بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، لا سيما الإمام المبين وغياث المضطر المستكين عجل الله تعالى فرجه الشريف ، واللعن المؤبد على أعدائهم أجمعين.



وينبغي التنبيه على أمور (١) :

الأوّل (٢):

______________________________________________________

تنبيهات المعاطاة

(١) قد تقدم في أوّل بحث المعاطاة : أن المصنف قدس‌سره اقتصر على بيان الأقوال ، والاستدلال لما اختاره ، وأوكل جملة من أحكامها إلى التنبيهات ، ولمّا فرغ قدس‌سره عن إثبات صحة المعاطاة وكونها بيعا لازما نبّه على أمور تتميما للبحث. ولا يخفى أنّ بعض هذه الأمور مستغنى عنه ، لابتنائه على تأثير المعاطاة في الإباحة التعبدية أو الملك الجائز ، وكلا القولين ممنوع ، لما تقدم مفصّلا من كونها كالبيع بالصيغة مفيدة للملك اللازم ، لكن المصنف قدس‌سره تعرّض لملزماتها استقصاء لجهات البحث.

التنبيه الأوّل : جريان شروط البيع وأحكامه في المعاطاة

(٢) الغرض من عقد هذا الأمر تحقيق اشتراط المعاطاة بشرائط البيع العقدي المعتبرة فيه شرعا ، وجريان أحكامه فيها ، بعد وضوح اعتبار شرائط البيع العرفي فيها ، فيبحث عن أنّه هل يعتبر في المعاطاة ما يعتبر شرعا في البيع القولي ـ عدا الصيغة ـ من الشروط المعتبرة في المتعاقدين والعوضين أم لا؟ وكذا هل تجري فيها الأحكام الثابتة للبيع بالصيغة كحرمة الربا وكالخيارات ، وأنّ تلف المبيع قبل قبضه يكون من مال البائع ، أم لا تجري فيها؟


الظاهر (١) أنّ المعاطاة

______________________________________________________

وتنقيح البحث في هذا التنبيه يتوقف على التكلم في مقامين ، أحدهما : في الشروط ، والآخر : في ما يستتبعه البيع الصحيح من الأحكام.

أما المقام الأول ففيه جهات تظهر من مطاوي كلمات المصنف قدس‌سره.

الأولى : أنّ المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفيّ قطعا سواء أفادت الملك اللازم أم الجائز أم الإباحة الشرعية.

الثانية : أنّ المعاطاة المقصود بها الإباحة ليست بيعا ولا محكومة بأحكامه.

الثالثة : أن شرائط البيع وأحكامه هل تجري في المعاطاة المقصود بها التمليك أم لا؟ وسيأتي الكلام في كلّ منها إن شاء الله تعالى.

(١) هذا شروع في الجهة الأولى ـ وهي إثبات بيعية المعاطاة المقصود بها الملك ـ وتقريبه : أنّه إن قلنا بترتب الملك الجائز على المعاطاة المقصود بها الملك ففي كونها بيعا عرفيا أو معاوضة مستقلّة قولان :

أحدهما : أنّها معاوضة مستقلة ، وهو محتمل المحكي عن حواشي الشهيد على القواعد ، فلا تكون حينئذ محكومة بأحكام البيع ، إذ المرجع في تعيين شرائطها وأحكامها أدلة أخرى.

ثانيهما : أنّها بيع.

والصحيح من هذين القولين هو الثاني ، بشهادة ما تقدّم عند نقل الأقوال في حكمها من رجوع الخلاف الى الحكم دون الموضوع. بل يظهر من كلام المحقق الثاني قدس‌سره أنّ كونها بيعا ممّا لا كلام فيه حتى عند القائلين بكون المعاطاة فاسدة كما ذهب إليه العلامة في النهاية. ويدلّ على بيعيّتها عندهم تمسّكهم لذلك بقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) إذ لو لم تكن بيعا لم يصحّ هذا التمسك كما لا يخفى.

هذا في المعاطاة التي قصد بها التمليك والتملك مع إفادتها الملك. وأمّا مع إفادتها الإباحة فالظاهر أيضا أنّها بيع عرفي ، إذ المفروض قصد المتعاطيين التمليك


قبل اللزوم (١) ـ على القول بإفادتها الملك (٢) ـ بيع (٣) ، بل (٤) الظاهر من كلام المحقق الثاني في جامع المقاصد

______________________________________________________

البيعي ، غاية الأمر أنّه لا يترتب عليها شرعا إلّا الإباحة ، فالمراد بنفي بيعيّتها في كلامهم ومعاقد إجماعهم هو نفي الملك فضلا عن اللزوم.

وأمّا المعاطاة المقصود بها الإباحة ـ كما احتمله بل استظهره صاحب الجواهر قدس‌سره وجعلها مصبّ الأقوال ـ فلا إشكال في عدم كونها بيعا عرفا ولا شرعا.

فالمتحصل : أنّ المعاطاة إمّا أن يقصد بها التمليك مع إفادتها الملكية ، وإمّا أن يقصد بها التمليك مع إفادتها الإباحة شرعا ، وإمّا أن يقصد بها الإباحة. فهذه صور ثلاث تتكفّلها الجهة الأولى التي تضمّنها كلام المصنف قدس‌سره من أوّل التنبيه إلى قوله : «وحيث ان المناسب لهذا القول التمسك في مشروعيته .. إلخ».

(١) التقييد ب «قبل اللزوم» لأجل أنه لا ريب في بيعيّة المعاطاة المفيدة للملك اللازم كما هو مختاره قدس‌سره ، أو بعد عروض أحد الملزمات.

(٢) وكذا بناء على إفادتها الإباحة شرعا ، كما سيأتي بقوله : «وأما على القول بإفادتها للإباحة فالظاهر أنّها بيع عرفي» فتقييد صدق البيع على المعاطاة بإفادة الملك الجائز لعلّه من جهة كونه أقوى بحسب الاستظهار من الكلمات ، وأنّ احتمال عدم بيعيتها موهون جدّا لا يعتنى به.

(٣) يعني : ليست معاملة مستقلة ، كما يظهر من الشهيد قدس‌سره في الحواشي على ما ينقله المصنف قدس‌سره هنا وفي الأمر السابع ، بل في مفتاح الكرامة : «نسبة كونها معاملة مستقلة إلى ظاهر كلامهم» (١). وعليه فلا يشترط فيها شي‌ء من شروط البيع.

(٤) مقصوده الإضراب عن مجرّد ظهور كون المعاطاة بيعا إلى أنّ بيعيّتها من المسلّمات ، لا مجرّد الظهور الذي يبقى معه احتمال كونها معاملة مستقلة.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨


أنّه (١) ممّا لا كلام فيه (٢) ، حتّى عند القائلين بكونها فاسدة ، كالعلّامة في النهاية (١). ودلّ على ذلك (٣) تمسّكهم له (٤) بقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

وأمّا (٥) على القول بإفادتها للإباحة (٦) فالظاهر أنّه (٧) بيع عرفي لم يؤثّر.

______________________________________________________

(١) أي : أنّ كون المعاطاة بيعا ممّا لا كلام فيه.

(٢) حيث قال المحقق الثاني : «وقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) يتناولها ، لأنّها بيع بالاتفاق ، حتى عند القائلين بفسادها ، لأنّهم يقولون : هي بيع فاسد» (٢).

(٣) أي : على كونها بيعا.

(٤) أي : تمسّكهم لكون المعاطاة بيعا ، وجه الدّلالة : أنّها لو لم تكن بيعا لم تكن الآية المباركة متكفلة لحكم المعاطاة كأجنبيتها عن حكم الصلح والهبة ونحوهما من المعاملات ، فالاستدلال بالآية على مملّكية المعاطاة كاشف عن تسالمهم على كونها بيعا عرفا. وقد نبّه المصنف قدس‌سره على هذا المطلب في الاستدلال بالآية الشريفة على صحة المعاطاة وفي أدلة اللزوم أيضا ، فقال في الموضع الأوّل : «وإنكار كونها بيعا مكابرة» فراجع.

(٥) هذا عدل قوله : «على القول بإفادتها الملك» يعني : أنّ المعاطاة المقصود بها التمليك بيع عرفي سواء ترتب الملك عليها أم الإباحة تعبدا.

(٦) يعني : مع قصد المتعاطيين للتمليك ، فالمعاطاة حينئذ بيع عرفي ، إلّا أنّها لا تؤثّر في ما قصداه من التمليك ، بل تؤثّر بحكم الشارع في إباحة التصرفات ، فنفي بيعيّة المعاطاة حينئذ لا يكون بحسب الموضوع ، بل بحسب الحكم الشرعي ، إذ المفروض صدق البيع العرفي عليها.

(٧) أي : أنّ المعاطاة. وتذكير الضمير باعتبار الخبر ، أو باعتبار رجوعه إلى التعاطي.

__________________

(١) : نهاية الاحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٩

(٢) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨


شرعا إلّا الإباحة ، فنفي البيع عنها في كلامهم (١) ومعاقد إجماعهم هو البيع المفيد شرعا للّزوم زيادة على الملك (٢).

هذا (٣) على ما اخترناه سابقا (٤) من أن مقصود المتعاطيين في المعاطاة التملّك والبيع.

وأمّا على ما احتمله بعضهم (٥) ـ بل استظهره ـ من أنّ محلّ الكلام هو ما

______________________________________________________

(١) قد تقدمت هذه الكلمات في أوّل بحث المعاطاة عند بيان الأقوال ، فراجع (١).

(٢) لعلّ الأولى بسلاسة العبارة أن يقال : «هو البيع المفيد شرعا للملك فضلا عن لزومه» وجه الأولوية : أنّ نفي بيعية المعاطاة في كلمات القدماء ومعاقد إجماع مثل السيد أبي المكارم ابن زهرة قدس‌سره يراد به عدم تأثيرها في الملك أصلا ، لا اللازم منه ولا المتزلزل ، لتصريحهم بإفادتها للإباحة خاصة. وأمّا المحقق الثاني القائل بالملك الجائز فقد صرّح بصدق البيع عليها شرعا ، ولم ينكر ذلك أصلا. نعم لو كان مقصود المصنف أنّ المنفي شرعا هو الملك واللزوم معا كان ملتئما مع كلمات القدماء القائلين بالإباحة المجرّدة عن الملك. ولكن يبقى التنافي بين استظهار المصنف عدم البيعية شرعا وبين قول المحقق الثاني بالبيعية شرعا وبعدم اللزوم.

(٣) يعني : ما ذكرناه من صدق البيع على المعاطاة المقصود بها الملك ، سواء أثّرت فيه أم أفادت الإباحة خاصة.

(٤) حيث قال في تحرير محلّ النزاع في المعاطاة : «والذي يقوى في النفس إبقاء ظواهر كلماتهم على حالها ، وأنّهم يحكمون بالإباحة المجرّدة عن الملك في المعاطاة ، مع فرض قصد المتعاطيين التمليك ..» (٢).

(٥) كصاحب الجواهر قدس‌سره وقد تقدم كلامه في تحرير محلّ النزاع في المعاطاة ، فراجع (٣).

__________________

(١) : لاحظ الجزء الأوّل من هذا الشرح. ص ٣٣٦ إلى ٣٤٤

(٢) المصدر ، ص ٣٤٧

(٣) المصدر ، ص ٣٣٢


إذا قصدا مجرّد الإباحة فلا إشكال في عدم كونها بيعا عرفا ولا شرعا (١).

وعلى هذا (٢) فلا بدّ عند الشك في اعتبار شرط فيها من الرجوع إلى

______________________________________________________

وبالجملة : فالمقصود في الجهة الأولى هو : انقسام المعاطاة إلى ما يقصد به التمليك وإلى ما يقصد به الإباحة. ولا إشكال في كون الأوّل بيعا ، كما لا إشكال في عدم كون الثاني بيعا.

(١) عدم بيعية المعاطاة المقصود بها الإباحة يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، لتقوّم البيع بقصد المبادلة والتمليك.

(٢) أي : وبناء على كون محل الكلام هو المعاطاة المقصود بها الإباحة لا التمليك فلا بدّ .. وهذا شروع في الجهة الثانية ، ومحصّلها : أنّ المعاطاة المقصود بها الإباحة لمّا لم تكن بيعا لم تكن شرائط البيع معتبرة فيها ، فإذا شكّ في اعتبار شرط فيها كان المرجع دليل مشروعية الإباحة المعوّضة ، والدليل منحصر في أمرين ، أحدهما :

إطلاق الأدلة اللفظية ، والثاني : السيرة.

فإن اعتمدنا على الدليل اللفظي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس مسلّطون على أموالهم» ـ بالتقريب المتقدم في أدلة المعاطاة ـ كان مقتضى إطلاق سلطنة الملّاك على أموالهم جواز هذه الإباحة المعوّضة سواء أكانت واجدة لشرائط البيع أم فاقدة لها ، لاقتضاء الإطلاق نفي ما يشك دخله فيها ، فتجوز إباحة جنس ربوي بمثله مع التفاضل بينهما ، إذ ليست المعاطاة بيعا حتى تتوقّف مشروعيتها على رعاية شرائط البيع فيها.

وإن اعتمدنا على السيرة العقلائية الممضاة أو على السيرة المتشرعية تعيّن الاقتصار في مشروعية الإباحة المعوّضة على ما إذا روعي فيها شرائط البيع من معلومية العوضين ومساواتهما فيما كانا ربويّين وغير ذلك. وجه الاقتصار واضح ، إذ السيرة دليل لبّيّ لا بدّ من الأخذ بالمتيقن منها ، فلو لم يحرز أنّ مورد عمل العقلاء أو المتشرعة هو الإباحة المعوّضة مطلقا أو خصوص الواجد لشرائط البيع لزم الأخذ


الأدلة الدالّة على صحّة هذه الإباحة العوضية من خصوص (١) أو عموم.

وحيث إنّ المناسب لهذا القول التمسّك في مشروعيّته بعموم (٢) : «الناس مسلّطون على أموالهم» (١) كان مقتضى القاعدة (٣) هو نفي شرطية غير ما ثبت شرطيّته (*).

______________________________________________________

بالمتيقن من مورد إمضاء الشارع كما هو واضح.

(١) المراد بالدليل الخاص هو السيرة القائمة بين الناس في الإباحات المعوّضة ، ووجه خصوصيتها اقتصارها على إعطاء كل منهما ماله للآخر بقصد إباحة التصرف ، لا التمليك.

(٢) المراد بالعموم مطلق الشمول سواء أكان وضعيا أم حكميّا. والمراد به هنا هو الثاني أي إطلاق حديث السلطنة كمّا وكيفا ، لدلالته على مشروعية كل تصرف في المال وبأيّ سبب من الأسباب عدا ما خرج بالدليل.

(٣) وهو الأصل اللفظي أعني به إطلاق قاعدة السلطنة المقتضي لمشروعية كل تصرف في مال كمّا وكيفا.

__________________

(*) وأضاف إليه في الجواهر الاستدلال على ذلك بقاعدة طيب النفس المستفادة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإنه لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه» ومن مفهوم قوله عليه‌السلام : «فلا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه» والتجارة عن تراض ، ونحو ذلك (٢). فالمراد بالأصل الذي تمسّك به في الجواهر لعدم اعتبار العلم بالعوضين في هذه الإباحة المعوّضة هو إطلاق أدلته المذكورة ، هذا.

لكن الأدلة المزبورة لا يخلو الاستدلال بأوّلها وثالثها عن المناقشة ، إذ في أوّلها عدم كون قاعدة السلطنة مشرّعة بالنسبة إلى الأسباب على ما أفاده المصنف قدس‌سره في أدلّة

__________________

(١) : بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٧٢

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢١٨


كما أنّه لو تمسّك لها (١) بالسيرة كان مقتضى القاعدة العكس (٢).

والحاصل : أنّ المرجع على هذا (٣) عند الشك في شروطها هي أدلة هذه المعاملة ، سواء اعتبرت (٤) في البيع أم لا.

______________________________________________________

(١) أي : للمعاطاة المقصود بها الإباحة ، ويمكن أن يستأنس لانعقاد السيرة عليها بمثل كلام شيخ الطائفة قدس‌سره من قوله : «وإنما هي استباحات بين الناس» لظهور باب الاستفعال في قصد ذلك ، كما أنّ الإضافة إلى الناس أمارة شيوعها ودورانها بينهم.

(٢) للزوم الاقتصار على القدر المتيقن ، وهو ما إذا جمعت هذه المعاطاة ـ المقصود بها الإباحة ـ جميع شرائط البيع ، فإذا شكّ في شرطية شي‌ء فيها كان مقتضى السيرة ـ التي هي دليل لبّيّ ـ اعتباره.

(٣) أىّ : على تقدير قصد الإباحة بالمعاطاة.

(٤) أي : الشروط ، كما إذا شك في اختصاص جواز الإباحة المعوّضة بكون المال حقيرا ، وعدم جريانها في الخطير ، فإن كان المرجع مثل إطلاق دليل السلطنة قلنا بها في الخطير ، وإن كان هو السيرة اقتصر على الحقير.

__________________

مملّكية المعاطاة ، (١) ، فالتمسك بها على مشروعية المعاطاة المقصود بها الإباحة ينافي ما سبق منه قدس‌سره من الإشكال في مشرّعيّة قاعدة السلطنة للأسباب.

إلّا أن يقال : إنّ مقصود المصنف قدس‌سره توجيه هذه الإباحة المعوّضة التي قال بمشروعيتها صاحب الجواهر قدس‌سره مستدلّا بقاعدة السلطنة ، وبحديث الحل ، وحينئذ لا سبيل للجزم بأنّ المصنف قدس‌سره بصدد تصحيح الإباحة المعوّضة بقاعدة السلطنة حتى يتّجه عليه التنافي في كلاميه هنا وفي أدلة مملّكية المعاطاة ، فراجع.

وفي ثالثها : اختصاصه بالاكتساب ، فلا تشمل آية التجارة إباحة التصرف.

نعم لا بأس بالتشبث بعموم «لا يحل مال امرء إلّا بطيب نفسه» إلّا على تأمّل فيه

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٣٩٥


.................................................................................................

__________________

تقدّم في أدلة لزوم المعاطاة (١) وبعموم الوفاء بالعقود بناء على صدق العقد على المعاطاة المقصود بها الإباحة.

وعليه فلو شكّ في اعتبار شي‌ء فيها فالمرجع إطلاق هذه الأدلة المقتضي لعدم الاعتبار ، إذ الموضوع للحلّ ـ بناء على التمسك بطيب النفس ـ هو الطيب المتحقق بالتعاطي من دون دخل شي‌ء في ذلك ، وهو كاف في دفع الشك في اعتبار الشرائط المعتبرة في البيع في المعاطاة المقصود بها الإباحة كتقدم الإيجاب على القبول ، وشرائط المتعاملين ، والعوضين ، وكاعتبار التقابض في الصرف ، والتساوي في المكيل والموزون ، وغير ذلك من الشرائط المعتبرة في البيع ، فإنّه لا دليل على اعتبار شي‌ء منها في المعاطاة المذكورة.

فإن قلت : إنّ دليل النهي عن الغرر يوجب اعتبار العلم بالعوضين في المعاطاة.

قلت : إنّ النهي عن الغرر مختص بالبيع الذي ليس منه المعاطاة المذكورة ، والنهي عن الغرر مطلقا غير ثابت بنحو يعتمد عليه.

نعم بناء على التمسك بعموم الوفاء بالعقود يعتبر شروط العقد كالتنجيز فيه ، ويرجع إليه في رفع احتمال شروط أخر. لكن صدق العقد على المعاطاة المقصود بها الإباحة لا يخلو عن خفاء.

والتمسّك بالسيرة أيضا مشكل جدّا ، لعدم تحققها ، إذ المفروض ـ كما تقدم آنفا وسابقا ـ أنّ المعاطاة المتداولة بين الناس هي المقصود بها التمليك. والسيرة العقلائية كالمتشرعية جارية على معاملة الملك مع المأخوذ بالمعاطاة المزبورة.

ولا يخفى أن الموجود في الجواهر في الاستدلال على هذه الإباحة المعوضة هو الأدلة اللفظيّة المتقدّمة ، وليس فيها من السيرة عين ولا أثر. فلعلّ تعرض المصنف للسيرة لأجل استقصاء جهات البحث وإن لم يوجد بينهم من يعتمد عليها. ويمكن

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٥١٩


وأمّا (١) على المختار من أنّ الكلام فيما قصد به البيع ، فهل يشترط فيه شروط البيع مطلقا (٢) ، أم لا كذلك (٣) ، أم يبتني (٤) على القول بإفادتها للملك والقول بعدم إفادتها إلّا الإباحة؟ وجوه.

______________________________________________________

(١) إشارة إلى الجهة الثالثة ، وهي ما إذا قصد بالمعاطاة التمليك ، وهو مختار المصنف ، وحاصلها : أنّه هل يعتبر في المعاطاة المقصود بها التمليك شروط البيع مطلقا أم لا تعتبر كذلك ، أم يفصّل في المعاطاة المقصود بها الملك بين ما يترتب عليها ما قصده المتعاطيان من التمليك ، وبين ما يترتب عليها الإباحة بحكم الشارع ، بأن يقال باعتبار شروط البيع في المعاطاة المؤثّرة في الملكية دون المؤثّرة في الإباحة؟ فيه وجوه أوّلها : الاعتبار مطلقا ، ثانيها : عدم الاعتبار مطلقا ، ثالثها : التفصيل بين ترتب الملك وبين ترتب الإباحة ، وسيأتي الاستدلال على كلّ منها.

(٢) يعني : سواء أفادت المعاطاة الملكية التي قصدها المتعاطيان ، أم الإباحة التي لم يقصداها لكن الشارع حكم بها. كما أنّه بناء على إفادة الملك لم يفرق بين ترتب الملك اللازم عليه أم الجائز ، عملا بإطلاق الملك.

(٣) أي : مطلقا ، وقد عرفت المراد بهذا الإطلاق.

(٤) هذا إشارة إلى التفصيل المزبور.

__________________

استفادة عدم صلاحية السيرة من تعبيره ب «لو» الامتناعية.

وعلى هذا فينحصر الوجه في هذه الإباحة بما دل على حلية المال بطيب نفس مالكه ، ومقتضى حصر الحلّ بطيب النفس هو كون الموضوع المنحصر للحلّ مجرّد طيب النفس ، فإطلاقه ينفي احتمال شرطية كل ما يشكّ في شرطيته للإباحة المترتبة على المعاطاة.

فالمتحصل : أنّ المعاطاة المقصود بها الإباحة ليست بيعا ، ولا محكومة بشرائطه وأحكامه كالخيار ، لانتفاء موضوعها. وإذا شك في شرطيّة شي‌ء من شرائط البيع في المعاطاة المذكورة يتمسك لنفيها بإطلاق دليل مشروعيتها ، وهو قاعدة طيب النفس.


يشهد (*) للأوّل (١) كونها بيعا عرفا ، فيشترط فيها جميع ما دلّ على اشتراطه في البيع.

______________________________________________________

(١) يعني : للوجه الأوّل ، وهو اعتبار شروط البيع في المعاطاة المقصود بها التمليك مطلقا. وحاصل ما استدل به المصنف قدس‌سره على الوجه الأوّل هو : أنّ البيع يصدق على المعاطاة بحيث تكون من أفراده ومصاديقه ، فيشملها حينئذ ما دلّ على اعتبار شروط فيه كالقبض في بيع الصرف ، ومعلومية العوضين ، وتساويهما في المكيل والموزون مع وحدة الجنس. أمّا صدق البيع العرفي على المعاطاة المقصود بها التمليك فظاهر ، ومع صدقه عليها يشملها أدلّة الشرائط الثابتة للبيع. وعليه فيشترط في المعاطاة المذكورة جميع ما يشترط في البيع بالصيغة.

__________________

(١) مجرّد صدق البيع العرفي على المعاطاة لا يشهد باعتبار شروط البيع فيها ، إلّا إذا أفادت الملكية التي قصدها المتعاطيان ، لأنّ المعاطاة حينئذ بيع عرفي وشرعي ، ومن المعلوم أنّ موضوع الشروط الشرعية هو البيع الصحيح أي المؤثّر في الملكيّة في نظر الشارع حتى يكون وجوده مساوقا لنفوذه ، والمفروض كون المعاطاة كذلك. نعم موضوع دليل الإمضاء هو البيع العرفي ، وأدلّة الشروط تقيّد البيع العرفي بالشرعي ، يعني : أنّ البيع النافذ شرعا هو المقيد بالشروط الكذائية ، لا البيع العرفي بما هو بيع عرفي.

وأمّا إذا أفادت الإباحة فليست المعاطاة حينئذ بيعا شرعيا أي ليست مشمولة لدليل الإمضاء والنفوذ كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ومن المعلوم أنّ الشروط لا تعتبر في غير البيع الشرعي الموضوع للأثر ، والمفروض أنّ المعاطاة المذكورة ليست بيعا مؤثّرا ، فلا تعتبر فيها شرائط البيع.

إلّا أن يقال : إنّ المعاطاة المقصود بها التمليك بيع حقيقة ، فيعتبر فيها جميع ما يعتبر في البيع القولي ، ولا يقدح في بيعيتها عدم إمضاء الشارع الملكية المنشئة بها إلى زمان طروء أحد ملزمات المعاطاة ، وذلك لإمكان أن يكون توقف الملكية في المعاطاة على ملزماتها كتوقفها على القبض في بيع الصرف والسّلم ، فكما يكونان بيعا


.................................................................................................

__________________

عرفا وشرعا ، ولا يخرجهما التوقف المزبور عن البيع العرفي والشرعي ، فكذلك المعاطاة المفيدة للإباحة إلى زمان عروض أحد الملزمات.

وإن أبيت عن ذلك ، لكونه قياسا ـ مضافا إلى أنه مع الفارق ، لثبوت الإباحة في المعاطاة إلى حصول الملزم دون بيع الصرف والسّلم ، لعدم ثبوت إباحة التصرف فيهما بنفس العقد ، بل لا يترتب عليهما إلّا الملك بعد القبض ـ فيمكن أن نقول : إنّ هذه المعاطاة المقصود بها التمليك وإن كانت فاسدة ، لعدم إمضاء الشارع لها ، فلا يترتب عليها الأثر المقصود وهو الملكية ، إلّا أنّ الإجماع قام على جواز تصرف المتعاطيين في المالين ، ولم يقم على جوازه في سائر العقود الفاسدة ، وحيث إنّ الإجماع من الأدلّة اللّبّيّة فيقتصر على ما هو المتيقّن وهو كون المعاطاة واجدة لجميع شرائط البيع حتى المختلف فيها ، إلّا الصيغة.

وإن شئت فقل : إنّ مقتضى عموم حرمة التصرف في مال الغير إلّا بإذنه هو حرمة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة التي قصد بها التمليك ولم يمضها الشارع ، لكن المخصّص وهو الإجماع دلّ على جواز التصرف فيه ، ولمّا كان لبّيّا فيقتصر في تخصيصه للعام على القدر المتيقن ، وهو ما إذا استجمع المعاطاة شرائط البيع بأسرها ، ويبقى الباقي تحت العام.

فقد ظهر من هذا البيان عدم الفرق في الشرائط المعتبرة في المعاطاة المذكورة بين كون مستندها دليلا لفظيا وبين كونه لبّيّا. ولا منافاة بين الإجماع على إباحة التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة ، وبين إجماعهم على نفي بيعيتها حتى يتوهم عدم الأخذ بالقدر المتيقن من الإجماع هنا بعد تصريحهم بأنّها ليست بيعا.

وجه عدم المنافاة : أنّ المقصود بنفي البيعية هو نفيها حدوثا ، لاعترافهم بإفادتها الملك بعد طروء الملزمات.

وعليه لا مانع من الأخذ بالقدر المتيقن من الإجماع. هذا.

لكن قد عرفت سابقا عدم إجماع تعبدي على الإباحة ، فالتوجيه الثاني أيضا في غير محله.


ويؤيّده (١) أنّ محل النزاع بين العامة والخاصة في المعاطاة هو : أنّ الصيغة معتبرة في البيع كسائر الشرائط أم لا؟ كما يفصح عنه (٢) عنوان المسألة في كتب كثير من العامة والخاصة ، فما (٣) انتفى فيه غير الصيغة من شروط البيع خارج عن هذا العنوان وإن (٤) فرض

______________________________________________________

(١) معطوف على «يشهد» والضمير البارز راجع الى الأوّل. وحاصل وجه التأييد : أنّهم جعلوا محل النزاع بين العامة والخاصة اعتبار الصيغة في البيع وعدمه ، فمن قال باعتبار الصيغة فيه نفى بيعيّة المعاطاة ، ومن قال بعدم اعتبار الصيغة فيه قال بصحة المعاطاة ، ولذا فرّعوا عدم كفاية المعاطاة على اعتبار الصيغة فيه ، فيظهر من هذا التفريع أنّ الفارق بين البيع القولي والمعاطاتي هو وجود الصيغة وعدمها ، دون غير الصيغة من الشرائط. ولا يصح هذا التفريع إلّا مع اعتبار جميع شرائط البيع في المعاطاة إلّا الصيغة ، فلو لم يكن سائر شرائط صحة البيع مجتمعة فيها لم يصدق عليها عنوان البيع قطعا.

ثمّ إنّ التعبير عن هذا الوجه بالتأييد ـ دون الدلالة والشهادة ـ إنّما هو لكونه استشهادا بما صنعه الفقهاء من تفريع بحث المعاطاة على بحث ألفاظ العقود ، وهو ليس دليلا شرعيا من الكتاب والسنة والإجماع ، ولكن هذا المقدار صالح للتأييد كما لا يخفى.

(٢) أي : عن كون محل النزاع في المعاطاة هو .. إلخ.

(٣) أي : فالمعاطاة الفاقدة لشرط آخر ـ غير الصيغة ـ من شروط البيع خارجة عن المعاطاة التي هي مورد البحث بين العامة والخاصة ، وجه الخروج اتفاق الكل على اعتبار شرائط البيع القولي في المعاطاة ، وأنّ الفارق بينهما مجرّد الصيغة.

(٤) وصلية ، يعني : أنّه بعد وضوح استجماع شرائط العوضين والمتعاقدين في المعاطاة ، نقول : لو فرض قيام دليل على أنّ المعاطاة الفاقدة لشرط معلومية العوضين مثلا تفيد الإباحة أو الملك كالمعاطاة المستجمعة للشرائط لم يكن هذا الاشتراك في الأثر كاشفا عن بيعية المعاطاة الفاقدة لبعض الشرائط حتى يتوهم عدم اعتبار


مشاركا له (١) في الحكم ، ولذا (٢) ادّعى في الحدائق «ان المشهور بين القائلين بعدم لزوم المعاطاة صحة المعاطاة المذكورة إذا استكمل شروط البيع غير الصيغة المخصوصة ، وأنّها (٣) تفيد إباحة تصرف كل منهما فيما صار إليه من العوض» (١) ومقابل المشهور في كلامه قول العلامة في النهاية (٢) بفساد المعاطاة ، كما صرّح به بعد ذلك (٤) ، فلا يكون كلامه (٥) موهما لثبوت الخلاف في اشتراط صحة

______________________________________________________

شرائط البيع القولي في المعاطاة ، بل الاشتراك المزبور حكم تعبدي ، مع تعدد الموضوع. كما أنّ البيع والهبة متحدان في اعتبار كون المبيع والموهوب عينا لا منفعة وإن كان لكلّ منهما أحكام مختصة.

(١) أيّ : للبيع المعاطاتي المستجمع لشرائط البيع القولي عدا الصيغة.

(٢) ولأجل لزوم اجتماع الشرائط إلّا الصيغة في المعاطاة ادّعى في الحدائق .. إلخ.

(٣) معطوف على «صحة» ومفسّر لها ، حيث إنّ ظاهر الصحة هو ترتب الأثر المقصود أعني الملكية ، والمفروض عدم ترتبها على المعاطاة. فالمراد بصحتها حينئذ هو ترتب الإباحة عليها بحكم الشارع لا الملكية المقصودة للمتعاطيين.

(٤) حيث قال المحدث البحراني بعد العبارة المتقدمة : «وعن العلّامة في النهاية القول بفساد بيع المعاطاة ، وأنّه لا يجوز لكل منهما التصرف فيما صار إليه ، من حيث الإخلال بالصيغة».

(٥) أي : كلام الحدائق. وحاصل كلامه : أنّ موضوع كلام المشهور من إفادة المعاطاة للإباحة وقول العلامة بفسادها وعدم ترتب أثر عليها هو المعاطاة الجامعة لجميع شرائط البيع ، فيكون قول المشهور بالإباحة مقابلا لقول العلامة ، لا مقابلا لاستكمال شروط البيع ، فموضوع الحكم بالصحة عند المشهور وبالفساد عند العلّامة هو استكمالها لشرائط البيع ، فلو لم تستكملها كانت فاسدة عند الكلّ.

__________________

(١) : الحدائق الناضرة ، ج ١٨ ، ص ٣٥٦ ، والعبارة منقولة باختلاف يسير عمّا في الحدائق.

(٢) نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٩


المعاطاة باستجماع شرائط البيع.

ويشهد للثاني (١) أنّ البيع في النص (٢) والفتوى (٣) ظاهر فيما حكم فيه باللزوم ، وثبت له الخيار في قولهم : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»

______________________________________________________

(١) أي : للوجه الثاني وهو عدم اعتبار شروط البيع القولي في المعاطاة المقصود بها التمليك مطلقا سواء أفادت الملكية أم الإباحة. أمّا على الثاني فواضح ، لعدم كون هذه المعاطاة بيعا لا في نظر الشارع ولا في نظر المتشرعة ، لأنّ الأثر المقصود من البيع ـ وهو التمليك أو التبديل ـ لا يترتب عليها ، فلا تكون المعاطاة حينئذ بيعا حتى يعتبر فيها شروطه.

وأمّا على الأوّل فلأنّ البيع في النص والفتوى ظاهر في البيع المبنيّ على اللزوم لو لا الخيار ، لأنّه مفاد دليل الإمضاء كآيتي (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بحيث يكون الخيار على خلاف مقتضى طبعه.

وإن شئت فقل : إنّه لا إطلاق لأدلّة شروط البيع حتى يشمل البيع العرفيّ المفيد شرعا للإباحة أو الملك الجائز ، ومع عدم الإطلاق من هاتين الجهتين لا يمكن التمسّك بأدلّة الشروط.

كما أنّه بناء على الإطلاق من كلتا الجهتين المذكورتين تكون المعاطاة المقصود بها التمليك مشمولة لأدلة شروط البيع وإن كانت مفيدة للإباحة.

وبناء على الإطلاق من الجهة الثانية ـ وهي إفادة البيع الملك اللازم أو الجائز ـ تكون المعاطاة المقصود بها التمليك المفيدة شرعا للملك الجائز أو اللازم صحيحة ومشمولة لأدلة الشروط المعتبرة في البيع.

(٢) يعني : النصوص المتكفلة لأحكام البيع ، مثل «أقاله في البيع» و «نهي النبي عن بيع الغرر» ونحوهما.

(٣) كقول الفقهاء : «الأصل في البيع اللزوم» و «البيع هو العقد الدّال على نقل العين ..» ونحوهما من الإطلاقات التي يراد بالبيع فيها ما هو المبني على اللزوم ، لا الأعم منه ومن الجائز.


ونحوه (*). أمّا على القول بالإباحة ، فواضح (١) ، لأنّ المعاطاة ليست على هذا القول بيعا في نظر الشارع والمتشرعة ، إذ لا نقل (٢) فيه عند الشارع ، فإذا ثبت (٣) إطلاق الشارع عليه في مقام فنحمله على الجري على ما هو بيع باعتقاد العرف ، لاشتماله على النقل في نظرهم. وقد تقدّم سابقا (٤) في تصحيح دعوى الإجماع (٥)

______________________________________________________

(١) يعني : فعدم صدق البيع على المعاطاة واضح.

(٢) يعني : والمفروض أنّ البيع هو النقل ، فعدم النقل يكشف عن عدم البيع.

(٣) غرضه قدس‌سره التفكيك بين نظر المتشرعة بما هم متشرعة وبين نظر العقلاء بما هم عقلاء ، فإنّهم بما هم متديّنون يلتزمون بعدم بيعية المعاطاة ، لكونها مؤثّرة في الإباحة خاصة. ولكنّهم بما هم عقلاء لا يفرّقون بين البيع القولي والفعلي بعد اشتراكهما في قصد التمليك والنقل. وعلى هذا فلو أطلق الشارع البيع على المعاطاة أحيانا ـ مع سلب العنوان عنها حقيقة ـ كان المراد صدقه بنظر العرف الّذين لا عبرة بنظرهم ما لم يمضه الشارع.

(٤) يعني : في المعاطاة ، حيث قال في مقام التفكيك بين الصحة العرفية والشرعية : «فيصحّ على ذلك نفي البيعية على وجه الحقيقة في كلام كلّ من اعتبر في صحّته الصيغة» (١).

(٥) الذي ادّعاه في الغنية في مقام الاحتراز عن القول بانعقاد البيع بالاستدعاء من المشتري ـ بعد اعتبار الإيجاب والقبول ـ حيث قال : «واحترازا أيضا عن القول بانعقاده بالمعاطاة ، نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة ويقول : أعطني بقلا ، فيعطيه ، فإنّ ذلك

__________________

(*) مرجع هذا الشاهد إلى منع إطلاق أدلة شروط البيع للبيع الشرعي اللازم والجائز ، بل تختص بالبيع النافذ اللازم ، فلا يشمل البيع النافذ الجائز كما هو مفروض المصنف قدس‌سره في المعاطاة المقصود بها التمليك.

__________________

(١) راجع الجزء الأول من هذا الشرح ، ص ٣٦١


على عدم (١) كون المعاطاة بيعا بيان ذلك (٢).

وأمّا على القول بالملك فلأنّ المطلق ينصرف الى الفرد المحكوم باللزوم (٣) في قولهم : «البيّعان بالخيار (٤)» وقولهم (٥) «انّ الأصل في البيع اللزوم ، والخيار (٦) إنّما ثبت لدليل».

______________________________________________________

ليس ببيع ، وإنّما هو إباحة للتصرف» (١). ونحوه غيره من عبارات جملة من الأصحاب.

(١) حيث قال المصنف قدس‌سره بعد نقل كلمات الأعلام في المعاطاة : «وأمّا دعوى الإجماع في كلام بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعا كابن زهرة في الغنية فمرادهم بالبيع المعاملة اللازمة التي هي أحد العقود ، ولذا صرّح في الغنية بكون الإيجاب والقبول من شرائط صحة البيع. ودعوى : أنّ البيع الفاسد عندهم ليس بيعا قد عرفت الحال فيها» (٢).

(٢) يعني : بيان إرادة البيع الصحيح الشرعي ـ المحكوم باللّزوم وبالخيار ـ من البيع في كلام المتشرعة ، ومعقد إجماعهم على نفي البيع عن المعاطاة.

(٣) استشهد المصنف قدس‌سره بعبارات أربع على أنّهم أرادوا من «البيع» في فتاواهم البيع المفيد للملك اللازم ، فإذا لم يؤثّر فيه لم يكن بيعا حقيقة.

(٤) هذا هو المورد الأوّل من كلمات الأصحاب ، حيث ينزّل إطلاق «البيّعان» على من أنشأ بيعا لازما ، فلا يجري الخيار في المعاطاة ، لعدم ترتب ملك لازم عليها.

(٥) هذا هو المورد الثاني ، إذ المراد من «البيع» هو اللّازم ، فما ليس بلازم لا يكون بيعا.

(٦) هذه الجملة متمّمة للعبارة الثانية الّتي نقلها المصنف عن الفقهاء ، والأولى تأخيرها عن العبارة الثالثة ، وهي : قول الفقهاء : «ان البيع ـ بقول مطلق ـ من العقود اللازمة» ولا يخفى وجهه.

__________________

(١) : غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٥٢٤

(٢) راجع الجزء الأول من هذا الشرح ، ص ٣٨٤ إلى ٣٨٦


وأنّ (١) البيع ـ بقول مطلق ـ من العقود اللازمة. وقولهم (٢) : البيع هو العقد الدالّ على كذا. ونحو ذلك (٣).

وبالجملة (٤) : فلا يبقى (*) للمتأمّل شكّ في أنّ إطلاق البيع في النص

______________________________________________________

(١) معطوف على : «قولهم» يعني : وقول الفقهاء : إنّ البيع بقول مطلق ينصرف إلى الفرد المحكوم باللزوم.

(٢) معطوف على «قولهم» وهذه هي العبارة الرابعة ، يعني : أنّ مراد الفقهاء من تعريف البيع بالعقد الدال على نقل الملك هو البيع المبني على اللزوم ، لا الأعم منه ومن المبني على الجواز أو الإباحة.

(٣) كقولهم : «الإقالة في البيع كذا» إذ ينصرف كلامهم إلى إقالة البيع اللازم ، ولا يشمل المعاطاة.

(٤) هذه خلاصة ما أفاده بقوله : «ويشهد للثاني». والمقصود تثبيت انصراف البيع ـ في النص والفتوى ـ إلى خصوص فرده اللازم ، وعدم شمول أحكام البيع للعقد المفيد للملك المتزلزل ، أو للإباحة.

__________________

(*) هذا الجزم بالانصراف مناف لما تكرر في كلماته قدس‌سره ، منها : قوله ـ بعد أسطر في وجه تفصيل آخر في المسألة بين الشرائط ـ : «ويمكن الفرق بين الشرط الذي ثبت اعتباره في البيع من النص .. إلخ» لتسليمه الإطلاق ، وعدم الانصراف في النصوص.

ومنها : قوله في تقوية الوجه الأوّل فيما بعد : «والأقوى اعتبارها .. إلخ» لابتنائها على عدم الانصراف في النص والفتوى معا ، أو في خصوص الأوّل.

ومنها : قوله ـ بعد نقل كلام الشهيد ـ من : أنّ مورد أدلة اعتبار الشرائط هو البيع المعاطاتي العرفي ، لندرة البيع العقدي اللفظي.

ومنها : غير ذلك مما سيأتي التنبيه عليه.


والفتوى يراد به (١) ما لا يجوز فسخه إلّا بفسخ عقده بخيار أو بتقايل.

ووجه الثالث (٢) : ما تقدّم للثاني (٣) على القول بالإباحة من سلب البيع عنه (٤) ، وللأوّل (٥) على القول بالملك من صدق البيع عليه

______________________________________________________

(١) يعني : يراد به البيع الذي يكون بطبعه لازما ، بحيث لا ينفسخ إلّا بالخيار أو التقايل.

(٢) وهو اعتبار شروط البيع في المعاطاة المفيدة للملك ، وعدم اعتبارها فيها بناء على إفادتها للإباحة. والدليل على هذا التفصيل مؤلّف من الدليلين المتقدمين في الاحتمالين الأوّلين ، وسيأتي تقريب ذلك.

(٣) وهو عدم اعتبار الشروط في المعاطاة مطلقا وإن أفادت الملك ، توضيحه : أنّه قد تقدّم في المعاطاة المقصود بها التمليك عدم اعتبار شروط البيع فيها حتى على القول بإفادتها الملك ، لظهور «البيع» في النصّ والفتوى في البيع اللازم أي المبني على اللزوم ، فالمعاطاة المفيدة للملك الجائز خارجة عن موضوع أدلة شروط البيع. وعليه فالمعاطاة المفيدة للإباحة خارجة عن موضوع أدلة الشروط بالأولوية ، لعدم كونها بيعا حقيقة ، ولذا يصح سلبه عنها.

(٤) أي : عن المعاطاة ، والأولى تأنيث الضمير.

(٥) أي : للوجه الأوّل ، وهو كون المعاطاة مشروطة بشرائط البيع ، توضيحه : أنّ الوجه في الاحتمال الثالث ـ وهو التفصيل في الشروط بين ترتيب الملك والإباحة ـ هو ما تقدم في الاحتمال الثاني أعني به عدم اعتبار الشروط في المعاطاة مطلقا ، وفي الاحتمال الأوّل وهو اعتبارها مطلقا ، فنقول : إنّ وجه اعتبارها في المعاطاة المفيدة للملك هو ما تقدم في الوجه الأوّل من كون المعاطاة بيعا عرفا ، فيشملها أدلة شروط البيع.

ووجه عدم اعتبارها في المعاطاة المفيدة للإباحة ما تقدّم في الوجه الثاني بناء على القول بالإباحة من عدم كون المعاطاة بيعا ، فلا تشملها أدلّة شروط البيع.


حينئذ (١) وإن لم يكن لازما.

ويمكن الفرق (٢) بين الشرط الذي ثبت اعتباره في البيع من النص ، فيحمل (*) على البيع العرفي وإن لم يفد عند الشارع إلّا الإباحة ، وبين ما ثبت

______________________________________________________

(١) أي : حين إفادتها للملك وإن كان الملك جائزا متزلزلا.

(٢) مقصوده قدس‌سره إبداء تفصيل آخر في المسألة غير التفصيل المتقدم المبتني على صدق البيع على المعاطاة وعدمه. وتوضيح هذا التفصيل : أنّ المعوّل ـ في اشتراط المعاطاة بشروط البيع اللفظي ـ أدلة الشروط ، فإن ثبت الشرط بدليل لفظي له إطلاق كان معتبرا في المعاطاة المقصود بها الملك أيضا. وإن ثبت بدليل لبّيّ كالإجماع لم يكن معتبرا فيها ، لكون المجمعين بصدد بيان شروط البيع المبني على اللزوم بحسب طبعه ، لا مطلق البيع حتى لو كان مؤثّرا في الملك الجائز ، أو الإباحة التعبدية.

وعلى هذا فشرطية معلومية العوضين ـ مثلا ـ لمّا كانت ثابتة بمثل نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «عن بيع الغرر» فلا بد من اعتبارها في المعاطاة أيضا بعد صدق البيع العرفي عليها. وأمّا شرطية التنجيز فلا تجري في المعاطاة ، إذ المستند فيها هو الإجماع على ما سيأتي في شروط الصيغة إن شاء الله تعالى. وعليه فلا مانع من تعليق المعاطاة على أمر متوقّع الحصول.

__________________

(*) هذا أحد مواضع المنافاة لما أفاده بقوله : «وبالجملة فلا يبقى للمتأمّل شك .. إلخ» وجه المنافاة : أنّ حمل «البيع» في النص على العرفي المبني على تسليم الإطلاق وعدم الانصراف في النصوص وإن لم يفد عند الشارع إلّا الإباحة ينافي الجزم بما أفاده من قوله : «انّ إطلاق البيع في النص والفتوى يراد به ما لا يجوز فسخه .. إلخ» وبما أفاده بقوله : «ويشهد للثاني : أن البيع في النص والفتوى ظاهر فيما حكم فيه باللزوم .. إلخ.»


بالإجماع على اعتباره في البيع بناء (١) (*) على انصراف البيع في كلمات المجمعين إلى العقد اللازم.

والاحتمال الأوّل (٢) لا يخلو عن قوّة ، لكونها (٣) (**) بيعا ظاهرا على

______________________________________________________

هذا بناء على تسليم انصراف «البيع» في كلمات المجمعين إلى العقد اللازم. وأمّا إذا أنكرنا الانصراف وسلّمنا إطلاق معقد الإجماع لكل بيع عرفي ـ وإن لم يفد الملك اللازم ـ كان حال الشرط الثابت به حال الشرط الثابت بدليل لفظي.

وبالجملة : فالاحتمالات ـ بناء على هذا التفصيل ـ ثلاثة أيضا.

(١) وأمّا بناء على منع الانصراف كان الشرط الثابت بالإجماع كالشرط الثابت بدليل لفظي في جريانه في كل بيع عرفي ، سواء أكان قوليّا أم فعليّا كما مرّ.

(٢) وهو اعتبار الشروط في المعاطاة المقصود بها التمليك مطلقا ، يعني : سواء أفادت الملك أم الإباحة. ومقصوده قدس‌سره ترجيح الاحتمال الأوّل ـ من الاحتمالات الثلاثة المتقدمة أوّلا ـ أمّا بناء على إفادة الملك فلأنّها بيع عرفي. وأمّا بناء على ترتب الإباحة الشرعية عليها فلأنّ القدر المتيقن منها اجتماع شرائط البيع فيها ، فمع فقد بعضها يشك في شمول الإجماع لها ، ومن المعلوم أنّ أصالة عدم ترتّب الإباحة محكّمة.

(٣) أي : لكون المعاطاة بيعا ظاهرا بناء على القول بالملك مع قصد المتعاطيين للتمليك كما هو المفروض ، والتقييد بقوله : «ظاهرا» إشارة إلى احتمال كونها معاملة مستقلة وإن كان موهوما.

__________________

(*) هذا أيضا ينافي الجزم بانصراف البيع في النص والفتوى إلى العقد اللازم.

(**) منافاة هذا أيضا للجزم بانصراف البيع إلى العقد اللازم واضحة ، لأنّ المعاطاة على القول بالملك جائزة ، فالبيع منصرف عنها ، فتقوية الاحتمال الأوّل تنافي الجزم بإرادة خصوص البيع اللّازم من إطلاق البيع في النص والفتوى.


القول بالملك كما عرفت (١) من جامع المقاصد.

وأمّا (٢) على القول بالإباحة فلأنّها لم تثبت (*) إلّا في المعاملة الفاقدة للصيغة فقط ، فلا تشمل الفاقدة للشرط الآخر أيضا (٣) (**).

______________________________________________________

(١) في أوائل المعاطاة ـ بعد نقل الأقوال فيها ـ حيث حكى المصنف عن جامع المقاصد ما لفظه : «إن المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم تكن كالعقد في اللزوم» (١).

(٢) معطوف على «على القول بالملك» ومقصوده إثبات اعتبار الشروط في المعاطاة حتى لو أفادت الإباحة خاصة. والوجه في الاعتبار هو الأخذ بالقدر المتيقن من الإجماع على ترتب الإباحة عليها وعدم كونها فاسدة أصلا.

(٣) أي : كما كانت فاقدة للصيغة.

__________________

(*) قال المدقق الأصفهاني قدس‌سره : «وأما قصور دليل تأثير المعاطاة والإباحة عن شموله لفاقد غير الصيغة أيضا فهو خلاف المشاهد من سيرة المسلمين من عدم رعايتهم لما يعتبر في العقد القولي كما عن كاشف الغطاء وغيره» (٢). بل ينبغي الجزم بعدم اعتبار شي‌ء من شروط البيع في المعاطاة بناء على الإباحة المالكية كما لا يخفى ، لكنها غير مقصودة ، إذ المقصود هو الإباحة الشرعية.

(**) هذا وجيه بناء على كون الوجه في الإباحة الإجماع أو السيرة ، لأنّ المتيقّن منها هو صورة استجماع المعاطاة للشرائط ، وأمّا إذا كان الوجه فيها قاعدة طيب النفس أو قاعدة السلطنة ـ بناء على مشرّعيّتها للأسباب ـ فلا وجه لاعتبار شروط البيع فيها أصلا.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٣٨


ثمّ إنّه (١) حكي عن الشهيد رحمه‌الله في حواشيه على القواعد :

______________________________________________________

(١) غرضه من نقل كلام الشهيد قدس‌سرهما التنبيه على أنّ اعتبار الشروط في المعاطاة ممّا اختلف فيه الأصحاب وليس من المسلّمات ، فيكون هذا كالاستدراك على قوله : «وأمّا على القول بالإباحة» لأنّ المصنف قدس‌سره حكم باعتبار شروط البيع في المعاطاة المفيدة للإباحة من باب الأخذ بالمتيقن من الدليل اللّبّي ، ومن المعلوم أنّ حكم الشهيد قدس‌سره بترتّب الإباحة على المعاطاة الفاقدة لشرائط البيع ينافي ترجيح الاحتمال الأوّل ، وهو اعتبار الشروط فيها مطلقا سواء أفادت الملك أم الإباحة.

وما أفاده المصنف حول كلام الشهيد أمران ، الأوّل تقرير كلامه ، والآخر توجيهه بنحو لا يعدّ قدس‌سره مخالفا في المسألة.

أما الأوّل فبيانه : أنّ الشهيد منع ـ في حواشيه على قواعد العلّامة ـ من إخراج المأخوذ بالمعاطاة في ما يتوقّف على الملك كأداء الخمس والزكاة به ، وشراء الهدي به ، لتوقف هذه التصرفات على الملك المفقود على المعاطاة قبل طروء الملزم. ثم ذكر مسائل أربع يظهر منها عدم توقف تأثير المعاطاة في الإباحة ـ مع قصد الملك ـ على اجتماع شروط البيع القولي فيها ، وهي كما يلي :

الأولى : جواز التعاطي على عوضين مجهولين ، فيباح لكلّ منهما التصرف فيما أخذه من الآخر. ومن المعلوم أنّها لو كانت عقدا كالبيع القولي اعتبر فيها العلم بالعوضين حتى ينتفي الغرر.

الثانية : أنّه يعتبر في بيع النسيئة تعيين الأجل الذي يستحق البائع ـ عند حلوله ـ مطالبة الثمن من المشتري ، فلو اشترى زيد من عمرو شيئا معاطاة لم يتوقف إباحة التصرف فيه على تسمية الأجل. ويستكشف من هذه الفتوى أنّ المعاطاة المفيدة للإباحة لا تكون محكومة بأحكام البيع أصلا.

الثالثة : أنّه لا يجوز مباشرة الأمة المشتراة بالمعاطاة ، لتوقف هذا التصرف الخاص على ملك اليمين أو التحليل المعلوم انتفاؤه ، وحيث إنّ المعاطاة لا تؤثّر إلّا في


أنّه بعد ما منع (١) من إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي إلّا بعد تلف العين ـ يعني العين الأخرى ـ ذكر : «أنّه يجوز (٢) أن يكون الثمن والمثمن في المعاطاة مجهولين ، لأنّها ليست عقدا. وكذا (٣) جهالة الأجل ، وأنّه (٤) لو اشترى أمة بالمعاطاة لم يجز له (٥) نكاحها قبل تلف الثمن» انتهى.

______________________________________________________

الإباحة المجرّدة عن الملك لم يجز للمشتري ذلك ، نعم لو تحقّق الملزم بأن تلف الثمن في يد البائع جاز نكاحها للمشتري ، لدخولها في ملكه حسب الفرض.

الرابعة : أنّه لا ريب في توقف الملك في بيع الصرف على التقابض في مجلس العقد ، وكذا يعتبر قبض الثمن في بيع السّلم ، وهذا واضح في البيع بالصيغة. وأمّا لو باع الدرهم والدينار بالمعاطاة فلا يتوقف إباحة التصرف فيهما على التقابض ، بل يكفي إعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، فيكون كبيع النسيئة. وهذا كاشف عن عدم بيعية المعاطاة المفيدة للإباحة تعبدا وإن كان مقصودهما الملك.

هذا توضيح نظر الشهيد ، وأمّا توجيهه فسيأتي إن شاء الله تعالى.

(١) هذا المنع ظاهر في عدم إفادة المعاطاة للملك ، ولذا لا يجوز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي إلّا بعد حصول ما يوجب الملك كتلف العين الأخرى عند المتعاطي الآخر.

(٢) غرضه أنّ المعاطاة المفيدة للإباحة لا يعتبر فيها معلومية العوضين التي هي شرط صحة البيع. وهذه هي المسألة الأولى.

(٣) معطوف على «يجوز» وهذه هي المسألة الثانية.

(٤) معطوف على «أنّه» وهذه هي المسألة الثالثة.

(٥) لعدم صيرورتها ملكا للمشتري قبل تلف الثمن عند البائع. وأمّا بعد التلف فيجوز التصرف في الأمة ، لحصول الملك بتلف إحدى العينين.

وبالجملة : فالمعاطاة المفيدة للإباحة وإن قصد بها التمليك ـ كما هو المفروض ـ لا يعتبر فيها شروط البيع.


وحكي عنه في باب الصرف أيضا : «أنّه (١) لا يعتبر (*) التقابض في المجلس في معاطاة النقدين».

أقول (٢) : حكمه قدس‌سره (**) بعدم جواز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في

______________________________________________________

(١) هذه هي المسألة الرابعة. ولا يخفى عليك أنّ كلام الشهيد قدس‌سره مبني على كفاية الإعطاء من طرف واحد والأخذ من آخر في تحقق المعاطاة ، فلو اعتبر فيه التعاطي لم يتصوّر المعاطاة بدون التقابض من الطرفين. وسيأتي تحقيق هذه الجهة في التنبيه الثاني إن شاء الله تعالى.

(٢) هذا هو الأمر الثاني أعني به توجيه كلام الشهيد بنحو لا يعدّ مخالفا في مسألة اعتبار شروط البيع القولي في المعاطاة سواء أفادت الملك أم الإباحة. توضيحه : أنه قدس‌سره أفتى أوّلا بحرمة التصرف ـ المتوقف على الملك ـ في المأخوذ بالمعاطاة سواء أفادت الملك أم الإباحة. ثم أفتى ثانيا بعدم اعتبار معلومية العوضين في المعاطاة ، وعلّله قدس‌سره بقوله : «لأنّها ليست عقدا». وهذه الفتوى الثانية وإن كانت ظاهرة في أنّ شرائط البيع ملغاة في المعاطاة المبيحة ، فيكون قدس‌سره مخالفا لما أفاده المصنف من اعتبار شروط البيع فيها سواء أفادت الملك أم الإباحة. إلّا أنّ التعليل المذكور في كلام الشهيد ربما يكون قرينة على خروج المعاطاة عن عقد البيع رأسا ، فعدم اعتبار شروطه فيها يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

__________________

(*) لم يظهر شهادة هذا الفرع بعدم اعتبار شروط البيع في المعاطاة ، إذ المستفاد منه توقف الملك على العقد ، فلا يجوز التصرف في الأمة المشتراة بالمعاطاة. ولا دلالة فيها على عدم اعتبار شروط البيع في إفادة الإباحة ، فتدبّره.

(**) ربما يقال : بأن المناسب التعرض لكلام الشهيد قدس‌سره ذيل الوجه الثالث ،


الصدقات الواجبة وعدم جواز نكاح المأخوذ بها صريح في عدم إفادتها

______________________________________________________

وبيانه : أنّ في التعليل احتمالين :

الأوّل : أن يكون مراده من عدم كون المعاطاة عقدا عدم تأثيرها في الملك ، بدعوى ترتب الملك على خصوص العقد المؤلّف من إيجاب وقبول لفظيّين ، فإذا أفادت إباحة التصرف فيما لا يتوقف على الملك كان عدم اعتبار شروط البيع فيها مقتضى القاعدة ، إذ لا وجه لكون المعاطاة المفيدة للإباحة التعبدية محكومة بأحكام البيع الذي هو عقد مملّك.

الثاني : أن يكون مراده عدم تأثيرها في الملك اللازم ، وإنّما تفيد ملكا جائزا ، ويكون عدم اعتبار معلومية العوضين في المعاطاة لأجل اختصاص هذا الشرط بالبيع المبني على اللزوم بحسب طبعه وهو المنشأ باللفظ. وعلى هذا فإلغاء شروط البيع اللازم في المعاطاة المؤثّرة في الملك المتزلزل موافق للقاعدة ، واعتبارها فيها منوط بدليل.

إذا عرفت هذين الاحتمالين في التعليل يتضح عدم كون الشهيد قدس‌سره مخالفا في المسألة ، وذلك لأنّ تقوية المصنف قدس‌سره جريان شروط البيع في المعاطاة سواء أفادت الملك أم الإباحة مبنيّة على كونها بيعا عرفيا ، لقصدهما تمليك عين بعوض ، وهذا حقيقة البيع. وأمّا الشهيد قدس‌سره النافي لاعتبار العلم بالعوضين في المعاطاة فإنّما هو لمنع صدق العقد عليها ، لظهور العقد في الإنشاء بالصيغة المعهودة.

نعم لو التزم الشهيد ببيعية المعاطاة المفيدة للإباحة كان مخالفا في المسألة.

__________________

قبل تقوية الوجه الأوّل ، ليظهر أنّ الوجه الثالث يستفاد من كلام الشهيد. هذا.

لكن لا يخلو ذكره بعد تقوية الوجه الأوّل من المناسبة ، إذ بعد ترجيح المصنف له لا بدّ من التعرض لما ينافيه ظاهرا وتوجيهه. والأمر سهل.


للملك (١) ، إلّا أنّ حكمه قدس‌سره بعدم اعتبار الشروط المذكورة للبيع والصرف معلّلا بأنّ المعاطاة ليست عقدا يحتمل (٢) (*) أن يكون باعتبار عدم الملك ، حيث إنّ المفيد للملك منحصر في العقد (٣). وأن (٤) يكون باعتبار عدم اللزوم ، حيث إنّ الشروط المذكورة (٥) شرائط للبيع العقدي اللازم.

______________________________________________________

(١) إذ مع إفادة المعاطاة للملك ـ ولو للملك الجائز ـ يجوز التصرف في المأخوذ بالمعاطاة بلا إشكال ، لسلطنة الناس على أموالهم ، وليس اللزوم شرطا في صحة التصرفات ، فنفس جواز التصرفات المزبورة يكشف عن عدم إفادة المعاطاة إلّا للإباحة ، هذا.

لكن الحق جواز التصرفات المذكورة وعدم توقفها على الملك كما قرّر في محله.

نعم بناء على إفادة المعاطاة للإباحة المالكية وبناء على كفاية ذلك في حصول التحليل المسوّغ لوطي أمة الغير جاز وطؤها بالمعاطاة المفيدة للإباحة ، وإلّا فلا.

(٢) خبر قوله : «أنّ حكمه» وهذا هو الاحتمال الأوّل ، أي : لأنّ المعاطاة تفيد الإباحة لا الملك.

(٣) يعني : فإذا لم تكن المعاطاة مفيدة للملك لم تكن عقدا ، فعدم اعتبار شروط البيع فيها يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

(٤) معطوف على قوله : «أن يكون» وهذا هو الاحتمال الثاني في التعليل.

(٥) مثل معلومية العوضين والتقابض في بيع الصرف ، وإقباض الثمن في بيع السّلم ، ونحوها.

__________________

(*) هذا الاحتمال أقوى من الاحتمال الثاني الذي ذكره بقوله قدس‌سره : «وأن يكون باعتبار عدم اللزوم» وذلك لأنّ عدم جواز التصرفات المزبورة المتوقفة على الملك يكشف عن عدم الملك ، فعدم اعتبار الشروط حينئذ في المعاطاة إنّما هو لعدم كونها بيعا مفيدا للملك ، والمفروض أنّ الشرائط مختصة بالبيع.


والأقوى (١) اعتبارها (٢) وإن قلنا بالإباحة ، لأنّها (٣) بيع عرفي وإن لم تفد شرعا إلّا الإباحة ، ومورد الأدلة الدالة على اعتبار تلك الشروط هو البيع العرفي ، لا خصوص العقدي (٤) (*)

______________________________________________________

(١) بعد أن فرغ المصنف قدس‌سره من الاستدلال لكلّ واحد من الوجوه الثلاثة أراد أن يبيّن مختاره في المسألة ، واعترض في خلاله على التعليل المتقدم في كلام الشهيد قدس‌سره وقال : إنّ الأقوى هو الاحتمال الأوّل ، أعني به اعتبار شرائط البيع في المعاطاة مطلقا سواء أفادت الملك أم الإباحة ، واستدل عليه بدليلين :

الأوّل : أنّ المعاطاة المذكورة بيع عرفي ، إذ المفروض قصد المتعاطيين لتمليك عين متموّلة بمال ، الذي هو معنى البيع على ما تقدم في تعريفه ، فبيعيّة المعاطاة عرفا حينئذ مما لا إشكال فيه وإن أفادت شرعا الإباحة ، ومورد أدلة شروط البيع هو البيع العرفي الصادق على المعاطاة ، لا خصوص البيع العقدي حتّى لا يصدق عليها.

وبعبارة أخرى : كلام المصنف قدس‌سره مؤلّف من صغرى ، وهي قوله : «انّ المعاطاة بيع عرفي» وكبرى ، وهي : «أنّ كل بيع عرفي محكوم بشرائط البيع الواردة في الأدلة» وهذه الكبرى مفاد قوله : «ومورد الأدلة .. إلخ».

(٢) أي : اعتبار شروط البيع في المعاطاة سواء أفادت الملك أم الإباحة الشرعية.

(٣) هذا هو الدليل الأوّل على مختاره ، وقد تقدّم توضيحه.

(٤) كما زعمه الشهيد ، حيث قال : «لأنها ليست عقدا» إذ لا وجه لمنع بيعية المعاطاة المقصود بها التمليك.

__________________

(*) هذا أحد مواضع المنافاة لقوله : «وبالجملة : فلا يبقى للمتأمّل شك في أنّ إطلاق البيع في النص والفتوى يراد به ما لا يجوز فسخه إلّا بفسخ عقده .. إلخ» لأنّ كلامه هذا صريح في إرادة خصوص العقد اللازم ، لا البيع العرفي فقط ، وهو مناف


بل (١) تقييدها بالبيع العقدي تقييد بغير الغالب (*).

ولما (٢) عرفت

______________________________________________________

(١) غرضه أنّ تقييد إطلاق البيع العرفي في أدلة الشروط بخصوص البيع العقدي تقييد بالفرد النادر ، لكون الغالب في الخارج هو البيع المعاطاتي ، ومن المعلوم أنّ تقييد الإطلاق بالفرد النادر ممّا لا سبيل للالتزام به.

(٢) معطوف على قوله : «لأنها بيع عرفي» وإشارة إلى الدليل الثاني ، وحاصله : أنّه ـ بعد البناء على عدم استفادة حكم المعاطاة من الأدلة الاجتهادية من حيث إفادتها للملك ـ يكون مقتضى الأصل العملي عدم ترتب الأثر المقصود وهو الملكية على المعاطاة المقصود بها الملك ، وقد خرجت المعاطاة الجامعة لشروط البيع ـ عدا الصيغة ـ عمّا يقتضيه الأصل من حرمة التصرف في مال الغير ، وبقي الباقي ، لأنّ

__________________

لقوله : «لأنّها بيع عرفي وإن لم تفد شرعا .. إلخ» لأنّه مبني على تسليم الإطلاق وعدم الانصراف. ومنافاة هذا الكلام لقوله : «وبالجملة فلا يبقى للمتأمّل شك .. إلخ» من الواضحات.

وأيضا ينافي قوله : «لا خصوص العقدي» ما تقدم عنه سابقا من جعل المعاطاة عقدا ، لأنّه قضية تمسّكه على صحتها بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ومجرّد عدم إفادتها الملك على قول بعض لا يخرجها عن العقد العرفي ، كما لا يخرجها عن البيع العرفي فالأنسب حينئذ مقابلة البيع العرفي للبيع الشرعي لا العقدي.

(*) هذا أيضا من مواضع التنافي المزبور ، لأنّ غلبة أفراد المعاطاة وندرة أفراد البيع العقدي تنافي دعوى انصراف البيع إلى خصوص العقدي ، لأنّ التقييد بالعقدي بناء على ندرته يكون من تقييد الإطلاق بالفرد النادر المستهجن عند أبناء المحاورة ، ومع ندرته كيف يكون هو المتيقن والمنصرف إليه الإطلاق؟


من أنّ الأصل (١) في المعاطاة ـ بعد القول بعدم الملك ـ الفساد ، وعدم تأثيره (٢) شيئا (٣) ، خرج ما هو محلّ الخلاف بين العلماء من (٤) حيث اللزوم وعدمه (٥) ، وهو (٦) المعاملة الجامعة للشروط عدا الصيغة ، وبقي الباقي (٧).

______________________________________________________

موضوع إباحة التصرفات هو المعاطاة الجامعة لتلك الشرائط دون غيرها.

فالمتحصل : أنه يعتبر في المعاطاة المقصود بها التمليك ـ وإن أفادت الإباحة ـ جميع الشروط المعتبرة في البيع.

(١) المراد به استصحاب عدم ترتب الأثر على المعاملة ، ويعبّر عنه بأصالة الفساد ، وقد نبّه المصنف على هذا الأصل عند مناقشة استبعادات كاشف الغطاء قدس‌سره ، حيث قال : «وأما ما ذكره من لزوم كون إرادة التصرف مملّكا فلا بأس بالتزامه إذا كان مقتضى الجمع بين الأصل ودليل جواز التصرف المطلق .. إلخ». وكذا قال في ردّ قاعدة التبعيّة : «أما المعاملات الفعلية التي لم يدلّ على صحّتها دليل فلا يحكم بترتب الأثر المقصود عليها» (١).

(٢) أي : عدم تأثير المعاطاة ، والأولى تأنيث الضمير.

(٣) أي : لا ملكا ولا إباحة.

(٤) متعلق ب «الخلاف».

(٥) يعني : من حيث إنّ الصيغة دخيلة في اللزوم أو غير دخيلة فيه.

(٦) بيان للموصول في «ما هو محل الخلاف» يعني : أنّ محلّ النزاع بينهم هو خصوص المعاملة الجامعة لشروط البيع ، ولا تغايرها إلّا من حيث فقد الصيغة فيها.

(٧) يعني : تحت أصالة الفساد ، كالمعاطاة مع الجهل بأحد العوضين ، أو بدون القبض في الصرف والسّلم ، وغير ذلك.

__________________

(١) : لاحظ الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٤٤١ و٤٥٥


وبما (١) ذكرنا يظهر وجه تحريم الرّبا فيه (٢) أيضا (٣) وإن (٤) خصّصنا الحكم

______________________________________________________

المقام الثاني : جريان أحكام البيع في المعاطاة

أ : حرمة الرّبا

(١) أي : بما ذكرناه في وجه اعتبار شرائط البيع في المعاطاة مطلقا ـ من أن موردها البيع العرفي ، والمعاطاة بيع عرفا ـ يظهر وجه تحريم الرّبا فيها .. إلخ.

توضيح المقام : أنّه قد تقدم في أوّل هذا التنبيه : أنّ المصنّف تعرّض للبحث عن جريان شرائط البيع وأحكامه في المعاطاة في مقامين ، أحدهما في الشرائط ، والآخر في الأحكام. وهذا شروع في المقام الثاني ، وهو يتضمن جهتين ، الأولى : في حكم جريان الرّبا المعاوضي في المعاطاة ، والثانية في حكم جريان الخيار فيها.

أمّا الجهة الأولى فمحصلها : أنّ الظاهر حرمة الربا في المعاطاة إذا كان العوضان من الجنس الربوي ، كحرمته في البيع العقدي ، سواء قلنا باختصاص دليل حرمة الرّبا بالبيع ، أم بشموله لكل معاوضة عرفية أو شرعية ، وسواء أكان مقصودهما الملك أم الإباحة. أمّا بناء على اختصاص الحرمة بالبيع فلصدقه على المعاطاة المقصود بها الملك. وأمّا بناء على جريان حرمة الربا في كل معاوضة فالأمر أوضح ، إذ لو فرض الشك في بيعية المعاطاة لم يكن شك في صدق المعاوضة عليها سواء قصد الملك أم الإباحة. والشاهد على كونها معاوضة كلام الشهيد في حواشي القواعد من «أنّ المعاطاة معاوضة مستقلة لازمة أو جائزة».

وعليه فلا مجال للقول بمشروعيّتها عند كون العوضين من جنسين ربويّين مع التفاضل ، هذا. ولا يخفى أنّ المذكور من صور المسألة في المتن ـ ثلاث ، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

(٢) أي : في المعاطاة ، والأولى تأنيث الضمير.

(٣) يعني : كحرمة الرّبا في البيع العقدي.

(٤) وصلية. والوجه في حرمة الرّبا واضح بناء على اختصاص حرمته بالبيع ، لفرض صدقه عرفا على المعاطاة كما مرّ مرارا. ثم إنّ قوله : «وإن خصّصنا ..» إشارة


بالبيع (١) ، بل (٢) الظاهر التحريم حتى عند من لا يراها مفيدة للملك ،

______________________________________________________

الى الخلاف في حرمة الرّبا في مطلق العقود المعاوضية. فمنهم من خصّ الحرمة بالبيع كما حكي عن غصب السرائر ، والمختلف والقواعد والإرشاد. ومنهم من عمّمها لكلّ معاوضة ، كما حكي عن السيد المرتضى وشيخ الطائفة. والقاضي ، وجمع من المتأخرين. ومنهم من توقّف في ذلك كما حكي عن العلامة في غصب القواعد وصلحه ، وعن فخر المحققين في غصب الإيضاح. وإن شئت الوقوف على التفصيل فراجع مفتاح الكرامة (١).

(١) فلو عمّمنا حرمة الرّبا لكلّ معاوضة ـ وإن لم تكن بيعا ـ فالأمر أوضح ، لصدق المعاوضة على المعاطاة وإن لم يحرز بيعيّتها.

(٢) هذا إضراب عن مجرد ظهور جريان حرمة الرّبا في المعاطاة ـ بناء على اختصاصها بالبيع ـ إلى إثبات حرمتها فيها حتى مع التشكيك في صدق البيع على المعاطاة. وكلام المصنف هنا إشارة إلى توهم ودفعه.

أمّا التوهم ، فهو : أنّه لا مجال للجزم بحرمة الرّبا في المعاطاة ، لأنّ وزانها وزان الشروط التي تقدّم البحث فيها في المقام الأوّل من تطرّق احتمالات ثلاثة فيها من جريانها مطلقا ، وعدمه كذلك ، والتفصيل بين إفادة الملك والإباحة ، فينبغي إلحاق حرمة الرّبا ببحث الشروط ، لا استظهار جريانها فيها مطلقا على ما هو مفاد قوله : «وبما ذكرنا يظهر وجه تحريم الرّبا فيه ..».

وأما الدفع فحاصله : أنّه ليس في الرّبا إلّا احتمال الجريان مطلقا ، لبطلان المعاملة الرّبوية ، فلا مجال لأن يقال : إن موضوع حرمة الرّبا هو البيع اللازم أو الصحيح ، اللّذان هما وجهان للاحتمال الثاني والأخير في مسألة اعتبار الشروط وعدمه. فالمراد بقوله : «بل الظاهر» هو أنّه لا بد من القول بتحريم الرّبا في المعاطاة مطلقا حتى عند من يراها مفيدة للإباحة ، إذ لا شبهة في كون موضوع حرمة الرّبا

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ٥٠٢


لأنّها (١) معاوضة عرفية وإن لم يفد (٢) الملك ، بل (٣) معاوضة شرعية كما اعترف بها (٤) الشهيد رحمه‌الله في موضع من الحواشي ، حيث قال : «إنّ المعاطاة معاوضة مستقلة جائزة أو لازمة» (١) انتهى (*).

______________________________________________________

هو مطلق المعاوضة العرفية ومن المعلوم أنّ المعاطاة معاوضة عرفية ، فيحرم الرّبا فيها.

(١) تعليل للتعميم المستفاد من قوله : «بل الظاهر» والمستفاد من هذه العبارة حكم صورة ثانية ، وهي ما لو شكّ في صدق البيع على المعاطاة المفيدة للإباحة تعبدا. والوجه في حرمة الرّبا فيها صدق المعاوضة عليها عرفا ، بضميمة إطلاق دليل حرمة الرّبا لكلّ معاوضة وإن لم ينطبق عليها حدّ البيع.

(٢) بل أفادت الإباحة تعبّدا كما هو مسلك مشهور القدماء.

(٣) إضراب عن مجرّد كون المعاطاة معاوضة عرفية ، إلى أنّها معاوضة ممضاة شرعا وإن اختلف في حكمها لزوما وجوازا. وحيث كانت معاوضة شرعية كانت محكومة بأحكام المعاوضات المالية التي منها حرمة الرّبا ، فلا مجال لدعوى اختصاص الحرمة بالمعاوضات المشروعة كالبيع والصلح ، وعدم جريانها في المعاوضة العرفية التي لم يحرز إمضاؤها شرعا.

(٤) أي : بشرعية المعاوضة. والمراد بالمعاوضة الشرعية هنا المعاوضة بين العينين في الإباحة ، في قبال المعاوضة العرفية التي هي المبادلة بينهما في الملك.

__________________

(*) الاستشهاد بهذه العبارة على كون المعاطاة الإباحية معاوضة شرعية مبني على ما استظهره المصنّف منها في التنبيه السابع من أنّها ناظرة إلى حكم المعاطاة الإباحية لا التمليكيّة ، فيكون مراد الشهيد من جواز الإباحة ولزومها حكمها قبل طروء الملزم وبعده. وإلّا فلو كانت العبارة ناظرة إلى المعاطاة المفيدة للملك لم يتجه

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨


ولو قلنا (١) بأن المقصود للمتعاطيين الإباحة ـ لا الملك ـ فلا يبعد أيضا (٢) جريان الرّبا ، لكونها معاوضة عرفا (*) ،

______________________________________________________

(١) هذه إشارة إلى صورة ثالثة ، وهي : إثبات حرمة الرّبا في المعاطاة المقصود بها الإباحة المالكية ، لا الملك ، والوجه فيه صدق المعاوضة العرفية على إباحة كل منهما ماله للآخر ، فيحرم الرّبا فيها بناء على جريان الرّبا في مطلق المعاوضات وعدم اختصاص حرمتها بالبيع.

(٢) يعني : كما لا يبعد جريان الرّبا في الصورة الثانية ، وهي المعاطاة المفيدة للإباحة تعبدا مع قصدهما الملك.

__________________

الاستشهاد بها على المقام من كون المعاطاة المفيدة للإباحة معاوضة ، وذلك للشبهة في صدق المعاوضة على المقابلة بين الإباحتين.

(*) ينبغي أن يقال : بأنّ المعاطاة إمّا أن يقصد بها الملك ، وأمّا أن يقصد بها الإباحة. والأوّل على قسمين : أحدهما : إفادتها الملك ، والآخر : الإباحة ، فالأقسام ثلاثة.

ثم إنّ الرّبا إمّا تختص بالبيع ، وإمّا تعمّ جميع المعاوضات ، فمن ضرب الثلاثة في الاثنين يحصل ست صور.

أمّا المعاطاة المقصود بها الملك مع ترتب الملك عليها فلا إشكال في جريان الرّبا فيها سواء قلنا باختصاصها بالبيع أم لا.

وأمّا المعاطاة التي تترتب عليها الإباحة مع قصد التمليك بها ، فبناء على صدق البيع أو المعاوضة عليها يجري فيها الرّبا. وبناء على عدم الصدق نقول بجريان الرّبا فيها أيضا ، للزوم الاقتصار في الإباحة على القدر المتيقن ، وهو اجتماع الشرائط التي منها التساوي بين العوضين مع وحدة الجنس وكونهما من المكيل والموزون ، بعد كون الأصل الفساد.

وأمّا المعاطاة المقصود بها الإباحة ، فإن صدق عليها عنوان المعاوضة مع تعميم


فتأمّل (١).

وأمّا حكم (٢) جريان الخيار فيها قبل اللزوم (*)

______________________________________________________

(١) لعلّه إشارة إلى : أنّه ـ بناء على اختصاص الرّبا بالبيع ـ لا تجري الرّبا في المعاطاة التي قصد بها الإباحة ، لوضوح عدم صدق البيع عليها حينئذ. وبناء على تعميم الرّبا لمطلق المعاوضة يكون الظاهر إرادة المعاوضة بين المالين لا بين الإباحتين ، فلا تجري الرّبا على كلا التقديرين في المعاطاة المقصود بها الإباحة.

ب : جريان الخيار في المعاطاة قبل لزومها

(٢) هذه هي الجهة الثانية المتكفلة للبحث عن جريان حكم آخر من أحكام البيع في المعاطاة ، وهو الخيار. وتوضيح المقام : أنّه يقع الكلام تارة في ثبوت جريان الخيارات في المعاطاة قبل طروء أحد الملزمات وعدمه ، وأخرى في ثبوتها فيها بعد طروئه. والبحث في الأخير موكول إلى التنبيه السابع والثامن ، كما نبّه عليه بعد أسطر. فيقتصر فعلا على التقدير الأوّل وهو المعاطاة قبل طروء الملزم.

__________________

الرّبا لمطلق المعاوضة جرت الرّبا فيها ، وإلّا فلا ، لعدم كونها بيعا ولا معاوضة أخرى ، فمع الشك في جريان الرّبا فيها يتمسك بإطلاق دليل هذه المعاطاة ، وهو قاعدة طيب النفس على ما قيل.

هذا لو تمت إطلاقات الأدلّة اللفظية. وإن كان الدليل على مشروعيّتها السيرة وشكّ في انعقادها على هذا النحو من الإباحة المعوّضة كان مقتضى القاعدة الأخذ بالقدر المتيقن منها وهو عدم التفاضل بين العوضين ، إذ في غير المتيقن تجري أصالة الفساد المقتضية لحرمة التصرف.

(*) المانع المتوهم من جعل الخيار قبل اللزوم أمور : أحدها : تحصيل الحاصل. ثانيها : اجتماع المثلين ، ثالثها : اللّغوية. والجميع مندفع باعتبار حقّية الخيار المترتبة عليها الآثار.


فيمكن (١) نفيه على المشهور ، لأنّها إباحة (٢) عندهم ، فلا معنى للخيار.

وإن قلنا (٣) بإفادة الملك فيمكن (٤) القول بثبوت الخيار فيه

______________________________________________________

وقد فصّل المصنف قدس‌سره بين المعاطاة المفيدة للإباحة فلا يجري شي‌ء من الخيارات فيها ، لجواز رجوع المبيح ما دامت العين باقية ، فلا معنى للخيار الذي هو حقّ إقرار العقد وإزالته. وبين المعاطاة المفيدة للملك الجائز ، وفيها احتمالان :

أحدهما : جريان الخيارات بأجمعها فيها.

ثانيهما : التفصيل بين الخيارات الخاصة بالبيع فلا تجري ، والعامّة لغيره فتجري. هذا مجمل ما أفاده ، وسيأتي مفصّلة إن شاء الله تعالى.

(١) لأنّ الخيار «ملك فسخ العقد ورفع مضمونه بالفسخ» وهذا المعنى من الخيار مفقود هنا ، لأنّ العقد على القول بالإباحة لا مضمون له ، بداهة أنّ مضمونه وهو التمليك لم يتحقق ، والإباحة ليست مضمون العقد ، بل هي حكم شرعي بناء على كون الإباحة شرعية. وكذا إذا كانت الإباحة مالكيّة ، لأنّها تحصل بنفس الإعطاء والتسليط ، وليست مضمون عقد. فمانع الخيار في المعاطاة المفيدة للإباحة ثبوتي لا إثباتي.

(٢) هذا هو الصحيح كما في بعض النسخ المصححة. وأمّا ما في غيرها من : «أنها جائزة» فغير سديد. أمّا أوّلا فلأنّ المشهور بين القدماء هو أنّ المعاطاة تفيد الإباحة لا الملك الجائز.

وأمّا ثانيا فلأنّ الجواز لا ينافي الخيار كما عرفت آنفا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ حكم الخيار ـ بناء على إفادة الملك الجائز ـ قد أفاده بقوله : «وإن قلنا بإفادة الملك ، بعد اللزوم» فيكون تكرارا مخلّا.

(٣) هذا عدل قوله : «على المشهور» ، فكأنّه قال : «فيمكن نفيه إن قلنا بإفادة الإباحة كما هو مختار المشهور .. وان قلنا بإفادة الملك .. إلخ».

(٤) هذا الاحتمال في قبال الاحتمال الآتي في كلامه بقوله : «ويحتمل أن يفصّل» يعني : أنّه بناء على إفادة الملك يتطرّق احتمالان في ثبوت الخيارات في المعاطاة.


مطلقا (١) بناء على صيرورتها بيعا (٢) بعد اللزوم (*) كما سيأتي عند تعرّض الملزمات (٣) ، فالخيار موجود من زمان المعاطاة ، إلّا أنّ أثره (٤) يظهر بعد اللزوم. وعلى هذا (٥) فيصحّ إسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم (*).

______________________________________________________

(١) يعني : من غير فرق بين الخيار المختصّ بالبيع كخياري المجلس والحيوان ، وغير المختص به كخيار الغبن.

(٢) يعني : لا معاوضة مستقلة في قبال البيع كما سيأتي في التنبيه السابع إن شاء الله تعالى.

(٣) الأولى أن يقال : «بعد تعرض الملزمات» لأنّ الملزمات ذكرت في التنبيه السادس ، وليس هناك دلالة على صيرورتها بيعا بعد عروض الملزم ، وإنّما أفاده في التنبيه السابع الّذي افتتحه بقوله : «ان الشهيد الثاني في المسالك ذكر وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف ، أو معاوضة مستقلة».

(٤) يعني : أثره العملي وهو القدرة على الفسخ ، وإلّا فالإسقاط والمصالحة عليه من الآثار أيضا كما صرّح به المصنف بقوله : «وعلى هذا فيصح إسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم».

(٥) أي : وعلى فرض وجود الخيار من زمان المعاطاة.

__________________

(*) فلا يرد عليه ما في حاشية المحقق الخراساني قدس‌سره من قوله : «والخيار موجود من زمن المعاطاة ، وأثره يظهر من حيث ثبوته ، لصحة إسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم ، فلا وجه لما أفاده من ظهور أثره بعده» (١).

وكأنّه قدس‌سره لم يلاحظ من كلام المصنف قدس‌سره إلّا قوله : «إلّا أنّ أثره يظهر بعد اللزوم» ولم يلاحظ ما بعده من قوله : «وعلى هذا فيصح إسقاطه .. إلخ».

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ١٧


ويحتمل (١) أن يفصّل بين الخيارات المختصة بالبيع ، فلا تجري (٢) ، لاختصاص أدلّتها (٣) بما وضع على اللزوم من غير جهة الخيار (٤) ، وبين غيرها (٥) كخيار الغبن والعيب (*)

______________________________________________________

(١) معطوف على «فيمكن القول» لا على قوله : «فيمكن نفيه ..» لأنّ المقصود إبداء احتمالين في المعاطاة المفيدة للملك ، وأمّا المفيدة للإباحة فلا معنى للخيار فيها.

وكيف كان فحاصل ما أفاده : أنّه يحتمل التفصيل بين الخيارات بأن يقال : إنّ ما يختص منها بالبيع لا يجري في المعاطاة ، لاختصاص أدلّتها بالبيع المبني على اللزوم من غير ناحية الخيار ، يعني : لو لا الخيار كان لازما ، ولم يكن سبب لجوازه إلّا الخيار ، فمع جواز العقد في نفسه لا يثبت فيه الخيار. وأمّا ما لا يختص من الخيارات بالبيع كخيار الغبن فيجري في المعاطاة ، لعموم أدلة تلك الخيارات كقاعدة نفي الضرر ، وبناء المتعاملين على مساواة العوضين في المالية. فجاز فسخ العقد عند التخلف.

(٢) يعني : فلا تجري الخيارات المختصة بالبيع في المعاطاة المفيدة للملك.

(٣) أي : أدلة الخيارات المختصة بالبيع ، مثل «البيّعان بالخيار» و «صاحب الحيوان المشتري بالخيار إلى ثلاثة أيّام».

(٤) والمفروض استناد جواز الملك وتزلزله في المعاطاة إلى نفس العقد الفعلي ، لا إلى الخيار ، فإنّه لو لم يجري شي‌ء من الخيارات فيها كان الملك جائزا بعد ، ومن المعلوم عدم جريان الخيار المخصوص بالبيع ـ المبني على اللزوم بحسب طبعه الأوّلي ـ في المعاطاة.

(٥) أي : غير الخيارات المختصة.

__________________

(*) لا يخفى أن هذين الخيارين أولى من غيرهما بعدم الجريان ، لأنّ دليلهما ـ وهو قاعدة نفي الضرر ـ لا يجري في البيع الجائز ذاتا ، ضرورة أنّ الضرر ينشأ من وجوب الوفاء بالمعاملة ، فلا ضرر ـ إذ لا وجوب وفاء بالمعاملة الجائزة ذاتا ـ حتى ينشأ منه الخيار.


بالنسبة (١) إلى الرّدّ دون الأرش ، فتجري ، لعموم أدلّتها (*).

وأمّا (٢) حكم الخيار بعد اللّزوم فسيأتي بعد ذكر الملزمات.

______________________________________________________

(١) هذه الكلمة قيد ل «خيار العيب» ومقصوده قدس‌سره أنّ دليل خيار العيب المقتضي لجريانه في العقود المعاوضية يوجب في المعاطاة الردّ خاصة ، ولا يقتضي الأرش.

توضيحه : أنّهم عرّفوا الخيار ب «ملك فسخ العقد وإقراره» وهذا المعنى جار في جميع الخيارات ، ولخيار العيب حكم آخر في البيع ، وهو جواز إبقاء العقد وأخذ الأرش ، أي التفاوت بين الصحيح والمعيب ، فلو باع متاعا معيبا تخيّر المشتري بين فسخ العقد وأخذ الأرش. لكن هذا التخيير مخصوص بالبيع اللفظي المفيد بطبعه للملك اللّازم ، لأنّه حكم تعبدي ثبت في البيع ، وليس مما يقتضيه مطلق الخيار ، وليس من شؤونه.

وعلى هذا فالبناء على عموم دليل خيار العيب لغير البيع كان مقتضى جريانه في المعاطاة ـ التي هي معاوضة جائزة حسب الفرض ـ جواز فسخ أصل العقد. وأمّا إذا كان المأخوذ بالمعاطاة معيبا ، فليس للآخذ مطالبة الأرش ، لفرض كون الأرش حكما تعبديا في خصوص البيع اللازم. فهو نظير الخيارات المخصوصة بالبيع ـ كخياري المجلس والحيوان ـ في عدم جريانها في سائر العقود المعاوضية.

(٢) يعني : أنّ ما تقدم من التفصيل في حكم جريان الخيار في المعاطاة يكون مورده قبل طروء أحد الملزمات ، وأمّا جريانه فيها بعد اللّزوم فسيأتي إن شاء الله تعالى في التنبيه السابع ، فإنّه يذكر هناك حكم الخيار بعد اللزوم على كلا القولين وهما الملكية والإباحة.

__________________

(*) لا وجه لهذا الاحتمال ، لما فيه أوّلا : من النقض بالبيع القولي إذا اجتمعت فيه موجبات عديدة للخيار كالغبن والعيب ، إذ لازم دلالة كل واحد من أدلّة تلك


.................................................................................................

__________________

الخيارات على اختصاص الخيار بالعقد الذي وضع على اللزوم من ناحية غير هذا الخيار هو عدم اجتماع تلك الخيارات في البيع اللفظي ، مع عدم التزام أحد بذلك.

وثانيا : من الحلّ ، وحاصله : أنّ المراد بلزوم العقد هو كون العقد بطبعه مقتضيا للزوم ، وهذا لا ينافي جوازه للجهات العارضة.

وبعبارة أخرى : المراد لزومه لو خلّي وطبعه ، فلا مانع من جوازه لجهات خارجة عن ذاته.

وتفصيل البحث أن يقال : إنّ المعاطاة المقصود بها الملك إن أفادت الملك اللّازم كما هو الأصح فلا ينبغي الارتياب في تطرّق الخيارات طرّا فيها ، لإطلاق أدلتها ، من غير فرق بين الخيارات المختصة بالبيع وغيرها. وأمّا الخيارات الثابتة بدليل لبّي فالمتيقّن من موردها هو البيع اللّازم.

وإن أفادت الملك الجائز فكذلك أيضا ، لإطلاق أدلّتها ، وتوهم منافاة جوازها للخيار ، للزوم تحصيل الحاصل أو اجتماع المثلين أو اللغويّة مندفع بما مرّ آنفا.

نعم إن كان دليل الخيار لبيّا فلا يحكم بثبوته في المعاطاة المفيدة للملك الجائز.

وإن أفادت الإباحة فلا معنى للخيار ـ الذي هو حلّ العقد وفسخ مضمونه ـ في المعاطاة المفيدة للإباحة كما عرفت في توضيح كلام المصنف قدس‌سره ، لأنّها إباحة عندهم فلا معنى للخيار.

لكن لسيّدنا المحقق الخويي قدس‌سره هنا كلام محصّله : أنّه لا شبهة في صدق البيع العرفي على المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للإباحة شرعا ، فإنّ الإباحة الشرعية لا تخرجها عن البيع العرفي ، ولذا يصح حمله عليها بالحمل الشائع ، فتشملها العمومات الدالة على صحة البيع ، فيحكم بكونها بيعا في نظر الشارع كحصول الملكية في بيع الصرف والسّلم المتوقف على القبض الخارجي. وحينئذ نقول : إن كان المقصود من ثبوت الخيار في العقد سلطنة ذي الخيار على فسخه فعلا فلا إشكال في


.................................................................................................

__________________

عدم شمول أدلة الخيارات للمعاطاة المفيدة للإباحة ، لعدم حصول الملكية إلّا بعد طروء أحد الملزمات ، وإباحة التصرف ترتفع بعدم رضا المالك بالتصرف بلا احتياج إلى فسخ المعاطاة.

إلّا أن يقال : إنّ الإباحة شرعيّة لا مالكيّة حتى ترتفع بعدم رضا المالك ، ومن المعلوم بقاء الإباحة الشرعية إلى أن يحكم الشارع بارتفاعها.

لكنه مندفع بأنّ الإباحة هنا ثبتت بالإجماع ، والمتيقن منه إنّما هو مع بقاء الباذل على إذنه ، فلا يشمل الإجماع صورة رجوعه عن إذنه.

والحاصل : أنّ الغرض من جعل الخيار إن كان هو ترتب الأثر الفعلي عليه لم يجر ذلك في المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للإباحة.

لكنّه بديهي البطلان ، إذ لو كان الغرض من الخيار الأثر الفعلي لزم منه امتناع اجتماع الخيارات العديدة في البيع وغيره من العقود. وإن كان الغرض من الخيار استيلاء صاحبه على إلغاء ما هو مؤثّر في النقل والانتقال ، فلا شبهة في جريان الخيار المصطلح في المعاطاة المذكورة ، لأنّها قابلة للتأثير في الملكية ، فإذا ثبت الخيار لكلّ من المتعاطيين جاز لكلّ منهما رفع تلك القابلية برفع موضوعها لئلّا تؤثّر في الملكية بعد طروء أحد الملزمات.

وعلى هذا فيكفي في صحة جعل الخيار في المعاطاة التمكن من إلغائها بالفسخ عن قابلية التأثير في الملكية. هذا ملخص كلامه (١).

لكن لا يمكن المساعدة على ما أفاده قدس‌سره ، لمنع صدق البيع العرفي على المعاطاة المفيدة للإباحة وإن قصد بها التمليك ، فإنّ صدق البيع مع التفات العرف إلى عدم إمضاء الشارع له ، وجعل الإباحة له ممنوع أشدّ المنع ، وصدقه عليه أحيانا عرفا إنّما هو لأجل عدم اطّلاعه على عدم إمضاء الشارع له ، وبدون إمضائه لا عقد حتى يجري فيه الخيار

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٦٤ و١٦٥


.................................................................................................

__________________

الذي هو حلّ العقد. والإباحة الشرعية أجنبية عن العقد ، وطروء الملزمات لا يوجب الملك ، بل لزوم الإباحة كما هو ظاهر جلّ كلمات القائلين بالإباحة.

وقياس المعاطاة المفيدة للإباحة حدوثا والملك بقاء ببيع الصرف المتوقف تأثيره في الملكية على القبض مع الفارق ، لأنّه بيع عرفي لا يؤثّر شرعا في الملكيّة إلّا بالقبض بحيث يكون القبض شرطا لتأثيره ، من دون ترتّب أثر على مجرّد البيع حتى الإباحة. بخلاف المعاطاة ، فإنّها تؤثّر في الإباحة ، وتأثيرها في الملكية بعد طروء أحد الملزمات غير ثابت ، لما عرفت من أنّ كلمات جلّ القائلين بالإباحة خالية عن تأثيرها في الملكية ، بل عبّروا بأنّها تلزم بالتصرف أو التلف ، والظاهر من ذلك أنّ الإباحة تلزم بهما ، فلاحظ.

ثم إنّه يظهر ممّا ذكرنا : أنّ موضوع الخيار هو العقد الممضى شرعا ، لأنّ الخيار عبارة عن حلّ ما عقده والتزم به ، وبدون الإمضاء الشرعي لا يتحقق عقد حتى ينحلّ بالفسخ الناشئ عن الخيار. والمعاطاة المفيدة للإباحة وإن قصد بها الملك ليست عقدا شرعا حتّى يجري فيها الخيار.

وعليه فلا موضوع لما أفاده قدس‌سره من «أنّ الغرض من جعل الخيار إن كان هو ترتب الأثر الفعلي امتنع اجتماع الخيارات العديدة في البيع وغيره من العقود ، وهو بديهي البطلان. وإن كان هو استيلاء صاحبه على إلغاء ما هو مؤثّر في النقل والانتقال ، فلا شبهة في جريان الخيار المصطلح في المعاطاة المذكورة ، لأنها قابلة للتأثير في الملكية فلا مانع من إلغائها عن التأثير المزبور بالخيار ، هذا» وذلك لأنّه لا يصدق العقد العرفي والشرعي على المعاطاة المذكورة حتى يصحّ جعل الخيار فيها ، ويجي‌ء فيه التشقيق المزبور في الخيار.

هذا كلّه مضافا إلى : أنّ دليل الخيار يخصّص أدلة لزوم الملك التي هي دليل الإمضاء ، فدليل الخيار مترتب عليها ، ومخصّص لعمومها الأفرادي أو الأزماني.


.................................................................................................

__________________

وإن شئت فقل : إنّ الخيار دافع لأصالة اللزوم كخيار المجلس ، أو رافع لها كخيار العيب والغبن بناء على كون ظهور العيب والغبن سببا للخيار.

وعلى كلّ حال يعتبر في تعلق الخيار وقوع مضمون العقد ، ولا يكفي مجرّد القابلية في تعلّقه ، وإلّا لصحّ تعلق خيار المجلس ببيع الصرف قبل التقابض ، لكونه قابلا للمملّكية ، وصيرورة هذه القابلية فعليّة بعد التقابض ، مع أنّ من البديهي عدم جعل الخيار فيه إلّا بعد التقابض. ولا ملك فعلا في المعاطاة حتى يثبت فيها الخيار ، ولذا لا يجري خيار المجلس في بيع الصرف والسّلم قبل القبض ، حيث إنّ نفس العقد فيهما لا يفيد الملك حتى يجي‌ء فيهما الخيار وإن كانا قابلين للتأثير في الملكيّة.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ موضوع الخيار هو العقد الممضى شرعا ، لا مجرّد العقد العرفي وإن لم يمضه الشارع كالمعاطاة المفيدة للإباحة شرعا المقصود بها الملك.

فتلخص مما ذكرنا : أنّ شيئا من الخيارات لا يتطرّق في المعاطاة المفيدة للإباحة وإن قصد بها التمليك ، كعدم تطرّقه في المعاطاة المقصود بها الإباحة.


الأمر الثاني (١) : أنّ المتيقن من مورد المعاطاة هو حصول التعاطي

______________________________________________________

التنبيه الثاني : إنشاء المعاطاة بوجوه أربعة

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه بيان ما يتحقق به المعاطاة ، يعني : أنّه هل يعتبر في تحققها ـ حتى تفيد الملك أو الإباحة ـ التعاطي من الطرفين ، أم تتحقق بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، وبغير ذلك.

وتوضيح المقام : أنّ في كل معاملة ـ ومنها المعاطاة في البيع ـ جهتين :

إحداهما : المنشأ ، وهو الأمر الاعتباري المقصود للمتعاملين ، وهو إمّا التمليك أو الإباحة.

وثانيهما : الإنشاء ، وهو ما يكون مبرزا للقصد النفساني أو موجدا للأمر الاعتباري. ولا بد من تحقيق كلتا الجهتين ، وقد عقد المصنف قدس‌سره التنبيه الرابع لاستيفاء الكلام في أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين. كما عقد هذا التنبيه للبحث عن الجهة الثانية.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المذكور في المتن صور أربع :

الأولى : اعتبار الإعطاء من الطرفين في تحقق الملكية أو الإباحة ، فلا يحصل شي‌ء منهما بإعطاء واحد ، وهو مقتضى الجمود على مدلول هيئة المفاعلة أي المشاركة بين اثنين في المبدأ ، وعليه فالإعطاء الواحد جزء السبب المؤثّر في الملكية أو


فعلا (١) من الطرفين (٢) ، فالملك (٣) أو الإباحة في كلّ منهما بالإعطاء ، فلو (٤) حصل الإعطاء من جانب واحد لم يحصل ما يوجب إباحة الآخر أو ملكيّته ، فلا (٥) يتحقق المعاوضة (٦)

______________________________________________________

الإباحة ، نظير الإيجاب الواحد القولي في عدم ترتب أثر عليه ما لم ينضم إليه قبول قولي.

الثانية : إعطاء أحد المتعاطيين وأخذ الآخر ، من دون أن يعطي الآخذ شيئا.

الثالثة : عدم تحقق الإعطاء أصلا ، لا من الطرفين ولا من طرف واحد. بل مجرّد إيصال المال الى الآخر بوضعه في المكان المعدّ له.

الرابعة : مجرّد الكلام والمقاولة ، من دون تحقق الإعطاء ولا إيصال أحد العوضين للآخر.

هذا إجمال الكلام ، وسيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

(١) التقييد بفعلية التعاطي يكون لإخراج سائر الصور ، فإنّ الإعطاء سيتحقق منهما ، لكنه ليس بعنوان إنشاء المعاوضة ، بل لأجل الوفاء بها ، كما هو الحال في القبض في البيع القولي.

(٢) هذا إشارة إلى الصورة الأولى. وهي مقتضى الجمود على ظاهر باب المفاعلة.

(٣) إذا كان هو المقصود ، وقلنا بترتبه على المعاطاة كترتبه على البيع بالصيغة.

(٤) هذه الإباحة إمّا مالكية لو كانت مقصودة ، أو تعبدية كما هو رأي القدماء من ترتبها على المعاطاة المقصود بها الملك.

(٥) هذه نتيجة اعتبار فعلية التعاطي من الطرفين في ترتب الأثر على المعاطاة.

(٦) يعني : بناء على كون المعاطاة مفيدة للملك.


ولا الإباحة (١) رأسا ، لأنّ (٢) كلّا منهما ملك أو مباح في مقابل ملكية الآخر (٣) أو إباحته.

إلّا (٤) أن الظاهر من جماعة (٥) من متأخري المتأخرين تبعا للشهيد في الدروس جعله (٦) من المعاطاة (٧).

______________________________________________________

(١) بناء على إفادة المعاطاة للإباحة.

(٢) محصل هذا التعليل : أنّ المعاوضة البيعية أو الإباحيّة تتوقف على قيام كلّ من المالين مقام الآخر في الملكية أو الإباحية ، ولا يقوم ذلك إلّا بإعطاء المالك ، فالإعطاء من كلّ واحد من المالكين تمليك أو إباحة ، فالإعطاء من طرف واحد تمليك أو إباحة بلا عوض ، وهذا غير المعاوضة المتقومة بإعطاء كلّ واحد من المالكين.

(٣) أي : ملكية المال الآخر.

(٤) هذا استدراك على قوله : «المتيقن من مورد المعاطاة» وغرضه بيان الصورة الثانية ، يعني : إلحاق الإعطاء من طرف واحد ـ وأخذ الآخر ـ بالمعاطاة من الطرفين في إفادة الإباحة على رأي القدماء ، والملك على رأي المتأخرين.

(٥) كالشهيد الثاني (١) والمحدث البحراني (٢).

(٦) أي : جعل الإعطاء ـ من جانب واحد ـ من مصاديق المعاطاة.

(٧) قال الشهيد قدس‌سره : «ومن المعاطاة : أن يدفع إليه سلعة بثمن يوافقه عليه من غير عقد ، ثم تهلك عند القابض ، فيلزم الثمن المسمّى» (٣).

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥١

(٢) الحدائق الناضرة ، ج ١٨ ، ص ٣٦٤

(٣) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩٢


ولا ريب (١) أنّه لا يصدق (٢) معنى المعاطاة ، لكن هذا (٣) لا يقدح في جريان حكمها عليه بناء (٤) على عموم الحكم لكلّ بيع فعلي (٥) ، فيكون إقباض أحد العوضين من مالكه تمليكا له بعوض ، أو مبيحا (٦) له به (٧) ،

______________________________________________________

(١) هذا إشكال على إلحاق الإعطاء من طرف واحد بالمعاطاة موضوعا ، ثم وجّهه بقوله : «لكن» وحاصل ما أفاده : أنّ جعل الإعطاء من طرف واحد معاطاة إن أريد به كونه معاطاة موضوعا فهو ممنوع ، لظهور هيئة المفاعلة في اعتبار الإعطاء من الجانبين فعلا ، فإعطاء أحدهما ليس معاطاة. وإن أريد به إلحاقه حكما بالمعاطاة كان متينا ، بناء على أن يكون مفاد دليل مشروعية المعاطاة صحة البيع الفعلي في قبال القولي ، سواء تحقق بالتعاطي من الجانبين ، أم بإعطاء أحدهما ، أم بنحو آخر ، إذ المتّبع حينئذ هو دليل المعاملة الفعلية وإن لم يصدق عنوان المعاطاة عليها. وعليه فما في دروس الشهيد وتبعه جماعة في غاية المتانة.

(٢) لتوقّفه على الإعطاء من الطرفين ، بدعوى دلالة هيئة المفاعلة على الاشتراك في المبدأ.

(٣) أي : عدم صدق المعاطاة لا يقدح في جريان حكم المعاطاة على الإعطاء الواحد.

(٤) قيد لقوله : «لا يقدح» يعني : فلو قيل بدوران صحة المعاطاة مدار صدق المعاطاة المنوطة بالتعاطي لم يكن وجه للإلحاق المزبور.

(٥) غرضه قدس‌سره أنّ الإعطاء من طرف واحد محكوم عليه بحكم المعاطاة ـ وإن لم يصدق عليه عنوانها ـ بناء على عموم حكم المعاطاة عند الأصحاب لكل بيع فعلي من دون مزيّة وخصوصية للتعاطي من طرفين ، إذ من المعلوم حينئذ كون الإعطاء من طرف واحد مصداقا للبيع الفعلي وإن لم يكن مصداقا للمعاطاة ، إذ لم يرد عنوان المعاطاة في نصّ حتى يكون لها خصوصية.

(٦) الأنسب بالمقابلة أن يقال : «أو إباحة له» أو يقال : «مملّكا له بعوض».

(٧) أي : بالعوض ، وضمير «له» في المواضع الخمسة راجع إلى أحد العوضين.


وأخذ الآخر له تملّكا (١) له بالعوض أو إباحة له بإزائه ، فلو كان (٢) (*) المعطى (٣) هو الثمن كان دفعه على القول بالملك والبيع اشتراء ، وأخذه (٤) بيعا للمثمن به ، فيحصل الإيجاب والقبول الفعليّان بفعل واحد (٥) في زمان واحد (**).

ثم صحّة هذا (٦) على القول بكون المعاطاة بيعا مملّكا واضحة ، إذ يدلّ عليها ما دلّ على صحة المعاطاة من الطرفين.

______________________________________________________

(١) فيكون الأخذ كالقبول القولي ، وإعطاء البائع بمنزلة الإيجاب اللفظي. ولا حاجة حينئذ إلى الإعطاء من طرف آخر ، بل يتحقق البيع بإعطاء واحد منهما وأخذ الآخر.

(٢) هذا متفرع على كفاية إعطاء أحدهما وأخذ الآخر في صدق البيع الفعلي ـ وهو المعاطاة بالمعنى الأعم ـ عليه.

(٣) بصيغة المفعول.

(٤) يعني : وأخذ مالك المبيع للثمن من مالكه بيع للمثمن بذلك الثمن الذي أخذه ، وهذا بناء على صحة تقدم القبول على الإيجاب لا مانع عنه ، وإلّا ففيه منع.

(٥) يعني : بإعطاء واحد مقرون بأخذ الطرف الآخر في زمان واحد.

(٦) أي : صحة المعاطاة المتحققة بإعطاء واحد. وحاصل ما أفاده قدس‌سره هو : أنّه

__________________

(*) هذا التفريع غير ظاهر ، لأنّ دفع الثمن ـ الذي هو وظيفة المشتري ـ تملك لا تمليك. وغرضه قدس‌سره كون الإعطاء تمليكا لا تملّكا. والظاهر عدم تحقق البيع بدفع الثمن إلى مالك المبيع.

(**) فالإعطاء من الطرف الآخر يكون وفاء بالعقد المتحقق بإعطاء واحد ، وليس إنشاء لقبول العقد ، لتحققه قبله على الفرض. بل مقتضى كفاية إعطاء واحد في تحقق المعاطاة هو كون الإعطاء من الطرف الآخر ـ في المعاطاة من الطرفين أيضا ـ وفاء ، لا إنشاء للقبول.


وأمّا على القول بالإباحة فيشكل بأنّه ـ بعد عدم حصول الملك بها ـ لا دليل على تأثيرها في الإباحة (١).

اللهم (٢) إلّا أن يدّعى قيام السيرة عليها (٣) كقيامها على المعاطاة الحقيقية (٤).

وربما يدّعى (٥) انعقاد المعاطاة بمجرد إيصال الثمن وأخذ المثمن من غير

______________________________________________________

بناء على كون المعاطاة بيعا مفيدا للملك يكون دليل صحتها ما دلّ على صحة المعاطاة ـ الحاصلة من الإعطائين ـ من الأدلّة المتقدمة ، فإنّ المعاطاة حينئذ بيع يشملها جميع ما دلّ على صحة البيع. وبناء على كون المعاطاة مفيدة للإباحة لا تكون بيعا حتى تشملها أدلّة البيع ، ولا دليل على إفادتها الإباحة ، لظهور كلمات القدماء القائلين بالإباحة في توقفها على إعطاء الجانبين ، كقولهم : «إذا دفع قطعة الى البقلي أو الشارب فقال : أعطني بقلا أو : اسقني ماء» وظهورها في توقف الإباحة على الإعطاء من جانبين ممّا لا ينكر. إلّا أن يدّعى قيام السيرة عليها كقيامها على المعاطاة الحقيقية المتحققة بالإعطاء من الطرفين ، بأن يقال : إنّ موضوع السيرة هي المعاطاة المتحققة عرفا بالإعطاء من طرف واحد.

(١) حيث إنّ مقتضى القاعدة عدم جواز التصرف في مال الغير بدون إذنه.

(٢) استدراك على قوله : «فيشكل» ومقصوده ـ كما تقدم توضيحه ـ تصحيح المعاطاة ـ بإعطاء واحد منهما ـ بالسيرة المستمرة على ترتب الإباحة عليه.

(٣) أي : على المعاطاة الحاصلة بإعطاء واحد منهما.

(٤) وهي بالتعاطي من الطرفين.

(٥) هذا ثالث الوجوه المتصورة في المعاطاة ، ومحصل هذا الوجه هو : أنّه لا إعطاء في البين أصلا ، لا من الطرفين ولا من الطرف الواحد ، بل ليس فيه إلّا إيصال ووصول ، فالموصل يتسبب بإيصاله إلى التمليك ، والطرف الآخر يتسبب بوصول المال إليه إلى مطاوعته ، فيتحقق بهما البيع. ولعلّ السيرة الجارية على ذلك


صدق إعطاء أصلا فضلا عن التعاطي كما تعارف (١) أخذ الماء مع غيبة السّقّاء ، ووضع الفلس في المكان المعدّ له إذا علم من حال السّقّاء الرّضا بذلك. وكذا غير الماء من المحقّرات كالخضريات ونحوها. ومن هذا القبيل (٢) دخول الحمّام ووضع الأجرة في كوز صاحب الحمّام مع غيبته (٣).

فالمعيار (٤) في المعاطاة وصول العوضين أو أحدهما مع الرضا بالتصرف. ويظهر ذلك (٥) من المحقق الأردبيلي رحمه‌الله أيضا في مسألة المعاطاة ،

______________________________________________________

ـ في السقاية والاستحمام بل وغيرهما ـ موردها قصد التمليك. وقد تقدّم أنّ «تبديل العين المتمولة بمال» هو البيع ، فكل فعل يكون قابلا لإبراز هذا التبديل الاعتباري فهو بيع فعلي وإن لم يكن معاطاة مصطلحة. ومع صدق البيع عليه يشمله عموم ما دلّ على صحة البيع ، ولا يدور الحكم مدار صدق المعاطاة عليه بعد ما عرفت من عدم ورود عنوان «المعاطاة» في آية ولا رواية ولا معقد إجماع حتّى يدور الحكم مدارها.

(١) مقصوده قدس‌سره : أنّ الصورة الثالثة ليست صرف فرض ، بل هي واقعة خارجا ، لجريان سيرتهم عليها ، إذ لا يتصور الإعطاء والأخذ عند غيبة السّقّاء والبقلي ، فضلا عن تحقق التعاطي.

(٢) أي : من قبيل أخذ الماء عند غيبة السّقّاء ووضع الثمن في المكان المعدّ له ـ في كونه معاطاة ـ دخول الحمام.

(٣) التقييد بالغيبة واضح ، إذ مع حضوره في الحمّام يندرج في الصورة الثانية وهي إعطاء المستحم وأخذ الحمّامي.

(٤) يعني : بناء على هذه الصورة الثالثة.

(٥) يعني : يظهر انعقاد المعاطاة ـ بمجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن ـ من المحقق الأردبيلي قدس سرّه كما يظهر من غيره ، ولعلّ المصنف استظهر كفاية الإيصال من قوله في شرح الإرشاد : «فاعلم أن الذي يظهر أنّه لا يحتاج في انعقاد عقد البيع ـ المملّك


وسيأتي توضيح ذلك (١) في مقامه (٢) إن شاء الله تعالى.

ثم (٣) إنّه لو قلنا بأنّ اللفظ غير المعتبر (٤) في العقد كالفعل في انعقاد المعاطاة أمكن خلوّ المعاطاة (٥)

______________________________________________________

الناقل للملك من البائع إلى المشتري وبالعكس ـ إلى الصيغة المعيّنة كما هو المشهور ، بل يكفي كل ما يدلّ على قصد ذلك مع الإقباض» (١) بأن يراد من الإقباض مجرّد الوصول والإيصال ، لا ظاهره وهو تسليم أحد المتعاطيين ماله للآخر. ولعلّ المصنف قدس‌سره اعتمد في هذه النسبة على ما في مفتاح الكرامة (٢) فراجع.

(١) أي : انعقاد المعاطاة بمجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن ، من غير إعطاء أصلا.

(٢) وهو التنبيه الثامن ، حيث يقول فيه : «والسيرة موجودة في المقام ، فإنّ بناء الناس على أخذ الماء والبقل وغير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم ، ووضعهم الفلوس في الموضع المعدّلة .. إلخ» لكن المصنف خصّ جواز هذه الصورة بالقول بالإباحة دون الملك ، وسيأتي تفصيل الكلام هناك إن شاء الله تعالى.

(٣) هذا إشارة إلى الصورة الرابعة من صور المعاطاة ، وهو إنشاء البيع باللفظ الفاقد لشرائط الصيغة مادّة أو هيئة ، بدون إعطاء العوضين ولا أحدهما ولا إيصاله. وحكم هذه الصورة الصحّة بناء على إفادة الملك المقصود للمتعاطيين ، والبطلان بناء على الإباحة كما سيأتي.

(٤) كأن يقول في إنشاء البيع : «عوّضت» بدل «بعت» أو قال أحدهما : «هذا لك» وقال الآخر : «هذا لك بدل ما أعطيتني».

(٥) الأولى تبديله ب «خلوّ المبادلة» لفرض عدم تحقق الإعطاء والإيصال في هذه الصورة أصلا ، وإنّما يراد إلحاقها بالمعاطاة حكما. نعم لا بأس بهذا التعبير بناء على أن يراد بالمعاطاة ما يقابل البيع القولي الجامع لشروط الصيغة ، إذ ليست هذه

__________________

(١) : مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٣٩

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٩


من الإعطاء والإيصال رأسا ، فيتقاولان (١) على مبادلة شي‌ء بشي‌ء من غير إيصال. ولا يبعد (٢) صحّته مع صدق البيع عليه (٣) بناء على الملك. وأمّا على القول بالإباحة فالإشكال المتقدم (٤) هنا آكد (٥) (*).

______________________________________________________

الصورة الرابعة بيعا بالصيغة فتندرج في المعاطاة التي هي بيع فعلي.

(١) بأن يقصد إنشاء البيع بالألفاظ غير المعتبرة في إنشاء البيع.

(٢) هذا إشارة إلى حكم الصورة الرابعة ، وهو التفصيل بين ترتب الملك والإباحة ، فتصحّ على الأوّل ، لكونها بيعا عرفيا ، وتبطل على الثاني ، لكون المتيقن من دليل الاعتبار ـ وهو مثل السيرة ـ تحقق الإعطاء من الجانبين.

(٣) وإن لم يصدق عليه المعاطاة ، لما مرّ من عدم دوران الحكم بالصحة مدار خصوص الإعطاء والإيصال ، بل يكفي قصد الملك وصدق «البيع» على الإنشاء.

(٤) بقوله في الصورة الثانية : «فيشكل بأنّه بعد عدم حصول الملك بها لا دليل على تأثيرها في الإباحة».

(٥) وجه الآكديّة : أنّ الإباحة لمّا كانت لأجل السيرة والإجماع ـ وهما لبّيّان ـ اختصّا بصورة التعاطي من الطرفين ، فلو تعدّينا عن التعاطي إلى الإعطاء الواحد لم يتجه التعدّي إلى المقام ممّا لا فعل فيه أصلا ، وإنّما هو إنشاء قولي ملحون ، ولا يصدق عليه المعاطاة موضوعا.

__________________

(*) عبارة المصنف قدس‌سره في هذا التنبيه قد تضمّنت صورا أربعا :

الأولى : تحقق الإعطاء من الطرفين ، وهي المنسبقة إلى الأذهان.

الثانية : تحقق الإعطاء من طرف واحد فقط.

الثالثة : عدم الإعطاء لا من الطرفين ولا من طرف واحد ، بل مجرّد إيصال ووصول كالأمثلة المذكورة في المتن من شرب الماء ، والدخول في الحمّام ، وأخذ الخضروات ووضع العوض في الموضع المعدّ له من كوز أو صندوق أو غيرهما.


.................................................................................................

__________________

الرابعة : مجرّد الكلام الدال على المقاولة من غير إيصال ووصول.

أمّا الصورة الاولى فلا ينبغي الإشكال فيها ، لكونها هي المتيقنة من المعاطاة ، فيشملها ما يدلّ على صحّتها. ودعوى «عدم تعقّل توقف المعاطاة المقصود بها المبادلة على الإعطاء من الطرفين ، بل لا محيص عن تحققها بالإعطاء والأخذ لطرف واحد ، نظرا إلى : أنّ الأخذ إن قصد بأخذه للعين قبول ما ملّكه المعطي فقد تمّت به المعاملة ، لاشتمالها على تمليك وتملّك ، فيكون إعطاء الآخر بعد ذلك وفاء بالعقد ، لا إنشاء للقبول. وإن لم يقصد بأخذه القبول فلا يجزي إعطاؤه ، لأنّه تمليك مستقلّ ، فيتحقّق إيجابان مستقلّان بإعطائين. ولا ريب في عدم انعقاد المعاملة حينئذ ، لكون كل منهما إيجابا مستقلا بلا قبول» (١).

غير مسموعة ، لأنّ البيع ليس إلّا تمليكا بإزاء تمليك كما في الإعطائين ، فإنّ كلّا منهما تمليك بإزاء تمليك. وهذا المقدار من الربط كاف في الربط المعاملي ، ولا دليل على اعتبار خصوص الربط المطاوعي ، فلا يكون الإعطائان في المقام تمليكين مستقلّين. ولو كان خصوص الرّبط المطاوعي معتبرا في تحقق البيع لما صحّ إنشاء وكيل المتعاملين تبادل المالين بقوله : «بادلت بينهما» مع صحته قطعا ، فلا ينحصر إيجاد ماهية البيع بالإيجاب والقبول.

فالمتحصل : أنّ البيع يتحقق بإعطائين كما يتحقق بإعطاء واحد ، هذا.

وأمّا الصورة الثانية فقد ظهر مما ذكرنا في الصورة الأولى صحتها ، وأنّها بيع مشتمل على الإيجاب والقبول ، لكون الإعطاء إيجابا والأخذ قبولا ، فيشمله دليل البيع سواء أكان لفظيا أم لبّيّا ، لصدق البيع العرفي عليه.

لكن قد يناقش في تحقق المعاطاة بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، تارة بما

__________________

(١) : حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني ، ج ١ ، ص ٨٣


.................................................................................................

__________________

في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره ، وأخرى بما في حاشية المحقق الإيرواني قدس‌سره.

أمّا الأوّل فقد مهّد لإثبات دعواه مقدّمة ، محصّلها : أنّ العقود المعاوضية التي يمكن إنشاؤها بالمعاطاة هي البيع والإجارة والقرض والهبة ، وأما غيرها كالصلح فلا يقع بالمعاطاة ، وذلك لأنّه يعتبر كون الفعل آلة لذلك العنوان المعاملي حتى يتحقق في وعاء الاعتبار ، فلا معنى لإيجاد كل عنوان بكل فعل وإن لم يكن آلة له ، ولذا لا يقع الصلح بالتسليط الخارجي على المال ، لكونه مصداقا للتمليك لا للتسالم الذي هو حقيقة الصلح.

وعلى هذا فلمّا كانت حقيقة البيع تبديل طرفي الإضافة توقّف حصولها بالمعاطاة على التعاطي من الجانبين ، حتى يفكّ كل منهما ربطه الملكي بماله ويشدّه بمال الآخر ، فيتبدّل طرفا الإضافة. ولا يتحقق عقد البيع لو كان الإعطاء من طرف واحد ، فإنّ البائع مثلا وإن حلّ علقته بماله وشدّها بالمشتري ، إلّا أنّه لم يقم مقامه شي‌ء من المشتري ، إذ لم يصدر منه إلّا الأخذ ، وأمّا حلّ ربطه بمال نفسه فلم يتحقق منه ما يوجبه لا قولا ولا فعلا.

وحينئذ فإمّا أن يكون إعطاء أحدهما وأخذ الآخر مصداقا للهبة ، وإمّا أن يكون باطلا لا بيعا ولا غيره ، إذ البيع تبديل الطرفين والنقل من طرف واحد ليس بيعا.

مضافا إلى : لزوم بقاء نفس إضافة البائع على حالها مع عدم وجود طرف لها ، لعدم انتقال مال المشتري إليه بعد ، ومن المعلوم امتناع بقاء الإضافة بدون طرفها ، لتضايف المالكية والمملوكية. هذا ما يستفاد من تقرير درسه الشريف (١).

وأما الثاني فقد قال : «وأمّا اعتبار العطاء من جانب واحد فهو أيضا باطل ،

__________________

(١) : المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ١٩٧ ـ ١٩٨


.................................................................................................

__________________

فإنّ دليل صحة المعاطاة إن كانت هي الأدلة اللفظية المتقدمة فإطلاقها كما ينفي اعتبار اللفظ في الإنشاء كذلك ينفي اعتبار الفعل ، فكلّ ما حصل به إنشاء المعاملة صحّ بمقتضى تلك الأدلّة. وإن كانت هي السيرة والإجماع فكلّ أحد يعلم أنّ السيرة لا تدور مدار الإنشاء بأسباب خاصة ، بل كلّ ما حصل به إنشاء المعاملة من قول أو فعل أو إشارة كفى في ترتيب أثر المعاملة عند العقلاء وأهل العرف» (١).

لكن يمكن أن يقال : أمّا ما أفاده الميرزا قدس‌سره فإنّ قابلية الفعل لإبراز العنوان القصدي أو إيجاده أو آليته له وإن كانت مسلّمة ، فكما لا تصلح صيغة النكاح لإنشاء البيع مثلا ، فكذا الحال في الإنشاء بالفعل. إنّما الكلام في التطبيق ، إذ المرجع في صدق البيع على المعاطاة هو العرف ، ولا يعتبر عندهم أزيد من قصد العنوان والتوصّل إليه بلفظ أو فعل ، فكما تقع المعاملة عندهم بالملامسة والمنابذة ، فكذا يصح إنشاؤها بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر.

هذا مضافا إلى : النقض بموارد التزم الميرزا قدس‌سره بجريان المعاطاة فيها بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر كالقرض وبيع النسيئة والسّلم ، فالقرض مثلا تمليك عين بضمان البدل ، فلا بد أن يكون أخذ المقترض تملّكا للعين وتمليكا للمثل أو القيمة ، إذ لو لا هذا التمليك وضمانه بالبدل لكان تصرفه عدوانيا. ولا وجه لتصحيح القرض المعاطاتي إلّا الالتزام بأنّ أخذ المقترض آلة عرفا لتملكه للمال ولتمليكه للمثل أو القيمة أي ضمانه لأحدهما.

وكذا الحال في بيع السّلم ، إذ لم يصدر منهما إعطاءان ، بل إقباض الثمن خاصة.

فتحصّل : أن بيان الميرزا قدس‌سره غير ظاهر نقضا وحلّا.

وأمّا ما أفاده المحقق الإيرواني قدس‌سره فلا يخلو من غموض أيضا ، إذ المقصود البحث عن حال الإعطاء الواحد من حيث كونه سببا لإنشاء البيع عرفا وعدمه ، لا من

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٣


.................................................................................................

__________________

حيث اعتبار الإعطاء الواحد شرعا في إنشاء البيع حتى ينفى اعتباره بإطلاق الأدلّة. ولا ريب في أنّ الإعطاء الواحد سبب عرفي لإنشاء البيع ، فتشمله أدلة البيع ، وإلّا لانسدّ باب البيع نسيئة والسّلم ، فهما من أقوى شواهد صحة إنشاء البيع بإعطاء واحد ، فدليل صحة البيع ـ سواء أكان لفظيا أم لبيا ـ يشمل البيع المنشأ بإعطاء واحد.

ولا فرق فيما ذكرناه من صحة إنشاء البيع بالإعطائين والإعطاء الواحد بين إفادة المعاطاة الملك كما هو مقصود المتعاملين ، وبين إفادتها الإباحة تعبّدا كما عن مشهور القدماء ، لأنّ السيرة جارية على كل منهما ، ضرورة أنّ المعاملات الجارية بين العرف تارة تكون بإعطائين ، وأخرى بإعطاء واحد.

وأمّا مع قصد المالكين للإباحة فالأمر أوضح ، لأنّ الإباحة حينئذ مالكية ، فتشمله قاعدة سلطنة المالكين على أموالهم ، كما استدل بها صاحب الجواهر قدس‌سره ، فلا فرق في حصول الإباحة المالكية بين صدور إعطائين وإعطاء واحد ، وبين عدم صدور فعل منهما أصلا ، لكفاية مجرّد الإذن في التصرف سواء حصل بقول ، أم فعل ، أم إشارة ، أم غيرها.

وأمّا الصورة الثالثة ـ وهي عدم حصول إعطاء لا من كليهما ولا من أحدهما بل مجرّد إيصال ووصول ـ فملخص الكلام فيها : أنّ المحقق الإيرواني قدس‌سره منع عن كون الأمثلة المزبورة من المعاطاة المجردة عن الفعل ، بل جعلها من المعاطاة المتحققة بالتعاطي من الجانبين ، حيث قال ما لفظه : «التعاطي من الجانبين في الأمثلة التي ذكرها موجود ، فوضع الماء في موضع معدّ لأن يؤخذ إعطاء من السّقاء للماء ، وهكذا فتح باب الحمام للداخلين ، ووضع الفلس من شارب الماء والداخل في الحمّام في موضع أعدّ لذلك أخذ منه للفلس ، فكلّ منهما قد أعطى ، وكلّ قد أخذ ما أعطاه الآخر. وإنما تتحقق المعاملة بلا عطاء من شي‌ء من الجانبين فيما إذا كان المالان عند كل منهما بسبق أمانة


.................................................................................................

__________________

أو غصب أو إطارة ريح ، فقصد المعاوضة بلا فعل من كلّ منهما» (١).

وأنت خبير بما فيه ، لأنّ المراد بالعطاء هو ما يتحقق به البيع ويكون سببا لإنشائه ، ومن المعلوم أنّ وضع الماء في مكان معدّ للاستسقاء منه ، وفتح باب الحمّام ليسا كذلك ، إذ لو كانا سببين للإنشاء لزم منه إشكالان :

أحدهما : الفصل بين الإيجاب والقبول غالبا.

ثانيهما : الجهل بالمبيع ، لتفاوت الشاربين وداخلي الحمام في مقدار الماء الذي يستعملونه للارتواء والتنظيف أو الغسل ، إلّا إذا عيّن مالك الماء والحمام كيلا معيّنا للماء الذي يشربه الشارب ، كما يضع السّقاء أحيانا بدل القربة أواني مملوءة من الماء في محلّ لشرب الشاربين منها ، أو يستعمله من يدخل الحمام.

ولكنه خلاف المتعارف ظاهرا ، فإنّ بناءهم على ارتواء الظامي بمبلغ معيّن ، ومن المعلوم اختلاف المقدار الذي يروي الظامي باختلاف مراتب عطشه ، فدعوى كون الأمثلة المتقدمة من المعاطاة المتحققة بالتعاطي من الطرفين غير ثابتة.

والحق أن يقال : إنّ مثالي الشارب والوارد في الحمّام خارجان عن البيع المعاطاتي رأسا ، وداخلان في الإباحة بالعوض ، والدليل على ذلك السيرة القطعية الجارية على ذلك في الأشياء الحقيرة.

أو داخلان في معاوضة خاصة تمليكية. ودليلها قوله تعالى (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)

أو «كونها من قبيل : أعتق عبدك عني ، فيكون الشارب والوارد في الحمّام وكيلين عن السقّاء ومالك الحمام في إنشاء الإيجاب» كما احتمله سيّدنا الأستاذ قدس‌سره (٢).

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٣

(٢) نهج الفقاهة ، ص ٦٠ و٦١


.................................................................................................

__________________

لكنه لا يخلو من غموض ، لعدم خطور ذلك في ذهن الحمّامي غالبا حتى يمكن أن يقال بتحقق التوكيل ، والمفروض أنّ الوكالة من العقود المتقومة بالقصد. وليس هنا كلام يتوقّف صحته على التقدير حتى يقال : إنّ دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا ليصح الكلام معه ، ويكون ذلك كاشفا عن الثبوت وهو قصد التوكيل ، إذ لم يصدر هنا إلّا فعل كفتح باب الحمام ، وصحّته لا تتوقّف على فرض قصد التوكيل حتى يكون من قبيل «أعتق عبدك عنّي» وذلك لما عرفت من إمكان كونهما من الإباحة بالعوض.

كما أنّ توهّم «كون مثال الحمام من قبيل الإجارة المعاطاتية ، بدعوى : كون العين المستأجرة نفس الحمام كلّا أو بعضا ، وعدّ المياه المستعملة فيه منفعة له حتى لا يرد عليه : أنّ المياه عين ، وهي تتلف بالانتفاع بها ، وهذا خلاف مقتضى الإجارة من اعتبار بقاء العين المستأجرة لينتفع بها» مندفع بجهالة المدة ، مع أنّ تعيينها من أركان الإجارة.

كما أنّ احتمال كونها مصالحة معاطاتية أو هبة كذلك بشرط العوض ممّا لا مثبت له بعد كون كل منهما عنوانا قصديّا يحتاج ترتيب أحكام كل منهما إلى إحراز عنوانهما.

فالأولى أن يقال : إنّ الأمثلة المذكورة كلّها من قبيل الإباحة بالعوض ، فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الأعيان المزبورة من الماء والخضروات على ملك مالكيها. وفتح باب الحمام أو دكّان بائع الخضروات ، وكذا وضع السّقّاء قربة الماء أو أوانيه مملوءة من الماء في مكان معدّ لشرب الناس منها إذن وإباحة في التصرف في الماء والخضروات ، فبقاؤهما على ملك مالكيهما محرز تعبّدا ، والإذن محرز وجدانا. وليس هذا إلّا إباحة التصرف الثابتة بقاعدة سلطنة الناس على أموالهم.

ومع هذا الاحتمال الذي يساعده الصناعة لا موجب لجعل الأمثلة المذكورة من قبيل قوله : «أعتق عبدك عنّي» إذ لا دليل على كونها من قبيل ذلك ، فإنّ الالتزام بالوكالة


.................................................................................................

__________________

هناك إنّما هو لتوقف صحة الكلام على ذلك ، فهذه قرينة على كون مراد المتكلم توكيل المخاطب في شراء العبد عن نفسه ، ثم إعتاقه عنه. وهذا بخلاف الأمثلة المتقدمة ، فإنّه لا موجب للالتزام المزبور أصلا ، بل قضية الاستصحاب كما عرفت هو بقاء الماء والخضروات على ملك مالكيهما ، وفتح باب الحمام ونحوه مصداق فعلي للإباحة ، فتأمّل في أطراف ما ذكرناه جيّدا ، والله تعالى هو العالم بالصواب.

وأمّا الصورة الرابعة ـ وهي مجرّد الكلام الدال على المقاولة ـ فحاصل البحث فيها : أنّ مراد المصنف قدس‌سره إن كان إنشاء المعاملة بالألفاظ غير الجامعة للشرائط بأن يكون مقصوده قدس‌سره بالمقاولة القول غير الجامع للشروط ـ بقرينة قوله : «ثم إنّه لو قلنا بأنّ اللفظ غير المعتبر في العقد .. إلخ» إذ مقصوده إنشاء البيع باللفظ الفاقد للشرائط ، فالمراد بالمقاولة الإنشاء بالألفاظ التي يتكلّمان بها مع فقدها للشرائط ـ فلا يرد عليه ما في جملة من الحواشي من مغايرة المقاولة مفهوما للبيع ، فلاحظ.

وبالجملة : فوقوع البيع حينئذ مبني على عدم اعتبار سبب خاص في إنشائه ، هذا.

وإن كان مجرّد المقاولة والمساومة فلا ينبغي الارتياب في عدم وقوع البيع بها ، لأنّ المقاولة بهذا المعنى مباينة للبيع.

والظاهر أنّ مراده هو الأوّل ، إذ لا يتوهم أحد أن تكون المقاولة بيعا ، هذا.

ثم إنّه بناء على وقوع البيع بهذه المقاولة لا تندرج في المعاطاة المصطلحة ، لعدم إنشائه بفعل حتى يندرج فيها ، بل هو بيع عرفي أنشئ بألفاظ غير جامعة للشرائط ، فيشمله ما دلّ على صحة البيع إن لم يثبت اعتبار لفظ خاص فيه ، وإلّا فهو بيع باطل ، ولا يفيد الإباحة أيضا ، لخروجه عن مورد السيرة والإجماع ، حيث إنّ موردهما وقوع فعل أو فعلين من المتعاملين. كما لا يشمله قاعدة السلطنة الموجبة للإباحة المالكية ، وذلك لعدم قصدهما للإباحة.


الثالث (١) : تمييز البائع من المشتري في المعاطاة

______________________________________________________

التنبيه الثالث : تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه هو تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة الفعلية ، ومحصل ما أفاده هو : أنّه تارة يكون أحد العوضين من النقدين كالدنانير والدراهم ، وأخرى يكون العوضان من غير الأثمان بأن كانا من العروض كالحنطة والسّكّر مثلا.

ففي الصورة الأولى يكون المشتري باذل النقدين ، إلّا مع التصريح بكونه البائع كأن يقول : «بعتك هذه الليرة مثلا بوزنة من الحنطة» فحينئذ يكون باذل الليرة بائعا.

وفي الصورة الثانية يتصور وجوه :

أحدها : أن يقوّم أحد المالين بنقد دون الآخر ، فالمشتري دافع المقوّم.

ثانيها : أن يقوّم كلاهما ، كأن يقوّم الحنطة بدرهم ، والسّكّر أيضا بدرهم.

ثالثها : أن لا يقوّم شي‌ء منهما بالنقدين ، بأن يقع التبادل بين العروضين أصالة كالحنطة واللحم من دون تقدير شي‌ء منهما بالدرهم والدينار ، بل يقع المبادلة بين وقيّة من الحنطة وبين ربع وقيّة من اللحم مثلا.

وفي هذين الوجهين احتمالات أربعة :

الأوّل : كونه بيعا وشراء بالنسبة إلى كلّ منهما ، فكلّ من المتعاملين بائع ، لأنّه بدّل ماله بمال ، وهو تعريف البيع ـ كما تقدّم في محلّه ـ ومشتر ، لأنّه ترك شيئا وأخذ بغيره.

الثاني : كونه بيعا بالنسبة إلى من يعطي أوّلا ، لصدق الموجب عليه ، وشراء بالنسبة إلى الآخذ ، لكونه قابلا عرفا.


الفعلية (١) مع كون أحد العوضين ممّا تعارف جعله ثمنا كالدراهم والدنانير والفلوس المسكوكة واضح ، فإنّ صاحب الثمن هو المشتري ما لم يصرّح بالخلاف (٢).

وأمّا مع كون العوضين من غيرها (٣) فالثمن ما قصدا قيامه مقام المثمن في العوضية ، فإذا أعطى (٤) الحنطة في مقابل اللحم قاصدا أنّ هذا المقدار من الحنطة يسوى درهما هو ثمن اللّحم ، فيصدق (٥) عرفا أنّه اشترى اللّحم بالحنطة. وإذا انعكس انعكس الصدق (٦) ، فيكون المدفوع بنيّة البدليّة عن الدرهم والدينار هو

______________________________________________________

الثالث : كونه مصالحة معاطاتية ، لصدق المصالحة التي هي التسالم عليه.

الرابع : كونه معاملة مستقلة يجب الوفاء به بمقتضى الأمر بالوفاء بكلّ عقد عرفي.

(١) لعلّ التقييد بالفعلية لإخراج الصورة الرابعة مما تقدّم في التنبيه الثاني ، فإنّ المقاولة والإنشاء باللفظ الفاقد لبعض شرائط الصيغة يميّزان البائع عن المشتري ، بخلاف المعاطاة الفعلية ، فإنّه لا بدّ من تمييز أحدهما عن الآخر بالصور المذكورة في المتن.

وبعبارة أخرى : محط البحث في هذا التنبيه هو المعاملة الفعلية الفاقدة للإنشاء اللفظي ، فلو أنشئت باللفظ الملحون كان البادي هو البائع ، والآخر هو المشتري.

(٢) كأن يقول : «بعتك هذا الدينار ـ مثلا ـ بحقّة من اللّحم» فإنّ البائع حينئذ هو صاحب الدينار.

(٣) أي : من غير الدراهم والدنانير والفلوس المسكوكة ، أو كونهما منها كالمعاطاة في بيع الصرف.

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل من الصورة الثانية التي يكون كلا العوضين فيها عروضا ، كمبادلة اللحم بالحنطة ، فيتميّز البائع عن المشتري بأنّ دافع اللحم هو البائع ، وباذل الحنطة هو المشتري ، لكونهما قاصدين إعطاء درهم ـ أو ما يساويه في المالية ـ بعنوان ثمن اللحم ، وعليه يترتب أحكام البائع على باذل اللحم.

(٥) جواب قوله : «فإذا أعطى» وهذا بيان حكم هذه الصورة.

(٦) بأن كان مقصودهما بدليّة اللّحم عن الدّرهم ، فالمعوّض هو الحنطة ، وباذلها


الثمن ، وصاحبه (١) هو المشتري.

ولو لم يلاحظ (٢) إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر من دون نيّة قيام أحدهما مقام الثمن في العوضية ، أو لوحظت (٣) القيمة في كليهما بأن لوحظ كون المقدار من اللّحم بدرهم ، وذلك المقدار من الحنطة بدرهم ، فتعاطيا من غير سبق (٤) مقاولة تدلّ على كون أحدهما بالخصوص بائعا ، ففي كونه (٥) بيعا وشراء بالنسبة إلى كلّ منهما بناء (٦) على أنّ البيع لغة

______________________________________________________

هو البائع ، والثمن هو اللحم ، وصاحبه هو المشتري.

(١) أي : صاحب المدفوع ـ بنيّة البدلية عن الدرهم ـ هو المشتري.

(٢) معطوف على قوله : «فالثمن ما قصدا قيامه» وهذا يتضمن الوجه الثاني والثالث من الصورة الثانية ، لأنّ قصد بدليّة أحدهما عن الآخر يكون تارة مع عدم النظر إلى كون الثمن الواقعي درهما حتى يقوّم السّكّر بالدرهم الذي هو الثمن حقيقة. وأخرى مع تقدير كلا العروضين بالأثمان والدراهم ، فالعوضان وإن كانا من العروض ، إلّا أنّ حيثية التقويم بالدرهم ملحوظة فيهما. وقد عرفت تطرّق احتمالات ثلاثة في تمييز البائع عن المشتري فيهما.

(٣) معطوف على «من دون نية» فكأنّه قيل : «ولو لم يلاحظ إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر ولوحظت القيمة في كليهما ..» وهذا بيان الوجه الثالث مما تقدم في الصورة الثانية.

(٤) التقييد بعدم سبق مقاولة واضح ، إذ مع سبق المقاولة على التعاطي يكون سبقها قرينة على أنّ أحدهما بالخصوص بائع ، والآخر مشتر ، فلا يبقى شك حتى تتطرّق فيه الاحتمالات الآتية.

(٥) جزاء لقوله : «ولو لم يلاحظ» وهو خبر مقدّم لقوله : «وجوه» أي : ففي كون التعاطي بيعا وشراء .. إلخ ، وهذا شروع في بيان محتملات المسألة ، والاحتمال الأوّل هو صدق «البائع والمشتري» على كلّ من المتعاطيين.

(٦) حاصله : أنّ هذا الاحتمال الأوّل مبني على أمرين :

أحدهما : كون البيع مبادلة مال بمال ، كما تقدم في تعريف المصباح.


كما عرفت (١) «مبادلة مال بمال» (*) ، والاشتراء (٢) «ترك شي‌ء والأخذ بغيره»

______________________________________________________

ثانيهما : كون الشراء بمعنى ترك شي‌ء وأخذ غيره كما في القاموس (١).

وعلى هذا يصدق تعريف البيع والشراء على كليهما ، أمّا صدق البيع فلأنّ كلّا من باذل الحنطة واللّحم بادل ماله بمال آخر.

وأمّا صدق الشراء فلأنّ كلّا منهما ترك شيئا وأخذ غيره.

وما أفاده المصنف قدس‌سره موافق لكلام الراغب ، حيث قال : «إذا كانت المبايعة بين سلعة بسلعة صحّ أن يتصور كل واحد منهما مشتريا وبائعا» (٢).

هذا بناء على تسليم ما ذكر في معنى البيع والشراء ، فلو كان المفهوم منهما أو من أحدهما أمرا آخر لم يصدق «البائع والمشتري» على كل واحد من المتعاطيين ، كما إذا عرّف البيع «بإعطاء المثمن وأخذ الثمن» (٣) ، أو اعتبر في الشراء المطاوعة وقبول إنشاء البائع كما هو كذلك في الجملة بنظر المصنف ، وأنّ التمليك فيه ضمني لا أصلي. وعليه فمجرّد المبادلة بين المالين وأخذ شي‌ء وترك آخر غير كاف في صدق عنوان البائع والمشتري على كل منهما.

(١) يعني : في أوّل كتاب البيع ، حيث قال : «وهو في الأصل ـ كما عن المصباح ـ مبادلة مال بمال».

(٢) بالنصب معطوف على «البيع» يعني : وبناء على أنّ الاشتراء هو مطلق «ترك شي‌ء وأخذ غيره» من دون اعتبار المطاوعة فيه ، ولا اعتبار كون تملّكه أصليا

__________________

(*) لكن مع هذا البناء يصدق البائع والمشتري على كلّ واحد من الطرفين في جميع المقامات ، ولا يختص بهذه الصورة.

__________________

(١) : القاموس المحيط ، ج ٤ ، ص ٣٤٨

(٢) مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، ص ٢٦٠

(٣) المصدر ، ص ٦٧


كما عن بعض (١) أهل اللغة ، فيصدق (٢) على صاحب اللحم : أنّه باعه بحنطة ، وأنّه اشترى الحنطة ، فحنث (٣) لو حلف على عدم بيع اللّحم وعدم شراء الحنطة (*).

نعم (٤) لا يترتب عليهما أحكام البائع ولا المشتري ،

______________________________________________________

وتمليكه تبعيّا.

(١) كالفيروزآبادي ، حيث قال : «وكلّ من ترك شيئا وتمسّك بغيره فقد اشتراه. ومنه : اشتروا الضلالة بالهدي» (١).

(٢) هذه نتيجة صدق «البائع والمشتري» على كلّ واحد من المتعاطيين.

(٣) غرضه بيان ثمرة مترتبة على الاحتمال الأوّل وهو صدق البائع والمشتري على الطرفين ، وبيانها : أنّه إذا حلف المكلّف على ترك بيع اللّحم وترك شراء الحنطة ، فباعه بها ، فقد خالف الحلف وحصل الحنث ، ووجبت عليه كفارتان ، إحداهما لبيع اللّحم ، والأخرى لشراء الحنطة. وهذا شاهد على إمكان صدق عنوانين متقابلين ـ وهما البائع والمشتري ـ على كلّ منهما ، إذ لو امتنع الانطباق لم يكن وجه لإيجاب كفارتين عليه.

(٤) هذا استدراك على قوله : «فيصدق ..» يعني : أنّه بناء على هذا الاحتمال الأوّل وإن صدق البائع والمشتري على كلّ منهما ، لكنّ الأحكام المختصة بالبائع والمشتري لا تثبت في هذين المتعاطيين. والوجه في عدم ثبوتها أنّ الأدلة المتكفلة

__________________

(*) حنث الحلف تابع لكيفية يمينه ، فلو كان متعلّقا بترك بيع اللحم وشراء الحنطة مطلقا ولو في معاملة واحدة اتّجه ما في المتن من حصول الحنث ببيع اللحم بشراء الحنطة. ولو كان حلفه منزّلا على الغالب ومنصرفا عن هذه الصورة كما ادّعاه في أدلة الأحكام لم تبعد دعوى عدم حصول الحنث فيمن صدق عليه العنوانان في معاملة واحدة.

__________________

(١) : القاموس المحيط ، ج ٤ ، ص ٣٤٨


لانصرافهما (١) في أدلة تلك الأحكام إلى من اختصّ بصفة البيع (٢) أو الشراء (٣) ، فلا تعمّ (٤) من كان في معاملة واحدة مصداقا لهما (*) باعتبارين.

أو (٥) كونه بيعا بالنسبة إلى من يعطي أوّلا ،

______________________________________________________

لتلك الأحكام ناظرة إلى ترتب أحكام البائع على من يكون بائعا في معاملة ولا يكون مشتريا فيها ، وكذا ترتّب أحكام المشتري على من يكون مشتريا في معاملة ولا يكون بائعا فيها ، فهذه الأدلة منصرفة عمّن صدق عليه «البائع والمشتري» في معاملة واحدة.

(١) أي : لانصراف البائع والمشتري في أدلة تلك الأحكام إلى خصوص من اختصّ بكونه بائعا ، وإلى خصوص من اختص بكونه مشتريا.

(٢) كقولهم : «تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع» (١).

(٣) كقوله عليه‌السلام : «صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيام ..» (٢).

(٤) يعني : فلا تعمّ ولا تشمل أدلّة تلك الأحكام من صدق عليه البائع والمشتري في معاملة واحدة.

(٥) معطوف على قوله : «كونه بيعا وشراء» وهذا إشارة إلى الاحتمال الثاني الجاري في الصورتين الأخيرتين ، ومحصّله : تمييز البائع عن المشتري بالتقدّم والتأخر ،

__________________

(*) بناء على عدم مغايرة مفهومي البيع والشراء على نحو التباين ، بأن يكون لكل منهما معنى عام يصدق على كل من البائع والمشتري. لكنه غير ثابت ، فإنّ معنى البيع مباين لمعنى الشراء ، فلا يصدق أحدهما على الآخر في المقام وإن كانا من الأضداد ، إذ المقصود مقابلة العنوانين ، لاختصاص كل منهما بحكم ، هذا.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٥٨ ، الباب ١٠ من أبواب الخيار ، وهو مضمون غير واحد من النصوص.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٤٩ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث : ٢


لصدق الموجب عليه (١) ، وشراء (٢) بالنسبة إلى الآخذ ، لكونه قابلا عرفا.

أو كونها (٣) معاطاة مصالحة (*) ، لأنّها بمعنى التسالم على شي‌ء (٤) (**)

______________________________________________________

فالبائع هو من سبق الآخر بإعطاء سلعته كاللحم في المثال» والمشتري هو الآخذ للّحم والدّافع للحنطة.

(١) أي : على من يعطي أوّلا. وجه صدقه عليه هو : كون الإنشاء الأوّل إيجابا للمعاملة ، والإنشاء الثاني قبولا لها عرفا ، فالمدار في تشخيص الموجب على البادي بالإنشاء.

(٢) معطوف على «بيعا» وضمير «لكونه» راجع الى الآخذ.

(٣) معطوف على «كونه بيعا وشراء» وتأنيث الضمير لرعاية الخبر.

وهذا إشارة إلى الاحتمال الثالث ، وهو عدم كون هذا التعاطي بيعا أصلا ، وإنما هو صلح معاطاتي. لأنّهما تسالما على مبادلة سلعة بسلعة أخرى ، كمبادلة اللحم بالحنطة.

(٤) يعني : والمفروض أنّهما تسالما على المبادلة المزبورة ، فتكون هذه المعاطاة مصالحة معاطاتية.

__________________

(*) لا يناسب ذكر هذا الاحتمال ، لأنه في مقام تمييز البائع عن المشتري ، ويكون ذلك أجنبيا عن كون المعاملة مصالحة. وكذا الحال في احتمال كونها معاوضة مستقلّة.

(**) بحيث يكون نفس التسالم منشأ. وأمّا إذا كان الإنشاء متعلقا بموضوع التسالم كالتبادل بين المالين ، أو تمليك أحدهما مجانا فلا مجال لكونه صلحا ، وإلّا كان جميع العقود صلحا.

فالفارق بين الصلح وغيره من العقود هو : أنّ الإنشاء إن تعلق بالتسالم على أمر كان صلحا ، وإن تعلق بموضوع التسالم كالمبادلة بين المالين أو تمليك أحدهما مجّانا ، أو رهن مال ، أو تمليك منفعة بمال لم يكن صلحا. فاحتمال كون المعاملة في المقام


ولذا (١) حملوا الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه : «لك ما عندك ولي ما عندي» على الصلح (٢) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : ولأجل كون التسالم على تبديل ماله بمال صاحبه صلحا حملوا الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه : «لك ما عندك ولي ما عندي» على الصلح ، وهي معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّه قال : في رجلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي. فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما» (١).

وتقريب الدلالة : أنّ كل واحد من الشريكين جاهل بقدر الطعام الموجود عند الآخر ، فأرادا فسخ الشركة ـ في هذه الحال ـ بالصلح ، بأن يكون لكل منهما ما عنده من الطعام بلا مطالبة الآخر أصلا ، فأجاب عليه‌السلام بأنّ قول أحدهما للآخر «لك ما عندك ولي ما عندي» إن كان مع رضاهما صحّ ذلك ، وإلّا فلا.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ مالك اللّحم يقول لصاحب الحنطة : «أعطيك اللحم وآخذ الحنطة» فيقبل ، فهذا إنشاء التسالم على مبادلة إحدى السلعتين بالأخرى.

(٢) متعلق ب «حملوا».

__________________

صلحا معاطاتيا ضعيف غايته ، ضرورة أنّه لم ينشأ فيه إلّا نفس المبادلة ، دون التسالم عليها كما لا يخفى.

(*) لكنه حمل بلا شاهد ، بل لعلّ حملها على الهبة المعوّضة أولى. وبعد التسليم نقول : بمغايرة مورد الرواية لما نحن فيه ، إذ فيها قرينة على إرادة الصلح ، لكون كل واحد من المالين مجهول المقدار ، لقول السائل : «ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه» فإنّ الجهل بالمقدار ربما يكون قرينة على إرادة الصلح. بخلاف المقام ، فلا قرينة فيه على إرادة الصلح منه.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٦٥ ، الباب ٥ من أبواب أحكام الصلح ، الحديث : ١


أو (١) كونها معاوضة مستقلة لا تدخل تحت العناوين المتعارفة؟ وجوه (٢) ، لا يخلو ثانيها عن قوّة ، لصدق (٣) تعريف «البائع» لغة وعرفا على الدافع أوّلا دون الآخر ، وصدق (٤) المشتري على الآخذ أوّلا دون الآخر ، فتدبّر (٥) (*).

______________________________________________________

(١) معطوف على «كونه بيعا وشراء» وتأنيث الضمير باعتبار الخبر. وهذا هو الاحتمال الرابع في الصورتين الأخيرتين ، ومحصّله : كون هذا التعاطي معاملة مستقلة غير مندرجة في العقود المتعارفة المعهودة ، لعدم انطباق مفهوم البيع والشراء والصلح عليها ، فلا مناص من كونه عقدا مستقلّا يجب الوفاء به بمقتضى الآية الكريمة.

هذه محتملات هذا التعاطي في مقام الثبوت ، وسيأتي استظهار الاحتمال الثاني.

(٢) مبتدأ مؤخر ، وخبره قوله : «ففي كونه».

(٣) هذا وجه ترجيح الاحتمال الثاني واستظهاره في مقام الإثبات ، ومحصّله : أنّ تعريف البائع ب «من يعطي المثمن ويأخذ الثمن» صادق على البادي بدفع سلعته إلى الآخر ، وتعريف المشتري ب «من يأخذ الشي‌ء أوّلا ويترك الآخر» صادق على المشتري ، لأنّه يتسلّم السلعة ثم يدفع بدلها.

(٤) بالجر معطوف على «صدق» في قوله : «لصدق البائع».

(٥) لعلّه إشارة إلى : أنّه مبني على تسليم منع تقديم القبول على الإيجاب ، وأنّ المتقدم هو الإيجاب لا محالة ، لكنّه أخصّ من المدّعى ، لاختصاصه بما إذا تقدّم أحد الإعطائين على الآخر. وأمّا إذا تقارنا فلا يتميّز البائع فيه عن المشتري بذلك ، لفرض الاقتران.

أو إشارة إلى : عدم صحته في نفسه ، وعدم كون مجرّد التقدم موجبا لصيرورة المتقدم موجبا والمتأخر قابلا ، لعدم ندرة تقدم إعطاء الثمن على إعطاء المثمن.

__________________

(*) اعلم أنّ عبارات المصنف قدس‌سره في هذا التنبيه مضطربة ، لظهور بعضها في كون الاختلاف والشبهة في الموضوع والإثبات ، لا المفهوم والثبوت ، كقوله في أوّل التنبيه : «مما تعارف جعله ثمنا كالدراهم والدنانير .. إلخ» فإنّ التعارف يلائم كون الشبهة في


.................................................................................................

__________________

المصداق ، وأنّه المرجع في مقام الإثبات وهو المناسب لمقام المرافعة.

وظهور بعضها الآخر في كون الشبهة مفهومية ، وأنّ الاختلاف في مقام الثبوت ، كقوله : «فالثمن ما قصدا قيامه مقام المثمن» وكقوله : «فيكون المدفوع بنية البدلية عن الدرهم والدينار هو الثمن .. إلخ» وكقوله : «ولو لم يلاحظ إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر .. إلخ» لأنّه تعريف لمفهوم الشراء ، من دون نصب طريق لمعرفته في مقام الإثبات الذي هو مقصود المصنف قدس‌سره من عقد هذا التنبيه ، حيث قال : «الثالث تمييز البائع من المشتري .. إلخ».

كما أنّ الاحتمالات التي ذكرها بعد ذلك كلّها راجعة إلى الشبهة المفهومية لا المصداقية التي هي محلّ الكلام.

إلّا أن يقال : إنّ غرض المصنف قدس‌سره في هذا التنبيه ليس مجرّد بيان الشبهة المصداقية التي يكون الاشتباه فيها من جهة الأمور الخارجية ، لأنّ ذلك راجع إلى باب المرافعات ، ولا ربط لها بالمقام الذي يكون الغرض منه معرفة البائع والمشتري لترتيب أحكامهما عليهما. بل غرضه بيان مقدار المفهوم سعة وضيقا ، وهذا هو الذي سمّاه المصنف في طهارته بالشك في الصدق. وهذا أيضا من الشبهة المفهومية ، والاحتمالات التي ذكرها كلّها راجعة إلى الشبهة المفهومية.

فالإنصاف أنّ عبارة المصنف قدس‌سره في بيان كون الشبهة مفهومية أو مصداقية مضطربة.

وما ذكرناه من أنّ غرضه رحمه‌الله بيان كون الشبهة مفهومية غير ظاهر أيضا بعد الإحالة إلى التعارف الذي هو طريق إلى معرفة المصداق.

وكيف كان فالحقّ أن يقال : إنّ البيع المسبّبي ـ الذي هو مقابل غيره من العقود كالصلح والإجارة ونحوهما ـ عبارة عن المبادلة بين المالين من غير تقوّمها بالإيجاب والقبول ، لعدم تعقل تقوم المسبّب بسببه ، أو الأمر الاعتباري بموضوع اعتباره ،


.................................................................................................

__________________

لاستلزامه تقدم الشي‌ء على نفسه ، فحقيقة البيع المسبّبي ليست إلّا مبادلة مال بمال ، ولا يعقل تقييدها بسبب خاص.

وعلى هذا فالمبادلة لا تتوقف على سبب خاص من إيجاب وقبول ، بل كما تحصل بهما كذلك تتحقق بقول أحدهما : «ملّكتك هذا الكتاب بدرهم» والآخر : «ملّكتك درهما بكتابك هذا». بل تتحقّق بإيجاب بدون قبول ، كقول وكيل المتبايعين : «بادلت بين المالين» وقول سيّد العبد والأمة : «زوّجت عبدي فلانا أمتي فلانة» من دون حاجة إلى القبول.

فتوهّم اعتبار القبول والمطاوعة في البيع لا منشأ له إلّا شيوع إيقاع المعاملات بالإيجاب والقبول ، أو الخلط بين البيع السببي والمسبّبي ، ومن المعلوم عدم صلاحية شي‌ء منهما للاعتبار.

فالمتحصل : أنّ حقيقة البيع ـ وهي المبادلة بين المالين ـ تحصل بالإيجاب والقبول تارة ، وبالإيجاب المجرّد اخرى كالوكيل من الطرفين أو الوليّ عليهما ، وثالثة بالإيجابين كتمليك عين بمال صاحبه ، وبالعكس ، فلا تتقوم ماهية البيع بخصوص الإيجاب والقبول حتى يكون منشئ الأوّل موجبا ومنشئ الثاني قابلا.

وعلى هذا فإذا تبادلا عروضين أو نقدين كان ذلك بيعا عرفيا أي «مبادلة بين مالين» من دون حاجة إلى صدق البائع على أحدهما والمشتري على الآخر.

وإن أبيت عن ذلك ، فلا مانع من صدق البائع والمشتري على كل منهما ، لأنّ كل واحد منهما باعتبار إعطاء سلعته بعوض موجب ، وباعتبار أخذه سلعة الغير قابل. وعليه فلا حاجة في إطلاق البائع عليهما في قوله : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» إلى إعمال عناية التغليب.

نعم في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على البائع والمشتري بعنوانهما يراعى العلم الإجمالي ، فتجري فيها الأصول العملية ، إذ لا تميّز لهما في مقام الإثبات ، إلّا


.................................................................................................

__________________

إذا كان إعطاء أحدهما مقدّما على الآخر ، فالمقدّم هو الإيجاب بناء على عدم جواز تقديم القبول عليه.

وبالجملة : فصدق البيع على تبديل العروضين أو النقدين مع تقارن الإعطائين غير خفي بعد صدق التبديل عليهما وإن لم يصدق على المتعاطيين عنوان البائع والمشتري ، لما عرفت من عدم تقوّم البيع المسببي بالإيجاب والقبول حتى يكون أحدهما بائعا والآخر مشتريا.

وإن أبيت عن ذلك بدعوى : عدم إمكان خلوّ البيع عن البائع والمشتري ، فنقول : إنّه معاملة مستقلة تشملها آية التجارة.

ومنع كونه معاملة مستقلة كما في تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره بما لفظه : «لأنّ مع قصدهما التبديل لا يكون إلّا بيعا ، فالحق كون أحدهما لا على التعيين بائعا والآخر مشتريا من دون امتياز بينهما واقعا ، فلا يترتّب على كل منهما الآثار الخاصة الثابتة للمشتري والبائع» (١).

لا يخلوا من غموض ، لأنّ المفروض عدم كون مطلق التبديل عنده قدس‌سره بيعا ، بل التبديل المتعقب بالقبول ، دون ما إذا كان الصادر من كلّ من المتعاطيين تبديلا ، فإنّ التبديل حينئذ ليس متعقبا بالقبول ، فلا يكون بيعا ، هذا.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من كون أحدهما لا على التعيين ـ حتى واقعا ـ بائعا والآخر مشتريا ، فيتوجّه عليه ، أنّ الاتصاف بكون المعطي بائعا أو مشتريا منوط بتحقق منشأه ، فإن أنشأ بإعطائه مبدليّة ماله فهو بائع ، وإن أنشأ بدليّته فهو مشتر ثبوتا وإن لم نحرزه إثباتا ، فكون أحدهما لا على التعيين حتى واقعا بائعا والآخر مشتريا ممّا لم يظهر له وجه.

مضافا إلى لغويته ، لعدم كونه موضوعا لأثر شرعي كما اعترف قدس‌سره بذلك ، حيث قال : فلا يترتب على كل منهما الآثار .. إلخ».

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٧٠


الرابع (١) : أنّ أصل المعاطاة ـ وهي إعطاء كلّ منهما الآخر ماله ـ يتصور بحسب قصد المتعاطيين على وجوه :

______________________________________________________

التنبيه الرابع : أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين

القسم الأوّل : المقابلة بين المالين في الملكية

(١) الغرض من عقد هذا الأمر بيان أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين ومقام الثبوت. كما كان التنبيه الثاني متكفلا لمقام الإثبات على ما سبق توضيحه هناك.

ثم إنّ أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين وإن كانت كثيرة (*) ، إلّا أنّ المصنف قدس‌سره ذكر منها وجوها أربعة ، لاتّضاح أحكام غيرها منها.

الأوّل : أن يكون كل منهما قاصدا لتمليك ماله بمال الآخر ، فالمقابلة تكون بين المالين لا بين التمليكين ـ كما هو مناط الوجه الآتي ـ فتكمل المعاملة بإعطاء البائع

__________________

(*) لأنّ المبادلة إمّا بين المالين وامّا بين الفعلين وإمّا بين مال وفعل. ثم ما يكون بين المالين إمّا ملكيّة وإمّا إباحة وإمّا مختلف. وما يكون بين الفعلين إمّا تمليك من الطرفين أو إباحة كذلك ، أو تمليك وإباحة. وما يكون بين مال وفعل فصوره أربع ، لأنّ الفعل إمّا تمليك وإمّا إباحة. والمال إمّا يجعل عوضا في كونه ملكا أو في كونه مباحا فإنّ الجميع مما يصدق عليه العقد ويشمله عموم وجوب الوفاء بالعقود ، فتأمّل جيّدا.


أحدها : أن يقصد كلّ منهما تمليك ماله بمال الآخر ، فيكون الآخر (١) في أخذه قابلا (٢) ومتملّكا بإزاء ما يدفعه ، فلا يكون في دفعه (٣) العوض إنشاء تمليك ، بل دفع لما التزمه (٤) على نفسه بإزاء ما تملّكه ، فيكون الإيجاب والقبول بدفع العين الاولى وقبضها (٥) ، فدفع العين الثانية خارج عن حقيقة المعاطاة (٦)

______________________________________________________

وأخذ المشتري ، لأنّ الأوّل تمليك والثاني تملّك ، فإعطاء المشتري خارج عن ركني المعاملة ، وإنما هو وفاء بالعقد ، لا إنشاء للقبول ، ولا إنشاء للتمليك ، بل تمت المعاملة بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، ولذا لو مات الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة ، فإطلاق المعاطاة عليه مع عدم حصول التعاطي من الطرفين ـ كما هو ظاهر باب المفاعلة ـ إنّما هو في قبال المعاملة القولية ، وليس إطلاقها عليه من حيث تقوّمها بالعطاء من الطرفين.

ومثل هذا الإطلاق شائع في العقود كالمصالحة ونحوها ، فإنّ إطلاقها ليس باعتبار اشتراك المبدأ بين الطرفين ، ضرورة أنّ المبدء ـ وهو الصلح ـ قائم بواحد منهما ، والقائم بالآخر هو قبول الصلح ، وكذا في المزارعة والمساقاة والإجارة والمضاربة وغيرها في كون المبدء فيها قائما بواحد لا باثنين.

(١) هذا الآخر هو المشتري ، بناء على ما تقدم في التنبيه الثالث من كون البادي في الإعطاء بائعا ، والمتأخر مشتريا.

(٢) يعني : أنّ الفعل الواحد ـ وهو الأخذ ـ قابل لإنشاء التملّك وإن كان متضمنا للتمليك أيضا.

(٣) يعني : فلا يكون إنشاء تمليك في دفع الآخر ـ وهو المشتري ـ العوض إلى الأوّل ، بل يكون دفعه وفاء بالعقد الذي تمّ بالإعطاء والأخذ ، فإعطاء الأوّل إيجاب ، وأخذ الثاني قبول.

(٤) الأولى أن يقال : «لما ألزمه على نفسه ، أو : لما التزم به» إلّا بإشراب معنى «ألزمه» في «التزمه» لوضوح أنّ باب الافتعال لازم غالب لا متعدّ.

(٥) يعني : أنّ الإيجاب يكون بدفع العين الأولى ، والقبول بقبضها.

(٦) بل هو وفاء بالعقد لا إنشاء القبول.


فلو مات (١) الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة.

وبهذا الوجه (٢) صحّحنا سابقا (٣) عدم توقف المعاطاة على قبض كلا العوضين ، فيكون إطلاق المعاطاة عليه (٤) من حيث حصول المعاملة فيه بالعطاء دون القبول ، لا من (٥) حيث كونها متقومة بالعطاء من الطرفين (*).

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على تمامية المعاطاة بدفع العين الأولى وأخذها ، وغرضه بيان ثمرة كفاية الإعطاء والأخذ في تحقق المعاطاة ، حيث يجب على ورثة الآخذ تسليم العوض إلى المعطي ، وفاء بالعقد الذي تمّ بأخذ المورّث.

(٢) أي : بحصول المعاطاة بالإعطاء والأخذ الواحد ـ أو كون الإعطاء الثاني وفاء ، لا جزءا للعقد ومتمّما له ـ صحّحنا .. إلخ.

(٣) يعني : في التنبيه الثاني ، حيث قال : «فيكون إقباض أحد العوضين من مالكه تمليكا له بعوض ..».

(٤) أي : على ما تقدم من حصول المعاطاة بإعطاء وأخذ ، وعدم اعتبار إعطائين في تحققها.

(٥) يعني : أنّ صدق المعاطاة ليس لأجل ظاهر هيئة «المفاعلة» من الاشتراك في المبدأ ، كالتعاطي من الجانبين ، بل لأجل مقابلة العقد الفعلي للقولي ، سواء تحقق بإعطاءين أم بإعطاء واحد.

__________________

(*) فجهة البحث في هذا التنبيه هي بيان أقسام المعاطاة المتصوّرة بحسب قصد المتعاطيين. وفي الأمر الثاني هي بيان المبرز الخارجي لما قصده المتعاطيان. فجهة البحث في الأمر الرابع ـ وهي أنحاء المبرز ـ مغايرة للجهة المبحوث عنها في الأمر الثاني وهي بيان المبرز ، لما عرفت. وللجهة المبحوث عنها في الأمر الأوّل التي هي تشخيص صغروية المعاطاة قبل اللزوم للبيع وعدمها ، وللجهة المبحوث عنها في الأمر الثالث التي هي تمييز البائع عن المشتري.


ومثله (١) في هذا الإطلاق لفظ المصالحة والمساقاة والمزارعة والمؤاجرة وغيرها (٢).

______________________________________________________

(١) أي : ومثل صدق المعاطاة بإعطاء واحد ـ خلافا لظاهر باب المفاعلة ـ صدق المصالحة والمزارعة والمؤاجرة. حيث إنّ المبدأ في هذه العناوين قائم بالموجب ، وشأن القابل مجرّد القبول. وقد تقدم توضيح قيام عناوين المعاملات بطرفين أو بأحدهما في إطلاقات البيع ، فراجع (١).

(٢) كالمضاربة.

__________________

ثم إنّ مقتضى الترتيب تقديم الأمر الثالث على الأمر الثاني ، لأنّه بعد تشخيص صغروية المعاطاة للبيع يقع الكلام في أنّ أيّ واحد من المتعاطيين بائع وأيّهما مشتر ، والأمر سهل.

وكيف كان فقد أورد على المصنف قدس‌سره بما في تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره «من المنافاة بين ما أفاده هنا من تقوم المعاطاة بالعطاء من واحد والأخذ من الآخر وكون دفع العين الثانية دائما خارجا عن حقيقة المعاطاة ووفاء بالعقد ، وبين ما أفاده في التنبيه الثاني من كون المتيقن من مورد المعاطاة هو العطاء من الطرفين.

وجه التنافي واضح ، وهو خروج العطاء الثاني عن حقيقة المعاطاة بناء على ما أفاده هنا ، ودخوله فيها بناء على ما تقدم عنه في التنبيه الثاني ، لكونه المتيقن من مورد المعاطاة» (٢) ، هذا.

وقد دفع هذا التنافي سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره على ما في تقرير بحثه من قول المقرّر : «فإنّ العقد وإن تمّ بالإقباض والقبض أوّلا ، إلّا أنّ المتيقن منه قبال العقد اللفظي هو ما تعقّبه الإعطاء من الطرف الثاني أيضا. وإذن فلا تنافي بين الأمرين» (٣).

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٢٦٩ ، ٢٧٠

(٢) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٧٠

(٣) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٧٦


وبهذا (١) الإطلاق يستعمل المعاطاة في الرهن والقرض والهبة.

______________________________________________________

(١) أي : بما ذكرناه ـ من أن إطلاق المعاطاة في البيع على الإعطاء الواحد يكون لأجل مقابلة البيع المعاطاتي للقولي ، لا للتقوّم بطرفين ـ ظهر وجه إطلاق المعاطاة في عقود أخرى ، وأنّه لا يتحقق من القابل إعطاء أصلا ، بل يكون إنشاؤها بإعطاء الموجب خاصة ، وذلك كالرّهن والقرض والهبة ، فالرّهن المعاطاتي إعطاء العين المرهونة إلى المرتهن وقبض المرتهن لها ، وهو لا يدفع شيئا الى الراهن.

وكذا القرض والهبة ، فإنّ الإقباض من طرف المقرض والواهب ، وليس من المقترض والمتهب إلّا القبول بالأخذ.

__________________

لكنه لا يخلو من غموض ، لأنّ الأخذ من المتعاطي الآخر فعل يصدر منه بعنوان القبول ، وهذا هو القائم مقام القبول اللفظي ، لأنّ الأخذ بقصد التملك قبول عرفي يصلح لأن يكون متمّما للعقد المؤلّف من الإيجاب والقبول. ومع تمامية العقد لا يعقل أن يتصف الإعطاء الثاني بالقبول والمطاوعة ، لكونه تحصيلا للحاصل ، بل لا يصلح إعطاء الثاني لأن يكون تملّكا لما أعطاه الأوّل ، لعدم مناسبة كون إعطائه تملكا لمال الغير ، بل لا بد أن يكون إعطاؤه تمليكا لماله كإعطاء الأوّل.

