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤٥.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٧٣.


ثمّ (١) إنّ في حكم العين في جميع ما ذكر من ضمان المثل أو القيمة

______________________________________________________

للألفين ، فإن ردّ العبد ردّ معه ألفا لو نسي الخياطة.

وإن تغيّرت قيمة الخياطة بأن كانت تسعمائة في شهر ، وألفا في شهر آخر ، وثمانمائة في شهر ثالث ، ثم نسي الخياطة فيه ، جرت هنا الأقوال الثلاثة في ضمان نفس العين.

فإن قلنا : إنّ العبرة بيوم التلف ضمن القيمة النازلة ، وهي ثمان مائة درهم ، لكون نسيان الصنعة بمنزلة تلف العين.

وإن قلنا بضمان العين بأعلى القيم ، ضمن ألف درهم.

وإن قلنا بضمان يوم الغصب ضمن تسعمائة درهم ، لأجل الخياطة المنسيّة ، فيردّ هذا الأرش مع العبد إن كان موجودا ، أو مع قيمته إن كان تالفا.

مباحث بدل الحيلولة

(١) هذا أوّل مباحث بدل الحيلولة ، وموضوعه وجود العين ، لكن مع تعذّر الوصول إليها لإباق أو ضياع أو غيرهما.

وتوضيحه : أنّ ضمان مال الغير لا يخلو من إحدى حالات ثلاث ، لأنّه إمّا أن تكون العين موجودة ، وإمّا أن تكون تالفة ، وعلى الأوّل إمّا أن يتمكّن من ردّها إلى المالك ، لكونها بمتناول يده ، وإمّا أن يتعذّر ، لضياعها أو سرقتها.

فإن كانت موجودة عنده وأمكن ردّها إلى المالك فقد تقدّم في الأمر الثاني وجوب ردّها فورا إليه ، والضمان في هذه الصورة تقديريّ ، بمعنى أنّه لو هلكت وجب دفع بدلها.

وإن كانت تالفة وجب ردّ بدلها من المثل أو القيمة ، وقد تقدّمت مباحثه مفصّلة في الأمر الرابع إلى السابع.

وإن كانت العين موجودة لم تنعدم بعد ، إلّا أنّ الضامن عاجز عن ردّها فعلا


حكم (١) تعذّر الوصول

______________________________________________________

إلى المالك كما إذا سرقت منه ، فهل يلحق هذا بالتلف حتى يضمن بدلها من المثل أو القيمة ، أم لا يلحق بالتلف؟ لرجاء القدرة على ردّها. وهذا هو البحث المعروف ببدل الحيلولة. وقد تعرّض له المصنّف قدس‌سره تبعا للأصحاب. قال المحقق قدس‌سره : «إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل ، ويملكه المغصوب منه ، ولا يملك الغاصب العين المغصوبة ، ولو عادت كان لكلّ منهما الرجوع» (١). ويبحث فيه عن جهات :

منها : الدليل على وجوب بدل الحيلولة.

ومنها : تحديد الموضوع ، وانّه يعتبر العلم بعدم الظفر بالعين ، أو يكفي الظنّ به ، أو غير ذلك.

ومنها : أنّ المالك يملك بدل الحيلولة أو يباح له التّصرّف؟

ومنها : أنّه يضمن ارتفاع قيمة العين بعد دفع بدل الحيلولة أو لا؟

ومنها : وجوب ردّ العين فورا لو تمكّن منه بعد أداء البدل ، وعدمه.

ومنها : أنّ العين تدخل في ملك الغاصب أو لا؟

ومنها : حكم تصرف المالك في البدل بما يخرجه عن الملك.

ومنها : حكم تمكن المالك من أخذ العين ، وعجز الغاصب عن أدائها إليه.

ومنها : غير ذلك مما سيظهر إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ البحث عن بدل الحيلولة ليس من فروع خصوص التنبيه السابع الباحث عن حكم ضمان القيميّ ، بل يتفرّع على الأمر الرابع أيضا ، إذ لو كان المضمون مثليّا وتعذّر ردّه إلى مالكه وجب على الضامن ردّ بدل الحيلولة ، وهو المثل ، لاتّحاد التلف والحيلولة حكما ، هذا.

(١) يعني : أنّه كما يجب في صورة تلف العين دفع البدل ، كذلك في صورة تعذّر الوصول إلى العين لغرق أو ضياع أو سرقة أو نحوها ، إذ لا ينعدم المال حقيقة في هذه

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤١.


إليه (١) وإن لم يهلك ، كما لو سرق أو غرق أوضاع أو أبق ، لما دلّ (٢) على الضمان بهذه الأمور في باب الأمانات المضمونة.

وهل يقيّد ذلك (٣) بما إذا حصل اليأس من الوصول

______________________________________________________

الموارد ، وإنّما يتعذّر الوصول إليه.

(١) الضمير راجع إلى العين فالأولى تأنيثه. كما أن الأولى أن يقال : «تهلك» مؤنّثا لا مذكّرا.

(٢) هذا إشارة إلى الدليل الأوّل على وجوب دفع بدل الحيلولة ، وهو النصوص الواردة في ضمان الودعيّ والمستبضع والمستعير والمستأجر ، الدالّة بمفهومها أو منطوقها على ضمان العين ، إذا لم يتمكّن من ردّها إلى المالك ، سواء أكان بسبب التلف الحقيقيّ ، أم بعدم الظفر بها كما إذا أبق العبد ، أو سرق المتاع ، أو ضاعت الوديعة ونحوها.

وقد تقدّم نقل جملة من هذه النصوص في (ص ١٨٩ و ٣٣٤ ـ ٣٣٦) فراجع ونقتصر هنا بذكر واحدة منها تبرّكا ، وهي معتبرة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال : سألته عن العارية يستعيرها الإنسان ، فتهلك أو تسرق؟ فقال : إن كان أمينا فلا غرم عليه» (١). فإنّ مفهومه الضمان بدون الأمانة ، بلا فرق بين التلف الحقيقيّ المعبّر عنه بالهلاك ، وبين الحكميّ ، لتعذّر الوصول إليها لسرقة وضياع ، كما هو مورد البحث في بدل الحيلولة.

أ ـ مورد بدل الحيلولة

(٣) أي : الضمان ، وغرضه قدس‌سره بيان مورد بدل الحيلولة ، والمذكور في العبارة صور أربع تشترك في أمرين ، أحدهما : بقاء العين وعدم ذهاب صورتها النوعيّة ، والثاني : عدم كونها بمتناول اليد حتى تردّ إلى المالك. وحينئذ فيحتمل وجوه :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٣٧ ، الباب ١ من كتاب العارية ، الحديث ٧.


.................................................................................................

______________________________________________________

الأوّل : تقييد وجوب بدل الحيلولة باليأس من الوصول إلى العين ، أي الاطمئنان بعدم الظفر بها. فلو لم يطمئنّ بعدم الظفر بها لم يجب البدل ، سواء حصل له الظن بعدم الوصول أم لم يحصل بأن شكّ فيه.

الثاني : تقييد وجوب البدل بعدم الظنّ بوجدان العين ، ولا يعتبر اليأس الذي هو العلم أو الاطمئنان بعدم الوصول ، بل يكفي عدم رجاء الوجدان في وجوب بدل الحيلولة.

فالفارق بين الوجهين أمران :

أحدهما : اعتبار حصول اليأس من الوصول إلى العين في الوجه الأوّل ، وعدم اعتباره في الثاني.

ثانيهما : أنّ المناط في الأوّل هو اليأس عن الوصول ، وظاهره الوصول بنفسه. وفي الثاني هو الوجدان ، وظاهره إعمال مقدمات تنتهي إلى الظفر بالعين.

ويمكن انطباق كلّ واحد من الوجهين على موارد بدل الحيلولة من الضياع والسرقة والإباق والغرق ، وان قيل بأنّ المال المسروق والغريق ممّا ييأس وصوله ، بخلاف الضائع الذي لا يأس عن الظفر به وإن لم يظنّ وجدانه.

ولعلّ الوجه الأوّل يختصّ بما إذا تعذّر إعادة العين وإن كان عودها بنفسها مرجوّا ، كطائر فرّ من عشّه ، ولكنّه يرجى عوده بنفسه إليه ، لأنسه به.

الثالث : القول بالتفصيل في ضمان البدل بين المدّة القصيرة والطويلة ، وبين التضرّر وعدمه ، فيقال بعدم الضمان فيما لو علم بوجدان العين في مدة قصيرة ، سواء تضرّر فيه المالك أم لا. وكذا لو علم به في مدّة طويلة مع عدم تضرّر المالك بالانتظار. ويقال بالضمان في ما لو علم بوجدانها في أمد بعيد مع تضرّر المالك بالصبر إلى التمكّن من العين.

الرابع : القول بضمان البدل مطلقا بمجرّد تعذّر العين ، سواء أكانت مدّة الوصول إليها طويلة أم قصيرة.


إليه (١) ، أو بعدم رجاء وجدانه (٢) ، أو يشمل (٣) ما لو علم وجدانه في مدّة طويلة يتضرّر المالك من انتظارها ، أو (٤) ولو كانت قصيرة؟ وجوه (٥). ظاهر أدلّة ما ذكر من الأمور الاختصاص بأحد الأوّلين (٦).

لكن ظاهر إطلاق الفتاوى الأخير (٧) كما يظهر (٨) من إطلاقهم أنّ اللوح

______________________________________________________

هذا ما يحتمل ثبوتا في تحديد موضوع الحكم.

وأفاد المصنّف قدس‌سره في مقام الإثبات أنّ مفاد أدلّة وجوب أداء بدل الحيلولة يختلف عن ظاهر الفتاوى ، إذ مقتضى الأدلّة اختصاص الوجوب بأحد الوجهين الأوّلين ، وهما اليأس من الوصول وعدم رجاء الوجدان ، لكونهما قدرا متيقّنا من «تعذّر الوصول» الذي هو بحكم التلف الحقيقيّ. ولكن مقتضى إطلاق الفتاوى وجوب بدل الحيلولة حتى لو تمكّن الضامن من الظفر بالعين في مدّة قصيرة كي يردّها إلى المالك ، وسيأتي نقل فتواهم إن شاء الله تعالى.

(١) هذا هو الاحتمال الأوّل.

(٢) هذا هو الاحتمال الثاني ، وقد عرفت الفرق بينه وبين الاحتمال الأوّل.

(٣) هذا هو الاحتمال الثالث ، وهو معطوف على قوله : «يقيّد» ومقابل له ، وغرضه التعميم وبيان احتمال عدم اختصاص التعذّر بصورة اليأس عن الوصول أو اليأس عن الوجدان ، بل «تعذّر الوصول» أعمّ منهما وممّا علم وجدانه في مدّة طويلة.

(٤) معطوف على «مدّة طويلة» يعني : يصدق «التعذّر» حتّى في صورة العلم بوجدان العين في مدّة قصيرة ، وهذا هو الاحتمال الرابع.

(٥) مبتدء مؤخّر لمحذوف ، وهو «فيه».

(٦) أي : حصول اليأس من الوصول إليه ، أو عدم رجاء الوجدان.

(٧) وهو قوله : «أو ولو كانت قصيرة».

(٨) قال في الجواهر : «وإن كانت ـ أي السفينة التي أدرج فيها لوح مغصوب ـ في اللّجة ، وخيف من النزع غرق حيوان محترم ـ آدميّ أو غيره ـ أو مال كذلك لغير الغاصب الجاهل بالغصب ، ففي القواعد والتذكرة وجامع المقاصد والمسالك


المغصوب في السفينة إذا خيف من نزعه غرق مال لغير الغاصب (١) انتقل إلى قيمته إلى أن يبلغ الساحل.

ويؤيّده (٢) أنّ فيه جمعا بين الحقّين ، بعد فرض رجوع القيمة إلى ملك الضامن (٣) عند التمكّن من العين ، فإنّ (٤) «تسلّط النّاس على مالهم» الذي فرض

______________________________________________________

والروضة وظاهر غيرها عدم وجوب النزع ، بل في مجمع البرهان : لا خلاف فيه ، جمعا بين الحقّين ، ولاحترام روح الحيوان ، سواء كان الغاصب أو للغاصب أو غيره ..» (١).

وقوله : «جمعا بين الحقّين» شاهد على أنّهم أطلقوا الحكم بالانتقال إلى القيمة ، أعني بها قيمة اللوح المتعذّر أخذه فعلا لخوف غرق مال غير الغاصب مع كون اللوح معلوم الوصول والوجدان ، ولم يفرّقوا بين كون مدة الوصول إلى الساحل طويلة أو قصيرة.

(١) إذ لو كان المال الموجود في السفينة ملكا للغاصب أو لمن يعلم بغصبيّته وجب نزع اللوح المغصوب فورا ، لعدم احترام مثل هذا المال ، ولم تصل النوبة إلى انتقال الضمان من العين إلى بدل الحيلولة.

(٢) يعني : يؤيّد هذا الإطلاق أنّ الانتقال إلى القيمة إلى زمان وصول العين جمع بين حقّي المالك والغاصب ، لأنّ مقتضى سلطنة المالك على ماله جواز مطالبته عينا أو بدلا ، ومقتضى عدم تضرّر الغاصب هو أن يدفع المالك إليه بدل الحيلولة الذي أخذه منه ، بعد وصول العين المغصوبة إلى مالكها.

والتعبير بالتأييد لعدم إحراز ثبوت حقّ للمالك مع فرض بقاء العين ووصولها إليه في مدّة قصيرة.

(٣) لقولهم بترادّ العين وبدل الحيلولة ، كما نقلناه عن المحقق في (ص ٥٥٦).

(٤) تعليل لثبوت حقّ للمالك يقتضي جواز مطالبة بدل الحيلولة من الضامن.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٧٧.


كونه في عهدته يقتضي (١) جواز مطالبة الخروج عن عهدته (٢) عند تعذّر نفسه. نظير ما تقدّم (٣) في تسلّطه على مطالبة القيمة للمثل المتعذّر في المثليّ.

نعم (٤) لو كان زمان التعذّر قصيرا جدّا ـ بحيث لا يحصل صدق عنوان الغرامة والتدارك على أداء القيمة ـ أشكل الحكم (٥).

ثم الظاهر (٦) عدم اعتبار التعذّر المسقط للتكليف ،

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «انّ تسلّط» وضمير «عهدته» راجع إلى الضامن.

(٢) مرجع هذا الضمير وضميري «كونه. نفسه» هو «مال الناس».

(٣) حيث قال في الأمر السادس : «انّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك ، وجمع بين حقّ المالك بتسليطه على المطالبة ، وحقّ الضامن بعدم تكليفه بالمتعذّر أو المعسور».

(٤) استدراك على إطلاق حكمهم بضمان بدل الحيلولة حتّى في ما إذا كان زمان تعذّر الوصول إلى العين المضمونة قصيرا. والوجه في الاستدراك : أنّ بدل الحيلولة غرامة على الضامن لأجل تدارك حرمان المالك عن ماله مدّة التعذّر ، ومن المعلوم أنّ صدق عنوان «الغرامة» يتوقّف على حصول النقص والفوت على من له الغرم ، ومع قصر المدّة لا يصدق فوت مال المالك ولا نقصه عليه ، فلا موجب للغرامة.

(٥) منشأ الاشكال أمران ، يقتضي أحدهما الضمان ، والآخر عدمه ، فقاعدة السلطنة تقتضي جواز المطالبة حين التعذّر الموجب للانتقال إلى القيمة حتّى في المدّة القصيرة. وصدق التمكّن عرفا من ردّ العين ـ لقصر الزمان ـ يقتضي عدم الانتقال إلى القيمة.

ب : المراد بالتعذّر هو العرفيّ لا العقليّ

(٦) غرضه تحديد التعذّر الموجب للبدل ، وحاصله : أنّ الانتقال إلى بدل الحيلولة لا يناط بسقوط التكليف بوجوب ردّ العين ، فلو لم يصل التعذّر إلى هذا الحدّ


بل لو كان ممكنا (١) بحيث يجب عليه السعي في مقدماته لم يسقط القيمة (٢) زمان السعي.

لكن (٣) ظاهر كلمات بعضهم التعبير بالتعذّر.

______________________________________________________

وجب دفع بدل الحيلولة أيضا ، كما تقتضيه فتاواهم بالانتقال إلى القيمة في اللوح المغصوب ، مع إمكان الوصول إليه ولو بالسعي مقدّمات الإيصال إلى الساحل.

وبعبارة أخرى : المراد بالتعذّر ليس هو الامتناع الذي يعدّونه من مسقطات التكليف ، نظير الامتثال وانتفاء الموضوع ، كسقوط أحد المتزاحمين ـ المتساويين ملاكا ـ عن الوجوب الفعليّ التعيينيّ ، والتخيير في الامتثال. فلو كان التعذّر في المقام بهذا المعنى لم يبق موضوع لبدل الحيلولة ، لفرض بقاء صورتها النوعيّة على ما كانت عليه ، كالعبد الآبق واللوح المدرج في السفينة. فالمراد بالتعذّر هنا ما يجتمع مع التكليف بأداء العين ، حتى لو توقّف الوصول إليها على تمهيد مقدّمات والسعي إليها.

وقد ظهر أنّ تعبير المصنف قدس‌سره بالتعذّر ليس مساوقا للوجه الأوّل ـ وهو اليأس عن الوصول ـ حتى يكون ذلك تكرارا ، إذ التعذّر العقليّ المسقط للتكليف أخص من اليأس ، فإنّ عدم القدرة فعلا على تحصيل العين لا ينافي القطع بحصوله فيما بعد ، فضلا عن رجاء حصوله. كما أنّ اعتبار التعذّر العرفيّ في سقوط التكليف بردّ العين لا يساوق الصورة الأخيرة ، وهي الحكم ببدل الحيلولة بمجرّد التعذّر الفعليّ ، بل التعذّر العرفي أعمّ من التعذّر الفعلي والتعذّر في مدّة قصيرة.

(١) يعني : لمّا كان الوصول إلى العين ممكنا في نفسه ـ ولو بتمهيد مقدّمات ـ وجب السعي إليها ليظفر بها.

(٢) يعني : بدل الحيلولة.

(٣) هذا استدراك على إرادة التعذّر العرفيّ في المقام ، وحاصله : أنّ ظاهر كلمات بعضهم اعتبار التعذّر المسقط للتكليف ، كقول المحقّق قدس‌سره : «وإذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل» وقريب منه عبارة القواعد والدروس.


وهو (١) الأوفق بأصالة عدم تسلّط المالك على أزيد من إلزامه بردّ العين ، فتأمّل (٢).

ولعلّ المراد به (٣) التعذّر في الحال

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره الاستدلال لما هو ظاهر تعبير جماعة بالتعذّر الذي يلوح منه سقوط التكليف بأداء العين. وتقريبه : أنّ الدليل على استحقاق البدل هو سلطنة المالك على ماله ، ولا ريب في اقتضائها جواز مطالبة البدل في مورد تعذّر الوصول إلى العين. أمّا لو لم يتعذّر الوصول إليها فقاعدة السلطنة تقتضي مطالبة العين ، لا بدل الحيلولة. ولو شكّ في ثبوت سلطنته على مطالبة كلّ من المبدل والبدل كان مقتضى أصالة عدم تسلّط المالك على أزيد من إلزامه بردّ العين عدم سلطنته على مطالبة البدل ، هذا.

(٢) الظاهر أنّه إشارة إلى الخدشة في الأصل المذكور ، إمّا لأنّه قد يفضي إلى تضرّر المالك بحرمانه عن ماليّة ماله ، فلو ثبتت له سلطنة المطالبة بالبدل لم يتضرّر بذلك ، وإن لم تصل إليه خصوصيّات ماله. وإمّا لأنّ السلطنة على مطالبة بدل الحيلولة لا تنافي سلطنته على العين ، لاختصاص زمان وجوب البدل بتعذر الوصول إلى العين ، وهو وقت السعي في مقدّمات تحصيل العين ، واختصاص وجوب ردّ العين بزمان حصولها عنده ، فلا تكليف بردّها قبل حصولها حتى يقال بنفي الزائد ـ وهو وجوب البدل ـ بأصالة عدم السلطنة.

(٣) غرضه توجيه أخذ «التعذّر» في الحكم ببدل الحيلولة ، وبيانه : أنّ ظاهر التعذّر وإن كان هو التعذّر المطلق ، يعني التعذّر في الحال والاستقبال ، بأن يحصل اليأس من الظفر بالعين ، لكن يحتمل إرادة التعذّر الفعليّ أي حين السعي في مقدّمات تحصيل العين ، فيكفي هذا التعذّر في جواز مطالبة بدل الحيلولة من الضامن ، لأنّ نفس تأخير تسليم المال إلى مالكه ضرر عليه ينبغي تداركه بالبدل ، هذا.


وإن كان (١) لتوقّفه على مقدّمات زمانيّة يتأخّر لأجلها ذو المقدّمة.

ثم (٢) إنّ ثبوت القيمة مع تعذّر العين ليس كثبوتها مع تلفها في كون دفعها حقّا للضامن ، فلا يجوز (٣) للمالك الامتناع ، بل (٤) له أن يمتنع من أخذها ، ويصبر إلى زوال العذر ، كما صرّح به الشيخ في المبسوط (٥).

______________________________________________________

(١) يعني : وإن كان هذا التعذّر الفعليّ مستندا إلى استلزام مقدّمات تحصيل العين لزمان طويل.

ج : جواز امتناع المالك من أخذ بدل الحيلولة

(٢) هذا فرع آخر ممّا يتعلّق ببدل الحيلولة ، وغرضه إبداء الفرق بين ثبوت القيمة مع بقاء العين ، وتعذّر ردّها إلى المالك ، وبين ثبوتها مع تلفها.

وحاصل الفرق أنّه في صورة التلف يجب على المالك أخذ القيمة ، لأنّ للضامن إبراء ذمّته بدفع القيمة ، لامتناع تكليفه بردّ العين ؛ فليس للمالك الامتناع من الأخذ. وفي صورة التعذّر يجوز للمالك الامتناع من الأخذ ، والصبر إلى زوال العذر وإمكان ردّ العين.

(٣) هذا متفرّع على المنفيّ ، وهو كون دفع القيمة ـ عند التلف ـ حقّا للضامن يجب على المالك قبولها.

(٤) معطوف على «ليس» يعني : أنّ للمالك الامتناع من أخذ بدل الحيلولة ، بأن يصبر إلى زوال العذر من ردّ العين. وهذا هو الفارق بين تلف العين حقيقة بذهاب صورتها النوعيّة ، وبين تلفها حكما بالتعذّر.

(٥) حيث قال قدس‌سره : «إذا غصب ملكا لغيره ، فخرج عن يده ، مثل أن غصب عبدا فأبق ، أو فرسا فشرد ، أو بعيرا فندّ ، أو ثوبا فسرق ، كان للمالك مطالبته بقيمته ، لأنّه حال بينهما بالغصب ..» (١). وغرض المصنّف من نسبة التصريح إلى الشيخ قوله «كان للمالك» لدلالته على كون المطالبة بالقيمة حقّا له ، وليس للغاصب الإلزام

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٩٥.


ويدلّ عليه (١) قاعدة تسلّط الناس على أموالهم.

وكما أنّ (٢) تعذّر ردّ العين

______________________________________________________

بأخذها ، فيجوز الصبر إلى الظفر بالعين المضمونة.

(١) يعني : ويدلّ على جواز امتناع المالك من أخذ القيمة ـ أي بدل الحيلولة ـ قاعدة السلطنة ، لاقتضائها جواز كلّ من مطالبة البدل الموقّت ، ومن الامتناع عنه ، بأن يصبر حتى الظفر بالعين ، أو إحراز تلفها ، فيأخذ بدلها الدائميّ المستقرّ على عهدة الضامن. وهذا بخلاف ما إذا تلفت العين ، لانقطاع سلطنته عليها من أوّل الأمر ، واستقرار بدلها في ذمّة الضامن ، فله تفريغها بأداء المثل أو القيمة ، ولا يجوز للمالك الامتناع من أخذ البدل.

د : خروج العين عن الماليّة

(٢) ظاهره بيان مورد آخر مما يجب فيه بدل الحيلولة ، وهو خروج المال عن التقويم ، توضيحه : أنّ المناط في ضمان بدل الحيلولة ـ كما تقدّم ـ أمران ، أحدهما : بقاء العين وعدم ذهاب صورتها النوعيّة ، وثانيهما : تعذّر إيصالها إلى المالك.

وبناء على اعتبار هذين يتّجه البحث عمّا إذا أمكن إيصال العين إلى مالكها ، لكنّها سقطت عن الماليّة ، فيحتمل لحوق هذا الفرض ببدل الحيلولة ، كما اختاره المصنّف قدس‌سره ويحتمل كونه من موارد التلف الحقيقيّ ـ لأنّ التموّل صفة مقوّمة لضمان العين ـ فالواجب حينئذ دفع البدل الدائميّ إلى المالك ، ولا ربط له ببدل الحيلولة الذي هو بدل محدود ومغيّا بالوصول إلى العين.

فإن قلت : مختار المصنف هنا ربما ينافي ما تقدّم في التنبيه السادس من حكمه بأنّ سقوط المثل عن الماليّة يوجب الانتقال إلى القيمة كالماء على الشاطئ والجمد في الشتاء. فتشتغل ذمّة الضامن بالقيمة ـ التي تكون بدلا دائميّا لا محدودا ـ ويسقط المثل عن العهدة.


في حكم التلف (١) ، فكذا خروجه (٢) عن التقويم.