فلعلّ الأولى في دفع المنافاة أن يقال : إنّ مراد الشيخ قدس‌سره بتيقن التعاطي من الطرفين هو تيقنه من معنى المفاعلة ، لأنّ المتيقن من موارد استعمال هذا الباب هو اشتراك المبدء بين الطرفين ، فهذا الوزن ينادي باعتبار إنشاء المعاملة بالعطاء من الطرفين ، فكما ينشأ الإيجاب بالإعطاء ، فكذلك القبول ، وأخذ الثاني متمّم للإيجاب وليس إنشاء للقبول ، هذا.

لكن قد تقدّم سابقا أنّ المعاطاة لم ترد في دليل من آية أو غيرها حتى يؤخذ بالمتيقن من معناها ، بل المراد هو المعاملة المجرّدة عن الصيغة المتداولة بين الناس. فالمرجع في إنشائها هو العرف ، ومن المعلوم أنّ الأخذ عندهم قبول عرفي ، فيتم به العقد المركّب من الإيجاب والقبول من دون حاجة إلى إعطاء الطرف الآخر.


وربّما (١) يستعمل في المعاملة الحاصلة بالفعل ولو لم يكن عطاء ، وفي صحته تأمّل (٢)

ثانيها (٣) : أن يقصد كلّ منهما تمليك الآخر ماله بإزاء تمليك ماله إيّاه ،

______________________________________________________

(١) غرضه بيان صورة ثالثة لإنشاء المعاملة ، وهي ما ليس فيها إعطاء حتى من طرف واحد كما تقدم ذكره في التنبيه الثاني ، فالمعاملة الفعلية تتحقق بإيصال العوضين إلى الجانبين من دون إعطاء وأخذ أصلا ، ومثّل له هناك بأخذ البقل والماء من آنية السّقاء ، ووضع العوض في المكان المعدّ له.

(٢) أي : في صحّة التعامل بالإيصال ـ دون الإعطاء ـ تأمّل ، لأنّ المتيقن من الدليل اللبّي على صحّة المعاطاة في البيع هو إنشاء المعاملة بإعطاء الطرفين ، ولا أقلّ من كونه بإعطاء أحدهما ، وأمّا مجرّد الإيصال فلا. ويكفي الشك في قيام السيرة عليه في الحكم بصحته. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل أعني به قصدهما التمليك ، وهو يتحقق خارجا تارة بإعطاءين ، وأخرى بإعطاء واحد ، وثالثة بإيصال العوضين.

القسم الثاني : المقابلة بين التمليكين

(٣) محصل هذا القسم هو : أن يقصد كلّ من المتعاطيين تمليك ماله للآخر بإزاء تمليك الآخر ماله إيّاه ، بحيث تكون المعاطاة متقومة بالعطاء من الطرفين كما هو ظاهر باب المفاعلة من اشتراك المبدء بين الطرفين ، فالمقابلة على هذا تكون بين التمليكين ، ولازمه عدم تحقق المعاطاة إن مات الثاني قبل تمليك ماله للأوّل.

والفرق بين هذا القسم وسابقه واضح ، إذ المفروض في القسم الأوّل قصد أحدهما تمليك ماله بعوض ، وقبول الآخر له ، وهو البيع المعهود المتعارف. ولذا يقع البحث في كفاية إنشائه بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، أو اعتبار التعاطي فيه. بل احتمل إنشاؤه بإيصال العوضين. ولكن المفروض في هذا القسم الثاني قصد كلا المتعاطيين التمليك ، بأن يكون تمليك الأوّل مشروطا بتمليك الثاني ، بحيث لو لم يملّك


فيكون تمليك بإزاء تمليك (١) ، فالمقابلة بين التمليكين (٢) لا الملكين (٣) ، والمعاملة (٤) متقومة بالعطاء من الطرفين (*)

______________________________________________________

الثاني لانتفى تمليك الأوّل ، فكأنّ مقاولتهما هكذا : «ملّكتك هذا الكتاب على أن تملّكني الدينار» فوقوع هذه المعاملة منوط بصدور التمليك من كليهما ، فلا تنعقد المعاطاة بتمليك أحدهما. هذا بيان الموضوع ، وسيأتي حكم هذا القسم.

(١) لا تمليك مال بإزاء مال ، كما كان في الصورة الأولى.

(٢) وهما فعلان صادران من المتعاطيين.

(٣) كما هو حال البيوع المتعارفة ، للفرق بين «مبادلة مال بمال» و «تمليك مال بإزاء تمليك مال».

(٤) لكون المقابلة بين فعلين ، فلا معاملة بدونهما.

__________________

(*) أورد عليه بما حاصله : «أنّ المعاملة تتحقق بإعطاء أحدهما وقبول الآخر بأخذه من دون حاجة الى إعطاء الثاني ، حيث إنّ الأخذ يوجب صيرورة الأوّل مالكا للتمليك على عهدة الآخذ ، فيجب عليه الوفاء ، فإعطاؤه حينئذ يتصف بالوفاء الخارج عن إنشاء المعاملة المتحققة بالإعطاء والأخذ.

وبالجملة : فيكون القسم الثاني وهو التمليك بإزاء التمليك كالأوّل ـ وهو تمليك مال بمال ـ في تحققه بعطاء واحد ، وعدم الحاجة إلى العطاء الثاني ، فلو مات القابل المتحقق قبوله بالأخذ قبل إعطائه مات بعد تمامية المعاملة في كلتا الصورتين من دون تفاوت بينهما.

ولا يندفع هذا الإيراد بما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من : «أنّ التعاوض والتبادل بين شيئين لا بدّ من أن يكون بلحاظ أمر ، فإذا كان عين عوضا عن عين فلا بد من أن تكون في الملكية. وإذا كان عمل عوضا عن عمل فلا بد من أن يكون في الاستحقاق. وربما يكون التعاوض بين شيئين بلحاظ ذاتهما ، لقبولهما بذاتهما للإضافة كالملكية ،


ولو مات (١) الثاني قبل الدفع لم يتحقق المعاطاة.

وهذا (٢) بعيد (٣) عن معنى البيع وقريب (٤) إلى الهبة المعوّضة ، لكون كلّ من

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على تقوم المعاملة بالعطاء من الجانبين.

(٢) هذا شروع في بيان حكم القسم الثاني ـ أي التمليك بإزاء التمليك ـ وقد احتمل المصنف فيها وجوها ثلاثة بعد استبعاد كونه بيعا ، أوّلها : الهبة المعوّضة ، ثانيها :

المصالحة المعاطاتية ، ثالثتها : المعاوضة المستقلة.

(٣) وجه بعد كونه بيعا واضح ، لما تقدّم في أوّل الكتاب من أنه يعتبر في مفهومه أن يكون المبيع من الأعيان ، ومن المعلوم أنّ التمليك من الأفعال لا الأعيان ، فلا يقع مبيعا.

(٤) وجه قربه إلى الهبة المعوّضة هو خلوّ كلّ من المالين عن العوض ، لأنّ المقابلة وقعت ـ على الفرض ـ بين التمليكين اللّذين هما فعلان ، لا بين الملكين ، فتكون هذه المعاطاة كالهبة المعوّضة.

__________________

فإنّها مضافة بذاتها لا بإضافة أخرى ، فمرجع التمليك بإزاء التمليك إلى جعل إضافة الملكية بإزاء إضافة الملكية ، ومقتضى التضايف بين العوضيّة والمعوّضية حصولهما معا وعدم انفكاك أحد المتضايفين عن الآخر» (١).

وفيه ، أنّ التضايف في المقام ملحوظ بين التمليكين اللذين هما فعلان للمتعاملين ، فاتصاف التمليك الصادر من الموجب بالمعوّضية ملازم لاتصاف التمليك الآخر بالعوضية ، وصيرورته على عهدة القابل ، لأنّه بالأخذ صار التمليك على عهدته فيجب عليه الوفاء به ، من دون أن يكون إعطاؤه دخيلا في حصول المعاطاة والتضايف. فدعوى عدم الحاجة الى العطائين وتحقق المعاطاة بين التمليكين بالإعطاء الواحد في غاية القرب. فالإيراد وارد على كلام المصنف قدس‌سره فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٣٩


المالين خاليا عن العوض (١).

لكن (٢) إجراء حكم الهبة المعوّضة عليه مشكل ، إذ (٣) لو لم يملّكه الثاني هنا (٤) لم يتحقق التمليك من الأوّل ، لأنّه (٥) إنّما ملّكه بإزاء تمليكه ، فما لم يتحقق تمليك (٦) الثاني لم يتحقق تمليكه.

إلّا (٧) أن يكون تمليك الآخر له ملحوظا عند تمليك الأوّل

______________________________________________________

(١) المقصود بالعوض هنا هو المال ، وإلّا فالعوض بالمعنى الأعمّ منه ومن الفعل ـ وهو التمليك ـ موجود حسب الفرض.

(٢) غرضه تضعيف احتمال كون «التمليك بإزاء التمليك» هبة معوّضة ، كبعد كونه بيعا ، وذلك للفرق بين المقام وبين الهبة ، ومحصّل الفرق : أنّه جعل أحد التمليكين ـ في هذا القسم ـ بإزاء الآخر ، فالإيجاب المنشأ به التمليك المعوّض ينشأ به التمليك العوض أيضا ، فيتم العقد بقبول الآخر من دون حاجة إلى إنشاء التمليك العوض بالاستقلال ، لعدم انفكاك إنشاء التمليك المعوّض عن إنشاء التمليك العوض.

وهذا بخلاف التمليك في الهبة المعوّضة ، فإنّ إيجاب الواهب يتضمن إنشاء تمليكه فقط ، وقبول المتّهب يتمّ العقد المحقّق للتمليك المعوّض. وأمّا التمليك العوض فلا يتحقق إلّا بإنشاء آخر من المتهب ، وقبول من الواهب. وعلى هذا فينفك أحد التمليكين في الهبة المعوضة عن الآخر.

نعم في المقام إن لوحظ تمليك الآخر على نحو الداعي ـ لا على وجه المقابلة ـ انفكّ أحد التمليكين عن الآخر ، وسيأتي توضيحه.

(٣) هذا تقريب الاشكال ، وقد عرفته آنفا.

(٤) يعني : في القسم الثاني ، وهو كون التمليك بإزاء التمليك.

(٥) أي : لأنّ الأوّل إنّما ملّك الثاني بإزاء تمليك الثاني الأوّل.

(٦) المصدر مضاف إلى الفاعل ، يعني : إذا لم يملّك الثاني الأوّل لم يتحقق تملّك الثاني ، ووجه عدم تحقق تملّكه هو : أنّ تمليك الأوّل كان مشروطا بتمليك الثاني ، وإذ ليس فليس.

(٧) ظاهره الاستدراك على قوله : «مشكل» وإمكان إدراج «التمليك بإزاء


على نحو الداعي (١) لا العوض ، فلا يقدح (٢) تخلفه.

______________________________________________________

التمليك» في الهبة المعوضة. لكن مقصوده قدس‌سره تصحيح هذا القسم الثاني بتغييره موضوعا وحكما. وبيانه : أنّ المقابلة بين التمليكين تكون على نحو الاشتراط ، أي يقصد كلّ منهما تمليك ماله للآخر بشرط تمليك الآخر ، فلو تخلّف الثاني ولم يملّك ماله لم يكن للأوّل تمليك أيضا. ومثله ليس هبة معوّضة ، إذ تمليك الواهب غير معلّق على شي‌ء ، ولذا يكون تخلّف المتهب موجبا لثبوت الخيار للواهب ، لا لبطلان أصل هبته.

وما أفاده بقوله : «إلّا أن يكون» تغيير في موضوع المقابلة بين التمليكين ، وذلك بأن يكون تمليك الأوّل غير مشروط بتمليك الثاني ، بل يكون قصده تمليك ماله للثاني مطلقا ، وداعيه عليه هو رجاء تمليك الثاني ماله له. ومن المعلوم أنّ تخلّف الداعي غير قادح في صحة المعاملة ، كما إذا باع داره بداعي علاج ولده المريض ، فعوفي الولد بعد البيع وقبل صرف الثمن في المعالجة ، فإنّ البيع صحيح ولا خيار للبائع أصلا ، وذلك لعدم العبرة بتخلّف الداعي إلى المعاملة.

والمقام من هذا القبيل ، فيندرج «التمليك بإزاء التمليك» في قسم آخر من أقسام الهبة المعوّضة ، وهو ما إذا لم يشترط فيها العوض أصلا ، وإنّما يهب المتهب شيئا للواهب تداركا لإحسانه ، بحيث لو لم يهب لم يطلب الواهب عوضا من المتهب.

وقد اتضح من هذا : إلغاء شرطية تمليك الثاني لتمليك الأوّل ، وجعله داعيا له.

كما أنّ الهبة المعوضة المنطبقة على هذا الفرض مغايرة للهبة المعوّضة التي استشكل فيها بقوله : «مشكل». وجه المغايرة : أنّ العوض هنا غير مشروط أصلا ، بل يعطى تداركا لإحسان الواهب.

(١) يعني : فيحتاج إلى إنشاء ابتدائي من الآخذ ، ولا يكفي في إنشائه التمليك المعوّض.

(٢) لخروج الدّاعي عن حاقّ التمليك الأوّل ، ومن المعلوم عدم قدح تخلف الداعي في الصحة.


فالأولى أن يقال (١) : إنّها مصالحة (*) وتسالم على أمر معيّن. أو معاوضة مستقلّة.

ثالثها (٢) : أن يقصد الأوّل إباحة ماله بعوض ، فيقبل الآخر بأخذه إيّاه ،

______________________________________________________

(١) بعد أن تعذّر تصحيح «التمليك بإزاء التمليك» بنحو الهبة المعوّضة ـ لفرض كون المقابلة بين التمليكين بالاشتراط لا الداعوية ـ تصدّى قدس‌سره لتصحيحها بأحد وجهين آخرين :

الأوّل : أن يكون من الصلح المعاطاتي ، لأنّهما تسالما على إنشاء تمليك بإزاء تمليك.

الثاني : أن يكون معاوضة مستقلة ، يشملها إطلاق «التجارة عن تراض» فتكون صحيحة.

القسم الثالث : المقابلة بين إباحة أحدهما وتمليك الآخر

(٢) محصل هذا الوجه الثالث هو الإباحة بالعوض ، في مقابل الإباحة مجّانا ، فيكون الفعل الصادر من الموجب إباحة التصرف في ماله مع العوض ، لا بدونه ، والصادر من القابل قبول الإباحة بتمليك ماله للموجب المبيح ، فالموجب يتملّك العوض ، والقابل لا يملك ما أباحه الموجب له ، بل يباح له التصرف فيه مع بقاء رقبته على ملك الموجب. فهذا التعاطي بمنزلة الإباحة القولية ، كأن يقول : «أبحت لك التصرف في الكتاب الفلاني بدرهم ، بمعنى أن يكون الدرهم ملكا لي».

وبالجملة : فيظهر من عبارة المصنف قدس‌سره اعتبار أمرين في هذا القسم.

أحدهما : كون الإباحة مقابلة بالمال ، لا بالتمليك الذي هو فعل الآخر ، كما يشهد به قوله : «أبحت لك كذا بدرهم».

__________________

(١) إن كان التسالم موردا للإنشاء ، وإلّا فلا وجه لكونه صلحا.


فيكون الصادر من الأوّل الإباحة بالعوض ، ومن (١) الثاني بقبوله لها التمليك (٢) ، كما لو (٣) صرّح بقوله : أبحت لك كذا بدرهم.

رابعها (٤) : أن يقصد كلّ منهما الإباحة بإزاء إباحة أخرى ، فيكون (٥) إباحة بإزاء إباحة ، أو (٦) إباحة

______________________________________________________

وثانيهما : كون القبول أخذ الطرف المقابل لما دفعه الأوّل إليه على وجه الإباحة ، فيكون إعطاء الدرهم إلى المبيح وفاء بالمعاملة ، لا لتقوم هذه الإباحة المعوّضة بإعطاءين.

(١) معطوف على «من الأوّل» يعني : فيكون الفعل الصادر من المباح له قبول تلك الإباحة في قبال تمليك الدرهم للمبيح.

وعلى هذا فالإباحة تكون تارة مع العوض ، وأخرى بدونه. وعلى الأوّل فإمّا أن يكون العوض إباحة شي‌ء وإما أن يكون تمليكه. ومفروض المتن هذه الصورة الأخيرة ، لا الإباحة مجّانا ، ولا بعوض الإباحة.

(٢) أي : التمليك الضمني ، فإنّ المدلول المطابقي للقبول هو قبول الإباحة ، ومدلوله التضمني هو التمليك ، إذ المفروض كون إباحة المبيح بإزاء تمليك المباح له.

(٣) يعني : لا فرق في مشروعية «الإباحة بعوض التمليك» بين إنشائها باللفظ وبالفعل ، كما هو المفروض.

القسم الرابع : المقابلة بين الإباحتين

(٤) ملخص هذا الوجه هو كون المقابلة بين الإباحتين ـ اللتين هما من الأفعال ـ كالتمليكين في القسم الثاني ، فلا يتحقق الملكيّة حينئذ أصلا ، بل يباح لكل منهما التصرف في المال الذي أخذه من الآخر.

(٥) يعني : فيكون إعطاء كلّ منهما إباحة بشرط إباحة الآخر بنحو المقابلة.

(٦) يعني : أو يكون إعطاء كلّ منهما إباحة بداعي إباحة الآخر.


لداعي إباحة (١) ، على ما تقدّم نظيره في الوجه الثاني (٢) من إمكان تصوّره على نحو الداعي وعلى نحو العوضية.

وكيف كان (٣) فالإشكال في حكم القسمين الأخيرين (*) على (٤) فرض قصد المتعاطيين لهما.

______________________________________________________

(١) فلا تقابل حينئذ بين الإباحتين ، لكون إباحة الطرف الآخر داعية إلى إباحة الأوّل ، لا عوضا عنها ، كما تقدم نظير ذلك في الوجه الثاني ، وهو قصد كل منهما تمليك ماله للآخر ، حيث قال : «إلّا أن يكون تمليك الآخر له ملحوظا عند تمليك الأوّل على نحو الداعي لا العوض».

(٢) حيث قال : «أن يقصد كل منهما تمليك الآخر بإزاء تمليك ماله إيّاه».

(٣) يعني : سواء أمكن تصوّر الإباحة بداعي الإباحة ، أم كانت المقابلة بين الإباحتين بنحو العوضية.

وهذا شروع في مقام الإثبات ، وهو بيان حكم الأقسام الأربعة المتقدمة ، وحيث إنّه قدس‌سره أفاد حكم القسمين الأوّلين عند بيانهما ، فلذا خصّ البحث من هنا إلى آخر التنبيه بالقسمين الأخيرين صحّة وفسادا ، وقد ذكر في المتن إشكالين ، أحدهما مشترك بين كلا القسمين ، والآخر مختص بالرابع ، وسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(٤) مقصوده قدس‌سره أنّ أصل وقوع المعاطاة بقصد الإباحة لا يخلو من بعد وإن كان محتملا ثبوتا ، إذ المعاطاة المعهودة بين العقلاء والمتشرعة هي ما يقصد بها الملك كالبيع بالصيغة. وعليه فبيان حكم هذين القسمين مبنيّ على فرض قصد الإباحة ، كما يستفاد من بعض كلمات القدماء من كون مقصودهما إباحة التصرف لا التمليك.

__________________

(*) أمّا القسم الأوّل ـ وهو تمليك كل منهما ماله بمال الآخر ـ فلا إشكال فيه أصلا ، لأنّه مصداق حقيقي للبيع ، فيشمله جميع ما دلّ على صحة البيع ونفوذه.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو كون التمليك بإزاء التمليك ، بحيث تكون المقابلة بين


.................................................................................................

__________________

الفعلين لا المالين ـ فقد استشكل فيه بوجهين :

أحدهما : ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره من : «أنّه ليس التمليك بالمعنى المصدري مالا ، بل المال هو الحاصل من المصدر ، وليس هذا الفعل إلّا آلة لحصول اسم المصدر ، فلا يمكن أن يقابل بالمال. فمقابلة التمليك بالمال باطلة ، فضلا عن مقابلة التمليك بالتمليك ، لأنّ التمليك ليس بمال. وفرق بين البيع بإزاء التمليك وبيع المال على أن يخيط له ثوبا ، فإن الفعل في الأوّل آليّ ، بخلاف الثاني فإنّه استقلالي يبذل بإزائه المال» (١).

ومحصل ما أفاده يرجع إلى منع مالية التمليك الموجب لبطلان المعاملة المتقومة بمقابلة المالين ، فمع عدم مالية أحد العوضين ـ فضلا عن كليهما ـ لا تصحّ المعاوضة ، لفقدان ركنها ، هذا.

وقد يورد عليه تارة : بأنّ التمليك مال ، لأنّ مناط المالية المستكشف عنه بتنافس العقلاء عليه موجود في التمليك ، ضرورة أن السلطنة على مال بالتمليك ونحوه ممّا يرغب فيه العقلاء ويتنافسون عليه. فوزان التمليك وزان الخياطة والنجارة ونحوهما من الأفعال التي تعدّ أموالا عند العقلاء ، خصوصا بعد اتحاد المصدر واسمه ذاتا واختلافهما اعتبارا ، فتدبّر.

وأخرى ـ بعد تسليم عدم ماليّته ـ أنّه حقّ قابل للانتقال وأخذ العوض بإزائه ، ومن المعلوم كفاية مثل هذا الحق في صحة المعاملة ، فإنّ سلطنة المالك على نقل تمليك ماله إلى الغير حقّ للمالك. وقد تقدّم سابقا : أن الأصل في الحقوق هو جواز نقلها وإسقاطها. فتوهم كون السلطنة حكما شرعيا غير قابل للنقل فاسد.

لكنك خبير بما فيهما. إذ في الأوّل : أنّ المال هو ما يتنافس العقلاء عليه ، لكن تطبيقه على تمليك التمليك ممنوع ، فإنّ رغبة العقلاء في أمر ليست بلا مناط ، فالعين شخصية كانت أم كلّية بأقسامها مال بلحاظ منفعتها ، وكذا الحال في المنافع المتجددة

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٧١


.................................................................................................

__________________

وبعض الحقوق. وأمّا التمليك فلا سبيل لاستكشاف ماليّته. عندهم بعد الاعتراف بعدم تعارف هذا النوع من المعاملة. وقياسه بالأعمال المحترمة كالخياطة والنجارة لا يخلو من تأمّل ، حيث إنّ ماليّتها بلحاظ الأثر المطلوب من إعمال صنعة وتغيير هيئة في القماش والخشب. وهذا بخلاف التمليك ، فإنّ ما يرغب فيه نفس العين الخارجية ذات المنفعة كالدار والدّكّان ، وأمّا التسليط على التسليط فلم يعلم مقابلته بالمال ، ولا أقل من الشك في ماليته عرفا ، وهو كاف في منع عدم شمول أدلة الإمضاء له.

وفي الثاني : أن المالك وإن كان مسلّطا على ماله بمقتضى «الناس مسلّطون على أموالهم» إلّا أنّ المسلّط عليه هو نفس المال ، فلا بدّ من إحراز ماليّة شي‌ء حتى يتحقق موضوع السلطان ، وحيث إنّ مالية التمليك مشكوكة لم يتجه التمسك بالقاعدة لتجويز المقابلة بين تمليكين.

وأمّا ما أفيد من كون السلطنة حقّا للمالك قابلا للنقل إلى الغير فممنوع ، بالفرق بين هذه السلطنة وبين الحق ، لما تقدم في مباحث الحقوق من أنّ الحق القابل للنقل إلى الغير هو ما كان المجعول فيه تفويض الأمر إلى شخص كما في حق القصاص وحق الشفعة والتحجير. وأمّا سلطنة المالك على ماله فمتعلقها نفس المال ، وأمّا سلطنته على التسليط على المال فليست من شؤون المال حتى يشمله إطلاق الحديث.

ولا فرق فيما ذكرناه بين محتملات الحديث من كونه مشرّعا مطلقا أو للمسببات خاصة ، وكونه غير مشرّع أصلا ، بأن كان مدلوله استقلال المالك في أنحاء التصرفات في المال. ووجه عدم الفرق ما ذكرناه من أن موضوع السلطنة المجعولة نفس المال ، لا تفويض تمليكه إلى الغير.

وعليه فالإنصاف تمامية ما أفاده المحقق النائيني في المنع عن مشروعية تمليك التمليك ، هذا.

ثانيهما : ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره بقوله : «ومنها : أنّ أصل المقابلة بين


.................................................................................................

__________________

التمليكين فيه غموض وخفاء ، فإنّ التمليك بالإعطاء حال تعلقه بمتعلقه ملحوظ آلي ، وفي جعل نفسه معوّضا يحتاج إلى لحاظ استقلالي ، ولا يعقل اجتماع اللحاظين المتباينين في ملحوظ واحد ، فلا بدّ من أن يكون هذه المعاملة في ضمن معاملة أخرى كالصلح على التمليك بإزاء التمليك ، فيستحق كل منهما التمليك من الآخر بإزاء تمليك نفسه» (١).

توضيحه : أنّ الفعل كاللفظ ملحوظ آلة لمعناه الإنشائي أو الإخباري ، فالإعطاء إن كان ملحوظا آلة لإنشاء تمليك متعلقة فكيف يكون ملحوظا استقلالا كما هو المفروض؟ إذ التمليك المعوّض ملحوظ استقلالا. والجمع بين هذين اللحاظين في ملحوظ واحد جمع بين المتنافيين ، فالتمليك بإزاء التمليك غير معقول.

فلا بد من تصحيح هذه المعاملة مثلا بجعلها في ضمن صلح مثله ، كما إذا صالحه على أن يملّكه تمليك داره على أن يملّكه الآخر تمليك بستانه مثلا حتّى يكون التمليك ملحوظا استقلاليا ، هذا.

لكنك خبير بأنّ التمليك في المقام ليس إلّا ملحوظا بالاستقلال ، لأنّ المعوض ـ وهو التمليك ـ مقصود استقلالي ، كما إذا كان المطلوب نقل إضافة الملكية ، فإن نقلها مقصود بالاستقلال ، ولا تناله يد اللحاظ الآلي أصلا حتى يلزم اجتماع اللحاظ الاستقلالي والآلي اللّذين هما متباينان.

وببيان أوضح : تارة يكون العوضان إضافتي الملكيتين ، فيتعلق الإنشاء بنقل إضافة الملكية من الطرفين وتبديلها ، وهذا هو المبادلة بين المالين المفسّر بها البيع في المصباح. وأخرى : يكون العوضان نقل التمليك بإزاء مثله من الطرف الآخر ، بحيث يكون كلّ منهما ناقلا للتمليك إلى الآخر ، لا ناقلا لنفس المال.

فإذا قال : «ملّكتك الدار بالبستان» كان المنشأ نقل إضافة ملكية الدار بإزاء ملكية

__________________

(١) : حاشية المكاسب : ج ١ ، ص ٣٩


.................................................................................................

__________________

البستان. وهذا هو أوّل الوجوه المذكورة في كلام المصنف قدس‌سره وهو المسمّى بالبيع ، وإذا قال : «ملّكتك تمليك داري بأن تملّكني تمليك بستانك» كان ممّا نحن فيه ، وهو أجنبي عن تمليك نفس المال ، فإذا أريد إنشاؤه باللفظ فلا محيص من أن يقال : «ملّكتك تمليك داري بأن تملّكني تمليك بستانك» ولا يصح أن يقال : «ملّكتك داري ببستانك».

وعليه فإعطاء العين بقصد أن يملّك تمليكها ، لا بلحاظ كونه آلة لإنشاء ملكية متعلّقه حتى يكون هذا اللّحاظ آليّا ، ولحاظ نفس المال استقلاليا ، بل ليس إلّا لحاظ استقلالي ، هذا.

وأمّا دفع إشكال اجتماع اللحاظين في الفعل بما في كلام بعض الأجلة من «أنّه جار في الألفاظ الدالة بالذات أو الوضع على المعاني ، حيث إنّها آلات لإبراز معانيها ، ومع لحاظها آلة لا يعقل لحاظها استقلالا. وأمّا الأفعال فليست بذاتها أو بالمواضعة آلات لشي‌ء ، فيمكن لحاظ الإعطاء الخارجي المقصود به التمليك مستقلا» فلا يخلو من غموض ، لأنّ الأفعال أيضا تكون آلة لإبراز المقاصد ، غاية الأمر أنّ مبرزيّتها لها إنّما تكون بالقرينة كالمقاولة المتقدمة على المعاملة ، فمجرد عدم دلالتها ذاتا أو بالوضع على المعاني لا يكون فارقا بين الألفاظ وبينها. وإنكار دلالة الأفعال على المعاني وإبرازها عنها مساوق لإنكار المعاطاة في جميع المعاملات.

فتلخص مما ذكرناه : أنّه لا مانع من ناحية اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي عن إمكان التمليك بإزاء التمليك.

ثم إنّ هذه المعاملة ـ أعني بها التمليك بإزاء التمليك ـ قد يقال : إنّها بيع ، حيث إنّ تعريفه ـ وهو المبادلة بين المالين ـ صادق عليها ، لما مرّ من أنّ التمليك بنفسه من الأموال. لكن صدق مفهوم البيع عليها مبنيّ على عدم اعتبار كون المبيع عينا ، وهو في حيّز المنع كما تقدّم في محلّه.


ومنشأ الإشكال أوّلا : الإشكال (١) في صحة إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على ملكية المتصرف بأن يقول : «أبحت لك كلّ تصرف» من دون أن يملّكه العين.

______________________________________________________

(١) هذا هو الإشكال المشترك بين القسمين الثالث والرابع ، ومحصّله : عدم الدليل على مشروعية إباحة جميع التصرفات حتّى ما يتوقف منها على ملكيّة المتصرّف كالوقف والعتق والبيع ، بأن يقول : «أبحت لك كل تصرف ، مع بقاء العين على ملكي».

ومنشأ الإشكال : أنّ الدليل على جواز الإباحة قاعدة السلطنة ، وهي ليست مشرّعة ، وإنّما تدل على صحة كل تصرّف ثبت جوازه شرعا بدليل آخر ، فإنّ الناس مسلّطون على أموالهم لا على أحكام أموالهم. ولمّا كان توقف صحة البيع والعتق ونحوهما على الملك حكما شرعيا ـ لا من شؤون سلطنة المالك على ماله ـ لم يكن للمالك أن يبيح للغير كل تصرّف في ماله حتّى ما يناط بملكية المتصرّف ، ولا تكفي الإباحة في نفوذه وصحته. ولا فرق في هذا الإشكال بين كون الإباحة معوّضة وخالية عن العوض ، وكان العوض تمليكا أم إباحة.

__________________

كما أنّها ليست بهبة معوّضة ، لأنّ العوض فيها يكون بنحو الاشتراط ، لا المقابلة. بخلاف المقام ، فإنّ العوض فيه يكون على وجه المقابلة.

مضافا إلى : أنّه يعتبر في الهبة أن يكون الموهوب عينا. وهو مفقود في المقام ، إذ المفروض كون التعاوض بين التمليكين ، وهما أجنبيان عن العين.

كما أنّها ليست بإجارة أيضا ، لعدم كون التسليط على التمليك منفعة عرفا ، ولعدم كون توقيته بوقت معيّن ، مع أنّ تعيين الأجل ممّا لا بدّ منه في الإجارة.

فالظاهر أنّ هذه المعاملة ـ على تقدير صحتها ـ معاوضة خاصة يشملها دليل التجارة ، ولا يجري فيها الأحكام المختصة بالبيع كخيار المجلس والغرر بناء على اختصاصه بالبيع ، والله العالم.


وثانيا (١) : الإشكال في صحة الإباحة بالعوض ، الراجعة إلى عقد مركّب من إباحة وتمليك (٢) فنقول :

أمّا إباحة (٣) جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك فالظاهر أنّها لا تجوز ، إذ التصرف الموقوف على الملك لا يسوغ لغير المالك بمجرّد إذن المالك ، فإنّ إذن المالك ليس مشرّعا ، وإنما يمضى فيما يجوز شرعا. فإذا (٤) كان بيع الإنسان مال غيره لنفسه ـ بأن يملك الثمن مع خروج المبيع عن ملك غيره ـ غير (٥) معقول كما صرّح به العلّامة في القواعد (٦)

______________________________________________________

(١) هذا هو الإشكال الثاني المختصّ بالقسم الثالث ، ومحصّله : أنّ العقد المؤلّف من «إباحة وتمليك» ليس من المعاوضات المعهودة حتى تشملها أدلة الإمضاء مثل الأمر بالوفاء بالعقود والتجارة عن تراض.

(٢) الإباحة من المبيح ، والتمليك من المباح له.

(٣) هذا شروع في تحقيق الإشكال الأوّل ، وأنّه هل يمكن التفصّي منه أم لا؟

وقد أوضحه المصنف قدس‌سره أوّلا ، ثم تصدّى لتصحيح إباحة جميع التصرفات بوجوه ثلاثة سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

(٤) غرضه قدس‌سره الاستشهاد بكلام العلّامة في القواعد على أنّ سلطنة المالك على ماله مقصورة على التصرفات المشروعة بنفسها. ولمّا كان البيع «مبادلة مال بمال» وهي تتوقف على دخول كلّ من العوضين في ملك الآخر ، فلذا لا يصحّ أن يبيح المالك لغيره بيع ملكه من دون أن يصل الثمن إلى مالك المعوّض. وجه عدم الصحة : عدم ثبوت سلطنة المالك على إباحة بيع ماله لغيره ، فلا يكون مجرّد إذنه للغير مصحّحا لكلّ تصرّف منه.

(٥) خبر قوله : «كان بيع الإنسان».

(٦) حيث قال قدس‌سره : «لو قال : بع عبدك من فلان ، على أنّ عليّ خمسمائة ، فباعه بهذا الشرط بطل ، لوجوب الثمن بأجمعه على المشتري ، فليس له أن يملك العين والثمن على غيره. بخلاف : أعتق عبدك وعليّ خمسمائة ، أو : طلّق امرأتك وعليّ مائة ، لأنّه


فكيف (١) يجوز للمالك أن يأذن فيه (٢)؟

نعم (٣) يصح ذلك (٤) بأحد وجهين كلاهما في المقام مفقود.

أحدهما (٥) : أن يقصد المبيح بقوله : «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك»

______________________________________________________

عوض في مقابلة فكّ» (١).

(١) جزاء قوله : «فإذا كان».

(٢) أي : في بيع ملك نفسه مع عدم وصول العوض إليه ، لفرض دخول العوض في ملك المأذون.

(٣) استدراك على قوله : «فكيف يجوز للمالك» وغرضه إبداء الفرق بين إباحة جميع التصرفات وبين إذن المالك لغيره في بيع ماله ، ومحصّله : أنّ إذن المالك لغيره في البيع يمكن تصحيحه بأحد وجوه ثلاثة ، بخلاف إباحة جميع التصرفات ، إذ لا يمكن تصحيحها بها كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

(٤) يعني : يصحّ البيع مع إذن المالك.

(٥) هذا الوجه الأوّل محكي عن بعض الأساطين ، وهو مأخوذ ممّا ذكروه في تصحيح وقوع العتق عن الأمر بالعتق في قوله : «أعتق عبدك عنّي» فيراد تصحيح الإباحة المطلقة بتنظيره بالأمر بالعتق ، ومحصله : أنّ قول المبيح : «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك» إمّا أن يقصد به إنشاء التوكيل ، وإمّا أن يقصد به التمليك بلسان الإباحة. والتوكيل إمّا أن يكون في بيع المال ثم تملكه بهبة ، وإمّا أن يكون بتملّك المال أوّلا ثم بيعه ، فالصور ثلاث :

الأولى : أن يقصد المبيح بقوله : «أبحت ..» إنشاء التوكيل للمباح له في أمرين :

أحدهما : أن يبيع مال الموكّل المبيح. ثانيهما : نقل الثمن إلى نفسه بالهبة ، يعني يهب المباح له الثمن لنفسه وكالة عن المبيح ، فإذا فعل ذلك كان الثمن ملكا له.

الثانية : أن يقصد المبيح صيرورة المباح له وكيلا في تمليك المال لنفسه ، ثم بيعه ،

__________________

(١) : قواعد الأحكام ، ص ٥٨ (الطبعة الحجرية).


أن ينشأ توكيلا له (*) في بيع ماله ، ثم (١) نقل الثمن إلى نفسه بالهبة ، أو (٢) في نقله أوّلا إلى نفسه ثم بيعه. أو تمليكا (٣) له (٤) بنفسه هذه الإباحة ، فيكون (٥) إنشاء تمليك له ، ويكون بيع (٦) المخاطب بمنزلة قبوله

______________________________________________________

ولا ريب حينئذ في وقوع البيع لنفسه ودخول الثمن في ملكه ، لفرض كون المعوّض ملكه قبل البيع.

الثالثة : أن يقصد المبيح بقوله : «أبحت ..» إنشاء تمليك المال للمباح له كناية ، فليس مقصوده التوكيل أصلا ، بل يكون هذا الإنشاء تمليكا ابتدائيا ، لكنّه لا بالصراحة بل بالكناية ، من جهة ذكر اللازم وهو إباحة بيع المال لنفس الآخذ المباح له ، وإرادة الملزوم وهو التمليك.

هذا توضيح ما أفاده في الوجه الأوّل. وشي‌ء من صور المسألة لا ينطبق على ما نحن فيه وهو إباحة جميع التصرفات ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(١) هذا إشارة إلى الصورة الأولى من الصور الثلاث المتقدمة ، وقد عرفت أنّه يتضمن توكيلين : أحدهما في البيع ، والثاني في الهبة.

(٢) معطوف على «في بيع ماله» وهذا إشارة إلى الصورة الثانية من الصور الثلاث.

(٣) معطوف على «توكيلا» وهذا إشارة إلى الصورة الثالثة من الصور الثلاث.

(٤) أي : تمليكا للمباح له بنفس هذا الإنشاء من دون توكيل في البين أصلا ، فهذا تمليك كنائي ، لا صريح ولا ظاهر.

(٥) يعني : فيكون قوله : «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك» إنشاء تمليك للمباح له ، ويكون بيع المباح له إنشاء التملّك.

(٦) بل يتحقق القبول بنفسه الأخذ ، من دون حاجة إلى بيع المال في حصول الملكية ، إذ بعد فرض كون العبارة المذكورة كناية عن التمليك ـ لا المبادلة ـ كان أخذ المباح له تملّكا ، ولا يتوقف تملكه وقبوله على بيعه.

إلّا أن يفرض كلام المصنف قدس‌سره فيما إذا لم يتسلّم المباح له المال كي يتحقق قبوله


كما صرّح في التذكرة (١) بأنّ «قول الرجل لمالك العبد : أعتق عبدك عنّي بكذا استدعاء لتمليكه ، وإعتاق المولى عنه جواب لذلك الاستدعاء ، فيحصل النقل والانتقال بهذا الاستدعاء والجواب ،

______________________________________________________

بالأخذ ، وحينئذ فيكون إنشاء قبول الإباحة بنفس إنشاء بيع المال.

(١) قال في التذكرة بعد بيان الشروط المعتبرة في صيغة البيع ما لفظه : «فروع الأوّل : إنّما يفتقر إلى الإيجاب والقبول فيما ليس الضمني من البيوع. وأمّا الضمني ـ كأعتق عبدك عنّي بكذا ـ فيكفي فيه الالتماس والجواب ، ولا تعتبر الصيغة المتقدمة إجماعا» (١).

واعتمد صاحب الجواهر على هذه الملكية الآنيّة في تصحيح الصورة الأولى من صور المعاطاة وهي إباحة كل منهما التصرف للآخر على جهة المعاوضة «من غير فرق بين أنواع التصرفات ، ما توقف منها على الملك وغيره. وعلى معنى إباحة إيقاعها للمباح له لا للمبيح ، فتجري عليها أحكام الإباحة المجانية من اللزوم بالتلف ، وأحكام المعاوضة من تعيين العوض بالمسمّى ، وأحكام : أعتق عبدك عنّي ، و : بع هذا المال لك ، ونحوه مما يفيد الملك الضمني بوقوع التصرف بناء على جريانه على القواعد ، ضرورة انحلال الإباحة بالعوض على الوجه المزبور إلى ذلك كلّه ، فليس لها حكم جديد مستنكر» (٢).

واستدل على صحته في موضع آخر بقوله : «وللجمع بين ما دلّ على صحة هذا التصرف في هذا المال المفروض إباحته ، وبين ما دلّ على : أن لا عتق إلّا في ملك ، قدّر الملك ضمنا نحو ما قدّروه في : أعتق عبدك عنّي ، وانعتاق العمودين على المشتري لهما ، ونحو ذلك. ولا حاجة إلى شاهد لهذا الجمع ، بل هو مقتضى الدليلين ، ضرورة أنّ غاية ما دلّ على اعتبار الملك اقتضاء عدم وقوع التصرّف المزبور على غير المملوك

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٢٥


ويقدّر وقوعه (١) قبل العتق آنا ما ، فيكون هذا بيعا ضمنيا لا يحتاج إلى الشروط المقرّرة لعقد البيع».

ولا شك (٢) أنّ المقصود فيما نحن فيه ليس الإذن في نقل المال إلى نفسه أوّلا (٣) ، ولا في نقل الثمن إليه ثانيا (٤) ، ولا قصد (٥) التمليك بالإباحة المذكورة ، ولا قصد (٦) المخاطب التملّك عند البيع

______________________________________________________

مثلا ، فيكفي فيه التقدّم الذاتي الذي هو كتقدّم العلة على المعلول ..» (١).

(١) أي : وقوع النقل والانتقال.

(٢) غرضه بيان فقدان الوجه الأوّل الذي أفاده بقوله : «أحدهما : أن يقصد المبيح بقوله : أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك .. إلخ» في المقام.

ومحصله : إنكار الإذن والتوكيل ههنا ، لعدم كونه مقصودا للمتعاطيين ، ومن المعلوم تقوّم الإذن والتوكيل بالقصد ، فليس قول المبيح : «أبحت» من صغريات الإذن والتوكيل بكلتا صورتيه المتقدّمتين.

(٣) هذا نفي التوكيل في التملّك حتى تقع التصرفات في ملك المباح له ، وهي الصورة الثانية من الصور الثلاث.

(٤) هذا نفي التوكيل في البيع عن المالك المبيح ، ثم التوكيل في تملّك الثمن بالهبة ، وهي الصورة الأولى من الصور الثلاث.

(٥) معطوف على «ليس الإذن» وغرضه أجنبية المقام عن الصورة الثالثة ، وهي إنشاء التمليك بلفظ الإباحة كناية. ووجه عدم تحقق هذا التمليك الكنائي في المقام هو : توقف التمليك على القصد والاعتبار ، فمع قصد الإباحة المعوّضة ـ أو المجرّدة عن العوض ـ لا يبقى مجال للحمل على إنشاء التمليك ، لفرض كون المالك مبيحا للعين لا مملّكا لها.

(٦) هذا متمّم لنفي التمليك الكنائي الذي أفاده بقوله : «ولا قصد» وحاصله : أنّ

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٣٢


حتى يتحقق تمليك ضمنيّ مقصود للمتكلم والمخاطب كما (١) كان مقصودا ـ ولو إجمالا (٢) ـ في مسألة «أعتق عبدك عنّي» ولذا (٣) عدّ العامة والخاصة من الأصوليين دلالة هذا الكلام على التمليك من دلالة الاقتضاء التي عرّفوها بأنّها دلالة مقصودة للمتكلم يتوقف صحة الكلام عقلا أو شرعا عليه (٤) ، فمثّلوا للعقلي بقوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وللشرعي بهذا المثال (٥) ، ومن المعلوم بحكم الفرض (٦) أنّ المقصود فيما نحن فيه ليس إلّا مجرد الإباحة.

______________________________________________________

حمل الإباحة هنا على التمليك ممنوع من جهتين : الأولى : عدم قصد المبيح تمليك ماله. الثانية : عدم قصد المخاطب التملّك ، فلو فرض قصد المبيح للتمليك امتنع تحققه من جهة انتفاء قصد التملك من المخاطب.

(١) يعني : أنّ قصد التمليك وإن لم يتوقف على قصده بالاستقلال ، إلّا أنّ قصده ضمنا ممّا لا بدّ منه ، كما كان هذا التمليك الضمني مقصودا في الوكالة المتحققة بقول الآمر لمالك العبد : «أعتق عبدك عنّي» حيث يقصد الآمر الموكّل تملّك العبد ، ويقصد المأمور تمليك عبد نفسه للآمر ، ثم عتقه عنه. والمفروض في المقام انتفاء قصد التمليك والتملّك.

(٢) المراد بالقصد الإجمالي هو : أنّ الآمر لو التفت إلى توقف العتق الصحيح على تملّكه للعبد المعتق لوكّل سيّده في التمليك.

(٣) أي : ولأجل القصد الإجمالي عدّوا دلالة هذا الكلام على التمليك من دلالة الاقتضاء التي هي مقصودة للمتكلّم ، وتتوقف صحة الكلام عقلا عليها كسؤال القرية ونحوها من الجمادات ، أو شرعا كالمثال المذكور ، وهو قوله : «أعتق عبدك عنّي» ومن المعلوم أنّ قصد التمليك ولو إجمالا مفقود في المقام ، إذ ليس قصد المبيح غير الإباحة ، فدلالة الاقتضاء هنا مفقودة.

(٤) أي : على دلالة الاقتضاء ، والأولى تأنيث الضمير.

(٥) أي : بقول الآمر : «أعتق عبدك عنّي».

(٦) إذ المفروض كون الوجهين الأخيرين ـ وهما الإباحة في مقابل المال ،


الثاني (١) : أن يدلّ دليل شرعي على حصول الملكية للمباح له بمجرّد

______________________________________________________

والإباحة في مقابل الإباحة ـ في قبال الوجهين الأوّلين ، فالمقصود بالأخيرين منحصر في الإباحة من دون قصد التمليك أصلا.

فتحصل : أنّ الوجه الأوّل ـ من إنشاء التوكيل أو إنشاء التمليك كناية ـ غير جار في المقام ، ولا يندفع به الإشكال.

(١) هذا هو الوجه الثاني لتصحيح بيع المباح له للمال الذي أبيح له ، ومحصله : قيام دليل شرعي على حصول الملك للمباح له ـ تعبّدا ـ بمجرد الإباحة ، لكن لمّا لم يكن المبيح قاصدا للتمليك ـ لقصده الإباحة المحضة ـ فلا بدّ من الالتزام بالملكية الآنيّة ، إمّا في حقّ المبيح ، أو المباح له. وعليه يمكن تقريب هذا الدليل الشرعي الدال على مالكية المباح له بأحد وجهين :

الأوّل : أن يكون المال باقيا على ملك المبيح إلى زمان إرادة التصرف المنوط بالملك كالبيع ، فيحكم بانتقال المباح إلى ملك المباح له ـ شرعا ـ في آن إرادة التصرف ، ونتيجته وقوع البيع في ملكه لا في ملك المبيح.

الثاني : أن يكون المال باقيا على ملك المبيح حتى في الآن الذي يريد المباح له بيعه ، فيكون البيع تصرّفا في ملك المبيح ، لعدم انتقاله إلى المباح له بعد ، فإذا باعه دلّ الدليل على انتقال الثمن الى ملك المبيح ـ تحقيقا لمفهوم المعاوضة من دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عنه ـ آنا ما ، ثم ينتقل إلى المباح له. ومن المعلوم أنّ قيام الدليل التعبدي على هذه الملكية الآنية في المقام غير مستبعد ، لوجود نظيره في الشرع ، كما ذكروه في مسألة دخول العمودين آنا ما في ملك المشتري ، وانعتاقهما عليه قهرا.

واعلم أنّ الفارق بين هذا الوجه الثاني المبني على الملكية الآنيّة ـ بكلا تقريبية ـ وبين الوجه الأوّل المتقدم بقوله : «أحدهما أن يقصد المبيح بقوله .. إلخ» هو : أنّ الملكية في ذلك الوجه مقصودة إمّا بالتوكيل وإما بالإنشاء الكنائي. بخلافه في هذا الوجه الثاني ، إذ الملكية غير مقصودة أصلا ، وإنّما تحصل الملكيّة قهرا بجعل


الإباحة ، فيكون (١) كاشفا عن ثبوت الملك له عند إرادة البيع آنا ما ، فيقع البيع في ملكه (٢). أو يدلّ (٣) دليل شرعي على انتقال الثمن عن المبيح بلا فصل بعد البيع ، فيكون ذلك (٤) شبه دخول العمودين في ملك الشخص آنا ما لا يقبل (٥) غير العتق.

فإنه (٦) حينئذ يقال بالملك المقدّر آنا ما ، للجمع بين الأدلة (٧).

______________________________________________________

الشارع وإن لم يقصدها المبيح أصلا.

(١) يعني : فيكون الدليل الشرعي كاشفا عن الملكية الآنامّائيّة تعبّدا في آن إرادة البيع.

(٢) أي : في ملك المباح له ، لدخول المال في ملكه بإرادة البيع.

(٣) معطوف على «يدلّ» وهذا هو التقريب الثاني لقيام الدليل التبعدي.

(٤) يعني : فيكون دخول ثمن المبيع المباح في ملك المباح له نظير انعتاق العمودين بعد دخولهما آنا ما في ملك المشتري.

والظاهر أنّ مقصود المصنف قدس‌سره تنظير قيام الدليل التعبدي على الملكية الآنية بمسألة ملكية المشتري للعمودين آنا ما ، سواء أريد توجيه دخول المباح في ملك المباح له آنا ما بإرادة البيع ، أم أريد توجيه مالكية المبيح للثمن آنا ما بعد البيع وخروجه عن ملكه.

(٥) صفة لقوله : «ملك شخص» يعني : أنّ هذا الملك التطرّقي لا يترتب عليه شي‌ء من آثار الملك ، وإنّما يترتب عليه العتق القهري.

(٦) الضمير للشأن ، ومقصوده قدس‌سره تطبيق هذا التوجيه الثاني ـ أي الملكية الآنيّة التعبدية الجارية في مسألة بيع مال الغير لنفسه ـ على المقام وهو إباحة جميع التصرفات ، سواء أكانت بعوض إباحة أم بعوض مال.

(٧) الظاهر أنّ المراد بها هو دليل صحة الشراء ، ودليل إناطة العتق بالملك ، ودليل عدم ملكية العمودين.


وهذا الوجه (١) مفقود فيما نحن فيه ،

______________________________________________________

(١) الأولى إضافة «أيضا» إليه ، بأن يقال : «وهذا الوجه أيضا مفقود».

وكيف كان فالمراد بهذا الوجه هو الوجه الثاني المذكور بقوله : «الثاني أن يدلّ دليل شرعي .. إلخ» الذي كان متضمنا للملكية الآنيّة بنحوين.

وحاصل ما أفاده في عدم جريان الملكية الآنامّائيّة في المقام هو : أنّ مجرّد احتمال دلالة الدليل الشرعي غير كاف في الالتزام بها ، بل لا بد من الدليل ـ في مقام الإثبات ـ على صحة إباحة جميع التصرفات حتى ما يتوقف منها على الملك ، والمفروض عدم الظفر بهذا الدليل بعد.

فإن قلت : إنّ الدليل على الصحة هو حديث السلطنة ، لاقتضاء إطلاق سلطنة المالك على أمواله حلية كل تصرف تكليفا ، ونفوذه وضعا. وعليه يجوز له أن يبيح ماله للغير إباحة مطلقة.

وحيث إنّه ثبتت صحة هذه الإباحة جرى استكشاف الملكية الآنيّة للمبيح أو للمباح له ، هذا.

قلت : نعم ، وإن اقتضى إطلاق السلطنة صحة هذه الإباحة المطلقة ، لكن لا مجال للأخذ بهذا الإطلاق ، لوجود المعارض ، وهو القواعد المسلّمة الأخرى ، مثل توقف انتقال الثمن إلى شخص على خروج المثمن عن ملكه ، وتوقف صحة العتق والبيع على الملك. ووجه المعارضة واضح ، فإنّ إطلاق السلطنة يقضي بصحة بيع المباح له ودخول الثمن في ملكه ، وقاعدة «لا بيع إلّا في ملك» تقضي ببطلان بيع غير الملك ، فلا بد من تقييد إطلاق السلطنة بأن يقال : بصحة إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

هذا تقريب رفع اليد عن عموم قاعدة السلطنة ، ولكنه سيأتي بعد أسطر حكومة تلك القواعد على حديث السلطنة ، فانتظر.


إذ (١) المفروض أنّه لم يدلّ دليل بالخصوص على صحة هذه الإباحة (٢). وإثبات (٣) صحته بعموم مثل «الناس مسلّطون على أموالهم» يتوقف على عدم مخالفة مؤدّاها (٤) لقواعد أخر (٥) مثل توقف انتقال الثمن إلى الشخص على كون المثمن مالا له (٦) ، وتوقف صحة العتق على الملك ، وصحة (٧) الوطي على التحليل بصيغة خاصّة (٨)

______________________________________________________

(١) تعليل للفقدان ، وقد عرفت توضيحه.

(٢) أي : إباحة كل تصرّف حتى ما يتوقف على الملك.

(٣) مبتدأ خبره : «يتوقف» ومقصوده قصور قاعدة السلطنة عن إثبات مشروعية الإباحة المطلقة ، لوجود المعارض ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «ان قلت ..

قلت».

(٤) الأولى تذكير الضمير ، لرجوعه الى «عموم مثل» إلّا أن يراد قاعدة السلطنة.

(٥) كالقواعد الثلاث المذكورة في المتن ، فيرفع اليد عن الإطلاق بمقدار منافاته له.

(٦) تحقيقا لمفهوم البيع الذي هو من المعاوضات.

(٧) معطوف على «صحة» أي : وتوقف صحة الوطي على التحليل كما هو المشهور ، ويدلّ عليه بعض النصوص. وهذه قاعدة ثالثة معارضة لإطلاق سلطنة المالك. ووجه المعارضة واضح ، لاقتضاء الإطلاق جواز تحليل الأمة بكل ما يدلّ عليه من لفظ صريح أو كناية أو مجاز أو إشارة أو فعل كإرسالها إلى دار المحلّل له مع قصد التحليل. وقاعدة توقف التحليل على إنشائه بصيغة خاصة تقتضي حرمة الوطي بغير الصيغة الخاصة ، ولا مناص من تقييد إطلاق السلطنة بهذه القاعدة. والمقام كذلك.

(٨) قال في الجواهر : «أما الصيغة فلا خلاف في اعتبارها فيه ، بل الإجماع بقسميه


لا بمجرّد (١) الإذن في مطلق التصرف.

ولأجل ما ذكرنا (٢) صرّح المشهور ـ بل قيل لم يوجد خلاف في ـ «أنّه لو دفع إلى غيره مالا ، وقال : اشتر به لنفسك طعاما ، من غير قصد الإذن في

______________________________________________________

عليه ، فلا يكفي التراضي مطلقا. وصيغته هي : أحللت لك وطئها ، أو : جعلتك في حلّ من وطئها» (١).

(١) يعني : لا يحصل التحليل بالإذن في مطلق التصرف ، كما لا يصح العتق والبيع به. ففي المقام لا يجوز لغير المالك البيع والعتق اعتمادا على إباحة المالك المطلقة.

(٢) من كون البيع تبديل طرفي الإضافة ، ودخول كل من العوضين في كيس من خرج عنه الآخر صرّح المشهور بأنّ المالك لو دفع مالا إلى غيره ، وقال له : «اشتر به لنفسك طعاما» لم يصح هذا الشراء ، لبقاء المال على ملك الدافع مع عدم وصول عوضه ـ وهو الطعام ـ إليه. نعم لو قصد أحد الأمور الثلاثة صحّ وجاز للآخذ التصرف في الطعام :

الأوّل : أن يقصد الدافع الإذن في أن يقترض الآخذ المال لنفسه قبل شراء الطعام ، فيتملّك المال بالقرض ، فيشتري بمال نفسه.

الثاني : أن يقصد الدافع الإذن للآخذ في أن يقترض الطعام بعد أن اشتراه من مال الدافع.

الثالث : أن يأذن الدافع للآخذ في أن يشتري طعاما في ذمة نفسه ، ثم يؤدّي دينه بمال الدافع ، فيتملّك الآخذ الطعام بالشراء لنفسه ، ويصير مديونا للدافع بماله الذي أدّى به دينه.

فبناء على كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة يصحّ دفع المال وشراء الطعام به ، لفرض تحقق المعاوضة الحقيقية حينئذ.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٣٠ ، ص ٢٩٨


اقتراض المال قبل الشراء (١) أو اقتراض الطعام (٢) أو استيفاء الدّين منه بعد الشراء (٣) (*) لم يصح» (٤) كما صرّح به (٥) في مواضع (٦) من القواعد.

______________________________________________________

(١) لأنّه باقتراض المال يصير مالكا له ، فيشتري بمال نفسه ، فتتحقق المعاوضة الحقيقية حينئذ ، لدخول المثمن في كيسه بدل المال الذي اقترضه.

(٢) هذا الطريق الثاني لتصحيح دفع المال وشراء الطعام ، وهو في صورة بقاء المال على ملك الدافع ، ودخول المثمن في ملكه ، غايته أنّه بعد البيع يقترض الطعام عن الدافع ، فيملك الطعام.

(٣) يعني : أنّه يشتري الطعام على ذمته ، ثم يوفي دينه من مال الدافع ، والأولى تبديل الاستيفاء بالأداء ، أو الوفاء ، أو نحوهما كما لا يخفى.

ولعلّ المصنف اعتمد على نقل كلام المحقق الثاني قدس‌سره في استثناء هذه الموارد الثلاثة ، حيث قال : «إلّا أن يعلم بقرينة أنّه يريد قضاء طعامه بالدراهم وإن كانت من غير الجنس. أو يريد قرضه إيّاها ، أو شراءه لمن عليه الطعام واستيفاؤه بعد الشراء. ويكون التعبير بكون الشراء له ـ أي للآخذ ـ آئلا إلى ذلك» (١).

(٤) جواب «لو» في قوله : «لو دفع إلى غيره».

(٥) أي : بعدم الصحة.

(٦) منها : كلامه في هذه المسألة ، حيث قال : «وكذا لو دفع إليه مالا وأمره بشراء طعام له لم يصح الشراء ولا تتعيّن له بالقبض ، أمّا لو قال : اشتر به طعاما واقبضه لي ، ثم أقبضه لنفسك صح الشراء. وفي القبض قولان» (٢).

ومنها : في مسألة الأمر بعتق عبد الغير ، وقد تقدم في (ص ٩٤).

__________________

(*) أورد السيد قدس‌سره عليه بأنّ إشكال الشراء للنفس بمال الغير يجري في أداء

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٤٠٠

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٥٧ (الطبعة الحجرية).


وعلّله (١) في بعضها :

______________________________________________________

(١) يعني : وعلّل العلّامة في بعض مواضع القواعد عدم صحة دفع المال ـ بدون قصد أحد الأمور الثلاثة ـ بأنّه لا يعقل .. إلخ. ولا يخفى أنّ الموجود في عبارة القواعد «البطلان» لا عدم المعقولية ، ولعلّ المصنف ظفر بعدم المعقولية في موضع آخر من

__________________

الدين بمال الغير ، فهما مشتركان إشكالا ودفعا (١).

لكن أجاب المحقق الأصفهاني عنه بالفرق ، حيث إنّ محذور الشراء بمال الغير هو امتناع المعاوضة الحقيقية ، المقتضية لدخول كل من العوضين في ملك الآخر ، فلا يعقل تملك المشتري للطعام مع خروج العوض عن ملك المستدعي والآمر.

بخلاف أداء الدين ، فإنّه ليس فيه معاوضة أصلا بين عينين ، لاستقرار الكلي في ذمة المديون ، ولا مانع من أدائه بملك الغير بإذنه.

نعم لو قيل بوقوع الفرد طرفا للمعاملة بمجرّد انطباق الكلي عليه ، أو أنّ نفس وفاء الدين مبادلة ، فيلزم دخول العوض في ملك شخص وخروج المعوّض عن ملك شخص آخر لكان الأداء بمال الغير كالشراء به في الامتناع.

لكنه ممنوع. أمّا الأوّل فلاستحالة خروج المعاملة من حدّ إلى حدّ آخر ، فحيث كان الثمن كلّيا مستقرا في الذمة امتنع أن ينقلب إلى العين الشخصية التي يحصل بها الأداء.

وأمّا الثاني فلأنّ الوفاء ليس بنفسه معاملة ومبادلة ، بل محض تطبيق الكلّي على فرده.

بل وكذا الأمر في الوفاء بغير الجنس ، فإنّ مرجعه إلى رفع اليد عن الخصوصية والقناعة بأصل المالية ، فتدبّر (٢).

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٨٠

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٤٢


بأنه لا يعقل شراء شي‌ء لنفسه بمال الغير (١)». وهو (٢) كذلك ، فإنّ (٣) مقتضى مفهوم المعاوضة والمبادلة دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه ، وإلّا (٤) لم يكن عوضا وبدلا (*).

ولما ذكرنا (٥) حكم الشيخ وغيره بأنّ الهبة الخالية عن الصيغة تفيد إباحة

______________________________________________________

كلمات العلّامة ، أو نقل بالمعنى.

(١) هذا التعليل يرجع إلى كون الإشكال في صحة التصرف المتوقف على الملك الذي أبيح له من ناحية المالك عقليا ، لأنّ مفهوم المعاوضة بناء على ما في المتن ـ من كون مقتضاه دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه ـ عدم تعقّل تحقق المعاوضة حينئذ.

(٢) يعني : أنّ تعليل البطلان بعدم المعقولية ـ الذي أفاده العلّامة ـ متين.

(٣) هذا وجه متانة التعليل.

(٤) أي : وإن لم يدخل العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه لم تتحقق المعاوضة أصلا.

(٥) يعني : ما ذكره قبل أسطر في نفي مشروعية إباحة جميع التصرفات ، حيث قال : «إذ المفروض أنّه لم يدل دليل شرعي بالخصوص على صحة هذه الإباحة العامّة».

وعلى هذا فمقصود المصنف تأييد إشكاله ـ في إباحة جميع التصرفات ـ بنقل عبارتين ، إحداهما من شيخ الطائفة ، والأخرى من الشهيد ، فالشيخ قدس‌سره أفتى في الهبة المعاطاتية بإباحة التصرف غير المتوقف على الملك ـ كالوطي ـ في العين الموهوبة إذا تجرّدت الهبة عن الصيغة ، وذلك لأنّ جواز الوطي متوقف على الملك ، والمفروض أنّ

__________________

(*) سيأتي في التعليقة أنّ البيع متقوّم بالتعاوض بين المالين ، مع الغضّ عن المالكين ، بل مع عدم مالك في البين ، كبيع الوقف العام بمثله ، فراجع.


التصرف ، لكن لا يجوز وطي الجارية ، مع أنّ الإباحة المتحققة من الواهب يعمّ جميع التصرفات (١).

وعرفت (٢) أيضا : أنّ الشهيد في الحواشي لم يجوّز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي ، ولا وطي الجارية.

مع (٣) أنّ مقصود المتعاطيين الإباحة المطلقة.

ودعوى (٤) «أنّ الملك التقديري

______________________________________________________

الهبة المعاطاتية لا تفيد الملك ، بل إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

(١) لكن لا عبرة بهذه الإباحة المالكية العامة لمطلق التصرفات ، بعد عدم الدليل على مشروعيتها.

(٢) مقتضى السياق أن يكون معطوفا على قوله : «حكم الشيخ» يعني : كما حكم الشيخ بحرمة .. ، فكذا منع الشهيد من إخراج المأخوذ بالمعاطاة ، ولكن لا يستقيم العطف.

وكيف كان فقد حكى المصنف قدس‌سره كلام الشهيد في مواضع ، منها : في الأقوال في المعاطاة ، قال : «مع أن المحكي عن حواشي الشهيد على القواعد : المنع عمّا يتوقف على الملك كإخراجه في خمس أو زكاة وكوطي الجارية» (١).

ومنها : في التنبيه الأوّل من تنبيهات المعاطاة ، وقد تقدم في (ص ٢٨).

(٣) يعني : أنّ المتعاطيين وإن قصدا الإباحة المطلقة الشاملة للتصرف المنوط بالملك ، لكنّها غير ممضاة شرعا بالنسبة إلى ما يتوقف على الملك.

(٤) الغرض من هذه الدّعوى الإشكال على قوله : «وهذا الوجه مفقود فيما نحن فيه ، إذ المفروض أنّه لم يدلّ دليل بالخصوص .. إلخ». وقد عرفت فيما نقلناه من كلام الجواهر أنّه قد استدلّ بهذه الدّعوى على مشروعية الإباحة المطلقة.

ومحصّل الدعوى : أنّ الجميع بين الأدلة ـ المقتضي لتقدير الملك آنا ما ـ

__________________

(١) : لاحظ الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٢٥٦


هنا (١) أيضا (٢) لا يتوقف على دلالة دليل خاص (٣) ، بل يكفي الدلالة بمجرّد الجمع بين عموم : الناس مسلّطون على أموالهم ، الدالّ على جواز هذه الإباحة المطلقة ، وبين أدلّة توقف مثل العتق والبيع على الملك. نظير الجمع بين الأدلة في الملك التقديري» مدفوعة (٤)

______________________________________________________

لا يتوقف على وجود دليل خاص يدلّ على حصول الملكية للمباح له بمجرّد الإباحة ، بل يكفي في الالتزام بالملك التقديري كونه مقتضى الجمع بين عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الذي هو دليل جواز هذه الإباحة المطلقة ، وبين أدلة توقف مثل العتق والبيع على الملك ، نظير الجمع بين الأدلة بالملك التقديري في مثل «أعتق عبدك عنّي».

(١) أي : في مورد البحث وهو الإباحة المطلقة.

(٢) يعني : كما في صورة الأمر بعتق عبد الغير عن نفس الآمر ، فإنّ دلالة الاقتضاء فيها كافية في لزوم الجمع بين الأدلة المقتضي للملك التقديري.

(٣) في قبال ما يقتضيه الجمع بين الأدلة ، فالمراد بالدليل الخاص ما يكون مضمونه تحقق الملك التقديري في بعض الموارد ، كالمقام وهو إباحة أنحاء التصرفات.

(٤) خبر «دعوى» ودفع لها ، ومحصله : عدم صلاحية عموم دليل السلطنة لأن يكون دليلا على جواز الإباحة المزبورة ، كما أشار إليه في الوجه الثاني بقوله : «وإثبات صحته بعموم مثل الناس مسلّطون على أموالهم يتوقف على .. إلخ».

وجه عدم صلاحيّته هو : أنّ دليل السلطنة ليس مشرّعا بحيث يكون دليلا على جواز تصرف شكّ في مشروعيته ، لعدم دليل عليها ، أو مخصّصا لعموم ما دلّ على عدم مشروعيته ، إذ لو كان كذلك لكان المناسب أن يقال : «الناس مسلّطون على أحكامهم» لا «على أموالهم».

وعلى هذا فالقاعدة السلطنة بصدد بيان عدم كون المالك محجورا عن التصرفات المباحة شرعا للمالك في ماله ، فإذا لم يكن مشرّعا فلا يثبت التنافي بينه وبين الأدلة الدالة على توقف البيع ونحوه على الملك حتى يجمع بينهما بالملك


بأنّ عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» إنّما يدلّ على تسلّط الناس على أموالهم لا على أحكامهم ، فمقتضاه إمضاء الشارع لإباحة المالك كل تصرف جائز شرعا (*).

______________________________________________________

التقديري.

وإن شئت فقل : إنّ أدلة توقف البيع ونحوه على الملك حاكمة على عموم السلطنة.

بتقريب : أنّ موضوع السلطنة المجعولة للمالك هو التصرفات المحرز جوازها بأدلتها ، فكأنّه قيل : «كل تصرف في الملك ثبت مشروعيّته كان المالك مسلّطا عليه» هذا من جهة.

ومن جهة أخرى يدل مثل قوله عليه‌السلام : «لا عتق إلّا في ملك» على توقف صحة العتق بإنشائه من المالك مباشرة أو تسبيبا ، وأنّه ليس من التصرفات الجائزة للمالك أن يبيح للغير عتق عبده لنفسه ، فتخرج حينئذ إباحة عتق غير المالك عن موضوع دليل السلطنة.

ولا يبقى مجال للجمع بينه وبين سائر الأدلة بالملك التقديري ، لتوقف الجمع بين الدليلين المتعارضين على تحقق موضوع كلّ واحد منهما ، ومن المعلوم أنّ الدليل الحاكم يتصرّف في موضوع الدليل المحكوم ويبيّن حدوده ، ولا يستقرّ التعارض حتى تترتب أحكامه عليه ، من الجمع والتساقط أو التخيير ، وغير ذلك.

ونظير المقام حكومة دليل عدم جواز عتق عبد الغير على عموم وجوب

__________________

(*) استظهار دلالة قاعدة السلطنة هنا على نفوذ تصرفات المالك في كل ما هو جائز بذاته ينافي استظهار مشرّعيتها للمسبّبات كالبيع والصلح والإجارة ونحوها من المعاملات ، على ما سبق في أدلة مملّكية المعاطاة وأدلة لزومها ، وقد ذكرنا هناك اختلاف كلمات المصنف قدس‌سره في مدلول القاعدة ، فلاحظ.


فالإباحة وإن كانت مطلقة ، إلّا أنّه لا يباح بتلك الإباحة المطلقة إلّا ما هو جائز بذاته (١) في الشريعة ، ومن المعلوم أنّ بيع الإنسان مال غيره لنفسه غير جائز بمقتضى العقل (٢) والنقل (٣) الدال (٤) على لزوم دخول العوض في ملك مالك المعوّض ، فلا يشمله (٥) العموم في «الناس مسلّطون على أموالهم» حتى يثبت التنافي بينه وبين الأدلة الدالة على توقف البيع على الملك

______________________________________________________

الوفاء بالنذر والعهد ، فيما إذا نذر عتق عبد الغير ، فهل يصحّ أن يقال بالملك التقديري آنا ما؟

(١) المراد بالجائز الذاتي هو التصرف الذي ثبت حليّته للمالك مع الغضّ عن دليل السلطنة ، فتقتضي قاعدة السلطنة استقلاله في ذلك التصرف وعدم كونه محجورا عنه. وأمّا مثل عتق المباح له لعبد المبيح ـ بحيث يقع العتق للمباح له لا للمبيح ـ فليس من شؤون سلطنة المالك على ماله حتى تجوز إباحته للغير.

(٢) بناء على كون مفهوم المعاوضة تبادل الإضافتين الملكيتين عقلا.

(٣) بناء على دلالة الدليل الشرعي ـ ولو إمضاء ـ على التبادل بين الإضافتين الملكيّتين.

(٤) صفة للعقل والنقل ، لا للمقتضي ، إذ المقصود أنّ العقل والنقل يقتضيان دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه ، فإذا باع المباح له مال المبيح لنفسه لا للمبيح لم يدخل العوض في كيس مالك المعوّض ، فلم يتحقق مفهوم المعاوضة لا عقلا ولا نقلا. وعليه فالأولى أن يقال : «الدالين» لئلا يتوهم كونه وصفا ل «مقتضى».

(٥) هذه نتيجة قوله : «غير جائز» يعني : إذا كان موضوع قاعدة السلطنة خصوص التصرفات المشروعة ـ بأدلتها ـ كانت إباحة المالك لغيره البيع أو العتق أجنبية عن مدلول القاعدة.


فيجمع (١) بينهما بالتزام الملك التقديري آنا ما.

وبالجملة (٢) : دليل عدم جواز بيع ملك الغير أو عتقه لنفسه حاكم (٣) على عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الدال على إمضاء الإباحة المطلقة من المالك على إطلاقها (٤) ، نظير (٥) حكومة دليل عدم جواز عتق مال الغير على عموم وجوب الوفاء بالنذر والعهد إذا نذر عتق عبد غيره له أو لنفسه ، فلا يتوهم الجمع بينهما بالملك القهري للناذر.

______________________________________________________

(١) بالنصب ، يعني : لا تعارض بين دليل السلطنة وبين «لا عتق إلّا في ملك» حتى يجمع بينهما بالملك التقديري الآنامّائي ، كما جمعوا به في مثل قول الآمر : «أعتق عبدك عنّي». ووجه عدم التعارض ما عرفت من حكومة «لا عتق إلّا في ملك» عليه ، كحكومة «لا شك لكثير الشك» على أدلة أحكام الشكوك.

(٢) هذه خلاصة ما أفاده في ردّ الجمع بالملك التقديري بقوله : «مدفوعة بأن عموم الناس مسلّطون على أموالهم ..» إلى هنا.

(٣) وجه الحكومة : أنّه رافع لموضوع دليل السلطنة وهو الجواز ، لأنّه يدلّ على بطلان بيع مال الغير لنفسه أو عتقه كذلك.

(٤) متعلق ب «إمضاء» والضمير راجع إلى الإباحة.

(٥) يعني : أنّ عموم قاعدة السلطنة يكون نظير عموم قوله عليه‌السلام : «ف بنذرك» إذا نذر شخص عتق عبد غيره ، سواء قصد عتقه عن مالكه أو عن نفسه ، فمثله لا يجب الوفاء به ، لأنّ الواجب هو الوفاء بما إذا نذر عتق عبد نفسه لا عبد غيره.

وعلى هذا فدليل توقف صحة العتق على إعتاق مالكه له رافع لموضوع دليل وجوب الوفاء بالنذر. ولم يلتزم فقيه بدخول العبد المنذور عتقه في ملك الناذر آنا ما حتى ينعتق في ملكه ، أداء لنذره. لما عرفت من أنّ الجمع بين الدليلين منوط بوحدتهما رتبة ، لا حكومة أحدهما على الآخر.

والمقام كذلك ، لحكومة دليل إناطة البيع والعتق بالملك على دليل السلطنة.


نعم (١) لو كان هناك تعارض وتزاحم (٢) من الطرفين بحيث أمكن تخصيص كلّ منهما لأجل الآخر أمكن الجمع بينهما بالقول بحصول الملك القهري (٣) آنا ما ،

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على ما أفاده قدس‌سره من امتناع الجمع ـ بالملك الآنامّائي ـ بين عموم دليل السلطنة ودليل توقف البيع على الملك ، حيث قال قبل أسطر : «فلا يشمله العموم .. حتى يثبت التنافي .. فيجمع بينهما بالتزام الملك آنا ما».

وحاصل الاستدراك : أنّ الدليل على مشروعية إباحة جميع التصرفات حتى المتوقّفة على الملك ليس منحصرا في قاعدة السلطنة حتى يمتنع الالتزام بالملك الآنامّائي من جهة وجود الدليل الحاكم عليها ، بل هناك دليل آخر اعتمد عليه صاحب الجواهر قدس‌سره ـ على ما تقدم من كلامه في التنبيه الأوّل ـ وهو أخبار إناطة حلية التصرف في مال الغير بطيب نفس مالكه ، وهي غير محكومة بدليل توقف العتق على الملك ، بل هما متعارضان ، لاتحادهما رتبة ، فتلك الأخبار تدلّ على حليّة كل تصرف في مال الغير عند رضاه وطيب نفسه ، سواء أكان ذلك التصرف مما يكفي في حليّته إذن المالك ، أم كان متوقفا على الملك. ودليل إناطة صحة البيع والعتق بالملك يقتضي وقوعهما من المالك لا من المباح له ، فعتق المباح له مجمع دليلين يقتضي أحدهما صحته ، والآخر بطلانه.

ولمّا كان الجمع بين الدليلين ـ مهما أمكن ـ أول من الطرح أمكن الالتزام بالملك الآنامّائي ، بأن يدخل العبد في ملك المباح له آنا قبل عتقه حتى يقع في ملكه. وبناء على هذا لا مجال لإنكار الإباحة المطلقة ، بل ينبغي القول بصحتها بالالتزام بالملك القهري آنا ما.

(٢) المراد بالتزاحم هنا التنافي في مرحلة الجعل ، وهو التعارض المصطلح ، ولا يراد به التمانع في مرحلة الامتثال المعبّر عنه بالتزاحم المأموري.

(٣) أي : بغير أسبابه المعهودة من البيع والهبة وغيرهما. ثم إنّ المراد بالملك به


فتأمّل (١).

وأمّا (٢) حصول الملك

______________________________________________________

هو الملك التحقيقي ، لا الفرضي التقديري ، لأنّ المعتبر في البيع عندهم هو الملك التحقيقي.

(١) لعله إشارة إلى : أنّ الجمع بالملك التقديري تبرّعي لا شاهد عليه ، فلا بد من الرجوع إلى مقتضى قواعد التعارض وهو التوقف والرجوع إلى القواعد ، أو الترجيح مع المرجح والتخيير بدونه. لا الالتزام بالملك آنا ما. هذا إذا كان التعارض بالتباين.

وإن كان بالعموم والخصوص تعيّن التخصيص ، فتصير أخبار طيب النفس كقاعدة السلطنة في قصورهما عن إثبات جواز الإباحة المطلقة ، لكن الفرق بينهما في أنّ القاعدة محكومة ، والأخبار مخصّصة ، والنتيجة واحدة.

(٢) هذا وجه ثالث لتصحيح الإباحة المطلقة بالالتزام بالملك التقديري بعد أن تعذّر الجمع بنحو الملك الآني. وقد سبق الإشارة إليه أيضا في قوله : «ودعوى : أنّ الملك التقديري هنا لا يتوقف على دلالة دليل خاص» وناقش فيه المصنف بأنّه لا موضوع في المقام للجمع بين الأدلة بالملك الفرضي.

وحاصل ما أفاده هنا هو : تصحيح الإباحة المطلقة بوجود نظائر لها في الشريعة المقدسة ممّا يمكن أن يستأنس بها للمقام.

منها : ما ذكروه في تصرف الواهب ببيع العين الموهوبة من دون أن يفسخ العقد قولا ، ولا أن يستردّ العين من المتهب :

ومنها : تصرّفه في العبد الموهوب بعتقه.

ومنها : تصرّف ذي الخيار ـ فيما انتقل عنه بعقد خياري ـ بمثل البيع والعتق والوقف.

ففي هذه الفروع جمعوا بين الأدلّة بالملك التقديري حتى يقع تصرّف الواهب وذي الخيار في ملك نفسه. وليكن المقام من هذا القبيل ، فالجمع بين دليل حليّة إباحة


في الآن المتعقّب (١) بالبيع والعتق فيما إذا باع الواهب عبده الموهوب أو أعتقه (٢) ،

______________________________________________________

كل تصرّف وبين دليل توقف البيع والعتق على الملك يقتضي الالتزام بصحة هذه الإباحة ، وصيرورة المال ملكا تقديريا للمباح له حتى يقع بيعه وعتقه في ملكه. ومع إمكان الجمع بهذا النحو بين الأدلّة. لا يبقى مجال لتخصيص دليل الإباحة المطلقة بما دلّ على إناطة مثل البيع بالملك ، بل يقال ببقاء المال على ملك المبيح ، ويقدّر دخوله في ملك المباح له بإرادة بيعه ، هذا.

وأجاب المصنف عنه بمنع قياس المقام برجوع الواهب وذي الخيار ، للفرق بين الملك التقديري الفرضي الذي التزموا به في مالكيّة الميّت لدية الجناية وبين ملك الواهب وذي الخيار ، فإنّه ملك حقيقي آنيّ في قبال الملك المستقر ، لأنّ تصرّفهما في العين ببيع ونحوه كاشف عن عودها إلى ملكيهما حقيقة ولو آنا ما. وهذا بخلاف مالكية الميت للدية ، فإنّها مجرّد فرض ، لامتناع تملكه حتى في آن واحد ، ولذا يفرض كونه مالكا للدية مقدّمة لصرفها ، ويقولون إنّها بحكم مال الميت.

والحاصل : أنّ كلّا من الملك الحقيقي والفرضي منوط بدليل شرعي ، ولو كان هو الجمع بين الأدلّة ، والمفروض كونه مفقودا في إباحة جميع التصرفات.

ثم إنّ الفرق بين الوجوه الثلاثة المذكورة إلى هنا لتصحيح الإباحة المطلقة هو : أنّ الملكية في الوجه الأوّل مجعولة من المتعاقدين ابتداء. وفي الوجه الثاني مجعولة ابتداء من الشارع ، لكونها مقتضى الجمع بين الدليلين. وفي الثالث مجعولة من الشارع أيضا ، نتيجة للإيقاع ، حيث إنّ فسخ الهبة أو البيع ورجوع الملك إلى مالكه يكون بالإيقاع لا بجعل الواهب أو ذي الخيار ، لكن الملك في الوجه الأوّل يكون مضمون العقد.

(١) بصيغة المفعول ، أي الآن الذي يتعقبه البيع والعتق.

(٢) قد سبق توضيح تملك الواهب بفسخه الفعلي في ما يتعلق باستبعادات


فليس (١) ملكا تقديريا (٢) نظير (٣) الملك التقديري في الدية (٤) بالنسبة إلى الميت ، أو (٥) شراء العبد المعتق عليه ، بل (٦)

______________________________________________________

كاشف الغطاء قدس‌سره (١).

(١) جواب «وأمّا» وهذا ردّ الدليل الثالث ، وقد أوضحناه بقولنا : «وأجاب المصنف عنه بمنع قياس المقام .. إلخ».

(٢) أي : فرضيّا ، بل هو ملك حقيقي حاصل في وعاء الزمان ولو في آن واحد.

(٣) هذا مثال للمنفي وهو الملك التقديري ، يعني أنّ الملك في باب الدية فرضيّ لا حقيقي.

(٤) كون الملك فيها تقديريّا لأجل عدم معقولية إضافة الملكية ـ التي هي إضافة التابعية والمتبوعية ـ بالنسبة إلى الميت ، لأنّه جماد كالمال ، ولا معنى لتابعية أحد الجمادين للآخر ، بل لا بدّ من جعل الدية بمنزلة مال الميت وبحكمه ، لا أنّه ملك الميت حقيقة. وهذا التقدير ناظر إلى حال الحياة ليترتّب عليه آثار ملك الميت من إنفاذ وصاياه وإيفاء ديونه من الدية.

وفرق بين دية القتل وبين دية الجناية على أعضائه بعد الموت ، فإنّها تصرف في الوجوه البريّة ، إجماعا كما ادّعاه غير واحد ، ولا تندرج في «ما تركه الميت» حتى تورث. بخلاف دية القتل ، فإنّها تدخل في «ما تركه الميت» وتنتقل إلى الوارث كسائر تركته.

فالمصرف في الديتين مختلف ، لكن ملكها للميت فرضا مشترك بين دية القتل ودية الجناية على الأعضاء بعد الموت.

(٥) معطوف على «الدية» يعني : أنّ للملك التقديري موردا ثانيا في الفقه ، وهو شراء العبد المعتق على المشتري.

(٦) هذا متعلق بقوله : «فليس ملكا تقديريا» ومقصوده إبطال قياس المقام ـ

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٣٥٢


هو ملك حقيقي (١) حاصل قبل البيع ، من جهة كشف البيع عن الرجوع قبله (٢) في الآن المتصل بناء (٣) على الإكتفاء بمثل هذا في الرجوع ، وليس (٤) كذلك فيما نحن فيه.

وبالجملة (٥) : فما نحن فيه لا ينطبق على التمليك الضمني المذكور

______________________________________________________

وهو الملك التقديري لو قيل به ـ بمالكية الواهب وذي الخيار ، فإنّها حقيقية آنية جمعا بين الأدلة.

(١) لكنّه آنيّ ، وهو غير ضائر بحقيقيّته المتقومة بالحصول في وعاء الزمان.

(٢) أي : قبل البيع.

(٣) وأمّا بناء على عدم كاشفية البيع عن الرجوع قبله ، وقلنا بتوقف الرجوع على إنشائه باللفظ أو باسترداد العين كان بيع الواهب باطلا ، لعدم وجود كاشف عن عود المال إلى ملكه.

(٤) يعني : أنّ ما تقدم من تصحيح بيع الواهب بملكيته الحقيقية الآنيّة ـ وكذا في مالكية الميت تقديرا وفرضا لديته ـ إنّما هو من جهة وجود الكاشف عن هذا النحو من الملك ، وهو الجمع بين الأدلة. ولا موضوع له في المقام حسب الفرض ، لما عرفت من أنّ دليل الإباحة المطلقة إمّا محكوم وإمّا مخصّص.

(٥) هذا تلخيص ما تقدم من الوجوه الثلاثة التي أفادها لدفع الإشكال الأوّل المشترك بين القسم الثالث والرابع ، وهو الإشكال في صحة إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على صدورها من المالك مباشرة أو تسبيبا.

وغرضه قدس‌سره عدم انطباق شي‌ء من تلك الوجوه الثلاثة على ما نحن فيه.

أمّا الوجه الأوّل ـ وهو التمليك الضمني الموجود في مثال : أعتق عبدك عنّي ـ ففقدانه في المقام وهو الإباحة المطلقة واضح ، لعدم القصد المقوّم للتمليك الضمني فيه ولو قصدا إجماليا. وأمّا الوجهان الثاني والثالث فسيأتي بيان أجنبيتهما عن المقام.


أوّلا (١) في «أعتق عبدك عنّي» لتوقفه (٢) على القصد (٣).

ولا (٤) على الملك المذكور ثانيا (٥) في شراء من ينعتق عليه (٦) ، لتوقفه (٧) على التنافي بين دليل التسلّط ودليل توقف العتق على الملك ،

______________________________________________________

(١) وهو ما تقدّم بقوله : «أحدهما : أن يقصد المبيح بقوله : أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك إنشاء توكيل له في بيع ماله .. كما صرّح في التذكرة بأن قول الرجل لمالك العبد : أعتق عبدك عنّي بكذا استدعاء لتمليكه .. إلخ».

(٢) تعليل لقوله : «لا ينطبق» يعني : أنّ المبيح ليس قاصدا للتمليك الضمني حتى يلتزم به ، بخلاف قول الآمر : «أعتق عبدك عنّي» فإنّه قاصد للتمليك الضمني ، إذ بعد العلم بتوقف العتق على الملك لا بدّ من قصد التوكيل وتملّك العبد حتى ينعتق في ملكه.

(٣) ولو إجمالا وارتكازا لا تفصيلا.

(٤) معطوف على «التمليك الضمني».

(٥) وهو ما تقدّم بقوله : «الثاني : أن يدلّ دليل شرعي على حصول الملكية للمباح له بمجرّد الإباحة .. فيكون ذلك شبه دخول العمودين في ملك الشخص آنا ما .. للجمع بين الأدلة»

(٦) هذا ردّ الوجه الثاني ، وهو تقدير الملك في شراء من ينعتق عليه ، ووجه فقدانه في المقام هو عدم الدليل عليه هنا ـ أي في الإباحة ـ حتى يقع التنافي بينه وبين دليل توقف العتق ونحوه على الملك ، فنلتجئ بالالتزام بالملك الآنيّ ، لما مرّ من أن دليل السلطنة لا يصلح لأن يكون مستندا للإباحة إلّا إذا كان مشرّعا ، والمفروض عدم مشرّعيّته ، فلا وجه للالتزام بالملك آنا ما في الإباحة المطلقة ، لتوقفها على دلالة دليل على مشروعيّتها حتّى نلتزم به ، كما نلتزم بالملك الآنيّ في شراء من ينعتق عليه ، جمعا بين دليل صحّة شراء من ينعتق عليه وبين دليل عدم ملكيته ، فإنّ التنافي بينهما أوجب الجمع بينهما بالملك الآني.

(٧) تعليل لقوله : «ولا على الملك المذكور ثانيا» يعني : أنّ الجمع بين الأدلة


وعدم (١) حكومة الثاني على الأوّل.

ولا (٢) على التمليك الضمني المذكور ثالثا (٣) في بيع الواهب وذي الخيار ، لعدم (٤) تحقق سبب الملك هنا (٥) سابقا (٦)

______________________________________________________

بالملك الآنيّ يتوقف على أمرين :

أحدهما : التنافي بين الدليلين بعد تمامية المقتضي للحجية في كلّ منهما.

الثاني : عدم حكومة أحدهما على الآخر ، فلو لم يكن تناف أصلا ، أو كان التنافي البدوي وارتفع بحكومة أحدهما على الآخر لم يبق دليل على الملكية الآنيّة.

(١) معطوف على «التنافي» يعني : لتوقف التنافي على عدم حكومة الثاني على الأوّل.

(٢) معطوف على «التمليك الضمني» يعني : ولا ينطبق ما نحن فيه على التمليك الضمني المذكور ثالثا. وهذا إشارة إلى فقدان الوجه الثالث ، وهو الالتزام بالملك الآنيّ في بيع الواهب للعين الموهوبة قبل صيرورة الهبة لازمة ، وفي بيع ذي الخيار.

وجه فقدانه في المقام هو وجود سبب الملك أعني إرادته قبل تحقق البيع في بيع الواهب أو عتقه ، وكذا في بيع ذي الخيار. بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ إرادة الملك فيه مفقودة ، إذ المفروض أنّ المبيح المالك لم يقصد التمليك ، والمباح له لم يقصد التملّك عند البيع ، هذا.

(٣) وهو ما تقدم بقوله : «وأمّا حصول الملك في الآن المتعقب بالبيع والعتق .. إلخ».

(٤) تعليل لقوله : «ولا على التمليك الضمني المذكور ثالثا ..» وقد تقدم توضيحه.

(٥) يعني : في الإباحة المطلقة الشاملة لجميع التصرفات حتى المتوقّفة على الملك.

(٦) أي : السابق على البيع ولو بآن ، وهو ظرف لقوله : «تحقق سبب الملك».


بحيث (١) يكشف البيع عنه (٢) ، فلم يبق (٣) إلّا الحكم ببطلان الإذن في بيع ماله لغيره ، سواء صرّح (٤) بذلك ، كما لو قال : «بع مالي لنفسك ، أو : اشتر بمالي لنفسك» أم (٥) أدخله (٦) في عموم قوله : «أبحت لك كل تصرف». فإذا باع المباح له على هذا الوجه (٧) وقع البيع للمالك ، إمّا لازما بناء على أنّ قصد البائع البيع لنفسه غير مؤثّر (٨) ، أو موقوفا (٩) على الإجازة ، بناء على أنّ المالك لم ينو تملّك

______________________________________________________

(١) هذا بيان لتحقق الملكية الآنيّة السابقة على البيع والعتق ونحوهما ممّا يتوقف على الملك ، فهذه الملكية متحققة في رجوع الواهب وذي الخيار ، وغير متحققة في إباحة أنحاء التصرفات.

(٢) أي : عن الملك الآنيّ السابق على البيع.

(٣) هذه نتيجة أجنبية المقام عن تلك الوجوه الثلاثة ، حيث إنّه بعد فقد دليل الصحة يتعيّن الحكم ببطلان الإباحة المطلقة.

(٤) أي : صرّح المبيح بالإذن للمباح له في بيع المال لنفسه لا للمبيح.

(٥) عدل لقوله : «صرّح» أي : لم يصرّح المبيح بالإذن في خصوص البيع ، ولكنه أباح كل تصرف ، ومنه البيع.

(٦) أي : أدخل الإذن ـ في بيع ماله لغيره ـ في عموم قوله : «أبحت لك .. إلخ».

(٧) أي : على وجه الإذن في التصرف في المال ، إمّا بالتنصيص على البيع ، وإمّا بالإذن العام الشامل له ولغيره.

(٨) لأنّ مقتضى التعاوض بين المالين ـ بناء على ما قيل ـ هو دخول كل مال في كيس من خرج عنه الآخر. ووجه لزومه هو كون المباح له مأذونا في البيع كالوكيل ، فينفذ كلّ تصرّف منه في المال المباح له.

(٩) معطوف على «لازما» والوجه في توقف البيع على الإجارة هو : أنّ المبيح لم يقصد تملّك الثمن ، لزعمه وقوع البيع للمباح له ، ودخول الثمن في ملكه. ولمّا لم تثبت مشروعية هذه الإباحة كان بيع المباح له فضوليا ، لكونه تصرّفا في مال المبيح بغير


الثمن (١) ، هذا.

ولكنّ (٢) الذي يظهر من جماعة منهم قطب الدّين والشهيد رحمهما‌الله في باب

______________________________________________________

إذن صحيح ، فيتوقف وقوع البيع للمبيح وتملّكه للثمن على إجازته.

(١) إذ لو نوى المالك تملّك الثمن ـ حين إباحة ماله للغير ـ لم تتوقف صحة بيع المباح له على إجازة المبيح ، لوقوع البيع للمالك من جهة كون الإذن توكيلا للمباح له ، ومن المعلوم نفوذ تصرف الوكيل كالأصيل.

وقد تحصّل من كلمات المصنّف إلى هنا : أنّ إباحة جميع التصرّفات غير صحيحة ، لعدم الدليل على مشروعيّتها.

(٢) غرضه النقض على ما ذكره من عدم جواز التصرفات المتوقفة على الملك بمجرّد إباحة التصرف. توضيحه : أنّ جماعة بنوا على أنّ الغاصب إذا باع العين المغصوبة بثمن مع علم المشتري بغصبية المبيع جاز للغاصب أن يشتري بذلك الثمن متاعا ويملك المثمن. وليس للمشتري إجازة شراء الغاصب ، لأنّه بدفع الثمن إلى الغاصب البائع للمغصوب ـ مع علمه بغصبية المبيع ـ أباح للغاصب التصرف في الثمن بحيث يصير مالكا لبدله.

وكذا الحال فيما حكي عن المختلف من جواز وطي الجارية التي اشتراها بعين مغصوبة مع علم بائعها بغصبية الثمن. فإنّ هذين الموردين منافيان لما ذكرناه من عدم جواز التصرف المتوقف على الملك بمجرّد الإباحة.

وهكذا الكلام فيما نحن فيه ، فيقال : إنّ المباح له وإن لم يصر مالكا ، إلّا أنّه إذا اشترى بمال المبيح شيئا ملك المبيع ، أو إذا باعه ملك الثمن ، فهو كالغصب الذي يبيع العين المغصوبة ، فإنّه يصح تصرفه في الثمن بشراء شي‌ء به ، ويملك المثمن مع عدم كونه مالكا للثمن.

وعليه لا وجه لما ذكره الماتن بقوله : «أو موقوفا على الإجازة» إذ ليس للمالك المسلّط إجازة تصرّف بيع المباح له ووقفه وعتقه.


بيع الغاصب أنّ (١) تسليط المشتري للبائع الغاصب على الثمن والإذن (٢) في إتلافه يوجب جواز شراء الغاصب (٣) به شيئا ، وأنّه (٤) يملك المثمن بدفعه إليه ، فليس للمالك (٥) إجازة هذا الشراء (٦).

ويظهر (٧) أيضا من محكي المختلف ، حيث استظهر من كلامه ـ فيما

______________________________________________________

(١) خبر «ولكن» والعبارة منقولة بالمعنى ، قال السيد الفقيه العاملي قدس‌سره : «والمنقول عن قطب الدين في بيان إشكال الكتاب ـ أي الإشكال المذكور في القواعد في بيع الغاصب مع علم المشتري بالغصب ـ أنّه في التتبّع ، ووجّهه بأنّ المشتري مع العلم يكون مسلّطا للبائع الغاصب على الثمن ، ولهذا لو تلف لم يكن له الرجوع عليه. ولو بقي ففيه وجهان ، فلا ينفذ فيه إجازة الغير بعد تلفه بفعل المسلّط بدفعه ثمنا عن مبيع اشتراه ..» ثم حكى كلام الشهيد في حواشي القواعد ، فراجع (١).

(٢) معطوف على تسليط ، يعني : كالإذن والإباحة فيما نحن فيه.

(٣) يعني : شراء الغاصب لنفسه بالثمن الذي أخذه من المشتري.

(٤) معطوف على «جواز» يعني : أنّ تسليط المشتري للبائع الغاصب على الثمن ـ مع علم المشتري بغصبية المبيع ـ يوجب جواز شراء الغاصب بالثمن وصيرورته مالكا للمثمن بسبب دفع المشتري ـ العالم بالغصبية ـ الثمن الى الغاصب. يعني : أنّ ملكية المثمن له مسبّبه عن ملكية الثمن له ، الناشئة من دفع المشتري له إلى الغاصب.

(٥) أي : ليس لمالك الثمن ـ وهو الذي اشترى من الغاصب ـ إجازة شراء الغاصب ، إذ المفروض صيرورة الثمن ملكا للبائع الغاصب وأجنبيا عن المشتري ، فليس له الإجازة.

(٦) هذا ما نقله المصنف عن قطب الدين والشهيد قدس‌سرهما.

(٧) معطوف على «يظهر من جماعة» أي : ويظهر أن تسليط .. إلخ من العلّامة كما ظهر من قطب الدين والشهيد قدس‌سرهم. ولعلّ الوجه في إفراد كلام العلامة قدس‌سره بالذّكر

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٩٢


لو اشترى جارية بعين مغصوبة ـ

______________________________________________________

وعدم ضمّه إلى كلام قطب الدين الرازي والشهيد قدس‌سرهما هو عدم صراحة عبارة المختلف في أنّ بائع الجارية يسلّط المشتري ـ الغاصب للثمن ـ على مملوكته ، وإنّما يستبيح المشتري التصرف فيها.

والأولى ملاحظة نصّ كلامه ، فنقول : نقل في باب الغرر والمجازفة حكمين متغايرين عن شيخ الطائفة ، أحدهما في النهاية ، والآخر في المسائل الحائرية ، فقال :

«قال الشيخ في النهاية : من غصب غيره مالا واشترى به جارية كان الفرج له حلالا ، وعليه وزر المال ، ولا يجوز أن يحج به» ثم حكى جواب الشيخ في المسائل الحائرية الذي نقله الحلّي في السرائر بما لفظه : «فأجاب الشيخ : إن كان الشراء وقع بعين المال كان باطلا ولم يصح جميع ذلك. وإن كان الشراء قد وقع بمال في ذمته كان الشراء صحيحا ، وقبضه ذلك المال فاسدا ، وحلّ له وطي الجارية وغلّة الأرض والشجر ، لأنّ ثمن الأصل في ذمته» واستصوب ابن إدريس هذا الجواب.

ثم قال العلامة : «أقول : كلام الشيخ في النهاية يحتمل أمرين. أحدهما : ما ذكره من أنّ الشراء بالمال أعمّ من أن يكون بالعين أو في الذمّة .. والثاني : أن يكون البائع عالما بأنّ المال غصب ، فإنّ المشتري يستبيح وطي الجارية. وعليه وزر المال وإن كان الشراء وقع بالعين» (١).

وهذه الجملة الأخيرة هي محطّ نظر المصنف قدس‌سره ، إذ ربما يستفاد منها أنّ بائع الأمة سلّط المشتري على التصرف في المبيع ـ وهي الأمة ـ مع علمه بعدم تحقق المعاوضة من جهة كون الثمن مغصوبا وغير مملوك للمشتري ، ومن المعلوم توقف جواز وطي الأمة على الملك ، أو التحليل المنشأ بصيغة خاصة.

وقد اتّضح من نقل عبارة المختلف أمران :

الأوّل : أنّ أصل الفتوى بحلية التصرف في الأمة من الشيخ ، لا من العلامة ،

__________________

(١) : مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٥٨ و٢٥٩


أنّ (١) له وطي الجارية (٢) مع علم البائع بغصبية الثمن ، فراجع.

ومقتضى (٣) ذلك أن يكون تسليط الشخص لغيره على ماله ـ وإن لم يكن على وجه الملكية ـ يوجب (٤) جواز التصرفات المتوقفة على الملك ، فتأمّل (٥) وسيأتي توضيحه في مسألة الفضولي (٦).

______________________________________________________

وإنّما كان غرضه توجيهه بنحو لا يخالف قواعد الفقه المسلّمة.

الثاني : أنّ المسألة المنقولة عن قطب الدين والشهيد والمسألة المنقولة عن المختلف تشتركان في كون أحد العوضين مغصوبا ، وتفترقان في أنّ البائع هو الغاصب في كلام قطب الدين ، فيكون التسليط على الثمن من قبل المشتري ، والمشتري هو الغاصب في كلام العلامة ، فيكون التسليط على المبيع ـ وهي الأمة ـ من طرف البائع.

(١) نائب فاعل «استظهر».

(٢) يعني : مع أنّهم جعلوا وطي الجارية من التصرفات المتوقفة على الملك.

(٣) أي : ومقتضى حكمهم في هذين الموردين : أنّ إذن المالك وتسليطه كاف في جواز التصرف المنوط بالملك من دون أن يقع بيع أصلا حتى تتوقف صحّته على إجازة المالك.

(٤) خبر «أن يكون» والأولى تبديله ب «موجبا للجواز».

(٥) لعلّه إشارة إلى : عدم ظهور الكلمات المذكورة في كون التسليط ـ على وجه الإباحة ـ موجبا لجواز التصرف المتوقف على الملك ، لأنّ التسليط المزبور يوجب الملكية لا مجرّد الإباحة ، فكلمات الجماعة أجنبية عن المقام.

(٦) سيأتي هناك بقوله : «انّ المشتري مع العلم يكون مسلّطا للبائع الغاصب ..». هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل المشترك بين القسم الثالث والرابع ، وقد عرفت عدم اندفاع الإشكال بشي‌ء من الوجوه الثلاثة ، ونتيجة ذلك عدم صحة إباحة جميع التصرفات.


وأمّا (١) الكلام في صحة الإباحة بالعوض ـ سواء صحّحنا إباحة التصرفات

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «أما إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقفة على الملك» وهذا شروع في تحقيق الإشكال الثاني المتقدم بقوله : «وثانيا : الإشكال في صحة الإباحة بالعوض الراجعة إلى عقد مركّب من إباحة وتمليك» وكان هذا الإشكال مختصا بالقسم الثالث ـ من الأقسام الأربعة المذكورة في التنبيه الرابع ـ وهو كون الإباحة في مقابل التمليك. كما أنّ الإشكال الأوّل كان مشتركا بين القسمين الثالث والرابع.

وغرضه قدس‌سره إقامة الدليل على صحة الإباحة بعوض التمليك ـ ولو بالنسبة إلى غير التصرفات المنوطة بالملك ـ وأمّا الإباحة بعوض الإباحة فسيأتي بيان حكمها في آخر التنبيه إن شاء الله تعالى ، فالمقصود فعلا تحقيق العقد المركّب من إباحة وتمليك.

وقد بيّن المصنف أوّلا الإشكال في صحة الإباحة المعوّضة ، ثم صحّحها ثانيا بإدراجها في الصلح أو بكونها معاوضة مستقلة.

أمّا ما أفاده في مقام الإشكال فحاصله : أنّ هذا النحو من الإباحة لا يندرج في المعاوضات المالية ليدخل كل من العوضين في ملك ، الآخر ، لكون العوضين كليهما ملكا للمبيح. أمّا ما أباحه فمعلوم ، وأمّا عوضه ـ الذي دفعه المباح له إليه ـ فالمفروض أنّه عوض الإباحة ، فصار ملكا للمبيح.

ولا دليل على مشروعيّة هذه الإباحة المعوضة ، لأنّ ما يمكن أن يستدلّ به على الصحة هو آية الوفاء بالعقود والتجارة عن تراض وحلّ البيع. والكل غير جار.

أمّا الأوّل فلاختصاص «العقود» التي يجب الوفاء بها بالعهود المتعارفة بين الناس ، وهي محصورة في أمور معيّنة معهودة كالبيع والصلح والإجارة والهبة ونحوها من عناوين المعاملات.

وأما الثاني فلأنّ «التجارة» هي التكسب بالمال بقصد الاسترباح بالبيع والشراء ، ولا أقلّ من الشك في صدقها على الإباحة ، إذ ليس فيها مبادلة الأموال ،


المتوقفة على الملك أم خصّصنا الإباحة بغيرها (١) ـ فمحصّله : أنّ هذا النحو من الإباحة المعوّضة ليست معاوضة مالية (٢) ليدخل كلّ (٣) من العوضين في ملك مالك العوض الآخر ، بل كلاهما ملك (٤) للمبيح ، إلّا أنّ المباح له يستحق التصرف (٥) ، فيشكل الأمر فيه (٦)

______________________________________________________

ولم تنقطع إضافة الملكية بين المبيح والمال.

وأمّا الثالث فلوضوح تقوم «البيع» بالمبادلة بين المالين وتمليك كل منهما الآخر ، ولا مبادلة ولا تمليك حسب الفرض.

وعلى هذا فالإباحة بالعوض أجنبية عن المعاوضات المعهودة التي يكون العوضان فيها ملكا للمتعاملين.

هذا كله في توضيح ما أفاده المصنف قدس‌سره أوّلا في تقريب الإشكال. وأما ما أفاده ثانيا في التفصّي عنه ، فسيأتي إن شاء الله تعالى.

(١) أي : بغير التصرفات المتوقفة على الملك.

(٢) لاختصاصها بالأموال ، ومن المعلوم عدم كون الإباحة ـ بما هي فعل من الأفعال ـ من الأموال ، بل المال موضوعها.

(٣) هذا بيان للمنفي وهو المعاوضة ، يعني : أنّ شأن المعاوضة التبادل في الملكية.

(٤) أمّا المال المباح فلأنّ المفروض بقاؤه على ملك المبيح ، لعدم خروجه عن ملكه بمجرّد الإباحة. وأمّا العوض فلأنّ المقصود من عوضيّته هو كونه ملكا للمبيح. فالغرض من العوض هنا الجزاء ، لا قيامه مقام المعوّض في إضافة الملكية.

وإن شئت فقل : إنّ العوضين هنا مملوكان لشخص واحد ، وهذا خلاف مقتضى المعاوضة ، وهو كون العوضين مملوكين لشخصين.

(٥) يعني : لا يستحق نفس الرقبة ، بل يستحق التصرف تكليفا لا وضعا ، ولذا لا يسقط بالإسقاط.

(٦) أي : في هذا القسم الثالث ، وهو الإباحة بالعوض.


من جهة (١) خروجه عن المعاوضات المعهودة شرعا وعرفا (٢) ، مع التأمّل (٣) في صدق التجارة عليها فضلا عن البيع.

إلّا (٤) أن يكون نوعا من الصلح ،

______________________________________________________

(١) هذا وجه أصالة الفساد التي ذكرها بقوله : «فيشكل الأمر فيه».

(٢) فتكون هذه الإباحة المعوّضة بالتمليك أجنبية عن العقود التي يجب الوفاء بها.

(٣) يعني : أنّه يكفي في عدم شمول آية «التجارة عن تراض» لهذه الإباحة الشّكّ في صدق «التجارة» على مجرّد الإباحة ، ولا يعتبر إحراز عدم كونها تجارة.

وعلى هذا فلو لم يعوّل على تفسير اللّغوي للتجارة «بأنّها الإعطاء والأخذ بقصد الاسترباح» كفى الشك في صدقها على الإباحة في عدم جواز التمسك بالآية المباركة لإثبات مشروعيّتها.

(٤) هذا استثناء من قوله : «فليست معاوضة ماليّة ، فيشكل الأمر فيه» وهو شروع في التفصّي عن الإشكال ، وتصحيح الإباحة المعوّضة بأحد وجهين :

الأوّل : دعوى دخولها في الصلح ، فتندرج في المعاوضات المعهودة ، وذلك بعد تمامية مقدمتين.

إحداهما : أنّ المبيح والمباح له تسالما على أمر ، وهو إباحة التصرف في المال في قبال عوض ، وهذا التسالم والتوافق هو الصلح المعدود من المعاوضات.

وثانيتهما : أنّه لا يعتبر في صحة الصلح إنشاؤه بصيغة خاصة ، بل يكفي في إنشائه كل ما يدلّ عليه من صيغة خاصة أو مقاولة ، أو فعل ، أو كتابة. ويشهد لعدم اعتبار الصيغة الخاصة فيه ما ورد في بعض الأخبار من تحقّق الصلح بقول أحدهما : «لك ما عندك ولي ما عندي» وكذا ما ورد في مصالحة الزوجين. فليكن قول المبيح : «أبحت لك التصرف في مالي على أن تملّكني دينارا» إنشاء للصلح.

الثاني : أن تكون الإباحة بالعوض معاملة مستقلة ، ويدلّ على مشروعيّتها أمران.


لمناسبته (١) له لغة ، لأنّه (٢) في معنى التسالم على أمر ، بناء (٣) على أنّه لا يشترط فيه لفظ الصلح ، كما يستفاد (٤) من بعض الأخبار الدالة على صحّته (٥) بقول المتصالحين : «لك ما عندك ، ولي ما عندي (٦)»

______________________________________________________

أحدهما : قاعدة السلطنة ، فإنّ السلطنة المطلقة للمالك تقتضي حلّيّة كلّ تصرف للمالك في ماله ، سواء أكان ذلك التصرف الخاص مما أحرزه جوازه أم لا.

ثانيهما : قاعدة وجوب وفاء المؤمنين بشروطهم ، فإنّ التزام أحدهما بإباحة التصرف ، والتزام الآخر بتمليك ماله للمبيح شرط يجب الوفاء به ويحرم نقضه ، فالتشكيك في الصحة ينافي إطلاق وجوب الوفاء بالشرط.

(١) أي : لمناسبة الصلح لهذا النحو من الإباحة أي الإباحة المعوّضة.

(٢) أي : لأنّ هذا النحو من الإباحة يكون بمعنى التراضي والتسالم على أمر.

(٣) قيد لقوله : «نوعا من الصلح» وهذا إشارة إلى المقدمة الثانية التي لا بدّ من إثباتها حتى تندرج الإباحة بالعوض في الصلح ، وقد تقدّمت بقولنا : «ثانيتهما : أنه لا يعتبر في صحة الصلح .. إلخ».

(٤) يعني : كما يستفاد عدم الاشتراط بلفظ الصلح. ولعلّ وجه الاستفادة هو الجهل بمقدار المال الموجود عند كل واحد من الشريكين ، والجهل غير قادح في الصلح.

(٥) هذا الضمير وضمير «فيه» راجعان الى الصلح.

(٦) روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «في رجلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ، ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما» (١).

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٦٥ ، الباب ٥ من أحكام الصلح ، الحديث : ١


ونحوه (١) ما ورد في مصالحة الزوجين.

ولو (٢) كانت معاملة

______________________________________________________

(١) ففي مصحح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «سألته عن قول الله عزوجل : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) فقال عليه‌السلام : هي المرأة تكون عند الرجل ، فيكرهها فيقول لها : إنّي أريد أن أطلّقك ، فتقول له : لا تفعل ، إنّي أكره أن تشمت بي ، ولكن أنظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت ، وما كان سوى ذلك من شي‌ء فهو لك ، ودعني على حالتي ، فهو قوله تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) وهذا هو الصلح» (١) (*).

(٢) الأولى أن يقال : «وأن يكون معاوضة مستقلّة» ليكون معطوفا على «أن يكون نوعا من الصلح».

وكيف كان فهذا ثاني وجهي صحة الإباحة مع العوض ، وحاصله : أنّ هذه الإباحة وإن كانت خارجة عن المعاملات المعهودة حتى الصلح ، إلّا أنّه لا يقدح في الصحة ، لوجود دليل يمنع عن الرجوع إلى أصالة الفساد ، وذلك الدليل هو حديث

__________________

(*) لكن الظاهر عدم إجداء شي‌ء من هاتين الروايتين في المقام.

أمّا الرواية الأولى فلعدم ظهورها في الصلح ، لاحتمال كونها هبة معوّضة ، أو معاوضة مستقلة ، وإن ذكرها صاحب الوسائل في كتاب الصلح. وبعد تسليم ظهورها في الصلح لا يدلّ على عدم اعتبار اللفظ مطلقا في باب الصلح ، بل غايته دلالتها على عدم اعتبار لفظ خاصّ فيه.

وأمّا الرواية الثانية فلأنّ ظاهرها هو الصلح الحقيقي الخارجي في مقابل النشوز والنزاع ، لا الصلح الاعتباري الإنشائي الذي هو مقابل سائر العناوين الإنشائية. ومورد البحث هو الثاني ، لا الأوّل كما لا يخفى.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٩٠ ، الباب ١١ من أبواب القسم والنشوز والشقاق ، الحديث : ١


مستقلة (١) كفى فيها عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» (*) و «المؤمنون عند شروطهم» (٢) (**).

وعلى تقدير الصحّة (٣) ، ففي لزومها مطلقا ، لعموم «المؤمنون عند

______________________________________________________

السلطنة والشرط.

(١) كما في الجواهر ، حيث قال بعد منع حصر المعاوضات في المعهودة : «فلا بأس بإجراء حكم المعاوضة المستقلّة عليها ، كما صرّح به الشهيد في المحكيّ عن حواشيه ..» (١).

(٢) بناء على تعميم الشرط لنفس العقد وعدم اختصاصه بالشرط الخارج عن العقد كما هو الظاهر ، فالتمسك به محلّ تأمّل بل منع.

(٣) الظاهر أنّ البحث عن لزوم الإباحة المعوّضة وجوازها مخصوص بما إذا صحّحت بالمعاوضة المستقلة ، دون ما إذا كانت صلحا ، ضرورة كونه عقدا لازما ، فلا يبقى مجال لاحتمال الجواز حينئذ.

وكيف كان فقد أشار إلى وجوه ثلاثة :

أحدها : اللزوم مطلقا أي من كلا الطرفين ، فلا يصح رجوع المبيح عن إباحته ، ولا رجوع المباح له عن تمليكه للعوض.

ثانيها : اللزوم من طرف المباح له دون المبيح ، فيجوز رجوع المبيح عن إباحته ، لبقاء ما أباحه على ملكه ، وعدم انتقاله عنه.

ثالثها : الجواز من كلا الطرفين.

__________________

(*) هذا خلاف مبناه قدس‌سره من عدم مشرّعية «الناس مسلّطون على أموالهم» للأسباب.

(**) هذا مبنيّ على عموم الشروط للشروط الابتدائية ، وذلك غير ظاهر ، بل خلافه ظاهر.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٢٦


شروطهم» أو من طرف المباح له ، حيث (١) إنّه (*) يخرج ماله عن ملكه ، دون المبيح ، حيث إنّ ماله باق على ملكه ، فهو مسلّط (**) عليه (٢). أو جوازها مطلقا؟ وجوه (٣) ، أقواها

______________________________________________________

(١) حاصله : أنّ المباح له يخرج ماله عن ملكه ، لفرض كونه عوضا عن الإباحة.

(٢) يعني : أنّ مقتضى قاعدة السلطنة هو بقاء سلطنة المبيح على ماله.

(٣) وجه اللزوم مطلقا ما أفاده قبيل ذلك من عموم «المؤمنون عند شروطهم».

ووجه اللّزوم من طرف المباح له ما ذكره أيضا بقوله : «حيث إنه يخرج ماله عن ملكه». ومحصّله أصالة اللزوم في الملك ، فليس للمباح له أن يتصرف فيه إلّا بإذن المبيح ، لأنّه مالكه.

ووجه الجواز مطلقا : كون هذه الإباحة بالعوض من المعاطاة التي بنوا على جوازها ، وأناطوا لزومها بأحد ملزماتها المعهودة.

__________________

(*) هذا التعليل عليل ، لأنّ مجرد الإخراج عن الملك لا يصلح لأن يكون دليلا على اللزوم ، إلّا أن يثبت كون الأصل في الخروج عن الملك هو اللزوم. كما هو مقتضى استصحاب بقاء الملك للمبيح على ما تقدّم في أصالة اللزوم ، فتصرّف المباح له فيه منوط بإذن المبيح.

(**) لكن حكومة دليل وجوب الوفاء بالشروط على قاعدة السلطنة تقتضي رفع سلطنته على ماله ، لكون الإباحة لازمة ، هذا.

مضافا إلى : أنّ المصنف قدس‌سره بنى سابقا على عدم مشرّعية قاعدة السلطنة للأسباب والأحكام. إلّا أن يكون مقصوده المماشاة مع مثل صاحب الجواهر الذي صحّح الإباحة المطلقة بقاعدة السلطنة.


أوّلها (١) ، ثم أوسطها (٢).

وأمّا حكم الإباحة بالإباحة (٣) فالإشكال فيه أيضا يظهر

______________________________________________________

(١) وهو اللزوم مطلقا ، لعموم دليل نفوذ الشروط الذي هو مستند هذه الإباحة. وجه أقوائيّته : أنّ مقتضى عموم «المؤمنون عند شروطهم» وجوب وفاء كل واحد من المؤمنين بشرطه والتزامه ، سواء أكان التزامه بإباحة ماله للغير ليتصرف فيه ، أم بتمليك رقبة ماله للغير ، ولا يجوز نقض الالتزام بوجه من الوجوه.

(٢) وهو اللزوم من طرف المباح له ، لأصالة اللزوم كما مرّ آنفا.

وجهه : أنّه لو نوقش في صدق الشرط على التزام المبيح بالإباحة ، لكنه لا ريب في شموله لالتزام المباح له بتمليك ماله للمبيح ، فيلزمه الوفاء بشرطه وعدم نقضه ، بخلاف المبيح ، فإنّه لا دليل على وجوب الوفاء بإباحته ، إذا شكّ في صدق «الشرط» على الإباحة المالكية.

ووجه أولويّة هذا الاحتمال من الاحتمال الثالث ـ الّذي يجوز لكل منهما الرجوع فيه ـ هو : أنّه يلزم طرح عموم «المؤمنون» كلّيّة ، وهذا خلاف ما فرضناه من دلالة الحديث على صحة الإباحة المعوّضة.

(٣) هذا هو القسم الرابع من أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين. ولا يخفى أنّ المصنف قدس‌سره لم يتعرّض عند بيان الإشكالين ـ الواردين على هذا القسم وسابقه ـ لما يختص بهذا القسم من الإشكال حتى يتصدّى لدفعه ، وإنّما اقتصر على الإشكال المختص بالقسم الثالث من كونه عقدا مؤلّفا من إباحة وتمليك. ثم أجاب عنه بما عرفت آنفا.

وأمّا هذا القسم الرابع فقد أفاد فيه المصنف أنه كالقسم الثالث إشكالا وجوابا. فالإشكال فيه هو : عدم كون «الإباحة بعوض الإباحة» من المعاوضات المالية المعهودة ، ولا تجارة عن تراض ، ولا بيعا ، وعليه يشكل إباحة المالك التصرّف في ماله بإزاء إباحة الآخر التصرف في ماله ، ولو فيما لا يتوقف على الملك.


مما ذكرنا (١) في سابقه. والأقوى فيها أيضا الصحة واللزوم ، للعموم (٢) (*). أو الجواز (٣) من الطرفين ، لأصالة التسلّط (٤).

______________________________________________________

والجواب هو : أنّ الإباحة المعوضة من المالك صحيحة شرعا ، لكونها صلحا أو معاوضة مستقلة. وحيث كانت صحيحة جرى فيها احتمال الجواز مطلقا واللزوم كذلك.

ولا مجال للاحتمال الآخر المتقدم في القسم الثالث من كونها لازمة من طرف المالك دون المبيح ، ووجهه واضح ، إذ لا تمليك هنا أصلا ، بل هو إباحة في قبال إباحة ، فإمّا اللزوم من الجانبين عملا بوجوب الوفاء بالشرط والالتزام به. وأمّا الجواز من الجانبين أخذا بأصالة الإطلاق في تسلّط الملّاك على أموالهم ، فللمالك الرجوع عن إباحته متى شاء.

(١) من خروجها عن المعاوضات المعهودة شرعا وعرفا ، مع التأمّل في صدق التجارة عليها.

(٢) أي : عموم «المؤمنون عند شروطهم» كما ذكره في الإباحة بالعوض.

(٣) معطوف على «اللزوم».

(٤) إذ المفروض في هذه الإباحة بقاء المالين على ملك مالكيهما ، فيكونان مسلّطين على استردادهما بمقتضى إطلاق قاعدة السلطنة.

__________________

(*) مراده عموم «المؤمنون عند شروطهم» لكن قد عرفت المناقشة فيه ، بل الوجه فيه هو عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

والإشكال فيه : بأن الإباحة هنا مالكية ، ومن المعلوم زوالها بمجرد كراهة المالك فليس للعقد مضمون يشك في ارتفاعه بالفسخ حتى يقال بدلالة العموم على بقائه. مندفع بأنّ الزائل بالكراهة هو الإباحة النفسانية ، دون الاعتبارية الإنشائية التي هي منشأ الآثار ، فمع الشك في زوالها بالفسخ يتمسك بعموم (أَوْفُوا) الدال على اللزوم. فدليل


.................................................................................................

__________________

السلطنة ـ مضافا إلى قصوره في نفسه ـ محكوم بدليل وجوب الوفاء بالعقود ، بل وبدليل صحة التجارة عن تراض بناء على ما هو الصحيح من صدق «التجارة» على الإباحة بالإباحة وبالمال.

فالقاعدة تقتضي لزوم الإباحة مطلقا ولو بدون العوض كما هو ظاهر وفاقا للسيد قدس‌سره (١).

ثم إنّه ينبغي التعرّض لشطر من الكلام في القسمين الأخيرين ، فالقسم الثالث هو إباحة الموجب بالعوض ، بحيث تكون المقابلة بين الإباحة والمال عروضا أو ثمنا ، والقسم الرّابع هو كون الإباحة بإزاء الإباحة أو لداعي الإباحة. فنقول : قد استشكل المصنف قدس‌سره فيهما بوجهين :

الأوّل : الإشكال في صحة إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على ملكية المال للمتصرف ، بأن يقول : «أبحت لك كل تصرف» من دون أن يملّكه العين.

الثاني : الإشكال في صحة الإباحة بالعوض ، حيث إنّ مرجعها إلى العقد المركّب من إباحة وتمليك ، وهي خارجة عن المعاوضات المعهودة ، وصدق «التجارة عن تراض» عليها لا يخلو عن التأمّل كما سيأتي في كلام المصنف قدس‌سره.

ثم إنّ الإشكال الأوّل وهو إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقّفة على الملك جار في كلا القسمين الثالث والرابع ، وفي غير المعاطاة أيضا ، لجريانه في الإباحة القولية سواء أكانت مع العوض أم بدونه ، وسواء أكانت مستقلة أم ضمنية. والاشكال الثاني وهو تركب العقد من إباحة وتمليك مختص بالقسم الثالث كما لا يخفى.

أمّا الإشكال الأوّل فهو تارة يكون عقليّا ، وأخرى عقلائيا وعرفيّا ، وثالثة شرعيّا أي من ناحية الأدلة الشرعية بناء على كون ماهية البيع تبادل إضافة المالكية والمملوكية في العوضين ، بمعنى تبدّل إضافة المبيع إلى مالكه ـ وهي إضافة المالكية والمملوكية ـ

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٨١


.................................................................................................

__________________

بإضافة الثمن إلى صاحبه التي هي أيضا إضافة المالكية والمملوكية ، فلا يعقل تحقق ماهية البيع بدون هذه المبادلة.

وعلى هذا فالإباحة تضادّ المبادلة في إضافة المالكية والمملوكية التي هي حقيقة البيع.

ويظهر من هذا البيان تقريب الإشكال العقلائي ، حيث إنّ الإباحة بالعوض لا تكون بيعا عقلائيا بعد كون البيع عندهم تبادل الإضافتين المزبورتين المفقود في الإباحة بالعوض ، إذ المفروض عدم تبادل الإضافتين فيها ، فمفهوم البيع لا يصدق عليها.

والحاصل : أنّ هذا الاشكال مبني على كون البيع عبارة عن تبادل إضافة المالكية والمملوكية في العوضين.

لكن فيه منع تقدّم في تعريف البيع ، وحاصله : أنّ حقيقة البيع ليست تبادل الإضافة المالكية والمملوكيّة في العوضين ، وإلّا لم يصح بيع الوقف العام المسوّغ بيعه بأحد مسوّغاته ، وكذا شراء الجنس الزكوي بسهم سبيل الله من الزكاة ، واشتراء الأخيار من الوجوه البرّية ما يحتاج إليه الفقراء والمساكين من المأكول والملبوس وغيرهما لهم.

وبالجملة : فصحة البيع في هذه الموارد تكشف عن سعة دائرة مفهوم البيع ، وأنّه عبارة عن التعاوض بين المالين ، وعدم تقوّمه بتبادل إضافة الملكية. فالإشكال العقلي والعقلائي مندفع بعدم كون ماهية البيع تبادل الإضافتين ، هذا.

وأمّا إشكال منافاة إباحة البيع ـ للمباح له ـ لما دلّ من الأدلة الشرعية على توقف البيع وغيره من التصرفات على الملك ، مثل ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا بيع إلّا فيما تملك» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا طلاق إلّا فيما تملكه ، ولا بيع إلّا فيما تملكه» وجه المنافاة : أنّ البيع وإن لم يكن بمفهومه مانعا عقلا ولا عقلائيا عن بيع المباح له مال المبيح ، لكن الدليل النقلي يعتبر ملكية المبيع للبائع ، فإذن المبيح في بيع ماله لغيره ـ وهو المباح له ـ


.................................................................................................

__________________

ينافي الدليل الشرعي.

ففيه : أنّ الظاهر عدم قيام دليل تام على اعتبار كون المبيع ملكا للبائع ، لأنّ ظاهر الروايتين المزبورتين ـ بعد تسليم اعتبار سندهما ـ هو عدم نفوذ بيع مال الغير بلا إذنه ، لوضوح صحّته مع إذنه كالوكيل ، فالمراد : أنّ البيع لا بدّ أن يكون مضافا إلى المالك إمّا بمباشرته للبيع ، وإمّا بتسبيبه له كالتوكيل.

بل ظاهر الرواية الثانية هو ملك التصرّف بشهادة الفقرة الأولى ، فإنّ مالكية الطلاق لا معنى لها إلّا ذلك ، فليست الروايتان بصدد بيان لزوم دخول الثمن في كيس الذي يخرج المبيع من كيسه كما هو مناط الإشكال ، ومن المعلوم أنّ المباح له لا يبيع إلّا بإباحة المالك المبيح له بيع ماله ، فهو مأذون من المالك في البيع.

وإن أبيت عن ذلك وناقشت فيما ذكرناه ـ بأنّ مفهوم البيع هو تبادل الإضافتين ـ فنقول : إنّ مقتضى الإباحة المطلقة ليس دخول الثمن في ملك المباح له حتى يكون منافيا لحقيقة البيع ، بل مقتضاها جواز التصرف في الثمن كجوازه في نفس المثمن ، فبيع المباح له نافذ ، لاقترانه بإذن المالك المبيح.

وإن شئت فقل : إنّ إطلاق الإباحة للتصرفات في مال يقتضي جواز التصرف في المال بجميع شؤونه من الشخصية والنوعية والمالكية ، فكما يباح للمباح له التصرف في شخص المال الذي أبيح له ، فكذلك يباح له التصرف في ماليّته المتحققة في ضمن شي‌ء آخر ، فالمال إذا كان كتابا فكما يجوز للمباح له التصرف فيه ، فكذلك يجوز التصرف في بدله إذا بيع بدينار مثلا.

فالمتحصل : أنّه ـ بعد تسليم كون ماهية البيع دخول الثمن في ملك من خرج عن ملكه المبيع ـ لا إشكال ولا تنافي بين ماهيّة البيع وبين إباحة كل تصرف حتى ما يتوقف منه على الملك كالبيع ، هذا.

ولا يندفع الإشكال بالوجوه الثلاثة المذكورة في كلام المصنف قدس‌سره.


.................................................................................................

__________________

أحدها : كون غرض المبيح توكيل المباح له في نقل المال إلى نفسه ليقع البيع له ـ أي : للمباح له ـ أو توكيل المباح له في بيع المال لمالكه ، ثم نقل الثمن الذي هو ملك المبيح إلى نفسه ، أو تمليك المبيح ماله للمباح له بقوله : «أبحت» أو بالفعل المؤدي للإباحة الذي هو بمنزلة إنشاء الهبة ، وكون بيع المباح له بمنزلة القبول ، نظير قوله : «أعتق عبدك عنّي بكذا» هذا.

إذ فيه : أنّ هذا الوجه بجميع شقوقه بعيد عمّا نحن فيه ، إذ ليس المقصود هنا إلّا إذن المالك للمباح له في التصرف ، ومجرّد إمكان قصد أحد الوجوه المزبورة لا يثبت وقوعه الذي هو المدار في الجواز.

ثانيها : أن يدلّ دليل خاص على كون مال المبيح ملكا للمباح له بمجرد الإباحة ، فيقع البيع في ملك المباح له. أو يدلّ دليل على صيرورة الثمن ملكا للمباح له ، فإنّه يكشف عن دخول الثمن في ملك المبيح آنا ما لئلّا يستحيل صدق مفهوم البيع عليه ، ثم انتقاله عنه إلى المباح له ، نظير شراء العمودين ، حيث إنّهما يدخلان في ملك المشتري آنا ما ، ثم ينعتقان عليه ، لأنّه قضية الجمع بين الأدلّة ، وهي ما دلّ على صحة الشراء ، وما دلّ على أنّه لا عتق إلّا في ملك ، وما دلّ على أنّ الإنسان لا يملك عموديه ، هذا.

إذ فيه : أنّ من المعلوم فقدان دليل خاص في المقام يدل على كون مال المبيح ملكا للمباح له بمجرد الإباحة. أو يدلّ على صيرورة الثمن ملكا للمباح له حتى نلتزم فيه بما التزموا به في مثال شراء العمودين ، حيث إنّ ما يمكن أن يكون دليل على الإباحة في المقام هو دليل السلطنة الذي لا يزاحم الأدلة الدالة على توقف بعض التصرفات على الملك كالعتق والبيع والوطي ونحوها ، بل هي حاكمة على دليل السلطنة ، لما أفاده المصنف قدس‌سره من أنّ مفاد دليل السلطنة هو نفوذ سلطنة المالك على التصرفات التي ثبت جوازها في الشرع مع الغضّ عن دليل السلطنة. وليس دليل السلطنة مشرّعا. فاتّضح الفرق بين المقام وبين مسألة شراء العمودين.


.................................................................................................

__________________

ثالثها : ما أشار إليه بقوله : «وأمّا حصول الملك في الآن المتعقب بالبيع والعتق فيما إذا باع الواهب عبده الموهوب أو أعتقه .. إلخ» وحاصله : تنظير المقام برجوع الواهب عن هبته ليقع البيع في ملكه ، فكما يقتضي بيع الواهب رجوعه عن الهبة ودخول العين الموهوبة في ملكه ، فكذلك التصرف في المباح تصرفا موقوفا على الملك يقتضي دخول المال في ملك المباح له.

إذ فيه أيضا ما لا يخفى ، لعدم دليل على صحة مثل هذا التصرف للمباح له حتى يكشف ذلك الدليل عن حصول الملكية التحقيقيّة آنا ما قبل تحقق ذلك التصرف.

والحاصل : أنّ شيئا من هذه الوجوه الثلاثة المذكورة في كلام المصنف قدس‌سره لا يصلح لتصحيح بيع المباح له للمال الذي أبيح له التصرف فيه كما نبّه هو قدس‌سره أيضا على ذلك.

هذا حال البيع الذي قيل بتوقفه على الملك.

وأمّا سائر صغريات التصرف المتوقف على الملك فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها ، فنقول :

إنّه عدّ منها العتق. وقد نسب ذلك إلى المشهور ، ولذا حكموا بالملك التقديري في مثل قوله : «أعتق عبدك عنّي» بل ربما يدّعي الإجماع على ذلك.

ويدل عليه صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك» (١).

ورواية مسمع أبي سيّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عتق إلّا بعد ملك» (٢). ونحوهما غيرهما.

وما في حاشية السيد قدس‌سره «من حمل الملك على ملكية الإعتاق كما تقدم في

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٧ ، الباب ٥ من أبواب كتاب العتق ، الحديث : ١

(٢) المصدر ، الحديث : ٢


.................................................................................................

__________________

البيع ، لا ملكية العبد ، فلا مانع حينئذ من جواز العتق إذا كان بإباحة المالك وإذنه ، لكون المباح له حينئذ مالكا للإعتاق وسلطانا عليه» (١) خلاف الظاهر جدّا ، لكون الظاهر هو إضافة الملكية لا مجرّد السلطنة ولو بإذن من المالك. والحمل المزبور مما لا موجب له ولا داعي إليه ، إذ لا قرينة على هذا الحمل ، كما كانت موجودة في بعض الروايات الدالة على اعتبار الملكية في المبيع كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا طلاق إلّا فيما تملكه ، ولا بيع إلّا فيما تملكه» ضرورة عدم اعتبار ملكية الزوجة في الطلاق.

نعم في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كان الّذين من قبلنا يقولون :

لا عتاق ولا طلاق إلّا بعد ما يملك الرجل» (٢). ولا بأس بقرينية هذه الرواية على إرادة ملكية الإعتاق.

إلّا أن يقال : بعدم منافاة الجمع بين اعتبار إضافة الملكيّة وبين اعتبار السلطنة ، لأنّ اعتبار هذه يرجع إلى عدم الحجر ، وأنّ من يتصدّى الإعتاق لا بدّ أن يكون سلطانا على ذلك وغير محجور عنه.

وعلى هذا فيعتبر في المعتق الملكية وعدم الحجر ، فلا تكون رواية أبي بصير قرينة على إرادة السلطنة من الملكية في سائر الروايات ، لكونهما من المثبتين اللّذين لا تنافي بينهما ، ومقتضى الجمع بينهما هو اعتبار كون المعتق مالكا غير محجور عن التصرف ، ويجري مثل هذا الكلام في البيع أيضا ، فتدبّر.

ومنها : مسألة الخمس والزكاة ، بمعنى : أنّ ما يخرج خمسا أو زكاة لا بدّ أن يكون ملكا. وتوضيح الكلام في ذلك : أنّه بناء على تعلّق الخمس بنفس المال بنحو الإشاعة كما هو الأظهر أو الكلّيّ في المعيّن ـ مع بقاء العين وعدم تبديل الحق ـ فالظاهر وجوب الدفع من نفس العين ، لعدم موجب لجواز الأداء بغير عين المال الذي تعلّق الحق بهما ،

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٧٩

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٧ ، الباب ٥ من أبواب كتاب العتق ، الحديث : ٣


.................................................................................................

__________________

إذ الموجب له هو تخلّص تلك العين عن الحق بالتبديل بعين أخرى خارجية أو ذميّة ، بمقتضى ولاية المالك على التبديل.

وإن شئت فقل : إنّه بدون التبديل لا يصدق الدّين على من عليه الحق حتى يجوز أداؤه بمال الغير بإذنه ، فليس للمباح له إخراج ما أبيح له خمسا أو زكاة.

وبناء على كونهما في الذمة ـ إمّا للقول بتعلقهما بها لا بنفس العين ، وإمّا لتلف العين التي تعلّق بها الخميس أو الزكاة على وجه يوجب ضمانهما واشتغال ذمته بهما بحيث صارا دينا عليه. وإمّا لنقل الحق في ذمته بإذن المجتهد ـ لا مانع حينئذ من أدائهما بمال الغير بإذنه ، والمفروض كون المال من ناحية مالكه مباحا له ، فيجوز للمباح له أداء دينه الذي منه الخمس والزكاة.

وبالجملة : يجب الأداء من نفس العين بناء على تعلقهما بها ، وعدم تبديل الحق بمال آخر. ولا يكفي الأداء من مال غيره ولو مع إذنه وإباحته ، لأنّ ولاية التبديل الرافع للشركة ثابتة للمالك لا لكل أحد حتى تثبت الولاية للمبيح ، ويكون إذنه في الأداء من ماله رافعا للشركة ، ويجوز الأداء من مال غيره ، مع صيرورة الحق في ذمّته بأحد الوجوه الموجبة لانتقال الحق إلى الذمة.

فقد ظهر مما ذكرنا أنّ توقف جواز إخراج مال خمسا أو زكاة على الملك ـ كما قيل ـ ليس في محله ، لأنّهما بعد صيرورتهما دينا على من عليه الخمس والزكاة يجوز التبرّع بأدائهما من مال الغير بلا إشكال ، لما دلّ على جواز التبرّع بأداء دين الغير ، فلا مانع حينئذ من قصد القربة.

فما في تقرير سيدنا الخويي قدس‌سره من الإشكال في قصد القربة (١) لا يخلو من غموض.

وقبل صيرورتهما دينا عليه ـ بأن كانت العين باقية ولم يبدّلها المالك بمال آخر ـ

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٨٨


.................................................................................................

__________________

يجب الدفع من نفس العين التي هي مشتركة بين المالك وبين السّادة أو الفقراء ، فالمبذول حينئذ هو عين مالهم ، وليس من مال المالك أصلا ، كما هو واضح.

ومنها : كون ثمن الهدي مملوكا للناسك كما حكاه المصنف عن الشهيد قدس‌سرهما حيث قال في هذا التنبيه : «وعرفت أيضا : أن الشهيد في الحواشي لم يجوّز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي ، ولا وطي الجارية ، مع أن مقصود المتعاطيين الإباحة المطلقة» وهذه العبارة كالصريح في اعتبار كون ثمن الهدي مملوكا وعدم كفاية إباحته.

لكن فيه : أنّه لم يدلّ دليل على اعتبار ملكية ثمن الهدي ، بل مقتضى إطلاق أخبار الاستطاعة البذليّة (١) ـ وخلوّ روايات وجوب سوق الهدي في حجّ القران (٢) ، ووجوب ذبحه في منى في حج التمتع (٣) عن اعتبار ملك الثمن ـ هو عدم اعتبار كون ثمن الهدي ملكا للناسك ، ففي رواية الفقيه : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساق معه مائة بدنة ، فجعل لعليّ عليه‌السلام منها أربعا وثلاثين ، ولنفسه ستّا وستين ، ونحرها كلّها بيده» الحديث. وهي ظاهرة في عدم اعتبار ملكية ثمن الهدي. ولو شك في اعتبارها فالأصل عدمه.

وعليه فلو جعل المال المباح له ثمنا للهدي كما إذا اشتراه بعينه لنفسه أو أدّى به دينه الذي اشتغلت به ذمّته ، كما إذا جعل ثمن الهدي في ذمّته وأدّاه من المأخوذ بالمعاطاة الذي أبيح له التصرف فيه لم يكن به بأس.

وأمّا ما في تقرير سيدنا الخويي قدس‌سره من : «أنّه لا يتصوّر لإخراج ثمن الهدي من مال الغير معنى معقولا ، وذلك لأنّ المهدي إمّا أن يشتري الهدي بذمّته .. إلى أن قال : وإمّا

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٢٦ إلى ٢٨ ، الباب ١٠ من أبواب وجوب الحج وشرائطه.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ١٤٩ ، الباب ٢ من أبواب أقسام الحج.

(٣) المصدر ، ص ١٦٤ ، الحديث : ٢٥


.................................................................................................

__________________

أن يشتريه بشخص مال الغير. وعليه إن قصد الشراء للمالك فالهدي بنفسه يكون للمبيح .. الى أن قال المقرّر : وإن قصد الشراء لنفسه فهو داخل فيما هو معلوم من شراء أحد بمال الغير لنفسه شيئا. ولا معنى لإخراج ملك الغير في ثمن الهدي» (١).

ففيه : أنّه مبني على كون المعاوضة تبادل الإضافتين الملكيتين ، وقد عرفت خلافه ، فيتصور إخراج ملك الغير في ثمن الهدي.

بل على ما ذكرنا في دفع إشكال المعاوضة تكون المعاوضة بمعنى تبادل الإضافتين الملكيتين محفوظة ، حيث إنّ الهدي يصير ملكا لمالك الثمن ، ويباح للمباح له التصرف في الهدي بمقتضى الإباحة المطلقة ، حيث إنّها تقتضي إباحة التصرف في نفس المباح وبدله إذا عوّض بشي‌ء ، وبدل بدله ، وهكذا ، والمفروض عدم قيام دليل على تعيّن إخراج الهدي من ملك الناسك.

ومنها : وطي الجارية كما أشار إليه الشهيد رحمه‌الله ، فإنّه متوقف على الملك أو النكاح أو التحليل ، فلا يجوز وطيها إذا أخذت بالمعاطاة ، لأنّ الإباحة ليست ملكا ولا نكاحا ولا تحليلا ، إذ يعتبر في التحليل الصيغة الخاصة بلا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه كما تقدّم في كلام الجواهر عند شرح كلام المصنف قدس‌سره : «وصحة الوطي على التحليل بصيغة خاصة لا بمجرّد الإذن» والمراد بالصيغة الخاصة هي قوله : «أبحت لك وطي أمتي» أو «أنت في حلّ من وطي أمتي» هذا.

أقول : ليس الوطي متوقفا على الملك ، بل يتوقف على كون الواطي مالكا للوطي سواء أكان ذلك لكونه مالكا لرقبة الموطوئة أم زوجا لها ، أم ممّن أبيح له وطؤها من ناحية مالكها بألفاظ خاصة بالتحليل ، بناء على تمامية الإجماع على اعتبار تلك الألفاظ الخاصة في التحليل. وإلّا فالأظهر تحقق التحليل بكل لفظ يدل عليه وإن لم يكن عربيّا ، والتفصيل في محلّه.

__________________

(١) : محاضرات في الفقه الجعفري ، ج ٢ ، ص ٩٣


.................................................................................................

__________________

ومنها : المهر ، فإنّه قيل باعتبار كونه ملكا للزوج.

وفيه : أنه لا مجال لهذا التوهم ، بعد كون الزوجين ركنين في العقد ، في مقابل ركنيّة العوضين في العقود المعاوضيّة ، ولذا يجوز تفويض المهر وعدم ذكره في العقد ، بخلاف العقود المعاوضيّة ، فإنّه لا يجوز عدم ذكر العوض فيها. وكذا يجوز جعل المهر على غير الزوج الذي هو أجنبيّ عن المتعاقدين.

فتلخص من جميع ما ذكرناه صحة بعض ما قيل من التوقف على الملك في الموارد المذكورة ، فإنّ بعضها متوقف على الملك ، فتأمّل.

لكن الشأن كلّه في نهوض الدليل على صحة الإباحة المطلقة حتى بالنسبة إلى التصرفات المتوقفة على الملك ، إذ مع فرض نهوضه عليها لا بدّ من الالتزام بالملك التحقيقي الآني ليقع التصرف المنوط بالملك في ملكه ، فتأمّل.

وكيف كان فمرجع ما استدل به على صحتها وجوه ثلاثة :

أحدها : ما في المتن من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس مسلّطون على أموالهم» وقد عرفت عدم دلالته عليه.

ثانيها : ما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره من السيرة ، فإنّها قد ادّعيت على جواز جعل نثار العرس ثمنا في المعاوضات ، والتصرف فيه بما يتوقف على الملك ، غايته أنّه من الإباحة بلا عوض. كما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام كانوا يتصرفون أنواع التصرفات فيما يهدى إليهم من غير فرق بين التصرفات المتوقفة على الملك وغيرها ، هذا (١).

وفيه : أنّ نثار العرس أجنبي عن المقام ، لأنّ الظاهر أنّه من باب الإعراض الرافع لمنع تملك الغير له ، فإذا أخذ كان الأخذ كأخذ المباح الأصلي في التملّك.

وقد يقال : إن نثار العرس من باب الهبة. لكنه بعيد. وعلى كل حال هو أجنبي عن

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ١٩٦


.................................................................................................

__________________

الإباحة المطلقة ، هذا.

ثالثها : ما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره أيضا من «أنه قد يستدل لجواز الإباحة المطلقة المزبورة بمسألة الأنفال ، حيث إنّهم عليهم‌السلام أباحوها لشيعتهم. (١). ومن المعلوم أنّ المتصرف في شي‌ء منها يملكه ، وإباحتهم مالكية ، لأنّها من أملاكهم وحقوقهم كالمقام ، إذ الإباحة المطلقة المعاطاتية مالكية أيضا ، لأنّ المفروض قصد المتعاطيين للإباحة لا الملكية. وحكي أن المحقق الثاني أشار الى ذلك في شرح القواعد هذا (٢).

وأجيب عن هذا الاستدلال تارة : بأنّ إباحة الأنفال تكون من باب الإعراض الرافع للملكية أو لموانع التملك ، فيملكه المتصرف.

وأخرى : بالفرق بين المقام وبين الأنفال ، حيث إنّ المطلوب هنا هو إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقفة على الملك ، مع بقاء المال على ملك المبيح. بخلاف الأنفال ، فإنّهم عليهم‌السلام رخّصوا في تملّك العين فيها.

وهذا الجواب هو الحق الذي ينبغي المصير إليه ، إذ إباحتهم عليهم‌السلام من باب العطية وجوائز السّلطان ، فكلّ من حاز شيئا من الأنفال ملكه.

وأمّا الجواب الأوّل فيرد عليه : أنّ إباحتهم عليهم‌السلام مختصة بالشيعة ، والإعراض على وجه التقييد غير معقول ، لأنّ الإخراج عن الملك كالضرب الواقع على شخص لا يصلح للتقييد. فكما لا يعقل أن يقول الضارب : ـ اضرب هذا الشخص إن كان معاوية مثلا ، وإلّا فلا أضربه ـ فإنّ من المشاهد وقوع الضرب على المضروب وإن تبيّن أنه طلحة مثلا لا معاوية. وكذا الحال في مسألة التقليد.

لكن إشكال عدم المعقولية المذكور في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره مبني على كون الإعراض بنفسه مخرجا عن الملك وموجبا لصيرورة المعرض عنه مباحا.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ج ٦ ص ٣٧٨ ـ الباب ٤ من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام

(٢) غاية الآمال ، ص ١٩٧


.................................................................................................

__________________

وأمّا بناء على كونه رافعا لموانع تملك الغير لمال المعرض فلا وجه لعدم المعقولية ، إذ مرجع الإعراض حينئذ إلى الإذن في تمليك ماله ، ولا مانع من تقييد الإذن لشخص أو طائفة خاصّة كما لا يخفى.

فتلخص مما ذكرنا : أنّ شيئا من هذه الوجوه لا يصلح لإثبات مشروعية الإباحة مع العوض.

نعم يمكن أن يستدل لها بآية التجارة عن تراض. ومنع صدق التجارة عليها مكابرة بعد كون مناط التجارة هو الانتفاع بالمعاملة الموجود في الإباحة مع العوض. نعم منع صدقها على الإباحة المجانية في محله.

وإن أبيت عن ذلك وادّعيت أنّ مفهوم التجارة هو خصوص المعاملة المملّكة دون غيرها ، فلا بأس بالتمسك بقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّ عقديّة هذه الإباحة ممّا لا ينبغي الارتياب فيه. والظاهر أن العقد يصدق على كلتا الاباحتين ، وهما الإباحة بالعوض ، والإباحة في مقابل الإباحة.

ثم إنّه إذا ثبت إناطة بعض التصرفات بالملك كالعتق مثلا فلا بد من الجمع بين دليله وبين هذه الإباحة المطلقة بالملك التحقيقي الآني لا التقديري الفرضي ، لأنّ الملكيّة المعتبرة في ذلك التصرف تحقيقية لا تقديرية ، فالالتزام بالملك التقديري ليس جمعا بين الأدلة. بل مقتضى القاعدة إعمال قواعد تعارض العامّين من وجه. إلّا أن يقوم دليل على صحة التصرف المتوقف على الملك ، حيث إنّه شاهد على هذا الجمع ، وإلّا فهو من الجموع التبرعية التي لا سبيل إليها. ومقتضى القاعدة حينئذ التساقط في المجمع والرجوع فيه إلى الأصول التي تقتضي الفساد ، لكون أصالة الفساد محكّمة في المعاملات.

كما أن الجمع بالملك الرتبي أو الذاتي المتقدم في كلام صاحب الجواهر غير ظاهر الوجه. إذ لا اعتبار للملكية العقلائية في غير وعاء الزمان. مضافا إلى منافاته لظواهر


.................................................................................................

__________________

الأدلة.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ الملكية التي يجمع بها بين الأدلة في بيع الواهب وذي الخيار وشراء من ينعتق عليه حقيقيّة آنيّة لا فرضيّة ، لأنّه ليس جمعا بين الدليلين ، وعملا بما دلّ على توقف البيع والعتق على الملك ، ضرورة أنّ الملك المنوط به البيع والعتق هو الملك التحقيقي لا التقديري. نعم يتجه الملك التقديري في الدية ، لعدم قابلية الميت للملك الحقيقيّ.

الثاني : أنّه قد ظهر مما ذكرنا عدم ثبوت جواز تصرف متوقف على الملك ـ لما عرفت مفصلا ـ حتى يستشكل في اقتضاء الإباحة المبحوث عنها في المقام لجواز التصرفات المتوقفة على الملك.

الثالث : أنّ الإباحة سواء أكانت مع العوض كما هو الوجه الثالث أم بدونه ـ كما إذا كانت الإباحة في مقابل الإباحة ـ صحيحة لازمة ، لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لا لدليل وجوب الوفاء بالشروط ، لعدم إحراز شموله للشروط الابتدائية لو لم نقل بعدم شموله لها. وقد تقدّم شطر من الكلام في ذلك في أدلة لزوم المعاطاة.

الرابع : أنّ ما ذكرناه في حكم صور المعاطاة يجري في سائر الصور التي لم يذكرها المصنف ، لشمول العقد لها ، فيجب الوفاء بها ، فإنّ المناط في الجميع هو العقد.


الخامس (١) : في حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود ، وعدمه.

اعلم : أنّه ذكر المحقّق الثاني رحمه‌الله في جامع المقاصد (١) على ما حكي (٢) عنه :

______________________________________________________

التنبيه الخامس : جريان المعاطاة في غير البيع

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه ـ كما صرّح به في المتن ـ تحقيق أنّ المعاطاة هل تختص بالبيع ، فلا تجري في سائر العقود كما لا تجري في الإيقاعات على ما قيل ، أم لا تختص به فتجري في العقود الأخر أيضا؟ وقد نقل أوّلا كلام المحقق الكركي قدس‌سره حيث نسب إلى بعض الأصحاب القول بالمعاطاة في الإجارة والهبة ، ثم ناقش المصنف فيه وتأمّل في النسبة ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وعليه يقع البحث في هذا التنبيه في مقامين ، أحدهما في تحقيق كلام المحقق الثاني قدس‌سره ، والآخر في بيان مختار المصنف قدس‌سره ، ويقع الكلام فعلا في المقام الأوّل.

(٢) الحاكي غير واحد من الأصحاب ، منهم السيد الفقيه العاملي (٢) وصاحب الجواهر وغيرهما قدس‌سرهم ، وكذا حكاه الشهيد الثاني من دون التصريح باسم القائل ، ففي المسالك : «ذكر بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة والهبة ، بأن يأمره بعمل معيّن ويعيّن له عوضا ، فيستحق الأجر بالعمل. ولو كان إجارة فاسدة لم يستحق شيئا مع علمه بالفساد ، بل لم يجز له العمل والتصرف في ملك المستأجر ، مع إطباقهم

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٩

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨ ، جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٣٩


«أن في كلام بعضهم (١) ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة ، وكذا في الهبة ،

______________________________________________________

على جواز ذلك ، واستحقاق الأجر. إنّما الكلام في تسميته معاطاة في الإجارة» (١).

وقال الفقيه المامقاني قدس‌سره : «قد يقال : بورود المعاطاة في الإجارة وسائر العقود عدا النكاح. بل عن بعض من تأخّر ورودها فيه أيضا. وعن تعليق الإرشاد : أنّ من المعاطاة الإجارة ونحوها ، بخلاف النكاح والطلاق ونحوهما ، فلا تقع» (٢).

(١) الظاهر أنّ هذا البعض هو العلّامة قدس‌سره ، إذ المستفاد من كلامه في التذكرة عدم توقف الملك في الهدية على الإيجاب والقبول اللّفظيّين ، خلافا لمن تقدّم عليه كالشيخ والحلّي حيث صرّحوا باعتبار الصيغة فيها ، وأنّه لا يباح التصرف المنوط بالملك في الهدية الفاقدة للصيغة.

وكذا يمكن أن يستظهر من كلامه جريان المعاطاة في الإجارة.

ولما لم تكن عبارة العلّامة في المقامين ـ وهما الهبة والإجارة ـ صريحة في تأثير معاطاتهما في الملك اقتصر المحقق الثاني قدس‌سره على قوله : «ما يقتضي اعتبار المعاطاة ..» ولم يدّع صراحة كلام ذلك البعض في جريان المعاطاة في البابين المذكورين ، ولم يتفرّد المحقق الثاني في هذا الاستظهار ، بل وافقة الشهيد الثاني (٣) والمحقق الأردبيلي قدس‌سرهما أيضا (٤).

والأولى نقل جملة من كلام العلّامة وقوفا على حقيقة النسبة.

قال في إجارة التذكرة : «مسألة : لو دفع ثوبا إلى قصّار ليقصّره ، أو إلى خيّاط ليخيطه ، أو جلس بين يدي حلّاق ليحلق رأسه ، أو دلّاك ليدلكه ، ففعل ، وبالجملة : كل من دفع إلى غيره سلعة ليعمل فيها عملا ، ولم يجر بينهما ذكر أجرة ولا نفيها ، فإن كان من عادته أن يستأجر لذلك العمل كالغسّال والقصّار فله أجرة مثل عمله ،

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥١

(٢) غاية الآمال ، ص ٢٠١

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٢٩

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٨٣


.................................................................................................

______________________________________________________

وإن لم يكن له عادة وكان العمل ممّا له أجرة فله المطالبة ، لأنّه أبصر بنيّته. وإن لم يكن ممّا له أجرة بالعادة لم يلتفت إلى مدّعيها. وللشافعية أوجه ..» (١) ونحوه عبارة القواعد (٢) والإرشاد (٣) ، إلّا أنه أطلق الأجرة في الأخير ولم يقيّده بالمثل.

وأمّا في الهبة فقد جزم العلّامة في القواعد (٤) بعدم كفاية المعاطاة فيها ، ولكنّه مال في التحرير (٥) إلى عدم اشتراط القبول نطقا كما قيل. ويلوح من كلامه في هبة التذكرة كفاية المعاطاة ، حيث إنّه نقل عن بعض العامة ترتب الملك على إرسال الهدية ، ولم يناقش فيه ، وظاهره الركون إليه وإن لم يصرّح به.

قال فيها : «الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول باللفظ كالبيع وسائر التمليكات. وأمّا الهدية فذهب قوم من العامّة إلى أنّه لا حاجة فيها إلى الإيجاب والقبول اللفظيين ، بل البعث من جهة المهدي كالإيجاب ، والقبض من جهة المهدي إليه كالقبول ، لأنّ الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كسرى وقيصر وسائر الملوك فيقبلها ، ولا لفظ هناك ، واستمرّ الحال من عهده إلى هذا الوقت في سائر الأصقاع ، ولهذا كانوا يبعثون على أيدي الصبيان الّذين لا يعتدّ بعبارتهم. ومنهم من اعتبرهما كما في الهبة والوصية. واعتذروا عمّا تقدّم بأنّ ذلك كان إباحة لا تمليكا. وأجيب بأنّه لو كان كذلك لما تصرّف الملّاك (*) ومعلوم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتصرّف فيه ويملّكه غيره. والصدقة كالهدية في ذلك بلا فصل. ويمكن الاكتفاء في هدايا الأطعمة بالإرسال والأخذ من غير لفظ الإيجاب والقبول جريا على المعتاد بين الناس. والتحقيق مساواة غير الأطعمة لها ، فإنّ الهدية قد يكون

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٢٠

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٩٤ (الطبعة الحجرية)

(٣) إرشاد الأذهان ، ج ١ ، ص ٤٢٥

(٤) قواعد الأحكام ، ص ١١٠

(٥) تحرير الأحكام ، ص ٢٨١


وذلك (١) لأنّه إذا أمره (٢) بعمل على عوض معيّن (٣) فعمله ، استحق الأجرة. ولو كانت (٤) هذه إجارة فاسدة لم يجز له العمل

______________________________________________________

غير طعام ، فإنّه قد اشتهر هدايا الثياب والدّواب من الملوك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ مارية القبطية أمّ ولده كانت من الهدايا. وقال بعض الحنابلة : لا يفتقر الهبة إلى عقد ، بل المعاطاة والأفعال الدالة على الإيجاب والقبول كافية ، ولا يحتاج الى لفظ ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يهدي ويهدي إليه ، ويفرّق الصدقة ، ويأمر بتفرقتها ، ولم ينقل في ذلك لفظ إيجاب ولا قبول. ولو كان شرطا لأمر به ..» (١).

واستجوده المحقق والشهيد الثانيان ، ففي جامع المقاصد ـ بعد نقل المضمون ـ : «وهذا قوي متين» (٢).

وفي المسالك بعد نقل نصّ عبارة التذكرة : «وهو حسن» ثم قوّى إفادة الملك لا الإباحة المحضة ، فراجع (٣).

هذا تقريب جريان المعاطاة في الإجارة والهبة.

(١) هذا بيان مستند جريان المعاطاة في الإجارة والهبة ، وهو حكم العلّامة قدس‌سره في التذكرة في كلا البابين ، وقد تقدم مفصّلا.

(٢) أي : أمر الآمر صانعا بعمل على عوض.

(٣) لم يذكر العلّامة أجرة معيّنة ، فالظاهر أنّ المحقق الثاني استظهرها من التعارف والعادة القاضيين بتملّك المأمور لأجرة المثل أو للأجرة المتعارفة.

(٤) هذا استظهار المحقق الثاني من الفرع المذكور في التذكرة وغيرها ، وحاصله : أنّه يتعيّن توجيه استحقاق الأجرة بكفاية المعاطاة في باب الإجارة ، إذ لولاها لم يجز للمأمور التصرف في ثوب الآمر بخياطة وقصارة ، لكونه تصرفا في ملك الغير بلا إذن

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٤١٥

(٢) جامع المقاصد ، ج ٩ ، ص ١٤٢

(٣) مسالك الافهام ، ج ٦ ، ص ١٢


ولم يستحق (١) أجرة مع علمه بالفساد. وظاهرهم (٢) الجواز بذلك. وكذا (٣) لو وهب بغير عقد ، فإنّ ظاهرهم جواز الإتلاف (٤) ، ولو كانت هبة فاسدة لم يجز (٥) ، بل منع من مطلق التصرف. وهو (٦) ملحظ وجيه» انتهى (*).

______________________________________________________

منه ، ولم يستحق أجرة على عمله مع علمه بفساد الإجارة ، لفقد شرطها وهو الإيجاب والقبول اللفظيان.

(١) أمّا عدم استحقاقه للأجرة المسمّاة فلفساد الإجارة. وأمّا عدم استحقاقه لأجرة المثل فلإقدامه على العمل بغير أجرة ، وذلك لعلمه بالفساد.

(٢) أي : والحال أنّ ظاهر الأصحاب جواز عمل المأمور استنادا إلى أمر الآمر ، فلا بدّ من كشف هذا الجواز عن صحة الإجارة المعاطاتية.

(٣) معطوف على «إذا أمره» وهذا الحكم في الهدية منشأ استظهار المحقق الثاني قدس‌سره جريان المعاطاة فيها وعدم توقف الملك على الصيغة ، وقد تقدم نقل عبارة التذكرة آنفا.

(٤) ومن المعلوم أنّ جواز الإتلاف ـ وسائر التصرفات المتوقفة على الملك ـ من آثار صحة الهبة المعاطاتية ، إذ لو كانت فاسدة كانت العين الموهوبة باقية على ملك الواهب ، ولم يكن تصرف المتهب فيها ـ مطلقا ـ جائزا.

(٥) يعني : لم يجز الإتلاف ، بل يمنع من جميع التصرفات.

(٦) هذا نظر المحقق الثاني قدس‌سره ، يعني : أنّ ما يقتضيه كلام بعضهم ـ من جريان المعاطاة في الإجارة والهبة ـ متين ووجيه.

__________________

(*) وقد استدلّ على جريانها في سائر العقود بوجوه مذكورة في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره :

الأوّل : السيرة المستمرة على إجرائها في غير البيع ، على حدّ جريانها فيه.

الثاني : صدق اسم كل عنوان من عناوين العقود على المعاطاة التي تقوم مقام


وفيه (١) : أنّ معنى جريان المعاطاة في الإجارة على مذهب المحقق الثاني

______________________________________________________

(١) شرع المصنّف قدس‌سره في مناقشة ما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره من تعميم المعاطاة للإجارة والهبة ، فأورد عليه في ما يتعلق بالإجارة بوجوه ثلاثة ، كما أورد عليه بوجهين في الهبة سيأتي بيانهما تبعا للمتن.

الأوّل : أنّ المحقق الكركي قدس‌سره التزم في معاطاة البيع بالملك المتزلزل ، ونفى مقالة المشهور من ترتب إباحة التصرف عليها. وعلى هذا المبنى يكون معنى جريان المعاطاة في الإجارة صيرورة الأجير ـ وهو المأمور ـ مالكا للأجرة المعيّنة على عهدة المستأجر الآمر ، وصيرورة الآمر مالكا للعمل المعيّن ـ المأمور به ـ على المأمور.

ولكن يرد عليه أنّا لم نجد من صرّح بتحقق الملكية المتزلزلة في هذه الإجارة ، فكيف أسندها المحقق الثاني إليهم؟ على ما هو ظاهر قوله : «إن في كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة» ولعلّ هذا البعض يقول بكون المعاطاة مبيحة مطلقا سواء في البيع والإجارة. ومن المعلوم أنّ إباحة المنفعة والأجرة ـ من دون

__________________

اللفظ ، فتشملها أدلة تلك العقود.

الثالث : الهدايا التي أهديت الى المعصومين عليهم‌السلام ، فإنّهم كانوا يعاملون معها معاملة الملك ، مع وضوح خلوّها عن اللفظ.

الرابع : إسناد المحقق الثاني إلى ظاهر الأصحاب جريان المعاطاة في الهبة والإجارة.

الخامس : عدم القول بالفصل بين البيع وغيره. (١)

والكلّ ـ ما عدا الثاني ـ مخدوش ، وإن كان المدّعى حقّا.

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٠٢


الحكم بملك المأمور الأجر المعيّن على الآمر (١) ، وملك الآمر العمل المعيّن على المأمور ، ولم نجد (٢) من صرّح به (٣) في المعاطاة.

______________________________________________________

الملكية ـ أجنبية عن استحقاقهما المنوط بالملك ، هذا.

الثاني : أنّ أصل استظهار المحقق الثاني جريان المعاطاة في الإجارة بقوله : «ولو كانت إجارة فاسدة لم يجز له العمل» ممنوع ، فلعلّ ذلك البعض قائل بالإجارة المعاطاتية المفيدة للإباحة لا للملك. وجه منع الاستظهار : عدم الملازمة بين فساد الإجارة ومنع الأجير عن العمل ، وذلك لأنّ فسادها غير مانع عن عمل الأجير مطلقا ولو تبرّعا ، لإمكان وجود إذن المالك في التصرف وعدم تقييده بصحّة الإجارة بناء على تعدد المطلوب. وإنما يستلزم المنع عن العمل إذا تقيّد إذن المالك بصحة الإجارة.

والحاصل : أنّ مجرّد جواز التصرف في ملك الآمر لا يدلّ على صحّة الإجارة ، حتى يستظهر من الملازمة بينهما صحة الإجارة المعاطاتية.

الثالث : أنّ مجرّد علم المأمور بفساد الإجارة ـ لخلوّها عن الصيغة المعتبرة فيها ـ لا يمنع عن استحقاق الأجرة ، بل المانع منه هو قصد التبرّع ، لأنّه رافع لحرمة عمله ، فبدون هذا القصد يستحق الأجرة ، لقاعدة احترام عمل المسلم. نعم العلم بفساد الإجارة يوجب علمه بعدم استحقاق الأجرة المسمّاة ، ولا يستلزم بذل عمله مجّانا.

هذه مناقشات المصنف فيما يتعلق باستظهار جريان المعاطاة في الإجارة.

(١) أي : كون الآمر ضامنا للأجرة المعيّنة ، والمأمور ضامنا للعمل المعيّن كخياطة الثوب ونحوها ممّا أمره به.

(٢) هذا أوّل الوجوه الثلاثة ، ومقصود المصنف منع قول المحقق الثاني : «ان في كلام بعضهم ما يقتضي ..». فإنّ عدم الظّفر بالمصرّح يجعل دعوى المحقق الثاني اجتهادا منه ، لا حكاية وإخبارا عن رأي بعض الأصحاب.

(٣) أي : بملك المأمور للأجرة ، وملك الآمر للعمل المعيّن.


وأمّا (١) قوله : «لو كانت إجارة فاسدة لم يجز له العمل» فموضع نظر ، لأنّ فساد المعاملة لا يوجب منعه عن العمل ، سيّما (٢) إذا لم يكن العمل تصرفا في عين من أموال المستأجر.

وقوله : «لم يستحق اجرة مع علمه بالفساد» ممنوع (٣) ، لأنّ الظاهر ثبوت أجرة المثل ، لأنّه (٤) لم يقصد التبرّع ، وإنّما قصد عوضا لم يسلم له (٥).

وأمّا مسألة الهبة (٦) فالحكم فيها بجواز إتلاف الموهوب لا يدلّ على

______________________________________________________

(١) هذا ثاني وجوه المناقشة ، وهو منع الملازمة بين صحّة الإجارة وجواز التصرف في ملك الآمر.

(٢) كما إذا أمر شخصا بأن يبني مسجدا أو قنطرة أو غيرهما ـ مما لا يكون ملكا للمستأجر ـ بعوض ، حيث إنّ العمل حينئذ ليس تصرفا في عين أموال المستأجر ، فلا وجه لعدم جوازه من ناحية التصرف في مال الغير. فوجه الخصوصية هو عدم استلزام العمل للتصرّف في مال الغير.

(٣) هذا هو الإشكال الثالث على كلام المحقق الكركي قدس‌سره ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «الثالث ان مجرد علم المأمور بفساد الإجارة .. إلخ».

(٤) أي : لأنّ المأمور لم يقصد التبرّع ، فهو يستحق أجرة المثل من الآمر ، بمناط استيفاء عمله المحترم.

(٥) أي : لم يسلم العوض المسمّى للمأمور من جهة علمه بفساد الإجارة ، لخلوّها عن الصيغة المعتبرة ـ بنظرهم ـ في العقود اللازمة.

(٦) أورد المصنف على جريان المعاطاة في الهبة بوجهين ، أحدهما : ناظر إلى استظهار المحقق الثاني من كلام بعض الأصحاب. وثانيهما : ناظر إلى منع أصل منشأ الاستظهار.

أمّا الأول فتوضيحه : أنّ استكشاف مملّكية الهبة المعاطاتية ـ من حكمهم بجواز إتلاف العين الموهوبة ـ ممنوع ، لعدم كون جواز إتلافها لازما مساويا لصحّة الهبة


جريان المعاطاة فيها ، إلّا (١) إذا قلنا في المعاطاة بالإباحة ، فإنّ (٢) جماعة كالشيخ والحلّي والعلّامة صرّحوا بأنّ إعطاء الهدية ـ من دون الصيغة ـ يفيد الإباحة دون الملك. لكن (٣) المحقق الثاني رحمه‌الله ممّن لا يرى بكون المعاطاة عند القائلين بها

______________________________________________________

الفاقدة للصيغة حتّى يدلّ على جريان المعاطاة فيها ، بل هو أعم من صحتها ، لكفاية الإذن المالكي في جواز الإتلاف مع بقاء الرقبة على ملك الواهب ، كما هو الحال في إباحة الطعام للضيف مع كونه ملكا للمضيف.

وعليه فحكم بعض الأصحاب بجواز إتلاف العين الموهوبة غير كاشف عن التزامه بمملّكية الهبة المعاطاتية ، لما عرفت من أنّ جواز التصرف المتوقف على الملك ـ كالإتلاف ـ لازم أعم لكلّ من الملك والإباحة المالكية.

وأمّا الثاني فتوضيحه : أنّ ما نسبه المحقق الكركي إلى بعض الأصحاب ـ في الهبة ـ ممنوع ، إذ لا أصل له ، لأنّ توقف الملك في الهبة على الإيجاب والقبول اللفظيين كاد أن يكون متّفقا عليه بين الأصحاب ، بل صرّح شيخ الطائفة وغيره بمنع التصرف المنوط بالملك في معاطاة الهدايا ، ومعه كيف نسب المحقق الثاني إلى بعض الأصحاب إفادة معاطاة الهبة للملك؟ فإنّه مخالف للمشهور بل المدّعى عليه الإجماع. وعلى هذا لا أساس للنسبة المزبورة أصلا.

(١) ظاهره الاستثناء من قوله : «بجواز الإتلاف» وغرضه قدس‌سره منع أصل جواز إتلاف العين الموهوبة حتى لو فرضنا الملازمة بين جواز الإتلاف والملك ، وتوضيحه : أن إباحة التصرف في الهبة الفاقدة للصيغة تعبدية لا مالكية ، ومن المعلوم عدم اقتضاء مجرّد الإباحة لمشروعية التصرف المتوقف على الملك كالإتلاف والبيع والعتق والوقف ونحوها ، والدليل عليه تصريح جماعة ـ منهم شيخ الطائفة ـ بحرمة المباشرة مع الجارية المهداة بالهدية الفاقدة للإيجاب والقبول اللفظيين.

(٢) الظاهر أنّه تتمة للمستثنى وتعليل له ، فكأنه قال : «إلّا إذا قلنا في المعاطاة بالإباحة كما ذهب إليه جماعة .. إلخ».

(٣) استدراك على المستثنى وهو قوله : «إلّا إذا قلنا» وحاصله : أنّ المحقق الثاني قدس‌سره


مفيدا للإباحة المجرّدة. وتوقّف (١) الملك في الهبة على الإيجاب والقبول كاد أن يكون متّفقا عليه كما يظهر من المسالك (٢).

وممّا ذكرنا (٣) يظهر المنع في قوله : «بل مطلق التصرف» هذا (*).

______________________________________________________

ذهب إلى إفادة المعاطاة للملك ، لا الإباحة المحضة ، فعلى هذا يكون جواز الإتلاف ـ بنظره ـ من آثار الملك ودالّا عليه ، لا من آثار الإباحة.

(١) هذا هو الإشكال الثاني على المحقق الكركي قدس‌سره ومحصّله : أنّ حصول الملك في الهبة المعاطاتية ـ كما ذهب إليه هذا المحقق ـ ممّا لا وجه له ، لمخالفته لما يظهر من المسالك من أنّ اعتبار الصيغة في الهبة قريب من الإجماع ، فكيف يترتّب الملك على معاطاة الهبة؟

(٢) قال الشهيد الثاني في شرح كلام الشرائع : «وهو يفتقر إلى الإيجاب والقبول» ما لفظه : «وظاهر الأصحاب الاتفاق على افتقار الهبة مطلقا إلى العقد القولي في الجملة. فعلى هذا : ما يقع بين الناس على وجه الهديّة من غير لفظ يدل على إيجابها وقبولها لا تفيد الملك ، بل مجرّد الإباحة» (١).

لكنه قال في آخر كلامه : «يمكن أن يجعل ذلك كالمعاطاة يفيد الملك المتزلزل .. إلخ» فمال أخيرا إلى جريان المعاطاة في الهدية ، وإفادتها الملك المتزلزل.

(٣) أي : من منع جواز الإتلاف ـ لو كانت الهبة فاسدة ـ يظهر المنع عمّا أفاده المحقق الثاني بقوله : «بل منع من مطلق التصرف» وذلك لأنّ الفساد ـ بمعنى عدم ترتب الملك ـ لا يقتضي المنع عن سائر التصرفات ، لجواز التصرف بدون الملك ، كما هو مذهب القائلين بإفادة المعاطاة للإباحة.

__________________

(*) ما أورده المصنف على المحقق الثاني غير ظاهر. أمّا أوّلا : فلأنّ هذا المحقق لم يدّع أزيد من اقتضاء كلام بعض الأصحاب جريان المعاطاة في الإجارة والهبة ،

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ١٢


.................................................................................................

__________________

وهذه النسبة في محلّها ، لموافقة غير واحد له. خصوصا مع صراحة كلام العلّامة ـ الآتي نقله في المتن ـ من اتحاد الرهن والبيع في حكم المعاطاة منعا وجوازا ، بعد عدم خصوصية في الرّهن في هذا الحكم ، بل هو كسائر المعاملات ، إلّا إذا قام دليل على اعتبار صيغة خاصة في بعضها كالنكاح والنذر والطلاق.

وقد التزم الشهيد الثاني والمحقق الأردبيلي قدس‌سرهما بجريان المعاطاة في الإجارة ، قال في المسالك : «لمّا كان الأمر بالعمل يقتضي استيفاء منفعة مملوكة للمأمور متقوّمة بالمال ، وجب ثبوت عوضها على الآمر كالاستيجار معاطاة» (١).

وقال المحقق الأردبيلي : «هذا الحكم ـ أي استحقاق الأجرة بالأمر بالعمل ـ مشهور ، ويحتمل أن يكون مجمعا عليه. ولعلّ سنده : اقتضاء العرف ، فإنّه يقتضي أن يكون مثل هذا العمل بالأجرة ، فالعرف مع الأمر بمنزلة قوله : اعمل هذا ولك عليّ الأجرة ، فيكون جعالة أو إجارة بطريق المعاطاة ، مع العلم بالأجرة ، ولو كان مثل أجرة الحمّالين ، ويبعد كونها إجارة باطلة» (٢) ويظهر من أوّل كتاب الإجارة التزامه بالمعاطاة في الإجارة كالبيع ، فراجع.

وقال السيد الفقيه العاملي في تصحيح هذه الإجارة ـ بعد المناقشة في السيرة بعدم استمرارها ـ ما لفظه : «فلعلّ الأصل في ذلك أنّه من باب المعاطاة في الإجارة ، وهي كالمعاطاة في البيع ، فيلزمه حينئذ الأجرة المسمّاة لمثل ذلك العمل» (٣).

والحاصل : أنّ استحقاق المأمور للأجرة إمّا أن يستند إلى جريان المعاطاة في الإجارة ، لاجتماع شرائطها من معلوميّة المنفعة كخياطة الثوب وحلاقة الرأس ونحوهما من الأعمال المحترمة ، ومعلومية الأجرة لتعيينها من قبل الآمر ، أو لأجل

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٢٩

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٨٣

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٢٧٥


.................................................................................................

__________________

التعارف والعادة اللّذين هما المرجع في تعيينها ، وإمّا أن يستند إلى قاعدة استيفاء عمل محترم.

وعليه فما في الجواهر من قوله : «لا لأنّها من المعاطاة ، فإن الشرائط فيها مفقودة ، بل من باب الضمان لاحترام عمل المسلم ..» (١) غير ظاهر ، بعد تصريح من عرفت بجريان المعاطاة في الإجارة ، مع كفاية إطلاقات أدلة الإجارة.

إنّما الكلام في كون الضمان بأجرة المثل أو بالمسمّاة. ففي الشرائع والقواعد وغيرهما التصريح بأجرة المثل ، وفي الإرشاد والمسالك إطلاق الأجرة. ولو فرض تعيّن المثل في مورد الإطلاق لم يكشف عن فساد الإجارة ، كي يتجه إنكار مالكية المأمور للأجر المعيّن ، لكفاية التعارف في مقام التعيين ، فينزّل إطلاق قول الآمر : «وعليّ الأجر» ـ وكذا إهماله رأسا ـ على ما هو المتعارف لمثله.

ويمكن توجيهه بما أفاده السيد الفقيه العاملي قدس‌سره : بقوله : «إلّا أن تقول : إنّ الغالب توافقهما ـ أي : أجرة المثل والمسمّى ـ فلا فرق بين العبارتين. أو تقول : إن المسمّى لا يعتبر في معاطاة الإجارة حيث يخالف المثل» (٢).

وعليه فقول المصنف قدس‌سره : «ولم نجد من صرّح به» ممنوع إن كان مقصوده نفي أصل استظهار المحقق الثاني من كلام البعض. وإن كان الغرض منه عدم نصوصية كلام البعض في جريان المعاطاة في الإجارة فهو وإن كان حقّا ، إلّا أنّ المتبع في مقام الاستظهار والاحتجاج ظهور الكلام ـ ولو بالملازمة العرفية ـ في نسبة المضمون إلى قائله ، ولا تعتبر الصراحة أصلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إنكار المعاطاة في الإجارة والهبة هنا ينافي ما تقدّم من المصنف في أدلّة مملكية المعاطاة من الاستناد إلى الإجماع المركّب بين البيع والإجارة والهبة.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٣٣٧

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٢٧٥


.................................................................................................

__________________

إذ لو كان الأصحاب متّفقين على الإباحة في البابين لم يبق موضوع لعدم القول بالفصل ، بل كان اتّفاقهم على منع المعاطاة في الإجارة والهبة موهنا لاستفادة الملك من إطلاق أدلة البيع أيضا ، ولازمه القول بالإباحة المحضة تعبدا في الجميع ، وهو ضدّ مقصود المصنف من إثبات الملك في معاطاة البيع بالاستعانة من إطلاقات الإجارة والهبة.

وبعبارة أخرى : الاستدلال بعدم القول بالفصل بين البيع وبينهما يتوقف على ذهاب جمع إلى مملّكية معاطاتهما ، وجمع إلى الإباحة ، حتى يتجه إلحاق معاطاة البيع بهما ، فلو كان الملك فيهما منوطا بالإنشاء القولي ـ عند الكلّ ـ أشكل الأخذ بإطلاقاتهما ، ولزم تقييدها بالعقد المملّك ، ولا يبقى حينئذ مجال لاستفادة مملّكية البيع المعاطاتي ، هذا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ مقصود المحقق الثاني قدس‌سره مجرّد استظهار تعميم المعاطاة لبابي الإجارة والهبة ـ من كلام البعض ، بلا نظر إلى كونها مفيدة للملك أو للإباحة ، فغرضه قدس‌سره كفاية إنشائهما بالفعل كما في البيع ، وأمّا إمضاء الشارع لما قصداه أو ترتّب الإباحة عليه تعبدا فذاك مقام آخر لا يلازم أصل الجريان ، هذا ما أفاده المحقق الإيرواني (١).

وهو وإن كان حقّا في نفسه ، فإنّ الغرض كفاية إنشاء العناوين الاعتبارية بالفعل ، لا ترتب خصوص الملك ، ومعنى كفايته ترتب الأثر المقصود من كلّ عنوان معاملي على إنشائه بالفعل ، وعدم توقفه على الصيغة المعهودة ، فقد يكون الأثر ملك العين كما في البيع والهبة والصلح على عين ، وقد يكون ملك المنفعة كما في الإجارة والصلح على المنفعة ، وقد يكون فكّ الملك وتحريره كما في وقف المساجد ، وقد يكون الوثيقة للدّين كما في الرّهن ، وقد يكون غير ذلك كما في النكاح والطلاق والعارية والوديعة والوكالة والعتق.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٦


ولكن الأظهر (١) ـ بناء على جريان المعاطاة في البيع ـ جريانها في غيره

______________________________________________________

(١) هذا شروع في المقام الثاني ممّا تعرّض له المصنف قدس‌سره في التنبيه الخامس ، وغرضه إثبات كفاية الإنشاء الفعلي في مطلق العناوين الاعتبارية ، وأنّ المعاطاة ليست مخالفة للقاعدة حتى تختص بباب البيع. وقد أفاد أوّلا جريانها في خصوص الإجارة والهبة ، ثم تمسّك ثانيا بالإجماع المركب بينه وبين غيره من المعاملات ، فهنا وجهان :

أحدهما : أنّ المناط في صحة المعاطاة في البيع هو قابلية الفعل لإنشاء «تمليك عين بمال» به كإنشائه بالصيغة ، وحيث كان «الإعطاء والأخذ بقصد التمليك بالعوض» مصداقا لعنوان البيع العرفي كان المناسب التعدّي عنه إلى باب الإجارة والهبة أيضا ، إذ المقصود فيهما الملك أيضا ، فإقباض العين في الإجارة ـ كالدار ـ تمليك لمنفعتها بعوض ، وإقباض العين في الهبة تمليكها للمتّهب.

وعليه فلا وجه لحصر المعاطاة بالبيع ، إذ المقصود فيه التمليك ، فإن كان الفعل صالحا لإنشاء التمليك به لم يفرّق فيه بين البيع والإجارة والهبة ، لاشتراك الكلّ في جامع التمليك. وإن لم يكن الفعل قابلا لإنشاء لزم منع البيع المعاطاتي أيضا ، لفرض

__________________

إلّا أنّه قد يشكل بما أورده المحقق الثاني قدس‌سره ـ بما سيأتي في المتن ـ على العلّامة من الفرق بين معاطاة البيع والرّهن بقيام الإجماع على جريانها في البيع ، وعدم قيامه عليها في الرّهن. وظاهره أنّ المعاطاة خلاف الأصل ، فيقتصر فيها على المتيقن ، وهو البيع ، دون غيره من المعاملات.

لكن لو كان هذا مبنى العلّامة قدس‌سره لم يتم استظهار المحقق الثاني منه جريانها في الإجارة والهبة أيضا ، وقوفا فيما خالف الأصل على مورد اليقين ، فاستفادة التعميم منوطة بعدم كون المعاطاة خلاف الأصل ، وعدم اعتبار الإجماع على خروج البيع عنه ، لاحتمال مدركيته ، وأنّ المناط في إفادة المعاطاة للملك إطلاق الأدلة الإمضائية ، وهذا الإطلاق موجود في سائر العناوين أيضا ، هذا.


من الإجارة والهبة ، لكون (١) الفعل مفيدا (٢) للتمليك فيهما.

وظاهر المحكي (٣) عن التذكرة : عدم القول بالفصل بين البيع وغيره ، حيث قال في باب الرّهن : «إنّ الخلاف في الإكتفاء فيه بالمعاطاة والاستيجاب والإيجاب عليه ، المذكور (٤) في البيع آت هنا» (١) انتهى.

______________________________________________________

قصور الأفعال عن تأدية المراد. ولمّا كان هذا الشّقّ باطلا ـ لما تقدم من الأدلة على مملّكية المعاطاة ـ تعيّن القول بجريانها في الإجارة والهبة أيضا.

ثانيهما : أن الدليل التعبديّ ـ وهو الإجماع المركّب ـ يقتضي جريان المعاطاة في سائر العناوين الاعتبارية كالوديعة والوكالة والوصيّة والرهن وغيرها ، لما يظهر من كلام العلّامة في رهن التذكرة من عدم القول بالفصل بينه وبين البيع ، فإمّا أن يقال بفساد المعاطاة في الجميع ، وإمّا بصحتها فيه ، لقابلية الأفعال ـ ولو بمعونة القرائن الحالية أو المقالية ـ لإنشاء الأمور الاعتبارية بها. وحيث إنّ الصحة في البيع متسالم عليها فلا بد من صحتها في مطلق المعاملات ، إلّا مع قيام دليل على اعتبار الصيغة الخاصة في بعض العقود والإيقاعات كالنكاح والطلاق والنذر ، وإلّا فمقتضى القاعدة وقوعها بكلّ من القول والفعل ، هذا.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل ، وهو التعدي عن البيع إلى خصوص الإجارة والهبة ، وفاقا لما استظهره المحقق الثاني قدس‌سره من كلام بعض الأصحاب.

(٢) يعني : بضمّ القرينة المقالية أو المقامية ، وإلّا فالفعل ـ وهو الإعطاء ـ لا يفيد بنفسه شيئا من الإجارة والهبة وغيرهما من العناوين الاعتبارية الإنشائية ، فإذا صار الفعل مفيدا له شمله عموم دليل الصحة.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثاني ، وهو تعميم المعاطاة بالتعبد ، لا بمناط كاشفية الفعل عن القصد.

(٤) صفة ل «الخلاف» يعني : الخلاف ـ المذكور في البيع ـ آت في الرهن أيضا.

__________________

(١) : الحاكي هو السيد العاملي ، مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٧٢ ، لاحظ تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ١٢


لكن (١) استشكله في محكي جامع المقاصد «بأنّ البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع ، بخلاف ما هنا (٢)» (١).

ولعلّ (٣) وجه الإشكال عدم تأتّي المعاطاة بالإجماع في الرهن على النحو الّذي أجروها في البيع ،

______________________________________________________

(١) هذا إشكال على الإجماع الذي ربما يظهر من كلام العلّامة ، وهو في الحقيقة إنكار للإجماع على اتحاد حكم البيع والرهن ، ومحصّله : أنّ أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات تقتضي فساد المعاملة المعاطاتية مطلقا ، سواء في البيع وغيره ، خرجنا عنه في خصوص البيع ، إمّا لإفادتها الإباحة كما عليه المشهور ، وإمّا الملك الجائز كما عليه المتأخرون. وأمّا الرهن فهو باق تحت عموم المنع ، فلا وجه للتسوية بينه وبين البيع ، هذا.

(٢) أي : في الرهن.

(٣) التعبير ب «لعلّ» من جهة تطرّق احتمالين في إشكال المحقق الثاني على العلامة قدس‌سرهما.

الأوّل : أنّ الأصل في مطلق المعاملات المعاطاتية هو الفساد ، إلّا مّا خرج بالدليل كالبيع.

الثاني : أنّ المعاطاة ليست على خلاف الأصل ، وإنّما لا تجري في عقد الرّهن لخصوصية فيه مانعة عن إنشائه بالفعل ، وذلك لأن المعاطاة إمّا تفيد الإباحة أو الملك الجائز. والأوّل غير متصور ، إذ ليس المطلوب في الرهن إباحة التصرف ، بل الاستيثاق للدين. والثاني ينافي حقيقة الرهن وهي الاستيثاق ، إذ الجواز ينافي الوثوق بعد وضوح كون الراهن سلطانا على فسخ عقد الرّهن.

ولا يبعد ظهور كلام المحقق الثاني في الاحتمال الأوّل ، ولذا حمله المصنف على الوجه الثاني احتمالا.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٥ ، ص ٤٥


لأنّها (١) هناك إمّا مفيدة للإباحة أو الملكية الجائزة على الخلاف.

والأوّل (*) غير متصوّر هنا (٢). وأمّا الجواز فكذلك (٣) لأنّه ينافي الوثوق الذي به قوام مفهوم الرهن خصوصا (٤) بملاحظة أنّه لا يتصور هنا (٥) ما يوجب

______________________________________________________

(١) أي : لأنّ المعاطاة في البيع.

(٢) أي : في الرّهن ، لأنّ مقتضى كونه وثيقة للدين عدم تصرّف الراهن فيه ، ومن المعلوم أنّ المبيح يجوز له استرداد ماله من المباح له.

(٣) يعني : أنّ جواز الرهن غير متصور أيضا ، لمنافاته للوثوق المقوّم لماهية الرّهن.

(٤) وجه الخصوصية : أنّ الالتزام بالملك الجائز في معاطاة البيع أخفّ مئونة منه في الرهن ، وذلك لأول الجواز هناك الى اللزوم عند طروء الملزم كتلف إحدى العينين ، وهذا بخلاف جواز الرهن ، إذ لا يجري شي‌ء من الملزمات فيه ، حيث إنه لو تلفت العين المرهونة لم يبق شي‌ء حتى يكون وثيقة للدّين.

مضافا إلى : أنّ المعتبر في الرهن هو الوثوق حدوثا وبقاء ، والجواز مناف لأصل الاستيثاق.

(٥) أي : في الرهن ، وضمير «انه» للشأن.

__________________

(*) الأولى بسلاسة العبارة أن يقال : «وكلاهما غير متصوّر هنا كما لا سبيل الى اللزوم» أمّا عدم تصور الإباحة فواضح ، لعدم كون المطلوب إباحة التصرف ـ للمرتهن ـ في العين المرهونة ، لأنّ الرهن وثيقة للدين ، ويتعلق حق المرتهن بها من دون أن تدخل في ملكه أو يباح له التصرف فيها.

وأما عدم تصور الملكية الجائزة فلمنافاتها للوثوق الذي به قوام مفهوم الرهن ، خصوصا مع استمرار الجواز وعدم أوله إلى اللزوم أصلا. وأمّا عدم تصور اللزوم فلكونه مخالفا للإجماع المدّعى على إناطة لزوم العقد باللفظ.


رجوعها الى اللزوم ليحصل به الوثيقة في بعض الأحيان (١). وإن جعلناها (٢) مفيدة للزوم كان مخالفا لما أطبقوا عليه من توقف العقود اللازمة (٣) على اللفظ.

وكأنّ هذا (٤) هو الذي دعا المحقق الثاني إلى الجزم بجريان المعاطاة في مثل الإجارة والهبة والقرض ، والاستشكال في الرّهن (*).

______________________________________________________

(١) أي : عند طروء الملزم.

(٢) يعني : وإن جعلنا الرّهن المعاطاتي مفيدا للزوم من أوّل الأمر ـ بلا حاجة الى طروء الملزم ـ فإنّه وإن كان مناسبا للاستيثاق ، لكنه مخالف للإجماع المنعقد على توقف العقود اللازمة على اللفظ.

وعليه فملخص إشكال جريان المعاطاة في الرهن على هذا هو : أنّه بناء على الجواز لا يتحقق الرهن ، لتقوم مفهومه بالوثوق الذي ينافيه الجواز. وبناء على اللزوم ينافيه الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة ، حيث إنّ الرهن لازم من طرف الراهن.

(٣) يعني : سواء أكان لزومها من طرفين أو من طرف واحد كما في الرّهن ، فإن لزومه من طرف الرّاهن لا المرتهن.

(٤) أي : وكأنّ إطباقهم على توقف العقود اللازمة على اللفظ دعا المحقق الثاني .. إلخ ، ومقصود المصنف من هذه الجملة توجيه تفصيل المحقق الثاني بين الإجارة والهبة والقرض وبين الرهن ، بجريان المعاطاة في تلك الثلاثة دون الأخير ، وذلك لأن جواز الملك فيها ممكن ، لصيرورته لازما بطروء الملزوم ، بخلاف الرهن ، لامتناع الجواز فيه ، لمنافاته للاستيثاق.

__________________

(*) ما نسبه المصنف الى المحقق الثاني من التزامه بجريان المعاطاة في الإجارة والهبة والقرض وإفادتها فيها ملكا جائزا لا يخلو من شي‌ء.

أمّا في الإجارة فلم يظهر ممّا نقلناه عنه في أوّل هذا التنبيه التزامه بالملك الجائز ،


نعم (١) من لا يبالي

______________________________________________________

(١) استدراك على التوجيه المتقدّم بقوله : «وكأنّ هذا ..» وغرضه الإيراد على المحقق الثاني المفصّل بين معاطاة الرهن وبين معاطاة الإجارة والهبة والقرض. وحاصله : أنّه لا وجه للفرق بين العقود المزبورة ، فلا بدّ من الالتزام بصحة الرّهن المعاطاتي وترتب اللزوم عليه ، وذلك لوجود المقتضي وفقد المانع.

أمّا وجود المقتضي فهو إطلاق بعض أدلة الرهن ، كمعتبرة عبد الله بن سنان ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السّلم في الحيوان والطّعام ، ويرتهن الرّجل بماله

__________________

بل مقصوده إثبات أصل مشروعية معاطاة الإجارة. ولعلّ المصنف قدس‌سره ظفر بكلام منه دالّ على إفادتها فيها للملك المتزلزل.

وأمّا في القرض فربما يكون المستفاد من جامع المقاصد ترتّب الإباحة المحضة على معاطاة القرض ، وتوقف الملك على الصيغة ، فلاحظ قوله فيه : «ظاهر عباراتهم : أنّه لا بدّ من الإيجاب القولي ، وعبارة التذكرة أدلّ على ذلك. ويرد عليه : أنّه قد سبق في البيع الاكتفاء بالمعاطاة التي هي عبارة عن الأخذ والإعطاء. فإن اكتفى في العقد اللازم بالإيجاب والقبول الفعليين فحقّه أن يكتفي بها هنا بطريق أولى. وليس ببعيد أن يقال : إن انتقال الملك إلى المقترض بمجرّد القبض موقوف على هذا ، لا إباحة التصرف إذا دلّت القرائن على إرادتها» (١).

والجملة الأخيرة صريحة في توقف ملك المقترض ـ حتى المتزلزل منه ـ على اللفظ ، وأنّ القبض لا يفيد أكثر من إباحة التصرف لو كان مقرونا بما يدلّ عليها ، فالقبض المجرّد عن قرينة الإباحة لا يؤثّر أصلا في الإباحة فضلا عن الملك.

ولعلّ مقصود المصنف قدس‌سره من الجواز أصل مشروعية القرض المعاطاتي ، لا ترتب الملك الجائز عليه ، أو لعلّه ظفر بكلام آخر لهذا المحقق ، والله تعالى العالم بحقائق الأمور.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٥ ، ص ٢٠


مخالفة (١) ما هو المشهور ـ بل المتفق عليه بينهم ـ من توقف العقود اللازمة على اللفظ ، أو حمل (٢) تلك العقود على اللّازمة من الطرفين

______________________________________________________

رهنا؟ قال : نعم ، استوثق من مالك» (١). فإنّه عليه الصلاة والسلام جوّز أخذ الوثيقة على المبيع سلما ، وإطلاقه شامل لكلّ من الرهن القولي والفعلي ، ولا مقيّد في البين مع كونه عليه‌السلام في مقام البيان.

وأمّا انتفاء المانع ، فلأنّ المانع عن الأخذ بالإطلاق المزبور هو الإجماع المدّعى على إناطة العقود اللازمة بالإنشاء القولي. ولكنّه غير مانع بنظر المحقق الكركي قدس‌سره إمّا لأنّه لا يعتني بأصل هذا الإجماع ، ولذا خالف المشهور في معاطاة البيع ، وأوّل حكمهم بالإباحة بالملك المتزلزل. وأمّا لأنّه وإن اعتنى بهذا الإجماع. لكنّه يحمل معقده على خصوص العقود اللّازمة من الطرفين كالبيع والإجارة والصلح ونحوها من المعاوضات المبنية على اللزوم ، لا مطلقا ولو كان اللزوم من طرف واحد كالرّهن الذي هو لازم من طرف الرّاهن فقط.

فإن قلت : إنّ إطلاق معقد الإجماع على إناطة العقود اللازمة باللفظ محكّم ، ولا وجه لإخراج الرّهن منه. وعليه يتجه منع المحقق الكركي عن الرّهن المعاطاتي.

قلت : لا إطلاق في الإجماع المزبور حتى يشمل الرّهن ، لاختصاصه بالعقود المعاوضية ، والرّهن خارج عنها موضوعا ، إذ ليس فيه إعطاء شي‌ء وأخذ آخر ، وإنّما هو مجرّد استيثاق للدّين.

وعلى هذا ينبغي أن يلتزم المحقق الكركي قدس‌سره بصحة الرّهن المعاطاتي ، وكونه كالقولي مفيدا للّزوم.

(١) الأولى اقترانه بالباء ، بأن يقال : «لا يبالي بمخالفة ..» وهذا إشارة إلى عدم الاعتناء بالإجماع رأسا.

(٢) معطوف على «مخالفة» يعني : لا يبالي المحقق الثاني بتوجيه الإجماع المزبور

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢١ ، الباب ١ من كتاب الرهن ، الحديث : ١


فلا (١) يشمل الرهن ، ولذا (٢) جوّز بعضهم الإيجاب بلفظ الأمر ، ك «خذه» والجملة الخبرية ، أمكن (٣) أن يقول بإفادة المعاطاة في الرّهن اللّزوم ، لإطلاق (٤) بعض أدلّة الرّهن. ولم يقم (٥) هنا إجماع على عدم اللزوم كما قام في المعاوضات (٦).

______________________________________________________

بحمله على خصوص العقود اللازمة من الطرفين ، فيخرج الرّهن عنها موضوعا ، لكونه لازما من قبل الراهن فقط.

(١) هذا متفرّع على قوله : «حمل تلك العقود .. إلخ».

(٢) أي : ولأجل حمل تلك العقود على العقود اللّازمة من الطرفين جوّز بعض الفقهاء إنشاء الرّهن بلفظ الأمر وبالجملة الخبرية ، قال الشهيد قدس‌سره : «وإيجابه : رهنت ووثقت ، وهذا رهن عندك أو وثيقة .. ولو قال : خذه على مالك أو بمالك فهو رهن» (١).

وكلامه صريح في صحة إنشاء الرّهن بصيغة الأمر وبالجملة الخبرية. ولو كان من العقود اللازمة من الطرفين كالبيع والإجارة تعيّن إنشاؤه بالفعل الماضي خاصة ، لما سيأتي تفصيله في بحث ألفاظ العقود إنشاء الله تعالى.

(٣) هذا جزاء قوله : «من لا يبالي» والمراد بالإمكان هنا ما يساوق التعيّن واللّابديّة ، لا الأعم منه ومن الوقوع حتى يكون بمعنى الاحتمال الصّرف ، إذ بعد وجود المقتضى للزوم وفقد المانع عنه لا بدّ من القول بلزوم الرهن المعاطاتي.

(٤) هذا إشارة إلى وجود المقتضي للزوم الرّهن. وقد تقدمت معتبرة ابن سنان المتضمنة للإطلاق ، ونحوها غيرها ، فراجع جملة من أخبار الرهن.

(٥) هذا إشارة إلى فقد المانع عن إطلاق النصوص الشامل لصحة الرهن الفعلي والقولي على حدّ سواء.

(٦) كالبيع والإجارة والصلح والقرض ، فإنّها عقود معاوضية يتوقف لزومها

__________________

(١) : الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٣٨٣


ولأجل ما ذكرنا (١) في الرّهن يمنع من جريان المعاطاة في الوقف ، بأن يكتفى فيه بالإقباض ، لأنّ (٢) القول فيه باللزوم مناف لما اشتهر بينهم من توقف اللّزوم على اللّفظ. والجواز (٣) غير معروف في الوقف من الشارع ، فتأمّل (٤).

______________________________________________________

على إنشائها باللفظ.

هذا تمام ما أفاده المصنف في الإشكال على المحقق الثاني في ما يتعلّق بجريان المعاطاة في الرّهن ، وقد اختار في المتن عدم جريانها فيه ، لمنافاة الجواز لماهية الرّهن.

(١) أي : ولأجل ما ذكرنا ـ من توقف العقود اللّازمة على اللّفظ وعدم كفاية المعاطاة في لزومها ، ومنافاة حقيقة الرّهن للإباحة والتزلزل ـ يمنع من إنشاء الوقف بالفعل وهو الإقباض. والدليل على المنع نحو ما تقدّم في الرّهن من أنّ جواز الوقف حتى يجوز للواقف إعادة الموقوف إلى ملكه غير معهود من الشارع ، ولزومه منوط باللفظ للإجماع.

(٢) تعليل لقوله : «يمنع».

(٣) يعني : لو قيل بمشروعية المعاطاة في الوقف ـ ولم نقل ببطلانها رأسا ـ قلنا بمنافاة ماهية الوقف للجواز ، فإنّه تحبيس للملك على الدوام أو تحريره. وهذا لا يجتمع مع الجواز المقتضي لصحة إعادته في الملك بالرجوع عن الوقف.

(٤) لعلّه ـ كما قيل ـ إشارة إلى : أنّه لا مانع من الالتزام بجواز الوقف ، إذ لو كان الجواز منافيا لماهيّته لما جاز اشتراط الرجوع فيه. والمفروض جواز هذا الشرط.

لكن فيه : أنّ الظاهر إرادة الجواز الذاتي من الجواز الذي نفى معروفيته ، لا الجواز الناشئ عن أمر خارجي كالشرط ، فالوقف بذاته لازم ، ولا يصير جائزا إلّا بالشرط مثلا. فعلى هذا لا تجري المعاطاة في الوقف.

لكن سيأتي في التعليقة أنّ المرجع في الجواز واللزوم هو دليل ذلك العنوان الاعتباري ، سواء أكان إنشاؤه بالقول أم بالمعاطاة.


نعم (١) احتمل الإكتفاء بغير اللفظ في باب وقف المساجد من الذكرى تبعا للشيخ رحمه‌الله (١).

______________________________________________________

(١) استدراك على منع جريان المعاطاة في الوقف ، وحاصله : أنّه يمكن جريان المعاطاة في وقف المساجد بأن يصلّي المالك في أرض بقصد المسجدية ، أو يأذن لغيره في الصلاة فيها.

قال الشهيد قدس‌سره : «إنّما تصير البقعة مسجدا بالوقف إمّا بصيغة : وقفت وشبهها ، وإمّا بقوله : جعلته مسجدا ، أو بإذن في الصلاة فيه بنيه المسجدية ، ثم صلّوا أمكن صيرورته مسجدا ، لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة» (٢).

لكن صاحب الجواهر قدس‌سره قوّى اعتبار الصيغة فيه «للأصل وظهور إطباقهم في باب الوقف على الافتقار فيه إلى اللفظ» وإن رجع في آخر كلامه بقوله : «إلّا أنّه مع ذلك فالإنصاف أنّ النصوص غير خالية عن الإيماء إلى الإكتفاء بالبناء ونحوه مع نيّة المسجدية من غير حاجة الى صيغة خاصة ، خصوصا ما ورد منها في تسوية المساجد بالأحجار في البراري والطرق» (٣).

وقال في كتاب الوقف : «ولو صرف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن ولم يتلفّظ بصيغة الوقف لم يخرج عن ملكه ، بلا خلاف أجده فيه هنا» (٤).

وسيأتي أنّ مقتضى القاعدة هو جريان المعاطاة في الوقف وغيره من الاعتباريات ، سواء أكانت عقدا أم إيقاعا ، إلّا إذا لم يكن فعل مناسب لذلك الاعتبار النفساني ، أو نهض دليل على اعتبار اللفظ فيه تعبّدا كالنذر والعهد والضمان وغيرها على ما قيل.

__________________

(١) : النهاية لشيخ الطائفة ، ص ٥٩٥

(٢) ذكري الشيعة ، ص ١٥٨

(٣) جواهر الكلام ، ج ١٤ ، ص ٧٠

(٤) جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ٨٩


ثمّ إنّ الملزم للمعاطاة (١) فيما تجري فيه من العقود الأخر (*) هو الملزم في باب البيع كما سننبّه به بعد هذا الأمر (**).

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ المعاطاة في البيع لمّا أفادت الإباحة المحضة أو الملك المتزلزل ، وكان لزومها متوقفا على طروء الملزم ـ من تلف أحد العوضين أو التصرف فيه ـ فلا محيص عن الالتزام بتوقف اللزوم على حصول الملزم لو تعدّينا عن معاطاة البيع ، وقلنا بجريانها في جملة من العقود المملّكة ، وغيرها ، لتوقف اللّزوم من أوّل الأمر على الإنشاء بالصيغ المعهودة ، والإنشاء الفعلي قاصر عن إفادته ، فلذا يناط اللزوم بحصول الملزم. هذا تمام الكلام في هذا التنبيه.

__________________

(*) ظاهر العبارة : أنّ المعاطاة في أي عقد تجري تكون جائزة وإن كان ذلك العقد بنفسه لازما. لكن سيأتي إن شاء الله تعالى في التعليقة خلافه.

مضافا إلى عدم تعقّل كون التلف ملزما للمعاطاة في بعض العقود كالرّهن ، لأنّ التلف مبطل للاستيثاق ، لا موجب للزومه ، كما لا يخفى.

(**) الظاهر جريان المعاطاة في غير البيع من العقود والإيقاعات ، وقبل بيانه ينبغي تقديم أمرين :

الأوّل : أنّ الأفعال تارة تدلّ على المعاني بلا حاجة إلى قرينة كالسجود ، فإنّه بذاته يدلّ على الخضوع. وأخرى تدلّ عليها بمعونة قرينة مقامية أو مقاليّة. وهذا هو الغالب ، فإذا دلّت على المعاني بالقرائن بحيث عدّت دلالتها من الظهورات العرفية كانت حجة عند العقلاء على حذو حجية ظهورات الألفاظ في معانيها.

الثاني : أنّ بناء العقلاء على إنشاء الأمور الاعتبارية بالأفعال المبرزة لها وإن كان إبرازها بالقرائن ، فكلّ فعل مبرز لمعناه الإنشائي يصح جعله آلة للإنشاء عند العقلاء ، إلّا إذا منعه الشارع واعتبر اللفظ المطلق أو الخاص في إنشائه.

إذا عرفت ما ذكرناه تعرف أنّه لا مانع من التمسك بأدلة العقود والإيقاعات لصحة


.................................................................................................

__________________

المعاطاة فيها ، إلّا إذا لم يكن الفعل ولو بالقرينة آلة لإنشاء ذلك العقد أو الإيقاع عند العقلاء. أو اعتبر الشارع في ذلك العقد أو الإيقاع لفظا كالنذر. وفي غير هذين الموردين يكون مقتضى القاعدة جريان المعاطاة.

وبالجملة : كل فعل يكون عند العقلاء مبرزا للاعتبار النفساني يصح الإنشاء به ، هذا.

وفي تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره ما لفظه : «لا يخفى أنّ الاستدلال بأدلة المعاملات لصحّة المعاطاة فيها يتوقف على إثبات مقدّمتين :

الأولى : كون الفعل بنفسه مصداقا لهذه العناوين ليصح الاستدلال بأدلة العناوين على صحته أو كونه مصداقا لأمر ملازم لأحد العناوين ، بحيث يترتب عليه بجريان العادة المألوفة والسيرة المستمرة ما يترتب على ملازمه ، بأن كانت السيرة دليلا على ترتب ما يترتب على ملازم الفعل ، لا أن تكون دليلا على أصل صحة المعاملة الفعلية. فبعد جريان العادة يدخل الفعل بالملازمة في أحد العناوين ، ويصح الاستدلال له بما يستدل به للعناوين نظير القول ، فإنّه قد ينشأ به أحد العناوين مطابقة ، وقد ينشأ به أحدها التزاما.

ووجه اعتبار كون الفعل مصداقا لها أو مصداقا لملازمها ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مجرّد قصد عنوان ووقوع الفعل عقيبه لا يؤثر في تحقّق هذا العنوان إذا لم يكن الفعل آلة لإيجاده أو إيجاد ملازمه» (١).

وفيه : أنّ البيع المسبّبي ـ وهو مبادلة المالين ـ يكون من الأمور الاعتبارية التي لا موطن لها إلّا وعاء الاعتبار ، ولا يحاذيها شي‌ء في الخارج حتى يكون ذلك مصداقا لها ، فلا بدّ من أن يكون المراد البيع السببي ، وهو ما يتسبّب به من قول أو فعل ، إلى البيع المسببي. ومن المعلوم أنّ البيع السببي عبارة أخرى عن آلة إيجاد البيع

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٧٩


.................................................................................................

__________________

المسببي ، ومقتضى عرفيّة البيع سببيا ومسببيا هو جواز إيجاد المسببي بكلّ ما يكون ظاهرا فيه عند العقلاء من قول أو فعل.

وبالجملة : يصح إنشاء الأمور الاعتبارية بكل لفظ أو فعل يكون مبرزا لها ، لكون ذلك اللفظ أو الفعل مصداقا لما يتسبّب به إلى عنوان اعتباريّ من بيع أو صلح أو هبة أو غيرها ، من غير فرق بين كون ذلك العنوان عقدا أو إيقاعا كالطلاق والعتق وغيرهما.

ووجه الصحة هو شمول دليل نفوذ ذلك العنوان له ، إذ لا فرق في مصاديق البيع السببي بين القول والفعل.

واتّضح من هذا البيان : جريان المعاطاة في كل عقد وإيقاع ، إلّا إذا قام دليل على اعتبار اللفظ في ذلك ، أو لم يكن فعل مبرزا له ، فالأصل يقتضي جريان المعاطاة في جميع العناوين الاعتبارية ، هذا.

ولا بأس بالإشارة إلى جملة من الموارد التي يمكن أن يكون فيها فعل مبرز للعنوان الاعتباري :

منها : القرض ، فإنّ إعطاء المقرض بهذا العنوان وأخذ المقترض كذلك مبرز للتمليك بالضمان الذي هو مفهوم القرض ، لما مرّ آنفا من أنّه لا يعتبر في المبرز أن يكون إبرازه للاعتبار النفساني بالذات أو الوضع ، بل المدار على كونه مبرزا عقلائيّا ، سواء أكان إبرازه ذاتيا أم وضعيّا أم للقرينة. فلا ينبغي الإشكال في صحة إنشاء القرض بالإعطاء.

ومنها : الرّهن ، فإنّ إمكان إبرازه بالإعطاء ـ المحفوف بقرينة تدلّ عليه ـ من الأمور العقلائية التي لا ينبغي الارتياب فيها ، إذ الإعطاء بقصد الرهن مع إقامة القرينة عليه ـ بحيث يصير عند العقلاء كاللفظ آلة للإيجاد ـ يكون محقّقا فعليا للرّهن ، فيشمله عموم أو إطلاق دليل صحته ، فيكون لازما من طرف الرّاهن.

ودعوى «كونه جائزا ، للإطباق على توقف العقود اللازمة على اللفظ» غير مسموعة ، لعدم ثبوت ذلك الإجماع بمثابة يصلح لتخصيص العمومات.


.................................................................................................

__________________

كعدم سماع دعوى اختصاص دليل صحة المعاطاة من الإجماع والسيرة بالبيع. لما عرفت في كلام جامع المقاصد والمسالك من اقتضاء كلام بعضهم اعتبار المعاطاة في الإجارة والهبة. وهذا يوهن دعوى اختصاص الإجماع والسيرة بالبيع ، هذا.

وقد ظهر مما ذكرناه من شمول عمومات الرهن لمعاطاته : اندفاع ما أورد على الرهن المعاطاتي من أنّ الجواز ينافي حقيقة الرهن وهي الوثوق.

وملخّص وجه الاندفاع هو : أنّ المرجع في كل معاملة معاطاتية دليل تلك المعاملة بعد عدم تحقق إجماع على توقف العقود اللازمة على اللفظ.

ثم إنّه قد استشكل في جريان المعاطاة في القرض والرّهن والصرف والوقف وغيرها مما يكون القبض شرط صحتها بما حاصله : لزوم اتحاد الشرط والمشروط. قال المحقق الأصفهاني قدس‌سره في توضيحه : «وليعلم أوّلا أن المعاطاة في القرض إن كانت بنفس القبض ـ مع أنّ القبض شرط الصحة ـ يلزم اتحاد الشرط والمشروط ، وهو محال ، إذ الشي‌ء لا يعقل أن يكون نفسه مصحّحا لفاعليّة نفسه أو متمّما لقابلية نفسه ، لعدم الاثنينية بين الشي‌ء ونفسه ، ففرض عدم تمامية الفاعلية والقابلية في حدّ ذاته ينافي فرض تماميته بنفس ذاته» (١).

توضيحه : أنّه يلزم اجتماع الضدّين ـ وهما المقتضي والشرط ـ وهما مغايران وجودا. مضافا إلى : أنه يلزم تقدم الشي‌ء الواحد وتأخره ، لأنّه من حيث كونه مقتضيا متقدم رتبة ، ومن حيث كونه شرطا متأخر كذلك.

ثم أجاب المحقق المتقدم ذكره بما لفظه : «والجواب العام : أن الفعل الخارجي الخاص له حيثيّتان من حيث الصدور من الراهن مثلا ، وبهذا الاعتبار إقباض ، ومن حيث مساسه بالمرتهن القابض ، وبهذا الاعتبار قبض ، كالإعطاء والأخذ في المعاطاة

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٤٧


.................................................................................................

__________________

البيعي ، حيث قلنا بأنّه يتسبّب إلى الملكية بإعطائه ، ويطاوع الآخر بأخذه ، فهناك فعلان حقيقة كلّ منهما قائم بطرف ، فلا مانع من كون أحدهما بمنزلة المقتضي ، والآخر بمنزلة الشرط».

وأنت خبير ببقاء محذور اتحاد المقتضي والشرط ، وذلك لأنّ مقتضى عقدية القرض وكفاية الإعطاء والأخذ في المعاطاة هو كون الأخذ متمّما للمعاطاة التي هي المقتضي للملكيّة في القرض كالعقد اللفظي الذي يكون القبول جزءه ، ومع كون الأخذ جزء العقد المقتضي للملكية كيف يصير شرطا لها؟ إذ لو كان شرطا أيضا لزم محذور اتحاد الشرط والمشروط.

وقد يقال في دفع الإشكال : إنّ المقتضي هو الأخذ بمعناه المصدري ، والشرط هو الأخذ بمعناه الاسمي أي كون العين في يد الطرف الآخر ، من المقترض والمتهب ، والمشتري في بيع الصرف ، ومن المعلوم تأخّر الأخذ بالمعنى الاسمي عنه بمعناه المصدري رتبة.

فللأخذ حيثيتان : إحداهما معناه المصدري ، وهي متمّمة للمعاملة ، والأخرى معناه الاسمي ، وهي شرط الصحّة ، ولا مانع من كون إحدى الحيثيتين شرطا لتأثير الأخرى ، ومن المعلوم أنّ الشرط في القرض هو الحصول في اليد ، ولذا لو كان المال المرهون أو الموهوب أو المقترض عند المرتهن والمتهب والمقترض وتحت أيديهم قبل إنشاء هذه العناوين لم يحتج إلى قبض جديد بعد العقد القولي ، إذ لا يتحقق حينئذ العقد المعاطاتي مع فرض كون العين في يد المرتهن ، هذا.

لكنّه لا يخلو من غموض ، لوضوح تعدّد المقتضي والشرط وجودا ، وامتناع تصادقهما على موجود واحد ، فالمقتضي هو ما يترشّح منه وجود المقتضى ، والشرط ما يتمّ به فاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، كالنار المقتضية للإحراق ، والمماسة التي هي


.................................................................................................

__________________

شرطه ، وهما متعدّدتان وجودا حقيقة.

وهذا بخلاف باب المصدر واسمه ـ كالإيجاد والوجود ـ فإنّ تعددهما اعتباري محض ، إذ الحدث موجود وحدانيّ ، فإن أضيف إلى فاعله كان مصدرا ، وإن أضيف إلى نفسه كان اسم المصدر. ومن المعلوم أنّ القبض المجعول شرطا في العقود المذكورة هو إعطاء الموجب وأخذ القابل ، ويتوقف صدق الشرط عليه على تحقق المقتضي للصحة قبله ، وحيث لم يتحقق إنشاء قولي ولا غيره ـ كما هو المفروض ـ لزم اتحاد المقتضي والشرط في إنشاء هذه العناوين بالمعاطاة ، فيعود المحذور.

وأمّا الفرع المذكور ـ وهو كفاية كون العين في يد الطرف الآخر ـ فلا يمكن الاستشهاد به على كفاية القبض بمعناه الاسمي في الأبواب المزبورة كلّية ، وإنّما يقتصر به على مورده ، وهو ما إذا أنشئ العقد باللّفظ مطلقا أو بخصوص الصيغة المعتبرة في العقود اللازمة ، فيقال بصحّته وعدم توقفه على ردّ العين إلى المالك كي يقبضها مرّة أخرى. وأمّا في إنشائه بالفعل ، فلا موجب لرفع اليد عن ظهور أدلّة شرطية القبض بمعناه المصدري ، ومقتضاه انسداد باب المعاطاة في مثل الرهن والهبة والقرض.

وأمّا الاستدلال على كفاية الإنشاء الفعلي في الهدية بما ورد في الهدايا التي أرسلت إلى النبي والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام فليس بذلك الوضوح ، فإنّهم عليهم‌السلام أخذوها وتصرّفوا فيها تصرّف الملّاك في أملاكهم لكن هذا لا يدلّ على انحصار إنشائها بالإرسال والإقباض حتى يكون الفعل الواحد مقتضيا للملك وشرطا فيه ، لبقاء احتمال إنشائها بالكتابة أو بالصيغة الملحونة أو بتوكيل الرّسول في إجراء الصيغة. ولعلّه لذا جزم شيخ الطائفة وابن إدريس قدس‌سرهما باعتبار الصيغة ، وأنّ الهدية الفعلية لا تفيد إلّا إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

نعم يمكن أن يقال : إن حديث مغايرة المقتضي والشرط وجودا مختص


.................................................................................................

__________________

بالموجود العيني دون الاعتباري ، فإنّ الملكية أمر اعتباري ، ويمكن أن يكون منشأ اعتبارها فعلا خارجيا أو أمرا اعتباريا ، ولا مانع من لحاظ حيثيتين في فعل واحد ، فيكون القبض بلحاظ إعطاء الموجب مقتضيا ، وبلحاظ أخذ القابل شرطا.

هذا بحسب مقام الثبوت. وأمّا بحسب مقام الإثبات فيكفي فيه ـ بعد إمكانه ثبوتا ـ إطلاق أدلة الإمضاء والتشريع ، هذا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ إشكال اعتبار القبض في الصحة في جملة من العقود والإيقاعات لا يمنع جريان المعاطاة فيها ، فتجري في الوقف ، ويكون الوقف المعاطاتي كالقولي لازما ، لشمول أدلّة تشريع الوقف ولزومه له ، كشموله للقولي.

فما في المتن من قوله : «والجواز غير معروف في الوقف من الشارع» أجنبي عمّا يدعيه القائل بجريان المعاطاة في الوقف ، لأنّه يقول بلزوم الوقف المعاطاتي ، لكونه مصداقا للوقف ، فتشمله أدلّته المقتضية للزومه كما لا يخفى.

ومنها : النكاح ، فإنّ الظاهر جريان المعاطاة فيه بمعنى إنشاء علقة الزوجية بفعل مباح مبرز للقصد عند العقلاء كذهاب المرأة بجهيزتها إلى دار الرّجل بقصد إنشاء الاعتبار ، وقبول ذلك بفتح باب الدار عليها وأخذ الجهيزة منها بالقصد المزبور ، فالفعل الصادر منها مبرز عقلائي لعلقة الزوجية الاعتبارية وجائز شرعا في نفسه. فمقتضى القاعدة جريان المعاطاة في النكاح ، والمانع منحصر في التسالم على اعتبار اللفظ في حصول العلقة ، فعدم جريان الإنشاء الفعلي في باب النكاح مستند إلى وجود المانع ، لا إلى عدم المقتضي.

نعم في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره المنع عن جريان المعاطاة في النكاح لوجه آخر ، قال مقرر بحثه الشريف : «فإنّ الفعل فيه ملازم لضدّه وهو الزّنا والسّفاح ، بل مصداق للضّد حقيقة ، فإنّ مقابل النكاح ليس إلّا الفعل المجرّد عن الإنشاء


.................................................................................................

__________________

القولي وعمّا جعله الشارع سببا للحلّيّة» (١).

وقريب منه ما في بعض الكلمات : من أنّ جواز الوطي مترتب على الزوجية ترتب المسبّب على سببه ، والحكم على موضوعه ، كما هو ظاهر قوله تعالى (إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ) فلو توقّفت الزوجية على الوطي لزم اتحاد المسبب وسببه ، لتوقف حلية الوطي على الزوجية ، وتوقفها على حلّية الوطي ، إذ لا يؤثر الوطي المحرّم في حدوث علقة الزوجية ، هذا.

لكن يمكن منعه بما عرفت من عدم انحصار سبب الحلّ في ذلك الفعل الخاص حتى يمتنع إنشاء العلقة به.

مضافا إلى : أنّ التسبّب إلى العنوان الاعتباري ـ كالزوجية والملكيّة ـ لا يتوقف على حلية السبب تكليفا. فلا مانع من تأثير السبب المنهي عنه في الأمر الوضعي ، بشهادة حرمة البيع تكليفا وقت النداء وصحّته وضعا.

وعلى هذا ينحصر المانع من إنشاء النكاح ـ بما عدا الصيغة المقرّرة ـ في التعبد الشرعي ، لا إلى قصور الفعل عن التسبب به إليه ، هذا.

وقد يورد على الميرزا قدس‌سره تارة : بأنّ كون الوطي مصداقا أو ملازما للمحرّم إنّما هو بملاحظة حكم الشارع بتوقف عقد النكاح على مبرز خاص ، وذلك أجنبي عمّا هو مبرز عرفا للتزويج الاعتباري.

وأخرى : بأنّ انحصار الإنشاء في الوطي المحرّم لا يمنع عن حصول علقة الزوجية به ، وذلك لإمكانه من باب الاجتماع ، بتقريب : أنّ المحرّم هو المباشرة ، والمؤثّر في تحقق الزوجية هو عنوان السبب ، ومن المعلوم أنّ السبب والمباشرة كالغصب

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٨١


.................................................................................................

__________________

والصلاة في تعددهما عنوانا وحكما ، حيث إنّ أحدهما جائز والآخر منهي عنه ، ولا ريب في أن النهي لا يتجاوز عن متعلقة ـ وهو الوطي ـ إلى عنوان آخر ، وأمّا الزوجية فقد أنيطت بالسبب ، فلا مانع من إنشاء النكاح بفعل محرّم ، ولا يتم منع الميرزا عن جريان المعاطاة في النكاح ، هذا.

لكن الظاهر عدم تمامية الإيرادين ، أمّا الأوّل فلأنّه خروج عن مفروض كلام الميرزا ، وبيانه : أن المصرّح به في عبارته المتقدمة ملاحظة القاعدة الشرعية التأسيسية أو الإمضائية في جواز التسبب بالوطي إلى علقة الزوجية ، بناء على انحصار آلة الإنشاء فيه ، ومع تحريم هذا السبب الخاص شرعا لا معنى للاكتفاء به بما هو سبب عرفي ، إذ مقصوده قدس‌سره بيان القاعدة الأولية الشرعية في كفاية الفعل في مقام الإنشاء وعدمها ، فلا معنى للإيراد عليه بكفاية الفعل الخاص بنظر العرف.

وأمّا الثاني فلأنّ المقام أجنبي عن باب الاجتماع الذي موضوعه تركب موضوع الأمر والنهي بنحو الانضمام ، أي استقلال متعلّق كل منهما عن الآخر وجودا. فلو كان التركيب بينهما اتحاديا كان أجنبيا عن مسألة الاجتماع. والسبيبة بهذا العنوان لم يتعلق بها حكم شرعي حتى يكون جواز السبب نظير وجوب الصلاة الواقعة في دار مغصوبة ، بل تنتزع السببية من كل فعل أو قول ينشأ به العنوان الاعتباري ، ولمّا لم يكن عنوان السبب موضوع حكم شرعي لم يندرج المقام في باب الاجتماع ، لفرض كون التركيب اتحاديا لا انضماميا.

ومنها : الطّلاق فإنّه يمكن إنشاؤه عند العقلاء بفعل مبرز له كغضّ بصره عنها أو إلقاء القناع عليها ، ونحوهما مما يناسبه من الأفعال. لكن قام الدليل على انحصار مبرزه بلفظ خاص.

وأمّا الوصية والتدبير والضمان فلا مانع أيضا من إنشائها بفعل مناسب لها


.................................................................................................

__________________

ولو بالكتابة والإشارة ، إذ لا تنحصر المعاطاة بالإعطاء ، لما مرّ من أنّ المعاطاة لم ترد في آية ولا رواية ولا معقد إجماع حتى يؤخذ بظاهرها ، بل المراد بها ما يقابل اللفظ.

فما في تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره من «أن الوصية تمليكية كانت أو عهدية ، والتدبير والضمان ، فإنّها لا تنشأ إلّا بالقول ، لعدم وجود فعل كان مصداقا لهذه العناوين ، فإنّ انتقال الدّين من ذمّة إلى أخرى لا يمكن أن يتحقق بالفعل ، ولا العتق ، أو الملكية أو القيمومة بعد موت الموصى» (١) غير ظاهر.

فعلى ما ذكرنا تجري المعاطاة في كل اعتبار نفساني سواء أكان عقدا أم إيقاعا بعد إرادة كل فعل مناسب مبرز لذلك الاعتبار ، إلّا ما قام الدليل فيه على اعتبار لفظ خاص كالنكاح والطلاق أو مطلق اللفظ فيه تعبدا ، والله العالم.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٨١


الأمر السادس (١) : في ملزمات المعاطاة على كلّ من القول بالملك والقول بالإباحة.

اعلم : أنّ الأصل (٢) على القول بالملك

______________________________________________________

التنبيه السادس : ملزمات المعاطاة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر ـ كما صرّح به في المتن ـ البحث عن ملزمات المعاطاة سواء قلنا بمقالة المشهور من ترتب الإباحة عليها تعبدا ، أم بمقالة المحقق الكركي ومن تبعه من ترتب الملك المتزلزل عليها. وعلى هذا لا مجال لهذا التنبيه السادس بناء على مختار المصنف من كون المعاطاة بيعا لازما كالبيع بالصيغة. أمّا أصل إفادتها للملك فلقوله : بعد الفراغ من بيان الأدلّة على الملك : «فالقول الثاني لا يخلو عن قوة» وأمّا إفادتها لخصوص الملك اللازم فلما أفاده في أصالة اللزوم بقوله : «أوفقها بالقواعد هو الأوّل ، بناء على أصالة اللزوم في الملك». وعليه يسقط البحث عن الملزمات. إلّا أن يكون المراد هو اللّزوم مع الغضّ عن الإجماع المدّعى على جواز الملك الحاصل بالمعاطاة.

ثم إنّ المصنف قدس‌سره تعرّض لجملة من الملزمات كتلف كلا العوضين ، أو أحدهما والتصرف الاعتباري ، والتصرف الخارجي كطحن الحنطة وغير ذلك. وقد تعرّض الشهيد الثاني لأكثر هذه الملزمات في المسالك.

وقبل الشروع في تحقيق الملزمات أسّس المصنف قدس‌سره الأصل على كلّ من الملك والإباحة ليكون هو المعوّل عند الشّك في ملزميّة أمر خاص ، كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

(٢) محصّل كلامه في الأصل هو : أنّ مفاده على القول بالملك يختلف عن مفاده على القول بالإباحة ، وبيانه : أنّه بناء على تأثير المعاطاة في الملك يتعيّن القول باللزوم ،


اللّزوم (١) ، لما عرفت من الوجوه الثمانية (٢) المتقدمة.

وأمّا على القول بالإباحة فالأصل (٣) (*) عدم اللزوم ، لقاعدة تسلّط

______________________________________________________

إلّا إذا دلّ دليل خاص على جواز الملك ، فلولاه يبنى على اللزوم الذي اقتضته الأدلة الاجتهادية والأصل العملي.

وبناء على تأثير المعاطاة في الإباحة ينعكس الأمر ، لأنّ الدليل على مشروعيتها قاعدة السلطنة ، ومن المعلوم اقتضاؤها تسلط المالك المبيح على الرجوع عن إباحته ، فله استرداد ماله من المباح له. ولو فرض الشك في إطلاق سلطنة المالك أمكن التمسك باستصحاب سلطنته الثابتة له قبل أن يبيح ماله للمتعاطي الآخر ، ومن المعلوم حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب بقاء الإباحة لو تمسّك به المباح له :

وجه الحكومة تسبّب الشك شرعا ـ في بقاء الإباحة للمباح له ـ عن الشك في انقطاع سلطنة المالك المبيح وبقائها ، فلو فرض بقاء سلطنته كان له استرداد ماله قطعا ، ويرتفع الشك تعبّدا في بقاء الإباحة ، هذا.

(١) المراد بأصالة اللّزوم هنا ما يعمّ الأصل اللفظيّ والعمليّ ، بقرينة مستنده الشامل لكلّ من الدليل والأصل كالاستصحاب.

(٢) وهي الاستصحاب ، و «الناس مسلّطون على أموالهم» ، و «لا يحلّ مال امرء إلّا عن طيب نفسه» ، والاستثناء في قوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) والجملة المستثنى منها في هذه الآية ، وما دلّ على لزوم خصوص البيع مثل قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» ، وقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمنون عند شروطهم» وقد تقدم سابقا أنّ الأقوى كون المعاطاة مفيدة للملك فيما إذا كان المتعاطيان قاصدين له.

(٣) أي : قاعدة السلطنة تقتضي جواز الرجوع عن الإباحة.

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد ادّعى بعض كالمحقق النائيني قدس‌سره التنافي بين أصالة عدم اللزوم هنا وبين ما اختاره المصنف قدس‌سره. في الأمر الرابع من «أنّ الأقوى في الإباحة مع العوض هو اللزوم» تقريب المنافاة : أن الوجه في اللزوم مشترك بينهما ، فلا بدّ من كون


الناس على أموالهم ، وأصالة (١) سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة ، وهي

______________________________________________________

(١) هذا وجه آخر لعدم اللزوم ، وحاصله : «أنّ الأصل العملي ـ فضلا عن الدليل الاجتهادي ـ يقتضي الجواز أيضا ، إذ لا مانع من استصحاب سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة ، حيث إنّه من موارد الشك في رافعية الموجود الذي يكون الاستصحاب فيه حجة قطعا.

__________________

الأصل اللزوم في الإباحة مطلقا.

قال المقرر قدس‌سره : «ووجه اللزوم مطلقا كفاية عموم ـ المؤمنون عند شروطهم ـ لإثبات اللزوم ، فإنّ العقود التسليطية لو خلّيت وطبعها دائرة مدار بقاء التسليط ، إلّا فيما إذا اشترط اللزوم في ضمن عقد لازم أو التزم وتعهّد به ابتداء» (١).

لكنك خبير بعدم المنافاة ، ضرورة أنّ الإباحة ـ في التنبيه الرابع ـ مقصودة لأحد المتعاطيين أو لكليهما. بخلاف المقام ، فإنّهما قاصدان للملك وإن لم يمض الشارع ما قصداه وحكم فيها بالإباحة ، فيجري هناك دليل الشرط ووجوب الوفاء بالعقود ، دون دليل السلطنة ، فضلا عن استصحابها ، لحكومة دليلي الشرط والوفاء عليه. بخلاف المقام ، فإنّ دليلي الشرط والوفاء بالعقد لا يجريان هنا ، لأنّ ما التزما به من الملك لم يتحقق ولم يمضه الشارع ، وما تحقّق ـ وهو الإباحة ـ ممّا لم يلتزما به. فلا منافاة بين ما أفاده في الأمر الرابع من اللزوم وما أفاده هنا.

لا يقال : إنّه لا مانع من كون الإباحة لازمة وإن كانت شرعية ، لإطلاق دليل الإباحة.

فإنّه يقال : إنّ الدليل على الإباحة الشرعية ـ وهو الإجماع ـ لا إطلاق له ، فلا بد من الأخذ بالمتيقن منه ، وهو صورة عدم رجوع المالك عن الإباحة ، بل قد تقدّم سابقا عدم إجماع تعبّدي على الإباحة ، فلاحظ.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٨٢


حاكمة (١) على أصالة بقاء الإباحة الثابتة قبل رجوع المالك لو سلّم (٢) جريانها.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ (٣) تلف العوضين ملزم إجماعا على الظاهر المصرّح به (٤) في بعض العبائر (٥).

______________________________________________________

(١) حاصله : أنّ استصحاب سلطنة المالك قبل المعاطاة ـ المقتضية لارتفاع الإباحة ـ حاكم على استصحاب الإباحة قبل رجوع المالك.

تقريب الحكومة : أنّ الشك في بقاء الإباحة وارتفاعها ناش عن الشك في بقاء سلطنة المالك على ماله المباح وارتفاعها ، ومن المقرّر في محله حكومة الأصل الجاري في الشك السببي على الأصل الجاري في المسببي ، فتجري أصالة بقاء السلطنة دون أصالة بقاء الإباحة.

(٢) لعلّ وجه توقفه في جريانها هو تقوّم الإباحة بالإذن ، ومن المعلوم ارتفاع الإباحة بانتفاء الإذن ، هذا.

لكن فيه : أنّه متين بناء على كون الإباحة مالكية لا شرعية كما هو المفروض ، إذ المالكان يقصدان التمليك ، لكن الشارع لم يمضه وحكم بالإباحة.

(٣) بعد أن فرغ المصنف من تأسيس الأصل ـ وبيان مقتضاه على كلّ من الملك والإباحة ـ شرع في عدّ الملزمات ، من التلف والتصرف الناقل والتصرف الخارجي وغير ذلك ، ولكل منها صور سيأتي بيانها بالترتيب إن شاء الله تعالى ، فالملزم الأوّل هو التلف ، والمذكور منه في المتن صور ثلاث ، وهي تلف العوضين معا وتلف أحدهما وتلف بعض أحدهما.

(٤) يعني : أنّ الإجماع ظاهر بعض العبارات وصريح بعضها الآخر ، فضمير «به» راجع الى الإجماع.

(٥) قال في الحدائق : «لا إشكال ولا خلاف عندهم في أنّه لو تلفت العينان في

__________________

وعليه فمقتضى دليلي السلطنة وعدم جواز التصرف في مال الغير بدون إذنه هو عدم جواز تصرف كلّ من المتعاطيين في مال صاحبه بعد الرجوع الدال على عدم رضائه


أمّا على القول بالإباحة فواضح ، لأن (١) تلفه من مال مالكه ، ولم يحصل ما يوجب ضمان كلّ منهما مال صاحبه (*).

______________________________________________________

بيع المعاطاة فإنّه يصير لازما» (١). وقال السيد الفقيه العاملي : «لا إشكال ولا خلاف عندهم في أنه لو تلفت العين من الجانبين صار لازما» (٢). وقال في الجواهر : «بقي الكلام فيما ذكره غير واحد من الأصحاب ـ بل قيل : انه لا خلاف فيه ولا إشكال ـ من لزوم المعاطاة بتلف العين من الجانبين. بل قال الأستاد في شرحه : لا ريب ولا خلاف في أنّ المعاطاة تنتهي إلى اللزوم ، وأنّ التلف الحقيقي أو الشرعي بالنقل بالوجه اللازم للعوضين معا باعث على اللزوم ، وكذا للواحد منهما» (٣).

(١) توضيحه : أنّه ـ بناء على ترتب الإباحة على المعاطاة ـ يجوز لكلّ من

__________________

بتصرف صاحبه في ماله ، والمفروض عدم كون الإباحة الشرعية عقدا حتى تكون لازمة ويجب الوفاء بها.

(*) هذا متين لو كانت الإباحة مالكيّة. لكنّه ليس كذلك ضرورة أنّ الإباحة المترتبة على المعاطاة المقصود بها التمليك شرعيّة ، فلا بد حينئذ من الالتزام بحصول الملكية آنا ما قبل التلف لمن تلف في يده ، جمعا بين الأدلة وهي الإجماع المقتضي لعدم ثبوت الضمان بالمثل أو القيمة ، حيث إنّ المعاطاة لم تفد إلّا الإباحة ، وقاعدة ضمان اليد المقتضية لكون التلف من ذي اليد ، وأصالة بقاء المال على ملك مالكه الأوّل ، فإنّ الجمع بين هذه الأدلة يقتضي حصول الملكية آنا ما قبل التلف ، وبعد حصولها لا بدّ من الحكم بضمان المسمّى ، فيكون كل من المالين مضمونا بالآخر ، هذا محصّل ما يستفاد من تقريرات سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره (٤).

__________________

(١) : الحدائق الناضرة ، ج ١٨ ، ص ٣٦٢

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٧

(٣) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٣٠

(٤) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٩٩


وتوهّم جريان قاعدة الضمان باليد هنا

______________________________________________________

المتعاطيين استرداد ماله من الآخر ، لفرض بقاء المال على ملك المعطي لا الآخذ. هذا مع بقاء العينين.

وأمّا إذا تلفتا لزمت المعاطاة ، لامتناع الرجوع إلى العينين.

__________________

لكنه لا يخلو من غموض ، حيث إنّ الجمع بين الأدلة لا يقتضي الملكية الآنيّة ، بل يقتضي كون التلف من مالكه الأوّل ، إذ لا دليل غير الإجماع المقتضي لعدم ضمان المثل أو القيمة ، وأصالة بقاء المال على ملك مالكه. ومقتضى هذين الدليلين هو كون التلف من مال مالكه الأوّل.

ولا يجري عموم «على اليد» هنا حتى يكون الضمان على ذي اليد ونلتزم بالملكية الآنية له ، إذ المفروض كون اليد ـ لأجل الإباحة الشرعية ـ أمانية غير موجبة للضمان.

نعم يكون التلف موجبا للزوم الإباحة ، وعدم جواز رجوع المتعاطي الآخر ـ وهو المالك ـ الى المتعاطي الذي تلف عنده المال.

فما أفاده المصنف قدس‌سره من كون التلف من مال المالك الأوّل في غاية المتانة ، فتدبر جيّدا.

نعم كلامه هنا ـ من عدم جريان قاعدة اليد ـ مناف لما تقدّم منه في مناقشة استبعادات كاشف الغطاء قدس‌سره من الالتزام بجريانها بناء على مسلك المشهور من الإباحة ، واقتضاء الجمع بين اليد والإجماع والاستصحاب للقول بدخول المأخوذ بالمعاطاة في ملك المباح له آنا ما قبل التلف ليقع التلف في ملكه ، فلاحظ قوله هناك : «وأما كون التلف مملّكا للجانبين ، فإن ثبت بإجماع أو سيرة ـ كما هو الظاهر ـ كان كل من المالين مضمونا بعوضه ، فيكون تلفه في يد كلّ منهما من ماله مضمونا بعوضه .. لأن هذا هو مقتضى لجمع بين هذا الإجماع وبين عموم على اليد ما أخذت وبين أصالة عدم الملك إلّا في لزمان المتيقن وقوعه فيه .. إلخ».


مندفع (١) بما سيجي‌ء (٢).

وأمّا على القول بالملك فلما عرفت من أصالة اللزوم ، والمتيقّن من مخالفتها جواز (٣)

______________________________________________________

فان قلت : لا موجب للزومها بمجرّد تلف العينين ، بل تبقى الإباحة على حالها ، ويرجع كل منهما على الآخر ببدل ماله. والدليل على بقاء الإباحة هو قاعدة اليد ، بتقريب : أنّ كلّا من المتعاطيين وضع يده على مال الآخر ـ لكونه مباحا عنده لا ملكا له ـ ومن المعلوم أنّ للمالك استرداد ماله من المباح له ما دام موجودا ، ولو تلف استقرّ بدله عليه ، فكلّ منهما ضامن لمال الآخر بمقتضى «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» فإذا جاز الرجوع إلى بدل العينين فقد ثبت استمرار الإباحة ، وعدم لزوم المعاطاة بمجرّد تلف العينين ، فإنّ التلف غير مانع من الرجوع إلى البدل.

قلت : نعم ، لو جرت قاعدة اليد هنا لم يكن التلف ملزما. لكنّها لا تجري في ما نحن فيه من جهة انتفاء الموضوع ، وذلك لاختصاص اليد المضمّنة باليد العدوانية ، وهي منتفية في المقام ، إذ المفروض حكم الشارع بإباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة ، فاليد السابقة على التلف لم تكن مضمّنة قطعا ، لاستنادها إلى إذن الشارع. وإذا تلفت العين امتنع انقلاب اليد الأمانية إلى العدوانية ، لاستحالة انقلاب الواقع عمّا هو عليه. ولمّا لم تكن اليد مقتضية للضمان ـ حتى يجوز الرجوع إلى البدل ـ فلا بدّ من استناد الضمان إلى موجب آخر ، والمفروض عدمه.

(١) خبر «وتوهم» ودفعه ، وقد تقدم توضيحهما آنفا بقولنا : «فان قلت :

قلت ..».

(٢) بعد أسطر بقوله : «والتمسك بعموم اليد هنا في غير محله بعد القطع بأن هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان .. إلخ».

(٣) يعني : إمكان التراد. ويدل على كون المتيقن ذلك ما تقدّم عن الحدائق ومفتاح الكرامة والجواهر من «الإجماع على كون تلف العينين ملزما» لدلالته على


ترادّ العينين (١) ،

______________________________________________________

كون امتناع التراد ـ لتلف العينين ـ موجبا للزوم.

(١) محصّل ما أفاده من لزوم المعاطاة بتلف العينين بناء على الملك الجائز هو : أنّ أصالة اللزوم تقتضي لزوم المعاطاة ، والمتيقن من مخالفة عموم دليل اللزوم وتخصيصه في المعاطاة ـ بسبب الإجماع ـ هو صورة إمكان ترادّ العوضين ، فمع امتناعه يرتفع الجواز.

توضيحه : أنّهم قسّموا الجواز في العقود غير اللّازمة إلى حقّي وحكمي ، ومثّلوا للأوّل بالخيار ، لما يظهر من تعريفه بأنّه «ملك فسخ العقد» فالخيار هو السلطنة على إقرار العقد وإزالته ، لقابلية نفس العقد للبقاء في وعاء الاعتبار ، فيثبت حقّ الخيار مطلقا سواء بقي العوضان أم لا. والمرجع في تشخيص موضوعية العقد لهذا الجواز هو أدلّة الخيارات ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (١) الظاهر في سلطنة المتبايعين على حلّ العقد قبل الافتراق ، سواء بقي العوضان أم تلفا ، فان كانا باقيين ردّ كلّ منهما إلى من انتقل عنه ، وإن تلفا ردّ البدل.

ومثّلوا للثاني بجواز رجوع الواهب في العين الموهوبة ما دامت باقية ، وأنّه يجوز له استردادها من المتّهب وإن لم يفسخ العقد قبل الرجوع ، فلو استردّها انحلّ العقد من باب انتفاء الموضوع ، لعودها به إلى ملك الواهب. ولأجل تعلق الجواز باسترداد العين لا بنفس العقد دار الحكم مدار بقائها ، فلو تلفت لزمت الهبة ، ولا يصح للواهب الرجوع إلى بدلها.

ولا فرق في تعلق الجواز بالرجوع والاسترداد بين كون الهبة معوّضة وغير معوّضة. أمّا الثاني فواضح. وأمّا الأوّل فكذلك ، فإنّ المناط في جواز الهبة بقاء العين الموهوبة ، سواء أكان عوضها باقيا أم تالفا. والدليل على موضوعية الرجوع للجواز هو مثل معتبرة جميل والحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٤٦ ، الباب ١ ، من أبواب الخيار ، الحديث : ٣.


.................................................................................................

______________________________________________________

أن يرجع ، وإلّا فليس له» (١).

وللجواز الحكمي فرد آخر وهو ما يكون متعلّقه أضيق دائرة من جواز الهبة كما يكون أضيق من الجواز الحقي ، وهو ما ذكروه في باب المعاطاة ـ بناء على عدم القول بالملك اللازم ـ من تعلق الجواز بتراد العينين ، فما دامتا باقيتين بحالهما جاز لكلّ من المتعاطيين استرداد ماله ، ولو امتنع التراد بتلف إحداهما أو بغير التلف ارتفع جواز المعاطاة وصارت لازمة.

والدليل على موضوعية «التّراد» للجواز ـ وعدم تعلقه بالعقد كما في الخيار ولا بالرجوع في عين واحدة كما في الهبة ـ هو : أنّه لا دليل لفظيّ في المقام حتى يؤخذ بإطلاقه ، لانحصار الدليل في الإجماع على جواز المعاطاة ، وحيث إنّه دليل لبيّ يلزم الاقتصار على القدر المتيقن منه في الخروج من عموم أدلة لزوم الملك.

توضيحه : أنّ المقام يكون من موارد تخصيص العام بمخصّص منفصل مجمل مردّد بين الأقلّ والأكثر ، فالعام هو أدلة لزوم كل ملك ، والمخصّص هو الإجماع المدّعى على جواز المعاطاة. فإن تعلّق الجواز بالعقد ـ كما في باب الخيار ـ كان الجواز باقيا بعد تلف العوضين ، وإن تعلّق بردّ عين واحدة كما في الهبة جاز الرجوع بعد تلف إحدى العينين. وإن تعلّق بالتّراد توقّف على بقائهما معا ، فلو تلفت إحداهما أو بعض إحداهما انتفى الجواز وصار الملك لازما. ولمّا لم يحرز قيام الإجماع على جواز فسخ العقد المعاطاتي ولا على جواز استرداد إحدى العينين تعيّن الاقتصار على المتيقن منه لكونه لبيا ـ بحيث لو لا الاقتصار على المتيقن يلزم طرح الإجماع بالكلّية ـ وهو تعلّقه بالتّراد ، والرجوع إلى أصالة اللزوم عند تعذّره بتلف وشبهه.

فإن قلت : إذا ثبت بالإجماع جواز الملك في المعاطاة قبل التلف ، وشكّ في انتفائه به أمكن إحراز عدم لزوم الملك باستصحاب الجواز ، وهو يمنع عن شمول

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٤١ ، الباب ٨ من أحكام الهبات ، الحديث : ٨


وحيث ارتفع مورد التّراد امتنع (١). ولم يثبت (٢) قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتى يستصحب بعد التلف (٣) ، لأنّ ذلك (٤) الجواز من عوارض العقد ، لا العوضين ، فلا مانع من بقائه ،

______________________________________________________

أدلة اللزوم بعد تلف إحدى العينين أو كلتيهما استصحابا لحكم المخصّص.

قلت : لا مجال هنا للاستصحاب ، لوجهين : أحدهما : ما تقدّم آنفا من الفرق بين جواز المعاطاة وبين جواز العقد الخياري ، فإنّه بمعنى الانحلال بالفسخ وهو قائم بالعقد ، ولكن جواز المعاطاة بمعنى التملك بالرجوع في العين ، لا بعنوان الفسخ ، ومن المعلوم أنّ التملك بالأخذ قائم بنفس العوضين لا بفسخ العقد. وعلى هذا يقطع بانتفاء ذلك الجواز بمجرّد التلف ، فلا شك حتى يستصحب الجواز.

ومنشأ هذا الفرق ما تقدم من عدم إحراز تعلّق الجواز ـ في باب المعاطاة ـ بحلّ العقد حتى يستصحب بقاؤه لو شكّ في ارتفاعه بتلف العينين ، فالمتيقن من الدليل تعلّقه بالتّراد ، وينتفي معروض المستصحب بمجرد التلف ، ولا يبقى شك حتى يجري فيه الأصل.

ثانيهما : أنّه لا مجال لهذا الاستصحاب حتّى إذا تردّد جواز المعاطاة بين تعلّقه بالعقد وبين تعلّقه بالتراد ، إذ مع الشّك في الموضوع لا يحرز اتّحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، فيدور الأمر بين النقض والانتقاض ، ومثله ليس مجرى للأصل.

(١) يعني : يمتنع التراد بسبب التلف.

(٢) هذا إشارة إلى توهم ، وقد تقدّم آنفا بقولنا : «فان قلت ..» وحاصل التوهم قياس جواز المعاطاة بجواز العقد الخياري في بقائه بعد تلف العوضين.

(٣) أي : ولو كان التالف كلا العوضين ، فإذا فسخ ذو الخيار رجع إلى البدل.

(٤) أي : لأنّ جواز البيع الخياري يكون قائما بالعقد لا بالعوضين ، وهذا تعليل لقوله : «لم يثبت» ودفع التوهم ، وقد تقدم بقولنا : «قلت : لا مجال هنا للاستصحاب ، لوجهين ..».


بل (١) لا دليل على ارتفاعه بعد تلفهما. بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الجواز فيه (٢) هنا بمعنى جواز الرجوع في العين ، نظير (٣) جواز الرجوع في العين الموهوبة ، فلا يبقى (٤) بعد التلف متعلّق الجواز (٥). بل الجواز هنا يتعلّق بموضوع (٦) التراد ، لا مطلق الرجوع (٧)

______________________________________________________

(١) الوجه في الإضراب واضح ، لأنّ مجرّد عدم المانع عن بقاء جواز العقد غير كاف في بقائه بعد تلف العوضين إلّا باستصحاب جواز العقد. ولكنّه قدس‌سره يدّعى كفاية إطلاق دليل التشريع في بقاء حق الخيار حتّى بعد تلفهما ، فلا موضوع للاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي وإن كانا متوافقين مفادا.

(٢) أي : فإنّ الجواز فيما نحن فيه وهو المعاطاة. وعلى هذا فكلمة «هنا» مستدركة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

(٣) خبر قوله : «فان الجواز» والوجه في تنظير المعاطاة بالهبة ـ مع ما سيأتي من بيان الفارق بينهما ـ هو كون معروض الجواز استرداد العين والرجوع فيها ، وليس معروضه العقد ، وإنّما ينحل العقد بالتبع من باب انتفاء الموضوع.

(٤) يعني : سواء في الهبة والمعاطاة.

(٥) يعني : بل دائرة موضوع الجواز في المعاطاة أضيق من جواز الرجوع في الهبة ، لأنّ موضوع الجواز هنا هو خصوص التّراد المتوقف على بقاء العينين معا. بخلاف الجواز في الهبة ، فإنّه متقوّم ببقاء عين واحدة ، فلو كانت الهبة معوّضة ـ بأن وهب زيد كتابا لعمرو على أن يهبه عمرو دينارا ـ كان جوازها منوطا ببقاء الكتاب سواء بقي الدينار أم تلف. ولو تلف الكتاب لزمت الهبة بلا فرق أيضا بين بقاء الدينار وتلفه.

(٦) فالإضافة بيانية ، فإنّ الجواز متعلق بنفس التراد ، لا بموضوعه وهو العوضان ، لتعلق الحكم بفعل المكلف لا بالأعيان.

(٧) كما في باب الهبة ، والمراد بمطلق الرجوع أنّ العين الموهوبة ما دامت باقية


الثابت (١) في الهبة ، هذا.

مع (٢) أنّ الشّك في أنّ متعلّق الجواز هل هو أصل المعاملة (٣) أو الرجوع (٤)

______________________________________________________

كان الرجوع جائزا ، سواء أكان العوض باقيا أم تالفا ، فموضوع جواز الرجوع نفس العين الموهوبة بالهبة الأولى ، بلا نظر إلى العين الموهوبة بعنوان العوض.

(١) صفة ل «مطلق الرجوع» فجواز الرجوع في المعاطاة مقيّد ببقاء العوضين ، ولكن جواز الرجوع في العين الموهوبة غير مقيّد ببقاء العين الموهوبة بعنوان العوض.

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من دفع التوهم ، وقد تقدم بقولنا : «ثانيهما : أنه لا مجال للاستصحاب حتى إذا تردّد .. إلخ». وحاصله : أنّه لو لم يكن المتيقن من مخالفة أصالة اللزوم هو صورة إمكان التراد ، وشكّ في تعلق الجواز به أو بالعقد امتنع استصحاب جواز المعاطاة بعد التلف ، لعدم إحراز الموضوع الذي لا بدّ منه في الاستصحاب (*).

(٣) كما في العقد الخياري.

(٤) كما في الهبة.

__________________

(*) ومن هنا يعلم فساد توهم كون المقام من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلي ، بتقريب : أنّ كلّي جواز الرفع ـ الجامع بين فسخ العقد وتراد العينين ـ معلوم ، إذ لا شكّ في وجود جواز رفع الأمر الموجود من الملك والعقد ، وبعد التلف يشك في بقاء كلّيّ الجواز ، فيستصحب. نظير القطع بوجود فرد من حيوان مردّد بين ما هو باق قطعا وبين ما هو زائل كذلك.

وجه الفساد هو : أنّه منشأ الشك في بقاء كلّيّ الجواز الجامع بين الفسخ والتراد هو الشك في بقاء موضوعه ، لأنّ موضوع الجواز إن كان هو التّراد فهو غير باق قطعا ، لتلف العينين. وإن كان نفس العقد فهو باق ، ومع الشك في بقاء الموضوع لا مجال للاستصحاب.


في العين أو تراد العينين (١) يمنع (٢) من استصحابه ، فإن (٣) المتيقن تعلّقه بالتّراد ، إذ لا دليل في مقابلة أصالة اللّزوم على ثبوت أزيد من جواز ترادّ العينين الّذي لا يتحقق إلّا مع بقائهما.

______________________________________________________

(١) كما في المعاطاة.

(٢) خبر «أن الشك» وقد تقدم توضيح المنع.

(٣) هذا تعليل لأصل منع جريان الاستصحاب بالنظر إلى الوجه الأوّل ، لصراحة قوله : «فانّ المتيقّن تعلقه بالتراد» في أنّه قد أحرز ـ ببركة عموم أصالة اللزوم ـ تعلق جواز المعاطاة بالتراد ، وأنّه لا يبقى شك في الموضوع ، بل نقطع بانتفاء الموضوع. ولهذا كان الأولى ذكر هذه الجملة قبل قوله : «مع أن الشك». هذا تمام الكلام في الصورة الاولى وهي تلف كلا العوضين.

__________________

فالإشكال في جريان الاستصحاب إنّما هو من ناحية الشك في بقاء الموضوع ، نظير العلم بعدالة زيد أو عمرو إجمالا ، ثم مات زيد ، فإنّه لا يجري استصحاب العدالة الجامعة بينهما ، للشك في بقاء موضوعها ، فإن كانت العدالة ثابتة لزيد فقد ارتفعت قطعا بموته ، وإن كانت قائمة بعمرو فهي باقية قطعا.

فالقسم الثاني من استصحاب الكلي وإن كان جاريا في حدّ ذاته ، لكنّه لا يجري هنا ، للشّك في بقاء الموضوع. فيفترق المقام عن المثال المزبور ، لعدم الشك في بقاء الموضوع هناك ، لأنّ المستصحب ـ أعني به كلّي الحيوان ـ يكون موضوعه وهو الماهية المعروضة للوجود والعدم باقيا كما لا يخفى.

بخلاف المقام ، لتباين الفردين اللّذين يترتب عليهما الأثر ، ولا معنى للجواز الجامع بينهما بعد كون الأثر مترتبا على كل واحد منهما بالخصوص.

وأمّا استصحاب الفرد المردّد فلا مجال له ، لأنّه بما هو مردّد لا ماهية ولا وجود له ، فليس موضوعا لأثر حتى يصح استصحابه.

وبالجملة : فالمقام من صغريات التمسّك بالعام ، لكون الشك فيه في التخصيص الزائد الذي يرجع فيه إلى عموم العام الدال على اللزوم في كل زمان وحال.


ومنه (١) يعلم حكم ما لو تلف إحدى العينين أو بعضها على القول بالملك.

وأمّا على القول بالإباحة (٢) فقد استوجه بعض مشايخنا (٣) وفاقا

______________________________________________________

(١) أي : وممّا تقدّم ـ من كون المتيقن من مخالفة أصالة اللزوم في الملك صورة إمكان ترادّ العوضين ـ يعلم حكم تلف إحدى العينين أو بعض إحداهما ، وهذا إشارة إلى الصورة الثانية والثالثة. وقد بيّن المصنف قدس‌سره حكمهما بناء على كلّ من الملك والإباحة.

ومحصل ما أفاده فيهما هو : أنّه بناء على ترتب الملك الجائز على المعاطاة لا إشكال في لزومه بتلف أحد العوضين أو بتلف بعض أحدهما ، لما عرفت مفصّلا من أنّ موضوع الجواز ترادّ العوضين ، فينتفي بتلف أحدهما أو بعض أحدهما ، كما إذا تعاطيا كتابا بدرهمين فاحترق الكتاب أو ضاع أحد الدرهمين ، فتقتضي أصالة اللزوم لزوم الملك.

وبناء على ترتب الإباحة تعبّدا على المعاطاة ففي لزومها بتلف أحد العوضين أو بعض أحدهما بحث ، فنقل شيخنا الأعظم عن بعض مشايخه المعاصرين ترجيح أصالة عدم اللزوم ، لاستصحاب بقاء سلطنة مالك العين الموجودة ، ثم اعترض المصنف عليه بمعارضته بأصالة براءة ذمته عن بدل التالف ، ثم استدرك على هذه المعارضة بأنّ أصالة بقاء السلطنة حاكمة على أصالة عدم الضمان بالبدل ، فهذه مطالب ثلاثة ، سيأتي توضيح كلّ منها إن شاء الله تعالى.

(٢) يعني : في الصورتين الثانية وهي تلف تمام إحدى العينين ، والثالثة وهي تلف بعض إحدى العينين.

(٣) لا يبعد أن يكون مراده من بعض المشايخ هو السيد المجاهد ، ومن بعض معاصريه الفاضل النراقي قدس‌سرهما.

أمّا السيد فقد قال : «منهل : قد بيّنا أنّ المعاطاة لا تفيد اللزوم ، فيجوز لكلّ من المتعاطيين الفسخ والاسترداد وإن لم يرض الآخر به ، إلّا في مواضع : ومنها : ما إذا


.................................................................................................

______________________________________________________

تلف أحد العوضين .. ولكن في المسالك احتمل عدم تحقق اللزوم التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه ، وعموم الناس مسلّطون على أموالهم. وفيه نظر ، لأنّ الوجهين المذكورين إنّما يتجهان إن قلنا إنّ المعاطاة لا تفيد نقل الملك. وأمّا على تقدير إفادتها الملك كما هو المختار فلا» (١).

والمستفاد من الجملة الأخيرة بقاء الإباحة على حالها ، وعدم لزومها بتلف إحدى العينين ، لاقتضاء قاعدتي السلطنة واليد بقاء جواز الاسترداد ، هذا.

وأمّا الفاضل النراقي فقد قال في المستند في المسألة السادسة من مسائل الفصل الأوّل من كتاب البيع : «على القول بتوقف اللزوم على الصيغة فيجوز لكل منهما الرجوع في المعاطاة مع بقاء العينين .. ولو تلفت إحداهما خاصة فلا يجوز الرجوع لصاحب التالفة ، وهل له ردّ الموجودة بلا مطالبة شي‌ء لو أراده لمصلحة وامتنع صاحبها؟ الظاهر نعم ، لأصالة عدم اللّزوم. ولصاحب الموجودة الرجوع إليها لذلك أيضا على الأقوى ، ثمّ الآخر يرجع إلى قيمة التالفة أو مثلها. كذا قالوا. وهو بإطلاقه مشكل. بل الموافق للقواعد أن يقال : لو كان التلف لا من جهة صاحب الموجودة فلا يرجع إليه بشي‌ء ، لأصل البراءة ، وعدم دليل على الاشتغال. وإن كان معه فإن قصد الرجوع قبل الإتلاف فعليه المثل أو القيمة .. وإن لم يقصده قبله فمقتضى الأصول وإن كان براءة ذمته عن المثل أو القيمة ، لعدم كونه غاصبا وجواز رجوعه إلى عينه للأصل. إلّا أنّ الإجماع ونفي الضّرر يمنعان عن الأمرين معا ، فلا بد من أحدهما ـ أي البراءة وعدم الرجوع ، أو الرجوع مع ضمان البدل ـ ولكن تعيين أحدهما مشكل ، وتعيين الاشتغال مطلقا أو على كون المعاطاة إباحة محضة لقاعدة الغصب ، كعدم الرجوع على كونها تمليكا لئلّا يلزم الجمع بين المالين باطل ، لمنع صدق الغصب ، وتسليم جواز جمع المالين إذا اشتغلت ذمته بمثل أحدهما أو قيمته. إلّا أن تعيّن الاشتغال

__________________

(١) : المناهل ، ص ٢٦٩


.................................................................................................

______________________________________________________

بإثبات جواز الرجوع بمثل : الناس مسلّطون على أموالهم ، وعلى اليد ما أخذت» (١).

والغرض من نقل هذه العبارة أمور :

الأوّل : أنّ الفاضل النراقي قدس‌سره فصّل في عدم لزوم المعاطاة بتلف إحدى العينين ـ وجواز رجوع مالك العين الموجودة ـ بين أن يكون من تلف عنده العين قاصدا للرجوع إلى ماله الموجود عند الطرف الآخر ، فيجوز الرجوع مع ضمانه لبدل العين التالفة ، وبين أن لا يكون قاصدا للرجوع فلا ، حيث إنّ في جواز استرداد ماله احتمالين :

أحدهما : عدم الجواز مع براءة ذمته عن بدل التالفة.

وثانيهما : جواز الرجوع مع ضمان البدل. ورجّح في آخر كلامه هذا الاحتمال بقوله : «إلّا أن تعيّن الاشتغال بإثبات جواز الرجوع» واستدل عليه بوجهين : أحدهما قاعدة السلطنة ، والآخر قاعدة اليد.

وهذه الجملة الأخيرة هي محطّ نظر شيخنا الأعظم من نسبة القول ببقاء الإباحة بعد تلف إحدى العينين إليه ، مستدلّا عليه باستصحاب سلطنة مالك العين الموجودة. وقد عرفت أنّ الفاضل النراقي قدس‌سره استدل بقاعدة السلطنة لا باستصحابها.

الأمر الثاني : أنّ ما نقلناه من تفصيل الفاضل النراقي قدس‌سره بين قصد الرجوع وعدمه وإن كان بظاهره أجنبيا عمّا نسبه المصنف إليه من القول ببقاء الإباحة استصحابا للسلطنة. إلّا أنّ المقصود من نقله الوقوف على ما سيأتي في المتن من إيراد المصنف على التفصيل بين قصد الرجوع وعدمه ، ولمّا كان دأبنا في هذا الشرح الوقوف على أرباب الأقوال المنقولة في المكاسب ـ مهما أمكن ـ فلذا نقلنا عبارة المستند ليعلم أنّ قول المصنف قدس‌سره : «إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة ولم يرد الرجوع ..» تعريض به.

__________________

(١) : مستند الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٦٣


لبعض معاصريه تبعا للمسالك (١) أصالة عدم اللّزوم ،

______________________________________________________

الأمر الثالث : أنّ كلام الفاضل قدس‌سره من تجويز الرجوع إلى العين الموجودة ليس فيه تصريح بابتنائه على إفادة المعاطاة للإباحة ، بل نفى هذا الابتناء بقوله : «وتعيين الاشتغال مطلقا أو على كون المعاطاة إباحة محضة .. باطل» وعليه فما نسبه المصنف إلى الفاضل من القول بأصالة عدم اللزوم ـ بناء على الإباحة ـ مستفاد من إطلاق حكم الفاضل بجواز رجوع مالك العين الموجودة سواء قلنا بالملك الجائز أم بالإباحة المحضة. ولا مانع من هذه الاستفادة ، لأنّ المصنف قدس‌سره بصدد بيان حكم تلف إحدى العينين بناء على الإباحة. وهو لا ينافي اتّحاد حكمه بناء على الملك. ويساعد استفادة المصنف استدلال الفاضل بقاعدتي السلطنة واليد ، لماسبتهما للإباحة.

(١) ظاهر العبارة أنّ الشهيد الثاني استوجه عدم لزوم الإباحة في صورة تلف إحدى العينين أو بعضها ، فتبعه صاحبا المناهل والمستند. لكن في النسبة تأمّل. وبيانه : أنّه قدس‌سره فصّل في المسالك بين تلف إحدى العينين وبين تلف بعض إحداهما ، وذكر في كلّ منهما وجهين ، واختار اللزوم بتلف إحداهما ، والإباحة في تلف بعض إحداهما. وعلى هذا فالمسألتان بنظر الشهيد ليستا متحدتين حكما.

والأولى نقل كلامه وقوفا على حقيقة الحال ، فقال في ثاني مباحث المعاطاة : «لو تلفت العينان معا تحقق الملك فيهما. ولو تلفت إحداهما خاصة فقد صرّح جماعة بالاكتفاء به في تحقق ملك الأخرى ، نظرا إلى ما قدّمناه من جعل الباقي عوضا عن التالف ، لتراضيهما على ذلك. ويحتمل هنا العدم ، التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه ، وعموم : الناس مسلّطون على أموالهم. والأوّل أقوى ، فإنّ من بيده المال مستحق قد ظفر بمثل حقّه بإذن مستحقه فيملكه ، وإن كان مغايرا له في الجنس والوصف ، لتراضيهما على ذلك» وهذا الكلام كما ترى صريح في ترجيح القول باللزوم في تلف عين واحدة ، وأنّ عدم اللزوم مجرّد احتمال لا ينبغي المصير إليه.

وقال في المبحث الثالث : «لو تلف بعض إحداهما احتمل كونه كتلف الجميع


لأصالة (١) (*) بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وملكه لها.

______________________________________________________

ـ يعني في تحقق اللزوم ـ وبه صرّح بعض الأصحاب محتجّا بامتناع التراد في الباقي ، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة ، وبالضرر ، لأنّ المطلوب هو كون إحداهما في مقابل الأخرى. وفيه نظر .. إلى أن قال : ويحتمل حينئذ أن يلزم من العين الأخرى في مقابلة التالف ، ويبقى الباقي على أصل الإباحة بدلالة ما قدّمناه» (١).

وظاهر هذه الجملة الأخيرة ـ بعد إبطال مستند المحقق الكركي من التمسك بتبعّض الصفقة وبالضرر ـ هو الميل إلى أصالة عدم اللزوم ، وبقاء الإباحة بالنسبة إلى المقدار الباقي من إحدى العينين.

وبما نقلناه عن المسالك ظهر : أنّ الشهيد قدس‌سره مفصّل بين تلف تمام إحدى العينين بترجيح أصالة اللزوم ، وبين تلف بعض إحداهما بترجيح الإباحة. وكان المناسب أن ينبّه المصنف قدس‌سره على هذا التفصيل ، ولا ينسب إلى الشهيد القول بأصالة عدم اللزوم في كلتا المسألتين ، ولعلّه قدس‌سره اعتمد في هذه النسبة على نقل الغير ، والأمر سهل بعد وضوح حقيقة الحال.

(١) هذا إشارة إلى المطلب الأوّل ، أعني به دليل القول ببقاء الإباحة ، وهو استصحاب بقاء سلطنة مالك العين الموجودة – أو مالك بعض العين الموجودة ـ على ماله ، ومقتضى هذا الاستصحاب جواز رجوعه إلى ماله الموجود عند صاحبه ، ومن المعلوم أن المعاطاة لو كانت لازمة لم يكن له الرجوع إلى ماله الموجود.

__________________

(*) لم يظهر وجه عدوله عن قاعدة السلطنة إلى استصحابها ، مع عدم مانع عن جريانها.

إلّا أن يقال : إنّ احتمال بدليّة الباقي عن التالف أوجب الشك في بقاء العين الموجودة على ملك مالكها ، والقاعدة لا تثبت موضوعها ، فلا محيص في إثبات

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٩


.................................................................................................

__________________

الموضوع من التمسك باستصحاب بقاء المال على ملك مالكه.

نعم لا حاجة الى إجراء الاستصحاب في بقاء السلطنة بعد إجرائه في الموضوع أعني به بقاء الملكية ، لأنّ الأصل الموضوعي حاكم على الحكمي.

ولنعم ما عبّر به الشهيد الثاني قدس‌سره من قوله : «التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه» إذ استصحاب بقاء الملك على ملك مالكه يغني عن استصحاب بقاء السلطنة التي هي حكم شرعي. وغرض الشهيد الثاني من قوله : «أصالة بقاء الملك لمالكه» إثبات الصغرى ، وهي إضافة الملكية التي هي موضوع قاعدة السلطنة ، ومن قوله : «وعموم : الناس مسلّطون على أموالهم» إثبات الكبرى.

ويظهر مما ذكرنا عدم ورود ما أورده بعض المحشّين على المصنف من «أن عموم دليل السلطنة حاكم على استصحابها ، فلا مجال للاستصحاب مع العموم الذي هو دليل اجتهادي» (١).

وجه عدم الورود : قصور دليل السلطنة عن شموله للشك في الموضوع وهو بقاء الملكية ، لكون التمسّك به حينئذ تشبّثا بالدليل في الشبهة المصداقية.

وفي المقام احتمال آخر وهو : أن يكون المستصحب ـ أعني به السلطنة ـ بمعنى الملك كما ورد تفسيره بها في بعض كلمات المصنف قدس‌سره. وعلى هذا فيكون قوله بعده : «وملكه لها» عطف تفسير للسلطنة ، فالمستصحب هو الموضوع ، لا الحكم الشرعي المدلول عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس مسلّطون على أموالهم» ومعه لا يبقى مجال للإيراد المتقدم ، وهو : أنّه مع الشك في الموضوع ـ أي الملكية ـ كيف أجرى الأصل في الحكم وهو السلطنة؟ وجه عدم المجال : أنّه بناء على ما احتملناه تكون السلطنة موضوعا ، لكونها بمعنى الملكية ، لا حكما حتى يشكل استصحابه عند الشك في الموضوع.

__________________

(١) : لاحظ حاشية السيد الطباطبائي ، ص ٨٢ ، وحاشية المحقق الايرواني ، ج ١ ، ص ٨٧


وفيه (١) : أنّها معارضة بأصالة براءة

______________________________________________________

(١) هذا هو المطلب الثاني ، أعني به مناقشة المصنف في دليل القائل ببقاء الإباحة عند تلف إحدى العينين. توضيحه : أنّ أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة التي هي سند أصالة عدم اللزوم ـ المقتضية لجواز الرجوع إلى العين الموجودة ـ معارضة بأصالة براءة ذمة من تلف عنده مال صاحبه عن مثله أو قيمته ، وبسقوطها بالمعارضة لا يبقى دليل على بقاء الإباحة. مثلا إذا كانت المعاوضة بين كتاب زيد ودينار عمرو ، وتلف الكتاب عند عمرو وبقي الدينار عند زيد ، فصاحب العين الموجودة ـ وهو الدينار ـ مسلّط على أخذها من زيد مع عدم ضمانه لبدل الكتاب لزيد.

فإن قلت : لا معارضة بين أصالة براءة ذمة مالك الدينار عن بدل الكتاب ، وبين أصالة بقاء سلطنته على أخذ الدينار من زيد ، لعدم التنافي بينهما ، وعليه يمكن الجمع بين جواز استرداد الدينار وبين عدم ضمانه لبدل الكتاب ، ولا يسقط استصحاب السلطنة بالمعارضة.

قلت : المعارضة بين الحجتين تكون تارة بالذات كما في المتباينين والعامّين من وجه. وأخرى بالعرض أي بواسطة دليل ثالث ، ومثّلوا له بالخبرين الدال أحدهما على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة ، إذ لا منافاة بين الدليلين بلحاظ المدلول المطابقي والتضمني ، إلّا أنّ الإجماع على عدم وجوب فريضتين قبل صلاة العصر يوجب التنافي بين الخبرين ، فيعلم إجمالا بكذب أحدهما.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ أصالة بقاء سلطنة المالك تقتضي جواز استرداد الدينار شرعا ، والرجوع ملازم لضمان بدل التالف من المثل أو القيمة ، فالمعارضة بين أصالة بقاء السلطنة وبين أصالة براءة الذمة تكون بملاحظة الملازمة بين جواز الرجوع واستلزامه لضمان التالف.

والوجه في الملازمة أمّا القطع بعدم مجانية التالف ، وإمّا لما حكي عن بعض تلامذة المصنف من الإجماع المركب على التلازم بين جواز رجوع مالك العين الباقية وجواز رجوع مالك العين التالفة ببدلها.


ذمّته (١) عن مثل التالف عنده أو قيمته (٢).

والتمسّك (٣) بعموم «على اليد» هنا

______________________________________________________

هذا توضيح إشكال شيخنا الأعظم على كلام بعض مشايخه من الحكم ببقاء الإباحة بتلف إحدى العينين أو بعض إحداهما.

(١) هذا الضمير وضمير «عنده» راجعان الى مالك العين الموجودة.

(٢) أي : قيمة التالف ، إن كان قيميّا.

(٣) إشارة إلى توهّم وجوابه ، ومقصود المتوهم إبطال المعارضة التي أوقعها المصنف بين أصالتي بقاء السلطنة وبراءة الذمة. توضيح التوهم : أنّه لا تصل النوبة إلى المعارضة المزبورة ، وذلك لوجود الدليل الاجتهادي ـ الحاكم على أصالة البراءة ـ وهو قاعدة اليد ، حيث إنّ كلّ واحد من المتعاطيين وضع يده على مال الآخر ، إذ بناء على الإباحة ـ كما هو مفروض البحث ـ يكون المال باقيا على ملك الدافع ، إذ لم يدخل في ملك الآخذ ، فتكون يد الآخذ مضمّنة ، فإذا تلف وجب عليه أداء المثل أو القيمة. ومع هذه القاعدة الاجتهادية لا موضوع لأصالة براءة ذمة من تلف عنده المال عن البدل ، حتى تكون معارضة لأصالة بقاء السلطنة.

وعليه تكون نتيجة الجمع بين قاعدة اليد واستصحاب سلطنة مالك العين الموجودة هي عدم لزوم الإباحة بتلف إحدى العينين ، فيجوز له استرداد عينه ودفع بدل العين التالفة إلى مالكها ، هذا.

وقد دفع المصنف قدس‌سره هذا التوهم بما حاصله : أنّ الضمان ـ بناء على تسليمه ـ ليس مستندا إلى اليد قطعا ، لأنّها معدومة عند الحكم بالضمان وهو حال التلف. واليد السابقة على التلف لم تكن يد ضمان ، لكونها بإذن الشارع أو المالك ، إذ لو كانت يد ضمان لكانت موجبة للضمان في الصورة السابقة ، وهي تلف العينين.

ولا فرق في عدم اقتضاء «على اليد» لضمان بدل التالف بين أن يكون قاصدا لإمضاء المعاطاة وعدم استرداد ماله الموجود من المتعاطي الآخر ، وبين أن يكون


في غير محلّه (١) ، بعد القطع بأنّ هذه اليد قبل تلف العين لم تكن (٢)

______________________________________________________

قاصدا للرجوع إليه وأخذ ماله منه.

والوجه في عدم الفرق بين الصورتين واضح. أمّا إذا كان بانيا على إمضاء المعاطاة فلأنّ المال الموجود يصير عوضا مسمّى عن التالف. ولم تنقلب تلك اليد الأمانية قبل تلف العين إلى يد عدوانية حتى توجب الضمان. وأمّا إذا كان بانيا على استرداد العين الموجودة من المتعاطي الآخر فكذلك لا موجب لصيرورة من تلف عنده المال ضامنا للبدل ، لأنّ الدليل على الضمان منحصر في المقام في اليد ، لانتفاء سائر موجباته ، وقد عرفت أنّ اليد ـ قبل التلف ـ كانت بإباحة الشارع ، ولا تنقلب الى يد عدوانية بمجرّد قصد الرجوع إلى العين الموجودة.

نعم إن أمكن جعل إرادة الرجوع من موجبات الضمان استند إليها لا إلى اليد. لكن ليس رجوع من تلف عنده المال ولا إرادة رجوعه من موجبات الضمان ، سواء أكانا منضمّين إلى اليد أم لا. فالموجب لاشتغال العهدة بمال الغير هو الاستيلاء عليه بغير إذن من مالكه أو من الشارع ، والمفروض في المقام كون يد كلّ واحد من المتعاطيين أمانية خارجة موضوعا عن حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

وبهذا ظهر إشكال المصنف قدس‌سره على صاحب المستند ، حيث فصّل بين إرادة الرجوع وعدمها ، كما أنّه حكم في آخر كلامه باشتغال ذمة من تلف عنده المال ، وجواز رجوعه لاسترداد ماله ، مستدلّا عليه بقاعدتي السلطنة واليد.

وبعد بطلان هذا التوهم يظهر استقرار المعارضة بين استصحاب السلطنة وأصالة البراءة عن بدل التالف ، ولا يبقى وجه لبقاء الإباحة بعد تلف إحدى العينين كما زعمه بعض المشايخ.

(١) خبر «والتمسك» ودفع للتوهم ، وقد تقدم توضيح التوهّم والدفع آنفا.

(٢) لكونها مقرونة بإذن الشارع ، فلا موجب للضمان.


يد ضمان (*) ، بل ولا بعده إذا بنى (١) مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة ، ولم يرد الرّجوع. إنّما الكلام في الضمان إذا أراد الرجوع ، وليس (٢) هذا من مقتضى اليد قطعا (**) ، هذا.

______________________________________________________

(١) يعني : وكذا لا تكون يد من تلف عنده المال مضمّنة إذا قصد استرداد عينه الموجودة عند الطرف الآخر. والوجه فيه واضح ، فإنّ اليد الأمانية لا تختلف حالها بين بقاء العين وتلفها.

والإتيان ب «بل» الإضرابية لأجل كون عدم الضمان ـ عند بناء مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة وإلزامها ـ أوضح وجها مما إذا كان قاصدا للرجوع إلى عينه الموجودة.

(٢) يعني : وليس الضمان ـ عند قصد الرجوع إلى العين الموجودة ـ مسبّبا عن اليد ، لأنّها قبل التلف أمانية ، وبعد التلف لا يد حتى يحكم بالضمان. ومجرّد إرادة الرجوع لا تؤثّر في انقلاب تلك اليد ـ قبل التلف ـ من الأمانية إلى العدوانية.

هذا تمام الكلام في المطلب الثاني وهو إشكال المصنف على بعض مشايخه.

__________________

(*) لا يقال : إنّ نفي الضمان هنا ينافي قوله بعد أسطر : «مع أن ضمان التالف ببدله معلوم» كما ينافي فرض الشك في اشتغال الذمة بالبدل ، حيث جعله مجرى أصالة البراءة. ومن المعلوم أنّ نفي الضمان والعلم به والشك فيه أمور متهافتة.

فإنّه يقال : إنّ المنفي هنا هو الضمان اليدي ، ولا ينافيه اشتغال الذمة لموجب آخر كإقدام كل واحد من المتعاطيين على تسليط الآخر مضمونا بعوضه لا مجّانا ، ومن المعلوم أنّ نفي الضمان من جهة لا ينافي إثباته من جهة أخرى ، فتأمّل.

(**) إلّا أن يقال : إنّ الضمان مقتضى اليد ، لكن بشرط الرجوع ، جمعا بين عموم «على اليد» والإجماع على عدم جواز رجوع صاحب العين الموجودة إلى ماله بلا بدل.


ولكن (١) يمكن أن يقال : إنّ أصالة بقاء السلطنة حاكمة (٢) (*) على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة.

______________________________________________________

(١) استدراك على معارضة أصالتي السلطنة والبراءة. وهذا شروع في المطلب الثالث ممّا أفاده في الصورة الثانية والثالثة بناء على الإباحة. فغرضه قدس‌سره من قوله : «ولكن يمكن أن يقال» تأييد ما استوجهه بعض المشايخ من بقاء الإباحة وضمان صاحب العين الباقية ـ لبدل التالفة ـ بوجوه ثلاثة ، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

(٢) هذا هو الوجه الأوّل ، ومحصله : منع المعارضة بين أصالة البراءة عن الضمان ، وسلطنة مالك العين الموجودة على إرجاع ماله إلى نفسه ، الموجبة لسقوط أصالة السلطنة المقتضية لجواز المعاطاة.

وجه عدم المعارضة هو حكومة أصالة بقاء السلطنة على أصالة البراءة عن الضمان ، تقريبه : أنّ الشك في ضمان المثل وعدمه مسبّب عن الشك في بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وعدم بقائها ، ومن المعلوم حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، فلا تجري أصالة عدم الضمان مع جريان أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة حتى تتعارضا.

__________________

(*) في الحكومة منع ، لعدم التسبب شرعا ، ضرورة أنّ الضمان ليس من آثار السلطنة شرعا حتى تكون قاعدة السلطنة مثبتة له ، بل أثر السلطنة هو مجرّد جواز الرجوع إلى العين. وأمّا الضمان فليس أثرا شرعيا للسلطنة ، بل هما متلازمان ، ولا معنى لتقدم الأصل الجاري في أحد المتلازمين على أصل الآخر.

وقد يقرّب الحكومة بوجه آخر ، وهو : أنّ الاستصحاب حاكم على البراءة ، لكونه أصلا تنزيليّا دونها ، فإذا جرى في طرف لا تجري البراءة في الطرف الآخر. وقد نسب ذلك إلى جمع من المحققين ، فيجري استصحاب السلطنة ، دون أصالة البراءة ، هذا.

لكن فيه منع ظاهر ، لأنّ حديث الحكومة إنّما هو فيما إذا اتّحد المجرى حتى


مع (١) أنّ ضمان التالف ببدله معلوم ، إلّا أنّ الكلام في أنّ البدل هو البدل الحقيقي ـ أعني المثل أو القيمة ـ أو البدل الجعلي أعني العين الموجودة ،

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني لعدم جريان أصالة البراءة عن الضمان ، وسلامة أصالة السلطنة من المعارض. وحاصل هذا الوجه : أنّ العلم الإجمالي بالضمان ـ على أحد النحوين من الضمان الواقعي والجعلي ـ يمنع عن جريان أصالة البراءة ، فتبقى أصالة بقاء السلطنة بلا معارض.

__________________

يكون إحراز الواقع بالأصل المحرز مغنيا عن إجراء الأصل غير المحرز فيه ، كما إذا كان ماء مشكوك الطهارة والنجاسة مع العلم بطهارته سابقا ، فإنّ الجاري فيه هو استصحاب الطهارة لا قاعدتها ، لحكومة الأوّل عليها.

وأمّا إذا تعدّد المجرى كما إذا علم إجمالا بملاقاة نجاسة لماء أو بوليّة مائع آخر ، فإنّه لا يقال بحكومة أصالة عدم وقوع النجاسة في الماء على قاعدة الطهارة في ذلك المائع ، بل استصحاب عدم وقوع النجاسة يعارض قاعدة الطهارة ، فيتساقطان ، ويرجع إلى ما يقتضيه قاعدة تنجيز العلم الإجمالي من وجوب الاجتناب عن كليهما. ففي المقام يقع التعارض بين قاعدة السلطنة وبين أصالة البراءة عن الضمان.

كما ظهر بما ذكرنا : أنّه لا يلزم حمل أصالة البراءة على استصحاب عدم الضمان حتى تقع المعارضة بين الاستصحابين كما في حاشية المحقق الايرواني وغيره ، بدعوى : «أنّ أصل البراءة بمعناها المعروف أصل حكمي محكوم بالاستصحاب ، فلا يتوقّع من المصنف فرض المعارضة بينهما ، فلا بدّ من حملها على استصحاب براءة الذمة» (١) ، هذا.

وجه عدم اللزوم ما عرفت من أن حديث الحكومة منوط بوحدة المورد ، فلا مجال له مع تعدّده كما في المقام ، فلاحظ.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٧


فلا أصل (١) (*) هذا.

______________________________________________________

(١) يعني : فلا أصل في المقام يعارض أصالة بقاء السلطنة ، إذ مع العلم الإجمالي بالضمان المردّد بين المسمّى والواقعي لا يجري أصل عدم الضمان. فأصالة البراءة منقطعة بالعلم بالضمان في الجملة ، والشك إنّما هو في تعيين البدل من الجعلي والواقعي ، ولا أصل يعيّن أحدهما.

__________________

(*) عدم جريان أصالة البراءة عن ضمان البدل إمّا لقصور المقتضي وإمّا لوجود المانع.

وتقريب الأوّل : أنّ الأصل العملي متقوّم بالشك ، فمع العلم بأصل الضمان لم يبق احتمال البراءة عنه حتى يتحقق موضوع أصل البراءة.

وتقريب الثاني : أنّ العلم الإجمالي بضمان المسمّى أو الواقعي موجود. وحيث إنّ كلّا من الخصوصيتين مشكوكة كان موضوع الأصل النافي للتكليف محقّقا ، وتصل النوبة إلى معارضة أصالة البراءة عن ضمان البدل الواقعي بأصالة البراءة عن ضمان المسمّى ، وبسقوطهما بالمعارضة يبقى استصحاب سلطنة المالك سليما عن معارضته بأصالة البراءة عن ضمان البدل.

ويمكن استظهار التقريب الأوّل من قوله : «مع ان ضمان التالف ببدله معلوم» يعني : فلا مقتضي لأصل البراءة.

ويمكن استفادة الثاني من قوله : «إلّا أن الكلام في أنّ البدل هو البدل الحقيقي أو البدل الجعلي ..» لظهوره في معارضة الأصل الجاري في كلّ من خصوصيتي المسمّى والواقعي. ولعلّ هذا أوفق بمبنى المصنف في اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز وعدم علّيته له ، وتوقف منجزيته على تعارض الأصول في الأطراف ، كما استفاده بعض المحققين من الرسائل.


مضافا إلى ما قد يقال (١) من : أن عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» يدلّ على السلطنة على المال الموجود بأخذه ، وعلى المال التالف بأخذ بدله الحقيقي ، وهو المثل أو القيمة ، فتدبّر (٢) (*).

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثالث للحكم ببقاء الإباحة إذا تلفت إحدى العينين ، ومحصّله : أنّه نتمسك بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الدال على سلطنة المالك على ماله ، فإن كان موجودا فهو مسلّط على أخذه ، وإن كان تالفا فهو مسلّط على بدله الحقيقي ـ من المثل أو القيمة ـ فيثبت به جواز الرجوع. ومن المعلوم أنّه مع وجود الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى التمسّك بأصالة بقاء السلطنة حتى يناقش فيها بالمعارضة ، ولا بأصالة براءة الذمة ، هذا.

وقد أورد على المصنف قدس‌سره بوجوه مذكورة في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره ، فراجع (١).

وكيف كان فالمصنف عدل إلى ما استوجهه بعض مشايخه من عدم لزوم المعاطاة في صورة تلف إحدى العينين أو بعض إحداهما بناء على الإباحة.

(٢) لعلّه إشارة إلى : أنّ شمول قاعدة السلطنة للمال التالف ممنوع ، ولذا لم يستدلّ بها أحد على الضمان في الموارد التي تمسّك فيها على الضمان بقاعدتي اليد والإتلاف. هذا تمام الكلام في الملزم الأوّل وهو التلف ، وقد ذكر له صورا ثلاثا ، ولم يذكر الصورة الرابعة ، وهي تلف بعض كلا العوضين ، ويظهر حكمها من الصورة الثانية والثالثة.

__________________

(*) اعلم أنّ التلف الذي جعلوه ملزما للمعاطاة يتصوّر على وجوه ، لأنّ التالف تارة يكون تمام العوضين كما هو مفروض المتن ، وأخرى يكون بعضهما ، وثالثة يكون تمام أحدهما ، ورابعة يكون بعض أحدهما ، فالصور أربع. وعلى التقادير تارة يتكلم بناء على إفادة المعاطاة الإباحة ، وأخرى بناء على إفادتها الملك.

أمّا الصورة الأولى : ـ وهي كون التالف تمام العوضين ـ مع إفادة المعاطاة للإباحة

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٠٧


.................................................................................................

__________________

فملخص الكلام فيها هو : أنّه بناء على إفادة المعاطاة المقصود بها التمليك للإباحة أو الملك ـ على الخلاف ـ يكون التلف ملزما ، لما عرفت من تسالمهم عليه.

أمّا على الأوّل فلعدم ما يوجب الضمان الذي هو سبب جواز الرجوع ، وذلك لأنّ موجب الضمان لا يتصور هنا إلّا اليد ، وهي لا توجبه ، لأنّ اليد هنا أمانيّة ، لإذن الشارع في التصرفات ، فلا تشملها قاعدة اليد تخصيصا أو تخصّصا ، فكل واحد من المالين قد تلف من مال مالكه. وعلى فرض الشك في الضمان فمقتضى أصالة البراءة عدمه ، هذا.

ثم إنّه قيل بكون لزوم المعاطاة عندهم بالتلف على القول بالإباحة راجعا إلى صيرورتها معاوضة بين العينين ، ولمّا لم يكن التالف قابلا للمعاوضة عليه فلا بد من حمل كلامهم على إرادة المعاوضة قبل التلف آنا ما ليقع تلف كل واحد من المالين في ملك من انتقل إليه ، لا من انتقل عنه هذا.

لكنه لا وجه للالتزام بذلك ، فإنّ ظواهر كلماتهم هي لزوم الإباحة ، لا صيرورة المعاطاة موجبة للملك اللازم بسبب التلف ، ولا يقتضي الجمع بين الأدلة الالتزام بمملّكيتها بالتلف ، إذ لا دليل إلّا أصالة بقاء المالين على ملك مالكيهما ، والإجماع على إباحة التصرف ، وهما لا يقتضيان الملك آنا ما. وأمّا دليل اليد فلا يجري هنا ، لكون اليد أمانيّة ، فتدبّر.

وأمّا على الثاني ـ وهو كون المعاطاة المقصود بها التمليك مفيدة للملك ـ فلأنّ أصالة اللزوم المستفادة من عمومات اللزوم تقتضي اللزوم ، إذ المخصص لبّي ، والمتيقن منه هو الجواز المتعلّق بترادّ العينين المتوقف على بقائهما ، فبتلفهما ينتفي موضوع الجواز. وقد قرر في محله أنّ المرجع عند الشك في المخصّص المجمل هو أصالة العموم فيما عدا المتيقن من الخاص ، لكون الشك حينئذ في التخصيص الزائد. ولا مجال لاستصحاب حكم الخاص بعد دلالة العام على اللزوم في كل زمان ، وكون المتيقّن خروجه هو خصوص الزمان الأوّل.


.................................................................................................

__________________

وبالجملة : مع وجود العموم لا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

إنّما الكلام كله في كون الجواز بالمعنى الّذي ذكره المصنف قدس‌سره من أنّه بمعنى التملّك بالأخذ لا بعنوان الفسخ ، حيث إنّ الجواز بالمعنى المزبور قائم بالعينين دون العقد ، مع أنّ اللزوم والجواز قائمان بالعقد. فكما يكون اللزوم قائما بالعقد على ما هو ظاهر مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فكذلك الجواز الذي ينافيه ، إذ الجواز ـ بمعنى الأخذ الموجب للتملّك ـ ينافي قاعدة سلطنة المالك على ماله ، لا أصالة لزوم العقد ، فلا وجه للتمسك لنفيه بأصالة اللزوم ، هذا.

مضافا إلى : أنّ إرادة الجواز بمعنى التملك بالأخذ ـ لا بعنوان الفسخ ـ غير ظاهر ، بل خلاف المقطوع به في كلماتهم ، حيث إنّهم عبّروا بفسخ المعاوضة فلاحظ التحرير ، إذ لا ينبغي الارتياب في أنّ مرادهم بالجواز ما يقابل اللزوم ، ومرادهم بالرجوع الرجوع الاعتباري الإنشائي وهو الفسخ ، لا الرجوع والتراد الخارجي ، ولم يعرف القول بالجواز بالمعنى المذكور لأحد من أصحابنا لا فيما نحن فيه ولا في الهبة ، وإنّما نسب ذلك إلى بعض الشافعية في الهبة. لكنه لا تنهض عليه أدلّته وإن احتمله في الجواهر.

وإن شكّ في معنى الجواز وأنّه في المقام بمعنى انحلال العقد بالفسخ أو بمعنى التملّك بالأخذ والرجوع ، فلا دليل على تعيّن أحدهما ، لاستلزام حمله على كلّ من المعنيين تخصيص أحد العامّين أعني عموم قاعدة السلطنة ، وقاعدة لزوم العقد. ومع العلم الإجمالي بتخصيص إحداهما يسقط العامّان معا عن الحجية ، فالمرجع حينئذ أصالة عدم ترتب الأثر على كل من الفسخ والتملك بالأخذ إلّا إذا وقعا معا ، إذ يعلم حينئذ بترتب الأثر ، هذا.

لكن قد عرفت أنّه لا تصل النوبة إلى الشك ، إذ المراد بالجواز الذي يكون مورد الإجماع هو المعنى الأوّل أعني به انحلال العقد بالفسخ ، لأنّه المقابل لأصالة لزوم العقد


.................................................................................................

__________________

دون التملّك بالأخذ الذي هو مقابل قاعدة سلطنة المالك على ماله ، هذا.

ثم إنّ الظاهر كون الجواز في المعاطاة حكما لا حقّا ، لأنّه مقتضى حصر الملزمات في التلف وغيره مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، إذ لو كان إسقاط المتعاطيين أو أحدهما للجواز مسقطا وملزما لعدّوه من الملزمات كما لا يخفى.

مضافا إلى : أنّ مقابلته للزوم العقد تقتضي كون الجواز حكما كاللزوم ، ضرورة أنّه من أحكام العقود التي جعلها الشارع ، فكأنّه قيل : «العقد لازم أو جائز» بعد ضمّ المخصّص إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هذا.

وأمّا الصورة الثانية : ـ وهي تلف إحدى العينين مع إفادة المعاطاة للملك ـ فقد تقدم حكمها في الصورة الاولى من أنّ مقتضى أصالة اللزوم هو لزوم المعاطاة بتلف إحدى العينين ، لامتناع التّراد معه ، والمفروض أنّ معقد الإجماع على الجواز هو إمكان التّراد ، فمع امتناعه يتمسّك بعموم دليل اللزوم ، هذا.

وأمّا مع إفادة المعاطاة للإباحة ، فيمكن أن يقال بعدم اللزوم ، لعدم كون المعاطاة المفيدة للإباحة عقدا حتى يشمله (أَوْفُوا) ويقال : إنّ الأصل في كل عقد هو اللزوم إلّا ما خرج وهو المعاطاة قبل تلف إحدى العينين دون ما بعده ، للزومها حينئذ بمقتضى عموم وجوب الوفاء بالعقود. بل لا بدّ من التشبث بقاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، إذ المفروض مجرّد إباحة تصرّف كلّ من المتعاطيين في مال الآخر. ومن المعلوم أنّ قضية إطلاق قاعدة السلطنة جواز رجوع مالك العين الموجودة إلى ماله بلا شرط ، فقاعدة السلطنة توجب جواز المعاطاة وعدم لزومها بتلف إحدى العينين ، فيجوز لصاحب العين الموجودة الرجوع إلى ماله بلا بدل للتالف ، هذا.

لكن الإجماع المدّعى على التلازم بين جواز رجوع مالك العين الباقية وجواز رجوع مالك العين التالفة ببدلها يقيّد إطلاق السلطنة ، فيجوز لمالك العين الباقية الرجوع إليها بشرط أداء بدل التالف كما لا يخفى.


.................................................................................................

__________________

وتحرير البحث : أنّ الإباحة إذا كانت مالكيّة ـ بأن أباح كلّ منهما ماله لصاحبه ، وتلفت إحدى العينين ـ أمكن إجراء قاعدة السلطنة ، لجواز أخذ العين الموجودة لمالكها مع الضمان. أمّا جواز الرجوع فلأنّ المفروض بقاء العين الموجودة على ملك مالكها ، ومقتضى سلطنة المالك على ماله جواز رجوعه إليه. وأمّا ضمان مالك العين الموجودة لبدل التالف فلأنّ مالكه لم يبح التصرف لصاحب العين الموجودة مجّانا بل بالعوض.

وأمّا كون الضمان بالعوض الجعلي وإن كان مغايرا للبدل الواقعي جنسا أو وصفا فلتراضيهما على ذلك كتراضي الدائن والمديون على الوفاء بغير الجنس.

وبالجملة : فلا بأس بالتمسك بقاعدة السلطنة في الإباحة المالكية.

وأمّا إذا كانت الإباحة شرعية كما إذا قصد المتعاطيان التمليك ولم يمضه الشارع لكن حكم بالإباحة ، فإنّ الإباحة حينئذ شرعية لا مالكيّة ، إذ المفروض عدم قصدهما للإباحة ، وإنّما الحاكم بها هو الشارع ، فيشكل التمسّك حينئذ بقاعدة السلطنة ، لأنّ لازمها تغيير الحكم الشرعيّ ، وهي لا تصلح لذلك ، فإنّ الإباحة الشرعية ثبتت على خلاف سلطنة المالك ، فلا ينهض دليل السلطنة على تغيير هذا الحكم الشرعي ، بل هذه الإباحة ثبتت في موضوع عدم رضا المالك بالتصرف ، لأنّه قصد الملك ولم يحصل ، والمفروض عدم جواز التصرف في العقود الفاسدة.

فالمتحصل : عدم جواز التمسك بقاعدة السلطنة لرفع الإباحة الشرعية.

نعم لا بأس بالتشبث بها لإثبات جواز التصرف في العين بنقل ونحوه من التصرفات غير المنافية لبقاء الإباحة التعبدية ما دامت العين باقية ، نظير بيع العين المستأجرة غير المنافي لبقاء حق المستأجر في المنفعة. وعليه فإذا شكّ في ارتفاع الإباحة الشرعية بتلف إحدى العينين أو برجوع المالك فيرجع إلى أصالة بقاء العقد ، بل مقتضى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ذلك. إلّا أن يخدش في صدق العقد العرفي على هذه المعاطاة المقصود بها التمليك المفيدة للإباحة شرعا ، فيرجع حينئذ إلى استصحاب الإباحة الشرعية ، ولازم ذلك بقاء حكم الشارع بالإباحة.


.................................................................................................

__________________

هذا بناء على بقاء المعاطاة على الإباحة وعدم صيرورتها مملّكة بعد تلف إحدى العينين كما عليه جماعة منهم سيدنا الخويي قدس‌سره.

وأمّا بناء على صيرورتها بعد التلف بيعا فلا إشكال في اللزوم ، لعموم وجوب الوفاء بالعقود ، هذا.

وأمّا الصورة الثالثة : ـ وهي تلف بعض إحدى العينين ـ فعن المحقق الثاني لزومها ، قال في جامع المقاصد : «فيجوز التراد ما دام ممكنا ، فمع تلف إحدى العينين يمتنع التراد ، فيتحقق اللزوم ، لأنّ إحداهما في مقابل الأخرى. ويكفي تلف بعض إحدى العينين ، لامتناع الترادّ في الباقي ، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة ، وللضرر ، ولأنّ المطلوب هو كون إحداهما في مقابل الأخرى» (١).

وحكي مثله عن صيغ العقود وتعليق الإرشاد (٢).

وفي الروضة في شرح قول الشهيد قدس‌سره : «ويجوز الرجوع فيها مع بقاء العين» ما نصّه : «ويفهم من جواز الرجوع مع بقاء العين عدمه مع ذهابها. وهو كذلك ، ويصدق بتلف العينين وإحداهما وبعض كل واحدة منهما .. إلخ» (٣).

وقطع بذلك بعض الأساطين رحمه‌الله في شرح القواعد.

وقد عرفت من عبارة جامع المقاصد المتقدمة أنّ مناط اللزوم هو امتناع التراد المتحقق بتلف كلتا العينين أو إحداهما أو بعضهما.

وقد جعل كاشف الغطاء في شرح القواعد الجواز مشروطا بإمكان الرّد ، وبالخلوّ عن الضرر المنفي ، واستند في ذلك إلى السيرة القطعية. قال رحمه‌الله : «إنّا نعلم من تتبع كلمات القوم والنظر إلى السيرة القاطعة أنّ الجواز مشروط بإمكان الرد ، وبالخلوّ عن

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٧

(٣) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٣


.................................................................................................

__________________

الضرر المنفي بحديث الضرر ، فلو تلف كل أو بعض منه أو من فوائده بتصرف العين أو منفعة أو ركوب أو سكنى أو حرث أو دخول في عمل ونحوها أو بيع أو إجارة أو زراعة أو مساقاة ونحوها على وجه لا يمكن فسخها شرعا أو بإتلاف أو تلف سماوي تعذّر الرّد ولم يتحقق مصداقه ، ولو صدق في البعض امتنع أيضا. ومع حصول الضرر بالتبعيض وتغيير الصورة بطحن أو تفصيل أو خياطة أو صبغ ونحوها ، أو دخل تحت الرد جاء به ثبوت الضرر غالبا بتبديل الأوصاف واختلاف الرّغبات. نعم لو بقي الشي‌ء على حاله أو زاده حسنا بصيقل أو إخراج غبار أو إزالة وسخ ونحوها لم يكن فيه ذلك».

وأنت خبير بأنّ إناطة الجواز بالضرر لا تخلو من النظر ، لأنّ الضرر يوجب الخيار ، ولا يكون سببا للّزوم ، وكذا تبعض الصفقة ، فإنّه يقتضي الخيار دون اللزوم.

وكيف كان فعلى القول بإفادة المعاطاة للملك تجري أصالة اللزوم ، لعين ما تقدم في تلف العينين وإحداهما من عدم إمكان التراد.

وعلى القول بالإباحة المالكية تجري قاعدة السلطنة المقتضية لبقاء الجواز إلى زمان تلف بعض إحدى العينين. وعلى القول بالإباحة الشرعية لا تجري قاعدة السلطنة ، لما تقدم آنفا ، بل يجري استصحاب الإباحة.

وأمّا الصورة الرابعة ـ وهي تلف بعض العينين ـ فحكمها بناء على الملك هو اللزوم وارتفاع موضوع الجواز وهو إمكان ترادّ العينين. وبناء على الإباحة الشرعية كذلك أيضا ، لعدم جريان قاعدة السلطنة فيها المقتضية للجواز ، بل مقتضى استصحاب الإباحة هو لزومها.

وبناء على الإباحة المالكية هو الجواز ، لقاعدة «سلطنة الناس على أموالهم» المقتضية للجواز ، فلا مانع من التراد بالنسبة إلى ما بقي من العينين.

وتوهّم جريان قاعدة السلطنة في الإباحة الشرعية أيضا فاسد ، لما مرّ آنفا من محكومية القاعدة بدليل الإباحة كما لا يخفى.


ولو كان (١) أحد العوضين دينا في ذمّة أحد المتعاطيين ، فعلى القول بالملك

______________________________________________________

الملزم الثاني : كون أحد العوضين دينا

(١) بعد أن فرغ المصنف قدس‌سره من بيان صور أوّل ملزمات المعاطاة وهو التلف ـ بناء على كلّ من الملك والإباحة ـ تعرّض لملزم آخر ملحق بتلف إحدى العينين ، وهو كون أحد العوضين دينا في ذمة أحد المتعاطيين.

وقبل توضيحه نقول : لا ريب ـ بمقتضى الإجماع ـ في صحة بيع الدين ممّن هو عليه حتى بناء على إناطة البيع بتمليك كل واحد منهما ماله للآخر على ما صرّح به المصنف في أوّل البيع بقوله : «لأن البيع تمليك الغير» يعني أنّه تمليك من الطرفين كما أوضحناه هناك ، مثلا لو كان زيد مديونا لعمرو منّا من الحنطة ، صحّ بيعها من زيد بدينار ، فيتملّك عمرو الدينار ، ويتملك زيد تلك الحنطة الذمية الكلية آنا ما ، ويترتب على هذا التملّك فراغ ذمّته عن ذلك الدّين ، وقد عبّر المصنف عنه هناك بقوله : «لا مانع من كونه تمليكا فيسقط».

أمّا أنّه يتملك المديون لما في ذمة نفسه آنا ما فلأجل رعاية ماهية البيع المنوطة بحصول المبادلة في الملكية. وأمّا أنّه يسقط الدين عن ذمة المديون بمجرّد البيع ، فلأنّ الملكية الاعتبارية تدور مدار مصحّح الاعتبار عرفا ، ومن المعلوم أنّ العرف لا يعتبر تملّك الإنسان لما في عهدته إلى الأبد ، فالجمع بين الأمرين المتقدمين يقتضي الالتزام بكفاية التملك حدوثا ، وسقوطه بقاء ، هذا ما أفاده هناك.

وعليه نقول في توضيح المتن : أنّه إذا كان زيد مديونا لعمرو دينارا ، ثم اشترى عمرو منه كتابا بذلك الدينار الذي يستحقّه في ذمة زيد ، انتقل الدينار إلى ملك زيد آنا ما ، ويترتب عليه فراغ ذمته عمّا اشتغلت به لعمرو. وتصير المعاطاة لازمة من أوّل تحققها ، لعدم بقاء العوضين على حالهما كما كانا حتى يتحقق التّرادّ الذي هو موضوع الجواز ، لأنّ الدينار الكلّي قد سقط عن ذمة زيد ، والسقوط وإن لم يكن تلفا


يملكه من في ذمّته ، فيسقط عنه (١).

______________________________________________________

حقيقة ، لاختصاص التلف بالموجود الخارجي الذي يعرضه البوار والفناء ، إلّا أنّه بحكم التلف ، من جهة امتناع عود الساقط إلى الملك ، وذلك لأمرين مسلّمين :

أحدهما : أنّ الذمة لا وجود لها بنفسها ، بل تتشخّص بأطرافها من المالك والمملوك والمملوك عليه ، فيقال : إنّ ذمّة زيد مشغولة بمنّ من الحنطة لعمرو ، ولو لا فرض المالك والمملوك لا وجود في وعاء الاعتبار لذمة زيد. وعليه فإذا سقط شخص ما في الذمة ـ كما هو المفروض في بيع الدين ممن هو عليه ـ استحال عود شخص الساقط ، لاستلزام عوده تخلّل العدم في شخص واحد ، وهو محال ، كاستحالة إعادة المعدوم.

ثانيهما : أنّه إذا سقط شخص ما في الذمة استحال فرض بقاء ما في الذمة اعتبارا حتى يمكن اشتغال العهدة بمثل ذلك الساقط. وجه الاستحالة : أنّ الإنسان كما لا يملك شخص ما في ذمته ـ كما هو مبنى المصنف من السقوط بمجرد التملّك ـ فكذلك لا يملك مثل ما في ذمته ، فلو قلنا بعود الساقط وبقاء ما في الذمة لزم اجتماع اعتبارين متنافيين ، أحدهما : اعتبار سقوط ما في الذمة ، والآخر : اعتبار بقاء ما في الذمة أي عدم السقوط ، ومن المعلوم استحالة اجتماع هذين الاعتبارين ، هذا ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره تعليلا لاستحالة عود الساقط بتوضيح منّا (١).

وعليه نقول : بأنّه لا وجه للرجوع إلى العوض الموجود وهو الكتاب ، ودفع بدله إلى عمرو. بل المعاطاة لازمة من أوّل الأمر ، إذ لو جاز لزم عود الدينار الساقط عن ذمة زيد إلى ذمّته مرّة أخرى ، وقد عرفت استحالته.

(١) هذا الضمير وضمير «ذمته» راجعان إلى «من» الموصولة المراد به المديون.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٥٥


والظاهر أنّه في حكم التلف (١) ، لأنّ (٢) الساقط لا يعود (*). ويحتمل (٣) العود ، وهو ضعيف (٤).

______________________________________________________

(١) يعني : فتكون المعاطاة لازمة حينئذ من أوّل الأمر ، لأنّ التلف ـ وما بحكمه ـ كما يكون ملزما للمعاطاة بقاء كذلك يكون ملزما لها حدوثا.

(٢) يعني : بعد أن كان سقوط ما في الذمة بمنزلة التلف فلا وجه لجواز الرجوع ، لأنّ أحد العوضين قد صار بمنزلة التلف الذي لا يعود ، فلا وجه للرجوع الذي موضوعه تراد العينين المفقود هنا بعد كون سقوط ما في الذمة بمنزلة التلف.

(٣) لعل منشأ احتماله ـ كما قيل ـ هو عدم كونه من إعادة المعدوم حتى يستحيل العود ، وذلك لأنّ الذمة أمر باق ، ولذا ينسب إليها الفراغ والخلوّ والاشتغال. وطبيعيّ المنّ من الحنطة مثلا كغيرها من الطبائع لا تلف لها ولا سقوط إلّا بالإضافة إلى دخولها في الذمة وخروجها عنها ، فدخولها فيها وخروجها عنها لا يغيّر الذمة ولا فيما فيها ، فلا يندرج ما في الذمة تحت عنوان إعادة المعدوم حتى يستحيل العود ، هذا.

(٤) وجه الضعف هو : أنّ المقام مندرج في إعادة المعدوم ، وذلك لأنّه لا معنى للذّمة المطلقة ، حيث إنّها ليست من الظروف والأوعية ، بل هي نحو ثبوت الشي‌ء اعتبارا ، فالذمة تتشخّص بأطرافها ، وهي من له ومن عليه وما فيها ، فعودها يكون من إعادة المعدوم. ومع الشك يستصحب عدم العود ، لأنّه قبل الرجوع كان ملكا لمن انتقل إليه ، والأصل عدم عوده بالرجوع.

__________________

(*) هذا التعليل عليل ، لأنّ الموجب لذهاب الحق هو تلف موضوعه المفروض تحققه بسقوط ما في الذمة ، فلا معنى لجواز الرجوع بعد ارتفاع موضوعه وإن فرض عوده ، لأنّ سقوط الحق قد حصل بذهاب الموضوع ، والمعاد وجود آخر غير الوجود الذي كان موضوعا للحق ، فجواز الرجوع حينئذ حق جديد لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ، إذ الوجود الثاني غير مورد المعاطاة المتحققة سابقا.


.................................................................................................

__________________

لا يقال : إنّ الخيار بعد تلف إحدى العينين في العقد الذي ثبت فيه الخيار باق على حاله ، فليكن الأمر في المقام كذلك.

فإنّه يقال : إنّ الخيار يتعلق بالعقد الذي هو باق بعد تلف العينين فضلا عن تلف إحداهما. بخلاف الجواز في المعاطاة ، فإنّ متعلّقه وإن كان هو العقد أيضا ، إلّا أنّه مقيّد بإمكان تراد العينين الذي هو مفقود هنا ، لما عرفت آنفا من أنّ السقوط بمنزلة التلف.

هذا بناء على السقوط كما أفاده المصنف قدس‌سره. وأمّا بناء على عدم السقوط وكون انتقال ما في الذمة إلى نفس من عليه المال موجبا لتبدل الملكية الاعتبارية بالتكوينية كما التزم به سيدنا الخويي قدس‌سره (١) فالجواز باق على حاله وإن قلنا بكون متعلّق الجواز تراد العينين ، لوضوح بقاء ما في الذمة على حاله وتبدّل ملكيّاته الاعتبارية بالذاتية التكوينية.

إلّا أن يقال : إنّ الموضوع للجواز هو الملكية الاعتبارية المفروض زوالها ، وقيام الملكية الذاتية مقامها ، فيكون ما في الذمة كالتالف في لزوم المعاطاة وإن لم يكن من التالف حقيقة ، فعدم جواز الرجوع مستند إلى تبدل الموضوع ، لأنّ الموجود التكويني غير الاعتباري ، ومن المعلوم أنّ موضوع الجواز هو الثاني الزائل قطعا ، دون الأوّل الموجود فعلا.

لكن أصل تصوير تبدّل الملكية الاعتبارية في بيع الدين بالذاتية لا يخلو من خفاء ، لاستحالة انقلاب المنشأ الاعتباري إلى التكويني ، وأمّا الملكية الذاتية فهي غير قابلة للإنشاء ، وليست مورد البحث في باب البيع الذي هو تبديل ملكية اعتبارية بمثلها ، وقد سبق الإشارة إلى هذا البحث في الجزء الأوّل من هذا الشرح ، فراجع (٢).

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٢٠٧

(٢) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ١٠٦ و١٠٧


والظاهر أنّ الحكم كذلك (١) على القول بالإباحة ، فافهم (٢).

ولو نقل (٣) العينين (*) أو إحداهما

______________________________________________________

(١) أي : كون السقوط في حكم التلف في صيرورة المعاطاة لازمة بناء على الإباحة ، فإنّ ظاهره لزوم المعاطاة على القول بالإباحة. لكنّه ليس كذلك ، لأنّ إفادة الإباحة للسقوط لا توجب صيرورة السقوط أعظم من التلف الحقيقي. مع أنّه لا لزوم عنده قدس‌سره على القول بالإباحة في صورة التلف الحقيقي ، لكون أصالة السلطنة جارية في طرف العين الباقية ، والرجوع بالبدل الواقعي في طرف العين التالفة ، فكيف بما هو في حكم التلف؟

بل غرضه أنّه لا معنى لإباحة الدين إلّا سقوطه ، إذ مرجع الإباحة إلى الإبراء والإسقاط ، نظير قوله : «أنت في حلّ ممّا لي عليك» فتأمّل.

(٢) لعلّه إشارة إلى عدم صحة إباحة الدّين ، إذ لا ينتفع به إلّا ببيعه أو جعله ثمنا وعوضا في المعاوضات ، أو احتسابه زكاة ونحوها. وهذه التصرفات يشكل صحة إباحتها مع عدم دليل خاص على صحّتها كما في المقام ، فجريان المعاطاة في الدّين على القول بالإباحة ممنوع ، فلا مسرح للبحث عن لزوم المعاطاة وجوازها في الدّين على القول بالإباحة.

الملزم الثالث : نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم أو جائز

(٣) هذا شروع في بيان ثالث ملزمات المعاطاة ، وهو التصرف الاعتباري في كلا العوضين أو في أحدهما. وقد بسط المصنف قدس‌سره الكلام هنا بذكر شقوق عديدة وصور مختلفة ربما تنتهي إلى ثمانية كما سيأتي التنبيه على كلّ منها بتبع المتن إن شاء الله تعالى.

الصورة الأولى : أن ينتقل كلا العوضين عن المتعاطيين ـ أو ينتقل أحد


.................................................................................................

______________________________________________________

العوضين عن أحدهما ـ بعقد لازم كالبيع والصلح من دون أن يتعقبه خيار ، أو يتعقّبه لكن لم يفسخ ذو الخيار. كما إذا تعاطى زيد وعمرو كتابا بدينار ، فاشترى زيد بالدينار شيئا من بكر ، وباع عمرو كتابه من خالد بإنشاء قولي حتى ينعقد لازما ، فيقع الكلام في أنّ هذا النقل اللازم ملزم لتلك المعاطاة بين زيد وعمرو أم لا؟ مع النظر إلى كلّ من القول بالملك المتزلزل والإباحة التعبدية.

وينبغي تقديم أمرين قبل توضيح كلام المصنف قدس‌سره.

الأوّل : أنّ جواز التراد في المعاطاة حكم كجواز الرجوع في العين الموهوبة ، وليس حقّا في العوضين حتى يمنع عن نقلهما إلى الغير ، ولا حقّا في حلّ العقد الواقع عليهما حتى يمنع عن لزومه. وعليه لا مانع شرعا من نقل العينين إلى غيرهما بالنواقل الشرعية.

الثاني : أنّ المراد بالنقل اللازم هنا هو اللزوم مطلقا حتى من جهة الخيار ، والقرينة على إرادة هذا المعنى هو جعل العقد الجائز ـ الشامل للجواز الحكمي والحقّي ـ عنوانا مستقلا كما سيأتي في المتن إن شاء الله تعالى. وعليه فالعقد اللازم هنا كالبيع بالصيغة مع إسقاط خيار المجلس فيه حتى ينعقد لازما ، والهبة إلى ذي رحم مع القبض ، ونحوهما.

ولا ينافي كون النقل لازما ثبوت جواز فسخه بعده ، كما هو الحال في الصورة الثانية. وجه عدم المنافاة : أنّ البيع اللازم يمكن فسخه بأمور :

منها : حدوث حقّ الخيار بعده ، كما إذا ظهر الغبن بعد المعاملة بزمان ، وقلنا بأنّه موجب لتزلزلها من حين ظهوره ، لا من حين العقد.

ومنها : الإقالة ، فإنّها توجب فسخ المعاملة اللازمة.

ومنها : غير ذلك.


.................................................................................................

______________________________________________________

إذا اتضح هذان الأمران قلنا في بيان الصورة الأولى : إنّ نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم موجب للزوم المعاطاة ، لامتناع التراد سواء قلنا بالملك أم بالإباحة.

أمّا على الأوّل فلأنّ العينين وإن كانتا باقيتين بحالهما ولم تتلفا حتى تلزم المعاطاة من جهة التلف ، إلّا أنّ متعلّق جواز التراد هو العينان بوصف كونهما مملوكتين للمتعاطيين ، ولم يتعلّق بهما مطلقا حتى إذا خرجتا عن ملكهما ، فيكون تلف وصف العين ـ وهو المملوكية ـ كتلف نفسها. وعلى هذا فلكلا المتعاطيين السلطنة على إخراج المأخوذ بالمعاطاة عن ملكهما. ولا يمنع حكم الشارع بجواز التّراد عن هذه السلطنة ، لما تقدم من أنّ موضوع جواز التّراد هو العينان ، وليس من شأن الحكم حفظ موضوعه. فمقتضى إطلاق «الناس مسلّطون على أموالهم» سلطنة المتعاطيين على نقل العوضين إلى غيرهما.

وأمّا على الثاني ـ وهو الإباحة ـ فكذلك يجوز نقل المالين ، بناء على حكم الشارع بإباحة جميع التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة ، سواء أكان التصرّف منوطا بالملك كالبيع والوقف والإيصاء ، أم غير منوط به كلبس الثوب واستخدام المملوك.

وعليه يصح النقل اللازم ، لدخول كلّ من العينين في ملك المباح له آنا ما قبل ذلك التصرف الناقل ، فتخرج العين عن ملك الآخذ ، لا عن ملك الدافع ـ أي المبيح ـ وبالخروج عن الملك ينتفي موضوع جواز التراد ، لعدم بقائهما على ملكهما حتى يتسلّطا على الرجوع.

نعم بناء على اختصاص إباحة التصرف بما لا يتوقف على الملك يبقى جواز التّراد بحاله ، لعدم مشروعية التصرف الناقل للملك حتى ينتفي موضوع جواز الرجوع.

هذا توضيح الصورة الاولى ، وهي نقل إحدى العينين أو كلتيهما بالنقل اللّازم.


بعقد لازم (١) فهو كالتلف (٢) على القول بالملك ، لامتناع التراد.

وكذا على القول بالإباحة إذا قلنا بإباحة التصرفات الناقلة (٣).

ولو عادت (٤)

______________________________________________________

(١) قد عرفت أنّ المراد به اللزوم مطلقا حتى من جهة الخيار.

(٢) كما حكي التصريح به عن كثير ، بل ربما استظهر من بعضهم الإجماع عليه. قال الشهيد الثاني قدس‌سره : «لو نقل أحدهما العين عن ملكه ، فإن كان لازما كالبيع والهبة بعد القبض ، والوقف والعتق فكالتالف» (١). وكأنّه من المسلّمات.

(٣) وأمّا إذا قلنا بما حكي عن حواشي الشهيد قدس‌سره على القواعد من اختصاص الإباحة بما لا يتوقف على الملك ـ بشهادة منعه من إخراج المأخوذ بالمعاطاة في مثل الهدي ـ كان جواز التّراد باقيا بحاله ، وتتوقف لزوم الإباحة على طروء ملزم آخر كالتلف ، لأنّ النقل اللازم وقع على مال المبيح ، فله استرداد ماله ، لكون تصرف المباح له بالنقل اللازم تصرّفا في مال الغير ، فيندرج في الفضولي.

(٤) هذا إشارة إلى الصورة الثانية ـ من صور نقل المأخوذ بالمعاطاة بالناقل اللازم ـ كما إذا باع عمرو الكتاب من بكر ، ثم ظهر غبن أو عيب فيه ، ففسخ المشتري ، وعادت العين إلى عمرو. وقد تعرض المصنف قدس‌سره لحكم هذه الصورة ، بناء على كلّ من الملك والإباحة. فبناء على الملك احتمل أوّلا بقاء جواز التراد ، للاستصحاب. واحتمل ثانيا انقطاع الجواز بتخلّل ذلك العقد اللازم ، ثم قوّى هذا الوجه.

وبناء على الإباحة رجّح لزوم المعاطاة ، ثم ذكر وجهين لبقاء جواز التراد ثم ضعّفهما. هذا إجمال ما أفاده في هذه الصورة ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٠


العين بفسخ (١) (*) ففي جواز التّراد على القول بالملك ،

______________________________________________________

(١) يعني : كان العقد لازما ، ثم حدث حقّ الخيار ـ كما في ظهور الغبن ـ ففسخ المغبون ، أو فسخاه بالإقالة. وكلاهما يوجب سقوط ذلك العقد اللّازم ، فتعود العين إلى ملك المتعاطي كما كانت قبل الناقل اللازم ، فكأنّ الملكية الحاصلة بالمعاطاة باقية لم يطرأ عليها ما يزيلها.

ثم إنّ في تعقيب عود الملك بالفسخ احتمالين :

أحدهما : أن يكون من باب المثال ، وأنّه لا خصوصية في سببية الفسخ لعود الملك ، بل تمام المناط هو عود العين إلى ملك المتعاطي ، فلو عادت بسبب آخر كأن ورثها المتعاطي أو اتّهبها أو أخذها مقاصّة كان كعودها بالفسخ ، قال الفقيه

__________________

(*) قد يقال بالفرق بين الفسخ وبين غيره ـ من العقد المستقل ونحوه من موجبات الملك ـ بما حاصله : أنّ الفسخ اعتبار عود الملك السابق إليه ، ولذا اشتهر أنّه ليس معاملة جديدة ، حيث إنّ الفسخ اعتبار حلّ العقد الموجب لرجوع الملك السابق إلى المالك الأصلي. بخلاف العقد المستقل والإرث ونحوهما ، فإنّها سبب مستقل لملك جديد ، وليس عين الملكية السابقة الحاصلة بالمعاطاة حتى يجوز التّراد ، حيث إنّ جوازه مختص بالملكية الحاصلة بالمعاطاة ، هذا.

لكن الحق وفاقا للمحقق الخراساني (١) عدم الفرق بين الفسخ وغيره ، لأنّ موضوع الجواز ـ وهو الملكية المتحققة بالمعاطاة ـ قد انتفى بخروج العينين عن ملك المتعاطيين ، ودخولهما في ملكهما بالفسخ ملك حادث وإن كان في اعتبار العرف حلّ العقد السابق ، لكنه ليس عين إضافة الملكية الشخصية الحاصلة بالمعاطاة حقيقة ، بل يكون عينها اعتبارا. وقد عرفت أنّ تلف العين الموجب للزوم المعاطاة أعم من تلف ذاتها ووصفها وهو ملكية العينين للمتعاطيين ، والمفروض انتفاء هذا الوصف بانتقال إضافة الملكية إلى غيرهما ، والملكية الحادثة ليست شخص الملكية المتحققة بالمعاطاة.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٥


لإمكانه (١) ، فيستصحب (٢) (*) ،

______________________________________________________

المامقاني قدس‌سره : «ذكر الفسخ من باب المثال ، لأنّ عودها بالإرث أو بعقد جديد كالفسخ» (١).

ثانيهما : أن يكون ذكر الفسخ من جهة تقييد العود به ، والاحتراز عن عودها بموجبات أخرى من الإرث ونحوه.

والاحتمال الأوّل أقرب إلى مراد المصنف قدس‌سره ، لارتفاع جواز التراد بالنّقل اللّازم سواء عادت العين إلى المتعاطي بفسخ ذلك النقل اللازم أم بسائر أسباب العود إليه ، فتملّك المتعاطي للعين مرّة أخرى أجنبي عن تملكه بالمعاطاة التي حكمها جواز التّراد.

(١) لأنّ تراد العينين خارجا ـ بعد عود ملكيّتهما إلى المتعاطيين ـ ممكن ، فتصير المعاطاة جائزة.

(٢) أي : يستصحب الجواز ، توضيحه : أن جواز التّراد كان ثابتا قبل النقل ، فبعد العود يشكّ في بقاء ذلك الجواز ، فيستصحب. ومنشأ الشك هو النقل المتخلّل بين المعاطاة وبين الفسخ ، فإنّه يشك في كون هذا النقل رافعا للجواز الثابت للمعاطاة.

وبعبارة أخرى : ثبت بالإجماع جواز التراد في المعاطاة ، وقد حصل مانع عنه وهو انتقال العين إلى غيره ، فإذا زال المانع وعاد المال إلى المتعاطي يشكّ في ارتفاع الجواز ، للشك في رافعية الموجود أي النقل اللازم ، فيستصحب.

__________________

(*) هذا استصحاب تعليقي ، بتقريب : أنّه كان الجواز ثابتا على تقدير الرجوع قبل النقل والفسخ ، والآن كما كان. وهذا الاستصحاب التعليقي معارض بالتنجيزي ، وهو عدم جواز التراد قبل الفسخ ، إذ المفروض عدم بقاء العينين على صفة الملكية للمتعاطيين. ودعوى حكومة التعليقي على التنجيزي غير ظاهرة كما قرّر في محله ، هذا.

وقد يوجّه هذا الاستصحاب «بأنّ موضوع جواز التراد ما يملكه المتعاطيان ،

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٠٩


.................................................................................................

__________________

وهذا الموضوع محفوظ قبل النقل وبعد الفسخ ، وإنّما الشك في أنّ تخلل النقل رافع للحكم عن موضوعه عند ثبوته ، فلا ينافي ثبوت الحكم لموضوعه ـ عند ثبوته ـ عدمه عند عدمه كما في حال النقل وعدم العود ، كما إذا أمر بإكرام زيد القائم ، وشكّ في أنّ تخلل القعود يرفع الحكم عن موضوعه عند ثبوته. ولا مجال لاستصحاب عدم الجواز الثابت حال النقل ، لأنّ الشك في بقائه مسبب عن الشك في رافعية النقل المتخلل ، لجواز التراد عن موضوعه عند ثبوته ، فاستصحاب بقاء الحكم في ظرف ثبوت موضوعه مقدّم على استصحاب عدم الجواز حال النقل ، فتدبّر جيدا» ).

وأنت خبير بما فيه من : أنّ موضوع جواز التراد هو ما يملكه المتعاطيان ملكيّة مستمرة غير منقطعة بنقل إلى غيرهما ، على ما هو قضيّة القدر المتيقن من الإجماع على جواز المعاطاة المقتصر عليه في تخصيص عمومات اللزوم ، فليس موضوع التّراد مطلق ما يملكه المتعاطيان حتى يكون محفوظا قبل النقل وبعد الفسخ. فبعد ارتفاع استمرار الملكيّة بالنقل إلى الغير لا مجال للاستصحاب ، للشك في بقاء الموضوع.

ومنه يظهر عدم الوجه في حكومة استصحاب جواز التراد على استصحاب عدم جوازه ، وذلك لعدم جريان استصحاب الجواز ، للشّكّ في بقاء موضوعه ، فيبقى استصحاب عدم الجواز بلا مانع كما في حاشية السيّد (٢) قدس‌سره.

بل لا مجال لاستصحاب عدم الجواز أيضا ، لكون المقام من التمسك بالعام ، لا استصحاب حكم الخاص.

وكذا الحال في المثال المزبور ، فإنّه لو لم يحرز كون القيام موضوعا كما هو ظاهر كلّ عنوان يؤخذ في حيّز الخطابات كان الشك في بقاء وجوب الإكرام عند ارتفاع القيام من الشك في بقاء الموضوع.

فالمتحصل : أنه بعد انتقال المالين إلى غير المتعاطيين وتحقّق الفسخ وعودهما إلى المتعاطيين لا وجه لجواز التراد.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، للمحقق الأصفهاني قدس‌سره ، ج ١ ، ص ٥٧.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٨٢


وعدمه (١) ، لأنّ (٢) المتيقّن من التّراد هو المحقّق قبل خروج العين عن ملك مالكه ، وجهان (٣) أجودهما ذلك (٤) ، إذ لم يثبت في مقابلة أصالة اللزوم جواز التّراد بقول مطلق (٥) ، بل المتيقن منه (٦) غير ذلك ،

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «جواز» وهذا هو الاحتمال الثاني بناء على الملك.

(٢) هذا تعليل عدم جواز التراد ، وحاصله : عدم جريان الاستصحاب هنا لعدم إحراز الموضوع ، ويتعيّن الرجوع إلى عموم أصالة اللزوم.

وبيانه : أنّ المتيقّن من التّراد هو الثابت قبل خروج العين عن ملك مالكه ، لما تقدم من أنّ دليل جواز التراد ـ وهو الإجماع ـ لبّي ، فلا بد من الأخذ بالمتيقن منه وهو بقاء العينين بوصف مملوكيتهما للمتعاطيين ، وفي غير هذه الصورة يتمسك بأصالة اللزوم.

(٣) من استصحاب جواز التراد ، ومن التمسك بأصالة اللزوم ، لعدم إحراز موضوع الاستصحاب.

(٤) أي : عدم الإمكان ، توضيح وجه الأجودية ما أفاده في المتن من كون موضوع جواز التراد غير محرز ، إذ المتيقن من الإجماع على جواز المعاطاة هو صورة عدم انقطاع استمرار ملك المتعاطيين بالنقل إلى غيرهما ، وذلك لأنّ الثابت من التّراد هو استرجاع العين بإزالة ما أحدثاه من الملك ، لا بإزالة كلّ ملك حصل للمتعاطي الآخر في تلك العين ، إذ ليس التسلط إلّا على فعله وهو تمليكه لا تمليك غيره ، فليس إمكان التّراد بقول مطلق ـ ولو مع الانتقال إلى الغير ـ موضوعا للجواز. فإذا كان الموضوع بحسب القدر المتيقن خصوص استمرار ملكية المتعاطيين فلا مجال لاستصحاب الجواز بعد النقل والفسخ ، لعدم إحراز الموضوع بنحو يمكن إبقاء حكمه.

(٥) يعني : حتى مع انقطاع استمرار ملكيّة المتعاطيين.

(٦) يعني : بل المتيقن من الثابت ـ في مقابل عموم أصالة اللزوم ـ هو غير جواز التراد بقول مطلق ، وهذا الغير هو جواز ترادّ العينين بوصف بقائهما على ملك


فالموضوع غير محرز (١) في الاستصحاب.

وكذا (٢) على القول بالإباحة ، لأنّ التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرّف (٣) ، فيرجع بالفسخ إلى ملك الثاني (٤) ، فلا دليل على زواله (٥).

بل الحكم (٦) هنا أولى منه على القول بالملك ، لعدم تحقق جواز التّراد في السابق هنا حتى يستصحب.

______________________________________________________

المتعاطيين ، وعدم تخلّل خروجهما عن ملكهما.

(١) لاحتمال كونه استمرار ملكية المتعاطيين ، وكونه أعمّ منه ومن انقطاعها بالنقل إلى غيرهما ، فلا مجال للاستصحاب.

(٢) يعني : أنّ الحكم باللزوم وعدم جواز التّراد كان على القول بالملك ، وهذا الحكم أيضا جار على القول بالإباحة ، لأنّ تصرف المباح له في المال الذي أبيح له ـ بالنقل إلى غيره ـ يكشف عن سبق الملك له آنا ما على التصرف ، إذ لو لم يكن مالكا لم يجز له التصرف الناقل ، فإذا فسخ المباح له رجع الملك إليه لا إلى المبيح ، لأنّ المال يرجع بالفسخ الى الناقل وهو المباح له ، دون غيره وهو المبيح.

(٣) فلا مجال حينئذ لاستصحاب سلطنة المالك الأوّل على ماله ، للقطع بزوالها بانتقال المال الى المباح له آنا ما. ودعوى كون زوال سلطنة المالك الأوّل مراعى بعدم فسخ النقل الى الثالث غير مسموعة ، لعدم بيّنة عليها.

(٤) وهو المباح له ، لأنّه الثاني بالإضافة إلى المبيح.

(٥) أي : على زوال ملك الثاني.

(٦) أي : الحكم بعدم جواز التراد على القول بالإباحة أولى من هذا الحكم على القول بالملك. وجه الأولوية ما أفاده بقوله : «لعدم تحقق .. إلخ» وحاصله : ثبوت جواز التّراد بناء على الملك ، فبعد العود بالفسخ يستصحب ذلك الجواز. بخلاف القول بالإباحة ، فإنّ جواز التراد غير ثابت فيه حتى يستصحب بعد العود إلى المباح له بالفسخ.


بل المحقّق أصالة بقاء سلطنة المالك الأوّل (١) المقطوع بانتفائها (٢).

نعم (٣) لو قلنا

______________________________________________________

توضيحه : أنّ التراد الملكي عبارة عن سلطنة المالك الأوّل على إخراج ما كان ملكا له عن حيطة ملكيّة المالك الثاني الذي صار مالكا له بالمعاطاة ، فبعد فسخ التصرف الناقل يعود ملكا لمن تملّكه بالمعاطاة. فيتحقق حينئذ أركان الاستصحاب من اليقين بتحقق سلطنة المالك الأوّل على إزالة ملك المالك الثاني وهو المباح له ، ومن الشك في ارتفاعها بالتصرف الناقل ، لاحتمال دخل عدم هذا التصرف في بقاء تلك السلطنة ، مع الغضّ عن إشكال الشّك في الموضوع المردّد بين كونه مطلق إمكان التراد أو خصوص التراد غير الملحق بالتصرف الناقل.

وهذا بخلافه على القول بالإباحة ، لأنّ منشأ جواز التّراد الثابت قبل التصرف الناقل هو السلطنة الأوّليّة الثابتة للمالك في ماله قبل المعاطاة. فالمراد بالتّراد حينئذ هو استرجاع المالك ماله من المباح له ، لا السلطنة الجديدة الحادثة بعد ارتفاع السلطنة الأوّليّة بارتفاع موضوعها وهو كونه مالا للمالك الأوّل بالتصرف الناقل ، لصيرورته ملكا آنا ما للمباح له قبل التصرّف الناقل فيه.

فمراد المصنف قدس‌سره بقوله : «لعدم تحقق جواز التراد في السابق هنا» هو التّراد الملكي الذي قد عرفته. ومن المعلوم فقدان الترادّ بهذا المعنى في المعاطاة على القول بالإباحة ، إذ المفروض بقاء كلّ من المالين على ملك صاحبه ، والتّراد على القول بالإباحة هو الرجوع عن إباحة التصرفات لا إعادة الملكية.

(١) أي : المالك المبيح ، والمالك الثاني هو المباح له الذي صار مالكا آنا ما قبل النقل اللازم.

(٢) حيث إنّ سلطنته ارتفعت بالنقل الرافع لملكية المالك الأوّل.

(٣) استدراك على ما أفاده بقوله : «وكذا على القول بالإباحة» من انتفاء جواز التّراد في مفروض الكلام ، وهو انتقال العين بالعقد اللازم ، ثم عودها إلى المباح له


.................................................................................................

______________________________________________________

بالفسخ. وغرضه تصحيح جواز رجوع المالك المبيح بوجهين. وقوله : «لو قلنا بأن الكاشف» هو الوجه الأوّل ، ولتوضيحه ينبغي تقديم أمرين :

الأوّل : أن «الكاشف» يطلق تارة ويراد به كون شي‌ء طريقا محضا إلى شي‌ء آخر ، من دون أن يكون مؤثّرا في وجود الآخر واقعا ، فيمكن بقاء المنكشف إذا ارتفع الكاشف ، كما هو الحال في الأمارة بناء على حجيتها بنحو الطريقية ، ولهذا يحسن الاحتياط رعاية لهذا الاحتمال.

والحاصل : أن ارتفاع الكاشف لا يستلزم ارتفاع المنكشف.

ويطلق تارة أخرى ويراد به كون شي‌ء علّة لشي‌ء آخر ثبوتا ، فالعلّة كاشفة لمّا عن معلولها ، وليست هذه الكاشفية في مقام الدلالة والإثبات فقط ، بل السبب علّة لوجود مسبّبه ، هذا.

الأمر الثاني : أنّ فسخ العقد الخياري يكون تارة بإنشاء الفسخ قولا بمثل «فسخت» ولا كلام فيه. وأخرى بالتصرف المنوط بالملك فيما انتقل عنه ، كما إذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار ، وشرط لنفسه الخيار لمدة معيّنة ، ثم باع هذا الكتاب من بكر أو وهبه إيّاه أو أوقفه ، ونحوها من التصرفات المنافية لمالكيّة عمرو للكتاب ، فإنّهم جعلوا هذا التصرف أخذا بالخيار وفسخا للعقد الواقع بين زيد وعمرو. لكن وقع البحث فيما به يتحقق الفسخ على وجوه أربعة ، نقتصر على اثنين منها تبعا لما في المتن.

أحدهما : أن تكون إرادة تصرف ذي الخيار فسخا فعليا موجبا لعود المال إليه ، فيقع تصرّفه ـ بالبيع والهبة ونحوهما ـ في ملكه. وهذا مختار جماعة منهم المصنف على ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سرهما (١).

ثانيهما : أن يكون الفسخ حاصلا بنفس التصرف البيعي لا بإرادته ، فإذا باع

__________________

(١) : المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ٢٤٨


.................................................................................................

______________________________________________________

زيد كتابه ـ في مدة الخيار ـ من بكر كان نفس البيع فسخا للعقد الواقع بينه وبين عمرو.

ويترتّب على هذا التصرّف أمران إنشائيّان طوليّان ، أوّلهما : انتقال الكتاب من عمرو إلى زيد وهو ذو الخيار. والآخر : انتقال الكتاب من زيد إلى بكر.

والفسخ في كلا الوجهين كاشف عن عود المال ممّن عليه الخيار إلى من له الخيار ، لكنّه كاشف محض عن تحقق إرادة التصرف في الوجه الأوّل. بخلافه في الوجه الثاني ، فإنّه سبب لتحقق الفسخ. فلو تبيّن بطلان بيع الكتاب من بكر لم يتحقق فسخ البيع الأوّل بين زيد وعمرو بناء على الاحتمال الثاني ، وهو حصول الفسخ بنفس التصرف لا بإرادته.

إذا اتّضح ما ذكرناه من الأمرين فنقول : في توضيح الوجه الأوّل : إذا تعاطى زيد وعمرو كتابا بدينار ، فبناء على الإباحة يكون الكتاب باقيا على ملك زيد وإن كان بيد المباح له ، والدينار باق على ملك عمرو ، فإذا باع المباح له ـ وهو عمرو ـ الكتاب من بكر كان نفس هذا العقد الناقل سببا لتملكه له ، وتملّك المشتري وهو بكر.

فإذا فرض عود الكتاب إلى عمرو بفسخ هذا البيع الناقل عاد الكتاب إلى ملك مالكه الأوّل ـ وهو زيد الذي أباح كتابه لعمرو ـ ويبقى مباحا بيد عمرو كما يبقى الدينار مباحا بيد زيد ، إذ المفروض أنّ العلّة في انقطاع علقة مالكية زيد الكتاب كانت هي العقد الناقل بين عمرو وبكر ، فإذا انحلّ هذا العقد بالفسخ فكأنّه لم يتملك عمرو الكتاب أصلا.

فإن قلت : إذا انفسخ العقد اللّازم بين عمرو وبكر لم يكن وجه لعود الكتاب الى ملك المبيح ، بل يبقى ملكا للمباح له ، لأنّ ذلك العقد يكشف عن دخول الكتاب في ملك المتصرّف المباح له آنا ما قبل البيع ، فإذا انحلّ البيع عاد إلى ملك عمرو ، لا إلى ملك زيد المبيح.

قلت : ليس كذلك ، إذ المناط في هذا الوجه ـ لإبقاء جواز التراد ـ هو كون نفس العقد اللازم سببا لأمرين طوليّين ، أحدهما : دخول المال في ملك المباح له ،


بأنّ الكاشف (١) عن الملك هو العقد الناقل ، فإذا فرضنا ارتفاعه بالفسخ عاد الملك إلى المالك الأوّل (٢) وإن كان مباحا لغيره (٣) ، ما لم يستردّ (٤) عوضه ،

______________________________________________________

ثانيهما : تمليكه من بكر. وليس المناط مملّكية إرادة التصرف حتى يجمع بالملكية الآنامّائية.

وإذا تقرّر عود المال إلى المبيح كان مقتضى قاعدة «سلطنة الناس على أموالهم» جواز الرجوع واسترداد الكتاب من عمرو ، وردّ الدينار إليه إن كان باقيا لم يتلف ، وإلّا صارت المعاطاة لازمة من جهة تلف إحدى العينين.

ولا يخفى أنّ جواز التراد مستند إلى سلطنة المالك على ماله ، لا إلى الإجماع على جواز تراد العينين في المعاطاة حتى يشكل فيه بأنّ الإجماع على الجواز دليل لبّى يقتصر على المتيقن منه ، وهو عدم وقوع عقد على أحد العوضين ، وفيما عداه يرجع إلى أصالة اللزوم. هذا توضيح المتن ، وبه يظهر قصور العبارة عن أدائه.

(١) قد عرفت أنّ الكاشف هنا بمعنى السبب ، لا بمعنى الطريق إلى تحقق الملك. والقرينة عليه قوله : «فإذا فرضنا ارتفاعه» لوضوح أنّ الفسخ رافع للعقد ، ولا يرفع إرادة التصرف لو كانت هي الموجبة لدخول المال في ملك المباح له.

وهذا بخلاف ما أفاده قبل أسطر بقوله : «لأنّ التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرّف» فإنّه مبني على مختار المصنف ـ على ما حكي ـ من مملّكية إرادة التصرف ، وكون التصرّف كاشفا عن تحقق سبب التمليك ، وعدم كون العقد اللّازم مقتضيا للتملّك.

(٢) أي : المبيح ، وهو زيد في المثال المتقدم.

(٣) وهو المباح له ، أعني به عمروا.

(٤) يعني : ما لم يستردّ هذا الغير ـ وهو المباح له ـ عوضه ، أي الدينار الذي هو عوض الكتاب ، فإذا استردّ عمرو الدينار من زيد لم يكن الكتاب مباحا له ، بل وجب عليه إيصاله إلى زيد. ولا أمانة في المقام ، إذ الإباحة تعبدية لا مالكية.


كان (١) مقتضى قاعدة السلطنة جواز التراد لو فرض كون العوض الآخر باقيا على ملك مالكه الأوّل ، أو عائدا (٢) إليه بفسخ (*).

______________________________________________________

(١) جواب «لو قلنا» وهذا حكم الوجه الأوّل ، وهو بقاء جواز الرجوع للمبيح.

(٢) كما إذا اشترى زيد بالدينار شيئا ، ثم عاد الدينار إليه بفسخ العقد ، فإنّه يجب ردّ الدينار إلى مالكه وهو عمرو حتى يتسلّط على استرداد كتابه منه.

__________________

(*) ويمكن الفرق بين هذا الوجه وسابقه بأنّ الوجه الأوّل ـ وهو كشف التصرف الناقل عن الملك ـ نشأ من الجمع بين الأدلّة المقتضي للملك آنا ما قبل النقل للمتصرف ، من دون أن يكون نفس التصرف علّة أو شرطا متأخرا لتأثير المعاطاة في الملك. ومن المعلوم أنّ مقتضى الفسخ رجوع المال الى المالك الثاني ، لأنّ التصرف الناقل وقع في ملكه ، فالفسخ يوجب العود إليه ، فلا دليل على جواز التراد للمالك الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو سببية العقد الناقل ـ فهو مبني على حدوث الملك للنّاقل بنفس العقد ، بأن يكون شرطا متأخرا لتأثير المعاطاة في الملكية.

ففي الوجه الأوّل يكون التصرف الناقل كاشفا محضا عن مالكية المتصرف ، وفي الوجه الثاني يكون التصرف الناقل موجبا لحدوث الملكية للمتصرف ولغيره ، فيترتّب عليه أمران : أحدهما مالكيّة المباح له ، والآخر مالكية غيره وهو المشتري. نظير ما قيل في التصرف الناقل لذي الخيار ، فإنّ بيعه لما انتقل عنه سبب لتملّكه وتمليكه معا ، فبالشروع في الصيغة يحصل الفسخ الموجب لتملّكه وبتمامها يحصل تمليكه للمشتري.

وعلى هذا يكون الفسخ موجبا لعود العين إلى المالك المبيح.

وكذا الحال على الوجه الثالث الآتي بقوله : «وكذا لو قلنا بأن البيع لا يتوقف على سبق الملك .. إلخ» ضرورة أنّ المال حينئذ باق على ملك المبيح ، ولا ينتقل إلى المباح له ، بل ينتقل بالتصرف الناقل إلى المشتري ، فبالفسخ يعود إلى ملك المبيح لا إلى ملك المباح له.


وكذا (١) لو قلنا بأنّ البيع لا يتوقف على سبق الملك (٢) ، بل يكفي فيه إباحة التصرف والإتلاف ، ويملك (٣) الثمن بالبيع كما تقدّم (٤) استظهاره عن جماعة في الأمر الرّابع.

لكن الوجهين (٥) ضعيفان (٦).