ثمّ إنّ (٣) المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف ،

______________________________________________________

وجه المنافاة : أنّ خروج المثل عن الماليّة لو اقتضى انقلاب ضمانه بالقيمة فليكن خروج العين عن التموّل مثله ، فكيف حكم المصنّف : بأنّه كتعذّر العين في أنّ البدل محدود من باب الحيلولة بين المال ومالكه؟

قلت : يمكن دفع التنافي بأنّ خروج المال عن التقويم على نحوين ، فتارة لا يرجى عود الماليّة إليه ، كاللحم المتعفّن والفاكهة الفاسدة ، فالواجب فيهما المثل أو القيمة من باب التلف الحقيقيّ ، لكون تلف الماليّة كتلف العين. واخرى يرجى عود الماليّة ، كما إذا ضمن ماء في المفازة ولم يتلف حتى وصل الشاطئ ، وأراد اجتيازه إلى مفازة أخرى ، فيقال : بأنّ للمالك مطالبة بدل الحيلولة عند الشاطئ ، ولو بقي الماء بحاله إلى الوصول إلى المفازة الأخرى وجب على الضّامن دفعه إلى المالك.

ولعلّ هذا الفرض الثّاني محطّ نظر الماتن هنا ، حيث عدّ سقوط المال عن التقويم من موارد بدل الحيلولة. مضافا إلى فرق آخر بين المقام والمثليّ ، بأنّ العين واجدة لخصوصيّتها الشخصيّة المضمونة ، ولا ينتقل إلى البدل إلّا بالتلف الحقيقيّ ، والمفروض عدمه. بخلاف المثليّ ، المشارك للعين في الصنف ، هذا.

(١) في وجوب البدل المحدود ، وهو بدل الحيلولة.

(٢) أي : خروج العين عن الماليّة ، فالأولى تأنيث الضمير.

ه : هل البدل ملك المضمون له أم مباح له؟

(٣) هذا فرع آخر ممّا يتعلّق ببدل الحيلولة ، والغرض منه بيان حكمه من حيث صيرورته ملكا لمن له الغرم أو أنّه يباح له التصرّف فيه. وأثبت المصنّف قدس‌سره كونه ملكا له بنفي الخلاف بين المسلمين ، واستوجهه بأنّ التدارك لا يحصل إلّا بصيرورة بدل الحيلولة ملكا للمغصوب منه ، حيث إنّ فوات المال عنه لا ينجبر إلّا بذلك.


كما في المبسوط (١) والسرائر والخلاف والغنية. وظاهرهم (٢) إرادة نفي الخلاف بين المسلمين.

______________________________________________________

ولولا هذان الوجهان ـ وهما الإجماع واقتضاء الغرامة والتدارك الملكيّة ـ أمكن القول ببقاء بدل الحيلولة على ملك الغارم ، غاية الأمر أنّه يباح لمالك العين الانتفاع به والتصرّف فيه حتى بما يتوقّف على الملك ، ويشترط دخوله في ملكه بتلف العين.

وعليه فيكون بدل الحيلولة كالمعاطاة ـ بناء على نظر من تقدّم على المحقّق الثاني قدس‌سره من كونها مفيدة للإباحة ـ بلا فرق بين ما لا يتوقّف على الملك ، وما يتوقّف عليه كالعتق والبيع والهديّة ، وقد جزم بهذا الاحتمال المحقّق القمّيّ قدس‌سره على ما حكي عنه.

(١) حيث قال ـ بعد ما نقلناه عنه في (ص ٥٦٤) ما لفظه : «فإذا أخذ القيمة ملكها بلا خلاف ، لأنّه أخذها لأجل الحيلولة» (١). والغرض أنّ دعوى «عدم الخلاف» مصرّح بها في كلام السيد أبي المكارم ، وابن إدريس أيضا.

(٢) وفي مفتاح الكرامة أيضا : «وظاهرهما ـ يعني كلام الخلاف والغنية ـ نفيه بين المسلمين» (٢). يعني : أنّ الحكم ليس مجمعا عليه بين الإماميّة خاصّة ، بل هو متّفق عليه بين المسلمين. ومنشأ استظهار نفي الخلاف بين المسلمين هو قول شيخ الطائفة ـ بعد العبارة المتقدّمة ـ : «فإذا ملك القيمة فهل يملك المقوّم أم لا؟ فعندنا أنّه ما يملكها ، وأنّها باقية على ملك المغصوب منه» لظهور قوله : «فعندنا» في إجماع الإماميّة على بقاء العين في ملك المغصوب منه ، وإذا ظفر بالعين وجب ردّ بدل الحيلولة إلى الغاصب ، لخروجه عن ملك المغصوب منه حينئذ.

وربّما تكون نسبة الحكم إلى أصحابنا في هذه المسألة قرينة على أن مراده بنفي

__________________

(١) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٩٥ ؛ الخلاف ، ج ٣ ، ص ٤١٢ ، كتاب الغصب ، المسألة ٢٦ ؛ غنية النزوع ، ص ٥٣٨ ، (ضمن الجوامع الفقهية) ؛ السرائر ، ج ٢ ، ص ٤٨٦.

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٤.


ولعلّ الوجه فيه (١) أنّ التدارك لا يتحقّق إلّا بذلك (٢).

ولو لا ظهور الإجماع (٣) وأدلّة الغرامة في الملكيّة لاحتملنا أن يكون مباحا له (٤) إباحة مطلقة وإن لم يدخل في ملكه. نظير الإباحة المطلقة في المعاطاة على القول بها فيها (٥) ، ويكون دخوله في ملكه مشروطا بتلف العين (٦).

______________________________________________________

الخلاف في المسألة السابقة نفي الخلاف بين المسلمين ، ولولاه لم يكن وجه للتعبير تارة بنفي الخلاف ، وأخرى ب «عندنا».

(١) اي : ولعلّ الوجه في تملّك المغصوب منه لبدل الحيلولة هو : أنّ تدارك حرمان المالك عن العين المتعذّرة إنّما هو بدخول البدل في ملكه حتى يتسلّط على التصرّف فيه ، كما كان يتصرّف في المبدل لو كان حاضرا عنده.

وهذا الوجه يستفاد من كلام الجواهر أيضا ، كقوله : «بل أدلّة الضمان التي منها ـ على اليد ـ شاملة لذلك قطعا فهي حينئذ مقتضية لملك المالك القيمة .. فالقيمة حينئذ مملوكة ، والعين باقية على الملك للأصل» (١).

(٢) أي : بكون المال المبذول ـ المسمّى ببدل الحيلولة ـ ملكا للمغصوب منه.

(٣) أي : على القول بالإباحة في المعاطاة ، غرضه : أنّه بالإباحة يتحقّق التدارك. ولا يتوقف ذلك على القول بالملكية ، فالموجب له هو ظهور الإجماع وأدلّة الغرامة.

(٤) أي : لمالك العين ، والمراد بالإباحة المطلقة ما يشمل التصرّف المشروط بالملك كالبيع.

(٥) أي : على القول بالإباحة المطلقة في المعاطاة ، لتحقّق التدارك بهذه الإباحة ، ولا موجب لدخول بدل الحيلولة في ملك مالك العين : فدليل القول بالملكيّة هو الإجماع وأدلّة الغرامة.

(٦) كما أنّ تملّك المأخوذ بالمعاطاة مشروط بتلف العوض.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٣١.


وحكي الجزم بهذا الاحتمال (١) عن المحقّق القمي رحمه‌الله في أجوبة مسائله (٢).

وعلى أيّ حال (٣) فلا ينتقل العين إلى الضامن ،

______________________________________________________

(١) أي : احتمال الإباحة المطلقة.

(٢) الموجود في جامع الشتات كون بدل الحيلولة نوعا من الملك ، ولم يرد في كلامه التصريح بالإباحة ، ولكن الظاهر إرادة الإباحة ، لأنّه قدس‌سره أراد التفصّي عن إشكال الشهيد الثاني ـ الآتي قريبا ـ من أنّه يلزم الجمع بين العوض والمعوّض لو قلنا بصيرورة بدل الحيلولة ملكا لمالك العين ، والالتزام بالملك المتزلزل. فتخلّص المحقّق القمّيّ عنه بقوله : «فلا مانع من أن يكون ذلك نوعا من التملّك ، وحاصله : أنّ للمالك التصرّف [في البدل] للبدل حتى بالإتلاف والبيع وغير ذلك. وذلك مراعى إلى حين ظهور العين المغصوبة ، فإن ظهر العين والبدل باق فللغاصب استرداد ماله إذا كان باقيا ، بخلاف ما لو أتلفه» (١).

و : دفع بدل الحيلولة لا يقتضي انتقال العين الى الغارم

(٣) يعني : سواء قلنا بدخول بدل الحيلولة في ملك المضمون له أم بالإباحة المطلقة ، فلا ينتقل العين .. إلخ. وهذا فرع آخر ، وهو أنّ الغرامة التي يدفعها الضامن إلى المالك ـ بسبب الحيلولة ـ لا توجب دخول العين المضمونة في ملك الضامن ، للفرق بين العوض في العقود المعاوضيّة ، وبين بدل الحيلولة الذي هو غرامة ، وليس أداء للعين من حيث ماليّته حتى يستلزم دخول العين في ملكه من جهة امتناع اجتماع العوض والمعوّض عند واحد.

والحاصل : أنّ بدل الحيلولة غرامة يبذلها الضامن ، ولا تقتضي دخول العين في ملكه معاوضة ، كما أنّ البدل الدائميّ الذي يبذله الضامن لا يوجب صيرورة العين التالفة ملكا له ، هذا.

__________________

(١) جامع الشتات ، ج ١ ، ص ١٥٢ ، السطر : ٦.


فهي غرامة (١) لا تلازم فيها بين خروج المبذول عن ملكه ، ودخول العين في ملكه ، وليست معاوضة ليلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، فالمبذول هنا (٢) كالمبذول مع تلف العين في عدم البدل له.

وقد استشكل في ذلك (٣) المحقّق والشهيد الثانيان.

قال الأوّل في محكيّ جامعه : «إنّ هنا إشكالا ، فإنّه كيف يجب القيمة ويملكها الآخذ ، ويبقى العين على ملكه؟ وجعلها (٤) في مقابلة الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه» انتهى.

وقال الثاني : «إنّ هذا لا يخلو من إشكال من حيث اجتماع العوض

______________________________________________________

وقد تقدّم في عبارة المبسوط التصريح بعدم دخول العين في ملك الغارم ، ولكن استشكل فيه المحقّق والشهيد الثانيان ، وسيأتي.

(١) لا أداء للعين من حيث الماليّة حتى يلزم دخول العين في ملك الغاصب ببذل البدل.

(٢) هذه نتيجة كون بدل الحيلولة غرامة لا أداء للعين من حيث الماليّة ، يعني :

أنّ المبذول بعنوان بدل الحيلولة كالمبذول مع تلف العين.

(٣) يعني : في صيرورة بدل الحيلولة ملكا لمالك العين.

(٤) مبتدء خبره «لا يكاد» وغرض المحقّق الثاني قدس‌سره دفع دخل ، حاصله : أنّ بدل الحيلولة ليس في قبال نفس العين المضمونة حتى يلزم إشكال الجمع بين العوض والمعوّض في ملك المضمون له ، بل يكون البدل عوضا عن حيلولة الغاصب ـ بين العين ومالكها ـ المفوّتة لسلطنته عليها ، فلا إشكال حينئذ (١).

ودفعه المحقّق الثاني بأنّ بدليّة المثل أو القيمة عن الحيلولة ـ لا عن نفس العين ـ غير متّضحة ، إذ لو تلفت لزم عوضها وسقط التكليف بردّ العين ، وإن بقيت ـ كما هو الفرض ـ فما الدليل على استحقاق بدل محدود لأجل الحيلولة؟.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦١.


والمعوّض على ملك المالك من دون دليل واضح (١) (*).

ولو قيل (٢) بحصول الملك لكلّ منهما متزلزلا (٣) ، وتوقّف تملّك المغصوب منه للبدل على اليأس (٤) من العين ـ وإن جاز له التصرّف ـ كان وجها (٥) في المسألة» (١).

واستحسنه في محكي الكفاية (٦).

______________________________________________________

(١) يعني : لو دلّ دليل على جواز اجتماع العوض والمعوّض في ملك واحد أمكن الالتزام بمالكيّة المضمون له ـ هنا ـ لكلّ من العين وبدل الحيلولة ، ولكن حيث لا دليل عليه إثباتا يشكل المصير إليه.

(٢) غرض الشهيد الثاني التخلّص من محذور اجتماع العوض والمعوّض ـ بالقول بالملك المتزلزل لا المستقرّ ، فالمضمون له يملك بدل الحيلولة ، كمالكيّة ذي الخيار للمبيع متزلزلا ، واستقرار الملك مراعى باليأس من العين ، وقبل اليأس يجوز للمالك التصرّف في البدل بأنحاء التصرّف.

ولا يخفى عليك أنّ هذا الملك المتزلزل قول ثالث في المسألة في قبال كلّ من الملك المستقرّ ، والإباحة المطلقة.

(٣) أي : التزلزل مستمر إلى اليأس ، وبه يستقرّ الملك.

(٤) بل على التلف ، ويمكن أن يكون اليأس طريقا إليه.

(٥) إذ به يندفع إشكال الجمع بين العوض والمعوّض.

(٦) يعني : استحسن الفاضل السبزواري قدس‌سره القول بالملك المتزلزل لحلّ إشكال الجمع بين العوض والمعوّض.

__________________

(*) ظاهره كظاهر المستند عدم كون محذور اجتماع العوض والمعوّض عقليّا ، مع أنّ محذورة عقليّ ، لأنّ العوض في الملكيّة عبارة عن كون مال بدلا عن مال آخر ، بحيث تكون إضافة الملكيّة قائمة بمال لم يكن ملكا له.

__________________

(١) الحاكي هو السيد العاملي قدس‌سره في مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٥٥ ؛ مسالك الافهام ، ج ١٢ ، ص ٢٠١ كفاية الأحكام ، ص ٢٥٩.


أقول : الذي ينبغي أن يقال (١) هنا : إنّ معنى ضمان العين ذهابها من مال الضامن ، ولازم ذلك (٢) إقامة مقابله من ماله مقامه (٣) ، ليصدق ذهابها من كيسه.

ثم (٤) إنّ الذّهاب إن كان على وجه التلف الحقيقيّ أو العرفيّ المخرج للعين

______________________________________________________

(١) ناقش المصنّف في كلام المحقّق والشهيد الثانيين والفاضل السبزواري قدس‌سرهم من جعل محذور اجتماع العوض والمعوّض مانعا من دخول البدل في ملك المضمون له ، ثم تخلّص الشهيد الثاني عنه بالملك المتزلزل.

وحاصل المناقشة : اقتضاء الدليل دخول البدل في ملك المضمون له ، وذلك لأنّ معنى ضمان العين ـ وكون عهدتها على الضامن ـ هو كون ذهابها من كيس الضامن ، بحيث يرد نقصان في ماله ، ولازم ذلك جعل مقابله من ماله مقام التالف في الملكيّة ، بمعنى : إقامة إضافة الملكيّة بما يبذله للمالك ، فما يدفعه إلى المالك يقوم مقام ماله التالف في الملكيّة. هذا في التلف الحقيقيّ.

وأمّا في تعذّر الوصول إلى العين كالمقام ـ وفوات الانتفاع بها ـ فمعنى الضمان تدارك السلطنة الفائتة ، وهذا المقدار وإن كان يتحقّق بإباحة البدل للمالك ، لتمكّنه من التصرّف فيه مطلقا ، إلّا أنّ الموجب للقول بمالكيّة المضمون له هو عدم جواز بعض التصرّفات للمباح له ، كالعتق والبيع والوقف ونحوها ، فيلزم قصر سلطنة المالك حينئذ ، ولا سبيل لتدارك تلك السلطنة المطلقة على ماله إلّا بدخول البدل في ملكه ، هذا.

وعليه فما أفادوه ـ من عدم دليل واضح على اجتماع العوض والمعوّض عند المالك ـ قد عرفت منعه ، لاقتضاء أدلّة الضمان جبر السلطنة الفائتة وتداركها ، ولا يكون إلا بالملك.

(٢) أي : ولازم ذهاب العين من مال الضامن هو إقامة مقابلها من ماله مقامها.

(٣) أي : مقام العين ، فالأولى تأنيث الضمير.

(٤) هذا تفصيل لقوله : «إنّ معنى ضمان العين ذهابها من مال الضامن»


عن قابليّة الملكيّة (١) [الملك] عرفا وجب قيام مقابله من ماله مقامه (٢) في الملكيّة. وإن كان (٣) الذهاب بمعنى انقطاع سلطنته عنه وفوات الانتفاع به في الوجوه التي بها قوام الملكيّة وجب قيام مقابله مقامه (٤) في السلطنة ، لا في الملكيّة (٥) ليكون (٦) مقابلا وتداركا للسلطنة الفائتة. فالتدارك لا يقتضي ملكيّة المتدارك (٧) في هذه الصورة (٨).

______________________________________________________

وحاصله : أنّ لذهاب العين صورتين ، إحداهما : التلف الحقيقيّ أو العرفيّ ، والأخرى انقطاع السلطنة ، وهو التلف الحكمي ، وتقدّم بيانهما آنفا ، وسيأتي أيضا.

(١) الظاهر أنّ الصواب «الماليّة» لقيام المنافع بالشي‌ء من حيث كونه مالا ، لا ملكا. ويمكن توجيه «الملكيّة» بأنّها ـ في المقام ـ غالبا لا تنفكّ عن الماليّة ، فتتحد قابليّة الملكيّة والماليّة ، والأمر سهل.

(٢) أي : مقام العين في إضافة الملكيّة ، فيكون البدل الدائميّ ملكا لمالك العين التالفة. والأولى تأنيث الضمير ، كما مرّ.

(٣) معطوف على «إن كان» وهو بيان مورد بدل الحيلولة ، وأنّ حكمه الإباحة المطلقة ، وحاصله : أنّ المراد بالذهاب انقطاع سلطنة المالك عن ماله ، فاللازم جعل مال في مقابل السلطنة الفائتة عن ماله ، لا في مقابل الملكيّة ، فالتدارك لا يقتضي ملكية البدل المبذول لتدارك السلطنة ، إذ لا يتوقّف تداركها على ملكيّة البدل ، بل يحصل بالإباحة والسلطنة المطلقة عليه.

(٤) هذا الضمير وضمائر «عنه ، به ، مقابله» راجعة إلى «العين» فالأولى تأنيثها.

(٥) يعني : أنّ الفارق بين التلف الحقيقيّ وفوات السلطنة هو لزوم كون تدارك الأوّل بدخول البدل في ملك المضمون له ، بخلاف الثاني ، لكفاية إباحته له.

(٦) أي : ليكون هذا المقابل مقابلا للسلطنة الفائتة وتداركا لها.

(٧) بالكسر ، أى : البدل الموجب للتدارك.

(٨) أي : صورة انقطاع سلطنة المالك وفوات الانتفاعات.


نعم (١) لمّا كانت السلطنة المطلقة المتداركة للسلطنة الفائتة متوقّفة على الملك ، لتوقّف بعض التّصرّفات عليها ، وجب ملكيّته للمبذول ، تحقيقا لمعنى التدارك والخروج عن العهدة.

وعلى أيّ تقدير (٢) فلا ينبغي الإشكال في بقاء العين المضمونة على ملك مالكها (٣).

إنّما الكلام في البدل المبذول ، ولا كلام أيضا في وجوب الحكم بالإباحة (٤) وبالسلطنة المطلقة عليها.

______________________________________________________

(١) استدراك على أنّ التدارك لا يقتضي ملكيّة المتدارك ـ بالكسر ـ لكن لمّا كانت السلطنة المطلقة الجابرة للسلطنة الفائتة منوطة بالملك ، لتوقّف بعض التّصرّفات عليه ، وجب الحكم بكون البدل ملكا للمالك ، وذلك لأنّ التدارك يقتضي ذلك حيث إنّ السلطنة المطلقة الفائتة لا تتدارك إلّا بسلطنة مثلها ، فنفس انقطاع سلطنة المالك وإن لم يقتض ملكيّة بدل الحيلولة ، إلّا أنّ كيفية السلطنة الفائتة تقتضي كون السلطنة الجابرة لها مثلها.

(٢) يعني : سواء قلنا بملكيّة بدل الحيلولة للمالك ، أم قلنا بإباحتها المطلقة.

(٣) لعدم موجب لخروجها عن ملك مالكها ، ومع الشكّ يجري الاستصحاب ، وقد تقدّم أيضا بقوله : «وعلى أيّ حال فلا ينتقل العين إلى الضامن».

(٤) كما اختاره المحقّق القمّي قدس‌سره لكفاية هذه الإباحة المطلقة في جبر فوات سلطنة المالك على ماله ، ولا يتوقّف التدارك على دخول بدل الحيلولة في ملك المضمون له. نعم هذه الإباحة تستلزم الملك من أوّل الأمر ، أو تنتهي إليه عند التّصرّف ، حتى تصحّ التّصرّفات المشروطة بالملك فيه. وقد تقدّم تفصيل الكلام في رابع تنبيهات المعاطاة. لكن الذي تحصّل من كلامه هناك الإشكال في الإباحة المطلقة فراجع (١).

__________________

(١) هدى الطالب ، ج ٢ ، ص ٩٤ إلى ص ١٢٠.


وبعد ذلك فيرجع محصّل الكلام حينئذ (١) إلى أنّ إباحة جميع التّصرّفات ـ حتى المتوقّفة على الملك ـ هل يستلزم الملك من حين الإباحة أو يكفي فيه حصوله من حين التّصرّف؟ وقد تقدّم في المعاطاة بيان ذلك.

ثم (٢) إنّه قد تحصّل ممّا ذكرنا (٣) أنّ تحقيق ملكيّة البدل (٤) أو السلطنة (٥)

______________________________________________________

(١) أي : حين وجوب الحكم بإباحة البدل والسلطنة المطلقة عليه.

ز : اشتراط وجوب البدل بفوات معظم منافع العين

(٢) هذا البحث يتعلّق بكون بدل الحيلولة ملكا أو مباحا لمالك العين ، والغرض منه تحديد موضوع البحث وحصر مورده بما إذا كان الفائت على المالك معظم الانتفاعات حتّى يتصف البدل بكونه غرامة. فلو كان الفائت منفعة غير مقوّمة لماليّة العين فمقتضى ما تقدّم عدم كون بدل الحيلولة ملكا ولا مباحا للمالك.

إلّا إذا حكم الشارع بغرامة العين ، فإنّها تكشف عن انتقال العين إلى الغارم ، كما في البهيمة الموطوءة ، فإنّ الشارع ضمّن الواطي قيمة الحيوان وأوجب نفيه عن البلد ، ولكن لا يسقط به عن الماليّة والتقويم ، وإنّما هو حيوان معيب ، فإيجاب دفع البدل يدلّ على تحقّق مبادلة شرعيّة بينه وبين الحيوان.

وهذا بخلاف سقوط العين عن الماليّة ، فلا يكون وجوب دفع البدل مقتضيا لخروج المبدل عن الملك ، لكون البدل غرامة للسلطنة الفائتة وللخروج عن الماليّة. وسيأتي مزيد بيان للمطلب.

(٣) يعني : من بقاء العين على ملك مالكها ، وكون دفع البدل غرامة عمّا فات من سلطنة المالك.

(٤) بناء على دخوله في ملك المضمون له.

(٥) بناء على إباحته له.


المطلقة عليه مع بقاء العين على ملك مالكها إنّما (١) هو مع فوات معظم الانتفاعات به ، بحيث يعدّ بذل البدل غرامة وتداركا (٢). أمّا لو لم يفت إلّا بعض ما ليس به قوام الملكيّة (٣) ، فالتدارك لا يقتضي ملكه (٤) ولا السلطنة على البدل.

ولو فرض (٥) حكم الشارع بوجوب غرامة

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «أن تحقيق».

(٢) لأنّ التدارك عبارة عن «قيام شي‌ء مقام آخر فيما زال عنه من الأوصاف» ومقتضاه تعنون الشي‌ء الثاني بالعنوان الزائل عن الأوّل ـ من الملكيّة ـ في مورد الانتفاع بجميع وجوه المنافع.

(٣) الأولى تبديل الملكيّة بالماليّة ، لأنّ الانتفاع يدور مدار الماليّة لا الملكيّة كما هو ظاهر.

(٤) أي : ملك البدل ، ولو قال : «لا يقتضي ملك البدل ولا السلطنة المطلقة عليه» كان أقرب إلى السلاسة.

(٥) هذا حكم صورة بقاء معظم الانتفاعات مع وجوب البدل شرعا كالحيوان الموطوء ، وتوضيحه : أنّ الحيوان المقصود ظهره ـ كالخيل والبغال والحمير ـ إذا وطأه غير المالك لا يفوت معظم الانتفاعات به بمجرّد وطئه ، لأنّه يحرم بيعه في خصوص بلد الوطي ، لا مطلقا ، فلا يصدق التدارك هنا ، لأنّ المناط في صدقه بقاء الانتفاعات التي بها قوام الماليّة ، وهي باقية بعد الوطء أيضا ، لأنّ وجوب نفيه في بلد الوطي وبيعه في آخر لا يرفع مناط الماليّة ، فلا يصدق التدارك حتى يحكم بوجوبه على الواطئ. فحكم الشارع بغرامة القيمة ودخولها في ملك مالك الحيوان كاشف عن مبادلة شرعيّة بين الحيوان وقيمته ، فينتقل الحيوان إلى ملك الغارم تعبّدا ، وهذا تخصيص في ما تقدّم من قيام الإجماع على عدم خروج العين من ملك المضمون له في موارد بدل الحيلولة ، هذا.