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني لتصحيح جواز التراد وبقاء الإباحة الحاصلة بالمعاطاة. ومحصله : أنّه لو قيل بعدم توقف البيع على الملك ـ بل يكفي في صحته إذن المالك في التصرف الناقل ـ صحّ للمباح له بيع الكتاب مع بقائه على ملك المبيح ، ويتملّك المباح له الثمن ، فإذا انفسخ هذا البيع عاد الكتاب إلى ملك زيد المبيح ، فيجوز له استرداده من عمرو ، بمقتضى إطلاق سلطنة الناس على أموالهم.

ولا يخفى ابتناء هذا الوجه على أنّه لا يعتبر ـ في صدق المعاوضة ـ دخول كلّ من العوضين في ملك من خرج عنه ، فيمكن خروج الكتاب عن ملك زيد ودخول عوضه ـ وهو الثمن الذي يأخذه المباح له من بكر ـ في كيس المباح له دون المالك.

(٢) حتى يحلّ كل واحد من العوضين محلّ الآخر في إضافة الملكية.

(٣) أي : ويتملّك المباح له الثمن ، ولا يتملّكه المالك المبيح.

(٤) حيث قال هناك : «ولكن الذي يظهر من جماعة ، منهم قطب الدين والشهيد قدس‌سرهما في باب بيع الغاصب : أن تسليط المشتري البائع الغاصب على الثمن والإذن في إتلافه يوجب جواز شراء الغاصب به شيئا ، وأنه يملك المثمن بدفعه إليه».

(٥) وهما الوجهان المذكوران بقوله قدس‌سره : «نعم لو قلنا بأنّ الكاشف عن الملك هو العقد الناقل .. إلخ» وقوله : «وكذا لو قلنا بأن البيع لا يتوقف .. إلخ».

(٦) أمّا تقريب ضعف الوجه الأوّل فلأنّه مبني على الشرط المتأخر المستحيل.

وأمّا ضعف الوجه الثاني فلأنّه خلاف مفهوم المعاوضة التي حقيقتها دخول


بل الأقوى (١) رجوعه بالفسخ إلى البائع (٢).

ولو كان الناقل عقدا جائزا (٣) (**)

______________________________________________________

كل واحد من العوضين في كيس من خرج عنه العوض الآخر (*).

(١) لأنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة هو الالتزام بالملك آنا ما للمباح له ، ثم الانتقال عنه إلى المشتري الذي هو الثالث ، كما تقدم عن المصنف في الجواب عن الاستبعادات التي ذكرها كاشف الغطاء قدس‌سره.

ثم إنّ هذا أوّل الوجوه الثلاثة المذكورة في المتن. ولازمه عدم جريان قاعدة السلطنة بعد الفسخ ، إذ المفروض رجوع المال بالفسخ إلى المباح له الذي هو البائع لا إلى المبيح ، فتصير المعاطاة لازمة بوقوع عقد لازم على إحدى العينين وإن عادت إلى المباح له بفسخ.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية من صور نقل المأخوذ بالمعاطاة ، وسيأتي الكلام في النقل بالعقد الجائز.

(٢) وهو المباح له ، لأنّه المالك قبل العقد ، بالفسخ يرجع الملك إليه.

(٣) أي : عقدا معاوضيا جائزا ، ولو كان الجواز من جهة الخيار الموجود حين

__________________

(*) يمكن منع ذلك بأن يقال : إنّ كون حقيقة المعاوضة ذلك غير ظاهر وإن نسب إلى العلامة قدس‌سره. نعم ذلك مقتضى إطلاق المعاوضة لا حقيقتها.

(**) قد يتوهم التنافي بين ما ذكره في فروع النقل بالعقد اللازم من قوله : «ولو عادت العين بفسخ» وبين ما عنونه هنا من العقد الجائز. وجه المنافاة : أن الفسخ هناك يدلّ على جواز العقد ، مع أنّه جعله لازما في قبال ما جعله هنا من العقد الجائز.

لكن المنافاة مندفعة بما تقدّم هناك من أنّ فسخ العقد اللازم بحدوث سببه بعد العقد لا يمنع من انعقاده لازما ، بخلاف المقام ، فإنّ العقد جائز امّا بالجواز الحقّي لكونه خياريا ، وإمّا بالحكمي لكونه هبة ، فلا منافاة أصلا.


لم يكن (١) لمالك العين الباقية إلزام الناقل بالرجوع فيه (٢) (*)

______________________________________________________

العقد كخياري المجلس والحيوان في باب البيع ، فإنّه ينعقد جائزا إلى انقضاء المجلس وثلاثة أيّام.

ثم إنّ للنقل الجائز صورتين : إحداهما العقد المعاوضي والأخرى غير المعاوضي كالهبة ، وسيأتي بيانهما.

(١) هذا حكم الصورة الأولى ـ وهي نقل إحدى العينين بعقد جائز معاوضي كالبيع الخياري ـ بناء على الملك ، وحاصله : لزوم المعاطاة ، وعدم جواز التراد ، وذلك لانتفاء وصف المأخوذ بالمعاطاة من الملكية المتحققة بها ، إذ الملكية المنشئة قد ارتفعت بالنقل إلى الأجنبي ، فليس لمالك العين الموجودة إلزام الناقل بالرجوع فيه ، ولا رجوعه بنفسه إلى عينه. وعليه فالتّراد غير متحقّق هنا ، لصدق «انتقال الملك» فهو كالتلف.

قال في المسالك : «لو نقل أحدهما العين عن ملكه فإن كان لازما كالبيع والهبة بعد القبض والوقف والعتق فكالتلف. وإن كان جائزا كالبيع في زمن الخيار فالظاهر أنّه كذلك ، لصدق انتقال الملك عنه ، فيكون كالتلف. وعودها بالفسخ إحداث ملك آخر بناء على أنّ المبيع يملك بالعقد وإن كان هناك خيار. وأمّا الهبة قبل القبض فالظاهر أنّها غير مؤثرة ، لأنّها جزء السبب المملّك ، مع احتماله ، لصدق التصرف. وقد أطلق جماعة كونها تملك بالتصرف» (١).

(٢) أي : في العين التي باعها المتعاطي من شخص ثالث.

__________________

(*) فلو ألزمه بالرجوع لا يجدي أيضا ، لأنّه بالخروج عن الملك انتفى موضوع الجواز الذي هو إباحة العينين بالمعاطاة ، فإنّ الخروج عن الملك بعد دخوله فيه آنا ما مفوّت له ، والعود إلى الملك بعد الرجوع ملك جديد غير الملك المتحقق بالمعاطاة ،

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٠


ولا رجوعه (١) بنفسه إلى عينه ، فالتّراد غير متحقق ، وتحصيله غير واجب (٢).

وكذا (٣) على القول بالإباحة ، لكون المعاوضة (٤) كاشفة عن سبق الملك.

نعم (٥) لو كان غير معاوضة كالهبة وقلنا بأنّ التصرف

______________________________________________________

(١) يعني : ولا يجوز لمالك العين الباقية الرّجوع بنفسه إلى المشتري حتى يستردّ عينه منه. ووجه عدم الجواز ما عرفت من انتفاء وصف المأخوذ بالمعاطاة وهو كونه ملكا للمتعاطي.

(٢) لأنّه من تحصيل الموضوع الذي لا يجب قطعا ، لأنّ الحكم مترتب على موضوعه المفروض الوجود اتفاقا ، لا واجب التحصيل ، إذ لا يصلح الدليل لإيجاب تحصيل الموضوع.

(٣) يعني : وكذا الحال في عدم تحقّق التراد بناء على القول بالإباحة ، وذلك لكشف المعاوضة عن سبق الملك للناقل المباح له ـ آنا ما ـ قبل النقل ، لما تقدم من أنّه مقتضى الجمع بين الأدلة.

(٤) أي : العقد المعاوضي الجائز.

(٥) استدراك على قوله : «وكذا على القول بالإباحة» لا على كلا القولين من الإباحة والملك. وهذا إشارة إلى صورة ثانية من النقل بالعقد الجائز ، وهو العقد غير المعاوضي.

ومحصّل وجه الاستدراك هو : أنّ ما ذكرناه على القول بالإباحة ـ من لزوم المعاطاة بنقل إحدى العينين بالعقد الجائز ـ إنّما هو فيما إذا كان الناقل الجائز من المعاوضات كالبيع الخياري. وأمّا إذا كان من غيرها كالهبة الجائزة أمكن ثبوت جواز

__________________

وليس هذا موضوعا لجواز التراد.

ومن هنا يظهر عدم الوجه في جريان الاستصحاب ، للقطع بارتفاع الموضوع ـ وهو إباحة العينين بالمعاطاة ـ فإنّ الخروج عن الملك رافع للإباحة المزبورة ، كما لا يخفى.


في مثله (١) لا يكشف عن سبق الملك ، إذ لا عوض فيه حتى لا يعقل كون العوض مالا لواحد ، وانتقال المعوّض إلى الآخر (٢) ، بل الهبة ناقلة للملك عن ملك

______________________________________________________

الرّد للمالك المبيح ، بناء على أنّ مطلق تصرّف المباح له في مال المبيح لا يوجب ملكية المتصرّف ـ وإن أطلقه جماعة ـ بل الموجب لها هو التصرف المتوقف جوازه شرعا أو عقلا على مالكية المتصرف كالبيع والعتق ونحوهما.

وأمّا الهبة فليست كذلك ، فلو وهب المباح له مال المبيح لم يقتض دخوله في ملك الواهب آنا ما قبل هبته حتى تقع في ملكه لا في ملك المبيح ، وذلك لصحة الهبة من المباح له كصحتها من المالك ، إذ لم يرد دليل شرعي على اعتبار مالكية الواهب مثل «لا هبة إلّا في ملك» كما ورد في البيع والعتق والوطي.

وكذا لم يدلّ دليل عقليّ على المنع من هبة غير المالك كما دلّ في البيع تحقيقا لمفهوم المعاوضة ، إذ لا عوض هنا حتى يقال بعدم معقولية خروج العوض عن ملك شخص وانتقال المعوّض إلى آخر ، بل الهبة تنقل المال عن ملك المالك إلى المتّهب.

وبناء على هذا يثبت جواز الرجوع للمالك المبيح ، لا للواهب المباح له ، فيجوز التّراد في صورتين :

إحداهما : بقاء العين الأخرى ، ولو تلفت لزمت المعاطاة من جهة ملزميّة تلف إحدى العينين.

ثانيتهما : عود العين الأخرى إلى مالكها بالهبة أيضا ، إذ لو كان عودها بنحو آخر كالفسخ كان بمنزلة التلف.

فالمتحصّل : أنّ المالك هو المبيح دون المباح له ، فالواهب حقيقة هو المبيح ، فيجوز له الرجوع إن كانت العين الأخرى باقية.

(١) أي : في مثل الهبة ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «بناء على أن مطلق تصرف المباح له .. إلخ».

(٢) يعني : أنّ الالتزام بسبق الملك آنا ما ـ قبل التصرف المتوقف على الملك ـ إنّما هو لاقتضاء ماهيّة المعاوضة. ولمّا لم تكن الهبة معاوضة لم يكن موجب للالتزام بسبق


المالك (١) إلى المتّهب ، فيتحقق حكم جواز الرجوع بالنسبة إلى المالك ، لا الواهب (*) اتّجه (٢) الحكم بجواز التّراد مع بقاء العين الأخرى ، أو (٣) عودها إلى مالكها بهذا النحو من العود (٤) ، إذ لو عادت

______________________________________________________

مالكية المباح له الذي وهب مال المبيح لشخص ثالث.

(١) فالواهب ـ ظاهرا ـ هو المباح له ، وحقيقة هو المبيح ، كما إذا تعاطى زيد وعمرو كتابا بدينار ، ووهب عمرو الكتاب لبكر ، فبناء على الإباحة يكون الواهب زيدا المبيح للكتاب ، لا عمروا المباح له. وبما أنّ الهبة جائزة حسب الفرض جاز لزيد استرداد الكتاب من بكر إذا كان الدينار باقيا بحاله ليردّه إلى عمرو.

(٢) جواب الشرط في قوله : «لو كان غير معاوضة ..».

(٣) يعني : إذا تصرّف زيد في الدينار فتارة يكون بشراء شي‌ء به ، ثم يفسخ أو يتقايل مع البائع ، وأخرى بأن يهب الدينار لخالد ، ثم يرجع عن هبته ويعود الدينار إلى زيد.

ففي الصورة الأولى تصير المعاطاة لازمة من جهة تخلّل العقد اللازم ، وهو بحكم التلف.

وفي الصورة الثانية يبقى جواز المعاطاة بحالة ، فيجوز لزيد استرداد كتابه من بكر ، وردّ الدينار إلى عمرو.

(٤) أي : بنحو الرجوع في الهبة.

__________________

(*) لا يخفى أنّه ـ بعد عدم توقف الهبة على مالكية الواهب للعين الموهوبة لا عقلا ولا شرعا كتمليك الحرّ عمل نفسه وتمليك الكلّي في المعاملات الذمية ـ يمكن أن يقال : إنّ أدلّة جواز الرجوع ناظرة إلى الواهب ، ومن المعلوم أنّه في المقام هو المباح له ، دون المالك ، إذ المفروض عدم قصد الوكالة عن المالك ، فالواهب حقيقة هو المباح له ، لأنّه العاقد ، فجواز الرجوع ثابت له دون المالك ، فتدبّر.


بوجه آخر (١) كان حكمه حكم التلف.

ولو باع العين ثالث فضولا (٢) فأجاز المالك الأوّل (٣) ـ على القول بالملك ـ

______________________________________________________

(١) يعني غير الهبة. هذا تمام الكلام في الصورة الثانية من صورتي النقل بالعقد الجائز. وقد تمّت إلى هنا صور أربع من الملزم الثالث ، وهو نقل إحدى العينين أو كلتيهما.

(٢) هذا شروع في صورة خامسة من صور التصرف الاعتباري بنقل إحدى العينين أو كلتيهما. والفرق بينها وبين الصور الأربع المتقدمة هو : أنّ الناقل فيها كان أحد المتعاطيين أو كليهما بالأصالة ، مباشرة أو تسبيبا بالتوكيل. بخلاف هذه الصورة ، إذ الناقل فيها أجنبي عن المتعاطيين. ويتجه البحث حينئذ في أن تصرف الفضول ـ بإنشاء المعاملة على إحدى العينين ـ هل يكون ملزما كتصرف نفس المتعاطيين ، أم هو بحكم العدم ويبقى جواز التراد على حاله؟

فصّل المصنف قدس‌سره بين فروع ، فتارة يجاز عقد الفضول ، والمجيز إمّا من انتقل عنه المال أو من انتقل إليه ، وأخرى يردّ. وثالثة يرجع أحدهما عن المعاطاة ثم يجيز الآخر عقد الفضول. وفي هذا الفرض إمّا يبنى على كاشفيّة الإجازة عن تحقق النقل من حين إنشاء الفضول ، وإمّا على ناقليّتها. هذه فروع المسألة إجمالا ، وسيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٣) أي : من انتقلت عنه العين بالمعاطاة ، كما إذا تعاطى زيد وعمرو كتابا بدينار ، فباع بكر ـ فضولا ـ الكتاب لأجنبي ، فأجازه زيد.

وحكم هذا الفرع : أنّ رجوع زيد عن المعاطاة لمّا كان جائزا ـ سواء على الملك والإباحة ـ لم يبعد أن تكون إجازته رجوعا عن معاطاته مع عمرو ، يعني : أنّه أرجع الكتاب ـ بهذه الإجازة ـ إلى ملك نفسه ، وباعه إلى من اشتراه من الفضول. فالرجوع بهذه الإجازة يكون نظير ما إذا تصدّى زيد بنفسه لبيع الكتاب أو صلحه أو هبته ، فإنّ هذه التصرفات الناقلة تكشف عن رجوعه عن المعاملة المعاطاتية ، نظير


لم يبعد (١) (*) كون إجازته رجوعا ، كبيعه وسائر تصرّفاته الناقلة.

ولو أجاز المالك الثاني (٢)

______________________________________________________

تصرف ذي الخيار فيما انتقل عنه بعقد خياري ـ بالتصرف المنافي لذلك العقد ، فإنّه يكشف عن الفسخ وعود المال إليه حتّى يقع التصرف الناقل في ملكه.

(١) لأنّ الإجازة هنا نظير تصرّف ذي الخيار موجبة لعود العين إلى ملك المجيز والمتصرّف.

(٢) أي : من انتقلت إليه العين بالمعاطاة ، وهو عمرو في المثال المتقدم ، وهذا فرع ثان من فروع عقد الفضول ، يعني : لو أجاز عمرو عقد الفضول صحّ بلا إشكال بناء على ترتب الملك المتزلزل على المعاطاة. وجه الصحة : أنّ عمروا مالك بالفعل للكتاب ، ومقتضى سلطنة المالك على ماله نفوذ جميع تصرفاته ، التي منها إجازة عقد الفضول على ماله ، فتكون نافذة ، وبها تصير المعاطاة المتزلزلة لازمة ، كما يصحّ عقد الفضول ، لأنّ من بيده أمر العقد قد نفّذه ، هذا.

__________________

(*) وجه بعده عدم الدليل على كون هذه التصرفات رجوعا وفسخا. قال الفقيه المامقاني قدس‌سره في حاشيته : «قال بعض من تأخّر : قد ثبت في الخيار أن التصرفات الناقلة من ذي الخيار رجوع ، فلو باع ما كان له الخيار في استرداده من المشتري كان ذلك رجوعا بالخيار إجماعا. ولكن لم يثبت مثله هنا ، فلا يصح أن يكون مجرّد إجازته رجوعا وفسخا هنا ، فلا بد من سبق ما يدلّ على الفسخ حتى يصح للأوّل نقله إلى الثالث ، إذ لا يصح النقل إلّا من المالك ، والفرض خروج الملك عنه ، فلا يكون صيرورته مالكا سابقه على نقله إلى المشتري الثاني ، فلا وجه حينئذ لجواز الإجازة منه حتى تكون رجوعا.

إلّا أن يلتزم بأحد الأمرين من كون مجرّد الرّضا الباطني إجازة ، وكون الكراهة الباطنية في مقابله ردّا ، ومن كون الفسخ والرجوع يحصل بأوّل حرف من قوله : أجزت البيع


نفذ بغير إشكال (١).

______________________________________________________

(١) لوجود المقتضي لنفوذ إجازته ، وفقد المانع عنه. أمّا وجود المقتضي فلأنّ المالك الثاني ـ أي من انتقل إليه المال بالمعاطاة ـ مالك للمال حين وقوع عقد الفضول عليه ، فينفذ إجازته وردّه.

وأمّا فقد المانع فواضح ، لعدم وجود شي‌ء من أسباب سلب سلطنة المالك عن التصرف في ماله.

وهذا بخلاف إجازة المالك الأوّل ـ أي من انتقل عنه المال ـ لما عرفت من عدم

__________________

الثاني ، فيصير المال ملكه ، والتمليك للمشتري الثاني يحصل بآخر حرف من قوله المذكور. وهو رحمه‌الله وإن التزم بالأوّل فيما سيأتي من كلامه ، إلّا أنّ التزامه بذلك مخصوص بالقول بالإباحة ، فلا يجري على القول بالملك كما هو مفروض المقام ، فإنّه قال هناك : بل هو على القول بالملك نظير الرجوع في الهبة ، وعلى القول بالإباحة نظير الرجوع في إباحة الطعام ، بحيث يناط الحكم فيه بالرضا الباطني ، بحيث لو علم كراهة المالك باطنا لم يجز له التصرف» (١).

لكن على المبنى المختار من كون المعاطاة بيعا لازما كالبيع اللفظي ليس لغير من انتقل إليه المال إجازة بيع الفضولي ، فإذا أجاز نفذ ، وإن ردّ فالمال باق على ملكه.

وأمّا على القول بالملك الجائز فيمكن أن يقال : إنّ التصرفات المنافية رجوع عرفا وفسخ عندهم ، من غير فرق في ذلك بين الرجوع في المعاطاة وبين الخيار.

وتوهم اختصاص كون التصرفات المزبورة رجوعا بالخيار وعدم كونها رجوعا في المعاطاة ، فاسد ، لعدم الوجه في الاختصاص المزبور ، بعد كون الرجوع من المفاهيم العرفيّة ، وعدّ العرف لتلك التصرفات من مصاديق الرجوع ، فكونها رجوعا فعليّا على طبق القاعدة ، لا للتعبد حتى يدّعى الاختصاص المزبور بالإجماع ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٠٩


وينعكس الحكم (١) إشكالا ووضوحا على القول بالإباحة.

______________________________________________________

كونه مالكا أصلا ، لا حين وقوع عقد الفضول عليه ولا حين إجازته ، فهو أجنبي عن المال ، ومن المعلوم أنّ المصحّح لعقد الفضول هو إجازة المالك لا إجازة الأجنبي. ويتوقف نفوذ إجازته على إحراز كون إجازته رجوعا عن المعاطاة ، نظير تصرّف ذي الخيار بالبيع والهبة والوقف وغيرها ممّا يتوقف على الملك.

ولكن إلحاق الإجازة بتصرّف ذي الخيار ليس بذلك الوضوح ، لقصور مقام الإثبات ، لأنّ الجمع بين الأدلة المقتضي لتملّك ذي الخيار لماله آنا ما ـ حتى يقع تصرفه في ملكه ـ لا دليل على جريانه في المقام.

ولأجل هذا اختلف تعبير المصنف قدس‌سره في كون إجازة المالك الأوّل رجوعا عن المعاطاة ، وكون إجازة المالك الثاني إمضاء للمعاطاة ، فقال في الأوّل : «لا يبعد» وفي الثاني : «نفذ بغير إشكال».

(١) أي : وينعكس حكم الإجازة في هذا الفرض وضوحا وإشكالا على القول بإفادة المعاطاة للإباحة ، وهذا حكم نفس الفرضين المتقدمين ـ أي إجازة المالك الأوّل والثاني ـ بناء على إفادة المعاطاة للإباحة.

وغرضه : أنّ أصل الحكم ـ وهو نفوذ إجازة المالك الأوّل ـ لا ينعكس ، بل ينعكس من حيث الوضوح والإشكال. وذلك لأنّ كون إجازة المالك الأوّل رجوعا على القول بالإباحة من الواضحات ، ضرورة أنّ العين على هذا القول باقية على ملكه ، فمقتضى قاعدة السلطنة نفوذ إجازته.

وأمّا كون إجازة المباح له نافذة فمشكلة من حيث ثبوت إباحة التصرفات له فتنفذ إجازته ، ومن حيث كون العين للغير فلا تنفذ.

والرّاجح من الوجهين هو الأوّل أي نفوذ إجازة المباح له ، لأنّ الإجازة تصرّف في مال المبيح ، والمفروض حلّيّة جميع التصرفات للمباح له.


ولكلّ منهما ردّه (١) قبل (٢) إجازة الآخر.

ولو رجع (٣) الأوّل ، فأجاز الثاني ، فإن جعلنا الإجازة ـ كاشفة لغا (٤)

______________________________________________________

(١) أي : ردّ بيع الفضول ، وهذا إشارة إلى فرع ثالث من فروع بيع المأخوذ بالمعاطاة فضولا. وحكمه : أنه يجوز لكلّ منهما ردّه ، لأنّ من له الإجازة له الرّد أيضا ، فكما تكون إجازته رجوعا فكذا ردّه. نعم سلطنة كلّ منهما على الرّد مقيّدة بعدم سبق إجازة الآخر.

ولا فرق بين كون الرّد من قبل المعطي أو الآخذ ، كما لا فرق بين الملك والإباحة. فإن ردّ المعطي فبناء على الملك المتزلزل يكون ردّه لعقد الفضول رجوعا عن المعاطاة وإعادة للمال في ملكه. وبناء على الإباحة فالأمر أوضح ، لبقاء العين على ملكه ، ولم يطرأ ما يلزم المعاطاة بعد.

وإن ردّ الآخذ فكذلك ، إذ بناء على الملك يكون ردّه تصرّفا في ملكه وتصير المعاطاة لازمة. وبناء على الإباحة فإنّ العين وإن لم تكن ملكه ، إلّا أنّ الرّد تصرف ، وهو يكشف عن سبق الملك.

(٢) إذ لا مورد للرّد بعد إجازة الآخر ، لسقوط حقّ الرجوع في المعاطاة حينئذ ، فلا ينفذ ردّه.

(٣) يعني : ولو رجع الأوّل عن المعاطاة ثم أجاز الثاني عقد الفضول. وهذا إشارة إلى آخر فروع عقد الفضول ، وتوضيحه : أنّه يفرض أزمنة أربعة في المقام ، ففي الساعة الأولى تحققت المعاطاة بين زيد وعمرو ، وفي الساعة الثانية وقع عقد الفضول ، وفي الثالثة رجع زيد عن المعاطاة ، وفي الرابعة أجاز عمرو عقد الفضول.

وقد فصّل المصنف في حكم هذا الفرع بين الكشف والنقل ، فبناء على الكشف احتمل وجهين : أحدهما لغوية الرجوع ونفوذ الإجازة ، وثانيهما لغوية الإجازة ونفوذ الرجوع. وبناء على النقل جزم بلغوية الإجازة ، وسيأتي بيان كلّ منها.

(٤) توضيحه : أنّه إذا رجع المالك الأوّل عن المعاطاة وردّها ، فأجاز المالك


الرجوع.

ويحتمل (١) عدمه ، لأنّه رجوع قبل (*) تصرف الآخر ، فينفذ ، ويلغو الإجازة. وإن جعلناها (٢) ناقلة لغت الإجازة قطعا (٣).

______________________________________________________

الثاني العقد الفضولي ، فعلى القول بكون الإجازة كاشفة لغا رجوع المالك الأوّل ، لكشف الإجازة عن صحة العقد حين وقوعه ، فلا يبقى مورد للرّد ، حيث إنّه رجوع بعد التصرف الملزم.

(١) يعني : ويحتمل عدم كون الرجوع لغوا ، لأنّ الرّجوع تحقّق قبل التصرف بالإجازة ، فينفذ. وكاشفيّة الإجازة منوطة بصحّتها المفقودة بعد رجوع الأوّل.

وبعبارة أخرى : يعتبر في المجيز أن يكون مالكا لأمر العقد ، فإذا عادت العين إلى المالك الأوّل برجوعه كانت إجازة الثاني من إجازة الأجنبي ، فتلغو ، إذ لا عبرة بإجازته في باب عقد الفضول.

(٢) معطوف على «جعلنا» وحاصله : أنّه بناء على كون الإجازة ناقلة لغت الإجازة قطعا ، ضرورة أنّ عقد الفضولي لا يؤثّر حقيقة إلّا بعد تماميّته ، والمفروض أنّه لا يتمّ إلّا بالإجازة ، وأنّ رجوع المالك الأوّل وقع قبل تأثير العقد ، فيمنع عن تأثير الإجازة اللاحقة ، فلا أثر للإجازة فيه وتقع لغوا ، لارتفاع قابلية العقد للتأثير بسبب الرّد.

(٣) إذ لا يبقى لها مورد بعد ارتفاع عقد الفضولي بالرجوع عن المعاطاة.

هذا تمام الكلام في فروع الملزم الثالث أعني به التصرف الاعتباري في إحدى العينين أو كلتيهما.

__________________

(*) هذا خلاف فرض الكشف الحقيقي ، لأنّ مقتضى تمامية العقد المؤثّر من حين وقوعه هو ترتب الأثر عليه في أوّل أزمنة وقوعه ، وكون الرجوع لغوا ، لتحقّقه بعد تأثير العقد. نعم بناء على الكشف غير الحقيقي كان احتمال عدم لغوية الرجوع قويّا.


ولو امتزجت العينان أو إحداهما سقط (١) الرّجوع على القول بالملك ،

______________________________________________________

الملزم الرابع : مزج إحدى العينين

(١) هذا شروع في الملزم الرابع وهو امتزاج إحدى العينين أو كلتيهما. والمقصود بالامتزاج هنا ما لا يوجب تبدّل الصورة النوعية ولم يحصل الاستهلاك ، وإلّا كان بحكم التلف.

ثم إن المصنف فصّل بين الملك والإباحة ، فرجّح اللزوم بالامتزاج بناء على إفادة المعاطاة للملك ، واختار بقاء جواز التّراد بناء على الإباحة.

وتوضيح المقام : أنّ الامتزاج تارة يكون بمال ثالث ، وأخرى يكون بمال أحد المتعاطيين. وعلى التقديرين إمّا أن نقول بالملك في المعاطاة أو بالإباحة ، فالصور ست.

الأولى : أن يكون الامتزاج بمال ثالث ، وقلنا بإفادة المعاطاة للملك ، وحكمها اللزوم لامتناع تراد العينين على الوجه المعتبر وهو الخلوص عن مال الغير.

قال في المسالك : «لو اشتبهت بغيرها أو امتزجت بحيث لا تتميّز ، فإن كان بالأجود فكالتلف ، وإن كان بالمساوي أو الأردإ احتمل كونه كذلك ، لامتناع التراد على الوجه الأوّل. واختاره جماعة. ويحتمل العدم في الجميع ، لأصالة البقاء» (١).

وعن تعليق الإرشاد والميسيّة : «أنّ ذلك في معنى التلف» (٢) ، هذا.

الثانية : أن يكون الامتزاج بمال البائع ، فيمتنع التّراد أيضا ، لعدم إمكان الرجوع بعين ماله ، بل يصير المال بسبب الامتزاج مشتركا بين البائع والمشتري.

وإن شئت فقل : إنّ الامتزاج بمنزلة التلف في كونه مانعا عن التراد.

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٠

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٧


لامتناع التّراد. ويحتمل (١) الشركة ، وهو ضعيف (٢).

أمّا على القول بالإباحة (٣)

______________________________________________________

ومنه يظهر عدم الوجه في الرجوع إلى الكسر المشاع.

الثالثة : أن يكون الامتزاج بمال المشتري ، وحكمها أيضا لزوم المعاطاة ، لامتناع التّراد ، إذ المفروض امتزاج ماله المأخوذ بالمعاطاة بماله الآخر ، فالمال كلّه له ، ولا يمكنه ردّ المأخوذ بالمعاطاة على وجه بحيث يردّ عين المال إلى البائع. وردّه بالكسر المشاع مما لا وجه له.

والحاصل : أنّ الحكم في هذه الصور الثلاث هو لزوم المعاطاة ، وعدم جواز الرجوع على القول بالملك ، لامتناع التّراد.

(١) معطوف على قوله : «سقط الرجوع» وغرضه بيان احتمال جواز الرجوع ، وإنّ الامتزاج ليس بملزم للمعاطاة ، بل يوجب الشركة ، بأن يقال : أنّه بالرجوع يقدّر ملك الشخص للأجزاء الواقعية من ماله الممتزج بمال غيره ، ويحكم بالشركة لأجل الامتزاج ، وبه يجمع بين دليلي الشّركة وجواز المعاطاة.

(٢) وجه ضعفه : أنّ موضوع جواز الرجوع في المعاطاة هو إمكان ترادّ العينين ، وبالامتزاج يمتنع ترادّهما ، فلا يصح الرجوع حتى يقدّر الملك بعده ، ثم يحكم بالشركة. فالحكم بالشركة متفرّع على الملك ، وهو مترتب على الرجوع ، وهو مترتب على إمكان التّراد ، فبإمتناع التراد يسقط ما يتفرع عليه.

(٣) الصور الثلاث المتقدمة كانت مبنيّة على القول بإفادة المعاطاة للملك.

وأمّا الصور الثلاث المترتبة على الإباحة فأولاها : امتزاج العين بمال ثالث. وحكمها بطلان المعاطاة بمعنى زوال الإباحة ، لأنّ موضوع الإباحة لم يبق على ملك المبيح بالاستقلال ، لأنّه صار مشتركا بسبب الامتزاج بينه وبين الثالث ، ولم يكن المال المشترك موضوعا للإباحة الحاصلة بالمعاطاة. هذا.

وثانيتها : امتزاج العين بمال المشتري. وحكمها بطلان المعاطاة أيضا ، لأنّ


فالأصل بقاء التسلّط (١) على ماله الممتزج بمال الغير ، فيصير المالك شريكا مع مالك الممتزج به.

نعم (٢) لو كان المزج ملحقا له بالإتلاف جرى عليه حكم التلف.

______________________________________________________

الامتزاج أوجب الشركة القهرية بين المتعاطيين ، ولم يكن هذا الملك الجديد الإشاعي موردا لإباحة المالك.

وثالثتها : امتزاج العين بمال البائع ، وحكمها جواز الرجوع كما كان قبل الامتزاج ، فإنّ امتزاج ماله بماله الآخر لا يمنع عن بقاء المعاطاة ـ المفيدة للإباحة ـ على جوازها.

فالمتحصل : أنّ في الصور الثلاث المبنية على القول بالملك تلزم المعاطاة بالامتزاج المانع عن جواز التراد ، وفي الصور الثلاث المبنية على القول بالإباحة تبطل المعاطاة في الصورتين الأوليين منها ، وتبقى على الجواز في الصورة الثالثة منها.

(١) لبقاء المال على ملك مالكه ، وعدم ترتب أثر على المزج إلّا الشركة. وكونه مباحا للغير لا يمنع من حصول الشركة بالمزج. وسلطنة الناس على أموالهم عامّة للملك الاستقلالي والإشاعي ، فيجوز الرجوع على الإباحة.

لكن يمكن أن يقال : إنّ جواز التراد ليس بدليل السلطنة ، بل بالإجماع ، والمتيقن منه هو جواز ردّ ماله إذا كان متميّزا عن مال غيره ، بأن يكون موضوع جواز الرجوع خصوص المال المتميّز عن غيره كما كان ذلك قبل المعاطاة ، فلا بدّ حينئذ من القول بالإباحة اللازمة ، إذ لا موجب للملك ، فتدبّر.

(٢) استدراك على قوله : «فالأصل بقاء التسلط .. إلخ» وحاصله : أنّ عدم جواز الرجوع في صورة الامتزاج ـ بناء على القول بالإباحة ـ مختصّ بما إذا كان المزج ملحقا للمأخوذ بالمعاطاة بالإتلاف ، كالمزج بغير الجنس ، نظير خلط مقدار من ماء الورد بالزيت على ما مثّل به المصنف قدس‌سره في خيار الغبن ، فإنّ الرجوع حينئذ يسقط ، لكون هذا المزج بمنزلة الإتلاف.


ولو تصرّف (١) في العين تصرّفا مغيّرا للصورة كطحن الحنطة وفصل الثوب ، فلا لزوم (٢) (*) على القول بالإباحة. وعلى القول بالملك ففي اللزوم

______________________________________________________

التصرف غير المغيّر للصورة ملزم للمعاطاة أم لا

(١) هذا إشارة إلى أمر آخر قد يعدّ من ملزمات المعاطاة ، وهو التصرف الخارجي في إحدى العينين ـ أو كلتيهما ـ بما يغيّر صورتها ، بحيث لا تبقى العين على ما كانت عليه من الصفات. ومثّل له المصنف بصيرورة الحنطة دقيقا بالطحن ، والقماش ثوبا بالفصل وخياطته. وحكم بعدم كون هذا النحو من التصرف ملزما ، بلا تفاوت بين القول بالملك والإباحة ، ولكنّه احتمل اللزوم بناء على الملك ، للشك في بقاء موضوع الاستصحاب ، وسيأتي توضيحه.

(٢) لعدم ما يوجب لزوم المعاطاة من التلف والتصرف الناقل ، فكلّ من المالين باق على ملك مالكه ، فله السلطنة على استرداده ، لعدم تبدل طبيعة الحنطة بالطحن ، ولا القماش بالفصل والخياطة.

__________________

(*) بل يمكن القول باللزوم ، لما مرّ من أنّ المتيقّن من الإجماع على جواز الرجوع هو صورة عدم تغير وصف من أوصاف العينين ليمكن ترادّهما على وجههما ، ولأنّ تلف الجزء الصوري ـ وهو الوصف الموجب لتفاوت رغبات الناس مع عدم رجوع المتعاطيين بالمثل والقيمة ـ يوجب تعيّن الباقي على حاله بدلا عمّا تلف منه جزؤه الصوري ، فمقتضى القاعدة اللزوم. كما أنّ مقتضاها اللزوم على القول بالملك ، اقتصارا على المتيقن من التخصيص ، وهو بقاء العين على أوصافها.

ويمكن استفادة حصول التغيير بمثل فصل الثوب من مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام : «في الرجل يشتري الثوب أو المتاع فيجد به عيبا؟ قال : إن كان الشي‌ء قائما بعينه ردّه على صاحبه وأخذ الثمن. وإن كان الثوب قد قطع أو خيط


وجهان مبنيّان على جواز جريان استصحاب جواز التراد (١).

ومنشأ الإشكال أنّ الموضوع في الاستصحاب عرفي أو حقيقي (٢).

______________________________________________________

(١) فبناء على جريان الاستصحاب يجوز الرجوع ، وبناء على عدمه لا يجوز ، قال الشهيد الثاني قدس‌سره : «وإن أوجب ـ أي التصرف ـ تغيرا إلى حالة أخرى ـ كطحن الحنطة وصبغ الثوب ـ احتمل كونه كذلك ، لأصالة بقاء الملك مع بقائه. ولزوم المعاطاة بذلك ، وبه جزم بعض الأصحاب. لما تقدّم من امتناع التراد بسبب الأثر المتجدّد. وعندي فيه إشكال» (١).

(٢) فإن كان عرفيّا جرى الاستصحاب ، لأنّ الملكية والطهارة والنجاسة ونحوها من الأمور الاعتبارية تعرض الذّوات لا العناوين ، مثلا إذا تنجّست الحنطة وبعد طحنها شكّ في طهارتها ، فاستصحاب النجاسة محكّم مع كون المتنجس هو الحنطة لا الدقيق. لكن موضوع النجاسة لمّا كان بنظر العرف هو الجسم كان استصحاب نجاسته جاريا.

وإن كان حقيقيّا أي دليليّا فلا يجري ، لأنّ الدقيق غير الحنطة التي هي موضوع الدليل. ولا ينبغي الارتياب في كونه عرفيّا لا حقيقيّا.

لكن ليس المقام من موارد الاستصحاب ، بل من التمسك بعموم دليل اللزوم.

__________________

أو صبغ رجع بنقصان العيب» (٢) حيث إنّه عليه‌السلام منع من الرّد بمجرّد التصرف بالصبغ والخياطة والقطع ، وأنّه يتعيّن الأرش لو أراد. ولو لم يكن هذا المقدار من التغيير تصرفا مسقطا للرّد لم يكن وجه لتعيّن الأرش.

وعليه فجعل فصل الثوب من التصرف غير المغيّر للصورة ـ كما في المتن ـ لا يخلو من شي‌ء ، فمقتضى الرواية جعله ملزما للمعاطاة.

__________________

(١) : مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٥٠

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٦٣ ، الباب ١٦ من أبواب الخيار ، الحديث : ٣


ثم إنّك (١) قد عرفت ممّا ذكرنا (٢) أنه ليس جواز الرّجوع في مسألة المعاطاة نظير (٣) الفسخ (٤) في العقود اللّازمة حتى يورث بالموت (٥) ويسقط بالإسقاط

______________________________________________________

(١) الظاهر أنّ الغرض من التنبيه على كون جواز الرجوع في المعاطاة حكما لا حقّا ـ كما سبق تفصيله في أوّل هذا الأمر السادس ـ هو التمهيد لبيان ملزم آخر من ملزمات المعاطاة ، وهو موت أحد المتعاطيين ، والدليل على ملزميته كون جواز التّراد حكما لاحقا ، ومن المعلوم أنّ الجواز الحكمي كالجواز في الهبة غير موروث ، وذلك لأنّ ما ينتقل الى الوارث هو «ما تركه الميت من ملك أو حقّ» بحيث لو لم ينتقل الى الوارث بقي بلا محلّ ، لوضوح قيام إضافة الملكية بطرفيها من المالك والمملوك ، كقيام إضافة الحقّيّة بمن له الحق ومن عليه الحق ، فلا بد من انتقال الملك والحق إلى الوارث حتى لا يلزم بقاء المملوك بلا مالك ولا بقاء الحق بلا ذي الحق.

وأمّا جواز المعاطاة والهبة شرعا فليس شيئا تركه الميّت حتى يورث ، بل هو حكم شرعي ثبت لعنوان المتعاطيين وللواهب. ولو فرض ثبوت هذا الجواز للوارث ـ كما كان للمورّث ـ فإنّما هو بدليل خاص ، لا لأدلة الإرث العامة.

ويتفرّع على كون جواز المعاطاة حكما ـ لا حقّا ـ لزومه بموت أحدهما سواء قلنا بالملك أم بالإباحة. أمّا على الملك فتنتقل نفس العين إلى الوارث ، لا حكمها وهو جواز التراد الثابت حين حياة المورّث ، فتنتهي الملكية الجائزة إلى اللازمة.

وأمّا على الإباحة فلقيام السيرة على عدم التراد بعد موت أحد المتعاطيين ، وهي تكشف عن لزوم الإباحة قبل الموت ، وانتقال كل من المالين إلى من بيده ، هذا.

(٢) بقوله : «ولم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتى يستصحب بعد التلف ، لأن ذلك الجواز من عوارض العقد لا العوضين ..».

(٣) خبر «ليس جواز».

(٤) يعني : الفسخ بالخيار في العقود اللّازمة ، الذي هو من قبيل الحق لا الحكم.

(٥) بمقتضى عموم «ما تركه الميت من مال أو حقّ فهو لوارثه».


ابتداء (١) أو في ضمن المعاملة (٢) ، بل هو (٣) على القول بالملك نظير (*) الرجوع في الهبة. وعلى القول بالإباحة نظير الرجوع (**) في إباحة الطعام بحيث يناط الحكم فيه بالرّضا الباطني ، بحيث لو علم كراهة المالك باطنا لم يجز له التصرف.

فلو (٤) مات أحد المالكين لم يجز لوارثه الرجوع على القول

______________________________________________________

(١) كإسقاطه بعد العقد.

(٢) كأن يقول : بعتك المتاع الفلاني بشرط إسقاط الخيار.

(٣) أي : جواز الرجوع في المعاطاة على القول بالملك يكون نظير الرجوع في الهبة في كونه حكما غير قابل للإسقاط ، فكما لا يسقط جواز الرجوع في الهبة بالإسقاط فكذلك الرجوع في المعاطاة.

وعلى القول بالإباحة يكون كالرجوع في إباحة الطعام في إناطة الإباحة بالرّضا الباطني الذي يرتفع بالكراهة. فالفرق بينهما أنّ الرجوع على القول بالملك يتعلّق بمال الغير ، وعلى القول بالإباحة يتعلق بمال نفسه.

الملزم الخامس : موت أحد المتعاطيين

(٤) هذا متفرّع على قوله : «أنّه ليس جواز الرجوع في مسألة المعاطاة نظير

__________________

(*) لعلّ وجه كون الجواز في المعاطاة حكما ـ كجواز الرجوع في الهبة ـ هو : أنّ المخرج عن أصالة اللزوم لمّا كان هو الإجماع ، فلا بدّ من الأخذ بالمتيقن منه ، وهو خصوص المتعاطيين ، فلا يثبت لغيرهما من الورثة ، كما لا يسقط بالإسقاط للاستصحاب.

(**) هذا صحيح في الإباحة المالكية لا الشرعية ، والمفروض أنّ الإباحة في المقام شرعية لا مالكية ، فإناطة الإباحة بالرّضا الباطني غير ظاهر ، فيحكم ببقاء الإباحة ولو مع رجوع المالك في المعاطاة ، بل بعد التصرفات الناقلة منه أيضا ، فتدبّر.


بالملك (١) (*) للأصل (٢) (**)

______________________________________________________

الفسخ ..» وحاصله : أنّ جواز التراد حكم كجواز الرجوع في الهبة ، وليس حقّا ، إذ لو كان حقّا كحقّ الخيار لانتقل إلى الوارث ، لكونه «ممّا تركه الميّت» ومن المعلوم صيرورة الملك بالموت لازما ، فيكون المال للوارث ملكا لازما.

واعلم أنّ الفرق بين موت أحد المتعاطيين وبين الملزمات المتقدمة هو أنّ منشأ اللزوم فيها كان عروض أمر على إحدى العينين من تلف وتصرّف ناقل ونحوهما. ومنشأ اللزوم في هذا الملزم سقوط المتعاطيين عن أهلية التملك مع بقاء العوضين على ما كانا عليه حين التعاطي.

(١) تقييد ملزمية الموت بالملك مشعر ببقاء الجواز بناء على الإباحة ، لئلّا يلزم لغوية التقييد بالملك.

(٢) أي : استصحاب عدم انتقال الحكم ـ وهو الجواز ـ إلى الوارث ، وأنّ المنتقل إليه هو المال ، وبالانتقال إليه يسقط حقّ الرجوع ، نظير سقوطه بانتقال المال بالنواقل الاختيارية الملزمة للمعاطاة.

__________________

(*) وكذا على القول بالإباحة ، لأنّها شرعيّة ، ومن المعلوم أنّها حكم غير قابل للانتقال ، فتسقط بمجرّد انتقال موضوعها إلى الوارث ، فينتقل المال إليه بدون إباحته من المباح له ، حيث إنّ المتيقن من الإجماع هو ثبوت الإباحة من طرف المبيح لشخص المباح له ، وثبوتها لوارثه مشكوك فيه ، فيرجع إلى الاستصحاب القاضي بعدم انتقال الإباحة إلى الوارث ، فتبطل المعاطاة رأسا.

نعم بناء على صدق العقد على المعاطاة المفيدة للإباحة يحكم بلزومها بعد موت المبيح كما تقدم في بعض المباحث.

(**) لا يخفى أنّ الرجوع إلى الأصل مبني على عدم ثبوت كون الرجوع حكما. وأمّا بناء عليه فلا وجه للرجوع إليه ، لعدم الشك ، ضرورة أنّ من لوازم الحكم عدم


لأنّ (١) (*) من له وإليه الرجوع هو المالك الأصلي.

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لم يجز» وحاصله : أنّ وجه عدم انتقال «جواز الرجوع» إلى الوارث هو كون الرجوع متقوّما بنفس المتعاطيين ، فلا ينتقل إلى الوارث.

__________________

الانتقال إلى الوارث ، فيسقط جواز الرجوع بموت مالكه الأوّل ، ويصير ملكا لازما لمالكه الثاني. هذا على القول بالملك.

وأمّا على الإباحة فينتقل المال الى وارث المبيح بدون الإباحة ، لكونها حكما مجعولا للمبيح ، ومن المعلوم انتفاء الحكم بانعدام موضوعه. وبعد الانتقال إلى الوارث يكون كسائر أمواله ، فله السلطنة على الإباحة المالكية كسائر الملّاك ، كما أنّ له السلطنة على إيجاد موضوع الإباحة الشرعية أعني به المعاطاة.

والحاصل : أنّه لا منافاة بين عدم جواز انتقال الرجوع إلى الوارث وبين جواز الإباحة للوارث. وجه عدم المنافاة : أنّ جواز الرجوع من حيث كونه حكما لا ينتقل إلى الوارث ، إذ المفروض عدم كونه حقّا ، فلا يندرج في : ما تركه الميت.

وبالجملة : انتفاء الموضوع يوجب انتفاء جواز الرجوع قطعا ، لأنّه شأن الموضوع والحكم ، فلا يرث الوارث جواز الرجوع من المورّث وإن كان سلطانا على ذلك من باب تسلط كل مالك على ماله.

(*) هذا التعليل يشبه المصادرة ، لأنّه بمنزلة أن يقال : إنّ هذا الحق يختص بالمالك الأصلي ، لأنّ من له وإليه الرجوع هو المالك الأصلي.

فلعلّ الأولى أن يعلّل الحكم بعدم جواز الإرث بهذا الوجه ، وهو : أنّ علّة عدم انتقال جواز الرجوع إلى الوارث هي كون مقتضى القدر المتيقن من الإجماع اختصاص جواز الرجوع بالمتعاطيين وعدم ثبوته لغيرهما ، فمع الشك في ثبوته للوارث يرجع إلى أصالة عدم جعله للوارث.

والحاصل : أنّ الوجه في اختصاص جواز الرجوع بالمتعاطيين وعدم انتقاله إلى


ولا يجري (١) الاستصحاب.

ولو جنّ (٢) أحدهما

______________________________________________________

(١) أي : لا يجري استصحاب جواز الرجوع الذي كان ثابتا للمورّث ، بأن يقال : إنّ الجواز كان متيقنا حال حياته ، ويشك في زواله بالموت فيستصحب ، فيبقى الملك متزلزلا على ما كان عليه في حال حياة المتعاطي ، فيجوز للوارث الرجوع كما جاز للمورّث.

وجه عدم الجريان : عدم إحراز الموضوع ، لاحتمال أن يكون الموضوع عنوان «المالك» المنطبق على الوارث ، وأن يكون خصوص المتعاطي. فعلى الأوّل ينتقل إلى الوارث ، ويصح جريان الاستصحاب فيه. وعلى الثاني لا يصح جريانه. وحيث إنّ الموضوع دائر بين ما هو مرتفع قطعا ، وبين ما هو باق جزما ، فلا يحرز بقاء الموضوع حتى يجري الاستصحاب.

الفرق بين موت المتعاطيين وجنونهما

(٢) معطوف على «فلو مات» ومقصوده قدس‌سره بيان الفارق بين الموت والجنون بأنّ الأوّل ملزم للمعاطاة ، دون الثاني ، للفرق بين قيام الوارث مقام مورّثه ، وبين قيام الولي مقام المولّى عليه. وبيانه : أنّ الولي بمنزلة الوكيل في كون فعله فعل الغير ومضافا إلى المتعاطي حقيقة ، فالولي غير الوارث ، لأنّ هذا يثبت له الحق بعنوان المالك ومن له الحق ، لكون الإرث جهة تعليليّة تقتضي ثبوت الحق لنفس الوارث.

__________________

الوارث هو قصور الدليل عن إثباته لغيرهما من الوارث.

إلّا أن يقال : إن مقتضى الاستصحاب بقاء الحق وعدم سقوطه بموت المتعاطيين ، فيندرج في : ما تركه الميت ، فينتقل إلى الوارث.

إلّا أن يستشكل فيه بأنّ الشك في المقتضي.

لكن يجاب عنه بأن الاستصحاب يجري في الشك في المقتضي أيضا.


فالظاهر قيام وليّه مقامه في الرّجوع على القولين (١).

______________________________________________________

بخلاف الولي ، فإنّه يأخذ الحق لغيره ، فالحقّ ثابت لنفس المتعاطيين ، غاية الأمر أنّ أخذه يكون بمباشرة الولي كالوكيل ، ولم يثبت اعتبار المباشرة في ثبوت الحق للمتعاطيين ، حتى يقال : «إنّ المجنون يسقط حقّ رجوعه ، لعدم قدرته على المباشرة» فلا يسقط جواز الرجوع بالجنون ، بل لوليّه الرجوع ، ومن المعلوم أنّ الرجوع مما يقبل الولاية كقبوله للوكالة (*).

ولا يخفى أنّ قيام الولي مقام المتعاطي ـ الذي عرض عليه الجنون بعد المعاطاة ـ يجري من أوّل الملزمات إلى آخرها ، فلا فرق في عدم لزوم المعاطاة بمجرّد الجنون بين التلف والتصرف الاعتباري والخارجي والمزج وغيرها ممّا تقدّم من الفروع ، فإنّ تحقّق أحد الملزمات عند تصدّي الولي يوجب صيرورة المعاطاة لازمة ، وإلّا فهي باقية على جوازها ، بلا فرق بين القول بالملك والإباحة.

(١) أي : الملك والإباحة ، لما عرفت من كون الحق ثابتا لنفس المتعاطيين مع مباشرة الولي.

__________________

(*) ومما ذكرنا يظهر غموض في تقرير سيدنا الخويي قدس‌سره من قول المقرر : «وقد تبيّن لك مما أوضحناه أنّه لو جنّ أحد المتعاطيين لم يجز له الرجوع إلى الآخر ، سواء فيه القول بالملك والقول بالإباحة ، فإنّ الدليل على جواز المعاطاة إنّما هو الإجماع على تقدير تحققه ، ولا نطمئن بوجوده في هذه الصورة ، بل يرجع إلى أدلة اللزوم على كلا القولين. وإذن فلا وجه صحيح لما أفاده المصنف من ثبوت حق الرجوع لوليّ المجنون على كلا القولين» (١).

وذلك لما عرفت من كون الحق ثابتا للمجنون لا للولي حتى يكون الجنون كالموت في كون المتيقن من الإجماع على الجواز هو خصوص المتعاطيين لئلّا يرثه

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٢١٧


.................................................................................................

__________________

الوارث ، ولئلّا ينتقل إلى الولي. ففرق واضح بين الموت والجنون.

نعم يكون الجنون مثل الموت إذا ثبت اعتبار المباشرة ، وعدم قابلية الرجوع للوكالة والولاية ، وأنّ الرجوع في المعاطاة من الأمور غير القابلة لهما ، نظير الرجوع في الطلاق الرجعي على ما في وكالة وسيلة سيدنا الفقيه الأصفهاني قدس‌سره وإن كان فيه تأمّل ، لأنّ الرجوع ليس إلّا إبقاء للزوجية. ولا فرق في نظر العقلاء بين إبقائها وإحداثها في قابلية كلّ منهما للوكالة. فيصح أن يقول الوكيل : «بوكالتي عن فلان أرجعت فلانة إلى زوجيّتها له» (١).

فالظاهر ـ بعد عدم منع شرعي عن هذه الوكالة ـ جواز التوكيل في الرجوع القولي ، وقد ثبت في محله إطلاق أدلة الوكالة في كلّ أمر يكون عرفا قابلا للتفويض إلى الغير ، ولم يرد دليل شرعي على اعتبار المباشرة فيه كالرجوع الفعلي في الطلاق الرجعي.

إلّا أن يقال : إنّ نفس التوكيل في الرجوع رجوع عرفا ، ومعه لا يبقى موضوع للوكالة ، فتأمّل.

__________________

(١) : وسيلة النجاة ، ج ٢ ، ص ١٥٠


السابع (١) : أن الشهيد الثاني ذكر في المسالك وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف أو معاوضة مستقلّة ، قال (٢) : «يحتمل الأول ، لأنّ (٣) (*)

______________________________________________________

التنبيه السابع : المعاطاة بعد اللزوم بيع أو معاوضة مستقلة

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه هو البحث عن إمكان فسخ المعاطاة بالخيار والإقالة بعد طروء أحد الملزمات عليها وعدمه. ومورد الكلام هو المعاطاة المقصود بها الملك سواء أفادت الملك الجائز أم الإباحة ، فإذا صارت لازمة بما تقدم في التنبيه السادس ـ من التلف والنقل بالعقد الجائز أو اللازم ، والمزج ونحوها ـ يبحث عن قبولها للفسخ بالخيارات المعهودة من العيب والغبن وتخلف الوصف وغيرها ، وتجري فيها الإقالة ، أو أنّها لا تقبل الفسخ أصلا؟ وابتدأ المصنف بنقل كلام الشهيد الثاني قدس‌سره ، ثمّ علّق عليه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

(٢) قال في المسالك : «الثامن : على تقدير لزومها بأحد الوجوه المذكورة ، فهل تصير بيعا أو معاوضة برأسها؟ يحتمل الأوّل .. إلخ».

(٣) حاصله : أنّ حصر المعاوضات في الأمور المعهودة وعدم كون المعاطاة منها يقتضي اندراجها في البيع ، ولا دليل على كونها معاوضة مستقلة في قبال المعاوضات المعهودة.

__________________

(*) لا يخفى ما في هذا التعليل ، ضرورة أنّ حصر المعاوضات ـ التي منها البيع ـ


المعاوضات محصورة ، وليست إحداها. وكونها معاوضة برأسها يحتاج إلى دليل. ويحتمل الثاني ، لإطباقهم (١) على أنّها ليست بيعا حال وقوعها ، فكيف تصير بيعا بعد التلف (٢)؟

______________________________________________________

(١) حاصله : أنّ إطباقهم على عدم كون المعاطاة بيعا حين وقوعها يدلّ على كونها معاوضة مستقلة ، إذ لا معنى لكون التلف موجبا لصيرورتها بيعا ، فلا مقتضي لكونها بيعا.

(٢) يعني : بعد البناء على عدم بيعيّتها حين وقوعها كيف تصير بالتلف بيعا؟

إلّا أن يقال : إنّ المنفي هو البيع الشرعي ، لا العرفي المتقوم بقصد المبادلة بين المالين الموجود هنا ، لأنّ المفروض قصد المتعاطيين للتمليك ، فالمراد عدم شمول دليل

__________________

في الأمور المعهودة ـ وعدم كون المعاطاة منها ـ يقتضي ضدّ المقصود وهو عدم بيعيّتها.

وإن أراد من المعاوضات غير البيع ، فلا يقتضي نفيها عن المعاطاة ثبوت بيعيتها ، لأنّ نفي الدليل على كونها من المعاوضات غير البيع لا يدلّ على كونها بيعا ، بل بيعيّتها منوطة بصدق مفهومه عليها عرفا ، فإن لم يصدق عليها فلا دليل على بيعيّتها. بل مقتضى الإجماع المدّعى على عدم بيعيتها قبل التلف هو عدم صيرورتها بعد التلف بيعا بالاستصحاب.

إلّا أن يقال : إنّ مفهوم البيع صادق عليها ، غاية الأمر أنّ دليل حلّية البيع خصّص بالإجماع قبل التلف ، وصارت المعاطاة مفيدة للإباحة مع كونها بيعا عرفا. لكن المتيقّن من الإجماع لمّا كان هو إفادة المعاطاة للإباحة قبل التلف فيرجع بعده إلى عموم دليل لزوم البيع ، فالمراد بصيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا هو ترتب الأثر ـ أعني به الملكية ـ بعده ، فالمعاطاة بيع ، غاية الأمر أنّ الإجماع قام على عدم ترتب الأثر الملكي عليها إلّا بعد التلف.

وبهذا التقريب يظهر وجه اندفاع التعجب المستفاد من قوله قدس‌سره : فكيف يصير بيعا بعد التلف؟


وتظهر الفائدة في ترتب الأحكام المختصة بالبيع عليها كخيار الحيوان لو كان التالف الثمن (١) أو بعضه (٢).

وعلى تقدير ثبوته (٣)

______________________________________________________

نفوذ البيع للمعاطاة ، للإجماع ، لكنه بعد التلف لا إجماع ، فيتشبّث بأدلة صحة البيع.

وبالجملة : فإن أريد بقولهم : «ليست بيعا حال وقوعها» نفي البيع الشرعي فلا بأس به. وإن أريد به نفي البيع العرفي فلا إشكال في فساده ، لأنّ الحاكم بثبوت البيع ونفيه حينئذ هو العرف ، ومن المعلوم عدم ارتيابهم في صدق مفهوم البيع العرفي عليها.

(١) أمّا التقييد بالتلف فلأنّ المفروض جعل موضوع البحث ـ في ثبوت الخيارات ـ المعاطاة التي صارت لازمة بأحد ملزماتها التي منها التلف ، وأمّا التقييد بكون التالف الثمن أو بعضه دون المثمن ـ أعني : الحيوان ـ فوجهه : أنّه يلزم من فرض وجود الخيار عدمه ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.

توضيحه : أنّ المفروض كون المعاطاة اللازمة بسبب التلف موضوعا للخيار ، ومن المعلوم توقف الخيار كغيره من الأحكام على وجود موضوعه. وقد قرر في محلّه انحلال البيع وانفساخه بتلف المبيع في زمن الخيار ، لقاعدة «كل مبيع تلف في زمن الخيار فهو ممّن لا خيار له».

وعلى هذا فالتلف الذي هو سبب وعلّة للخيار موجب لانعدام موضوع الخيار. وهذا محال ، ففرض ثبوت الخيار في المعاطاة بعد لزومها لا بدّ أن يكون بغير تلف المبيع.

(٢) بناء على ما تقدم من كون تلف بعض أحد العوضين ملزما كتلف تمام أحد العوضين.

(٣) أي : ثبوت الخيار بأن نختار بيعيّة المعاطاة.


فهل الثلاثة (١) من حين المعاطاة أو (*) من حين اللزوم؟ كلّ (٢) محتمل.

ويشكل الأوّل (٣) بقولهم : إنّها ليست بيعا ، والثاني (٤) بأنّ التصرف ليس معاوضة بنفسها.

______________________________________________________

(١) أي : الأيام الثلاثة في خيار الحيوان ، فإنّ مبدء الخيار هل هو حين وقوع المعاطاة أم حين اللزوم؟

(٢) أي : كل واحد من كون مبدء زمان الخيار حين وقوع المعاطاة أو حين لزومها. منشأ الاحتمال الأوّل هو احتمال كون موضوع الخيار مطلق البيع العرفي الفعلي سواء أكان شرعيا بالفعل أم بالشأن.

ومنشأ الثاني هو احتمال كون موضوعه البيع الفعلي عرفا وشرعا.

(٣) أي : الوجه الأوّل ، وهو صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف ، ووجه الإشكال هو تصريحهم بعدم كون المعاطاة بيعا ، فإنّه ينافي احتمال بيعيّتها.

(٤) يعني : ويشكل الوجه الثاني وهو كون المعاطاة معاوضة مستقلة.

ومحصّل وجه الإشكال : أنّ التصرف أو التلف أو غيرهما من ملزمات المعاطاة لا تجعل المعاطاة معاوضة بنفسها بحيث تكون أجنبية عن البيع ، حتى لا يدخل فيها الخيارات المختصة بالبيع.

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا الترديد خلاف ما فرضه من كون المعاطاة بيعا بعد التلف.

توضيحه : أنّه ـ بعد البناء على توقف المعاطاة على بيعيتها المنوطة بلزوم المعاطاة بالتلف. وبعد البناء على إطباقهم على عدم بيعيّتها حين وقوعها ـ لا بدّ من الالتزام بكون مبدء ثلاثة الحيوان حين التلف الذي هو زمان لزوم المعاطاة وحصول بيعيّتها ، فلا مجال للترديد في كون مبدء الخيار حين الوقوع أو اللّزوم.


اللهم (١) إلّا أن تجعل المعاطاة جزء السبب والتلف تمامه (٢).

والأقوى عدم ثبوت خيار الحيوان هنا (٣) بناء (*) على أنّها ليست لازمة. وإنّما يتمّ على قول المفيد (٤) ومن تبعه.

أمّا خيار العيب والغبن (٥) فيثبتان على التقديرين.

______________________________________________________

(١) غرضه تصحيح كونها معاوضة مستقلّة بأن تكون المعاطاة جزء سبب المعاوضة ، ويكون التلف متمّم السبب ، فيصح أن تعدّ المعاطاة حينئذ معاوضة مستقلة.

(٢) أي : تمام السبب ، فيكون التلف كالقبض في بيعي الصرف والسّلم في متمّميّته للعقد.

(٣) أي : في المعاطاة بناء على عدم لزومها ، استنادا إلى كون موضوع الخيار هو العقد اللازم ، فالمعاطاة المبنية على الجواز ليست موضوعا للخيار.

(٤) بناء على ظهور كلامه في كون المعاطاة بيعا لازما. وقد تقدّم البحث عنه في نقل أقوال الأصحاب في المعاطاة ، فراجع. (١)

(٥) يحتمل أن يكون هذه الفقرة في قبال خيار الحيوان المختص بالبيع ، فالمراد حينئذ بقوله : «على التقديرين» هو صيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا أو معاوضة مستقلة.

__________________

(*) هذا الابتناء ممنوع ، لأنّ دعوى انحصار موضوع الخيار بالعقد اللازم تقييد في إطلاق أدلة الخيار بلا مقيّد. وقد تقدّم في بعض المباحث عدم التهافت بين جواز العقد وثبوت الخيار ، كما يأتي عدم التنافي بين الخيارين الثابتين في عقد واحد إن شاء الله تعالى.

نعم يختص دليل خيار الحيوان بالبيع كدليل خيار المجلس ، فثبوتهما ، في المقام منوط بصدق البيع على المعاطاة من دون فرق بينهما.

__________________

(١) : هدى الطالب ، ج ١ ، ص ٣٢٨ و٥٦٣


.................................................................................................

______________________________________________________

ومحصل المرام على هذا هو : أنّه تظهر الثمرة بين الاحتمالين في الأحكام المختصة بالبيع كخيار الحيوان. فبناء على صيرورتها بيعا بعد التلف يثبت فيها خيار الحيوان ، وبناء على كونها معاوضة مستقلة لا يثبت فيها ذلك.

وأمّا الأحكام غير المختصة بالبيع كخيار العيب والغبن فلا تظهر الثمرة فيها ، لثبوتها على كلا الاحتمالين ، حيث إنّ مقتضى عموم أدلّتها عدم الاختصاص بالبيع ، فتثبت للمعاطاة على كلا التقديرين ، وهما صيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا أو معاوضة مستقلة ، هذا.

ويحتمل أن تكون راجعة إلى قوله : «والأقوى عدم ثبوت خيار الحيوان هنا .. إلخ» والمراد حينئذ بقوله : «على التقديرين» هو لزوم المعاطاة قبل التلف كما هو المحكي عن المفيد قدس‌سره ، وعدم لزومها قبله كما هو قول غيره. أمّا وجه ثبوتهما في المعاطاة على التقديرين هو عموم دليلهما الشامل للمعاطاة اللّازمة والجائزة.

__________________

ومما يدلّ على عدم التقييد بلزوم البيع في ثبوت خيار العيب رواية جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام : «في الرجل يشتري الثوب أو المتاع ، فيجد فيه عيبا ، فقال : إن كان الشي‌ء قائما بعينه ردّه على صاحبه ، وأخذ الثمن. وإن كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ يرجع بنقصان العيب» ومثلها غيرها.

ومما يدل على الثاني رواية ميسّر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال غبن المؤمن حرام» ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث : «ان رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار».

وعن المسالك : «المشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخرين منهم ثبوت خيار الغبن». ونقل عن الدروس القول بعدمه ، والأخبار خالية عنه.

نعم ورد في تلقي الركبان تخييرهم إذا غبنوا. واستدلّوا عليه أيضا بخبر الضرار. وعن التذكرة ظهور عدم الخلاف فيه بين علمائنا.


كما أنّ خيار المجلس منتف (١)» انتهى (١).

______________________________________________________

(١) ظاهره الجزم بانتفاء خيار المجلس على كلا التقديرين ، وهما : كون المعاطاة معاوضة مستقلة ، أو صيرورتها بيعا. والوجه فيه : أنّ خيار المجلس مختص بالبيع الذي يكون مبنيّا على اللزوم لو لا هذا الخيار.

وليس المراد بالتقديرين لزوم المعاطاة كما عن المفيد ، وجوازها كما عن المشهور ، لوضوح عدم المناسبة حينئذ مع اللزوم ، إذ على مذهب المفيد قدس‌سره يثبت خيار المجلس في المعاطاة قطعا ، لكونه كالبيع بالصيغة مفيدا للملك اللازم من أوّل الأمر. مضافا إلى : أنّ المناسب أن يقول : «على القولين» لا التقديرين.

__________________

وكيف كان فالقول بثبوته قوي جدّا ، والله العالم.

وقد ظهر من جميع ذلك خلوّ أدلة خيار الغبن عن اعتبار لزوم البيع لولاه ، فلو شكّ في اعتبار في ثبوت خيار الغبن فإطلاق أدلته ينفيه ، فلاحظ وتدبّر.

ومحصل ما يمكن أن يقال في المقام : إنّ الخيار المتصور في العقود على ثلاثة أقسام.

الأوّل : أن يكون ثبوته بالجعل والاشتراط ، كاشتراط فعل على أحد المتعاقدين ، أو صفة في أحد العوضين ، فإنّ مرجع الاشتراط حينئذ إلى سلطنة المشروط له على فسخ العقد مع تخلف الوصف أو الشرط ، وليس هذا إلّا معنى الخيار عند التخلف ، فاللزوم منوط بوجود ذلك الفعل أو الوصف ، إذ لو كان المعلّق نفس العقد بحيث توقف أصل العقد عليهما بطل إجماعا ، لكونه من التعليق في العقود ، فلا محالة يكون الموقوف على الفعل أو الوصف لزوم العقد لا نفس العقد ، هذا.

الثاني : أن يكون الخيار للشرط الضمني كاعتبار السلامة في العوضين ، والتساوي بينهما في المالية ، فإنّ كلّا منهما شرط في المعاوضة بمقتضى بناء العقلاء على ذلك. فهذا

__________________

(١) : مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٥١


.................................................................................................

__________________

شرط ضمني ارتكازي عقلائي ، وتخلفه يوجب الخيار ، هذا.

الثالث : أن يكون الخيار للدليل الشرعي المسمّى بالخيار المنجعل ، فإنّ الخيار يثبت تعبّدا لعنوان البيع ، بحيث يكون الموضوع في أدلة الخيار نفس عنوان البيع ، كخياري المجلس والحيوان ، من دون أن يكون ذلك لشرط ضمني أو ارتكازي عقلائي ، كما لا يخفى.

لا ينبغي الإشكال في جريان القسمين الأوّلين من الخيار في المعاطاة بناء على إفادتها الملك الجائز وإن لم تكن بيعا ، بل معاوضة مستقلة ، إذ المفروض عدم اختصاصهما بالبيع ، حيث إنّ دليلهما لا يختص به ، فجريان هذين القسمين من الخيار لا يتوقف على كون المعاطاة بيعا.

والمناقشة في جريان الخيار في المعاطاة تارة بلغوية جعل الخيار ، لكونه تحصيلا للحاصل ، حيث إنّ المعاطاة بذاتها جائزة ، ولا معنى لجعل الخيار فيها ، وهذا إشكال عام لجميع الخيارات ، كما أنّ الاشكال الآتي يختص بخياري المجلس والحيوان.

وأخرى في خصوص خيار المجلس والحيوان بما حاصله : أنّ أدلتهما ظاهرة في كون موضوعهما خصوص البيع المبني على اللزوم لو لا الخياران المزبوران ، لا كلّ ما يصدق عليه البيع ، ومن المعلوم أنّ المعاطاة المفيدة للملك الجائز جائزة بطبعها الأوّلي. مندفعة.

أمّا الأولى ـ التي مرجعها إلى الامتناع الذي هو إشكال ثبوتيّ ـ فبما تقدم في التنبيه الأوّل ، وحاصله : أنّه لا مانع من جعل الخيار في المعاطاة المبنية على الجواز ، وذلك لأنّ جوازها إمّا حقّي وإمّا حكمي كجواز الهبة ، وعلى التقديرين ، إمّا يكون متعلق الجواز نفس العقد ، وإمّا يكون العين المأخوذة بالمعاطاة ، فالصور أربع :

الاولى : أن يكون جواز المعاطاة حقّيا متعلّقا بنفس العقد كتعلق الخيار به. ولا ينبغي الإشكال حينئذ في شمول أدلة الخيارات للمعاطاة ، إذ لا مانع من اجتماع


.................................................................................................

__________________

الجوازين ، فإذا كان المتعاطيان في مجلس المعاملة كان جواز المعاطاة ثابتا لهما ، فإذا تلفت العينان أو إحداهما قبل الافتراق سقط جواز المعاطاة ، وبقي خيار المجلس. كما أنّه إذا افترقا قبل تلفهما أو إحداهما سقط خيار المجلس وبقي جواز المعاطاة ، كما هو واضح.

الثانية : أن يكون جواز المعاطاة حقّيّا متعلّقا بالعين. والحكم في هذه الصورة أوضح من سابقتها ، لمغايرة متعلق جواز المعاطاة لمتعلق الخيار ، حيث إنّ متعلق جواز المعاطاة هو العين ، ومتعلق الخيار هو العقد.

الثالثة : أن يكون جواز المعاطاة حكميّا متعلّقا بنفس العقد كتعلق الخيار به.

وقد يتوهم اللّغويّة هنا ، إذ المفروض اجتماع الجوازين على موضوع واحد وهو العقد ، فجعل الخيار مع جواز المعاطاة طبعا تحصيل للحاصل.

لكن هذا التوهم فاسد ، لأنّ اللغوية إنّما تلزم إذا لم يمكن انفكاك أحد الخيارين عن الآخر ، والمفروض خلافه ، لما عرفت في الصورة الاولى من انفكاكهما ، وأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، لاجتماعهما مع وجود العينين قبل التفرق عن المجلس ، وسقوط جواز المعاطاة وبقاء خيار المجلس ، إذا تلفت العينان أو إحداهما قبل التفرق ، وبقاء جواز المعاطاة وسقوط خيار المجلس كما إذا تفرّقا عن المجلس وكانت العينان باقيتين.

الرابعة : أن يكون جواز المعاطاة حكميّا متعلّقا بالعين ، والحكم هنا أوضح من سابقتها ، لتغاير متعلّق جواز المعاطاة لمتعلق الخيار المصطلح.

وبالجملة : فلا مانع ثبوتا وإثباتا من جريان جميع الخيارات في المعاطاة بناء على كونها بيعا جائزا.

وأمّا الثانية الراجعة إلى الإشكال الإثباتي ـ المختص بخياري المجلس والحيوان الذي مرجعه الى قصور الدليل ـ فبما تقدّم أيضا في الأمر الأوّل من : أنّ المعاطاة كالبيع اللفظي مبنيّة ـ بحسب قصد المتعاطيين ـ على اللزوم ، غاية الأمر أنّه قام الدليل من


والظاهر أنّ هذا (١) تفريع على القول بالإباحة في المعاطاة. وأمّا على القول بكونها مفيدة للملك المتزلزل ، فيلغى (*) الكلام في كونها

______________________________________________________

(١) أي : صيرورة المعاطاة بيعا أو معاوضة مستقلة ، فإنّ الظاهر تفريعهما على

__________________

الخارج على أنّ لزومها يكون بالتصرف ونحوه من الملزمات.

والحاصل : أنّ الجواز العرضي لا ينافي اللزوم الذاتي.

فالمتحصل : مما ذكرنا جريان الخيارات مطلقا حتى خياري المجلس والحيوان في المعاطاة المقصود بها التمليك المفيدة للملك الجائز من دون توهم مانع ثبوتي في كل خيار ، ولا إثباتي في خصوص خياري المجلس والحيوان.

وأمّا المعاطاة المقصود بها التمليك ـ على القول بإفادتها للإباحة ـ فإن أريد بالخيار ردّ العين إلى ملك مالكها الأوّل فلا يثبت فيها ، لأنّ العين لم تخرج من ملك مالكها حتى يثبت له حقّ استردادها. وإن أريد به سلطنة حلّ العقد وفسخه فلا يبعد ثبوته هنا ، لكون المعاطاة على هذا القول أيضا بيعا عرفا وشرعا ، غاية الأمر أنّ الشارع أناط تأثيرها في الملكية بطروء أحد الملزمات ، نظير إناطة الملكية في الصرف والسلم بالقبض ، ففسخ المعاطاة حينئذ يوجب انتفاء الموضوع أعني به العقد ، فتسقط المعاطاة عن قابلية التأثير في الملكية.

وبالجملة : فالخيار بمعنى السلطنة على حلّ العقد وفسخه جار في المعاطاة المقصود بها الملك مع إفادتها شرعا للإباحة ، لكونها بيعا عرفا وشرعا ، غاية الأمر أنّ فعليّة تأثيرها شرعا في الملكية منوطة بطروء أحد الملزمات. ولا يقدح ذلك في صدق البيع الذي هو موضوع أدلة الخيارات ، فلكل واحد من المتعاطيين رفع قابلية المعاطاة للتأثير في الملكية بالفسخ.

فتلخص من جميع ما ذكرناه : جريان جميع الخيارات في المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للملك المتزلزل أو الإباحة ، من دون إشكال ثبوتي ولا إثباتي في ذلك.


معاوضة مستقلة أو بيعا متزلزلا قبل اللزوم حتى يتبعه حكمها بعد اللزوم ، إذ (١) الظاهر أنّه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع ، بلا إشكال في ذلك (٢) عندهم على ما تقدّم من المحقق الثاني (١) ، فإذا (٣) لزم صار بيعا لازما ، فيلحقه أحكام البيع (٤) عدا ما أستفيد من دليله ثبوته للبيع العقدي الذي مبناه على اللزوم لو لا الخيار (٥).

______________________________________________________

القول بالإباحة في المعاطاة ، إذ على القول بإفادة المعاطاة للملك المتزلزل يلغو الترديد بين كونها بيعا أو معاوضة ، إذ الظاهر أنّ القائلين بإفادتها للملك المتزلزل جازمون بكونها بيعا على ما تقدّم في كلام المحقق الثاني ، فإذا لزمت المعاطاة حينئذ بأحد ملزماتها صارت بيعا لازما.

(١) تعليل لقوله : «فيلغى الكلام» وحاصله : أنّ وجه اللّغوية هو عدم الإشكال عند القائلين بكون المعاطاة مفيدة للملك في كونها بيعا. وعليه فالترديد بين كونها بيعا أو معاوضة مستقلّة لغو.

ولا يخفى أنّ في بعض النسخ المطبوعة «فينبغي الكلام في كونها معاوضة ..» ولكنه سهو قطعا ، لمنافاته مع تعليل المصنف بقوله : «إذ الظاهر» فإنّه تعليل لبيعية المعاطاة المفيدة للملك المتزلزل ، ولا يبقى موضوع للترديد بين البيعية والمعاوضة المستقلة حتى يبقى مجال للبحث فيه.

وكتب سيدنا الأستاذ النوري قدس‌سره في هامش نسخته : «الظاهر أن يقال : فلا ينبغي الكلام».

(٢) أي : في كون المعاطاة بيعا عند القائلين بالملك.

(٣) هذا نظر المصنف وليس تتمة لكلام المحقق الثاني.

(٤) من الخيارات التي تثبت للبيع اللازم من غير جهة الخيار ، إذ المفروض لزومها من جهة الملزمات ، فهي لازمة لو لا الخيار.

(٥) فلا يثبت شي‌ء من تلك الخيارات في المعاطاة ، لعدم كونها حينئذ من العقد

__________________

(١) : تقدم كلامه في التنبيه الأوّل في ص ٨


وقد تقدّم (١) أنّ الجواز هنا لا يراد به ثبوت الخيار.

وكيف كان (٢) فالأقوى أنّها على القول بالإباحة بيع عرفي لم يصحّحه

______________________________________________________

المبني على اللزوم لو لا الخيار ، إذ المعاطاة عقد مبني على الجواز والتزلزل.

(١) أي : في أوائل التنبيه السادس ، حيث قال : «ولم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري .. ، فإنّ الجواز فيه بمعنى جواز الرجوع .. إلخ». وقد تقدم نظيره في أواخر التنبيه السادس أيضا ، فراجع.

ثم إنّ هذا دفع توهم ، وهو : أنّ المعاطاة أيضا على القول بالملك بيع مبني على اللزوم لو لا الخيار المعبّر عنه بجواز الرجوع.

وحاصل دفعه : أنّ الجواز في المعاطاة ليس بمعنى الخيار الذي هو حق ، بل هو جواز حكمي أجنبي عن الخيار ، فلا يثبت الخيار المذكور في المعاطاة.

(٢) يعني : سواء أكان جواز الرجوع في المعاطاة حكما كما في الهبة أم حقّا كما في الخيار. أو سواء أكانت المعاطاة المفيدة للملك الجائز بيعا أم معاوضة مستقلة.

وكيف كان فظاهر العبارة منع ما أفاده الشهيد الثاني قدس‌سره من ابتناء الترديد ـ في حكم المعاطاة من كونها بيعا أو معاوضة مستقلة ـ على القول بالإباحة على ما استظهره المصنف قدس‌سره بقوله قبل أسطر : «والظاهر أن هذا تفريع على القول بالإباحة في المعاطاة».

وجه المنع ما تقدم مرارا من أنّ المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفي سواء أفادت الملك المتزلزل أم الإباحة ، فالمفيدة للإباحة الشرعية بيع أيضا وإن كان فاسدا لا يترتب عليه أثره المقصود إلّا بطروء أحد الملزمات ، نظير توقف الملك في بيع الصّرف والسّلم على القبض. وعلى هذا لا بدّ من ترتيب أحكام البيع اللفظي على المعاطاة المفيدة للإباحة ، عدا الحكم المختص بالبيع المنعقد صحيحا أي مفيدا للملك اللازم بحسب طبعه ، فإنّه لا يثبت في المعاطاة ، لفرض إفادتها الإباحة بحكم


الشارع ولم يمضه إلّا بعد تلف إحدى العينين أو ما في حكمه (١). وبعد التلف يترتب عليه أحكام البيع عدا ما اختصّ دليله بالبيع الواقع صحيحا من أوّل الأمر (٢).

______________________________________________________

الشارع.

ولا يخفى أنّ ترتب أحكام البيع على المعاطاة المبيحة ـ بعد طروء الملزم ـ هو الذي احتمله الشهيد الثاني قدس‌سره في آخر كلامه بقوله : «اللهم إلّا أن تجعل المعاطاة جزء السبب والتلف تمامه» بأن يكون التعاطي مقتضيا للملكية ـ وإن لم تترتب عليه من أوّل الأمر ـ ويتوقف فعلية التأثير على حصول الشرط وهو طروء الملزم.

(١) كالتصرف الاعتباري ، والمزج ونحوهما من الملزمات.

(٢) يعني : لا بعد التلف. وغرضه من ذلك أنّ البيع العرفي على قسمين :

أحدهما : ما هو حكم لخصوص البيع الواقع صحيحا شرعيا من أوّل الأمر كالصيغة الخاصة ، أو مطلق الصيغة على الخلاف.

والآخر : ما هو حكم لمطلق البيع العرفي ، نظرا إلى عدم انفهام الاختصاص من دليل ذلك الحكم ، كالعلم بالعوضين وثبوت الخيارات كلّا أو بعضا ، على الخلاف في أنّ المستفاد من أدلّتها هو الإطلاق ، أو المستفاد من أدلة بعضها الإطلاق كخيار العيب المستند إلى حديث نفي الضرر ، فإنّ دليله لا يختص بالبيع العرفي الواقع صحيحا من أوّل الأمر.

والحاصل : أنّ المراد بالبيع الصحيح من أوّل الأمر هو البيع العرفي الذي يترتب عليه الحكم الشرعي من زمان وقوعه ، والمراد من مقابله هو عدم ترتب الأثر الشرعي عليه إلّا بعد طروء أحد ملزمات المعاطاة ، فهما مشتركان في كونهما بيعا عرفيّا ، ومفترقان في كون أحدهما موضوعا للأثر الشرعي من حين وقوعه ، والآخر من حين طروء أحد الملزمات.


والمحكي (١) (١) عن حواشي الشهيد «أنّ المعاطاة معاوضة مستقلّة جائزة

______________________________________________________

(١) الظاهر أنّ غرض المصنف قدس‌سره من نقل كلام الشهيد الأوّل ثم توجيهه دفع ما يرد على قوله : «إذ الظاهر أنه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع بلا إشكال» وتوضيح المطلب : أنّ المصنف جعل مصبّ ترديد الشهيد الثاني في المسالك «من صيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا أو معاوضة مستقلة» المعاطاة المقصود بها الإباحة ، دون المعاطاة المقصود بها الملك. وعلّل ذلك بأنّ المعاطاة المفيدة للملك المتزلزل بيع عند القائلين به كما صرّح به المحقق الثاني قدس‌سره ، فلا يبقى وجه لأن يتردّد الشهيد الثاني في كونها بيعا أو معاوضة مستقلّة ، وعليه لا بد أن يكون غرض المسالك الترديد في حكم المعاطاة بناء على مشهور القدماء من الإباحة التعبدية ، هذا.

لكن قد ينافي هذا الحمل تصريح الشهيد في حواشي القواعد من «أنّ المعاطاة معاوضة مستقلة جائزة أو لازمه» وجه المنافاة : أنّها لو كانت بيعا عندهم لم يبق مجال للجزم بكونها معاوضة مستقلة ، فهذا الجزم شاهد على عدم تسالمهم على بيعيّتها ، فتختلّ دعوى المصنف «إذ الظاهر أنّه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع بلا إشكال» بل هي إمّا معاوضة مستقلة بلا إشكال كما ادّعاه الشهيد ، وإمّا هي بيع على إشكال.

ويترتب على هذا التنافي : إمكان الأخذ بإطلاق كلام المسالك من أنّ الترديد بين البيع والمعاوضة المستقلة جار على كلّ من الملك والإباحة ، ولا وجه لتخصيصه بالإباحة كما ادّعاه المصنف بقوله : «والظاهر أنّ هذا تفريع على القول بالإباحة» ، هذا.

وقد تخلّص المصنف عن هذا الإشكال بمنع التنافي ، وذلك لأنّ جزم الشهيد قدس‌سره بكونها معاوضة مستقلة مبني على مسلكه في المعاطاة من كونها مفيدة لإباحة التصرف غير المتوقف على الملك ، بشهادة منعه عن إخراج المأخوذ بها في خمس وهدي ونحوهما مما يناط شرعا بالملك.

__________________

(١) : الحاكي هو السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨


أو (١) لازمة»

والظاهر (٢) أنّه أراد التفريع على مذهبه من الإباحة. وكونها (٣) معاوضة قبل اللزوم من جهة كون كلّ من العينين مباحا عوضا عن الأخرى.

لكن (٤) لزوم هذه المعاوضة لا يقتضي حدوث الملك كما لا يخفى ، فلا بدّ أن

______________________________________________________

وعلى هذا فكونها معاوضة مستقلّة ليس على حدّ سائر العقود المعاوضية الناقلة للأملاك كالبيع القولي والصلح والقرض ونحوها. بل مراده بالمعاوضة هو التعاوض في الإباحة ، لوضوح أنّ الإباحة قد تكون بلا عوض كما في أكل المارّة ، وقد تكون مع العوض ، والمعاطاة عند المشهور تكون من القسم الثاني. فإطلاق المعاوضة عليها بهذا اللحاظ ، لا بلحاظ المبادلة في إضافة الملكية.

فتحصّل : أنّ جزم الشهيد قدس‌سره بالمعاوضة المستقلة ليس منافيا لما نسبه المصنف إلى القائلين بالملك المتزلزل من التصريح ببيعيّتها.

هذا توضيح توجيه كلام الشهيد ، وللمصنف إشكال عليه سيأتي بيانه.

(١) حرف العطف هنا للتنويع لا للترديد ، يعني الجواز قبل الملزم ، واللزوم بعده.

(٢) هذا توجيه المصنف لكلام الشهيد ، وقد أوضحناه بقولنا : «وقد تخلص المصنف عن هذا الاشكال بمنع التنافي». وعليه فالغرض إخراج الشهيد عن مخالفة القائلين ببيعية المعاطاة المفيدة للملك الجائز ، إذ لو كان مقصوده من المعاوضة المستقلّة المبادلة في الملكية كان مخالفا لهم ، ولكن حيث إنّ مختار الشهيد في المعاطاة معلوم وهو الإباحة الخاصة ، فمراده من المعاوضة ليس المبادلة في الملكية.

(٣) دفع لما يتوهم من أنّ جعل مورد كلام الشهيد المعاطاة المفيدة للإباحة ينافي جعلها معاوضة لازمة أو جائزة ، إذ لا تكون المعاطاة حينئذ من المعاوضات.

ومحصل دفعه هو : إنّ إطلاق المعاوضة عليها إنّما هو باعتبار كون كلّ من العينين مباحا عن الأخرى.

(٤) إشارة إلى إشكال على القول بالإباحة ، وهو : أنّه بناء على كون المعاطاة


يقول بالإباحة اللّازمة ، فافهم (١).

______________________________________________________

مفيدة للإباحة لا وجه لصيرورتها مملّكة بأحد الملزمات ، إذ لا يوجب طروء الملزم حدوث الملكية اللازمة ، بل لا يقتضي عروضه إلّا لزوم المعاطاة ، فإن كانت مفيدة للملك صارت لازمة بمعنى صيرورة الملك لازما ، وإن كانت مفيدة للإباحة صارت الإباحة لازمة بمعنى عدم جواز حلّ الإباحة الشرعية.

وقيل : إنّه لم يظهر من الشهيد قدس‌سره ، خلاف ذلك ، فالتزامه بصيرورة الإباحة لازمة غير بعيد.

(١) لعلّه إشارة إلى : عدم إباء كلام الشهيد عن كون الإباحة لازمة.

أو إلى : أنّ احتمال لزوم المعاطاة المفيدة للإباحة المنافي للإجماع على جوازها مندفع بأنّه مبني على أن يكون قول الشهيد : «جائزة أو لازمة» للترديد. وأمّا إذا كان للتنويع فلا يلزم إشكال أصلا ، لأنّ المعاطاة على هذا تارة تكون لازمة ، وأخرى جائزة ، يعني : أنّ المعاطاة جائزة قبل عروض الملزم ولازمة بعده.


الثامن (١) : لا إشكال في تحقق المعاطاة المصطلحة ـ التي هي معركة الآراء بين الخاصة والعامة ـ بما إذا تحقّق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل وهو قبض العينين.

______________________________________________________

التنبيه الثامن : إلحاق الصيغة الملحونة بالمعاطاة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو : بيان أنّ العقد الفاسد ـ لاختلال شرائط الصيغة ـ هل يرجع إلى المعاطاة أم لا؟ وبعبارة أخرى : المعاطاة التي تتحقق بقبض العينين قطعا هل تنعقد بالصيغة غير الجامعة لشرائط الصحة كما في الجواهر (١) أم لا؟

محصل ما أفاده المصنف قدس‌سره في ذلك هو : أنّه لا إشكال في تحقق البيع اللازم بإنشائه باللفظ المستجمع للخصوصيات الدخيلة فيه من الماضوية والعربية والصراحة ونحوها ، كما لا إشكال في تحقق المعاطاة بما إذا كان إنشاء التمليك أو الإباحة بإقباض العينين.

ويقع الكلام في أنّه إذا حصل إنشاء التمليك بالصيغة الفاقدة لبعض شروط الصحة ، فعلى القول بكفاية الإنشاء القولي بكلّ لفظ مبرز عرفا للاعتبار النفساني وإن لم يكن جامعا لشرائط الصحة ـ بناء على شمول معقد الإجماع على توقف العقود اللّازمة على اللفظ لكل لفظ مبرز عرفا للاعتبار النفساني وإن لم يكن صحيحا ـ

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٣٨


أمّا إذا حصل بالقول غير الجامع لشرائط اللّزوم (*) فإن قلنا بعدم اشتراط اللزوم بشي‌ء زائد على الإنشاء اللّفظي كما قوّيناه سابقا (١) ـ بناء على التخلص بذلك (٢) عن اتفاقهم على توقف العقود اللّازمة على اللّفظ ـ

______________________________________________________

فلا إشكال حينئذ في كون هذا الإنشاء صحيحا لازما.

وعلى القول بمذهب المشهور ـ من اعتبار أمور زائدة على اللفظ ـ ففيه وجوه :

الأوّل : كون هذا الإنشاء بحكم المعاطاة مطلقا.

الثاني : كونه بحكم المعاطاة بشرط تحقق قبض العين معه.

الثالث : كونه فاسدا كغيره من العقود الفاسدة.

(١) حيث قال قبل أسطر من نقل رواية : «إنّما يحلل الكلام ويحرم الكلام» ما لفظه : «نعم الإكتفاء في اللزوم بمطلق الإنشاء القولي غير بعيد» (١).

(٢) أي : بالإنشاء اللفظي غير الجامع للشرائط. وظاهر كلمة «التخلّص» أنّ الإجماع ألجأنا إلى الإكتفاء بمطلق اللفظ في إنشاء العقود اللّازمة ، ولو لا هذا الإجماع لأنكرنا شرطية اللفظ رأسا ، وقلنا بلزوم المعاطاة من أوّل الأمر.

وعلى كلّ فوجه التخلص هو صدق «الإنشاء اللفظي» على الصيغة الملحونة أو الفاقدة لبعض الشرائط ، وبهذا الصدق نخرج عن مخالفة الإجماع المزبور.

__________________

(*) الظاهر كونه غلطا ، والمناسب لما يذكره من قوله : «فان قلنا .. إلخ» تبديل اللّزوم بالصحة.

وكيف كان فملخص الكلام : أنّه إذا حصل إنشاء التمليك بالقول غير الجامع لشرائط الصحة كأن يقول : «بعتك» فعلى القول بكفاية مجرّد الإنشاء اللفظي في اللزوم وعدم الحاجة إلى غيره فلا إشكال في صحّته ولزومه.

وعلى القول بما عن المشهور من اعتبار أمور زائدة على اللفظ في اللزوم ففيه وجوه :

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٥٧٩


فلا إشكال في صيرورة المعاملة بذلك (١) عقدا لازما.

______________________________________________________

(١) أي : بالقول غير الجامع للشرائط.

__________________

أحدها : رجوع ذلك الإنشاء القولي إلى المعاطاة مطلقا ، أي سواء تحقق معه قبض أم لا.

ثانيها : رجوعه إليها إذا تعقّبه القبض مطلقا ، سواء حصل إنشاء آخر بهذا القبض أم لا.

ثالثها : كونه بيعا فاسدا لا يترتب عليه أثر سواء تحقق قبض بعده أم لا.

التحقيق أن يقال : انّ المعاطاة إن كانت على طبق القاعدة فلا محيص عن الالتزام بكون إنشاء التمليك بالقول الفاقد لبعض شرائط الصحة بيعا لازما ، إذ المفروض عدم نهوض دليل على اعتبار مبرز خاص فيه ، فدليل صحة البيع ونفوذه يقتضي صحة البيع المنشأ بلفظ فاقد لشرائط الصحة ، ولزومه كصحّته إذا أنشئ بكتابة أو إشارة أو إلقاء حصاة أو غير ذلك من كل فعل مبرز لاعتبار نفساني.

وإن كانت على خلاف القاعدة بأن اعتبر في صحة البيع لفظ خاص كما اعتبر في النكاح والطلاق فلا ينبغي الإشكال في فساده إذا أنشئ بغير ذلك اللفظ الخاص ، سواء أكان لفظا أم فعلا ، ويكون الإنشاء بغير ذلك اللّفظ الخاص كالعدم ، والقبض به من صغريات المقبوض بالعقد الفاسد.

كما أنّه إذا دلّ دليل على اعتبار لفظ خاصّ بكيفية مخصوصة في لزوم العقد فلا ينبغي الإشكال أيضا في صحته جوازا ، إذ المفروض كون المشروط بتلك الخصوصية هو اللزوم لا صحة العقد وجوازه ، فلا بد في الحكم باستمرار جوازه من ملاحظة دليل الجواز.

فإن كان له إطلاق يحكم بجواز العقد دائما على حذو العقود الجائزة بالأصالة ، ومع هذا الإطلاق لا وجه للتمسك باستصحاب الجواز ، لحكومة الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ، فلا تصير هذه المعاملة لازمة بطروء ملزمات المعاطاة ، إلّا إذا قام دليل خاص على اللزوم بها.

وإن لم يكن له إطلاق يحكم باللزوم في غير القدر المتيقن ، تمسكا بعمومات


وإن قلنا (١) بمقالة المشهور ـ من اعتبار أمور زائدة (٢) على اللّفظ ـ فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة مطلقا (٣) ، أو بشرط (٤) تحقق قبض العين منه ، أو لا يتحقق (٥) به مطلقا (٦)؟

نعم (٧) إذا حصل إنشاء آخر (*) بالقبض المتحقق بعده تحقق المعاطاة.

______________________________________________________

(١) معطوف على «فان قلنا» وهذا شروع في بيان محلّ النزاع ، وهو إلحاق الصيغة الفاقدة لبعض الشروط بالمعاطاة.

(٢) مثل الماضوية ، وتقدّم الإيجاب على القبول ، والموالاة ، ونحوها.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل ، والإطلاق في مقابل قوله : «أو بشرط .. إلخ».

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الثاني.

(٥) معطوف على قوله : «فهل يرجع» وهذا إشارة إلى الوجه الثالث. وضمير «به» راجع إلى الإنشاء القولي ، يعني : أو لا يتحقق حكم المعاطاة بالإنشاء القولي.

(٦) يعني : لا يكون الإنشاء القولي المزبور بحكم المعاطاة مطلقا ، سواء تحقق معه قبض أم لا ، فهذا الإنشاء عقد فاسد.

(٧) ظاهره الاستدراك على مورد البحث في هذا التنبيه من أنّ القول الفاقد لبعض الشرائط هل يلحق بالمعاطاة أم لا؟ حيث قال : «فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة مطلقا .. إلخ».

__________________

اللزوم ، كما كان الأمر كذلك في المعاطاة المتحققة بقبض العينين المفيدة للملك الجائز. غاية الأمر أنّ الجواز هناك كان بالسيرة والإجماع على ما تقدّم في القول بجواز المعاطاة ، وهنا بدليل خاص لو قيل به.

(*) أو حصل التراضي منهما بالتصرف في العينين ، فإنّه يباح لهما التصرف


.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن قوله : «نعم .. تحقق المعاطاة» استثناء منقطع ، وغرضه قدس‌سره بيان صورة أخرى ليست محلّ النزاع ، لكونها بيعا صحيحا ، كما لا ريب في صحة البيع في صورتين ، إحداهما : إنشاؤه بالقول الجامع ، والأخرى : إنشاؤه بقبض العينين فكذا لا ريب في صحّته في صورة ثالثة ، وهي : ما إذا التفت المتبايعان إلى أنّ القول الملحون لا يتحقق به البيع ، فقصدا إنشاء المعاملة بسبب آخر ـ وهو تعاطي العينين ـ وهو يوجب تحقق بيع صحيح ، إذ ليست المعاطاة إلّا إنشاء المعاملة بالفعل في قبال إنشائها بالقول.

__________________

بذلك ، ومن المعلوم أنّ هاتين الصورتين خارجتان موضوعا عن محل النزاع ، وهو جريان حكم المعاطاة على الإنشاء بالصيغة الملحونة. فإذا فرض وقوع نفس المعاطاة بعد ذلك الإنشاء أو الرّضا بالتصرف ولو مع فساد المعاملة ـ بحيث يكون الرضا به مغايرا للرضا المقوّم للمعاملة ـ كان خارجا تخصّصا عن موضوع البحث وعن حرمة التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد.

وإن أريد بقوله : «بشرط تحقق قبض العين» القبض بعنوان الوفاء ـ لا بعنوان المعاطاة ـ ففيه : أنّ القبض بعنوان الوفاء ليس دخيلا في صحة العقد أصلا ، لأنّ المبرز للاعتبار النفساني هو الإنشاء بالصيغة الملحونة ، فالعقد بدون القبض باطل ، فضمّه إلى الإنشاء الباطل لا يصحّحه.

فالمتحصل : أنّ التفصيل بقوله : «أو بشرط تحقق قبض العين» غير سديد ، لأنّه على تقدير كون القبض بنفسه معاطاة خارج عن موضوع البحث ، وهو إجراء حكم المعاطاة على الإنشاء بالصيغة الملحونة ، لأنّ هذا القبض بنفسه معاطاة صحيحة ، ولا يتوهم توقف صحة المعاطاة على عدم سبقها بعقد فاسد.

وعلى تقدير كون القبض وفاء لما أنشئ باللفظ ليس له دخل في صحة العقد ، لفرض بطلانه وعدم دخل القبض في صحته.


فالإنشاء (١) القولي السابق كالعدم ،

______________________________________________________

نعم تختلف هذه الصورة عن سابقتها بأنّ القبض الإنشائي وقع عقيب قول ملحون ، بخلاف المعاطاة المتعارفة ، فإنّ القبض والإقباض فيها إنشاء البيع من أوّل الأمر من دون سبق صيغة ملحونة عليها. ولكن هذا المقدار غير فارق في حكم الصورتين ، فكلتاهما مصداق للبيع المعاطاتي.

وبعبارة أخرى : القبض الواقع بعد الإنشاء القولي الفاقد لبعض الخصوصيات يقع تارة بعنوان الوفاء بالعقد ، وأخرى بعنوان إنشاء البيع بإنشاء جديد ، للعلم بعدم تأثير ذلك القول الناقص.

والصورة الأولى هي محل النزاع في هذا التنبيه من كونها بحكم المعاطاة وعدمه. وأمّا الصورة الثانية فهي معاطاة صحيحة قطعا ، ولا شبهة فيها ، وخارجة عن حريم النزاع.

(١) هذا أجنبي عن قوله : «نعم» وراجع إلى قوله : «فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة ..» ويمكن أن يدفع

به توهم ، بأن يقال : إنّ إنشاء المعاملة وإن كان باللفظ الناقص الذي لا يؤثّر عند المشهور في النقل والانتقال ، إلّا أنّه قد تعقّبه القبض والإقباض من البائع والمشتري ، فيمكن أن يلحقه حكم المعاطاة ، لتحقق التعاطي من الطرفين حسب الفرض ، مع زيادة ـ على المعاطاة المتعارفة ـ وهي الإنشاء القولي الناقص.

وعليه فالصيغة الناقصة التي يلحقها التقابض لا تقلّ عن المعاطاة المعهودة ، فلا مجال لهذا البحث الطويل الذيل من جريان حكم المعاطاة على القول الناقص مطلقا أو بشرط القبض.

وحاصل الدفع : منع مقايسة القول الفاقد ـ المتعقب بالقبض ـ بالمعاطاة المعهودة ، وبيانه : أنّه يعتبر في مقام إنشاء العناوين الاعتبارية ـ من العقود


لا عبرة به ولا بوقوع القبض بعده (١) خاليا عن قصد الإنشاء ، بل بانيا (*)

______________________________________________________

والإيقاعات ـ القصد إلى العنوان والتسبّب إليه باللّفظ أو الفعل ، أو إبرازه بأحدهما ، على الخلاف في حقيقة الإنشاء. فإن أنشئت المعاملة بالإيجاب والقبول اللفظيين اعتبر تحقق قصد التمليك مقترنا بهما ، وتترتب آثار البيع على هذا الإنشاء القولي ، فيجب الوفاء به بتسليم المبيع للمشتري ، والثمن للبائع ، ولا يقصد المتبايعان إنشاء التمليك بالقبض والإقباض ، وإنّما قصداه بالقول.

وإن أنشئت المعاملة بالمعاطاة اعتبر القصد إلى التمليك والتملك حين التعاطي ، لفرض التسبّب به إلى العنوان البيعي.

وعلى هذا فإذا كان الإنشاء بالقول الملحون ، وزعم المتبايعان تأثيره في النقل والانتقال كان قبض العينين خاليا عن قصد الإنشاء ـ كما يقصدانه في المعاطاة ـ بل هو مبني على وجوب الوفاء بذلك الإنشاء القولي الملحون ، كما إذا كان ذلك اللفظ جامعا للشرائط والخصوصيات ، حيث إن القبض المترتب عليه متمحض في الوفاء به ، وليس هناك قصد ثانوي لإنشاء المعاملة بالتقابض.

ولمّا كان الإنشاء الملحون ساقطا عن التأثير عند المشهور ـ وكان القبض بعنوان الوفاء لا بعنوان الإنشاء الجديد ـ فلا محالة لم يتحقق سبب قولي ولا فعلي للتمليك. وهذا بخلاف المعاطاة المتعارفة ، فإنّ التعاطي إنشاء التمليك ، ويشمله إطلاق دليل إمضاء البيع.

(١) أي : بعد القول غير الجامع الشرائط اللزوم. وجه عدم العبرة بهذا القبض هو خلوّه عن قصد الإنشاء ، لأنّ المتعاملين زعما تأثير ذلك القول ، واعتقدا وجوب الوفاء به ، ضرورة كون الوفاء بالعقد الصحيح حقّا على كلا المتعاملين ، فأقبض كلّ منهما ماله للآخر أداء لهذا الحق ، لا إنشاء جديدا للمعاملة. وحيث إنّ أصل الإنشاء باطل ، فالقبض المتأخر عنه كذلك.


على كونه حقّا لازما ، لكونه (١) من آثار الإنشاء القولي السابق ، نظير القبض في العقد الجامع للشرائط.

ظاهر (٢) كلام غير واحد من مشايخنا المعاصرين (٣) الأوّل (٤) تبعا لما يستفاد من ظاهر كلام المحقق والشهيد الثّانيين. قال المحقق في صيغ عقوده ـ على ما حكي عنه ـ بعد ذكره الشروط المعتبرة في الصيغة : «انّه لو أوقع البيع بغير ما قلناه وعلم التراضي منهما كان معاطاة» (٥) (١) انتهى.

______________________________________________________

(١) أي : لكون القبض حقّا لازما ، وجه لزومه كونه من آثار الإنشاء القولي ، ووفاء لما التزما به من الإنشاء السابق.

(٢) هذا متعلق بقوله : «فهل يرجع ذلك الإنشاء» وغرضه بيان الأقوال في المسألة ، وأنّ لكلّ من الوجوه الثلاثة قائلا.

(٣) كالسيد المجاهد والفاضل النراقي وصاحب الجواهر ، قال في المناهل : «منهل : إذا كان إيجاب البيع وقبوله بغير العربية من الألفاظ الفارسية وغيرها ، فلا إشكال حينئذ في صحة البيع ، وإفادته إباحة التصرف ونقل الملك ، بناء على المختار من إفادة المعاطاة ذلك ، لظهور عدم القائل بالفصل بين الأمرين ، ولفحوى ما دلّ على إفادة المعاطاة أو عمومه الملك. وهل يفيد ذلك اللّزوم كما إذا كان الإيجاب والقبول عربيّين أو لا؟ بالثاني صرّح المحقق الثاني في حاشية الإرشاد وجامع المقاصد .. إلخ».

وقال في الجواهر : «لكن قد عرفت سابقا : أنّ قصد التمليك العقدي غير مشخص ، مع فرض تحقق البيع بالمعاطاة التي منها الصيغة الملحونة مثلا» (٢).

(٤) وهو كونه بحكم المعاطاة مطلقا.

(٥) وقال بعده على ما حكي عنه : «لا يلزم إلّا بذهاب العينين».

__________________

(١) : رسالة صيغ العقود والإيقاعات (ضمن مجموعة رسائل المحقق الكركي) ج ١ ، ص ١٧٨ ، والحاكي لهذه العبارة هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ج ٤ ، ص ١٥٩

(٢) المناهل ، ص ٢٧٠ ، مستند الشيعة ، ج ٢ ، ص ٣٦١ و٣٦٢ ، المسألة الخامسة من مسائل الفصل الأوّل. جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٧


وفي الرّوضة في مقام عدم كفاية الإشارة مع القدرة على النطق : «انّها تفيد المعاطاة مع الإفهام الصريح» (١) (١) انتهى.

وظاهر الكلامين (٢) صورة وقوع الإنشاء بغير القبض ، بل يكون القبض من آثاره (٣).

وظاهر (٤) تصريح جماعة منهم المحقق والعلّامة بأنّه «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك وكان مضمونا عليه» هو (٥) الوجه الأخير (٦) ، لأنّ (٧)

______________________________________________________

ثم إنّ هذا الكلام من المحقق الثاني صريح في كون الإنشاء القولي الملحون معاطاة ، فيجري فيه ما يجري فيها من لزومه بتلف العينين ، وجواز التراد قبله.

(١) وجه دلالة هذا الكلام على كون الصيغة الفاقدة للشرائط ـ التي هي مورد البحث ـ بحكم المعاطاة هو : أنّ المناط في إجراء حكم المعاطاة على الإشارة هو إفهام المقصود صريحا ، ومن المعلوم وجود هذا المناط في موضوع البحث.

(٢) حيث إنّ رجوع الضمير ـ الذي هو اسم «كان» في قول المحقق قدس‌سره «كان معاطاة» ـ إلى : إيقاع البيع بغير ما قلناه ـ ممّا لا ينبغي إنكاره.

وكذا قول الشهيد في الروضة : «إنّها تفيد المعاطاة» فإنّ ضمير «إنّها» راجع إلى الإشارة. ومن المعلوم أنّ المستفاد منهما كون نفس الإنشاء الملحون والإشارة معاطاة.

(٣) أي : آثار الإنشاء بالقول الملحون ، فلا يتحقق الإنشاء بالقبض حتى يتوهم تحقق المعاطاة بهذا التقابض.

(٤) مبتدء معطوف على قوله قبل أسطر : «ظاهر كلام غير واحد من .. إلخ». وهذا بيان القائل بالوجه الثالث ، أي : كون الإنشاء القولي الملحون بحكم العدم.

(٥) خبر «وظاهر».

(٦) وهو عدم جريان حكم المعاطاة على الإنشاء القولي الفاقد للشرائط.

(٧) هذا تقريب الظهور ، ومحصله : أنّ مرادهم ظاهرا بالعقد الفاسد الذي صرّحوا فيه بالضمان وعدم الملكية هو الإنشاء القولي الفاقد للشرائط الذي هو مورد بحثنا.

__________________

(١) : الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥


مرادهم بالعقد الفاسد إمّا خصوص ما كان فساده من جهة مجرّد اختلال شروط الصيغة (١) ، كما ربّما يشهد به (٢) ذكر هذا الكلام بعد شروط الصيغة وقبل شروط العوضين والمتعاقدين. وإمّا (٣) يشمل هذا وغيره كما هو الظاهر (٤).

______________________________________________________

وجه الظهور : أنّهم ذكروا هذا الكلام وهو قوله : «لو قبض ما ابتاعه .. إلخ» بعد شروط الصيغة وقبل شروط العوضين والمتعاقدين ، فيكون قولهم : «لو قبض ما ابتاعه» تفريعا على فساد العقد لأجل فقدان شروط الصيغة ، لا لفقدان شروط أخر.

ولو سلّمنا شمول العقد الفاسد لما إذا كان منشأ الفساد اختلال شروط العوضين والمتعاقدين أيضا لم يقدح ذلك فيما نحن بصدده من كون الصيغة الملحونة موضوعا للبحث والنزاع في جريان حكم المعاطاة فيها وعدمه. فكلامهم المزبور أعني به : «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك .. إلخ» شامل للإنشاء القولي الملحون.

ومن هذا البيان ظهر وجه تعبير المصنف ب «ظاهر تصريح» فإنّ المحقق والعلّامة صرّحا بحكم المقبوض بالعقد الفاسد من حيث عدم التملك والضمان ، ولم يصرّحا بمنشإ الفساد ، فاستظهر المحشّون ـ من إطلاق الفساد ـ عدم تأثير الصيغة الملحونة.

(١) كتقدم الإيجاب على القبول ، والماضوية بناء على اعتبارها ، والموالاة بين الإيجاب والقبول ، والتطابق بينهما.

(٢) أي : بكون منشأ الفساد مجرّد اختلال شروط الصيغة.

(٣) معطوف على «إمّا خصوص».

(٤) لشمول إطلاق «الفاسد» لجميع موجبات الفساد من اختلال شروط الصيغة والعوضين والمتعاقدين ، فالمراد ب «غيره» هو الفساد من جهة اختلال شروط المتعاقدين كعدم بلوغ أحدهما ، والعوضين ، وككون أحدهما مجهول الوصف.


وكيف كان (١) فالصورة الأولى (٢) داخلة قطعا (٣).

ولا يخفى (٤) أنّ الحكم فيها (٥) بالضمان مناف لجريان حكم المعاطاة.

وربما يجمع (٦)

______________________________________________________

(١) أي : سواء أكان مراد المحقّق والعلّامة من العقد الفاسد خصوص الإنشاء القولي الفاقد لبعض الشرائط ، أم الأعم منه ومن اختلال شروط المتعاقدين أو العوضين.

(٢) وهي كون فساد العقد لاختلال شروطه كما هو موضوع البحث.

(٣) لصدق «الفاسد» على الصيغة الفاقدة لشروطها ، ولكون الكلام المزبور وهو «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد .. إلخ» مذكورا بعد شروط الصيغة ، وهذا قرينة على كون الكلام المذكور متفرّعا على شروط الصيغة.

(٤) غرضه إبداء إشكال على الحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد ، وجعل العقد الملحون كالمعاطاة في الحكم بالإباحة.

ومحصل الإشكال : منافاة الضمان للمعاطاة ، لأنّ جريان حكم المعاطاة في الإنشاء القولي الملحون يقتضي عدم الضمان ، فينافيه الحكم بالضمان.

فأجاب عنه المصنف بأنّ حكم المحقق والعلامة بضمان المقبوض بالعقد الفاسد قرينة على عدم لحقوق حكم المعاطاة بالصيغة الملحونة ، فالإنشاء الملحون يكون بحكم العدم. ولو كان هذا معاطاة لم يكن وجه للضمان فيه ، لكونها صحيحة شرعا حينئذ.

وعليه يظهر التهافت بين نظر المحقّق والعلّامة من الحكم بالفساد ، وبين نظر المحقق والشهيد الثانيين من إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة ، وقد تصدّى السيد الفقيه العاملي قدس‌سره للجمع بين كلامي الطائفتين.

(٥) أي : في الصورة الأولى وهي فقدان شروط الصيغة.

(٦) الجامع هو السيد الفقيه في مفتاح الكرامة في مبحث المقبوض بالعقد


بين هذا الكلام (١) وما تقدم (٢) من المحقق والشهيد الثانيين ، فيقال (٣) : «إنّ موضوع المسألة في عدم جواز التصرف بالعقد الفاسد ما إذا علم عدم الرّضا إلّا بزعم صحة المعاملة ، فإذا انتفت الصحة انتفى الإذن ، لترتّبه (٤) على زعم

______________________________________________________

الفاسد. ذكره بعد نقل كلمات جمع من الأصحاب ، آخرها عبارة المسالك وهي : «لا إشكال في الضمان ـ أي ضمان المقبوض ، بالعقد الفاسد ـ إذا كان جاهلا بالفساد ، لأنه قدم على أن يكون مضمونا عليه فيحكم عليه به وإن تلف بغير تفريط» (١).

(١) وهو : لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك وكان مضمونا عليه.

(٢) حيث قال قبل أسطر : «بأنّ العقد الفاقد للشروط يكون معاطاة».

(٣) هذا تقريب الجمع بين الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد وبين جريان حكم المعاطاة على العقد الفاسد.

ومحصل الجمع بينهما هو تغاير الموضوع في المسألتين ، إذ الموضوع في الحكم بضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو تقيّد الإذن في التصرف بصحّة المعاملة ، بحيث يكون الرّضا مفقودا في صورة فساد المعاملة.

والموضوع في جريان حكم المعاطاة هو صورة إطلاق الإذن لكلتا صورتي صحة المعاملة وفسادها ، إمّا لحدوث الإذن والرّضا بالتصرف بعد علمهما بالفساد ، بحيث يستند جواز التصرف إلى الرضا الحادث المستمرّ إلى زمان القبض ، وإمّا لكون الإنشاء من أوّل الأمر على نحو تعدّد المطلوب. ولم يظهر من المحقق والعلّامة قدس‌سرهما القائلين بضمان المقبوض بالعقد الفاسد ذهابهما إلى الضمان في صورة بقاء الإذن بالتصرف إلى زمان القبض ، وعدم جريان حكم المعاطاة فيها حتى يكونا مخالفين للمحقق والشهيد الثانيين.

(٤) أي : لترتب الإذن في التصرف على سبب واحد وهو اعتقاد صحة العقد ، وحيث كان العقد فاسدا فلا إذن ، لانتفاء الموقوف بانتفاء الموقوف عليه.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٨


الصحة ، فكان التصرف تصرفا بغير إذن وأكلا للمال بالباطل ، لانحصار وجه الحلّ في كون المعاملة بيعا أو تجارة عن تراض أو هبة ، أو نحوها من وجوه الرضا بأكل المال من غير عوض. والأوّلان (١) قد انتفيا بمقتضى الفرض. وكذا البواقي (٢) ، للقطع من (٣) جهة زعمهما صحة المعاملة بعدم الرضا بالتصرف ، مع عدم بذل شي‌ء في المقابل ، فالرّضا المقدّم كالعدم (٤). فإن (٥) تراضيا (*) بالعوضين بعد العلم بالفساد ، واستمرّ رضاهما ، فلا كلام في صحة المعاملة ورجعت إلى المعاطاة ، كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرف بأيّ وجه اتّفق ،

______________________________________________________

(١) وهما البيع والتجارة عن تراض. ووجه انتفائهما بعد ارتفاع الإذن واضح.

(٢) أي : الهبة ونحوها من المجّانيّات ، فإنّ انتفاء الإذن يوجب انتفاءهما أيضا.

(٣) كلمة «من» نشوية ، يعني : للقطع الناشئ عن زعم صحة المعاملة ، حاصله : أنّ القطع بعدم الرضا بالتصرف ناش عن عدم صحة المعاملة ، حيث إنّ الرّضا كان متقوما بصحة المعاملة ، فانتفاؤها يوجب انتفاء الرّضا قطعا.

(٤) لتقوّمه بما يكون منتفيا واقعا ، فلا عبرة به.

(٥) هذا بيان لمورد كلام المحقق والشهيد الثانيين ومن تبعهما ـ بناء على الجمع المذكور في مفتاح الكرامة ـ وحاصله : أنّ مورد الحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد هو صورة العلم بعدم الرّضا بالتصرف على تقدير البطلان ، ومورد جريان حكم المعاطاة ـ الملازم لعدم الضمان فيه ـ هو صورة العلم بتجدّد الرضا به بعد العلم بالفساد. وعلى هذا الجمع لا يبقى تهافت بين الكلامين.

__________________

(*) بل الظاهر أنّ مورد حكم المشهور بضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو صورة تقيّد الإذن بصحة المعاملة ، فمع الفساد ينتفي الإذن. ومورد كلام المحقق والشهيد الثانيين هو صورة إطلاق الإذن لصورتي صحة المعاملة وفسادها.


سواء صحّت المعاملة أو فسدت ، فإنّ ذلك ليس (١) من البيع الفاسد في شي‌ء» (*).

أقول : المفروض (٢) أنّ الصيغة الفاقدة لبعض الشرائط لا يتضمّن إلّا إنشاء واحدا هو التمليك ، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار لا يوجب بقاء الإذن

______________________________________________________

(١) حتى يكون المقبوض به من المقبوض بالعقد الفاسد المحكوم بالحرمة والضمان.

(٢) غرضه قدس‌سره الإشكال على الجمع المزبور المشتمل على أمرين :

أحدهما : تحقق المعاطاة بالتراضي الموجود حال العقد إذا علم بعدم تقيّده بصحة المعاملة. وقد تعرّض لهذا الأمر بقوله : «كما إذا علم الرضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرف».

وقد أجاب المصنف عنه بقوله : «المفروض أنّ الصيغة .. إلخ» ومحصله : أنّ التراضي الموجود حين العقد مقيّد بالتمليك لا مطلق ، ومن المعلوم انتفاء المقيّد بانتفاء قيده ، فبإنتفاء التمليك ينتفي التراضي.

ثانيهما : حصول المعاطاة بالتراضي الجديد الحادث بعد العقد والعلم بالفساد. وقد تعرّض السيد العاملي لهذا الأمر بقوله : «فان تراضيا بالعوضين» الى قوله : «ورجعت إلى المعاطاة».

وقد أجاب عنه المصنف بقوله : «مع أنّك عرفت .. إلخ» وحاصله : أنّ كلام الشهيد والمحقق الثانيين لا يقبل الحمل على التراضي الجديد ، ووقوع معاطاة جديدة بالتقابض الواقع بعد العقد الفاسد ، وذلك لظهور كلامهما في حصول المعاوضة بنفس الإشارة المفهمة ، وبنفس الصيغة الخالية عن الشرائط ، لا بالتقابض الحاصل بعدهما.

__________________

(*) لكنّه ليس من المعاطاة المعهودة أيضا ، بل هو إباحة مالكيّة لا تلزم بملزمات المعاطاة. مع أنّ مورد كلام المحقق والشهيد الثانيين قدس‌سرهما إلحاق نفس اللفظ الملحون بالمعاطاة ، ولا أثر من الرّضا غير المعاملي في كلامهما.


الحاصل في ضمن التمليك بعد فرض انتفاء التمليك (١) ، والموجود بعده (٢) إن كان إنشاء آخر في ضمن التقابض خرج عن محل الكلام ، لأنّ المعاطاة حينئذ إنّما تحصل (*) به لا بالعقد الفاقد للشرائط.

مع أنّك (٣) عرفت أنّ ظاهر كلام الشهيد والمحقق الثانيين حصول المعاوضة والمراضاة بنفس الإشارة المفهمة (٤) بقصد البيع ، وبنفس الصيغة (٥) الخالية عن الشرائط ، لا بالتقابض الحاصل بعدهما.

______________________________________________________

(١) حيث إنّه مقيّد بالتمليك ، وبانتفاء القيد ينتفي المقيّد.

(٢) أي : بعد انتفاء التمليك العقدي. وهذا إشكال على ما ادّعاه السيد العاملي قدس‌سره من وجود إذن بعد فساد العقد ، ومحصّل الإشكال : أنّ الإذن المدّعى إن كان إنشائيا حاصلا بالتقابض بقصد المعاطاة كان خارجا عن محل الكلام ، ومندرجا في حصول إنشاء جديد بعد الصيغة الملحونة ، وهذه المعاطاة صحيحة بلا ريب كما سبق في قول المصنف قدس‌سره : «نعم إذا حصل إنشاء آخر بالقبض المتحقق بعده تحقق المعاطاة». وإن كان هذا الإذن هو الذي تحقق بالإنشاء الملحون فالمفروض فساده ، فينتفي الإذن قطعا.

(٣) هذا إشكال على حصول المعاوضة بالتقابض الحادث بعد الإنشاء الملحون ، وقد تقدم آنفا.

(٤) كما هو مصبّ كلام الشهيد الثاني قدس‌سره.

(٥) كما هو مورد كلام المحقق الثاني قدس‌سره.

__________________

(*) حصول المعاطاة التي هي محل الكلام في إفادتها الملك أو الإباحة بالتقابض ـ مضافا إلى خروجها عن موضوع البحث ـ ممنوع جدّا ، لأن تلك المعاطاة التي قامت السيرة على إباحة التصرف بها هي التي قصد بها التمليك ، لا مجرّد التراضي بالتصرف ، فإنّه خارج عن المعاطاة المصطلحة. بل التراضي المزبور لا يجدي إلّا الإباحة المالكية لا الشرعية التي هي المقصودة في المعاطاة.


ومنه (١) يعلم فساد ما ذكره من حصول المعاطاة بتراض جديد بعد

______________________________________________________

(١) أي : ومن ظهور كلام المحقق والشهيد الثانيين ـ في حصول المعاوضة والمراضاة بنفس الإنشاء الملحون والإشارة المفهمة ـ يعلم فساد .. إلخ ، وهذا إشكال المصنف على ما ذكره السيد الفقيه العاملي قدس‌سره في الأمر الأوّل بقوله : «فان تراضيا بالعوضين بعد العلم بالفساد» ومحصل الإشكال أمور :

الأوّل : أنّ الحمل على التراضي الجديد خلاف ظاهر كلام المحقق والشهيد الثانيين ، لما عرفت من ظهور كلاميهما في إلحاق نفس الإنشاء القولي الملحون والإشارة المفهمة بالمعاطاة ، وليس من الرّضا الحادث عين ولا أثر في عبارتيهما ، فيصير حمل الكلامين على حصول المعاطاة بإنشاء جديد أجنبيّا عنهما ، لا توجيها لهما.

الثاني : أنه لو سلّمنا استناد حليّة التصرف في المالين إلى التراضي الجديد فهو مخصوص بما إذا علم المتبايعان فساد العقد ، وعدم ترتب النقل والانتقال عليه ، حتى يأذن كلّ منهما للآخر بالتصرّف فيما يأخذه. وأمّا إذا لم يعلما بالفساد أو علما به ولم يرضيا بالتصرف فلا مجال لتوجيه السيد قدس‌سره ، إذ لا معنى للرّضا الجديد في هاتين الصورتين. مع أنّ كلام الفقهاء مطلق يعمّ جميع الصور الثلاث ، يعني : سواء علما بفساد ذلك الإنشاء الناقص أم لم يعلما به ، وسواء رضيا بالتصرف بعد العلم بالفساد أم لم يرضيا به.

وعليه يكون قول السيد قدس‌سره : «فان تراضيا بعد العلم بالفساد» توجيها للصحة في صورة واحدة ـ وهي العلم بالفساد والرضا الحادث ـ لا في جميع الصور ، فالمناسب حينئذ التفصيل في إطلاق فتوى الأصحاب ، لا دعوى توجيهه في جميع الصور.

الثالث : أنّ أصل هذا التوجيه ـ بفرض الرّضا الحادث ـ ممنوع ، مع الغض عن إباء كلام الأصحاب عن حمله عليه. وسيأتي توضيح المنع عن قريب.


العقد غير (١) مبنيّ على صحة العقد.

ثم (٢) إنّ ما ذكره من التراضي الجديد بعد العلم بالفساد ـ مع اختصاصه بما إذا علما بالفساد دون غيره من الصور (٣) مع أنّ كلام الجميع مطلق ـ يرد عليه : أن (٤) هذا التراضي

______________________________________________________

(١) بالجر صفة ل «تراض جديد».

(٢) قد عرفت توضيح هذا الإشكال آنفا ، وحاصله : أنّ ذلك الجمع مختص بصورة علم المتعاملين بالفساد حتى يتراضيا بالإنشاء ثانيا بالقبض ، مع أنّ كلامهم مطلق ، حيث إنّهم حكموا بالفساد والضمان مطلقا سواء علم المتبايعان بالفساد أم لا.

(٣) المراد من الصور صورتان ، إحداهما : علم المتبايعين بفساد الإنشاء القولي وعدم إنشاء إذن جديد ، والثانية : جهلهما بفساده.

(٤) هذا أصل الإشكال على الجمع المزبور ، وحاصله : أنّ التراضي الجديد ـ المفروض حدوثه بعد العلم بالفساد ـ غير مجد على تقدير ، وغير واقع على تقدير آخر. وبيانه : أنّ هذا التراضي إن كان لا على وجه المعاطاة ، ولا تقابض آخر في البين ، بل رضي كلّ منهما بتصرّف الآخر في ماله ، ففيه : أنّه على فرض حدوثه إباحة مجّانية لا يترتب عليها إلّا جواز التصرف المستند إلى طيب النفس. وهذا غير المعاطاة المصطلحة ، وهي الّتي يقصد بها التمليك ، وتترتب عليها الملكية أو الإباحة الشرعية ، ومن المعلوم أنّ المقصود بالمعاطاة هنا هو المصطلح منها.

وإن كان على وجه المعاطاة بأن كان التراضي منهما على إنشاء التمليك حتى تندرج في المعاطاة المصطلحة ـ التي هي من المعاوضات ـ ففيه : أنّه ليس في المقام تراض جديد ، إذ المعاطاة المعهودة هي التي قصد بها التمليك ، كما تقدم عن المحقق الثاني ، ومن المعلوم عدم تراض جديد على التمليك بعد العلم بفساد العقد ، بل التراضي الموجود فعلا هو التراضي الذي كان على التمليك السابق.


إن كان (١) تراضيا آخر حادثا بعد العقد ، فإن كان لا على وجه المعاطاة ، بل كلّ منهما رضي بتصرف الآخر في ماله من دون ملاحظة رضاء صاحبه بتصرّفه في ماله ، فهذا ليس من المعاطاة ، بل هي إباحة مجّانيّة من الطرفين تبقى ما دام العلم بالرضا ، ولا يكفي فيه عدم العلم بالرجوع ، لأنّه (٢) كالإذن الحاصل من شاهد الحال (٣) ، ولا يترتب عليه أثر المعاطاة من اللزوم بتلف إحدى العينين ، أو جواز التصرف إلى حين العلم بالرجوع.

______________________________________________________

(١) لم يذكر المصنف عدلا لهذه الشرطية ، فالأولى أن يقال : «ان هذا التراضي الحادث بعد العقد إن كان لا على وجه المعاطاة .. إلخ».

(٢) تعليل لدوران هذه الإباحة المجّانية مدار العلم بالرضا ، وعدم كفاية الجهل بالرجوع عن الإباحة.

(٣) في لزوم إحراز الإذن في إباحة التصرف ، وعدم كفاية عدم العلم بالرجوع عن الإذن. والوجه في عدم الكفاية هو : أنّ الإذن بالتصرف انحلالي ، فكلّ فرد من أفراده الطولية والعرضية لا بدّ أن يكون مقرونا بالإذن ، فمع العلم به يجوز التصرف ، وبدونه لا يجوز. ومع الشّك لا مجال للاستصحاب ، لتعدد الموضوع ، ضرورة أنّ كل فرد من أفراد التصرف موضوع مستقل ، واستصحاب الإذن في الفرد المشكوك فيه تسرية الحكم من موضوع إلى آخر ، وهو أجنبي عن الاستصحاب ومندرج في القياس المسدود بابه.

وبالجملة : فلا مجال لاستصحاب الإذن في الفرد من التصرف. بخلاف الرجوع في المعاطاة المفيدة للإباحة الشرعية ، حيث إنّ غايتها رجوع المالك ، ومع الشك فيه يستصحب عدم الرجوع.

ففرق واضح بين الرجوع في المعاطاة ، وبين الإذن وطيب النفس في الإباحة المالكية ، فإنّ الإباحة المالكية منوطة بالعلم بطيب النفس في كل فرد من


وإن كان (١) على وجه المعاطاة فهذا ليس إلّا التراضي السابق على (٢) ملكية كلّ منهما لمالك الآخر ، وليس تراضيا جديدا ـ بناء (٣) على أنّ المقصود بالمعاطاة التمليك كما عرفته من كلام المشهور (٤) خصوصا المحقق الثاني (٥) ـ

______________________________________________________

أفراد التصرف.

(١) معطوف على : «فإن كان» وهذا شقّ آخر من المنفصلة ، وقد عرفت توضيحه آنفا.

(٢) متعلق بالتراضي ، لا بالسابق ، يعني : التراضي على مالكية كل منهما لمال الآخر ، وهذا التراضي هو الحاصل بالإنشاء الفاقد لبعض خصوصيات الصيغة ، ولم يحصل هذا التراضي بإنشاء جديد بعد العلم بفساد الإنشاء الأوّل.

(٣) حاصله : أنّه ـ بناء على كون المقصود بالمعاطاة التمليك ـ لا يكون هنا تراض جديد على التمليك ، بل ذلك التراضي المتحقق حال العقد الفاسد. نعم بناء على كون المقصود بالمعاطاة الإباحة فلا بد من التراضي الجديد على الإباحة ، لأنّ التراضي السابق كان على التمليك لا على الإباحة.

(٤) حيث إن محطّ نظر المشهور القائلين بالإباحة التعبدية هو المعاطاة المقصود بها الملك ، وقد استظهر المصنف قدس‌سره هذا من عبارات الأصحاب عند ما خاض في تحقيق النزاع بين المحقق الكركي وصاحب الجواهر قدس‌سرهما (١).

(٥) حيث نقل عنه المصنف بعد نقل الأقوال في المعاطاة ما لفظه : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم يكن كالعقد في اللزوم .. إلخ» (٢).

__________________

(١) : راجع الجزء الأول من هذا الشرح ، ص ٣٣٦ إلى ٣٣٤

(٢) راجع الجزء الأول من هذا الشرح ، ص ٣٤٥ إلى ٣٤٧


فلا يجوز (١) له أن يريد بقوله المتقدم عن صيغ العقود : «إنّ الصيغة الفاقدة للشرائط مع التراضي يدخل في المعاطاة» التراضي (٢) الجديد الحاصل بعد العقد لا على وجه المعاوضة (٣) (*).

______________________________________________________

(١) متفرع على كون المقصود بالمعاطاة التمليك. وجه عدم الجواز هو : أنّ المعاطاة عنده هي المقصود بها التمليك ، فالتراضي الجديد على الإباحة لا يوجب الاندراج في المعاطاة المزبورة ، بل تكون هذه الإباحة أجنبية عن البيع المنقسم إلى القولي والمعاطاتي.

(٢) مفعول «يريد».

(٣) يعني : المعاطاة المفيدة للإباحة.

هذا تمام ما أفاده المصنف حول الوجه الأوّل ، وهو إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة كما اختاره المحقق والشهيد الثانيان ، والوجه الثالث وهو كونه عقدا فاسدا ، الذي اختاره المحقق والعلّامة ، وما أفاده السيد العاملي قدس‌سره من محاولة الجمع بينهما ، ثم نقاش المصنف في الجمع المزبور. وسيأتي مختاره في إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة وعدمه.

__________________

(*) ولا يخفى أنّ المحقق الخراساني قدس‌سره جمع بين ما عن المشهور من عدم جواز التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد وضمانه ، وبين ما عن المحقق والشهيد الثانيين وغيرهما من جريان حكم المعاطاة على الإنشاء القولي غير الجامع للشرائط بما هذا لفظه : «والحكم بضمان المقبوض بالعقد الفاسد يمكن أن ينزّل على أنّه حكم اقتضائي لا فعلىّ ، بمعنى : أنّ قضية فساده بما هو عقد ذلك لو لم يجي‌ء في البين الحكم بصحته بوجه آخر أي بما هو بيع بغير العقد. وهذا أحسن ما يقال توفيقا بين ما ذكر في


وتفصيل (١) الكلام : أنّ المتعاملين بالعقد الفاقد لبعض الشرائط إمّا أن يقع تقابضهما بغير رضا من كلّ منهما في تصرّف الآخر ، بل حصل قهرا عليهما أو على أحدهما وإجبارا على العمل بمقتضى العقد ، فلا إشكال في حرمة التصرف في المقبوض على هذا الوجه (٢).

______________________________________________________

(١) أي : تفصيل المطلب الذي عقد له هذا التنبيه الثامن وما يصح اختياره فيه ، لا تفصيل الكلام في الجمع بين الكلامين ورفع التهافت بينهما.

(٢) أي : وجه العمل بمقتضى العقد الفاسد إجبارا ، ومحصل ما أفاده من التفصيل هو : أنّ التعاطي بالعقد الفاسد يتصور ثبوتا على وجوه :

أحدها : أن يترتب عليه التقابض من المتعاطيين قهرا عليهما أو أحدهما بعنوان الوفاء بالعقد. ولا إشكال في حرمة التصرف في هذه الصورة ، لعدم مسوّغ لهذا التصرف المشروط جوازه بطيب نفس المالك المفقود هنا ، إذ المفروض بطلان العقد وعدم تأثيره في التمليك ، وعدم التراضي منهما في إباحة التصرف ، فلا محالة يكون تصرف كلّ منهما في مال الآخر حراما وموجبا للضمان.

__________________

المقامين ، فتفطّن» (١).

وفيه : أنّ الحمل على الحكم الاقتضائي وإن كان في نفسه حسنا ، لكنه إنّما يصح فيما إذا صار فعليّا ولو في بعض الأزمنة كالأحكام الأوّلية مثل وجوب الوضوء عند طروء عنوان ثانوي كالضرر ، فإنّ الجمع بين الحكم الأوّلي والثانوي بحمل الأوّلي على الاقتضائي ، والثانوي على الفعلي في غاية المتانة. بخلاف المقام ، فإنّ جعل الحرمة والضمان فيه بنحو الاقتضاء لغو ، لعدم فعليتهما أصلا ، ضرورة وجود عنوان المعاطاة دائما في المقبوض بالعقد الفاسد ، فلا يصير شي‌ء من الضمان والحرمة في المقبوض بالعقد الفاسد في شي‌ء من الأزمنة فعليّا ، بل يبقيان على الاقتضاء.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٦


وكذا (١) إن وقع على وجه الرّضا الناشئ عن بناء كلّ منهما على ملكية الآخر اعتقادا (٢) أو تشريعا ، كما في كلّ قبض وقع على هذا الوجه (٣) ، لأنّ (٤) حيثية

______________________________________________________

ثانيها : أن يترتب التقابض على العقد الفاسد بعنوان الوفاء بمقتضى ذلك العقد وإن كان برضاهما مقيّدا بالوفاء ، لبنائهما على صحة ذلك العقد اعتقادا أو تشريعا.

وبعبارة أخرى : يتقابضان مع التراضي بناء على كون ذلك التقابض عملا بمقتضى العقد ، لاعتقاد صحته شرعا ـ من جهة جهلهما بفساد العقد واقعا ـ أو تشريعا بالبناء على صحة ذلك الإنشاء الفاقد لشروط التأثير.

وحكم هذا الوجه هو الحرمة والضمان ، لشمول قولهم : «المقبوض بالعقد الفاسد مضمون ويحرم التصرف فيه» له.

ثالثها : أن يكون التقابض بقصد إنشاء التمليك بعد الإعراض عن أثر العقد الأوّل. ولا إشكال في جواز التصرف ، وعدم الضمان فيه ، لكونه معاطاة صحيحة عقيب عقد فاسد.

رابعها : أن يكون الرّضا بالتصرف مقارنا لاعتقاد الملكية ، لا مقيّدا به حتى يرتفع بانتفاء الملكية. وسيأتي حكم هذا الوجه من ابتناء شمول المعاطاة له على أمرين.

(١) يعني : وكذا لا إشكال في حرمة التصرف إن وقع التقابض على وجه الرضا .. إلخ. وهذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدّم بقولنا : «ثانيها : أن يترتب .. إلخ».

(٢) يعني : أنّ التقابض ـ بعنوان الوفاء بالعقد الفاسد ـ موجب للضمان ، سواء أكان عن اعتقاد بصحة العقد جهلا بحقيقة الأمر ، أو عن التشريع بالبناء على صحته مع العلم بفساده أو مع عدم العلم بصحّته. والوجه في الضمان عدم حصول سبب حلّية التصرف والملكية.

(٣) أي : على وجه بناء كلّ منهما على ملكيّة القابض لما يقبضه.

(٤) تعليل لحرمة التصرف في كلا الوجهين ، وهما : الإجبار على العمل بمقتضى


كون القابض مالكا مستحقا لما يقبضه جهة تقييدية (١) مأخوذة في الرّضا ينتفي بانتفائها في الواقع كما في نظائره (٢).

وهذان الوجهان ممّا لا إشكال فيه في حرمة التصرف في العوضين.

______________________________________________________

العقد الفاسد ، ورضا كلّ منهما ، بالتصرف في مال الآخر اعتقادا بأنّه ماله ، أو تشريعا.

وحاصل التعليل : أنّ المستفاد من مثل قوله عليه‌السلام : «لا يحل مال امرء مسلم إلّا بطيبة نفسه» هو اعتبار طيب نفس المالك بتصرف الغير في ماله بما أنّه ماله وهو مالكه ، فإذا أنيط الرضا بكون القابض مالكا انتفى بانتفاء المالكية ، إذ ليس رضا المالك ـ بما أنّه أجنبي عن المال ـ كافيا في جواز التصرف.

وعلى هذا فإذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار ـ ببيع صحيح ـ وأقبضه الكتاب كان رضاه بالقبض من جهة كون القابض مالكا مستحقا للكتاب. وأمّا إذا كان بيعه فاسدا فالمشتري القابض للمبيع يعلم بعدم مالكيّته للكتاب وعدم استحقاقه له ، وحرمة التصرف فيه من جهة انتفاء الملكية.

والحاصل : أنّ الرضا بالقبض ليس مطلقا ، بل مقيّد بكون القابض مالكا ، وحيث إنّ الملكية منتفية في الوجه الأوّل والثاني كان الرضا بالقبض منتفيا أيضا ، فيكون تصرف الآخذ كتصرف الغاصب في الضمان والحرمة.

(١) يعني : يتقيّد الرّضا بالتصرف بما إذا كان القابض مالكا مستحقا لما يقبضه.

(٢) كما إذا أعطى زيد دينارا لعمرو باعتقاد كونه مديونا له ، فأدّى دينه به ، ورضي بتسلّم عمرو للدينار وتصرّفه فيه بما أنّه مالكه ، ولكن علم عمرو بعدم استحقاقه شيئا على زيد ، فإنّه لا يجوز له التصرف في الدينار بمجرد رضا زيد بإقباضه إياه.

ووجه عدم الجواز هو : أنّ رضا زيد بالتصرف في الدينار ليس مطلقا ، بل مقيّد بكون القابض ـ وهو عمرو ـ مالكا ، ومع عدم مالكيته له واقعا ينتفي رضا زيد بالتصرف في ماله ، فإنّ انتفاء المقيّد بانتفاء قيده من القضايا التي قياساتها معها.


كما أنه لا إشكال (١) في الجواز إذا أعرضا عن أثر العقد وتقابضا بقصد إنشاء التمليك ليكون معاطاة صحيحة عقيب عقد فاسد.

وأمّا (٢) إن وقع الرضا بالتصرف بعد العقد ـ من دون ابتنائه على استحقاقه بالعقد السابق ، ولا قصد لإنشاء التمليك ، بل وقع مقارنا لاعتقاد الملكية الحاصلة ، بحيث (٣) لولاها كان الرّضا أيضا موجودا ،

______________________________________________________

(١) إشارة إلى الوجه الثالث. والوجه في عدم الإشكال في جواز التصرف فيه وانتفاء الضمان هو كون التقابض حينئذ مصداقا للمعاطاة ، وعدم توقف صحتها على العقد السابق الفاسد حسب الفرض.

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الرّابع ، وهو مقارنة الرّضا بالتصرف لاعتقاد الملكية به لا مقيّدا به ، وكون العقد الفاسد وسيلة للتصرف ، بحيث لو سئل كلّ منهما بعد فساد العقد «هل تكون راضيا بتصرف صاحبك في مالك» لأجاب بقوله : «نعم». وحكم هذا الوجه : أنّ إدخاله في المعاطاة منوط بأمرين :

أحدهما : كفاية الرّضا الارتكازي في حصول المعاطاة. ولعلّ ما أفاده في مفتاح الكرامة من قوله : «كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرّف بأيّ وجه اتفق» يرجع إلى ذلك. والوجه في كفاية هذا الرّضا المركوز في النفس ـ بل الرّضا الشأني ـ هو صدق «طيب النفس» على هذا الرّضا.

ثانيهما : عدم اعتبار إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض في إباحة التصرفات ، بل عدم اعتبار فعل في ذلك ، وكفاية وصول كلّ من العوضين إلى المالك الآخر ، وحصول الرّضا بالتصرف قبله أو بعده.

فإن تمّ هذان الأمران صحّ الوجه الرابع ، وجاز التصرف لكلّ واحد منهما ، وإن نوقش فيهما أو في أحدهما لم يصح ، ولحقه حكم المقبوض بالعقد الفاسد ، وسيأتي مناقشة المصنف في الأمر الثاني.

(٣) أي : بحيث لو لا الملكية ، وهو متعلّق بقوله : «وقع» وبيان لمقارنة الرضا


وكان (١) المقصود الأصلي من المعاملة التصرف ، وأوقعا العقد الفاسد وسيلة له. ويكشف عنه (٢) أنّه لو سئل كلّ منهما من رضاه بتصرّف صاحبه على تقدير عدم التمليك أو بعد تنبيهه على عدم حصول الملك كان (٣) راضيا ـ فإدخال (٤) هذا في المعاطاة يتوقّف على أمرين (*) :

______________________________________________________

بالتصرف لاعتقاد الملكية.

(١) معطوف على «لولاها» يعني : بحيث كان المقصود الأصلي .. إلخ. وهذا من عطف العلة على المعلول.

(٢) أي : عن كون المقصود الأصلي من المعاملة هو التصرّف.

(٣) جزاء الشرط في قوله : «لو سئل».

(٤) جزاء الشرط في قوله : «وأما إن وقع الرضا بالتصرف» وغرضه بيان حكم الوجه الرابع ، وقد عرفت آنفا أنّ إدراجه في المعاطاة مبني على أمرين.

أحدهما : عدم اشتراط المعاطاة بالرّضا الفعلي.

وثانيهما : عدم توقف المعاطاة على خصوص الإنشاء الفعلي بالقبض والتعاطي ، بل البناء على كفاية وصول كل من العوضين إلى الآخر في تحقق المعاطاة.

__________________

(*) قال السيد قدس‌سره : «الحق عدم تمامية شي‌ء منهما. أمّا الأوّل فلأنّ الرضا الباطني وإن كان كافيا في جواز التصرف في مال الغير ، إلّا أنّه لا يكفي في لحقوق حكم المعاطاة من اللزوم بالملزمات وغيره. وأمّا الثاني فلأنّه لا بد في تحقق المعاملة من إنشاء قولي أو فعلي ، فلا يكفي مجرّد وصول كل من العوضين إلى مالك الآخر. ودعوى : أنّ عنوان التعاطي في كلماتهم لمجرّد الدلالة على الرّضا ، وأنّ السيرة التي هي عمدة الدليل موجودة في المقام كما ترى ، فإنّا نمنع أنّ مجرّد الرضا كاف ، بل لا بدّ من الإنشاء الفعلي أو القولي. والسيرة ممنوعة ، ومسألة أخذ الماء والبقل ودخول الحمام ليست من باب المعاطاة ، بل من باب الإذن المعلوم بشاهد الحال. وعلى فرضه فليست موردا للسيرة المستمرة الكاشفة كما لا يخفى. فالتحقيق عدم لحوق حكم المعاطاة لهذا القسم ، إلّا أن


.................................................................................................

__________________

يرجع إلى ما ذكرنا من إنشاء التمليك والرضا المطلق بالصيغة الفاسدة ، بأن يكون هذه الصيغة بمنزلة المعاطاة في إنشاء التمليك والتراضي به مطلقا ، فتدبّر» (١).

أقول : الحق أن يقال : إنّ المعاطاة لم ترد في دليل حتى يجب اتباع عنوانها ، وإقامة الدليل على إلحاق شي‌ء بها ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة الأدلة القاضية بصحة هذه المعاملة الفعلية. فعلى القول بكونها بيعا مفيدا للملك من أوّل الأمر كما اخترناه سابقا فلا إشكال في إفادتها الملك اللازم ، لإطلاقات أدلة البيع والتجارة ، من غير فرق بين كون آلة الإنشاء قولا وفعلا واجدا للخصوصيات أو فاقدا لها ، إذ المناط صدق البيع العرفي عليه. وكذا الحال إذا كان الدليل سيرة العقلاء بما هم عقلاء ، إذ لا فرق في نظرهم بين كون الإنشاء بالقول والفعل.

وعلى القول بالملك عند التصرف أو غيره من ملزمات المعاطاة ، فإن استند ذلك إلى السيرة الجارية على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة المال المباح بإذن المالك ما دام حيّا ، فيجوّز العقلاء كلّ تصرف فيه ، ولا يحكمون بالضمان عند التلف ، بل يحكمون بتعين الباقي للعوضية من دون فرق في ذلك بينهم بين الفعل والقول.

وإن استند ذلك إلى اقتضاء ، الجمع بين الأدلة له فيمكن الفرق بين الفعل والقول ، حيث إنّ الجمع بين الأدلة منوط بنهوض الدليل على جواز كل تصرف ، وهو في الفعل ثابت شرعا دون القول ، وذلك لأنّ الإباحة المعاطاتية ، إمّا لأجل الرضا الضمني ، وإمّا شرعية محضة مستندة إلى الإجماع ، والمتيقن منه هو المعاملة الفعلية.

وأمّا الأولى ـ أي الإباحة لأجل الرضا الضمني ـ فقد تعرّض لها المحقق الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته بما هذا لفظه : «فقد مرّ غير مرّة أنّ التسليط الخارجي حيث إنّه صادر عن الرضا ، فإثبات يد الغير عليه ـ عن الرّضا ـ له دلالة نوعية على الرّضا بكل تصرّف كان. بخلاف الإنشاء القولي الصادر عن الرّضا ، فإنّه يدلّ على أنّ التمليك مرضي به. ولم يحصل. والتسليط الواقع بعده لا دلالة له نوعا إلّا على الالتزام بالمعاملة القولية ،

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٨٥


.................................................................................................

__________________

لا عن الرضا به بخصوصه ، وحيث إنّه نوعا بعنوان الوفاء بما اعتقد تأثيره فلذا لا يجدي في استكشاف الرضا بالتصرفات.

وهذا هو الفارق بين المعاطاة والعقد الفاسد في إفادة الأولى للإباحة دون الثاني. وعليه فلا رضا ولو ضمنا في المعاملة القولية الفاقدة لما يشك في اعتباره حتى يكون على طبقه إباحة شرعية ، ليكون مقتضى الجمع بين الأدلة حصول الملك عند التصرف أو التلف» (١).

ومحصل ما أفاده قدس‌سره في الفرق بين المعاطاة وبين الإنشاء القولي الفاسد هو : أنّ التسليط الخارجي لمّا نشأ عن الرّضا بكلّ تصرف فله دلالة نوعية على الرّضا بكل تصرف ، فمقتضى الجمع بين الأدلة حينئذ هو الملكية عند التصرف أو التلف.

وهذا بخلاف الإنشاء القولي الفاسد ، فإنّه لا يدلّ إلّا على الرضا بالتمليك ، والمفروض عدم حصوله. وأمّا التسليط الواقع بعده فإنّه لمّا كان بعنوان الوفاء بما اعتقد تأثيره فلا يكشف عن الرضا بالتصرفات ، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى ، حيث إنّ التسليط الخارجي لمّا كان بعنوان التمليك وإنشاء له فالرّضا أيضا يكون بالتمليك ، لا بالتصرفات في ماله بعنوان أنّه ماله وهو مالكه ، فوزان المعاطاة وزان الإنشاء القولي في عدم الدلالة على الرّضا بالتصرفات.

وبالجملة : فمن ناحية الرّضا لا فرق بين القول والفعل. فالإنشاء القولي الفاسد لا يترتب عليه أثر أصلا حتى جواز التصرف ، بخلاف الفعل وهو المعاطاة ، فإنّه بناء على عدم تأثيره في الملكية يترتب عليه إباحة التصرف شرعا ، للإجماع والسيرة ، لا لأجل الرّضا الضمني فيه الموجود في كلّ من الإنشاء القولي الفاسد والمعاطاة وهي التقابض. فعدم كون الإنشاء القولي الفاسد معاطاة ليس لاعتبار وجود الرضا الضمني في المعاطاة الفعلية دون الإنشاء القولي الفاسد حتى يكون الفارق بينهما ذلك الرّضا ، بل الفارق بينهما

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٦٣


الأوّل : كفاية هذا الرضا المركوز في النفس ، بل (١) الرضا الشأني ، لأنّ (٢)

______________________________________________________

(١) يعني : يتوقف إدراج الوجه الرابع في المعاطاة على كفاية الرّضا الشأني الذي هو أخفى من الرّضا الارتكازي ، فإنّ الرّضا الارتكازي موجود بالفعل في النفس ، ولكن الشأني لا حظّ له من الوجود فعلا ، وإنّما هو بحيث لو التفت إلى ذات الشي‌ء المرضيّ لرضي به.

ففي المقام لو التفت المتعاقدان إلى بطلان العقد وفساده وعدم حصول النقل الملكي لرضي كلّ منهما بتصرف الآخر في ماله. وهذا الرضا الاقتضائي في قبال الرضا الفعلي ، وهو الرّضا بالتصرف اعتقادا بصحة العقد وكون الآخذ مالكا.

(٢) تعليل لتوقف إدخال الوجه الرابع في المعاطاة على كفاية الرّضا الشأني ،

__________________

هو وجود السيرة والإجماع على الإباحة في المعاطاة الفعلية ، دون الإنشاء القولي الفاسد. فالفرق بين العقد الفاسد وبين المعاطاة حكمي لا موضوعي.

فتلخص : أنّ الإنشاء القولي الفاسد لا أثر له أصلا ، والمقبوض به بمنزلة المغصوب في الحرمة والضمان.

نعم مع العلم بالتراضي يجوز لهما التصرف. لكنه ليس من المعاطاة المصطلحة التي هي عبارة عن إنشاء التمليك بالفعل. فما أفاده المحقق الثاني ومن تبعه من «كون الإنشاء القولي الفاسد معاطاة» لا يخلو من غموض.

وعليه فما عن الفقهاء قدس‌سرهم «من ضمان المقبوض بالعقد الفاسد وحرمة التصرف فيه» متين إن لم يكن تراض منهما بالتصرف ، وإلّا فلا بأس بالتصرف وعدم الضمان لكن من باب الإذن والرضا في ذلك ، لا من باب كونه معاطاة. فلا يمكن التوفيق بين كلام الفقهاء وبين ما عن المحقق الثاني ومن تبعه.

وحمل التراضي على تقابض جديد بعنوان المعاطاة خلاف ظاهر عبارة المحقق الثاني «كان معاطاة» لظهور رجوع ضمير «كان» في عبارته المزبورة إلى نفس ما أوقع وهو الإنشاء الملحون ، فنفس الإنشاء الملحون معاطاة.


الموجود بالفعل هو رضاه من حيث كونه مالكا في نظره. وقد صرّح بعض (١) من قارب عصرنا بكفاية ذلك. ولا يبعد رجوع الكلام المتقدم ذكره (٢) إلى هذا. ولعلّه يصدق طيب النفس (٣) على هذا الأمر المركوز في النفس (٤).

الثاني : أنّه لا يشترط في المعاطاة إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض (٥) بل ولا بمطلق الفعل ، بل يكفي وصول كلّ من العوضين الى المالك الآخر ، والرّضا بالتصرف قبله أو بعده على الوجه المذكور (٦).

______________________________________________________

وبيانه : أنّ الرضا بالتصرف ـ الموجود فعلا ـ لا ينفع من جهة الاعتقاد بصحة العقد ، فإن كان المدار على الرضا الفعلي لم يندرج الوجه الرابع في المعاطاة ، وإن كان على الرضا الشأني اندرج فيها.

(١) وهو صاحب المقابس قدس‌سره (١).

(٢) وهو كلام السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة ، المتقدّم مفاده في المتن بقوله : «كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر .. وعلم التراضي منهما كان معاطاة ..».

(٣) إشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه» (٢).

(٤) يمكن أن يستأنس من عدم المناقشة في كفاية الرّضا الشأني التزامه بها في المقام ، وهو إدراج الوجه الرابع في المعاطاة.

(٥) يعني : من الطرفين ، في قبال قوله : «ولا بمطلق الفعل» بأن يراد منه كفاية إعطاء أحدهما وأخذ الآخر في صدق المعاطاة.

(٦) لعلّ المراد بالوجه المذكور هو الوصول على وجه إنشاء الإباحة أو التمليك ، بأن لا يكون كفاية وصول العوض مجرّدا عن القصد ، إذ لا يتحقق به المعاطاة قطعا.

__________________

(١) : مقابس الأنوار ، ص ١٣٨

(٢) وسائل الشيعة ج ٣ ، ص ٤٢٤ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلّي ، الحديث : ١


وفيه (١) إشكال ، من (٢) أنّ ظاهر محلّ النزاع بين العامة والخاصة هو العقد الفعلي كما ينبئ عنه (٣) قول العلامة رحمه‌الله في ردّ كفاية المعاطاة في البيع : «إنّ الأفعال قاصرة عن إفادة المقاصد» (١). وكذا استدلال المحقق الثاني على عدم

______________________________________________________

(١) أي : وفي الأمر الثاني ـ وهو عدم اشتراط إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض حتى من طرف واحد ـ إشكال ، وسيذكر المصنف قدس‌سره وجهي الإشكال ، ثم يرجّح كفاية وصول العوضين بناء على القول بإفادة المعاطاة للإباحة ، لا الملك.

(٢) هذا أحد وجهي الإشكال على عدم اشتراط الإباحة أو التمليك بالقبض ، وتحقّقه بمجرد وصول كلّ من العوضين إلى مالك الآخر.

وحاصل هذا الوجه : أنّ محل النزاع بين العامة والخاصة في المعاطاة هو العقد الفعلي كما يدل عليه قول العلامة في ردّ كفاية المعاطاة في البيع : «أنّ الأفعال قاصرة عن إفادة المقاصد» وكذا استدلال المحقق الثاني على عدم لزومها «بعدم كون الأفعال كالأقوال في صراحة الدلالة». وكذا ما تقدّم من الشهيد رحمه‌الله في قواعده : «من أنّ الفعل في المعاطاة لا يقوم مقام القول ، وإنّما يفيد الإباحة ..» إلى غير ذلك من العبارات التي تظهر منها أنّ محلّ الكلام في المعاطاة هو الإنشاء الحاصل بالتقابض ، فالإنشاء المتحقق بغير ذلك خارج عن موضوع بحثهم في المعاطاة.

وكذا يظهر ذلك من كلمات العامة ، حيث إنّه ذكر بعضهم «أنّ البيع ينعقد بالإيجاب والقبول وبالتعاطي» فإنّ ظاهره هو التقابض.

وعليه فبعد بطلان هذا الأمر الثاني لا سبيل لإدراج الوجه الرابع في المعاطاة ، لعدم حصول التقابض بقصد الإنشاء ، والمفروض عدم كفاية مجرّد وصول العوضين إلى الطرفين.

(٣) أي : كما ينبئ قول العلّامة عن أنّ محل النزاع بين العامة والخاصة هو خصوص العقد الفعلي.

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢


لزومها «بأن الأفعال ليست كالأقوال في صراحة الدلالة» (١). وكذا ما تقدّم من الشهيد رحمه‌الله في قواعده من «أنّ الفعل في المعاطاة لا يقوم مقام القول ، وإنّما يفيد الإباحة» (٢). إلى غير ذلك من كلماتهم الظاهرة في أنّ محلّ الكلام هو الإنشاء الحاصل بالتقابض.

وكذا كلمات العامة (٣) ، فقد ذكر بعضهم : أنّ البيع ينعقد بالإيجاب والقبول وبالتعاطي (١).

ومن (٢) أنّ الظاهر أنّ عنوان التعاطي (*) في كلماتهم لمجرّد (٣)

______________________________________________________

(١) الظاهر في التقابض. وإرادة مطلق الفعل منه ـ ولو مجرّد وصول العوضين ـ محتاجة إلى القرينة.

(٢) معطوف على قوله قبل أسطر : «من أن ظاهر .. إلخ» وهذا ثاني وجهي الاشكال ، ومقصوده تصحيح المعاطاة بمجرّد وصول العوضين ، وعدم توقفها على القبض ولو من طرف واحد.

وحاصله : أنّ عنوان التعاطي لم يقع في حيّز دليل حتى يتبع ذلك بخصوصه. وعليه فاللازم حينئذ ملاحظة دليل صحة المعاطاة ، فإن اقتضى دليلها التعدّي عن التعاطي إلى كلّ فعل يدلّ على الرضا فلا بدّ من التعدّي إليه ، وإلّا فيقتصر على التعاطي ، فنقول : إنّ عمدة الدليل على صحة المعاطاة هي السيرة الموجودة في غير صورة التقابض أيضا ، لوجودها في أخذ الماء والبقل وغير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم ، فإنّ بناء الناس على أخذها ووضع الفلوس في الموضع المعدّ لها.

وبالجملة : فعلى هذا يكون المعيار في المعاطاة وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرف.

(٣) خبر قوله : «أن عنوان التعاطي».

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨

(٢) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ١٧٨ ، رقم القاعدة ٤٧ والعبارة منقولة بالمعنى.

(٣) تقدم نقل بعض كلماتهم في عدّ الأقوال في المعاطاة ، فراجع ج ١ ، ص ٣٢٩


الدلالة على الرّضا ، وأنّ عمدة الدليل على ذلك هي السيرة (١) ، ولذا (٢) تعدّوا إلى ما إذا لم يحصل إلّا قبض أحد العوضين (٣).

والسيرة موجودة في المقام (٤) ، فإنّ بناء الناس على أخذ الماء والبقل وغير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم ، ووضعهم الفلوس في الموضع المعدّ له ، وعلى (٥) دخول الحمام مع عدم حضور صاحبه ، ووضع الفلوس في كوز الحمّامي.

فالمعيار (٦) في المعاطاة وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرف. وهذا (٧) ليس ببعيد

______________________________________________________

(١) قد تكرّرت السيرة في كلمات الأصحاب ، واستدلّ بها المصنف على مدّعاه من إفادة الملك بقوله : «للسيرة المستمرة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك» (١).

(٢) يعني : ولأجل كون التعاطي لمجرّد الدلالة على الرّضا ـ وعدم خصوصية للتعاطي ـ تعدّوا .. إلخ.

(٣) يعني : حصل إنشاء المعاملة بقبض أحد العوضين ، وكان قبض العوض الآخر بعنوان الوفاء.

(٤) أي : في وصول العوضين ـ بدون التعاطي ـ مع الرضا بالتصرف.

(٥) معطوف على «أخذ الماء» يعني : أنّ بناء الناس على دخول الحمّام مع .. إلخ.

(٦) هذه نتيجة عدم دخل خصوصية التقابض في حصول المعاطاة.

وعليه تمّ إلى هنا إدراج الوجه الرابع في المعاطاة ، لكنّه مقيّد بالمعاطاة المبيحة لا المملّكة. وبهذه العبارة قد وفى المصنف قدس‌سره بما وعده في التنبيه الثاني ـ في حكم انعقاد المعاطاة بمجرّد إيصال المثمن وأخذ المثمن ـ بقوله : «وسيأتي توضيح ذلك في مقامه إن شاء الله تعالى».

(٧) يعني : وحصول المعاطاة بوصول المالين أو أحدهما ـ مع التراضي بالتصرف ـ ليس ببعيد على القول بالإباحة.

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٣٧١


على القول بالإباحة (١) (*).

______________________________________________________

(١) لعلّ وجه هذه التقييد هو : أنّ دليل هذه المعاطاة ـ وهو السيرة ـ لا يساعد على أكثر من القول بالإباحة ، ولا يساعد على القول بالملك.

هذا آخر ما أردنا إيراده من توضيح كلام المصنف قدس‌سره في المعاطاة ، ونرجو من فضله تعالى شأنه أن يمنّ علينا بالقبول ، وأن ينفع به إخواننا المتّقين من أهل العلم والفضل ، زاد الله تعالى في تأييداتهم.

__________________

(*) لا ينبغي الإشكال في حصول الإباحة بذلك ، وعدم توقفها على التقابض. لكن ترتيب آثار المعاطاة عليها مشكل جدّا ، فلا يلزم بما تلزم به المعاطاة ، بل ليس ذلك إلّا إباحة مالكية منوطة بطيب النفس.

وبالجملة : لا يكون ما أفاده المصنف قدس‌سره من الصورة الرابعة ـ وإناطة كونها من المعاطاة بتسليم أمرين ـ ممّا يمكن المساعدة عليه.

إذ في أوّلهما : عدم كون طيب النفس الإنشائي في المعاملات ـ التي منها المعاطاة ـ كافيا في صحتها ، وإن كان ذلك كافيا في جواز التصرفات الخارجية.

وفي ثانيهما : أنّ المتيقن من السيرة ـ التي هي عمدة الدليل على الإباحة المعاطاتية ـ هو التقابض الذي هو المعاطاة المتداولة بين الناس ، والأمثلة المزبورة ليست من المعاطاة ، بل من الإباحة المالكية المتقومة بطيب النفس.

مضافا إلى : أنّ تصحيح هذه الصورة بالسيرة مناف لما تقدّم من الاستدلال بالسيرة على مملّكية المعاطاة ، كمنافاته للخدشة فيها بكونها ناشئة من قلّة المبالاة بالدين.

ووجه المنافاة إنّ السيرة على إنشاء المعاملة بالتقابض إمّا أن تكون مع قصد التمليك أو الإباحة ، ولا تعدّد في عمل العقلاء والمتشرعة حتى يعتمد عليه تارة في إفادة الملك ، وأخرى في الإباحة. ثم لو فرض رمي السيرة بقلة المبالاة لم تكن دليلا على شي‌ء من الملك والإباحة كما لا يخفى ، فتأمّل في كلمات المصنف لعلّك تجد للجمع بينها سبيلا


مقدمة (١)

______________________________________________________

مقدمة في ألفاظ عقد البيع

(١) قد تعرّض المصنف قدس‌سره في هذه المقدمة لمقصدين.

أحدهما : البحث في اعتبار أصل اللفظ في البيع.

والثاني : في اعتبار الخصوصيات الملحوظة في اللفظ بعد اعتبار أصله.

وقد تضمّن المقصد الأوّل لأمور :

أحدها : أن اعتبار اللفظ في البيع ، بل في جميع العقود اللازمة ممّا نقل عليه الإجماع ، فأصالة اللزوم في الملك وإن اقتضت ترتب ملك لازم على المعاطاة المقصود بها الملك ، إلّا أنّ الإجماع المزبور أوجب الخروج عن عموم أصالة اللزوم ، وأنّ المفيد للملك اللّازم هو الإيجاب والقبول اللّفظيّان ، فالمعاطاة تفيد الملك الجائز ، ويتوقف لزومها على طروء الملزم.

ثانيها : أن القدر المتيقن من الإجماع المتقدم هو صورة قدرة المتبايعين على الإنشاء القولي ، لكونه دليلا لبّيّا. وأما العاجز عن مباشرة اللفظ كالأخرس فلا خلاف ولا إشكال في قيام الإشارة فيه مقام اللفظ ، سواء تمكّن من التوكيل أم لا.

هذا إذا قلنا بأنّ معاطاة الأخرس كمعاطاة المتكلم تفيد ملكا جائزا. وأما بناء على الفرق بينهما ، وأن الإنشاء الفعلي من الأخرس كالإنشاء القولي من غيره فلا يتوقف


في خصوص (١) ألفاظ عقد البيع.

قد عرفت (٢) أنّ اعتبار اللفظ في البيع ـ بل في جميع العقود ـ ممّا نقل عليه الإجماع (٣) ، وتحقّق فيه الشهرة العظيمة (٤) ، مع الإشارة إليه في بعض

______________________________________________________

لزوم بيعه على الإشارة والكتابة أصلا ، وذلك لأنّ المتيقن من الإجماع على اعتبار اللّفظ في اللزوم هو القادر عليه ، فتكون معاطاته جائزة ، وأمّا العاجز عن اللفظ فيبقى تحت عموم أصالة اللزوم. وسيأتي مزيد توضيح للفرق بين معاطاة الأخرس وغيره.

ثالثها : أنّ الظاهر كفاية الكتابة مع العجز عن الإشارة. وأمّا مع التمكن منها فقد ترجّح الإشارة ، لكونها أظهر في الإنشاء ، هذا إجمال ما أفاده المصنف في المقصد الأوّل.

(١) يعني : الخصوصيات الدخيلة في ألفاظ عقد البيع ، في قبال الإكتفاء بمطلق اللفظ فيه.

(٢) يعني : في أدلة اللزوم. ثم إنّ هذا شروع في المقصد الأوّل.

(٣) حيث قال بعد الفراغ من أدلة اللزوم : «وعن جامع المقاصد : يعتبر اللفظ في العقود اللازمة بالإجماع» ولم أظفر على تصريحه بالإجماع ، وإن تكرّر منه قوله : «العقود اللازمة تتوقف على اللفظ» فقال ـ في اعتبار الماضوية والموالاة والإعراب والبناء في عقد البيع ـ ما لفظه : «وكذا كل عقد لازم ، لأنّ الناقل هو الألفاظ المخصوصة ، وغيرها لم يدلّ عليه دليل» (١).

وقريب منه كلامه في الإجارة والهبة والنكاح ، فراجع. ولعلّه استفيد الإجماع من إرسال الحكم إرسال المسلّمات.

(٤) كما في المسالك ـ في شرح ما أفاده المحقق قدس‌سره من عدم كفاية التقابض في حصول الملك ـ حيث قال : «هذا هو المشهور بين الأصحاب ، بل كاد يكون إجماعا» (٢) ونحوه عبارته في شرح اللمعة.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٦٠

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٧ ، الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٢


النصوص (١). لكن هذا (٢) يختص بصورة القدرة.

أمّا مع العجز عنه كالأخرس ، فمع عدم القدرة على التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ ، وقيام الإشارة مقامه (٣).

______________________________________________________

(١) كقوله عليه‌السلام : «إنّما يحلل الكلام ويحرم الكلام» وقال المصنف قدس‌سره في ذيله : «وكيف كان فلا تخلو الرواية عن إشعار أو ظهور» ثم ذكر روايات أخر مشعرة باعتبار اللفظ في عقد البيع (١).

(٢) يعني : أنّ اعتبار اللفظ في العقود مختصّ بحال القدرة. قال المحقق الأردبيلي قدس‌سره : «إنّما يشترط أي اللفظ المعتبر مع الإمكان ، ومع التعذّر يقوم مقامه الإشارة كما في الأخرس ومن بلسانه آفة ، فإنّها بمنزلة تكلمه» (٢).

وفي الروضة : «وتكفي الإشارة الدالّة على الرّضا على الوجه المعيّن مع العجز عن النطق لخرس وغيره ، ولا تكفي مع القدرة» (٣).

وفي مفتاح الكرامة : «قد طفحت عباراتهم بأنّ العاجز عن النطق لمرض وشبهه كالأخرس» (٤).

وكيف كان فالظاهر عدم اختصاص الحكم بالأخرس ، بل موضوع المسألة هو العاجز عن النطق وإن لم يكن أخرس.

وقال في الجواهر : «ودعوى اختصاص ذلك في خصوص الأخرس كما ترى ، ضرورة عدم الفرق بين الجميع ، كما لا يخفى على من أحاط خبرا بمدرك المسألة» (٥).

(٣) لأنّ الإشارة حينئذ ـ كالقول من القادر على التلفظ ـ عهد مؤكّد ، فيشمله

__________________

(١) : تقدم ذكرها في ج ١ ، ص ٥٧٤ و٥٧٦ و٦٠٧ و٦٠٨

(٢) مجمع الفائد والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٤ ، ذكر هذا الكلام في شرح قول العلامة : «ولو تعذر النطق كفت الإشارة».

(٣) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥

(٤) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٣

(٥) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥١


وكذا (١) مع القدرة على التوكيل. لا لأصالة عدم وجوبه (٢) ـ كما قيل (٣) ـ

______________________________________________________

قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) توضيحه : أنّ الصادر من القادر على التلفظ قد يكون عهدا غير مؤكّد ، وقد يكون مؤكّدا وهو المسمّى بالعقد ، فللقادر على التكلم سنخان من العهد. وكذلك يتصور هذان السنخان بالنسبة إلى العاجز عن النطق كالأخرس ، فإنّ له أيضا سنخين من العهد بلحاظ قوّة الدلالة على العهد وضعفها ، فإنّ للإشارة منه ـ كاللفظ من غيره ـ دلالة قويّة على العهد.

ولا مجال لتوهم لزوم تحريك لسانه هنا كلزومه في باب القراءة. وذلك لأنّ المطلوب هناك هو القراءة ، وتحريك لسانه بما يناسبها هو المقدار المقدور عليه منها. بخلاف المقام ، فإنّ المطلوب فيه هو الدلالة على تأكّد العهد ، والإشارة من العاجز عن التكلم دالّة عليه ، فلا حاجة إلى تحريك اللسان.

هذا كله مضافا إلى : إطلاق ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود. والمتيقن من الخارج هو القادر على التلفظ مباشرة ، فإنّه يجب عليه الإنشاء اللفظي. وأمّا إذا كان عاجزا عن التكلم مباشرة ـ وإن كان قادرا عليه تسبيبا بالتوكيل ـ فلا يشمله الإجماع ، فمقتضى الإطلاق الإكتفاء بالإشارة ، وعدم توقف صحته على التوكيل.

(١) معطوف على «فمع عدم القدرة على التوكيل».

(٢) ولا لقوله عليه‌السلام : «كلّما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر» لقصوره عن نفي وجوب التوكيل.

(٣) لعلّ القائل المحقق الثاني قدس‌سره فإنّه قال : «يجوز لمن لا يعلم الإيقاع بمقدوره ، ولا يجب التوكيل للأصل. نعم يجب التعلم إن أمكن من غير مشقة عرفا» (١) فاستند قدس‌سره في نفي وجوب التوكيل إلى أصالة عدم وجوبه.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٦٠


لأنّ (١) الوجوب بمعنى الاشتراط ـ كما فيما نحن فيه ـ هو الأصل (*).