ثمّ إنّ الشارع حكم حقيقة ـ لا فرضا ـ بوجوب التدارك في فوات بعض


قيمته حينئذ (١) لم يبعد كشف ذلك عن انتقال العين إلى الغارم. ولذا (٢) استظهر غير واحد (٣) أنّ الغارم لقيمة الحيوان الذي وطأه يملكه ، لأنّه (٤) وإن وجب بالوطي نفيه عن البلد وبيعه في بلد آخر ، لكن هذا لا يعدّ فواتا لما به قوام الماليّة.

هذا (٥) كلّه مع انقطاع السلطنة عن العين مع بقائها على ملكيّتها السابقة.

______________________________________________________

الانتفاعات مع عدم تقوّم الماليّة بها ، كالبهيمة الموطوءة المقصود ظهرها ، لقول الباقر عليه‌السلام في حسنة سدير : «وإن كانت مما يركب ظهره غرم قيمتها ، وجلد دون الحدّ ، وأخرجها من المدينة التي فعل بها فيها إلى بلاد أخرى حيث لا تعرف ، فيبيعها فيها كيلا يعيّر بها صاحبها» (١). فالقيمة يملكها المالك ، كما أنّ الحيوان الموطوء يصير مملوكا للغاصب ، مع أنّه لم يفت ما به قوام ماليّته.

(١) أي : حين عدم فوات معظم المنافع التي تدور الماليّة مدارها.

(٢) أي : ولأجل كشف الغرم ـ مع بقاء معظم الانتفاعات ـ عن المبادلة التعبّديّة استظهر غير واحد مالكيّة الغارم للحيوان الموطوء.

(٣) كالشهيدين والسيّد الطباطبائي ، قال في الرياض : «وإن كان غيره ـ أي وإن كان الفاعل غير المالك ـ فالظاهر أن تغريمه القيمة يوجب ملكه للبهيمة .. وبذلك صرّح الشهيدان في النكت والروضة» (٢).

(٤) تعليل لدخول الحيوان الموطوء في ملك الفاعل ، وأنّ مجرّد نفيه عن البلد وبيعه في بلد آخر لا يسقطه عن الماليّة.

(٥) المشار إليه قوله : «ثم إنّ تحقيق ملكيّة البدل أو السلطنة المطلقة عليه» وحاصله : أنّ محطّ البحث عن مالكيّة المضمون له للبدل أو إباحته له إنّما هو في صورة بقاء العين على ماليّتها ، وكون الغرامة عوضا عن السلطنة الفائتة ، ففي مثله يقال بملكية البدل أو بالسلطنة المطلقة عليه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٥٧١ ، الباب ١ من أبواب نكاح البهائم ، الحديث : ٤.

(٢) رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ٤٩٩ ، السطر ٩ ، الروضة البهية ، ج ٩ ، ص ٣١١.


أمّا لو خرج (١) عن التقويم مع بقائها على صفة الملكيّة (٢) فمقتضى قاعدة الضمان وجوب كمال القيمة مع بقاء العين على ملك المالك ، لأنّ (٣) القيمة عوض الأوصاف والأجزاء التي خرجت العين لفواتها عن (٤) التقويم ، لا عوض (٥) العين نفسها ، كما (٦) في الرطوبة الباقية بعد الوضوء بالماء المغصوب ، فإنّ بقاءها على ملك مالكها لا ينافي معنى الغرامة ،

______________________________________________________

وأمّا لو خرجت العين عن التقويم ـ مع كونها باقية على ملك مالكها ـ فمقتضى قاعدة الضمان وجوب تمام القيمة ، لأنّ الغارم فوّت ماليّتها على مالكها. وقد تقدّم عدم التنافي بين كون كلّ من العين وغرامتها ملكا للمضمون له. فلو كسر إناء الغير وجب عليه دفع قيمته مع عدم خروج رضاضه عن ملكه ، وعدم انتقالها إلى ملك الغارم.

(١) الأولى أن يقال : «خرجت».

(٢) كالظروف المكسورة ، والدّهن الذي تنجّس بإلقاء القذر فيه ، بناء على عدم جواز الانتفاع به ، فيجب على الكاسر والملقي دفع تمام القيمة ، مع بقاء الظرف والدهن المتنجّس على ملك المالك.

(٣) تعليل لوجوب تمام القيمة مع عدم انتقال العين إلى ملك الغارم.

(٤) متعلّق ب «خرجت» و «لفواتها» علّة للخروج عن التقويم.

(٥) معطوف على «عوض الأوصاف» وبيانه : أنّه لو كانت القيمة عوض نفس العين لزم دخولها في ملك الغارم لئلّا يجتمع العوض والمعوّض عند واحد ، ولكن حيث كانت القيمة عوض الأوصاف أو الأجزاء لم يلزم الاجتماع.

(٦) هذا مثال لخروج العين عن التقويم لفوات أجزائها.

ويمكن أن يكون مثالا لفوات الأوصاف أيضا ، لأنّ وصف الاجتماع لأجزاء الماء دخيل في ماليّته ، والمفروض فوات ذلك الوصف الموجب لخروجه عن التقويم.


لفوات (١) معظم الانتفاعات ، فيقوى عدم جواز المسح بها إلّا بإذن المالك (٢) ولو (٣) بذل القيمة. قال في شرح القواعد فيما لو (٤) خاط ثوبه بخيوط مغصوبة : «ولو طلب المالك نزعها وإن أفضى إلى التلف وجب ، ثم يضمن الغاصب النقص ، ولو لم يبق لها قيمة غرم جميع القيمة» انتهى (٥).

وعطف (٦) على ذلك في محكيّ جامع المقاصد قوله : «ولا يوجب ذلك

______________________________________________________

وكيف كان فالمراد برطوبة الماء المغصوب ـ مع اعتبار إباحة الماء ـ هو الالتفات إلى غصبيّة الماء بعد الغسلتين وقبل المسحتين ، إذ لو أحرز غصبيّته قبل الوضوء لم يصحّ وضوؤه من أوّل الأمر.

(١) تعليل لصدق معنى الغرامة ، وحاصله : صدق الغرامة هنا ، لفوات معظم الانتفاعات المقوّم لصدق الغرامة.

(٢) إذ المفروض بقاء الرطوبة على ملك مالكها ، والمسح بها تصرّف فيها ، فجوازه منوط بإذنه ، لأنّ حرمة التصرّف من آثار الملك ، لا المال ، فلا يضرّ عدم صدق المال على الرطوبة.

(٣) وصليّة ، يعني : يقوى بطلان المسح بدون إذن المالك حتى إذا بذل القيمة.

(٤) هذه العبارة نصّ كلام القواعد ، وفيه أيضا : «وجب نزعها مع الإمكان ، ولو خيف تلفها لضعفها فالقيمة» (١).

(٥) هذا نصّ كلام المحقّق الثاني في شرح العبارة (٢). ومراده بالتلف بقرينة قوله بعده : «النقص» أنّ الخيوط تارة تتلف بالنزع ، لكونها ضعيفة تتقطّع وتخرج عن حيّز الانتفاع بها ثانية ، فلا تقابل بالمال. واخرى تنقص قيمتها. فعلى الأوّل يجب دفع تمام قيمة الخيوط إلى مالكها ، وعلى الثاني يجب دفع نقص ماليّتها.

(٦) هذا ظاهر في كون العبارة السابقة لغير جامع المقاصد ، مع أنّها عين كلامه

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٨١ ، السطر ٦ (الطبعة الحجرية).

(٢) الحاكي هو السيد العاملي ، مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٨٥ ؛ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٣٠٤ و ٣٠٥.


خروجها عن ملك المالك كما سبق من أنّ جناية الغاصب توجب أكثر الأمرين ، ولو استوعب القيمة أخذها (١) ولم تدفع العين» انتهى.

وعن المسالك في هذه المسألة : «أنّه إن (٢) لم يبق له قيمة ضمن جميع القيمة ، ولا يخرج بذلك عن ملك مالكه كما سبق ، فيجمع بين العين والقيمة» (١) (٣)

______________________________________________________

كما عرفت ، فالأولى أن يقال : «وعطف على ذلك قوله».

(١) يعني : لو كانت الجناية مستوعبة للقيمة أخذ المالك تمام القيمة ، مع بقاء العين على ملكه ، فيجتمع لديه العين والقيمة ، ولا يدفع العين إلى الضامن.

كما إذا غصب عبدا فجنى عليه بقطع يده ، فالدية المقدّرة نصف قيمة العبد ، لكن يفصّل في المسألة بين ما لو تنزّلت قيمة العبد ـ بهذه الجناية ـ عن نصف قيمته ، فيجب دفع أكثر من نصف قيمته ، وبين ما لو تنزّلت قيمته أقلّ من النصف تعيّن المقدّر الشرعيّ. مثلا إذا قوّم العبد المغصوب سليما بألف دينار ، كانت دية قطع يده خمسمائة دينار ، ولكن يلاحظ قيمة العبد مقطوع اليد ، فإن كانت خمسمائة كفى دفع الدية المقدّرة. وإن كانت قيمته أربعمائة دينار وجب دفع ستمائة ، ولا يجزي دفع خمسمائة دينار ، وهي الدية المقدّرة. هذا.

ولو جنى عليه جناية أخرى بحيث صار دية المجموع ألف دينار وجب دفع الألف ـ مع العبد المجنيّ عليه ـ إلى مالكه. والشاهد في جواز اجتماع العبد وقيمته في ملك مالكه.

(٢) عبارة المسالك : «وإن لم يبق ..».

(٣) يعني : فلا يدخل العين في ملك الضامن بدفع البدل ، بل كلّ من المبدل والبدل ملك للمالك.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٧٨.


لكن عن مجمع البرهان في هذه (١) المسألة اختيار عدم وجوب النزع ، بل قال : «يمكن أن لا يجوز ، ويتعيّن القيمة ، لكونه بمنزلة التلف (٢). وحينئذ (٣) يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخيط ، إذ لا غصب فيه يجب ردّه. كما قيل بجواز المسح (٤) بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب الذي حصل العلم به بعد (٥) إكمال الغسل وقبل المسح» (١) انتهى.

واستجوده بعض المعاصرين (٦) ترجيحا (٧) لاقتضاء ملك المالك للقيمة خروج المضمون عن ملكه ، لصيرورته (٨) عوضا شرعا.

______________________________________________________

(١) يعني : مسألة الخيوط المغصوبة.

(٢) يعني : فلا مال له حتى يكون سلطانا على مطالبته ، فلو طالبه كان نزع الخيوط ضررا على صاحب المخيط ، فلا يجوز له مطالبة الخيوط ، بل له مطالبة القيمة.

(٣) أي : حين كونه بمنزلة التلف ودخول الخيوط في ملك الغاصب يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب.

(٤) جواز الصلاة في الثوب المخيط بالخيوط المغصوبة ـ وجواز المسح بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب ـ لأجل كون الخيوط والرطوبة المذكورتين بمنزلة الشي‌ء التالف.

(٥) التقييد ببعديّة إكمال الغسلتين للاحتراز عن العلم بغصبيّة الماء قبل إكمالهما ، لبطلان الوضوء حينئذ.

(٦) وهو صاحب الجواهر ، ووافقه السيّد في الحاشية (٢).

(٧) يعني : ترجيحا لاقتضاء ملك المالك .. إلخ على استصحاب ملك المالك للمضمون.

(٨) علّة للاقتضاء ، وضميره راجع إلى المضمون ، والمراد بالمعوّض هو القيمة.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢١.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٨٠ ؛ حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٨.


وفيه : أنّه لا منشأ لهذا الاقتضاء (١). وأدلّة الضمان قد عرفت أنّ محصّلها يرجع إلى وجوب تدارك ما ذهب من المالك ، سواء كان الذاهب نفس العين كما في التلف الحقيقيّ ، أو كان الذاهب السلطنة عليها التي بها قوام ماليّتها ، كغرق المال ، أو كان الذاهب الأجزاء أو الأوصاف التي يخرج بذهابها العين عن التقويم مع بقاء ملكيّته (٢).

______________________________________________________

(١) أي : اقتضاء ملك المالك للقيمة خروج العين المضمونة عن ملكه ، ودخولها في ملك الضامن ، لصيرورتها عوضا شرعا عن القيمة التي دفعها الضامن إلى المالك.

وحاصله : أنّه لا منشأ للاقتضاء المزبور أصلا ، لأنّ ما يتوهّم أن يكون منشأ له هو أدلّة الضمان ، وهي غير صالحة لذلك ، لأنّ المستفاد من تلك الأدلة هو وجوب تدارك ما فات عن المالك ، سواء أكان الفائت نفس العين كما في التلف الحقيقيّ ، أم كان الفائت السلطنة عليها مع بقاء عين المال كغرقها ، فيما لم يكن الماء معدما لها ، كالأحجار الكريمة التي تبقى في الماء ، أم كان الفائت الأجزاء أو الأوصاف التي تخرج العين بذهابها عن القيمة مع بقاء الملكيّة.

ومن المعلوم أنّ العين على التقدير الأوّل تخرج عن الملكيّة عرفا ، فلا تقبل إضافة الملكيّة حتى يقال : إنّ طرف الإضافة هو المالك أو الضامن.

وعلى التقدير الثاني تكون السلطنة المطلقة على البدل بدلا عن السلطنة المنقطعة عن العين. وهذا معنى بدل الحيلولة ، لا بدلا عن نفس العين ، حتى يدّعى صيرورتها ملكا للضامن ببذل البدل.

وعلى التقدير الثالث يكون البدل المبذول بدلا عن ماليّة المال ، إذ المفروض خروجه عن الماليّة مع بقاء عينه ، فليس البدل المبذول بدلا عن نفس العين حتى يكون ملك المالك للقيمة مقتضيا لخروج العين المضمونة عن ملكه ، ودخولها في ملك الضامن ، لصيرورتها شرعا عوضا عن البدل المبذول للمالك.

(٢) الأولى «ملكيّتها» لرجوع الضمير إلى العين.


ولا يخفى أنّ العين على التقدير الأوّل (١) خارج (٢) عن الملكيّة عرفا.

وعلى الثاني (٣) السلطنة المطلقة على البدل بدل عن السلطنة المنقطعة عن العين. وهذا معنى بدل الحيلولة.

وعلى الثالث (٤) فالمبذول عوض عمّا خرج المال بذهابه عن التقويم ، لا عن نفس العين ، فالمضمون في الحقيقة هي تلك الأوصاف التي تقابل بجميع القيمة ، لا نفس العين الباقية ، كيف؟ (٥) ولم تتلف هي ، وليس لها على تقدير التلف أيضا عهدة ماليّة ، بل الأمر بردّها مجرّد تكليف لا يقابل بالمال (٦). بل لو استلزم ردّه ضررا ماليّا على الغاصب أمكن سقوطه (٧) ، فتأمّل (٨).

______________________________________________________

(١) وهو تقدير تلف العين حقيقة ، فإنّ العين التالفة لا تعدّ ملكا ولا مالا.

(٢) الأولى «خارجة».

(٣) وهو تقدير فوت السلطنة ، مع بقاء العين في مكان لا تنالها اليد فعلا.

(٤) وهو كون الذاهب الأجزاء والأوصاف المقوّمة لماليّة العين.

(٥) يعني : كيف يكون المبذول بدلا عن نفس العين؟ مع أنّها باقية غير تالفة.

(٦) حتى يقال : إنّ بدل الحيلولة بدل عن العين ، فملك المالك للبدل يقتضي خروج المبدل عن ملكه ، ودخوله في ملك الضامن. بل الحكم بوجوب ردّ العين حينئذ تكليف محض لا يستتبع الوضع.

وبالجملة : فعلى جميع التقادير لا يكون البدل بإزاء نفس العين حتى يدّعى اقتضاؤه لملكيّة المبدل للضامن.

(٧) أي : سقوط التكليف. والوجه في سقوطه حكومة قاعدة نفي الضرر عليه ، وليست معارضة بضرر المالك مالا ، لفرض خروج العين عن الماليّة ، التي استوفاها بالغرامة.

(٨) لعلّه إشارة إلى : منع جريان قاعدة الضرر هنا ، لأنّها في مقام الامتنان ، فلا تجري في حقّ الغاصب ، فيبقى إطلاق ما دلّ على وجود الرّد بحاله.


ولعلّ (١) ما عن المسالك من «أنّ ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب ، بعد خروجه عن القيمة بالإخراج ، فتعيّن القيمة فقط»

______________________________________________________

(١) غرضه توجيه ما في المسالك من : «أن ظاهر الفقهاء عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب ، والخشبة عن البناء».

وحاصل التوجيه : أنّ عدم وجوب الرّدّ في هذين الموردين إنّما هو لأجل استلزام الرّد الضرر على مالك الثوب والبناء.

ثم لا يخفى أنّ ما نسبه المصنف قدس‌سره إلى المسالك وإن كان في محلّه ، إلّا أنّ العبارة المنقولة ليست نصّ كلامه ، بل هي تلفيق بين كلماته في مسألتين كما نبّه عليه الفقيه المامقاني قدس‌سره. (١)

ولتوضيح الأمر ننقل أوّلا عنوان المسألة في الشرائع ، ثمّ ما في المسالك.

قال المحقّق قدس‌سره : «يجب ردّ المغصوب ما دام باقيا ولو تعسّر ، كالخشبة تستدخل في البناء ، أو اللوح في السفينة ، ولا يلزم المالك أخذ القيمة .. ولو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة ، فإن أمكن نزعها الزم ذلك ، وضمن ما يحدث من نقص ، ولو خشي تلفها بانتزاعها لضعفها ضمن القيمة» (٢).

وظاهره وجوب الرّدّ مطلقا ، سواء فسدت الخشبة بالنزع من البناء أم لم تفسد ، وعلى تقدير عدم الفساد لا فرق بين تضرّر المالك وعدم تضرّره. وسيأتي من المصنّف إمكان حمل هذا الإطلاق على صورة عدم تضرّر مالك البناء بنزع الخشبة ، فلو تضرّر لم يجب النزع ، بل وجب دفع قيمتها.

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره في حكم الخشبة المغصوبة : «إذا غصب خشبة وأدرجها في بنائه أو بنى عليها لم يملكها الغاصب ، بل عليه إخراجه من البناء وردّه إلى المالك .. إلى أن قال : ثمّ إذا أخرجها وردّها لزمه أرش النقص إن دخلها نقص.

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣١٨.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٣٩.


محمول على صورة تضرّر المالك (١) بفساد الثوب المخيط ، أو البناء المستدخل فيه الخشبة ، كما لا يأبى عنه (٢) عنوان المسألة (٣) ، فلاحظ.

وحينئذ (٤) فلا تنافي ما تقدّم عنه سابقا من بقاء الخيط على ملك مالكه ،

______________________________________________________

ولو بلغت حدّ الفساد على تقدير الإخراج بحيث لا يبقى لها قيمة فالواجب تمام قيمتها. وهل يجبر على إخراجها حينئذ؟ نظر من فوات الماليّة ، وبقاء حقّ المالك في العين. وظاهرهم عدم الوجوب ، وأنّها تنزّل منزلة المعدومة. ولو قيل بوجوب إعطائها المالك لو طلبها كان حسنا ، وإن جمع بين القيمة والعين» (١).

وقال في مسألة خياطة الثوب بخيط مغصوب : «الخيط المغصوب إن خيط به ثوب ونحوه فالحكم كما في البناء على الخشبة ، فللمالك طلب نزعه ، وإن أفضى إلى التلف. ويضمن الغاصب النقص إن اتّفق. وإن لم يبق له قيمة ضمن جميع القيمة ، ولا يخرج بذلك عن ملك المالك كما سبق ، فيجمع بين العين والقيمة» (٢).

وقد اتّضح من هذا أن قول الماتن قدس‌سره : «ما عن المسالك من أن ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب» غير مذكور في مسألة الخيط ، بل ذكره في حكم الخشبة ، ولكن حيث قال الشهيد الثاني قدس‌سره : «كما سبق ، فيجمع بين العين والقيمة» صحّت النسبة المزبورة ، لاتّحاد حكم الخيط والخشبة المغصوبين.

(١) أي : مالك الثوب.

(٢) أي : كما لا يأبى كلام المحقّق ـ في عنوان المسألة ـ عن الحمل على صورة تضرّر المالك .. إلخ.

(٣) يعني : مسألة البناء المستدخل فيه خشبة مغصوبة.

(٤) أي : وحين حمل فتواهم بتعيّن القيمة ـ في مسألتي الخيط والخشبة المغصوبين ـ على صورة تضرّر المالك فلا تنافي ما تقدّم .. إلخ.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٧٦.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ١٧٨.


وإن وجب بذل قيمته.

ثمّ إنّ هنا قسما رابعا (١) وهو ما لو خرج المضمون عن الملكيّة مع بقاء حقّ الأولويّة فيه ، كما لو صار الخلّ المغصوب خمرا. فاستشكل في القواعد وجوب

______________________________________________________

وجه المنافاة : أنّ بقاءه على ملك مالكه يقتضي وجوب ردّه ، فيجب إخراجه مقدّمة لردّه. وهذا الحكم ينافي حكمهم بعدم وجوب الإخراج ، لكشفه عن عدم وجوب الرّدّ.

وأمّا وجه عدم المنافاة فهو : أنّ وجوب الرّدّ مقيّد بعدم استلزامه الضرر على الرادّ.

والحاصل : أنّ المنافاة ناشئة من الملازمة بين الملكيّة ووجوب الرّدّ ، فالملازمة منحصرة بعدم تضرّر الرادّ بالرّد ، لا مطلقا حتى في صورة التضرّر به ، فيمكن ان يكون مالكا ، ولا يحب على الغاصب ردّه لتضرّره به ، هذا.

لكن كلام المسالك آب عن هذا الحمل ، لأنّه قال ـ فيما لو خيف من نزع الخشبة هلاك مال غير الحيوان أو هلاك نفس السفينة ، والمال له أو لمن يعلم أن فيها لوحا مغصوبا ـ بأنّ فيه وجهين : «أحدهما ، وهو الذي يقتضيه إطلاق المصنّف ، وصرّح به الأكثر : أنّه ينزع أيضا ، كما يهدم البناء لردّ الخشبة ، ولا يبالي بما صنع ، لأنّ دفع المغصوب إلى المالك واجب على الفور ، ولا يتمّ إلّا بهذا. وعدوان الغاصب لا يناسبه التخفيف ، وهو الذي أدخل الضرر على نفسه ..» (١).

(١) غرضه أنّ الأقسام والتقادير الثلاثة المتقدّمة كانت بالنسبة إلى العين المملوكة ، الّتي خرجت عن الملكيّة أو الماليّة رأسا. ويبقى حكم قسم آخر ، وهو خروج العين عن الملكيّة ، وتعلّق حق الأولويّة بها ، كما إذا غصب خلّا فانقلب عنده خمرا ، فإنّه يجب دفع قيمة الخلّ إلى المالك ، وهل يجب ردّ الخمر إليه ـ أيضا ـ أم لا؟ استشكل العلّامة فيه.

فالوجه في وجوب ردّها هو استصحاب الحكم قبل انقلابها خمرا ، للشكّ في

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ١٣ ، ص ١٧٧.


ردّها مع القيمة (١).

ولعلّه (٢) من استصحاب وجوب ردّها. ومن (٣) أنّ الموضوع في المستصحب ملك المالك ، إذ لم يجب إلّا ردّه ، ولم (٤) يكن المالك إلّا أولى به.

______________________________________________________

انتفاء وجوب الرّدّ بمجرّد الانقلاب.

والوجه في عدم وجوب الرّدّ منع جريان الاستصحاب هنا ، لأنّ متعلّق الحكم هو «مال الغير وملكه» وحيث إنّ المفروض زوال إضافة الملكيّة عن هذا المائع لم يبق مجال لاستصحاب الوجوب المتعلّق بمال الغير.

ثم تأمّل المصنّف في هذا الوجه ، بأنّ المستصحب وجوب ردّ المائع الذي طرأ عليه حالتا الخلية والخمرية ، وليستا مقوّمتين للموضوع حتى يقطع أو يشكّ في ترتّب الحكم عليه. ولهذا ذهب جمع إلى وجوب ردّها ، لأنّ المرجع في تعيين معروض المستصحب ـ أي الموضوع ـ هو العرف. ويتأيّد المطلب بما تقرّر من أنّه لو عادت الخمر خلّا وجب ردّه إلى المغصوب منه قطعا ، ولو كان الموضوع متعدّدا لم يكن وجه لوجوب الرّدّ.

(١) قال في القواعد : «ولو غصب عصيرا فصار خمرا ضمن المثل ، وفي وجوب الدفع إشكال .. فإن صار خلّا في يد الغاصب ردّه مع أرش النقصان إن قصرت قيمة الخلّ» (١).

(٢) أي : ولعلّ الاستشكال ينشأ من الاستصحاب ، والمحقّق الثاني جعل منشأ وجوب الرّدّ بقاء الأولويّة ، ثمّ قال : «وفي وجوب الدفع قوّة» (٢).

(٣) هذا وجه عدم وجوب الرّدّ ، لتعدّد الموضوع المانع عن الاستصحاب.

(٤) يعني : والحال أنّه ليس للمالك إلّا حقّ الأولويّة لا الملك ، وموضوع وجوب الرّد هو الملك.

__________________

(١) قواعد الاحكام ، ص ٨٠ ، السطر ٢٩ (الطبعة الحجرية).

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٩٢.


إلّا أن يقال : (١) إنّ الموضوع في الاستصحاب عرفيّ. ولذا (٢) كان الوجوب مذهب جماعة ، منهم الشهيدان والمحقّق الثاني (٣). (١)

ويؤيّده أنّه لو عاد خلّا ردّت إلى المالك بلا خلاف ظاهر (٤).

______________________________________________________

(١) غرضه ترجيح وجوب الرّدّ ، وقد عرفت تقريبه.

(٢) أي : ولأجل جريان الاستصحاب ـ لوحدة الموضوع عرفا ـ كان الوجوب مختار جماعة.

(٣) نعم ، لكن لا للاستصحاب الذي وجّه المصنّف الحكم به ، بل لوحدة موضوع دليل الضمان ، فراجع كلام المحقّق والشهيد الثانيين.

(٤) كما نقله صاحب الجواهر قدس‌سره حيث قال شارحا للمتن : «ولو غصب عصيرا فصار خمرا ثم صار خلّا في يد الغاصب قبل أن يدفع بدله ، بل وبعده إذا كان على وجه كدفع الحيلولة كان للمالك ، على ما صرّح به غير واحد ، بل عن رهن غاية المرام والمسالك نفي الخلاف فيه ، لأنّه عين ماله» (٢).

والظاهر عدم الإشكال في وجوب ردّه إلى المالك قبل دفع البدل. وأما بعد دفعه فقد استشكل فيه غير واحد على ما يظهر من عباراتهم ، لكنّه لا ينافي نفي ظهور عدم الخلاف.

ثمّ إنّ الوجه في جعله مؤيّدا لا دليلا هو عدم الملازمة بين ملك المالك له لو صار خلّا وبين ثبوت الحقّ ، لجواز أن يكون دخوله في ملكه لأجل كون أصله ملكا له حين كان خلّا ، فهو نظير الملك بالتبعيّة.

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١١٢ ؛ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٩٢ ؛ مسالك الافهام ، ج ١٢ ، ص ٢٣٧.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٩٩ و ٢٠٠.


ثمّ إنّ (١) مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم عن عهدة العين وضمانها ، فلا يضمن ارتفاع قيمة العين بعد الدفع (٢) ، سواء كان (٣) للسوق أو للزيادة المتصلة (٤) ، بل (٥) المنفصلة كالثمرة ، ولا يضمن منافعه (٦) ، فلا يطالب الغارم بالمنفعة بعد ذلك (٧).

______________________________________________________

ح : عدم ضمان ارتفاع القيمة والزيادة بعد دفع البدل

(١) هذا فرع آخر ممّا يتعلّق ببدل الحيلولة ، وهو عدم ضمان الغاصب ارتفاع قيمة العين بعد دفع البدل ، وقد سبق في الأمر السابع عدم ضمان ارتفاع قيمة العين التالفة على جميع الأقوال ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين أن يكون ارتفاعها قبل دفع القيمة وبعدها. وفصّل هناك بين كون ارتفاع القيمة للسوق فلا يضمن ، وبين الزيادة العينيّة فتضمن. هذا في التلف الحقيقيّ.

وأمّا زيادة القيمة في بدل الحيلولة فلا تضمن مطلقا.

وملخّص تقريب عدم الضمان : أنّ الغارم يخرج عن عهدة ضمان العين بدفع البدل ، ولازمه عدم ضمانه لزيادة قيمة العين مطلقا وإن كانت للزيادة في العين. وكذا لا يضمن منافعه ، لخروج العين عن عهدته وضمانها بدفع البدل ، فلا ارتباط للعين بالضامن.

(٢) أي : دفع بدل الحيلولة.

(٣) أي : كان ارتفاع القيمة.

(٤) كالسمن في الحيوان ، وتعلّم الصنعة في العبيد والإماء.

(٥) الإتيان بكلمة الإضراب لأجل أنّ ضمان الزيادة المنفصلة كالثمرة لا يخلو من وجه ، لكونها عينا اخرى يحتمل ضمانها ، لكن حيثيّة كونها نماء للعين المضمونة التي دفع بدلها إلى مالكها توجب عدم ضمانها.

(٦) في ضمان المنافع بعد دفع بدل الحيلولة قولان : أحدهما ذلك ، والآخر العدم كما سيأتي في المتن.

(٧) يعني : بعد دفع البدل. ووجه عدم ضمان المنافع حينئذ واضح ، إذ المفروض


وعن التذكرة وبعض آخر (١) ضمان المنافع ، وقوّاه (٢) في المبسوط بعد أن

______________________________________________________

خروج العين ـ بدفع البدل ـ عن ضمان الغاصب ، فلا مجال لقاعدة تبعيّة المنافع للعين في الملكيّة.

(١) الحاكي لكلام العلّامة وغيره هو السيّد العاملي وغيره ، قال قدس‌سره : «وقد قرّب في التذكرة اللزوم والوجوب ، وقال : إنّه أصحّ وجهي الشافعيّة ، لأنّ حكم الغصب باق ، وإنّما وجبت القيمة للحيلولة ، فيضمن الأجرة .. ومال إليه في المسالك ، وكأنّه قال به في مجمع البرهان وهو الأصحّ» (١). وجعله في الجواهر ـ بعد ما نسبه إلى جماعة ـ موافقا للتحقيق «لبقاء العين المغصوبة على ملك المالك ، وعلى وجوب ردّها على الغاصب مع التمكّن ، وعلى ضمانها وضمان نمائها ، وأنّ القيمة للحيلولة غرامة شرعيّة ثبتت بالأدلّة ، وهي لا تقتضي براءة ، ولا تغييرا للحال الاولى» (٢).

وفيه : أنّ القيمة المدفوعة اقتضاها الضمان على نحو اقتضائه لها في التلف على أن تكون تداركا لما فات ، فكأنّه لم يفت ، من غير فرق بين أن تكون بدلا عن العين أو عن الحيلولة ، فكأنّ العين في يده ، فكيف تكون حينئذ مضمونة؟

(٢) أي : قوّى ضمان المنافع ، قال شيخ الطائفة قدس‌سره : «وأجرتها ـ أي العين ـ من حين دفع القيمة إلى حين الرّدّ على وجهين ، أحدهما : لا اجرة عليه .. وهو الأقوى. والثاني : عليه أجرتها .. وهذا قويّ أيضا» (٣). فما نسبه المصنّف قدس‌سره إليه لا يخلو من مسامحة ، إذ الأقوى بنظر الشيخ هو عدم ضمان المنافع ، والقويّ ضمانها ، والأمر سهل.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٦ ، ص ٢٤٩ (أواخر الصفحة) ؛ تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٢ ؛ مسالك الأفهام ، ج ١٢ ، ص ٢٠١ ؛ مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٣٨.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ١٣٩.

(٣) المبسوط ، ج ٣ ، ص ٩٦.


جعل الأقوى خلافه. وفي موضع من جامع المقاصد «أنّه موضع توقّف» (١) وفي موضع آخر : رجّح الوجوب (٢).

ثم (٣) إنّ ظاهر عطف التعذّر على التلف في كلام بعضهم (١) ـ عند التعرّض لضمان المغصوب بالمثل أو القيمة ـ يقتضي عدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة

______________________________________________________

(١) قال بعد بيان وجهي الإشكال ـ في ضمان منافع العبد الآبق السابقة على الغرم ـ ما لفظه : «والمسألة موضع توقّف» (٢).

(٢) حيث قال بعد بيان وجهي الإشكال في ضمان النماء المتّصل والمنفصل ـ إذا تجدّد بعد دفع البدل ـ ما لفظه : «والأصحّ استحقاق الرجوع به أيضا على الغاصب ، استصحابا لما كان إلى أن يعلم المزيل» (٣).

ط : ضمان ارتفاع قيمة العين والنماء قبل دفع البدل إلى المالك

(٣) ما تقدّم بقوله : «ثمّ إن مقتضى الغرامة» إلى هنا كان حكم ارتفاع قيمة العين بعد أداء بدل الحيلولة ، وكذا منافعها المتجدّدة. وغرضه الآن بيان حكم ارتفاع القيمة قبل أداء البدل إلى المالك ، فأفاد قدس‌سره : أنّ مقتضى تنزيل التعذّر منزلة التلف في كلام مثل المحقّق قدس‌سره هو ترتيب آثار التلف على التعذر ، التي منها عدم ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة المتحقّق بعد التعذّر وقبل الدفع ، كالارتفاع الحاصل بعد التلف.

لكن مقتضى القاعدة ضمانه له ، وذلك لأنّ التلف يوجب تعيّن القيمة ، ولذا يجب على المالك قبولها ، وليس له الامتناع عن أخذها. بخلاف تعذّر العين ، إذ لا يتعيّن به القيمة ، بل للمالك الصبر إلى زمان التمكّن من العين ، وتبقى العين في عهدة الضامن في مدّة التعذّر. ولو تلفت كان للمالك قيمتها من حين التلف أو أعلى القيم أو يوم الغصب ، على الخلاف السابق.

__________________

(١) كالمحقق في المختصر النافع ، ج ٢ ، ص ٢٩٦ ؛ والعلامة في تحرير الاحكام ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٥١.

(٣) المصدر ، ص ٢٧٣.


الحاصل بعد التعذّر وقبل الدفع ، كالحاصل بعد التلف (١).

لكن مقتضى القاعدة (٢) ضمانه له (٣) ، لأنّ (٤) مع التلف يتعيّن القيمة (٥) ، ولذا ليس له الامتناع من أخذها. بخلاف تعذّر العين ، فإنّ القيمة غير متعيّنة ، فلو صبر المالك حتى يتمكّن من العين كان له ذلك ، ويبقى العين في عهدة الضامن في هذه المدّة ، فلو تلفت كان له قيمتها من حين التلف ، أو أعلى القيم إليه ، أو يوم الغصب على الخلاف.

والحاصل : أنّ قبل دفع القيمة يكون العين الموجودة في عهدة الضامن ، فلا عبرة بيوم التعذّر.

والحكم (٦) بكون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف مع الحكم بضمان الأجرة

______________________________________________________

والحاصل : أنّ العين الموجودة قبل دفع بدلها تكون في عهدة الضامن. وعليه فلا عبرة بيوم التعذّر ، والحكم بكون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف.

(١) على ما صرّح به في الأمر السابع بقوله : «ثم إنّه لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على جميع الأقوال» ومراده بالقيمة هي السوقيّة ، لا لزيادة عينيّة ، كما صرّح به هناك أيضا ، فراجع (ص ٥٤٩).

(٢) يعني : قاعدة كون بدل الحيلولة غرامة ، لا بدلا عن العين المتعذّرة.

(٣) أي : ضمان الغاصب لارتفاع القيمة.

(٤) هذا بيان الفارق بين التلف والتعذّر في عدم ضمان الارتفاع في الأوّل ، وضمانه في الثاني.

(٥) يعني : لا يملك مالك العين التالفة ـ في عهدة الضامن ـ إلّا القيمة.

(٦) غرضه تضعيف كون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف ، وحاصله : أنّ الالتزام بذلك يوجب التناقض. توضيحه : أنّ لازم كون يوم التعذّر كيوم التلف عدم ضمان الأجرة والنماء بالتعذر وقبل أداء البدل ، فالحكم بضمان الأجرة والنماء بعد التعذّر وقبل أداء البدل مناف لذلك ، فمقتضى القاعدة ضمان ارتفاع القيمة إلى يوم دفع البدل.

وأمّا بعده فلا.


والنماء إلى دفع البدل وإن تراخى (١) عن التعذّر مما لا يجتمعان ظاهرا ، فمقتضى القاعدة ضمان الارتفاع إلى يوم دفع البدل ، نظير دفع القيمة (٢) عن المثل المتعذّر في المثليّ.

ثم (٣) إنّه لا إشكال في أنّه إذا ارتفع تعذّر ردّ العين وصار ممكنا وجب ردّها (٤) إلى مالكها ـ كما صرّح به في جامع المقاصد ـ فورا (٥) وإن كان في إحضارها

______________________________________________________

(١) أي : تراخى دفع البدل. وغرضه أنّه لا فرق في التنافي بين الحكمين ـ وهما كون يوم التعذّر بمنزلة يوم التلف ، ووجوب دفع بدل المنفعة قبل دفع بدل الحيلولة ـ بين أن يدفع بدل الحيلولة عقيب تعذّر ردّ العين فورا ، أم بعده تراخيا.

والوجه في عدم الفرق كون التعذّر بمنزلة التلف ، فكما لا موضوع لضمان ارتفاع قيمة التالف ، فكذا لا مجال لضمان ارتفاع قيمة العين المتعذّر إيصالها إلى المالك. فالقول بضمان الارتفاع منوط برفع اليد عن المبنى ، وهو وحدة حكم التلف والتعذّر.

(٢) يعني : نظيره في ضمان ارتفاع القيمة إلى يوم دفعها في المثليّ المتعذّر مثله.

ي : وجوب ردّ العين فورا بارتفاع العذر

(٣) هذا فرع آخر من فروع بدل الحيلولة ، وهو وجوب ردّ العين إلى مالكها بمجرّد ارتفاع التعذّر والتمكّن منه ، ولو توقّف إحضار العين على مئونة وجب على الضامن بذلها ، كما وجب بذلها قبل التعذّر ، يعني : لو وضع يده على مال الغير وأمكن إيصاله إليه وجب ردّه فورا ، سواء توقّف على بذل مئونة أم لم يتوقّف عليه. لكون البذل مقدّمة للرّد الواجب ، على ما سبق تفصيله في الأمر الثاني ، فلاحظ (ص ٢٠١).

(٤) لأنّه عين ماله ، ومع إمكان دفعها لا تصل النوبة إلى بدلها ، والغرامة المدفوعة إلى المالك إنّما تكون بدلا دائميّا في صورة تلف العين ، لا في صورة وجودها ، إذ البدليّة حينئذ ماداميّة.

(٥) قال قدس‌سره في الظفر بالعبد الآبق المغصوب : «بل يجب على الغاصب ردّ العبد


مئونة كما كان قبل التعذّر ، لعموم (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (٢). ودفع (٣) البدل لأجل الحيلولة إنّما أفاد خروج الغاصب عن الضمان ، بمعنى انّه لو تلف لم يكن عليه قيمته بعد ذلك (٤) ، واستلزم ذلك (٥) [ولازم ذلك]

______________________________________________________

مطلقا على الفور» (١). وتقدم كلام آخر منه (في ص ٢٠٢) دالّ على كون مئونة الرّدّ على المشتري ، فراجع.

(١) تعليل لوجوب ردّ العين.

(٢) لأنّ الغاية لا تصدق حقيقة إلّا بردّ نفس العين لا بدلها.

هذا بناء على دلالة الحديث على خصوص الحكم التكليفيّ أو الأعمّ منه ومن الوضعيّ. وأمّا بناء على ظهوره في الوضع ـ كما تقدّم في أوّل مسألة المقبوض بالبيع الفاسد ـ فقد يشكل استظهار وجوب الرّد من الحديث ، فتأمّل.

(٣) مبتدء ، خبره «إنما أفاد» تعرّض المصنّف قدس‌سره لدفع توهّمين قد يردا على وجوب ردّ العين المضمونة بعد زوال التعذّر.

الأوّل : أنّه لا يجب ردّ العين إلى مالكها ، إذ الضامن دفع الغرامة إلى المالك ، وهي ماليّة العين ، ومقتضى التدارك عدم وجوب ردّ العين بعد ارتفاع العذر.

ودفعه المصنف قدس‌سره بأنّ بدل الحيلولة لا يرفع التكليف بردّ العين ، وإنّما يفيد أمرين ، أحدهما : خروج الضامن عن عهدة قيمة العين لو تلفت بعد أداء البدل ، فيصير البدل المحدود دائميّا ، ولا يجب شي‌ء آخر.

ثانيهما : عدم ضمان المنافع الحاصلة في العين بعد دفع الغرامة.

ومن المعلوم أنّ هذين الحكمين المترتّبين على أداء بدل الحيلولة لا يمنعان عن فعليّة وجوب ردّ العين عند التمكّن منه.

(٤) أي : بعد التلف.

(٥) أي : خروج الغاصب عن الضمان ، وهو إمّا فاعل «يستلزم» وإمّا مضاف

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦١.


على ما اخترناه (١) عدم ضمان المنافع والنماء المنفصل والمتّصل بعد دفع الغرامة.

وسقوط (٢) وجوب الرّدّ حين التعذّر للعذر العقليّ ، فلا يجوز استصحابه ، بل مقتضى الاستصحاب (٣) والعموم هو الضمان المدلول عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

______________________________________________________

إليه لقوله : «ولازم» بناء على ما في بعض النسخ ، وقوله : «عدم ضمان» إمّا مفعول ل «يستلزم» وإمّا خبر ل «لازم».

وعلى كلّ فعدم ضمان المنافع ـ بعد أداء بدل الحيلولة ـ حكم آخر ، وهو يترتّب على الحكم الأوّل أعني به خروج الغاصب عن عهدة العين

(١) من قوله : «ثمّ إنّ مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم ..».

(٢) مبتدء ، خبره قوله : «للعذر العقليّ». وهذا إشارة إلى التوهّم الثاني ، وحاصله : أنّه لا يجب ردّ العين بعد التمكّن منه ، وذلك لاستصحاب عدم وجوب ردّها حال التعذّر ، ومع هذا الأصل المحرز لا مجال لتكليف الضامن بردّ العين عند القدرة عليه.

وقد دفعه المصنف قدس‌سره بمنع جريان الاستصحاب هنا ، لانتفاء قيد المستصحب ، توضيحه : أنّ سقوط وجوب دفع العين كان مقيّدا عقلا بالتعذّر المسقط للتكليف ، وحيث إنّ المفروض زوال العذر ، فلو أريد تسوية الحكم إلى ما بعد التعذّر كان إثبات حكم موضوع لموضوع آخر ، ولا معنى للاستصحاب حينئذ.

(٣) بأن يقال : إنّ المتيقن في السابق هو الضمان مطلقا في حالتي التعذّر والتمكّن ، ودفع الغرامة في حال التعذّر يوجب الشك في أنّ المرتفع به أصل الضمان أو خصوص الضمان في حال التعذّر وما دام متعذّرا ، فلا يحصل القطع بارتفاع الضمان بالمرّة ، بل هو مشكوك فيه ، لاحتمال ارتفاع الضمان الخاصّ لا أصله ، فلا مانع من استصحاب أصل الضمان في حال التمكّن. ويترتّب عليه وجوب الرّدّ ، لوجود المقتضي وهو الضمان ، وعدم المانع عنه وهو التعذّر.


وهل الغرامة (١) المدفوعة تعود ملكه إلى الغارم بمجرد طروء التمكّن ،

______________________________________________________

ثم إنّ الجمع بين الاستصحاب والعموم خلاف ما قرّره قدس‌سره في الأصول من حكومة الثاني على الأوّل.

ك : هل ينتقل البدل إلى الغارم بتمكّن دفع العين؟

(١) هذا فرع آخر من فروع بدل الحيلولة ، وهو أنّه : إذا تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المالك بعد دفع بدل الحيلولة ، ولكنّه لم يوصل العين إلى المالك ، ففي خروج بدل الحيلولة من ملك المضمون له ، وعدمه وجهان :

الأوّل : أنّ التمكّن من العين يوجب خروج البدل عن ملك المضمون له ، ودخوله في ملك الضامن ، وحيث إنّه لم يوصل العين إلى مالكها يصير ضامنا لها بضمان جديد. ويترتب عليه أنّه لو تلفت عنده اعتبرت قيمتها الفعليّة ، لا قيمتها السابقة في حال التعذّر. فبناء على ضمان القيميّ بقيمة يوم الضمان تتعيّن قيمتها يوم التمكّن منها ، أي حين ارتفاع العذر.

وبناء على ضمانه بقيمة يوم التلف تعتبر قيمتها فيه.

وبناء على ضمان أعلى القيم بين وقت الضمان والتلف يتعيّن أعلاها.

الثاني : أنّ مجرّد التمكّن من العين لا يقتضي انتقال بدل الحيلولة إلى ملك الغارم ، فلو لم يوصلها إليه وتلفت عنده لم يضمنها بضمان جديد ، بل يصير بدل الحيلولة بدلا دائميّا مستقرّا ، بعد أن كان بدلا محدودا مغيّا بوصول العين أو تلفها. وحينئذ ينتفي احتمال ضمان يوم القبض أو وقت التلف أو الأعلى بينهما.

واستظهر المصنّف قدس‌سره هذا الاحتمال ، واستدلّ عليه بالاستصحاب ، بتقريب : أنّ بدل الحيلولة كان ملكا لمالك العين حين التعذّر ، ولو شك في زواله بمجرّد تمكّن الضامن من ردّ العين جرى استصحاب ملكه له.


فيضمن (١) العين من يوم التمكّن ضمانا جديدا (٢) بمثله أو قيمته يوم (٣) حدوث الضمان ، أو (٤) يوم التلف ، أو أعلى القيم. أو أنّها باقية على ملك مالك العين ، وكون (٥) العين مضمونة بها لا بشي‌ء آخر في ذمّة الغاصب ، فلو تلفت (٦) استقرّ ملك المالك على الغرامة ، فلم (٧) يحدث في العين إلّا حكم تكليفيّ بوجوب ردّه ، وأمّا الضمان وعهدة جديدة فلا؟ وجهان (٨) ، أظهرهما الثاني (٩) لاستصحاب كون العين مضمونة بالغرامة ، وعدم طروء ما يزيل ملكيّته عن الغرامة ، أو يحدث (١٠) ضمانا جديدا.

______________________________________________________

(١) هذا متفرّع على عود بدل الحيلولة ـ الذي هو بدل محدود بالتعذّر ـ إلى ملك الغارم ، واشتغال ذمّته بقيمة أخرى كما عرفت.

(٢) في قبال بدل الحيلولة الذي كان ضمانا قديما في حال تعذّر ردّ العين.

(٣) متعلّق ب «قيمته» أي : قيمته يوم حدوث الضمان ، أو قيمته يوم التلف أو أعلى القيم ، على الخلاف المتقدّم في الأمر السادس والسابع.

(٤) هذا عدل قوله : «تعود» يعني : هل الغرامة تعود ملكا إلى الغارم أم هي باقية على ملك مالك العين؟ وقد أوضحناه آنفا بقولنا : «الثاني : أن مجرّد التمكّن من العين ..».

(٥) بالجرّ معطوف على «ملك» المجرور ب «على». والواو بمعنى «مع» أي : مع كون العين مضمونة بتلك الغرامة لا بغيرها. وضمير «بها» راجع إلى الغرامة.

(٦) أي : فلو تلفت العين ـ بيد الغاصب بعد التمكّن من ردّها إلى المالك ـ صار بدل الحيلولة ملكا مستقرّا لمالك العين ، ولم يحدث ضمان جديد.

(٧) هذا متفرّع على بقاء ملك الغرامة لمالك العين ، وعدم انتقالها إلى الغارم بمجرّد تمكّنه من ردّ العين إلى مالكها.

(٨) خبر قوله : «وهل الغرامة المدفوعة».

(٩) وهو بقاء الغرامة على ملك المغصوب منه.

(١٠) معطوف على «يزيل» و «يحدث» بصيغة الفاعل من باب الافعال ، يعني :


ومجرّد (١) عود التمكّن لا يوجب عود سلطنة المالك حتى يلزم من بقاء مالكيّته على الغرامة الجمع بين العوض والمعوّض.

غاية ما في الباب (٢) قدرة الغاصب على إعادة السلطنة الفائتة المبدلة عنها بالغرامة ، ووجوبها عليه.

وحينئذ (٣) فإن دفع العين فلا إشكال في زوال ملكيّة [مالكية] المالك للغرامة.

وتوهّم (٤) أنّ المدفوع كان بدلا عن القدر الفائت من السلطنة في زمان

______________________________________________________

وعدم طروء ما يزيل ملكيّته من الغرامة ، أو ما يحدث ضمانا جديدا ، فمجرّد تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المالك لا يجدي في رفع الضمان ، بل الضمان باق على حاله.

(١) غرضه قدس‌سره بيان عدم طروء ما يزيل ملكيّة مالك العين لبدل الحيلولة ، إذ قد يتوهّم : اختصاص البدل بحال التعذّر ، فلو فرض تمكّن الغاصب من إيصال العين إلى مالكها لزم خروج بدل الحيلولة إلى ملك الغارم حتى لا يجتمع العوض والمعوّض عند واحد.

وأجاب عنه المصنف بعدم عروض ما يزيل ملكيّة المضمون له للبدل ، وبقاء ملاك تغريم الضامن ، وذلك لأنّ فوات سلطنة المالك على ماله اقتضى دفع البدل ، ولا فرق فيه بين تمكّن الغاصب من ردّ العين وبين تعذّره عليه. فخروج البدل عن ملك مالك العين منوط بوصولها إليه. وعليه فلا موضوع للجمع بين العوض والمعوّض عند واحد.

(٢) يعني : غاية ما يلزم من عود تمكّن الغاصب من ردّ المغصوب إلى المغصوب منه هو قدرته على إعادة ما فات عن المالك من السلطنة الّتي أبدلت بالغرامة.

(٣) يعني : وحين قدرة الغاصب على إعادة السلطنة ، فإن دفع العين فلا إشكال في زوال مالكيّة المالك للغرامة.

(٤) غرض المتوهّم منع عود بدل الحيلولة إلى الغاصب بعد دفع العين إلى


التعذّر فلا يعود ، لعدم عود مبدله ، ضعيف في الغاية. بل كان (١) بدلا عن أصل السلطنة يرتفع (٢) بعودها ، فيجب دفعه أو دفع بدله مع تلفه ، أو خروجه (٣) عن ملكه بناقل لازم بل جائز.

ولا يجب (٤) ردّ نمائه المنفصل.

______________________________________________________

المالك. وتقريبه : أنّ بدل الحيلولة لمّا كان عوضا عن السلطنة الفائتة في زمان تعذّر ردّ العين إلى مالكها لم يكن موجب لإعادته إلى الغاصب ، ضرورة أنّ محذور اجتماع العوض والمعوّض غير لازم في المقام ، لأنّ بدل الحيلولة كان بدلا عن السلطنة الفائتة التي يستحيل عودها إلى المالك. والسلطنة الحادثة بعد ردّ العين لم تكن في قبال بدل الحيلولة. وعليه فلا وجه لأن يقال : «فلا إشكال في زوال ملكيّته للغرامة ، بل يبقى البدل على ملكيّة المضمون له».