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا لأصالة» وغرضه منع جريان أصالة عدم وجوب التوكيل ، بتقريب : أنّ مقتضى الأصل عدم سببية ما شكّ في سببيّته ، من جهة احتمال اشتراطه بشرط مفقود ، فلا يحكم بتحقق المسبب كالملكية إلّا بعد وجود جميع ما يحتمل دخله في سببية السبب.

وبعبارة أخرى : أصالة عدم وجوب التوكيل لا مجرى لها في المقام ، سواء أريد بها الاستصحاب أي أصالة عدم الجعل ، أم أريد بها أصالة البراءة.

وجه عدم الجريان : أنّ المشكوك فيه ليس هو الوجوب التكليفي ـ كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ حتّى يدفع بأصالة عدم وجوبه ، بل هو الوجوب الوضعي بمعنى اشتراط صحة بيع الأخرس ـ وسائر معاملاته ـ بالتوكيل عند قدرته عليه ، ومن المعلوم أنّ أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات تقتضي الاشتراط ، إذ بدون التوكيل يشك في تأثير إشارة الأخرس في مقام الإنشاء ، فتأمّل.

__________________

(*) كون الأصل هو الاشتراط مبنيّ على عدم عموم أو إطلاق في أدلة المعاملات ، وإلّا فأصالة العموم تنفي الشرطية. ولعلّ مراد القائل بجريان أصالة عدم الوجوب ذلك ، فليس مراده الأصل العملي ، ومعها لا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وهو أصل عدم السببية أو عدم ترتب الأثر الذي هو المحكّم في المعاملات.

ثم إنّه قد يتوهم : أنّ وجه عدم جريان أصالة عدم الاشتراط هو عدم جريان أصالة البراءة في الأحكام الوضعية ، ولذا دفعه المحقق الإيرواني قدس‌سره بجريانها فيها ، مستدلّا على ذلك باستدلال الامام عليه‌السلام بحديث الرفع على بطلان طلاق المكره وعتاقه ، (١) ، فلاحظ.

لكن الإنصاف أنّه ليس وجه عدم جريان أصالة عدم الوجوب ذلك ، بل ما أفاده المصنف من فحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس ، ومن المعلوم أنّه

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٩


بل (١) لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس ، فإنّ حمله (٢) على صورة عجزه عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر.

______________________________________________________

(١) معطوف على «لا لأصالة» وغرضه إقامة الدليل على أنّ العاجز عن النطق لا يجب عليه التوكيل حتى تنشأ المعاملة بالإيجاب والقبول اللفظيين.

ومحصل الاستدلال هو : استفادة جواز البيع ـ بالإشارة ـ بالأولوية من حكم الشارع بصحة طلاق الأخرس بالإشارة المفهمة للمقصود ، ففي معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها ، ويضعها على رأسها ، ثم يعتزلها» (١).

ونحوها مرسلة السكوني (٢).

وتقريب الدلالة : أنّ إطلاقهما يشمل صورة التمكن من التوكيل. وحمل هذا الإطلاق على صورة العجز عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر ، فلا يجوز.

وتعبير المصنف قدس‌سره بالفحوى إنّما هو لأجل اهتمام الشارع في الأعراض أشدّ من اهتمامه في الأموال ، فإذا كان اعتبار التلفظ بالطلاق ـ عند العجز عنه ـ ساقطا حتّى مع التمكن من التوكيل ، فسقوطه في المعاملات المالية التي ليست كالفروج في الأهمية بالأولوية.

(٢) أي : حمل ما ورد في طلاق الأخرس على صورة العجز حمل للمطلق على الفرد النادر ، وهو في عدم الجواز كتخصيص العام بأكثر أفراده.

__________________

مع الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

كما أنّه لا تصل النوبة ، إلى أصالة الفساد المحكمة في المعاملات ، بعد وجود الدليل الاجتهادي على عدم اعتبار التوكيل الحاكم على أصالة الفساد.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٠١ ، الباب ١٩ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، الحديث : ٥

(٢) المصدر ، ص ٣٠٠ ، الحديث : ٣


مع (١) أنّ الظاهر عدم الخلاف في عدم الوجوب (٢).

ثمّ (٣) لو قلنا بأنّ الأصل في المعاطاة اللزوم ـ بعد القول بإفادتها للملكية ـ

______________________________________________________

(١) إشارة إلى دليل آخر على عدم وجوب التوكيل على العاجز عن التكلم ، وحاصله : أنّ الظاهر نفي الخلاف عن عدم وجوب التوكيل ، ففي مفتاح الكرامة : «ولم ينصّ أحد على وجوب التوكيل في الأخرس ، ولا احتاط به» (١).

(٢) أي : وجوب التوكيل.

(٣) يعني : أنّ العاجز عن مباشرة اللفظ كالأخرس تكون معاطاته لازمة وإن كانت معاطاة المتكلم جائزة. وغرضه قدس‌سره من هذه الجملة التنبيه على أمرين :

الأوّل : الاستدراك على ما أفاده بقوله : «أما مع العجز عنه كالأخرس وقيام الإشارة مقامه ..» حيث إنّ ظاهره توقف لزوم عقد الأخرس على ما يقوم مقام اللفظ من إشارة مفهمة ثم كتابة ، فلا يكفي مجرّد التقابض في لزوم بيعه ، كما لا يكفي من القادر على اللفظ.

ومحصّل الاستدراك : أنّ اعتبار الإشارة في معاملة الأخرس مبنيّ على إفادة المعاطاة للملك الجائز ، فيقال : كما أنّ للقادر على اللفظ نحوين من الإنشاء ، أحدهما لفظي لازم ، والآخر فعلي جائز ، فكذا الأخرس. فإن اقتصر على التقابض كان كمعاطاة المتكلّم مفيدا للملك الجائز. وإن ضمّ الإشارة إلى التقابض كان إنشاؤه مفيدا للملك اللازم.

وأمّا بناء على ما هو الحق من عموم أصالة اللزوم ـ وأنّ الخارج عنها بالإجماع خصوص معاطاة المتمكّن من اللّفظ ـ كانت معاطاة العاجز عنه باقية تحت عموم أصالة اللزوم.

وعلى هذا لا يجب على الأخرس إفهام مقصوده بالإشارة ، ثم بالكتابة ، بل يكفيه التعاطي بقصد البيع. وذلك لما عرفت من أنّ الإجماع على اعتبار اللفظ في

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٤


.................................................................................................

______________________________________________________

العقود اللازمة دليل لبيّ ، ولم يعلم قيامه على خروج كل عقد فعلي عن عموم أصالة اللزوم ، أو على خروج إنشاء خصوص القادر على اللفظ. وقد تقرّر في الأصول مرجعيّة أصالة العموم ـ عند دوران المخصّص المنفصل المجمل المردّد بين الأقل والأكثر ـ في ما عدا المتيقن من المخصص. فيحكم بالفرق بين معاطاة القادر على التلفظ والعاجز عنه ، بالجواز في الأوّل واللزوم في الثاني.

ونتيجته : أنّه لا يتوقف لزوم عقد الأخرس على الإشارة القائمة مقام اللفظ ، بل كما تصحّ إشارته تصح معاطاته ، وتفيد ملكا لازما.

الثاني : أنّ ظاهر المتن وجود سنخين من الإنشاء في العاجز عن التكلم ، فتارة يأتي بالإشارة المفهمة للمقصود ، فتقوم مقام اللفظ بالنسبة إلى القادر عليه. وأخرى يقتصر على مجرّد الإعطاء والأخذ بقصد التمليك والتملك ، فيكون كالتقابض من المتكلم. ولكن معاطاة القادر على التلفظ والعاجز عنه مختلفان حكما ، فهي من المتكلم جائزة ، ومن العاجز عنه لازمة.

وحيث كانت الإشارة والمعاطاة متمشّية من مثل الأخرس ـ وإن لم يكن بينهما فرق في الحكم ـ توقّف إحراز أحدهما على القرينة المعيّنة.

وهذا المطلب قد أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره أيضا بقوله : «نعم يعتبر وجود القرينة الدالة على إرادة العقد بها ـ أي بالإشارة ـ أو المعاطاة. وبها يحصل الفرق بين المعاطاة والعقد في العاجز» (١).

ولكنه في جملة أخرى من كلامه استفاد من إطلاق كلام الفقهاء ـ من قيام إشارة الأخرس مقام الصيغة ـ أنّهم قائلون بعدم كون المعاطاة بيعا ، قال قدس‌سره : «ولكن قد سمعت سابقا إطلاق الأصحاب قيام الإشارة مقام العقد من غير إشارة إلى بيع المعاطاة. وفيه إشارة إلى عدم كونها بيعا» (٢).

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥١

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٢


فالقدر المخرج (١) صورة قدرة المتبايعين على مباشرة اللفظ.

والظاهر أيضا كفاية الكتابة (٢) مع العجز عن الإشارة ، لفحوى ما ورد

______________________________________________________

وظاهر هذا الكلام أنّ الشارع أقام إشارة الأخرس مقام اللفظ ، وليس له إنشاء آخر بالتقابض ليكون قسيما للإشارة ، بل كل ما عدا اللفظ مشمول لعنوان «الإشارة».

وعلى هذا يشكل ما في المتن من تصوير نحوين من الإنشاء في حقّ الأخرس كالقادر على التلفظ.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بأنّه لا وجه لإنكار المعاطاة من الأخرس ، للفرق بين الإشارة والتقابض. ويمكن توجيه كلام الفقهاء ـ الذي استفيد منه إنكارهم لبيعية معاطاة الأخرس ـ بأحد أمرين :

الأوّل : أنّه مبني على مرامهم من كون المعاطاة إباحة تعبدية لا بيعا. وأمّا بناء على بيعيّتها ـ كما حققناها مفصّلا ـ فلا وجه لاختصاص المعاطاة بالقادر على التكلم بل يمكن صدورها من الأخرس أيضا.

الثاني : أنّهم قدس‌سرهم بصدد بيان ما يقوم مقام الصيغة المعتبرة من المتكلم ، فقالوا بقيام إشارة الأخرس مقامها. وأمّا إنشاء المعاملة بالمعاطاة فلا يختلف فيه القادر على اللفظ والعاجز عنه حتى يحتاج إلى تصريح. وأمّا ترتب الإباحة أو الملك الجائز أو اللازم على المعاطاة فهو أجنبي عن أصل تحقق الموضوع. وقد عرفت أنّ المصنف حكم بلزوم الملك في معاطاة الأخرس تمسكا بأصالة اللزوم. هذا.

(١) يعني : أنّ القدر الخارج ـ بالإجماع ـ عن عموم أصالة اللزوم هو معاطاة القادر على التكلم ، فهي جائزة ، وأما معاطاة الأخرس فباقية تحت العموم.

(٢) هذا إشارة إلى أمر آخر يقوم مقام اللّفظ ـ بالنسبة إلى العاجز عن التكلم ـ وهو الكتابة ، ولكنّها متأخرة رتبة عن الإشارة. فلا تصل النوبة إلى الإنشاء بالكتابة مع تمكّنه من الإشارة المفهمة لمقصوده. واستدلّ المصنف قدس‌سره على صحّة إنشاء البيع


من النص (١) على جوازها في الطلاق.

مع (٢) أنّ الظاهر عدم الخلاف فيه.

وأمّا مع القدرة على الإشارة فقد رجّح بعض (٣) الإشارة.

______________________________________________________

بالكتابة بوجهين ، أحدهما : فحوى جواز إنشاء الطلاق بها ، ثانيهما : الإجماع.

(١) كخبر يونس : «في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته. قال : إذا فعل في قبل الطهر بشهود ، وفهم منه كما يفهم من مثله ، ويريد الطلاق جاز طلاقه على السنة» (١).

وقريب منه غيره ، فإنّ الإكتفاء بالكتابة في الطلاق ـ مع شدّة اهتمام الشارع بحفظ الفروج ـ يدلّ بالأولوية على كفاية الكتابة في المعاملات المالية.

(٢) يعني : لو فرض عدم وفاء النصّ الوارد في طلاق الأخرس بالكتابة ـ بإثبات جواز إنشاء البيع ـ لم يقدح في الالتزام بجواز إنشاء البيع بالكتابة ، وذلك لتسالم الأصحاب على كفايتها ، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم ، قال السيد الفقيه العاملي قدس‌سره : «وأما الكتابة فكالإشارة كما في التحرير وغيره» (٢).

(٣) قال الشهيد قدس‌سره في شرائط صيغة البيع : «ولا ـ أي ولا تكفي ـ الكتابة حاضرا كان أو غائبا. ويكفي لو تعذّر النطق مع الإشارة» (٣) أي الإشارة المفهمة كما صرّح بها في إشارة الأخرس. ونحوه كلام العلّامة في النهاية (٤).

ويظهر أيضا من كاشف الغطاء على ما في الجواهر : «فما في شرح الأستاد من أنّ الكتابة قاصرة عن الإشارة لا يخلو من نظر» (٥).

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٠٠ ، الباب ١٩ من أبواب مقدمات الطلاق ، الحديث : ٤

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٣

(٣) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩٢

(٤) نهاية الاحكام ، ج ٢ ، ص

(٥) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥١


ولعلّه (١) لأنّها أصرح في الإنشاء من الكتابة.

وفي بعض روايات الطلاق (٢) ما يدلّ على العكس (٣) ، وإليه ذهب الحلي رحمه‌الله هناك (٤) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : ولعلّ وجه الترجيح هو كون الإشارة أصرح في الإنشاء من الكتابة ، حيث إنّ الكتابة لا تفيد الإنشاء إلّا بقرينة ، فإنّ الإنسان غالبا يكتب شيئا لغرض آخر غير الإنشاء كامتحان المداد والقلم ، أو حكاية كلام شخص سمعه ، أو غير ذلك ، فلا ظهور للكتابة في الإنشاء.

(٢) كصحيح ابن أبي نصر البزنطي : «قال : سألت الرّضا عليه‌السلام عن رجل تكون عنده المرأة يصمت ولا يتكلّم ، قال : أخرس هو؟ قلت : نعم ، ويعلم منه بغض لامرأته وكراهة لها ، أيجوز أن يطلّق عنه وليّه؟ قال : لا ، ولكن يكتب ويشهد على ذلك.

قلت : فإنّه لا يكتب ولا يسمع كيف يطلّقها؟ قال : بالذي يعرف به من فعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها» (١).

(٣) حيث إنّه قدّم في رواية ابن أبي نصر الكتابة ، ولو كانت متأخرة عن الإشارة كان اللازم تقديم الإشارة على الكتابة.

(٤) أي : في كتاب الطلاق ، حيث قال : «ومن لم يتمكّن من الكلام ـ مثل أن يكون أخرس ـ فليكتب الطلاق بيده إن كان ممّن يحسن الكتابة ، فإن لم يحسن فليؤم إلى الطلاق كما يومي إلى بعض ما يحتاج إليه ، فمتى فهم من إيمائه ذلك وقع طلاقه» (٢).

__________________

(*) ينبغي قبل تحقيق كلام المصنف قدس‌سره ، بيان مقدمة ، وهي : أنّ الاعتبارات النفسانية ـ العقدية أو الإيقاعية ـ تتصور ثبوتا على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تكون مع الغض عن إبرازها بمبرز ـ قولي أو فعلي ـ موضوعا لآثار شرعية ، كإنكار النّبوّة أو ضروري من ضروريات الدّين ، أو الاعتقاد بشريك له تعالى ، فإنّ

__________________

(١) : وسائل الشيعة ج ١٥ ، ص ٣٠٠ ، الباب ١١ من أبواب مقدمات الطلاق ، الحديث : ١

(٢) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٦٧٨


.................................................................................................

______________________________________________________

لكن يظهر من جماعة منهم ابن زهرة والمحقق الأردبيلي والشهيد الثاني وغيرهم قدس‌سرهم عدم الترتيب بين الإشارة والكتابة ، وأنّهما في رتبة واحدة ، بل كلّ ما يفهم منه الطلاق يجوز إنشاؤه به ، ويظهر ذلك أيضا من صاحب الجواهر ، حملا لما في حسنة البزنطي ـ من ذكر الكتابة ـ على كونها أحد أفراد ما يقع به الطلاق (١) ، فلا تدلّ الحسنة على تعيّن تقديم الكتابة على الإشارة ، فلاحظ.

__________________

مجرّد الإنكار النفساني ـ ولو بدون إبرازه بفعل أو قول ـ يوجب الارتداد الذي هو موضوع لأحكام شرعية.

وكالتوبة ، حيث إنّ حقيقتها الندم القلبي والعزم على ترك المعاصي من دون اعتبار إبرازها بمبرز قولي وإن كان أحوط.

وكالعهد ـ على احتمال ضعيف ـ فإنّه قد احتمل بعض كفاية النيّة في ترتيب آثار العهد عليها. لكنّه في غاية الضعف كما ثبت في محله.

ثانيها : أن تكون موضوعيّتها للآثار الشرعية منوطة بإبرازها سواء أكان مبرزها قولا أم فعلا ، كما في جملة من العقود والإيقاعات كالوكالة والإجارة والهبة والرّهن والقرض والبيع وغيرها.

ثالثها : أن تكون موضوعيتها للآثار الشرعية منوطة بإبرازها بمبرز خاصّ كالطلاق والنذر والنكاح ، فإنّ مبرزها لا بدّ أن يكون قولا بنحو خاص. وكالإسلام ، فإنّ إبرازه بالشهادتين موضوع للآثار الشرعية.

وربما تكون أكثر الملكات كذلك ، فإنّ ملكة العدالة أو الاجتهاد مثلا لا يترتب عليها الأثر الشرعي إلّا إذا أبرزت. وكذلك الملكات الرذيلة ، فإنّ الحسد مثلا وإن كان بنفسه مذموما ، لكن موضوعيته للحرمة منوطة بالإبراز ، كما يدلّ عليه حديث الرفع ،

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ٦١


.................................................................................................

__________________

فيكون المبرز جهة تقييديّة.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فاعلم : أنّ الكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في ما يقتضيه الدليل الاجتهادي من اعتبار المبرز وعدمه.

والثاني : في ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في اعتبار أصل المبرز ، أو في اعتبار مبرز خاص.

أمّا المقام الأوّل فإشباع الكلام فيه منوط بتتبع تامّ في أدلة تشريع الأحكام للاعتبارات النفسانية في كلّ مقام ، فإن ثبت بتلك الأدلة أنّ الموضوع ذلك الاعتبار النفساني من حيث هو وإن لم يبرز بمبرز فلا كلام. وإن ثبت بها أنّ الموضوع ذلك الاعتبار النفساني أو الصفة النفسانية بوصف الإبراز ـ بحيث يكون الإبراز جهة تقييديّة ـ فإن دلّت تلك الأدلة على إطلاق المبرز ، وأنّه لا فرق فيه بين كونه قولا وفعلا ، أو دلّت على دخل مبرز خاصّ من قول متخصّص بخصوصيات مادية وهيئيّة كصيغتي الطلاق والنكاح ـ على المشهور ـ فلا إشكال في ذلك.

وأمّا المقام الثاني فمحصل الكلام فيه : أنّ الشك في اعتبار المبرز يتصور على وجهين :

الأوّل : أن يكون الشك في اعتبار أصل المبرز ، كما إذا شك في أنّه هل يعتبر في ترتيب آثار العدالة ـ بناء على كونها ملكة ـ وجود مبرز أم لا.

الثاني : أن يكون الشك في اعتبار مبرز خاص بعد دلالة الدليل على اعتبار أصل المبرز ، كما إذا دل الدليل على اعتبار إبراز البيع مثلا بالقول ، ثم شكّ في اعتبار كيفيّة خاصة فيه كالماضوية والعربية ، أو دلّ على اعتبار القول مطلقا وشكّ في تحققه بالفعل أيضا.

أمّا الوجه الأوّل فملخّص الكلام فيه : أنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في جعل الحكم الشرعي ، فيرجع فيه إلى أصالة البراءة ، لكونه من الشبهة الحكمية الناشئة من فقد


.................................................................................................

__________________

الدليل ، فإذا شككنا في جعل ملكة العدالة ـ بوجودها الواقعي أو بوجودها العلمي ـ موضوعا لأحكام تجري البراءة في تلك الأحكام إن كانت إلزاميّة ، وأصالة العدم إن كانت غير إلزامية كما لا يخفى.

وأمّا الوجه الثاني فمحصل البحث فيه : أنّه إن كان الشّك في اعتبار كيفية خاصة ـ كالماضوية مثلا ـ فمع إطلاق دليل صحة ذلك الأمر الاعتباري كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و «الصلح جائز بين المسلمين» وغير ذلك ، فلا إشكال في الرجوع إلى ذلك الإطلاق المقتضي لنفي اعتبار الكيفية الخاصة ، وعدم دخلها في موضوعية ذلك الاعتبار النفساني ، فيحكم بجواز إبرازه بالقول مطلقا وإن لم يكن بهيئة الماضي مثلا.

ومع عدم إطلاق دليل صحة ذلك الاعتبار يحكم بعدم دخل كيفية خاصة في ترتب الأثر الشرعي ، لأصالة البراءة أو أصالة العدم. وإن كان الشك في موضوعية ذلك الاعتبار إذا أبرز بغير ما دلّ الدليل على مبرزيّته كما إذا دلّ دليل ـ من إجماع أو غيره ـ على اعتبار إنشاء البيع بالقول ، وشككنا في أنّه إذا أنشئ بالفعل ـ من إشارة أو غيرها ـ فهل يترتب عليه ما يترتّب على إنشائه بالقول من الآثار الشرعية أم لا؟ فهذا يتصور على وجهين :

أحدهما : أن يكون الشك في اعتبار خصوص القول تعبّدا مع كون الفعل مصداقا لذلك الاعتبار كالبيع مثلا ، بحيث يكون صدق البيع عرفا على المنشأ بالفعل كصدقه كذلك على المنشأ بالقول.

والآخر : أن يكون الشك في صدق العنوان الاعتباري على الفعل ، كما إذا شكّ في صدق البيع على التمليك المنشأ بالفعل. وهذا أحد المسلكين في عدم إفادة المعاطاة اللزوم ، حيث إنّه قيل بعدم كون الفعل مصداقا لعنوان من عناوين العقود ، فيكون قاصرا عن إفادة التمليك فضلا عن اللزوم ، ولذا ذهبوا إلى إفادتها الإباحة.

والمسلك الآخر هو : إفادة المعاطاة للإباحة ، لا لعدم مصداقيّتها للبيع ، بل للإجماع


.................................................................................................

__________________

المدّعى على اعتبار اللفظ في اللزوم ، مع صدق العقد عليها على حدّ صدقه على القول ، وإفادتها الإلزام والالتزام كإفادة اللفظ.

فإن كان الشك على الوجه الثاني ـ وهو الشك في صدق عنوان العقد ـ فيرجع الشك إلى وجود سبب الانتقال ، ومن المعلوم أنّ قضيّة الاستصحاب عدم الانتقال ، وبقاء المالين على ملك مالكيهما. والمراد بأصالة الفساد هو هذا الاستصحاب.

وإن كان الشك على الوجه الأوّل ـ وهو دخل مبرز خاص تعبّدا كالقول على وجه مخصوص في ترتّب الأثر الشرعي على الاعتبار النفساني ، مع فرض صدق العقد على الفعل ـ فالأصل يقتضي عدم الاعتبار ، لأن دخل المبرز الخاص إنّما يكون بالتعبّد ، فالشكّ فيه شكّ في الجعل الشرعي ، ومقتضى الأصل عدمه. فإنشاء الأمر الاعتباري بالفعل كإنشائه بالقول ممّا يترتب عليه الأثر الشرعي ، لأنّ الشك في ترتب الأثر الشرعي عليه نشأ من احتمال دخل مبرز خاصّ فيه تعبّدا ، وقد نفي ذلك بالأصل. وقد حقّق في محلّه جريان أصل البراءة في الوضعيات كجريانه في التكليفيّات.

فلا يصغى إلى ما قيل من : «أنّ الأصل في المقام يقتضي عدم ترتّب الأثر ، لأنّه يشكّ في ترتّبه على المبرز المزبور ، ومقتضى الاستصحاب عدمه ، فكلّ من المالين باق على ملك مالكه. وهذا مرادهم بكون الأصل في العقود الفساد».

وذلك لأنّ الشك في ترتب الأثر ناش عن الشك في دخل المشكوك اعتباره.

ولمّا كان الدخل تعبديّا جرى فيه البراءة أو أصل العدم ، وبعد جريان الأصل في الشك السببي لا يجري في الشك المسببي حتى يقال : إنّ الأصل الجاري فيه هو أصالة الفساد ، فإنّ جريان أصالة الفساد منوط بأمور :

أحدها : عدم جريان أصالة البراءة في الجزئية والشرطية والسببية والمانعية ، إمّا لعدم تأصّلها في الجعل وكونها منتزعة عن الأحكام التكليفية ، وإمّا لاعتبار كون مجرى أصالة البراءة الشرعية حكما إلزاميّا حتى توجب مخالفته استحقاق العقوبة عقلا الذي ينفيه البراءة العقلية. ولذا قيل : إنّ البراءة الشرعية تنفي الملزوم وهو الحكم ، والعقلية


.................................................................................................

__________________

تنفي اللازم وهو استحقاق العقوبة ، ومن المعلوم أن الحكم الوضعي ـ كالتكليفي غير الإلزامي ـ لا يوجب استحقاق العقوبة ، فلا تجري فيه البراءة ، فهي تختص بالحكم الإلزامي.

ثانيها : عدم تسبب أحد الشكين ـ أعني الشك في الفساد ـ عن الآخر ، وهو الشك في الشرطية.

ثالثها : عدم حكومة الأصل السببي على المسببي.

رابعها : عدم جريان البراءة في المحصّلات ، بناء على كون الإنشاء القولي والفعلي في المعاملات منها.

خامسها : أنّ أصالة البراءة لا تثبت كون الفاقد لمشكوك الدخل موضوعا للأثر المترتب على الاعتبار النفساني المبرز إلّا على القول بالأصل المثبت.

توضيحه : أنّه إذا شككنا في دخل الماضوية مثلا في البيع بحيث لا يكون إنشاؤه وإبرازه بغير صيغة الماضي موضوعا للأثر الشرعي ، فنفي اعتبار الماضوية بأصالة البراءة لا يثبت سببيّة الفاقد لها للأثر الشرعي إلّا بناء على حجية الأصول المثبتة.

لكن الكلّ كما ترى.

إذ في الأوّل : أنّ أصالة البراءة تجري في الوضعيات كجريانها في التكليفيّات ، لوجود المناط وهو كون المشكوك فيه قابلا للوضع والرفع التشريعيين في الوضعيات كوجوده في التكليفيّات.

ودعوى اعتبار كون مجرى البراءة متأصّلا في الجعل ممّا لا شاهد له ، بل الشاهد على خلافها ، حيث إنّ الرفع في مثل حديثه لمّا كان تشريعيّا كان من الضروري صحّة إسناد الرفع إلى ما له شأنيّة التشريع ، والرجوع فيه إلى الشارع بحيث لا يكون المرجع فيه إلّا الشارع ، فاعتبار تأصّله في الجعل قيد زائد ينفى بإطلاق أدلة البراءة. فلا فرق في مورد البراءة بين المتأصّل في الجعل وغيره.


.................................................................................................

__________________

وعلى هذا فتجري البراءة في الحكم الوضعي مطلقا سواء أكان متأصّلا في الجعل كالملكية والزوجية ونحوهما ، أم منتزعا عن حكم تكليفي كالجزئية التي تنتزع عن الأمر المتعلّق بعدّة أمور بنحو الارتباطيّة بأن كانت تلك الأمور مؤثّرة في ملاك واحد. أو عن دخل شي‌ء في موضوع الحكم كدخل الاستطاعة في موضوع وجوب الحج ، فإذا شككنا في دخل الرجوع إلى الكفاية في وجوبه أيضا ، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن الدخل ، فنفي شرطية الرجوع إلى الكفاية يمكن بالبراءة ، لأجل كون منشأ انتزاعها دخل الشارع ذلك في وجوب الحج. كما يمكن بإطلاق الدليل لو كان لفظيّا أو مقاميّا.

ولو لم يكن هذا الدخل شرعيّا لما جاز التمسك لنفيه بالإطلاق ، إذ لا فرق بين الدليل والأصل في كون موردهما ممّا يقبل التشريع. فشرطيّة مثل الرجوع إلى الكفاية لوجوب الحج منتزعة عن دخل الشارع له في موضوع وجوبه.

لكن الحق عدم جريان البراءة في دخل الرجوع إلى الكفاية في وجوب الحج ، لفقدان الامتنان الذي هو شرط لجريان البراءة ، لا لعدم المجعولية.

ومن هنا يظهر غموض ما في تقرير سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره من «انقسام الأحكام الوضعية إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون متأصّلا في الجعل كالملكية والزوجية والرقية ونحوها.

الثاني : أن يكون الحكم الوضعي راجعا الى الحكم نفسه كالسببيّة والشرطيّة والمانعية للوجوب مثلا ، فالسببية والشرطية والمانعية منتزعة عن جعل الحكم ولحاظه مقيّدا بقيد وجودي أو عدمي.

الثالث : أن يرجع الحكم الوضعي إلى متعلق التكليف كالجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به ، فإنّها منتزعة من كيفية الأمر المتعلق بأشياء عديدة ، فإنّه ينتزع الجزئية لكل واحد من تلك الأشياء ، كما ينتزع الشرطية من الأمر المتعلق بشي‌ء مقيّدا بوجود شي‌ء آخر كالاستقبال والستر ، والمانعيّة من الأمر بشي‌ء مقيّدا بعدم شي‌ء آخر ، كتقيّد الصلاة بعدم استصحاب المصلّي أجزاء ما لا يؤكل لحمه.


.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فالجزئية والشرطية والمانعية منتزعة عن كيفية الأمر ، وليست متأصلة في الجعل ، فلا تجري فيها البراءة ، وإن قلنا بشمول حديث الرفع للأحكام الوضعية ، نعم ترتفع هذه الأمور بإجراء البراءة في مناشئ انتزاعها» انتهى ملخصا (١).

وجه الغموض ما عرفت من : أن دليل اعتبار كون مجرى البراءة حكما شرعيا هو كون الرفع تشريعيّا لا تكوينيّا ، فلا بدّ في صحة إسناد الرفع التشريعي من كون المرفوع قابلا للتشريع نفيا وإثباتا. ومن المعلوم أنّ صحة هذا الإسناد لا تتوقف إلّا على كون المرفوع ممّا يرجع فيه وضعا ورفعا إلى الشارع دون غيره. وبديهي أنّ هذا لا يتوقف على كون المرفوع متأصّلا في الجعل ، بل يكفي في ذلك قابلية منشئه للتشريع.

وعليه فلا فرق في جريان البراءة في الشرطية والسببية والمانعية بين كونها راجعة إلى موضوع الحكم ، وبين كونها راجعة إلى متعلّق الحكم ، لأنّها في كليهما منتزعة عن الدخل الشرعي. وقد عرفت صحة إسناد الرفع إلى الشرطية ونحوها بلحاظ انتزاعها عن الدخل الشرعي ، وعدم توقف صحته على كونها مجعولة بالذات.

ولو لم يكن هذا المقدار مصحّحا لإسناد الرفع التشريعي لم يصح التمسك أيضا بإطلاق الدليل الاجتهادي لنفيها. مثلا إذا شككنا في شرطيّة الماضوية في العقد نتمسّك في نفيها بإطلاق مثل «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وكذا إذا شككنا في وجوب الرجوع إلى الكفاية في الحج. فلا فرق في الرجوع إلى البراءة بين كون مجراها مجعولا بالأصالة وبين كونه منتزعا.

نعم يمنع عن جريان البراءة في الوضعيات باختصاص البراءة بالأحكام الإلزامية الموجبة مخالفتها لاستحقاق العقوبة ، ولذا قيل : إنّ البراءة الشرعية تنفي الملزوم ، والبراءة العقلية تنفي اللازم وهو استحقاق المؤاخذة.

إلّا أن يقال : إنّ استدلال الإمام عليه‌السلام بحديث الرفع على فساد طلاق المكره

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٧ إلى ١١


.................................................................................................

__________________

وعتاقه يدلّ على جريان البراءة في الوضعيّات.

وكيف كان ففي جريان أصالة العدم في الشرطية ونحوها غنى وكفاية ، وبها يثبت عدم كون المشكوك فيه من أجزاء السبب المؤثّر أو من شرائطه ، ومع هذا الأصل لا يجري أصالة الفساد أي عدم النقل والانتقال ، وإن كانت أصلا تنزيليا حاكما على البراءة التي هي أصل غير تنزيلي. وذلك لأنّ أصل البراءة هنا يكون في مرتبة السبب ، واستصحاب عدم الانتقال في مرتبة المسبّب ، وحديث حكومة الاستصحاب على البراءة إنّما يكون في صورة اتحادهما رتبة.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنّه لا مانع من جريان البراءة أو أصالة العدم في الشرطية ، وإثبات عدم كون المشكوك فيه جزءا من السبب المؤثر ، نظير جريان البراءة عن الجزئية والشرطية والمانعية في متعلق التكليف كالصلاة ، إذ المتيقن هو الأقل الجامع بين الأقل والأكثر.

ودعوى الفرق ـ كما في تقرير سيدنا الخويي تبعا لشيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سرهما ـ بين متعلّق التكليف كالصلاة إذا شكّ في شرطية أو جزئية أو مانعية شي‌ء لها ، وبين الأسباب كالشكّ في شرطية شي‌ء كالماضوية للعقد «بجريان البراءة في الأوّل لكونه شكّا في تعلق الأمر بالمقيّد به ، فيدفع بأصالة البراءة ، وأمّا الأقل أعني به الطبيعي الجامع بين المطلق والمقيد فهو مأمور به قطعا. وعدم جريانها في الأسباب كالشك في شرطية شي‌ء لصحة عقد أو إيقاع ، لانعكاس الأمر فيها ، حيث إنّ ترتب الأثر كالملكية أو براءة الذمة على العقد أو الإيقاع الواجد لذلك الشرط معلوم ، وترتّبه على الفاقد مجهول ، فيدفع بالأصل. وهذا هو الفارق بين الشك في شرطية شي‌ء للمأمور به ، وبين الشك في شرطيّته للعقد أو الإيقاع» (١) خالية عن البيّنة ، إذ مناط البراءة وهو الشك في الحكم الشرعي موجود في كلّ من متعلّقات التكاليف والأسباب.

وأمّا دعوى : «العلم بترتب الأثر في العقد والإيقاع على الواجد لمشكوك الشرطية

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ١٠ و١١


.................................................................................................

__________________

والجهل بترتبه على الفاقد له ، بخلاف متعلّق التكليف ، حيث إنّ الأقل معلوم الوجوب ، فتجري البراءة في الزائد المشكوك فيه».

ففيها : أنّ منشأ العلم بحدود متعلّق التكليف وسببية العقد إنّما هو الأدلة البيانية المبيّنة لما له دخل في متعلق التكليف وفي ترتب الأثر على العقد ، فحينئذ نقول : نعلم بدخل ما قامت عليه الأدلة ، مثلا نعلم بدخل عشرة أشياء في متعلق التكليف كالصلاة ، وبدخل أمور خمسة مثلا في سببيّة العقد للأثر المقصود ، ونشك فيما زاد على العشرة في المتعلّق ، وعلى الخمسة في العقد ، فالشكّ في دخل الزائد شرعا مشترك بين المتعلّقات والأسباب ، حيث إنّا نعلم بتعلق التكليف بالعشرة وبدخل الخمسة في سببية العقد ، ونشك في الزائد ، فينفى بالأصل.

والعلم بترتب الأثر على العقد الواجد لمشكوك الدخل شرعا إنما هو من باب القدر المتيقن ، لا لأجل العلم بكون الواجد بخصوصيته سببا لترتب الأثر.

وإلّا فمقتضى البرهان ترتب الأثر على ما علم دخله في السببيّة بعد نفي مشكوك الشرطية بالأصل ، والعلم بترتب الأثر من باب القدر المتيقن كالعلم بفراغ الذمة عن التكليف كذلك إذا أتى بالأكثر المشكوك فيه في متعلقات التكاليف.

فجعل باب الأسباب على عكس باب متعلّقات التكاليف في غاية الغموض.

ومنه يظهر ما في قوله : «وترتبه على الفاقد مجهول فيدفع بالأصل» وذلك لأنّ أصالة عدم ترتب الأثر مبنية على عدم جريان البراءة في مشكوك الدخل في سببية العقد ، ومع جريانها لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي أعني به أصالة الفساد ، فترتب الأثر على الفاقد مجهول وجدانا ومعلوم تعبّدا ، كما أنّ فراغ الذمة عن التكليف بالإتيان بالأقل كذلك.

هذا إذا أريد بأصالة عدم ترتب الأثر ما هو المعروف بينهم من استصحاب عدم النقل والانتقال.


.................................................................................................

__________________

وأمّا إذا أريد بها أصالة عدم سببية الأقل لترتب الأثر فلا تجري إن قصد بها البراءة ، لعدم الامتنان. بل جريانها يوجب الضيق ، لأنّ اعتبار الماضوية مثلا ضيق على المكلف.

وفي الثاني : أنّ إنكار تسبّب الشك في الفساد عن الشك في شرطية شي‌ء للعقد مساوق لإنكار البديهي.

وفي الثالث أوّلا : ما قرّر في محلّه من حكومة الأصل السببي على المسببي ، وعدم الوجه في منع الحكومة.

وثانيا : أنّه ـ بعد تسليم عدم الحكومة ـ لا تجري أصالة الفساد أيضا ، لمعارضة أصالة البراءة لها ، فتصل النوبة إلى القرعة أو الصلح القهري ، لقاعدة العدل والإنصاف ، كما لا يخفى.

إلّا أن يقال : بجريان أصالة الفساد وتقدمها على البراءة ، لكونها أصلا تنزيليّا ، دون أصالة البراءة.

إلّا أن يدّعى أنّ هذا التقدم مبنيّ على الحكومة التي أنكرها الخصم. فعلى هذا تجري أصالة الفساد والبراءة معا وتتساقطان.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ الخصم أنكر الحكومة المترتبة على تعدّد الرتبة ، لا مع وحدتها ، فإنّ حكومة الاستصحاب على البراءة مع وحدة رتبتهما ممّا لا سبيل إلى إنكاره ، فتجري أصالة الفساد بلا مانع.

وفي الرابع أوّلا : كون المقام أجنبيا عن باب المحصّل ، لأنّ ضابطه أن يكون الأثر المقصود مترتبا على المحصّل قهرا بحيث يكون مسبّبا توليديّا لا يتوسّط بينه وبين الفعل المحصّل له إرادة فاعل مختار كالإحراق المترتّب على الإلقاء ، ونقاء المحلّ عن النجاسة المترتب على الغسل والعصر مثلا ، ونحو ذلك. فإذا توسّط ذلك خرج عن المحصّل ودخل في باب الحكم والموضوع ، كوجوب الصلاة عند الدلوك ، ووجوب


.................................................................................................

__________________

الزكاة عند تحقق شرائطها ، فإنّ ترتب الحكم على موضوعه أجنبي عن باب المحصّل. ومن المعلوم أنّ ترتب الأثر المقصود كالملكية على الإنشاء القولي والفعلي يكون من ترتب الحكم على موضوعه لا ترتب المعلول على علته.

وتسمية العقود أسبابا إنّما هي بلحاظ نظر العرف ، حيث إنّهم يرون العقود أسبابا للآثار المترتبة عليها ، وإلّا فإنّ العقود والإيقاعات من صغريات الحكم والموضوع.

وثانيا : أنّه ـ بعد تسليم كون المقام من المحصّل ـ نمنع عدم جريان الأصل في مطلق المحصّل ، وإنّما لا يجري في المحصّل العقلي والعادي ، دون الشرعي كالغسلتين والمسحتين بناء على كون المأمور به الطهارة النفسانية الحاصلة بها ، وإنّها محصّلات للمأمور به ، لا أنّها نفسه ، فإذا شكّ في دخل شي‌ء جزءا أو شرطا للمحصّل الشرعي جرت فيه أصالة البراءة ، ويثبت بها أنّ الأقل هو المحصّل ، وليس المشكوك فيه جزءا له ، هذا.

وفي الخامس : أنّ مثبتيّة البراءة الجارية في متعلّقات التكاليف ـ التي هي المركبات الارتباطية وفي الأسباب المركّبة كالعقود ـ منوطة بكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضاد ، إذ يلزم حينئذ إثبات أحد الضدين بنفي الضّد الآخر. وهذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت. بخلاف ما إذا كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ـ كما هو الحق المحقّق في محله ـ فلا يلزم إشكال الإثبات أصلا ، لأنّ الإطلاق على هذا أمر عدمي ، لأنّه عبارة عن عدم تقييد ما من شأنه أن يقيّد. مثلا إذا جرت أصالة البراءة في الاستعاذة ، فمقتضاها عدم تقيّد الصلاة بها وكون أجزائها مطلقة غير مقيّدة بالاستعاذة.

وكذا الحال في جريان البراءة في مشكوك الجزئية أو الشرطية في باب الأسباب ، فإذا جرت في نفي شرطية الماضوية في عقد البيع مثلا فمقتضاها عدم شرطية الماضوية في سببية العقد للملكية ، وعدم كون العقد مقيّدا بالماضوية.

وبالجملة : بعد البناء على كون الإطلاق أمرا عدميّا ، وأنّ التقابل بينه وبين التقييد تقابل العدم والملكة لا يلزم إشكال المثبتية أصلا.


.................................................................................................

__________________

فتلخص من جميع ما ذكرنا : عدم جريان أصالة الفساد ، وعدم مانع من جريان أصالة البراءة في شرطية شي‌ء كالماضوية للعقد ، وإثبات سببية الأقلّ لترتب الأثر. وعدم الفرق في جريان البراءة بين متعلقات التكاليف وبين الأسباب ، وأنّ مجرى البراءة في كلا البابين هو الأكثر.

لكن الذي يسهّل الخطب أنّ الشك في شرطية شي‌ء للعقود يدفع بالإطلاقات اللفظية أو المقامية ، ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي حتى يقع الكلام في أنّه أصالة الفساد أو أصالة الصحة ، فينبغي أن يكون هذا البحث فرضيّا.

نعم إذا كان الشك في صدق عنوان العقد ـ لا في شرطية شي‌ء فيه تعبّدا ـ جرى فيه أصالة الفساد بلا كلام. وأمّا في الشك في دخل شي‌ء فيه تعبّدا فلا مانع من جريان أصالة البراءة فيه ، أو أصالة العدم بناء على اختصاص البراءة بالأحكام الإلزامية ، بعد فرض عدم إطلاق دليل اجتهادي يرفع الشك.

فعلى كلّ تقدير لا تصل النوبة إلى أصالة الفساد إلّا إذا كان الشك في صدق أصل العنوان عرفا ، كما إذا شك في صدق عنوان البيع العرفي على الإنشاء الفعلي ، أو شكّ في صدقه على الإنشاء القولي الفاقد للماضوية مثلا ، فإنّه يجري في صورة الشك في صدق العنوان أصالة عدم ترتب الأثر ، لأنّ مرجع الشك حينئذ إلى الشك في تحقق المؤثر في النقل عرفا ، والأصل عدم تحققه.

وقد تحصل مما تقدم أمور :

الأوّل : أنّ المرجع في الشك في تحقق العنوان العقدي أو الإيقاعي عرفا بمبرز هو أصالة عدم حصول ذلك العنوان الموجب لعدم ترتب آثاره عليه ، وإن شئت فعبّر عن هذا الأصل بأصالة الفساد.

الثاني : أنّ المرجع عند الشك في دخل شي‌ء تعبّدا في مبرز الاعتبار العقدي أو الإيقاعي هو البراءة ، وعدم دخل ذلك المشكوك فيه ، وكون فاقد مشكوك الشرطية مؤثّرا


.................................................................................................

__________________

في الأثر المقصود من ذلك العقد أو الإيقاع. ولازم جريان البراءة فيه هو الصحة. هذا في الشبهة الحكمية.

وأمّا الموضوعية كما إذا شك في وجود شي‌ء من الشرائط من شروط نفس العقد كالماضوية ـ بعد فرض تسلّم اعتبارها ـ أو من شروط العوضين أو من شروط المتعاقدين ، فالإستصحاب وإن اقتضى عدمه المستلزم لفساد العقد أو الإيقاع ، إلّا أنّه قد ادّعي الإجماع والسيرة على ترتيب آثار وجود المشكوك اعتباره ، والحكم بصحة الإنشاء العقدي.

الثالث : أنّه إذا صدق الاعتبار النفساني بكلّ ما يكون مبرزا له فلا محالة يكون نافذا ، لشمول أدلة ذلك العنوان له ، فإذا صدق البيع مثلا على الإنشاء القولي أو الإشاري أو الكتابي شمله مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فيكون نافذا ، إلّا إذا نهض دليل على اعتبار مبرز خاصّ في نفوذه كالإجماع المدّعى على اعتبار اللفظ في العقود والإيقاعات ، فلا يترتب حينئذ على إنشائها بغير اللفظ أثر من آثار النفوذ.

لكن يختص ذلك بالمتمكّن من التلفظ ، لكون الإجماع دليلا لبّيّا ، والمتيقن منه خصوص القادر ، كما إذا ورد «أكرم العلماء» ثم قام الإجماع على عدم وجوب إكرام البصريين منهم ، فإنّ المتيقّن منه هو خصوص فسّاقهم ، فيخصّص العام به ، لا بكلّ عالم بصري وإن كان عادلا.

وعليه فلا بدّ في تخصيص العام بالدليل اللّبّي من الاقتصار على المتيقن ، وفي الزائد عليه يرجع إلى العام المقتضي للنفوذ بأيّ مبرز أنشئ ذلك الاعتبار النفساني.

وعلى هذا فتكون الإشارة والكتابة على حدّ سواء بالنسبة إلى العاجز عن التكلم ، إلّا إذا قام دليل خاص على الترتيب بينهما بتقديم الإشارة على الكتابة ، فإنّه مع عدم هذا الدليل الخاصّ يحكم بعدم الفرق بين المبرزات ، لأجل العمومات والإطلاقات الدالّة على نفوذ العقود وصحتها.

نعم إن كان المخصّص لها دليلا لفظيا كقوله عليه‌السلام : «إنما يحلّل الكلام ويحرّم


.................................................................................................

__________________

الكلام» كان المرجع هذا المخصّص ، ومقتضاه الشرطية المطلقة للفظ المستلزمة لوحدة المطلوب ، فإن لم يتمكّن من النطق فلا بدّ من التوكيل.

فقد ظهر مما ذكرنا : أنّ البيع الصادر من العاجز عن التكلم كالأخرس نافذ مطلقا سواء أنشئ بالمعاطاة أم الإشارة أم الكتابة أم غيرها مما يكون مبرزا عرفا لذلك الأمر الاعتباري وإن كان قادرا على التوكيل ، لما عرفت من أنّ المخصص دليل لبيّ فيقتصر على المتيقن منه ، وقد قرّر في محله لزوم الرجوع إلى العموم فيما عدا المتيقن من المخصّص المجمل اللبي ، لكون الشك في التخصيص الزائد. فمقتضى العمومات عدم الترتيب بين المبرزات ، وكون الكل في عرض واحد ، لعدم مرجّح لأحدها على الآخر بعد اشتراكها في المبرزية.

فالالتزام بالترتيب بين الإشارة والكتابة ـ بتقديم الأولى على الثانية ـ بلا ملزم. واحتمال الاستناد في ذلك إلى أصرحيّتها في الإنشاء من الكتابة ـ كما أفاده المصنف قدس‌سره ـ لا يخلو من غموض ، لعدم وضوح أصرحية الإشارة من الكتابة أوّلا لو لم نقل بالعكس. ولعدم دليل على اعتبار الأصرحيّة في المبرز ، وكفاية الظهور العرفي في ذلك ثانيا ، لصدق العنوان مع الظهور العرفي المعتبر عند أبناء المحاورة من دون حاجة إلى الصراحة فضلا عن الأصرحيّة.

وبالجملة : فمع صدق العقد على كل مبرز لا بدّ من القول باللزوم. لكنّ الإجماع قام على اعتبار اللفظ في اللزوم ، والمتيقن منه ـ على فرض تماميته ـ هو صورة القدرة على النطق ، فبدونها يكون كل فعل يصدر منه مبرز للاعتبار النفساني سواء أكان إشارة أم كتابة مصداقا للعقد ، فيجب الوفاء به. وعلى هذا يسقط البحث عن اعتبار الترتيب بين الإشارة والكتابة ، لصدق العقد عرفا على كل مبرز.

نعم يكون للبحث عن الترتيب مجال بناء على التعبد ، لا الصدق العرفي.

فعلى القول بالصدق العرفي يقوم كل فعل مبرز مقام اللفظ ، فإشارة الأخرس وكتابته وغيرهما من أفعاله المبرزة للأمر الاعتباري تقوم مقام اللفظ ولو كان قادرا على


.................................................................................................

__________________

التوكيل ، لأنّ الأصل عدم اشتراطه.

وعلى القول بعدم الصدق العرفي فلإطلاق الأخبار الواردة في طلاق الأخرس ، المستفاد منها بالفحوى حكم عقده وإيقاعه في سائر الأبواب ، وحملها على صورة العجز عن التوكيل حمل لها على الفرد النادر ، هذا.

والمتحصل مما ذكرنا : أنّ كل عقد أو إيقاع ينشأ بما يكون مبرزا له عرفا تشمله العمومات. إلّا إذا ثبت بالدليل اعتبار مبرز خاص فيه ، بحيث لو أنشئ بغيره لم يكن ممّا يترتب عليه الأثر المقصود. فلو فرض قيام الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود والإيقاعات وأغمض عن المناقشة فيه كان ذلك مختصّا بالقادر على التلفظ ، فالعاجز عنه ينشئ العقد والإيقاع بكلّ مبرز عرفي. ولا دليل على حصر المبرز في حقه باللفظ ، فالأخرس وغيره ممن يعجز عن التكلم يصحّ عقده وإيقاعه بكل مبرز حصل ، فلا ترتيب بين المبرزات للأخرس كما قيل.

وإطلاق ما دلّ على تقديم الإشارة على الكتابة وبالعكس يقيّد بنص الآخر ، فإنّ ما دلّ على اعتبار الكتابة ظاهر ـ بمقتضى إطلاقه ـ في التعيينية ، ونصّ في اعتبار الكتابة. وما دلّ على اعتبار الإشارة ظاهر بإطلاقه في التعيينية أيضا ، ونصّ في اعتبار الإشارة ، فيرفع ظاهر كل من الإطلاقين بنص الآخر. ونتيجة هذا الجمع هو التخيير بينهما ، هذا.

ثم إنّه هل يتعدّى من الأخرس إلى من لا يقدر شرعا على التكلم كمن حلف أو نذر على ترك التكلم بغير القرآن والصلاة مثلا ، كالتعدّي إلى من لا يقدر تكوينا على التكلم كما إذا ابتلى بمرض أوجب عجزه عن التكلم؟

الأقوى العدم ، لأنّ التعدّي من موضوع إلى آخر منوط بالدليل ، والمفروض عدمه ، لورود الدليل في خصوص الأخرس ، ولا موجب لإلقاء الخصوصية والتعدّي عنه إلى غيره ممّن يعجز عن التكلّم شرعا لنذر ، أو تكوينا لمرض.

وعليه لا بدّ أن يكون إنشاء العقد أو الإيقاع بالنسبة إلى القادر على النطق تكوينا ـ العاجز عنه تشريعا ـ بالقول ، ولا يكفيه الإشارة وغيرها من الأفعال الكافية في إنشاء الأخرس.


ثم (١) الكلام في الخصوصيّات المعتبرة في اللّفظ (*) :

______________________________________________________

ما يعتبر في صيغة البيع مادة وهيئة

(١) هذا شروع في المقصد الثاني وهو الخصوصيات المعتبرة في الصيغة بعد البناء على اعتبار أصل اللفظ في المعاملات. وقد بسط المصنف قدس‌سره الكلام فيها في جهات ثلاث ، إذ يقع البحث تارة في مواد الألفاظ ، وأخرى في الهيئات الإفرادية ، وثالثة في الهيئات التركيبية.

والبحث في الجهة الأولى إمّا في اعتبار الصراحة والظهور في المادّة التي تنشأ بها المعاملة ، وإمّا في اعتبار لغة خاصة فيها ، وعلى كلّ منهما فالكلام تارة في ألفاظ الإيجاب ، وأخرى في ألفاظ القبول.

والبحث في الجهة الثانية ـ وهي الهيئة الإفرادية ـ عن اعتبار الماضوية.

وفي الجهة الثالثة عن أمور :

الأوّل : اعتبار تقدم الإيجاب على القبول.

الثاني : اعتبار الموالاة بينهما.

الثالث : اشتراط التنجيز في العقد.

الرابع : التطابق بين الإيجاب والقبول.

الخامس : بقاء المتعاقدين على أهليّة الخطاب ، وسيأتي تفصيل المباحث بترتيب المتن إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) ينبغي لتوضيح البحث من تقديم أمر ، وهو : أنّ كلّ عقد يلاحظ فيه جهات ثلاث : جهة اللفظ ، وجهة الخطاب ، وجهة العقد.

أمّا الأولى : فيعتبر فيها القصد ، لتقوّم العقد به كما اشتهر من تبعية العقد للقصد ، فلا يؤثّر التلفظ السّهوي. ولو باللفظ الجامع للخصوصيات المعتبرة فيه في ترتّب الأثر المقصود.

ثمّ إنه يجري في اللفظ اعتبارات ثلاثة :


.................................................................................................

__________________

الأوّل : الجنس ككونه عربيّا مثلا.

الثاني : الصنف مثل كونه من صيغ الماضي في اللغة العربية.

الثالث : الشخص العاقد ، فلا بدّ أن يوقع شخص جامع للشرائط المعتبرة في العاقد اللّفظ المتخصص بخصوصيته الجنسية كالعربية والنوعية كالماضويّة وغيرها.

فمن قصد التلفّظ بلفظ «بعت» فقد قصد اللّفظ العربي الماضي الذي هو من المادّة الخاصة ، فلا يكفي من اللفظ الذي ينشأ به اعتبار عقدي أو إيقاعي إلّا ما هو مخصوص بخصوصه ، للإجماع ، ولكون العقود المأمور بالوفاء بها هي المتعارفة التي يقصد فيها لفظ مخصوص ، ولأنّ الأصل عدم حصول النقل والانتقال بغير اللفظ الخاص الكذائي الذي قصد إنشاء الاعتبار النفساني به ، فلا ينعقد بالتلفظ باللفظ الذي صدر منه سهوا ، وإن كان في حدّ ذاته صالحا لأن يقع به العقد الخاص.

فإذا فرض صلاحية كل واحد من لفظي «ملّكت وبعت» لإنشاء البيع ، وكان العاقد قاصدا لإنشائه بلفظ «بعت» ولكن سها وقال : «ملكت» لم يكن مجزيا في تحقق البيع ، للإجماع ، وللقاعدة ، لأنّ الإنشاء باللفظ المقصود لم يقع ، والإنشاء الذي وقع باللفظ الصادر غير مقصود.

ولو أتى بألفاظ متعددة ولم يعيّن واحدا منها للإنشاء به ، فتارة يجمع بين تلك الألفاظ في الإيجاب كأن يقول في إنشاء النكاح : «زوّجت وأنكحت ومتعت زينب من موكّلك زيد على الصداق المعلوم» فيقول القابل : «قبلت». وأخرى يوجب بأحدها ، ويقع القبول بعده بلا فصل ، ثم يوجب بالآخر فيتبعه قبوله ، ثم يوجب بالثالث ويتبعه قبوله ، وهكذا.

وعلى التقديرين قد يكون قصد الإنشاء بجنس ما ينشأ به النكاح ، الصادق على كل واحد من الألفاظ المتعددة المفروض عدم تعيين بعضها للإنشاء به. وقد يكون قصد الإنشاء بواحد مردّد بينها.


.................................................................................................

__________________

والفرق بينهما : أنّه على الأوّل يمكن أن يقع الاعتبار النفساني بالمجموع من حيث المجموع ، لصدق الجنس على القليل والكثير. وبواحد منها معلوم عند الله تعالى مجهول عندنا ، لصدق الجنس عليه أيضا. بخلاف الثاني ، فإنّه لا يقع فيه الإنشاء إلّا بواحد منهما ، كما لا يخفى.

وقد يكون قصد الإنشاء بواحد معيّن عند الله تعالى غير معيّن عنده.

وقد يكون قصد الإنشاء بمجموع الألفاظ من حيث المجموع ، بحيث يكون كل واحد منها جزءا للمبرز.

وقد يكون قصد الإنشاء بكل واحد من الألفاظ بالاستقلال ، وباعتبار سببية كلّ منها برأسه لتحقق العقد.

فهذه وجوه خمسة ، تضرب في الصورتين المتقدمتين ـ وهما : اتباع كلّ لفظ بقبول يخصّه ، واتباع مجموع الألفاظ بقبول واحد ـ والحاصل من الضرب عشرة وجوه.

وقد ذكر الفقيه المامقاني قدس‌سره أنّ حكم الجميع هو عدم تحقق العقد إجماعا.

مضافا إلى : أنّ المجموع من حيث المجموع ممّا لم يحصل له السببية شرعا قطعا. واستثنى من الصور المزبورة صورتين :

إحداهما : ما لو قصد كلّ منها مستقلّا ، فإنّه يصح في القسم الأوّل من قسمي الجمع بين الألفاظ المتعددة الصالحة للإنشاء بها ، وصحّته إنّما هي باعتبار اتّصال القبول بالإيجاب الصالح للإنشاء به ، فيحصل الأمر الاعتباري الذي أريد إنشاؤه ، ويقع الباقي من الألفاظ ـ المتقدمة على الإيجاب المتصل بالقبول ـ لغوا غير قادح في الإنشاء ، فإذا قال : «أنكحت وزوّجت ومتّعت» وقال القابل بلا فصل : «قبلت» صحّ ، ووقع الإنشاء بقوله : «متّعت» المتّصل بالقبول ، ووقع ما تقدّمه من لفظي «أنكحت وزوّجت» لغوا.

ثانيتهما : قصد الإنشاء بكلّ من ألفاظ الإيجاب مستقلّا أيضا. لكن مع تعقب كلّ منها بقبول يخصّه. والوجه في صحة هذه الصورة هو حصول الإنشاء بالسبب الأوّل مع


.................................................................................................

__________________

اتصال قبوله به ، ولغوية ما بعده من الألفاظ ، لحصول المسبّب بسببه الأوّل ، وامتناع تأثير السبب الثاني فيه ، لاستحالة تحصيل الحاصل (١) ، هذا.

ثم إنّه من اعتبار اتصال القبول بالإيجاب يظهر عدم صحة الإنشاء في الصور التي يحصل فيها فصل بين الإيجاب والقبول إذا كان الإنشاء باللّفظ الأوّل ، كما إذا قال : «أنكحت وزوّجت ومتّعت موكّلتي موكّلك» ثم قال القابل : «قبلت» وذلك لوقوع الفصل بين الإيجاب والقبول بأجنبي ـ وهما الأخيران أعني بهما : زوّجت ومتّعت ـ إذ لم يقصد بهما الإنشاء ، فيكون الفصل بين الإيجاب والقبول بأجنبي ، وقد صرّحوا بمانعية الفصل بينهما من انعقاد العقد.

وقد علم من ذلك : أنّه لو قصد الإنشاء في القسم الأوّل بالأخير صحّ العقد ، لاتصال القبول به. ولو قصد الإنشاء بالأوّل في القسم الثاني لم يكن في صحّته إشكال أصلا ، لتعيينه اللفظ ، واتصال القبول بالإيجاب ، ويقع ما بعد هذا الإيجاب والقبول المتأخرين عنهما لغوا.

وإن قصد بالإيجاب والقبول المتأخرين الاحتياط بعد قصد الإنشاء بالأوّل بدون تردّد وتزلزل جاز كما هو الشأن في كلّ احتياط بعد العمل بمقتضى الفتوى.

وكذا لا إشكال في الصحة إذا قصد الإنشاء بالوسط والأخير ، وكان الإتيان بما تقدّمه لا على وجه التردّد والتزلزل ، إذ لو كان على هذا الوجه لم يتحقق الإنشاء بالمتأخر ، لأنّ التزلزل في السابق يوجب التزلزل في اللاحق.

إلّا أن يقال : إنّ التزلزل في الأوّل يوجب بطلانه ، فيصح الإنشاء بما بعده ، لكن بشرط توجّه الموجب والتفاته إلى هذا المعنى حتى يقصد الإنشاء بالمتأخر.

وقد حكى الفقيه المامقاني قدس‌سره عن بعض مشايخه : أنّ المصنف قدس‌سره كان في عقد النكاح يبتدئ بعقد فارسي ، فيقول : «به زني دادم موكّله خودم فلانه را بموكّل خود فلان بمهر معلوم» ثم يأتي بالعقد العربي. وغير خفي أنّ مقصوده قدس‌سره بذلك إنما هو الاحتياط.

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢١٩


.................................................................................................

__________________

وقد أورد عليه : بأنّ هذا خلاف الاحتياط ، وأنّ الاحتياط في تركه ، لأنّ الإكتفاء بالعقد الفارسي خلاف الاحتياط ، لنقل الإجماع على اعتبار العربية في النكاح ، بل في جميع العقود كما سيأتي اعتبارها في المتن عن جامع المقاصد.

فالأولى لمن يريد الاحتياط أن يقدّم ما يقتضي الفتوى صحّته ، ويقصد به الإنشاء ، ثم يأتي بما يحتمل صحة الإنشاء به على وجه الاحتياط. لا أن يقدّم العقد الفارسي الذي لا يصح إلّا في حقّ العاجز عن العقد العربي ، فمع عدم صحته من القادر على العربي كيف يقدّم على العربي تحصيلا للاحتياط؟ بل استشكل في مطلق التكرير حتى لو كان قد أتى بالأوّل على مقتضى الفتوى.

أقول : الإنصاف أنّه بناء على كون الإنشاء إبراز الأمر الاعتباري النفساني ـ لا إيجاد المعنى باللفظ ـ كما هو خيرة بعض المحققين لا إشكال في أصل جواز التكرار ، لأنّ الاعتبار النفساني موجود ، والاحتياط يقع في إبرازه ، فيجمع بين المبرزات طرّا حتّى يحصل العلم بوجود ما هو مبرز له واقعا ، فالاحتياط يكون في المبرزات ، فلا يلزم التعليق في الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللّفظ حتى يستشكل فيه بلزوم عدم المعقولية ، لاستلزامه وجود شي‌ء على تقدير ، وعدمه على آخر.

ولا يلزم أن يكون الإتيان بالمحتمل ـ لرعاية الاحتياط ـ بعد العمل بما يقتضيه الفتوى كما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره نظرا إلى لزوم مراعاة شأن الأمارة ، فإنّ تقديم المحتمل الآخر على ما تقتضيه الحجة إلغاء لاعتبار الأمارة وكسر لسورتها ، هذا.

وجه عدم اللزوم أنّ هذا وجه استحساني لا عبرة به ، حيث إنّ الواقع يحرز بالاحتياط بإتيان كلا المحتملين على كل تقدير سواء قدّم ما يقتضيه الحجة أم أخّر.

وعليه فلا إشكال في حصول الاحتياط بتقديم اللغة الفارسية على العربية في عقد النكاح كما هو المحكي عن الشيخ قدس‌سره على ما عرفت. كما لا إشكال في حصوله بتقديم


.................................................................................................

__________________

العربية على الفارسية ، هذا.

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي جهة الخطاب ـ فحاصل الكلام فيها : أنّه لا بدّ من توجيه الخطاب إلى المخاطب وإسماعه إيّاه على الوجه المتعارف ، وإصغاء المخاطب إلى المتكلم بحيث يلتفت إلى مفهوم كل كلمة برأسها حتى ينتهي المتكلّم إلى آخر كلامه ، فيعقّبه المخاطب بالقبول. كما أنّه لا بدّ من معرفة المتكلّم بكلّ كلمة تجري في العقد ليقصد معناها ، ولا يكفي العلم بما يكون مقصودا من جميع الكلام المؤلّف من الكلمات المتعددة ، فلو قال : «بعت هذا المتاع ممّن أراده» فقال غيره : «قبلت أو اشتريت» لم ينعقد البيع ، لعدم حصول التوجيه. وكذا لو قال : «بعت هذا من أحدكما» فقبل ، لكون أحدهما مبهما ، فلا يقبل تعلق الإنشاء الإيجادي به في حال صدوره وتحققه.

وهذا بخلاف الإنشاء الطلبي بأحدهما المبهم المردّد كما في الواجب الكفائي والواجب التخييري ، فإنّه يصحّ هناك ، لمجي‌ء التخيير فيهما بعد الطلب ، فيأتي من شاء منهما بالمأمور به ، لكون الإنشاء الطلبي متعلّقا بصرف الوجود من المكلف ، أو يأتي المأمور المعيّن بما شاء من فردي المأمور به.

وبالجملة : فالإنشاء الإيجادي لا بدّ له من متعلّق يقوم به في الواقع حال صدوره ، هذا.

وأمّا الجهة الثالثة ـ وهي جهة العقد ـ فملخّصها : أنّ القدر المتيقّن الكافل بها هو اللفظ العربي الصحيح الصريح الماضي المنجّز المشتمل على إيجاب البائع والقبول المتأخر المتصل المطابق معنى من المشتري. وهذا ممّا لا خلاف ولا إشكال فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه. هذا بحسب الإجمال.

وأمّا بحسب التفصيل فقد ذكر المصنف قدس‌سره أنّ الكلام فيه يقع تارة في موادّ الألفاظ ، وأخرى في هيئاتها لكلّ من الإيجاب والقبول ، وثالثة في هيئة تركيب الإيجاب مع القبول. وسيأتي الكلام فيها بترتيب المتن إن شاء الله تعالى.


تارة يقع في موادّ الألفاظ من حيث إفادة المعنى بالصراحة (١) والظهور والحقيقة والمجاز والكناية ، ومن حيث (٢) اللّغة المستعملة في معنى المعاملة.

وأخرى في هيئة كلّ من الإيجاب والقبول من حيث اعتبار كونه بالجملة الفعلية ، وكونه بالماضي (٣).

وثالثة في هيئة تركيب الإيجاب والقبول من حيث الترتيب (٤) والموالاة (٥).

أمّا الكلام من حيث المادة (٦) فالمشهور عدم وقوع العقد بالكنايات. قال

______________________________________________________

(١) سيأتي في المتن ما يراد من صراحة صيغ العقود وظهورها وكنايتها ومجازها ، فانتظر.

(٢) معطوف على «من حيث إفادة المعنى» يعني : أنّ البحث في موادّ الألفاظ يشمل أمرين ، أحدهما : صراحة الألفاظ وظهورها ، وثانيهما : اللغة التي تستعمل في معنى المعاملة من العربية والفارسية وغيرهما من اللّغات ، فيمكن أن يكون في كلّ لغة لأيّ واحدة من المعاملات لفظ صريح وظاهر وكناية ومجاز. ولا ملازمة بين جهتي البحث ، إذ يمكن أن تعتبر العربية في صيغ المعاملات من دون اعتبار الصراحة والظهور ، بل يكفي إنشاؤها بالكناية والمجاز. ويمكن أن يقال بكفاية اللغات الأخرى بشرط صراحة اللفظ أو ظهوره ـ المعتدّ به ـ في عنوان المعاملة.

(٣) فالبحث عن اعتبار العربية بحث عن المادّة ، وعن الماضوية بحث عن الهيئة.

(٤) أي : تقدم الإيجاب على القبول.

(٥) أي : عدم الفصل المخلّ ـ بصدق العقد ـ بين الإيجاب والقبول.

شرائط مادة العقد

المبحث الأوّل : اعتبار الدلالة الوضعية

(٦) إن كان غرضه قدس‌سره من جعل عدم كفاية الكناية من مباحث مادة العقود هو مماشاة القوم ومتابعتهم في اعتبار الصراحة والظهور الوضعي في صيغ العقود اللّازمة بلا نظر إلى كون الكناية في المادة أو في الهيئة فلا بحث.


في التذكرة : «الرابع من شروط الصيغة التصريح ، فلا يقع بالكناية (١) مع النيّة ، مثل قوله : أدخلته في ملكك (٢) أو : جعلته لك ، أو : خذه منّي بكذا ، أو : سلّطتك عليه بكذا ، عملا بأصالة (٣) بقاء الملك ، ولأنّ (٤) المخاطب لا يدري بم خوطب» (١) انتهى.

______________________________________________________

وإن كان غرضه من قوله : «من حيث المادة» التقييد ، وأنّه لا مانع من الكناية من حيث الهيئة لم يخل عن إشكال ، لظهور بعض الكلمات في منع الإنشاء بالكناية مطلقا سواء أكانت في المادة أم في الهيئة ، ففي المبسوط : «وعندنا : أن قوله : ـ أنت مطلقة ـ إخبار عمّا مضى فقط ، فإن نوى به الإيقاع في الحال فالأقوى أن نقول : انّه يقع به. وقال بعضهم هو كناية» (٢). وقال أيضا : «فإن قال : ـ أنت الطلاق ـ فعندنا ليس بصريح ، والكناية لا نقول بها. وعندهم على وجهين ، منهم من قال هو صريح ، ومنهم من قال : كناية» (٣).

ومن المعلوم أنّ الفرق بين قوله : «أنت طالق» وبين «أنت مطلّقة أو أنت الطلاق» ليس إلّا بحسب الهيئة ، ضرورة اشتراكها في المادّة. ولشيخ الطائفة قدس‌سره غير ما ذكرناه من العبارتين في فصل ما يقع به الطلاق به ما يقع به ، فلاحظ.

(١) وهي : استعمال اللفظ في معناه الحقيقي وإرادة لازمه أو ملزومه بحيث يكون المقصود الأصلي ذلك اللازم أو الملزوم ، وكان استعمال الألفاظ في معانيها للانتقال إلى اللوازم أو الملزومات.

(٢) هذا من الانتقال من اللازم إلى الملزوم الذي هو المبادلة بين المالين ، وكذا ما بعده.

(٣) المعبّر عنها بأصالة الفساد.

(٤) فلا يتمشّى منه القبول الذي هو أحد ركني العقد ، إذ مع عدم علم المخاطب بما

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٥ ، ص ٢٥

(٣) المصدر ، ص ٢٦


وزاد في غاية المراد على الأمثلة : «مثل قولك : أعطيتكه بكذا ، أو : تسلّط عليه بكذا» (١).

وربما يبدّل هذا (١) «باشتراط الحقيقة ، فلا ينعقد بالمجازات» حتى صرّح بعضهم بعدم الفرق بين المجاز القريب والبعيد.

______________________________________________________

أراده المتكلم لا يمكنه القبول حتى يتحقق عنوان العقد. وهذا الدليل ظاهر في أنّ عدم صحة العقد في مورد الكناية مستند إلى عدم تحقق المفهوم العرفي ، لا إلى تعبد شرعي ، كما هو ظاهر ما يأتي من كلام مفتاح الكرامة ، لظهوره في كون عدم الصحة لأجل التسالم ، لا من جهة عدم صدق مفهوم العقد عرفا.

(١) أي : ربما يبدّل الشرط الرابع وهو التصريح ، فإنّه قد يعبّر عنه باشتراط الحقيقة كما حكاه السيد الفقيه العاملي عن السيد العلامة الطباطبائي قدس‌سرهما بقوله : «والّذي اعتمده الأستاد الشريف دام ظلّه : لا فرق في المجازات بين قريبها وبعيدها في عدم انعقاد العقود اللّازمة بها ، وقوفا مع هذه القاعدة المسلّمة عندهم ، إلّا أن يقوم إجماع فيتّبع» (٢). وقريب منه ما في الجواهر ، فراجع.

ثم إنّ الفقهاء اختلفوا في مادة الصيغة على أقوال ستة :

الأوّل : الاقتصار على القدر المتيقن ، فلا يجوز إنشاء العقود والإيقاعات بغيره من الصيغ المشكوكة.

الثاني : الاقتصار فيها على الألفاظ المنقولة عن الشارع الأقدس ، وهو محتمل المنقول عن الإيضاح والمسالك (٣).

ويدلّ عليه : أنّ مقتضى الاقتصار على القدر المتيقن الجمود على الألفاظ المأثورة ، وعدم دليل على كفاية مطلق الصراحة ، فيرجع في غيرها إلى الأصل.

__________________

(١) : غاية المراد للشهيد الأوّل ، ص ٨٢

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٤٩ ، جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٩

(٣) إيضاح الفوائد ، ج ٣ ، ص ١٢ ومسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٢


والمراد بالصريح ـ كما يظهر من جماعة من الخاصة والعامة في باب

______________________________________________________

ولعلّه يرجع إلى الوجه الأوّل كما قيل ، بل ادّعي ظهور الرجوع إليه. لكنه لا يخلو من تأمّل.

الثالث : أن يكون اللفظ صريحا بمعنى كونه موضوعا لعنوان العقد. كلفظ «بعت» في إنشاء البيع ، و «صالحت» في إنشاء الصلح ، و «آجرت» في الإجارة وهكذا ، فتخرج الكنايات والمجازات. وحكي عن العلّامة الطباطبائي قدس‌سره التصريح به في مصابيحه.

وإليه يرجع ما ذكره الفخر من : «أنّ كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة مخصوصة بالاستقراء» فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن ، بناء على أنّ ما عداه ليس من القدر المتيقن.

وكذا ما في إجارة المسالك.

وفي مفتاح الكرامة : «وهو الذي طفحت به عباراتهم حيث قالوا في أبواب متفرقة كالسّلم والنكاح وغيرهما : أنّ العقود اللازمة لا تنعقد بالمجازات .. ، وكذا لا ينعقد بشي‌ء من الكنايات كالتسليم والتصريف والدفع والإعطاء والأخذ ونحو ذلك» (١).

وعلى هذا فلا ينعقد عقد ولا إيقاع إلّا بالألفاظ التي تعنونت بها عناوين العقود والإيقاعات.

الرابع : كفاية كلّ لفظ له ظهور عرفي معتدّ به في المعنى المقصود. وهذا هو الذي حكاه المصنف عن جماعة. وهذا يشمل المشترك اللفظي والمعنوي والمجاز القريب والبعيد الجاري على قانون الاستعمال الصحيح.

وقد مال إليه المحقق الخراساني قدس‌سره ، حيث قال عقيب قوله المصنف قدس‌سره : «فالمشهور عدم الوقوع» ما لفظه : «لكن مقتضى الإطلاقات في باب البيع وقوعه

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٤٩


الطلاق وغيره ـ ما كان موضوعا لعنوان ذلك العقد لغة (١) أو شرعا (٢). ومن

______________________________________________________

بالكنايات وأنحاء المجازات ، بلا فرق أصلي بين أن يكون القرينة على التجوز لفظا أو غيره ، لاستناد إنشاء التمليك إلى اللفظ على كل تقدير كما لا يخفى. نعم ربما يمكن المناقشة في صدق العقد على ما إذا وقع بالكناية ، فإنّه عهد مؤكّد ، ولا يبعد أن يمنع عن تأكده فيما إذا وقع بها ، وذلك لسراية الوهن من اللفظ إلى المعنى ، لما بينهما من شدّة الارتباط ، بل نحو من الاتّحاد» (١).

الخامس : التفصيل في الألفاظ المجازية بين القرينة والبعيدة ، فيصح بالأولى كما يصح بالحقيقة ، بخلاف الثانية. وهذا مما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره في النكاح والسّلم قال رحمه‌الله عند قول العلامة قدس‌سره في القواعد : «والأقرب انعقاد البيع بلفظ السّلم ، فيقول :

أسلمت إليك هذا الثوب في هذا الدينار» ما لفظه : «أي : يقول ذلك البائع ، فيكون المسلم هو المبيع ، والمسلم فيه هو الثمن .. إلخ» (٢).

ومحصل وجهه هو شمول العمومات الدالة على صحة البيع وعدم شمولها للمجازات البعيدة ، هذا.

السادس : ما حكاه الفقيه المامقاني قدس‌سره عن بعض مشايخه : «من التفصيل في قرائن المجازات بين اللفظ الحقيقي وغيره ، بعد التفصيل بجواز المجاز القريب وعدم جواز المجاز البعيد. ففصّل في المجاز القريب بين ما لو كانت قرينته لفظا حقيقيّا وبين ما كانت غيره فلا يجوز. ولكنّا لم نجد به قائلا ، وسألنا الحاكي فلم يعرفه» (٣).

(١) كلفظ «بعت» في إنشاء البيع.

(٢) كلفظ «ملّكت» مثلا في إنشاء البيع ، فإنّه يصح إنشاؤه به شرعا مع عدم وضعه لغة للبيع.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٧

(٢) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٢٠٧

(٣) غاية الآمال ، ص ٢٢٢


الكناية ما أفاد لازم ذلك العقد بحسب الوضع (١) ، فيفيد إرادة نفسه (٢) بالقرائن ، وهي على قسمين عندهم جليّة وخفيّة.

والذي (٣) يظهر من النصوص المتفرقة في أبواب العقود اللّازمة ، والفتاوى المتعرضة لصيغها في البيع

______________________________________________________

(١) كلفظ «سلّطتك» إذا فرض قيام دليل شرعا على الإكتفاء به في مقام الإنشاء ، بحيث يكون «سلّطتك» بمنزلة «بعتك» وإن لم يكن لفظ «سلّطتك» موضوعا لغة لعنوان البيع ، لأنّه وضع للازم البيع وهو السلطنة ، فلفظ «سلّطتك» وضع للسلطنة التي هي من لوازم التمليك الذي هو مفهوم البيع ، على ما تقدّم تعريفه في كلام المصنف.

(٢) أي : أنّ اللازم يفيد نفس العقد الذي هو الملزوم ، فإنّ إرادته من التسليط ـ الذي هو لازمه ـ منوطة بالقرائن التي تنقسم إلى الجليّة والخفيّة.

(٣) غرضه قدس‌سره التعرض لما ينافي نسبة الحكم المزبور ـ أعني به اعتبار الوضع اللغوي في ألفاظ العقود ، وعدم إنشائها بالمجازات والكنايات ـ إلى المشهور ، وذلك لوجهين :

أحدهما : النصوص المتفرقة في أبواب العقود اللّازمة ، حيث يظهر منها الإكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفي في العنوان الاعتباري الإنشائي.

ثانيهما : الفتاوى المتعرضة لصيغ العقود.

فهذان الوجهان يشهدان بمنع النسبة المزبورة إلى المشهور ، فلا تعتبر الصراحة ولا الدلالة الحقيقية المستندة إلى الوضع اللغوي. هذا بحسب الدعوى.

واستدلّ المصنف قدس‌سره بنقل جملة وافية من عبارات الأصحاب في إنشاء البيع والنكاح والوقف والرّهن وغيرها كما سيأتي في المتن ، ولم يذكر هنا من الروايات شيئا ، فلا بأس بالتبرّك بذكر جملة منها :

الأولى : ما ورد فيها إنشاء البيع بلفظ الأمر ، مثل ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السّمسار أيشتري بالأجر؟ الى أن قال ،


.................................................................................................

______________________________________________________

فيقول : خذ ما رضيت ودع ما كرهت ، فقال : لا بأس» (١).

وظاهر الخبر ـ بملاحظة تقريره عليه‌السلام ـ كفاية إنشاء البيع بلفظ الأمر ، وجواز تخيير المشتري بين الأخذ والتّرك.

ونحوه ما ورد في بيع اللّبن في الضّرع بعد حلب مقدار منه في الاسكرّجة (٢). وبهذا المضمون روايات أخرى في الأبواب المتفرقة.

الثانية : ما ورد فيها إنشاء البيع بصيغة المضارع ، مثل ما في معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قدم لأبي متاع من مصر ، فصنع طعاما ودعى له التجار ، فقالوا له : نأخذه منك بده دوازده ، فقال لهم أبي : وكم يكون ذلك؟ فقالوا : في العشرة آلاف ألفان ، فقال لهم أبي : فإنّي أبيعكم هذا المتاع باثني عشر ألف درهم ، فباعهم مساومة» (٣). وظاهره صحة البيع بصيغة المضارع مع عدم تعقب إيجابه عليه‌السلام بقبولهم ، بل يستفاد القبول من قولهم : «نأخذ منك».

ونحوه ما ورد في شراء العبد الآبق مع الضميمة (٤).

الثالثة : ما ورد في بيع الصرف من إنشاء المعاملة تارة بلفظ «آخذ منك المائة بمائة وعشرة» كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٥) ، ويكون بطلان البيع لأجل الرّبا.

وأخرى من إنشائها بلفظ التحويل كما في رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام من قول المشتري للصرّاف : «حوّلها ـ أي الدراهم الوضح ـ لي دنانير» (٦) الحديث ، وتقريره عليه‌السلام إمضاء لوقوع بيع الصّرف بلفظ التحويل.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ٣٩٤ ، الباب ٢ من أبواب أحكام العقود ، الحديث : ٢

(٢) المصدر ، ص ٢٥٩ ، الباب ٨ من أبواب عقد البيع ، الحديث : ٢

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٨٥ ، الباب ١٤ من أبواب أحكام العقود ، الحديث : ١

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢٦٣ ، الباب ١١ من أبواب أحكام العقود ، الحديث : ٢

(٥) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٤٦٧ ، الباب ٦ من أبواب الصرف ، الحديث : ٣

(٦) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٤٦٣ ، الباب ٤ من أبواب الصّرف ، الحديث : ١


.................................................................................................

______________________________________________________

وثالثة من إنشائها بالاستبدال والتبديل كما في رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «عن الرّجل يستبدل الكوفية بالشامية وزنا بوزن ، فيقول الصيرفي : لا أبدّل لك حتى تبدّل لي يوسفية بغلّة وزنا بوزن ، فقال : لا بأس» (١).

الرابعة : ما ورد في بيع الزرع والثمار من إنشاء المعاملة تارة بلفظ «أبتاع» كما في رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في زرع بيع وهو حشيش ، ثم سنبل؟ قال : لا بأس إذا قال : ابتاع منك ما يخرج من هذا الزرع ..» الحديث (٢).

وأخرى بلفظ التقبّل كما في معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «تقبّل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة وإن شئت فأكثر ، وإن لم يتبيّن لك ثمرها فلا تستأجر» (٣).

الخامسة : ما ورد في إنشاء عقد الصلح بقول أحد الشريكين للآخر : «لك ما عندك ولي ما عندي» وقد تقدم في (ص ٧١).

السادسة : ما ورد في إنشاء المزارعة بلفظ المضارع ، كما في خبر أبي الربيع الشّامي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا ينبغي أن يسمّي بذرا ولا بقرا ، ولكن يقول لصاحب الأرض : أزرع في أرضك ، ولك منها كذا وكذا» الحديث (٤). ولا يخفى ظهوره في صحة الإنشاء بلفظ المضارع ، مع تقدم القبول فيه على الإيجاب.

السابعة : ما ورد في عقد المساقاة من إنشائها بلفظ الأمر ، كما في معتبرة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل يعطي أرضه وفيها ماء أو نخل أو فاكهة ، ويقول : اسق هذا الماء واعمره ، ولك نصف ما أخرج الله عزوجل منه؟ قال : لا بأس» (٥) فإنّ تقريره عليه‌السلام لما حكاه السائل من الصيغة دليل على صحة المساقاة بلفظ الأمر.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ص ٤٦٩ ، الباب ٧ من أبواب الصرف ، الحديث : ١

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٢ ، الباب ١١ من أبواب بيع الثمار ، الحديث : ٩

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٨ ، الباب ٢ من أبواب بيع الثمار ، الحديث : ٤

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٠١ ، الباب ٨ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة ، الحديث : ١٠

(٥) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٠٢ ، الباب ٩ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة ، الحديث : ٢


بقول مطلق (١) ، وفي بعض أنواعه (٢) ، وفي غير البيع من العقود اللازمة هو (٣) الإكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفيّ معتدّ به في المعنى المقصود ، فلا فرق بين قوله : «بعت وملّكت» وبين قوله : «نقلت إلى ملكك» أو «جعلته ملكا لك بكذا»

______________________________________________________

الثامنة : ما ورد في وقوع عقد المضاربة بغير الصيغة المعهودة ، كما في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «انّه قال في الرّجل يعطي المال ، فيقول له : ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها ، واشتر منها ، قال : فإن جاوزها وهلك المال فهو ضامن» (١) وظاهرها تحقق المضاربة بإعطاء المال ، وضمان العامل بمخالفة ربّ المال بتجاوزه عن البلدة المعيّنة للعمل والاتّجار فيها.

والمستفاد من مجموع هذه النصوص وغيرها جواز الإكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفي في المعنى المقصود من العقد أو الإيقاع ، ولا تتوقف الصحة على صراحة الصيغة كما في التذكرة ، ولا على الظهور الوضعي كما حكي عن المصابيح ، بل كما يجوز إنشاء البيع بلفظ «بعت» فكذا يجوز بلفظ «ملّكت ونقلته إلى ملكك» ونحوهما من الألفاظ الظاهرة عرفا في إنشاء الأمر الاعتباري البيعي.

(١) يعني : جميع أقسام البيع ، سواء أكان المبيع كلّيا أم شخصيا ، وسواء أكان عرضا أم نقدا كالدرهم والدينار ، وسواء أكان البيع برأس المال أم بأزيد منه أم بوضيعة منه ، وغير ذلك من الأقسام ، فيجوز إنشاء البيع في هذه الأقسام بما ليس صريحا فيه ، كإيجابه بلفظ «السّلم» مع كون المبيع شخصيا حالّا لا مؤجّلا.

(٢) كإنشاء بيع الصّرف بلفظ التبديل والتحويل ، وإنشاء بيع الزرع بلفظ التقبّل ، وإنشاء بيع التشريك بلفظ «شرّكتك» وبيع التولية بلفظ «ولّيتك» مع عدم صراحة هذه الألفاظ في مفهوم البيع وهو إنشاء تمليك عين بمال.

(٣) خبر قوله : «والّذي يظهر».

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٨١ ، الباب ١ من كتاب المضاربة ، الحديث : ٢


وهذا (١) هو الذي قوّاه جماعة من متأخّري المتأخّرين.

وحكي عن جماعة ممّن تقدّمهم كالمحقق على ما حكي عن تلميذه كاشف الرموز «أنّه حكى عن شيخه المحقق : أنّ عقد البيع لا يلزم منه لفظ مخصوص» وأنّه (٢) اختاره أيضا.

وحكي عن الشهيد رحمه‌الله في حواشيه «أنّه جوّز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه مثل : أسلمت إليك وعاوضتك» (٣).

وحكاه في المسالك عن بعض مشايخه المعاصرين (٤).

______________________________________________________

(١) يعني : الإكتفاء بكل لفظ ظاهر عرفا بنحو يعتدّ به. ومقصود المصنف قدس‌سره عدم تفرّده بهذا الإكتفاء ، لأنّه مختار جمع من طبقة متأخري المتأخرين كالمحدث الفيض في محكي المفاتيح (١) ، وصاحب الحدائق (٢). بل يستفاد من كلمات المتقدمين أيضا كما سيأتي نقل جملة منها في المتن ، وقد ابتدأ الماتن بحكاية ما ذكروه في البيع ، ثم ما يتعلق بصيغ سائر العقود.

(٢) معطوف على «أنّه» يعني : وحكي عن الفاضل الآبي أنّه اختار مذهب المحقق. قال في بيع الفضولي : «وإذا تقرّر هذا فلا إشكال على شيخنا ـ وهو المحقق ـ دام ظله ، لأنّ النهي عنده في المعاملات لا يقتضي الفساد ، ولا للبيع لفظ مخصوص ، بل يشكل على الشيخين ، لأنّهما يخالفانه في المسألتين. والمختار عندنا اختيار شيخنا دام ظله» (٣).

(٣) قال في مفتاح الكرامة : «فجوّز ـ أي الشهيد ـ البيع بكل لفظ دلّ عليه ، فقال : مثل : قارضتك وسلّمت إليك ، وما أشبه ذلك» (٤).

(٤) قال في المسالك : «غير أن ظاهر كلام المفيد قدس‌سره يدل على الإكتفاء في تحقق البيع بما دلّ على الرّضا به من المتعاقدين إذا عرفاه وتقابضا. وقد كان بعض

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٠

(٢) الحدائق الناظرة ، ج ١٨ ، ص ٣٥٤

(٣) كشف الرموز ، ج ١ ، ص ٤٤٦ ، والحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٠

(٤) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٠


بل هو ظاهر العلّامة في التحرير ، حيث قال : «إنّ الإيجاب اللفظ الدالّ على النقل مثل : بعتك ، أو ملّكتك ، أو ما يقوم مقامهما (١)» (١).

ونحوه المحكي عن التبصرة والإرشاد (٢) ، وشرحه لفخر الإسلام.

فإذا كان (٢) الإيجاب هو اللفظ الدالّ على النقل فكيف لا ينعقد بمثل «نقلته إلى ملكك أو جعلته ملكا لك بكذا؟»

بل (٣) ربما يدّعى : أنّه (٤) ظاهر كلّ من أطلق اعتبار الإيجاب والقبول فيه من دون ذكر لفظ خاص كالشيخ وأتباعه (٥)

______________________________________________________

مشايخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك أيضا ، لكن يشترط في الدال كونه لفظا. وإطلاق كلام المفيد أعم منه» (٣).

(١) من كل لفظ يدلّ على إنشاء البيع وإن لم تكن دلالته عليه بالوضع ، وعليه فيمكن نسبة عدم اعتبار لفظ خاصّ في البيع إلى العلّامة قدس‌سره.

(٢) هذا ما استنتجه المصنف من كلام العلامة وغيره. ووجهه : أنّ البيع لمّا كان بمعنى «نقل العين» لزم جواز إنشائه بلفظ النقل وما يفيده.

(٣) الإتيان بكلمة الإضراب من جهة أنّ مختار العلّامة قد علم من تصريحه بقوله : «أو ما يقوم مقامهما» والمدّعي لكفاية مطلق اللفظ يقول بعدم الحاجة إلى هذا التصريح ، وذلك لكفاية نفس إطلاق اعتبار الإيجاب والقبول في جواز الإنشاء بكلّ لفظ يدل على مقصود المتعاملين.

(٤) أي : أنّ الإكتفاء بكلّ لفظ له ظهور معتدّ به في المعنى المقصود.

لكن يمكن المناقشة فيه بورود الإطلاق في مقام اعتبار أصل اللفظ ، لا في مقام بيان صحة إنشائه بكلّ لفظ له ظهور في المعنى المقصود من العقد أو الإيقاع ، فتدبّر.

(٥) قال في مفتاح الكرامة : «وقد يدّعى أنّه ـ أي أنّ عدم اعتبار لفظ

__________________

(١) : تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ١٦٤

(٢) تبصرة المتعلمين ، ص ٨٨ ، إرشاد الأذهان ، ج ، ص ٣٥٩

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٧


فتأمّل (١).

وقد حكي (٢) عن الأكثر : تجويز البيع حالّا بلفظ السّلم.

______________________________________________________

مخصوص ـ ظاهر الأكثر كالشيخ وأبي يعلى وأبي القاسم القاضي وأبي جعفر محمد ابن علي الطوسي وأبي المكارم حمزة الحلبي وغيرهم ، حيث اقتصروا على الإيجاب والقبول مطلقين ، من دون تنصيص على لفظ مخصوص» (١).

(١) إشارة إلى : أنّ إطلاق كلام من إطلاق ناظر إلى اعتبار هذا الجنس في مقابل غيره كالفعل ، وليس مسوقا لبيان صحة الإيجاب والقبول بكلّ لفظ له ظهور في إنشاء عنوان العقد أو الإيقاع. ولا بأس بنقل عبارة واحدة من عبارات الذين أطلقوا في المقال حتى تكون أنموذجا نهتدي بها إلى حقيقة الحال ، وهي عبارة الغنية ، قال فيها : «أمّا شروطه فعلى ضربين : أحدهما شرائط صحة انعقاده ، والثاني شرائط لزومه. فالضرب الأوّل ثبوت الولاية في المعقود عليه ، وأن يكون معلوما مقدورا على تسليمه منتفعا به منفعة مباحة ، وأن يحصل الإيجاب من البائع والقبول من المشتري ، من غير إكراه ولا إجبار إلّا في موضع» (٢). انتهى المقصود من كلامه زيد في علوّ مقامه.

ومثله المحكي عن الشيخ رحمه‌الله في المبسوط.

(٢) الحاكي هو الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال في الاستدلال على ما أفاده المحقق من انعقاد البيع بلفظ السّلم : «وهذا هو اختيار الأكثر» (٣). ونسبه السيد العاملي إلى العلامة والمحقق والشهيدين والمحقق الثاني (٤).

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٠

(٢) غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ، ص ٥٢٣

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٤٠٥

(٤) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٤٩


وصرّح جماعة (١) أيضا (٢) في بيع التولية

______________________________________________________

(١) كالمحقق والعلّامة والشهيد قدس‌سرهم (١).

(٢) يعني : كما جوّز جماعة انعقاد البيع بلفظ السّلم ـ الموضوع لنوع خاص منه ـ فكذا صرّح جماعة بانعقاد بيع التولية والتشريك بلفظ «ولّيتك وشرّكتك» مع عدم كونهما موضوعين لغة للتمليك البيعي ، بل يدلّان عليه بالقرينة.

ولا بأس بتوضيح هذين القسمين ، فنقول : إنّ المعروف بين الفقهاء تقسيم البيع باعتبار الإخبار برأس المال ، وعدم الإخبار عنه إلى أربعة أقسام ، لأنّه إن أخبر البائع بالثمن فباعه بزيادة كان مرابحة ، وإن باعه بنقيصة كان مواضعة ، وإن باعه بنفس الثمن كان تولية ، وإن لم يخبر برأس المال أصلا كان مساومة.

وزاد الشهيد في الدروس واللمعة قسما خامسا وسمّاه التشريك. وفسّره بقوله : «والتشريك هو أن يجعل له فيه نصيبا برأس ماله ، وهو بيع أيضا. ولو أتى بلفظ التشريك فالظاهر الجواز ، فيقول : أشركتك في هذا المتاع نصفه بنصف ثمنه» (٢).

ومحصله : أنّ التشريك بيع جزء مشاع بجزء من الثمن الذي بذله المشتري ، فهو نظير بيع التولية في كونه تمليك العين بنفس رأس المال لا أزيد منه ولا أنقص. ولكنه يفترق عن بيع التولية بأنّ التشريك بيع كسر مشاع من المبيع ، كما إذا اشترى زيد دارا من عمرو بألف دينار ، وأراد بيع نصفها من بكر بخمسمائة دينار ، فيقول : «شرّكتك بنصفه بنسبة ما اشتريت» أو : «أشركتك بنصف الثمن» فيقبله بكر. ويصير شريكا في الدار مع زيد ، ولكل منهما نصفها. قال الشهيدان قدس‌سرهما : «وهو أي التشريك في الحقيقة بيع الجزء المشاع برأس المال ، لكنه يختص عن مطلق البيع بصحته بلفظه» (٣).

وحيث اتضح بيع التولية والتشريك فنقول : إنّ غرض المصنف قدس‌سره من

__________________

(١) : راجع : شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٤٢ و٤٣ ، تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٥٤٥ ، قواعد الأحكام ص ٥٣ ، (الطبعة الحجرية) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٢٢١

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٢٢١

(٣) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٤٣٧


بانعقاده (١) بقوله : «ولّيتك العقد ، أو : ولّيتك السلعة» والتشريك (٢) في المبيع بلفظ «شرّكتك».

______________________________________________________

الاستشهاد بكلام جماعة في هذين البيعين هو : أنّ تجويزهم إنشاء بيع التولية بلفظ «ولّيتك» دليل على كفاية مطلق اللفظ في البيع وعدم اعتبار الصراحة فيه. وجه الدلالة : أنّ معنى «ولّيتك العقد أو السلعة» ليس تمليك عين بعوض ـ الذي هو حقيقة البيع ـ بل معناه جعل المشتري متوليا على العقد أو السلعة التي باعها بنفس الثمن الذي اشتراها به ، ودلالة التولية على بيع المتاع برأس المال يكون بالقرينة كالمقاولة بين المتبايعين قبل العقد ، هذا.

وكذا الحال في البيع بالتشريك ، فإنّ قول البائع ، «أشركتك في هذا المتاع نصفه بنصف ثمنه» لا يدلّ بالوضع على «إنشاء تمليك عين بمال» إلّا مع القرينة ، لأنّ «الشركة» أعم من أن تكون في العين والمنفعة ، ومن كونها حاصلة بسبب قهري كالإرث أو اختياري كالمزج وغير ذلك من موجباتها.

وعلى هذا فتجويزهم بيع التولية والتشريك بغير لفظ البيع ـ والتمليك والنقل والتبديل ـ شاهد على كفاية مطلق اللفظ في انعقاد البيع ، وعدم اعتبار الدلالة الوضعية فيه.

(١) أي : بانعقاد بيع التولية. فلا يرد على المصنف : أنّه لا شهادة في جواز إنشاء بيع التولية بهذه الصيغة على جواز إنشاء مطلق البيع بهذا اللفظ.

وجه عدم الورود : أن المصنف لا يقصد الاستشهاد بكلام الجماعة على انعقاد مطلق البيع بلفظ التولية ، بل غرضه : أنّ البيع في جميع موارده «تمليك عين بعوض» فإذا جاز إنشاء صنف خاص منه بلفظ التولية ـ ممّا ليس موضوعا للمبادلة بين المالين ـ كان دليلا على صحة انعقاد البيع بالمجاز والكناية ، لأنّ مفاد البيع في جميع أفراده هو المبادلة بلا فرق بين التولية والمساومة وغيرهما.

(٢) ظاهره كونه معطوفا على «بيع التولية» فيكون القائل بجواز التشريك في البيع جماعة كما في التولية ، وهو غير بعيد. لكن لم أقف في هذه العجالة على كلام غير


وعن المسالك (١) في مسألة تقبّل أحد الشريكين في النخل حصّة صاحبه بشي‌ء معلوم من الثمرة «أن ظاهر الأصحاب جواز ذلك بلفظ التقبّل» مع أنّه

______________________________________________________

الشهيدين قدس‌سرهما في جوازه وعدّه من أقسام البيع ، ولذا فالأولى عطفه على «عن الأكثر» يعني : وقد حكي التشريك في المبيع بلفظ شرّكتك ، وإن كان المحكي عنه بعضا لا جماعة.

(١) قال في المسالك : «وظاهر الأصحاب أنّ الصيغة تكون بلفظ القبالة ، وأنّ لها حكما خاصّا زائدا على البيع والصلح ، لكون الثمن والمثمن واحدا ، وهو عدم ثبوت الرّبا لو زاد أو نقص ، ووقوعه بلفظ التقبيل ، وهو خارج عن صيغتي العقدين» (١).

والتقبّل عبارة عن أن يكون بين اثنين نخل أو شجر أو زرع فيتقبّل أحدهما بحصّة صاحبه ـ بعد خرص المجموع ـ بشي‌ء معلوم على حسب الخرص ، وهي معاوضة مستثناة من المزابنة والمحاقلة معا.

وقد دلّ على صحّته شرعا صحيحة يعقوب بن شعيب التي رواها المشايخ الثلاثة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجلين يكون بينهما النخل ، فيقول أحدهما لصاحبه : اختر إمّا أن تأخذ هذا النخل بكذا وكذا كيل (*) مسمّى ، وتعطيني نصف هذا الكيل إمّا زاد أو نقص. وإمّا أن آخذه أنا بذلك؟ قال : نعم لا بأس به» (٢).

وصحيحة أبي الصلاح الكناني قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما افتتح خيبر تركها في أيديهم على النصف ، فلمّا أدركت الثمرة بعث عبد الله بن رواحة إليهم فخرّص عليهم ، فجاؤا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنّه قد زاد علينا ، فأرسل إلى عبد الله بن رواحة ، فقال : ما يقول هؤلاء؟ فقال : خرصت عليهم بشي‌ء ، فإن شاؤا يأخذون بما خرصت ، وإن شاؤا أخذنا. فقال رجل من اليهود : بهذا قامت السموات والأرض» (٣).

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٣٧٠

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب بيع الثمار ، الحديث : ١

(٣) المصدر ، ص ١٩ ، الحديث : ٣


لا يخرج عن البيع أو الصلح (١) أو معاملة ثالثة لازمة عند جماعة (١).

هذا ما حضرني من كلماتهم في البيع.

وأمّا في غيره (٢) ، فظاهر جماعة (٣) في القرض عدم اختصاصه بلفظ خاصّ ، فجوّزوه بقوله : «تصرّف فيه ، أو : انتفع به وعليك ردّ عوضه ، أو : خذه بمثله

______________________________________________________

وغيرهما من الأخبار الكثيرة ، وإن ردّها الحلّي بناء منه على عدم حجية أخبار الآحاد. وضعف مبناه يغني عن التكلم في ردّه. والمثبتون اختلفوا في كون هذه المعاملة صلحا أو بيعا أو معاملة مستقلّة لازمة.

(١) يعني : أنّ لفظ «التقبّل» أجنبي ـ بحسب الوضع ـ عن كلّ من البيع والصّلح ، فلو كانت القبالة بيعا أو صلحا كان إنشاؤها بصيغة «تقبّل هذا بكذا» شاهدا على كفاية مطلق الدلالة اللفظية. نعم بناء على كون القبالة معاوضة مستقلّة كانت الصيغة المزبورة حقيقة فيها.

وعليه فكان المناسب أن يقتصر المصنف على احتمال كونها بيعا أو صلحا حتى يكون لفظ القبالة مجازا فيهما ، إذ بناء على الاستقلال لم يلزم مجاز ولا كناية ، مع أنّ مقصوده قدس‌سره الاستناد إلى كفاية إنشائها بعنوان القبالة حتى إذا كانت معاملة مستقلة.

إلّا أن يقال : إنّ مادّة «القبول والقبالة» لا تدل بالوضع على هذه المعاملة ، فتتّجه دعوى الماتن من عدم وضع صيغة «قبّلتك» لشي‌ء من البيع والصلح والمعاملة المستقلة.

(٢) أي : غير البيع. وقد أشرنا إلى أنّ المصنف تصدّى لإثبات مرامه ـ من كفاية مطلق اللفظ في إنشاء العقود اللّازمة ـ بالاستشهاد بكلمات الفقهاء في موضعين ، أحدهما فيما يخصّ البيع ، وقد فرغ منه. وثانيهما ما ذكروه في سائر العقود ، وقد شرع فيه بذكر صيغ القرض.

(٣) كالمحقق والعلّامة والشهيدين والمحقق الثاني ، فراجع كلماتهم (٢).

__________________

(١) : راجع للوقوف على الأقوال ، مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ٣٩١ و٣٩٢

(٢) راجع شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٦٧ ، تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥. الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٣١٨. مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٤٤٠ ، جامع المقاصد ، ج ٥ ، ص ٢٠ ، وغيرها ممّا نقلها السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٣٣ و٣٤


وأسلفتك» وغير ذلك (١) ممّا عدّوا مثله في البيع من الكنايات (٢). مع (٣) أنّ القرض من العقود اللّازمة (٤) على حسب لزوم البيع والإجارة.

وحكي عن جماعة (٥) في الرّهن : أنّ إيجابه يؤدّي بكل لفظ يدلّ عليه ، مثل قوله : «هذه وثيقة عندك» وعن الدروس (٦) : تجويزه بقوله : «خذه أو أمسكه بمالك».

______________________________________________________

(١) كقول المقرض : «اصرفه وعليك مثله ، وملّكتك بمثله» ولا ريب في أنّ التصرف في العين المقترضة ـ والانتفاع بها ـ من لوازم القرض الذي هو «تمليك مال مع ضمان بدله» مثل «سلّطتك عليه بكذا» في باب البيع ، ومن المعلوم أنّ ذكر اللّازم وإرادة الملزوم كناية.

(٢) يعني : فلا يعتبر لفظ خاص في إنشاء القرض.

(٣) فإنشاؤه بأيّ لفظ مع كونه من العقود اللازمة ـ ولو من طرف الدائن ـ يدل على عدم اعتبار لفظ خاص فيه.

(٤) لعلّ مراده قدس‌سره لزوم القرض من طرف المقرض ، أو اللّزوم من طرف المقترض أيضا إذا شرطاه في عقد لازم كالبيع والإجارة. وإلّا فيشكل عدّ القرض بنفسه من العقود اللازمة ، فمقتضى تصريح الشهيد الثاني وظاهر المحقق الثاني قدس‌سرهما كون القرض من العقود الجائزة ، فراجع (١).

(٥) قال السيد الفقيه العاملي : «وصريح الشرائع والتحرير والكتاب ـ يعني القواعد ـ والتذكرة والدروس واللمعة والمسالك والرّوضة ومجمع البرهان والكفاية والمفاتيح أنه ـ أي عقد الرّهن ـ لا يختص بلفظ ، ولا بلفظ الماضي» (٢).

(٦) قال الشهيد فيه : «ولو قال : خذه على مالك أو بمالك فهو رهن. ولو قال : أمسكه حتى أعطيك مالك وأراد الرّاهن جاز. ولو أراد الوديعة أو اشتبه فليس

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٥ ، ص ٢٠ و٢٤ ، مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ٤٤٠

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٧٢


وحكي عن غير واحد (١) تجويز إيجاب الضمان الذي هو من العقود اللازمة بلفظ «تعهّدت المال وتقلّدته» وشبه ذلك.

وقد ذكر المحقق (٢) وجماعة ممن تأخّر عنه جواز الإجارة بلفظ العارية معلّلين بتحقق القصد.

______________________________________________________

برهن» (١). وعليه فتجويز إنشاء الرهن بصيغة الإمساك ليس مطلقا ، بل مقيّد باقترانه بقصد الرّهن.

وعلى كلّ حال فجواز إيجاب الرّهن ـ مع كونه لازما من قبل الراهن ـ بالألفاظ غير الدالّة عليه بالوضع دليل على عدم اعتبار الصراحة أو الظهور الوضعي في إنشاء العقد.

(١) كشيخ الطائفة والعلّامة ، قال السيد العاملي في شرح قول العلامة : «الصيغة ، وهي : ضمنت وتحمّلت وتكفّلت وما أدّى معناه» ما لفظه : «من الألفاظ الدالة عليه صريحا كتقلّدته والتزمته ، وأنا بهذا المال ظهير ، أو كفيل ، أو ضامن ، أو زعيم ، أو حميل ، أو قبيل ، كما في المبسوط وغيره. وكذا لو قال : دين فلان عليّ كما في التذكرة ، لأنّ عليّ ضمان ، لاقتضاء عليّ الالتزام» (٢).

(٢) قال المحقق قدس‌سره : «أمّا لو قال : ملّكتك سكنى هذه الدار سنة بكذا صحّ.

وكذا : أعرتك ، لتحقق القصد إلى المنفعة» (٣) ووافقه المحقق الأردبيلي وغيره. ووجه الصحة ـ كما في المسالك ـ هو : «أنّ الإعارة لمّا كانت لا تقتضي ملك المستعير للعين ، وإنّما تفيد تسلّطه على المنفعة وملكه لاستيفائها كان إطلاقها بمنزلة تمليك المنفعة ، فتصحّ إقامتها مقام الإجارة ، كما يصح ذلك بلفظ الملك» (٤).

والمسألة خلافية ، فاستشكل العلّامة في التحرير في جوازه ، ومنعه في القواعد (٥)

__________________

(١) : الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٣٨٣

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٣٥١

(٣) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٩

(٤) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٣

(٥) مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٧٤


وتردّد جماعة (١) في انعقاد الإجارة بلفظ بيع المنفعة.

وقد ذكر جماعة (٢) جواز المزارعة بكلّ لفظ يدلّ على تسليم الأرض للمزارعة.

______________________________________________________

ووافقه في المنع المحقق والشهيد الثانيان (١).

وعلى تقدير الجواز فلا ريب في كون العارية مجازا في «تمليك المنفعة بعوض معيّن» عند وجود القرينة والقصد إلى تمليك المنفعة وأخذ العوض ، فتمام المناط في انعقاد الإجارة بلفظ العارية هو القصد إلى تمليك المنفعة سواء أكان الدالّ عليه حقيقة أم كناية أم مجازا. وعليه فيكون فتوى المحقق دليلا على صحة التجوّز في صيغ العقود.

(١) كالمحقق والشهيد في اللمعة ، قال في الشرائع : «وكذا ـ أي لم تصح الإجارة ـ لو قال : بعتك سكناها سنة ، لاختصاص لفظ البيع بنقل الأعيان ، وفيه تردّد» (٢). ووجه التردّد : أنّ البيع موضوع لنقل الأعيان ، فلا ينشأ به نقل المنافع ، فلا يجوز ، وأنّه مع التصريح بقصد تمليك المنفعة ينبغي الجواز.

وكيف كان فنفس تردّد المحقق قدس‌سره شاهد على عدم اعتبار الصراحة في صيغ العقود ، إذ لو كانت معتبرة فيها لم يبق وجه للتردد ، بل تعيّن الحكم بالبطلان.

(٢) كالمحقق والعلّامة وغيرهما قدس‌سرهم ، قال في الشرائع : «وعبارتها أن يقول : زارعتك ، أو : ازرع هذه الأرض أو سلّمتها إليك ـ وما جرى مجراه ـ مدّة معلومة بحصّة من حاصلها». وزاد العلامة في التذكرة على الصيغ المذكورة ألفاظا أخرى وهي : «أو قبّلتها بزراعتها أو بالعمل فيها مدة معلومة .. أو خذ هذه الأرض على هذه المعاملة وما أشبه ذلك ، ولا تنحصر في لفظ معيّن ، بل كل ما يؤدّي هذا المعنى» وفي القواعد زيادة صيغة «عاملتك» (٣).

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٥ ، ص ٨٣ ، مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٣

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٧٩ ، الروضة البهية ، ج ٤ ، ص ٣٢٨

(٣) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٤٩ ، تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٣٧ ، قواعد الأحكام ، ص ٩٤ (الطبعة الحجرية).


وعن مجمع البرهان (١) ـ كما في غيره ـ أنّه لا خلاف في جوازها بكلّ لفظ يدل على المطلوب مع كونه ماضيا.

وعن المشهور (٢) جوازها بلفظ «أزرع».

______________________________________________________

وحكى السيد العاملي انعقادها بما أشبه هذه الصيغ عن آخرين ، فراجع.

والغرض : أنّ ما عدا لفظ «زارعتك» لا يدلّ بحسب الوضع اللّغوي على عقد المزارعة ، ولا بدّ من قرينة معيّنة للمراد ، فهذا دليل على جواز الإكتفاء بمطلق اللفظ في العقود اللّازمة.

(١) ظاهر العبارة : أنّ المحقق الأردبيلي جوّز إنشاء المزارعة بالألفاظ المتقدمة إلّا صيغة الأمر المذكورة في الشرائع والتذكرة وغيرهما ، فاعتبر الماضوية فيها. ولعلّ المصنف قدس‌سره اعتمد في نقل كلامه على مفتاح الكرامة (١) أو غيره ، وإلّا فالمحقق الأردبيلي استظهر انعقادها بالمضارع والأمر ، قال : «والظاهر أن لا خلاف في الجواز بكل لفظ يدلّ على المطلوب ، مع كونه ماضيا ، والظاهر جوازها بالأمر أيضا» فراجع (٢).

(٢) الناسب إلى المشهور هو الشهيد الثاني في الروضة ، حيث قال : «والمشهور جوازها بصيغة : ازرع هذه الأرض» (٣).

وفي الرياض : «واستدلّ الأكثر بالصحيح السابق ونحوه على جواز المزارعة والمساقاة بصيغة الأمر» (٤).

لكن تأمّل السيد العاملي في صحة النسبة (٥) ، فراجع.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٢٩٩

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٩٦ و٩٨

(٣) الروضة البهية ، ج ٤ ، ص ٤٧٦

(٤) رياض المسائل ، ج ١ ، ص ٦١١

(٥) مفتاح الكرامة ، ج ٧ ص ٢٩٩


وقد جوّز جماعة (١) الوقف بلفظ «حرّمت وتصدقت» مع القرينة الدالّة على إرادة الوقف ، مثل «أن لا يباع ولا يورث» مع عدم الخلاف ـ كما عن غير واحد ـ على أنّهما من الكنايات (٢).

وجوّز جماعة (٣) وقوع النكاح الدائم بلفظ التمتع ، مع أنّه ليس صريحا فيه.

______________________________________________________

(١) كالمحقق والعلّامة والشهيدين والمحقق الثاني قدس‌سرهم (١) ، ففي اللّمعة وشرحها : «وأمّا حبّست وسبّلت وحرّمت وتصدقت فمفتقر إلى القرينة كالتأبيد ، ونفي البيع والهبة والإرث ، فيصير بذلك صريحا» (٢).

ولا يخفى صراحة كلامهما في افتقار بعض الصيغ إلى القرينة ، مع عدم وضعها بأنفسها للوقف ، مع أنّه يجوز إنشاؤه بها.

(٢) ووجه كون «حرّمت وتصدّقت وأبّدت» كناية عن الوقف ـ كما في جامع المقاصد ـ هو اشتراكها في الاستعمال بين الوقف وبين غيره ، فيتوقّف على ضمّ قرينة تدلّ على حكم من أحكام الوقف مثل عدم جواز بيعه وهبته.

(٣) كالمحقّق والعلّامة في بعض كتبه ، والمحقق الثاني وغيرهم ، قال في الشرائع : «وفي متّعتك تردّد ، وجوازه أرجح» (٣). وجوّزه العلّامة في القواعد والإرشاد ، ومنع منه في التذكرة (٤).

والغرض أنّ لفظ «التمتع» لم يوضع لغة للنكاح الدائم ، فجواز إنشائه به دليل على الإكتفاء باللفظ غير الصّريح.

هذه جملة الكلمات التي استظهر المصنف قدس‌سره منها كفاية مطلق اللفظ في العقود

__________________

(١) : شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢١١ ، تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٤٢٧. الدروس الشرعية ، ج ٢ ، ص ٢٦٣. جامع المقاصد ، ج ٩ ، ص ٨ و٩

(٢) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ١٦٤

(٣) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢٧٣ ، قواعد الأحكام ، ص ١٤٧ (الطبعة الحجرية) ، إرشاد الأذهان ، ج ٢ ، ص ٦ ، جامع المقاصد ، ج ١٢ ، ص ٦٩ و٧٠

(٤) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨١


ومع هذه الكلمات (١) كيف يجوز أن يسند إلى العلماء ـ أو أكثرهم ـ وجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له (٢) ، وأنّه (٣) لا يجوز بالألفاظ المجازية خصوصا (٤) مع تعميمها للقريبة والبعيدة؟ كما تقدّم عن بعض المحققين (٥).

ولعلّه (٦) لما عرفت من تنافي ما اشتهر بينهم ـ من عدم جواز التعبير بالألفاظ المجازية في العقود اللازمة ـ مع (٧) ما عرفت منهم من الإكتفاء في

______________________________________________________

اللازمة ، وإن كان استفادة الحكم من بعضها لا تخلو من شي‌ء كما تقدم في مطاوي التوضيح.

(١) غرضه الاستنتاج من الفتاوى التي بدأت بقوله : «والذي يظهر من النصوص والفتاوى المتعرّضة لصيغها في البيع بقول مطلق ، وفي بعض أنواعه ، وفي غير البيع من العقود اللازمة هو الإكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفي معتدّ به في المعنى المقصود».

(٢) أي : الصريح ، كما نصّ عليه في التذكرة.

(٣) يعني : كيف يجوز أن يسند إلى العلماء المنع من الإنشاء بالألفاظ المجازية؟

(٤) قيد ل «لا يجوز» يعني : أنّ المانع من الانعقاد بالمجاز إن كان مانعا عن خصوص المجاز البعيد ربما أمكن توجيهه. وإن كان مانعا عن مطلق المجاز قريبه وبعيده ـ كما نقله السيد العاملي عن مصابيح السيد بحر العلوم ـ كان في غاية الإشكال ، إذ مع هذه الفتاوى المتقدمة في صيغ العقود اللّازمة كيف يمنع عن المجاز القريب؟

(٥) وهو العلامة السيد الطباطبائي بحر العلوم قدس‌سره في المصابيح.

(٦) الضمير للشأن. غرضه الجمع بين الكلمات من القول بوجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له ، وعدم جواز إيقاعه بالألفاظ المجازية مع الإكتفاء في أكثر العقود بالألفاظ غير الموضوعة لذلك العقد. وحاصل وجه الجمع الذي أفاده المحقق الثاني هو حمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة ، ومثّل للمجاز البعيد ، بالخلع والكتابة بالنسبة إلى إنشاء البيع ، ومثّل للمجاز القريب بالتمليك والسّلم. وقريب منه كلامه في كتاب النكاح.

(٧) متعلق بالتنافي ، يعني : التنافي بين ما اشتهر وبين ما عرفت منهم.


أكثرها بالألفاظ غير الموضوعة لذلك العقد جمع المحقق الثاني ـ على ما حكي عنه في باب السّلم والنكاح ـ بين كلماتهم بحمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة (١) ، وهو جمع حسن.

والأحسن منه (١) أن يراد باعتبار الحقائق في العقود اعتبار الدلالة اللفظية الوضعية سواء كان اللفظ الدّال على إنشاء العقد موضوعا له بنفسه أو مستعملا فيه مجازا بقرينة لفظ موضوع آخر (٢) ليرجع الإفادة بالأخرة إلى

______________________________________________________

(١) لعلّ وجه الأحسنيّة هو الأشملية ، توضيحه : أنّ لهم في عدم كفاية الألفاظ المجازية في العقود عبارتين : إحداهما : أنّه لا يجوز التعبير بالألفاظ المجازية. والأخرى : أنّه يعتبر كون ألفاظ العقود اللازمة من قبيل الحقيقة ، كما أشار إليها بقوله : «أن يراد باعتبار الحقائق».

والجمع الذي ذكره المحقق الثاني لا ينطبق على العبارة الثانية ، إلّا بأن يراد بالحقيقة ما هو أعمّ منها ومن المجاز القريب ، وهو تكلّف بعيد.

بخلاف ما ذكره المصنف قدس‌سره من وجه الجمع ، فإنّ مقتضاه التوسعة في اعتبار الحقيقة ، بمعنى كون الدلالة مستندة إلى الحقيقة ، سواء أكانت هي المفيدة لمضمون العقد ابتداء ، بأن يقع الإنشاء به ، كأن يقول : «بعتك هذا المتاع بكذا» أم كانت ممّا يستند إليه دلالة اللفظ الذي وقع به الإنشاء ، كقوله : «نقلت إليك هذا المتاع بالبيع» فإنّ نفس اللفظ الذي ينشأ به البيع ـ وهو لفظ «نقلت» ـ ليس موضوعا لمعنى البيع ، لكنّ دلالته على البيع يكون بسبب الوضع ، حيث إنّ قرينته ـ وهي قوله : «بالبيع» ـ تدلّ بالوضع على معنى البيع ، فيصدق على الصيغة : أنّها تدلّ بالوضع على معنى البيع.

(٢) كما في دلالة «تصدّقت» على الوقف بقرينة دلالة لفظ موضوع مثل «لا تباع ولا توهب ولا تورث» وكدلالة «متّعت» على النكاح المؤبّد بقرينة كلمة «الدائم» الموضوعة للدوام.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٢٠٧ و٢٠٨ ، ج ١٢ ، ص ٧٠ ، والحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٤٩


الوضع ، إذ (١) لا يعقل (*) الفرق في الوضوح ـ الذي هو مناط الصراحة ـ بين إفادة لفظ للمطلب بحكم الوضع ، أو إفادته له بضميمة لفظ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك اللفظ. وهذا بخلاف اللفظ الذي يكون دلالته على المطلب لمقارنة حال (٢) أو سبق مقال (٣) خارج عن العقد ، فإنّ الاعتماد عليه (٤) في متفاهم المتعاقدين وإن كان من المجازات القريبة جدّا.

______________________________________________________

وهذا معنى رجوع دلالة مثل «تصدّقت ومتّعت» إلى الوضع ، يعني : أنّ القرينة تكون دلالتها وضعية ، فتعيّن المراد من ذي القرينة ببركة الوضع.

(١) تعليل لقوله : «والأحسن منه» وقد عرفت توضيحه.

(٢) كما إذا أسّس مكانا للصلاة فيه وعلم من حاله أنّه يريد جعله مسجدا ، ولكنّه اقتصر في صيغة الوقف على قوله : «تصدّقت» بدون تعقيبه بقوله : «صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث» فإنّ العلم بالوقفية وإن كان حاصلا من قرينة حالية ، ولكن هذا الإنشاء لا يكفي في مقام الوقف ـ بناء على توجيه المصنف ـ لخلوّ الصيغة عن القرينة اللفظية المعيّنة للمراد.

(٣) كما إذا تقاول الرجل والمرأة على النكاح الدائم بدون ذكر قرينة في صيغة العقد ، كما إذا قالت : «متّعتك نفسي بكذا» فإنّ القرينة المقالية السابقة على العقد غير كافية حينئذ ، بل لا بد أن يؤتي بقيد الدوام في نفس العقد.

(٤) أي : فإنّ الاعتماد على المقترن بالعقد ـ من حال أو مقال سابق عليه ـ رجوع عمّا أسّسوه من دوران صحة العقود مدار الأقوال.

__________________

(*) عدم معقولية الفرق في الوضوح ـ بناء على كون مناط الصراحة مطلق الوضوح في المراد وإن نشأ من القرينة ـ وإن كان متينا ، لكنه يوجب عدم الفرق حينئذ بين القرينة اللفظية وغيرها ، لأنّ ظهور اللفظ في المراد وإن كان بمعونة قرينة حالية أيضا لفظي ، فيكون الإنشاء باللفظ الظاهر في المقصود ، لا بغيره حتى يكون عدولا عما بنى


رجوع (*) عمّا بني عليه من عدم العبرة بغير الأقوال في إنشاء المقاصد ، ولذا (١) (**) لم يجوّزوا العقد بالمعاطاة ولو مع سبق مقال أو اقتران حال تدلّ على إرادة البيع جزما.

ومما ذكرنا (٢) يظهر الإشكال في الاقتصار على المشترك اللفظي اتّكالا

______________________________________________________

(١) أي : ولأجل عدم العبرة بغير الأقوال منعوا من تحقق العقد بالمعاطاة حتّى مع سبق مقاولة ، أو اقتران التعاطي بقرينة حاليّة دالة على إرادة التمليك البيعي.

(٢) أي : من اعتبار الدلالة اللفظيّة الوضعيّة ـ إمّا في نفس الصيغة ، وإمّا في قرينتها على المراد ، وأنّه لا تكفي القرينة القولية السابقة كالمقاولة ، ولا القرينة الحالية المقارنة ـ يظهر عدم جواز الاقتصار في مقام إنشاء العقود على المشترك اللفظي والمعنوي ، لقصور اللفظ عن إفهام المقصود ما لم ينضمّ إليه قرينة لفظية. والقرينة الحالية لا عبرة بها ، لعدم كونها لفظا. نعم لو انضمّت القرينة الدالّة بالوضع على المراد من المشترك صحّ الإنشاء به.

__________________

عليه من عدم العبرة بغير الألفاظ في إنشاء المقاصد.

وأمّا بناء على كون مناط الصراحة هو الوضع المستند إلى خصوص وضع اللفظ للمعنى المنشأ به ـ كما هو صريح تفسيرهم الصريح بما كان موضوعا لعنوان العقد المنشأ به ـ فعدم الفرق غير معقول.

والحاصل : أنّه لم يظهر وجه لحسن ما أفاده فضلا عن أحسنيّته ، فتدبّر.

(*) كيف يكون رجوعا مع وقوع الإنشاء بالقول ، وكذا الإفهام؟ دون الفعل.

(**) فيه : أنّ ما لم يجوّزوه عقدا هو الإنشاء بالفعل المقرون بالقرينة ، دون الإنشاء باللفظ المفهم للمراد بسبب القرينة ، فلا مجال لقياس أحدهما بالآخر.


على القرينة الحاليّة المعيّنة (١) (*). وكذا المشترك المعنوي.

ويمكن أن ينطبق على ما ذكرنا (٢) الاستدلال المتقدّم في عبارة التذكرة بقوله قدس‌سره : «لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب» (١) إذ ليس المراد أنّ المخاطب لا يفهم منها المطلب ولو بالقرائن الخارجية. بل المراد أنّ الخطاب بالكناية لمّا لم يدل على المعنى المنشأ (٣) ما لم يقصد (**) الملزوم (٤) ، لأنّ (٥) اللّازم الأعم ـ كما هو الغالب بل المطّرد في الكنايات ـ لا تدلّ على الملزوم

______________________________________________________

(١) لأنّ ظهوره في البيع منوط بالقرينة ، ومثاله «التمليك» المشترك بين البيع والهبة كما قيل.

(٢) من عدم جواز الاتّكال على القرينة المقالية السابقة على الإنشاء ، أو الحالية المقارنة له. ومقصوده بقوله : «ويمكن» توجيه استدلال العلّامة قدس‌سره وجعله موافقا لنفسه في مقام الجمع بين كلمات القوم الذي أفاده بقوله : «والأحسن منه أن يقال .. إلخ».

(٣) وهو عنوان المعاملة ـ كالبيع ـ إذا أنشئ بلفظ «نقلت» مثلا.

(٤) وهو عنوان العقد كالبيع ، يعني : ما لم يقصد المنشئ من اللّازم ـ كالنقل الذي كنّي به عن البيع ـ النقل الملازم للمعنى المنشأ وهو البيع. ويرشد إلى هذا التفسير قوله بعد ذلك : «ما لم يقصد المتكلم خصوص .. إلخ».

(٥) تعليل لقوله : «لمّا لم يدلّ».

__________________

(*) هذا مناف لما سيذكر من عدم الخلاف في صحة الإيجاب بلفظ «بعت» إذ لا إشكال في كونه مشتركا لفظيّا بين البيع والشراء. وكثرة استعماله في البيع ليست من القرائن اللفظية. وهذا وجه آخر لعدم صحة ما أفاده من الجمع المزبور.

(**) قصد الملزوم غير دخيل في الدلالة ، ففي العبارة مسامحة. نعم قصد الملزوم دخيل في إنشاء العنوان الاعتباري.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢


ما لم يقصد (*) المتكلّم خصوص الفرد الجامع مع الملزوم الخاص ، فالخطاب (١) في نفسه محتمل (٢) لا يدري المخاطب بم خوطب ، وإنّما يفهم بالقرائن الخارجية الكاشفة عن قصد المتكلم ، والمفروض على ما تقرّر في مسألة المعاطاة (**) أنّ النّية بنفسها أو مع انكشافها بغير الأقوال (٣) لا تؤثر في النقل

______________________________________________________

(١) جزاء الشرط في قوله : «لمّا لم يدلّ».

(٢) يعني : أنّ الخطاب ـ المراد به العقد ـ لعدم اشتماله على لفظ يدلّ على عنوان المعاملة محتمل لإرادة معاملة أخرى ، فلا يعلم المخاطب بالعقد بأيّ معنى خوطب به علما مستندا إلى اللفظ ، وإنّما يفهم المراد بالقرائن الخارجية اللفظية الكاشفة عن قصد المتكلم من اللازم الملزوم.

مثلا : إذا قال البائع : «أدخلته في ملكك بكذا» أو : «جعلته ملكا لك بكذا» أو : «مسلّطا عليه بكذا» لم يدلّ بنفسه على إرادة البيع ، لأنّ إدخال المال في ملك المخاطب ـ وكذا جعله مسلّطا عليه ـ لازم أعم من البيع ، لتحققه به وبالهبة وبالصلح ، ومن المعلوم أنّ اللازم الأعم لا يفيد بمجرّده الملزوم الخاص ، إلّا أن يقصد البائع خصوص الإدخال والجعل المجتمع مع البيع ، مع وجود كاشف عن قيده ، حيث إنّه بدون الكاشف يكون خطاب «أدخلته في ملكك» محتملا لعقود متعددة هي ملزومات الخطاب ، ولا يتمكن المخاطب من أن يستفيد خصوص البيع أو الهبة مع قطع النظر عن القرائن الخارجية ، ولا يعلم أنّ دخول المال في ملكه هل تحقّق بالبيع أم بالهبة المعوّضة أم بالصلح؟ مع فرض اختلاف أحكامها.

(٣) كما في المعاطاة ، فإنّها فعل مجرّد عن اللفظ.

__________________

(*) ليست الدلالة تابعة لقصد المتكلم ، ومراده قدس‌سره لا يخلو من خفاء.

(**) قد تقدم آنفا فساد هذه المقايسة.


والانتقال (١) ، فلم يحصل هنا عقد لفظي يقع التفاهم به.

لكن هذا الوجه (٢) لا يجري في جميع ما ذكروه من أمثلة الكناية.

ثم إنّه ربما يدّعى (٣) أنّ العقود المؤثّرة في النقل والانتقال أسباب شرعيّة توقيفية ، كما حكي عن الإيضاح من أنّ «كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة مخصوصة بالاستقراء» (١) فلا بدّ من الاقتصار على المتيقن (٤).

______________________________________________________

(١) هذا أوّل الوجوه الأربعة في معنى قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» حيث قال هناك : «انّ تحريم شي‌ء وتحليله لا يكون إلّا بالنطق بهما ، فلا يتحقق بالقصد المجرّد عن الكلام ، ولا بالقصد المدلول عليه بالأفعال دون الأقوال».

ثمّ إنّ الكناية يكون من الثاني ، لأنّ نية الملزوم ـ الذي هو المقصود فيها ـ قد انكشفت بغير الأقوال ، لانكشافها بالانتقال عقلا من لفظ اللازم إلى المعنى الملزوم.

(٢) أي : الوجه الذي ذكره لتطبيق كلام العلامة قدس‌سره ـ من اعتبار كون الدلالة مستندة إلى اللفظ ـ لا يجري في جميع أمثلة الكناية ، لكونه أخصّ من المدّعى وهو إلغاء مطلق الصيغ الكنائية ، وذلك لأنّ القرينة في بعضها ـ مثل : أدخلته في ملكك ـ لفظية ، لأنّ القرينة فيه هو قوله : «في ملكك» وهو لفظ ، فيصدق عليه : العقد اللفظي.

(٣) الغرض من التعرض لكلام فخر المحققين ـ بعد توجيه كلام العلّامة ـ هو رفع مانع آخر عمّا ينافي مختار المصنف من كفاية مطلق اللفظ في مقام إنشاء العقود اللازمة ، وتوضيحه : أنّ فخر المحققين قدس‌سره ادّعى حصر جواز الإنشاء في القدر المتيقّن وهو الاقتصار على الحقائق. ولمّا كانت هذه الدعوى منافية لما أفاده المصنف في الجمع بين الكلمات ـ من جواز العقد بمطلق اللفظ المفيد له إفادة وضعية ولو كان مجازا محفوفا بالقرينة اللفظية الوضعية ـ تعرّض لذكره والإشكال عليه بقوله : «وهو كلام لا محصل له» لمنافاته للروايات وفتاوى العلماء.

(٤) يعني : اللفظ الموضوع لذلك العقد ، مثل «بعت» في البيع ، و «وهبت» في

__________________

(١) : إيضاح الفوائد ، ج ٣ ، ص ١٢


وهو كلام (١) لا محصّل له عند من لاحظ فتاوى العلماء فضلا عن الروايات المتكثرة الآتية بعضها.

وأمّا ما ذكره الفخر قدس‌سره (٢) فلعلّ المراد فيه من الخصوصية المأخوذة في الصيغة شرعا هي اشتمالها على العنوان المعبّر عن تلك المعاملة به (٣) في كلام الشارع ، فإذا كانت العلاقة الحادثة بين الرجل والمرأة معبّرا عنها في كلام الشارع بالنكاح أو الزوجية أو المتعة فلا بدّ من اشتمال عقدها على هذه العناوين ، فلا (٤) يجوز

______________________________________________________

الهبة ، و «أنكحت» في النكاح ، و «وقفت» في الوقف ، وهكذا سائر العناوين الاعتبارية.

(١) هذا إشكال المصنف على فخر الدين قدس‌سرهما. ومحصله : مخالفة دعواه للفتاوى المتقدمة ، وللنصوص التي تقدم جملة منها ، وسيأتي بعضها الآخر في شرائط الصيغة إن شاء الله تعالى.

(٢) غرضه توجيه ما أفاده الفخر قدس‌سره ـ من وضع الشارع لكل عقد لازم صيغة مخصوصة ـ بما لا ينافي ما تقدّم في الجمع بين الكلمات من قول المصنف قدس‌سره : «والأحسن منه أن يراد باعتبار الحقائق في العقود اعتبار الدلالة اللفظية .. إلخ» فيكون الفخر قدس‌سره موافقا للمصنف لا مخالفا له.

وملخص التوجيه : أنّه يحتمل أن يراد بالصيغة المخصوصة في كلام الفخر اشتمال الصيغة على العنوان المعبّر عن تلك المعاملة به في كلام الشارع بالنكاح أو الزوجية أو المتعة ، فلا بد من إنشاء عقد النكاح بلفظ النكاح ، والبيع بلفظ البيع ، وهكذا سائر العقود.

(٣) أي : المعبّر بذلك العنوان عن تلك المعاملة في كلام الشارع.

(٤) متفرع على لزوم اشتمال الصيغة على العناوين المعبّر عنها في لسان الشارع ، فإنّ «الهبة» ليست مما عبّر بها في لسانه عن النكاح ، ولذا لا يجوز إنشاء النكاح بها.


بلفظ الهبة أو البيع أو الإجارة أو نحو ذلك (*). وهكذا الكلام في العقود المنشئة للمقاصد الأخر كالبيع والإجارة ونحوهما.

فخصوصية اللفظ من حيث (١) اعتبار اشتمالها على هذه العنوانات الدائرة في لسان الشارع أو ما (٢) يرادفها لغة أو عرفا ، لأنّها (٣) بهذه العنوانات موارد للأحكام الشرعية التي لا تحصى.

وعلى هذا (٤) فالضابط وجوب إيقاع العقد بإنشاء العناوين الدائرة في

______________________________________________________

(١) خبر «فخصوصية» يعني : أنّ خصوصية الصيغة ـ بنظر فخر المحققين ـ تكون لأجل اشتراط العقود والإيقاعات بخصوص هذه الألفاظ أو ما يرادفها.

(٢) معطوف على «العنوانات الدائرة». ولا يخفى أنّ تعميم العنوان للمرادف العرفي واللغوي مبني على توجيه المصنف لكلام الفخر ، وإلّا فعبارة الإيضاح صريحة في الاقتصار على القدر المتيقن ممّا ورد في الأدلة الشرعيّة.

(٣) يعني : لأنّ العقود بهذه العنوانات من البيع والصلح والنكاح وغيرها موضوعات لأحكام شرعيّة ، كموضوعية عنوان «البيع» لخياري المجلس والحيوان وغيرهما من الأحكام. فلا بدّ في تحققها من إنشائها بعناوينها حتى يترتب عليها أحكامها ، فلو أنشئت بغيرها كانت أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات مقتضية لعدم ترتب أثر عليها.

(٤) أي : وبناء على كون خصوصية اللفظ لأجل اشتمالها على عناوين العقود فالضابط هو .. إلخ. ومحصّل ما أفاده : أنّ المناط في إنشاء المعاملات هو الألفاظ

__________________

(*) الحق صحة العقد بكل لفظ له ظهور عرفي في مضمونه وإن لم يكن بالألفاظ المعبّر بها عن ذلك المضمون في كلام الشارع ، ضرورة أنّ العمومات تشمله ، فلو شك في اعتبار لفظ خاص في صحة المعاملة فينفى بالعمومات ، فإنّ شمولها لما له ظهور عرفي من الألفاظ ليس بأدون من شمولها للأفعال التي ينشأ بها العقود.


لسان الشارع (*) ، إذ لو وقع بإنشاء غيرها فإن كانت لا مع قصد تلك العناوين ـ كما لو لم تقصد المرأة إلّا هبة نفسها أو إجارة نفسها مدّة الاستمتاع ـ لم يترتب عليه الآثار المحمولة في الشريعة على الزوجية الدائمة أو المنقطعة.

______________________________________________________

الدائرة في لسان الشارع ، لا بمعنى الاقتصار على الصيغ المتيقنة كما ادّعاه فخر المحققين ، بل نقول بأعميتها منها ومما يرادفها لغة أو عرفا ، فإذا أنشأ البيع بقوله : «ملّكت» صح أيضا ، لاقترانه بذكر العوض ، ومن المعلوم أنّ «التمليك على وجه المقابلة بين المالين» هو البيع لا غير. والمفروض أنّ ذكر العوض يدلّ بالدلالة اللفظية الوضعية على ما يراد من «ملّكت» فلو لم تكن الصيغة بنفسها موضوعة للعنوان المنشأ ، ولم تنضم إليها قرينة لفظية دالّة على المراد لم يصح الإنشاء به.

وعلى هذا فإذا أنشأت المرأة الزوجية بقولها : «وهبت نفسي لك بكذا ، أو آجرتك نفسي أو سلّطتك على البضع بكذا» لم تترتب عليها آثار الزوجية الدائمة والمنقطعة سواء قصدت حصول العلقة بينها وبين الرجل أم لا. أمّا مع القصد فلعدم كون هذه الصيغ معهودة من الشارع في مقام إنشاء الزوجية ، بل المعهود منها في لسانه هو التزويج والنكاح والتمتع بالدوام لا التسليط والهبة وشبههما. فهذه كنايات عن التزويج ، لأنّ لازم تحقق الزوجية في وعاء الاعتبار هو سلطنة الزوج على البصع وحلية الاستمتاع ، ولا عبرة بالكناية كما تقدم.

وأمّا بدون القصد إلى الزوجية بأن كان مقصودها من «وهبت نفسي لك» إنشاء عقد الهبة حقيقة كان لغوا ، إذ لا معنى لأن تهب المرأة نفسها لرجل أجنبي.

__________________

(*) بل الضابط ما عرفته من اعتبار كون اللفظ المنشأ به العقد ظاهرا عرفا في مضمون العقد وإن لم يكن بتلك العنوانات الدائرة في لسان الشارع ، فإنّ المنشأ مفاهيم تلك العناوين بأي لفظ كان.


وإن كانت بقصد (١) هذه العناوين دخلت في الكناية التي عرفت أن تجويزها رجوع إلى عدم اعتبار إفادة المقاصد بالأقوال (٢). فما ذكره الفخر (٣) مؤيّد لما ذكرناه (٤) واستفدناه من كلام والده (٥) قدس‌سرهما.

وإليه (٦) يشير أيضا ما عن جامع المقاصد من «أنّ العقود متلقّاة من

______________________________________________________

(١) يعني : وإن قصدت المرأة عنوان الزوجية الدائمية أو الانقطاعية دخلت صيغة «وهبت نفسي» في الكناية ، التي تقدم أنّ تجويز إنشاء العقود بها رجوع إلى جواز إنشاء مضامين العقود بغير الأقوال الخاصّة.

(٢) بناء على أنّ دلالة الكناية على المراد عقلية وإن كان الانتقال من اللازم إلى الملزوم بسبب اللفظ الموضوع للّازم.

(٣) من اعتبار صيغة مخصوصة من الشارع لكلّ عقد لازم.

(٤) من اعتبار كون الدلالة مستندة إلى الحقيقة سواء أكانت هي التي أنشئ بها العقد أم كانت هي قرينة اللفظ الذي أنشئ به.

وإلى هنا أخرج المصنف فخر المحققين من المخالفين لمختاره ، وأدرجه في الموافقين له. ويستمدّ المصنف من كلمات الشهيد والمحقق الثانيين والفاضل المقداد لتقوية مرامه.

(٥) حيث قال : «لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب».

(٦) أي : وإلى ما ذكره من الضابط المزبور ـ وهو وجوب إيقاع العقد بإنشاء العناوين الدائرة في لسان الشارع .. إلخ. فإنّ قول جامع المقاصد : «لأنّ العقود متلقّاة من الشارع ، فلا ينعقد عقد بلفظ عقد آخر ليس من جنسه» (١) عبارة أخرى لكلام المصنف قدس‌سره ، إذ المراد باللّفظ الآخر الذي ليس من جنس العقد هي الألفاظ المغايرة للعناوين الدائرة على لسان الشارع ، كمغايرة «هبة النفس» للزوجية ، ومغايرة «الكتابة والخلع» للبيع ، وهكذا.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٨٣


الشارع ، فلا ينعقد عقد بلفظ آخر ليس من جنسه» (*). وما (١) عن المسالك من «أنّه يجب الاقتصار في العقود اللّازمة على الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة» (١).

ومراده بالمنقولة شرعا هي المأثورة (٢) في كلام الشارع.

______________________________________________________

(١) معطوف على «ما» في قوله : «ما عن جامع المقاصد» يعني : ويشير إلى ما ذكرناه كلام المسالك في إنشاء عقد الإجارة من وجوب الاقتصار في العقود اللّازمة على الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة.

(٢) يعني : لا ما يتبادر منها من النقل عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية ، إذ لا يراد هذا المعنى من المنقول هنا ، لوضوح أنّها في كلام الشارع ـ كلفظ البيع والصلح والنكاح وغيرها ـ مستعملة في معانيها الأوّلية من دون نقل لها إلى معان أخر.

__________________

(*) يحتمل قريبا أن يراد بعدم كون اللفظ الآخر من جنسه الألفاظ المجازية المستبشعة ، حيث إنّها لا تصلح لأن تكون آلة لإنشاء مضمون العقد الذي أراده المتعاقدان حيث لا يكون ما ينشأ بها منشأ لانتزاع تلك العناوين في نظر العرف ، لعدم كونها آلة لإنشائها ، ومن المعلوم أنّه لا يصح التمسك حينئذ لصحّتها ونفوذها بالعمومات ، لأنّها منزّلة على العناوين العرفية. وأمّا ما لا يكون ملغى في نظر العرف فيتعيّن البناء على صحة الإنشاء به ، من غير فرق بين الحقيقة والمجاز والمشترك اللفظي والمعنوي ، عملا بالعمومات أو الإطلاقات المقتضية للصحة والنفوذ من غير مخصّص أو مقيّد ، إذ لا منشأ لتوهم التخصيص أو التقييد إلّا توهم دعوى الإجماع على اعتبار لفظ خاص.

لكنّها ممنوعة جدّا ، والكلمات المتقدمة أقوى شاهد على المنع. ومع الغضّ عن شهادتها بعدم الإجماع فلا أقل من عدم ثبوته ، الموجب لمرجعية القواعد العامّة المقتضية للصحة.

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٢ ، وعبارة المتن منقولة بالمعنى. وقريب منه كلامه في عقد النكاح ، ج ٧ ، ص ٨٨


وعن كنز العرفان في باب النكاح «أنّه حكم شرعي حادث ، فلا بدّ له من دليل يدلّ على حصوله ، وهو العقد اللفظي المتلقّى من النص (١) (١) ثمّ ذكر لإيجاب (٢) النكاح ألفاظا ثلاثة ، وعلّلها بورودها في القرآن (*).

______________________________________________________

والشاهد على إرادة المأثور عن الشارع من كلمة «المنقولة» هو كلام الشهيد الثاني في إنشاء الإجارة ب «أكريتك» حيث قال : «فهي من الألفاظ المستعملة أيضا ـ يعني مثل آجرتك ـ لغة وشرعا في الإجارة ، يقال : أكريت الدار فهي مكراة .. إلخ» (٢).

(١) فبدون التلقّي من الشارع تقتضي أصالة الفساد عدم تأثير الإنشاء في العنوان المقصود وهو الزوجية.

(٢) يعني : ذكر الفاضل المقداد لإيجاب النكاح .. إلخ.

__________________

(*) مجرّد الورود في مقام الحكاية عن مفاهيمها تشريعا أو إخبارا ـ كقوله تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٣) ، وقوله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) (٤) ، وقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) (٥) إلى غير ذلك من الآيات والروايات المتضمنة لألفاظ العقود ـ لا يصلح لتقييد أو تخصيص الإطلاقات أو العمومات ، بعد صدق عناوينها بإنشائها بألفاظ أخر تدلّ عليها دلالة عرفيّة ، فإنّه مع هذا الصدق تشملها أدلة الصحة والنفوذ ، لعدم صلاحيّة مجرّد ورود تلك الألفاظ لتقييد الإطلاقات أو تخصيص العمومات بعد صدق تلك العناوين عرفا بغير ألفاظها ، كإنشاء

__________________

(١) : كنز العرفان للفاضل المقداد ، ج ٢ ، ص ١٤٦

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٢

(٣) الطور ، الآية : ٢٠

(٤) القصص ، الآية : ٢٧

(٥) النور ، الآية : ٣٢


ولا يخفى أنّ تعليله هذا (١) كالصريح فيما ذكرناه من تفسير توقيفية العقود ، وأنّها متلقّاة من الشارع ، ووجوب الاقتصار على المتيقن (٢) (*).

ومن هذا الضابط (**) تقدر على تمييز الصريح (٣) المنقول شرعا المعهود لغة من الألفاظ المتقدمة في أبواب العقود المذكورة من غيره. وأنّ الإجارة بلفظ العارية غير جائزة (***) ، وبلفظ بيع المنفعة أو السكنى مثلا لا يبعد جوازه ،

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ تعليل الفاضل المقداد قدس‌سره ـ لإيجاب النكاح بخصوص ألفاظ ثلاثة ـ بالورود في القرآن الكريم يكون كالصريح فيما ذكرناه .. إلخ.

(٢) المراد بالمتيقّن هو ما دار وتداول في لسان الشارع ، لا المتيقن بحسب الصراحة والظهور لغة.

(٣) المراد بالصريح في نظر المصنف قدس‌سره هو وضوح الدلالة بنفسه أو بضميمة قرينة لفظية تدلّ بالوضع على إرادة المقصود من ذي القرينة. وقد تقدّم هذا بقوله : «إذ لا يعقل الفرق في الوضوح الذي هو مناط الصراحة .. إلخ» راجع (ص ٣٥٩).

__________________

البيع بلفظ «ملّكت» أو «نقلت في ملكك بكذا» ونحو ذلك ممّا له ظهور عرفي في إنشاء البيع.

(*) لا وجه للاقتصار على المتيقّن بعد اقتضاء الأصل اللفظي ـ وهو أصالة العموم ـ عدم الاقتصار على بعض الألفاظ ، وجعل المدار على كل لفظ له ظهور عرفي في إنشاء تلك العناوين الموجب لاندراجها تحت العمومات الدالة على الصحة.

(**) قد عرفت ما هو الضابط ، وأنّه ظهور كل لفظ في إنشاء العناوين.

(***) وجه عدم الجواز عدم ظهور لفظ العارية عرفا في مفهوم الإجارة ، لا كونه خارجا عن الألفاظ المنقولة شرعا.


وهكذا (١) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ لسائر العقود ألفاظا مأثورة عن الشارع أيضا ، لكن بعضها يدلّ على العنوان الاعتباري بنفسه ، وبعضها يدلّ عليه بمعونة قرينة ، كدلالة «تصدّقت» على الوقف بمعونة قوله : «لا تباع ولا توهب ولا تورث أبدا» ولا مانع من الإنشاء بكلا القسمين.

هذا تمام الكلام في البحث الكبروي ، وهو أصل اعتبار الصراحة والظهور الوضعي في موادّ ألفاظ العقود ، وسيأتي الكلام في صغريات هذا البحث إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) التحقيق في مواد صيغ العقود : أنّ موضوع الحكم في المعاملات سواء أكانت بيعا أم غيره هو المعاملات المسببية ، لأنّها بالحمل الشائع عقد وتجارة وصلح وهبة وغيرها ممّا أخذ عرفا وشرعا موضوعا لأحكام.

وهذا المعنى المسبّبي قد ينشأ بالهيئة التي تؤخذ من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات بالحمل الأوّلي ، نظير : بعت وآجرت وصالحت.

وقد ينشأ ما يكون بالحمل الشائع أحد العناوين المزبورة من البيع وغيره بغير ما ذكر من الألفاظ المأخوذة من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات ، كإنشاء البيع بلفظ «ملّكت» والإجارة بلفظ «سلّطت» وهكذا.

وقد ينشأ بالكنايات والمجازات ، أو بالأفعال والكتابات أحيانا ، إلى غير ذلك.

ولا إشكال في أنّ موضوع وجوب الوفاء عند العقلاء هو المعنى المسبّبي ، فمعنى العقود في قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هي المعاهدات الواقعيّة والنقل الواقعي ، من دون نظر إلى آلات إنشائها وإيجادها ، فالتمليك الواقعي مع العوض هو العقد والتجارة الموضوعان لوجوب الوفاء ، لا ما هو متحقق بعنوان البيع السّببي كلفظ «بعت» فلا وجه لما قيل من لزوم أخذ عناوين المعاملات كالبيع والصلح ونحوهما في الصيغة التي ينشأ بها المسبّبات.


.................................................................................................

__________________

كما لا وجه لتوهم كون موضوع الأدلة الشرعية كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصلح جائز بين المسلمين» (١) هو نفس هذه العناوين بما هي عناوين بالحمل الأوّلى ، إذ الموضوع هي العناوين بالحمل الشائع ، سواء أكانت آلة الإنشاء ألفاظا مشتملة على تلك العناوين كبعت في البيع و «هبت» في الهبة ونحوهما ، أم لا ، فإنّ الجمود على اعتبار إنشائها بالألفاظ الحاوية لموادّ تلك العناوين يقتضي اعتبار إنشاء العقد بلفظ «عاقدت» وإيجاد البيع بخصوص لفظ «بعت» وإنشاء التجارة بلفظ الاتجار. مع أنّه لم يحتمل أحد ذلك.

وهذا يدلّ على عدم اعتبار إنشاء المسبّبات بخصوص ألفاظ عناوينها الأوّلية. فكلّ معاقدة تحقّقت بأيّ سبب عقلائي ـ من لفظ أو فعل أو كتابة أو كناية بحيث يصدق عليها بالحمل الشائع أحد العناوين من البيع والصلح والهبة وغيرها ـ كان موضوعا للأدلة الشرعية ، ولوجوب الوفاء بها. فاللازم بيان الألفاظ التي ينشأ بها تلك العناوين المسبّبيّة ، فنقول :

إنّ تلك الألفاظ مأخوذة تارة من المواد التي تصدق عليها عناوين المعاملات كبعت في إنشاء البيع. وأخرى من ألفاظ الكنايات. وثالثة من ألفاظ مجازية. ورابعة من ألفاظ مشتركة بالاشتراك اللفظي. وخامسة من ألفاظ مشتركة بالاشتراك المعنوي. فهنا أبحاث خمسة :

الأوّل : في الألفاظ المأخوذة من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات. ولا ينبغي الإشكال في صحة الإنشاء بها على جميع الأقوال. وقد تقدّم عن المصنف قدس‌سره نفي الخلاف فيه فتوى ونصّا.

البحث الثاني : في إنشاء العقود بالكنايات. وقد منع عن الإنشاء بها المحقّق النائيني قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف.

ومحصّل ما أفاده أمور :

__________________

(١) : وسائل الشيعة ج ١٣ ، ص ١٦٤ ، الباب ٣ من كتاب الصلح ، الحديث : ٢


.................................................................................................

__________________

أحدها : الفرق بين الحكايات والإيجاديات ، بتأدّي الأولى بكلّ لفظ غير خارج عن أسلوب المحاورة ولو مجازا أو كناية ، وعدم تأدّي الثانية كذلك ، بل بما هو آلة لإيجادها ومصداق لعنوانها ، فلا يكون إيجاد اللّازم أو الملازم إيجادا للملزوم أو الملازم الآخر.

ثانيها : أنّ الكناية ليست من المجاز ، لكون الألفاظ فيها مستعملة في معانيها الموضوع لها ، غاية الأمر أنّ استعمال الألفاظ في معانيها الحقيقية يكون بداعي الانتقال منها إلى ملزومها أو لازمها.

ثالثها : أنّ الأغراض الداعية إلى استعمال الألفاظ خارجة عن حيّز العقود والإيقاعات ، لعدم كون الألفاظ مستعملة في معانيها الموضوعة لها ، ومع عدم الاستعمال فيها لا تصلح تلك الألفاظ لإنشاء العقود بها.

رابعها : انصراف أدلة العقود عن العقود المنشئة بتبعية إيجاد لوازمها ، لكمال ضعف هذا النحو من الإيجاد بحيث تنصرف أدلة العقود عنها ، ومع الشكّ في دخولها تحت العموم ، فالأصل عدم ترتب الأثر عليها (١) ، هذا.

أقول : ما أفاده قدس‌سره لا يخلو من التأمل والغموض ، إذ لا فرق في جواز استعمال الكنايات بين الإخبار والإنشاء. توضيحه : أنّ الألفاظ في باب الكنايات لا تستعمل إلّا في معانيها الحقيقيّة للدلالة على المعنى المكنيّ عنه ، فالأخبار في باب الكناية إخبار حقيقة عن المكنيّ عنه ، لا عن المعنى المستعمل فيه الذي هو الموضوع له ، فقوله : «زيد كثير الرّماد» مثلا ليس إخبارا عن كثرة الرّماد حقيقة ، بل هو إخبار عن جوده.

والشاهد على ذلك أنّ مناط الصدق والكذب عند أبناء المحاورة في مثل «زيد كثير الرماد» هو مطابقة المعنى المكنيّ عنه للواقع وعدمها ، لا مطابقة المعاني الموضوعة لها للواقع وعدمها ، فلو لم يكن لزيد كثرة الرماد ولا الرّماد أصلا ، ولكن كان جوادا

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٠٥


.................................................................................................

__________________

كان الإخبار صدقا ، لأنّ الأخبار ليس عن ذلك ، بل عن جوده الموجود بالفرض.

فلو كان المعنى المكنيّ عنه من قبيل الدواعي وكان الإخبار عن كثرة الرماد حقيقة لكان الصدق والكذب تابعين للمخبر به ، وهو كثرة الرّماد وعدمها. مع أنّه ليس كذلك عند أبناء المحاورة ، إذ مناط الصدق عندهم في هذا الكلام هو كون زيد جوادا ، لا ذا كثرة الرّماد حقيقة. فالمعاني التي وضعت لها الألفاظ في باب الكنايات مرادة بالإرادة الاستعمالية دون الإرادة الجدّية ، فإنّ المراد بهذه الإرادة هو المعنى المكنيّ عنه.

هذا حال الأخبار بالكناية. وكذا الحال في الإنشاء بها ، فقوله : «خذ هذا الكتاب وأعطني درهما عوضه» إنشاء بيع كناية ، لأنّ الكناية ليست إنشاء للازم أو إخبارا به حتى يكون الملزوم مرادا بنحو الداعي ، بل المخبر به والمنشأ هو نفس الملزوم بالاستعمال الصوري في المعاني الإفرادية ، فهذا الاستعمال آلة للإخبار والإنشاء.

ومن هنا يظهر الفرق بين المعاني الكنائية والمعاني الالتزامية ، ضرورة أنّه في الدلالة الالتزاميّة يقع الأخبار حقيقة عن الملزوم ، ثم يدلّ المعنى المطابقي ـ وهو الملزوم ـ على اللازم ، فالدالّ على المعنى الالتزامي هو المعنى المطابقي ، فهو من باب دلالة المعنى على المعنى ، فقوله : «طلعت الشمس» ليس إلّا إخبارا عن طلوعها الذي هو يدلّ على وجود النهار ، ومن المعلوم أنّه من دلالة المعنى على المعنى ، لا من دلالة اللفظ على المعنى.

فالمتحصل : أنّه لا مانع عن إنشاء المعاملة المسببية بالكنايات.

نعم يعتبر في الإنشاء بها أن يكون المعنى المنشأ المكني عنه من لوازم أو ملزومات المعاني الموضوع لها التي تستعمل فيها الألفاظ استعمالا صوريّا ، بحيث تكون تلك الألفاظ المستعملة في معانيها آلة لإيجاد المعنى المكنيّ عنه بحسب المحاورات العرفية. وليس هذا شأن كل لازم وملزوم ، مثلا قوله : «خذ هذا المتاع وأعطني درهما عوضه» يكون آلة عند أبناء المحاورة لإيجاد البيع ، بخلاف قوله : «أنت


.................................................................................................

__________________

مسلّط على هذا المال بدينار» فإنّ مجرّد التسليط ليس لازما للبيع بحيث يكون آلة لإنشاء البيع ، إذ يمكن أن يكون التسليط على العين بإزاء مال إجارتها ، فليس التسليط لازما مساويا للبيع حتى يكون إنشاء له.

ومن هنا يمكن التفصيل بين الكنايات في جواز إنشاء البيع مثلا بها بين اللوازم والملزومات ، بأن يقال : إنّ اللّازم إن كان مساويا للملزوم صحّ إنشاء البيع مثلا به ، وإلّا فلا.

وكذا الحال في الإخبار ، فإنّه يصحّ الإخبار عن جود زيد بأنّه صاحب المضيف ، لأنّ هذه الجملة إخبار عرفا عن جوده وكثرة ضيوفه ، لكون وجود المضيف لازما عرفا للجود ، فيصحّ الإخبار عنه بكونه صاحب المضيف. وفي مثل هذا اللّازم والملزوم يصح الإخبار عن المعنى المقصود بالكناية. وكذا في الإنشاء ، فيصح أن يقال : «عفّر الإناء بالتراب» كناية عن ولوغ الكلب فيه ، بعد تسلّم كون الولوغ ممتازا عن غيره من سائر النجاسات بالتعفير.

ويمكن التصالح بما ذكرناه من التفصيل بين اللوازم بين المحقق النائيني قدس‌سره المانع عن إنشاء العقود بالكنايات وبين غيره ممّن أصرّ على جواز إنشائها بالكنايات ، فيقال : إنّ مقصود الميرزا قدس‌سره من المنع هو الكنايات التي لا تكون المعاني المكنّي عنها ظاهرة من الجمل الكنائية ظهورا عرفيا ، ومقصود غيره هو ما إذا كانت الجمل الكنائية ظاهرة عرفا في المعاني المكنيّ عنها.

وبالجملة : بعد منع توقيفية ألفاظ العقود والإيقاعات إلّا ما خرج لا بدّ من الالتزام بإنشاء كلّ عقد وإيقاع بكلّ لفظ له ظهور عرفي في ذلك ، سواء أكان ذلك اللفظ مشتقا من المصدر الذي يكون اسما لذلك العقد أو الإيقاع أم غيره.

ودعوى : انصراف أدلّة النفوذ عن العقود المنشئة بالكنايات كما ترى ، إذ بعد فرض ظهور الكناية في إنشاء اللّازم بذكر الملزوم أو بالعكس لا وجه للانصراف ، بعد شيوع الإنشاء كذلك ، وعدم خروج مثل هذا الإنشاء عن الأسباب المتعارفة ، مع أنّ الانصراف الناشئ عن ذلك مما لا يعتنى به ، كما ثبت في محله ، هذا.


.................................................................................................

__________________

البحث الثالث : في إنشاء العقود بالمجازات. وعن شيخ مشايخنا المحقق النائيني على ما قرّره عنه شيخنا الفقيه الخوانساري قدس‌سرهما التفصيل بين المجاز المشهور وعدمه.

ومحصّل ما أفاده عبارة عن مقدمة وأمرين.

أمّا المقدمة فهي : أنّ البيع وغيره من عناوين العقود والإيقاعات عنوان بسيط غير مركّب من الجنس والفصل ، فيمتنع إيجاده تدريجا ، فالتمليك البيعي والقرضي ونحوهما من الهبة والإجارة ليس جنسا ، والبيعيّة والقرضية ونحوهما فصلا ، فالتمليك في الجميع واحد ، والاختلاف بينها كالاختلاف بين أفراد البيع ، يعني : أنّ الاختلاف بين التمليك البيعي وغيره يكون من قبيل اختلاف أفراد البيع في الخصوصيات والمشخّصات الفردية.

وأمّا الأمران اللذان رتّبهما على هذه المقدمة وجعلهما نتيجة لها

فأحدهما : أنّ المجاز غير المشهور لمّا احتاج إلى قرينة صارفة فلا يمكن إنشاء العقد به ، للزوم التناقض بين معناه الحقيقي المدلول عليه بالدلالة التصورية ، وبين معناه المجازي المدلول عليه بالدلالة التصديقية ، فإذا قال في مقام إنشاء الإجارة : «بعتك منفعة الدّكان الفلاني بكذا في مدّة كذا» لا يقع إجارة ، لأنّ قوله : «بعتك» يدلّ على تمليك العين ، وقوله : «منفعة الدكان» يدلّ على تمليك المنفعة لا العين ، وهما متناقضان ، ولذا قال المشهور بعدم إفادة قوله : «بعتك بلا ثمن ، وآجرتك بلا أجرة» للهبة الصحيحة والعارية مع الاحتفاف بالقرينة الصارفة ، وليس ذلك إلّا لأجل التناقض المزبور.

وثانيهما : عدم جواز إنشاء العقود ببعض المشتركات اللفظيّة والمعنوية ، للزوم إيجاد البسيط بالتدريج ، هذا (١).

وأنت خبير بما فيه.

أمّا في المقدمة فلما فيها من عدم البساطة ، وأن البيع مركّب من جنس اعتباري وهو التمليك وفصل اعتباري وهو كونه مع العوض ، فاختلاف البيع مع القرض والهبة

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٠٦


.................................................................................................

__________________

اختلاف نوعي ، فإنّ مفهوم البيع والقرض والهبة عرفا هو التمليك الجنسي المتفصّل بالفصول المتقدمة ، فاختلافها نوعي لا فردي.

فالحق أنّ ماهيّات العقود مركّبات اعتبارية وليست بسائط. نعم تحقّق الأمر الاعتباري العقلائي منوط بتماميّة أجزاء العقد ، فذلك الاعتبار عند العقلاء دفعي الوجود لا تدريجي الوجود. وهذا شي‌ء آخر لا ربط له بماهيّة العقد المركّب من جنس وفصل اعتباريّين ، فمتى تحقّق إنشاء الموجب الملكيّة بالعوض بدالّين والقبول من القابل اعتبر العقلاء عقيبهما انتقال المبيع إلى المشتري والثمن إلى البائع دفعة لا تدريجا ، فكلّ من الإنشاء والمنشأ تدريجي التحقق بتعدّد الدال والمدلول ، واعتبار النقل بالحمل الشائع دفعي بعد تحقق الإنشاء إيجابا وقبولا ، هذا.

وأمّا الأمران اللذان جعلهما نتيجة للمقدمة المزبورة ففيهما : أنّه لا فرق في إنشاء الماهية بين إنشائها بالحقائق ، وبين إنشائها بالمشتركات اللفظية والمعنوية والمجازات ، فإنّ الكلّ في الإنشاء والاحتياج إلى تعدد الدال والمدلول على حدّ سواء.

وتخيّل التناقض بين ما يوجد بحسب الدلالة التصورية وبحسب الدلالة التصديقية ـ يعني بين المعنى الحقيقي التصوري والمجازي التصديقي ـ في غاية الغموض ، لأنّه إن أريد لزوم التناقض بحسب الواقع ، ففيه منع واضح ، إذ المفروض أنّه لم ينشأ إلّا المعنى المجازي ، وإنّما جعل اللفظ الموضوع للمعنى الحقيقي الذي استعمل فيه آلة لإيجاد المعنى المجازي ، فلا تناقض بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الذي هو المراد الجدّي.

وإن أريد لزومه بنظر غير المتبايعين ، ففيه : أيضا ما لا يخفى ، لأنّ ظهور الكلام في معناه ـ المتحصل من مجموع القرينة وذيها ـ منوط بتمامية أجزاء الكلام ، فقبل تماميّتها لا ينعقد ظهور في المراد ، وبعد تماميّتها يكون ظاهرا في المعنى المجازي فقط.

ومما ذكرنا ظهر حال البحث الرابع ، وهو إنشاء العقود بالألفاظ المشتركة اللفظية ، والبحث الخامس وهو إنشاء العقود بالألفاظ المشتركة المعنوية ، وأنّه لا مانع من الإنشاء


إذا عرفت هذا (١) فلنذكر ألفاظ الإيجاب والقبول.

منها (٢) : لفظ «بعت» في الإيجاب ، ولا خلاف فيه فتوى ونصّا. وهو

______________________________________________________

المبحث الثاني : ألفاظ الإيجاب والقبول

أ : لفاظ الإيجاب

(١) أي : ما تقدم من الضابط في صيغ العقود ، وهي شرطية دلالة الصيغة وضعا بنفسها أو بمعونة القرينة اللفظية الدالة على المراد بالوضع. وقد عقد المصنف قدس‌سره هذا المبحث ـ المتعلق بمواد ألفاظ العقود ـ لبيان الألفاظ التي ينشأ بها الإيجاب والقبول ، وقدّم الكلام في ألفاظ الإيجاب ، والمذكور منها في المتن أربعة.

(٢) أي : من ألفاظ الإيجاب والقبول ، وهذا أوّل صيغ البيع.

__________________

بها بعد كون الإنشاء بها بتعدّد الدال والمدلول.

ودعوى «انصراف الإطلاقات كما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره عن كل لفظ مجازيّ أو مشترك لفظي أو معنوي أفاد معنى البيع ولو بالقرينة ، لقرب احتمال انصرافها إلى المتعارف» غير مسموعة ، لما ثبت في محله من عدم صلاحية التعارف للانصراف المعتدّ به.

فالمتحصّل من جميع ما ذكر : أنّه لا مانع من إنشاء العقود والإيقاعات بكلّ لفظ يكون ظاهرا عرفا في ذلك ، من غير فرق بين الكنايات والمجازات بأقسامها ، والألفاظ المشتركة اللفظية والمعنوية ، لما عرفت من أنّ الأحكام تتعلّق بحقائق المسبّبات من غير أن تتقيّد بتحققها بسبب خاص ، مثلا وجوب الوفاء تعلق بالعقد الواقع بين المتعاقدين ، وهو من مقولة المعنى ، ولا دخل للألفاظ فيها إلّا دخالة الإيجاد. كما أنّ المناسبة بين الحكم والموضوع تقتضي كون موضوع وجوب الوفاء هو العقد بما هو قرار محترم ، لا بما هو موجد باللّفظ الكذائي كما لا يخفى.


وإن كان من الأضداد (١) بالنسبة إلى البيع والشراء ،

______________________________________________________

ولا خلاف في صحة إنشاء الإيجاب به ، بل اقتصر بعضهم عليه كما هو ظاهر ابن إدريس (١).

وقد يقال : إنّه يفهم من عبارة الغنية حصر الإيجاب في «بعت» والقبول في «اشتريت وقبلت» وعليه فيكون الحصر معقد الإجماع الذي ادّعاه فيها. لكنه ليس كذلك ، لعدم ظهور عبارته في الحصر المدّعى ، حيث قال في الغنية : «واعتبرنا حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري تحرّزا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري والإيجاب من البائع ، وهو أن يقول : بعينه بألف ، فيقول : بعتك ، فإنّه لا ينعقد بذلك ، بل لا بدّ أن يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت أو قبلت حتى ينعقد .. إلى أن قال : يدلّ على ما قلناه الإجماع المشار إليه. وأيضا فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به ، وليس على صحته بما عداه دليل» (٢).

والظاهر أنّ منشأ فهم الحصر هو الفقرة الأخيرة ، بتخيّل أنّ قوله : «فما اعتبرناه» إشارة إلى «بعتك» من البائع و «اشتريت أو قبلت» من المشتري.

لكنّك خبير بأنّ قوله : «فما اعتبرناه» إشارة إلى ما سبق في أوّل الكلام من اعتبار حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري ، لا خصوص لفظ «بعتك» فلاحظ.

(١) قال في المصباح : «باعه يبيعه بيعا ومبيعا فهو بائع وبيّع ، وأباعه بالألف لغة ، قاله ابن القطاع. والبيع من الأضداد مثل الشراء. ويطلق على كل واحد من المتعاقدين : أنّه بائع. ولكن إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل السّلعة» (٣).

وعن شرح القاموس : التصريح بكونه من الأضداد. بل عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدس‌سره : «نفي الخلاف عن وضعه للمعنيين ، فيثبت أنّه مشترك لفظا

__________________

(١) : السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٥٠

(٢) غنية النزوع في الأصول والفروع (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٥٢٤.

(٣) المصباح المنير ، ص ٦٩


لكن كثرة استعماله (١) في وقوع البيع به تعيّنه.

ومنها (٢) : لفظ «شريت» لوضعه له ، كما يظهر من المحكيّ عن بعض أهل

______________________________________________________

بينهما» (١) (*).

(١) لمّا كان «البيع» مشتركا لفظيا بين إنشاء الموجب والقابل توقّف جواز الإيجاب به على قيام قرينة معيّنة لأحد المعنيين ، وقد أشار المصنف إلى قرينية كثرة استعمال «بعت» في الإيجاب ، فيتعيّن له ، دون القبول.

ويؤيّده ما في المصباح من أنه إذا أطلق «البائع» تبادر إلى الذّهن باذل السلعة. ويستفاد من كلامه مسألة أصولية ، وهي : أنّ اشتهار المشترك في أحد معنييه يصير قرينة على تعيّنه (**).

(٢) أي : ومن ألفاظ الإيجاب والقبول لفظ «شريت» وهذا ثاني ألفاظ

__________________

(*) فما أفاده السيد بقوله : «يمكن أن يقال : إنّه مشترك معنوي بين البيع والشراء .. فيكون بمعنى التمليك بالعوض أعم من الصّريح كما في البيع ، أو الضمني كما في الشراء» (٢). لا يخلو من غموض.

إذ فيه أوّلا : ما عرفته من أنّه من الأضداد.

وثانيا : أنّ التمليك الضمني خارج عن حدود البيع ، كما تقدّم في تعريفه.

لكن هذا الاشكال المذكور في تقريرات سيدنا الخويي قدس‌سره (٣) لا يخلو من غموض ، لأنّ طبيعة التمليك بالعوض تنطبق على فرديها ، وهما التمليك الأصلي المسمّى بالبيع ، والتمليك الضمني المسمّى بالشراء على نسق واحد ، ويتميّز أحد الفردين عن الآخر في مقام الإنشاء بالقرائن كجامع الطلب بالنسبة إلى الوجوب والندب.

(**) لكن خالف فيه المحقق القميّ قدس‌سره ـ في البحث عن حال الفرد المحلّى ـ لوجهين :

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٤

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٨٧

(٣) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٢٠


اللّغة ، بل قيل لم يستعمل في القرآن الكريم

______________________________________________________

الإيجاب ، وهو من الأضداد أيضا. ففي المصباح : «شريت المتاع أشريه : إذا أخذته بثمن أو أعطيته بثمن ، فهو من الأضداد» (١).

وفي المجمع : «شراء : يمدّ ويقصر ، وهو الأشهر. يقال : شرت الشي‌ء أشريه ، وشرى شراء : إذا بعته وإذا اشتريته أيضا ، وهو من الأضداد» (٢).

__________________

أحدهما : عدم مدخلية مجرّد الشهرة في أحد معاني المشترك في ترجيحه.

وثانيهما : معارضة الشهرة في المجاز المشهور بأصالة الحقيقة (٣).

وفي كليهما ما لا يخفى. أمّا الأوّل فلأنّ الشهرة وإن لم تكن مرجّحة بنفسها ، لعدم دليل على الترجيح بها ، لكنّها تكون مرجّحة ، لإيجابها الظهور العرفي.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الشهرة في المجاز غير الشهرة في اللفظ المشترك ، إذ المفروض كون المعنى المشهور حقيقيا ، بخلاف المجاز المشهور ، فإنّ المعنى المشهور غير الحقيقي ، فيعارضه أصالة الحقيقة.