ودفعه قدس‌سره بقوله : «ضعيف في الغاية» وبيانه : أنّ الغرامة التي دفعها الضامن كانت بدلا عن أصل السلطنة ، بحيث تكون البدليّة ملحوظة بين البدل والسلطنة حدوثا وبقاء. ففي زمان التعذّر يكون البدل بدلا عن السلطنة في ذلك الزمان ، وفي زمان التمكّن لو بقي البدل ملكا للمالك كان ملكا له بلا مبدل منه ، لعدم فوات السلطنة في ذلك الزمان حتى يكون مبدلا منه.

(١) أي : بل كان المدفوع بدلا عن أصل السلطنة.

(٢) يعني : يرتفع البدل عن البدليّة بعود السلطنة ، فيجب حينئذ دفع البدل إلى الضامن ، أو دفع بدله مع تلفه ، أو خروجه عن ملك المغصوب منه بناقل لازم بل جائز ، لكون النقل كالتلف.

(٣) معطوف على «تلفه» يعني : أنّ وجوب دفع البدل ثابت في التلف وفي الخروج عن الملك بناقل.

(٤) لأنّه نماء ملكه بما أنّه ملكه ، لا بما أنّه بدل عن السلطنة حتى يجري عليه حكم العين من الرجوع إلى ملك الغارم. وأمّا النماء المتّصل فهو تابع للعين عرفا ،


ولو لم يدفعها (١) لم يكن له مطالبة الغرامة أوّلا ، إذ ما لم يتحقق السلطنة لم يعد الملك إلى الغارم ، فإنّ الغرامة عوض السلطنة ، لا عوض قدرة الغاصب على تحصيلها للمالك ، فتأمّل (٢).

نعم (٣) للمالك مطالبة عين ماله ،

______________________________________________________

فينتقل إلى الغارم ، كما أنّ العين تنتقل إليه.

(١) معطوف على قوله : «فإن دفع العين» يعني : ولو لم يدفع الغارم العين المغصوبة إلى المالك لم يكن له مطالبة الغرامة من المالك ، لأنّ الغرامة عوض السلطنة الفائتة ، لا عوض قدرة المالك على تحصيل السلطنة. نعم يجوز للمالك المطالبة بالعين كما سيأتي.

(٢) الظاهر أنّه إشارة إلى تثبيت ما ذكره ، ودفع توهم كون المقام نظير البيع ، وأنّ لكلّ من البائع والمشتري امتناع تسليم ماله حتى يتسلّم مال الآخر.

ووجه الاندفاع هو الفرق بين باب الغرامة وباب المعاوضة ، إذ لا ريب في عوضيّة كلّ من الثمن والمثمن عن الآخر. بخلاف المقام ، فإنّ الغرامة عوض ، والسلطنة معوّض ، فما لم يرتفع المعوّض ـ بمعنى تحقّق السلطنة للمالك وعودها إليه ـ لم يرجع الغرامة إلى الغارم.

(٣) غرضه بيان الفارق بين الضامن والمضمون له في مطالبة كلّ منهما ما له ، فالضامن ليس له مطالبة الغرامة قبل تسليم العين إلى المالك كما عرفت آنفا. وأمّا المالك فيجوز له مطالبة عين ماله من الضامن ، وذلك لإطلاق قاعدة السلطنة ، فإن طالبه وردّ الضامن العين اتّجه ردّ بدل الحيلولة إليه ، وإلّا فلا.

فإن قلت : كما يجوز للغارم مطالبة البدل ، فكذا ليس للمالك مطالبة العين ، فهما سواء من هذه الجهة. والوجه في عدم استحقاق المالك المطالبة بالعين هو : أنّ الغرامة التي دفعها الضامن تكون بدلا عن سلطنته التامة على ماله ، فالسلطنة المطلقة للملّاك على أموالهم غير ثابتة في المقام ، لفرض تدارك سلطنته على العين ببدل الحيلولة الذي


لعموم (١) «الناس مسلطون على أنفسهم» وليس (٢) ما عنده من المال عوضا من مطلق السلطنة (٣) حتى سلطنة المطالبة ، بل (٤) سلطنة الانتفاع بها على الوجه المقصود من الأملاك. ولذا (٥) لا يباح لغيره بمجرّد بذل الغرامة.

______________________________________________________

دفعه الضامن إليه ، وبتحديد سلطنته وتضييقها لا سبيل لإثبات استحقاق مطالبة العين. وعليه فإن اختار الضامن ردّ العين إلى مالكها استردّ بدل الحيلولة منه ، وإلّا فليس لأحد منهما المطالبة.

قلت : إنّ قاعدة السلطنة تقتضي جواز مطالبة العين من الغارم. ولا يتضيّق هذا الحقّ إلّا بكون بدل الحيلولة بدلا عن سلطنة المالك المطلقة على ماله ، أو بدلا عن سلطنته على مطالبة ماله ، إذ على كلّ منهما يسقط حقّ المطالبة ولا بدّ من انتظار إقدام الضامن حينئذ بأن يردّ العين إلى المالك ويستردّ البدل. ولكنّ الصحيح احتمال ثالث ، وهو كون بدل الحيلولة بدلا عن خصوص سلطنة انتفاع المالك بالمال ، المفروض فواتها في زمان تعذّر الوصول إلى العين ، وأمّا سلطنته المطلقة على جميع أنحاء التقلّب في المال فلم تقابل ببدل الحيلولة حتى يسلب عن المالك حقّ مطالبة العين.

(١) المراد بالعموم هو الإطلاق كما مرّ غير مرّة.

(٢) هذا إشارة إلى وهم ، وجوابه قوله : «بل سلطنة الانتفاع» وقد أوضحناهما بقولنا : «فان قلت. قلت».

(٣) إذ لو كان بدل الحيلولة بدلا عن مطلق السلطنة ـ بأن كانت العين المسلوبة السلطنة عليها ملكا للمضمون له ـ لم يستحقّ المالك مطالبة العين.

(٤) يعني : يكون بدل الحيلولة عوضا عن بعض أنحاء السلطنة ، وهو سلطنة الانتفاع بالملك. وأمّا السلطنة على الجهات الأخرى فباقية للمالك ، ولم تعوّض بشي‌ء أصلا ، وبناء على هذا فله المطالبة.

(٥) غرضه إقامة الشاهد على كون بدل الحيلولة عوضا عن حيثيّة خاصّة من حيثيّات السلطنة ، أي : ولأجل عدم كون الغرامة عوضا عن مطلق السلطنة لا يباح العين لغير


وممّا ذكرنا (١) يظهر أنّه ليس للغاصب حبس العين إلى أن يدفع المالك ، القيمة ، كما اختاره (٢) في التذكرة والإيضاح وجامع المقاصد (١).

وعن التحرير (٢) الجزم بأنّ له ذلك (٣). ولعلّه (٤) لأنّ القيمة عوض ، إمّا عن العين ، وإمّا عن السلطنة عليه. وعلى أي تقدير فيتحقّق التّراد.

وحينئذ فلكلّ من صاحبي العوضين حبس ما بيده حتى يتسلّم ما بيد الآخر (٥).

______________________________________________________

المالك ، يعني : أنّ مالك العين لو بذل الغرامة للغاصب ـ بأن قال : «ما أريد منك الغرامة» أو ردّها إليه على وجه البذل والعطيّة بعد أخذها منه ـ لم يكن مجرّد بذلها موجبا لإباحة العين للغاصب.

ولو كانت الغرامة عوضا عن مطلق سلطنة المالك حتى سلطنة المطالبة وقد بذل العوض بعد قبضه أو قبله كان ذلك بمنزلة بذل المعوّض عنه ، وكان من اللازم سقوط سلطنة المطالبة ، بل إباحة العين للغاصب.

(١) يعني : من عدم عود الغرامة إلى ملك الغارم إلّا بعد إرجاع السلطنة على العين إلى مالكها يظهر أنّه ليس للغاصب حبس العين إلى أن يردّ مالك العين القيمة المدفوعة غرامة ، إذ ليس للغاصب حينئذ مال عند المالك حتّى يجوز له ذلك ، كما في المعاوضة.

(٢) أي : عدم جواز الحبس.

(٣) أي : الحبس.

(٤) يعني : ولعلّ وجه جزم التحرير بأنّ للغاصب حبس العين إلى دفع المالك إليه القيمة هو تحقّق المعاوضة بين العين والبدل بأحد نحوين ، فإمّا أن يكون المعوّض نفس العين ، وإمّا السلطنة المطلقة عليها.

وعلى كلّ منهما يجوز للغاصب حبس العين حتى يردّ المالك البدل إلى الغارم ، ولا يجب عليه المبادرة إلى تسليم العين إليه ، كما يجوز للمالك الحبس حتى تصل إليه العين.

(٥) كما هو الشأن في المعاوضات.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٥ ، إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٧٨ ، جامع المقاصد ؛ ج ٦ ، ص ١٦١.

(٢) تحرير الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ، والحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ؛ ج ٦ ، ص ٢٥٦.


وفيه (١) : أنّ العين بنفسها ليست عوضا ولا معوّضا (٢) ، ولذا تحقّق للمالك الجمع بينها وبين الغرامة ، فالمالك مسلّط عليها (٣). والمعوّض للغرامة السلطنة التي هي في معرض العود بالتّراد.

اللهم إلّا أن يقال : له حبس العين من حيث تضمّنه لحبس (٤) مبدل الغرامة ، وهي السلطنة الفائتة.

والأقوى الأوّل (٥).

ثمّ لو قلنا (٦) بجواز الحبس لو حبسه فتلفت العين محبوسا ؛ فالظاهر أنّه

______________________________________________________

(١) حاصل المناقشة في جواز حبس العين هو عدم تحقّق المعاوضة بين العين والبدل. أمّا عدم كون العين عوضا فمعلوم. وأمّا عدم كونها معوّضا فلأنّ بدل الحيلولة غرامة عن سلطنة الانتفاع الثابتة لكلّ مالك على ماله. وممّا يشهد بعدم تحقّق المعاوضة اجتماع العين والبدل في ملك المضمون له ، مع أنّ قوام المعاوضة بدخول أحد العوضين في كيس من خرج منه العوض الآخر. وهذا كاشف عن كون البدل عوضا عن السلطنة الفائتة.

(٢) حتى يجوز للغارم حبس العين عن المالك إلى أن يأخذ الغرامة منه ، وكذا حبس المالك الغرامة حتى يتسلّم العين من الغارم.

(٣) أي : على الغرامة.

(٤) أي : للغاصب حبس العين ، وحاصله : أنّ حبس العين علّة لحبس السلطنة التي هي مبدل الغرامة ، فيكون من هذه الحيثيّة نظير المعاوضة.

(٥) وهو عدم جواز حبس العين للغاصب.

ل ـ لو حبس العين فتلفت ، فالعبرة بأيّ القيم؟

(٦) هذا من فروع المسألة ، وتعبيره ب «لو قلنا» ظاهر في عدم التزامه به ، لما تقدّم منه من عدم خروج الغرامة عن ملك مالك العين بمجرّد تمكن الغاصب من ردّها إليه ، إذ بناء عليه لا مجال لجواز حبس العين.

وعليه فكلامه هنا مبنيّ على مقالة العلّامة قدس‌سره في التحرير ، فأفاد المصنف قدس‌سره :


لا يجري عليه حكم المغصوب ، لأنّه حبسه بحقّ (١).

نعم (٢) يضمنه ، لأنّه قبضه لمصلحة نفسه.

والظّاهر أنّه (٣) بقيمته يوم التلف (*) على ما هو الأصل في كلّ مضمون (**).

______________________________________________________

أنّ الغاصب لو حبس العين لم يجر عليها حكم المغصوب بقول مطلق ، بل ينفكّ التكليف عن الوضع ، فلا تكليف بوجوب ردّها إلى المالك ، لكون حبسها حقّا له. ولكنّه يضمنها لو تلفت في الحبس. ويتفرّع على اشتغال عهدته بها أنّ العبرة هل تكون بقيمته يوم الحبس أو يوم التلف أو أعلى القيم؟ فبناء على ضمان القيميّ بقيمته يوم التلف يضمنها الغاصب هنا.

(١) إذ كان له ذلك حتى يتسلّم الغرامة من المالك ، فكان الحبس بحكم الشارع ، فلا إثم عليه.

(٢) غرضه أنّ نفي حكم الغصب إنّما هو بالنسبة إلى الحرمة التكليفية فقط. وأمّا الحكم الوضعيّ ـ وهو الضمان ـ فهو باق ، لأنّه قبضه لمصلحة نفسه ، كما في المستام. والخارج عن عموم «على اليد» المقتضي للضمان هو خصوص اليد الثابتة على مال الغير لمصلحة المالك ، فلو لم تكن اليد لمصلحة المالك كانت مضمّنة.

(٣) أي : أنّ المغصوب مضمون بقيمته يوم التلف ، لأنّه زمان الانتقال إلى القيمة.

__________________

(*) الظاهر كما عن المحقّق الرشتي قدس‌سره منافاة العبرة بقيمته يوم التلف لما اختاره سابقا من عدم تجدّد الضمان بمجرّد التمكّن ، وأنّ العين مضمونة بالغرامة المدفوعة ، لا بما في ذمّة الغاصب حتى يكون المدار على قيمة يوم التلف.

لكن يمكن توجيه ضمان قيمة يوم التلف بابتنائه على نظر العلّامة القائل بجواز الحبس المقتضي لتجدّد الضمان عند التمكّن.

(**) هذا صحيح بناء على كون المضمون بعهدة الضامن. وأمّا في موارد بدل الحيلولة تكون الغرامة المدفوعة بدلا عن المضمون بحيث لو تلفت العين كانت مضمونة ببدل الحيلولة.


ومن قال بضمان المقبوض بأعلى القيم (١) يقول به هنا من زمان الحبس (٢) إلى زمان التلف.

وذكر العلّامة في القواعد «أنّه لو حبس ، فتلف محبوسا فالأقرب ضمان قيمته الآن ، واسترجاع القيمة الأولى» (١).

والظاهر أنّ (٣) مراده بقيمة الآن مقابل القيمة السابقة بناء على زوال حكم الغصب عن العين ، لكونه (٤) محبوسا بغير عدوان ، لا خصوص (٥) حين

______________________________________________________

(١) كما هو مذهب جماعة من القدماء ، على ما سبق في الأمر السادس والسابع.

(٢) يعني : لا من زمان الغصب ، إذ المفروض أنّ الغرامة كانت بدلا عن العين. وأمّا بعد التمكّن من ردّها وجواز حبسها لاسترداد بدل الحيلولة فالمدار في ضمانها لو تلفت على أعلى القيم من زمان الحبس إلى زمان التلف ، لتجدّد الضمان بالحبس.

(٣) لمّا كان ظاهر «الآن» اعتبار قيمة وقت تلف العبد ، فتصدّى المصنّف لتوجيهه بأنّ المراد ليس خصوص القيمة الفعليّة ، بل ما يقابل القيمة السابقة ، وهي زمان غصب العبد. ولعلّ الداعي إلى هذا الحمل اختيار العلّامة ضمان أعلى القيم ، لا قيمة يوم التلف ، فيراد من «قيمته الآن» تمام زمان الحبس ، لا خصوص يوم التلف ، فلو كانت قيمته أوّل أيّام الحبس أكثر من قيمته يوم التلف لم يبعد ضمان الأكثر.

ولو أبقينا «الآن» على ظاهره ـ وهو يوم التلف ـ كان منافيا لمختار العلّامة في القواعد من ضمان أعلى القيم.

(٤) تعليل لزوال حكم الغصب ، لفرض تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى مالكها وامتناعه عن تسلّمها ، وردّ بدل الحيلولة ، فحبس العين يكون حقّا للغاصب وإن كان ضامنا بضمان جديد ، فلو اختلفت قيمتها من يوم حبسها إلى يوم تلفها لم تتعيّن قيمة يوم التلف ، بل يرجع إلى ما أسّسه كلّ في ضمان القيمي ، من أنّ العبرة بقيمة يوم الضمان ، أو التلف ، أو الأعلى بينهما.

(٥) لمخالفته لمبنى العلّامة قدس‌سره من ضمان أعلى القيم.

__________________

(١) قواعد الاحكام ، ص ٧٩ ، السطر ٣٠ (الطبعة الحجرية).


التلف وكلمات كثير منهم لا تخلو عن اضطراب (١).

ثم إنّ أكثر ما ذكرناه مذكور في كلماتهم في باب الغصب ، لكن (٢) الظاهر أنّ أكثرها ـ بل جميعها ـ حكم المغصوب من حيث كونه مضمونا ، إذ ليس في الغصب خصوصيّة زائدة.

نعم ربّما يفرّق من جهة نصّ في المغصوب مخالف (٣) لقاعدة الضمان ، كما احتمل في الحكم بوجوب قيمة يوم الضمان من جهة صحيحة أبي ولّاد ، أو أعلى القيم ، على ما تقدّم من الشهيد الثاني دعوى دلالة الصحيحة عليه (٤).

وأمّا (٥) ما اشتهر من «أنّ الغاصب مأخوذ بأشقّ الأحوال» فلم نعرف له

______________________________________________________

(١) كما يظهر بمراجعة كلام السيد العميد والمحقق الثاني (١) وما علّقه صاحب الجواهر عليه.

هذا تمام الكلام في بدل الحيلولة ، وبه تمّ الكلام في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد.

(٢) يعني : لا في المقبوض بالبيع الفاسد. وغرضه بيان وجه ما فصّله في ضمان القيميّ والمثليّ وبدل الحيلولة مع كونها مذكورة في باب الغصب ، ووجه التّعدّي منه إلى غيره من موارد الضمان ـ كالمقبوض بالعقد الفاسد ـ هو : أنّ الغصب لمّا كان أجلى أفراد موجبات الضمان فقد ذكروا أحكام الضمان فيه ، وعليه فتكون الأحكام أحكام كلّ مضمون ، لا خصوص المضمون بالغصب.

(٣) مخالفة الغصب للقاعدة المقتضية لضمان قيمة يوم التلف مبنيّة على دلالة صحيحة أبي ولّاد على اعتبار قيمة يوم الغصب ، وذلك غير ظاهر كما سبق بيانه عند التكلّم في مفاد الصحيحة.

(٤) وقد تقدّم هناك تفصيل البحث.

(٥) غرضه أنّه قد يتوهّم دلالة ما اشتهر من «أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال» على ضمان المغصوب بأعلى قيمته ، لأنّ المناسب بحاله هو جبران خسارة المضمون له بدفع الأشقّ وهو أعلى القيم. ولا بأس به دلالة ، لكن حيث إنّ هذه

__________________

(١) كنز الفوائد ، ج ١ ص ٦٦٢ جامع المقاصد ، ج ٦ ، ص ٢٦٢.


مأخذا واضحا (١).

ولنختم بذلك أحكام المبيع بالبيع الفاسد ، وإن بقي منه آخر أكثر مما ذكر (٢) ،

______________________________________________________

القاعدة لم تكن مفاد رواية معتبرة ، ولا متصيّدة من نصوص متفرّقة لم يكن وجه للاعتماد عليها. فالعبرة حينئذ في المغصوب بقيمته يوم الغصب أو يوم التلف ، على ما تقدّم تفصيله في البحث عن صحيحة أبي ولّاد.

(١) قال الفقيه المامقاني قدس‌سره ما لفظه : «وجدت فيما حرّره بعض الفضلاء ممّا أفاده الشيخ الفقيه المحقّق موسى بن جعفر الغروي قدس‌سره في مجلس البحث تقييد هذه القاعدة المشهورة بما إذا كانت المشقّة في الغرامة والمؤنة ، احترازا عمّا إذا كانت المشقّة في الكيفية ، كما لو كان الرّدّ مشتملا على العسر. قال في مسألة وجوب ردّ المغصوب إلى صاحبه : ولو أدّى ردّه إلى عسر ، العسر الذي لا نضايق عنه في الإلزام بردّ العين هو ما لم يصل إلى حدّ المشقّة غير المتحمّلة عادة ، فلو وصل إلى ذلك الحدّ فهو في حكم التعذّر. بل الظاهر أنّهم كلّما يعبّرون بالتعذّر مع الإطلاق يريدون به ما يعمّ هذا النوع من التعسّر الذي كاد يكون من التعذّر الحقيقيّ العاديّ.

إن قلت : لم لا يجوز الإلزام بردّ العين وإن أدّى إلى عسر غير متحمّل ، ومن أين إلحاق هذا النوع من العسر بالتعذّر. بل الدليل على الحاقه بالعسر غير المضايق عن لزومه موجود ، وهو ما اشتهر عندهم من أنّ الغاصب يؤخذ بالأشقّ.

قلنا : المراد بقولهم المذكور إنّما هو أخذه بالأشق في الغرامة ، لا في غيرها ، والمشقّة الحاصلة في الرّد ليس ممّا ذكروا فيها الأخذ بالأشقّ ، فلو كانت للنقل مثلا مئونة فهي على الغاصب ، لما ذكر ، وهكذا ، فلا تذهل» (١).

(٢) غرضه قدس‌سره أنّا وإن فصّلنا الكلام في أحكام المبيع بالبيع الفاسد ، إلّا أنّ ما لم نتعرّض له أزيد بكثير ممّا ذكرناه ، إذ بعد اتّحاده حكما مع المغصوب يجري فيه كثير من مسائل الغصب. وما تقدّم من مباحث المثليّ والقيميّ وبدل الحيلولة قليل من كثير ، ولا تنحصر أحكام الغصب في الأبحاث السابقة. مثلا لو مزج المبيع بالعقد

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ٣١٩.


ولعلّ بعضها يجي‌ء في بيع الفضولي (*).

______________________________________________________

الفاسد بغيره ، بحيث يشقّ تمييزه كالحنطة بالشعير ، أو الدخن بالذرّة ، فهل يقال بالشركة القهريّة أو يكلّف تمييزه؟

ولو اشترى أرضا فزرعها أو آجرها من غيره ، فزرعها كان عليه ردّ الأرض وأجرة الغرس والزرع وأرش الأرض إن نقصت بالزرع ، وعليه طمّ الحفر.

ولو اشترى حبّا فزرعه ، أو بيضا فاستفرخه ، فهل الزرع والفرخ للمشتري أم للبائع؟ وغير ذلك مما هو كثير.

وبهذا ينتهي الكلام في شرح ما أفاده شيخنا الأعظم من مباحث المقبوض بالبيع الفاسد ، وسيأتي الكلام في الجزء الرابع في شرائط المتعاقدين إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) تفصيل الكلام في بدل الحيلولة يقع في الدليل عليه ، وما يترتّب عليه من أمور ، فنقول : قد استدلّ لوجوبه بوجوه :

الأوّل : ما في المتن من الروايات الدالّة على الضمان بهذه الأمور من الضياع والسرقة والإباق ونحوها.

وفيه : أنّ موردها التلف ، لا التعذّر.

لكن فيه ما لا يخفى ، إذ المذكور فيها التلف والضياع والسرقة ، فلا تختصّ بالتلف.

الثاني : ما في حاشية السيد قدس‌سره (١) من قاعدة الضرر ، بتقريب : أنّ صبر المالك إلى حين الوصول الى ماله ضرر عليه.

أو ببيان : أنّ عدم الحكم بضمان البدل ضرر على المالك.

أو : بأنّ امتناع الضامن عن أداء البدل ضرر على المالك.

وفيه : ما قيل : من أنّ دليل نفي الضرر يرفع الحكم الناشئ عنه الضرر ، بمعنى نفي تشريع الحكم الملقي للمكلّف في الضرر. وأمّا الضرر الناشئ عن عدم تشريع الحكم فلا يشرّع حكما لا يلزم منه الضرر ، كالحكم بوجوب البدل على الضامن إلى أن يتمكّن

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٦.


.................................................................................................

__________________

من دفع العين إلى المالك ، وإلّا يلزم الحكم بوجوب تدارك الضرر المتوجّه إلى مسلم من بيت المال ، ومن المعلوم عدم صحّة هذا التمسّك.

مضافا إلى : عدم وفاء قاعدة نفي الضرر بالمدّعى ، وهو لزوم بدل الحيلولة مطلقا ، سواء لزم من صبر المالك ضرر أم لا ، إذ من الواضح كون النسبة بين موارد بدل الحيلولة وبين موارد تضرّر المالك هي العموم من وجه ، إذ قد لا يتضرّر المالك بصبره إلى زمان التمكّن من الوصول إلى ماله ، ومع ذلك يحكم بلزوم أداء بدل الحيلولة. وقد يتضرّر المالك من حيلولة الغاصب بينه وبين ماله مدّة قليلة كساعة أو ساعتين ، مع أنّه ليس من موارد بدل الحيلولة ، لاعتبار الفقهاء قدس‌سرهم في ثبوت بدل الحيلولة تعذّر وصول المالك إلى ماله مدّة طويلة. وقد يتعذّر وصوله إلى المالك مع تضرّره بعدم وصوله إليه. ومع هذه النسبة لا يصحّ الاستدلال بقاعدة الضرر مطلقا.

ودعوى إقدام الضامن على ضرر نفسه فاسدة ، لأنّه لم يقدم إلّا على ضمان العين دون سائر الجهات التي منها ، بدل الحيلولة.

الثالث : ما في المتن وحاشية السيد (١) أيضا من قاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، بتقريب : أنّ مقتضاها جواز مطالبة العين وسيلة إلى أخذ البدل الذي هو ممكن.