وعليه فلا بأس بما في المتن من قرينيّة كثرة الاستعمال على تعيّن «بعت» للإيجاب.

مضافا إلى ما تقدم من : أنّ المدار على الظهور العرفي من أيّ سبب حصل ، هذا.

واستند صاحب الجواهر قدس‌سره إلى قرينتين أخريين :

الأولى : أنّ الابتداء بالمعاملة بحسب الطبع والغلبة يكون من الموجب ، فهذا قرينة مقاميّة على إرادة الإيجاب بلفظ البيع.

__________________

(١) : المصباح المنير ، ص ٣١٢

(٢) مجمع البحرين : ج ١ ، ص ٢٤٥

(٣) قوانين الأصول ، ج ١ ، ص ٢٢٠


إلّا في البيع (١). وعن القاموس «شراه يشريه ملكه بالبيع ، وباعه كاشتراه ، فهما ضدّ» وعنه أيضا «كل من ترك شيئا وتمسّك بغيره فقد اشتراه (٢)» (١).

______________________________________________________

(١) وفي الجواهر أيضا : «بل قيل : إنّه لم يرد في الكتاب العزيز غيره ..» (٢) ولم أظفر بالقائل به.

وكيف كان فقد ورد في قوله تعالى (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) (٣) أيّ : باعوا به أنفسهم.

وقوله تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) (٤) أي : باعوه.

وقوله تعالى (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (٥).

وقوله تعالى (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) (٦) أي : يبيعونها.

(٢) مقتضى هذه العبارة كون «الاشتراء» مشتركا معنويا بين إيجاب البائع وقبول المشتري ، لصدق «ترك شي‌ء وأخذ شي‌ء آخر مكانه» على فعل كليهما.

ومقتضى عبارته الأولى ـ وهي كون «الشراء» من الأضداد ـ هو اشتراكه اللفظي وتعدّد الوضع.

__________________

الثانية : كيفية ذكر المتعلّقات ، فإنّ «بعت» في الإيجاب يتعدّى إلى مفعولين ، فيقول : «بعتك الدار» مثلا ، وفي القبول إلى مفعول واحد (٧).

__________________

(١) : القاموس المحيط ، ج ٤ ، ص ٣٤٧ و٣٤٨

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٤

(٣) البقرة ، الآية : ١٠٢

(٤) يوسف ، الآية : ٢٠

(٥) البقرة ، الآية : ٢٠٧

(٦) النساء ، الآية : ٧٤

(٧) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٥


وربما يستشكل فيه (١) بقلّة استعماله عرفا في البيع ، وكونه محتاجا إلى القرينة المعيّنة ، وعدم نقل الإيجاب به في الأخبار وكلام القدماء (٢).

______________________________________________________

(١) أي : يستشكل في وقوع البيع بلفظ «شريت» بوجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ «شريت» وإن كان من الأضداد ، ومقتضاه جواز إنشاء كل من البيع والشراء به ، إلّا أنّ قلة استعماله ـ عند العرف العام ـ في البيع توهن ظهوره فيه ، ومن المعلوم إناطة صحة الإنشاء بالظهور العرفي في المراد.

الثاني : توقف استعمال المشترك في أحد معنييه أو معانيه على القرينة المعيّنة.

الثالث : عدم ورود إنشاء البيع بلفظ الشراء في الأخبار ، ولا في كلام القدماء ، وعليه فلا يكون لفظ «شريت» مأثورا عن الشارع في مقام إيجاب البيع.

(٢) اختلفوا في جواز الإيجاب ب «شريت» فأجازه العلّامة قدس‌سره في التذكرة (١). وفي الجواهر : «ويتحقق إيجابه ببعت قطعا ، بل وبشريت على المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا. بل لعلّها كذلك ، لاشتراك كلّ من لفظي البيع والشراء بين المعنيين ، فهما من الأضداد .. إلى أن قال : فيصح استعمال كل منهما حينئذ في الإيجاب على الحقيقة. ولا يقدح الاشتراك ، وإلّا لامتنع الإيجاب بالبيع. ولا ظهورهما في أشهرهما ، لوضوح القرينة المعيّنة لغيره ، وهي وقوع البيع من المشتري والشراء من البائع. على أنّ استعمال الشراء في البيع كثير .. إلى أن قال : فلا بأس باستعمال كلّ منهما حينئذ في الإيجاب والقبول على الحقيقة» (٢).

ومحصل كلامه ـ زيد في علوّ مقامه ـ الاستدلال بأنّ المقتضي موجود وهو الوضع ، والمانع مفقود ، لأنّ المانع المتصوّر في المقام إنّما هو الإجمال الناشئ من الاشتراك.

ولكن فيه أوّلا : أنّه غير صالح للمنع ، وإلّا لمنع من استعمال البيع أيضا.

وثانيا : أنّ الإجمال مرتفع بوجود القرينة المعيّنة.

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٤


ولا يخلو عن وجه (١).

______________________________________________________

(١) ولعلّه لتوقيفية ألفاظ العقود ، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن ، وهو ليس إلّا «بعت» إذ لا نصّ ولا إجماع على غيره ، كما عن المصابيح ، هذا (*).

__________________

(١) لكن يمكن أن يقال : إنّه لا وجه لما استوجهه المصنف قدس‌سره من المنع ، إذ القرينة المعينة للمشترك إن كانت لفظيّة حقيقية فلا مانع منه عنده قدس‌سره. وقاعدة التوقيفية قد وجّهها المصنف قدس‌سره عند نقل عبارة الفخر بما هذا نصّه : «ثم إنّه ربما يدّعى أنّ العقود المؤثّرة في النقل والانتقال أسباب شرعية توقيفية كما حكي عن الإيضاح من : أن كل عقد لازم وضع الشارع له صيغة مخصوصة بالاستقراء ، فلا بد من الاقتصار على المتيقن» إلى أن قال المصنف «وأمّا ما ذكره الفخر فلعلّ المراد فيه من الخصوصية المأخوذة في الصيغة شرعا هي اشتمالها على العنوان المعبّر عن تلك المعاملة به في كلام الشارع ، فإذا كانت العلاقة الحادثة بين الرّجل والمرأة معبّرا عنها في كلام الشارع بالنكاح أو الزوجية أو المتعة فلا بد من اشتمال عقدها على هذه العناوين ، فلا يجوز بلفظ الهبة أو البيع أو الإجارة أو نحو ذلك».

وهذا التوجيه لا يقتضي أزيد من اعتبار كون اللّفظ الذي ينشأ به العقد موضوعا لعنوان العقد ، ولا يقتضي اعتبار شيوع استعماله في الإيجاب حتى تكون أقليّة استعمال لفظ «شريت» في إيجاب البيع من استعمال لفظ «بعت» فيه مانعة عن إنشاء الإيجاب.

فالمتحصل : أنّه لا وجه للمنع الذي استوجهه المصنف قدس‌سره.

نعم يمكن توجيه المنع بوجه آخر ، وهو : أنّ لفظ «الشراء» وإن استعمل في قديم الزمان في إنشاء إيجاب البيع ، لكنه مهجور في هذه الأزمنة ، وإنشاء الإيجاب به خارج عن المتعارف عند أبناء المحاورة ، ولا بد أن لا يكون لفظ العقد من الألفاظ المهجورة عندهم ، ولذا اختار بعض المتأخرين المنع استنادا إلى هذا الوجه ، فتدبّر.


ومنها (١) : لفظ «ملّكت» بالتشديد. والأكثر (٢) على وقوع البيع به ،

______________________________________________________

(١) أي : ومن ألفاظ إيجاب البيع لفظ «ملّكت» وهذا ثالث صيغ البيع.

(٢) قال في الجواهر : «وأمّا ملّكت فالأكثر ـ بل المشهور ـ على تحقق الإيجاب بها ، بل عن جامع المقاصد في تعريف البيع ما يشعر بالإجماع على صحة الإيجاب به في البيع» (١).

ولكن في دلالة كلام جامع المقاصد على الإجماع بل الإشعار به تأمّل ، بل منع.

ومقابل الأكثر ما عن الجامع للشرائع ـ لابن سعيد الحلّي ـ من «أنّه لا يصح إلّا بلفظ الماضي ، وهو : بعت أو شريت».

وكيف كان ففي صحة إنشاء إيجاب البيع بلفظ «ملّكت» أقوال :

أحدها : ما عن الأكثر ، وهو وقوع البيع بلفظ ملّكت.

ثانيها : عدم وقوعه به ، وهو المحكي عن جامع ابن سعيد.

ثالثها : ما نسب إلى العلّامة الطباطبائي قدس‌سره من التفصيل بين تقييد «ملّكت» بالبيع وعدمه ، بالوقوع في الأوّل ، وعدمه في الثاني. وتبعه على ذلك صاحب الجواهر قدس‌سره.

واختار المصنف قدس‌سره القول الأوّل ، لوجهين :

أحدهما : الاتّفاق المنقول في غاية المراد ، ويؤيّده الإجماع المستشعر من جامع المقاصد.

ثانيهما : أنّ التمليك بالعوض ـ المنحلّ إلى مبادلة العين بالمال ـ هو المرادف للبيع ، وأنّه إذا اتّصل بها ذكر العوض أفاد المجموع المركّب ـ بمقتضى الوضع التركيبي ـ البيع خاصة ، فيكون صريحا. ويؤيّد هذا الوجه ما حكي عن فخر المحققين قدس‌سره من كون «ملّكت» مرادفا في لغة العرب ل «بعت».

فإن قلت : إنّ «التمليك» ليس مرادفا للبيع ، لاستعماله في الهبة بحيث لا يتبادر

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٦


بل ظاهر نكت الإرشاد الاتفاق (١) ، حيث قال : «إنّه لا يقع البيع بغير اللفظ المتّفق عليه كبعت وملّكت» (١).

ويدل عليه (٢) ما سبق في تعريف (٣) البيع من أنّ التمليك بالعوض ـ المنحل

______________________________________________________

عند الإطلاق غيرها ، ومن المعلوم أنّ تبادر الهبة من لفظ «ملّكت» يمنع عن ظهوره في البيع. وعليه فلا يصح إنشاء البيع به ، لأنّه حينئذ يكون من الإنشاء بالمجازات ، وهو غير جائز عندهم ، على ما تقدم تفصيله في المبحث الأوّل من مباحث موادّ صيغ العقود.

قلت : ليس التمليك مرادفا للهبة ، وإنّما تفهم من تجريد اللفظ عن العوض ، لا من مادة «التمليك» حتّى يقال : إن انسباق الهبة منه إلى الذهن يمنع عن ظهوره في البيع كي يمنع من إنشائه به. بل التبادر مستند إلى القرينة ، وهي التجريد عن العوض ، فالتمليك مشترك معنى بين ما يتضمّن المقابلة وبين ما يتجرّد عنها ، فإن احتفّ الكلام بذكر العوض أفاد المجموع ـ بمقتضى وضعه التركيبي ـ البيع. وهذا هو مفهوم البيع حقيقة ، فصحة إرادة الهبة المعوّضة أو المصالحة من التمليك المحفوف بذكر العوض منوطة بصحة العقد بلفظ غيره مع النية.

فالمتحصّل : أنّه يصحّ إنشاء البيع بلفظ «ملّكت» للترادف.

(١) هذا إشارة إلى الدليل الأوّل على صحة إنشاء البيع بلفظ «ملّكت» وهو الإجماع المنقول عن الشهيد قدس‌سره.

(٢) أي : على وقوع البيع ب «ملّكت» وهذا هو الدليل الثاني ، وقد تقدم توضيحه آنفا بقولنا : «ثانيهما : أن التمليك بالعوض .. إلخ».

(٣) حيث قال في ردّ أصالة البيع في تمليك الأعيان ـ وأعميّته منه ومن الهبة والصلح ـ ما لفظه : «إن حقيقة تمليك العين بالعوض ليست إلّا البيع ، فلو قال : ملّكتك

__________________

(١) : غاية المراد ، ص ٨١


إلى مبادلة العين بالمال ـ هو المرادف للبيع عرفا ولغة كما صرّح به فخر الدين ، حيث قال : «إنّ معنى بعت في لغة العرب : ملّكت غيري» (١).

وما قيل (١) : «من أنّ التمليك يستعمل في الهبة بحيث لا يتبادر عند الإطلاق غيرها» فيه (٢) : أنّ الهبة إنّما يفهم من تجريد اللفظ عن العوض ، لا من مادة التمليك (٣) ، فهي مشتركة معنى بين ما يتضمّن المقابلة (٤) وبين المجرّد عنها ،

______________________________________________________

كذا بكذا كان بيعا ، ولا يصحّ صلحا ولا هبة معوّضة وإن قصدهما ..» (٢).

(١) لم أظفر بقائله ، وحكاه في الجواهر أيضا بقوله : «ودعوى ..» ولعلّ المقصود ما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره في بيع السلف بقوله : «لأنّه ـ أي التمليك ـ شائع في الهبة ، فإذا انعقد بالأبعد فبالأقرب أولى» (٣).

وكيف كان فغرض القائل منع مرادفة التمليك والبيع ، فيمنع إنشاؤه به ، وقد أوضحناه بقولنا : «فان قلت ..».

(٢) خبر و «ما قيل» وهذا جواب الإشكال ، وقد أوضحناه بقولنا : «قلت :

ليس التمليك مرادفا للهبة ..».

(٣) حتى تكون مادة «التمليك» موضوعة لحصّة من طبيعة التمليك ، وهي خصوص التمليك المجّاني كي يكون البيع ـ وهو التمليك بالعوض ـ معنى مجازيا له ، بل هذه المادة مشتركة معنوية بين التمليك المعوّض والمجرّد عنه ، فإرادة كل واحدة من الحصّتين تتوقف على قرينة.

(٤) يعني : المقابلة بين المالين ، لا مطلق المبادلة ولو كانت بين تمليك الواهب وتمليك المتهب ، كما هو حال الهبة المعوضة.

__________________

(١) : حكاه السيد الفقيه العاملي عن شرح الإرشاد لفخر المحققين ـ وهو مخطوط ـ مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥١

(٢) راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٢٤٦ و٢٤٧

(٣) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٢٠٧


فإن اتّصل (١) بالكلام ذكر العوض أفاد المجموع المركّب بمقتضى الوضع التركيبي البيع. وإن تجرّد عن ذكر العوض اقتضى تجريده الملكية المجّانية.

وقد عرفت سابقا (٢) أنّ تعريف البيع بذلك (٣) تعريف بمفهومه الحقيقي ،

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : إن كان التمليك مجرّدا عن العوض أفاد الهبة غير المعوّضة.

وإن كان متضمنا للعوض فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون العوض عوضا عن تمليك الأوّل ، فالمقابلة تقع بين تمليك وتمليك ، وهذا هو الهبة المعوّضة.

ثانيهما : أن يكون العوض عوضا عن المال وهو العين التي ملّكها الأوّل للثاني ، فالمقابلة تقع بين نفس المالين في إضافة الملكية ، وهذا هو البيع.

ومقصود المصنف قدس‌سره من «التمليك المتضمن للمقابلة الذي هو البيع» هو القسم الأخير كما أفاده في ردّ انتقاض تعريف البيع بالصلح والهبة المعوّضة. وعليه لا يتوهم أنّ المقابلة موجودة في الهبة المعوضة أيضا لما عرفت من أنّ التقابل في الهبة ليس بين المالين بل بين الفعلين. وإن شئت توضيح هذا المطلب أزيد ممّا هنا فراجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ص (٢٤١ ـ ٢٤٨).

(١) هذا متفرع على كون مادة «التمليك» مشتركا معنويا بين البيع والهبة ، فيلحقها حكمه ، وهو توقف إرادة كل واحدة من الحصّتين على القرينة ، فقرينة الهبة التجرّد عن ذكر العوض ، وقرينة البيع ذكر العوض.

(٢) يعني : في رد ما أفاده كاشف الغطاء قدس‌سره من حمل التمليك بعوض على البيع ، لكونه الأصل في تمليك الأعيان.

(٣) أي : أن تعريف البيع ب «التمليك المتضمن للمقابلة على وجه العوض» تعريف للبيع بمفهومه الحقيقي ، وليس مشتركا بينه وبين الهبة المعوّضة والصلح على عين بعوض.

وعليه فالمشترك بين البيع والهبة هو طبيعي تمليك العين بعوض. وأمّا تمليك


فلو أراد منه (١) الهبة المعوضة أو قصد المصالحة بنى صحة العقد به على صحة عقد بلفظ غيره (٢) مع النّية.

ويشهد لما ذكرنا (٣) قول فخر الدين في شرح الإرشاد : «انّ معنى بعت في لغة العرب ملّكت غيري (٤)».

______________________________________________________

عين في قبال عين أخرى فليس إلّا البيع.

(١) أي : فلو أراد الموجب بقوله : «ملّكتك الكتاب بدينار» غير البيع ، بأن أراد الهبة المعوّضة أو المصالحة توقّف صحته على انعقاد الهبة والصلح بالألفاظ المجازية. ووجه المجازية : أنّ «تمليك عين بإزاء عين أخرى» هو البيع خاصّة ، فإرادة غيره مجاز.

(٢) كإنشاء البيع بغير لفظ «بعت» مثل «نقلته إليك وأدخلته في ملكك» ونحوهما من المجاز والكناية.

(٣) من كون البيع هو التمليك بالعوض ، وأنّ إنشاءه به صحيح.

(٤) وبهذا قد وفى المصنف قدس‌سره بما وعد به في أوّل كتاب البيع في تعريفه بإنشاء التمليك ، وجوازه به ، حيث قال : «وفيه : أنه الحق كما سيجي‌ء» (*).

__________________

(*) وقد يستدلّ أيضا على جواز إنشاء البيع بلفظ «ملّكت» بما في الجواهر من قوله : «ولعلّه لكونها حقيقة فيما يشمل البيع ، فاستعمالها فيه حينئذ حقيقة ، إذا لم يكن على جهة الخصوصية التي يكون استعمال الكلّي فيها مجازا» (١).

وكذا بما مرّ من كلام كاشف الغطاء قدس‌سره من «أن الأصل في تمليك الأعيان بالعوض هو البيع ، وفي تمليك المنافع هي الإجارة».

وفي الكل ما لا يخفى. أمّا الاتفاق الذي نقله المصنف قدس‌سره عن غاية المراد ففيه أوّلا : عدم دلالته على الإجماع كما يظهر للمراجع. وكذا لا إشعار به في كلام المحقق الثاني.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٦


.................................................................................................

__________________

وثانيا : عدم إجماع قطعا مع هذا الخلاف.

وثالثا : عدم اعتباره بعد تسليم تحققه ، لعدم حجية الإجماع المنقول.

وأمّا ما استدلّ به في المتن ـ من : أنّ التمليك بالعوض المنحل إلى «مبادلة عين بمال» هو المرادف للبيع إذا اتّصل به ذكر العوض فيكون صريحا ـ ففيه : أنّ المراد بالصريح في كلامهم ليس ذلك ، وإلّا لجرى في «نقلته إليك وأدخلته في ملكك وجعلته لك» والمفروض عدمه كما لا يخفى على من لاحظ التذكرة.

والاستشهاد بكلام فخر المحققين على ترادف البيع والتمليك ممنوع أيضا ، لأنّه إن أراد الترادف لغة توجّه عليه أعمية التمليك من البيع ، لاشتراكه بينه وبين العطيّة والهبة كما نسب إلى الفقهاء وأهل اللغة. بل في المسالك ـ في مسألة انعقاد البيع بلفظ السلم ـ ما نصّه : «ولا ريب أنّ السّلم أقرب الى حقيقة البيع من التمليك المستعمل شرعا استعمالا شائعا في الهبة ، فإذا انعقد بالأبعد لتأدية المعنى المراد ، فالأقرب إذا أدّاه أولى» وهو قريب من كلام جامع المقاصد المتقدم في التوضيح.

وإن أراد التفسير بالأعم لم يجد في الدلالة على المطلوب وهو جواز إنشاء البيع به ، لعدم دلالة العام على الخاص.

وأمّا ما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره فيردّه : أنّه مع إرادة الخصوصية ـ أي التمليك المتخصص بخصوصية البيعيّة ـ يصير استعمال لفظ «ملّكت» فيه مجازا ، واستعمال المجازات في إنشاء العقود ممنوع عند الجماعة. ومع إرادة الكلّي لا يجوز أيضا ، لأنّ معناه أعم من التمليك البيعي ، لشموله له وللصلح والهبة بعوض.

وأمّا ما حكي عن كاشف الغطاء ـ من أصالة البيع في تمليك الأعيان ـ ففيه : أنّ دعوى الأصالة ممنوعة جدّا ، إذ الجامع بين التمليكات المتشخصة هو نفس التمليك ، لأنّه القدر المشترك بين جميع حصص التمليك التي منها البيع والصلح والهبة ، نظير


.................................................................................................

__________________

تحصّص الحيوان بحصص عديدة متفصّلة بفصول متشتتة ، ولذا لا يكون أحد أنواع الحيوان مثلا أصلا لسائر أنواعه.

وعليه فلا معنى لكون البيع أصلا في مقام الثبوت لسائر حصص التمليك.

هذا إذا أريد بالأصل الأصالة الثبوتية. وإن أريد به الأصالة الإثباتية ـ بمعنى كون غالب التمليكات في الخارج هو البيع ـ فلا تجدي في إثبات صحة إنشاء البيع ب «ملّكت» لأنّ هذا راجع إلى مقام الثبوت الذي هو أجنبي عن الغلبة الراجعة إلى مقام الإثبات ، هذا.

بقي التعرض لدليل القولين الآخرين.

أمّا دليل القول الثاني ـ وهو المنع عن وقوع البيع بلفظ التمليك ـ فوجوه :

أحدها : توقيفية صيغ العقود ، وعدم معهودية تجويز العقد عنهم بلفظ «ملكت» فتبقى أصالة الفساد سليمة عن المانع.

وفيه : عدم ثبوت توقيفيتها ، وإلّا كان اللازم على الشارع تعيين لفظ أو ألفاظ لإنشاء العقود ، لئلّا يتجاوز عن تلك الألفاظ إلى غيرها.

ثانيها : ما حكاه المصنف قدس‌سره بقوله : «وما قيل من أنّ التمليك يستعمل في الهبة».

وفيه : ما أجاب به في المتن بقوله : «إنّ الهبة إنّما يفهم من تجريده اللفظ .. إلخ».

ثالثها : أنّ التمليك حقيقة في القدر المشترك بين البيع والعطية والهبة ، فإن أريدت خصوصية البيع من لفظه صار مجازا ، واستعمال الألفاظ المجازية في العقود غير جائز. وإن لم ترد الخصوصية من اللفظ كان عنوانا عامّا غير منطبق على المقصود وهو البيع ، فإنشاء إيجاب البيع بلفظ «ملّكت» غير جائز.

وفيه : أنّ هذا مبني على القول باشتراط كون الصيغة بنفسها صريحة. وأمّا على القول بالاكتفاء بكون المجموع المركّب صريحا ـ كما يظهر من الأكثر ـ فلا يتم ، إذ المجموع المركّب من لفظي التمليك والعوض المنضم إليه يصير صريحا في عنوان


.................................................................................................

__________________

البيع ، فيكون نفس «ملّكت» دالّا على طبيعة التمليك ، والقيد دالّا على التمليك البيعي من باب تعدّد الدال والمدلول ، نظير «أعتق رقبة مؤمنة».

وأمّا دليل القول الثالث فهو ما أفاده في محكي المصابيح من : «أنّه يشكل الإيجاب بلفظة ـ ملّكت ـ لاحتمالها لغير البيع وإن كانت نصّا في الإيجاب. ولا يجدي ذكر العين والعوض ، لأنّ تمليكها به قد يكون بالهبة والصلح ، فلا يتعيّن بيعا ، إلّا إذا قيّده البائع به ، فقال : ملّكتك بالبيع. ومنه يظهر وجه المنع كما هو ظاهر الجامع ، مع ضعف إطلاقه ، كإطلاق غيره. ولو حمل المنع فيه على المجرّد عن القيد ، والجواز في غيره على المقيّد زال الإشكال» انتهى.

ونسج على منواله صاحب الجواهر قدس‌سره بزيادة احتمال حمل المنع على ما إذا استعمل فيه مجازا ، بملاحظة الخصوصية ، والمجاز لا ينعقد به العقد. والجواز على استعماله على جهة الحقيقة وإن استفيدت الخصوصية من قيد آخر (١).

وفيه : أنّ التمليك المقرون بذكر العوض هو البيع حقيقة ، فقوله قدس‌سره : «ولا يجدي ذكر العين والعوض .. إلخ» في غاية الإشكال ، لأنّ الصلح والهبة المعوّضة ليسا من التمليك بالعوض على وجه المقابلة ، فلا حاجة في تعيّن «ملّكت» في إنشاء إيجاب البيع إلى تقييده بذكر البيع ، بأن يقال : ملّكتك بالبيع ، هذا.

وأمّا ما أفاده الجواهر من «حمل المنع على ما إذا استعمل فيه مجازا .. إلخ» ففيه : أنّ المجاز ـ بعد فرض الظهور العرفي للفظ في المعنى المقصود ـ ممّا لا مانع عنه ، فلا فرق في الجواز بين كون الاستعمال على وجه الحقيقة وبين كونه على وجه المجاز.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٦


وأمّا الإيجاب ب «اشتريت» (١) (*) ففي مفتاح الكرامة «أنّه قد يقال بصحّته كما هو الموجود في بعض نسخ التذكرة (٢) ، والمنقول عنها في نسختين من

______________________________________________________

(١) هذا رابع ألفاظ الإيجاب بناء على صحة إنشاء البيع به.

(٢) ظاهر العبارة أنّ السيد الفقيه العامليّ ظفر ببعض نسخ التذكرة وبنسختين

__________________

(*) قال الفقيه المامقاني قدس‌سره : «الظاهر أنه تصحيف ـ شريت ـ كما هو الموجود في النسخة التي رأيناها ، لبعد الاقتصار عليها دون شريت. ويؤيّده : أنّه لم يذكر ـ اشتريت ـ بالخصوص أحد من الفقهاء في عداد ألفاظ إيجاب البيع ، وإن كان بعض أهل اللغة ذكر استعماله في معنى الإيجاب وقبوله. ففي شرح القاموس يقال : اشتراه إذا ملكه بالبيع ، ويقال : اشتراه إذا باعه» (١).

ولكن قد يتّجه عليه أوّلا : أنّ الظاهر صحة ما في المتن ووقوع السهو في النسخة التي رآها قدس‌سره ، ضرورة أنّ المصنف قدس‌سره لم يقتصر في صيغ الإيجاب على «اشتريت» حتى يستبعد منه إهمال «شريت» بل قد جعلها في عداد صيغ الإيجاب ، حيث قال قبل أسطر بعد ذكر صيغة «بعت» ما لفظه : «ومنها : لفظ شريت ، فلا إشكال في وقوع البيع به لوضعه له .. إلخ».

وعليه فلو قال المصنف هنا : «وأمّا الإيجاب بشريت» لكان تكرارا مخلّا بنظام المطلب.

مضافا إلى قوله في المتن : «ولكن الاشكال المتقدم في شريت أولى بالجريان هنا».

وثانيا : أنّ المصنف قدس‌سره اقتصر في أوّل كلامه على نقل عبارة مفتاح الكرامة ، والموجود فيه في هذا المقام : «اشتريت» كما في المتن ، فراجع.

وثالثا : أنّ المصنف لم يدّع ذكر خصوص صيغة «اشتريت» في شي‌ء من الكتب الفقهيّة ، بل ادّعى ذكرها في التذكرة ، ثم استفادتها من عطف «ما أشبههما ، وما يقوم مقامهما» على قولهم : «بعت وملّكت».

والإنصاف أنّه لم يتّضح لنا مراده قدس‌سره وهو أعلم بما قال.

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٣٣


تعليق الإرشاد (١).

______________________________________________________

من تعليق الإرشاد للمحقق الثاني قدس‌سره ، وظفر بتجويز العلّامة قدس‌سره إيجاب البيع بصيغة «اشتريت».

وقال السيد بعد العبارة المنقولة في المتن تأييدا لصحة الإيجاب بها : «وفي القاموس : شراه يشريه إذا ملكه بالبيع ، وباعه كاشترى ، فهما ضدّ. وفيه أيضا : كل من ترك شيئا وتمسّك بغيره فقد اشتراه».

وعليه يسهل الأمر في الإنشاء ب «اشتريت» بعد كونه مشتركا بين الإيجاب والقبول.

وهذا لا ينافي ذكر صيغ ثلاث في كثير من كتب الأصحاب ، وهي «بعت وشريت وملّكت» كما حكاه السيد العاملي قدس‌سره (٢) عن التذكرة ونهاية الأحكام والدروس والتنقيح وصيغ العقود وتعليق الإرشاد.

وجه عدم التنافي : أنّه يحتمل أن يكون ذكر الصيغ الثلاث للمثال ، كما يحتمل أن يكون للحصر ، فلا سبيل للجزم بالحصر حتى يكون ذكر «اشتريت» في بعض نسخ التذكرة منافيا للمشهور أو للمتّفق عليه بينهم.

نعم المستفاد من عبارة العلامة في القواعد الحصر في الثلاث ، حيث قال : «ولا بدّ من الصيغة الدالة على الرّضا الباطني ، وهي الإيجاب كقوله : بعت وشريت وملّكت» (٣).

ولكن استظهر صاحب الجواهر (٤) منها عدم الحصر ، لأنّ العلّامة ذكر أوّلا لزوم الصيغة الدالة على الرّضا الباطني ، وهي عنوان كلّي ، ثم حكم بأنّه الإيجاب والقبول ، وأدخل «الكاف» على ألفاظ الإيجاب ، وهي ظاهرة في التمثيل.

__________________

(١) أ : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٠ و١٥١

(٢) ب : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٠ و١٥١

(٣) قواعد الأحكام ، ص ٤٧ (الطبعة الحجرية).

(٤) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٧


أقول : قد يستظهر (١) من عبارة كلّ من عطف على بعت وملّكت «شبههما» أو «ما يقوم مقامهما» إذ إرادة خصوص لفظ «شريت» من هذا بعيد جدّا.

______________________________________________________

وإن كان هذا الاستظهار لا يخلو من تأمّل ، إذ لا ظهور لعبارة العلّامة في عدم الحصر.

(١) يعني : قد يستظهر صحة الإيجاب بلفظ «اشتريت» من عبارة غير العلّامة ـ في التذكرة ـ أيضا ، لأنّ جمعا بعد أن ذكروا صيغتي «بعت وملّكت» عطفوا عليهما : «وما أشبههما أو ما قام مقامهما».

فعن حواشي الشهيد على القواعد : «مثل قارضتك وسلّمت إليك وما أشبه ذلك».

وعن التحرير : «الإيجاب اللفظ الدال على النقل مثل : بعتك وملّكتك أو ما يقوم مقامهما». ومن المعلوم أنّ المراد ممّا أشبه الصيغتين أو مما قام مقامهما ليس خصوص «شريت» لعدم الدليل على هذا الحصر ، بل المراد كل ما يدلّ على الرضا بالبيع ، فيشمل «اشتريت» الذي هو من ألفاظ الأضداد ، ويكون استعماله في الإيجاب حقيقة لا مجازا.

ويؤيّد هذا الاستظهار ما اختاره الفاضل الآبي ، ونسبه إلى المحقق من عدم اعتبار لفظ خاص في البيع (١).

والحاصل : أنّ مراد المصنف قدس‌سره أن يكون «اشتريت» بمعنى «بعت» بأن يراد منه إيجاب البيع ، فيكون قول الموجب : «اشتريت مالي بمالك» بمعنى «بعت مالي بمالك». لا أن يكون «اشتريت» بمعنى قبول البيع ، وكان من تقديم القبول على الإيجاب ، لأنّه بهذا المعنى يخرج عن مورد النزاع.

__________________

(١) : كشف الرموز ، ج ١ ، ص ٤٤٦


وحمله (١) على إرادة «ما يقوم مقامهما» في اللّغات الأخر للعاجز عن العربية أبعد ، فيتعيّن (٢) إرادة ما يرادفهما لغة أو عرفا ، فيشمل «شريت» و «اشتريت».

لكن الإشكال المتقدّم (٣) في «شريت» أولى بالجريان هنا (٤) ، لأنّ «شريت» استعمل في القرآن الكريم في البيع ، بل لم يستعمل فيه إلّا فيه (٥). بخلاف

______________________________________________________

(١) أي : وحمل العطف على إرادة .. إلخ. وغرضه بيان توهّم ودفعه. أما التوهم فتقريبه : أنّه يمكن أن يراد من كلمتي «شبههما ، يقوم مقامهما» أمر آخر غير ما استظهره المصنف ، بل المراد ما يدلّ على معنى «بعت وملّكت» في سائر اللغات ، بأن يقول بالفارسية «فروختم ، مال تو قرار دادم» وهكذا ترجمة الصيغتين في اللّغات الأخرى.

وعلى هذا فلا يمكن أن ينسب إلى الفقهاء إرادة صيغة «اشتريت» من كلمة «أو ما أشبه أو ما يقوم» ونتيجة ذلك منع قول المصنف : «قد يستظهر».

وأمّا الدفع فهو : أنّ حمل «ما أشبههما» على ترجمة «بعت» بالنسبة إلى العاجز عن العربية في غاية البعد ، إذ لو كان مرادهم مدلول خصوص صيغتي «بعت وملّكت» في سائر اللغات لزم أن يقولوا : «إيجاب البيع : بعت وملّكت للقادر على العربية ، ومرادفهما من سائر اللغات ، أو : ما يقوم مقامهما من سائر اللغات» مع أنّهم قالوا : «إيجاب البيع : بعت وملّكت وما أشبههما» ولا مجال إلّا لأن يراد من «الشّبه» سائر الألفاظ الدالّة على إيجاب البيع مثل «شريت ، اشتريت».

(٢) هذا متفرع على أبعدية حمل العطف على المرادف من سائر اللغات.

(٣) وهو قلّة استعماله عرفا في البيع ، واحتياجه إلى القرينة المعيّنة.

(٤) يعني : في لفظ «اشتريت» وجه الأولوية هو اشتمال «اشتريت» على تاء المطاوعة.

(٥) أي : لم يستعمل ـ في القرآن ـ إلّا في البيع.


«اشتريت» (١) (*).

______________________________________________________

(١) فإنّه لم يستعمل في إنشاء الإيجاب ، بل اقتصر في محكي التذكرة ـ من ألفاظ القبول ـ على خصوص «اشتريت» (١).

__________________

(*) قال سيدنا الأستاذ قدس‌سره : «وينبغي أن يكون جواز الإيجاب به مبنيّا على جواز الإيجاب بالمجاز ، لأنّ استعمال اشتريت بمعنى بعت وشريت مجاز» (٢).

وفيه ما عرفت من أنّ الاشتراء ـ كما تقدّم عن شرح القاموس ـ من الأضداد ، فاستعمال «اشتريت» في إيجاب البيع ليس مجازا ، بل هو حقيقة بقرينة معيّنة. وعلى تقدير المجازية لا بأس بها ، لما مرّ من جواز الإنشاء ، بكلّ ما يكون ظاهرا عرفا في المعني المقصود ، وعدم دليل تعبّدي على اعتبار الإنشاء بما يكون دلالته على المقصود بالوضع ، هذا.

ثم إنّه مع الغض عن كون «اشتريت» من الأضداد يمكن إثبات جواز الإيجاب به أيضا ، لأنّ الاشتراء كما عن القاموس «ترك الشي‌ء والتمسك بغيره» ومنه (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) وعليه فالإشتراء يستعمل حقيقة في الإيجاب.

وقد يقال : إنّ «اشتريت» متمحضة في القبول حقيقة ، لكون هيئة الافتعال والتفعّل لمطاوعة فعل الغير ، كما يظهر من تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره.

لكنّه ليس كذلك ، لأنّ هذه المطاوعة عبارة عن اتخاذ الذات للمبدأ مطلقا سواء أكان المبدأ صادرا من نفسه كالاكتساب والاحتطاب والاحتشاش ونحوها ، وكما في التعمم والتقمص والتّسربل والتكبر ونحوها ، أم من غيره.

وعليه فإن تعلّقت المطاوعة بمال نفسه كان معناه اتخاذ المبدأ من نفسه ، وهو تمليك مال نفسه بعوض. وإن تعلّقت بمال الغير كان معناه اتخاذ البيع من الغير ، وحينئذ يكون مصداقا للقبول والمطاوعة الحقيقة.

ومنه يظهر أنّ وقوعه موقع الإيجاب يناسب مفهومه ، لا أنه يبتني على كون «الشراء والاشتراء» من الأضداد ، فلاحظ وتدبّر.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ١٥٢

(٢) نهج الفقاهة ، ص ٩٦


ودفع (١) الإشكال في تعيين المراد منه بقرينة (٢) تقديمه الدّال على كونه إيجابا ، إمّا بناء على لزوم تقديم الإيجاب على القبول ، وإمّا لغلبة ذلك ، غير (٣) صحيح ، لأنّ الاعتماد على القرينة غير اللفظية في تعيين المراد من ألفاظ العقود قد عرفت (٤) ما فيه.

______________________________________________________

(١) مبتدأ ، خبره «غير صحيح» والمراد بالإشكال هو قوله : «لكن الإشكال المتقدم في شريت أولى بالجريان هنا» ومقصود الدافع تصحيح إيجاب البيع ب «اشتريت» فالإشكال الوارد على «شريت» لا يجري في «اشتريت».

وحاصل وجه الدفع هو : أنّ إنشاء الإيجاب بلفظ «اشتريت» إن كان مع القرينة الموجبة لظهوره في إنشاء الإيجاب فلا بأس به. ثم إنّ القرينة عبارة عن لزوم تقديم الإيجاب على القبول ، أو غلبة ذلك الموجبة لظهور «اشتريت» مع التقديم في إنشاء الإيجاب.

(٢) متعلق ب «دفع» وبيان له ، وضمير «تقديمه» راجع إلى «اشتريت».

(٣) خبر «ودفع» وحاصل الإشكال على هذا الدفع عدم صلاحية القرينة ـ غير اللفظية ـ على تعيين المراد من ألفاظ العقود ، فلا يصلح لزوم تقديم الإيجاب على القبول ـ أو غلبته ـ لتعيين المراد ، وهو الإيجاب من لفظ «اشتريت».

(٤) حيث قال : «والأحسن منه أن يراد باعتبار الحقائق في العقود اعتبار الدلالة الوضعية .. الى أن قال : وهذا بخلاف اللفظ الذي يكون دلالته على المطلب لمقارنة حال أو سبق مقال خارج عن العقد» لاحظ (ص ٣٥٨).

وحاصله : اعتبار الدلالة الوضعية في العقود ، سواء أكان اللفظ الدال على إنشاء العقد بنفسه موضوعا له ، أو مستعملا فيه مجازا بقرينة لفظ آخر موضوع له ، ليرجع الإفادة بالأخرة إلى الوضع ، إلى آخر ما أفاده.


إلّا (١) أن يدّعى أنّ ما ذكر سابقا ـ من اعتبار الصراحة ـ مختصّ بصراحة اللفظ من حيث دلالته على خصوص العقد وتميّزه عمّا عداه من العقود. وأمّا تميّز إيجاب عقد معيّن عن قبوله ـ الراجع إلى تميز البائع عن المشتري ـ فلا يعتبر فيه الصراحة ، بل يكفي استفادة المراد ولو بقرينة المقام ، أو غلبته ، ونحوهما.

وفيه إشكال (٢) (*).

______________________________________________________

(١) غرضه تصحيح الاعتماد على القرينة غير اللفظية كغلبة تقديم الإيجاب على القبول ـ أو لزومه ـ في الدلالة على تعيين المراد من ألفاظ العقود.

ومحصّله : أنّ اعتبار صراحة الدلالة إنّما هو في تشخيص عنوان العقد كالبيع وتمييزه عمّا عداه من سائر العقود ، لا في تمييز الإيجاب عن القبول في عقد قد تميّز عنوانه عن غيره من العقود. والمفروض في المقام تميّز العقد ـ وهو البيع ـ عن سائر العقود ، فلا تعتبر الصراحة في الدلالة على الإيجاب ، بل تكفي الدلالة عليه بالقرينة المقامية.

(٢) أي : في عدم اعتبار الصراحة في لفظ الإيجاب ـ وتردّده بين الإيجاب والقبول ، وتعيّن أحدهما بالقرينة ـ إشكال. وجه الإشكال : ظهور كلماتهم في عموم المنع لذلك ، وعدم اختصاص اعتبار الصراحة بعنوان العقد ، فالصراحة معتبرة في تميّز العقد عمّا عداه من العقود ، وفي تميّز إيجاب عقد معيّن عن قبوله أيضا ، فتوجيه إنشاء الإيجاب بغير ما يكون صريحا فيه بقوله : «إلّا أن يدّعى أن ما ذكر سابقا .. إلخ» مشكل.

__________________

(*) وقد ظهر مما قدّمناه سابقا عدم اعتبار الصراحة أصلا ، لا في تمييز عنوان العقد عمّا عداه من العقود ، ولا في تمييز الإيجاب عن القبول.

نعم إذا استند في اعتبار الصراحة إلى الإجماع فالمتيقن منه هو اعتبار الصّراحة في الدلالة على تعيين عقد خاص ، لا في تمييز الإيجاب عن القبول. لكن في الإجماع ما لا يخفى.


وأمّا القبول (١) فلا ينبغي (*) الإشكال في وقوعه بلفظ : قبلت ورضيت واشتريت وشريت (٢) وابتعت وتملّكت وملكت مخفّفا. وأمّا «بعت» فلم ينقل إلّا من الجامع ، مع أنّ المحكيّ عن جماعة من أهل اللغة (٣) اشتراكه بين البيع والشراء.

______________________________________________________

ب : ألفاظ القبول

(١) هذا المقام الثاني من مبحث ألفاظ الإيجاب والقبول ، ومحصّل هذا المبحث على ما أفاده المصنف قدس‌سره هو : أنّه لا ينبغي الإشكال في وقوع القبول بلفظ «قبلت» إلى آخر ما في المتن. واشتراك بعضها لفظيّا أو معنويا غير قادح بعد الاحتفاف بالقرينة المقالية أو الحالية على تعيين المعنى المقصود كما تقدم.

(٢) الأوّل مأخوذ من «شريت» بمعنى «بعت» فيكون بمعنى «ابتعت» ، والثاني مقابل «بعت» لفرض كون «شريت» من الأضداد.

(٣) قال في مجمع البحرين : «والبيع الإيجاب والقبول» (١) ومقصود المصنف قدس‌سره أنه مع قول جماعة من اللغويين باشتراك لفظ «البيع» بين البيع والشراء كيف لم يذكر لفظ «بعت» من ألفاظ القبول إلّا يحيى بن سعيد في جامعه ، على ما حكاه السيد العاملي من قوله : «والقبول : قبلت أو شريت ، أو بعت» (٢).

لكن الموجود في النسخة المطبوعة من الجامع «ابتعت» بدل «بعت» فراجع (٣).

__________________

(*) نفي الإشكال مبنيّ على مذهبه قدس‌سره من عدم اعتبار ألفاظ خاصة في إنشاء عقد البيع. وأمّا مع اعتبارها فلا يخلو نفي الإشكال عن الغموض كما لا يخفى.

وكيف كان فالبحث فيما أفاده من ألفاظ القبول يقع في ناحيتين :

إحداهما : في انحصار الألفاظ الدالة على القبول وعدمه.

__________________

(١) : مجمع البحرين ، ج ٤ ، ص ٣٠٤

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٢

(٣) الجامع للشرائع ، ص ٢٤٦


.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيتهما : في أنّ الأصل في القبول هل يكون أحدها ، والآخر بدله ، أم لا؟

أمّا الناحية الأولى فمحصّلها : أنّ مقتضى العبائر التي عرفتها في المتن وغيرها مما لم يذكر عدم الانحصار.

وأمّا الناحية الثانية فمحصّلها عدم ثبوت أصل وبدل في ألفاظ القبول ، لأنّ كلّ لفظ لا يصلح للقبول ، إلّا إذا دلّ على معنى لا يمكن إنشاؤه ابتداء ، سواء أكان بلفظ «قبلت» أم غيره. ولعلّ المراد بالأصل هو كون الدلالة على المعنى القبولي مطابقة منحصرا بلفظ «قبلت» فتأمّل.

ولا بأس بالنظر إلى بعض كلماتهم في ألفاظ القبول ، ففي السرائر (١) ما ظاهره الاقتصار على صيغتي «اشتريت وقبلت» لعدم ذكر غيرهما.

قيل : وقد يدّعى انفهام انحصار ألفاظ القبول فيهما من عبارة الغنية.

وفي جواهر القاضي عبد العزيز بن البراج رحمه‌الله : «مسألة : إذا قال المشتري للبائع بعني بكذا ، وقال البائع : بعتك هل ينعقد البيع أم لا؟ الجواب : لا ينعقد البيع بذلك ، وإنّما ينعقد بأن يقول المشتري بعد ذلك : قبلت أو اشتريت ، لأنّ ما ذكرناه مجمع على ثبوت العقد وصحته به ، وليس كذلك ما خالفه. ومن ادّعى ثبوته وصحّته بغير ما ذكرنا فعليه الدليل. وأيضا فالأصل عدم العقد ، وعلى من يدّعي ثبوته الدليل» (٢).

وفي التذكرة : «والقبول من المشتري قبلت أو ابتعت أو اشتريت أو تملّكت» (٣).

وفي الدروس : «والقبول ابتعت واشتريت وتملّكت وقبلت بصيغة الماضي» (٤).

وفي القواعد : «والقبول وهو : اشتريت أو تملّكت أو قبلت».

وفي جامع المقاصد في شرح هذه العبارة : «كان الأولى أن يقول : كاشتريت ، لأنّ

__________________

(١) : السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٥٠

(٢) جواهر الفقه (ضمن الجوامع الفقهية) ، ص ٤٢١

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٤) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١


ولعلّ الإشكال فيه (١) كإشكال «شريت» (*)

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ الإشكال في إنشاء القبول بصيغة «بعت» هو قلّة الاستعمال في الإيجاب ب «شريت».

__________________

ابتعت ونحوه قبول قطعا» (١).

وجه الأولوية : أنّ ظاهر قول العلّامة : «والقبول هو اشتريت .. إلخ» هو الحصر ، بخلاف التعبير بقوله : «كاشتريت» فإنّه كالصريح في التمثيل ، لا الحصر.

وعن العلّامة الطباطبائي قدس‌سره : القطع بعدم الفرق بين الصيغ المؤدّية للمعنى لا عقلا ولا شرعا.

وفي الجواهر : «ولو توقف النقل على خصوص اللّفظ المعيّن لزم الاقتصار على بعت واشتريت وقبلت ، ولم يجز غيره ، لعدم ثبوته بعينه من نصّ ولا إجماع. ورضيت في القبول أظهر من ملكت وشريت ، وأقرب إلى مفهوم قبلت ، فكان أولى بالجواز منهما» (٢).

وأنت بعد الإحاطة بما ذكرناه من العبائر وغيرها ممّا لم نذكرها تعرف اختلافهم في انحصار ألفاظ القبول في بعض ما ذكر وعدم انحصارها فيه ، فلا إجماع على الانحصار ، فلا بدّ حينئذ من المشي على طبق القواعد. وهي تقتضي جواز إنشاء قبول البيع بكلّ لفظ يكون ظاهرا في ذلك بحيث يعدّ مبرزا له عند أبناء المحاورة ، ويصدق عليه قبول العقد عرفا ، فإنّه مع صدق البيع العرفي عليه تشمله العمومات كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

(*) لا يخفى أنّه بعد البناء على كون الشراء من الأضداد ـ وبعد وجود القرينة الدالة على إرادة الإيجاب منه ـ لا ينبغي الإشكال في جواز إنشاء الإيجاب به.

وكذا الإشكال في إنشاء القبول بلفظ «بعت». وغلبة استعماله في إنشاء الإيجاب

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٧

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٧


في الإيجاب (١).

واعلم أنّ المحكي عن نهاية الأحكام والمسالك «أنّ الأصل في القبول قبلت (٢) ، وغيره (٣) بدل ، لأنّ (*) القبول على الحقيقة ممّا لا يمكن به الابتداء ، والابتداء بنحو اشتريت وابتعت ممكن» (١) وسيأتي توضيح ذلك في اشتراط تقديم الإيجاب.

______________________________________________________

(١) المراد بالإشكال في «شريت» هو ما أفاده المصنف قدس‌سره عند ذكر لفظ «شريت» بقوله : «وربما يستشكل فيه بقلة استعماله عرفا في البيع ، وكونه محتاجا إلى القرينة المعيّنة ، وعدم نقل الإيجاب به في الأخبار وكلام القدماء».

فإشكال «بعت» في القبول ـ وهو قلّة استعماله فيه عرفا ـ نظير الإشكال المزبور في «شريت» الذي يستعمل في الإيجاب.

(٢) قال في المسالك : «وفي الحقيقة : هذه الألفاظ المتقدمة المعدّة قبولا قائمة مقامه ، لا نفسه ، وإنّما القبول على الحقيقة : قبلت ، وهو ممّا لا يصحّ الابتداء به».

(٣) يعني : وغير «قبلت» مثل «اشتريت ، ابتعت» بدل عن «قبلت» والدّليل على أصالة هذه وبدليّة ما سواها هو امتناع تقديم «قبلت» على الإيجاب ، بخلاف «ابتعت واشتريت» فإنّ الابتداء بهما ممكن ، ولذا عدّوهما من صيغ إيجاب البيع أيضا ، فلا تتمحضان في قبوله ، إذ ليس القبول مجرّد الرضا بفعل الغير حتى يمكن سبقه عليه ، بل هو مطاوعة فعل الغير ومتابعته له ، ومن المعلوم امتناع تقدمه على الإيجاب.

__________________

لا تمنع عن جواز إنشاء القبول به مع القرينة المعيّنة.

(*) هذا التعليل لا يثبت أصالة «قبلت» فقط ، بل مقتضاه أصالة كلّ ما لا يمكن الابتداء به كلفظ «تملّكت ، ورضيت» ونحوهما ممّا يتضمن القبول.

__________________

(١) : نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٨ ، مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤


ثم إنّ في انعقاد القبول بلفظ الإمضاء والإجازة والإنفاذ وشبهها وجهين (١) (*).

______________________________________________________

(١) لعلّ منشأ المنع عدم كونها صريحة ، لعدم وضعها لعنوان القبول مثل لفظ «قبلت» ولا لعنوان طرف المعاملة ك «اشتريت» وقد اشترطوا الصّراحة في ألفاظ العقود ، مع عدم تصريح منهم بوقوع القبول بها ، فلا ينعقد بها.

ومنشأ الانعقاد أنّ الظاهر اعتبار الصراحة في خصوص ألفاظ الإيجاب دون القبول ، ولذا يكتفى فيه بلفظ «قبلت» من دون ذكر المفعول وهو البيع ، للاستغناء عنه بالاقتران بلفظ الإيجاب «كبعت» فإنّ الاقتران المزبور قرينة مقاميّة على إرادة القبول من لفظ «رضيت وأنفذت» ونحوهما أيضا ، لدلالة الاقتران على كون مضمونه تابعا للإنشاء الإيجابي.

__________________

(*) قال السيد قدس‌سره في حاشيته : «الظاهر أنّ وجه الإشكال استعمال هذه الألفاظ غالبا في مقام إمضاء العقد الواقع مع إيجابه وقبوله كما في إجازة الفضولي ، وإجازة المرتهن بيع الراهن ، وإمضاء الورثة تصرّف الميت في الزائد عن الثلث ، وهكذا. ولكنّ الحق كفايتها في القبول بعد مساعدة معناها عليه ، إذ لا فرق بينها وبين لفظ رضيت كما لا يخفى» (١).

أقول : فيه أوّلا : أنّ عطف «وإمضاء الورثة .. إلخ» على قوله : «في إجازة الفضولي .. إلخ» غير سديد ، لأنّ الوصية بالزائد عن الثلث ليست عنده قدس‌سره من العقود حتى يكون إمضاء الورثة تنفيذا للعقد ، حيث قال ما لفظه : «الوصية العهدية لا تحتاج إلى القبول ، وكذا الوصية بالفكّ كالعتق. وأمّا التمليكية فالمشهور على أنّه يعتبر فيها القبول جزءا. وعليه تكون من العقود. أو شرطا على وجه الكشف أو النقل ، فيكون من الإيقاعات. ويحتمل قويّا عدم اعتبار القبول فيها ، بل يكون الرّد مانعا. وعليه تكون من الإيقاع

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٨٧


.................................................................................................

__________________

الصريح .. إلخ» (١).

ومع عدم كون الوصية من العقود لا يصح جعلها من العقود التي يتعقّبها الإمضاء والإنفاذ ، لكونها حينئذ من الإيقاعات.

وثانيا : أنّ جعل منشأ الإشكال غلبة استعمال هذه الألفاظ في مقام إمضاء العقد الواقع مع إيجابه غير وجيه ، لعدم صلاحية مجرّد غلبة الاستعمال للمنع عن إنشاء القبول بتلك الألفاظ بعد مساعدة معانيها على صحة إنشائه بها.

ولعلّ غرضه قدس‌سره من غلبة الاستعمال هو كون مورد أدلة الإمضاء المعاملات المتداولة بين العقلاء ، فكلّ ما هو المتداول بينهم يكون مورد الأدلّة ، هذا.

لكن يرد عليه : أنّ التداول لا يمنع عن شمول أدلة الإمضاء لغير الغالب بعد كونه عرفيّا أيضا وإن كان نادرا عندهم ، فمجرّد الغلبة لا يوجب انصراف أدلة الإمضاء عن النادر.

فالأولى توجيه الاشكال بخفاء دلالتها على القبول ، فتدبّر.

وقال المحقق الأصفهاني قدس‌سره : «لا ريب في أنّ عنوان الإمضاء والإجازة والإنفاذ لا يتعلق إلّا بما له مضيّ وجواز ونفوذ. وما يترقّب منه ذلك هو السبب التام وهو العقد ، لتقوّم السبب المترقّب منه التأثير في الملكية بالإيجاب والقبول معا ، فلا معنى للتسبّب بقوله : أمضيت وأجزت وأنفذت إلّا في مثل العقد الفضولي ، لا بالإضافة إلى الإيجاب فقط إلّا بنحو الكناية ، لأنّ النفوذ والجواز والمضي لازم تحقق العقد بلحوق القبول للإيجاب ، فيكون القبول المتمّم للسبب ملزوما للنفوذ والمضي والجواز. فيظهر الرّضا بالإيجاب ـ وهو الملزوم ـ بإنشاء لازمه وهو النفوذ مثلا من حيث إنّه لازم تمامية السبب بالقبول ، وإظهار الرّضا بالإيجاب ، فيبتني وقوع تلك الألفاظ موقع القبول على جواز العقد بالكناية.

مضافا إلى ما سيأتي إن شاء الله تعالى في محلّه من أنّ النفوذ والمضي وشبههما

__________________

(١) : العروة الوثقى ، ج ٢ ، ص ٨٧٧ ، كتاب الوصية : المسألة الأولى.


.................................................................................................

__________________

معان منتزعة من تأثير السبب أثره ، لا أنّها أمور إنشائية يتسبّب بوجوداتها الإنشائية الى وجوداتها الحقيقيّة. وتمام الكلام فيه في محله» (١).

وفيه : أنّ عنوان الإمضاء والإجازة لا ينحصر تعلّقهما بما فيه مضيّ ونفوذ بنحو السببية التامة كالعقد المتقوم بالإيجاب والقبول كما هو صريح قوله قدس‌سره : «وما يترقّب منه ذلك هو السبب التام وهو العقد» لأنّ هذه الألفاظ تستعمل كثيرا مع عدم كون متعلّقها سببا تامّا للتأثير كإمضاء أحد الورثة العقد الخياري الذي أوقعه مورّثهم ، فإنّ الخيار موروث لجميع الورثة ، وإمضاء أحدهم لا يتعلق بسبب تام للتأثير ، بل تمامية العقد في التأثير اللزومي منوطة بإمضاء سائر الورثة.

وكحدّ القذف الذي يرثه الوراث ، فإن عفى بعضهم لم يسقط حقّ الآخرين. وسائر الحقوق الموروثة مع تعدّد الوارث وإنفاذ البعض.

وبالجملة : فالإمضاء ونحوه لا ينحصر تعلّقه بالسبب التّام ، بل لا معنى لتعلقه به مع فرض إناطة تأثيره بالإمضاء ، لأنّه خلاف سببيّته التامة.

فالأولى أن يقال : إنّ الإمضاء يتعلّق بما فيه اقتضاء التأثير وإن تعلّق بالإيجاب ، فإنّ إمضاءه من القابل عبارة عن إيجاد القبول الذي هو جزء السبب المؤثّر ، فالإنفاذ في العقود والإيقاعات نظير الإيجاب في الواجبات ، فإنّ الموجب قد يسدّ جميع أبواب عدم واجب كالواجب التعييني ، وقد يسدّ بعض أبواب عدم واجب كالواجب التخييري ، فإنّ المشرّع يسدّ أبواب عدمه إلّا عدمه الناشئ عن وجود عدله ، كسدّ أبواب عدم أحد الإبدال في الكفارة إلّا عدمه الناشئ عن وجود غيره من الأبدال.

ففي المقام يكون الإنفاذ كذلك ، فإمضاء الإيجاب لازم وجود القبول ، فدلالته على القبول تكون من باب الكناية ، لدلالة «أمضيت» ونحوه على اللازم ـ أعني النفوذ ـ مطابقة ، وعلى الملزوم وهو تحقق القبول بالالتزام ، لدلالة اللازم على الملزوم ، كدلالة كثرة الرّماد على الملزوم أعني الجود. فما أفاده المحقق المتقدم قدس‌سره من كون دلالة هذه الألفاظ على القبول بالكناية في محله.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٦٨


فرع : لو أوقعا العقد بالألفاظ المشتركة بين الإيجاب والقبول (١) ، ثم اختلفا في تعيين الموجب والقابل ، إمّا (٢) بناء على جواز تقديم القبول ، وإمّا من جهة اختلافهما في المتقدم ، فلا يبعد الحكم بالتحالف (٣) ، ثم عدم ترتب الآثار المختصة.

______________________________________________________

(١) كلفظ «بعت» فإنّه بناء على ما عن ابن سعيد قدس‌سره يجوز إنشاء قبول البيع به. ويؤيّده ـ بل يدلّ عليه ـ ما تقدّم من كونه من الأضداد ، فيستعمل لفظ «بعت» في كلّ من البيع والشراء. وكلفظ «شريت» المستعمل في كليهما.

(٢) غرضه بيان منشأ الاختلاف ، وهو أحد أمرين :

الأوّل : عدم لزوم تقديم الإيجاب ، فيختلف المتعاقدان ، ويدّعي البادي بالإنشاء بقوله : «شريت» أنّه أراد القبول ، لعدم لزوم تقديم الإيجاب عليه ، ويدّعي غيره أنّك أردت الإيجاب ، أو بالعكس.

الثاني : أنّه يجب تقديم الإيجاب على القبول ، غاية الأمر أنّهما يتنازعان في المتقدم ، وأن البادي بالإنشاء هل هو هذا أم ذاك؟

ثم إنّ هذا النزاع لا يختص بما إذا وقع العقد بالألفاظ المشتركة ، بل يعمّ ما إذا وقع بالألفاظ المختصة ، بأن يختلفا في أنّ المتلفّظ بصيغة الإيجاب هذا أو صاحبه؟ فلا يترتب هذا النزاع على إيقاع العقد بخصوص الألفاظ المشتركة بين الإيجاب والقبول.

(٣) لأنّ كلّا منهما مدّع ومنكر ، حيث إنّه يدّعي كلّ منهما أنّه مشتري الحيوان ، وينكره الآخر.

وتوضيح ما أفاده : أنّ الأثر يترتّب تارة على كلّ من الدعويين ، كما إذا كان العوضان حيوانين كفرس وغنم ، وادّعى كلّ منهما أنّه مشتر ليثبت له خيار الحيوان بناء على اختصاصه بالمشتري ، فيدّعي صاحب الفرس أنّه اشترى الغنم بالفرس ، فهو مشتر ، والغنم مبيع ، ويثبت له الخيار. ويدّعي صاحب الغنم أنّه اشترى الفرس بالغنم ، فالمبيع هو الفرس ، ويكون له خيار الحيوان.

والحكم حينئذ التحالف ، لأنّ كلّا منهما مدّع للشراء ومنكر للبيع ، فكلّ منهما مدّع ومنكر ، وفي مثله يجري التحالف.


مسألة (١):

______________________________________________________

وأخرى يترتب الأثر على إحدى الدعويين ، كما إذا كان أحد العوضين حنطة والآخر غنما ، فيدّعي أحد المتبايعين أنّه اشترى الغنم بالحنطة ، فهو المشتري ، والغنم مبيع. ويدّعي الآخر أنّ الغنم ثمن ، وباع الحنطة به ، فلا خيار لمن انتقل إليه الحيوان.

وبالجملة : فالتحالف المذكور في المتن متّجه في الصورة الأولى ، دون الصورة الثانية التي هي من باب المدّعي والمنكر ، فإطلاق التحالف ممنوع.

وعليه فالإشكال الوارد على المتن أمران ، أحدهما : حكمه قدس‌سره بإطلاق التحالف. ثانيهما : جعل هذا الفرع متفرّعا على إنشاء العقد بالألفاظ المشتركة ، مع أنّك عرفت عدم اختصاص النزاع بالألفاظ المشتركة.

المبحث الثالث : اعتبار العربية

(١) هذا إشارة إلى المبحث الثالث من الجهة الأولى ـ الباحثة عن خصوصيات موادّ العقود ـ وهو مسألة اعتبار العربية فيها ، وقد نقل المصنف قدس‌سره عنهم أدلة ثلاثة على الاعتبار وناقش فيها ، ثم ذكر فروعا ثلاثة رتّبوها على شرطية العربية.

ومحصّل ما أفاده في أصل الاشتراط هو : أنّ المنسوب إلى جماعة من الفقهاء اعتبار العربية في العقد ، لوجوه :

أحدها : التأسّي بالنبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام ، حيث كان دأبهم على إنشاء العقود والإيقاعات بالألفاظ العربية كما لا يخفى على المتتبع. هذا بحسب الصغرى.

وأمّا من حيث الكبرى فلا ريب في حجية فعلهم كحجية قولهم وتقريرهم عليهم الصلاة والسلام.

وعلى هذا فالتأسّي بهم عليهم الصلاة والسلام يقضي بإنشاء المعاملات بالعربيّة دون اللغات الأخرى الّتي لم تؤثر من الشارع الأقدس.

ثانيها : ما عن تعليق الإرشاد من : أنّ عدم صحة العقد بالعربي غير الماضي ـ كقوله : أبيعك أو : أنا بائع ـ يستلزم عدم صحة العقد بغير العربي بالأولوية ، لكونه


المحكيّ عن جماعة منهم السيد عميد الدين والفاضل المقداد والمحقق والشهيد الثانيان (١) : اعتبار العربية في العقد (٢) ، للتأسّي كما في جامع المقاصد (٣) ، ولأن (٤) عدم صحته بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحته بغير العربي بطريق أولى.

وفي الوجهين ما لا يخفى (٥).

______________________________________________________

فاقدا لكلّ من العربية والماضوية ، فعدم صحة فاقد إحداهما يستلزم عدم صحة فاقد كلتيهما بالأولوية كما لا يخفى.

(١) الحاكي لكلمات هذه العدّة ـ عدا الفاضل المقداد ، إذ لم ينسب إليه اعتبار العربية ـ هو السيد الفقيه العاملي (١) ، فراجع.

(٢) المراد بالعقد هو البيع ونحوه ، وأمّا النكاح فقد ادّعى شيخ الطائفة والعلّامة قدس‌سرهما اشتراطه بالعربية.

(٣) قال المحقق الثاني قدس‌سره : «لأنّ الناقل هو الألفاظ المخصوصة ، وغيرها لم يدلّ عليها دليل ، ومعلوم أنّ العقود الواقعة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام إنّما كانت بالعربية».

وقال الفاضل الأصفهاني : «لأنّ العقود متلقّاة من الشارع مع الأصل» (٢).

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الثاني المذكور بقولنا عن تعليق الإرشاد : «ثانيهما عدم صحة العقد .. إلخ».

(٥) إذ في أوّلهما : أنّ مجرّد عدم تلفّظهم عليهم‌السلام ـ في مقام إنشاء العقود والإيقاعات ـ إلّا باللغة العربية لا يدلّ على عدم جواز إنشائها باللّغات الأخر ، لقوّة

__________________

(١) : لاحظ كلام السيد عميد الدين والمحقق الثاني في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٢ ، والنسبة إلى المحقق والشهيد الثانيين في ص ١٦٤. ولاحظ كلام الفاضل المقداد في التنقيح ، ج ٢ ، ص ١٨٤ وج ٣ ، ص ٧. وكلام المحقق الثاني في جامع المقاصد ج ٤ ، ص ٦٠ ، وج ١٢ ص ٧٤ ، وكلام الشهيد الثاني في بيع الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥ ، وفي نكاح المسالك ، ج ٧ ، ص ٩٥.

(٢) كشف اللثام ، ج ١ ، كتاب النكاح ، ص ٧


وأضعف (١) منهما منع صدق العقد على غير العربي مع التمكّن من العربي ، فالأقوى (٢) صحّته بغير العربي.

______________________________________________________

احتمال أن يكون اقتصارهم على اللّغة العربية لأجل عدم الابتلاء باللّغات الأخر ، لا لأجل التشريع الموجب للاقتصار على العربي ، حتى يكون من قبيل مناسك الحج الصادرة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الثابت كونها في مقام التشريع بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عنّى مناسككم».

وعليه فلا يصلح التأسّي المزبور لتقييد إطلاقات الصحة والنفوذ الشاملة لغير العربي.

وفي ثانيهما : منع الاستلزام المزبور ، لأنّ غير الماضي بعيد عن معنى الإنشاء ، بخلاف غير العربي المستعمل في مقام إنشاء العقد على طبق قواعد تلك اللغة.

(١) هذا إشارة إلى ثالث الوجوه التي استدلّ بها على اعتبار العربية في العقد ، وحاصله : منع صدق العقد على ما ينشأ بغير العربي مع التمكّن من العربي ، فالصدق منوط بالعربية ، هذا.

وضعفه في غاية الوضوح ، لمخالفته للوجدان ، بداهة صدق العقد العرفي على كل ما يصح عرفا إنشاؤه به ، وعدم تقوّم مفهوم العقد بإنشائه بالعربية ، وعدم اعتبار العربية في إنشائه عقلا أو شرعا ، فعمومات أدلّة الإمضاء تشمل المنشأ بغير العربي ، كشمولها للمنشإ بالعربي.

وبعبارة أخرى : العقد هو الالتزامان المرتبطان بلا فرق بين كون المتعاقدين عربيين أو عجميّين أو مختلفين ، ومن المعلوم أنّ الالتزام أمر نفساني لا ربط له باللسان حتى يختص بأهل لغة دون أخرى.

(٢) هذا متفرّع على بطلان الوجوه الثلاثة المستدلّ بها على اعتبار العربية ، وحاصله : صحة العقد بغير العربية ، لأنّها مقتضى إطلاقات الصحة. ونسب ذلك إلى المشهور ، لعدم تعرض الأكثر لهذا الشرط ، وإنّما تعرّض له جماعة ، وهم بين مثبت له وناف.


وهل يعتبر عدم اللحن (١) من حيث المادّة (٢) والهيئة (٣) بناء على اشتراط العربي؟ الأقوى ذلك (٤) بناء على أنّ دليل اعتبار العربية هو لزوم الاقتصار على المتيقّن من أسباب النقل.

وكذا (٥) اللّحن في الإعراب. وحكي (٦) عن فخر الدين «الفرق بين ما لو قال : بعتك بفتح الباء ، وبين ما لو قال : جوّزتك بدل زوّجتك ، فصحّح الأوّل دون الثاني ، إلّا مع العجز عن التعلم والتوكيل».

______________________________________________________

(١) هذا الفرع الأوّل من فروع اعتبار العربية ، وحاصله : أنّه بناء على اعتبار العربية هل تعتبر مطلقا ـ أي من حيث المادة والهيئة والإعراب ـ أم لا ، أم يفصّل بين ألفاظ الإيجاب والقبول بالاعتبار فيها ، وبين غيرها كالمتعلّقات بعدم الاعتبار فيها؟ فيه وجوه بل أقوال.

(٢) كإنشاء النكاح بقوله : «جوّزت» بدل «زوّجت» لاختلاف مادتي الجواز والزواج.

(٣) كالإنشاء بلفظ «أبيع وبائع» لتعدد الهيئة مع وحدة المادة.

(٤) أي : الاعتبار ، بناء على كون الدليل في اشتراط العربية هو الاقتصار على المتيقّن من أسباب النقل ، فيجري فيما عداه أصالة عدم ترتب الأثر.

(٥) هذا الفرع من فروع اعتبار العربيّة ، يعني : وكذا يعتبر عدم اللّحن في الإعراب بناء على استناد اعتبار العربية إلى المتيقن من أسباب النقل ، فإذا قال : بعت ـ بفتح التاء ليكون للخطاب ـ لم ينعقد به البيع ، وكذا إذا قال المشتري : «اشتريت أو قبلت» بفتح التاء أو كسرها.

(٦) الحاكي هو السيد العاملي قدس‌سره (١) ، وغرضه حكاية التفصيل في الصحة وعدمها بين اللحن المادّي والصّوري ، فقيل بالصحة في الثاني دون الأوّل ، إلّا مع العجز عن التعلّم والتوكيل ، فقوله : «بعتك» صحيح ، دون «جوّزتك» بدل «زوّجتك».

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٣ و١٦٤


ولعلّه (١) لعدم معنى صحيح في الأوّل إلّا البيع ، بخلاف التجويز ، فإنّ له معنى آخر ، فاستعماله في التزويج غير جائز.

ومنه (٢) يظهر أنّ اللغات المحرّفة (٣) لا بأس بها إذا لم يتغيّر بها المعنى (٤).

ثم (٥) هل المعتبر عربيّة جميع أجزاء الإيجاب والقبول كالثمن والمثمن ، أم يكفي عربيّة الصيغة الدالّة على إنشاء الإيجاب والقبول؟ حتى لو قال : «بعتك إين كتاب را به ده درهم» كفى.

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ الفرق بين اللحن المادي والصوري. لمّا كان يتوجه على فخر المحققين قدس‌سره سؤال الفرق فيما حكي عنه بين «بعتك» وبين ما لو قال : «جوّزتك» بدل «زوّجتك» حيث حكم بصحة العقد بالأوّل دون الثاني مع اشتراكهما في اللحن ، غاية الأمر أنّه في الأوّل صوري وفي الثاني مادّي ، تعرّض المصنف قدس‌سره لإبداء الفرق بينهما بما حاصله : أنّه ليس للأوّل معنى صحيح إلّا البيع ، فهو مراد من أنشأ البيع به ، بخلاف الثاني ، فإنّ له معنى آخر صحيحا مغايرا للنكاح ، فلا يجوز استعماله في التزويج ، إذ ليس مبرزا حينئذ للاعتبار النفساني من التزويج ، بعد فرض المغايرة بينهما.

(٢) أي : ومن عدم قدح اللحن الصّوري في صحة الإنشاء يظهر أنّه لا بأس بالإنشاء باللّغات المحرّفة ، ما لم تغيّر المعنى ، حيث إنّها مع هذا التحريف لا تخرج عن كونها موجده أو مبرزة للاعتبارات النفسانية. وكذا الحال في الوصل بالسكون والوقف بالحركة ونحوهما ممّا لا يوجب تغييرا في المعنى المقصود.

(٣) المراد باللغة المحرّفة هي الكلمة التي تتغيّر فيها هيئتها بتضعيف حرف مخفّف أو بالعكس ، أو ضمّ الحرف المفتوح ونحوهما.

(٤) بخلاف ما إذا تغيّر المعنى ، «كقبّلت» فإنّ معناه غير معنى : «قبلت» بالتخفيف.

(٥) هذا الفرع الثالث من فروع اعتبار العربية ، ومحصّله : أنّه هل تعتبر العربيّة


والأقوى هو الأوّل (١) ، لأنّ (٢) غير العربي كالمعدوم ، فكأنّه لم يذكر في الكلام (٣).

نعم (٤) لو لم يعتبر ذكر متعلّقات الإيجاب ـ كما لا يجب في القبول (٥) ـ واكتفى بانفهامها ولو من غير اللفظ صحّ الوجه الثاني (٦).

______________________________________________________

في كل جزء من أجزاء الإيجاب والقبول؟ فلا بد أن يقول البائع : «بعتك هذا الكتاب بدينار» مثلا ، ويقول المشتري «قبلت بيع الكتاب بدينار» أم لا يعتبر ذلك ، وإنّما المعتبر عربيّة نفس صيغتي الإيجاب والقبول ، وإن كان غيرهما فارسيّا أو غيره من اللغات ، فلو قال : «بعتك إين كتاب را به ده درهم» وقال المشتري : «قبلت بيع إين كتاب را به ده درهم» كفى.

(١) وهو اعتبار العربية في جميع أجزاء الإيجاب والقبول.

(٢) تعليل لقوله : «والأقوى هو الأوّل» وحاصله : أنّ الثمن والمثمن من أجزاء العقد ومن مقوّماته ، والإنشاء لا يحصل إلّا بالمجموع ، بحيث لا يصدق على الخالي عنهما اسم العقد حتى تشمله العمومات والإطلاقات ، ولا أقلّ من الشك.

(٣) ولعلّ وجهه كما في بعض الكلمات هو أنّه لا يلزم منه الفصل بين الإيجاب والقبول بالأجنبي ، لأن تلك المتعلقات مرتبطة معنى بالصيغة التي أنشئ بها العقد وإن لم يكن الكلام جاريا على قانون الاستعمال.

(٤) استدراك على قوله : «الأقوى هو الأوّل» وغرضه إقامة الدليل على قوله : «أم يكفي عربية الصيغة» وحاصله : أنّ في مسألة اشتراط صحة العقد بذكر متعلقاته وجهين ، فبناء على الاشتراط لا بدّ من ذكر المتعلّقات بالعربيّة كنفس الصيغة. وبناء على عدم الاشتراط يجوز ذكرها بالفارسية ، فالمسألة مبنائيّة.

(٥) لظهوره في كونه قبولا لما أنشأه الموجب ، فلا موجب لإعادتها في القبول لأنّ المتعلقات من أجزاء الصيغة.

(٦) وهو كفاية عربيّة نفس الصيغة الدالّة على إنشاء الإيجاب والقبول ، ومن


لكنّ (١) الشهيد رحمه‌الله في غاية المراد (١) في مسألة تقديم القبول نصّ على وجوب ذكر العوضين في الإيجاب (*).

______________________________________________________

المعلوم أنّه بناء على عدم اعتبار ذكر متعلّقات الإيجاب ـ كعدم اعتباره في القبول ـ لا ينبغي الإشكال في كفاية العربية في الإيجاب والقبول ، وعدم الحاجة إلى ذكر المتعلقات بالعربية.

(١) فعلى هذا يجب ذكر العوضين في الإيجاب باللغة العربية. ولعلّ وجهه ما عرفت آنفا عند شرح قوله : «لأن غير العربي كالمعدوم» فيجب ذكر العوضين ، لأنّهما ركنان في المعاوضات ، كركنيّة الزوجين في النكاح. ومقتضى الاقتصار على المتيقن هو ذكرهما بالعربية.

__________________

(*) ينبغي تفصيل البحث في اعتبار العربية في صيغ العقود في مقامين :

الأوّل : فيما عدا النكاح من العقود اللازمة ، سواء أكانت بيعا أم غيره.

والثاني : في عقد النكاح.

أمّا المقام الأوّل فمحصّله : أن المنسوب إلى المشهور عدم اعتبار العربية في صيغ العقود اللازمة ، خلافا لجماعة ، حيث إنّهم ذهبوا إلى اعتبار العربية فيها ، لوجوه :

الأوّل : الأصل.

الثاني : التأسّي.

الثالث : أنّ عدم صحة العقد بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحّته بغير العربي بالأولويّة ، لكون غير العربي فاقدا لقيدي العربية والماضوية معا.

الرابع : أنّ غير العربي غير صريح ، فهو من قبيل الكنايات التي وقع المنع عن استعمالها في العقود في كلمات الفقهاء. وهذا الوجه يظهر من كلام العلّامة في التذكرة لأنّه بعد الحكم فيها بعدم الانعقاد بغير العربية عند علمائنا قال : «وهو قولا الشافعي وأحمد ، لأنّه عدل عن النكاح والتزويج مع القدرة ، فصار كما لو عدل إلى البيع والتمليك

__________________

(١) : غاية المراد ، ص ٨١


.................................................................................................

__________________

وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي أيضا : إنّه ينعقد اعتبارا بالمعنى» (١).

الخامس : أنّ العقد بغير العربيّة لا يصدق عليه أنّه عقد.

وزاد بعضهم أنّ غير العربية من اللغات ليست لغة ، لأنّ غير العرب أعجم ، والأعجم هو من لا لسان له ، هذا.

وأنت خبير بما في الكل.

إذ في الأوّل ـ وهو الأصل ـ أنّه لا أصل له مع الدليل ، وهو عموم ما دلّ على نفوذ العقود والبيع والتجارة ، فإنّ صدق هذه العناوين عرفا على ما ينشأ بغير الألفاظ العربية ممّا لا يمكن إنكاره ، ومع هذا الصدق كيف يصح التمسك بأصالة الفساد؟

وفي الثاني : أنّ التأسّي إنّما يصح في الأفعال الواردة في مقام التشريع كأفعال الصلاة والحج ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» و «خذوا عنّي مناسككم». وأمّا إذا ورد فعل بعد ورود دليل عام على صحة شي‌ء ، ثم صدر عمل يكون مصداقا لموضوع ذلك الدليل ، فلا وجه للزوم التأسّي حينئذ حتّى يقال بانحصار المصداق فيما صدر عن التشريع كما في المقام ، فإنّ عموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ونحوه يشمل العقد المنشإ بالعربي والفارسي ، فصدور العقود العربيّة منهم عليهم‌السلام لا يدلّ على انحصار العقود النافذة بما أنشئ باللفظ العربي حتى يجب التأسّي.

وفي الثالث : أنّ الماضي لا يختص باللغة العربية حتى يكون غير العربي فاقدا لقيدين ، فلا أولوية في البين ، بل هما سيّان ، لكون كل واحد منهما فاقدا لقيد وواجدا له.

وفي الرابع : أن كون غير العربي من الكنايات ممنوع أشدّ المنع ، بداهة أنّ ترجمة لفظ «بعت» مثلا وهي بالفارسية «فروختم» كنفس «بعت» تدلّ بالوضع على معنى البيع في الزمان.

ولعل المستدل زعم أنّ الماضي مختص باللغة العربية ، وهو معلوم الفساد ، هذا.

وفي الخامس : أنّ تقوّم العقد بالعربية مما يعلم بالضرورة خلافه ، لصدق العقد العرفي على ما ينشأ بغير العربية من اللغات ، فإنّ التشكيك في صدقه عليه خلاف

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٢


.................................................................................................

__________________

الضرورة وما عليه العقلاء.

بل دعوى انصراف العقود إلى المعهودة توجب القطع بعدم اعتبار العربية فيها ، لكون العقود المتعارفة عند كلّ ملّة منشأة بلغاتهم المختلفة.

ويظهر مما تقدّم ضعف احتمال عدم كون غير العربية لغة.

فتلخص مما ذكرناه : عدم دليل على اعتبار العربية فيما عدا النكاح من العقود اللازمة حتى تخصّص به عمومات أدلة النفوذ ، فلو شكّ في اعتباره فمقتضى العمومات عدمه ، فيصحّ إنشاء العقود اللازمة غير النكاح بكلّ لغة ، لصدق العقد عرفا عليها ، وعدم اعتبار العربية فيها شرعا كما لا يخفى.

وأمّا المقام الثاني : وهو عقد النكاح ففي اعتبار العربية فيه خلاف. قال في المبسوط : «فإن عقدا بالفارسية ، فإن كان مع القدرة على العربية فلا ينعقد بلا خلاف ، وإن كان مع العجز فعلى وجهين : أحدهما ، يصحّ ، وهو الأقوى ، والثاني : لا يصح. فمن قال : لا يصحّ قال : يوكّل من يقبلها عنه ، أو يتعلّمها. ومن قال : يصحّ ، لم يلزمه التعلم. وإذا أجيز بالفارسية احتاج إلى لفظ يفيد مفاد العربية على وجه لا يخلّ بشي‌ء منه فيقول الولي : اين زن را به تو دادم به زني ، ومعناه هذه المرأة زوّجتكها ، ويقول الزوج : پذيرفتم به زني ، يعني : قبلت هذا النكاح» (١).

وقال العلّامة قدس‌سره في نكاح التذكرة : «لا ينعقد إلّا بلفظ العربية مع القدرة ، فلو تلفّظ بأحد اللفظين ـ يعني : أنكحت وزوّجت ـ بالفارسية أو غيرها من اللغات غير العربية مع تمكّنه ومعرفته بالعربية لم ينعقد عند علمائنا .. إلى أن قال : وأمّا إذا لم يحسن العربية ، فإن أمكنه التعلم وجب ، وإلّا عقد بغير العربي للضرورة» (٢).

وقال المحقّق قدس‌سره : «ولا يجوز العدول عن هذين اللفظين إلى ترجمتهما بغير

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ١٩٤

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٢


.................................................................................................

__________________

العربية إلّا مع العجز عن العربية» (١).

وعن حاشية المحقق الثاني عليها : «لا ريب في وقوع عقد النكاح بالعربية ، فيبطل لو وقع بغيرها. والمراد بالعربي ما يكون لفظه باعتبار مادّته وصورته. ولو غيّر بنية الكلمة أو لحن في إعرابها لم ينعقد مع القدرة على العربي ، كما لو أتى بالترجمة مع العلم بلسان العرب. أمّا لو لم يكن عالما بذلك ولم يمكنه التعلم أو أمكنه بمشقّة العادة فإنّه يكفيه الإيقاع بمقدوره وإن تمكّن من التوكيل. وكذا كلّ موضع يعتبر فيه اللفظ العربي».

وفي القواعد : «ولا يصحّ بغير العربية مع القدرة ، ويجوز مع العجز» (٢).

وقال المحقق الثاني في شرحه : «فلا ينعقد النكاح وغيره من العقود اللازمة بغيره من اللغات كالفارسية ، مع معرفة العاقد ، وتمكّنه من النطق ، ذهب إلى ذلك أكثر الأصحاب. وقال ابن حمزة : إن قدر المتعاقدان على القبول والإيجاب بالعربية عقدا بها استحبابا. والأصحّ الأوّل ، لما قلناه» (٣).

أقول : الذي يتحصل من الكلمات : أن في المسألة صورا :

الأولى : التمكن فعلا من إنشاء النكاح بالعربي كالعالم باللغة العربية.

الثانية : العجز عن ذلك فعلا مع التمكن من التعلم أو التوكيل.

الثالثة : العجز منهما معا.

أمّا هذه الصورة الأخيرة فقد ذكروا فيها عدم الخلاف والإشكال في صحة العقد فيها بغير العربية ، وقالوا : إن مثلها ما لو عجز عن التعلّم وحده مع التمكّن من التوكيل ، لأصالة عدم وجوب التوكيل. وإليه يشير إطلاق كلام العلامة : «وأمّا إذا لم يحسن العربية فإن أمكنه التعلم وجب وإلّا عقد بغير العربي للضرورة»

وأمّا الصورة الثانية فمقتضى الكلام المتقدم عن الشيخ في المبسوط : أنّ فيها قولين :

__________________

(١) : شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢٧٣

(٢) قواعد الأحكام ، ص ١٤٧ (الطبعة الحجرية).

(٣) جامع المقاصد ، ج ١٢ ، ص ٧٤


.................................................................................................

__________________

أحدهما : أنه يصح بغير العربي ، ولا يجب التعلم ولا التوكيل.

والآخر : أنّه لا يصح بغير العربي ، فيجب التعلم أو التوكيل.

ويستدلّ للأوّل ـ بعد البناء على اعتبار العربية في العقد ـ بأصالة البراءة عن وجوب التعلم والتوكيل ، فيأتي بمقدوره الذي يصدق عليه العقد قطعا ، فيجب الوفاء به ، لقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وبرفع الحرج كما في كشف اللثام (١). وبفحوى الاجتزاء بإشارة الأخرس كما في كشف اللثام أيضا ، حيث إنّ اللفظ غير العربي أولى من الإشارة. ولعدم نصّ يدلّ على الأمر بالعربية ، كما فيه أيضا.

والظاهر أنّ مراده قدس‌سره وجود أمارة على عدم اعتبار العربية ، لأنّ عموم الابتلاء به يقتضي بيان المعصومين عليهم‌السلام له ، فعدم بيانهم عليهم‌السلام ـ مع شدة الحاجة إليه ـ دليل على عدم اعتبار العربية كما هو الشأن في كلّ ما يعمّ به البلوى ، هذا.

وأيّده الجواهر «بعدم عثوره على الخلاف في جواز العقد بغير العربي للعاجز عنه ولو مع التمكن من التوكيل. فما عن بعضهم من الإكتفاء بذلك مع العجز عن التوكيل لا يخلو من نظر» (٢). انتهى ملخّصا.

وفي الكلّ ما لا يخفى.

إذ في الأوّل : أنّه بناء على اعتبار العربية فإن كان له إطلاق بحيث يكون ظاهرا في الشرطية المطلقة فيجب التعلم ، ولا مجال للبراءة. وإن لم يكن له إطلاق فيتشبّث في ذلك بإطلاق أدلة نفوذ العقود الذي هو دليل اجتهادي. ومعه لا تصل النوبة إلى أصل البراءة كما لا يخفى.

وفي الثاني ـ بعد فرض جريانه في الأحكام الوضعية كما هو الأصحّ ـ أنّه أخص من المدّعى.

وفي الثالث : أنّه لا مجال للأولوية في الأحكام التعبديّة ، لعدم خروجها عن

__________________

(١) : كشف اللثام ، ج ١ ، كتاب النكاح ، ص ٧

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٠ و٢٥١


.................................................................................................

__________________

القياس الممنوع إعماله في الأحكام الشرعية.

وفي الرابع : أنّه وإن كان متينا في نفسه ، لكنه ينافي ما بنى عليه من اعتبار العربية في العقد.

وأمّا الصورة الأولى ـ وهي التمكن الفعلي من إنشاء النكاح بالعربي كالعالم باللغة العربية ـ فقيل : إنّه لا ريب في مصير الأكثر والمعظم إلى اعتبار العربية فيها ، بل لم يحصل لنا دراية ولا رواية عثور على مخالف في المسألة عدا أبي جعفر محمد بن علي بن حمزة ، فإنه قال في كتاب النكاح من الوسيلة : «وإن قدر المتعاقدان على القبول والإيجاب بالعربية عقدا بها استحبابا. وإن عجزا جاز بما يفيدها من اللغات» (١) ومراده بالاستحباب إمّا الاحتياط الاستحبابي وإن كان خلاف الظاهر ، وإمّا استحباب التبرّك بألفاظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ استدلّوا على اعتبار العربية مع التمكن فعلا منها بوجوه خمسة تقدمت في المقام الأوّل.

وزادوا عليها وجها سادسا ، وهو : أنّ الاحتياط في الفروج يقتضي اعتبار العربية ، ذكره في كشف اللثام (٢).

وجوابه : أنّ الاحتياط أصل عملي ، وإطلاق الأدلة النافي لاعتبار العربية دليل اجتهادي ، ومعه لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

التحقيق أن يقال : إنّ النكاح من الأمور العقلائية المتداولة بين الناس ، كما يرشد إليه قولهم عليهم‌السلام : «لكل قوم نكاح» وعدم كونه من الماهيات المخترعة ، فكل ما يصدق عليه عنوان النكاح يندرج في إطلاق أدلة نفوذ النكاح ، وتقييده بالعربية منوط بدليل مفقود. ولو سلّم فإنّما هو بالنسبة إلى القادر فعلا على العربية ، وإن كان ذلك مخدوشا أيضا ، لأنّه ليس إلّا الإجماع المدّعى ، مع مخالفة ابن حمزة في الوسيلة. ومع احتمال

__________________

(١) : الوسيلة ضمن الجوامع الفقهية ، ص ٧٥٢

(٢) كشف اللثام ، ج ١ ، كتاب النكاح ، ص ٧


.................................................................................................

__________________

استنادهم إلى الوجوه المذكورة التي قد عرفت حالها.

ومخالفة كلام المحقق الثاني ، حيث قال : «ذهب إلى ذلك أكثر الأصحاب» لقول العلّامة : «لم ينعقد عند علمائنا» فإن الظاهر من الأوّل عدم الاتفاق ، وظاهر الثاني الاتّفاق ، لظهور «عند علمائنا» في الإجماع كما قرر في محلّه.

ومع الغض عن ذلك فالمتيقن منه هو صورة القدرة فعلا على الإنشاء العربي ، فيقيّد الإطلاق بهذه الصورة فقط.

وبالجملة : فكل لفظ يكون مبرزا للاعتبار النفساني ـ المعبّر عنه بالزواج والنكاح ونظائرهما ـ يشمله إطلاق أدلة صحة النكاح ، لكونه عقدا عرفيا. فالقول بعدم اعتبار العربية مطلقا حتى بالنسبة إلى القادر عليها فعلا ـ لعدم دليل معتدّ به على تخصيص عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود ـ هو الأقوى ، وإن كان الأحوط شديدا مراعاتها للقادر عليها ، والله العالم.

ثم إنّه على تقدير اعتبار العربية هل يعتبر فيها عدم اللّحن مطلقا ، أي مادّة وهيئة وإعرابا أم لا؟ الحق هو الأوّل بناء على كون الدليل الاقتصار على المتيقن.

وأمّا بناء على كونه غيره فالمتجه هو العربية المتداولة بين الناس بحيث تكون عندهم مبرزة للاعتبار النفساني ، وإن كانت مخالفة للقواعد العربية وغلطا بالنظر إليها ، فالعربيّة الدارجة ممّا يصح الإنشاء بها كما لا يخفى.

فعلى هذا لا فرق في اللّحن بين أن يكون في المادّة ك «جوّزت» بدل «زوّجت» وبين أن يكون في الصورة ك «أبيع وبائع» مثلا بدل «بعت» وبين أن يكون في الإعراب ك «بعت» بعد فرض كون الكل مفهما للمعنى المقصود في اللغة العربية الدارجة.

وأمّا اللغات المحرفة فإن كانت مفهمة للمعنى المقصود عند العرف الحاضر فلا بأس بها ، وإلّا فلا ، إذ لا بدّ من الإنشاء بما يكون مبرزا عند العرف. فالضابط في صحة الإنشاء بالألفاظ العربية ـ بناء على اعتبار العربية ـ هو أن تكون مبرزة عرفا للمعنى المقصود ، من غير فرق بين أنحاء اللّحن واللّغات المحرّفة.


ثم إنّه (١) هل يعتبر (*) كون المتكلم عالما تفصيلا بمعنى اللّفظ بأن يكون فارقا بين معنى «بعت وأبيع وأنا بائع» أو يكفي مجرّد علمه بأنّ هذا اللّفظ يستعمل في لغة العرب لإنشاء البيع؟ الظاهر هو الأوّل (٢) ، لأنّ عربيّة الكلام

______________________________________________________

(١) هذا الفرع الثالث من فروع اعتبار العربية ، ومحصّله : أنّه هل يعتبر أن يكون المتكلم بالألفاظ العربية عالما بمعانيها تفصيلا ، بأن يميّز بين معنى «بعت» و «أبيع» مثلا ، أم يكفي مجرّد علمه بأنّ هذا اللفظ يستعمل في لغة العرب لإنشاء البيع؟ وجهان ، رجّح المصنف قدس‌سره الأوّل ، وسيأتي.

(٢) وهو اعتبار العلم تفصيلا بمعاني الألفاظ العربية ، لما أفاده المصنف قدس‌سره بقوله : «لأنّ عربية الكلام ليست باقتضاء نفس الكلام .. إلخ».

وحاصله : أنّ الإنشاء والإخبار لمّا كانا من وجوه الاستعمال الذي هو متقوّم بلحاظ اللفظ والمعنى ، وإيجاد المعنى باللفظ بالإرادة ، فلا محيص عن تصوّر المعنى بالمقدار الذي يريد إيجاده باللّفظ حتّى يعقل توجه القصد إليه ، فإنشاء ما لا معرفة له به تفصيلا غير معقول. فهذا الوجه يقتضي معرفة معنى الكلام تفصيلا حتى يقصده المتكلّم ، ويستعمل الكلام فيه ، فبدون المعرفة التفصيلية بالمعنى لا يصح استعمال اللفظ فيه (**).

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا الكلام لا يترتب على اعتبار العربية.

(**) إلّا أن يقال : إنّ المقصود ليس وجود المعنى بالذات باللفظ ، لاستحالة وجوده كذلك حتى يحتاج إلى لحاظه تفصيلا ، بل الغرض وجود المعنى بالعرض ، فيكفي في وجوده بالعرض قصد المعنى بالعرض ، بأن يقصد العنوان المنطبق عليه قهرا ، فيستعمل اللّفظ في معنون هذا العنوان المقصود ، وليس استعماله إلّا أن يكون وجود اللفظ بالذات وجودا بالعرض لذلك المعنى المقصود بالعرض. وعليه فيقصد العنوان المقصود كالبيع ، ويستعمل اللفظ في معنون هذا العنوان المقصود ، فيكون المعنون


ليست باقتضاء نفس الكلام ، بل بقصد المتكلم منه المعنى الذي وضع له عند العرب ، فلا يقال : إنّه تكلّم وأدّى المطلب على طبق لسان العرب إلّا إذا ميّز (١) بين معنى بعت وأبيع وأوجدت البيع وغيرها.

بل على هذا (٢) لا يكفي معرفة أنّ «بعت» مرادف لقوله : «فروختم» حتى يعرف أنّ الميم في الفارسي عوض تاء المتكلم ، فيميّز بين «بعتك وبعت» بالضمّ و «بعت» بفتح التاء ، فلا ينبغي ترك الاحتياط ، وإن كان في تعيّنه (٣) نظر ، ولذا نصّ بعض على عدمه.

______________________________________________________

(١) ليقصد من كل جزء من أجزاء الكلام ـ مادّة وهيئة ـ معناه الموضوع له في لغة العرب ، ويستعمله فيه ، هذا.

لكن توقف صدق العربية على التمييز بهذا النحو مشكل جدّا ، لإناطته بكمال معرفة وخبرة ، مع اختلاف بين أهل العربية في بعض الخصوصيات.

(٢) أي : على هذا الوجه المقتضي لمعرفة المعنى تفصيلا ـ حتّى يصحّ استعمال اللفظ فيه ـ لا يكفي معرفة أنّ «بعت» مرادف .. إلى آخر ما أفاده المصنف قدس‌سره.

(٣) أي : في تعيّن الاحتياط ومعرفته بهذا الوجه. وجه النظر عدم الدليل على الاعتبار ، بعد كون المجموع في نظر العرف مبرزا للاعتبار النفساني.

__________________

مقصودا بالعرض ، وهو كاف في الاستعمال.

نعم لو كان جاهلا بمضمون الصيغة رأسا فلا يصح الإنشاء بها قطعا ، لأنّه حينئذ بمنزلة استعمال كلمة «ضربت وأكلت وشربت» مثلا مكان «بعت».

فالمتحصل : أنه لا دليل على اعتبار معرفة خصوصيات معاني الصيغ ، وكون كل خصوصية مدلولا عليها بكلمة خاصة ، بل معرفته إجمالا بأنّ مجموع الكلام يدلّ على المعنى المقصود كافية.


مسألة (١) : المشهور (٢) (*) كما عن غير واحد : اشتراط الماضويّة ، بل في التذكرة (٣):

______________________________________________________

الجهة الثانية : اعتبار الماضويّة

(١) هذه المسألة متكفلة لشرط الهيئة الإفرادية للصيغة ، وهي اعتبار الماضوية ، وعدمه.

(٢) كما في كلام المحقق الأردبيلي قدس‌سره حيث قال : «لا دليل عليه ـ أي على عدم انعقاد البيع بغير الماضي ـ واضحا ، إلّا أنّه مشهور» (١). ونحوه المحكي عن مفاتيح الشرائع (٢).

(٣) لمّا كانت الشهرة تؤذن بوجود المخالف في المسألة تصدّى المصنف قدس‌سره لنقل

__________________

(*) الظاهر من الكلمات أنّ في اعتبار الماضويّة قولين :

أحدهما : وهو المنسوب إلى المشهور اعتبارها ، استنادا الى وجوه ثلاثة :

أحدها : الإجماع.

ثانيها : صراحة الماضي في الإنشاء ، دون غيره من الأمر والمستقبل ، لكون الثاني ، أشبه بالوعد ، والأوّل استدعاء لا إيجابا. قال المحقق قدس‌سره : «لأن ذلك أشبه بالاستدعاء والاستعلام».

ثالثها : أنّ قصد الإنشاء في المستقبل خلاف المتعارف.

ولكن الكلّ كما ترى ، لعدم إحراز كون الإجماع تعبّديّا ، مع احتمال استناد المجمعين إلى الوجوه الاعتبارية.

وعدم صراحة الماضي في الإنشاء إن أريد بها الوضع له ، بداهة عدم الوضع له ، إن لم نقل بوضعه للإخبار. وإن أريد بها الصراحة من ناحية القرينة ، فالصراحة حينئذ ثابتة لغير الماضي أيضا.

__________________

(١) : مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٥

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٢


الإجماع على عدم وقوعه بلفظ أبيعك أو اشتر منّي.

______________________________________________________

الإجماع على اعتبار الماضوية حتى لا يتوهم مخالفة أحد فيه. قال العلّامة في عداد شرائط الصيغة ـ ما لفظه : «الثاني : الإتيان بهما بلفظ الماضي ، فلو قال : أبيعك ، أو قال : أشتري ، لم يقع إجماعا ، لانصرافه الى الوعد» (١).

وفي القواعد : «ولا بدّ من صيغة الماضي» (٢) وقريب منه عبارة التحرير (٣).

وفي الدروس : «فلا يقع بالأمر والمستقبل» (٤) وربما يستفاد منه كونه من المسلّمات.

ولكن الأولى الإكتفاء بالشهرة الفتوائية بعد وجود المخالف ، وهو القاضي ابن البرّاج كما سيأتي في المتن.

وكيف كان فالمستفاد من المتن وجوه ثلاثة على اعتبار الماضوية في صيغ العقود.

الأوّل : الإجماع المنقول.

الثاني : صراحة الماضي في الإنشاء.

الثالث : انصراف إطلاق أدلة الإمضاء إلى العقود المتعارفة خارجا.

__________________

وعدم كون التعارف مقيّدا للإطلاقات.

وثانيهما : عدم اعتبار الماضوية ، وجواز الإنشاء بالمضارع والأمر ، لصدق العقد على المنشأ بهما ، فتشمله العمومات. وهذا القول منسوب إلى القاضي قدس‌سره استنادا إلى ما ذكره المصنف قدس‌سره في المتن.

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٤٧

(٣) تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ١٦٤

(٤) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١


ولعلّه (١) لصراحته (٢) في الإنشاء ، إذ المستقبل أشبه (٣) بالوعد ، والأمر استدعاء (٤) لا إيجاب. مع (٥) أنّ قصد الإنشاء في المستقبل خلاف المتعارف.

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ اشتراط الماضوية لأجل صراحة الماضي في الإنشاء ، كما ورد في كلام جمع منهم المحقق والشهيد الثانيان ، وأوضحه في المسالك بقوله : «إنّما اعتبر في العقد لفظ الماضي ، لأنّ الغرض منه الإنشاء ، وهو صريح فيه ، لاحتمال الوعد بالمستقبل ، وعدم اقتضاء الأمر إنشاء البيع من جانب الآمر ، وإنّما أنشأ طلبه. وأمّا الماضي فإنّه وإن احتمل الإخبار ، إلّا أنّه أقرب إلى الإنشاء ، حيث دلّ على وقوع مدلوله في الماضي ، فإذا لم يكن ذلك هو المقصود كان وقوعه الآن حاصلا في ضمن ذلك الخبر. والغرض من العقود ليس هو الإخبار. وإنّما هذه الصيغة منقولة شرعا من الإخبار إلى الإنشاء ، والماضي ألصق بمعناه» (١).

(٢) ليس المراد بالصراحة الوضع اللغوي ، ضرورة عدم وضع صيغة الماضي لذلك ، بل المراد بها الصراحة في الإنشاء ، ومنشؤها النقل الشرعي من الحكاية إلى الإيجاد ، كما تقدم في عبارة المسالك.

وقال الشهيد قدس‌سره : «والمأخذ في صراحة هذه ـ أي صيغ العقود والإيقاعات ـ مجيئها في خطاب الشارع لذلك ، وشيوعها بين حملة الفقه» (٢).

(٣) فلا يكون ظاهرا في الإنشاء حتّى يقع به.

(٤) يعني : أنّ الأمر استدعاء وطلب لإيجاب البيع ، لا إيجاب له.

(٥) هذا هو الدليل الثالث على اعتبار الماضوية ، وهو مؤلف من مقدمتين :

الأولى : أنّ المتعارف من العقود ـ بحسب الوجود الخارجي ـ هو ما ينشأ بلفظ الماضي ، لا المضارع ولا الأمر ، ولا الجملة الاسمية.

الثانية : أنّ دليل الإمضاء ـ كوجوب الوفاء بالعقود ـ منزّل على العقود

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٣

(٢) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ١٥٣ ، رقم القاعدة : ٤٠ ، ولاحظ أيضا ص ٢٥٣


وعن (١) القاضي في الكامل والمهذّب عدم اعتبارها. ولعلّه (٢) لإطلاق البيع والتجارة ، وعموم العقود (٣) ،

______________________________________________________

المتعارفة في عصر التشريع ، ولا يشمل إنشاءها بغير المتعارف.

ونتيجة المقدمتين : عدم ترتب الأثر على العقود المنشئة بما عدا الماضي.

(١) هذا إشارة إلى القول الآخر في المسألة ، وهو عدم إناطة الصحة بالإنشاء بالماضي ، فيجوز بالمضارع ، كما ذهب إليه القاضي ابن البرّاج ، على ما حكي عنه.

قال العلّامة في المختلف : «وقال ابن البرّاج في الكامل : لو قال المشتري : بعني هذا ، فقال البائع : بعتك ، انعقد» (١) ونحوه كلامه في المهذّب (٢).

واستدلّ له المصنف قدس‌سره بأدلة ثلاثة :

الأول : إطلاق الآيات المباركة.

الثاني : خصوص النصوص الواردة في البيع ، المتضمّنة للإنشاء بالمضارع ، فإنّها صريحة في المدّعى.

الثالث : فحوى النصوص المجوّزة لإنشاء عقد النكاح بالمضارع ، وسيأتي بيانها.

(٢) أي : ولعلّ عدم اعتبار الماضوية.

(٣) هذا إشارة إلى الدليل الأوّل على صحة الإنشاء بالمضارع ، وحاصله : أنّ مقتضى إطلاق آيتي حلّ البيع والتجارة عن تراض ، وعموم وجوب الوفاء بالعقود ـ الشاملين للعقود المنشئة بغير لفظ الماضي ـ هو نفي اعتبار الماضوية. والتعارف بحسب غلبة أفراد الإنشاء بالماضي غير صالح لتقييد شمول الآيات المباركة.

ودعوى الصراحة في الماضي مجازفة بعد كون إرادة الإنشاء منه خلاف وضعه اللغوي. وإرادة الإنشاء من المضارع على طبق وضعه ، لاشتراكه بين الحال والاستقبال.

__________________

(١) : مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥٣

(٢) المهذّب ، ج ١ ، ص ٣٥٠


وما دلّ (١) في بيع الآبق واللبن

______________________________________________________

(١) معطوف على «إطلاق البيع» وهذا إشارة إلى الدليل الثاني ، وهو الأخبار المتضمّنة لإنشاء البيع بالمستقبل مع تقديم القبول على الإيجاب في بعضها.

فمنها : ما ورد في بيع العبد الآبق مع الضميمة ، كصحيحة رفاعة النخّاس ، قال : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام قلت له : أيصلح لي أن أشتري من القوم الجارية الآبقة وأعطيهم الثمن وأطلبها أنا؟ قال : لا يصلح شراؤها إلّا أن تشتري منهم معها ثوبا أو متاعا ، فتقول لهم : أشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهما ، فإنّ ذلك جائز» (١).

وتقريب الدلالة : أنه عليه‌السلام علّم رفاعة إنشاء شراء الجارية الآبقة مع ضميمتها ، بأن يقول للقوم : «اشتري منكم ..» وظهور الصحيحة في انعقاد المعاملة بصيغة المضارع ممّا لا ينكر.

وقريب منها معتبرة سماعة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في شراء العبد الآبق.

إلّا أن يخدش في دلالتهما على المدّعى بأنّهما في مقام بيان تجويز بيع الآبق مع الضميمة ، لا في مقام بيان ما يتحقق به البيع والشراء ، فتأمّل.

ومنها : ما ورد في بيع اللبن في الضّرع من صحّته بصيغة الأمر ، كما في موثقة سماعة ، قال : «سألته عن اللبن يشترى وهو في الضّرع؟ فقال : لا ، إلّا أن يحلب لك منه أسكرّجة ، فيقول : اشتر منّي هذا اللبن الذي في الأسكرجة وما في ضروعها بثمن مسمّى ، فان لم يكن في الضّرع شي‌ء كان ما في الاسكرجة» (٣).

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢٦٢ ، الباب ١١ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث : ١

(٢) المصدر ، ص ٢٦٣ ، الحديث : ٢

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢٥٩ ، الباب ٨ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث : ٢ والأسكرّجة «بضمّ السّين والكاف والرّاء والتشديد : إناء صغير يؤكل فيه الشي‌ء القليل من الأدم. وهي فارسية .. وقيل : والصواب فتح الراء ، لأنّه فارسي معرّب» راجع المجمع البحرين ، ج ٢ ، ص ٣١٠.


في الضّرع (١) من الإيجاب بلفظ المضارع. وفحوى ما دلّ عليه في النكاح (٢).

______________________________________________________

ولا يقدح إضمارها ، للتصريح بأنّ المسؤول هو الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، كما في الفقيه بنقل الوسائل. مضافا إلى عدم قدح الإضمار من مثل زرارة وسماعة كما قرّر في محلّه.

ولا يخفى أنه قد تقدم في (ص ٣٤١ ـ ٣٤٣) نقل جملة من الأخبار التي ورد فيها الإنشاء بصيغة المستقبل إمّا من البائع أو المشتري ، فراجع.

(١) قد عرفت أنّ رواية بيع اللبن متضمنة لإيجاب البيع بصيغة الأمر ، لا المضارع. ولعلّ المراد عدم خصوصية في صيغة الماضي ، سواء أكانت بلفظ المضارع أم الأمر ، والأمر سهل.

(٢) هذا إشارة إلى الدليل الثالث على عدم توقف صحة عقد البيع على الإنشاء بصيغة الماضي ، وهو الاستدلال بأولوية جواز إنشاء البيع بالمضارع من جواز إنشاء النكاح به ، وقد دلّت أخبار عديدة على صحة انعقاد الزواج المنقطع بالمضارع مع ابتداء الزوج به ، كرواية أبان بن تغلب ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال : تقول : أتزوّجك متعة على كتاب الله وسنّة نبيّه لا وارثة ولا موروثة ، كذا وكذا يوما ـ وإن شئت كذا وكذا سنة ـ بكذا وكذا درهما ، وتسمّي من الأجر (*) ما تراضيتما عليه قليلا كان أو كثيرا ، فإذا قالت : نعم ، فقد رضيت ، وهي امرأتك وأنت أولى الناس بها» (١).

ولا ريب في ظهور تعليمه عليه‌السلام لصيغة النكاح المنقطع في انعقاده بلفظ المضارع.

وقريب منه روايات أخرى من نفس الباب ، فراجع.

وتقريب الفحوى : أنّ الشارع الأقدس قد اهتمّ بالنكاح وأمر بالاحتياط فيه.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٤٦٦ ، الباب ١٨ من أبواب المتعة ، الحديث : ١


ولا يخلو هذا من قوة (*)

______________________________________________________

فإذا جوّز إنشاءه بصيغة المضارع لزم تجويزه في البيع بطريق أولى ، لأن أمر الأعراض أشدّ من الأموال.

__________________

(*) بل ينبغي الجزم بصحّته بعد وضوح عدم توقف إنشاء مفاهيم العقود والإيقاعات عرفا على اللفظ ، فعموم أدلة العقود يشمل ما ينشأ منها بغير اللفظ مثل ما ينشأ منها باللفظ. وتخصيصه باللفظ ـ فضلا عن الماضوية ـ منوط بالدليل ، وهو مفقود. ومع الشك فيه يرجع إلى أصالة العموم ، إذ هو المرجع في المخصص المجمل المردّد بين الأقل والأكثر ، فإنّه بعد فرض تخصيص عموم وجوب الوفاء بالعقود باللفظ ـ وأنّ وجوب الوفاء مختص باللفظ ـ إذا شكّ في اعتبار هيئة خاصة كالماضوية في اللفظ يتمسك في نفي اعتبارها بعموم دليل وجوب الوفاء.

إلّا أن يستشكل في ذلك بعدم صدق مفهوم العقد على ما ينشأ بغير الماضي.

لكنه مندفع بما مرّ من وضوح صدقه عليه ، هذا.

فقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ قول القاضي بعدم اعتبار الماضوية هو الأقوى ، للعمومات ، ومعها لا حاجة إلى النصوص المشار إليها ، لإمكان المناقشة في بعضها سندا ودلالة ، وفي الآخر دلالة ، لاحتمال ورودها في المقاولة ، لا إنشاء المبايعة ، أو اختصاصها بموردها كبيع الآبق واللبن في الضرع ، وعدم التعدّي إلى غيره ، فيكون الدليل أخص من المدّعى.

نعم روايات النكاح ظاهرة في كون الإنشاء بالمستقبل ، إلّا أن الفحوى ممنوعة ، لأنّ عظم المفسدة في السّفاح يقتضي التوسعة والتسهيل في النكاح حفظا للأنساب ، وصونا لهم عن الوقوع في المفاسد. بخلاف الأموال ، فإنّ من الممكن اعتبار بعض الأمور في إنشاء تبديلها.

فالأولى الاستدلال على عدم اشتراط الماضوية في ألفاظ الإيجاب والقبول بالعمومات.


لو فرض (١) صراحة المضارع في الإنشاء على وجه لا يحتاج إلى قرينة المقام ، فتأمّل (٢).

______________________________________________________

(١) اختار المصنف قول القاضي في جواز الإنشاء بالمضارع ، لكن لا مطلقا بل قيّده بما إذا كانت دلالة المستقبل على الإنشاء بنفسه ، لا بمعونة قرينة مقامية ، وهي كون المتكلم في مقام إيقاع المعاملة ، فلو كانت دلالته على الإنشاء بمعونة قرينة مقامية لم يصح ، ولا بدّ من الاقتصار على الفعل الماضي.

والوجه في هذا التقييد هو ما أفاده ـ في المبحث الأول مما يتعلق بمادة الصيغة ـ في توجيه كلمات القوم من : أنّ الصيغة إن دلّت بحسب الوضع أو بمعونة قرينة لفظية منضمّة إليها جاز الإنشاء بها. وإن دلت بقرينة مقامية مقارنة لها أو بقرينة لفظية سابقه على الإنشاء بالصيغة غير الصريحة لم يصح.

فعلى هذا لا بد من تقييد جواز الإنشاء بالمضارع بما إذا كانت الدلالة مستندة الى الوضع ولو بضميمة قرينة لفظية ، كقرينية التأبيد وعدم البيع والهبة والإرث على إرادة الوقف من صيغة «حرّمت».

(٢) إشارة إلى : أنّ الصراحة الناشئة عن الوضع ـ بحيث لا تحتاج إلى قرينة لفظية أو مقامية ـ مفقودة في الماضي أيضا ، ضرورة أنّ فعل الماضي وضع للإخبار لا الإنشاء ، فهو صريح في الإخبار ، ولا يكون ظاهرا في الإنشاء إلّا بالقرينة. فدعوى : صراحة الماضي في الإنشاء بدون قرينة المقام في غاية الوهن والسقوط.

هذا بناء على وضع الماضي للإخبار كما هو المشهور عند النحاة. وأمّا بناء على كون الإخبارية والإنشائية من شؤون الاستعمال ـ من دون دخلهما في نفس المعنى الموضوع له ـ فلا وجه أيضا لدعوى الصراحة في الإنشاء أصلا ، فلا بدّ من الالتزام بدلالة الماضي مع القرينة على الإنشاء. وحينئذ يكون الأمر والمضارع مع القرينة المقامية دالّين على الإنشاء أيضا.


مسألة (١) : الأشهر كما قيل (٢) لزوم تقديم الإيجاب على القبول ،

______________________________________________________

شرائط الهيئة التركيبية

المبحث الأوّل : تقديم الإيجاب على القبول.

(١) الكلام من هذه المسألة إلى آخر المقدمة ـ التي عقدها لألفاظ صيغة البيع ـ ناظر إلى ما يعتبر في الهيئة التركيبية ، وهي الجهة الثالثة من جهات البحث عن شؤون الصيغة ، وقد أشرنا في (ص ٣٣٠) إلى أنّ مباحث هذه الجهة خمسة ، أوّلها : اعتبار تقديم الإيجاب على القبول وعدمه.

ولا يخفى أنّ في المسألة أقوالا نشير إليها ، وسيأتي تفصيلها في التعليقة إن شاء الله تعالى.

الأوّل : اشتراط تقديم الإيجاب على القبول مطلقا ، وهو الأشهر.

الثاني : عدم اعتباره كذلك.

الثالث : التفصيل بين النكاح وغيره ، بجواز تقديم القبول في النكاح ، واشتراط تقدم الإيجاب في سائر العقود.

الرابع : التفصيل بين كون القبول بصيغة الأمر ، فيجوز التقديم سواء في البيع والنكاح وغيرهما ، وبين غير صيغة الأمر فلا يجوز التقديم.

الخامس : مختار المصنف قدس‌سره وهو التفصيل في ألفاظ القبول ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

(٢) القائل هو العلّامة في المختلف ، قال : «مسألة : وفي اشتراط تقديم الإيجاب على القبول قولان ، أشهرهما ذلك. اختاره الشيخ في المبسوط» (١).

ونسبه فخر المحققين إلى الشيخ أيضا في محكي شرح الإرشاد. لكن تأمّل السيد الفقيه العاملي في النسبة ، وقال : «والموجود فيه ـ أي في المبسوط ـ وإن تقدّم القبول فقال : بعنيه بألف ، فقال : بعتك صحّ. والأقوى عندي أنه لا يصحّ حتى يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت. انتهى يعني كلام المبسوط. ولو لم يسمّه قبولا متقدما

__________________

(١) : مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥٢


وبه (١) صرّح في الخلاف والوسيلة والسرائر والتذكرة ، كما عن الإيضاح وجامع المقاصد (٢).

ولعلّه (٣) الأصل (٤) بعد حمل آية وجوب الوفاء على العقود المتعارفة كإطلاق البيع والتجارة في الكتاب والسّنّة.

وزاد بعضهم (٥) : أنّ القبول فرع الإيجاب ، فلا يتقدّم عليه ، وأنّه

______________________________________________________

لأمكن أن نقول : إنّ حكمه بعدم الصحة لمكان الاستيجاب والاستدعاء كما تقدم ، لأنّ محلّ النزاع ما إذا قال المشتري : اشتريت أو نحوه ، فيقول البائع : بعت. لكن التسمية المذكورة وتفرقته في المقام بين البيع والنكاح جوّزتا للمصنف ـ يعني العلّامة ـ نسبة ذلك إليه» (١).

(١) أي : وبالاشتراط صرّح الشيخ وغيره بناء على ما نسبه إليهم فخر المحققين ، حيث قال في الإيضاح : «ذهب الشيخ في المبسوط وابن حمزة وابن إدريس إلى الاشتراط» (٢).

(٢) قال فيه : «والأصحّ الاشتراط» (٣). ولا يخفى أن ظاهر العطف كون المحقق الثاني ناسبا إلى الشيخ وابني حمزة وإدريس تصريحهم بالاشتراط. وليس الأمر كذلك ، بل الناسب للتصريح هو الفخر فقط.

(٣) أي : ولعلّ الاشتراط ، وهذا أحد الوجوه التي استدلّ بها على ما يظهر من المتن ، ومحصّله : جريان الاستصحاب بالتقريب الآتي.

(٤) هذا أوّل وجوه هذا القول ، وهو استصحاب عدم ترتب الأثر ، بعد حمل العقود في الآية على العقود المتعارفة ، وتسليم خروج العقد ـ المقدّم قبوله على إيجابه ـ عن العقود المتعارفة ، وإلّا فلا وجه للتشبّث بالأصل مع الدليل الاجتهادي.

(٥) هذا ثاني الوجوه المستدلّ بها على اشتراط تقدّم الإيجاب على القبول ،

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٤

(٢) إيضاح الفوائد ، ج ١ ، ص ٤١٢ لاحظ : الخلاف ج ٣ ، ص ٢٣٩ المسألة : ٥٦. الوسيلة لابن حمزة ، ص ٧٤٠ (ضمن الجوامع الفقهية) ، السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٤٣ تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٣) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٦٠


تابع له ، فلا يصح تقدّمه عليه.

وحكى في غاية المراد عن الخلاف (١) الإجماع عليه (٢).

وليس في الخلاف (٣) في هذه المسألة إلّا (٤) «أنّ البيع مع تقديم الإيجاب

______________________________________________________

وحاصله : تفرّع القبول على الإيجاب وتبعيّته له ، وقد نقل المحقق الأردبيلي قدس‌سره هذا الاستدلال عنهم بقوله : «وأن القبول فرع الإيجاب ، فلا معنى لتقديمه» (١).

والموجود في جامع المقاصد : «فإنّ القبول مبني على الإيجاب ، لأنّه رضا به» (٢).

(١) قال في الخلاف : «إذا قال بعنيه بألف ، فقال : بعتك ، لم يصح البيع حتى يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت أو قبلت. وقال الشافعي : يصح وإن لم يقل ذلك .. إلى أن قال : دليلنا أنّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت العقد به ، وما ادّعوه لا دلالة على صحته ، والأصل عدم العقد. ومن ادّعى ثبوته فعليه الدلالة» (٣).

(٢) هذا ثالث الوجوه المحتج بها على القول باشتراط تقدم الإيجاب على القبول ، ففي غاية المراد : «واستدل عليه في الخلاف بالإجماع وعدم الدليل على خلافه» (٤).

(٣) قال في مفتاح الكرامة : «وقد نسب في غاية المراد والمسالك إلى الخلاف دعوى الإجماع. وهو وهم قطعا ، لأنّي تتبعت كتاب البيع فيه مسألة مسألة ، وغيره حتى النكاح فلم أجده ادّعى ذلك ، وإنّما عبارته في المقام توهم ذلك للمستعجل ، وهي قوله : دليلنا : انّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت العقد به ، وما ادّعوه لا دلالة على صحته ، إلّا أن يريد أنّه استدلّ بأنّه مجمع عليه» (٥).

(٤) هذه العبارة إلى قوله : «فيؤخذ» في محل رفع على أنها اسم «ليس» ،

__________________

(١) : مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٥

(٢) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٦٠

(٣) الخلاف ج ٣ ، ص ٤٠

(٤) غاية المراد ، ص ٨٠

(٥) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٤


متفق عليه (١) ، فيؤخذ به» فراجع.

خلافا (٢) للشيخ في المبسوط

______________________________________________________

وهي مضمون كلام شيخ الطائفة في الخلاف. وغرض المصنف الاعتراض على الشهيد قدس‌سره ـ في نسبة الإجماع إلى الشيخ بما عرفته من كلام مفتاح الكرامة ، لأنّ قيام الإجماع على ثبوت العقد مع تقدم الإيجاب لا يقتضي ثبوت الإجماع على فساد العقد بتأخره عن القبول ، لإمكان صحته مع التأخر أيضا وإن لم يكن إجماعيا.

(١) هذا توجيه لدعوى الإجماع ، وحاصله : أنّ المراد بالإجماع هنا هو كون العقد المقدّم إيجابه على قبوله متيقّن الصحة ، فيؤخذ به ويترك غيره ، لعدم الدليل على صحته.

وعبارة غاية المراد المتقدمة آنفا قابلة لهذا التوجيه. لكن عبارة المسالك وهي قوله : «وذهب جماعة من الأصحاب إلى اعتبار تقديمه بل ادّعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع» (١) لا تقبله ، لظهورها في الإجماع المصطلح كما لا يخفى.

لكن الإنصاف أن استظهار الشهيدين قدس‌سرهما من عبارة الشيخ لا يخلو من قوة ، لأنّ معقد الإجماع ليس مجرد صحة العقد بتقديم إيجابه على قبوله ، بل معقده اشتراط التقديم ، لقوله : «دليلنا أن ما اعتبرناه مجمع» ومن المعلوم أنّ ما اعتبره شيخ الطائفة هو تقديم الإيجاب على القبول ، لا مجرّد صحة العقد بتقديمه حتى يبقى مجال احتمال صحته إذا تقدّم القبول على الإيجاب.

(٢) إشارة إلى القول الثاني ، وهو عدم اعتبار تقدم الإيجاب على القبول ، الّذي اختاره شيخ الطائفة قدس‌سره في نكاح المبسوط ، لالتزامه فيه بصحّة النكاح والبيع عند تقدم القبول.

ولكنّه قدس‌سره في بيع المبسوط خالف هذه الفتوى ، وفصّل بين البيع والنكاح ، فاعتبر تقدّم الإيجاب على القبول في خصوص عقد البيع ، دون النكاح. فيكون مختاره

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٣


في باب النكاح (١) وإن وافق الخلاف في البيع (٢) ، إلّا أنّه عدل (٣) عنه في باب النكاح ، بل ظاهر كلامه (٤) عدم الخلاف في صحته بين الإمامية ، حيث إنّه ـ بعد ما ذكر أن تقديم القبول بلفظ الأمر في النكاح ، بأن يقول الرجل : «زوّجني فلانة» جائز بلا خلاف ـ قال : «أمّا البيع فإنّه إذا قال : بعنيها ، فقال : بعتكها صحّ عندنا وعند قوم من المخالفين. وقال قوم منهم : لا يصح حتى يسبق الإيجاب» (١).

وكيف كان (٥) فنسبة القول الأوّل (٦) إلى المبسوط مستندة إلى كلامه في باب البيع (٧).

______________________________________________________

في عقد البيع موافقا لما اختاره في الخلاف ، وسيأتي من المصنف قدس‌سره نقل كلامه في بيع المبسوط ونكاحه ، فانتظر.

(١) فإنّه في باب النكاح قال بعدم اشتراط تقدم الإيجاب على القبول ، سواء في عقد النكاح والبيع ، خلافا لما فصّله بينهما في بيع المبسوط.

(٢) يعني : أنّ رأي شيخ الطائفة في بيع المبسوط موافق لرأيه في الخلاف ، في اعتبار تقديم إيجاب البيع على قبوله.

(٣) يعني : أنّ شيخ الطائفة قدس‌سره عدل في نكاح المبسوط عن تفصيله الذي اختاره في بيع المبسوط ، والتّعبير بالعدول لأجل تقدّم تحرير البيع على النكاح بحسب ترتيب أبواب الفقه ، وإلّا فلا ضرورة إلى تأليف أحدهما قبل الآخر.

(٤) يعني : ظاهر كلامه في نكاح المبسوط عدم الخلاف في صحة البيع مع تقدم القبول على الإيجاب ، لقوله : «صحّ عندنا» وظهور هذا اللفظ في الإجماع ممّا لا ينكر.

(٥) يعني : سواء تمّ ظهور كلمة «عندنا» في الإجماع على جواز تقديم القبول على الإيجاب ، أم لم يتم ، فنسبة .. إلخ.

(٦) وهو اشتراط عقد البيع بتقديم الإيجاب على القبول.

(٧) يعني : في بيع المبسوط ، الموافق لكلامه المتقدّم عن الخلاف.

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ١٩٤


وأمّا في باب النكاح (١) فكلامه صريح في جواز التقديم كالمحقق رحمه‌الله في الشرائع (٢) والعلّامة في التحرير (١) ، والشهيدين (٣) في بعض كتبهما ، وجماعة (٤) ممن تأخّر عنهما ، للعمومات (٥) السليمة عمّا يصلح لتخصيصها.

وفحوى (٦) جوازه في النكاح الثابت بالأخبار ، مثل خبر أبان بن تغلب الوارد في كيفية الصيغة ، المشتمل على صحة تقديم القبول بقوله للمرأة : «أتزوّجك متعة

______________________________________________________

(١) من المبسوط ، وقد تقدم كلامه في المتن. وعليه فمراد المصنف من باب البيع والنكاح هو كتاب البيع والنكاح من المبسوط ، لا عقد البيع والنكاح.

(٢) حيث قال في كتاب البيع : «وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ فيه تردّد ، والأشبه عدم الاشتراط» (٢). نعم منع المحقق من انعقاد البيع بالاستدعاء ، فراجع.

(٣) قال الشهيد قدس‌سره : «ولا ترتيب بين الإيجاب والقبول على الأقرب ، وفاقا للقاضي» (٣). وقريب منه كلامه في اللمعة.

وقال الشهيد الثاني بعد ذكر أدلة القولين : «والأقوى الأوّل» (٤) أي : عدم الاشتراط.

ولكنه لم يرجّح في شرح اللمعة أحد القولين ، فراجع.

(٤) كالمحقق الأردبيلي والفاضل السبزواري قدس‌سرهما (٥).

(٥) هذا إشارة إلى وجه القول الثاني وهو عدم الاشتراط ، والمذكور في المتن وجهان ، أوّلهما العمومات السليمة عن المخصص ، فإنّها قاضية بعدم اعتبار تقدّم الإيجاب على القبول ، ورافعة للشك في الاعتبار المزبور.

(٦) هذا ثاني وجهي القول بعدم اشتراط تقدّم الإيجاب على القبول مطلقا ، وحاصله : أنّ بعض الروايات ـ كخبري أبان بن تغلب وسهل الساعدي الدالّين على

__________________

(١) : تحرير الاحكام ، ج ١ ، ص ١٦٤

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٣

(٣) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١ ، الرّوضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥

(٤) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٤. كفاية الأحكام ، ص ٨٩


على كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن قال : فإذا قالت : نعم ، فهي امرأتك (١) ، وأنت أولى الناس بها» (١).

ورواية سهل الساعدي المشهورة في كتب الفريقين ـ كما قيل (٢) المشتملة

______________________________________________________

جواز تقديم القبول في صيغة النكاح على الإيجاب ـ يدلّ بالفحوى على جواز ذلك في غير النكاح كالبيع ، لأنّ أمر النكاح أشدّ وأهمّ من غيره ، فإذا كان تقديم القبول فيه جائزا ففي غيره كالبيع الذي هو دون النكاح في الأهمية يكون التقديم جائزا بالأولوية.

(١) لا يخفى أنّ قوله عليه الصلاة والسلام : «فهي امرأتك ..» قرينة على كون «أتزوّجك» في مقام إنشاء القبول ، لا المقاولة ، فيكون دليلا على جواز إنشاء القبول بالمضارع ، وعلى جواز تقديم القبول ـ بلفظ المضارع ـ على الإيجاب.

(٢) القائل هو الشهيد الثاني في مسألة جواز إنشاء النكاح بلفظ الأمر ، حيث قال : «كما ورد في خبر سهل الساعدي المشهور بين العامة والخاصة ، ورواه كلّ منهما في الصحيح» (٢). ولا يخفى أن المروي مسندا بطرقنا خال عن هبة المرأة نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم تزويجها من رجل آخر ، ففي معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : زوّجني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لهذه؟ فقام رجل ، فقال : أنا يا رسول الله زوّجنيها ، فقال : ما تعطيها؟ فقال : ما لي شي‌ء ، فقال : لا. قال : فأعادت ، فأعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام ، فلم يقم أحد غير الرّجل ، ثم أعادت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرة الثالثة : أتحسن من القرآن شيئا؟ قال : نعم ، فقال : قد زوّجتكها على ما تحسن من القرآن ، فعلّمها إيّاه» (٣).

ودلالتها على إنشاء صيغة النكاح الدائم ـ الّذي تقدّم القبول فيه على الإيجاب ـ قويّة جدّا.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٤٦٦ ، الباب ١٨ من أبواب المتعة ، الحديث : ١

(٢) مسالك الافهام ، ج ٧ ، ص ٨٩

(٣) الكافي ، الفروع ، ج ٥ ، ص ٣٨٠ ، باب نوادر في المهر ، الحديث : ٥. رواه عنه الشيخ في التهذيب ، ج ٧ ، ص ٣٥٤ ، الحديث : ١٤٤٤


على تقديم القبول من الزوج بلفظ «زوّجنيها» (١).

والتحقيق (٢) : أنّ القبول إمّا أن يكون بلفظ «قبلت ورضيت» وإمّا أن يكون بطريق الأمر والاستيجاب نحو : «بعني» فيقول المخاطب «بعتك» وإمّا أن يكون بلفظ : «اشتريت وملكت ـ مخفّفا ـ وابتعت».

______________________________________________________

(١) وهو بلفظ الأمر ، ولذا يستدل برواية سهل على أمرين.

أحدهما : صحة إنشاء النكاح بالأمر.

ثانيهما : عدم اشتراطه بتقدم الإيجاب على القبول.

(٢) بعد أن نقل المصنف قدس‌سره قولين في المسألة شرع في بيان مختاره ، في مقامين :

أحدهما : في حكم تقدم القبول على الإيجاب في خصوص عقد البيع.

وثانيهما : في حكمه في سائر العقود ، وسيأتي المقام الثاني بقوله : «ثم إنّ ما ذكرنا جار في كلّ قبول يؤدّى بإنشاء مستقل».

فالكلام فعلا في المقام الأوّل ، وقد فصّل بين ألفاظ القبول ، وقسّمها إلى ثلاثة أقسام ، وهي : أنّ إنشاء القبول يكون تارة بلفظ «قبلت ، رضيت ، أمضيت ، أنفذت» ونحوها ممّا له ظهور في إنشاء تمليك الثمن مع سبق الإيجاب ، بحيث لا ظهور له في ذلك بدون سبقه ، نظير تحريك الرأس في مقام الجواب عن السؤال.

ويكون أخرى بما هو ظاهر في الاستدعاء كلفظ الأمر ، مثل قول المشتري : «بعني الكتاب الفلاني بألف» فيقول البائع : «بعته إيّاك بكذا».

ويكون ثالثة بلفظ «ملكت أو اشتريت أو ابتعت» ونحوها من الألفاظ الظاهرة في إنشاء التملك والتمليك. فهذه أقسام ثلاثة.

وأمّا حكمها فهو عدم جواز تقديم القبول في القسمين الأوّلين ، وجوازه في القسم الثالث.

وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.


فإن كان بلفظ «قبلت» فالظاهر (١) عدم جواز تقديمه ، وفاقا لما عرفت (٢) في صدر المسألة. بل (٣) المحكيّ عن الميسيّة والمسالك ومجمع الفائدة : «أنّه لا خلاف في عدم جواز تقديم لفظ : قبلت» (١) وهو (٤) المحكي عن نهاية الأحكام

______________________________________________________

(١) هذا شروع في بيان حكم القسم الأوّل من ألفاظ القبول ، وقد استدلّ له المصنف قدس‌سره بوجوه ثلاثة.

أوّلها : الإجماع المتضافر نقله.

ثانيها : انصراف أدلة الإمضاء إلى العقود المتعارفة ، وهي التي يتأخر قبولها عن إيجابها.

ثالثها : فرعية القبول على الإيجاب ، وسيأتي توضيح كلامه.

(٢) من القول الأوّل أعني اشتراط تقديم الإيجاب على القبول ، حيث قال : «الأشهر كما قيل : لزوم تقديم الإيجاب على القبول ..».

(٣) إشارة إلى وجه عدم جواز تقديم القبول إذا كان بلفظ «قبلت» والمراد بذلك نفي الخلاف. قال في المسالك : «وموضع الخلاف ما لو كان القبول بلفظ ابتعت أو شريت أو اشتريت أو تملّكت منك كذا بكذا ، بحيث يشتمل على ما كان يشتمل عليه الإيجاب. أمّا لو اقتصر على القبول ، وقال : قبلت وإن أضاف إليه باقي الأركان لم يكف بغير إشكال».

(٤) الضمير راجع إلى عدم جواز تقديم القبول ، لا إلى دعوى عدم الخلاف ، وذلك لأنّ المذكور في نهاية العلّامة قدس‌سره هو قوله : «ولا فرق بين أن يتقدّم قول البائع :

بعت على قول المشتري : اشتريت ، ومن أن يتقدم قول المشتري : اشتريت ، ويصحّ البيع في الحالتين على الأقوى. بخلاف ما لو قدّم : قبلت ، فإنّه لا يعدّ قبولا ، ولا جزءا

__________________

(١) : الحاكي عن هذه الكتب هو السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٥ ، ولاحظ مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤ ، مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٦


وكشف اللثام في باب النكاح (١) ، وقد اعترف به (١) غير واحد (٢) من متأخري المتأخّرين أيضا.

بل المحكي هناك (٣) عن ظاهر التذكرة (٢) الإجماع عليه.

______________________________________________________

من العقد ، فكان لغوا».

وكذا لا أثر من دعوى الإجماع في كلام الفاضل الأصبهاني في نكاح كشف اللثام ، فراجع.

(١) أي : بعدم جواز تقديم القبول.

(٢) منهم السيد الطباطبائي قدس‌سره في الرياض (٣).

(٣) أي : في باب النكاح. ولكن قال الفقيه المامقاني قدس‌سره : «ولكنّي قد لاحظت مسألة تقديم الإيجاب على القبول هناك فليس فيها من ذلك أثر. نعم قال بعد ذكر رواية سهل الساعدي وما في ذيله مما قدمنا ذكره ما لفظه : وقال أحمد : لا يصح العقد إذا قدم القبول ، لأنّ القبول إنما يكون للإيجاب ، فمتى وجد قبله لم يكن قبولا ، لعدم معناه ، فلم يصح كما لو تقدّم بلفظ الاستفهام. ولأنّه لو تأخّر عن الإيجاب بلفظ الطلب لم يصحّ ، فإذا قدّم كان أولى كصيغة الاستفهام. ولأنّه لو أتى بالصيغة المشروعة مقدّمة ، فقال : قبلت هذا النكاح ، فقال الوليّ : زوّجتك ابنتي ، لم يصحّ ، فلأن لا يصحّ إذا أتى بغيرها كان أولى. ولا بأس بهذا القول. انتهى. فلعلّ من حكى الإجماع عن ظاهرها ـ أي ظاهر التذكرة ـ استفاد منها دعواه ، من جهة أنّه جعل الصيغة المشروعة الّتي أراد بها بقرينة المثال لفظ : قبلت ، مقيسا عليه في مقام الاستدلال ، فدلّ

__________________

(١) : الحاكي عنها السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٥ ، لاحظ : نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٨ ، كشف اللثام ، ج ١ ، كتاب النكاح ، ص ٧

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٣

(٣) رياض المسائل ، ج ١ ، ص ٥١١


ويدل عليه ـ مضافا إلى ما ذكر (١) ، وإلى كونه (٢) خلاف المتعارف من العقد ـ أنّ (٣) القبول الذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب ، فلا يعقل تقدّمه عليه.

______________________________________________________

ذلك على أنّ حكم المقيس عليه مما قام عليه الإجماع» (١).

والأمر كما أفاده قدس‌سره لعدم الظفر بالإجماع في هذه المسألة من نكاح التذكرة ، وإنّما هو نفي البأس عمّا قاله أحمد. ولم أعثر على حكاية الإجماع في بيع مفتاح الكرامة والجواهر أيضا ، ولم يظهر معتمد المصنف قدس‌سره في نسبة الإجماع إلى العلّامة قدس‌سره.

(١) وهو نفي الخلاف المتقدّم بقوله : «بل المحكي عن الميسيّة .. أنه لا خلاف في عدم جواز تقديم لفظ : قبلت». وكذا الإجماع المحكي عن التذكرة ، بناء على صحة الحكاية.

(٢) أي : وإلى كون تقديم القبول على الإيجاب خلاف المتعارف.

(٣) هذا في محلّ الرفع على أنه فاعل «يدل عليه» وهذا الوجه الثالث ، وهو العمدة في اعتبار تأخّر مثل «قبلت» عن الإيجاب ، لكون القبول متفرّعا على الإيجاب ومبنيّا عليه ، فلا يتقدم عليه.

وتوضيح كلام المصنف قدس‌سره هو : أنّ القبول العقدي متقوم بأمرين ، أحدهما الرّضا بالإيجاب ، والآخر إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب تبعا لنقل الموجب ماله إلى القابل. وبهذه الملاحظة يكون القبول فرع الإيجاب ، بمعنى : كون تمليك الثمن تابعا لتمليك المبيع. وهذا المعنى من القبول لا يتحقق إلّا إذا تأخّر عن الإيجاب ، فلفظا : «قبلت ورضيت» إذا تقدّما على الإيجاب لا يحصل المعنى المزبور بهما.

وببيان أوضح : أنّ القبول ـ الذي هو أحد ركني العقود المعاوضية ـ يدلّ بالمطابقة على تملّك مال الموجب ، وبالالتزام على تمليك مال نفسه إلى الموجب بعنوان العوضية التي دلّ عليها حرف الباء في «ملّكتك هذا بهذا». ولأجله يعتبر في القبول أمران :

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٤٤ و٢٤٥


وليس (١) المراد من هذا القبول الذي هو ركن العقد مجرّد الرّضا بالإيجاب حتى يقال : إنّ الرضا بشي‌ء لا يستلزم تحققه (٢) قبله ، فقد يرضى الإنسان بالأمر المستقبل. بل المراد منه (٣) الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله

______________________________________________________

الأوّل : الرّضا بإيجاب الموجب المقتضي لنقل ماله إلى القابل بعوض.

الثاني : أن ينشئ القابل تمليك ماله للموجب ـ في حال إنشاء القبول ـ بعنوان كونه رضا بنقل الموجب.

وعلى هذا فإن تقدّم الإيجاب اجتمع هذان الأمران في القبول المتأخر ، سواء أكان بلفظ «قبلت» أم بسائر ألفاظه. لأنّ المشتري ينشئ تملكه للمبيع ، وينقل مال نفسه ـ في حال قبوله ـ على وجه العوضية إلى الموجب ، ويتحقق معنى المعاوضة.

وأمّا إذا تقدّم القبول على الإيجاب فلا يتحقق إلّا الأمر الأوّل ، وهو أصل الرّضا بتمليك الموجب ماله للقابل ، لإمكان تعلق الرضا بما مضى وبما يأتي ولم يتحقق الأمر الثاني ، وذلك لأنه لم ينتقل بعد الى القابل شي‌ء حتى يتضمن قبوله تمليك مال نفسه إلى الموجب بعنوان العوضية ، فيصير القبول المتقدّم لغوا ، إذ لم ينشأ نقل مال إلى القابل حتى ينشئ هو تمليك مال نفسه إلى الموجب. وبهذا تصح دعوى فرعيّة القبول على الإيجاب.

(١) هذا إلى قوله : «بالأمر المستقبل» إشارة إلى دليل القائل بجواز تقدم القبول على الإيجاب ، ومحصله : أنّ القبول ليس إلّا الرّضا بالإيجاب ، ومن المعلوم إمكان تعلّق الرضا النفساني المبرز ب «قبلت» بكلّ قول ، سواء تحقق في الزمان السابق على الرضا ، أم في الحال أم في المستقبل.

(٢) أي : تحقق الشي‌ء المرضي قبل تحقق نفس الرضا الذي هو صفة نفسانية منشأة بقوله : «قبلت».

(٣) أي : بل المراد من القبول هو الرّضا بالإيجاب بحيث .. إلخ. وهذا جواب


في الحال (١) إلى الموجب على وجه العوضية ، لأنّ (٢) المشتري ناقل كالبائع.

وهذا (٣) لا يتحقق إلّا مع تأخّر الرّضا عن الإيجاب ، إذ مع تقدمه لا يتحقق النقل في الحال (٤) ، فإنّ من رضي بمعاوضة ينشئها الموجب في المستقبل لم ينقل (٥) في الحال ماله إلى الموجب ، بخلاف من رضي بالمعاوضة التي أنشأها الموجب سابقا ، فإنّه (٦) يرفع بهذا الرّضا يده من ماله ، وينقله إلى غيره على وجه العوضية.

ومن هنا (٧) يتضح فساد ما حكي عن بعض المحققين (٨) في ردّ الدليل

______________________________________________________

الاستدلال ، ومحصله : أنّ القبول رضا متفرع على الإيجاب ، لا مطلقا حتى يمكن تحققه قبله.

(١) أي : في حال القبول ، يعني : أنّ القبول يدلّ بالمطابقة على تملك مال الموجب ، وبالتضمن على تمليك مال نفسه له بعنوان كونه عوضا.

(٢) تعليل لدلالة القبول تضمّنا على تمليك العوض للموجب ، وأنّه ليس مجرّد تملّك المعوّض ، وهذا مفاد قوله : «على وجه يتضمّن».

(٣) أي : المعنى المذكور للقبول ـ أعني المتضمن للنقل والتمليك ـ لا يحصل إلّا مع تأخّر الرّضا عن الإيجاب.

(٤) أي : في حال إنشاء القبول المتقدم على الإيجاب ، لعدم حصول المتبوع ـ وهو نقل الموجب ـ حال إنشاء القبول حتى يملّكه القابل بعنوان العوضية.

(٥) بل سينقل القابل ـ في المستقبل بعد إنشاء الإيجاب ـ ماله إلى الموجب. فلا نقل فعلا في القبول المتقدّم على الإيجاب.

(٦) أي : فإنّ القابل يرفع ـ برضاه بالإيجاب المتقدم ـ يده عن ماله.

(٧) أي : من أنّ القبول هو الرّضا بالإيجاب ـ على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب ـ يتضح فساد .. إلخ.

(٨) وهو السيد بحر العلوم قدس‌سره ، على ما في مفتاح الكرامة ، قال السيد العاملي قدس‌سره


المذكور ـ وهو (١) كون القبول فرع الإيجاب وتابعا له ـ وهو (٢) : «أن تبعية

______________________________________________________

في تصحيح تقديم القبول على الإيجاب : «أو يقال : إنّ تبعيّة القبول للإيجاب إنّما هي على سبيل الفرض والتنزيل ، لا تبعية اللفظ للفظ حتى يمتنع التقديم عقلا ، ولا القصد للقصد ..» إلى آخر ما نقله في المتن ، ثم قال السيد : «وهذا قد ذكره الأستاد دام ظله منذ سنين. فكان الأقرب عدم الاشتراط» (١).

(١) أي : أنّ الدليل المذكور هو فرعيّة القبول للإيجاب.

(٢) أي : وردّ الدليل المذكور أن تبعية .. إلخ ، وهذا تقريب الردّ الذي حكي عن السيد بحر العلوم قدس‌سره ، والمستفاد من كلامه فرض أنحاء ثلاثة لتبعية شي‌ء لشي‌ء آخر ، ويعتبر تقدّم المتبوع في اثنين منها.

الأوّل : تبعية لفظ للفظ آخر ، وهو مخصوص بباب التوابع المذكورة في علم النحو ، كتبعية المعطوف للمعطوف عليه ، والصفة للموصوف ، وهكذا.

الثاني : تبعية قصد لقصد آخر ، مثل ما ذكروه في بحث مقدمة الواجب ، من تبعية قصد التقرب بالمقدمة لقصد التوصّل بها إلى ذيها ، بناء على اعتبار قصد التوصّل في اتصاف المقدمة بالمقدمية ، فلو لم يقصد التوصّل بها إلى ذيها امتنع قصد التقرّب بالمقدمة ، لعدم اتّصافها بالمقدمية بدون قصد التوصّل حتى يتقرّب بها.

الثالث : تبعية شي‌ء لشي‌ء فرضا لا حقيقة ، يعني : أنّ للتابع وجودا مستقلّا غير متقوّم بوجود المتبوع ، ولكنه يفرض أحدهما متبوعا والآخر تابعا.

إذا اتّضحت أنحاء التبعية فاعلم : أنّ تقدّم المتبوع على تابعه معتبر في القسمين الأوّلين ، دون القسم الثالث. أمّا تقدم المتبوع في القسم الأوّل فلأن الصفة والحال ونحوهما تكون بيانا لملابسات متبوعاتها ، فلا معنى لذكرها مقدّما على الموصوف وذي الحال.

وأمّا تقدم أحد القصدين على الآخر في القسم الثاني فلما عرفت من أنّه عقلي.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٥


القبول للإيجاب ليس تبعية اللفظ للفظ (١) ولا القصد للقصد حتى يمتنع تقديمه ، وإنّما هو على سبيل الفرض والتنزيل ، بأن يجعل القابل نفسه متناولا لما يلقى إليه من الموجب ، والموجب مناولا ، كما يقول السائل في مقام الإنشاء : أنا راض بما تعطيني ، وقابل لما تمنحني ، فهو متناول قدّم (٢) إنشاءه أو أخّر. فعلى هذا (٣) يصح تقديم القبول ولو بلفظ قبلت ورضيت إن لم يقم إجماع (٤) على خلافه» انتهى.

______________________________________________________

وأمّا عدم لزوم التقدم في القسم الثالث ـ وهو تبعية القبول للإيجاب ـ فلأنّ القابل يفرض نفسه متناولا لما يأخذه من الموجب ، والموجب يفرض نفسه مناولا لما يأخذه القابل ، وإلّا فكلّ منهما يعطي شيئا ويأخذ بدله.

وحيث كانت تبعية القابل للموجب بالتنزيل والادّعاء ـ لا بالحقيقة ـ أمكن تقدم إنشاء الرّضا بالإيجاب قبل تحققه خارجا. ونظيره إنشاء السائل رضاه بما سيعطيه المسؤول ، فهو يفرض نفسه متناولا قبل أن يناوله المسؤول مالا.

ونتيجة هذا البيان : جواز تقديم القبول على الإيجاب ، إذ ليس الإيجاب أصلا حقيقة والقبول فرعا كذلك حتى يمتنع تقدم الفرع على الأصل ، إذ الفرعية تكون بمحض الفرض والتنزيل ، هذا.

(١) قد عرفت آنفا تبعية اللفظ للفظ ، والقصد للقصد ، فإذا كانت التبعية حقيقيّة تعيّن تأخر التابع عن متبوعة.

(٢) أي : سواء قدّم السائل إنشاء رضاه بما يعطيه المسؤول أم أخّره ، فكما أنّ تقديمه لا يصيّره مناولا ومعطيا حقيقية بل هو متناول ، فكذا في عقد البيع ، فلو تقدّم القبول لم يصر القابل مناولا ، بل هو متناول على كل حال ، والمناول هو الموجب.

(٣) أي : بناء على كون تبعية القبول للإيجاب فرضيّة ـ لا حقيقية ـ يصح تقديم القبول حتى إذا كان بلفظ «قبلت» إلّا إذا منع من تقديمه الدليل التعبدي كالإجماع.

(٤) يعني : فالاستدلال بفرعية القبول باطل ، إذ لا أصل ولا فرع حقيقة. وعليه فالمعوّل في منع تقديم القبول هو الإجماع لو تمّ.


ووجه الفساد (١) : ما عرفت سابقا من أنّ الرّضا بما يصدر من الموجب في المستقبل من (٢) نقل ماله بإزاء مال صاحبه ليس فيه إنشاء نقل من القابل في الحال ، بل هو رضا منه بالانتقال في الاستقبال.

وليس المراد (٣) أنّ أصل الرّضا بشي‌ء تابع لتحققه في الخارج أوّلا قبل الرّضا به حتى يحتاج إلى توضيحه بما ذكره من المثال (٤). بل المراد الرّضا الذي

______________________________________________________

(١) حاصل ما أفاده المصنف في ردّ كلام السيد بحر العلوم قدس‌سرهما هو : منع مقايسة البيع بقبول السائل لما يعطيه المسؤول. وبيانه : أنّ القبول ليس مجرّد الرّضا بالإيجاب حتى يصح تعلّقه بالمستقبل ، بل هو الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله إلى الموجب في الحال بعنوان العوضية. ومن المعلوم أنّ القبول ـ بهذا المعنى ـ يتوقف على سبق الإيجاب ، ولا يصح بدونه. وعلى هذا فعدم كون القبول تابعا للإيجاب ـ نظير تبعية الصفة للموصوف ـ لا يوجب جواز تقدمه عليه.

(٢) بيان ل «ما يصدر» يعني : إذا تقدّم القبول لم يكن رضا القابل بنقل ماله إلى الموجب فعليا ، بل هو رضاه بنقل ماله إلى الموجب في المستقبل.

(٣) يعني : أنّ السيد الأجل بحر العلوم قدس‌سره فهم من الفرعية ـ المذكورة في كلمات الأصحاب ـ تبعية الرّضا بشي‌ء لتحقق ذلك الشي‌ء خارجا ، وأنّ القبول متفرّع على وجود الإيجاب خارجا ، ولذا أورد عليهم بالنقض بما يقوله الفقير المستعطي من رضاه بإعانة من يعينه ، حيث إنّ رضاه موجود فعلا مع عدم تحقق المرضيّ بعد.

وليكن الإيجاب والقبول من هذا الباب. ولكن يرد على السيد منع هذا الاستظهار ، إذ ليس المراد بالرّضا في عقد البيع طبيعيّ الرّضا ، بل صنف خاص منه ، وهو الرّضا على وجه يتضمّن نقل مال فعلا إلى الموجب بعنوان العوضية ، ومن المعلوم ترتب هذا الرّضا على الإيجاب وتفرّعه عليه وتبعيته له.

(٤) وهو قول السيد : «كما يقول السائل في مقام الإنشاء أنا راض .. إلخ».


يعدّ ركنا في العقد (١).

ومما ذكرنا (٢) يظهر الوجه في المنع عن تقديم القبول بلفظ الأمر كما لو قال : «بعني هذا بدرهم ، فقال : بعتك» لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة

______________________________________________________

(١) وهو الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله إلى الموجب في الحال على وجه العوضية.

وبهذا أثبت المصنف قدس‌سره وجود المقتضي لمدّعاه ، وهو امتناع تقديم «قبلت ورضيت» على الإيجاب ، وبقي عليه رفع المانع ، والمانع هو دليل القائل بجواز تقديم القبول مطلقا على الإيجاب. ولكنّه أخّر بيانه وتعرّض لمنع تقديم القبول في القسم الثاني من ألفاظ القبول ، وهو الأمر ، هذا.

(٢) يعني : يظهر مما ذكرنا من وجه تأخير «قبلت» عن الإيجاب ـ الوجه في منع تقديم القبول بلفظ الأمر ، حيث إنّ القبول هو الرّضا المتضمن لنقل مال بالفعل إلى الموجب على وجه العوضية ، وهذا الدليل الجاري في إنشاء القبول بلفظ «قبلت» يجري في إنشائه بصيغة الأمر ، وبيانه : أنّ الأمر لا يدلّ على الرّضا بالإيجاب المزبور ، إذ طلب المعاوضة لا يدلّ على أزيد من الرّضا بالمعاوضة المستقبلة ، ولا يدلّ على الرّضا بالنقل في الحال إلى البائع ، فلا ينطبق مفهوم القبول على إنشائه بالأمر ، فلا يصح تقديمه على الإيجاب ، كما لا يصح إنشاء القبول بالأمر في صورة التأخّر ، لأنّه طلب للحاصل.

وبالجملة : فلا يقع القبول بلفظ الأمر مطلقا تقدّم أو تأخّر.

ولا يخفى أنّ قوله : «ومما ذكرنا يظهر الوجه .. إلخ» جملة معترضة بين الوجوه التي استدلّ بها المصنف على عدم جواز تقديم «قبلت ورضيت» وهي من قوله : «ويدلّ عليه مضافا إلى ما ذكر» الى قوله : «ومما ذكرنا يظهر الوجه» وبين بعضها الآخر ، وهو إبطال ما بقي من دليل الجواز ، وهو قوله الآتي : «وأمّا فحوى جوازه في النكاح .. إلخ» فتفطّن.


على الرّضا بها ، لكن (١) لم يتحقق ـ بمجرّد الرّضا بالمعاوضة المستقبلة ـ نقل في الحال للدرهم إلى البائع كما لا يخفى.

وأمّا ما يظهر من المبسوط ـ من الاتفاق هنا (٢) على الصحة به ـ فموهون بما ستعرف من مصير الأكثر على خلافه.

وأمّا فحوى (٣) جوازه في النكاح ففيها (٤)

______________________________________________________

(١) يعني : مع أنّ المعتبر في القبول ـ الذي هو ركن العقد المعاوضي ـ إنشاء نقل ماله بالفعل بعنوان العوض ، والمفروض عدم تحقق هذا النقل الفعلي إذا كان القبول بلفظ الأمر.

(٢) أي : في باب البيع ، يعني : وأمّا ما يظهر من المبسوط ـ من الاتفاق في باب البيع على صحته بأمر المشتري ـ فموهون بما سيأتي من مصير الأكثر إلى خلافه ، فكيف يدّعى الإجماع على الصحة بالأمر؟

وغرضه قدس‌سره من التعرض لكلام شيخ الطائفة قدس‌سره الإشارة إلى ما استدلّ به على جواز تقديم القبول إذا كان بصيغة الأمر على الإيجاب ، ثم ردّه والتنبيه على ضعفه بعدم تحقق الإجماع ، لمصير الأكثر على خلافه. وعليه فالمنع من تقديم القبول في باب البيع إذا كان بصيغة الأمر غير مخالف للإجماع حتّى يشكل المصير إليه.

(٣) هذا من الوجوه الدالة على جواز تقديم القبول بصيغة الأمر والمضارع. وقد تقدم تقريب الاستدلال بالفحوى في (ص ٤٣٦) عند قوله : «وفحوى جوازه في النكاح .. إلخ» فراجع.

(٤) جواب «وأما فحوى» وقد ردّها المصنف قدس‌سره بوجهين :

الوجه الأوّل : منع الحكم في الأصل ـ وهو النكاح ـ لعدم دلالة رواية سهل على تحقق القبول بلفظ الأمر وهو قول الصّحابي : «زوّجنيها» حتى يدلّ على جواز تقديم القبول في غير النكاح بالأولوية. وجه عدم الدلالة : أنّ في رواية سهل احتمالين :

أحدهما : أن يكون قول الصحابي : «زوّجنيها» قبولا مقدّما على إيجاب النكاح


.................................................................................................

______________________________________________________

بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوّجتكها بما معك من القرآن» وقد أقرّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا الاحتمال مبنى استفادة جواز تقديم القبول بلفظ الأمر ـ في باب البيع ـ على الإيجاب ، من باب الأولوية ، لكون الأموال دون الأعراض في الأهمية والاحتياط.

ثانيهما : أن يكون قول الصّحابي مجرّد استدعاء التزويج بالمرأة فالرّجل طلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزوّجها منه إن لم يكن لنفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاجة بها. ومن المعلوم أنّ هذا الاستدعاء أجنبي عن تقدم قبول النكاح على إيجابه ، بل لا بد أن يكون الصّحابي أنشأ القبول بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوّجتك أو زوّجتكها».

ويؤيد هذا الاحتمال الثاني ما ذكره جمع من الفقهاء من أنّه لو كان قول الصحابي : «زوّجنيها» قبولا مقدّما على الإيجاب لزم تخلّل الكلام الأجنبي بين الإيجاب والقبول ، وهو محاورة النبي مع الرّجل حول الصّداق. وحيث إنّ الموالاة بين الإيجاب والقبول معتبرة في العقود تعيّن حمل رواية سهل على مجرّد الاستدعاء ، ويوهن به الاحتمال الأوّل ، ولا يبقى موضوع لاستفادة الفحوى.

الوجه الثاني : لو سلّمنا دلالة رواية سهل على صحة النكاح بالقبول المقدّم على الإيجاب قلنا بمنع أولوية البيع ـ بجواز التقديم ـ من النكاح ، وذلك لأنّ الترتيب بين الإيجاب والقبول يقتضي تقديم الإيجاب ، بلا فرق بين عقد البيع وغيره. لكن الحكمة الخاصة بباب النكاح ـ وهي أنّ الإيجاب فيه من المرأة ، وهي تستحي غالبا من الابتداء ـ اقتضت توسعة الشارع فيه وترخيصه في ابتداء الزوج بالقبول. كما وسّع الشارع للمكلّفين في جهات أخرى ، فجوّز نكاح الفضول ، والمتعة حذرا من الابتلاء بالحرام. ومن المعلوم أنّ هذه الحكمة منتفية في باب البيع ، فليس هو مساويا للنكاح في هذا الحكم فضلا عن كونه أولى منه في تقديم قبوله على إيجابه.

هذا كله إذا أريد استفادة الفحوى من رواية سهل الساعدي.

وأمّا إذا أريد استفادتها من رواية أبان فسيأتي الإشكال فيها.


ـ بعد الإغماض (١) عن حكم الأصل (٢) بناء (٣) على منع (٤) دلالة رواية سهل على كون لفظ الأمر هو القبول (٥) ، لاحتمال (٦) تحقق القبول بعد إيجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ويؤيّده (٧) أنّه لولاه يلزم الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول ـ منع (٨) الفحوى. وقصور (٩) دلالة رواية أبان من حيث اشتمالها على كفاية قول المرأة :

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى أوّل الوجهين ، وقد تقدّم بقولنا : «الأوّل : منع الحكم في الأصل ..».

(٢) أي : النكاح.

(٣) وأمّا بناء على تمامية دلالة الرواية على جواز تقديم قبول النكاح على إيجابه لم يتّجه هذا الإشكال الأوّل على شيخ الطائفة ، وعليه فالإشكال مبنائيّ.

(٤) هذا تقريب الإشكال على حكم النكاح ، وحاصله : منع دلالة رواية سهل على كون لفظ الأمر قبولا لعقد النكاح ، لاحتمال تحقّق القبول بلفظ «قبلت» مثلا بعد إيجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم أيّد ذلك بأنه لو لا تحقق القبول بعد إيجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلزم فوات الموالاة بين الإيجاب والقبول ، فيبطل العقد.

(٥) أي : القبول المقدّم على الإيجاب.

(٦) تعليل لمنع دلالة رواية سهل ، وقد عرفت توضيحه.

(٧) لم يقل : «ويدلّ عليه» لاحتمال كون الرواية دليلا على عدم اعتبار الموالاة في هذا المورد.

(٨) مبتدأ مؤخّر لقوله : «ففيها» وجه منع الفحوى : ما أفاده العلّامة ـ وتبعه من تأخّر عنه ـ بقوله : «والجواب : المنع من المساواة بين النكاح والبيع ، وإنّما سوّغنا في النكاح ، لضرورة لم توجد في البيع ، وهي الحياء الحاصل للمرأة ، فلا تبادر إلى تقديم الإيجاب ، فلهذا جوّزنا تقديم القبول ، بخلاف البيع» (١).

(٩) معطوف على «منع الفحوى» وغرضه دفع توهّم ، حاصل الوهم : أنّ

__________________

(١) : مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥٢ و٥٣


«نعم» في الإيجاب (١).

ثم اعلم (٢) أنّ في صحة تقديم القبول بلفظ الأمر

______________________________________________________

المناقشة الأولى في رواية سهل الساعدي لا تجري في رواية أبان بن تغلب الواردة في إنشاء النكاح المنقطع بصيغة المضارع مع تقدّم القبول على الإيجاب.

وجه سلامة هذه الرواية عن المناقشة الأولى هو : أنّ الإمام عليه‌السلام علّم أبان كيفية إنشاء المتعة بأن يقول لها : «أتزوّجك متعة .. إلخ» وتقول المرأة بعده : «نعم» ولعلّ هذه الرواية صريحة في جواز تقديم القبول على الإيجاب في باب المتعة.

والاحتمال المتقدم في رواية سهل ـ من تحقق القبول بعد إيجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «زوّجتك» ـ غير جار في رواية أبان. وعليه يمكن الاستناد إلى هذه الرواية في استفادة الفحوى.

وقد دفع المصنف قدس‌سره هذا الوهم بما حاصله : قصور دلالة رواية أبان على تقديم قبول النكاح على إيجابه ، وذلك لما ذكره جمع من الفقهاء من أنّ قولها : «نعم» في جواب القبول المقدّم لا يكون إيجابا مؤخّرا (١). وعليه يشكل العمل بظاهر رواية أبان لمخالفتها للقاعدة المسلّمة ، وهي توقف العقد على إيجاب وقبول ، سواء تقدّم الإيجاب أم تأخّر. ففي رواية سهل الساعدي لا مانع من جعل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوّجتك إيّاها» إيجابا مؤخّرا ، وقول الرّجل : «زوّجنيها» قبولا مقدما ، لكون كلتا الصيغتين صريحتين في النكاح. بخلاف قولها : «نعم» في رواية أبان ، فإنّه ليس إيجابا. وحيث كانت الرواية.

مخالفة للقاعدة المسلّمة لم يمكن الأخذ بظاهرها فضلا عن استفادة الفحوى منها.

(١) يعني : والحال أنّ الاقتصار على «نعم» في إيجاب النكاح ممنوع عندهم.

(٢) بعد أن اختار ما هو التحقيق عنده من عدم جواز تقديم القبول بصيغة الأمر أراد أن ينبّه على كلمات الأصحاب فيه ، وقد تعرّض لجملة منها.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ١٢ ، ص ٧٢


اختلافا كثيرا (١) بين كلمات الأصحاب ، فقال في المبسوط : «إن قال : بعنيها بألف ، فقال : بعتك صحّ. والأقوى عندي أنّه لا يصح حتى يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت» (١).

واختار ذلك في الخلاف (٢) (٢). وصرّح به (٣) في الغنية ، فقال : «واعتبرنا حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري حذرا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري ، وهو أن يقول : بعنيه بألف ، فيقول : بعتك ، فإنّه لا ينعقد حتى يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت أو قبلت» (٣).

وصرّح به (٤) أيضا في السرائر والوسيلة (٤).

وعن جامع المقاصد (٥) «أن ظاهرهم أنّ هذا الحكم اتفاقي» (٥).

______________________________________________________

(١) الأولى إسقاط : «كثيرا» إذ ليس في المسألة أزيد من قولين ، والتعبير بالاختلاف الكثير إنّما يحسن مع كثرة الأقوال في المسألة ، والمفروض أنّه ليس في هذه المسألة إلّا قولان.

(٢) تقدّمت عبارة الخلاف في (ص ٤٣٣) فراجع.

(٣) يعني : صرّح السيد أبو المكارم ابن زهرة بعدم صحة البيع عند تقدم القبول على الإيجاب.

(٤) أي : صرّح ابنا حمزة وإدريس بعدم الصحة كما صرّح به أبو المكارم.

(٥) قال في شرح قول العلامة : «ولا الاستيجاب والإيجاب» ما لفظه : «ظاهرهم أنّ هذا الحكم اتفاقي ، وما قيل بجوازه في النكاح مستند إلى رواية ضعيفة».

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٨٧ وهذه العبارة مذكورة في بيع المبسوط.

(٢) الخلاف ، ج ٣ ، ص ٣٩ ، المسألة : ٥٦

(٣) غنية النزوع في الأصول والفروع ، ص ٥٢٢ (الجوامع الفقهية).

(٤) الوسيلة لابن حمزة (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٧٤٠ ، السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ٢٤٩ و٢٥٠

(٥) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٩


وحكي الإجماع (١) عن ظاهر الغنية أيضا أو صريحها (١).

وعن المسالك (٢) : «المشهور».

بل قيل (٣) : إنّ هذا الحكم ظاهر كلّ من اشترط الإيجاب والقبول.

ومع ذلك (٤) كلّه فقد صرّح الشيخ في المبسوط (٢) في باب النكاح بجواز

______________________________________________________

(١) الحاكي هو السيد العاملي ، حيث قال : «والإجماع ظاهر الغنية أو صريحها».

(٢) يعني : وحكي عن المسالك أنّ عدم صحة البيع ـ بتقديم القبول على الإيجاب ـ هو المشهور ، حيث قال فيه ـ في شرح كلام المحقق : «ولا ينعقد إلّا بلفظ الماضي .. وكذا في طرف القبول» ـ ما لفظه : «نبّه بذلك على خلاف ابن البرّاج ، حيث جوّزه بهما ، والمشهور خلافه» (٣).

ولا يخفى أنّ الشهيد الثاني ادّعى الشهرة في مسألة جواز الإنشاء بغير الماضي ، لا في تقديم الإيجاب على القبول ، إلّا أن يدّعى التلازم بين الحكمين ، فراجع المسالك.

(٣) القائل هو السيد الفقيه العاملي في عدم انعقاد البيع بالاستيجاب والإيجاب ، قال قدس‌سره : «والحكم ظاهر كلّ من اشترط الإيجاب والقبول والماضوية فيهما» (٤).

ولعلّ وجه الاستظهار هو دعوى ظهور «الأمر» في غير القبول ، فلا يصح إنشاء القبول به. أو دعوى اعتبار الترتيب بينهما في مقام الاشتراط من جهة عطف القبول على الإيجاب في كلماتهم ، دون العكس.

(٤) أي : ومع هذه الكلمات ـ الدالة على عدم انعقاد البيع باستدعاء المشتري وقبوله بلفظ الأمر ـ فقد صرّح الشيخ في باب النكاح بجواز تقديم القبول بصيغة الأمر ، وعبارته مشعرة بكون الجواز إجماعيّا.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦١

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ١٩٤

(٣) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٥٩

(٤) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦١


التقديم بلفظ الأمر بالبيع ، ونسبته إلينا (١) مشعرة ـ بقرينة السياق ـ إلى عدم الخلاف فيه بيننا ، فقال : «إذا تعاقدا ، فإن تقدّم الإيجاب على القبول ، فقال : زوّجتك ، فقال : قبلت التزويج صحّ. وكذا إذا تقدّم الإيجاب على القبول في البيع صحّ بلا خلاف. وأمّا إن تأخّر الإيجاب وسبق القبول ، فإن كان في النكاح فقال الزوج (٢) : زوّجنيها ، فقال : زوّجتكها صحّ ، وإن لم يعد الزوج القبول ، بلا خلاف ، لخبر الساعدي ، قال الرجل : زوّجنيها يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال زوّجتكها بما معك من القرآن ، فتقدّم القبول وتأخّر الإيجاب. وإن كان هذا في البيع فقال بعنيها ، فقال : بعتكها ، صحّ عندنا وعند قوم من المخالفين. وقال قوم منهم : لا يصحّ حتى يسبق الإيجاب» انتهى.

وحكي جواز التقديم بهذا اللّفظ (٣) عن القاضي في الكامل.

بل يمكن نسبة هذا الحكم (٤) إلى كلّ من جوّز تقديم القبول على الإيجاب بقول مطلق ، وتمسّك (٥) له في النكاح برواية سهل الساعدي المعبّر فيها عن

______________________________________________________

(١) يعني : قال شيخ الطائفة : «صحّ عندنا وعند قوم من المخالفين» ومن المعلوم إشعار «عندنا» بالإجماع عند الخاصة لو لا ظهوره فيه. وحينئذ كيف يمكن الجمع بين دعوى اتفاق الأصحاب ـ على صحة تقديم القبول بلفظ الأمر بالبيع ـ مع الكلمات المتقدمة عن جماعة منهم؟

(٢) يعني : قال الزوج لوليّ الزوجة : «زوّجنيها» فزوّجها الوليّ منه.

(٣) أي : لفظ الأمر ، مثل «بعنيها» وحكاه في المختلف عن المهذّب أيضا (١).

(٤) وهو جواز التقديم بلفظ «بعنيها» والوجه في صحة هذه النسبة هو : إطلاق القول بجواز التقديم ، إذ من صغريات القبول لفظ الأمر ، فتدبر.

(٥) معطوف على «جوّز» أي : كلّ من جوّز وتمسّك لجواز تقديم القبول على الإيجاب برواية سهل ، إذ هذا التمسك قرينة على أنّ مراده من القبول هنا ما يعمّ الأمر ،

__________________

(١) : مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥٢


القبول بطلب التزويج (١).

إلّا (٢) أنّ المحقق رحمه‌الله ـ مع تصريحه في البيع بعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب ـ صرّح بجواز تقديم القبول على الإيجاب.

وذكر العلّامة قدس‌سره الاستيجاب والإيجاب ، وجعله خارجا عن قيد اعتبار

______________________________________________________

إذ لو اختص بغير الأمر لما صحّ الاستدلال برواية سهل ، فلا بدّ أن يكون كذلك في باب البيع أيضا ، لعدم الفرق بينهما من هذه الجهة.

(١) بقول الرجل : «زوّجنيها يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

(٢) استدراك على قوله : «بل نسبة هذا الحكم» وتضعيف لاستفادة نسبة تجويز تقديم القبول ـ بلفظ الأمر ـ إلى كلّ من أطلق جواز تقديم القبول على الإيجاب ، وذلك لأنّ المحقق مع تصريحه بعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب في البيع أطلق جواز تقديم القبول على الإيجاب ، حيث قال : «ولا ينعقد إلّا بلفظ الماضي ، فلو قال : اشتر أو ابتع أو أبيعك ، لم يصح. وكذا في طرف القبول ، مثل أن يقول : بعني ، لأنّ ذلك أشبه بالاستدعاء أو بالاستعلام. وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ فيه تردّد. والأشبه عدم الاشتراط» (١).

والعبارة صريحة في عدم صحة البيع بالاستيجاب والإيجاب ، وصحته بتقديم القبول. وكذا العلّامة.

فالجزم بعدم كفاية الاستيجاب والتردّد في شرطية تقديم الإيجاب على القبول ـ كما في قواعد العلّامة (٢) ـ يكشف عن عدم صحة إنشاء القبول بالأمر حتى يقع البحث عن جواز تقديمه على الإيجاب ، وعدمه ، فإنّ هذا البحث فرع صحة إنشاء القبول بالأمر في نفسه. ومع عدم صحّته كذلك لا يبقى موضوع للبحث عن جواز تقديم القبول المنشأ بلفظ الأمر ، وعدمه.

__________________

(١) : شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٣

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٤٧ (الطبقة الحجرية).


الإيجاب والقبول كالمعاطاة (١) ، وجزم بعدم كفايته ، مع أنّه تردّد في اعتبار (٢) تقديم القبول.

وكيف كان (٣) فقد عرفت (٤) أنّ الأقوى المنع في البيع ، لما عرفت (٥).

بل لو قلنا بكفاية التقديم بلفظ «قبلت» يمكن المنع هنا (٦) بناء على اعتبار الماضوية فيما دلّ على القبول (٧).

ثم إنّ هذا (٨) كلّه بناء على المذهب المشهور بين الأصحاب من عدم كفاية مطلق اللفظ في اللزوم ، وعدم القول بكفاية مطلق الصيغة في الملك.

______________________________________________________

(١) يعني : كما أنّ المعاطاة خارجة عن العقد ، إذ ليس فيها إيجاب وقبول لفظيان ، فكذا الاستيجاب والإيجاب خارجان عن العقد.

(٢) الأولى التعبير بالجواز ، إذ ليس الكلام في لزوم تقديم القبول واعتباره ، بل في جوازه كما لا يخفى.