أو بتقريب : أنّ السلطنة على مطالبة ماليّة ماله المضمون تقتضي جواز مطالبة البدل حتى ينتفع ببدل ماله.

أو بتقريب : أنّ السلطنة على الانتفاع بماله تقتضي جواز مطالبة بدل ماله لينتفع به.

والكلّ لا يخلو من محذور. أمّا السلطنة على مطالبة العين للتوسّل إلى أخذ البدل ، فإن أريد منها صورة إمكان ردّ العين فلازمها جواز إلزام الغاصب بردّ ماله ، فيجب عليه السعي في مقدّمات تحصيله ، ولا يجب على الغاصب حينئذ دفع البدل.

وإن أريد منها صورة عدم إمكان ردّ العين وتحصيلها ـ وإن أمكن حصولها فيما بعد ـ فلا وجه لجواز مطالبة العين ، لكونه لغوا ، إذ المفروض عدم إمكان تحصيلها وردّها

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٦.


.................................................................................................

__________________

إلى المالك. ومع اللغويّة وعدم تعقّل الترخيص في مطالبة العين كيف يترتّب عليه دفع البدل؟ وقد فرض المستدلّ جواز مطالبة العين وسيلة إلى أخذ البدل.

وأمّا السلطنة على مطالبة ماليّة ماله نظرا إلى كون عين ماله ذات شؤون ثلاثة ، من حيث الشخصيّة ، ومن حيث الطبيعة النوعيّة ، ومن حيث الماليّة ، وامتناع مطالبة الاولى لا يمنع عن مطالبة الباقي ، ففيها : امتناع سلطنة المالك على مطالبته. أمّا الماليّة القائمة بنفس العين فلتعذّرها. وأمّا الماليّة القائمة ببدلها فهي حصة أخرى من الماليّة ، والسلطنة عليها سلطنة على مطالبة مال الغير ، لا على مال نفسه.

وأمّا السلطنة على مطالبة السلطنة على الانتفاعات بماله ، ففيها : أنّ تلك السلطنة الشخصيّة على الانتفاع بماله متعذّرة بتعذّره ، والسلطنة على الانتفاع بالبدل المدفوع سلطنة أخرى ليس للمالك مطالبتها إلّا بعد استحقاق البدل ، وهو أوّل الكلام.

نعم بناء على مشرّعيّة قاعدة السلطنة يمكن إثبات جواز مطالبة البدل. لكنّه في حيّز المنع ، بل قاعدة السلطنة لا تقتضي إلّا جواز التصرّفات التي ثبتت مشروعيّتها.

فالمتحصّل : أنّ قاعدة السلطنة لا تصلح لإثبات جواز مطالبة البدل.

الرابع : أنّ فيه جمعا بين الحقّين ، مع فرض رجوع البدل إلى الضامن بعد ارتفاع العذر.

وفيه : أنّه مبنيّ على تعلّق حقّ للمالك على الضامن مع بقاء عين ماله ليكون ذلك جمعا بين الحقّين ، لكن لا يلتزم أحد بتعلّق حقّ للمالك بالبدل مع بقاء العين وعدم تلفها ، بل لا حقّ له إلّا على العين.

الخامس : حيلولة الغاصب بين المالك وماله.

وفيه : أنّ الحيلولة ليست من موجبات الضمان بالاستقلال ، إلّا إذا اندرجت تحت اليد أو الإتلاف ، والمفروض أنّ قاعدة اليد لا تقتضي ردّ البدل مع عدم التلف أو الإتلاف.

السادس : أنّ الغاصب فوّت سلطنة المالك ، فيجب عليه تداركها بدفع البدل. فالمراد بهذا الدليل هو قاعدة الإتلاف ، غايته أنّ متعلق الإتلاف ليس نفس العين ، بل السلطنة عليها ، فتفويت هذه السلطنة يوجب الضمان.

وفيه : أنّه ليس للمالك إلّا الملك. وأمّا السلطنة عليه فهي من أحكام الملك ،


.................................................................................................

__________________

ولا معنى لتعلّق الضمان بها.

وهذا مراد المحقّق الثاني قدس‌سره من قوله : «جعل القيمة في مقابل الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه» وحاصل إشكاله : أنّ مجرّد منع الضامن عن إعمال المالك سلطنته في ماله وحيلولته بينه وبين ماله لا يوجب أن تكون القيمة واجبة عليه.

إلّا أن يقال : ليس المراد من السلطنة التي التزم المصنّف بتداركها هي الحكم الشرعيّ ، بل المراد هي الجدة الاعتباريّة ، فالبدل بدل لهذه الجدة التي هي عبارة عن كون المال تحت استيلاء المالك يتقلّب فيه ما يشاء ، ويتصرّف فيه بكلّ ما يريد.

بل قيل : هذه هي التي تقع متعلّقة للإجارة في مثل الدار والدّكان ، فإنّ الأجرة تقع بإزاء كون العين تحت يده ، فإذا كان الضامن سببا لتفويت هذه الخصوصيّة على المالك وجب عليه تداركها ، وهو لا يتحقّق إلّا بأداء ما هو بدل المال من المثل أو القيمة حتى يتصرّف المالك فيه على مشيّته.

وفيه أوّلا : أنّ مورد قاعدة الإتلاف هو المال ، وصدقه على السلطنة كما ترى.

وثانيا : أنّ مقتضى هذا الدليل هو لزوم البدل فيما إذا كان تعذّر الوصول إلى المال من جهة حبس المالك ومنعه عن التصرّف فيه أيضا.

وثالثا : أنّ مقتضى هذا الدليل إمّا ضمان المنافع ، أو التفاوت بين كون العين داخلة تحت استيلائه وبين كونها خارجة عنه.

وأمّا بدل نفس العين كما هو المبحوث عنه في بدل الحيلولة فلا يقتضيه هذا الدليل ، فإنّ المالك وإن لم يقدر على جميع أنحاء التقلّبات في ماله لأجل الحيلولة ، إلّا أنّ هذا لا يقتضي إلّا ضمان المنافع أو النقص ، فإمّا يستحقّ أجرته أو أرشه ، لا بدل نفس العين ، إذ الفائت هو السلطنة على العين بالتصرّف والتقلّب فيها ، فلا بدّ من تداركها المتوقّف على أداء الأجرة أو الأرش ، فبدل الحيلولة ـ وهو الأجرة أو الأرش ـ أجنبيّ عن بدل العين.

السابع : النبويّ المعروف «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» بتقريب : أنّ المال بجميع خصوصيّاته الشخصيّة والنوعيّة والماليّة والسلطنة عليه في عهدة الضامن


.................................................................................................

__________________

بمجرّد وضع اليد عليه ، خرج منه صورة ردّ العين إجماعا ، فيبقى الباقي ، فيشمل صورة التلف وما بحكمه ، وصورة التعذّر بأقسامه ، لأنّه لو كان المال بماليّته وخصوصيّاته في عهدة الغاصب مشروطا بعدم ردّه ، فإذا لم يمكن ردّ عينه فللمالك مطالبة بدله ، سواء صدق التلف أم التعذّر ، أم لم يصدق ، وسواء خرج المال عن القيمة أم لم يخرج ، كان التعذّر عقليّا أم عرفيّا ، كان زمانه قصيرا أم طويلا ، حصل اليأس من العين أم لم يحصل.

وهذا التقريب يدلّ على ضمان الغاصب سلطنة المالك على ماله ، وتدارك هذه السلطنة إنّما يكون ببذل بدل العين إلى المالك ليتسلّط عليه ويتصرّف فيه بما يشاء. وهذا بدل الحيلولة ، حيث إنّ المراد به بدل العين التي تلفت جميع الانتفاعات بها في بعض الأزمنة ، كاللوح المنصوب في السفينة الذي يخاف من نزعه على النفس المحترمة ، ولو كان هو الغاصب ، أو تلف مال غير الغاصب ممّا يكون محترما.

وليس المراد تلف العين حقيقة ، ولا جميع الانتفاعات في تمام الأزمنة ، سواء خرجت العين عن الملكيّة ، ولم يبق إلّا حق الاختصاص كصيرورة الخلّ خمرا ، وتنجّس الدهن. أم بقيت على الملكيّة كالظروف المنكسرة والمرآة كذلك.

ولا تلف بعض الانتفاعات الّذي لا يتقوّم به الملكيّة في جميع الأزمنة ، كما لو صار الحيوان غير المقصود أكل لحمه موطوءا ، فإنّه لم يتلف منه إلّا الانتفاع به دائما في بلد الوطي ، لا في سائر البلاد ، هذا.

لكن فيه : أنّ هذا التقريب لقاعدة اليد لا يقتضي خصوص البدل المثليّ إن كان المضمون مثليّا أو القيمي إن كان قيميّا ، بل يقتضي ما لا يمكن الانتفاع به في زمان يتعذّر وصول المال إلى المالك ، إذ المقصود تدارك السلطنة التي فوّتها الغاصب على المالك ، ومن المعلوم أنّها تجبر ببذل اجرة المنافع أو الأرش ، وهو التفاوت بين قيمة العين باقية تحت سلطنة المالك ، وخارجة عن حيّز سلطنته ، ولا يقتضي قاعدة اليد خصوص بدل الحيلولة. مع أنّ الظاهر تسالمهم على أنّ بدل الحيلولة هو البدل لنفس العين على تقدير التلف ، لا بدل المنافع أو الأرش بين استيلاء المالك على العين وعدمه ، كما هو قضيّة هذا الدليل ، هذا.


.................................................................................................

__________________

مضافا إلى : أنّ مقتضاه لزوم البدل مطلقا وإن كانت مدّة التعذّر قليلة ، مع أنّ الفقهاء لم يلتزموا بلزوم البدل في هذه الصورة ، هذا.

ويمكن تقريب الاستدلال بحديث «على اليد» بوجه آخر ، وهو أنّه ظاهر في الضمان الفعليّ للمأخوذ إلى زمان الأداء ، فكأنّه قال : إنّ غرامة المأخوذ على الآخذ إلى زمان أدائه ، وهذا بعينه ضمان بدل الحيلولة. فهذا الحديث سيق لبيان بدل الحيلولة ، لأنّ الغاية لا تناسب ضمان التلف ، فالضمان بدليل اليد ثابت إلى ردّ العين ، فلا بدّ من أداء قيمة اللوح المغصوب إلى زمان أدائه.

لكن فيه : عدم ظهور معتدّ به للنبويّ في هذا المعنى مع تطرّق احتمالات أخر فيه.

الثامن : دعوى الإجماع على ثبوت بدل الحيلولة مع تعذّر وصول المال إلى مالكه.

وفيه : أنّه ـ بعد تسليم الإجماع ـ يحتمل أن يكون مستند المجمعين بعض الوجوه المتقدّمة أو كلّها ، ومعه لا علم لنا بوجود إجماع تعبّديّ في المقام.

ولكن لا بأس بنقل بعض كلمات الفقهاء في بدل الحيلولة ، فإنّه قد وقع التنصيص في عباراتهم على سببيّة الحيلولة للضمان.

قال المحقّق قدس‌سره : «إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل ، ويملكه المغصوب منه ، ولا يملك الغاصب العين المغصوبة. ولو عادت كان لكلّ منهما الرجوع» (١).

وقال الشهيد قدس‌سره في القواعد ـ بعد تقسيم الضمان إلى ما يكون بالقوّة وما يكون بالفعل ـ ما نصّه : «والضمان الفعليّ تارة بعد تلف العين ، ولا ريب أنّه مبرء لذمّة الضامن ، ويكون من باب المعاملة على ما في الذمم بالأعيان ، وهو نوع من الصلح. وتارة مع بقاء العين ، لتعذّر ردّها ، وهو ضمان في مقابلة فوات اليد والتصرّف ، والملك باق على ملك مالكه .. إلخ» (٢).

وهذا الذي أفاداه بيان على وجه الكلّيّة ، وقد صرّحوا بذلك في موارد مخصوصة :

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٤١.

(٢) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٣٤٧ و ٣٤٨.


.................................................................................................

__________________

منها : ما ذكره العلّامة رحمه‌الله في القواعد ، حيث قال : «ولو أبق العبد المغصوب ضمن في الحال القيمة للحيلولة ، فإن عاد ترادّا» (١).

ومنها : ما لو أقرّ إنسان بما في يده من العين لزيد مثلا ، ثم أقرّ بها لعمرو ، فإنّهم حكموا بأنّه يغرم للثاني ، للحيلولة بينه وبين العين بالإقرار (٢).

ومنها : ما لو شهدت البيّنة بالطلاق ، ثم رجعت عن الشهادة بعد حكم الحاكم بالتفريق بين المرء وزوجته ، فإنّهم حكموا بأنّ الشهود يغرمون للزوج المهر. وكذا الحال في رجوع البيّنة عن الشهادة في الماليّات (٣) ، كلّ ذلك لمكان الحيلولة المستندة إلى الشهادة.

ومنها : ما لو باع أو صالح أو وهب شيئا على أنّه له ، ثم أقرّ به لزيد ، فإنّهم حكموا بأنّه يغرم للمقرّ له عوضه مثلا أو قيمة ، لحيلولته بين المقرّ له وماله بالعقد الناقل.

ومنها : ما ذكروه من ضمان الامام عليه‌السلام المهر للزوج الكافر المهادن إذا هاجرت زوجته إلى بلد الامام عليه‌السلام أو نائبه مسلمة ، ثم طلبها الزوج ، فمنعه عنها الامام عليه‌السلام ، فإنّ أصحابنا قد أجمعوا على أنّ على الامام عليه‌السلام حينئذ غرامة المهر للزوج. واستدلّ العلّامة رحمه‌الله في المنتهى لهذا الحكم بقضيّة الحيلولة. (٤)

ومنها : ما ذكروه من : أنّ على واطئ البهيمة لمالكها القيمة ، لمكان الحيلولة. (٥)

ومنها : ما ذكروه في كتاب القصاص من : أنّ من أطلق مستحقّ القصاص من يد وليّ المقتول ، ألزم بدفع المال ، للحيلولة ، ثمّ إن تمكّن منه الوليّ لزمه ردّ المال إلى القاهر المطلق ، لأنّ أخذ المال إنّما كان للحيلولة ، وقد زالت.

إلى غير ذلك من الموارد التي تشرف الفقيه على القطع بسببيّة الحيلولة للضمان.

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٧٩ (الطبعة الحجريّة).

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ١٥٤ ؛ قواعد الاحكام ، ص ١١٥.

(٣) قواعد الاحكام ، ص ٢٤١.

(٤) منتهى المطلب ، ج ٢ ، ص ٩٧٧ و ٩٧٨ (الطبعة الحجرية).

(٥) الروضة البهية ، ج ٩ ، ص ٣١٣.


.................................................................................................

__________________

فلو نوقش في الأدلّة المتقدّمة لكان تسالم الفقهاء على ما يظهر بالتتبّع في كلماتهم ـ من تعليلاتهم بالحيلولة على سببيّتها للضمان ، وأنّها من موجباته ـ كافيا في إثبات ذلك.

فلو كانت الوجوه المتقدّمة المحتجّ بها على ضمان بدل الحيلولة ضعيفة وغير معتبرة عندهم ، فالتعليلات المزبورة في كلماتهم كاشفة عن تسلّم سببيّة الحيلولة عندهم للضمان.

بقي أمور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل : أنّ مورد بدل الحيلولة على ما يستفاد من كلمات الأعلام صرف التعذّر ، لا التلف وما بحكمه ، كما إذا خرج المال عن الماليّة شرعا كالبهيمة الموطوءة ، أو عرفا كالمال المسروق الذي لم يعرف سارقه ، أو المال الذي غرق ، فإنّهما خارجان عن موضوع بدل الحيلولة ، فيختصّ مورده بوجود العين وإمكان الانتفاع بها في نفسها ، وانحصار المانع بالتعذّر. فلو خرجت العين عن قابليّة الانتفاع شرعا كالبهيمة الموطوءة أو عرفا كغرقها لم يكن من مورد بدل الحيلولة ، بل يحكم عليه بحكم التلف.

ولو شكّ في صدق التعذّر على بعض الموارد كما إذا غرق أو سرق ، ولم يحصل اليأس من الوصول إليه ، فبناء على كون حديث «على اليد» دالّا على وقوع المال بجميع خصوصيّاته ـ الّتي منها سلطنة المالك عليه ـ في العهدة يحكم بضمان هذه السلطنة. وبناء على عدم اقتضاء «على اليد» إلّا ضمان ماليّة المال عند التلف ـ لا ضمان شخص المال فضلا عن توابعه ، حتى يجب عليه الخروج عن عهدة ذلك مع بقاء العين ـ يكون الأصل براءة ذمّة الغاصب ومن بحكمه.

الثاني : هل المدار في التعذّر على التعذّر العقليّ المسقط للتكليف بردّ العين ، أو الأعمّ منه ومن العرفيّ؟ وجهان مبنيّان على ما تقدّم من الاختلاف في تقريب الأصل في المسألة. ولكن مقتضى الأدلّة عدم الفرق بين الصورتين ، لورود الضرر على المالك ، وفوت سلطنته في كلتا الصورتين. ففي مورد التعذّر العرفيّ وإن وجب على الضامن السعي في تحصيل العين ، إلّا أنّ هذا لا ينافي وجوب البدل في زمان السعي ، وذلك لإطلاق قاعدة «على اليد» وعموم السلطنة وقاعدة لا ضرر ، وغير ذلك من الأدلة التي أقاموها على ثبوت البدل واستحقاق المالك المطالبة به.


.................................................................................................

__________________

كما أنّ مقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق أيضا بين العلم بحصول العين واليأس منه ورجائه. والتخصيص بمورد اليأس غير وجيه. إذ ليس دليل بدل الحيلولة لبّيّا حتى يكون المتيقّن منه صورة اليأس.

إلّا أن يقال : إنّ دليله هو الإجماع ، فلا بدّ حينئذ من الأخذ بالمتيقن منه من جميع الجهات ، فتأمّل.

فالمتحصّل : أنّ المدار على مطلق التعذّر ، لا خصوص العقليّ.

وأمّا زمان التعذّر فدعوى انصراف الأدلّة عن قصره جدّا قريبة ، لعدم صدق فوات السلطنة أو الانتفاع أو غير ذلك عرفا على الزمان القصير جدّا.

لكن الفقهاء أفتوا في اللوح المغصوب في السفينة بوجوب القيمة ، مع إمكان الوصول إليه ونزعه بوصول السفينة إلى الساحل. وهذا يكشف عن كون التعذّر ولو في زمان قليل موجبا لوجوب البدل.

فتلخّص : أنّ المدار على مطلق التعذّر ، وعدم دخل الياس من الوصول إلى العين فيه.

الثالث : أنّه هل للضامن إجبار المالك على أخذ بدل الحيلولة ، بأن يكون بدل الحيلولة حقّا لكلّ من المالك والضامن ، كجواز إجباره على أخذ بدل العين حين التلف أم لا؟ بأن يكون حقّا للمالك فقط.

قد يقال : إنّ الأدلّة الدالّة على وجوب بدل الحيلولة لا تدلّ على جواز إجبار الضامن المالك على قبول البدل. وليس هنا دليل آخر يدلّ على ذلك غير تلك الأدلّة.

وعليه فيتخيّر المالك بين قبول البدل وبين الصبر إلى زمان زوال العذر ، وإجبار الضامن إيّاه على قبول بدل الحيلولة خلاف سلطنته ، إذ المالك يستحقّ على الضامن نفس العين ، فإجبار الضامن إيّاه على قبول بدلها خلاف سلطنته. وهذا مراد المصنّف قدس‌سره من تمسّكه بقاعدة السلطنة في المقام.

والفرق بين التلف والتعذّر أنّه بتلف العين تسقط الخصوصيّات عن عهدة الضامن قهرا ، فلا يبقى في ذمّته إلّا الطبيعي من المثل أو القيمة ، فيكون للضامن حق إلزام المالك بقبول ذلك ، لأنّه عين ما يملكه في عهدته فعلا. بخلاف صورة التعذّر ، فإنّ


.................................................................................................

__________________

الخصوصيّات غير ساقطة ، وذمّة الضامن مشغولة بها ، غاية الأمر أنّ للمالك إسقاطها والإغماض عنها ، والرّضا بالطبيعيّ أو القيمة. وأمّا الضامن فلا حقّ له في إلزام المالك بإسقاط حقّه.

أقول : لا حاجة إلى غير أدلّة بدل الحيلولة في جواز إلزام الضامن المالك بأخذ البدل ، لأنّ المستفاد من تلك الأدلّة إن كان وجوب دفع البدل إلى المالك ، لاشتغال ذمّته به ، فله إلزام المالك بأخذه لتفريغ ذمّته ، لأنّ إبقاء ذمّته مشغولة بمال الغير نقص وحرج عليه.

وإن لم يكن مفاد أدلّة بدل الحيلولة إلّا ثبوت حقّ للمالك في المطالبة من دون اشتغال ذمّة الضامن به ، غايته أنّه لو طالبه المالك بالبدل وجب عليه إجابته فليس للضامن إلزام المالك بذلك ، لانتفاء الحكم الوضعيّ أعني به شغل الذّمّة ، فلا موجب للإلزام المذكور.

ولعلّ هذا هو الأظهر إن لم يكن مفاد حديث «على اليد» غرامة المأخوذ على الآخذ ، وإلّا فعليه يكون للضامن إلزام المالك.

ولو شكّ في ثبوت هذا الحقّ للضامن فالأصل عدم ثبوته ، لأنّه قبل التعذّر لم يكن هذا الحقّ ثابتا له ، فمقتضى الاستصحاب بقاؤه.

الرابع : أنّ بدل الحيلولة هل يملكه المالك أم يباح له التصرّف فقط؟ الظاهر اختلاف ذلك باختلاف المباني ، وإن ذكر المصنّف : «أنّ المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف كما في المبسوط والخلاف والغنية والتحرير. وظاهرهم إرادة نفي الخلاف بين المسلمين».

فإن كان المستند فيه حديث «لا ضرر» فهو لا يقتضي إلّا لزوم جبر الضرر ، ومن المعلوم انجباره بإباحة التصرّف في البدل ، دون ملكيّته للمالك.

وإن كان المستند فيه دليل السلطنة بتقريب : أنّ الغاصب فوّت سلطنة المالك على ماله ، فيجب عليه تدارك هذه السلطنة له ، لم يثبت أيضا له إلّا إباحة التصرّف في البدل على النحو الذي يتصرّف في ملكه ، لانجبار السلطنة الفائتة بإباحة التصرّفات في البدل ، وعدم توقّف الانجبار على الملكيّة.

نعم مقتضى إباحة التصرّفات مطلقا حتّى المتوقّفة على الملك هو الالتزام


.................................................................................................

__________________

بالملكيّة الآنيّة قبل التصرّف المنوط بها ، كالمعاطاة بناء على إفادتها الإباحة المطلقة.

وبالجملة : تنجبر السلطنة الفائتة القائمة بالعين بالسلطنة على بدلها من مال الغاصب ، وهذه السلطنة لا تقتضي الملكيّة.

وإن كان المستند فيه قاعدة اليد ، فمقتضى كون البدل أداء لنفس العين المأخوذة ـ ليصدق عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتى تؤدّي» بعد غضّ المالك عن خصوصيّات ماله ـ صيرورة البدل ملكا للمالك ، تحقيقا لمعنى البدليّة في الملكيّة. فكما أنّ إضافة الملكيّة قائمة بالبدل في صورة التلف ، لسقوط الخصوصيّات بسببه عن عهدة الضامن ، وبقاء الطبيعيّ على عهدته ، فكذلك في صورة التعذّر ، فبدل الحيلولة يصير قائما مقام العين حال التعذّر في الملكيّة.

والحقّ أن يقال : إنّه لو ثبت للمالك حقّ في أخذ البدل عن العين في الماليّة فهو ملك للمالك. ولو ثبت له حقّ في أخذ المال بدلا عن السلطنة الفائتة فهو غير مملوك للمالك ، بل يباح له التصرّف فيه ما دام محجورا عن التصرّف في عين ماله.

والظاهر ثبوت الحقّ ، كما يدلّ عليه ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره من الروايات الواردة في الموارد المتفرّقة ، لظهور لفظ : «الغرامة والضمان» الواردين في تلك الروايات في الملكيّة ، فالبدل مملوك للمالك لا مباح له.

وأمّا توجيه القول بالإباحة بعدم اجتماع العوض والمعوّض في ملك المالك فغير وجيه.

أمّا أوّلا : فبإمكان التزام صيرورة العين المتعذر ردّها ملكا للضامن ، كما اختاره الجواهر (١) في بعض أقسام التعذّر كالخيط الذي بردّه يتلف المخيط ، والرطوبة الباقية على أعضاء الوضوء. واختار ذلك السيد (٢) في جميع أقسام التعذّر. وبهذا الوجه يرتفع الاشكال.

وأمّا ثانيا : فبأنّ البدل من باب الغرامة لا العوض ، فاجتماع البدل والمبدل في

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٨٠.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٠٧ و ١٠٨.


.................................................................................................

__________________

ملك المالك كاجتماع الأرش والعين المعيبة. هكذا قيل.

لكن فيه : أنّ الأرش بدل عن وصف الصحّة ، وليس بدلا عن العين حتى يلزم الجمع بين العوض والمعوّض.

ثمّ إنّه يترتّب الثمرة على ملكيّة البدل للمالك وإباحته له : أنّه على الأوّل يكون البدل دينا على الضامن ، فينفذ إبراؤه ، ويصحّ بيعه ، وإصداقه ، والضمان عنه ، والحوالة عليه ، وحصول التهاتر به ، والوصيّة به ، ووجوب قبوله على المالك إذا دفعه إليه الضامن. بخلافه على الثاني ، لأنّه حينئذ حكم تكليفيّ صرف ، ولا تشتغل ذمّته بشي‌ء حتى يترتب عليه آثار الملكيّة.

ولا يخفى أنّ عبارات الأصحاب مختلفة ، فبعضها ظاهر في اشتغال ذمّة الضامن بالبدل ، وبعضها ظاهر في مجرّد الوجوب التكليفيّ ، وبعضها محتمل للاحتمالين ، فلاحظها.

الخامس : هل تنتقل العين إلى الضامن بإعطاء البدل أم لا؟

قد يقال : بانتقال العين إلى الضامن ، والبدل إلى المالك ، لاستحالة بدليّة شي‌ء عن شي‌ء إلّا بقيام البدل مقام المبدل في جهة من جهاته ، وتلك الجهة في المقام هي إضافة الملكيّة.

وقد يقال : بأنّ المالك يملك البدل ، وأمّا الضامن فلا يملك المبدل ، لأنّ المأخوذ بعنوان البدليّة ليس عوضا حقيقيّا حتى تستحيل البدليّة إلّا بدخول العين المتعذّرة في ملك الضامن ، بل هو غرامة خالصة كالمبذول عند تلف العين. ومن البيّن أنّ عنوان «الغرامة» لا يستلزم خروج البدل عن ملك الضامن ، ولا دخول العين المتعذّرة في ملكه حتى يكون ذلك معاوضة قهريّة شرعيّة ، هذا.

لكن فيه : أنّه بناء على كون بدل الحيلولة ملكا للمالك ـ كما تقتضيه الروايات المشار إليها الواردة في الموارد المتفرّقة ، وكذا قاعدتا الإتلاف واليد الدّالّتان على أنّ ما يدفعه الضامن إلى المالك هو عين ماله ـ لا بدّ من الالتزام بصيرورة المبدل المضمون ملكا للضامن بالمعاوضة القهريّة الشرعيّة ، إذ لو لا ذلك لزم اجتماع العوض والمعوّض في ملك مالك العين.

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه حسنة سدير المتقدّمة في التوضيح ، الدالّة على غرامة


.................................................................................................

__________________

الواطي قيمة البهيمة الموطوءة ، الظاهرة في صيرورتها ملكا للواطي الغارم بدفع القيمة.

نعم بناء على كون البدل مباحا للمالك ـ لا ملكا له ـ لا وجه لخروج المبدل عن ملك مالكه ودخوله في ملك الضامن.

ويترتّب على خروج المبدل عن ملك المالك وعدم خروجه عنه فروع :

أحدها : أنّه إذا توضّأ ـ جهلا أو غفلة ـ بماء مغصوب ، وعلم أو تذكّر بعد إكمال الغسلات وقبل المسح ، فعلى القول بدخول الرطوبة في ملك الضامن يجوز المسح بها. وعلى القول ببقائها على ملك المالك لا يجوز ، بل عليه الاستيناف.

إلّا أن يقال : إنّ الرطوبة بمنزلة الشي‌ء التالف ، فلا يملكها مالكها ، فلا مانع حينئذ من المسح بها.

لكنّه مشكل جدّا ، لأنّها كيف تكون كالتالف؟ مع أنّ المسح المتمّم للوضوء يتحقق بها ، ويترتّب عليها ، فتكون هذه الرطوبة ملكا ومالا ، ولذا لو قال له الغاصب : «إن أعطيتني مقدارا معيّنا من المال فأنا راض بالتصرّف الوضوئيّ» فأعطاه ورضي ، صحّ وضوؤه.

ثانيها : إنّه إذا غصب أحد خمرا محترمة لغيره ، وانقلبت خلّا فعلى القول بالمعاوضة القهريّة بين البدل والمبدل كان الخلّ بعد أداء البدل ملكا للضامن ، وإلّا فهو للمضمون له.

ثالثها : أنّه إذا خاط أحد ثوبه بخيوط مغصوبة ، فعلى القول بدخول الخيوط في ملك الغاصب بعد أداء البدل جازت له الصلاة في ذلك الثوب. وكذلك التصرفات الأخر ، وإلّا فلا.

إلّا أن يقال : إنّ تلك الخيوط بمنزلة التالف ، إذ لا يمكن ردّها غالبا إلى مالكها إلّا بعد سقوطها عن الماليّة بسبب النزع ، بل في مجمع البرهان (١) الجزم بعدم وجوب النزع ، بل قال بإمكان عدم الجواز ، لكونه بمنزلة التلف ، فيتعيّن القيمة. وحينئذ فيمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخيط ، إذ لا غصب فيه حتى يجب ردّه ، هذا.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥٢١.


.................................................................................................

__________________

لكنّ الحقّ أنّ الخيوط ـ وإن قلنا بسقوطها عن الماليّة بالنزع ـ باقية على ملك مالكها ، وحرمة التصرّف في المغصوب إنّما هي باعتبار إضافة الملكيّة ، لا باعتبار الماليّة ، فتنزيلها منزلة التلف في غير محلّه ، فلا بدّ من ابتناء المسألة على مالكيّة الغاصب للمبدل وعدمها. فعلى الأوّل تجوز التصرّفات ، وعلى الثاني لا تجوز.

رابعها : أنّه لو غصب أحد دهنا وخلطه بطعامه ، فعلى القول بدخول المبدل في ملك الغاصب بعد ردّ بدله جاز له التصرّف في ذلك الطعام ، وإلّا فلا يجوز له التصرّف فيه إلّا برضى مالك الدهن.

إلى غير ذلك من الفروع.

السادس : لو زال التعذّر ، وتمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المغصوب منه بعد أداء بدل الحيلولة ، فالظاهر ثبوت الترادّ ، بل عن بعضهم نفي الخلاف بينهم فيه ، من غير فرق في ذلك بين مثل الغرق والسرقة والضياع مما يعدّ تلفا عرفا ، وبين ما لا يعدّ كذلك ، إلّا أنّه متعذّر الحصول. بل لا يبعد أن يكون الأمر كذلك لو فرض عود التالف الحقيقيّ بخرق العادة.

وعن المحقّق النائيني قدس‌سره : «إذا ارتفع العذر ، وتمكّن من ردّ العين إلى مالكه وجب الرد فورا حتى على القول بالمعاوضة القهريّة الشرعيّة ، لأنّ حكم الشارع بالمعاوضة مترتّب على عنوان التعذّر ويدور مداره» (١).

وقد يقال : بابتناء جواز الرجوع وعدمه على كون ملكيّة البدل لمالك العين لازمة أو جائزة. فعلى الأوّل لا يجوز ذلك ، وعلى الثاني يجوز. نظير المعاطاة بناء على إفادتها الملكيّة. (٢) هذا.

ولا يخفى أنّه بناء على الملكيّة لا بدّ من البناء على اللزوم ، لأنّه الأصل في الملك ، فلا وجه لجواز رجوع المالك إلى العين. وعليه فيكون التعذّر علّة محدثة ومبقية لمالكيّة

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٦١.

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٢٢١.


.................................................................................................

__________________

المغصوب منه للبدل ، ومالكيّة الضامن للمبدل ، كسائر المعاوضات الشرعيّة. وجواز الملك محتاج الى الدليل ، ومجرّد احتمال الجواز ثبوتا لا يجدي إثباتا. هذا.

فالأولى في وجه وجوب ردّ العين إلى مالكها بعد ارتفاع التعذّر هو : أنّ حقيقة البدليّة والغرامة تقتضي وجوب الرّدّ عند التمكّن ، إذ حقيقة البدليّة هي القيام مقام الغير وبدلا عنه ، فبدليّة البدل الطوليّ متقوّمة بعدم المبدل. ومع وجوده لا معنى للبدليّة والغرامة ، وإلّا كان بدلا عرضيّا ، وهو خلاف الفرض. فيجب ردّ عينه ، لأنّه أداء للمأخوذ حقيقة ، كما يدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النبويّ : «حتى تؤدّي» بخلاف البدل ، فإنّه ليس أداء للمأخوذ حقيقة.

واحتمال المعاوضة وانتقال العين إلى البدل ـ كما في المعاوضة على ما في الذمم ـ ضعيف جدّا ، لأنّ المعاوضة المالكية مفقودة ، لعدم انقداح معاوضة في ذهنهما ، وعدم إنشائهما لها.

وكذا المعاوضة القهريّة العقلائيّة ، لعدم اعتبارهم لها بالنسبة إلى التالف الحقيقيّ ، وعدم جعلهم التالف الحقيقيّ ملكا للغارم في مقابل بدله الذي يؤدّيه إلى المالك. وليس اعتبارهم الضمان في التلف الحقيقيّ مغايرا لاعتباره في التلف العرفيّ.

وكذا المعاوضة القهريّة الشرعيّة ، لأنّ أدلّة الغرامات والضمانات منزّلة على ما يفهمه العرف ، وليست الغرامة عند المتشرّعة غير ما لدى العقلاء ، وهي بدليّة البدل عن مال المضمون له ما دام ردّ العين متعذّرا.

لا يقال : إنّ المقام كتعذّر المثل في المثليّ في عدم وجوب ردّ المثل هناك بعد التمكّن منه ودفع القيمة ، لاشتراكهما في تعذّر الرّدّ في زمان ، فلا بدّ فيما نحن فيه من الالتزام بعدم وجوب ردّ العين أيضا بعد التمكين منه إلى المالك.

فإنّه يقال : بوضوح الفرق بينهما ، حيث إنّ الثابت هناك في ذمّة الضامن هو كلّيّ المثل ، فإذا رضي المالك بالقيمة فقد رضي بتبديل ذلك الكلّيّ بالقيمة ، فيصير حقّه تلك القيمة ، من قبيل الوفاء بغير الجنس مع التراضي ، فيسقط حقّه لا محالة ، كسائر المعاملات الواقعة على ما في الذمم في اللزوم ، وعدم جواز الرجوع.


.................................................................................................

__________________

وهذا بخلاف المقام ، فإنّ العين الشخصيّة لا تدخل في الذّمّة حتى تقع المعاوضة بين ما في الذّمّة وبدله ، وتبرء ذمّته ، بل يجب بعد ارتفاع العذر ردّ نفس العين كما هو مقتضى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حتى تؤدّى».

السابع : هل ترجع الغرامة إلى الغارم بمجرّد تمكّنه من ردّ العين إلى المالك أم بردّها خارجا؟ وجهان ، أقواهما الثاني ، لأنّ التعذّر وإن أوجب استحقاق البدل ، لكنّه علّة للوجوب ، لا أنّه موضوع له حتى تبطل البدليّة بمجرّد التمكّن ، وذلك لأنّ صرف التمكّن لا يخرج العين عمّا هي عليه من انقطاع سلطنة المالك عنها ، وعدم كونها تحت يده ، فما لم ترجع العين إلى المالك لا تدخل تحت يده واستيلائه ، ولا تعدّ مالا من أمواله ، فالموضوع لثبوت ملكيّة المالك لبدل الحيلولة هو انقطاع سلطنته عن ماله ، لا التعذّر ، فإنّه علّة للوجوب ، كالتغيّر الموجب لعروض النجاسة على الماء ، فإذا زال التغيّر بنفسه وشكّ في أنّه علّة محدثة فقط أو مبقية أيضا فتستصحب النجاسة.

ففيما نحن فيه إذا شكّ في كون التعذّر علّة محدثة فقط أو مبقية أيضا فلا مانع من استصحاب بقاء البدل على ملك المالك ، فلا يوجب التمكّن من ردّ العين الجمع بين العوض والمعوّض ، بأن يقال : إنّ التمكّن يوجب الجمع بين العوض والمعوّض عند المالك ، لكون التمكّن موجبا لعود ملكيّة العين له ، والبدل أيضا ملكه. بل التمكّن كعدمه.

فالبدل لا ينتقل إلى الغارم بمجرّد تمكّنه من ردّ العين ، بل يتوقّف على ردّها خارجا ، لأنّ الغرامة بدل السلطنة الفائتة عن المالك ، ومن المعلوم أنّ عود السلطنة الفعليّة السابقة يتوقّف على ردّ العين إليه خارجا ، لا على مجرّد تمكّن الغاصب من ردّها.

وبالجملة : لو كان مجرّد التعذّر علّة محدثة ومبقية لوجوب البدل على الغارم كان صرف التمكّن من الرّدّ موجبا لخروج البدل عن ملك المالك ، لكنّه ليس كذلك.

وعليه فليس للغارم استحقاق حبس العين ، لأنّه لا يستحقّ الغرامة إلّا بردّ العين ، فإذا كان الرّدّ علّة استحقاقه للغرامة فكيف يتقدّم المعلول ـ وهو الاستحقاق ـ على علّته وهي الردّ؟

ولو تسامح الضامن في دفع العين بعد تمكّنه منه فللمالك مطالبته ، لقاعدة «الناس


.................................................................................................

__________________

مسلّطون على أموالهم». ولا يجوز للضامن حبس العين ومطالبته البدل من المالك ، لما مرّ آنفا من أنّ البدل بدل عن السلطنة الفائتة ، لا عن القدرة على دفع العين.

فالمتحصّل : أنّ الغرامة لا تعود إلى الغارم بمجرّد التمكّن من ردّ العين إلى المالك ، بل يناط ذلك بردّها إلى مالكها.

الثامن : إذا خرج المغصوب عن صورته النوعيّة ، ثم رجع إليها ، فهل يضمن الغاصب بدله من المثل أو القيمة ، أم عينه؟ مثاله غصب الخلّ ، ثم انقلابه خمرا ، ثم صيرورته خلّا ، فيه قولان :

أحدهما : ضمان البدل ، لانعدام المغصوب بزوال صورته النوعيّة ، والموجود ثانيا غيره ، لتخلّل العدم بينهما ، ومن البيّن أنّ المعدوم لا يعاد.

ثانيهما : ضمان العين نفسها ، لأنّ الموجود ثانيا عين الأوّل في نظر العرف.

وتحقيق المقام : أنّ هنا مسألتين :

إحداهما : حكم المبدل قبل أداء البدل ، والثانية حكمه بعد أدائه.

أمّا المسألة الأولى فحاصل الكلام فيها : أنّ الظاهر وجوب أداء العين نفسها على الغاصب ، لأنّ الثابت ابتداء على الضامن هو نفس العين ، فيجب عليه ردّها على مالكها ، وإذا تلفت العين انتقل الضمان إلى بدلها من المثل أو القيمة. ومن المعلوم أنّ العين إذا عادت ثانيا فثبوت الضمان فيها أولى من ثبوته في بدلها ، لكونها جامعة لجميع الخصوصيّات الّتي كانت موجودة في العين المغصوبة ، من دون فرق عرفا في ذلك بين كون العائد عين الأوّل وغيره.

وأمّا المسألة الثانية فقد استشكل فيها غير واحد. والظاهر أنّه من صغريات العين التالفة ، فإنّ الضامن بعد دفع الغرامة برئت ذمّته. فإن رجعت العين إلى نظام الوجود كانت ملكا للضامن ، لأنّ حقّ الأولويّة الثابت بالسيرة العقلائيّة انتقل إلى الضامن بعد دفع الغرامة ، بناء على كونها أداء لمال المالك بعد إسقاطه للخصوصيّات كما عليه سيرة العقلاء ، فبأداء البدل يسقط الضمان عن الغاصب ، وليس دليل آخر يقتضي ضمان العين ثانيا.

إلّا أن يقال : إنّ حقّ الأولويّة لا يسقط بمجرّد دفع البدل ، ولا ينتقل إلى الضامن إلّا


.................................................................................................

__________________

بإسقاط المالك له ، فحينئذ يكون المالك مستحقا لماله العائد بعد زواله ، فالأحوط التصالح.

ثمّ إنّ ظاهر كلام المصنّف بقاء حق الأولويّة للمالك. وأيّده برجوع الخلّ المنقلب عن الخمر إلى مالكه حين كونه خلّا ، وليس هذا إلّا من جهة بقاء حقّه المسمّى بحقّ الاختصاص.

وقد أجاب المحقّق الأصفهاني قدس‌سره عن هذا التأييد بما حاصله : «أنّ وجوب ردّ الخلّ المنقلب عن الخمر إلى المالك لا يكشف عن بقاء حق الأولويّة له ، لأنّه من قبيل عود الملك إلى مالكه ، فيكون من باب ردّ الملك إلى مالكه ، لا من باب أولويّة المالك به. والسّرّ في ذلك أنّ إطلاق أسباب الملكيّة من الهبة والصلح والإرث وغيرها يقتضي تأثيرها بنحو الإطلاق ، إلّا إذا اقترنت بمانع يمنع عن تأثيرها ، وإذا ارتفع المانع أثّر المقتضي أثره ، من دون أن يثبت هنا حقّ الأولوية عند سقوط المقتضي عن التأثير.

وبالجملة : فزوال الملكيّة تارة يكون لموجب الانتقال إلى الغير ، كالبيع وغيره من موجبات الانتقال. واخرى لوجود مانع من تأثير مقتضي الملكيّة بقاء كانقلاب الخلّ خمرا. فسقوط المقتضي لحدوث الملكيّة بقاء إنّما هو لوجود المانع ، فإذا زال المانع أثّر المقتضي أثره ، من دون وجود حق الأولويّة في حال سقوطه عن التأثير ، وعدم لزوم الترجيح بلا مرجّح ، بعد وجود المقتضي للملكيّة لمالك العين دون غيره» (١). انتهى ملخّصا.

وفيه : أنّ الملكيّة من الأحكام الشرعيّة الاعتباريّة ، وهي من الأفعال الاختيارية للشارع ، وهي سعة وضيقا تابعة لكيفيّة جعلها ، ولا تقاس بالمقتضيات الخارجيّة كالنار المقتضية للإحراق والموانع التكوينيّة ، كرطوبة الثوب المانعة عن احتراقه بالنار ، التي بزوالها يؤثّر المقتضي لاحراقه ـ وهو النار ـ أثره ، فيحترق بها الثوب بعد جفافه. بل لا بدّ من الرجوع إلى الأدلّة ، وهي تدلّ على أنّ الخلّ يملك بالهبة والبيع والإرث وغيرها. ولكن إذا انقلب خمرا خرج عن الملكيّة ، ولو عاد إلى الخليّة كان الحكم بملكيّته للمالك الأوّل منوطا بالدليل ، وهو مفقود في المقام. والسبب السابق كالهبة والبيع لا يؤثّر في

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١١١.


.................................................................................................

__________________

حدوث الملكيّة بعد الانقلاب إلى الخلّ ، وليس كالمقتضي التكوينيّ كالنار.

وبالجملة : فأولويّة المالك بالخمر المنقلبة عن الخلّ الثابتة بالسيرة المتشرعيّة أوجبت رجوع الخلّ المنقلب عن الخمر إلى المالك ، لا السبب الناقل للخل إليه.

هذا بناء على خروج الخمر عن الملكيّة. وأمّا بناء على عدم خروجها عنها ـ كما قيل ـ فلا كلام ، فإن ظاهر الشيخ في الخلاف عدم قيام إجماع على عدم ملكيّة الخمر. قال في رهن الخلاف : «الخمر ليست بمملوكة ، ويجوز إمساكها للتخليل والتخلّل» ثم قال : «دليلنا : إجماع الفرقة على نجاسة الخمر ، وعلى تحريمها الإجماع ، فمن ادّعى صحّة أنّها مملوكة فعليه الدلالة» (١) حيث تمسّك في مورد المسألة المبحوث عنها بعدم الدليل ، فلو قام الإجماع على عدم المملوكيّة تمسّك به جزما كما هو دأبه في الكتاب.

التاسع : أنّه هل يكون تمكّن المالك من استرداد ماله كافيا في رجوع العين إليه وارتفاع الضمان وانتقال البدل إلى الضامن ، أم لا بدّ من تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى المالك؟

لا ينبغي الارتياب في أنّ المناط في ثبوت بدل الحيلولة على القول به إنّما هو عدم تمكّن الغاصب من ردّ العين إلى مالكها ، سواء تمكّن المالك بنفسه من ذلك أم لا ، بداهة أنّ سبب الضمان المستفاد من قاعدة اليد هو وضع اليد والاستيلاء على مال الغير. وإذا تلف أو ضاع أو سرق مثلا وجب عليه بدله حقيقة في التلف ، وللحيلولة في غيره ، فتمكّن المالك لا دخل له في ارتفاع الضمان عن الغاصب ، وهذا واضح جدّا.

العاشر : ما تعرّض له المصنّف قدس‌سره بقوله : «ثمّ إنّ مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم عن عهدة العين وضمانها ، فلا يضمن ارتفاع قيمة العين بعد دفع الغرامة سواء كان الارتفاع للسوق أو للزيادة المتّصلة بل المنفصلة كالثمرة .. إلخ».

وحاصل ما أفاده : ضمان ارتفاع القيمة والمنافع قبل دفع البدل ، وعدمه بعد دفعه. ولكن عن العلّامة في التذكرة وعن بعض آخر ضمان المنافع. وقد قوّاه في المبسوط بعد أن جعل الأقوى خلافه.

__________________

(١) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٢٤١ ، المسألة ٣٦ من كتاب الرهن.


.................................................................................................

__________________

أقول : المسألة مبنيّة على أنّ الغرامة هل هي بدل عن العين أم السلطنة. فإن كانت بدلا عن العين المتعذّرة كما هو مقتضى دليل ضمان اليد فلا محالة تنقطع علاقة المالك عن العين ، وتصير ملكا للضامن بجميع شؤونها حتى النماءات المنفصلة فضلا عن المتّصلة ، وعن زيادة القيمة السوقيّة.

وإن كانت بدلا عن السلطنة الفائتة ـ كما هو قضيّة قاعدة السلطنة ـ ضمن الغاصب جميع شؤون العين ، سواء أكانت تلك الشؤون فائتة أم لا.

والحقّ أنّ يقال : إنّ البدل المدفوع بدل عن العين ولو من جهة فوات السلطنة. كما أنّه في صورة التلف يكون البدل بدلا عن العين ، فحينئذ يكون بدلا عن العين بشؤونها ، فلا يضمن ارتفاع القيمة ولا منافعه. هذا في صورة دفع الضامن للبدل.

وأمّا إذا لم يدفع البدل ، فمقتضى ضمان العين بجميع شؤونها هو ضمان المنافع وارتفاع القيمة السوقيّة.

الحادي عشر : قد عرفت أنّ المدار في ثبوت بدل الحيلولة ـ على القول به ـ تعذّر الوصول إلى العين ، بحيث لا يتمكّن المالك من الانتفاع بها ، فلو تمكّن المالك من الانتفاع بها مع حصول نقص فيها ولو في بعض أوصافها خرجت عن مورد بدل الحيلولة ، لفرض إمكان الانتفاع بها ، وعدم ارتفاع سلطنته عنها ، كصورة امتزاج العين بعين اخرى الموجب للشركة ، فإنّ العين بعد امتزاجها بغيرها لا تخرج عن قابليّة انتفاع المالك بها ، غاية الأمر أنّه حدث عيب في ماله ، لأنّ الشركة نقص في العين المملوكة بالاستقلال ، فيجب على الغاصب أداء الأرش للمالك. فهذا المورد خارج عن موارد بدل الحيلولة ، لإمكان الانتفاع بالعين.

الثاني عشر : أنّ أسباب الضمان على ما أفاده المصنّف قدس‌سره بقوله : «سواء كان الذاهب نفس العين كما في التلف الحقيقيّ .. إلخ» أمور أربعة.

الأوّل : تلف العين حقيقة ، وتسقط حينئذ عن الملكيّة عرفا ، فيجب بدلها على متلفها والخروج عن عهدتها بدفع بدلها ، لأدلّة الضمان.

الثاني : التلف الحكميّ ، وهو قطع سلطنة المالك عن ماله كالغرق والسرقة


.................................................................................................

__________________

ونحوهما ممّا لا يكون عوده مرجوّا. وهذا مورد بدل الحيلولة.

الثالث : إزالة الأوصاف التي لها دخل في مالية العين بحيث تخرج العين بذهابها عن الماليّة مع انحفاظ العين بنفسها في ملك مالكها ، وسلطنته عليها تسلّط الملّاك في أملاكهم ، فالضمان حينئذ بالماليّة الخالصة دون العين المغصوبة ، كالثلج في الشتاء والماء على الشاطئ.

الرابع : ذهاب الأوصاف التي بها تخرج العين عن الملكيّة أيضا ، إمّا شرعا كالخلّ المنقلب خمرا ، وإمّا عرفا كالكوز المكسور ، لكن تبقى العين متعلّقة لحقّ المالك. هذا ما أفاده المصنّف قدس‌سره.

ولا يخفى أنّ ما ذكره في القسم الأوّل أعني به التلف الحقيقي ـ من زوال ملكيّة المالك عن العين ـ متين ، غاية الأمر أنّ العين قد تعتبر ملكا للغاصب فيما إذا ترتّب عليه الأثر كما في تعاقب الأيدي.

وأمّا ما ذكره في القسم الثاني من كونه موردا لبدل الحيلولة فهو غير تامّ ، لأنّ مورده صورة بقاء العين مع تعذّر الوصول إليها ، بحيث يرجى زوال العذر أيضا. وأمّا إذا كان العثور عليها مقطوع العدم وكان الضامن مأيوسا من الوصول إليها كما في المال المسروق أو الملقى في البحر فهو تالف عرفا ، فيلحق بالقسم الأوّل ، إذ ليس المراد من التلف الانعدام الحقيقيّ الذي ذهب بعض الفلاسفة إلى استحالته ، بل المراد هو التلف العرفيّ ، فلا يكون موردا لبدل الحيلولة المصطلحة.