(٣) يعني : سواء أكانت نسبة جواز تقديم القبول بلفظ الأمر ـ إلى كلّ من جوّز تقديم القبول على الإيجاب ـ صحيحة بقول مطلق ، أم غير صحيحة فقد عرفت .. إلخ.

(٤) بقوله : «ومما ذكرنا يظهر الوجه في المنع عن تقديم القبول بلفظ الأمر ..».

(٥) من قوله : «لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرضا بها ، لكن لم يتحقق بمجرّد الرّضا بالمعاوضة المستقبلة نقل في الحال للدرهم إلى البائع» يعني : أنّه يعتبر في القبول دلالته على الرّضا بالإيجاب ، وعلى تضمّن النقل في حال القبول ، والمفروض قصور صيغة الأمر عن إفادة النقل الضمني.

(٦) أي : في إنشاء القبول بالأمر.

(٧) يعني : فلا ملازمة بين جواز تقديم القبول بلفظ «قبلت» وبين جوازه بلفظ الأمر. وجه عدم الملازمة : أنّ الماضوية روعيت في «قبلت» ولم تراع في صيغة الأمر ، ففي الإنشاء بالأمر إشكال زائد على الإنشاء ب «قبلت» مقدّما على الإيجاب.

(٨) أي : أنّ عدم كفاية إنشاء القبول بالأمر مبني على الالتزام بتوقف العقود


وأمّا على ما قوّيناه (*) سابقا في مسألة المعاطاة (١) من أنّ البيع العرفي موجب للملك ، وأنّ الأصل في الملك اللزوم ، فاللازم الحكم باللزوم في كلّ مورد لم يقم إجماع على عدم اللزوم ، وهو (٢) ما إذا خلت المعاملة عن الإنشاء باللفظ رأسا ، أو كان اللفظ المنشأ به المعاملة ممّا قام الإجماع على عدم إفادتها اللزوم. وأمّا في غير ذلك فالأصل اللزوم.

______________________________________________________

اللازمة على إنشائها بالصيغ الخاصة المأثورة عن الشارع. وأمّا إن قلنا بكفاية المعاطاة في النقل الملكي ـ لكونها بيعا عرفيا مفيدا للملك ، والأصل في الملك هو اللزوم ـ اتّجه الالتزام بانعقاد البيع بكلّ ما يكون مصداقا له عرفا.

إلّا أن يقوم دليل مانع عن الأخذ بهذا الالتزام ، والمانع هو الإجماع على أحد الأمرين ، إمّا على توقف اللزوم على الإنشاء بمطلق اللفظ ، وأنّ التعاطي لا يفيد الملك اللّازم. وإمّا على توقف اللزوم على صيغة خاصة ، بحيث لا يترتب على مطلق اللفظ الكاشف عن القصد.

فإن تمّ الإجماع على أحد الأمرين أخذ بمقتضاه ، وإلّا فلا بدّ من القول باللزوم إذا أنشئ البيع باللفظ ، ولكن تقدّم قبوله ـ بصيغة الأمر ـ على إيجابه. والمفروض عدم وجود إجماع في البين بعد تصريح شيخ الطائفة قدس‌سره بانعقاد البيع بأمر المشتري وإيجاب البائع بعده.

(١) حيث إنّه قدس‌سره أثبت أوّلا إفادة المعاطاة للملك ، ثم أثبت أصالة اللزوم في كل ملك.

(٢) هذا بيان معقد الإجماع ، وهو أحد الأمرين ، إمّا خلوّ المعاملة عن اللفظ رأسا ، وإما خلوّها عن اللفظ الخاص المأثور عن الشارع. فإذا أنشئت بلفظ كنائي أو مجازي وكانت القرينة مقالية سابقه على الإنشاء ، أو مقامية مقارنة له لم تصحّ ، لانتفاء الدلالة الوضعية. وأمّا إذا أنشئت بلفظ الأمر فلا إجماع على عدم تأثيره في اللزوم.


وقد عرفت أنّ القبول على وجه طلب البيع قد صرّح في المبسوط بصحته (١) ، بل يظهر منه عدم الخلاف فيه بيننا (٢) ، وحكي عن الكامل أيضا ، فتأمّل (٣).

وإن كان (٤) التقديم بلفظ : «اشتريت أو ابتعت أو تملّكت أو ملكت هذا بكذا» فالأقوى جوازه ، لأنّه إنشاء ملكيته للمبيع بإزاء ماله عوضا ، ففي الحقيقة

______________________________________________________

(١) يعني : فيفيد الملك ، ولا إجماع على عدم لزومه ، فالأصل يقتضي لزومه.

(٢) حيث قال في عبارته المنقولة في المتن : «صحّ عندنا».

(٣) لعلّه إشارة إلى ما تقدم من موهونيّة دعوى الشيخ لنفي الخلاف بمصير الأكثر إلى خلافه حتّى هو قدس‌سره في بيع المبسوط.

(٤) معطوف على ما تقدم في (ص ٤٣٩) من قوله : «فان كان بلفظ قبلت» وغرضه قدس‌سره الاستدلال على جواز تقديم ثالث أقسام ألفاظ القبول على الإيجاب. وتوضيح ما أفاده : أنّه لا يعتبر في صدق العقد والمعاوضة عرفا المطاوعة لإنشاء الغير ، ضرورة أنّ العقد متقوم بالتزامين مرتبطين مبرزين ، ومن المعلوم حصول إبرازهما بلفظ «ملكت» قبولا و «بعت» إيجابا ، لأنّ معنى «ملكت» و «اشتريت» إنشاء ملكية المبيع بإزاء ماله عوضا ، فالمشتري ينشئ المعاوضة حقيقة كالبائع ، غاية الأمر أن البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه ، والمشتري ينشئ تملّك مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله ، فكل منهما يخرج ماله إلى ملك صاحبه ، ويدخل مال صاحبه في ملك نفسه.

إلّا أنّ بين الإدخالين فرقا ، فالإدخال في الإيجاب مفهوم من ذكر العوض ، لأنّ دخول الثمن في ملك البائع يفهم من قول البائع : «بكذا» بعد قوله : «بعت» حيث إنّ «بعت» يدلّ على خروج المال عن ملك البائع ، وذكر العوض يدلّ على دخول الثمن في ملكه بإزاء المبيع. والإدخال في القبول يفهم من نفس لفظ «ملكت» فإنّ معناه تملّك المبيع بإزاء الثمن ، فالمشتري ينشئ بمثل «ملكت ، تملّكت ، اشتريت» دخول مال البائع


كلّ منهما يخرج ماله إلى صاحبه ويدخل مال صاحبه في ملكه ، إلّا (١) أنّ الإدخال في الإيجاب مفهوم من ذكر العوض (٢) ، وفي القبول مفهوم من نفس الفعل (٣) ، والإخراج بالعكس (٤). وحينئذ (٥) فليس في حقيقة الاشتراء من حيث

______________________________________________________

في ملكه ، والبائع ينشئ بقوله : «بعت» خروج المبيع عن ملكه ، وبذكر العوض يتملّك الثمن بإزائه.

والحاصل : أنّ الإدخال في الإيجاب يفهم من ذكر العوض ، وفي القبول من نفس لفظ «تملكت». والإخراج بالعكس ، لأنّه في الإيجاب يكون بنفس اللفظ الذي ينشأ به الإيجاب ، فإنّ معنى «بعت» : أخرجت المبيع عن ملكي. والإخراج في القبول يكون بذكر العوض. فإذا قدّم المشتري القبول ، وقال : «اشتريت هذا الكتاب بدينار» فدلالته على إخراج الدينار عن ملكه تكون بذكر العوض وهو الدينار.

وبالجملة : فما هو المعتبر في القبول من أمرين ـ أحدهما الرّضا بالإيجاب ، والثاني نقل الثمن في حال القبول ـ متحقق في هذا القسم الثالث. أمّا الرّضا فواضح. وأمّا نقل الثمن فلأنّه ينشئ ملكيّته للمبيع بإزاء ماله عوضا. ولا يعتبر في القبول ما عدا هذين الأمرين كالمطاوعة ، إذ لا دليل على اعتبارها في مفهوم القبول.

(١) هذا بيان الفارق بين الإدخالين والإخراجين ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «الّا أنّ بين الإدخالين فرقا .. إلخ».

(٢) يعني من قوله : «بدينار» لا من نفس قوله : «بعت».

(٣) أي : نفس اللفظ ، فإنّ قول القابل : «قبلت» مثلا يدلّ على إدخال المبيع في ملكه ، وإخراج الثمن عن ملكه ، و «بعت» يدلّ على الإخراج عن الملك ، وذكر العوض يدلّ على الإدخال أي إدخال الثمن في ملكه.

(٤) يعني : إخراج الإيجاب يستفاد من نفس «بعت» وإخراج القبول يفهم من ذكر العوض.

(٥) يعني : وحين دلالة «اشتريت» على تمليك القابل ماله للموجب بعنوان


هو (١) معنى القبول (٢).

لكنه (٣) لمّا كان الغالب وقوعه عقيب الإيجاب ، وإنشاء انتقال مال البائع إلى نفسه إذا وقع عقيب نقله إليه يوجب (٤) تحقق المطاوعة ومفهوم القبول

______________________________________________________

العوضية في حال الإنشاء فليس .. إلخ».

(١) يعني : في نفسه مع الغضّ عن وقوعه عقيب الإيجاب.

(٢) حتّى يلزم تأخّره عن الإيجاب من حيث كونه قبولا ، كما لزم تأخّر لفظ «قبلت» عن الإيجاب.

(٣) هذا دفع دخل يرد على قوله : «فليس في حقيقة الاشتراء معنى القبول» وحاصل الدخل هو : أنّ الاشتراء إن كان دالا على إدخال مال الغير في ملكه وإخراج مال نفسه إلى ملك الموجب كان كالإيجاب الذي هو إخراج وإدخال ، ولم يبق وجه لعدّ «اشتريت» من ألفاظ القبول الذي يفهم منه مطاوعة فعل الغير ، ومن المعلوم اعتبار سبق فعل حتى يمكن مطاوعته.

وعليه فيكون وزان «اشتريت» وزان «قبلت» في اعتبار تأخره عن الإيجاب ، إذ القبول إمضاء فعل الغير.

وقد دفعه المصنف بما حاصله : أنّ تسمية «اشتريت» قبولا ليس لأجل اتحاده مفهوما مع «قبلت» حتى يمتنع تقدّمه على الإيجاب ، بل لأجل أنّ الغالب من العقود والبيوع الخارجية ينشأ فيها الإيجاب أوّلا ، ثم يتبعها القبول ، إمّا بلفظ «قبلت أو رضيت أو اشتريت أو ملكت» فيستفاد من كلّ منها المطاوعة والانفعال ، ومن المعلوم أنّ هذه الغلبة الوجودية لا تغيّر مدلول اللفظ ، فالمطاوعة تستفاد من «قبلت اشتريت» لكنّها في «قبلت» مدلول اللفظ ، وفي «اشتريت» مستفادة من القرينة المقامية ، وهي غلبة تأخّر القبول عن الإيجاب.

(٤) خبر قوله : «وإنشاء».


أطلق (١) عليه القبول (٢). وهذا المعنى (٣) مفقود في الإيجاب المتأخر ، لأنّ المشتري إنّما ينقل ماله إلى البائع بالالتزام الحاصل من جعل ماله عوضا ، والبائع إنّما ينشئ انتقال الثمن إليه كذلك ، لا بمدلول الصيغة.

وقد صرّح (٤) في النهاية والمسالك ـ على ما حكي ـ «بأنّ اشتريت ليس قبولا حقيقة (٥) وإنّما هو بدل ، وأنّ الأصل (٦) في القبول قبلت ، لأن القبول في الحقيقة ما لا يمكن الابتداء به ، ولفظ اشتريت يجوز الابتداء به» (١).

______________________________________________________

(١) جواب «لمّا كان» وضميرا «وقوعه ، عليه» راجعان إلى الاشتراء.

(٢) فإطلاق القبول ودلالته على المطاوعة إنّما تكون بقرينة المقام ، وهو وقوعه عقيب الإيجاب غالبا. ولا يرد عليه ما في بعض الحواشي من : أنّه إذا لم يدلّ بنفسه على المطاوعة فكيف يدلّ عليها إذا وقع عقيب الإيجاب؟

(٣) يعني : تحقق المطاوعة ومفهوم القبول بسبب التأخّر مفقود في الإيجاب المتأخّر ، لفقد ما يوجبه وهو إنشاء البائع انتقال الثمن إلى نفسه بالمدلول المطابقي للصيغة ، لأنّ الانتقال يكون بالمدلول الالتزامي. كما أنّ نقل المشتري إيّاه إلى البائع ـ وإن تقدّم ـ إنّما هو بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقية.

(٤) غرضه من الاستشهاد بكلام النهاية والمسالك هو : أنّ «اشتريت» ليس من ألفاظ القبول بالأصالة ، إذ القبول يعتبر فيه الرّضا بإيجاب الغير ومطاوعته له ، لكونه مبنيّا عليه ، وحيث إنّ «اشتريت» لا يدلّ على هذه الخصوصية لم يكن أصلا في القبول ، بل بدلا عن «قبلت» و «رضيت».

(٥) لعدم كون دلالته على القبول بالمطابقة ، بل لقرينة مقاميّة ، وهي وقوعه عقيب الإيجاب.

(٦) بمعنى كون ما يدلّ على الإنشاء الذي لا يجوز الابتداء به ـ لتفرّعه على إنشاء آخر ـ هو لفظ القبول ، لأنّه وضع للإنشاء المسبوق بإنشاء آخر ، بخلاف لفظ

__________________

(١) : نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٨ ، مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤.


ومرادهما أنّه بنفسه لا يكون قبولا ، فلا ينافي ما ذكرنا من تحقق مفهوم القبول فيه إذا وقع عقيب تمليك البائع. كما أنّ «رضيت بالبيع» ليس فيه إنشاء لنقل ماله إلى البائع إلّا إذا وقع متأخّرا ، ولذا منعنا عن تقديمه. فكلّ من «رضيت واشتريت» بالنسبة إلى إفادة نقل المال ومطاوعة البيع عند التقدّم والتأخر متعاكسان (١).

فإن قلت (٢) : إنّ الإجماع على اعتبار القبول في العقد يوجب تأخير قوله : «اشتريت» حتّى يقع قبولا ، لأنّ إنشاء مالكية مال الغير إذا وقع عقيب تمليك الغير له يتحقق فيه معنى الانتقال وقبول الأثر ، فيكون «اشتريت»

______________________________________________________

«اشتريت» مثلا ، لأنّه مما يمكن الإنشاء به بدون سبق إنشاء عليه ، فيسقط بهذا ما عن بعض : من أنّا لا نفهم معنى لكون الأصل في القبول «قبلت».

(١) توضيحه : أنّ «رضيت» يفيد المطاوعة التي بها يكون إنشاء لنقل ماله إلى البائع ، ولأجل تأخّر المطاوعة امتنع تقدّم «رضيت» على الإيجاب ، فإنشاء النقل مترتب على المطاوعة. بخلاف «اشتريت» فإنّه لا يدلّ على المطاوعة إلّا إذا تأخّر عن الإيجاب ، لكنّه يدلّ على إنشاء نقل ماله.

وبالجملة : «رضيت» يدلّ على المطاوعة ، ولا يدلّ بنفسه على إنشاء النقل إلّا إذا تأخّر ، و «اشتريت» يدلّ على إنشاء النقل ، ولا يدلّ على المطاوعة إلّا إذا تأخّر ، فهما في إفادة المطاوعة والنقل متعاكسان.

(٢) هذا إشكال على ما قوّاه من جواز تقديم القبول إذا كان بلفظ «اشتريت» ونحوه. ومحصّل الإشكال : خلوّ عقد البيع عن القبول ، وانحصار الإنشاء في الإيجاب.

وتوضيحه : أنّ الإجماع على اعتبار القبول يوجب تأخيره عن الإيجاب حتى يقع قبولا ، فدلالة «اشتريت» على القبول إنّما تكون بسبب تأخيره ، وإلّا كان إيجابا لا قبولا ، إذ إنشاء التملّك لا يجعله قبولا إلّا إذا وقع عقيب تمليك الغير.

والشاهد على أعمية إنشاء التملّك من القبول العقدي هو صحة تملك الملتقط للقطة ، وكذا صحة تملّك الحائز ـ للمباحات الأصليّة ـ بالحيازة ، مع أنّه لا تمليك من


متأخّرا (١) التزاما بالأثر عقيب إنشاء التأثير من البائع ، بخلاف ما لو تقدّم ، فإنّ مجرّد إنشاء المالكية لمال لا يوجب تحقق مفهوم القبول ، كما لو نوى تملك المباحات أو اللقطة ، فإنّه لا قبول فيه رأسا.

قلت (٢) : المسلّم من الإجماع هو اعتبار القبول من المشتري بالمعنى الشامل للرّضا بالإيجاب. وأمّا وجوب تحقق مفهوم القبول المتضمن للمطاوعة وقبول الأثر فلا.

فقد تبيّن من جميع ذلك (٣) : أنّ إنشاء القبول لا بدّ أن يكون جامعا لتضمن

______________________________________________________

طرف آخر حتى يقبله الملتقط والحائز ، بل هو تملّك ابتدائي.

وعلى هذا فدلالة «اشتريت» على القبول منوطة بتأخره عن الإيجاب ، إذ تقدّمه لا يلازم التملك القبولي. وحيث إنّ «بعت» المتأخر عنه إيجاب العقد ، فيلزم قيام البيع بإيجابين وخلوّه عن القبول ، ومن المعلوم تقوّم العقود بركنين ، إذ هو الفارق بينها وبين الإيقاعات القائمة بإنشاء واحد. ولا مفرّ من هذا المحذور إلّا إنكار تقدم القبول ولو كان بلفظ «اشتريت ، تملكت ، ملكت ، ابتعت».

(١) حال من «اشتريت» وقوله : «التزاما» خبر «فيكون».

(٢) هذا جواب الإشكال المزبور ، ومحصّله : أنّ المتيقن من الإجماع هو الرّضا بالإيجاب ، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك في القبول كالمطاوعة وغيرها.

(٣) الظاهر أنّ المشار إليه هو ما أفاده في «قلت : المسلّم من الإجماع هو اعتبار القبول .. إلخ».

ومحصله : أن القبول العقدي متقوم بأمرين ، أحدهما : الرضا بالإيجاب ، والآخر : الدلالة على إنشاء نقل العوض إلى الموجب ، وهذان متحققان في القبول المتقدّم على الإيجاب ، إذا كان بلفظ «اشتريت» وأخواته.

ولا يعتبر في القبول أمر ثالث وهو المطاوعة الحقيقية للإيجاب ، ولا إنشاء التأثر من تأثير البائع وتمليكه ، إذ لو كان هذا دخيلا في القبول امتنع تقديمه في جميع ألفاظه.


إنشاء النقل ، وللرّضا بإنشاء البائع ، تقدّم أو تأخّر ، ولا يعتبر (١) إنشاء انفعال نقل البائع.

فقد تحصّل مما ذكرناه (٢) صحة تقديم القبول إذا كان بلفظ «اشتريت» وفاقا لمن عرفت (٣).

بل (٤) هو ظاهر إطلاق الشيخ في الخلاف (١) ، حيث إنّه لم يتعرّض إلّا للمنع

______________________________________________________

(١) حتى يجب تأخيره عن الإيجاب ، تحقيقا لمعنى المطاوعة والانفعال والتأثر.

(٢) يعني : مما أفاده من أوّل القسم الثالث إلى هنا ، حيث قال : «وإن كان التقديم بلفظ اشتريت .. إلخ». ومقصوده قدس‌سره إثبات أنّ جواز تقديم القبول بلفظ مثل «اشتريت» وإن كان مقتضى الدليل والصناعة ، إلّا أنّه لم يتفرّد به حتى يستوحش من المصير إليه ، بل ذهب جمع من أعيان الفقه إلى جوازه ، كما سيأتي ذكرهم.

(٣) بقوله في أوائل هذه المسألة : «وأمّا في باب النكاح ـ من المبسوط ـ فكلامه صريح في جواز التقديم ـ أي تقديم قبول البيع على إيجابه ـ كالمحقق رحمه‌الله في الشرائع ، والعلّامة في التحرير ، والشهيدين في بعض كتبهما وجماعة ممّن تأخّر عنهما» راجع (ص ٤٣٦).

(٤) أي : جواز تقديم القبول على الإيجاب ظاهر إطلاق شيخ الطائفة في كتاب الخلاف ، حيث إنّه ـ مع كونه في مقام بيان شرائط الصحة ـ لم يمنع إلّا عن الانعقاد بالاستيجاب والإيجاب مثل «بعني ، فيقول بعتك» ومن المعلوم عدم الملازمة بين المنع عن الاستيجاب والإيجاب ، وبين المنع عن تقديم مثل «اشتريت». وجه عدم الملازمة قصور «بعني» عن الدلالة على القبول المعتبر في العقد من جهة عدم دلالة الأمر على الرضا الفعلي بالإيجاب حتى يملّك القابل ماله بعنوان العوضية للموجب. وهذا بخلاف «اشتريت» وأخواته المتكفلة لهذه الجهة.

__________________

(١) : الخلاف ، ج ٣ ، ص ٣٩ ـ ٤٠ ، المسألة ٥٦


عن الانعقاد بالاستيجاب والإيجاب. وقد عرفت (١) عدم الملازمة بين المنع عنه والمنع عن تقديم مثل «اشتريت».

وكذا السيد في الغنية (١) ، حيث أطلق اعتبار الإيجاب والقبول. واحترز بذلك عن انعقاده بالمعاطاة وبالاستيجاب والإيجاب (٢).

وكذا ظاهر إطلاق الحلبي في الكافي (٢) ، حيث لم يذكر تقديم الإيجاب من شروط الانعقاد (٣).

والحاصل : أنّ المصرّح بذلك (٤) ـ فيما وجدت من القدماء ـ الحلّي

______________________________________________________

(١) لعل مراده قدس‌سره ما تقدّم تارة بقوله : «لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرّضا بها ، لكن لم يتحقق بمجرّد الرّضا بالمعاوضة المستقبلة نقل في الحال ..» وأخرى بقوله : «إلّا أن المحقق مع تصريحه في البيع بعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب صرّح بجواز تقديم القبول على الإيجاب».

والتصريح بجواز تقديم «اشتريت» وإن لم يذكر في العبارتين ، إلّا إنّ القدر المتيقّن من جواز تقديم القبول على الإيجاب ـ عند الكل ـ هو «اشتريت» وأخواته ، دون «قبلت ورضيت».

(٢) فيستفاد من إطلاق اعتبار الإيجاب والقبول في عقد البيع شرطيتهما المطلقة سواء تقدم الإيجاب أم تأخّر.

(٣) لقوله : «واشترطنا الإيجاب والقبول ، لخروجه من دونهما عن حكم البيع» ولم يشترط تقدم الإيجاب على القبول.

(٤) أي : المنع عن تقديم القبول على الإيجاب.

__________________

(١) : غنية النزوع في الفروع والأصول (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٥٢٤ ، وقد تقدم كلام السيد في ص ٤٥٢

(٢) الكافي في الفقه ، ص ٢٥٢


وابن حمزة (١) (١).

فمن التعجب بعد ذلك (٢) حكاية الإجماع عن الخلاف (٢) على تقديم الإيجاب مع (٣) أنّه لم يزد على الاستدلال لعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب «بأنّ (٤) ما عداه مجمع على صحته وليس على صحته دليل» ولعمري أنّ مثل هذا ممّا يوهن الاعتماد على الإجماع المنقول.

وقد نبّهنا على أمثال ذلك (٥) في مواردها (٦).

______________________________________________________

(١) قال الأوّل : «فإن كان القبول متقدما على الإيجاب فالبيع غير صحيح». وقال الثاني في عداد شروط صيغة البيع : «والثامن من تقديم الإيجاب على القبول».

(٢) يعني : بعد موافقة جمع ، وإطلاق الشيخ في الخلاف ، وإطلاق السيد والحلبي ، فإنّه بعد هذه الموافقة تكون دعوى الإجماع على اعتبار تقديم الإيجاب على القبول بعيدة جدّا.

(٣) غرضه تضعيف الإجماع بما حاصله : أنّه لا دلالة في كلامه على دعوى الإجماع على ذلك ، لأنّ مفاده دعوى الإجماع على صحة العقد بغير الاستيجاب والإيجاب ، وأين هذا من دعوى الإجماع على اعتبار تقديم الإيجاب؟ والمجدي إنّما يكون هذه الدعوى ، وهي مما لا يدلّ عليه كلام الخلاف.

(٤) متعلق بالاستدلال ، يعني : استدلّ الشيخ بقوله : «انّ ما عداه .. إلخ».

(٥) يعني : أمثال هذا الموهن ، وهو مصير جمع كثير إلى ما يخالف الإجماع ، إذ يستكشف بهذه المخالفة عدم اتفاق الفقهاء على الحكم حتى يحرز به رأي الامام عليه‌السلام.

(٦) كما نبّه في بحث الإجماع المنقول على الإشكال العام في الإجماعات المنقولة ـ بعد توجيه دعاوي الإجماع ونقل كلام المحقق الشوشتري في كشف القناع ـ بما لفظه : «وبالجملة : فالإنصاف بعد التأمّل وترك المسامحة بإبراز المظنون بصورة القطع ـ

__________________

(١) : السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٤٣ ، الوسيلة (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٧٤٠

(٢) قد تقدم في ص ٤٣٣ ، والحاكي هو الشهيد في غاية المراد ، والشهيد الثاني في المسالك.


نعم (١) يشكل الأمر بأنّ المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب ، ولا فرق بين المتعارف هنا وبينه في المسألة الآتية وهو الوصل بين الإيجاب والقبول ، فالحكم (٢) لا يخلو عن شوب الإشكال.

ثم إنّ ما ذكرنا (٣) جار في كلّ قبول يؤدّى بإنشاء مستقل كالإجارة التي

______________________________________________________

كما هو متعارف محصّلي عصرنا ـ أنّ اتفاق من يمكن تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه‌السلام ، كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكلّ من جهة أو من جهات شتّى. فلم يبق في المقام إلّا أن يحصّل المجتهد أمارات أخر من أقوال باقي العلماء وغيرها ، ليضيفها إلى ذلك ، فيحصل من مجموع المحصّل له والمنقول إليه ـ الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا ـ القطع في مرحلة الظاهر باللازم ، وهو قول الامام عليه‌السلام أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليه‌السلام بهذا الحكم الظاهري المضمون لذلك الدليل .. إلخ» (١) ، فراجع.

(١) استدراك على ما قوّاه من جواز تقديم القبول على الإيجاب ، وحاصل الإشكال : أنّ المتعارف من الصيغة لمّا كان تقديم الإيجاب على القبول كان هذا التعارف مقيّدا لإطلاق وجوب الوفاء بالعقود ، كتقييد تعارف الموالاة بين الإيجاب والقبول لإطلاق الأدلة. ولا فرق بين التعارف في المسألتين ، ولا وجه للتفكيك بينهما بأن يكون موجبا لانصراف الإطلاق في مسألة الموالاة ، ولا يكون موجبا له في مسألة تقدم الإيجاب على القبول. ولذا يشكل الحكم بجواز تقديم القبول على الإيجاب وإن كان التقديم مقتضى الصناعة.

(٢) هذه نتيجة الإشكال في تقديم القبول بلفظ «اشتريت». وبهذا تمّ الكلام في المقام الأوّل وهو حكم تقدم القبول على الإيجاب في خصوص عقد البيع. وسيأتي الكلام في المقام الثاني وهو حكم تقدم القبول في سائر العقود.

(٣) من جواز تقديم القبول إذا كان متضمّنا لإنشاء مستقلّ في نفسه ، مثل «اشتريت ، ابتعت» ونحوهما ، وإن لم يكن قبولا بالمعنى الأخصّ ، وهذا شروع في

__________________

(١) : فرائد الأصول ، ص ٦٣ و٦٤ (طبعة رحمة الله)


يؤدّى قبولها بلفظ «تملّكت منك منفعة كذا ، أو ملكت» والنكاح الذي يؤدّي

______________________________________________________

المقام الثاني ، والمستفاد من كلامه تقسيم ألفاظ القبول في سائر العقود إلى أقسام ، وأنّه يجوز تقديمه على الإيجاب في بعضها ، دون بعض. وقبل توضيح الأقسام ينبغي التنبيه على أنّ المصنف قدس‌سره ذكر وجهين في أقسام ألفاظ القبول.

أحدهما : ما أفاده بقوله : «ثم إنّ ما ذكرنا جار في كل قبول .. إلى قوله : وقد عرفت أنّ قبلت ورضيت مع التقديم لا يدل ..».

وثانيهما : ما أفاده بقوله : «فتلخّص مما ذكرنا إلى قوله : فتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني من كلّ من القسمين». ويمكن أن يختلف مفاد الوجهين كما سيأتي ذكره في آخر البحث.

وتوضيح الوجه الأوّل هو : أنّه إمّا أن يكون القبول التزاما بنقل مال أو التعهّد بشي‌ء آخر ـ غير نقل المال ـ بعنوان العوضية ، وإمّا أن يكون مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون أن يتضمّن نقل مال إلى الموجب ، أو التعهّد له بشي‌ء آخر.

والأوّل إمّا أن يكون الالتزام القبولي مغايرا للإيجاب ، أو مماثلا له. والثاني إمّا أن يكون القبول مطاوعة للإيجاب ، وإمّا أن يكون مجرّد الرضا به ، فهذه أقسام أربعة.

أمّا القسم الأوّل فكالقبول في بابي الإجارة والنكاح ، فإن أنشئ قبول الإجارة بلفظ «قبلت ورضيت» تعيّن تأخّره عن الإيجاب ، لما تقدم في تأخّره عنه في البيع. وإن أنشئ بلفظ «ملكت أو تملكت منفعة الدار بكذا» جاز تقديمه ، لدلالته على إنشاء نقل الأجرة بعنوان العوضية للمنفعة ، فيكون نظير إنشاء الشراء بلفظ «اشتريت وتملّكت».

وكذا الحال في قبول النكاح ، فإن أنشئ بلفظ «قبلت» لزم تأخيره. وإن أنشئ بلفظ «نكحت ، تزوّجت» جاز تقديمه على إيجاب الزوجة ، لدلالة «تزوّجت» على التعهد بالزوجية وبأحكامها المترتبة عليها ، سواء تقدّم على الإيجاب أم تأخّر.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو كون القبول التزاما بشي‌ء مماثل للإيجاب ـ


.................................................................................................

______________________________________________________

فكالمصالحة المعوّضة ، كما إذا صالح زيد عمروا على الدار بألف دينار ، فكلّ منهما مصالح ومتصالح ، من جهة إنشائهما التسالم على مبادلة الدار بالألف. وحكمه لزوم تأخير القبول عن الإيجاب ، وذلك لأجل تركّب العقد من إيجاب وقبول. ولمّا كان هذا الصلح قائما بهما على السّوية ـ وليس كالبيع والإجارة ـ توقف تمييز القابل عن الموجب بأن ينشأ القبول بلفظ «قبلت» دون «صالحت» وإلّا يلزم تركّب العقد من إيجابين ، وهو ممنوع ، فلا مناص من إنشاء القبول بلفظ «قبلت» ويلزم تأخيره حينئذ عن الإيجاب ، لما تقدم في البيع.

وأمّا القسم الثالث ـ وهو عدم تكفل القبول للالتزام بنقل شي‌ء إلى الموجب ، وإنّما هو مجرّد الرضا بالإيجاب ـ فإن أنشئ بما لا يتضمن المطاوعة جاز تقديمه على الإيجاب ، كإنشاء قبول الهبة والقرض بلفظ «ملكت» فإنّه يدلّ على الرضا بتمليك الواهب والمقرض ، ولا يفهم منه الانفعال بالإيجاب والمطاوعة له ، فلا مانع من تقديمه.

وكذا الحال في الصلح على إسقاط حقّ أو إسقاط دين ، كما إذا كان زيد مديونا لعمرو بدينار فصالحه عمرو على إبراء ذمته ، فلا مانع من سبق قبول زيد على إيجاب عمرو ، لأنّ قبوله محض الرضا بالإيجاب.

وإن أنشئ بما يدلّ على المطاوعة لزم تأخيره عن الإيجاب ، كما في إنشاء قبول الرّهن والهبة والقرض بلفظ «ارتهنت ، اتهبت ، اقترضت» فإنّ قبول هذه العقود وإن لم يدل على الالتزام بنقل شي‌ء إلى الموجب ، بل هو مجرّد الرّضا بالإيجاب ، لكن يمتنع تقديمه من جهة ظهور الهيئة في الانفعال بالإيجاب والمطاوعة له ، فلا بد من سبق فعل من الموجب حتى يصح الانفعال به.

هذا توضيح القسم الثالث من ألفاظ القبول. وقد ظهر به القسم الرابع أيضا ، لأنّ القبول في عقد واحد كالهبة يختلف حكمه من حيث جواز تقديمه إن لم يدل على


قبوله بلفظ «نكحت وتزوّجت» (١).

وأمّا (٢) ما لا إنشاء في قبوله إلّا «قبلت» أو ما يتضمّنه (٣) ك «ارتهنت» فقد يقال : بجواز تقديم القبول فيه ، إذ لا التزام في قبوله لشي‌ء ، كما كان (٤) في قبول

______________________________________________________

المطاوعة ، وعدم جوازه إن تضمّن المطاوعة.

هذا تقريب ما أفاده المصنف قدس‌سره من أقسام القبول ، وسيأتي تطبيق المتن عليها.

(١) هذا إشارة إلى القسم الأوّل ، ومثاله قبول الإجارة والنكاح إذا كان بلفظ «تملّكت وتزوّجت» لا ما إذا كان بلفظ «قبلت». وحكمه جواز تقديم القبول فيه كجوازه في البيع إذا كان بلفظ «اشتريت». وقد تقدّم توضيحه بقولنا : «أمّا القسم الأوّل فكالقبول في بابي الإجارة والنكاح .. إلخ».

(٢) هذا إشارة إلى قسم آخر من ألفاظ القبول في عدة من العقود ، وهو القبول الذي لا يدلّ على إنشاء مستقل ، لعدم دلالته على التزام بشي‌ء ، على حدّ دلالة «اشتريت» على الالتزام بنقل ماله إلى البائع ، فالمنشأ في هذا القسم الثاني ليس إلّا الرّضا بالإيجاب ، نظير قبول الرّهن والهبة والقرض.

وقد يقال بجواز تقديمه على الإيجاب ، لما مرّ من أن الرّضا كما يجوز تعلّقه بأمر حاليّ كذلك يجوز تعلقه بأمر استقبالي.

لكن المصنف قدس‌سره منع من إطلاق هذا ، وفصّل بين إنشاء القبول بما يدلّ على مجرّد الرّضا بالإيجاب ، وبين ما يدلّ على المطاوعة لإنشاء الغير والانفعال به. وقد تقدّم توضيحه بقولنا : «وأمّا القسم الثالث وهو عدم تكفل القبول للالتزام بنقل شي‌ء للموجب .. إلخ».

(٣) يعني : يتضمّن القبول نفس الرّضا بالإيجاب ، ولا يتضمّن الالتزام بشي‌ء للموجب.

(٤) هذا بيان للمنفي وهو «الالتزام بنقل شي‌ء».


البيع التزام بنقل ماله إلى البائع ، بل لا ينشأ به معنى غير الرّضا بفعل الموجب. وقد تقدّم (١) أنّ الرّضا يجوز تعلّقه بأمر مترقّب كما يجوز تعلقه بأمر محقّق ، فيجوز أن يقول : «رضيت برهنك هذا عندي» فيقول : «رهنت».

والتحقيق (٢) عدم الجواز ، لأنّ اعتبار القبول فيه من جهة تحقق عنوان المرتهن. ولا يخفى (٣) أنه لا يصدق الارتهان على قبول الشخص إلّا بعد تحقق الرّهن ، لأنّ (٤) الإيجاب إنشاء للفعل (*) والقبول إنشاء للانفعال (*).

وكذا (٥) القبول في الهبة والقرض ، فإنّه لا يحصل من إنشاء القبول فيهما التزام بشي‌ء ، وإنّما يحصل به الرّضا بفعل الموجب.

______________________________________________________

(١) حيث قال : «إنّ الرّضا بشي‌ء لا يستلزم تحققه قبله ، فقد يرضى الإنسان بالأمر المستقيل ..» راجع (ص ٤٤٢).

(٢) غرضه عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب في هذا القسم الثاني ، لأنّ القبول إنشاء للانفعال المترتّب على الفعل الذي هو الإيجاب ، فإنّ عنوان «المرتهن ، والمقترض» مثلا لا يتحققان إلّا بعد حصول الإيجاب ، هذا.

وفيه : أنّ عنوان المرتهن يتحقق بالرّضا بحصول الرّهن ، ولا يتوقف على إنشاء القبول بمفهوم يتضمن معنى المطاوعة. وقد تقدم منه قدس‌سره عدم نهوض دليل على اعتبار إنشاء القبول بمفهوم متضمّن لمعنى المطاوعة.

(٣) يعني : ومن المعلوم أنّ «الارتهان» يكون على هيئة «الافتعال» الذي أشرب فيه مطاوعة فعل الغير.

(٤) تعليل لقوله : «لا يصدق إلّا بعد تحقق الرّهن» ومحصله : أنّ إنشاء الرّهن إنشاء للفعل ، وقبول الرهن إنشاء لمطاوعة فعل الراهن.

(٥) يعني : أنّ القبول في عقدي الهبة والقرض يكون كقبول الرّهن في أنّهما من حيث عدم تضمّنهما إنشاء نقل مال إلى الموجب ـ ينبغي جواز تقديمهما على الإيجاب ، لكن مانع تقديم «ارتهنت» وهو المطاوعة مانع عن تقديم «اتهبت واقترضت».


ونحوها (١) قبول المصالحة المتضمنة للإسقاط والتمليك بغير عوض.

وأمّا المصالحة (٢) المشتملة على المعاوضة فلمّا كان ابتداء الالتزام بها

______________________________________________________

(١) يعني : ونحو القبول في الهبة والرّهن والقرض قبول الصلح المتضمّن لإسقاط ما في الذمة ، أو حقّ ، أو المتضمن للتمليك بغير عوض ، إذ ليس في قبولها التزام بشي‌ء ، بل ليس إلّا الرّضا بالإيجاب ، فيجوز تقديم القبول فيها على الإيجاب.

(٢) محصّله : إبداء الفرق بين المصالحة المتضمنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض ، وبين المصالحة المشتملة على المعاوضة. وحاصل الفرق بينهما هو : أنّ الالتزام القبولي ليس مغايرا للالتزام الإيجابي ، فالبادي منهما لا محالة يتصف بالإيجاب ، لصدق الإيجاب ـ وهو إنشاء التسالم ـ لغة وعرفا عليه ، فلو كان الإنشاء التسالمي المتأخر مثله لتركّب العقد من إيجابين. والإجماع قام على توقف العقد على القبول ، فلا بدّ من إنشاء القبول بلفظ القبول ونحوه ممّا يفيده حتى يتألف العقد من إيجاب وقبول ، ومن المعلوم اعتبار تأخّر لفظ «قبلت» عن الإيجاب.

وبعبارة أخرى : انّ هنا أمرين يقتضيان إنشاء قبول المصالحة المعوّضة بلفظ «قبلت» ويتعيّن تأخّره عن الإيجاب.

الأوّل : أنّه يجوز لكل واحد من المتصالحين الابتداء بإنشاء الصلح ، فكلّ مصالح ومتصالح. ووجهه : استواء نسبة عنوان «الصلح» إليهما. وليست المصالحة كالبيع في كون أحد طرفي المعاملة بائعا وموجبا ، والآخر قابلا ومشتريا ، فإذا أرادا المصالحة على الكتاب بدينار جاز لكلّ منهما إنشاء المعاملة ، ولا يتعيّن الإيجاب من مالك الكتاب كما كان في البيع.

الثاني : أنّ الإجماع انعقد على توقف عنوان العقد على إيجاب أحد الطرفين وقبول الآخر له ، ولا يحصل عقد بإيجابين وإن كانا مرتبطين.

ونتيجة هذين الأمرين : أنّه يتعيّن إنشاء قبول الصلح بلفظ «قبلت» إذ لو أنشأ كلّ منهما بلفظ «صالحت» ـ بمقتضى جوازه لهما ـ لزم خلوّ عقد الصلح من قبول ،


جائزا من الطرفين وكان نسبتها إليهما على وجه سواء ، وليس الالتزام الحاصل من أحدهما أمرا مغايرا للالتزام الحاصل من الآخر ـ كان (١) البادي منهما موجبا ، لصدق الموجب عليه (٢) لغة وعرفا. ثمّ لما انعقد الإجماع (*) على توقف العقد على القبول (٣) لزم أن يكون الالتزام الحاصل من الآخر بلفظ القبول ، إذ لو قال أيضا : «صالحتك» كان إيجابا آخر ، فيلزم تركّب العقد من إيجابين (٤). وتحقّق من جميع ذلك (٥) : أنّ تقديم القبول في الصلح أيضا (٦) غير جائز ، إذ لا قبول فيه بغير لفظ : «قبلت ورضيت» وقد عرفت (٧) أنّ «قبلت ورضيت»

______________________________________________________

وتركّبه من إيجابين ، وهو ممنوع. وحيث إنّ لفظ «قبلت» مما يلزم تأخّره عن الإيجاب ـ لأنّه ليس مطلق الرّضا بالإيجاب ، بل هو الرّضا المتضمن للنقل في الحال إلى الموجب ـ تعيّن تأخره عن إيجاب الصلح.

(١) جواب قوله : «فلمّا كان ..» وقد عرفت وجه تعيّن البادي بالإنشاء في الإيجاب ، والمتأخر في القبول.

(٢) أي : صدق الموجب على البادي. ووجهه تصدّيه لإنشاء عنوان الصلح بقوله : «صالحتك» فهو المصالح بحسب اللغة ، لتلبسه بالعنوان ، وكذا بحسب العرف.

(٣) يعني : فلا يجوز إنشاء قبول الصلح مقدّما على الإيجاب ، لعدم دلالته على نقل العوض في الحال ، مع أنّه لا بد في القبول من دلالته عليه.

(٤) ومن المعلوم عدم كون الإيجابين المنضم أحدهما إلى الآخر عقدا.

(٥) المشار إليه قوله : «وأمّا المصالحة المشتملة على المعاوضة» إلى قوله : «فيلزم تركّب العقد من إيجابين».

(٦) يعني : كما لا يجوز في كل عقد معاوضي ينشأ قبوله بلفظ «قبلت ورضيت».

(٧) يعني قبوله : «لأنّ المشتري ناقل كالبائع ، وهذا لا يتحقق إلّا مع تأخّر

__________________

(١) لا يخفى أنّه قد تقدم منه قدس‌سره قريبا كون المتيقن من الإجماع هو اعتبار القبول بالمعنى الشامل للرّضا بالإيجاب ، ومن المعلوم حصول هذا بلفظ «صالحتك» أيضا.


مع التقديم لا يدلّ على إنشاء لنقل العوض في الحال.

فتلخص ممّا ذكرنا (١) : أنّ القبول في العقود على أقسام ، لأنّه إمّا أن يكون التزاما بشي‌ء من القابل كنقل مال عنه ، أو زوجيّة ، وإمّا أن لا يكون فيه سوى الرّضا بالإيجاب.

والأوّل (٢) على قسمين ، لأنّ الالتزام الحاصل من القابل إمّا أن يكون نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة ، أو متغايرا كالاشتراء.

والثاني (٣) أيضا على قسمين ، لأنّه إمّا أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان (٤) والاتّهاب والاقتراض ، وإمّا أن لا يثبت فيه اعتبار أزيد من

______________________________________________________

الرّضا عن الإيجاب ، إذ مع تقدمه لا يتحقق النقل في الحال ..» راجع (ص ٤٤٣).

(١) يعني : ممّا ذكرناه من قولنا : «والتحقيق أنّ القبول إمّا أن يكون بلفظ قبلت .. إلخ» وهذا التلخيص وجه ثان لبيان أقسام ألفاظ القبول في جميع العقود ، سواء أكانت عهدية ـ معاوضية وغير معاوضية ـ أم إذنية.

ومحصّل هذا التفصيل : أنّ القبول على أربعة أقسام ، لأنّه إمّا التزام يغاير الالتزام الإيجابي كما في الشراء والإجارة والنكاح ، وإمّا موافق له كالصلح المعاوضي ، وإمّا رضا بالإيجاب مع المطاوعة ، أو بدونها.

(٢) وهو ما يكون القبول فيه التزاما بشي‌ء من القابل ، في قبال التزام الموجب.

(٣) وهو ما يكون القبول فيه مجرّد الرّضا بالإيجاب.

(٤) لا يخفى أنّ المصنف قدس‌سره فرّق في الوجه الأوّل بين الرّهن وبين الهبة والقرض ، حيث حكم بتأخير قبول الرهن من جهة اعتبار المطاوعة في «ارتهنت وقبلت» ولكن مقتضى تعليله في الهبة والقرض بأنّه «لا يحصل من إنشاء القبول منهما التزام بشي‌ء ، وإنّما يحصل به الرّضا بفعل الموجب» وكذا تنظير الصلح على الإبراء ـ أو التمليك بغير عوض ـ بالهبة هو جواز تقديم قبول الهبة والقرض على الإيجاب ، وحينئذ يختلف الوجهان المذكوران في حصر ألفاظ قبول العقود ، فمقتضى


الرّضا بالإيجاب كالوكالة والعارية وشبههما (١) ، فتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني (٢) من كلّ من القسمين (٣).

______________________________________________________

الوجه الأوّل جواز تقديم القبول في الهبة والقرض. ومقتضى الوجه الثاني لزوم تأخير قبولهما ، هذا.

أقول : لا يبعد أن يكون مقصود المصنف قدس‌سره من تجويز تقديم القبول في الهبة والقرض في الوجه الأوّل هو إنشاء قبولهما بغير لفظ «اتهبت واقترضت» كما إذا أنشأ المتهب والمقترض ب «ملكت وتملكت» فإنّه لا مانع من تقديم هذا القبول ، لأنّه مجرّد الرّضا بالإيجاب ، بلا دلالة على المطاوعة.

ومقصوده قدس‌سره في الوجه الثاني من امتناع تقديم قبول الهبة والقرض هو إنشاؤه بما يدلّ على المطاوعة ، كقول المتهب والمقترض «اتهبت ، اقترضت» فإنّه من جهة ظهوره في الانفعال بالإيجاب يتعيّن تأخّره عنه كتأخر «قبلت».

وبهذا لا يبقى منافاة بين الوجهين ، وإن كان الوجه الثاني أوفى بيانا لأقسام قبول العقود ، ولذا تعرّض فيه لتقديم قبول العقود الإذنية كالوكالة ، ولم يتعرض له في الوجه الأوّل.

(١) كالوديعة من العقود الجائزة.

(٢) وهو ما أشار إليه بقوله : «أو متغايرا كالاشتراء» وحاصله : كون الالتزام القبولي مغايرا للالتزام الإيجابي ، فإنّ الالتزام الإيجابي البيعيّ في اعتبار العرف هو نقل المال على أن يكون معوّضا عن مال الغير ، والالتزام الشرائي في اعتبارهم هو نقل ماله على أن يكون عوضا عن مال الغير.

(٣) قد عرفت الوجه الثاني من وجهي القسم الأوّل. وأمّا الوجه الثاني من وجهي القسم الثاني فهو كون القبول مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون اعتبار المطاوعة فيه. وقد أشار إليه بقوله : «وإمّا إن لا يثبت فيه اعتبار أزيد من الرضا بالإيجاب .. إلخ».


ثم (١) إنّ مغايرة الالتزام في قبول البيع لالتزام إيجابه اعتبار عرفيّ ، فكلّ من التزم بنقل ماله على وجه العوضية لمال آخر يسمّى مشتريا ، وكلّ من نقل ماله على أن يكون عوضه مالا من آخر يسمّى بائعا.

وبعبارة أخرى : كلّ من ملّك ماله غيره بعوض فهو البائع ، وكلّ من ملك (٢) مال غيره بعوض ماله فهو المشتري ، وإلّا (٣) فكلّ منهما في الحقيقية يملّك ماله غيره بإزاء مال غيره ، ويملك مال غيره بإزاء ماله.

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره من هذه العبارة إلى آخر البحث ـ بعد تقسيم العقود بلحاظ جواز تقديم القبول على الإيجاب ـ هو تمييز البائع عن المشتري حتى يظهر أنّ قبول البيع إن كان بلفظ «قبلت» لم يصح تقديمه ، وإن كان بلفظ «اشتريت» جاز تقديمه. وهذا المطلب قد سبق بيانه في موضعين ، أحدهما : في ثالث تنبيهات المعاطاة ، والآخر في هذا المبحث في جواز تقديم «اشتريت» على الإيجاب ، حيث قال : «لأنّه ـ أي القبول ـ إنشاء ملكيّته للمبيع بإزاء ماله عوضا ، ففي الحقيقة إنشاء المعاوضة كالبائع ، إلّا أنّ البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه ، والمشتري ينشئ ملكية مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله .. إلخ».

وعلى هذا فحاصل ما أفاده هنا هو : أنّ الالتزام بالنقل والتمليك متحقق في كلّ من الإيجاب والقبول ، فلا فرق بحسب الدّقة بينهما ، ولكن الفارق بينهما في مقام الإثبات موكول الى العرف ، فمن التزم بنقل ماله إلى الغير على أن يكون عوضا عمّا ملّكه الغير سمّي مشتريا ، ومن التزم بنقل ماله على أن يكون عوضه مال الآخر سمّي بائعا.

(٢) أي : تملّك مال الغير بعوض مال نفسه.

(٣) أي : مع الغضّ عن الاعتبار العرفي يصدق عنوان «البائع والمشتري» على كلّ واحد منهما ، لأنّ البيع «مبادلة مال بمال» والشراء هو «ترك شي‌ء وأخذ آخر» ومن المعلوم انطباق التعريفين على كلا المتبايعين.


 

______________________________________________________

هذا تمام الكلام في توضيح كلمات المصنف قدس‌سره في بحث تقديم الإيجاب على القبول (*).

__________________

(*) لا يخفى أنّ البحث في هذه المسألة يقع في مقامين :

الأوّل : في الاحتمالات والأقوال المتطرقة فيها.

والثاني : فيما ينبغي المصير إليه والاعتماد عليه.

أمّا المقام الأوّل : فنخبة الكلام فيه : أنّ في المسألة احتمالات خمسة ، بل أقوالا كذلك.

الاحتمال الأوّل : وهو الأشهر ـ كما في المختلف ـ لزوم تقديم الإيجاب على القبول مطلقا. وفي التذكرة في شرائط الصيغة : «تقديم الإيجاب على الأقوى» ونحوه ما في الإيضاح وعن التنقيح. وفي جامع المقاصد وعن صيغ عقوده : «والأصح الاشتراط» (١).

وعن تعليقه على الإرشاد : «انه الأظهر» بل في غاية المراد والمسالك «ادّعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع» (٢) وفي النسبة منع كما في مفتاح الكرامة.

وكيف كان فالدليل على هذا القول أمور ثلاثة ، وهي بين دليل عقلي ونقلي.

أحدها : أصالة عدم ترتب الأثر بدون تقديم الإيجاب على القبول ، بعد البناء على اختصاص عموم أدلة الصحة بهذه الصورة ، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى إذ لا منشأ لهذا الاختصاص إلّا غلبة تقدّم الإيجاب على القبول ، وهي لا تصلح للتخصيص ، والانصراف المسبّب عنها أيضا لا ينهض لتخصيص العمومات. وتمسّك الأصحاب بتلك العمومات في دفع ما يشك في اعتباره في العقد أقوى شاهد على عدم سقوط عمومها ـ بالانصراف ـ عن الاعتبار.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٦٠

(٢) غاية المراد ، ص ٨١ ، مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٣


.................................................................................................

__________________

الثاني : دلالة العقل على كون القبول فرع الإيجاب ، والفرع لا يتقدّم على الأصل ، وإلّا يلزم الخلاف ، هذا. وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.

الثالث : الإجماع الذي حكاه الشهيدان قدس‌سرهما في غاية المراد والمسالك عن الشيخ في الخلاف.

لكن فيه أوّلا : أنّ إرادة الإجماع المصطلح من عبارة الخلاف مشكلة ، لظهورها في إرادة القدر المتيقن ، كتيقّن الطهارة مع الامتزاج في تطهير المياه. وتيقّن صحة الصلاة مع التسبيحات الأربع ثلاث مرات ، فإنّ التيقن في مقام تحصيل العلم بالصحة غير الإجماع على اعتبار ما شكّ في اعتباره ، كما لا يخفى.

إلّا أنّ الإنصاف ظهور كلام الشيخ في الإجماع لا في القدر المتيقّن ، وذلك بقرينة قوله : «ان ما اعتبرناه مجمع» كما ذكرناه في التوضيح في (ص ٤٣٤).

وثانيا : أنّ الإجماع مع اختلاف الفقهاء وتعدّد الأقوال غير حاصل.

وثالثا : ـ بعد تسليم الإجماع ـ أنّه ليس بحجة ، لكونه من الإجماع المنقول كما ثبت في محله.

ورابعا : بعد تسليم حجية المنقول ـ أنّه يكون حجة إذا لم يكن مدركيا ، وفي المقام يحتمل أن يكون مستند المجمعين أصالة الفساد ، أو تفرّع القبول على الإيجاب. ومع هذا الاحتمال لا يكون إجماعا تعبديّا كاشفا قطعيا عن السّنة ، هذا.

الاحتمال الثاني في المسألة : عدم اعتبار التقدّم مطلقا ، وهو خيرة الشيخ في نكاح المبسوط ، والمحقق في الشرائع ، حيث قال فيه : «وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ فيه تردد ، والأشبه عدم الاشتراط» (١). والعلّامة في التحرير ، قال فيه : «والأقرب عدم اشتراط تقديم الإيجاب» (٢). والشهيدين في بعض كتبهما كاللّمعة والرّوضة ، حيث

__________________

(١) : شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٣

(٢) تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ١٦٤


.................................................................................................

__________________

قالا فيهما : «ولا يشترط تقديم الإيجاب على القبول وإن كان تقديمه أحسن» (١).

وقال في الدروس : «ولا ترتيب بين الإيجاب والقبول على الأقرب وفاقا للقاضي رحمه‌الله» (٢).

وجعله الشهيد الثاني في المسالك هو الأقوى (٣).

وفي الكفاية : «وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ الأقرب العدم» (٤).

وفي مجمع البرهان «أنّه الأظهر» (٥).

وقال الشيخ قدس‌سره في نكاح المبسوط : «وأمّا ان تأخّر الإيجاب فسبق القبول ، فإن كان في النكاح صحّ بلا خلاف ، لخبر الساعدي. وإن كان هذا في البيع فقال : بعنيها ، فقال :

بعتكها صحّ عندنا وعند قوم من المخالفين» (٦).

والوجه في هذا القول أمران :

أحدهما : الإطلاقات السليمة عن المقيّد ، وقد عرفت في وجوه القول الأوّل عدم صلاحية تلك الوجوه لتقييد الإطلاقات ، ومن المعلوم صدق البيع والتجارة والعقد على ما تقدّم فيه القبول على الإيجاب ، فتشمله العمومات والإطلاقات ، هذا.

ثانيهما : الروايات الواردة في باب النكاح الدالة على جواز تقديم القبول تارة بلفظ المضارع ، كما في خبر أبان المتقدم المتضمن لقول الرّجل : «أتزوّجك على كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الحديث. وأخرى بصيغة الأمر كما في خبر سهل بن سعد

__________________

(١) : الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤

(٤) كفاية الأحكام ، ص ٨٩

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٤

(٦) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ١٩٤


.................................................................................................

__________________

الساعدي : «انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءت إليه امرأة فقالت : يا رسول الله انّي قد وهبت نفسي لك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا إربة لي في النساء. فقالت : زوّجني بمن شئت من أصحابك ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوّجنيها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل معك شي‌ء تصدقها ، فقال والله ما معي إلّا ردائي هذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أعطيتها إيّاه تبقى ولا رداء لك ، هل معك شي‌ء من القرآن؟ فقال : نعم سورة كذا وكذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زوّجتكها على ما معك من القرآن (١).

بناء على كون القبول فيهما هو قول أبان : «أتزوّجك» وقول ذلك الصحابي : «زوّجنيها» والإيجاب قول المرأة : «نعم» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فصل طويل : «زوّجتكها على ما تحسن» أو «على ما معك من القرآن» وإلّا لا يصحّ الاستدلال بهما كما لا يخفى.

وإشكال اختصاصهما بالنكاح مندفع بأولوية غير النكاح منه ، وبدعوى الجزم بعدم الفرق بين الماضي والمضارع والأمر ، وأنّ كلّ من قال بجواز التقديم في الأمر قال به في الماضي. بخلاف العكس ، لأنّ بعض من قال بالجواز في الماضي قال بالعدم في الأمر ، بل هذا أحد الأقوال في المسألة كما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى.

أقول : العمدة في إثبات القول الثاني ـ أعني به عدم الاشتراط مطلقا ـ هو الوجه الأوّل أي الإطلاقات ، لما تقدم من منع أولوية غير النكاح منه. كما أنّ دعوى الجزم بعدم الفرق بين الماضي وغيره ممنوعة ، إذ لا منشأ لها مع احتمال دخل الخصوصية كما لا يخفى. فالأولى الاقتصار على الوجه الأوّل ، وهو كاف في إثبات المدّعى.

الاحتمال الثالث : في المسألة هو التفصيل بين النكاح وغيره ، بالجواز في الأوّل مطلقا وإن كان بغير الأمر ، والعدم في الثاني وإن كان بالأمر.

ولعلّ وجهه بالنسبة إلى الجواز في النكاح منع الإطلاق في الأدلّة العامة في النكاح وغيره ، لكونها في مقام التشريع ، لا لبيان خصوصيات العقود ، واختصاص دليل الجواز كروايتي أبان وسهل المتقدمتين بالنكاح ، فالمرجع في غيره من سائر العقود

__________________

(١) : عوالي اللئالي ، ج ٣ ، ص ٣١٢ ، الحديث : ١٤٤


.................................................................................................

__________________

أصالة الفساد المقتضية لعدم الجواز.

وأمّا وجه التعميم إلى جميع ألفاظ القبول في النكاح فلعلّه دعوى القطع بأولوية الماضي بالجواز من غيره ، ولا أقلّ من التساوي ، هذا.

وفيه : أمّا بالنسبة إلى الجواز في النكاح فلمنع عدم الإطلاق في الأدلة العامة ، ومقتضاه جواز تقديم القبول على الإيجاب مطلقا ، من دون حاجة إلى التمسّك بدليل خاص كروايتي أبان وسهل المتقدمتين ، حتّى يقال باختصاص جواز تقديم القبول حينئذ بالنكاح ، والعدم في غيره لأصالة الفساد. بل مقتضى الإطلاقات عدم الفرق بين النكاح وغيره.

وأمّا بالنسبة إلى جهة تعميمه إلى جميع ألفاظ القبول في النكاح فلمنع القطع بأولوية الماضي بالجواز من غيره ، بعد احتمال دخل خصوصية المضارع والأمر في النكاح.

الاحتمال الرابع : التفصيل بين كون القبول بصيغة الأمر ، فيجوز مطلقا ، وبين كونه بغيرها ، فلا يجوز مطلقا. ولعلّ وجهه في العقد الإيجابي هو اختصاص دليل الجواز بالأمر ، ويتعدّى عن مورده ـ أعني به النكاح ـ إلى غيره بالأولوية ، فيجوز تقديم القبول بلفظ الأمر في غير النكاح أيضا.

وفي العقد السلبي ـ أعني به عدم الجواز بغير الأمر في النكاح وغيره ـ هو قصور الإطلاقات ، لانصرافها إلى العقود المتعارفة ، فيرجع في غير النكاح ـ الذي هو مورد النص وما يلحق به بالفحوى ـ إلى أصالة الفساد القاضية ببطلان العقد المقدّم قبوله بغير الأمر على إيجابه ، هذا.

وفيه ما لا يخفى ، إذ في الأوّل أوّلا : أنّ دليل النكاح لا يختصّ بالأمر ـ بعد تسليم كون الأمر ، وهو قول الصحابي : «زوّجني» في مقام إنشاء القبول ، لا المقاولة ـ لورود المضارع أيضا في رواية أبان المتقدمة.


.................................................................................................

__________________

وثانيا : منع أولويّة غير النكاح من النكاح حتى يتعدّى إلى غير النكاح كما تقدّم آنفا.

وفي الثاني : منع قصور الإطلاقات وانصرافها إلى العقود المتعارفة كما عرفت أيضا. فالإطلاق محكّم ، ومقتضاه جواز تقديم القبول ـ مطلقا ـ على الإيجاب بعد صدق العقد العرفي ، هذا.

الاحتمال الخامس : الذي اختاره المصنف قدس‌سره هو التفصيل بين ألفاظ القبول ، والظاهر أنّه أوّل من فصّل في المقام.

ومحصّل ما أفاده هو : أنّ إنشاء القبول تارة يكون بلفظ «ملكت أو تملّكت أو اشتريت أو ابتعت» ونحوها من الألفاظ الظاهرة في إنشاء التملّك والتمليك التبعي.

وأخرى يكون بلفظ «قبلت أو رضيت أو أمضيت أو أنفذت» ونحوها ممّا له ظهور في إنشاء التمليك مع سبق الإيجاب ، بحيث لا ظهور له في ذلك بدون سبقه ، نظير تحريك الرأس في مقام الجواب عن السؤال.

وثالثة يكون بما هو ظاهر في الاستدعاء كلفظ الأمر ، مثل قول المشتري : «بعني الكتاب الفلاني بألف» وقول البائع له : «بعته إياك بكذا».

أمّا القسم الأوّل : فيجوز تقديمه على الإيجاب. والوجه فيه عدم اعتبار عنوان القبول والمطاوعة في صدق مفهوم العقد العرفي ، ضرورة أنّ العقد متقوم بالتزامين مرتبطين مبرزين ، ومن المعلوم حصول إبرازهما بلفظ : «ملكت» قبولا ، و «بعت» مثلا إيجابا ، لأنّ معنى «ملكت واشتريت» ونحوهما ممّا تقدّم هو إنشاء ملكية المبيع بإزاء ماله عوضا ، فالمشتري ينشئ المعاوضة حقيقة كالبائع ، غاية الأمر أنّ البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه ، والمشتري ينشئ ملكية مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله. فكلّ منهما يخرج ماله إلى صاحبه ، ويدخل مال صاحبه في ملكه ، إلّا أنّ الإدخال في الإيجاب مفهوم من ذكر العوض ، والإدخال في القبول يفهم من نفس اللفظ وهو


.................................................................................................

__________________

«ملكت» ونحوه ، فإنّ معناه ملكت المبيع بإزاء الثمن بذكر العوض وهو الدينار.

وبالجملة : فما هو المعتبر في القبول ـ من الرّضا بالإيجاب ، ونقل الثمن في الحال ـ متحقق. أمّا الرّضا فواضح. وأمّا الثاني فلأنّه أنشأ ملكيّة المبيع بإزاء ماله عوضا ، ولا يعتبر في القبول ما عدا هذين الأمرين كالمطاوعة ، فإنّه لا دليل على اعتبارها في مفهوم القبول.

لا يقال : إنّ «التاء» في «اشتريت وابتعت وتملكت» يدلّ على مطاوعة الفاعل لغيره ، وقبوله لأثره ، فالتاء في «اشتريت» يدل على مطاوعة فاعله لفاعل «شريت» فلا فرق بين «قبلت واشتريت» إلّا أنّ دلالة الأوّل على المطاوعة تكون بالمادة ، والثاني بالهيئة.

فإنّه يقال : لا تدلّ «تاء» المطاوعة على لزوم صدور مدخولها من فاعل غير فاعل الفعل ، بل يكفي فيه مجرّد الصلاحية لذلك ، فيصحّ أن يقال : «اكتسى زيد أو اهتدى» وإن لم يكن له كاس وهاد.

نعم لعلّ الغالب صدور مدخول تاء المطاوعة من فاعل غير فاعل الفعل. لكنّه لا يوجب اعتبار ذلك فيه ، فلا دليل على اعتبار المطاوعة في مفهوم القبول ، هذا.

وقد أورد على ما أفاده المصنف قدس‌سره ـ من جواز تقديم القبول إذا كان بلفظ اشتريت ونحوه ـ بوجوه.

الأوّل : ما عن المحقق النائيني قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف ، ومحصّله : أنّه يعتبر في القبول ـ بأيّ لفظ كان ـ مطاوعة الإيجاب والانفعال والتأثّر منه ، وإلّا كان أجنبيا عن الإيجاب وغير مرتبط به ، وكان إيقاعا لا عقدا ، فلا بدّ من الارتباط بين الإيجاب والقبول بمطاوعة الثاني له ، فالمطاوعة معتبرة في مفهوم القبول ، سواء أكان بلفظ «قبلت أم اشتريت» ونحوه. وعليه فلا بدّ من تقديم الإيجاب على القبول ، وإلّا فمع التقديم لا يسمّى قبولا ، بل إيجابا ، هذا (١).

وأجيب عنه تارة بعدم اعتبار شي‌ء في القبول سوى الرّضا بالإيجاب ، ومن

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٠


.................................................................................................

__________________

المعلوم أنّه لا يمنع عن جواز التقديم.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ مجرّد الرضا بالإيجاب ليس قبولا للإيجاب. ودعوى كونه قبولا لا شاهد عليها.

وأخرى ـ بعد تسليم اعتبار المطاوعة ـ أنّ المعتبر منها هي الإنشائية القابلة للتقدم دون الحقيقية غير القابلة له ، هذا.

الثاني : ما في المتن من الإجماع على اعتبار القبول في العقد ، وهو متضمن لمعنى المطاوعة حتى يقع قبولا.

وفيه ما قيل من : أنّ المتيقن من الإجماع هو اعتبار القبول الشامل للرّضا بالإيجاب.

لكنّه ممنوع بأنّ المتيقن اعتبار المطاوعة أيضا في القبول ، فبدونها يشكّ في ترتب الأثر على العقد ، ومقتضى أصالة الفساد عدمه ، فتدبّر.

الثالث : ما في حاشية المحقق الأصفهاني قدس‌سره من : «أنّ مفهوم الاشتراء أو الابتياع متضمن لاتّخاذ المبدء ، فإن كان بعنوان اتخاذه من الغير فلا محالة يكون مطاوعة قصديّة ، وإلّا كان من إنشاء بيع مال الغير فضولا ، لا إنشاء الملكية قبولا» (١) ، هذا.

وقد أجيب تارة : بأنّ المطاوعة الإنشائية لا تمنع من التقديم.

وأخرى : بأنّ صيغة الافتعال ليست كصيغة الانفعال متضمنة للمطاوعة دائما ، هذا.

وأنت خبير بما فيهما. إذ في الأوّل : أنّه لا فرق بين المطاوعة الحقيقيّة والإنشائية في لزوم التأخّر ، إذ المفروض ترتبها على فعل الفاعل ، كما في الانكسار المترتب على الكسر ، والانتقال المترتب على النقل ، فتقدّم القبول الإنشائي ينافي اعتبار المطاوعة.

والحاصل : أنّه لا فرق في المطاوعة الاعتبارية والحقيقية ، لأنّ تقديم القبول على الإيجاب خلاف ما فرض فيه من المطاوعة. نظير ما قيل في دفع إشكال الشرط المتأخر من : أنّ الممتنع هو تأخّر الشرط في العلل التكوينية دون الاعتبارية التي يمكن اعتبارها قبل حصول ماله دخل فيها ، فإنّك خبير بأنّ اعتبار الملكيّة مثلا قبل إجازة

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٦٩


.................................................................................................

__________________

المالك مناف لفرض دخل الإجازة فيه ، ويكون ذلك خلفا كما لا يخفى.

وفي الثاني : أنّ ظهور باب الافتعال في المطاوعة ممّا لا سبيل إلى إنكاره ، ولا يصار إلى خلافه إلّا بالقرينة ، أو عدم قابلية المورد للمطاوعة كالإحتطاب والاحتشاش ونحوهما ، فتدبّر.

الرابع : ما أوجب تردّد المصنف قدس‌سره من قوله : «نعم يشكل الأمر بأن المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب. ولا فرق بين المتعارف هنا وبينه في المسألة الآتية وهو الوصل بين الإيجاب والقبول ، فالحكم لا يخلو عن شوب الإشكال».

وفيه : أنّ التعارف لا يقيّد الإطلاق. وفرق بين المقام وبين الموالاة ، حيث إنّ فوات الموالاة مخلّ بالمعاقدة عرفا ، فاعتبار الوصل بين الإيجاب والقبول دخيل في صدق العقد العرفي ، بخلاف تقديم الإيجاب على القبول ، فإنّه إذا ثبت كان بالتعبّد كما لا يخفى.

أو يقال في الفرق بين المقامين : بأنّ التعارف هنا من قبيل الغالب المتخلّف في بعض الموارد ، بشهادة ما ورد في بعض نصوص عقد النكاح من قول الزوج : «أتزوّجك وقول الزوجة : نعم». وهذا بخلاف التعارف في الموالاة ، إذ لم يعرف تخلّف له.

والتعارف على النحو الأوّل ـ وهو المتخلّف في بعض الموارد ـ لا يقيّد الإطلاق ، بخلاف التعارف على النحو الثاني ، فإنّه يقيّده ، فمع فرض صدق العقد العرفي على الإيجاب والقبول المنفصلين لا يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لفوات الموالاة المعتبرة في العقود المقيّدة لإطلاق أدلة الصحة ، هذا.

وأمّا القسم الثاني : ـ وهو أن يكون القبول بلفظ «قبلت ورضيت» ونحوهما ـ فقد ذهب إلى عدم الجواز. والوجه في ذلك ـ على ما في المتن ـ أمور ثلاثة :

الأوّل : الإجماع المحكي عن التذكرة.

والثاني : أنّ العقد المتقدم قبوله على إيجابه خلاف المتعارف ، فلا يشمله عموم


.................................................................................................

__________________

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بعد انصرافها إلى العقود المتعارفة.

والثالث : أنّ القبول ـ الذي هو أحد ركني العقد المعاوضي ـ فرع الإيجاب ، لأنّه عبارة عن الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب عوضا ، إذ المشتري كالبائع ناقل ، فلا بدّ من تقدم الإيجاب عليه ، وإلّا لم يكن معنى للقبول.

نعم لو كان القبول عبارة عن مجرد الرّضا بالإيجاب توجّه تقديم القبول عليه ، لأنّ مجرد الرّضا يتعلّق بالشي‌ء الماضي والحال والمستقبل.

وبالجملة : فلا يدلّ «قبلت ورضيت» على إنشاء نقل الثمن في حال التكلم إلّا مع تأخّرهما عن الإيجاب الدال على نقله عن المشتري تبعا ، هذا.

وفي الكل ما لا يخفى إذ في الأوّل : عدم ثبوت الإجماع ، وعدم صحة نسبته إلى التذكرة كما تقدم في التوضيح. وعلى تقدير ثبوته يحتمل أن يكون مدركيا ، لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه كالفرعية ، فراجع.

وفي الثاني : عدم صلاحية التعارف لتقييد الإطلاقات.

وفي الثالث : أنّ المراد بالفرعية إن كان فرعية المعلول للعلة في الوجود ، ففيه : أنّ فساده أوضح من أن يذكر ، إذ لازمه وجود القبول قهرا بمجرّد وجود الإيجاب ، كما هو شأن المعلولات الحقيقية.

وإن كان فرعيّته للعلّة في التأثير لا أصل الوجود ففيه أوّلا : أنّه ليس أولى من العكس.

وثانيا : أنّه أجنبي عن مورد البحث الذي هو جواز تقديم القبول من حيث الوجود الإنشائي ، ومقتضى الفرعية المذكورة عدم جوازه من حيث التأثير ، وهو لا يدلّ على لزوم تأخير القبول بوجوده الإنشائي.

وإن كان فرعيّة العرض للمعروض في قيام القبول بالإيجاب ـ بأن يقال : إنّ القبول كسائر الأفعال المتوقف تحقّقها على وجود مفعول به قبلها كالأكل والشرب المتعلقين


.................................................................................................

__________________

بالمأكول والمشروب ـ ففيه : أنّه إن أريد من وجود الإيجاب قبل القبول حتّى يرد عليه القبول وجوده الإنشائي الخارجي فهو مصادرة ، لأنّه عين محل النزاع.

وإن أريد منه مطلق وجوده ـ ولو كان ذهنيا ـ فهو ممّا لا إشكال فيه ، لكنه لا يثبت المقصود ، وهو عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب الإنشائي الخارجي.

وبعبارة أخرى : الأفعال من حيث الاحتياج إلى وجود المتعلق ـ المعبّر عنه بالمفعول به تارة ، وبالموضوع أخرى ، وبمتعلّق المتعلّق ثالثة ـ تكون على أقسام.

أحدها : احتياجها إلى خصوص الوجود الخارجي كالأكل والشرب.

ثانيها : احتياجها إلى خصوص الوجود الذهني كالطلب ، إذ لو تعلّق بالوجود الخارجي لزم طلب الحاصل المحال.

ثالثها : احتياجها إلى مطلق الوجود كالقبول ، فإنّه يتعلّق بالإيجاب الموجود خارجا أو ذهنا ، كالرّضا المتعلّق بإيجاب يوجد في المستقبل ، فليتأمّل.

وإن كان فرعية الانفعال للفعل ففيه : أنّ ترتب الانفعال على الفعل وتأخره عنه إنّما هو في الفعل والانفعال الحقيقيّين كالكسر والانكسار ، دون الفعل والانفعال الإنشائيّين ، لصحة الانفعال الإنشائي وإن لم يكن هناك فعل ، لا واقعا ولا إنشاء ، حيث إنّ الانفعال الإنشائي ليس إلّا إنشاء لمفهومه ، واستعمال اللفظ فيه بقصد تحققه. فالقبول والمطاوعة الإنشائيّان لا يتوقّفان على وجود الإيجاب لا خارجا ولا إنشاء ، وإنّما يتوقفان بوجودهما الواقعي على وجود الإيجاب.

والحاصل : أنّ للقبول والمطاوعة أنحاء من الوجود الذهني والخارجي والإنشائي ، ومحلّ البحث هنا هو وجودهما الإنشائي الذي لا يتوقف على وجود الإيجاب قبله ، فيصح إنشاء القبول والمطاوعة قبل الإيجاب.

ثم إنّه على فرض التنزّل ـ والالتزام بتوقف وجودهما الإنشائي أيضا على وجود الإيجاب ـ يمكن القول بجواز تقديم القبول على الإيجاب أيضا. بيانه : أنّ عدم الجواز


.................................................................................................

__________________

حينئذ مبني على كون القبول العقدي انفعالا متضمنا لمعنى المطاوعة. وذلك ممنوع ، لأنّ الانفعال ـ الذي هو التأثر ـ في قبال الفعل وهو التأثير ، وإحداث الأثر لا يتصوّر في القبول العقدي ، لأنّ مورد التأثّر إمّا هو المال ، لعروض الانتقال عليه ، فيتأثر المال بالابتياع والانتقال. وإمّا هو القابل ، فكأنّ الموجب بنقل ماله إلى المشتري بعوض يؤثّر في المشتري ، وهو يتأثّر به.

إذ يلزم على الأوّل أن يكون القبول العقدي صفة للمال دون المشتري ، فلا يصحّ جعل المشتري قابلا ، بل القابل هو المال. ومن البديهي أنّ القابل هو المشتري لا المال ، كما أنّ الموجب هو البائع لا المبيع ، فإنّ الموجب والقابل وصفان للمتعاملين لا العوضين. كما لا يخفى.

ويلزم على الثاني أن يصحّ إنشاء القبول بلفظ «انفعلت وتأثّرت» وفساده بمكان من الوضوح.

إلّا أن يقال : إنّ عدم صحة إنشاء القبول بلفظ «انفعلت وتأثّرت» يحتمل أن يكون تعبّدا محضا.

لكن فيه : أنّه لم يثبت تعبّد هنا ، فلاحظ.

والذي يشهد بعدم كون القبول العقدي انفعالا : أنّه لا يستعمل شي‌ء من ألفاظ القبول إلّا متعدّيا ، ومن المعلوم أنّ التعدّي ينافي معنى الانفعال ، فليس القبول العقدي ـ وإن كان بلفظه ـ انفعالا للإيجاب ، بل هو عبارة عن مجرّد الرّضا بالإيجاب الذي هو نقل الموجب ماله إلى المشتري أصالة ، ونقل مال المشتري إليه تضمنا.

وبعبارة أخرى : التأثير وهو تمليك المبيع أصالة ، والتأثّر وهو تملّك مال المشتري تبعا كلاهما مستند إلى الموجب ، وناش من إيجابه ، ولا يصدر من المشتري إلّا صرف الرّضا بهذين التأثير والتأثر. وحيث إنّ هذا الرّضا قائم بالصورة الذهنية كالطلب فلا يتوقف على وجود الإيجاب خارجا فعلا ، بل يكفي وجود الإيجاب خارجا


.................................................................................................

__________________

في المستقبل في تعلق القبول بمعنى الرّضا المزبور به ، ولا يحتاج إلى تقدم الإيجاب عليه في الخارج. وسيأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى مزيد بيان لإثبات كون القبول مجرّد الرّضا بالإيجاب ، فانتظر.

وأمّا القسم الثالث ـ وهو أن يكون القبول بصيغة الأمر ـ فقد ذهب المصنف قدس‌سره إلى منع تقديمه على الإيجاب ، لأنّ الأمر لا يدلّ إلّا على طلب المعاوضة والرضا بها ، ولا يدلّ على نقل الثمن إلى البائع في الحال عوضا عن المبيع ، إذ المفروض عدم تحقق الإيجاب قبله. ودعوى الاتفاق على صحة تقدم القبول بلفظ الأمر على الإيجاب كما في المبسوط موهونة بمصير الأكثر إلى خلافه ، فلا إجماع أصلا.

ثم إنّه ينبغي تحرير محل النزاع في الأمر ، فنقول وبه نستعين : إنّ استعمال الأمر في مقام المعاملة يتصوّر على ثلاثة أقسام :

أحدها : مجرّد الطلب ، والدلالة على رضائه بالمعاملة لو اتّفق معه البائع ، من دون قصد الطالب للقبول به ، بل غرضه طلب المعاملة من البائع. ولا ينبغي الإشكال في عدم كفايته عن القبول ، كما لا ينبغي نسبة القبول بصحّة العقد به ـ إذا لحقه الإيجاب من دون اتباعه بالقبول المعتبر ـ إلى أحد من فقهائنا ، لفقدان قصد القبول مع تقوّم القبول به.

ثانيها : مجرّد الدلالة على الرّضا بالمأمور به وهو البيع من دون قصد إلى الطلب ، من باب استعمال اللفظ الموضوع للازم في الملزوم ، فتدلّ صيغة الأمر حينئذ على مجرّد الرّضا بما يوجبه الموجب في المستقبل ، ولا تدلّ على الرّضا بنقل الثمن في الحال إلى البائع. وهذا أيضا لا يتحقق به القبول ، لعدم كونه رضا بنقل الثمن في الحال ، والمفروض أنّ القبول على مذهب المصنف قدس‌سره عبارة عن الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل الثمن في الحال إلى الموجب ، فلا يكون هذا الأمر قبولا حتّى يلتئم العقد بلحوق القبول ـ الذي هو ركن ـ بالإيجاب.

ثالثها : الدلالة على معنى «اشتريت» من باب استعمال اللّفظ الموضوع للملزوم في اللازم ، إذ من لوازم طلب البيع قبوله والقيام بالاشتراء ، فاستعملت صيغة الأمر في


.................................................................................................

__________________

إنشاء هذا اللازم.

وهذا ممّا ينبغي أن يكون محلّا للنزاع ، دون الأوّلين ، لوضوح عدم كفايتهما في تحقق العقد ، لما عرفت من عدم دلالتهما على الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله إلى الموجب في الحال ، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى هو القبول العقدي ، والمفروض عدم حصوله بهما. بخلاف المعنى الأخير ، لحصول القبول العقدي به ، غاية الأمر أنّ دلالة الأمر على هذا اللازم تكون على سبيل المجاز ، للقرينة المقاليّة أو المقامية ، فيصح استعماله على مذهب المحقق الثاني قدس‌سره فيصير حاله حال «اشتريت» فإن جوّزنا تقديم القبول بصيغة الأمر فهو وإلّا فلا.

ومن هنا يظهر : أنّ منع المصنف قدس‌سره عن تقديمه على الإيجاب ناش عن حمل الأمر على المعنى الأوّل ، وهو الدلالة على مجرّد الطلب كما هو صريح كلامه : «لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرّضا بها .. إلخ».

وأنت خبير بأنّ الأمر بالمعنى الذي أفاده المصنف قدس‌سره لا يصلح لأن يكون قبولا عقديّا حتى يقع محلّا للنزاع في جواز تقديمه على الإيجاب ، إذ لا يدلّ بهذا المعنى على القبول العقدي أصلا ، فلا يصحّ إنشاء القبول به وإن تأخّر عن الإيجاب.

فالحقّ أن يقال : إنّ الأمر إذا دلّ على القبول العقدي بالقرينة فهل يجوز تقديمه على الإيجاب أم لا؟ فإنّ هذا ينبغي أن يقع موردا للنزاع في جواز تقديم القبول بصيغة الأمر ، كالنزاع في تقديمه إذا كان بصيغة الماضي ، ويأتي ما هو مقتضى التحقيق إن شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل أعني به : الاحتمالات والأقوال في مسألة اعتبار تقدم الإيجاب على القبول وعدمه.

وأمّا المقام الثاني : ـ أعني به الحقّ الذي ينبغي الاعتماد عليه ـ فتنقيحه منوط بتقديم أمور :


.................................................................................................

__________________

الأوّل : أنّه لا ريب في تركّب العقد من الإيجاب والقبول ، وأنّ مجموعهما موضوع لحكم الشارع أو العقلاء من الأمر الاعتباري كالملكية والزوجية ونحوهما. والفارق بين العقد وبين الإيقاع هو كون موضوع الأمر الاعتباري بسيطا في الإيقاع غير محتاج إلى إنشاء آخر يسمّى بالقبول كباب التحرير والنذر وغيرهما من الإيقاعات ، ومركّبا في العقد أي محتاجا في ترتب الأثر إلى إنشاء آخر يسمّى بالقبول. ونتيجة هذا الأمر أنّ الإنشاءين المقوّمين للعقد العرفي موجودان مع تقدم القبول على الإيجاب.

الثاني : أنّه لا بدّ في الأدلّة اللّبّيّة ـ كالإجماع ـ من الأخذ بالمتيقن ، إذ لا إطلاق لها حتى يؤخذ به ، وهذا بخلاف الأدلّة اللفظية ، فإنّها على قسمين :

أحدهما : أن تكون مجملة ، كما إذا كانت في مقام التشريع فقط ، كقوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

والآخر : أن يكون لها إطلاق أو عموم ، كما إذا كانت في مقام البيان من سائر الجهات أيضا غير جهة التشريع.

الثالث : أنّ الإيجاب والقبول المعتبرين في العقود لا حقيقة شرعية لهما ، فلا بدّ في تحقيق مفهومهما من الرّجوع إلى العرف.

الرابع : أنّ النزاع في اعتبار تقدّم الإيجاب على القبول إنّما هو مع انحفاظ عنوان القبول مع تقدّمه على الإيجاب ، وإلّا فلا معنى للنزاع في تقدم القبول مع خروجه عن عنوانه ، وتبدّله بعنوان الإيجاب.

الخامس : أنّه لا ريب في صدق العقد العرفي على العقد المتقدم إيجابه على قبوله ، فلا يتقوّم مفهوم العقد عرفا بتقدم الإيجاب على القبول ، فاعتبار تقدمه لو قيل به لا بدّ أن يكون بدليل شرعي.

والغرض من هذا الأمر هو : أنّ الارتباط المقوّم لعقدية الإنشاءين موجود مع تقدم القبول على الإيجاب.


.................................................................................................

__________________

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : أنّ المتيقن من الإجماع القائم على اعتبار القبول في العقد هو كون القبول عبارة عن الرّضا بالإيجاب وتقريره وتثبيته. واعتبار المطاوعة والانفعال خصوصية زائدة لا دليل على اعتبارها في مفهوم القبول ، فإنّ المتيقّن من الإجماع الدالّ على اعتبار القبول في العقد هو الرّضا بالإيجاب. واعتبار قيد زائد فيه ـ كالانفعال والمطاوعة وإنشاء نقل ـ مما لا دليل على اعتباره ، بعد وضوح صدق مفهوم العقد العرفي على العقد الذي يكون قبوله رضا بالإيجاب من دون خصوصية أخرى معه. ولو شك في اعتبارها شرعا ينفى بعموم وجوب الوفاء بالعقود.

فوزان القبول وزان «جزاكم الله خيرا» لمن عمل عملا ، وشأنه تقرير عمل الموجب. كما أنّ المناسب للفظ القبول عرفا هو هذا المعنى ، فإنّه قبول لإيجاب الموجب ورضا به ، فليس شأن القبول إنشاء نقل مثلا في قبال إنشاء الموجب ، وإلّا كان العقد مركّبا من إيجابين ، لا إيجاب وقبول ، كما إذا قال المشتري بعد قول البائع : بعتك هذا المتاع بدينار : «نقلت الدينار إليك بهذا المتاع» فإنّ هذا الكلام من المشتري إيجاب لا قبول.

والحاصل : أنّ تمام ماهية البيع توجد بإيجاب البائع وقبول المشتري لهذا الإيجاب ، ولا تحتاج إلى إيقاع المشتري ملكية المبيع أو البائع ملكية الثمن ، لأنّ الإيجاب متضمّن لذلك ، والمحتاج إليه في ترتب الأثر هو قبول المشتري ، ورضاه بما أوقعه الموجب ، فليس القبول نقلا وانتقالا جديدا ، بل الإنشاء الصادر من المشتري ليس إلّا رضا بالإيجاب.

فما أفاده المصنف قدس‌سره من اعتبار تضمّن القبول للنقل وللرّضا بالإيجاب لا يخلو من غموض.

إذ فيه أوّلا : عدم الدليل على اعتبار النقل في القبول ، كما عرفت.

وثانيا : منافاته لما اختاره قدس‌سره في ثاني تنبيهات المعاطاة من كفاية الإعطاء من


.................................................................................................

__________________

طرف واحد في تحقق البيع المعاطاتي. وجه المنافاة أنّه لا يتحقق حينئذ فعل من المشتري حتّى يكون نقلا للثمن ، بل يحصل منه أخذ ، وهو متمّم لفعل المعطي ، وليس إنشاء لنقل الثمن كما لا يخفى.

كما أنّ ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف : «من أنّ كلّا من الموجب والقابل في عقود المعاوضة ينشئ أمرين ، أحدهما بالمطابقة ، وثانيهما بالالتزام ، فالموجب ينقل ماله إلى ملك المشتري مطابقة ، ويتملّك مال المشتري عوضا عن ماله التزاما ، والقابل بعكس ذلك» (١) لا يخلو أيضا من غموض.

لما فيه أوّلا : من منافاته لتحقق البيع المعاطاتي بإعطاء واحد كما عرفت آنفا ، فتأمّل.

وثانيا : أنّ تمليك الثمن بالقبول لا بدّ أن يكون مقصودا للمشتري ، لتبعية العقد للقصد ، كسائر الأمور القصدية المتقومة بالقصد ، ومن المسلّم فقدانه في غالب البيوع ، لجهل المشتري باعتبار قصد نقل الثمن ، فيلزم بطلان كثير منها ، وهو كما ترى.

وثالثا : يلزم تركب العقد من إيجابين : تمليك البائع للمبيع ، وتمليك المشتري للثمن ، وهذا غير الإيجاب والقبول المقوّمين للعقد.

ورابعا : يلزم أن يكون مفهوم القبول ـ الذي هو أحد ركني العقد في العقود المعاوضية ـ مغايرا لمفهوم القبول في سائر العقود ، ولازم هذا تعدّد الوضع للقبول على حسب تعدد أنواع العقود ، ولا أظنّ التزام أحد بذلك ، هذا.

وقد ظهر أيضا مما ذكرناه ما في تفصيل المصنف قدس‌سره بين ألفاظ القبول ، بجواز التقديم إذا كان بلفظ «اشتريت» ونظائره مما هو ظاهر في التملّك والتمليك التبعي وبعدمه إذا كان بلفظ «قبلت» ونحوه مما هو ظاهر في مطاوعة فعل الموجب ، أو كان بصيغة الأمر ، بدعوى : أن «اشتريت» ونحوه يدلّ على الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٠٩


.................................................................................................

__________________

النقل في الحال ، فيجوز تقديمه. وأنّ لفظ «قبلت» متفرع على الإيجاب ، ولم يحصل بعد ، فلا يجوز. وكذا لفظ الأمر ، فإنّه يدلّ على الرّضا بالمعاملة ، ولا يدلّ على الرّضا بالنقل في الحال ، فالأمر إذن في إيقاع البيع ، لا قبول للإيجاب ، هذا.

وذلك لما عرفت من أنّ القبول العقدي ليس إلّا الرّضا بفعل الموجب ، سواء حصل الإيجاب أم لم يحصل بعد ، ضرورة أنّ الرّضا كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي. ولا يعتبر في القبول النقل في الحال ، لما مرّ من عدم دخله في شي‌ء من العقود شرعا ولا عرفا. ولو كان إنشاء النقل دخيلا في مفهوم القبول لما كان التقديم جائزا بأيّ لفظ كان ، لامتناع اتصاف القبول بهذا المعنى إلّا مع التأخر ، لأنّ نقل الثمن لازم تملّك المبيع ، وبدون تملّكه لا ينشأ تمليك الثمن. ولو لم يكن دخيلا في مفهومه جاز تقديم القبول بأيّ لفظ كان.

فهذا النزاع الراجع إلى مقام الإثبات غير مناسب ، لأنّ مفهوم القبول إمّا يقبل التقديم وإمّا لا يقبله. فعلى الأوّل يجوز مطلقا ، وعلى الثاني لا يجوز كذلك ، وإن كان بلفظ : اشتريت وابتعت.

ولو سلّم اعتبار المطاوعة في القبول فلا مانع من إنشائه مقدّما على الإيجاب بأحد نحوين ، إمّا بنحو الاشتراط ، كأن يقول : «إن بعتني هذا المتاع بكذا قبلت» نظير الواجب المشروط ، فيتحقق القبول الحقيقي المتمّم لموضوع الأمر الاعتباري بعد الإيجاب. وإمّا بنحو الواجب التعليقي ، فيقبل الإيجاب في موطن تحققه ، كإيجاب الصلاة في الغد ، فالإنشاء فعلي والمنشأ استقبالي.

وعلى التقديرين لا مانع من إنشاء القبول قبل الإيجاب سواء أكان بلفظ : «اشتريت أم قبلت» أم الأمر. والفرق بينها إنّما هو في كيفية الدلالة ، فإنّ دلالة «قبلت ورضيت» على القبول وهو الرّضا بالإيجاب إنّما تكون بالمطابقة ، وعلى النقل والتملّك بالالتزام ، ودلالة


.................................................................................................

__________________

«اشتريت» ونحوه على القبول ـ بالمعنى المزبور ـ إنّما تكون بالالتزام ، وعلى النقل والتملك بالمطابقة. ودلالة الأمر على القبول إنّما تكون بالكناية ، لأنّ مطلوبية البيع الذي هو مادة الأمر يلزمها الرّضا بإيجابه.

لكن هذا الفرق ليس بفارق في جهة البحث وهي تقدّم القبول على الإيجاب.

ولو نوقش في دلالة بعض الألفاظ على القبول مع تقدّمها على الإيجاب ، فإنّما هو مناقشة صغروية لا تقدح في البحث الكبروي ، وهو تقدم القبول على الإيجاب ، بعد كون القبول هو الرّضا بالإيجاب ، وعدم اعتبار شي‌ء آخر ـ كالنقل في الحال ـ فيه.

وبالجملة : فالحقّ جواز تقديم القبول مطلقا ولو كان بلفظ الأمر ، إن كان مفهوم القبول بسيطا وهو الرّضا بالإيجاب ، لما عرفت من جواز تعلّق الرّضا بإيجاب استقبالي كتعلّقه بإيجاب حاليّ ، وعدم جواز التقديم إن كان مفهومه مركّبا من الرّضا بالإيجاب والنقل في الحال ، وإن كان بلفظ «اشتريت وابتعت وملكت». فمناط جواز التقديم وعدمه هو بساطة مفهوم القبول وتركّبه من غير دخل لدلالة الألفاظ من حيث الصراحة وعدمها في ذلك ، كما لا يخفى.

كما أنّه قد ظهر مما ذكرنا أيضا غموض تفصيل آخر ، وهو ما أفاده المصنف قدس‌سره أيضا من الفرق بين أنواع العقود ، وملخّصه : أنّ القبول في العقود على أقسام ، لأنّه إمّا التزام بشي‌ء كالالتزام بنقل ماله إلى الغير عوضا عن ماله كما في العقود المعاوضيّة كالبيع والإجارة ، وما بحكمهما كالنكاح ، فإنّ القابل وهو الزوج يلتزم بالزوجيّة. وهذا القسم يتصور على وجهين :

أحدهما : كون الالتزام الحاصل من القابل نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة المعاوضية ، حيث إنّ كلّا منهما يتسالم صاحبه على المال.

ثانيهما : كونه مغايرا له كالاشتراء ، إذ الملحوظ فيه عوضيّته لمال آخر.


.................................................................................................

__________________

وإمّا مجرد الرّضا بالإيجاب من دون التزام بشي‌ء. وهذا القسم يتصور أيضا على وجهين :

الأوّل : أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان والاتهاب والاقتراض.

والثاني : أن لا يعتبر فيه أزيد من الرّضا بالإيجاب كالوكالة والعارية والوديعة ، فإنّ القبول فيها يحصل بمجرّد الرضا بإيجاب التوكيل والإعارة والإيداع ، وليس فيه إنشاء التزام.

وتقديم القبول على الإيجاب إنّما يكون في صورتين :

إحداهما : كون القبول التزاما مغايرا للإيجاب كالاشتراء.

ثانيتهما : كون القبول مجرّد الرّضا من دون اعتبار المطاوعة فيه ، كالقبول في المصالحة المتضمنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض ، وفي الوكالة والعارية والوديعة لأنّ في هاتين الصورتين ينبغي أن ينازع في جواز تقديم القبول على الإيجاب وعدمه ، حيث إنّ تقديمه فيهما على الإيجاب لا يخرجه عن معنى القبول.

بخلاف الصورتين الأخريين ـ وهما كون القبول التزاما نظير التزام الموجب كالمصالحة المعاوضية. وكون القبول الرضا بالإيجاب مع اعتبار المطاوعة فيه ـ فإنّ التقديم في الأولى يوجب تركب العقد من إيجابين ، وفي الثانية يوجب فوات المطاوعة المعتبرة في مفهوم القبول. هذا محصل ما يستفاد من كلام المصنف قدس‌سره.

والإشكال فيه يظهر مما أسلفناه ، إذ القبول العقدي في جميع أنواع العقود ليس له معنى متعدّد ووضع كذلك. والوجه في اعتبار القبول في العقد إمّا العرف ، لتركب العقد عندهم من الإيجاب والقبول ، فالقبول حينئذ مقوّم للعقد العرفي. وإمّا الإجماع على اعتبار القبول في العقد.

وعلى التقديرين لا وجه لاعتبار أزيد من الرّضا بالإيجاب في ظرف تحققه ، إذ لا يحكم العرف بأزيد منه. وكذا الإجماع ، لأنّ المتيقن منه هو اعتبار مجرّد الرّضا


.................................................................................................

__________________

بالإيجاب ، ولا دليل على اعتبار المطاوعة ـ أو فعليّة الإيجاب حين القبول ـ في مفهوم القبول أو في تأثيره.

فالتحقيق : أنّ القبول في جميع العقود بمعنى واحد ، وهو الرّضا بالإيجاب مطلقا ، سواء تقدّم أم تأخّر ، لما عرفت من صحة الرّضا بشي‌ء مستقبل كالحالي.

وأمّا الالتزام بالشي‌ء في بعض العقود ـ كالالتزام بالنقل في البيع وبالزوجية في النكاح ـ فليس دخيلا في مفهوم القبول ، وإنّما هو من لوازمه ، حيث إنّ الرّضا بالإيجاب يختلف مقتضاه بحسب اختلاف أنحاء الإيجاب ، فإنّ إيجاب الزوجية يستلزم أن يكون الرّضا به التزاما بالزوجية ، والرّضا بتسالم زيد مثلا على مال يكون قبولا للصلح.

وبالجملة : ففي جميع أنواع العقود ليس القبول فيها إلّا مجرّد الرّضا بما أوجبه الموجب من غير فرق في ذلك بين العقود اللازمة المعاوضية والإذنية والمجانيّة.

هذا مضافا إلى ما في بعض أمثلة التفصيل المزبور من المناقشة ، حيث إنّه قدس‌سره جعل قبول القرض مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون التزام بشي‌ء ، مع أنّ من الواضح التزام المقترض بضمان العين المقترضة مثلا أو قيمة.

وكيف كان فمقتضى التحقيق جواز تقديم القبول بأيّ لفظ كان على الإيجاب في أيّ عقد كان ، فتدبّر.

ومما ذكرنا تعرف ما في كلمات المصنف قدس‌سره من الاضطراب ، هدانا الله تعالى إلى حقائق أحكامه بحق محمد وعترته سادة أوليائه صلوات الله عليهم إلى يوم لقائه.


ومن جملة شروط العقد : الموالاة (١) بين إيجابه وقبوله.

ذكره الشيخ في المبسوط في باب الخلع (٢) ،

______________________________________________________

المبحث الثاني : شرطية الموالاة بين الإيجاب والقبول

(١) هذا هو المبحث الثاني من مباحث الجهة الثالثة المتكفلة لشرائط الصيغة من حيث الهيئة التركيبية. والبحث في هذه المسألة عن شرطية الموالاة بين الإيجاب والقبول ، وإخلال الفضل بينهما ـ بالأجنبي. وقد يعبّر عن هذا الشرط بالفورية في كلام بعضهم ، كما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره (١). وسيأتي تصريح شيخ الطائفة باعتبار الفورية في الخلع.

وفي الجواهر : «وأمّا الاتّصال فعن جماعة منهم الفاضل في النهاية والشهيد والمقداد والمحقق : أنّه يشترط أن لا يتأخّر القبول بحيث لا يعدّ جوابا ، ولا يضرّ تخلّل آن أو تنفّس أو سعال» (٢).

وفي مفتاح الكرامة ـ بعد حكاية الاشتراط عن الجماعة المذكورين ـ : «قلت : هو مما لا ريب فيه» (٣).

(٢) ذكره شيخ الطائفة في خصوص الخلع ، ولم يذكره على وجه القضية الكلية الجارية في سائر العقود. قال في المبسوط : «إذا طلّقهما بألف أو على ألف ، فقد طلّقهما

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٥١

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٥

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٥


ثمّ العلّامة (١) والشهيدان (٢)

______________________________________________________

طلاقا بعوض ألف. ويقتضي أن يكون جوابه على الفور ، فإن تراخى لم يصحّ أن يطلّقهما على ما طلبتا ، فإن طلّق كان ابتداء طلاق من جهته ، ويكون رجعيا» (١) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

(١) قال قدس‌سره في بيع النهاية : «ويشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول ، ولا يتخلّلهما كلام أجنبي عن العقد ، إذا خرج بذلك عن القبول عرفا» (٢).

واعتبر في نكاح القواعد (٣) وحدة مجلس الإيجاب والقبول.

وجوّز في نكاح التذكرة التراخي ، فقال : «إنّما يصح العقد إذا صدر في مجلس واحد ولم يتشاغلا بينه بغيره وإن تراخى أحدهما عن الآخر ، إذا عدّ الجواب جوابا للإيجاب .. إلخ» (٤) فراجع.

وعلى هذا فإن أمكن استفادة الفورية من اشتراط وحدة المجلس فهو ، وإلّا فتنحصر نسبة شرطية الفورية إلى العلّامة في صراحة عبارة النهاية.

(٢) قال الشهيد قدس‌سره في شرائط الوقف : «ورابعها : القبول المقارن للإيجاب ، إذا كان ـ أي الوقف ـ على من يمكن فيه القبول» (٥).

ويستفاد اعتبار الموالاة أيضا من مفهوم قوله في شرائط عقد البيع : «ولا يقدح تخلّل آن أو تنفّس أو سعال» (٦).

ورجّح الشهيد الثاني في الرّوضة اشتراط الوقف بالقبول ـ إذا كان الوقف على من يمكن في حقه القبول ـ ثم قال : «فعلى هذا يعتبر فيه ما يعتبر في العقود اللازمة من

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ٣٦٢

(٢) نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٥٠

(٣) قواعد الأحكام ، ص ١٤٧ (الطبعة الحجرية)

(٤) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٣

(٥) الدروس الشرعية ، ج ٢ ، ص ٢٦٤

(٦) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١


والمحقّق الثاني (١) والشيخ المقداد (١).

قال الشهيد في القواعد (٢) : «الموالاة معتبرة في العقد ونحوه (٣) ، وهي (٤)

______________________________________________________

اتصاله بالإيجاب عادة» (٢).

(١) كما في موضعين من جامع المقاصد ، أحدهما : في عقد البيع ، حيث قال : «ويشترط وقوع القبول على الفور عادة من غير أن يتخلّل بينهما كلام أجنبي» (٣).

ثانيهما : في عقد النكاح ، حيث شرط العلّامة اتحاد المجلس ، واستظهر منه المحقق الثاني الموالاة ، فقال : «وكذا يشترط اتحاد مجلس الإيجاب والقبول ، فلو تعدّد ـ كما لو قالت الزّوجة : زوّجت نفسي من فلان ، وهو غائب ، فبلغه ، فقبل ـ لم يصحّ ، لأنّ العقود اللازمة لا بدّ فيها من وقوع القبول على الفور عادة ، بحيث يعدّ جوابا للإيجاب. وكذا لو تخلّل بينهما كلام آخر أجنبي» (٤).

وتعرّض العلّامة قدس‌سره في التذكرة لفرعين ، أحدهما : اتحاد المجلس كما نقلناه آنفا ، والآخر : تأخر القبول عن الإيجاب بما لا يتعارف ، كما إذا كان غائبا عن مجلس الإيجاب. ويظهر من عقد فرعين تعددهما موضوعا ، فراجع التذكرة (٥).

(٢) استند الشهيد قدس‌سره في اعتبار الموالاة إلى فتاوى فقهائنا قدس‌سرهم في مسائل خمس ، ونقل فتوى بعض العامة في مسألة تخلّل التحميد والتصلية بين إيجاب عقد النكاح وقبوله.

(٣) ممّا يعدّ فيه الشيئان أو الأشياء واحدا ، أو يعدّ أجزاء المركّب واحدا كالصلاة.

(٤) أي : الموالاة. توضيحه : أنّ الملحوظ في اعتبار الاتصال بين الإيجاب

__________________

(١) : التنقيح الرائع ، ج ٢ ، ص ٢٤

(٢) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ١٦٥

(٣) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٩

(٤) جامع المقاصد ، ج ١٢ ، ص ٧٨

(٥) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٢


مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين المستثنى والمستثنى منه (١). وقال بعض العامة (٢):

______________________________________________________

والقبول هي تبعية القبول له كتبعية المستثنى للمستثنى منه ، فكأنّ ملاك الاتصال في الاستثناء ـ وهو التبعية ـ جار في جميع التوابع ، فتعدّوا من باب الاستثناء إلى كلّ ما لوحظ فيه التبعية ، وترتّب عليها الآثار الشرعية. وجعلوا العقد من الموارد الملحوظ فيها التبعية ، حيث إنّ القبول تابع للإيجاب ، فيعتبر الاتّصال والموالاة بين الإيجاب والقبول كاعتبارهما بين المستثنى والمستثنى منه.

والحاصل : أنّ تبعية المستثنى للمستثنى منه وشدّة ارتباطه به لمّا كانت في غاية الوضوح ـ بحيث كان الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا ، وكان موجبا لقلب المستثنى منه من المدح إلى الذم ، ومن الصدق إلى الكذب ، ومن الإيمان الى الكفر ، ومن الإقرار إلى الإنكار ، وبالعكس ـ كان اعتبار الموالاة بينهما في غاية الوضوح ، وجعل مأخذا وأصلا لاعتبار الموالاة في سائر الأمور المتّصلة كالعقود.

(١) فلو أقرّ بقوله : «لزيد عليّ خمسون دينارا» وبعد ساعة قال : «إلّا خمس دنانير» لم يسمع منه هذا الاستثناء حتى يكون إقراره بخمس وأربعين ، بل يحمّلونه الخمسين ، ويجعلون استثناء الخمس إنكارا لإقراره بالخمسين ، ومن المعلوم عدم العبرة بالإنكار بعد الإقرار. وهذا بخلاف ما لو اتّصل المستثنى بالمستثنى منه ، فإنّه يقبل منه الاعتراف بخمس وأربعين.

وعليه فسماع الاستثناء عند الاتّصال بالمستثنى منه ـ وعدم سماعه عند الفصل الماحي لوحدة الكلام ـ دليل قطعي على اعتبار الوحدة بين أجزاء الكلام الواحد ، وكذا بين أجزاء كل مركّب اعتباري.

(٢) في الفقه على المذاهب الأربعة في شروط عقد النكاح : «واشترط الشافعية والمالكية الفور ، واغتفروا الفاصل اليسير الذي لا يقطع الفور عرفا» (١).

__________________

(١) : الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ٤ ، ص ٢٤


لا يضرّ (١) قول الزوج بعد الإيجاب : الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلت نكاحها.

ومنه (٢) الفوريّة في استتابة المرتدّ ، فيعتبر في الحال. وقيل : إلى ثلاثة أيّام (٣).

ومنه (٤) السكوت في أثناء الأذان ، فإن كان كثيرا أبطله.

______________________________________________________

(١) وهو يضرّ بناء على ما سمعته من جامع المقاصد من قوله : «وكذا لو تخلّل بينهما بكلام آخر أجنبي».

(٢) أي : ومن اعتبار الاتصال والتوالي : ما ذكروه في توبة المرتد من حيث اعتبار الفورية فيها عقيب استتابته من طرف الحاكم الشرعي. فلو لم يتب فورا قتل ، هذا بناء على ما نسب إلى المشهور.

وأمّا بناء على إمهاله ثلاثة أيّام لم تكن هذه المسألة من فروع الموالاة ، لأجنبيّتها عنها.

ويدلّ على فوريّة إجابة المرتد بعد الاستتابة عدة نصوص :

منها : ما في معتبرة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام في حديث ، قال : «قلت : فنصرانيّ أسلم ثم ارتدّ؟ قال : يستتاب ، فإن رجع ، وإلّا قتل» (١). وظهورها في وجوب الرجوع فورا وعدم إمهاله ممّا لا ينكر.

(٣) وهو مرويّ أيضا ، مثل ما رواه مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : المرتدّ عن الإسلام تعزل عنه امرأته ، ولا تؤكل ذبيحته ، ويستتاب ثلاثة أيام ، فإن تاب ، وإلّا قتل يوم الرابع» (٢).

(٤) أي : ومن اعتبار التوالي : حكمهم بقدح السكوت في أثناء الأذان.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٥٤٧ ، الباب ٣ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث : ١ ، ونحوه الحديث ٢ و٣ و٤

(٢) المصدر ، ص ٥٤٨ ، الحديث : ٥


ومنه (١) السكوت الطويل في أثناء القراءة ، أو قراءة غيرها خلالها (٢). وكذا التشهّد (٣).

ومنه (٤) تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع ، فإن تعمّدوا أو نسوا حتى ركع فلا جمعة.

واعتبر بعض العامّة تحريمهم معه قبل الفاتحة (٥).

______________________________________________________

واستدلّ في الجواهر على اعتبار الموالاة بين فصول الأذان بوجوه ثلاثة : الأصل ، وفعلهم عليهم‌السلام ، والاستفادة من الأدلّة الخالية عن المعارض (١).

والكلّ مخدوش ، إذ في الأوّل عدم معارضته للإطلاق الدالّ على عدم الاعتبار. وفي الثاني : الإجمال. والاستفادة من الأدلة على خلافه.

فالتحقيق أنّ المعتبر هو عدم انمحاء الصورة عند المتشرعة بسكوت طويل أو أعمال أجنبية ، كانمحاء صورة الصلاة على ما ثبت في محله. فالموالاة بالمعنى المقصود هنا غير معتبرة في الأذان.

(١) أي : ومن اعتبار التوالي : حكمهم بقدح السكوت الطويل الماحي للهيئة الكلامية المعتبرة في صحة كونه كلاما ، وكذا الكلام الأجنبي الماحي.

لكنك خبير بأنّه أجنبي عن الموالاة المعتبرة في شي‌ء ، مع انخفاظ عنوانه ، ضرورة أنّ الماحي مخلّ بعنوان القراءة ، لا بالفورية فقط.

(٢) الضميران راجعان إلى القراءة.

(٣) فإنّ التشهّد عنوان واحد لا يتحقق إلّا باتصال أجزائه.

(٤) أي : ومن اعتبار التوالي. وغرضه ـ ظاهرا ـ هو : أنّ ما دلّ على اعتبار العدد في الجمعة يقتضي اعتبار دخولهم في الصلاة قبل الركوع على وجه يعدّ تمام الصلاة فعلا لجميعهم.

(٥) وهذا أولى من سابقه ، لأنّه أمسّ بالموالاة.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٩ ، ص ٩٢


ومنه (١) الموالاة في التعريف بحيث لا ينسى أنّه تكرار. والموالاة في سنة التعريف (٢) ، فلو رجع (٣) في أثناء المدة استؤنف ليتوالى» (١) انتهى.

______________________________________________________

(١) أي : ومن اعتبار التوالي : الموالاة في التعريف. ولعلّ المراد بهذا التعريف هو تعريف اللقطة في أوّلها ، يعني تعتبر الموالاة بين التقاطها وبين تعريفها ، بحيث لا يتخلّل زمان معتدّ به بين الالتقاط وبين التعريف الأوّل.

وكذا يعتبر التوالي بين التعريفات أثناء سنة واحدة ، إذ لو تخلّل زمان طويل بين التعريفات لم يتذكّر السامع أن التعريف الثاني والثالث تكرار للتعريف الأوّل ، واحتمل أنّه تعريف للقطة أخرى غير اللقطة الأولى التي عرّفها مرّة مثلا. وعلى هذا يعتبر التوالي بين التعريفات حتى لا تصير اللقطة نسيا منسيا. قال الشهيد قدس‌سره : «والضابط أن يتابع بينها بحيث لا ينسى اتصال الثاني بمتلوّه» (٢).

(٢) أي : تعريف اللقطة في أثناء السّنة.

(٣) أي : فلو رجع عن التعريف في أثناء السنة استأنف التعريف. وبيانه : أنّه ـ بناء على اعتبار التتابع في التعريف في حول كامل ـ إذا عرّف الملتقط اللّقطة شهرا مع التتابع المعتبر كتعريفها في كلّ أسبوع مرّة مثلا ، ثم ترك التعريف شهرين ، وجب عليه تعريفها سنة كاملة بعد الشّهر الثالث ، وذلك لأنّ التعريف في الشهر الأوّل قد انقطع أثره بفوات الموالاة والتكرار في الشهر الثاني والثالث ، فلو شرع في التعريف في الشهر الرابع لم يكن متابعة للتعريف في الشهر الأوّل. وحيث إنّه يجب التعريف حولا كاملا وجب عليه أن يعرّفها من الشهر الرابع ، وأن يجعله مبدأ سنة التعريف مع رعاية الموالاة بين الدفعات. ولو لم يكن التوالي معتبرا لم يسقط التعريف في الشهر الأوّل عن الأثر ، ولم يقدح تخلّل شهرين بدون التعريف ، وكان يكفيه إلحاق تسعة أشهر بما تقدم حتى يتمّ الحول.

__________________

(١) : القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٢٣٤ ، رقم القاعدة : ٧٣ ، وتمام كلام الشهيد هذا : «ليتوالى الانجاش ـ أي الإعلان ـ وقيل : يبني».

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٨٨


أقول : حاصله (١) أنّ الأمر المتدرّج شيئا فشيئا إذا كان له صورة اتصالية في العرف ، فلا بدّ في ترتب الحكم المعلّق عليه في الشرع من اعتبار صورته الاتّصالية. فالعقد المركّب من الإيجاب والقبول ـ القائم بنفس المتعاقدين ـ بمنزلة (٢) كلام واحد مرتبط بعضه ببعض ، فيقدح تخلّل الفصل المخلّ بهيئته (٣) الاتصالية. ولذا (٤) لا يصدق المعاقدة إذا كان الفصل مفرطا في الطول كسنة أو أزيد.

وانضباط ذلك (٥) إنما يكون بالعرف ، فهو في كل أمر بحسبه ، فيجوز الفصل بين كلّ من الإيجاب والقبول بما لا يجوز بين كلمات كلّ واحد منهما ، ويجوز بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف ، كما في الأذان والقراءة.

وما ذكره (٦) حسن لو كان حكم الملك واللزوم في المعاملة منوطا بصدق

______________________________________________________

(١) قد تقدّم في (ص ٥٠١) تقريب هذا الحاصل ، فراجع.

(٢) خبر قوله : «فالعقد المركب» وقوله : «القائم» صفة للعقد.

(٣) متعلّق ب «يقدح» والضمير راجع إلى العقد.

(٤) أي : ولأجل قدح تخلّل الفصل المزبور لا يصدق المعاقدة إذا كان الفصل مفرطا في الطول كسنة أو أزيد.

(٥) يعني : وضبط الفصل المفرط ـ المخلّ بالهيئة الاتصالية ـ موكول إلى العرف ، ولا حدّ معيّن له ، فتختلف مراتب الفصل بحسب قصر الزمان وطوله ، فالفصل بالسعال والعطاس بين حروف كلمة واحدة وبين مثل المضاف والمضاف إليه قادح في صدق الكلمة وشبهها. والفصل بين المبتدأ والخبر بالعطاس مثلا ربما لا يكون مخلّا بالهيئة التركيبية. والسكوت دقيقة أو أكثر ربما يكون ماحيا لصورة قراءة السورة مثلا ، وهكذا.

(٦) أورد المصنف على كلام الشهيد قدس‌سرهما بوجوه ثلاثة :

أوّلها : يتعلق بما أفاده من اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول ، من جهة توقف صدق العقد على التوالي بينهما.


العقد عرفا ، كما هو مقتضى (١) التمسّك بآية الوفاء بالعقود ، وبإطلاق كلمات الأصحاب في اعتبار العقد في اللزوم بل الملك. أمّا لو كان (٢) منوطا بصدق البيع

______________________________________________________

ثانيها : يتعلّق بما أفاده من جعل مبنى شرطيّة الموالاة الرّبط بين المستثنى منه والمستثنى.

ثالثها : في الفروع الّتي فرّعها الشهيد على شرطية الفورية والتتابع.

أمّا الإشكال الأوّل فتقريبه : أنّ ما أفاده الشهيد قدس‌سره حسن لو كان دليل الملك واللزوم الآية المباركة الآمرة بالوفاء بالعقود ، حيث إنّها أناطت ترتب الملك واللزوم بعنوان «العقد» ولا يحرز صدقه إذا انفصل القبول عن الإيجاب بما لا يتسامح عرفا فيه. وأمّا لو كانا مترتبين على عنوان «البيع» أو «التجارة عن تراض» لم يقدح عدم صدق العقد على الإيجاب والقبول ، المنفصل أحدهما عن الآخر ، وذلك لكفاية صدق «البيع والتجارة» عليه ، حيث إنّهما موضوعان ـ في آيتي : (حلّ البيع والتجارة عن تراض) للصحة واللزوم.

وعليه فلا موجب حينئذ لاعتبار الموالاة فيه ، لعدم دوران الصحة واللزوم مدار عنوان العقد حتى نلتزم باعتبار الموالاة فيه. هذا توضيح الإشكال الأوّل.

وأمّا الإشكال الثاني والثالث فسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : أنّ ما أفاده الشهيد قدس‌سره من دوران الملك واللزوم مدار صدق العقد مستند إلى وجهين. أحدهما : ظهور الآية المباركة في أنّ ما يجب الوفاء به هو العقد.

ثانيهما : إطلاق كلمات الأصحاب ، حيث حكموا بترتب الإباحة على المعاطاة ، وقالوا : «إنّها ليست بيعا ولا عقدا» ومن المعلوم أنّ إطلاق «العقد» محمول على العقد العرفي غير الصادق على ما إذا لم يتصل القبول بالإيجاب فورا.

(٢) هذا هو إشكال المصنف على الشهيد قدس‌سرهما ، وحاصله ـ كما عرفت ـ عدم انحصار دليل الإمضاء في الأمر بالوفاء بالعقود.


أو التجارة عن تراض فلا يضرّه (١) عدم صدق العقد.

وأمّا جعل المأخذ في ذلك (٢) اعتبار الاتّصال بين الاستثناء والمستثنى منه

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ عدم صدق العقد لا يضرّ الملك واللزوم. ووجه عدم الإضرار عدم التلازم بين العقد والبيع والتجارة ، فيمكن صدقهما وعدم صدق العقد.

(٢) أي : اعتبار الموالاة. وهذا هو الإشكال الثاني على كلام الشهيد. ومقصود المصنف قدس‌سره تحقيق استدلاله على اعتبار الموالاة بقوله : «وهي مأخوذة من اعتبار الاتصال بين الاستثناء والمستثنى منه» وبيانه : أنّه لا ريب في اعتبار الاتصال في الاستثناء ، لكن الكلام في شرطية الاتصال والموالاة في مطلق المركّبات كالعقد والصلاة ، وكذا غير المركبات ، كما في التتابع في تعريف اللقطة في الحول ، ومن المعلوم أنّ الاستثناء جزئي من جزئيات هذه المسألة ، ومجرّد اعتبار الموالاة في هذا الجزئي لا يكفي في تأسيس قاعدة كليّة بعنوان شرطيّة الموالاة في أجزاء الكلام الواحد ، وكذا في غير الكلام ممّا له صورة اتصالية. ووجه عدم الكفاية أنّه استقراء ناقص لا يعوّل عليه في ضرب القانون.

ولا ينحصر استدلال الشهيد ـ بتتبع حال بعض الأفراد على تأسيس الأصل ـ بالمقام ، بل تكرّر منه في كتاب القواعد : «أنّ الأصل كذا» مع أنّه قدس‌سره لم يظفر بدليل عام ، وإنّما توصّل إليه بملاحظة بعض الأفراد ، فاصطاد منها أصلا عاما وقاعدة كلية. ولكن الانتقال من باب الاستثناء إلى اعتبار الموالاة في العقد وغيره لا يخلو من شي‌ء.

ثم تصدّى المصنف قدس‌سره لتوجيه استفادة الفورية والموالاة من باب الاستثناء ببيان آخر ، ومحصله : أنّ ارتباط المستثنى بالمستثنى منه أشدّ وآكد من ربط سائر التوابع والملابسات بمتبوعاتها ، لما عرفت في تقريب كلام الشهيد من دوران صدق الإخبار على إلحاق المستثنى بالمستثنى منه فورا ، بحيث لو لم يلحقه أو لحقه بالتراخي كان المراد الاستعمالي هو المستثنى منه خاصة ، وكان هو مدار الصدق والكذب ، كما إذا قال : «ما دخل في الدار أحد» مع دخول زيد فيها ، فإن لم يتصل به قوله : «إلّا زيد»


فلأنّه منشأ الانتقال إلى هذه القاعدة (١) ، فإنّ أكثر الكليّات إنّما يلتفت إليها من التأمّل في مورد خاص (٢). وقد صرّح (٣) في القواعد مكرّرا بكون الأصل في هذه القاعدة كذا.

______________________________________________________

حكم العرف بكذب الخبر. وهذا الربط الوثيق غير معتبر في سائر التوابع كالحال وذيه ، فإذا قال : «جاء زيد» ولم يقل «راكبا» كان صادقا في إخباره.

ولمّا كان الرّبط في جملة الاستثناء أقوى منه في اللواحق الأخرى جعلوه مبنى حكمهم باعتبار الموالاة في مطلق التابع سواء أكان من مقولة اللفظ أم أمرا آخر مما يتوقف صدق العنوان على الهيئة الاتصالية بين أجزائه كتعريف اللّقطة في سنة واحدة.

هذا توضيح توجيه المصنف لجعل الاستثناء أساسا لشرطية التوالي مطلقا ، ولكنه قدس‌سره جعله وجها بعيدا ، وسيأتي تقريبه.

(١) وهي اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول.

(٢) يعني : أنّ كثيرا من القواعد الشرعية تستنبط من حكم الشارع في قضية شخصية ، كما أنّ كثيرا منها وردت بلسان ضرب القانون والحكم العام.

(٣) غرضه الاستشهاد بخصوص كلمات الشهيد قدس‌سره في القواعد على الالتفات إلى الحكم الكلّي من تتبع بعض جزئياته ، وقد تكرّر قول الشهيد : «الأصل كذا».

كقوله : «الأصل أنّ كلّا من الواجب والندب لا يجزي عن صاحبه ، لتغاير الجهتين».

وقوله : «الأصل في الأسباب عدم تداخلها إلّا في مواضع».

و «أنّ الأصل في العقود الحلول ..».

و «الأصل أنّ كلّ أحد لا يملك إجبار غيره إلّا في مواضع».

و «الأصل عدم تحمل الإنسان عن غيره ما لم يأذن له إلّا في مواضع» وغير ذلك مما لا يخفى على المتتبع في قواعده قدس‌سره.

وعلى هذا فقوله في مسألتنا : «الموالاة معتبرة في العقود ، وهي مأخوذة .. إلخ»


ويحتمل بعيدا (١) أن يكون الوجه فيه : أنّ الاستثناء أشدّ ربطا بالمستثنى منه من سائر اللّواحق ، لخروج (٢) المستثنى منه معه عن حدّ الكذب إلى الصدق ، فصدقه (٣) يتوقف عليه ، فلذا كان طول الفصل هناك (٤) أقبح ، فصار أصلا في اعتبار الموالاة بين أجزاء الكلام ، ثم تعدّى (٥) منه إلى سائر الأمور المرتبطة بالكلام لفظا (٦) أو معنى (٧)

______________________________________________________

مبني على استفادة شرطية التوالي ـ في العقود وغيرها ـ من الرّبط الموجود في مورد خاصّ وهو المستثنى منه والمستثنى.

(١) وجه البعد : أنّ اعتبار الاتصال في ما كان الرّبط فيه أشدّ ـ كالاستثناء ـ لا يلازم ثبوته في ما كان الرّبط فيه أخفّ. مع أنّ الشهيد قدس‌سره جعل الاستثناء منشأ لاعتبار الاتصال والتوالي في موارد أخرى مع عدم كون الرّبط فيها بمثابة الاستثناء ، ومن المعلوم أنّه لا أولوية ولا مساواة في البين حتّى يتّجه التعدّي من الأشد إلى الأخف.

(٢) يعني : أنّ الحاجة إلى المستثنى لأجل خروج الخبر عن الكذب إلى الصدق ، وهذا بخلاف سائر التوابع كالحال والصفة والتأكيد ، فإنّ إهمالها في الكلام لا يؤثّر في صدق الخبر وكذبه أصلا.

(٣) يعني : فصدق المستثنى منه يتوقف على وصل المستثنى به فورا.

(٤) أي : الفصل بين المستثنى والمستثنى منه أقبح من الفصل بين مثل الحال وذي الحال ، فإذا كان وصل الحال بذيه لازما كان وصل المستثنى بالمستثنى منه ألزم وآكد. ولأجل هذه الآكدية جعل الشهيد الاستثناء منشأ لشرطية الموالاة في العقود وغيرها. والضمير المستتر في «صار» راجع إلى كون طول الفصل أقبح في باب الاستثناء.

(٥) يعني : تعدّى الشهيد قدس‌سره من باب الاستثناء إلى التوابع ونحوها.

(٦) كالتأكيد اللفظي ، فإنّه ـ مع تخلّل زمان معتدّ به بين المؤكّد والمؤكّد ـ يخرج الكلام عن ضابط التأكيد اللفظي.

(٧) كالمحمول ، فإنّ الفصل الطويل بينه وبين الموضوع يمنع عن حصول الرّبط


أو من (١) حيث صدق عنوان خاصّ عليه ، لكونه عقدا أو قراءة ، أو أذانا ، ونحو ذلك.

ثم (٢) في تطبيق بعضها على ما ذكره خفاء ، كمسألة توبة المرتدّ ، فإنّ غاية ما يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المطلوب في الإسلام الاستمرار ، فإذا انقطع فلا بدّ من إعادته (٣) في أقرب الأوقات.

وأمّا مسألة الجمعة (٤) فلأنّ هيئة الاجتماع في جميع أحوال الصلاة من

______________________________________________________

المعنوي بينهما.

(١) معطوف على قوله : «لفظا» أي : سائر الأمور المرتبطة بالكلام من حيث صدق عنوان على الكلام ، كعنوان العقد والقراءة والأذان ، والدعاء بالمأثور ممّا له عنوان خاص ، والتشهّد ، وغيرها من صنوف الكلام.

(٢) هذا هو الإشكال الثالث على الشهيد قدس‌سره ، وهو ناظر إلى تطبيق شرطية الموالاة على بعض الموارد ، ومحصل الإشكال : أنّ المرتدّ وإن وجبت عليه التوبة ـ بعد الاستتابة ـ فورا ، لكنه ليس بلحاظ اعتبار الموالاة بين الاستتابة والتوبة ، بل بلحاظ مطلوبية الإسلام من المرتدّ في كل حال حتى حال الاستتابة وقبلها وبعدها ، فيجب عليه الرجوع إلى الدين الحنيف من هذه الجهة ، لا من جهة رعاية الموالاة بين استتابته وتوبته.

هذا لو لم يؤخذ بالأخبار التي تمهله ثلاثة أيّام ، ثم يقتل بعدها لو لم يتب فيها. وأمّا بناء على الأخذ بها فلا يبقى مجال لاعتبار التوالي عرفا بين الاستتابة والتوبة ، لوضوح أنّ الفصل بثلاثة أيّام مخلّ بالتوالي والاتصال قطعا.

(٣) أي : إعادة الإسلام في أوّل الأزمنة ، فليست المسألة من فروع الموالاة.

(٤) هذا مورد ثان جعله المصنف قدس‌سره أجنبيا عن عموم اعتبار الموالاة بين أجزاء مركّب واحد عنوانا ، وحاصله : أنّ انعقاد صلاة الجمعة بتحريم المأمومين قبل الركوع ليس لأجل اعتبار الاتّصال والموالاة بين تحريم الإمام وتحريمهم ، بل لأجل


القيام والرّكوع والسجود مطلوبة ، فيقدح الإخلال بها (١).

وللتأمّل في هذه الفروع (٢) وفي صحة تفريعها على الأصل المذكور مجال (٣).

ثم إنّ (٤) المعيار في الموالاة موكول

______________________________________________________

مطلوبية القدوة في جميع أحوال الصلاة من القيام والركوع والسجود والتشهد وغيرها ، فالإخلال بها قادح في تحقق الجماعة ، وأين هذا من اشتراط الجمعة بالموالاة؟

(١) أي : بهيئة الاجتماع ، يعني : أنّ عدم تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع مخلّ بهيئة الاجتماع ، المطلوبة في جميع أحوال الصلاة.

(٢) يعني : لو سلّمنا اعتبار الهيئة الاتصالية في القراءة وفصول الأذان ونحوهما لم يكن ذلك متفرّعا على شرطية الموالاة ، بل لدليل خاص ، كما تقدّم في مطلوبية التديّن بالإسلام في كل حال ، ومطلوبية هيئة الاجتماع في صلاة الجماعة ، فلو لا هذا الدليل الخاص لأمكن نفي شرطية الاتصال بأصالة البراءة.

(٣) مبتدأ مؤخّر لقوله : «للتأمّل» ووجه مجال التأمل هو ما أفاده في قوله : «ويحتمل بعيدا أن يكون الوجه فيه» الذي حاصله : أنّ اعتبار الاتصال في باب الاستثناء ـ لشدّته وآكديته ـ لا يقتضي اعتباره في مطلق التابع والمتبوع مع عدم وثاقة الرّبط بينهما.

(٤) غرضه من هذا الكلام إلى آخر البحث تعيين المرجع في تحقق التوالي بين شيئين أو أشياء ، وأنّ ما ذا يكون مناط الفصل بينهما أو بينها؟ وقد أفاد أوّلا : أنّ الموالاة لا حقيقة شرعية لها ، فالمرجع في تشخيص مفهومها هو العرف ، ومن المعلوم أنّها تختلف باختلاف مواردها ، فالموالاة في قراءة كلمات آية أضيق دائرة من الموالاة في آيات سورة واحدة.

ثم أفاد ثانيا : أنّ المستفاد من خبر سهل الساعدي ـ الوارد في تزويج امرأة بالصحابي ـ جواز الفصل بين إيجاب النكاح وقبوله بكلام طويل أجنبي عن صيغة


إلى العرف (١) كما في الصلاة والقراءة والأذان ونحوها.

ويظهر (٢) من رواية سهل الساعدي المتقدّمة في مسألة تقديم القبول جواز الفصل بين الإيجاب والقبول بكلام طويل أجنبي (٣) ، بناء (٤) على ما فهمه الجماعة من أنّ القبول فيها قول ذلك الصحابي : «زوّجنيها» والإيجاب قوله بعد فصل طويل : «زوّجتكها بما معك من القرآن» (٥).

ولعلّ هذا (٦)

______________________________________________________

النكاح ، بناء على ما اختاره جمع منهم الشهيد الثاني قدس‌سره من أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوّجتكها» إيجاب مؤخّر ، وقول الرجل : «زوّجنيها» قبول مقدّم.

وأمّا بناء على ما اختاره آخرون من توجيه الخبر ، وعدم الأخذ بظاهره تعيّن الرجوع إلى العرف في سعة مفهوم الموالاة وضيقها في كل مورد.

(١) كما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره أيضا ، حيث قال : «قلت : المدار في هذه الموالاة على العرف ، فإنّه الحافظ للهيئة المتعارفة سابقا في العقد الذي نزّلنا الآية عليه ، فإنّ الظاهر عدم تغيّرها» (١).

(٢) مقصوده من الاستشهاد برواية سهل التوسعة في مفهوم الموالاة تعبدا ، وعدم الاقتصار على تحديدها عرفا.

(٣) المراد بالأجنبي هو الكلام غير المرتبط بالصيغة ومتعلّقاتها من صداق وشرط في ضمن العقد ونحوهما.

(٤) وأمّا بناء على ما فهمه جمع ـ من عدم كون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوّجتكها» إيجابا مؤخّرا ، ولا قول الرجل : «زوّجنيها» قبولا مقدّما ـ كان الخبر أجنبيا عن إلغاء الموالاة بين القبول المقدّم والإيجاب المؤخّر.

(٥) إذ لو لم يكن قول الصحابي : «زوّجنيها» قبولا ـ بأن تحقّق منه القبول بعد الإيجاب بلا فصل ـ كان التوالي محقّقا.

(٦) يعني : ولعلّ لزوم الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول ـ بناء على ما

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٥


موهن آخر (١) للرواية ، فافهم (٢) (*).

______________________________________________________

فهمه الأصحاب من كون قول الصحابي : «زوّجنيها» قبولا بلفظ الأمر مقدّما على الإيجاب من دون وقوع قبول آخر عقيبه ـ موهن آخر للرواية ، ومسقط لها عن الاعتبار.

(١) أشار به إلى موهن آخر تقدّم في بحث تقدم القبول ـ إذا كان بصيغة الأمر ـ بقوله : «وأمّا ما يظهر من المبسوط من الاتفاق هنا على الصحة به فموهون بما ستعرف من مصير الأكثر على خلافه» فإنّ مصير الأكثر إلى خلاف مضمون الرواية يوهن اعتبارها ، ويرفع الوثوق بها ، لأنّه إعراض عنها.

(٢) إشارة إلى : أنّ هذه الرواية إن دلّت على جواز الفصل بين الإيجاب والقبول لزم العمل بها ، لا أنّه موهن لها ، كيف؟ ولم يقم دليل تام على اعتبار الموالاة حتى يكون ذلك موهنا لهذه الرواية ، بل لو لم تنهض هذه الرواية على جواز الفصل كان مقتضى الأصل جوازه.

نعم يمكن أن يكون الموهن ضعف السند.

إلّا أن يقال : إنّه يكفي في الوثوق بها توصيف الشهيد الثاني قدس‌سره لها في المسالك بكونها «مشهورة بين العامة والخاصة ، وأنّه رواها كل منهما في الصحيح».

مضافا إلى : أن بمعناها رواية موصوفة بالصحة ، هدانا الله تعالى إلى أحكامه.

__________________

(*) قد عرفت ذهاب جمع إلى اشتراط صحة العقد بالموالاة المعبّر عنها في بعض الكلمات بالفوريّة ، والمراد بها العرفية ، بمعنى عدم تخلّل الفصل بما يخلّ بوحدة الموجود التدريجي فيما إذا أخذ بقيد وحدته موضوعا لآثار ، وإلّا فلا تتصور الموالاة الحقيقية بين أجزاء الموجود التدريجي المتشابك مع العدم ، لتقومه بالأخذ والترك. هذا بالنسبة إلى موجود واحد وتدريجي.

وأمّا الموجودان المستقلّان كالالتزامين القائمين بشخصين أو الكلامين كذلك فمعنى اتصالهما هو عدم تخلّل زمان بينهما حقيقة أو عرفا. وحيث إنّ المدار على صدق العقد العرفي فلا بدّ من عدم التخلّف بين إيجابه وقبوله ، لتقوّم العقد المعنوي واللفظي


.................................................................................................

__________________

المبرز له بعدم تخلّل زمان معتدّ به عرفا بين جزئية ، فاعتبار الموالاة حينئذ لكونها مقوّمة لعنوان العقد لا للتعبّد.

والتحقيق : أنّ هنا عناوين عديدة :

أحدها : العهد ، وهو الالتزام القلبي أو الجعل المعاملي.

ثانيها : العقد ، وهو ربط أحد الالتزامين بالآخر ، فحيثية العهد غير حيثية العقد ، لأنّ العهد بمنزلة الموضوع للعقد ، حيث إنّ الرّبط بين الشيئين متفرّع عليهما ، وربط أحد الالتزامين بالآخر ليس كارتباط لفظ بلفظ وكلام بكلام حتى يقال : إنّ الارتباط مساوق للاتصال المتقدم وهو الوصل من حيث الزمان.

بل مناط العقدية في مقام السببية إنّما هو بارتباط مدلول أحد الكلامين بالآخر ، بحيث يصلح أن يتسبّب به إلى مبادلة خاصة ، ويكون الآخر قبولا لذلك التسبيب لا لأمر آخر. وربط أحد الالتزامين بالآخر إنّما هو بلحاظ ورودهما على أمر واحد ، وهو كون أحد المالين بإزاء الآخر في الملكية مثلا. فالجامع الرابط بين الالتزامين هو وحدة الملتزم به. ومن المعلوم أنّ هذا المعنى من الارتباط لا يناط بعدم تخلّل الزمان بين الكلامين الدالّين على المدلولين ، بل يناط ببقاء الالتزام الإيجابي على حاله إلى أن يلحقه القبول ، وإن تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب والقبول ، إذ لا يتحقق الرّبط بين موجود ومعدوم ، ولذا لو أوجب البيع ولم يقبل القابل إلّا بعد مضيّ زمان من الإيجاب ـ ووعظه الموجب بأنّ هذا البيع ينفعك ، وبيّن منافعه ومصالحه حتى قبل المشتري ـ لم يكن مانع من صحة هذا البيع.

نعم لو ألغى الموجب التزامه الإيجابي لغا القبول ، لانتفاء الإيجاب.

فغاية تقريب الموالاة بين الإيجاب والقبول هي : أنّ الإيجاب والقبول لمّا كانا قائمين بأثر واحد فلهما بنظر العرف جهة وحدة ، فكأنّهما كلام واحد يترتب عليه أثر واحد. ومن المعلوم أنّ الاتصال العرفي المساوق للوحدة منوط بعدم تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب والقبول.


.................................................................................................

__________________

ثالثها : البيع ونحوه من العناوين الإنشائية ، فيمكن أن يقال : إن كان دليل الصحة واللزوم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فلا يشمل البيع والتجارة حتى يقال بكونهما من العقود التي تعتبر فيها الموالاة ، إذ لم يؤخذ في موضوع دليل الصحة واللزوم عنوان العقد ، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى ، ضرورة أنّ البيع والصلح والإجارة ونحوها من العقود العرفية بلا إشكال.

نعم يمكن أن لا تكون التجارة عقدا كالتملك بالحيازة ، فتأمّل. لكنه نادر.

فلا فرق في اعتبار الموالاة بين كون دليل الصحة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وبين كونه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وتجارة عن تراض ، هذا.

ثم إنّه لا بأس بالإشارة إلى الوجوه المستدلّ بها على اعتبار الموالاة في العقد ، وهي بين ما ظاهره كون دخل الموالاة في العقد عرفيا بمعنى تقوّم العقد بالموالاة ، وبين ما ظاهره كون الدخل تعبّديّا ، وبين ما ظاهره كون الدخل عقليّا.

الأوّل : ما عن ابن إدريس وغيره من قاعدة توقيفيّة ألفاظ العقود.

وفيه ما لا يخفى ، إذ الإطلاقات تقضي بعدم اعتبار الموالاة وعدم التوقيفية ، إلّا ما خرج.

الثاني : ما نقله المصنف عن الشهيد قدس‌سرهما. وحاصله : أنّ الموجود التدريجي ـ المركّب من أمرين أو أمور ـ إذا كان له عنوان واحد كالصلاة فلا بدّ في ترتيب الحكم المعلّق عليه من اعتبار صورته الاتصالية الحافظة لوحدته المقوّمة لعنوانه. والعقد المركّب من الإيجاب والقبول من هذا القبيل ، فإنّه وإن كان قائما بشخصين وموجودا بوجودين ، لكنهما لوحدة أثرهما بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض ، فيقدح في صدق العنوان تخلّل الفصل المخلّ بهيئته الاتصالية ، ولذا لا تصدق المعاقدة إذا كان الفصل بين الإيجاب والقبول كثيرا جدّا ، كسنة أو أزيد.

والحاصل : أنّ دخل الموالاة في العقد بناء على هذا التقريب عرفي ومقوّم لمفهومه العرفي. كما أنّ الوجه الأوّل المنسوب إلى ابن إدريس رحمه‌الله ناظر إلى كون دخل


.................................................................................................

__________________

الموالاة في العقد تعبديّا ، هذا.

وفيه ما عرفت آنفا من : أنّ العقد هو الربط بين الالتزامين ، ولا يناط ذلك الرّبط بعدم تخلّل زمان بينهما ، إذ الربط غير الاتصال الزماني ، هذا.

وأمّا ما أجاب به المصنف عن هذا الدليل بأن ما أفاده الشهيد قدس‌سره حسن لو كان دليل الملك واللزوم مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) مما أناطهما بعنوان العقد العرفي. أمّا لو كانا منوطين بصدق البيع أو التجارة عن تراض ، فلا يضرّه عدم صدق العقد ، لكفاية صدق البيع والتجارة عليه ، فلا موجب حينئذ لاعتبار الموالاة فيه ، لعدم إناطة الصحة واللزوم بعنوان «العقد» حتّى يلتزم باعتبار الموالاة فيه.

ففيه أوّلا : أنّ البيع والصلح وغيرهما من العقد العرفي ، لاشتمالها على الإيجاب والقبول اللّذين يتقوم بهما كل عقد.

نعم قد لا يصدق العقد على التجارة كتملّك المباحات ، فإنّه تجارة غير عقد كما قيل.

لكن فيه : عدم صدق التجارة عليه ، بل الصادق عليه هو الفائدة ، فصدق العقد على البيع والتجارة على حدّ سواء.

إلّا أن يقال : إن تملّك العامل للجعل في باب الجعالة تجارة أيضا ، مع عدم كون الجعالة عقدا ، بل هي إيقاع ، فتأمّل.

وثانيا : أنّ العقد هو الرّبط بين الالتزامين. وقد عرفت عدم توقف الربط العقدي على عدم تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب والقبول ، ومن المعلوم أنّ تخلل زمان بين الإيجاب والقبول الحاكيين عن ذلك الرّبط لا يوجب انفصام الالتزامين القائمين بالنفس ، كما لا يخفى.

ودعوى : وحدة الإيجاب والقبول اللفظيّين الحاكيين عن الالتزامين المرتبطين ، كما ترى ، حيث إنّ مورد اعتبار الموالاة هو العقد لا الكلامان الحاكيان عنه ، فمن ناحية


.................................................................................................

__________________

العقد العرفي لا يمكن الحكم باعتبار الموالاة في العقد.

مع أنّه لو كان التوالي معتبرا في العقد من حيث إنّه عقد عرفي لزم اعتباره في جميع أنواع العقود من اللازمة والجائزة ـ كما هو مقتضى إطلاق كلام الشهيد في القواعد ـ إذ اللزوم والجواز من أحكام العقد لا من مقوّماته. مع أنّ الشهيد الثاني لم يعتبر الموالاة في الوديعة التي هي من العقود الجائزة ، وقال في أوّل وديعة الروضة : «وكيف كان لا تجب مقارنة القبول للإيجاب قوليّا كان أو فعليا» (١).

فلو كان الوجه في اعتبار الموالاة عنوان العقدية فلا بدّ من الالتزام باعتبارها في كل عقد لازما كان أو جائزا.

وكيف كان فقد أورد المحقق النائيني قدس‌سره على ما عرفته من جواب المصنف عن الدليل المذكور ـ الذي استدلّ به الشهيد قدس‌سره ـ بوجوه :

أحدها : أن البيع والصلح والتجارة والنكاح ليست إلّا العقود المتعارفة ، فلا بدّ من الموالاة فيها قضية لعقديّتها.

وفيه : أنّ التعارف لا يوجب انصراف الإطلاق إلى خصوص العقود المتعارفة ، حتى يقال : إنّ دليلي البيع والتجارة بمنزلة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) في كون الموضوع عنوان العقد.

ثانيها : أنّه لا يصح التمسّك بإطلاق دليلي البيع والتجارة لنفي اعتبار الموالاة ، لعدم كونهما في مقام البيان من جميع الجهات ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّ التمسك بالإطلاق المزبور لإمضاء الأسباب يكشف عن ورودهما في مقام بيان الجهات.

وثانيا : أنّ الشك في ورودهما في مقام البيان كاف في الإطلاق ، للأصل العقلائي على ما قرّر في محله.

__________________

(١) : الروضة البهية ، ج ٤ ، ص ٢٣٠


.................................................................................................

__________________

ثالثها : أنّه لا يمكن التفكيك بين الصحة واللزوم إلّا بدليل خارجي من الإجماع ونحوه ، من جعل الشارع الخيار للمتعاقدين ، أو جعلهما لأنفسهما أو لأجنبي ، فهذه المعاملة وهي الإيجاب والقبول ـ اللذان تخلّل الفصل بينهما ـ لا يشملها (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الذي هو دليل اللزوم ، ولأجل ذلك لا يحكم بلزومها ، فلا بدّ من البناء على فسادها أيضا ، لما عرفت من عدم التفكيك بين الصحة واللزوم إلّا بدليل على عدم اللزوم ، وذلك الدليل مفقود هنا ، فلا محيص عن الحكم بفسادها ، هذا.

وفيه أوّلا : عدم انحصار دليل لزوم البيع ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لدلالة قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) على اللزوم ، حيث إنّ الأكل بالفسخ ليس تجارة عن تراض ، فيكون من الأكل بالباطل كما تقدّم تفصيله في أدلّة لزوم المعاطاة.

وثانيا : عدم دليل على التلازم بين الصحة واللزوم.

وثالثا : أنّ عدم شمول (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لا يدلّ على عدم اللزوم حتى يحكم ـ بضميمة عدم الفصل ـ بالفساد ، إذ يمكن أن يقال : بكفاية دليل الصحة ـ بضميمة عدم الفصل بين الصحة واللزوم ـ في الحكم باللزوم ، هذا.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف من : «أنّ في المعاملة خلعا ولبسا ، حيث إنّ البائع يخلع ثوب الملكية عن نفسه ويلبسه شخصا آخر ، فتخلّل الفصل بين الإيجاب والقبول يوجب تحقق الخلع مع عدم ثبوت اللّبس ويلزم منه تحقق الإضافة بلا مضاف إليه. أو أنّ في المعاملة إيجاد علقة ، ومع الفصل بين الإيجاب والقبول يلزم تحقق العلقة بلا محل. وكلاهما باطل ، فلا بد من اتّصال القبول بالإيجاب» (١) ، هذا.

وفيه أوّلا : النقض بالزمان القصير المتخلل بين الإيجاب والقبول في جميع

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١١


.................................................................................................

__________________

الموارد ، إذ لا فرق في هذا المحذور العقلي ـ وهو لزوم قيام الإضافة والعلقة بذاتهما وبلا محلّ وبغير مضاف إليه ـ بين قصر الزمان وطوله.

وثانيا : ـ بعد تسليمه ـ أنّه لا يبقى مجال للتردّد والإشكال في اعتبار الموالاة في بعض العقود ، وهو العقود العهدية غير المشتملة على المعاوضة كالهبة والرهن ، لأنّ اللّبس والخلع موجودان في الهبة أيضا ، إذ إضافة الملكية تخلع من الواهب ، ويكتسيها المتّهب ، فإذا تخلّل الفصل بين الإيجاب والقبول لزم الخلع بلا لبس مدّة من الزّمان.

وثالثا : أنّ الخلع واللّبس الإنشائيين يتحققان بالإيجاب من دون حاجة إلى القبول أصلا ، فالموجب ينشئ تمام ماهية البيع ويملّك المبيع ويتملك الثمن ، والقابل ينفّذ هذا الإيجاب ، فلا ينفصل اللّبس عن الخلع. وأمّا الخلع واللبس الاعتباريان اللذان يحكم بهما الشرع أو العقلاء فلا يحصلان إلّا بالقبول ، فبوجوده يتحققان معا في آن واحد من دون تخلّل لحظة بينهما ، فلا يلزم المحذور العقلي وهو تحقق الإضافة بلا محل ، فابتناء اعتبار الموالاة في العقد على هذه المسألة العقلية ليس في محله.

الوجه الرابع : ما يظهر من حاشية المحقق الإيرواني قدس‌سره وهذا نصّه : «وكأنّ اعتبار التوالي ناش من اعتبار المطابقة بين الإيجاب والقبول ، بتوهم : عدم حصول المطابقة مع التأخّر ، لأنّ الإيجاب أفاد النقل من الحين ، فإذا تأخّر القبول فإمّا أن يكون قبوله قبولا لتمام مضمون الإيجاب ، فيلزم من صحّته حصول النقل من حين الإيجاب كما في الإجازة على القول بالكشف ، فيكون النقل حاصلا قبل حصول تمام العقد ، وذلك باطل. أو يكون قبولا لبعض مضمون الإيجاب أعني النقل من حين تحقق القبول ، فيلزم عدم المطابقة بين الإيجاب والقبول. وهذا المحذور وإن كان يعمّ صورة التوالي أيضا ، لتحقق الفصل هناك أيضا ولو بيسير ، لكن هذا المقدار من التخلف لا يضر بالمطابقة العرفية ، فلا يوجب الحكم بالفساد» (١).

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٠


.................................................................................................

__________________

وفيه أوّلا : أنّ الالتزام بصحة العقد من حين الإيجاب بأن يكون القبول كاشفا عن صحته كذلك حقيقة أو حكما ممّا لا مانع عنه ، لما مرّ مرارا من أنّ الموجب ينشئ تمام ماهية العقد ، فالقبول كاشف ـ كالإجازة في الفضولي ـ فيكون القبول قبولا لتمام مضمون الإيجاب من دون محذور.

هذا ما أفيد ، لكنه لا يخلو من تأمّل ، وجهه : أنّ جعل القبول كاشفا لا جزء السبب المؤثّر في المسبب خلاف مقتضى العقد ، لأنّ مقتضاه كون كلا الإنشائين سببا ، لا كون القبول واسطة إثباتية ، وإلّا كان إيقاعا لا عقدا.

وثانيا : أنّ مضمون الإيجاب ليس إلّا مجرّد التمليك أو التبديل بين المالين ، من دون دخل للزمان فيه بأن يكون التبديل مقيّدا بزمان الإيجاب ، إلّا أنّ ترتب الأثر عليه عرفا وشرعا منوط بضم القبول إليه.

وبعبارة أخرى : الزمان ظرف لتحقق المسبّبات لا قيد لها ، فالقبول ـ بعد ضمّه إلى الإيجاب ـ يؤثّر في الأمر الاعتباري العقلائي والشرعي ، فمضمون الإيجاب هو النقل الإنشائي ، وأمّا الأمر الاعتباري فهو يترتب على القبول الذي هو قبول لتمام المضمون في الصورتين ، وهما : كون مضمون الإيجاب النقل من الحين ، أو كون مضمونه مجرّد النقل الإنشائي ، والعلقة الاعتبارية تترتب على القبول ، ففي كلتا الصورتين يكون القبول قبولا لتمام مضمون الإيجاب من دون محذور.

فتحصل من جميع ما ذكرناه أمور :

الأوّل : أنّ العقد والبيع والتجارة والإجارة والصلح وغيرها من أنواع العقود أسام للمسبّبات التي ليست هي من الأمور التدريجية الوجود ، ولا من مقولة الألفاظ حتى تلاحظ فيها الموالاة المقوّمة للهيئة الاتصالية ، فليس العقد هو السبب أعني الإيجاب والقبول حتى يكون مركّبا تدريجيا اعتبر فيه الموالاة ، إذ لازمه انتفاء العقد بوجود القبول ، لانعدام الألفاظ ، ولا معنى لوجود العقد مع انعدامها. وقد تقدّم أنّ العقد هو نفس الرّبط


.................................................................................................

__________________

بين الالتزامين ، ومن المعلوم كونه بسيطا لا مركّبا حتى تلاحظ الموالاة بين أجزائه. نعم يعتبر في صحة العقد بقاء الالتزام الإيجابي إلى زمان تحقق الالتزام القبولي.

الثاني : أنّ قياس العقد على القراءة والتشهد والأذان وغيرها ـ كما في عبارة الشهيد المتقدمة ـ في غير محله ، لأنّها من الأمور المتدرجة الوجود ، بخلاف العقد الذي هو دفعي الوجود ، لبساطته.

وبالجملة : فلا موضوع للموالاة في العقود حتى يبحث عن اعتبارها وعدمه.

نعم هذان الإشكالان مبنائيّان ، لأنّ الشهيدين جعلا ألفاظ المعاملات أسامي للأسباب على ما تقدم مشروحا في محلّه (١).

الثالث : أنّه لا فرق في العقود بين أنواعها في عدم موضوع لاعتبار الموالاة فيها ، لكون مفهوم العقد في جميع أنواعه واحدا غير قابل لتطرّق بحث الموالاة فيه ، هذا.

ثم إنّه لو سلّم كون العقد من مقولة اللفظ حتى يندرج في الأمر التدريجي ـ القابل لجريان بحث الموالاة فيه ـ فنقول : إنّه لا دليل على اعتبار الموالاة فيه ، لإطلاق أدلة الإمضاء ، ومعه لا تصل النوبة إلى أصالة عدم ترتب الأثر.

نعم لمّا كان الإيجاب والقبول بمنزلة السؤال والجواب كانت الموالاة المعتبرة بينهما بمثابة لا يخرج القبول عمّا هو بمنزلة الجواب. وأمّا الموالاة على حدّ الموالاة المعتبرة في الأذان والصلاة والقراءة ونحوها فهو ممّا لا يساعده دليل.

بل ربما يستدل على عدم اعتبار الموالاة في العقود بما دلّ على إهداء مارية القبطية ، حيث إنّه وقع بين إيجابه وقبوله فصل طويل. وذلك لأنّ النجاشي ملك الحبشة ـ بعد تشرفه بالإسلام ـ بعث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدايا ، وبعث إليه مارية القبطية أمّ إبراهيم عليه‌السلام ، وبعث إليه بثياب وطيب كثير وفرس.

ويدلّ أيضا على عدم اعتبار الموالاة فحوى ما ورد في قول الصّحابي : «زوّجنيها»

__________________

(١) : راجع الجزء الأول عن هذا الشرح ، ص ٢٨٩ إلى ٢٩٦


.................................................................................................

__________________

والإيجاب بعد فصل طويل «زوّجتكها».

وما في تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره من توجيه الاتصال والموالاة في الهدايا المرسلة من الأمكنة البعيدة بقوله : «ولكن الحق اعتبار الاتصال فيها أيضا. وإرسال الهدايا من البلاد البعيدة لا يدل على جواز الانفصال ، فإنّ تحقق الأفعال مختلف ، فمنها ما لا يحتاج إلى زمان ممتدّ ، كما لو وقعت في حضور المتعاطيين. ومنها ما يحتاج إليه كالهدايا المرسلة من الأماكن البعيدة ، فإنّ الفعل لا يتحقق إلّا بوصولها إلى يد المهدي إليه.

وجميع هذه الأفعال الصادرة من الواسطة كأنّها صادرة من الموجب ، فهو بمنزلة من كان في المشرق ، وكانت يده طويلة تصل إلى المغرب ، فمدّ يده وأعطى شيئا لمن كان في المغرب ، فإنّ فعله يتم في زمان وصول يده إلى المغرب ، فتأمّل جيّدا» (١).

لا يخلو من غموض ، للفرق الواضح بين ما نحن فيه وبين المثال المزبور ، وذلك لأنّ المهدي من المكان البعيد ربما يغفل عن هديّته حين وصولها إلى المهدي إليه ، فلا يمكن تنزيل فعل الرسول منزلة فعل المرسل. وهذا بخلاف المثال ، فإنّ المهدي في ذلك هو المرسل الذي يكون بنفسه متصديا لإنشاء العقد من دون فصل بين إيجابه وقبوله ، لعدم كون طول اليد مخرجا للفعل الواحد عن وحدته كما لا يخفى.

ويدل أيضا على عدم اعتبار الموالاة قيام السيرة بين التجار المتدينين على المعاملة بالكتابة والبرقية مع تخلّل فصل طويل بين إيجابها وقبولها ، مع عدم مناقشة أحد في صحتها.

فالمتحصل : أنّ العقد ـ بناء على كونه المسبّب ـ لا معنى لاعتبار الموالاة فيه. وبناء على كونه السبب وهو الإيجاب والقبول ـ كما هو ظاهر الشهيدين قدس‌سرهما ـ يتصور فيه التوالي ، لكن لا دليل على اعتبار أزيد من الموالاة الرابطة للجواب بالسؤال ، فقياس العقد

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٢


.................................................................................................

__________________

من ناحية الموالاة على الصلاة وأشباهها في غير محله.

بقي الكلام فيما أفاده الشهيد قدس‌سره بقوله : «وهي مأخوذة من اعتبار الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه .. إلخ» والظاهر أنّ مراده كون الاستثناء منشأ للانتقال إلى اعتبار الموالاة في العقد وغيره مما يعتبر فيه الاتصال ، وذلك لأنّ تبعية المستثنى للمستثنى منه أوجبت اعتبار الاتصال والموالاة بينهما ، ففي جميع موارد التبعية لا بدّ من مراعاة الموالاة.

والإيجاب والقبول في العقود من هذا القبيل ، حيث إنّ القبول تابع للإيجاب ، فالتبعية تقضي باعتبار الاتصال بينهما أيضا ، هذا.

وأنت خبير بما فيه ، حيث إنّ منشأ اعتبار الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه هو تقوّم معنى كلمة «إلّا» الذي هو معنى حرفي بالطرفين ، فلا محيص عن اعتبار الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه حتى يتحقق تلك النسبة والربط. وهذا بخلاف العقد بمعنى الإيجاب والقبول ، فإنّهما بمنزلة السؤال والجواب ، ومن المعلوم عدم اعتبار الفورية العرفية بينهما ، وإنّما المعتبر فيهما عدم تخلّل زمان معتدّ به بينهما بحيث يخرجان عن السؤال والجواب.

وكذا ما هو بمنزلتهما كالسّلام وردّه ، والورود في المسجد وصلاة تحيّته.

وأمّا العقد بالمعنى البسيط ـ أعني به المسبّب ـ فقد عرفت امتناع جريان نزاع اعتبار الموالاة وعدمه فيه. فعلى التقديرين لا وجه لجعل الموالاة في باب الاستثناء أصلا لاعتبار الموالاة في العقد ، هذا.


ومن جملة الشروط التي ذكرها جماعة : التنجيز (١) في العقد ، بأن (٢) لا يكون معلّقا على شي‌ء بأداة الشرط ، بأن يقصد المتعاقدان انعقاد المعاملة في صورة وجود

______________________________________________________

المبحث الثالث : اعتبار التنجيز

(١) هذا ثالث المباحث المتعلقة بالجهة الثالثة المتكفلة لشروط الهيئة التركيبية لصيغ العقود ، وهو ما ذكره جماعة من شرطيّة التنجيز أو مانعية التعليق ، وقد تعرّض المصنف قدس‌سره في هذا البحث لمقامات أربعة :

الأوّل : في معنى التنجيز.

الثاني : في نقل كلمات الأصحاب حتى يظهر منها أنّ اعتباره ثابت عندهم ، وأن التنجيز شرط أو التعليق مانع.

الثالث : في دليل اعتبار هذا الشرط.

الرابع : في تحقيق المسألة موردا ودليلا ، وسيأتي الكلام في كلّ منها بالترتيب.

(٢) هذا إشارة إلى المقام الأوّل ، وهو معنى التنجيز المبحوث عنه في صيغ العقود ، ومحصله : أنّ التنجيز عبارة عن الإرسال وعدم إناطة الإنشاء بشي‌ء من أدوات الشرط ، وفي مقابله التعليق الذي هو إناطة العقد بشي‌ء من أداة الشرط ، بأن يقصد المتعاقدان انعقاد المعاملة في صورة وجود ذلك الشرط ، كما إذا قال : «بعتك هذا الكتاب بدينار إن جاء زيد في هذا اليوم» وقال المشتري : «قبلت هكذا» أي القبول كالإيجاب مشروط بمجي‌ء زيد ، فقصدهما للبيع منوط بمجيئه ، بحيث لا يقصدان البيع في صورة عدم ذلك الشرط ، فالتنجيز حينئذ عبارة عن قصدهما البيع بدون الإناطة بالشرط.


ذلك الشي‌ء ، لا في غيرها (١).

وممّن (٢) صرّح بذلك (٣) الشيخ والحلّي (٤) والعلّامة (٥) وجميع من تأخّر

______________________________________________________

(١) يعني : في غير صورة وجود ذلك الشي‌ء الذي أنيط العقد به ، من شرط أو صفة.

(٢) هذا إشارة إلى المقام الثاني ، وهو أقوال الفقهاء في اعتبار التنجيز في العقود.

(٣) أي : باشتراط التنجيز ، قال شيخ الطائفة قدس‌سره في الخلاف : «إذا قال ـ أي الموكّل ـ إن قدم الحاج أو رأس الشهر فقد وكّلتك في البيع ، فإنّ ذلك لا يصحّ .. دليلنا أنّه لا دليل على صحة هذا العقد ، وعقد الوكالة يحتاج إلى دليل» (١).

وقال في المبسوط : «وأما الوقف فلا يدخله الخياران ـ يعني خياري المجلس والشرط ـ لأنّه متى شرط فيه لم يصحّ الوقف» (٢).

(٤) قال في وقف السرائر : «وشيخنا أبو جعفر رحمه‌الله ذهب إلى أنّ دخول الشرط في الوقف يبطله. ذكر ذلك في المبسوط وفي مسائل خلافه في كتاب البيوع ، لأنّ عقد الوقف لازم من الطرفين ، مثل عقد النكاح» (٣) والمستفاد من التعليل أنّ كل عقد لازم من الطرفين حكمه التنجيز ، وعدم صحة دخول الشرط فيه.

(٥) قال في التذكرة : «يشترط في الوقف التنجيز ، فلو علّقه على شرط أو صفة لم يجز ، مثل أن يقول : إذا جاء زيد فقد وقفت داري. أو يقول : إذا جاء رأس الشهر وقفت عبدي ، كما لا يصح تعليق البيع والهبة» (٤).

وقال في الهبة : «وأن يكون العقد منجّزا ، فلو علّقه على شرط لم يصح ، كالبيع» (٥).

__________________

(١) : الخلاف ، ج ١ ، ص ٦٥٥ (الطبعة الثانية ١٣٧٧).

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ١ ، ص ٨١

(٣) السرائر الحاوي : ج ٣ ، ص ١٥٨ و١٥٩

(٤) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٤٣٣

(٥) المصدر ، ص ٤١٥


عنه كالشهيدين (١)

______________________________________________________

وقال في هبة القواعد : بعد اعتبار التنجيز : «ولا يصح تعليق العقد».

وفي نكاحه : «ويشترط التنجيز ، فلو علّقه على شرط لم يصح» وفي وقفه : «ويشترط تنجيزه ، فلو علّقه بصفة أو بشرط لم يقع» (١).

(١) قال الشهيد في الدروس في شرائط الوقف : «وخامسها : التنجيز ، فلو علّق بشرط أو وصف بطل ، إلّا أن يكون واقعا ، والواقف عالم بوقوعه كقوله : وقفت إن كان يوم الجمعة» (٢).

وفي اللمعة وشرحها في شرائط الوقف : «وشرطه ـ مضافا إلى ما سلف ـ التنجيز» إلى آخر ما في الدروس ، وأضاف قوله : «وكذا في غيره من العقود اللازمة» (٣).

واشترط المحقق التنجيز في صحة الوقف ، وفرّع عليه قوله : «ولو قال : وقفت إذا جاء رأس الشهر ، أو : إن قدم زيد ، لم يصحّ» (٤).

وعلّق عليه الشهيد الثاني بما لفظه : «هذا تفريع على اشتراط التنجيز .. ونبّه بالمثالين على أنّه لا فرق بين تعليقه بوصف لا بدّ من وقوعه كمجي‌ء رأس الشهر ، وهو الذي يطلق عليه الصفة ، وبين تعليقه بما يحتمل الوقوع وعدمه كقدوم زيد ، وهو المعبّر عنه بالشرط. واشتراط تنجيزه مطلقا موضع وفاق كالبيع وغيره من العقود ، وليس عليه دليل بخصوصه» (٥).

وقال أيضا في مسألة «إن كان لي فقد بعته» ما لفظه : «إنّ التعليق ينافي الإنشاء

__________________

(١) : قواعد الأحكام ، ص ١١٠ ، ١٤٧ ، ص ١٠٧ (الطبعة الحجرية)

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٢ ، ص ٢٦٤

(٣) الرّوضة البهية ، ج ٢ ، ص ١٦٩

(٤) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢١٧

(٥) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٣٥٧


والمحقّق الثاني (١) وغيرهم (٢) قدس الله أرواحهم.

وعن فخر الدّين في شرح الإرشاد في باب الوكالة : «أنّ تعليق الوكالة على الشرط لا يصحّ عند الإمامية ، وكذا غيره من العقود لازمة كانت أو جائزة» (١).

وعن تمهيد القواعد : دعوى الإجماع عليه (٢).

وظاهر المسالك في مسألة اشتراط التنجيز في الوقف : الاتّفاق عليه (٣).

والظاهر عدم الخلاف (٣)

______________________________________________________

في العقود والإيقاعات حيث يكون المعلّق عليه مجهول الحصول» (٤).

(١) قال في شرائط الوقف : «أحدها : تنجيزه ، فلو علّق بشرط أو صفة ... لم يصحّ ، لعدم الجزم به ، كما لا يصح تعليق البيع والهبة» (٥).

وقال في بطلان عقد الهبة بالتعليق : «لأنّه مع التعليق لا جزم بإنشاء التمليك» (٦).

وقال في النكاح : «يشترط في عقد النكاح التنجيز قطعا ، لانتفاء الجزم بدونه ، فيبطل لو علّقه بأمر محتمل أو متوقع الحصول» (٧).

(٢) منهم الفاضل المقداد في التنقيح والسيد الطباطبائي في وقف الرياض ووكالته.

(٣) لكن تأمّل جمع في اعتبار التنجيز في الوكالة كالمحقق الأردبيلي والفاضل

__________________

(١) : حكاه السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٥٢٦

(٢) حكاه السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٥ ، تمهيد القواعد ، ص ١١٧ ، وليس فيه دعوى الإجماع : ولعلّ السيد حكاه عن موضع آخر.

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٣٥٧ الحدائق الناضرة ، ج ٢٢ ، ص ١٠ و ١١

(٤) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٧٦

(٥) جامع المقاصد ، ج ٩ ، ص ١٤ و١٥

(٦) جامع المقاصد ، ٩ ، ص ١٤٣

(٧) جامع المقاصد ، ج ١٢ ، ص ٧٧


فيه كما اعترف به غير واحد وإن لم يتعرّض الأكثر في هذا المقام (١).

ويدل عليه (٢) فحوى فتاواهم ومعاقد الإجماعات في اشتراط التنجيز في الوكالة ، مع كونه من العقود الجائزة التي يكفي فيها كلّ ما دلّ على الإذن ، حتّى أنّ العلّامة (٣) ادّعى الإجماع

______________________________________________________

السبزواري والمحدّث البحراني ، فراجع كلماتهم (١).

بل عن المحقق القمي قدس‌سره التصريح بأن التعليق في الوكالة لا يضرّ بصحتها (٢).

(١) يعني : أنّ أكثر الفقهاء لم يتعرّضوا لشرطية التنجيز في خصوص عقد البيع ، ولكن يستفاد من كلماتهم في أبواب متفرّقة ـ كالوقف والهبة والنكاح والوكالة وغيرها ـ تسالمهم على الاشتراط.

(٢) أي : على اشتراط التنجيز ، وهذا إشارة إلى المقام الثالث وهو بيان الدليل على توقف صحة العقد على عدم تعليقه على شرط أو صفة ، وقد تعرّض المصنف قدس‌سره أوّلا لكون المسألة إجماعية ، وثانيا للوجه الذي استند إليه المجمعون.

أمّا أصل اتفاقهم على الاشتراط في باب البيع فيستفاد من فحوى شرطيته عندهم في عقد الوكالة مع كونه من العقود الإذنية التي لا يعتبر في إنشائها ما يعتبر في إنشاء العقود اللازمة كالماضوية والموالاة بين الإيجاب والقبول ، فإذا توقّفت صحة الوكالة على تنجيزها كان توقّف صحة البيع والنكاح ـ ونحوهما من العقود اللازمة ـ عليه بالأولوية القطعية.

وأمّا وجه الاشتراط فهو منافاة التعليق للجزم حال الإنشاء ، وسيأتي بيانه.

(٣) مقصوده قدس‌سره من الاستشهاد بكلام العلّامة قدس‌سره إثبات وضوح شرطية التنجيز ـ ومبطلية التعليق ـ في عقد الوكالة التي يكفي فيها كلّ ما دلّ على الإذن. وبيانه : أنّ تعليق الوكالة مبطل ، بخلاف تعليق الموكّل فيه ، مع اشتراكهما في الإناطة

__________________

(١) : مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٩ ، ص ٥٣٣ و٥٣٤ ، كفاية الأحكام ، ص ١٢٨ ، الحدائق الناضرة ، ج ٢٢ ، ص ١٠ و١١

(٢) جامع الشتات ، ج ١ ، ص ٣٠٧


على ما حكي (١) عنه على عدم صحة أن يقول الموكّل : أنت وكيلي في يوم الجمعة أن تبيع عبدي وعلى صحة قوله : أنت وكيلي ، ولا تبع عبدي إلّا في يوم الجمعة مع كون المقصود واحدا (٢)

______________________________________________________

والتوقف ، فإذا قال : «أنت وكيلي في يوم الجمعة أن تبيع عبدي» كان باطلا ، لعدم فعلية التوكيل ، لفرض توقفه على حلول يوم الجمعة ، وهو معدوم حال الإنشاء. وإذا قال : «أنت وكيلي ، ولا تبع عبدي إلّا في يوم الجمعة» صحّ ، لفعلية التوكيل وإن كان التصرّف الموكّل فيه استقباليا.

والفارق بين المثالين ـ مع اشتراكهما في التعليق ـ أنّ المعلّق في الأوّل هو أصل مضمون العقد وهو التوكيل والإذن ، والمفروض اشتراط العقود بالتنجيز. وهذا بخلاف المثال الثاني ، فإنّ المعلّق ليس أصل التوكيل ، بل الموكّل فيه. ولو لا دخل التنجيز تعبّدا في العقود لكان اللازم التسوية بين المثالين بصحتهما معا أو بطلانهما كذلك. إلّا أن الدخل التعبدي اقتضى بطلان الأوّل وصحة الثاني.

(١) الحاكي لهذه العبارة عن العلّامة جمع منهم الشهيد الثاني والمحقق الأردبيلي والسيد الفقيه العاملي قدس‌سرهم (١) وهو حكاية بالمعنى ، لا لنصّ كلامه ، قال في التذكرة : «لا يصحّ عقد الوكالة معلّقا بشرط أو وصف ، فإن علّقت عليهما بطلت ، مثل أن يقول : إن قدم زيد ، أو : إذا جاء رأس الشهر فقد وكّلتك ، عند علمائنا .. والفرق ظاهر بين تنجيز العقد وتعليق التصرف ، وبين تعليق العقد. إذا ثبت هذا فلا خلاف في تنجيز الوكالة وتعليق العقد ، مثل أن يقول : وكّلتك في بيع العبد ولا تبعه إلّا بعد شهر ، فهذا صحيح» (٢).

(٢) وهو الإذن في إنشاء البيع يوم الجمعة.

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٤٠ ، مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٩ ، ٥٣٣ ، مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٥٢٧

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ١١٤


وفرّق (١) بينهما جماعة بعد الاعتراف بأنّ هذا في معنى التعليق «بأنّ (٢) العقود لمّا كانت متلقّاة من الشارع أنيطت بهذه الضوابط ، وبطلت فيما خرج عنها وإن أفادت فائدتها» فإذا كان الأمر كذلك (٣) عندهم في الوكالة فكيف الحال في البيع؟

وبالجملة : فلا شبهة في اتفاقهم على الحكم (٤).

وأمّا الكلام (٥) في وجه الاشتراط ، فالذي صرّح به العلّامة في التذكرة «أنّه مناف للجزم حال الإنشاء (٦)» بل (٧) جعل الشرط هو الجزم ، ثمّ فرّع عليه عدم جواز التعليق.

______________________________________________________

(١) هذا الفارق مذكور في المسالك ، قال قدس‌سره بعد نقل المثالين عن التذكرة : «وهذا وإن كان في معنى التعليق ، إلّا أنّ العقود لمّا كانت متلقّاة من الشارع أنيطت بهذه الضوابط .. إلخ». وقد تقدّم بيان الفارق بين بطلان تعليق الوكالة ، وصحة تعليق التصرف الموكّل فيه.

(٢) متعلّق بقوله : «فرّق» وهذا كلام الشهيد الثاني قدس‌سره.