وأمّا ما أفاده في القسم الثالث ـ من زوال الماليّة مع بقاء ملكيّة العين ـ فربّما يناقش فيه كما في حاشية السيد قدس‌سره بأنّ ذهاب الوصف إن أوجب سقوط العين عن قابليّة الانتفاع بها ، فتسقط عن الملكيّة أيضا ، وإلّا فهي مال ، (١) هذا.

لكن الظاهر إمكان سقوطها عن الماليّة التي مناطها إمكان الانتفاع المعتدّ به بها ، دون ملكيّتها التي هي إضافة خاصّة بين الشي‌ء ومالكه ، ولا يناط اعتبار الملكيّة بالماليّة

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١١٠.


.................................................................................................

__________________

كحبّة حنطة والرطوبة الباقية على أعضاء الوضوء ، والخيط الباقي في الثوب المخيط ونحوها.

وأمّا ما أفاده في القسم الرابع ـ من سقوط العين عن الماليّة والملكيّة معا ـ فلا إشكال في صحّته ، لأنّ المتلف يضمن بدل العين من المثل أو القيمة ، كما لا شبهة في بقاء حق الاختصاص بها للمالك.

ولنختم الكلام هنا في بدل الحيلولة وبذلك فرغنا من مباحث المقبوض بالبيع الفاسد ، وبه تمّ الجزء الثالث من شرحنا على «متاجر» شيخنا الأعظم ، آملا منه تعالى القبول ، وسائلا منه التوفيق لا كماله بحقّ سادة أوليائه محمّد وآله المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، واللعن على كافّة أعدائهم إلى يوم الدين يا ربّ العالمين.



«الفهرست»

أحكام المقبوض بالبيع الفاسد.................................................... ٥

الأول : عدم التملك............................................................ ٦

الثاني : الضمان................................................................ ٧

أدلة الضمان............................................................ ٢٠٠ ـ ٨

الدليل الأوّل : الاجماع........................................................... ٨

الدليل الثاني : حديث «على اليد»........................................... ٤٧ ـ ٩

الخدشة في دلالة الحديث بظهوره في التكليف ، والمناقشة فيها....................... ١٢

دلالة الحديث على ضمان الصغير والمجنون المميزين................................. ١٤

تفصيل الكلام في حديث «على اليد»...................................... ٤٧ ـ ١٧

أ : تحقيق سند الحديث................................................... ٢٠ ـ ١٨

المناقشة في عمل المشهور بالحديث......................................... ٢٥ ـ ٢٠

تحقيق إحراز عمل المشهور ونقل كلمات الأصحاب.......................... ٢٩ ـ ٢٦

ب : البحث الدلالي : محتملات الحديث................................... ٣٢ ـ ٢٦

١ ـ التكليف بردَّ العين........................................................ ٢٦

٢ ـ الحكم الوضعي وهو الضمان................................................ ٢٧

٣ ـ الجمع بين التكليف والوضع................................................ ٢٨

المختار في مدلول الحديث...................................................... ٣٠

اُمور تستفاد من الحديث.................................................. ٤٧ ـ ٣٢

١ ـ عدم اختصاص الأخذ بالقهر والغلبة......................................... ٣٢

٢ ـ اعتبار الإرادة والاختيار في الأخذ المضمن..................................... ٣٣

٣ ـ اطلاق الضمان للعلم بوجوب الاداء والجهل به................................ ٣٤


٤ ـ اطلاق الضمان لليد الأصلية والتابعة......................................... ٣٤

٥ ـ اطلاق الضمان لليد المستقلة والمشتركة....................................... ٣٥

٦ ـ أقسام المأخوذ باليد................................................... ٤٣ ـ ٣٦

الفسم الأوّل : الأعيان الشخصيّة والكلية........................................ ٣٦

القسم الثاني : المنافع.......................................................... ٣٨

القسم الثالث : الحقوق....................................................... ٤١

القسم الرابع : ما ليس بملك ولا حق............................................ ٤٢

٧ ـ المراد من الأداء المجعول غاية للضمان.................................... ٤٧ ـ ٤٤

الدليل الثالث : أخبار ضمان الجارية المسروقة............................. ٥٥ ـ ٤٨

هل يستند الضمان إلى الاستيفاء أو الاتلاف أو غيرهما؟...................... ٥٥ ـ ٥٢

الدليل الرابع : قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وفيه جهات... ١٤٢ ـ ٥٦

ورود هذه القاعدة في كلام شيخ الطائفة وغيره............................... ٦١ ـ ٥٧

الجهة الاولى : معنى القاعدة ، وفيه مباحث....................................... ٦٣

الأول : المراد بالضمان في العقد الصحيح والفاسد................................. ٦٧

الثاني : المراد بالضمان في العقد الصحيح والفاسد................................. ٦٧

تفسير الضمان بكون التلف في ملك الضامن ، والمناقشة فيه....................... ٦٩

الضمان بمعنى كون درك المضمون على الضامن شامل للعوض المسمى والواقعي........ ٧١

المراد بالضمان بقول مطلق هو التدارك بالبدل الواقعي.............................. ٧٤

ما احتمله كاشف الغطاء قدس سره في الضمان في العقد الفاسد ، والخدشة فيه....... ٧٦

الثالث : العموم في «كل عقد» بلحاظ الصنف لا النوع والفرد................ ٨٥ ـ ٨٠

الرابع : اعتبار كون الضمان مقتضى العقد لا الشرط............................... ٨٦

إشتراط ضمان العين في كل من الإجارة والعارية الفاسدتين.......................... ٨٨

احتمال كون العموم بلحاظ أشخاص العقود ، كما في الجواهر...................... ٩١

تضعيف الاحتمال المزبور...................................................... ٩٤

الخامس : حرف «الباء» ظرفية أو سببية................................... ١٠٣ ـ ٩٧

عدم كون العقد الفاسد علة تامة للضمان........................................ ٩٩

تحقيق مفاد قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».................. ١١٣ ـ ١٠٣

الجهة الثانية : مستند قاعدة «ما يضمن»................................ ١٣٧ ـ ١١٤


أ : إقدام المتعاملين........................................................... ١١٤

المناقشة في الاستدلال بقاعدة الاقدام طردا وعكسا....................... ١١٩ ـ ١١٦

تحقيق قاعدة الاقدام.................................................. ١٢٣ ـ ١١٩

ب : قاعدة الاحترام.................................................. ١٢٦ ـ ١٢٣

الأخبار الدالة على إحترام مال المسلم.......................................... ١٢٣

ج : قاعدة نفي الضرر....................................................... ١٢٦

د : حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».................................. ١٢٨

اختصاص القاعدة بالأعيان وعدم شمولها للأعمال................................ ١٢٩

توجيه استدلال شيخ الطائفة وغيره بقاعدة الاقدام................................ ١٣٠

حكم ضمان السبق في المسابقة الفاسدة................................. ١٣٧ ـ ١٣٣

الجهة الثالثة : عدم اختصاص ضمان المقبوض بالعقد الفاسد بالجهل بفساد العقد ١٤١ ـ ١٣٧

تحقيق التفصيل في الضمان بين العلم بالفساد والجهل به.................... ١٤٣ ـ ١٤١

قاعدة : ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، والكلام في جهات.... ١٩٩ ـ ١٤٣

الأولى : اقتضاء القاعدة عدم ضمان العين في الإجارة الفاسدة...................... ١٤٥

توجيه حكم جماعة بضمان العين............................................... ١٥٢

ترجيح المصنف عدم الضمان.................................................. ١٥٥

الجهة الثانية : موارد النقض على القاعدة................................. ١٧٧ ـ ١٥٨

أ : النقص بعارية الصيد............................................... ١٦٨ ـ ١٥٨

ب : النقض بمنفعة المبيع فاسدا......................................... ١٧٢ ـ ١٦٩

ج : النقض بحمل المبيع بالبيع الفاسد................................... ١٧٥ ـ ١٧٢

د : النقض بالشركة الفاسدة.................................................. ١٧٦

الجهة الثالثة : مستند قاعدة «ما لا يضمن»..................................... ١٧٨

أ : الأولوية................................................................. ١٧٨

تقرييب أولوية العقد الفاسد ـ مما لا يضمن بصحيحة ـ بعدم الضمان........ ١٨٤ ـ ١٧٨

خدشة المصنف في الأولوية................................................... ١٨٤

المناقشة في الأولوية بوجه آخر................................................. ١٨٥

ب : عموم دليل الهبة والأمانات ، المقتضي لعدم الضمان في عقودها الفاسدة....... ١٨٧

أولوية الهبة الفاسدة بعدم الضمان من العقود الأمانية............................. ١٩١


تحقيق مستند قاعدة ما لا يضمن............................................... ١٩٣

كلام بعض الاعلام في مفاد عدم ضمان الأمين ، الوارد في نصوص الأمانات.. ١٩٨ ـ ١٩٥

هل شرط عدم الضمان في العقد المضمن مخالف لمقتضى العقد أم لا؟ وكذا الحال في شرط الضمان في العقود الأمانية  ٢٠٠ ـ ١٩٨

الثاني من أحكام المقبوض بالعقد الفاسد : وجوب رده فورا إلى مالكه.... ٢١٢ ـ ٢٠٠

مؤونة الرد على المشتري....................................................... ٢٠٢

الدليل على وجوب الرّد....................................................... ٢٠٥

أ : التوقيع الناهي عن التصرّف في مال الغير.................................... ٢٠٥

ب : النبوي الدال على حرمة مال المسلم بدون إذنه.............................. ٢٠٦

كلام الشيخ وابن إدريس في جواز الامساك ، والمناقشة فيه......................... ٢٠٩

الثالث من أحكام المقبوض بالعقد الفاسد : ضمان المنافع.............. ٢٨٤ ـ ٢١٣

أ : المنافع المستوفاة........................................................... ٢١٣

أدلة الضمان................................................................ ٢١٤

الأوّل : عدم حلية مال الغير بدون إذنه........................................ ٢١٤

الثاني : قاعدة الاتلاف...................................................... ٢١٧

الثالث : قاعدة الاحترام..................................................... ٢١٨

الرابع : عدم حلية مال المسلم إلّا بطيب نفسه.................................. ٢١٩

الخامس : ما دلّ من عدم صلاحية ذهاب حق أحد............................. ٢١٩

السادس : قاعدة نفي الضرر................................................. ٢٢٠

السابع : قاعدة الاستيفاء.................................................... ٢٢١

قول ابن حمزة بعدم ضمان منفعة المبيع بالبيع الفاسد ، لأن الخراج بالضمان.......... ٢٢٢

استفادة هذا القول من نصوص متفرقة.......................................... ٢٢٤

المناقشة في مختار ابن حمزة بوجود ثلاثة.......................................... ٢٢٧

أوّلها : ما أفاده المصنف...................................................... ٢٢٧

ثانيها : المناقشة فيه بما ورد من ضمان منافع الأمة المسروقة المبيعة.................. ٢٣١

ثالثها : المناقشة فيه بما ورد من ضمان منافع المغصوب كما في صحيحة أبي ولاد..... ٢٣٤

تحقيق حديث «الخراج بالضمان»....................................... ٢٥٠ ـ ٢٣٦

البحث السندي..................................................... ٢٤٠ ـ ٢٣٦


العاملون به من فقهاء الإمامية قدس سرهم...................................... ٢٣٨

البحث الدلالي...................................................... ٢٥٠ ـ ٢٤١

معنى الخراج................................................................. ٢٤١

معنى الضمان............................................................... ٢٤٢

محتملات الحديث.................................................... ٢٤٧ ـ ٢٤٣

ما استظهره المحقق النائيني قدس سره..................................... ٢٥٠ ـ ٢٤٧

ب : ضمان المنفعة الفائتة بغير استيفاء................................... ٢٨٥ ـ ٢٥١

ما استدل به على الضمان............................................. ٢٦٠ ـ ٢٥٣

الأوّل : حديث «على اليد»................................................. ٢٥٣

الثاني : قاعدة احترام مال المسلم.............................................. ٢٥٤

مناقشة المصنف في شمول «اليد» للمنافع....................................... ٢٥٥

المناقشة في دلالة قاعدة الاحترام للمنافع الفائتة.................................. ٢٥٩

الاستدلال بوجوه على عدم ضمان المنافع الفائتة................................. ٢٦٠

الأوّل : قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسد»....................... ٢٦٠

الثاني : سكوت أخبار ضمان منافع الجارية المسروقة عن المنفعة الفائتة.............. ٢٦٢

الثالث : استظهار عدم الضمان من صحيحة محمد بن قيس...................... ٢٦٤

توقف المصنف في المسألة..................................................... ٢٦٥

اختصاص التوقف ـ عند بعض ـ بصورة علم البائع بالفساد........................ ٢٦٦

الأقوال المستفادة من مجموع الكلمات خمسة..................................... ٢٦٨

ظهور عبارة التذكرة في الضمان مطلقا.......................................... ٢٦٩

تحقيق ضمان منافع المبيع الفائتة......................................... ٢٨٥ ـ ٢٧٣

فروع ترتبط بضمان المنافع.............................................. ٢٩٣ ـ ٢٨٥

أ : ضمان عمل الحرّ الكسوب بالحبس......................................... ٢٨٥

ب : جواز مطالبة المستأجر بتخلية العين المستأجرة........................ ٢٩٠ ـ ٢٨٦

الصورة الأُولى : عدم إشتراط المستأجر على المؤخر البقاء في المكان................. ٢٨٦

الصورة الثانية : الاشتراط عليه ضمن عقد لازم.................................. ٢٩٠

ج : حق الطبع والنشر................................................ ٢٩٣ ـ ٢٩١


الأمر الرابع : ضمان المثلي بالمثل.................................... ٣٦٢ ـ ٢٩٤

تعريف المثلي بما تساوت أجزاؤه................................................. ٢٩٦

تحقيق التعريف المزبور................................................... ٣١٤ ـ ٢٩٧

كلام المحقق الأردبيلي حول تعريف المشهور للمثلي................................ ٣٠٢

لحاظ المثلية بالنسبة إلى أفراد الصنف لا أفراد النوع ولا أبعاض الفرد................. ٣٠٣

المناقشة في تعريف المثلي بناء على إرادة تساوي أفراد الصنف....................... ٣٠٧

تعريف المثلي بأمور أُخر................................................ ٣١٤ ـ ٣١١

وقوع عنوان المثلي في معقد الاجماع.............................................. ٣١٧

الأصل المرجع في الشك في كون المضمون مثليا وقيميا............................. ٣٢٠

أ : أصالة تخيير الضامن...................................................... ٣٢١

ب : أصالة تخيير المالك...................................................... ٣٢٢

إثبات تخيير المالك بالأصل اللفظي وهو قاعدة اليد.............................. ٣٢٤

ج : أصالة تخيير الضامن عقلاً بين دفع المثل أو القيمة.................... ٣٢٨ ـ ٣٢٤

تحقيق حكم الشك في كون التالف مثليا أو قيميا.......................... ٣٣٢ ـ ٣٢٨

استفادة حكم المسألة من إطلاق أدلة الضمان مقاميا...................... ٣٣٧ ـ ٣٣٢

استدلال شيخ الطائفة بآية الاعتداء على ضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة......... ٣٣٩

مناقشة صاحب الرياض وغيره في الاستدلال..................................... ٣٤٠

عدم وفاء الاطلاق المقامي وآية الاعتداء بما يدعيه المشهور......................... ٣٤٤

تجويز جماعة رد العين المقترضة القيمية........................................... ٣٤٨

النسبة بين العرف وآية الاعتداء وبين مقالة المشهور عموم من وجه.................. ٣٥٦

حكم الشك في كون المضمون مثليا وقيميا....................................... ٣٥٧

كفاية دفع العين التي نقصت قيمتها............................................ ٣٦٠

إلحاق المشكوك كونه مثليا وقيميا بالمثلي......................................... ٣٦٢

الأمر الخامس : ارتفاع ثمن المثلي.................................... ٣٧٤ ـ ٣٦٣

وجوب شراء المثل إن كان ارتفاع قيمته للسوق.................................... ٣٦٤

وجوب شراء المثل إن كان ارتفاع قيمته لعزة وجوده................................ ٣٦٦

لا فرق في وجوب شراء المثل بين مطالبة المالك في بلد التلف أو بلد آخر............. ٣٦٩

تحقيق المسألة......................................................... ٣٧٤ ـ ٣٧١


الأمر السادس : تعذر المثل.......................................... ٤٥٤ ـ ٣٧٥

إشتراط انقلاب المثل إلى القيمة بمطالبة المالك............................. ٣٨٢ ـ ٣٧٦

المشهور على أن العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمة يوم الأداء........................ ٣٨٤

احتمال اعتبار وقت تعذر المثل................................................. ٣٨٤

تحقيق مفاد أدلة الضمان من حيث القيمة المضمونة........................ ٤٠٢ ـ ٣٩٠

الوجوه المحتملة في قيمة المثل المتعذر ، ومبانيها.............................. ٤٢٠ ـ ٤٠٣

أ : بناء على انقلاب المثل قيميا بالاعواز وكون العبرة بيوم التلف تعين قيمة يوم الاعواز ٤٠٥

ب : بناء على ضمان القيمي بزمان الضمان اتجه القول بضمان وقت تلف العين.... ٤٠٦

ج : بناء على ضمان القيمي بأعلى القيم اتجه ضمان المثلي المتعذر بأعلى القيم من التلف إلى الاعواز        ٤٠٨

د : بناء على انقلاب العين المثلية التالفة قيمية احتمل اعتبار يوم الغصب........... ٤٠٩

ه : بناء على أن المشترك بين العين والمثل صار قيميا احتمل اعتبار الأعلى من وقت الضمان إلى وقت تعذر المثل     ٤١١

و : احتمال اعتبار الأعلى من يوم الضمان إلى يوم دفع القيمة..................... ٤١٣

استظهار بعض الاحتمالات المتقدمة من أدلة الضمان...................... ٤٢٠ ـ ٤١٥

اختصاص انقلاب الضمان من المثل إلى القيمة بالتعذر الطارئ..................... ٤٢٠

التنبيه على بعض الأمور المرتبطة بالمقام................................... ٤٢٧ ـ ٤٢٥

هل مناط تعذر المثل فقده في البلد وما حوله أم لا؟............................... ٤٢٨

صدق التعذر بفقد المثل في البلد ، كما في السلم................................. ٤٣٢

المعيار في قيمة المثل المتعذر.............................................. ٤٣٧ ـ ٤٣٤

هل العبرة في المثل المتعذر بقيمة بلد التلف أو بلد المطالبة أو أعلى القيمتين؟......... ٤٣٧

التعرض لكلام شيخ الطائفة وتحقيقه..................................... ٤٤٣ ـ ٤٣٩

حكم سقوط المثل عن المالية حكم تعذره في الانتقال إلى القيمة..................... ٤٤٣

حكم سقوط العين عن التقويم................................................. ٤٤٥

الأمر السابع : ضمان القيمي بالقيمة................................... ٥٥٤ ـ ٤٥٥

دلالة أخبار ضمان القيميات المضمونة على اشتغال الذمة بالقيمة.................. ٤٥٦

الاشكال على صاحب الجواهر في استدلاله بصحيحة أبي ولاد وعتق العبد المشترك ٤٦٠ ـ ٤٥٧

المتيقن من أخبار ضمان القيميات بالقيمة تعذر المماثل العرفي...................... ٤٦١


ذكر جملة من الروايات الدالة على ضمان القيمي بالقيمة.......................... ٤٧٢

الأقوال في القيمة المعتبرة في ضمان القيمي................................ ٥٤٣ ـ ٤٧٥

أ : إعتبار فيمة يوم التلف............................................. ٤٨١ ـ ٤٧٥

اقتضاء الأصل ضمان قيمة وقت التلف........................................ ٤٧٩

ب : ضمان القيمي بقيمة يوم الضمان.................................. ٥٤٦ ـ ٤٧٩

صحيحة أبي ولاد ، والاستدلال بها على اعتبار قيمة يوم الضمان........... ٥٤٦ ـ ٤٨٢

ظهوره الفقرة الأولى منها على اعتبار قيمة يوم الضمان............................ ٤٨٩

دلالة الفقرة الأولى على المدعى بوجوه ، والنظر فيها....................... ٤٩٧ ـ ٤٩٢

ما احتمله جماعة من عدم ظهور الجملة في اعتبار قيمة يوم الضمان ، وتبعيده. ٥٠٠ ـ ٤٩٧

ظهور الفقرة الثانية في اعتبار قيمة يوم الضمان........................... ٥١٤ ـ ٥٠٠

تحقيق مفاد الفقرة الثانية............................................... ٥١١ ـ ٥٠٥

عدول المصنف ببيان الموهن لاستظهار قيمة يوم الضمان......................... ٥١٤

تأييد الموهن بأمرين................................................... ٥٢٥ ـ ٥١٦

حمل صاحب الجواهر الحلف على المتعارف عند المعاملة لا في مقام الترافع ، والنظر فيه ٥٢٠

ما أفاده شيخ الطائفة من حمل الصحيحة على التعبد في ضمان الدابة....... ٥٢٨ ـ ٥٢٦

ج : القول بضمان أعلى القيم......................................... ٥٤٦ ـ ٥٢٩

الاستدلال بالصحيحة على ضمان أعلى القيم.................................. ٥٢٩

الاستدلال عليه بوجه ثان.................................................... ٥٣١

توجيه المصنف للاستدلال على ضمان أعلى القيم........................ ٥٣٧ ـ ٥٣٤

الاستناد في ضمان أعلى القيم إلى قاعدة الاشتغال ، والخدشة فيه................. ٥٣٨

إمكان إثبات ضمان أعلى القيم بالاستصحاب................................. ٥٣٩

تحقيق ادلة هذا القول................................................. ٥٤٣ ـ ٥٣٩

الفوائد المستفادة من صحيحة أبي ولاد.................................. ٥٤٦ ـ ٥٤٣

د : ضمان المقبوض بالبيع الفاسد بقيمة يوم البيع......................... ٥٤٨ ـ ٥٤٧

حكم زيادة ثمن القيمي بعد التلف............................................. ٥٤٩

حكم ارتفاع القيمة بسبب الأمكنة............................................ ٥٥٢

ضمان ارتفاع القيمة بسبب الزيادة العينية....................................... ٥٥٣


مباحث بدل الحيلولة................................................. ٦٣٠ ـ ٥٥٥

مورد بدل الحيلولة............................................................ ٥٥٧

المراد بالتعذر هو العرفي لا العقلي............................................... ٥٦١

جواز امتناع المالك من أخذ بدل الحيلولة......................................... ٥٦٤

خروج العين عن المالية........................................................ ٥٦٥

البدل ملك المضمون له أم مباح له؟............................................ ٥٦٦

دفع بدل الحيلولة لا يوجب انتقال العين إلى الغارم................................ ٥٦٩

إشتراط وجوب البدل بفوات معظم منافع العين................................... ٥٧٥

عدم ضمان ارتفاع القيمة والزيادة بعد دفع البدل................................. ٥٨٨

ضمان ارتفاع قيمة العين والنماء قبل دفع البدل إلى المالك......................... ٥٩٢

وجوب رد العين فورا إلى المالك بمجرد التمكن منه................................. ٥٩٣

هل ينتقل البدل إلى الغارم بتمكن دفع العين؟.................................... ٥٩٦

لا يجوز للضامن حبس العين................................................... ٦٠٢

لو حبس العين فتلفت فهل العبرة بقيمتها السابقة أو الفعلية؟...................... ٦٠٤

تحقيق مباحث بدل الحيلوبة.......................................... ٦٣٠ ـ ٦٠٨

أدلة بدل الحيلولة...................................................... ٦١٤ ـ ٦٠٨

أ : أخبار ضمان المغصوب والأمانات المفرّط فيها................................ ٦٠٨

ب : قاعدة نفى الضرر...................................................... ٦٠٨

ج : قاعدة السلطنة.......................................................... ٦٠٩

د : الجميع بين الحقّين........................................................ ٦١٠

ه : حيلولة الغاصب بين المالك والمال.......................................... ٦١٠

و : تقويت سلطنة المالك على ماله............................................ ٦١٠

ز : قاعدة اليد.............................................................. ٦١١

ح : الاجماع المتصيد من حكمهم بالضمان في موارد متفرقة........................ ٦١٣

تنبيهات :................................................................... ٦١٥

الاوّل : مورد بدل الحيلولة هو التعذّر ، لا التلف وما بحكمه....................... ٦١٥

الثاني : المناط في التعذّر هو العرفي لا العقلي المسقط للتكليف..................... ٦١٥

الثالث : هل للضامن إجبار المالك على أخذ بدل الحيلولة أم لا؟.................. ٦١٦


الرابع : بدل الحيلولة ملك أم مباح؟............................................ ٦١٧

الخامس : هل تنتقل العين إلى الغارم بدفع البدل أم لا؟........................... ٦١٩

الفروع المترتبة على خروج المبدل عن ملك مالكه.................................. ٦٢٠

السادس : ثبوت التراد بالتمكن من دفع العين إلى المالك.......................... ٦٢١

السابع : هل ترجع الغرامة إلى ملك الغارم بمجرد تمكنه من رد العين أم لا؟.......... ٦٢٣

الثامن : خروج العين عن صورتها النوعية وعودها إليها............................ ٦٢٤

التاسع : هل يكفي تمكن المالك في انتقال البدل الى الغارم أم لا؟.................. ٦٢٦

العاشر : هل المنافع وارتفاع قيمة العين مضمونة أم لا؟........................... ٦٢٦

الحادي عشر : لو تمكن المالك من الانتفاع بالعين مع ورود نقص عليها............. ٦٢٧

الثاني عشر : موارد الضمان................................................... ٦٢٧

الفهرست............................................................ ٦٤٠ ـ ٦٣١

هدى الطالب الى شرح المكاسب - ٣

المؤلف:
الصفحات: 640