(٣) يعني : فإذا كان التعليق مبطلا في عقد جائز مثل الوكالة فكيف لا يكون مبطلا في عقد لازم كالبيع؟

(٤) أي : بطلان العقد بالتعليق يكون متّفقا عليه بينهم.

(٥) مقصوده من هذا الكلام : أن اعتبار التنجيز وإن كان إجماعيا ، لاتفاقهم عليه ، لكن اشتراطه ليس تعبّدا محضا ، بل من جهة إناطة الإنشاء بالجزم ، وهو منوط بتجريده عن التعليق.

(٦) هذا نقل بالمعنى ، إذ الموجود في عبارة التذكرة «الجهل بثبوتها ـ أي المشيّة ـ حال العقد» (١). نعم في عبارة المسالك الآتية في المتن التصريح بمنافاة التعليق للإنشاء.

(٧) الوجه في الإضراب واضح ، إذ لو كان مستند اعتبار التنجيز مجرّد منافاة

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢


قال : «الخامس من الشروط : الجزم ، فلو علّق العقد على شرط لم يصحّ وإن كان الشرط المشيّة ، للجهل بثبوتها حال العقد ، وبقائها (١) مدّته. وهو أحد قولي الشافعي ، وأظهرهما عندهم الصّحة ، لأنّ هذه صفة يقتضيها إطلاق العقد ، لأنّه لو لم يشأ لم يشتر» (١) انتهى كلامه.

وتبعه على ذلك الشهيد رحمه‌الله في قواعده (٢) ، قال : «لأنّ الانتقال بحكم الرّضا (٣) ، ولا رضا إلّا مع الجزم ، والجزم ينافي التعليق» (٢) انتهى.

______________________________________________________

التعليق للجزم كان ظاهرا في مانعية التعليق ، لا في شرطية التنجيز. وهذا بخلاف ما لو كان التنجيز شرطا ، فإنّ بطلان العقد بالتعليق يستند إلى فقد الشرط ، لا إلى وجود المانع ، ومن المعلوم تقدّم رتبة الشرط على عدم المانع.

وعليه فيظهر من عبارة التذكرة أمران :

أحدهما : كون التنجيز ـ المعبّر عنه بالجزم ـ هو الشرط ، لا كون التعليق مانعا.

والآخر : كون اعتبار التنجيز على طبق القاعدة ، وأنّه ليس من باب التعبد.

(١) أي : بقاء المشيّة مدّة العقد في ما لو علم ثبوتها قبل العقد ، وجهل بقاءها حال العقد.

(٢) ذكره الشهيد في قاعدة عنونها بقوله : «التكاليف الشرعية بالنسبة إلى قبول الشرط والتعليق أربعة أقسام» إلى أن قال : «الثالث : ما يقبل الشرط دون التعليق على الشرط ، كالبيع والصلح والإجارة والرّهن ، لأن الانتقال .. إلخ».

(٣) توضيحه : أنّ الانتقال وترتّب الأثر على العقد إنّما هو لأجل الرّضا فعلا بالانتقال ، ولا رضا بالانتقال مع التعليق ، لأنّه رضا تقديري لا فعلي ، ولا يحرز الرّضا الفعليّ ـ الذي أنيط به نفوذ المعاملة ـ إلّا بالجزم بالإنشاء.

وبالجملة : لا يحرز الرّضا الفعلي ـ المحكوم بالعدم بالأصل ـ إلّا بالجزم ، فالتعليق ينافيه.

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٦٥ ، رقم القاعدة : ٣٥


ومقتضى ذلك (١) أنّ المعتبر هو عدم التعليق على أمر مجهول الحصول (٢) كما صرّح به (٣) المحقق في باب الطلاق.

وذكر المحقق والشهيد الثانيان في الجامع والمسالك في مسألة إن كان لي فقد بعته «أنّ التعليق إنّما ينافي الإنشاء في العقود والإيقاعات

______________________________________________________

(١) يعني : ومقتضى منافاة التعليق للجزم هو اختصاص بطلان العقد بما إذا كان المعلّق عليه مجهول الحصول. وغرض المصنف قدس‌سره التنبيه على أنّ استدلال الشهيد قدس‌سره على مبطليّة التعليق بقوله : «ولا رضا إلّا مع الجزم ..» وإن كان مقتضيا ـ بإطلاقه ـ لمبطليّة التعليق سواء أكان المعلّق عليه مجهول الحصول أم معلومة ، إلّا أنّ الشهيد قدس‌سره صرّح في كلامه الآتي بأنّه لا مانع من تعليق العقد على أمر معلوم الحصول سواء أكان حاليا أم استقباليا ، فالحالي كما إذا قال المالك : «إن كان لي فقد بعته» والاستقبالي كما إذا قال : «بعتك إن قدم يوم الجمعة» فالتعليق فيهما غير قادح ، لفعلية رضاه بالبيع.

وعليه يختص البطلان بما إذا كان المعلّق عليه مجهول الحصول ، كقوله : «بعتك إن قدم زيد من السّفر» مع عدم إحراز مجيئه.

(٢) إذ مع العلم بحصوله يكون التعليق صوريّا ، فالرّضا الفعلي محرز.

(٣) يعني : صرّح المحقق بأنّ المعتبر هو عدم التعليق على أمر مجهول الحصول ، قال قدس‌سره في كتاب الطلاق : «ويشترط في الصيغة تجريدها عن الشرط والصفة في قول مشهور ، لم أقف فيه على مخالف منّا» إلى أن قال : «تفريع : إذا قال : أنت طالق في هذه الساعة إن كان الطلاق يقع بك ، قال الشيخ قدس‌سره : لا يصح ، لتعليقه على الشرط. وهو حق إن كان المطلق لا يعلم. أمّا لو كان المطلق يعلمها على الوصف الذي يقع معه الطلاق فينبغي (*) القول بالصحة ، لأنّ ذلك ليس بشرط ، بل أشبه بالوصف وإن كان بلفظ الشرط» (١).

__________________

(١) : شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ١٨ و١٩


حيث (١) يكون المعلّق عليه مجهول الحصول (٢)» (١).

لكن (٣) الشهيد في قواعده ذكر في الكلام المتقدم «أنّ الجزم ينافي التعليق

______________________________________________________

(١) ظرف لقوله : «انما ينافي» وهذا تقريب المنافاة وموردها ، وحاصله : أنّ منافاة التعليق للإنشاء إنّما تكون في التعليق على أمر مجهول الحصول ، لأنّه مع العلم بحصوله لا تعليق حقيقة وإن كان تعليقا صورة.

(٢) فإذا كان المعلّق عليه معلوم الحصول ـ ولو في المستقبل ـ لم يقدح في صحة الإنشاء.

والأولى نقل جملة من كلام الشهيد الثاني في شرح قول المحقق «وطريق التخلّص أن يقول الموكّل : إن كان لي فقد بعته من الوكيل ، فيصح البيع ، ولا يكون هذا تعليقا للبيع على الشرط ، ويتقاصّان» فقال في المسالك : «إنّما لم يكن ذلك شرطا ـ مع كونه بصيغته ـ لأنّ الشرط المبطل ما أوجب توقف العقد على أمر يمكن حصوله وعدمه. وهذا أمر واقع يعلم الموكّل حاله ، فلا يضرّ جعله شرطا. وكذا القول في كل شرط علم وجوده ، كقول البائع يوم الجمعة مع علمه به : إن كان اليوم الجمعة فقد بعتك بكذا».

والمستفاد منه صحة التعليق في ما كان المعلّق عليه متحقّقا خارجا ، مثل كون المبيع مملوكا له.

(٣) غرضه من هذا الاستدراك التنبيه على اختلاف الشهيدين قدس‌سرهما في مورد منافاة التعليق للجزم ، فالشهيد الأوّل جوّز التعليق في مورد واحد ، وهو كونه معلوم الحصول حال الإنشاء ، كما في مثل : «إن كان لي فقد بعته» مع كونه مملوكا له ، فلو كان المعلّق عليه معلوم الحصول في المستقبل لم يصحّ.

ولكن ظاهر الشهيد الثاني صحّته إذا علم وجوده ، حيث قال في عبارته المتقدّمة آنفا : «وكذا القول في كل شرط علم وجوده». لكن عموم هذه العبارة

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٨ ، ص ٣٠٥ ، مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٧٦


لأنّه بعرضة عدم الحصول ـ ولو قدّر العلم بحصوله كالتعليق على الوصف (١) ـ لأن (٢) الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه (٣) ، فاعتبر المعنى العام (٤) دون خصوصيات الأفراد».

ثم قال : «فإن قلت : فعلى هذا (٥) يبطل قوله في صورة إنكار التوكيل : إن كان لي فقد بعته منك بكذا.

______________________________________________________

للشرط غير الموجود فعلا محل تأمّل.

(١) عبارة القواعد هكذا : «ولو قدّر علم حصوله كالمعلّق على الوصف ..».

(٢) تعليل لمنافاة التعليق للإنشاء وإن كان المفروض العلم بحصوله كالتعليق على الوصف. وحاصل تقريبه : أنّ جنس الشرط بحسب الوضع الأوّلي ـ مع الغضّ عن الخصوصيات الخارجية المنوّعة الموجبة للتفصيل في منافاة الشرط للإنشاء بين الوجود والعدم ـ ينافي الجزم المعتبر في الإنشاء.

وبعبارة أخرى : اعتبار عدم التعليق في العقد إنّما هو بلحاظ جنس الشرط بمعناه العام الساري في جميع الأفراد ، لا الشرط بلحاظ خصوصياته النوعية والشخصية ، فأداة الشرط تخرج الإنشاء عن الإرسال وتجعله منوطا بشي‌ء ، مهما كان المعلّق عليه.

(٣) المراد بأنواع الشرط هو معلوم الحصول في الحال أو في الاستقبال ، ومجهوله كذلك ، فإنّ الشرط في جميع موارده محتمل الحصول والعدم. نعم إذا كان معلوم التحقق حال الإنشاء صحّ ، لكون التعليق صوريّا لا جدّيا.

(٤) يعني : أنّ المعتبر هو مانعية الشرط ومنافاته للجزم ـ بما هو شرط ـ مع الغضّ عن كون المعلّق عليه حاصلا حين الإنشاء أم لا.

(٥) أي : فبناء على تقدير كون المناط في مبطلية التعليق جنس الشرط يلزم بطلان العقد حتى في قوله في صورة إنكار التوكيل : «إن كان لي فقد بعته منك» ممّا كان التعليق على أمر معلوم الوجود في ظرف الإنشاء. والحال أنّه صحيح ، فيستكشف من ذلك أنّ المدار على خصوصيات الشرط لا جنسه ، إذ المفروض وجود الجنس.


قلت (١) : هذا تعليق على واقع ، لا متوقع الحصول ، فهو (٢) علّة للوقوع أو مصاحب له (٣) ، لا معلّق عليه الوقوع.

وكذا نقول (٤) لو قال في صورة إنكار وكالة التزويج ، وإنكار التزويج

______________________________________________________

وأمّا كون التعليق هنا على أمر معلوم الوجود فلقوله في الجواب : «إنّ هذا تعليق على واقع» يعني على أمر يعلمان أنّه واقع في ظرف الإنشاء ، ضرورة أنّ مجرّد وقوعه في ظرف الإنشاء في الواقع ـ بدون العلم به ـ لا يمنع عن الترديد ، ومعه يبقى التنافي ـ بين التعليق عليه وبين الجزم ـ على حاله.

(١) محصّل هذا الجواب : أنّ التعليق هنا صوري لا حقيقة له ، لأنّ التعليق الحقيقي منوط بعدم العلم بتحقق المعلّق عليه حين الإنشاء ، فمرجع قوله : «إن كان لي فقد بعته» إلى قوله : «لمّا كان لي فقد بعته».

والحاصل : أنّ العبرة بجنس الشرط ، لكن يعتبر فيه الجهل بتحقق المعلّق عليه وترقّب حصوله ، وهنا لا ترقّب ، إذ لا جهل.

(٢) يعني : أنّ وجود المعلّق عليه واقعا علّة لوقوع المنشإ ـ أي البيع ـ الذي أنشأه بقوله : «إن كان لي فقد بعته» فمملوكية المبيع فعلا علّة لوقوع البيع بهذا الإنشاء المزبور.

(٣) معطوف على «علّة» يعني : أنّ مملوكية المال ليست علّة لوقوع البيع ، وإنّما تكون مصاحبة للعلّة ، إذ العلّة هي إرادة البيع ، ويصحبها مملوكية المال.

(٤) يعني : يصح التعليق في مثالين آخرين ، أحدهما : إذا تنازع رجل وامرأة في الزوجية ، فادّعتها المرأة وأنكرها الرجل ، فتنحلّ المرافعة بأن يقول الرّجل : «إن كانت زوجتي فهي طالق» فيقع الطلاق ـ على تقدير تحقق الزوجية واقعا ـ مع كونه معلّقا. ولا يقدح هذا التعليق ، لأنّ المعلّق عليه ـ وهو الزوجية ـ متحقق في وعاء الاعتبار ، وليس متوقع الحصول كما في قدوم زيد من السفر. هذا إذا كان أصل التزويج ثابتا. وأمّا إذا لم تكن بينهما علقة كان الطلاق المزبور لغوا ، من جهة انتفاء الموضوع.


حيث تدّعيه (١) المرأة : إن كانت زوجتي فهي طالق» (١) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وعلّل العلامة في القواعد صحّة ـ إن كان لي فقد بعته ـ «بأنه (٢) أمر واقع يعلمان وجوده ، فلا يضرّ جعله شرطا. وكذا كلّ شرط علم وجوده ، فإنّه (٣) لا يوجب شكّا في البيع ، ولا وقوفه (٤)» انتهى (٢).

وتفصيل الكلام (٥) : أنّ المعلّق عليه إمّا أن يكون معلوم التحقّق ، وإمّا

______________________________________________________

ثانيهما : إذا تنازع الرّجل والمرأة ، فادّعت أنّ الرّجل وكّل شخصا في أن يزوّجني منه ، وقد تزوّجت به ، وأنكر الرّجل هذه الوكالة ، فيصحّ أن يقول : «إن كانت زوجتي فهي طالق» على ما تقدّم في المثال الأوّل.

(١) بأن ادّعت التزويج أو التوكيل فيه.

(٢) هذا نقل بالمعنى ، وإلّا فعبارة القواعد هكذا : «فإن قال : إن كانت الجارية لي فقد بعتكها ، أو قال الموكّل : إن كنت أذنت لك في شرائها بألفين فقد بعتكها ، فالأقرب الصحة ، لأنّه أمر واقع يعلمان وجوده ..» الى آخر ما في المتن.

(٣) يعني : أنّ الشرط المعلوم وجوده لا يوجب شكّا ولا ترديدا في إنشاء البيع.

(٤) يعني : لا يوجب هذا التعليق توقّف البيع على ذلك المعلّق عليه ، إذ العلم بحصوله حال البيع يوجب كون التعليق صوريّا لا حقيقيّا.

(٥) بعد أن أشار المصنف قدس‌سره إلى جملة من كلمات الفقهاء وما استدلّوا به على شرطية التنجيز تعرّض للمقام الرابع المتكفّل لتحقيق المسألة موضوعا ومحمولا ، وأفاد فيه مطالب ثلاثة :

الأوّل : في ذكر أقسام التعليق بالنظر إلى المعلّق عليه ، وبيان حكم كلّ منها.

الثاني : في تحقق الوجوه المستدل بها على اعتبار التنجيز.

الثالث : في حكم تردّد المنشئ وعدم جزمه بتحقق شرط الصحة ، وسيأتي تفصيل الأخيرين بتبع المتن. فنقول وبه نستعين وبوليه صلوات الله وسلامه عليه وآله نستجير :

__________________

(١) : القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٦٦

(٢) قواعد الأحكام ، ص ١٠٥ (الطبعة الحجرية)


يكون محتمل التحقق. وعلى الوجهين فإمّا أن يكون تحقّقه ـ المعلوم أو المحتمل ـ في الحال أو المستقبل.

______________________________________________________

المطلب الأوّل في أقسام التعليق ، ومحصله : أنّ المعلّق عليه إمّا معلوم الحصول ، أو مشكوك الحصول ، وعلى كلّ منهما فإمّا أن يكون المعلّق عليه ممّا يتوقف عليه صحة العقد شرعا ، أو يكون أجنبيا عن العقد ، فالمجموع ثمانية أقسام.

أمّا التعليق على مصحّح العقد ـ كشرائط العوضين والمتعاقدين بالنسبة إلى البيع ـ فكالموارد الأربعة التي ذكرها في المتن.

أوّلها : قابلية المبيع للتملّك وللبيع شرعا ، بأن لا يكون ساقطا عن المالية كالخمر والخنزير.

ثانيها : قابلية المبيع للإخراج عن ملك البائع بعد الفراغ عن ملكيته ، كعدم كون الأمة أمّ ولد ، وعدم كونه وقفا ولا رهنا.

ثالثها : قابلية المشتري للتملّك ، بأن لا يكون عبدا مملوكا لا يقدر على شي‌ء.

رابعها : قابلية المشتري للمعاملة معه ـ بعد كونه مالكا ـ بأن لا يكون صبيّا.

فإذا قال : «بعتك هذا بشرط أن لا يكون خمرا» أو «بعتك هذه الأمة على أن لا تكون أمّ ولد» أو «بعتك هذا على أن تكون حرّا» أو «بعتك على أن لا تكون صغيرا» كان المعلّق عليه ممّا يتوقف صحة العقد عليه. وفي كل واحد من هذه الأمثلة تقادير أربعة ، إذ المعلّق عليه إمّا معلوم الحصول في الحال أو في الاستقبال ، وإما مجهول الحصول كذلك.

وأمّا الصور الأربع التي يصرّح فيها بالتعليق ولم يكن المعلّق عليه دخيلا في صحة العقد ، فقد ظهرت مما تقدّم عند نقل الأقوال ، كما إذا باع ماله معلّقا على مجي‌ء زيد أو طلوع الشمس ، فإن المجي‌ء والطلوع ليسا من شرائط صحة البيع ، فإذا علّق البيع عليهما فإمّا أن يكونا معلوم الحصول حال الإنشاء ، وإمّا في الاستقبال ، وإمّا أن يشك في الحصول في الحال أو في الاستقبال. فهذه صور أربع.

هذا كلّه في صور التصريح بالتعليق. وزاد المصنف قدس‌سره ما إذا كان التعليق لازما


وعلى التقادير فإمّا أن يكون الشرط ممّا يكون مصحّحا للعقد ، ككون (١) الشي‌ء ممّا يصحّ تملّكه شرعا ، أو ممّا (٢) يصحّ إخراجه عن الملك كغير أمّ الولد وغير الموقوف ونحوه (٣) ، وكون (٤) المشتري ممّن يصح تملكه شرعا ، كأن لا يكون عبدا ، وممّن يجوز العقد معه (٥) بأن يكون بالغا.

______________________________________________________

للكلام وإن لم يصرّح فيه بأداة الشرط ، كما إذا قال : «بعتك هذا يوم الجمعة» بأن يكون ظرف حصول الملكية للمشتري هو يوم الجمعة ، فيجري فيه ما تقدّم من أنّ الإنشاء إن كان في يوم الجمعة فالمعلّق عليه محرز الحصول في الحال ، وإن كان يوم الخميس فالمعلّق عليه محرز الحصول في الاستقبال.

هذا إجمال صور التعليق ، وسيأتي بيان أحكامها عند شرح كلمات المصنف قدس‌سره إن شاء الله تعالى.

(١) قد عرفت أنّ المذكور في المتن ـ من شرائط الصحة ـ أمور أربعة.

أوّلها : قابلية المبيع للتملّك ، وعدم إلغاء ماليّته العرفية ، بأن لا يكون خمرا ولا خنزيرا ، فإذا قال : «بعتك هذا على أن لا يكون خمرا» كان المعلّق عليه ممّا يتوقف صحة العقد عليه شرعا.

(٢) هذا ثاني الأمور التي تتوقف صحة العقد عليها شرعا.

(٣) ممّا لا يكون المال ملكا طلقا لأحد المتبايعين ، كبيع الراهن العين المرهونة بدون إذن المرتهن ، كأن يقول : «بعتك هذا على أن لا يكون رهنا».

(٤) معطوف على «كون» في قوله : «ككون الشي‌ء» وهذا ثالث الأمور ، وهو قابلية المشتري للتملّك بأن لا يكون عبدا ولا كافرا حربيّا.

(٥) هذا رابع الأمور المعتبرة شرعا في البيع ، وهو بلوغ المتعاقدين ، فإنّ الصبي مسلوب العبارة ، بأن يقول البائع : «بعتك على أن تكون بالغا».

ونظير هذه الأمور الأربعة الدخيلة في الصحة ما تقدّم من تعليق الطلاق على زوجية المرأة ، كما إذا قال : «إن كانت هند زوجتي فهي طالق» وأنه من التعليق على واقع لا على متوقّع.


وإمّا (١) أن لا يكون كذلك (٢).

ثمّ التعليق إمّا مصرّح به (٣) ، وإمّا لازم من الكلام ، كقوله : «ملّكتك هذا بهذا يوم الجمعة» وقوله في القرض والهبة : «خذ هذا بعوضه (٤)» أو «خذه بلا عوض يوم الجمعة (٥)» فإنّ التمليك (٦) معلّق على تحقق الجمعة في الحال أو في

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «فإما أن يكون الشرط ممّا يكون مصحّحا للعقد».

(٢) بأن يكون أجنبيا عن المصحّح للعقد ، كأن يقول : «بعتك هذا المتاع إن صلّيت صلاة الليل» فإن هذا الشرط ليس من شروط صحة البيع.

(٣) قد عرفت صور صراحة التعليق ، وأمّا التعليق المستفاد من الدلالة الالتزامية فالمستفاد من المتن أنّ له صورتين :

إحداهما : أن يتضمّن الإنشاء ظرفا ، مثل «اليوم ، وعند ، وحين» ونحوها ، كما إذا قال : «بعتك هذا بهذا يوم الجمعة» فإنّ البيع معلّق على تحقق يوم الجمعة إمّا في الحال كما إذا كان زمان الإنشاء يوم الجمعة ، أو في الاستقبال كما إذا كان الإنشاء يوم الخميس.

ثانيتهما : أن يكون لا يتضمّن الإنشاء ظرفا ، وإنّما يستفاد التعليق من توقف صحة البيع على أمر واقعي كالملكية ، كما إذا باع الولد مال والده بظنّ موته حتى ينتقل إليه ، ويخرج عن الفضول ، فيقول : «بعتك هذا بكذا» فإنّ توقف صحة البيع على مملوكية المبيع ـ أو ملك أمر البيع ـ أمر واقعي سواء علّق الإنشاء عليه بأن يقول : «بعتك إن كان لي» أم لم يعلّق عليه.

(٤) أي : «خذ هذا بعوضه يوم الجمعة» وهذا تعليق القرض ـ بالدلالة الالتزامية ـ على يوم الجمعة ، وهو من التعليق على أمر معلوم الحصول في الحال إن كان ظرف الإنشاء يوم الجمعة ، أو في الاستقبال إن كان الإنشاء قبل الجمعة.

(٥) هذا مثال تعليق الهبة بما ليس صريحا.

(٦) يعني : فإنّ التمليك ـ بالقرض أو بالهبة ـ وإن كان منجّزا ، لعدم التصريح بأداة


الاستقبال. ولهذا (١) احتمل العلّامة في النهاية وولده في الإيضاح بطلان بيع الوارث لمال مورّثه بظنّ موته ، معلّلا «بأنّ العقد وإن كان منجّزا في الصورة ، إلّا أنّه معلّق ، والتقدير : إن مات مورّثي فقد بعتك» (١).

فما كان منها معلوم الحصول (٢) حين العقد فالظاهر أنّه غير قادح ، وفاقا

______________________________________________________

الشرط ، لكنه معلّق واقعا على تحقق الجمعة في الحال أو في الاستقبال.

(١) أي : ولأعمية التعليق من الصريح والضمني احتمل العلّامة وولده قدس‌سرهما بطلان بيع الوارث مال مورّثه بظنّ موته. قال العلّامة : «ولو باع مال أبيه بظنّ أنّه حيّ وهو فضولي ، فبان أنّه كان ميّتا حينئذ ، وأنّ المبيع ملك للعاقد ، فالأقوى الصحة ، لصدوره من المالك» ثم فرّق قدس‌سره بين إخراجه زكاة فيبطل ، وبيعه فيصح ، لعدم توقف البيع على النيّة ، ثم قال : «ويحتمل البطلان ، لأنّه وإن كان العقد منجّزا في الصورة ، إلّا أنّه في المعنى معلّق ، وتقديره : إن مات مورثي فقد بعتك. ولأنّه كالعابث عند مباشرة العقد ، لاعتقاده أنّ المبيع لغيره» ونحوه كلام فخر المحققين ، فراجع.

هذا تمام الكلام في ذكر صور التعليق ، وسيأتي بيان أحكامها إن شاء الله تعالى.

(٢) يعني : معلوم الحصول مطلقا سواء توقف عليه صحة العقد أم لا. وهذا شروع في بيان حكم الأقسام المتقدمة ، فأفاد عدم قدح التعليق في صورتين ، ويجمعهما كون المعلّق عليه معلوم التحقق حين العقد مطلقا ، سواء أكان من قبيل ما هو مصحّح للعقد أم لا ، كما إذا قال : «إن كان لي فقد بعتك» مع كونه ملكا له أو قال : «بعتك إن كان اليوم الجمعة» مع كون يوم الإنشاء الجمعة.

والوجه في صحة العقد : ما تقدّم في كلام جمع من أن التعليق فيها صوري ، وأنّه تعليق على واقع لا على متوقّع ، فشرط الصحة ـ وهو الجزم بالإنشاء ـ متحقق بالفعل.

__________________

(١) : نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٧٦ و٤٧٧ ، إيضاح الفوائد ج ١ ، ص ٤٢٠


لمن عرفت كلامه كالمحقّق والعلّامة والشهيدين والمحقق الثاني والصيمري (١).

وحكي (٢) أيضا عن المبسوط والإيضاح في مسألة ما لو قال : إن كان لي فقد بعته (١).

بل لم يوجد في ذلك (٣) خلاف صريح. ولذا (٤) ادّعى في الرّياض في باب

______________________________________________________

(١) ظاهر العطف أنّ المصنف قدس‌سره نقل كلاما عن الصيمري كما نقل عن المحقق والعلّامة والشهيدين وغيرهم ، فأحال بقوله : «وفاقا لمن عرفت» على ما سبق نقله عنهم.

لكن لم نجد في المتن من أوّل بحث التنجيز إلى هنا تصريحا بكلام الصيمري. ولعلّ مراد المصنف بقوله : «وفاقا لمن عرفت» أعمّ ممّن صرّح باسمه ومن أدرجه في عموم : «وجميع من تأخّر عنه كالشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم قدس‌سرهم» فتصحّ نسبة عدم القدح إلى هذه الجماعة حتّى الصيمري.

وكيف كان فهو ـ كما في مقدمة المقابس والذريعة ـ الشيخ مفلح بن الحسن (*) الصيمري من تلامذة ابن فهد الحلّي قدس‌سره ، وله كتاب غاية المرام في شرح شرائع الإسلام (٢) ، ونقل السيد العاملي عنه في كتاب الوكالة اعتبار التنجيز ، فراجع (٣).

(٢) يعني : وحكي عدم القدح ـ في التعليق على ما هو معلوم الحصول حين العقد ـ عن المبسوط والإيضاح ، وسيأتي في المتن نقل كلام المبسوط ، ومورده وإن كان معلوم التحقق حال الإنشاء ، لكنه مختص بمصحّح النقل لا مطلقا.

(٣) أي : في عدم قادحية التعليق على الشرط المعلوم حصوله حال العقد.

(٤) أي : ولأجل عدم وجود الخلاف الصريح ـ في جواز التعليق على معلوم الحصول ـ ادّعى السيد الطباطبائي عدم الخلاف في الصحة ، قال قدس‌سره في وقف الرياض :

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٣٨٥ ، إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ٣٦٠

(٢) مقابس الأنوار ، المقدمة ، ص ١٨ ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٢٠

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٥٢٦


الوقف : عدم الخلاف فيه صريحا (١).

وما كان معلوم الحصول في المستقبل وهو المعبّر عنه بالصفة (٢) فالظاهر أنّه (٣) داخل في معقد اتّفاقهم على عدم الجواز ،

______________________________________________________

«ويشترط فيه التنجيز ، فلو علّقه على شرط متوقع أو صفة مترقبة ، أو جعل له الخيار في فسخه متى أراده من دون حاجة بطل بلا خلاف فيه ، وفي الصحة لو كان المعلّق عليه واقعا ، والواقف عالم بوقوعه كقوله : وقفت إن كان اليوم الجمعة. وكذا في غيره من العقود. وبعدم الخلاف صرّح جماعة» (١).

والمقصود من نقل كلام السيد أنّه ادّعى عدم الخلاف في الصحة ، كما حكاه عن جماعة ، وبه يقوى نقل الإجماع على عدم مانعية التعليق على الشرط المعلوم وقوعه حال الإنشاء. هذا حكم التعليق على معلوم الحصول في الحال.

(١) هذا بيان حكم قسم آخر ، وهو التعليق على معلوم التحقق في الاستقبال كطلوع الشمس ومجي‌ء الجمعة إذا كان الإنشاء قبلهما ، وهو مبطل للإنشاء ، لكونه داخلا في معقد إجماعهم على عدم جواز التعليق. فالمعوّل في البطلان هو الاتفاق المزبور.

فان قلت : إنّ تعليل اعتبار التنجيز في بعض الكلمات «باشتراط الجزم» ـ كما تقدّم في عبارة التذكرة ـ يقتضي جواز التعليق على ما يعلم بحصوله بعد الإنشاء ، لتحقق الجزم بالإنشاء عند العلم بحصول المعلّق عليه في المستقبل.

قلت : نعم ، لكن لمّا كان مستند شرطية التنجيز هو الإجماع تعيّن الحكم بالبطلان في هذا القسم.

(٢) في قبال التعليق على الشرط ، وهو ما لا يقين بحصوله في المستقبل كقدوم زيد.

(٣) أي : أنّ معلوم الحصول في المستقبل مشمول للإجماع على بطلان التعليق عليه.

__________________

(١) : رياض المسائل ، ج ٢ ، ص ١٨


وإن كان (١) تعليلهم للمنع باشتراط الجزم لا يجري فيه كما اعترف به (٢) الشهيد فيما تقدم عنه (٣) ، ونحوه الشهيد الثاني فيما حكي عنه (٤).

بل يظهر من عبارة المبسوط في باب الوقف كونه (٥) ممّا لا خلاف فيه بيننا ، بل بين العامة ، فإنّه قال : «إذا قال الواقف : إذا جاء رأس الشهر فقد

______________________________________________________

(١) مقصوده من هذه الجملة : أنّ المجمعين استندوا إلى منافاة التعليق للجزم بالإنشاء ، ومقتضاه جواز التعليق على معلوم الحصول في المستقبل ، لفعلية الجزم والرّضا حال الإنشاء. إلّا أنه مع ذلك يحكم ببطلان هذا التعليق ، لأجل الإجماع.

(٢) يعني : كما اعترف الشهيد قدس‌سره بدخول الشرط المعلوم الحصول في المستقبل في معقد اتفاقهم على عدم الجواز.

(٣) حيث قال : «إنّ الجزم ينافي التعليق ، لأنّه بعرضة عدم الحصول ولو قدّر العلم بحصوله كالتعليق على الوصف لأن الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه .. إلخ» وقد تقدّم كلامه في (ص ٥٣٠).

(٤) حيث قال : «من شرط الوكالة وقوعها منجّزة عند علمائنا ، فلو علّقها على شرط متوقّع ، وهو ما يمكن وقوعه وعدمه ، أو صفة وهي ما كان وجوده في المستقبل محقّقا كطلوع الشمس .. لم يصح» (١).

(٥) يعني : يظهر من عبارة المبسوط : كون عدم جواز التعليق على معلوم التحقق في المستقبل ممّا لا خلاف فيه عند الكلّ. والوجه في الإتيان بكلمة «بل» هو أنّ المصنف استظهر أوّلا شمول معقد الإجماع لهذا القسم ، من جهة الإطلاق. ولكن عبارة المبسوط صريحة في الإجماع على بطلان الوقف بالتعليق على معلوم الحصول في المستقبل ، ومعه لا يبقى مجال توهّم الجواز ، بأن يقال : إنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر على المتيقن منه ، فلا يبطل التعليق على ما يعلم تحققه بعد الإنشاء.

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٣٩


وقفته (١) لم يصحّ الوقف بلا خلاف ، لأنّه مثل البيع والهبة. وعندنا مثل العتق أيضا» (١) انتهى ، فإنّ ذيله (٢) يدلّ على أنّ مماثلة الوقف للبيع والهبة غير مختص بالإمامية (٣). نعم مماثلته للعتق مختصة بهم.

وما كان منها مشكوك الحصول (٤) ـ وليس صحة العقد معلّقة عليه في الواقع كقدوم الحاج ـ فهو المتيقّن من معقد اتّفاقهم.

______________________________________________________

(١) عبارة المبسوط هكذا : «فقد وقفت هذه الدار على فلان لم يصح .. إلخ».

(٢) يعني : فإنّ ذيل قول الشيخ : «لأنّه مثل البيع والهبة .. إلخ» يدلّ على اتفاق المسلمين على اشتراط التنجيز في الوقف والبيع والهبة. وأمّا العتق ، فاشتراطه بالتنجيز من مختصّات الفرقة المحقّة أيّدهم الله تعالى.

(٣) إذ لو كانت مماثلة الوقف للبيع والهبة مختصّة بالإمامية لنبّه الشيخ عليها كما نبّه عليها في العتق فقال : «وعندنا مثل العتق» فكان المناسب أن يقول : «لأن الوقف مثل البيع والهبة والعتق عندنا» فتفرقته قدس‌سره في المماثلة ـ بين البيع والهبة وبين العتق ـ كاشفة عن اتفاق جميع المسلمين على بطلان البيع والهبة والوقف بالتعليق على ما يعلم حصوله في المستقبل.

(٤) هذا بيان حكم قسم آخر من أقسام التعليق ، وهو كون المعلّق عليه مشكوك الحصول ولم يكن مصحّحا للعقد ، سواء أكان ظرف تحققه حال الإنشاء أم بعده ، كما إذا قال : «بعتك إن قدح الحاج» وشكّ في قدومهم حال العقد وفي المستقبل.

وحكم هذا القسم البطلان ، لكونه القدر المتيقن من معقد إجماعهم على شرطية التنجيز ، فلو نوقش في إطلاق المعقد بالنسبة إلى القسم السابق ـ وهو معلوم الحصول في المستقبل ـ لم يكن مجال للمناقشة في بطلان هذا القسم ، لكونه المتيقن من مورد اتّفاقهم على قدح التعليق.

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٢٩٩


وما كان صحة العقد معلّقة عليه (١) كالأمثلة المتقدمة (٢) فظاهر إطلاق كلامهم يشمله.

إلّا أنّ (٣) الشيخ في المبسوط حكى في مسألة : «إن كان لي فقد بعته» قولا

______________________________________________________

(١) هذا حكم قسم رابع ، وهو التعليق على مصحّح العقد ، وقد تقدّم أنّ المذكور في المتن أمور أربعة يتوقف عليها صحة البيع شرعا ، وهي ماليّة المبيع شرعا بأن لا يكون خمرا ، وقابليته للبيع بأن يكون ملكا طلقا ، وقابلية المشتري للتملّك بأن لا يكون عبدا ، وقابليته للمعاقدة معه بكماله بالبلوغ والعقل.

والتعليق على كل واحد منها إمّا بالتصريح بأداة الشرط ، وإمّا بالدلالة الالتزامية. وحكم هذا القسم ـ بماله من الصور ـ لا يخلو من بحث ، فذهب المصنف أوّلا إلى البطلان ، لإطلاق معقد الإجماع على قادحيّة التعليق ، ثمّ نقل ـ ثانيا ـ عن شيخ الطائفة ما يقتضي تجويزه. ثمّ تأمّل فيه ثالثا ، وسيأتي بيانها بالترتيب إن شاء الله تعالى.

(٢) هذا ما أبداه أوّلا ، وهو بطلان التعليق على مصحّح العقد.

(٣) مقصود المصنف قدس‌سره من نقل كلام شيخ الطائفة المناقشة في تحقق الإجماع على بطلان الإنشاء بتعليقه على ما يكون دخيلا في صحّته. وبيانه : أنّه إذا اشترى الوكيل جارية بعشرين دينارا ، وخالفه الموكّل ، أمّا لإنكار أصل الوكالة ، وإمّا لدعواه بأنّ التوكيل كان في شرائها بعشرة لا بعشرين ، فترافعا إلى الحاكم ، فقال قوم بأنّه يأمر الموكّل بأن يبيعها للوكيل ، ويأمر الوكيل بالقبول ، فيقول الموكّل : «إن كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين فقد بعتك إيّاها بعشرين» ويقبله الوكيل. فإن أجاب الموكّل أمر الحاكم وباعها من وكيله تملّكها الوكيل ظاهرا وباطنا ، ويثبت للموكّل على ذمته العشرون دينارا ، كما يثبت العشرون له على ذمة الموكّل ، لأنّ الوكيل اشتراها بماله ، فيتقاصّان في الثمن.

وفي هذا الفرض قال الشيخ بعد ما نقل إيجاب الموكّل : «فمن الناس من قال : لا يصحّ ، لأنّه علّقه بشرط ، والبيع بشرط لا يصحّ. ومنهم من قال : يصحّ ، لأنّه لم يشرط إلّا ما يقتضيه إطلاق العقد ، لأنّه إنّما يصحّ بيعه لهذه الجارية من الوكيل إن


من بعض الناس بالصحة ، وأنّ الشرط لا يضرّه ، مستدلا (١) «بأنّه لم يشترط إلّا ما يقتضيه إطلاق العقد ، لأنّه إنّما يصحّ البيع لهذه الجارية من الموكّل (٢) إذا كان أذن له في الشراء (٣) ، فإذا اقتضاه (٤) الإطلاق لم يضرّ إظهاره وشرطه ،

______________________________________________________

كان قد أذن له في الشراء بعشرين ، فإذا اقتضاه الإطلاق لم يضرّ إظهاره وشرطه ، كما لو شرط في البيع تسليم الثمن وتسليم المثمن ، وما أشبه ذلك» (١).

والجملة الأخيرة وهي قوله : «لأنّه إنّما يصح بيعه .. فإذا اقتضاه الإطلاق لم يضرّ إظهاره» هي محطّ نظر المصنف من نقل عبارة المبسوط ، لأنّ الشيخ قدس‌سره لم يناقش في دليل بعض الناس ، ولم يحكم ببطلان بيع الموكّل من جهة التعليق. ومقتضاه صحة البيع المعلّق على شرط صحّته.

(١) حال من «بعض الناس».

(٢) يعني : يكون بائع الجارية هو الموكّل ، والمشتري لها هو الوكيل.

(٣) إذ لو لم يكن أذن للوكيل في شراء الجارية بعشرين لم يصحّ بيع الموكّل ، لكونه أجنبيّا عن الجارية. فقوله : «بعتك إن كانت لي» تعليق على ما يتوقف صحة البيع عليه ، ولا مانع من هذا التعليق.

(٤) الضمير راجع الى الشرط ، والمقصود بالإطلاق هو إطلاق البيع وعدم تعليقه على «إن كان لي» ومقصود بعض الناس من هذه الجملة : أنّ بيع الموكّل للجارية يتوقف على أن تكون ملكا له ، إذ لو لم يكن المبيع ملكا للبائع ـ أو بحكم الملك ـ لم يترتب الأثر شرعا على الإنشاء. وحيث اعتبرت الملكية فيه كانت صحة البيع منوطة بها ، سواء صرّح بهذا الاشتراط بأن يقول : «بعتك الجارية إن كانت لي بكذا» أم لم يصرّح به ، كما إذا قال : «بعتكها بكذا» فإنّ التعليق على الملكية ثابت في الواقع ونفس الأمر ، ولا يختلف حكمه من حيث الإظهار والإطلاق.

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٣٨٥


كما (١) لو شرط في البيع تسليم الثمن أو تسليم المثمن أو ما أشبه ذلك (٢)» انتهى.

وهذا الكلام (٣) وإن حكاه عن بعض الناس ، إلّا أنّ الظاهر ارتضاؤه له. وحاصله (٤) : أنّه كما لا يضرّ اشتراط بعض لوازم (٥) العقد المترتبة عليه ، كذلك لا يضرّ تعليق العقد بما هو معلّق عليه (٦) في الواقع ، فتعليقه ببعض مقدّماته كالإلزام (٧) ببعض غاياته ، فكما لا يضرّ الإلزام بما يقتضي العقد

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ التعليق على شرط صحة البيع ومقدماته الشرعية غير قادح ، كما لا يقدح تعليق البيع على لوازمه وآثاره الشرعية ، بأن يقول : «بعتك هذا المال بكذا إن قبضته وأقبضت الثمن» ، وجه عدم القدح : أنّ العقد الصحيح يجب الوفاء به بتسليم المبيع والثمن ، بلا فرق بين التصريح به في العقد وإهمال ذكره.

(٢) مثل كون تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع.

(٣) أي : القول بالصحّة ـ في التعليق على شروط الصحة التي يقتضيها إطلاق العقد ـ وإن حكاه شيخ الطائفة عن بعض الناس ، لكن ظاهر سكوته ارتضاؤه له ، وبهذا الارتضاء لا وجه لدعوى الإجماع على بطلان التعليق في هذا القسم.

(٤) يعني : وحاصل هذا الكلام ، ومقصود المصنف قدس‌سره تقريب كلام بعض الناس الذي اختاره الشيخ أيضا ، ومحصّله التسوية في جواز التعليق بين كون المعلّق عليه مصحّحا للعقد ودخيلا في ترتب الأثر عليه ، وبين كونه من آثار صحته ولوازمه المترتبة عليه. والوجه في التسوية تقيّد العقد واقعا بما علّق عليه ، سواء صرّح به أم لا ، فلا فرق بين قوله : «بعتك إن كان لي» وقوله : «بعتك إن سلّمت المبيع».

(٥) قد عرفت المراد بكلّ من لوازم العقد ومقدّماته.

(٦) مثل كون المبيع ملكا للبائع ، وممّا يجوز بيعه ، وقابلية المشتري للتملّك ، وقابليته للخطاب.

(٧) خبر قوله : «فتعليقه» والمراد بغايات العقد آثاره وأحكامه المترتبة على صحته.


التزامه (١) ، كذلك التعليق بما كان الإطلاق معلّقا عليه ومقيّدا به.

وهذا الوجه (٢) وإن لم ينهض لدفع محذور التعليق في إنشاء العقد ،

______________________________________________________

(١) مثل إلزام المشتري بدفع الثمن ، لأنّ إطلاق العقد يقتضي هذا الإلزام وإن لم يصرّح به في الإنشاء.

(٢) الّذي نقله في المبسوط وارتضاه. وغرض المصنف قدس‌سره من هذا الكلام أنّ حكم شيخ الطائفة قدس‌سره بصحة البيع المعلّق على مملوكية المبيع وإن كان مانعا عن انعقاد الإجماع على مبطلية التعليق في هذا القسم ، إلّا أن أصل هذا الوجوه الذي اعتمد عليه بعض الناس ـ لإثبات عدم منافاة التعليق هنا للجزم بالإنشاء ـ غير سديد ، وبيانه : أنّ في البيع مرحلتين :

إحداهما : الإنشاء القائم بالبائع ، وهو لا يتوقف على أزيد من اعتبار النقل الملكي وإيجاده بالصيغة المعهودة ، أو إبرازه بها ، على الخلاف في حقيقة الإنشاء. وهذا هو البيع بالمعنى المصدري ، ويتمشّى من غير المالك أيضا ، خصوصا بناء على القول بأنّ صحة عقد الفضول تكون على طبق القاعدة ، على ما سيأتي تفصيله في محله إن شاء الله تعالى.

ثانيتهما : إمضاء الشارع وحكمه بالملكية المماثلة لما أنشأه المتبايعان ، وهذا هو البيع المسببي أو الاسمي. وكلّ شرط اعتبره الشارع في موضوع حكمه فهو دخيل في هذه المرحلة مثل كون المبيع ملكا طلقا للبائع ، وبلوغ المتعاقدين ، وأهلية المشتري للتملّك ، وغيرها.

ومن المعلوم أنّ البيع بمعناه المصدري الذي هو فعل البائع غير معلّق على شي‌ء من الشرائط الشرعية ، بل هي أمور خارجة عن الإنشاء ، وإنّما تكون دخيلة في البيع الاسمي.

وعليه فإذا قال الموكل : «بعتك الجارية بعشرين إن كانت لي» كان الإنشاء معلّقا ، ولم يحصل الجزم المعتبر في العقد. ولا يمكن تصحيحه «بأن المعلّق عليه مما يقتضيه إطلاق العقد» حتى يكون التعليق صوريا.


لأنّ (١) المعلّق على ذلك الشرط في (٢) الواقع هو ترتّب الأثر الشرعي على العقد ، دون إنشاء مدلول الكلام الذي (٣) هو وظيفة المتكلّم ، فالمعلّق (٤) في كلام المتكلم غير معلّق في الواقع على شي‌ء ، والمعلّق (٥) على شي‌ء ليس معلّقا في كلام المتكلم

______________________________________________________

وجه عدم الإمكان : أن المعلّق عليه ـ وهو ملكية المبيع ـ ليس ممّا يقتضيه إطلاق العقد ، وذلك لعدم توقف إنشاء البيع على ملكية المبيع حتى يكون العقد ـ بحسب طبعه ـ مقتضيا لها ، وإنّما يكون المعلّق على هذا الشرط هو البيع بمعناه الاسمي ، والمفروض أن الملكية الشرعية أمر خارج عن فعل العاقد ، وليس مما يقتضيه إنشاء البيع.

والحاصل : أنّ مدلول العقد لا تعليق فيه واقعا على ملكية المبيع لعدم كونها شرطا للإنشاء كما عرفت. وما فيه التعليق ـ وهو إمضاء الشارع وترتيب الأثر على العقد ـ ليس من كلام المتكلّم ، إذ المنشئ إنّما يتمكّن من اعتبار الملكية والنقل في نظر نفسه ، لا في نظر الشارع ، فالملكية الشرعية لم ينشئها البائع أصلا حتى تكون معلّقة أو منجّزة.

(١) تعليل لعدم النهوض ، وقد عرفته آنفا.

(٢) وهو ملكية المبيع.

(٣) صفة ل «إنشاء» والمراد بالكلام الإنشائي هو «بعت» يعني : دون إنشاء هو مدلول الكلام الإنشائي الذي هو صفة المتكلم في مقام الإنشاء. وعليه فإضافة «الإنشاء» إلى «مدلول الكلام» بيانية ، ولا يراد بالمدلول الملكية الاعتبارية المنشئة.

(٤) وهو البيع المصدري ، فإنّه غير معلّق على ملكية المبيع ، ولا على غيرها من الشرائط الشرعية.

(٥) وهو إمضاء الشارع وحكمه بترتيب الأثر على العقد ، فإنّه معلّق على ملكية المبيع ، سواء صرّح بهذا التعليق أم لم يصرّح به.


على شي‌ء ، بل ولا منجّزا (١) ، بل هو شي‌ء خارج عن مدلول الكلام (٢).

إلّا (٣) أنّ ظهور ارتضاء الشيخ له كاف في عدم الظّن بتحقق الإجماع عليه (٤).

مع أنّ (٥) ظاهر هذا التوجيه ـ لعدم قدح التعليق ـ يدلّ على أنّ محلّ

______________________________________________________

(١) لعدم كون الأثر الشرعي ممّا أنشأه البائع حتى يتمكن من إنشائه منجزا تارة ومعلّقا أخرى ، ومن المعلوم أنّ المعلّق والمنجّز وصفان للإنشاء الذي هو فعل المنشئ ، فالملكية الشرعية لا تقبل التعليق ولا التنجيز.

(٢) وهو «بعت». ووجه خروج الأثر الشرعي عن الإنشاء هو كون وضعه ورفعه بيد الشارع لا البائع.

(٣) استدراك على قوله : «وإن لم ينهض» وحاصله ـ كما عرفت ـ أنّ الوجه المنقول في المبسوط وإن كان مخدوشا ، لكن ارتضاء شيخ الطائفة له يمنع عن تحقق الإجماع على مبطلية التعليق في هذا القسم ، وهو ما إذا كان المعلّق عليه مصحّح العقد وكان مشكوك الحصول.

(٤) أي : على قدح التعليق على ما يكون صحة العقد متوقفا عليه.

(٥) هذه الجملة إلى قوله : «فلا وجه لتوهم اختصاصه بصورة العلم» ليست إشكالا آخر على ما حكاه شيخ الطائفة قدس‌سره عن بعض الناس وارتضاه ، بل هي متمّمة لقوله : «إلّا أن ظهور ارتضاء الشيخ له كاف في عدم الظن بالخلاف» فكأنه قال : «إلّا أن ارتضاء الشيخ له يفيد أمرين ، أحدهما عدم الظن بانعقاد الإجماع على قدح التعليق على مصحّح العقد. ثانيهما : أنّ دعوى بعض الناس وتوجيهه يقتضيان صحة التعليق ـ إذا كان المعلّق عليه ممّا يقتضيه إطلاق العقد ـ سواء أكان العاقد عالما بتحققه حال الإنشاء أم شاكّا فيه».

ومقصود المصنف قدس‌سره من قوله : «مع أن .. إلخ» هو أنّ التعليل المتقدم في عبارة المبسوط ـ لو تمّ في نفسه وسلم عن الإشكال ـ يقتضي صحّة العقد المعلّق على ما يقتضيه إطلاقه ، كملكية المبيع في قول الموكّل : «بعتك هذه الجارية بعشرين


الكلام فيما لم (١) يعلم وجود المعلّق عليه وعدمه ، فلا وجه لتوهّم اختصاصه بصورة العلم (٢).

______________________________________________________

إن كانت لي» سواء أكان عالما واقعا بملكيّتها ـ ويكون إنكار الوكالة في الظاهر ـ أم شاكّا فيها كما إذا عرض النسيان عليه ، ولم يتذكر التوكيل.

والوجه في اقتضاء التعليل إطلاق الجواز لصورتي العلم والشك هو كون المعلّق عليه مما يتوقف عليه تأثير العقد ، حتى أنّ إنشاء الموكّل لو كان منجزا كان تنجيزه صوريّا ، لكون البيع معلّقا بحسب الواقع ونفس الأمر على الملكية.

وعليه ينبغي أن يكون شيخ الطائفة قائلا بجواز التعليق ـ في ما يقتضيه إطلاق العقد ـ في قسمين أحدهما : أن يكون المعلّق عليه معلوم الحصول. ثانيهما : أن يكون مشكوك الحصول.

فكما يحصل الظن بعدم الإجماع على البطلان في صورة العلم بحصول الشرط ، فكذا يحصل الظن بعدم الإجماع في صورة الشك في حصوله. ولا موجب لاختصاص نظر الشيخ بالعلم بالحصول كما توهّمه بعضهم.

هذا ما استفاده المصنف قدس‌سره من أصل دعوى بعض الناس ومن تعليله ، ثمّ أيّد المصنف هذا التعميم بكلام الشهيد قدس‌سره وسيأتي.

(١) ظاهر العبارة اختصاص مورد النزاع بالشك في وجود المعلّق عليه ، مع أنّ غرضه قدس‌سره أعمية التعليل من العلم والشك ، ولذا فالأولى أن يقال : «إنّ محل الكلام أعمّ ممّا لم يعلم وجود المعلّق عليه .. إلخ» وذلك بقرينة قوله بعده : «بصورة العلم».

(٢) لم أقف على من خصّ صحة التعليق ـ المذكور في كلام الشيخ ـ بصورة العلم ، لكن يظهر من تعبير جمع كالمحقق والشهيد الثانيين الاختصاص ، لما تقدّم عنهما من : «أن التعليق إنّما ينافي الإنشاء حيث يكون المعلّق عليه مجهول الحصول. أمّا مع العلم بوجوده فلا ، لانتفاء الشك حينئذ في الإنشاء» ومفروض كلامهما تعليق البيع على ملكية الجارية ، فراجع.


ويؤيّد ذلك (١) أنّ الشهيد في قواعده جعل الأصحّ صحّة تعليق البيع على ما هو شرط فيه ، كقول البائع : بعتك إن قبلت (١).

ويظهر منه (٢) ذلك أيضا (٣) في آخر القواعد.

______________________________________________________

(١) يعني : ويؤيّد أنّ محلّ النزاع أعمّ ـ من صورة علم العاقد بالمعلّق عليه ، وشكّه فيه ـ ما يستفاد من موضعين من قواعد الشهيد قدس‌سره ، ففي الموضع الأوّل حكم بصحّة تعليق البيع على شرط صحة العقد ، كانضمام القبول إلى الإيجاب ، فإذا قال : «بعتك هذا بكذا إن قبلت» صحّ ، مع أن عقديّة العقد متوقفة على لحوق القبول ، فصحّة تعليق الإيجاب على تحقق القبول ـ مع الجهل بتحققه ـ تقتضي أولوية صحة ما تقدم في كلام المبسوط ، حيث إن المعلّق عليه ـ فيه ـ ليس شرط أصل العقد ، بل شرط ترتب الآثار الشرعية عليه.

قال الشهيد قدس‌سره : «ومنه تعليق البيع على الواقع ، أو على ما هو شرط فيه. والأصح انعقاده مثل : بعتك إن كان لي ، أو : بعتك إن قبلت. ويحتمل البطلان».

وفي الموضع الثاني حكم الشهيد قدس‌سره بصحة تعليق البيع على مشيّة المشتري ، وهو ـ كالتعليق على القبول ـ شرط صحة نفس الإنشاء ، لا شرط ترتب الأثر الشرعي عليه ، قال : «أمّا لو علم الوجود فإنّ العقد صحيح ، ولا شرط وإن كان بصورة التعليق .. ولو قال : بعتك بمائة إن شئت ، فهذا تعليق بما هو من قضاياه ، إذ لو لم يشأ لم يشتر» (٢).

(٢) يعني : يظهر من الشهيد صحة تعليق العقد على ما هو شرط فيه ـ وهو مشكوك الحصول ـ كقبول المشتري ومشيّته.

(٣) يعني : كما ظهر جواز التعليق في أوائل القواعد.

هذا تمام الكلام في أقسام التعليق الصريح ، وأحكامها.

__________________

(١) : القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ١٥٥ و١٥٦. رقم القاعدة : ٤١

(٢) القواعد والفوائد ، ج ٢ ، ص ٢٣٧ ، رقم القاعدة : ٢٣٨


ثم إنّك (١) قد عرفت أنّ العمدة في المسألة هو الإجماع.

وربما يتوهم أنّ الوجه في اعتبار التنجيز هو (٢) عدم قابلية الإنشاء للتعليق.

______________________________________________________

وأما التعليق الذي يكون لازم الكلام فسيأتي حكم بعض أقسامه في (ص ٥٦٥) بقوله : «ثم إن القادح هو تعليق الإنشاء .. إلخ» فانتظر.

(١) هذا شروع في المطلب الثاني الذي تعرّض له في المقام الرابع ، وهو تحقيق الوجوه التي استدل بها الفقهاء على اعتبار التنجيز. فالدليل الأوّل ـ وهو المعتمد ـ الإجماع الذي حكاه عن جمع ، كالشيخ وابن إدريس والعلّامة وغيرهم ، وقد تقدمت كلماتهم في المقام الثاني ، فراجع.

(٢) هذا إشارة إلى ثاني الوجوه المستدل بها على اعتبار التنجيز ، وقد تقدم نقله ـ في أوّل المسألة ـ عن تذكرة العلّامة قدس‌سره من منافاة التعليق للجزم ، وتقدّم بيانه إجمالا هناك ، ويأتي مزيد توضيح له في التعليقة إن شاء الله تعالى.

وأورد المصنف قدس‌سره عليه بأنّ المراد بالإنشاء ـ الذي ينافي التعليق للجزم به ـ إمّا هو إيجاد المعنى باللفظ ، وإمّا هو المنشأ أي البيع المسبّبي المفسّر بالمبادلة والتمليك والنقل. فإن أريد التنافي للإنشاء ـ بالمعنى الأوّل ـ قلنا باستحالة التعليق فيه ، وذلك لأنّ الإنشاء من قبيل الإيجاد الحقيقي في عدم القابلية حينئذ للإناطة والتعليق ، لأنّ الإنشاء ـ بهذا المعنى ـ عبارة عن استعمال اللفظ في المعنى ، وإخطار المعنى بسببه ، ومن المعلوم ترتب هذا الإخطار على إلقاء اللّفظ فقط.

وإن أريد بالإنشاء ما هو محلّ الكلام ـ أعني به المنشأ ـ بأن يكون المعلّق على الشرط هو الأمر الاعتباري كالملكية في باب البيع فلا مانع من تعليقه ، بل هو واقع كما يظهر من نظائره سواء في باب الأوامر والمعاملات. أمّا في الأوامر فكتعليق وجوب الإكرام بالمجي‌ء في قوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» حيث إنّ المجي‌ء قيد للمنشإ وهو الوجوب المستفاد من الهيئة. وأما في المعاملات فكالوصية التمليكية ، فإنّ


وبطلانه واضح (١) ، لأنّ المراد بالإنشاء إن كان هو مدلول الكلام (٢) فالتعليق غير متصوّر فيه ، إلّا أنّ الكلام ليس فيه (٣).

وإن كان الكلام (٤) في أنّه ـ كما يصحّ إنشاء الملكية المتحققة على كلّ تقدير ـ فهل يصحّ إنشاء الملكية المتحققة على تقدير دون آخر كقوله : «هذا لك إن جاء زيد غدا» و «خذ (٥) المال قرضا أو قراضا إذا أخذته من فلان» ونحو

______________________________________________________

الموصى ينشئ ملكية المال للموصى له ، ولكنها معلّقة على موته.

وعليه فالإنشاء بالمعنى الثاني يكون تعليقه واقعا شرعا وعرفا فضلا عن إمكانه ، فلا وجه لما قيل من «منافاة التعليق للجزم بالإنشاء» لحصول الجزم بالملكية على تقدير ، كحصوله في الملكية على كل تقدير ، هذا.

(١) قد اتضح وجه البطلان بقولنا : «وأورد المصنف قدس‌سره عليه بأنّ المراد بالإنشاء .. إلخ».

(٢) قد عرفت بما ذكرناه في توضيح الإيراد أنّ الأولى أن يقال : «إن كان هو الكلام» أي تعليق نفس اللفظ ، وذلك بقرينة الشقّ الثاني الذي هو من تعليق المنشأ.

ويمكن أن تكون الإضافة بيانية ، فتأمّل.

(٣) يعني : أنّ مراد العلامة وغيره من منافاة التعليق للجزم بالإنشاء ليس منافاته لنفس الكلام والصيغة.

(٤) الأنسب ـ بقرينة المقابلة ـ أن يقال : «وإن كان المراد تعليق المنشأ كالملكية .. إلخ» فإذا قال : «بعتك هذا بهذا إذا قدم الحاج» يراد به تعليق الملكية ـ الحاصلة من البيع ـ على قدوم الحاج ، فلا بيع قبل قدومهم.

(٥) بأن يكون معناه : تحقق الملكية بالاقتراض على تقدير أخذ مال المقرض ممّن هو عنده ، فلو لم يأخذه منه فلا قرض. وكذا الحال في إنشاء عقد المضاربة على تقدير أخذ رأس المال ممّن بيده المال.


ذلك (١) فلا ريب (٢) في أنّه أمر متصوّر (٣) واقع في العرف والشرع كثيرا في الأوامر (٤) والمعاملات من العقود والإيقاعات.

ويتلو هذا الوجه (٥) في الضعف ما قيل من : أنّ ظاهر ما دلّ على سببية

______________________________________________________

(١) كالوصية التمليكية ، والنذر والسبق والرّماية والجعالة.

(٢) جزاء الشرط في قوله : «وإن كان الكلام».

(٣) يعني : أنّ الملكية التعليقية ممكنة في نفسها ، وواقعة في الخطابات الشرعية والعرفية.

(٤) كتعليق وجوب الحج والزّكاة مثلا على الاستطاعة والنّصاب ، وغيرهما من سائر الواجبات المشروطة.

(٥) أي : عدم قابلية الإنشاء للتعليق. وهذا إشارة إلى ثالث الوجوه المستدلّ بها على اعتبار التنجيز. وهو ما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره ـ بعد إبطال عدم قابلية الإنشاء للتعليق ـ بقوله : «بل لمنافاته ـ أي : التعليق ـ ما دلّ على سببية العقد ، الظاهر في ترتب مسبّبه عليه حال وقوعه ، فتعليق أثره بشرط من المتعاقدين دون الشارع معارض لذلك ، بل هو شبه إثبات حكم شرعي من غير أهله. وللشك في شمول الآية ونحوها له .. إلخ» (١). وكذا منع قدس‌سره من التعليق في بحث الشروط (٢) ، وفي باب الطلاق (٣) ، فراجع.

وحاصله : أنّ ظاهر أدلة الإمضاء والصحة هو ترتيب الآثار المقصودة من حين العقد ، وذلك منوط بإطلاق العقد وتنجيزه حتى تترتب عليه فعلا ، فمع تعليقه لا تشمله الأدلّة من حينه ، ومع عدم شمولها له من زمان صدوره لا تشمله بعده أيضا ، فالعقود المعلّقة غير مشمولة لأدلّة الصحة لا حدوثا ولا بقاء أي بعد حصول المعلّق عليه ، فمع عدم الدليل على الصحة يرجع إلى أصالة الفساد ، هذا.

وأورد المصنف قدس‌سره عليه بوجوه خمسة أو ستة :

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٣

(٢) جواهر الكلام ج ٢٣ ، ص ١٩٨

(٣) جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ٧٨ و٧٩


العقد ترتّب مسبّبه عليه حال وقوعه ، فتعليق أثره بشرط من المتعاقدين مخالف لذلك (١).

وفيه ـ بعد الغضّ عن عدم (٢) انحصار أدلّة الصّحة واللّزوم في مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لأنّ (٣) دليل حلّية البيع وتسلّط الناس على أموالهم

______________________________________________________

الأوّل : أنّه لو سلّمنا اقتضاء الأمر بالوفاء بالعقود لترتيب الأثر الشرعي على كلّ عقد من حين الإنشاء ، قلنا بعدم انحصار دليل صحة البيع في هذه الآية المباركة حتى يقال ببطلان العقد المعلّق ، فيمكن القول بصحّته ، وذلك بعد تمامية مقدمتين :

الأولى : أنه قد تقدم في أدلة مملكية المعاطاة ولزومها دلالة آيتي (حلّ البيع) و (التجارة عن تراض) على صحّة كلّ ما هو بيع ـ بالحمل الشائع ـ بنظر العرف. وكذلك استدلّ صاحب الجواهر قدس‌سره على مشروعية بعض أقسام المعاطاة بحديث السلطنة.

الثانية : أنّ تعليق بعض أفراد البيع على الشرط واقع عرفا وشرعا ، ولا تترتّب الملكية فيه على نفس العقد ، ففي بيع الصرف لا يفيد نفس الإنشاء الملكية الشرعية ، بل تتوقف على القبض.

وبعد تمامية هذه الكبرى والصغرى يظهر أنّ إطلاق «حلية البيع» يقتضي صحة كل بيع عرفي سواء أكان منجّزا أم معلّقا ، فإن كان منجّزا ترتب المسبّب من حين إنشاء السبب. وإن كان معلّقا توقّف ترتب المسبّب على حصول المعلّق عليه ، ولا محذور في تأخر المسبب عن سببه وانفكاكه عنه بعد إطلاق دليل الإمضاء.

هذا توضيح الإيراد الأوّل ، وسيأتي بيان سائر المناقشات.

(١) أي : لترتب المسبّب حال وقوع سببه وهو العقد.

(٢) هذا إشارة إلى أوّل إيرادات المصنف على صاحب الجواهر قدس‌سرهما ، وقد عرفته آنفا.

(٣) تعليل لقوله : «عدم انحصار».


كاف في إثبات ذلك (١) ـ أنّ (٢) العقد سبب لوقوع مدلوله فيجب الوفاء به على

______________________________________________________

(١) أي : في إثبات صحة البيع ولزومه ، سواء أكان منجّزا أم معلّقا.

ولا يخفى أن عدّ حديث السلطنة من أدلة الصحة واللزوم مبني على اعتراف صاحب الجواهر قدس‌سره بكونه مشرّعا ، إذ على هذا يتجه إشكال المصنف قدس‌سره عليه بأنّ الحديث يدلّ ـ كآية حلّ البيع ـ على نفوذ تصرف المالك في ماله بالبيع والوقف والهبة ونحوها ، سواء أكانت أسبابها منجّزة أم معلّقة.

وبهذا يظهر عدم المجال للإشكال على المصنف بأنّ الحديث غير مشرّع أصلا أو لخصوص الأسباب ، فلا وجه لعدّه من أدلة الصحة واللزوم.

وجه عدم المجال ما عرفت من توجيه الإيراد على ما يعترف به صاحب الجواهر أعلى الله مقامه.

(٢) هذا هو الإشكال الثاني على كلام الجواهر ، ومقصود المصنف منع ما استفاده صاحب الجواهر من آية وجوب الوفاء بالعقود حتى لو كان دليل الإمضاء منحصرا فيها.

وتوضيحه : أن الآية الشريفة وإن دلّت على سببية العقد لترتب المسبّب عليه ، إلّا أنّها قاصرة عن إثبات ترتب المسبّب من حين الإنشاء ، وذلك لأنّ المراد بالعقود التي يجب الوفاء بها هو العهود على ما ورد تفسيرها بها في معتبرة عبد الله بن سنان (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ العهد يصدق حقيقة على العهد المعلّق كصدقه على المنجّز ، فإن كان مدلول العهد منجّزا وجب الوفاء به فورا ، وإن كان مدلوله معلّقا على أمر مترقب الحصول ـ كما في غالب موارد النذر ـ وجب الوفاء به معلقا على حصول الشرط.

وعلى هذا فليس مفاد «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» عدم ترتب الأثر على العقود المعلّقة على ما يتوقّع حصوله ، بل مفادها وجوب العمل بمقتضى العقد ، فإن كان منجّزا

__________________

(١) : تفسير القمي ، ج ١ ، ص ١٦٠


طبق مدلوله (١). فليس مفاد (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إلّا مفاد (أَوْفُوا بِالْعَهْدِ) في (٢) أنّ العقد كالعهد إذا وقع على وجه التعليق فترقّب تحقّق المعلّق عليه ـ في تحقق المعلّق ـ لا يوجب (٣) عدم الوفاء بالعهد.

والحاصل (٤) : أنّه إن أريد بالمسبّب هو مدلول العقد (٥) فعدم تخلّفه عن إنشاء العقد من البديهيات التي لا يعقل خلافها. وإن أريد به (٦) الأثر الشرعي

______________________________________________________

ففورا ، وإن كان معلّقا فعند حصول المعلّق عليه.

هذا إذا كان المراد بالأثر الذي يجب ترتيبه على العقد والعهد هو حكم الشارع ، كالملكية الشرعية في البيع ، والزوجية كذلك في النكاح ، وهكذا.

وإمّا إذا كان المراد بالأثر ما يعتبره نفس العاقد ـ مع الغضّ عن إمضائه شرعا ـ فهو يترتب على الإنشاء معلّقا كان أو منجّزا ، ويستحيل انفكاكه عنه. فإنّ النسبة بين الإنشاء والمنشأ ـ بهذا المعنى ـ نسبة الإيجاد والوجود ، لا يعقل انفكاكهما ، لا نسبة الإيجاب والوجوب.

(١) فإن كان مدلول العقد منجّزا ترتب المسبّب عليه من حينه ، وإن كان معلّقا وجب الوفاء به عند تحقق الشرط.

(٢) هذا وجه اتّحاد مفاد الوفاء بالعقد وبالعهد.

(٣) خبر قوله : «فترقب» وقوله : «إذا وقع» قيد للعهد.

(٤) هذا الحاصل وإن كان متينا ، لكن المصنف لم يتعرّض قبله لاستحالة تخلّف المسبّب عن الإنشاء ، كالملكية التي يعتبرها البائع مع الغضّ عن إمضاء الشارع ، كما يعتبر الفسّاق ملكية الخمر ونحوه مما أسقط الشارع ماليّته. فهذه لا تتخلّف عن العقد أصلا مع فرض التفات العاقد وقصده.

وكيف كان فقد تقدم توضيح كلا الشقّين.

(٥) أي : مضمونه العرفي ، لكن مع قطع النظر عن تقرير الشارع وتصحيحه.

(٦) أي : وإن أريد بالمسبب الأثر الشرعي ـ كما هو ظاهر كلام الجواهر ، لأنّه


ـ وهو ثبوت الملكية ـ فيمنع (١) كون أثر مطلق البيع الملكية المنجّزة ، بل (٢) هو مطلق الملك ، فإن كان البيع غير معلّق (٣) كان أثره الشرعي الملك غير المعلّق ، وإن كان معلّقا (٤) فأثره الملكية المعلّقة.

مع أنّ (٥) تخلّف الملك عن العقد كثير جدا.

______________________________________________________

الذي قد ينفك عن العقد ، فيتخيّل عدم وجوب الوفاء به فيمنع كون .. إلخ.

(١) جزاء الشرط في قوله : «وإن أريد» وقد تقدّم وجه المنع.

(٢) يعني : بل المسبّب الذي هو الأثر الشرعي يكون مطلق الملك أعم من المنجّز والمعلّق. والدليل على هذه الأعمية صدق «العقد والعهد» على كلّ من الإنشاء المنجّز والمعلّق ، ولا مقيّد في البين حتى تختصّ الصحة بالمنجّز.

(٣) كما إذا قال : «بعتك هذا الكتاب بدينار» فقبل المشتري ، فيجب الوفاء به فورا.

(٤) كما إذا قال : «بعتك هذا الكتاب بدينار إن كان لي ، أو : إن جاء زيد» فقبل المشتري.

(٥) ظاهر السّياق ـ كما استفاده بعض أجلّة المحشين كالفقيه المامقاني قدس‌سره (١) ـ أنّه إشكال ثالث على استدلال صاحب الجواهر قدس‌سره ، فيكون المقصود منع اختصاص مفاد الآية المباركة بما إذا كان العقد سببا تامّا حتى يترتب الأثر عليه حال وقوعه كي تختص الصحة بالعقد المنجّز.

وجه المنع : أنّ الشارع حكم بصحة عقود كثيرة مقتضية للملكيّة ، ويتوقف تمامية السبب على تحقّق أمر آخر ، فلو اختصّت الآية بالعقود التي تكون تمام السبب في التأثير لزم التخصيص الكثير ، أو عدم كون الآية دليلا على صحتها.

فمنها : بيع الصّرف ، فتتخلّف الملكية عن الإنشاء حتى القبض.

ومنها : بيع المعاطاة بناء على الإباحة ، لتوقف الملك ـ عند القائل به ـ على

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٦٠


مع (١) أنّ ما ذكره لا يجري في مثل قوله : «بعتك إن شئت ، و : إن قبلت ، فقال : قبلت» فإنّه لا يلزم هنا تخلّف أثر العقد عنه.

______________________________________________________

طروء الملزم.

ومنها : بيع الفضولي بناء على النقل ، فالملكية متوقفة على لحوق الإجازة.

ومنها : الهبة ، فإنّ انتقال العين إلى المتّهب منوط بالقبض.

ومنها : الوقف على الذّرّيّة ، فإنّ البطون المتأخّرة تتلقّى الملكية من الواقف ، مع ما بين الإنشاء والتملّك من الفصل الكثير.

ومنها : الوصية ، فالعين الموصى بها تنتقل إلى الموصى له بعد موت الموصى.

ومنها : المضاربة ، فإنّ العامل يتملّك الحصّة بعد ظهور الرّبح ، لا بنفس العقد.

ومنها : عقد المساقاة ، فإنّ العامل يتملّك حصّته من الثمرة بعد ظهورها.

ومنها : عقد السبق والرّماية ، لتوقف تملّك السّبق على تقدّم أحدهما على الآخر.

ومنها : غير ذلك من موارد تخلّف الملك عن العقد. ويستكشف من مجموعها عدم كون العقد سببا تامّا لحصول الملك في جميع الموارد ، فكيف ادّعى صاحب الجواهر حصر مفاد الآية في ترتب المسببات على الإنشاءات حال وقوعها؟ هذا.

ولا يخفى أنّه يمكن أن تكون العبارة متمّمة للإشكال الثاني ، وتقريبه : أنّ المصنف قدس‌سره جعل مفاد الآية الشريفة وجوب الوفاء بمضمون العقد ، فإن كان منجزا فمنجّزا ، وإن كان معلّقا فمعلّقا. ولكنّه لم يأت بشاهد على هذه الدعوى ، فكان لصاحب الجواهر قدس‌سره منعها ، وحصر المدلول في وجوب الوفاء بالعقود منجّزا. وحينئذ يمكن جعل قول المصنف قدس‌سره : «مع أن تخلف الملك عن العقد كثير جدّا» دليلا على منع الحصر ، وأنّ العقود المملّكة التي يتخلّف أثرها عنها كثير كما عرفت ، فتكون الآية دليلا على صحة كلا القسمين ، والوفاء في كلّ منهما بحسبه ، وعليك بالتأمّل في المتن ليتبيّن لك حقيقة الأمر.

(١) هذا رابع ما أورده المصنف على صاحب الجواهر قدس‌سرهما ، ومحصّله : أخصّيّة الدليل من المدّعى ، وهو مبطليّة مطلق التعليق ، وبيانه : أنه لو كان مفاد وجوب الوفاء بالعقود ترتيب الأثر الشرعي على سببه ـ وهو العقد ـ فورا كان مقتضاه قدح


مع (١) أنّ هذا (٢) لا يجري في الشرط المشكوك المتحقق في الحال ، فإنّ العقد حينئذ (٣) يكون مراعى (٤)

______________________________________________________

التعليق في بعض الأقسام ، أعني ما إذا كان المعلّق عليه استقباليا ، فلو كان مقارنا للعقد فلا بد من صحته ، إذ لا يلزم حينئذ تخلّف الأثر عن المؤثّر ، كما إذا علّقه البائع على قبول المشتري أو على مشيّته ، فقال : «بعتك إن قبلت ، أو : إن شئت» فقال المشتري : «قبلت» فإنّ النقل لا ينفك عن هذا الإنشاء كما هو واضح. مع أن مقصود صاحب الجواهر منع التعليق مطلقا مهما كان المعلّق عليه.

(١) هذا خامس ما أورده على كلام الجواهر ، ومحصله أيضا أخصّيّة الدليل من المدّعى ، وغرض المصنف قدس‌سره : أنّ دليل صاحب الجواهر قدس‌سره ـ على فرض تماميته ـ يقتضي صحة التعليق على شرط متحقق واقعا ، ولكنه مشكوك الحصول بنظر المتعاقدين ، كما إذا قال البائع : «بعتك إن كان لي ، أو : بعتك إن كان هذا اليوم يوم الجمعة» فتبيّن كونه مالكا للمبيع وكون يوم الإنشاء الجمعة.

والوجه في الصحة : أنّ محذور تخلّف المسبب عن السبب ـ الّذي اعتمد عليه صاحب الجواهر في اعتبار التنجيز ـ لا يلزم في المثالين ، غايته أنّ المتبايعين لا يعلمان بترتب الأثر الشرعي على العقد ، للجهل بحصول المعلّق عليه ، فإذا انكشف لهما تحققه حال الإنشاء تبيّن لهما موضوعية العقد لوجوب الوفاء به. هذا مقتضى دليل صاحب الجواهر قدس‌سره ، مع أنّه جعله وجها لبطلان العقد المعلّق مطلقا حتى فيما كان المعلّق عليه حاصلا حال العقد ، وكان مشكوك الحال بنظر المتعاقدين.

(٢) أي : ما استدل به صاحب الجواهر ـ من اقتضاء الآية الشريفة ترتب الأثر على العقد فورا ـ لا يجري .. إلخ.

(٣) يعني : حين كون الشرط ـ المشكوك تحقّقه ـ موجودا في حال الإنشاء.

(٤) حتّى ينكشف حال الشرط ، فإن كان موجودا حال الإنشاء كان العقد


لا موقوفا (١).

مع (٢) أنّ ما ذكره لا يجري في غيره من العقود التي قد يتأخّر مقتضاها عنها ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

صحيحا من حينه ، وإن كان معدوما كان العقد باطلا ، لمحذور تخلّف الأثر عن المؤثّر.

(١) يعني : حتى يلزم التخلّف ، إذ الموقوف هو العقد المتخلّف مقتضاه عن نفس العقد ، لتوقّفه على ما لا وجود له فعلا.

(٢) هذا إيراد سادس على كلام الجواهر ، ومحصله : أخصيّة الدليل من المدّعى ، وذلك لأمرين مسلّمين :

الأوّل : أنّ البحث عن شرطيّة التنجيز لا يختص بالبيع ، بل عام لجميع الإنشاءات من العقود والإيقاعات ، فإن نهض دليل على الاشتراط لم يختص بباب دون آخر ، وإن لم ينهض فكذا ، أي يجوز تعليق الإنشاء مطلقا.

والوجه فيه : أنّ ما استدلّ به على الاعتبار ـ كالإجماع وما تقدّم من كلام الجواهر ـ لا يختص بالبيع. وعليه فاللّازم القول بالاشتراط مطلقا ، أو بالعدم كذلك ، ولا وجه للتفصيل بين العقود.

الثاني : أن سببيّة العقود لترتب مسبباتها عليها مختلفة ، فمنها ما يكون بمقتضى طبعه سببا تامّا ، ولا ينفك مسبّبه عنه كالبيع والإجارة والصلح وغيرها. ومنها ما لا يكون كذلك ، بل يتخلّف الأثر عن العقد كالوصية التمليكية والوقف والهبة والمضاربة والمساقاة ونحوها ، فالعقد يكون جزء السبب ، والجزء الآخر هو الأمر المتأخر كالموت في باب الوصية ، والقبض في الهبة والوقف ، وهكذا.

وبناء على هذين الأمرين نقول : إنّ الآية الشريفة التي استدلّ بها صاحب الجواهر ـ لو تمّ دلالتها ـ تقتضي شرطية التنجيز في القسم الأوّل من العقود ، مع أنّ المدّعى اعتباره مطلقا. وبيانه : أنّ الآية تدلّ على ترتب المسبّب على السبب ـ أي العقد ـ مباشرة وبلا فصل ، ومن المعلوم عدم كون جميع العقود مقتضية لترتيب الأثر فورا ، لما عرفت من أنّ جملة منها ليست أسبابا تامّة لمسبّباتها ، بل هي مشروطة


وليس الكلام (١) في خصوص البيع ، وليس على هذا الشرط في كل عقد دليل على حدة.

ثم الأضعف (٢) من الوجه المتقدم : التمسّك (٣) في ذلك بتوقيفية الأسباب الشرعية الموجبة لوجوب الاقتصار فيها على المتيقن ، وليس (٤) إلّا العقد العاري عن التعليق.

______________________________________________________

بأمور متأخرة عن العقد كالقبض في بيع الصرف ، وظهور الرّبح في المضاربة ، وهكذا. فيلزم جواز تعليق هذا القسم بأن يقول الموصى : «أوصيت بهذا المال لزيد إن قدم الحاج» ووجه الجواز واضح ، لفرض اختصاص مدلول الآية بالعقود التي تكون أسبابا تامّة ، لا مقتضية.

مع أنّ الالتزام بهذا التفصيل ممّا لا وجه له ، لما عرفت من أنّ هذا البحث لا يختص ببعض العقود ، ولا دليل آخر على شرطية التنجيز في سائر العقود ، فلو قيل ببطلان مثل الوصية بالتعليق كان قولا بغير علم.

(١) قد تقدم توضيح هذا آنفا بقولنا : «الأوّل : أن البحث عن شرطية التنجيز ..».

(٢) الجمع بين تعريف صيغة التفضيل و «من» لا يساعده القواعد الأدبية.

(٣) هذا رابع الوجوه المستدل بها على اعتبار التنجيز ، وهو مذكور في مفتاح الكرامة ، لكنه منعه بقوله : «وفيه ما فيه» وتقدم في كلام المحقق والشهيد الثانيين «أن العقود لمّا كانت متلقاة من الشارع نيطت بهذه الضوابط ، وبطلت في ما خرج عنها» وينسب هذا الوجه إلى جماعة من القدماء كالقاضي في جواهره. وأشار إليه صاحب الجواهر قدس‌سره في عبارته المتقدمة أيضا. وحاصله : أنّ الإنشاءات أسباب حكم الشارع بتأثيرها في مسبّباتها ، فإذا شك في جواز التسبّب بالإنشاء ـ المعلّق على شي‌ء ـ للأثر تعيّن الاقتصار على المتيقن ، وهو العقد العاري عن التعليق ، إذ لو علّقه لم يندرج في دليل الصحة ، فيرجع فيه إلى أصالة الفساد.

(٤) يعني : وليس المتيقن من الأسباب الشرعية إلّا العقد العاري عن التعليق.


إذ فيه (١) : أنّ إطلاق الأدلة مثل حلّيّة البيع ، وتسلّط الناس على أموالهم ، وحلّ التجارة عن تراض ، ووجوب الوفاء بالعقود ، وأدلة (٢) سائر العقود كاف (٣) في التوقيف.

وبالجملة (٤) : فإثبات هذا الشرط في العقود ـ مع عموم أدلتها ووقوع كثير منها في العرف (٥) على وجه التعليق ـ

______________________________________________________

(١) هذا ردّ الاستدلال المزبور ، وحاصله : أنّ إطلاق الأدلة المصحّحة للعقود كاف في التوقيف ، فمع الصدق العرفي على العقد المعلّق يتشبّث بتلك الإطلاقات ، ومعها لا مجال للاقتصار على المتيقّن الذي يكون مورده إجمال الدليل. وقد سبق هذا المطلب في أوّل ما أورده المصنف على صاحب الجواهر قدس‌سرهما.

(٢) معطوف على «الأدلة» يعني : إطلاق أدلة العقود ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «النكاح سنّتي ، والصلح جائز بين المسلمين» ونحوهما أدلة صحة الإجارة والقرض والمضاربة وغيرها ، فإنّ إطلاقها مسوق لإمضاء المتعارف منها. ولمّا كان المتعارف إنشاءها منجّزا تارة ومعلّقا اخرى كان مقتضى إطلاق الأدلة صحة كلا القسمين.

وعليه تكون العقود التعليقية توقيفية أيضا ، لكفاية الإطلاق في إثبات صحتها شرعا.

(٣) خبر قوله : «أنّ إطلاق» يعني : أنّ توقيفيّة الأسباب المعلّقة ـ كالمنجّزة ـ ثابت بالإطلاق ، ولا وجه لحصر الأسباب الممضاة شرعا في خصوص المنجّزة منها.

(٤) هذا ملخّص ما أفاده بقوله : «وربما يتوهّم أن الوجه في اعتبار التنجيز ..» إلى هنا. يعني : أنّ المعتمد من الوجوه المستدل بها على شرطية التنجيز هو الإجماع ، لا سائر الوجوه التي عرفت ضعفها.

(٥) غرضه من هذه الجملة أنّه لا مجال لتوهم انصراف إطلاق الأدلة إلى خصوص المنجزة ـ لشيوعها وندرة المعلّقة ـ كما هو حال سائر الإطلاقات المنصرفة عن أفرادها النادرة. وجه عدم المجال ما تقدّم من منع ندرة العقود المعلّقة ، بل المتعارف كلا القسمين.


بغير (١) الإجماع محقّقا أو منقولا (٢) مشكل (٣).

ثمّ إن القادح هو تعليق الإنشاء (٤). وأمّا إذا أنشأ من غير تعليق صحّ

______________________________________________________

(١) متعلّق ب «إثبات».

(٢) ظاهر العبارة تسليم أصل الإجماع وتردّده بين المحصّل والمنقول.

لكن في مفتاح الكرامة والجواهر ما ظاهره الجزم بتحصيل الإجماع فضلا عن نقله ، ففي الأوّل : «والدليل على ذلك بعد الإجماع نقلا وتحصيلا : أنّ الأصل عدم جواز الوكالة ، خرجت المنجّزة بالإجماع وبعض الأخبار ، وبقي الباقي» (١).

وفي الثاني : «وشرطها ـ أي الوكالة ـ أن تقع منجّزة كغيرها من العقود ، بلا خلاف أجده ، بل الإجماع بقسميه عليه» (٢).

(٣) لأنّ رفع اليد عن العمومات ـ المقتضية للصحة ـ بدون المخصّص مشكل جدّا.

(٤) هذا هو المطلب الثالث الذي تعرّض له في المقام الرابع ، وغرضه من هذا الكلام إلى آخر المسألة بيان حكم ما إذا كان الإنشاء منجّزا صورة ، ولكن تردّد المنشئ في تحقق شرط عرفي أو شرعي ممّا يتوقف عليه الأثر ، وهذا قسم من أقسام التعليق غير الصريح ، بل هو لازم الكلام ، على ما سبق منه في (ص ٥٤١) من التنظير بما إذا باع شخص مال مورّثه بظنّ موته ، وقد نقل هناك عن العلّامة احتمال بطلانه لكونه معلّقا واقعا وإن كان منجّزا صورة.

وكيف كان فمحصّل ما أفاده قدس‌سره : أنّ ما دلّ على بطلان الإنشاء بالتعليق ـ كالإجماع ـ يقتضي الاختصاص بإناطة الإنشاء بشرط أو صفة. وأمّا إذا كانت الصيغة منجّزة ولكن تردّد المنشئ في ترتب الأثر عليها ـ للشك في تحقق شرط صحتها عرفا أو شرعا ـ كانت صحيحة وخارجة عن مورد مبطلية التعليق ، كما

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٥٢٦

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٣٥٢


العقد (١) وإن كان المنشئ متردّدا في ترتب الأثر عليه شرعا أو عرفا ، كمن ينشئ البيع وهو لا يعلم أنّ المال له (٢) ، أو أنّ المبيع مما يتموّل (٣) ، أو أنّ المشتري راض حين الإيجاب (٤) أم لا ، أو غير ذلك ممّا يتوقف صحة العقد عليه

______________________________________________________

إذا باع شيئا وهو متردّد في ماليّته العرفية أو الشرعية ، أو شكّ في رضا المشتري جدّا بالإيجاب ، وغير ذلك من الأمثلة المذكورة في المتن.

ووجه الصحة في الجميع ـ يعني سواء أكان الشرط المشكوك تحقّقه مقوّما للعنوان عرفا أم مأخوذا فيه تعبّدا ـ هو تجرّد الإنشاء عن أداة الشرط ، ولا دليل على اعتبار جزم المنشئ.

هذا ما ذكره المصنف قدس‌سره في مطلع كلامه ، ولكنه استدرك عليه بالفرق بين كون المشكوك فيه مقوّما ، فيبطل الإنشاء ، وغيره فيصح ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(١) هذا مبني على الاستناد إلى الإجماع. وأمّا بناء على ما حكاه عن العلّامة من اعتبار الجزم في الإنشاء فيبطل في هذا القسم أيضا ، كما احتمله هو وفخر المحققين في بيع مال المورّث بظنّ موته ، فراجع.

(٢) هذا مثال للشرط الذي له دخل شرعا في ترتب الأثر على الإنشاء ، ولا دخل له فيه عرفا.

(٣) هذا مثال للشرط المصحّح للعقد عرفا ، فإنّ البيع عندهم «مبادلة مال بمال» فمع عدم ماليّة المبيع لا يقع البيع العرفي حتى يمكن إمضاؤه شرعا ، فإذا شكّ البائع في أنّ المبيع ممّا يتموّل ، لم يكن جازما بالبيع والمبادلة ، ومع ذلك يصحّ إنشاؤه ، لخلوّه عن الشرط.

(٤) هذا أيضا لو كان شرطا مصحّحا للعقد كان بالتعبّد ، لا لدخله عرفا في العقد.


عرفا (١) أو شرعا (٢).

بل (٣) الظاهر أنّه لا يقدح اعتقاد عدم ترتب الأثر (٤) عليه إذا تحقّق القصد إلى التمليك العرفي.

وقد صرّح بما ذكرنا (٥) بعض المحققين (٦) ، حيث قال : «لا يخلّ زعم فساد المعاملة ما لم يكن سببا لارتفاع القصد».

______________________________________________________

(١) كالشك في رضا المشتري بالإيجاب وكراهته له ، فإنّ المعاهدة الاختيارية متوقفة عرفا على الرّضا.

(٢) كجملة من شرائط المتعاقدين والعوضين ، فالبلوغ شرط تعبدي ، وكذا عدم سقوط العوضين عن المالية ، فمبادلة الخمر والخنزير عقد عرفي ، لكن نهى الشارع عنها ، لعدم قابلية العوض للتملّك شرعا. والعقل وقابلية الخطاب شرط عرفي.

(٣) غرضه الإضراب ـ عن عدم قدح تردّد المنشئ ـ إلى أنّ اعتقاد عدم ترتّب الأثر شرعا لا يقدح أيضا في الصحة إذا اجتمعت الشرائط العرفية المقوّمة للمعاملة ، وكان عدم إمضاء الشارع لأجل فقد شرط تعبدي كبلوغ المتعاقدين ، فلا مانع من تمشّي القصد إلى البيع إذا كان المشتري صبيّا مميّزا.

(٤) يعني : الأثر الشرعي. وأمّا الأثر العرفي فيمتنع القصد إليه عند العلم بعدم ترتبه.

(٥) من صحة الإنشاء غير المعلّق ، ولكن اعتقد المنشئ بعدم إمضائه شرعا.

(٦) وهو المحقق صاحب المقابس ، في مسألة اشتراط البيع بالقصد ، حيث قال : «ولا يعتبر أيضا علمه بصحّة العقد ، ولا يخلّ زعمه فساده ما لم يتسبّب لارتفاع قصده من الأصل ، وإلحاقه باللعب والهزل» (١).

والظاهر أنّ مورد كلامه اعتقاد الفساد الناشئ من اختلال الشرائط الشرعية ، فيقصد البيع العرفي ، ولا ينقاد للأحكام التعبدية.

__________________

(١) : مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ١٢


نعم (١) ربما يشكل الأمر في فقد الشروط المقوّمة ، كعدم الزوجية ، أو الشّك فيها في إنشاء الطلاق ، فإنّه لا يتحقق القصد إليه منجّزا من دون العلم بالزّوجية. وكذا الرّقية في العتق (٢). وحينئذ (٣) فإذا مسّت الحاجة إلى شي‌ء من

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على قوله : «وأما إذا أنشأ من غير تعليق صحّ العقد وإن كان المنشئ متردّدا».

ومحصّله : أنّ ما ذكرناه ـ من صحة العقد المنجّز مع تردّد المنشئ ، بل مع اعتقاده بالفساد شرعا ـ لا يمكن تسليم إطلاقه ، سواء أكان الشرط المشكوك تحقّقه مقوّما عرفيا للمعاملة أم شرعيّا ، بل ينبغي التفصيل بينهما ، ونقول ببطلان العقد في الشرط المقوّم عرفا ، سواء أكان مقطوع الانتفاء أم مشكوكا فيه ، كما إذا طلّق امرأة يشكّ في زوجيّتها ، فقال : «هي طالق».

والوجه في البطلان عدم تمشّي القصد الجدّي إلى الطلاق ـ الذي هو فكّ علقة الزوجية ـ مع الشكّ في موضوعه ، فيكون كإنشاء الهازل والعابث في عدم ترتب الأثر عليه.

وكذا الحال في إنشاء العتق مع الشك في كون المعتق مملوكه ، أو مع العلم بعدم مملوكيته له.

(٢) لتقوّم العتق بالرّقّية ، كتقوّم الطلاق بالزوجية ، والزوجية بأجنبية المرأة ، وهكذا.

ثم لا يخفى انّ مقصود المصنف قدس‌سره من «عدم تحقق القصد إليه منجّزا» هو القصد الجدّي. فلا يمكن التسبّب بصيغتي الطلاق والعتق عند عدم إحراز الزّوجية والرّقية. وأمّا إيجادهما رجاء فلا مانع منه ، كما نبّه عليه بقوله : «فإذا مسّت الحاجة ..» وسيأتي.

(٣) يعني : وحين انتفاء القصد المنجّز ـ في فقد الشرط المقوّم ـ فإذا مسّت .. إلخ ، وغرضه قدس‌سره بيان طريق الاحتياط فيما لو شك في تحقق الشرط المقوّم ، كما إذا شك في زوجيّة المرأة ـ إمّا للشك في محرميّتها بالرّضاع أو لفقد بعض ما يشكّ شرطيته في الصيغة أو لغير ذلك ـ جاز له التخلّص منها بأحد طريقين :


ذلك للاحتياط (١) ـ وقلنا بعدم جواز تعليق الإنشاء على ما هو شرط فيه (٢) ـ فلا بدّ (٣) من إبرازه بصورة التنجّز وإن كان في الواقع معلّقا (٤) ، أو يوكّل غيره الجاهل (٥) بالحال بإيقاعه.

______________________________________________________

الأوّل : أن ينشئ ـ بنفسه ـ صيغة الطلاق منجّزا ، فيقول لها : «أنت طالق» ولا يعلّقه على قوله : «إن كنت زوجتي» فيصحّ الطّلاق ، لكونه منجّزا صورة وإن كان برجاء تحققه.

الثاني : أن يوكّل من يكون جاهلا بالشبهة التي حصلت للزوج ، فيطلّقها الوكيل منجّزا أيضا. وبكلا الطريقين يتحقق الاحتياط ، وتبين المرأة منه.

فإن قلت : إن في كلا الوجهين جهة مشتركة مصحّحة للطلاق ، وهي الإنشاء منجّزا ، وذلك لأنّ توكيله لغيره منجّز صورة ومعلّق حقيقة ، إذ لو لم تكن الزوجية متحققة واقعا كانت الوكالة صورية أيضا ، فلا يبقى فرق بين طلاق الزوج وطلاق وكيله.

قلت : نعم وإن كان التوكيل في الطلاق معلّقا واقعا على تحقق الزوجية ، فيبطل على تقدير انتفاء الزوجية ، إلّا أنّ أصل الإذن في الطلاق باق بحاله ، ويتمشّى من الوكيل القصد إلى الطلاق ، فيقع صحيحا. هذا في تقوم الطلاق بالزوجية.

وكذا الحال في مثال العتق ، كما إذا تردّد الوارث في أنّ مورّثه أعتق عبده أم لا ، فيمكنه الاحتياط بإجراء الصيغة بنفسه ، فيقول : «أنت حرّ» أو بتوكيل الغير الجاهل بشبهة موكّله.

(١) متعلق ب «الحاجة» يعني : احتاج الى الاحتياط لينجو من الشبهة.

(٢) إذ لو قلنا بجواز تعليق الإنشاء على مصحّحه لم يكن وجه للتوكيل ، بل يطلّقها معلّقا بقوله : «أنت طالق إن كنت زوجتي».

(٣) جزاء قوله : «فإذا مسّت».

(٤) هذا هو الطريق الأوّل ، وقوله : «أو يوكّل» إشارة إلى الطريق الثاني.

(٥) تقييد الغير بالجاهل لأجل أنه يتمشّى منه الجزم بالإنشاء ، إذ لو كان عالما


ولا يقدح فيه (١) تعليق الوكالة واقعا على كون الموكّل مالكا للفعل (٢) ، لأنّ (٣) فساد الوكالة بالتعليق لا يوجب ارتفاع الإذن.

إلّا (٤) أنّ ظاهر الشهيد في القواعد الجزم بالبطلان فيما لو زوّج امرأة يشكّ في أنّها محرّمة عليه ، فظهر حلّها. وعلّل ذلك بعدم الجزم حال العقد ، قال :

______________________________________________________

بشبهة موكّله كان مثله في عدم القصد الجدّي.

(١) أي : ولا يقدح في التوكيل في الطلاق كونه معلّقا واقعا على موضوعه وهو الزوجية ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «إن قلت ..».

(٢) المراد بالفعل هنا هو الطلاق أي يكون أمره بيد الزّوج ، وكذا أمر العتق بيد السّيّد.

(٣) تعليل لقوله : «لا يقدح» وتقدم توضيحه بقولنا : «قلت ..».

(٤) هذا استدراك على قوله : «فلا بدّ من إبرازه بصورة التنجّز» يعني : أنّ ما ذكرناه من صحة الإنشاء منجّزا ـ مع التردّد في الشرط المقوّم ـ يشكل بما أفاده الشهيد قدس‌سره من الجزم بالبطلان في مسائل ثلاث :

الأولى : تزويج المرأة المشكوك كونها محرما حتى يبطل نكاحها ، وأجنبية حتى يحلّ ، مع أنّ إحراز أجنبية المرأة مقوّم لإنشاء النكاح ، ثم تبيّن بعد العقد كونها ممّن يحلّ نكاحها.

الثانية : طلاق امرأة أو مخالعتها مع الشك في زوجيّتها ، ثم تبيّن كونها زوجة ، مع تقوّم القصد الجدّي إلى الطلاق بإحراز زوجيّتها.

الثالثة : تولية نائب الإمام عليه‌السلام شخصا للقضاء بين الناس ، مع شكّه في أهليّته ، ثم تبيّن كونه أهلا ، مع وضوح توقف إنشاء هذا المنصب الشامخ على إحراز أهليّة المنصوب.

ويظهر من تعليل البطلان في هذه الفروع الثلاثة «بانتفاء الجزم» مخالفة الشهيد لما أفاده المصنف من الصحة ، وكفاية خلوّ الإنشاء عن أداة الشرط وإن كان


«وكذا الإيقاعات ، كما لو خالع امرأة أو طلّقها وهو شاكّ في زوجيّتها ، أو ولّى نائب الإمام عليه‌السلام قاضيا لا يعلم أهليّته وإن ظهر أهلا» (١) (١).

ثم قال : «ويخرج من هذا (٢) بيع مال مورّثه لظنّه حياته ، فبان ميّتا ، لأنّ الجزم هنا (٣) حاصل ،

______________________________________________________

المنشئ متردّدا.

(١) العبارة منقولة بتصرّف يسير غير قادح في المعنى ، فراجع القواعد.

(٢) أي : ويخرج من الجزم بالبطلان بيع .. ، والأولى أن يقال : «وليس من هذا القبيل بيع ..» لعدم مناسبة الخروج مع التعليل بعدم الجزم.

وكيف كان فاستثنى الشّهيد من عموم حكمه بالبطلان ـ لأجل تردّد المنشئ ـ مسألتين ، واحتمل صحّتهما شرعا.

الأولى : أن يبيع شخص مال مورّثه ظنّا بحياته ، فتبيّن بعد البيع انتقال المال إلى البائع بالإرث. والوجه في الصحّة تحقّق الجزم بالبيع ، غايته كونه فضوليّا. وتردّد المالك بين البائع والمورّث غير قادح في الجزم بنفس المعاملة.

ويحتمل البطلان أيضا كالفروع الثلاثة المتقدّمة ، وذلك لانتفاء القصد إلى الخصوصية وهي بيع المال بما أنّه ملكه ، فإنّ الظن بحياة المالك يوجب تردّده في مالكية نفسه ، فلو قصد البيع لنفسه كان غير جازم حال الإنشاء.

الثانية : أن يزوّج الولد مملوكة أبيه ظنّا بحياته حتى يكون العقد عليها تصرّفا في ملك الغير ، فتبيّن بعده انتقالها إليه ، وأنّه زوّج أمة نفسه. ووجه الصحة والبطلان كما تقدّم في المسألة الأولى ، هذا.

(٣) أي : في هذا المثال ، لإمكان القصد إلى البيع وإن لم يكن مالكا ، كما في بيع الفضولي ، فالتمليك غير معلّق ، وخصوصية المالك مشكوكة.

__________________

(١) : القواعد والفوائد ، ج ٢ ، ص ٢٣٨ ، القاعدة : ٢٣٨


لكنّ خصوصية البائع (١) غير معلومة. وإن قيل بالبطلان أمكن ، لعدم القصد إلى نقل ملكه. وكذا لو زوّج أمة أبيه فظهر ميّتا» (١) انتهى.

والظاهر (٢) الفرق بين مثال الطلاق وطرفيه (٣) بإمكان الجزم فيهما ، دون مثال الطلاق ، فافهم (٤).

______________________________________________________

(١) الأولى تبديله ب «المالك» لأنّ خصوصيّته مشكوكة ، وإلّا فخصوصية البائع ـ وهو المنشئ للبيع ـ معلومة. إلّا أن يكون مراد الشهيد قدس‌سره من البائع من يبيع بوصف كونه مالكا لا مجرّد المنشئ ، ومن المعلوم عدم العلم بخصوصية البائع بوصف مالكيته.

(٢) مقصوده قدس‌سره المناقشة في ما ادّعاه الشهيد قدس‌سره من الجزم بالبطلان ـ في المسائل الثلاث المتقدمة أوّلا ـ بالفرق بين مسألة الطلاق ومسألتي التزويج والتولية ، والفارق إمكان الجزم فيهما ، فيصحّان ، دون الطلاق فيبطل. أمّا صحة التزويج مع المرأة المشكوك حلّها وحرمتها فلأنّ كون المرأة أجنبية غير مقوّم لمفهوم التزويج لا لغة ولا عرفا ، وإنّما تكون معتبرة في صحته شرعا ، فيتمشّى القصد الجدّي إلى التزويج.

وأمّا صحة التولية ـ مع الشك في عدالة المنصوب وأهليّته ـ فلأنّ العدالة شرط شرعي ، وليس مقوّما لعنوان «القاضي» عرفا.

وأمّا بطلان الطلاق فلأنّه مزيل لعلقة الزوجية ، واعتبر في تحقق مفهومه الزوجية ، ولا يتحقق بدونها ، ولذا لا يمكن الجزم فيه ولو تشريعا. وهذا بخلاف التزويج والتولية ، فإنّه يمكن الجزم ولو بعنوان التشريع.

(٣) وهما مسألتا التزويج والتولية.

(٤) لعلّه إشارة إلى أنّ الإنشاء خفيف المئونة ، فمجرّد إناطة التسبّب به شرعا إلى حصول الأمر الاعتباري كالزّوجيّة والحرّية والطلاق لا يمنع عن الإنشاء معلّقا على الأجنبية والرّقية والزوجية.

__________________

(١) : القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٣٦٧ ، رقم القاعدة : ١٤٣


وقال في موضع آخر : «ولو طلّق بحضور خنثيين فظهرا رجلين أمكن الصحة (١). وكذا بحضور من يظنّه فاسقا فظهر عدلا. ويشكلان في العالم بالحكم ، لعدم قصده إلى طلاق صحيح (٢)» (١) انتهى.

______________________________________________________

(١) هذا أيضا من الفروع التي رتّبها الشهيد قدس‌سره على زعم فقد شرط الصحة الشرعية ، فتبيّن بعد الإنشاء تحقّقه حاله. وقد ذكر قدس‌سره في القواعد فروعا عديدة ، إلّا أنّ المنقول منها في المتن اثنان :

الأوّل : أن يطلّق الزوج أو وكيله بحضور شخصين ظنّ أنّهما خنثيان ، فتبيّن كونهما رجلين.

الثاني : أن يطلّق بحضور رجلين يظنّ فسقهما ، فظهرت عدالتهما. فحكم قدس‌سره بصحة الطلاق ـ مع كون المطلق متردّدا حال الإنشاء ـ وذلك لأنّ مفهوم الطلاق عرفا لا يتوقف على كون الشاهدين رجلين ، فيمكن إنشاؤه ولو مع عدم حضورهما.

غاية الأمر أنّ ترتب الأثر شرعا منوط بحضور عدلين ، فإن تحقّق ذلك لأثّر الطلاق ، وإلّا فلا. وكذا الحال في الظن بفسقهما وظهور عدالتهما.

(٢) لا حاجة إلى قصد عنوان الصحيح بحيث يكون شرطا لصحة العقد ، بل المدار على قصد المعاملة العرفية ولو مع العلم بانتفاء الأثر الشرعي ، لانتفاء شرطه كما في بيع الغاصب (*).

__________________

(*) تنقيح البحث في هذه المسألة منوط بالتعرض لجهات :

الأولى : في معنى التنجيز.

والثانية : في نقل كلمات الأصحاب حتى يظهر أنّ اعتباره ثابت عندهم ، وأنّ التنجيز شرط أو أنّ التعليق مانع.

والثالثة : في مورد اعتباره.

والرابعة : في دليل اعتبار هذا الشرط.

__________________

(١) : القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٣٦٧ ، رقم القاعدة : ١٤٣


.................................................................................................

__________________

أمّا الجهة الأولى فملخّصها : أنّ التنجيز عبارة عن الإرسال ، وعدم إناطة الإنشاء بشي‌ء ، في مقابل التعليق الذي هو الإناطة بشي‌ء.

وأمّا الجهة الثانية : فتقف عليها بالمراجعة إلى ما حرّرناه في الحاشية التوضيحية. وظاهر عباراتهم كون التنجيز شرطا ، حيث إنّهم جعلوا مبطليّة التعليق متفرعة على اعتبار التنجيز ، فقالوا : «التنجيز شرط في صحة العقد ، فلو علّقه على شرط أو صفة لم يصح» فلاحظ كلماتهم. وتظهر الثمرة في حال الشك ، فعلى شرطية التنجيز لا أصل لإحرازه ، بخلاف مانعية التعليق ، فإنّه يجري فيه أصالة عدم تحققه.

والحاصل : أنّ الشرط لا بدّ من إحرازه ، لكونه وجوديّا ، ولا يحرز بالأصل ، لكونه مسبوقا بالعدم. بخلاف المانع ، فإنّ عدمه المساوق لوجود الممنوع يحرز بالأصل ، فلو اشتملت عبارة الإنشاء على شي‌ء يشكّ في كونه موجبا للتعليق أمكن نفي التعليق بالأصل ، بأن يقال : إنّ الكلام قبل وجود ما يشكّ في إيجاد تعليق العقد لم يكن معلّقا قطعا ، وبعد وجوده يستصحب عدم تعليقه.

وكيف كان فكلماتهم في المقام مضطربة جدّا ، لظهور بعضها ـ كعبارة فخر الإسلام المتقدمة ـ في كون التعليق مبطلا للعقود والإيقاعات مطلقا لازمة كانت أو جائزة. وظهور إطلاق بعضها كعبارة المحقق والشهيد الثانيين المتقدمة أيضا في التعميم للعقود اللازمة والجائزة ، مع التقييد بكون المعلّق عليه مجهول الحصول. وصراحة بعضها في إبطال التعليق مطلقا للعقود اللّازمة من الطرفين ، كعبارة السرائر المتقدمة أيضا.

وبالجملة : فعباراتهم مضطربة بالنسبة إلى المعلّق عليه من حيث كونه معلوم الحصول ومجهول الحصول ، وحاليّا واستقباليا ، وممّا يتوقف صحة العقد عليه شرعا كالقبض في الهبة وبيع الصرف والقدرة على التسليم ، أو مما يتوقف عليه حقيقة المنشأ كالقبول في البيع والزوجية في الطلاق. وكذا بالنسبة إلى المعلّق من حيث كونه عقدا مطلقا أو لازما من الطرفين.


.................................................................................................

__________________

ولهذا الاضطراب أوضح المصنف قدس‌سره هذه المسألة بتقسيم المعلّق عليه على أقسام ثمانية ، بأنّ المعلّق عليه إمّا معلوم التحقق وإمّا محتملة ، وعلى التقديرين إمّا يكون أمرا حاليّا أو استقباليا ، وعلى التقادير الأربعة إمّا يتوقف عليه صحة العقد شرعا ، وإمّا لا يكون كذلك ، فالأقسام ثمانية.

ولكن في تقريرات بحث السيد المحقق الخويي قدس‌سره : «الأولى جعل الأقسام اثني عشر ، فإنّ المعلّق عليه على التقادير الأربعة إمّا يتوقف عليه حقيقة العقد ومفهومه كتوقف البيع على القبول أو الطلاق على الزوجية. وإمّا يتوقّف عليه صحته شرعا كالقبض في الهبة ، والقدرة على التسليم في بيع السلم. وإمّا لا يكون شي‌ء من ذلك ، فالأقسام اثني عشر» (١) ، هذا.

ولكن الحق صحة تقسيم المصنف وعدم الحاجة إلى إدراج ما علّق عليه مفهوم العقد في التقسيم ، لأنّ مورد البحث هو تعليق العقد ، فتعليق مفهوم العقد خارج عن محل البحث ، لأنّ التعليق يعرض العقد ، فقبل تحققه لا عقد حتى يقال : إنّه منجّز أو معلّق.

إلّا أن يتسامح ويقال : إنّ المراد بالمعلّق أعم من العقد وجزئه حتى يشمل تعليق الإيجاب فقط ، كقوله : «بعتك هذا المتاع بكذا إن قبلت» فإنّ القبول مقوّم للعقد ، ولا يتحقق العقد إلّا به ، ومع ذلك يصح تعليق العقد ـ أي الإيجاب ـ به.

أو يقال : إنّ مفهوم العقد ينشأ بالإيجاب فقط ، وليس القبول إلّا تنفيذا له ، فيصح أن يعلّق العقد وهو الإيجاب على القبول ، فتأمّل.

وبالجملة : فمع فرض تقوّم العقد بالقبول لا يعقل تعليق العقد به ، لأنّه من التعليق على نفسه ، فينحلّ قوله : «بعتك هذا المتاع بكذا بشرط أن تقبل» إلى : إنشاء البيع على تقدير تحققه. والمفروض أنّ العقد أسام للمسبّبات ، وهي بسيطة لا تتحقق إلّا بعد حصول القبول. فمرجع هذا الشرط إلى : أنّ إنشاء البيع متوقف على وجوده ، وليس هذا

__________________

(١) : محاضرات في الفقه الجعفري ، ج ٢ ، ص ١٣٥


.................................................................................................

__________________

إلّا توقف الشي‌ء على نفسه.

فلعلّ الأولى في التقسيم أن يلاحظ كلّ من الشرط والمشروط والمشروط به ، بأن يقال : إنّ الشرط إمّا صريح وإمّا ضمني ، والمشروط به إمّا ماضوي كمجي‌ء زيد في الأمس وإمّا حالي وإمّا استقبالي.

ثمّ إنّه على التقادير الستة إمّا معلوم العدم وإمّا معلوم الوجود وإمّا مشكوكه ، فالأقسام ثمانية عشر ، ومن ضربها في كون المشروط به مقوّما لمفهوم العقد أو لصحته أو أجنبيّا عن المفهوم والصحة معا تنتهي الصور إلى أربع وخمسين ، ثم بضرب هذه الصور في كون التعليق في الإنشاء والمنشأ مادّة وهيئة تنتهي الصور إلى مائة واثنتين وستّين.

أمّا صور التعليق في الإنشاء بجملتها ـ من كون المعلّق عليه ماضويّا أو حاليّا أو استقباليا ، وكونه معلوم الوجود أو العدم ، أو مشكوك الوجود والعدم ، وكونه مقوّما لمفهوم العقد أو لصحته أو أجنبيّا عنهما ، وكون الشرط صريحا أو ضمنيا ، وكون المعلّق عقدا بأنواعه أو إيقاعا فهي ساقطة عن التقسيم ، لأنّ الإنشاء ـ سواء أكان استعمال اللفظ في المعنى بقصد إيجاده ، وحاصله إيجاد المعنى باللفظ ، في قبال الإخبار الذي هو استعمال اللّفظ في معناه بقصد الحكاية عنه ، أم كان إبرازا للاعتبار النفساني باللّفظ ـ لا يعقل تعليقه بشي‌ء ، لأنّ الإنشاء نظير الإيجاد التكويني ، فكما لا يعقل الإيجاد التكويني كالضرب معلّقا على شي‌ء ، ضرورة أنّه يوجد في الخارج وإن علّقه على كون المضروب شخصا معيّنا ، فإنّ الضرب يوجد وإن لم يكن المضروب ذلك الشخص بل غيره ، فكذلك لا يعقل تعليق الإيجاد الإنشائي ، فإنّ الإنشاء بعد كونه من شؤون استعمال اللّفظ في المعنى كالإخبار ـ والمفروض تحقّق الاستعمال ـ فلا محالة يوجد الإنشاء ، لتقوّمه باستعمال اللفظ في المعنى ، وهو معلوم الحصول. وسيأتي مزيد توضيح لذلك ان شاء الله تعالى.


.................................................................................................

__________________

وأمّا الجهة الثالثة ـ وهي مورد اعتبار التنجيز ـ فيظهر من كلماتهم أنّ مورده كلّ إنشاء سواء أكان عقدا أم إيقاعا ، كما يظهر من بعض الوجوه التي أقاموها على اعتبار هذا الشرط ، كمنافاة التعليق للإنشاء.

وأمّا الجهة الرابعة ـ وهي الدليل على اعتبار التنجيز المعبّر عنه أحيانا بالجزم ـ فنخبة الكلام فيها : أنّهم استدلّوا على اعتباره بوجوه :

الأوّل : دعوى الإجماع على ذلك ، ولذا فرّعوا عليه مبطليّة التعليق ، حيث إنّه رافع للشرط أعني به التنجيز ، فبطلان العقد يستند إلى فقدان شرطه ، لا إلى وجود المانع. وقد عرفت في الجهة الثانية دعوى جماعة الاتّفاق على ذلك.

لكن فيه : أنّ المحتمل قويّا كونه مدركيّا ، وأنّ مستند المجمعين الوجوه الاعتبارية التي استند إليها الفقهاء ، فلم يثبت كونه إجماعا تعبديّا كاشفا قطعيّا عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره عليه‌السلام.

الثاني : ما عن جماعة من القدماء كالقاضي في جواهره ، حيث إنّه استدلّ على المنع عن المضاربة بغير الدرهم والدينار ، فكان عدم الدليل عندهم دليلا على العدم.

ومحصّل هذا الوجه هو : أنّ العقود والأسباب الشرعية توقيفية لا بدّ فيها من الاقتصار على المتيقن ، وهو العقد الخالي عن التعليق.

وفيه : أنّ الأخذ بالمتيقن إنّما يصح إذا لم يكن هناك إطلاق أو عموم يدلّ على مشروعية كل عقد عرفي ، فإنّ مقتضى القاعدة حينئذ التمسّك بذلك ، والحكم بصحة كل ما يصدق عليه العقد. والمفروض وجود العمومات والإطلاقات الدالة على صحة كلّ عقد ، فلا مجال للأخذ بالمتيقن. نعم له مجال إن كان دليل صحة العقود لبيّا كالإجماع ، لكنه ليس كذلك ، هذا.

الثالث : ما عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره من : انصراف أدلة صحة المعاملات عن العقود المعلّقة ، لأنّها خلاف ما تعارف بينهم من تنجيز العقود وعدم


.................................................................................................

__________________

تعليقها ، فأدلّة الصحة منصرفة إلى العقود المتعارفة ، وهي المنجّزة. وعليه فلا دليل حينئذ على صحة العقد المعلّق ، ومقتضى أصالة الفساد بطلانه ) ، هذا.

وفيه : ما مرّ مرارا من عدم صلاحية التعارف للتقييد.

مضافا إلى وقوع التعليق كثيرا في العقود ، فكون التعليق فيها غير متعارف ممنوع.

الرابع : ما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره في عبارته المنقولة في التوضيح ، وحاصله : أنّ ظاهر أدلة الصحة هو ترتيب الآثار من حين العقد ، وذلك منوط بإطلاق العقد ، فمع تعليقه لا تشمله الأدلة من حينه ، ومع عدم شمولها له من زمان صدوره لا تشمله بعده أيضا ، فالعقود المعلّقة غير مشمولة لأدلة الصحة لا حدوثا ولا بقاء أي بعد حصول المعلّق عليه. فمع عدم الدليل على الصحة يرجع إلى أصالة الفساد ، هذا.

وفيه : أنّ العقد إن كان عبارة عن الإيجاب والقبول وما يتعلّق بهما من الشرائط والقيود فوجوب الوفاء به بمعنى ترتيب آثار الصحة عليه منوط بتماميّته ، كما هو شأن كل موضوع وحكم. ومن المعلوم أنّ موضوع وجوب الوفاء لا يتمّ إلّا بحصول المعلّق عليه ، ومقتضى جعل الحكم على نحو القضية الحقيقية هو توقف فعليّة الحكم على فعليّة موضوعه ، فلا موضوع لوجوب الوفاء قبل حصول المعلّق عليه ، حتى لا يشمله دليل وجوب الوفاء.

وإن كان عبارة عن ربط الالتزامين الواردين على مورد واحد فوجوب الوفاء به ـ بمعنى عدم نقضه وحلّه ـ لا يترتب أيضا إلّا على تمامية سببه ، لأنّ العقد المسبّبي لا يحصل إلّا بتحقق جميع ما له دخل في سببه.

والحاصل : أنّ وجوب الوفاء مترتب على موضوعه ـ سواء أكان منجّزا أم معلّقا ـ فإمضاء الشارع للعقد تابع لجعل المتعاقدين ، فإن كان العقد منجّزا أي مطلقا فأثره الشرعي الملكيّة المنجّزة غير المشروطة ، وإلّا كان أثره الملكيّة المعلّقة ، ولا يجب الوفاء

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٣


.................................................................................................

__________________

إلّا بعد حصول المعلّق عليه كما هو الحال في النذر والعهد ونحوهما ، ولا يتخلّف عنه ، وإلّا يلزم الخلف والمناقضة كما حقق في محلّه. ولا يلزم التخلف المزبور في المقام أصلا ، سواء أكان العقد أمرا بسيطا دائرا بين الوجود والعدم أم مركّبا من الإيجاب والقبول ، هذا.

وقد أجاب عنه المصنف قدس‌سره بوجوه :

أحدها : أنّ دليل الصحة واللزوم غير منحصر بأوفوا بالعقود ، لأنّ دليل حلّية البيع ، وتسلّط الناس على أموالهم كاف في إثبات ذلك ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّه أخص من المدّعي الذي هو أعم من البيع ، لاختصاصه بالبيع ، فيبقى غيره من العقود التعليقية خاليا عن دليل الإمضاء. وأمّا دليل السلطنة ففيه : أنّه ليس مشرّعا كما تقدم عن المصنف قدس‌سره في مباحث المعاطاة. هذا ما أفيد.

ويمكن منعه بأن إشكال المصنف ناظر إلى ما ارتضاه صاحب الجواهر من مشرّعية قاعدة السلطنة للأسباب. وعليه يتجه الاستدلال بقاعدة السلطنة على صحة العقد المعلّق كالمنجّز.

وثانيا : أنّ ما ادّعاه المستدلّ ـ من ظهور آية وجوب الوفاء بالعقد في ترتب الأثر من حين وقوع العقد ـ جار في آية حلّ البيع ، ودليل السلطنة أيضا ، فهما يدلّان على ترتب الملكية من حين تحقق البيع أو عقد آخر ، ولا يدلّان على صحة العقود المعلّقة من البيع وغيره.

ثانيها : أنّه ينتقض بالعقود التي يتخلّف مقتضاها بالتأخر عن نفس تلك العقود كبيع الصرف والسلم والوصية والمعاملات المعاطاتية بناء على إفادتها الإباحة مع قصد الملكية ، فإنّ بيع الصّرف مثلا لا يترتب أثره إلّا بعد القبض في المجلس. بل وكذا البيع الخياري ، إذ البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ، فالأثر اللزومي لا يترتب إلّا بعد الافتراق.

وفيه : أنّ القياس مع الفارق ، لكون التعليق فيها ثابتا بالدليل الخاص ، فلا وجه


.................................................................................................

__________________

للنقض ، هذا ما قيل.

لكن الصواب أن يقال : إنّه لا يلزم التخلّف المزبور أصلا ، لما عرفت من أنّ وجوب الوفاء لا ينفك عن موضوعه ، ومن المعلوم أنّ الحكم لا يترتّب إلّا على موضوعه الّذي يتقوّم وجوده بما علّق عليه ، فإذا كان بيع الصرف منوطا بالقبض فالقبض يكون جزء أو شرطا في البيع ، فما لم يتحقق القبض لا يتم موضوع وجوب الوفاء ، هذا.

ثالثها : أنّه أخص من المدّعي الذي هو مبطليّة التعليق مطلقا سواء أكان المعلّق عليه خارجا عن حقيقة العقد كقدوم الحاج أم داخلا في حقيقته كتعليق البيع على القبول ، كما إذا قال البائع : «بعتك هذا الكتاب بدينار إن قبلت» فإنّ مثل هذا التعليق داخل في محل النزاع ، مع عدم لزوم تأخّر مقتضى العقد عن وجوده ، فلا يصح الاستدلال بهذه الآية على عدم صحة التعليق مطلقا ولو لم يلزم تأخّر الأثر زمانا عن العقد.

الخامس : ما عن العلّامة في التذكرة من : أنّ التعليق ينافي الجزم بالإنشاء ، إذ الإنشائية كالإخبارية من وجوه استعمال اللّفظ ، ولا يعقل تعليقهما على شي‌ء ، بل هما إمّا توجدان وإمّا لا توجدان ، فوجودهما معلّقا غير معقول. فالوجود الإنشائي كالتكويني ـ كالضرب على شخص ـ غير قابل للتعليق ، بداهة وقوع الضرب عليه وإن لم يكن المضروب ذلك الشخص المقصود.

وهذا وجه عقلي لاستحالة التعليق في الإنشاء ، لاستلزام التعليق للتناقض ، كما عن المحقق النائيني قدس‌سره (١) ، حيث إنّ لازم التعليق عدم وجود المعلّق ـ وهو الإنشاء ـ قبل تحقق المعلّق عليه ، فوجود الإنشاء قبله مناقض له ، فيلزم أن يكون الإنشاء قبل حصول المعلّق عليه موجودا ومعدوما ، وهذا محال. فلا بدّ أن يكون تعليق الإنشاء خارجا عن مورد البحث ، فمورد اعتبار التعليق هو المنشأ ، لا الإنشاء ، هذا.

وفيه : ما في المتن من أنّ مورد التعليق ليس هو الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٢


.................................................................................................

__________________

باللفظ ، لأنّ ذلك حاصل بمجرّد إلقاء اللّفظ ، فلا يقبل الفرض والتعليق كالإيجاد التكويني ، فيمتنع تقييده وتعليقه ، وبنفس امتناع التقييد يمتنع الإطلاق أيضا ، لما قرر في محله من كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

والإخبار كالإنشاء في امتناع تعليقه ، فإنّه يحصل بمجرّد إلقاء اللفظ بقصد الحكاية وإن كان المخبر به معلّقا ، كالإخبار بفساد العالم إذا تعدّدت الآلهة ، فإن الأخبار فعليّ ، والمخبر به تعليقي.

بل محلّ الكلام هو المنشأ كالمبادلة أو التمليك في البيع ، كأن يقول : «بعتك إن جاء زيد» وكقوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» فإنّ المجي‌ء قيد للمنشإ وهو الوجوب المستفاد من الهيئة ، فنفس البيع معلّق على المجي‌ء ، كتعليق الوجوب الذي هو المنشأ على المجي‌ء ، فتعليق المنشأ ـ كالبيع ـ نظير الوجوب المشروط ، فمصبّ النزاع في اعتبار التنجيز هو المنشأ ، ومن المعلوم قابليّته للتعليق كالوصية التمليكية ، فإنّ الملكية معلّقة على الموت ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّ الإنشاء ليس مجرّد إلقاء اللفظ لإخطار المعنى حتى يمتنع تعليقه ويكون كالإيجاد التكويني غير القابل للتعليق ، بل هو نفس الإيجاد التكويني ، لأنّ اللفظ الموجود بالتلفظ موجود تكويني لا إنشائي اعتباري. بل الإنشاء نحو خاصّ من استعمال اللفظ وإلقاء المعنى به ، فالإنشاء متقوم بتلك الخصوصية بحيث لا يوجد في الوعاء المناسب له إلّا بوجود تلك الخصوصية. ففرق واضح بين الإيجاد الإنشائي والتكويني ، فإنّ الثاني لا يقبل التعليق والإناطة ، بخلاف الأوّل ، لأنّ إنشاء الأمور الاعتبارية غير إنشاء الأمور التكوينية ، إذ الأوّل متقوم بقصد حصول المنشأ ، بخلاف الثاني ، إذ الإيجاد والوجود متّحدان ذاتا مختلفان اعتبارا ، والوجود عين التحقق ، وهو ينافي الفرض والتعليق ، فالإنشاء إيجاد اعتباري قابل للتعليق ، والإيجاد الحقيقي غير قابل له.

وثانيا : أنّ الإنشاء لو كان مجرّد إلقاء مدلول الكلام لزم صدقه على الكلام الصادر من النائم والساهي ، ومن المعلوم عدمه ، لأنّ الإنشائية خصوصية قصديّة من خصوصيات الاستعمال متقوّمة بالقصد ، والإنشائية والإخبارية خارجتان عن حريم


.................................................................................................

__________________

مدلول اللفظ.

فالإنشاء في الأمور الاعتبارية قابل للتعليق ، لأنّه عبارة عن إلقاء المعنى باللّفظ بكيفية خاصّة ، بحيث يتقوّم الإنشاء بها ، فإنشاء الملكية مثلا تارة لا يعلّق على شي‌ء ، كأن يقول : «بعتك هذا المتاع بكذا» وأخرى يعلّق على شي‌ء ، كأن يقول : «بعتك إذا قدم الحاج» فإنّ إنشاء الملكية حينئذ معلّق على قدوم الحاج ، بحيث لا تتحقق الملكية إلّا إذا قدم الحاج.

والمراد بتعليق الإنشاء هو هذا المعنى ، وهذا التعليق هو الذي أنكره في الأصول على ما حكي عنه ، حيث أنكر رجوع القيود إلى الهيئة ، وأرجعها إلى المادة كالفصول ، فالتزم بالواجب المعلّق دون المشروط لأحد وجوه :

من خصوص المعنى الحرفي غير القابل للتقييد.

ومن كونه إيجاديّا غير قابل للحاظ والتعليق ، لكون الإيجاد كالوجود يمتنع تعليقه.

ومن كون المعنى الحرفي ـ الذي يكون معنى الهيئات منه ـ آليّا غير قابل للحاظ الاستقلالي ، لتضادّ الآلية والاستقلالية ، فيمتنع لحاظهما في شي‌ء واحد.

ولكن قد ثبت في الأصول بطلان هذه الوجوه ، وبنينا على إمكان تقييد الهيئة وصيرورة الوجوب مشروطا. فلو قال : «إذا دخل الوقت فصلّ» أو : «بعتك هذا إذا جاء زيد» كان الشرط قيدا للوجوب وإنشاء البيع ، بحيث لا يكون إنشاء للوجوب والنقل إلّا في ظرف تحقق الشرط ، فبدونه لا وجوب ولا نقل. فالوصية التمليكية من قبيل الواجب المشروط ، والإجارة بالنسبة إلى منفعة السنة الآتية تكون من قبيل الواجب المعلّق ، لكون الملكية حاصلة بالفعل ، والمنفعة المملوكة متأخرة زمانا.

وبالجملة : إذا قال : «بعتك هذا المتاع بدينار إذا قدم الحاج» فهنا أمور :

أحدها : الألفاظ المذكورة.

ثانيها : معانيها الإفرادية.


.................................................................................................

__________________

ثالثها : معانيها التركيبية.

رابعها : الأثر الشرعي أو العرفي المترتب على هذه الألفاظ.

أمّا الأوّل فهو أجنبي عن الإنشاء ، لأنّ وجود الألفاظ تكويني ، لا اعتباري.

وأمّا الثاني فوجودها حين استعمال الألفاظ ـ كوجودها قبله ـ ذهني ، ويعرضها الوجود اللفظي عناية ، وإلّا فالوجود اللفظي حقيقة لنفس الألفاظ.

وأمّا الثالث فهو كالثاني في إحضار المعاني التركيبية في الذّهن ، فوجود اللفظ تكويني والمعنى ذهني ، فالموجود الاعتباري الإنشائي لا بدّ أن يترتّب على قصد خصوصية ، وهي قصد تحقق المعنى في وعاء الاعتبار ، فما لم يقصد ذلك لا يتصف الكلام بالإنشاء ، فمجرّد التلفظ بلفظ واستعماله في معناه لا يكون إنشاء.

وقصد إيجاد المعنى في صقع الاعتبار تارة يكون مطلقا ، كقوله : «بعتك هذا بكذا» فإنّ القائل يوجد البيع ـ الذي هو المبادلة مثلا ـ في عالم الاعتبار بلا شرط ، فالإنشاء مطلق لا معلّق. وأخرى يكون معلّقا كالمثال المزبور ، فإنّ البائع ينشئ البيع في عالم الاعتبار معلّقا على قدوم الحاج ، بحيث لا يوجد البيع الاعتباري إلّا حين قدوم الحاج ، فقبله لا إنشاء ولا منشأ ، وحينه يوجد الإنشاء والمنشأ ، فالايجاد والوجود غير منفكّين ، نظير «إن بنيت مسجدا فصلّ فيه» فإنشاء الوجوب يكون بعد بناء المسجد ، وقبله لا وجوب ولا إنشاء ، فالتعليق في الإنشاء من الأمور المتداولة عند الشارع والعرف.

فدعوى «امتناع التعليق في الإنشاء ، وإرجاعه إلى المنشأ» في غاية الغرابة. ولعلّ المدّعي خلط بين اللفظ الذي هو موجود تكويني يمتنع تعليقه كغيره من الموجودات التكوينية ، وبين الإنشاء الذي هو أمر اعتباري كالإيجاب ، فزعم أنّ الإنشاء هو اللفظ الذي يمتنع تعليقه.

فتلخص مما ذكرنا : أنّ التعليق في الإنشاء من الأمور المتداولة عرفا وشرعا ، ولا يعقل التفكيك بين الإنشاء والمنشأ في التعليق ، ولا معنى لتعليق الإنشاء وتنجيز المنشأ ، فإنّهما كالإيجاب والوجوب والإيجاد والوجود من الاتّحاد الذاتي


.................................................................................................

__________________

والاختلاف الاعتباري. ففي المثال يكون إيجاب الصلاة ووجوبها بعد بناء المسجد ، فلا إيجاب ولا وجوب قبله.

نعم آلة الإنشاء ـ وهي اللفظ الخاص مثل «بعت» ـ توجد فعلا وجودا تكوينيّا ، وهذا الوجود أجنبي عن الإيجاد الاعتباري الذي هو مفاد الإنشاء.

وقد ظهر مما ذكرنا ـ من كون الإنشاء إيجادا اعتباريّا تابعا لاعتبار المعتبر من الإطلاق والتقييد والتنجيز والتعليق ـ فساد قياس الإيجاد الإنشائي بالإيجاد التكويني ، كإيجاد الأكل والشّرب واللّبس والضرب وغيرها من الأفعال الخارجية ، فإنّ إيجادها لا يقبل التعليق ، فإنّ الأكل يتحقق ولو لم يكن المأكول ما قصده الآكل ، كما إذا أكل شيئا معلّقا على كونه حنطة ثم تبيّن أنّه شعير ، فإنّ الأكل تحقق. فالوجود التكويني غير قابل للتعليق ، بخلاف الوجود الاعتباري ، فإنّه قابل لذلك في إنشاء الأمور الاعتبارية كالملكية والزوجية.

والحاصل : أنّ حقيقة الإنشاء إيجاد المعنى في وعاء الاعتبار ، لا إيجاد المعنى باللفظ الذي هو مقوّم الاستعمال. ومن المعلوم أنّ الإيجاد الاعتباري تابع لكيفية اعتبار معتبرة ، فإن علّقه على شي‌ء توقّف وجوده في وعاء الاعتبار على وجود ذلك الشي‌ء ، فلا وجه لاستحالة تعليق الإنشاء ، كما عن المحقق النائيني قدس‌سره ، ولا منافاته للجزم حال الإنشاء كما عن العلّامة في التذكرة ، لعدم اعتبار الجزم في الإنشاء. بل هو أمر ممكن وواقع في العرفيات والشرعيات كالوصية والتدبير والنذر ، فإنشاء العقود معلّقا مما لا مانع عنه ، لصدق العقد عرفا مع التعليق وبدونه على نسق واحد ، فاعتبار التنجيز محتاج إلى الدليل.

بل يمكن أن يقال : إنّ الجزم في الإنشاء المعلّق كالإخبار المعلّق موجود ، فإنّ الأخبار بفساد العالم على فرض تعدّد الآلهة جزمي لا ترديد فيه. وكذا الإنشاء ، فإنّ الإنشاء في قوله : «بعتك إن جاء زيد» جزمي ، إذ لا ترديد له في البيع على تقدير مجي‌ء زيد.


.................................................................................................

__________________

وعلى فرض كون مثل هذا الإنشاء خاليا عن الجزم نمنع الكبرى وهو اعتبار الجزم في الإنشاء ، لصدق العقد والإيقاع عرفا مع الجزم ، فلو قال شاكّا في كون شخص عبده أو امرأة فلانية زوجته : «أنت حرّ لوجه الله» و «أنت طالق» فأصاب ، صدق في العرف عتق عبده وطلاق زوجته.

وكذا الحال إذا قال : «بعتك هذا المال» برجاء كونه ماله ـ وكان في الواقع ماله ـ صدق عرفا أنّه باع ماله ، فلا يعتبر الجزم في الصدق العرفي ، فاعتبار الجزم مع هذا الصدق لا بدّ أن يكون تعبّدا محضا.

وبالجملة : فالتعليق في الإنشاء خال عن المحذور.

بل لا وجه لرجوع القيد إلى المنشأ في بعض الموارد ، كما إذا أنشأ بالفعل الملك يوم الجمعة ، فإنّ لازمه جواز إنشاء الملك لشخص آخر يوم السبت ، ولثالث يوم الأحد ، نظير باب الإجارة ، فيكون الجميع مالكا بالفعل كلّ ملكية قطعة من الزمان ، مع أنّ الملك ليس متكثّرا بتكثّر الزمان ، وليس المملوك متعددا في المملوكية كالمنافع في كل يوم.

فالصواب رجوع القيد إلى الإنشاء ، وبطلان رجوعه إلى المنشإ ، لعدم تعدّد المملوك حتى ينتقل في زمان إلى شخص ، وفي غيره إلى شخص آخر. بل المملوك نفس الشي‌ء ، والزمان ظرف له.

وأمّا إذا رجع إلى الهيئة فالتمليك لنفس الطبيعة لا مقيّدة بيوم الجمعة ، إذ المقيّد حينئذ هو نفس التمليك ، فكأنّه قال : «أوجدت يوم الجمعة ملكية المتاع الفلاني لك» فإنشاء التمليك معلّق على يوم الجمعة ، فقبله لا عقد ولا إنشاء.

والسّر في ذلك : أنّ القيد إن رجع إلى الهيئة كانت الطبيعة مطلقة. ففي المثال تكون الملكيّة مطلقة ، والتمليك مقيّدا بيوم الجمعة. فالنتيجة : أنّ في يوم الجمعة صار المتاع ملكا للمشتري ، فطبيعة المتاع صارت مملوكة له في يوم الجمعة ، فالتمليك والإنشاء معلّق على يوم الجمعة ، فقبله لا تمليك ولا عقد.


.................................................................................................

__________________

وإن رجع إلى المادّة والمنشأ كان التمليك ، بلا قيد والإنشاء بلا تعليق ، فلا بدّ من تحققه ومن وجود الملكية فعلا ، لامتناع انفكاك المنشأ عن الإنشاء. لكن الملكيّة مقيّدة بيوم الجمعة ، لا مطلقة ، لأنّ مقتضى هذا العقد هو وجود الملكيّة المقيّدة بيوم الجمعة لا الطبيعة المطلقة ، فللمتاع المزبور ملّاك متعددة حسب اقتضاء القيود الراجعة إلى المادة.

وهذا كما ترى.

ولازم رجوع القيد إلى المادّة أيضا تمامية العقد فعلا ، وعدم جواز الرجوع من المتعاقدين قبل حصول القيد والمعلّق عليه. بخلاف ما إذا رجع إلى الهيئة ، إذ العقد إنّما يكون على تقدير حصول القيد ، فبدونه لا عقد ، بل إنشاء معلّق ، ولا يصير عقدا إلّا بعد حصول المعلّق عليه.

فالمتحصل : أنّه لا وجه لاعتبار الجزم في الإنشاء لا عقلا ولا عرفا من باب تقوّم عنوان العقد أو الإيقاع عرفا بالإنشاء المنجّز ، حتى يقال : إنّ التنجيز مقوّم لمفهوم العقد العرفي أو الإيقاع كذلك. فلا بدّ أن يكون اعتباره بدليل نقلي ، وهو مفقود أيضا ، لأنّ الإجماع غير ثابت أوّلا ، لما عرفت من تصريح المحقق القمي قدس‌سره بصحة الوكالة مع التعليق.

مضافا إلى : أنّ المسألة لم تكن معنونة ، وإنّما استندوا فيها إلى باب الوكالة والوقف ونحوهما.

وثانيا : بعد تسليمه ـ لا يكون إجماعا تعبديّا ، لاستناد المجمعين إلى الوجوه المذكورة ، فيكون مدركيا. ولا أقلّ من صيرورته محتمل المدركية ، فيسقط عن الاعتبار.

وكذا الحال في سائر أدلتهم التي عرفت ضعفها ، فلا دليل على مبطلية التعليق ليخصّص به عموم أدلة صحة العقود ، فالمرجع هو العمومات والإطلاقات ، وبها يدفع احتمال مانعية التعليق أو شرطية التنجيز.

فتلخص : من جميع ما ذكرناه أمور :

الأوّل : أنّ التعليق لا ينافي الإنشاء أصلا ، سواء أكان عقدا أم إيقاعا.


.................................................................................................

__________________

الثاني : أنّه لا فرق في القيود بين دخلها في قوام العقد أو الإيقاع كتزويج من يشكّ في أنوثيّته ، وطلاق من يشكّ في زوجيّتها ، وبين دخلها في الصحة كالطلاق بحضور رجلين يشكّ في عدالتهما ، وبيع ما يشكّ في كونه ممّا يتموّل ، لما عرفت من عدم منافاة التعليق للإنشاء. وبين ما لا يكون دخيلا في شي‌ء منهما.

الثالث : أنّه لا فرق في القيود بين الحاليّة والاستقباليّة ، وبين معلوم الحصول ومشكوكه ، وبين كونها صريحة وضمنية ، وبين كون صيغة العقد جملة اسمية وبين كونها جملة فعلية ـ كما في حاشية الفاضل الشهيدي قدس‌سره ـ بزعم «صحة التعليق في الاولى ، وبطلانه في الثانية ، استنادا إلى عدم المانع عن الصحة في الأولى ، لعدم دلالتها على الزمان ، لأنّها تدلّ على مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ، فهي تقبل التقييد بالزمان المستقبل وبمقابليه. بخلاف التعليق في الثانية أي الجملة الفعلية ، حيث إنّ التعليق فيه ينافي مدلول الفعل ماضيا كان أو مضارعا ، أمّا في الماضي فلأنّ مدلوله صدور الفعل قبل حصول القيد ، وقضية التعليق صدوره بعده. وكذا الكلام في المضارع فيما إذا قصد به الإنشاء.

ولا مجال للتصرف في أحد الطرفين بقرينة الآخر ، للزوم محذور فوات الإنشاء على تقدير محذور فوات التعليق على آخر. نعم يصح فيه إذا كان المعلّق عليه أمرا حاليا معلوم الحصول» (١).

وذلك لأنّ الجملة الفعلية الدالة على الزمان ـ على ما عن النحاة ـ لا بدّ أن تنسلخ عن الزمان إذا استعملت في مقام الإنشاء ، فحينئذ تكون كالجملة الاسمية في انسلاخها عن الزمان ، فتصلح للتقييد بالقيود. وعليه فلا فرق بين الجملة الفعلية والاسمية في جواز تعليق الإنشاء بها وعدمه.

الرابع : أنّه لا فرق في جواز التعليق بين كون المعنى الذي يراد إنشاؤه في حدّ

__________________

(١) : هداية الطالب إلى أسرار المكاسب ، ص ١٩٨


.................................................................................................

__________________

ذاته متقوّما بمعنى آخر بحيث يمتنع إنشاؤه بدون ذلك الشي‌ء كالرّهن ، فإنّه متقوم بالدّين ، وبدونه لا يعقل إنشاء الرهن ، لأنّه وثيقة للدّين. وكالطلاق والعتق ، فإنّهما متوقفان حقيقة على الزوجية والرّقية ، لأنّ الأوّل إزالة علقة الزوجية ، ومن المعلوم توقف ذلك على الزوجية ، والثاني فكّ الرقية ، فبدونها لا معنى للعتق. وبين عدم كونه متقوّما بغيره وإن توقّف تأثيره عرفا أو شرعا على شي‌ء كإناطة زوجية المرأة بأجنبيّتها وكقضاوة من لا أهلية له ، إذ مفهوم الزوجيّة غير متقوّم بالأجنبيّة ، وكذا مفهوم القضاوة بالأهليّة ، بل الأجنبيّة والأهلية شرطان شرعا لهما.

فالتفكيك بين القسمين بدعوى : «عدم تحقق الجزم بالإنشاء في الأوّل دون الثاني ، إذ مع عدم العلم بالزوجية والرّقية لا يعقل حصول الجزم بالإنشاء. بخلاف الثاني ، لحصول الجزم بالإنشاء فيه ولو مع عدم القطع بالأجنبيّة وعدم الأهلية ، بل ومع العلم بالعدم ، إذ المفروض عدم تقوم مفهومهما بذلك» ممّا لا وجه له ، لما عرفت من عدم مانع عن الإنشاء معلّقا ، لصدق الطلاق على قول من قال لامرأته : «أنت طالق إن كنت زوجتي». وصدق العتاق على قول من قال : «أنت حرّ إن كنت عبدي» فتبيّن كون المرأة زوجته ، والرجل عبده كما لا يخفى.

الخامس : أنّه قد ظهر مما ذكرنا : أنّ التنجيز ـ على تقدير اعتباره ـ يكون من شرائط المعنى المنشأ ، لا من شرائط الصيغة كالعربية والماضوية كما هو ظاهر المحقق النائيني قدس‌سره ، حيث قال : «لا ينحصر التعليق في أداة الشرط ، بل كل ما كان في معنى التعليق ولو بغير الأداة» (١). خلافا للمصنف قدس‌سره ، حيث يظهر منه كونه شرطا للصيغة ، لأنّه قال : «فإذا مسّت الحاجة إلى شي‌ء من ذلك للاحتياط ، وقلنا بعدم جواز تعليق الإنشاء على ما هو شرط فيه فلا بدّ من إبرازه بصورة التنجيز».

وإن أمكن أن يقال بعدم ظهور عبارته في كون التنجيز من شرائط الصيغة ، وأنّ إبرازه بصورة التنجيز لأجل كون الصيغة حاكية عن المعنى المنشأ.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٣


.................................................................................................

__________________

وكيف كان فالأقوى ما ذكرناه من كون التنجيز بعد تسليم اعتباره شرطا للمعنى المنشأ ، هذا.

وقد ظهر من هذا البيان جريان بحث اعتبار التنجيز وعدمه في المعاطاة أيضا ، لأنّ مقتضى عدم كونه من شرائط الصيغة ـ بل من شرائط المعنى الإنشائي ـ تطرّقه في المعاطاة أيضا ، فيقال : إنّه يعتبر في الإنشاء سواء أكان باللفظ أم بالفعل أن يكون منجّزا.

لكن الأصحّ على ما تقدم عدم اعتبار التنجيز في الإنشاء ، فيصح بداعي احتمال حصول المسبّب به ، فله إنشاء مفهوم الطلاق بهذا الوجه ، فيقع طلاقا حقيقيّا إذا كانت المرأة زوجته واقعا ، وإلّا يقع لغوا.

والحاصل : أنّ الجزم في المعاملات كالجزم في العبادات ، فكما لا يعتبر ذلك في العبادات على الصحيح ، فكذلك في المعاملات ، والله تعالى هو العالم بالأحكام.

تكملة : الظاهر أنّ توقيت البيع بمنزلة التعليق ، إذ لا فرق ـ على ما تقدم ـ بين كون المعلّق عليه زمانا وزمانيا. فعلى القول باعتبار التنجيز في البيع كان التوقيت مبطلا ، وإلّا فلا ، فإذا قال : «بعتك هذا بعد شهر مثلا» صحّ ، بناء على عدم اعتبار التنجيز ، وبطل بناء على اعتباره.

لكن حكي الإجماع على بطلانه ، فإن ثبت ذلك فلا كلام ، وإلّا فمقتضى عدم اعتبار التنجيز في العقود هو الصحة ، كما قيل بصحة الإجارة مع التوقيت ، كما إذا قال : «آجرتك هذه الدار بكذا بعد شهر».

قال في مفتاح الكرامة : «ويشترط في البيع أن لا يكون موقّتا ، لأنّه لا يقبل التوقيت كما تقبله الإجارة ، فإنّه يصح أن يؤجرهم بعد سنة ، ولا يصح أن يبيعه كذلك» (١).

هذا بعض الكلام فيما يتعلق بالتنجيز في الإنشاءات العقدية والإيقاعية.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٦


ومن جملة شروط العقد : التطابق بين الإيجاب والقبول (١).

______________________________________________________

المبحث الرابع : التطابق بين الإيجاب والقبول

(١) هذا هو المبحث الرابع من مباحث الهيئة التركيبية في صيغة البيع ، وقد اشترطوا مطابقة القبول للإيجاب ، ففي التذكرة : «لا بدّ من التطابق في المعنى بين الصيغتين» (١).

وفي القواعد : «ولا بدّ من التطابق بين الإيجاب والقبول. فلو قال : بعتك هذين بألف ، فقال : قبلت أحدهما بخمسمائة ، أو : قبلت نصفها بنصف الثمن ، أو قال : بعتكما هذا بألف ، فقال أحدهما : قبلت نصفه بنصف الثمن لم يقع» (٢).

وقال في الجواهر ـ بعد نقل تصريح غير واحد من الأصحاب باعتبار هذا الشرط ـ ما لفظه : «لكن على معنى المطابقة بينهما بالنسبة إلى المبيع والثمن ، لا مطلق التطابق ، لاتّفاق على صحة الإيجاب ببعت والقبول باشتريت. بل الظاهر صحة قبلت النكاح مثلا لإيجاب زوّجتك ، كما عن جماعة التصريح به. بل المراد المطابقة التي مع انتفائها ينتفي صدق القبول لذلك الإيجاب وبالعكس .. إلخ» (٣).

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٤٧ (الطبعة الحجرية).

(٣) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٥


فلو (١) اختلفا في المضمون بأن أوجب البائع البيع على وجه خاصّ من حيث خصوص المشتري أو المثمن أو الثمن ، أو توابع العقد من الشروط ، فقبل المشتري على وجه آخر لم ينعقد.

ووجه هذا الاشتراط واضح ، وهو (٢) مأخوذ من اعتبار القبول ، وهو الرّضا بالإيجاب ، فحينئذ لو قال : «بعته من موكّلك بكذا» فقال : «اشتريته لنفسي» لم ينعقد. ولو قال : «بعت هذا من موكّلك» فقال الموكّل غير المخاطب : «قبلت» صحّ (٣).

______________________________________________________

(١) هذا متفرّع على اعتبار التطابق ، ويستفاد منه أنّ المراد بالمطابقة هو المطابقة في المضمون والمعنى دون اللّفظ ، فلا يلزم أن يكون قبول البيع ـ الذي أنشئ إيجابه بلفظ «بعت» أو إيجاب النكاح بلفظ «أنكحت» ـ ابتعت ، أو : قبلت النكاح. بل لو قال «اشتريت» وفي الثاني «قبلت التزويج» صحّ ، لتطابق الإيجاب والقبول في المعنى.

(٢) أي : اشتراط التطابق مأخوذ .. إلخ. توضيحه : أنّ منشأ اعتبار التطابق هو اعتبار القبول في العقد ، حيث إنّ القبول عبارة عن الرّضا بالإيجاب كما تقدّم سابقا ، فلا بدّ في تحقق القبول من كونه رضا بالإيجاب ، ولا يحصل ذلك إلّا بتطابق القبول والإيجاب في المعنى الإنشائي ، بأن يتحقق الرّضا بالإيجاب على النحو الذي حصل ، إذ بدون التطابق لا يكون القبول رضا بالإيجاب ، ولا يرتبط به ، ولا يعدّ قبولا ـ أي رضا بالإيجاب ـ بل يكون شيئا آخر ، فلا يتحقق الرّبط بين الالتزامين.

وإن شئت فقل : إنّ نفس المعاهدة والمعاقدة تتقوّم بالتطابق بين الإيجاب والقبول ، إذ مع التخالف لا تصدق المعاقدة على شي‌ء واحد ، فإنّ المعاهدة على أمر لا تتحقق إلّا بوحدة المورد الذي تعاقدا عليه.

(٣) لوجود التطابق ، فإنّ قول الموكّل : «قبلت» يكون رضا بالإيجاب.


وكذا (١) لو قال : «بعتك» فأمر المخاطب وكيله بالقبول ، فقبل.

ولو قال : «بعتك العبد بكذا» فقال : «اشتريت نصفه بتمام الثمن» أو نصفه (٢) لم ينعقد (٣).

وكذا (٤) لو قال : «بعتك العبد بمائة درهم» فقال : «اشتريته بعشرة دنانير».

ولو قال للاثنين : «بعتكما العبد بألف» فقال أحدهما : «اشتريت نصفه بنصف الثمن» لم يقع (٥). ولو قال كلّ منهما ذلك لا يبعد الجواز (٦).

ونحوه لو قال البائع : «بعتك العبد بمائة» فقال المشتري : «اشتريت كلّ نصف منه بخمسين» وفيه إشكال (٧).

______________________________________________________

(١) لصدق تطابق الإيجاب والقبول حينئذ.

(٢) بالجرّ معطوف على «تمام الثمن» أي : يقول المشتري : «اشتريت نصفه بنصف الثمن».

(٣) لعدم المعاقدة على ذلك ، فإنّ مضمون الإيجاب شي‌ء غير مضمون القبول ، فلا تتحقق المعاقدة المتقوّمة بربط الالتزامين ، المنوط بوحدة الملتزم به.

(٤) لعدم صدق المعاقدة أيضا على ذلك ، فإنّ القبول ليس مرتبطا بالإيجاب ، لاختلافهما في الثمن ، فلا تتحقق المعاهدة على مبادلة العبد بمائة.

(٥) لاختلاف الإيجاب والقبول في الثمن والمثمن ، إذ المبيع تمام العبد بألف ، لا نصفه بخمسمائة.

(٦) إذ لا اختلاف بينهما إلّا في العبارة ، فإنّ البيع ينحلّ حقيقة إلى بيعين ، أحدهما : بيع نصفه من أحدهما بخمسمائة ، والآخر : كذلك أيضا.

(٧) وهو : أنّ الإيجاب إنّما وقع على بيع المجموع ، بحيث يكون انتقال كلّ نصف من العبد إلى المشتري ضمنيّا ، والقبول إنّما وقع على الرّضا بانتقال كل نصف بالاستقلال ، فلا يتحقق التطابق بين الإيجاب والقبول ، هذا.


.................................................................................................

______________________________________________________

لكن فيه تأمّل ، لأنّ مقتضى الإيجاب انحلاله إلى إيجابين بالنسبة إلى بيع النصفين ، فقبول أحدهما قبول لأحد الإيجابين ، فالتطابق بين أحد الإيجابين مع قبوله موجود ، فلا بأس بالصحة بالنسبة إليه ، وإن كان الخيار ثابتا ، لتخلّف الإيجاب الآخر عن قبوله ، فليتأمّل (*).

__________________

(*) قد عرفت أنّهم عدّوا من شرائط العقد التطابق بين الإيجاب والقبول ، والمراد به هو التطابق على إنشاء المعنى المقصود لهما ، لا التطابق في جميع الجهات حتّى اللفظ كي لا يصحّ القبول مثلا بلفظ «قبلت» فيما إذا كان إيجاب البيع بلفظ «بعتك» وإيجاب النكاح بلفظ «أنكحت».

قال في نكاح التذكرة : «لا يشترط اتفاق اللفظ من الموجب والقابل ، فلو قال الموجب : زوّجتك ، فقال الزوج : أنكحت ، أو قال الموجب : أنكحتك ، وقال الزوج : تزوّجت ، صحّ العقد إجماعا» (١).

وفي نكاح القواعد ـ بعد اشتراط اتّحاد المجلس ـ : «فلو قالت زوّجت نفسي من فلان ، وهو غائب ، فبلغه فقبل ، لم ينعقد. وكذا لو أخّر القبول مع الحضور بحيث لا يعدّ مطابقا للإيجاب» (٢).

لكن ذلك معنى آخر ينطبق على اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول. وقد عرفت في التوضيح عبارة الجواهر الدالة على اعتبار المطابقة بين الإيجاب والقبول في المبيع والثمن ، لا مطلق المطابقة.

وكيف كان يكون تعبير المصنف أولى ، لكونه أجمع من تعبير الجواهر.

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٢

(٢) قواعد الأحكام ، ص ١٤٧ (الطبعة الحجرية)


.................................................................................................

__________________

وتنقيح المقام يتوقف على البحث عن جهات :

الاولى : في كون التطابق من شروط الصيغة أم من شروط مضمونها أعني به العقد الذي هو الالتزامان المرتبطان.

الثانية : في أنّ موردها جميع الخصوصيات المذكورة في الإيجاب ، أو خصوص ما يتحقّق به عنوان العقد ، وهو المطابقة لما يتقوّم به الإيجاب.

الثالثة : في الدليل على اعتباره.

أمّا الجهة الأولى فملخّصها : أنّ الإيجاب والقبول لا يراد بهما إلّا مضمونهما ، فإنّ إيجاب البيع ليس إلّا تبديل مال بمال مثلا ، وليس للفظ خصوصية حتى يقال : إنّ التطابق شرط للصيغة على حذو شرطية العربية والماضوية لها ، فليس القبول إلّا رضا بهذا المضمون. ومن هنا صحّ اختلاف ألفاظ الإيجاب والقبول ، فيصح أن يقول قابل عقد النكاح : «قبلت التزويج» مع كون الإيجاب بلفظ «أنكحت» وأن يقول قابل البيع : «اشتريت أو تملّكت» مع كون الإيجاب بلفظ «بعت».

وقد عرفت تصريح التذكرة بعدم اشتراط اتفاق اللّفظ من الموجب والقابل. وقد مرّ تصريحه أيضا في التذكرة بأنّه «لا بدّ من التطابق في المعنى بين الصيغتين» فعباراتهم مشتملة على اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول مطلقا كما في القواعد ، أو «التطابق في المعنى بين الصيغتين» كما في التذكرة.

لكن هذه العبارة تفسّر عبارة القواعد ، خصوصا بعد ما عرفت من تصريحهم بعدم اعتبار المطابقة اللفظية بين الإيجاب والقبول في النكاح الذي اهتمّ فيه الشارع غاية الاهتمام.

فقد ظهر ممّا ذكرنا في هذه الجهة أمور :

الأوّل : أنّ مورد التطابق هو العقد لا الإيقاع ، لعدم اشتماله على الإيجاب والقبول.

الثاني : أنّ التطابق من شرائط العقد أعني به الالتزامين ، لا الصيغة حتى يكون من


.................................................................................................

__________________

قبيل العربية والماضوية.

الثالث : أنّ التطابق لا يختص اعتباره بالعقد اللفظي ، بل يعمّ العقد ولو كان بالمعاطاة ، إذ المفروض أنّ التطابق شرط لنفس العقد الذي ينشأ تارة باللفظ ، وأخرى بالفعل ، كما لا يخفى.

وأمّا الجهة الثانية : فملخّص البحث فيها : أنّ التطابق بين الإيجاب والقبول يتصور على وجوه :

أحدها : أن يلاحظ بالإضافة إلى المبيع ، كأن يقول البائع : «بعتك عبدي بألف دينار» فقال المشتري : «قبلت بيع العبد بذلك الثمن» ، لا ينبغي الارتياب في اعتبار المطابقة هنا ، إذ لو قال المشتري : «قبلت بيع الجارية بألف دينار» لم يكن هذا قبولا لما أنشأه الموجب ، بل كان إنشاء أجنبيا عن الإنشاء الإيجابي ، فلا يتحقّق عنوان العقد الذي هو عبارة عن التزامين مرتبطين كما لا يخفى.

ثانيها : أن يلاحظ بالإضافة إلى الثمن ، كأن يقول البائع : «بعتك عبدي بألف دينار» ويقول المشتري : «قبلت ذلك بألف درهم» لا ينبغي الإشكال أيضا في بطلان العقد وعدم تحققه ، لأنّ المعاهدة والمعاقدة لم تتحقّق بينهما ، فإنّ الإنشاء القبولي ـ الذي هو عبارة عن إمضاء الإيجاب والرّضا به ـ لم يحصل ، فلم يتحقق عنوان البيع بينهما ، لعدم التزامين مرتبطين بينهما ، بل حصل بينهما إنشاءان أجنبيّان مندرجان تحت عنوان الإيقاع لا العقد ، فإنّهما إيقاعان ، كما لا يخفى.

ثالثها : أن يلاحظ بالإضافة إلى نفس المعاملة ، كأن يقول البائع : «بعتك هذا الكتاب بدينار» فإن قال المشتري : «قبلت هذا البيع بهذا الثمن» فلا إشكال في الصحة. وأمّا إذا قال : «قبلت هبة أو صلح هذا الكتاب» فلا إشكال في البطلان ، لعدم اتّفاق الإنشائين على عنوان واحد حتى يرتبطا ، فيكون كلّ واحد من الإنشائين أجنبيّا عن الآخر ، فلا تحصل معاقدة بينهما حتى تشملها العمومات المقتضية للصحة.


.................................................................................................

__________________

رابعها : أن يلاحظ بالنسبة إلى البائع والمشتري ، فلو قال زيد لعمرو : «بعتك هذا الكتاب بدينار» وقال عمرو : «قبلت البيع لخالد» بطل العقد ، لعدم ورود الإيجاب والقبول على مورد واحد.

ودعوى «عدم دخل خصوصية البائع والمشتري في صحّة البيع ، حيث إنّ الرّكن فيه العوضان. بخلاف النكاح ، إذ الركن فيه الزّوجان ، فمقتضى القاعدة عدم لزوم التطابق بين الإيجاب والقبول في البائع والمشتري ، بل هذا التطابق معتبر في النكاح الذي ركنه الزوجان» غير مسموعة ، لأنّ عدم لزوم التطابق بين الإيجاب والقبول ـ في البائع والمشتري ـ إنّما هو فيما إذا كان العوضان من الأعيان الخارجية.

أمّا مع كون أحدهما ـ فضلا عن كليهما ـ كلّيا ذميّا فإنّه لا بدّ من اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول من ناحية البائع والمشتري ، بداهة اختلاف ذمم الأشخاص من حيث الاعتبار ، فربّ شخص لا يعتمد عليه إلّا في الأمور الحقيرة ، وشخص آخر يعتمد عليه في الأمور الخطيرة ، فلا بدّ حينئذ من المطابقة بين البائع والمشتري.

وعليه فإذا باع زيد متاعه من عمرو بمائة دينار في الذمة ، فليس لعمرو أن يقبل هذا البيع لغيره ، ولا لغيره أن يقبله لنفسه. وهذا هو ما أشار إليه المصنف قدس‌سره بقوله : «فحينئذ لو قال بعته من موكّلك بكذا فقال : اشتريته لنفسي لم ينعقد».

وكذا إذا باع زيد عبده بمائة من بكر وخالد ، فقال أحدهما : «قبلت بيع نصفه بخمسين دينارا» فإنّ التطابق هنا أيضا مفقود ، لأنّ الإيجاب عبارة عن تمليك العبد لاثنين لا لواحد.

أقول : اعتبار التطابق في هذه الصورة بين البائع والمشتري غير ظاهر ، بل المدار على رضا البائع باشتغال ذمّة القابل بالثمن ، فعلى تقدير كون القابل وجيها عند البائع فلا دليل على اعتبار التطابق المزبور ، بعد وضوح عدم دخل خصوصية البائع والمشتري في صحّة البيع ، ولذا لا يتفحّصون عن المالك غالبا ، ويشترون الأمتعة من غير سؤال


.................................................................................................

__________________

وفحص عن ملّاكها ، هذا.

خامسها : أن يلاحظ التطابق بين الإيجاب والقبول في أجزاء المبيع والثمن ، فإذا قال : «بعتك داري بمائة دينار» فقال المشتري : «قبلت بيع نصف الدار بخمسين دينارا» فعن المحقق النائيني قدس‌سره بطلان البيع ، لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر ، حيث قال مقرّر بحثه الشريف : «ومما ذكرنا ظهر أنّه لا بدّ من اتّحاد المنشأ حتى بالنسبة إلى التوابع والشروط ، فلو أنشأ أحدهما مع شرط ، وقبل الآخر بلا شرط ، أو باع البائع عبدين ، وقبل المشتري أحدهما ، وغير ذلك ممّا هو نظير ما ذكرناه لم يصحّ أيضا ، لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر» (١).

ولا يخفى أنّ ذكر المثال الثاني ـ وهو قوله : أو باع البائع عبدين .. إلخ ـ غير مناسب ، لأنّه تفريع على اتّحاد المنشأ في التوابع والشروط ، مع أنّه تبعيض في المبيع ، أو هو مع الثمن كما لا يخفى.

وكيف كان فأيّده سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره بما هذا لفظ المقرّر : «لأنّ مرجع بيع الدار بخمسين دينارا مثلا إلى بيع كل نصف منها بخمسة وعشرين دينارا مع اشتراط كلّ منهما بوجود الآخر ، فإذا قبل المشتري أحدهما دون الآخر رجع ذلك إلى عدم المطابقة من جهة الشرط ، وقد مرّ حكمه» (٢).

وقد ذكر قبل ذلك لزوم التطابق بين الإيجاب والقبول في الشروط أيضا.

لكن الحق عدم اعتبار التطابق في الشروط ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

سادسها : التطابق بين الإيجاب والقبول من ناحية الشروط المذكورة في العقد.

قيل : بصحة العقد مع عدم التطابق في الشروط ، نظرا إلى أجنبية الشرط عن العقد ، حيث إنّه التزام آخر غير الالتزام العقدي.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٤

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٧٤


.................................................................................................

__________________

وهذا هو الأقوى بناء على كون دخل الشرط بنحو تعدّد المطلوب كالواجبات التي ثبت لها القضاء ، فإنّ قضاءها يكشف عن كونها بنحو تعدّد المطلوب ، فتعدّد المطلوب يكون في الوضعيات والتكليفيّات معا ، ففوات الشرط لا يوجب بطلان العقد ، لعدم كون الشرط مقوّما له ، بل خارجا عنه غير موجب فواته لفوات العقد.

ودعوى : بطلان العقد ، لأجل عدم التطابق بين الإيجاب والقبول في الشروط ـ كما في تقرير سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره نظرا إلى : «أنّ تعليق اللزوم يرجع إلى جعل الخيار ، وهذا الجعل يرجع إلى تحديد المنشأ ، وعدم التطابق فيه يوجب البطلان» (١). انتهى ملخّصا.

غير مسموعة ، لأنّ التطابق العقدي موجود بالنسبة إلى الالتزام الأوّل ، كما هو قضية انحلال العقد إلى عقدين أو أزيد ، نظير انحلال رواية متضمنة لجمل ـ سقط بعضها عن الحجية ـ إلى روايات تكون بعضها حجّة ، وبعضها غير معتبرة ، فالشرط لا يوجب تحديد المنشأ الأوّل بحيث يوجب وحدة المنشأ ، حتى يلزم التطابق ، بل هناك إنشاءان والتزامان ومطلوبان يوجب تخلّف الثاني سلطنة المشروط له على حلّ الالتزام الأوّل ، وهذه السلطنة حكم شرعي مترتب على عدم وفاء المشروط عليه بالشرط ، فالخيار مجعول شرعي موضوعه تخلّف الشرط ، فالشارط لم يجعل الخيار حتى يكون مرجعه إلى تحديد المنشأ.

والحاصل : أنّ انحلال الإيجاب المتضمّن لقيود إلى إيجابات يقتضي انحلال القبول أيضا ، فإذا طابق القبول جميع مراتب الإيجاب كانت العقود التي انحلّ إليها الإيجاب صحيحة ، وإلّا كان الصحيح خصوص العقد المطابق لقبوله.

وأمّا انحلال عقد الى عقود ففي غاية الوضوح ، كبيع المملوك وغير المملوك معا ، وكبيع ما يملكه مع مملوك الغير كذلك.

وعليه فإذا باع كتابه وفرسه بعشرة ، وقبل المشتري بيع أحدهما بخمسة دراهم

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٧٣


.................................................................................................

__________________

صحّ البيع بالنسبة إليه ، وبطل بالإضافة إلى الآخر ، هذا.

وأمّا الجهة الثالثة : فملخّص الكلام فيها : أنّه يظهر من المصنّف وغيره أنّ منشأ اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول هو اعتبار القبول في العقد ، إذ القبول ـ بمعنى الرّضا بالإيجاب ـ لا يصدق إلّا على الرّضا بما أنشأه الموجب ، ولا نعني بالتطابق إلّا هذا ، فاعتبار هذا الشرط يكون حقيقة مقوّما لمفهوم المعاهدة والمعاقدة. ولذا قال المحقق الخراساني في مقام بيان شرطية التطابق ما لفظه : «ضرورة أنّه لو لا التطابق لما قصدا أمرا واحدا ، بل لكلّ همّ وقصد ، فلا يكون بينهما عقد» (١). فدخل التطابق في العقد عرفي ، لكونه مقوّما لمفهوم العقد العرفي.

وعليه فوزان اعتبار التطابق وزان اعتبار القبول في العقد ، نظير شرائط تنجيز العلم الإجمالي كالابتلاء ، فإنّها توجب العلم بالحكم الفعلي ، لا أنّها شرائط منجزية العلم بالحكم الفعلي.

وبعبارة أخرى : تلك الشرائط مقوّمة لحصول العلم المزبور ، فجعل العلم بالحكم الفعلي مشروطا بها لا يخلو عن مسامحة.

وكيف كان فإناطة المعاقدة بالتطابق المزبور ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، فشرطيّته في العقد من القضايا التي قياساتها معها ، فلا يحتاج إثبات شرطيّته إلى إقامة برهان ، فليست شرطيّة التطابق على حدّ شرطيّة العربية والماضوية والتنجيز بعد تسليمها ، حيث إنّها شروط تعبّديّة لا بدّ من إقامة الدليل على اعتبارها.

والمتحصل : أنّ الكبرى مسلّمة ، إلّا أن تطبيقها على صغرياتها مشكل ، كما عرفت في جملة من الموارد.

منها : كون الإيجاب مشروطا بشرط ، والقبول خاليا عنه.

ومنها : ما إذا أوجب البائع لشخصين ، فقبل أحدهما نصف المبيع بنصف الثمن.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٩


.................................................................................................

__________________

ومنها : ما إذا باع شيئين بثمن معيّن ، وقبل القابل أحدهما بنصف الثمن.

فالتحقيق أن يقال : إنّ في كل مورد ينحلّ العقد عرفا إلى عقدين أو عقود أو إلى عقد وشي‌ء آخر ، فقبل القابل البعض المنحلّ يقع التطابق بينهما ، كما إذا قاول المشتري البائع في بيع عبده بمائة وبيع ثوبه بمائة ، بحيث لا يكون بين البيعين ارتباط في الغرض ، فباعهما بمأتين ، وكان الجمع بينهما في العبارة لمجرّد السهولة ، ففي مثل هذه الصورة ينحلّ البيع في نظر العقلاء إلى بيعين ، فإذا قبل المشتري أحدهما ـ كبيع العبد ـ يصدق أنّه باع عبده بمائة ، ويكون القبول مطابقا للإيجاب.

بخلاف ما إذا كان في الواقع وبنظر العقلاء ـ أو في نظر المنشئ ـ ربط بينهما ، فباع المجموع بما هو مجموع ، فإنّ المشتري إذا قبل البعض لا يكون قبولا له ، ولا مطابقا لإيجابه ، كما إذا باع الباب فقبل أحد مصراعيه ، لا يتحقق المطاوعة والتطابق ، فيكون البيع باطلا.

وهكذا الكلام في الشروط ، فعلى القول بانحلالها وكونها التزاما في التزام يكون القبول بلا شرط قبولا ومطابقا للإيجاب. وعلى القول بعدم انحلالها لا يكون القبول المجرّد عن الشرط مطابقا للإيجاب. فالمدار في المطابقة وعدمها على الانحلال وعدمه.

فعلى الأوّل يحصل التطابق بين الإيجاب والقبول ، فيصح في أحد العقدين دون الآخر. أو في الالتزام العقدي دون الشرطي. وتشخيص موارد الانحلال بنظر العرف ، فمع إحراز الانحلال أو عدمه لا كلام ، ومع الشك في قابلية المنشأ للانحلال يرجع إلى أصالة الفساد ، للشكّ في عقديته مع عدم إحراز التطابق.

وبالجملة : فاعتبار التطابق إنّما هو لأجل تقوّم العقد به ، فالشكّ في التطابق يوجب الشك في تحقق العقد ، والأصل عدمه.

ففي جميع موارد الشك في انحلال العقد يشكّ في التطابق ، ومرجع هذا الشكّ الى الشك في صدق العقد ، فمقتضى أصالة الفساد عدم ترتب الأثر المقصود عليه.


.................................................................................................

__________________

ومن هنا يقال : إنّ الصداق وإن لم يكن ركنا في عقد النكاح إلّا أنّه شرط له ، كقبول الموصى له بناء على عدم كون الوصية التمليكية عقدا ، وليست شرطيّته على حدّ سائر الشروط التي لا تكون قيدا للعقد حتى يبطل العقد بالإخلال بها ، بل الصداق شرط كالقيد ، فإذا لم يقصد الزوج اشتغال ذمته بالصداق ، وقبل النكاح كذلك بطل العقد ، لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول ، فإنّ المستفاد من النصوص أنّه لا بدّ في استحلال الفرج من بذل شي‌ء ولو تعليم سورة من القرآن ، إلّا في تحليل الإماء ، لأنّه من شؤون تصرّفات المالك في ملكه وسلطنته على ماله ، غايته أنّ تصرفه في ماله تارة مباشري ، وأخرى تسبّبي ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في شرطية التطابق ، والله تعالى هو العالم.


ومن جملة الشروط في العقد : أن يقع كلّ من إيجابه في حال يجوز لكلّ واحد منهما الإنشاء (١)

______________________________________________________

المبحث الخامس : اعتبار أهلية المتعاقدين حال العقد

(١) هذا آخر شروط الهيئة التركيبية لصيغة البيع ، وهو أهلية المتعاقدين من حين الشروع في الإيجاب إلى الفراغ من القبول.

وتوضيحه : أنّه لا ريب في توقف صحة العقد على جملة من الأمور الدخيلة فيها عرفا أو شرعا ، فالأوّل كقابلية التخاطب في المتعاقدين ، وعدم سقوطهما عنها بموت أو جنون أو إغماء أو نحوها. والثاني كالبلوغ وعدم الحجر بفلس أو رقّ أو مرض موت. فيبحث عن أنّه هل يكفي اجتماع الشرائط في البائع حال الإيجاب خاصة ، فيصحّ إنشاؤه وإن اختلّ بعضها قبل انضمام القبول ، أو أنّه يعتبر بقاؤها إلى لحوق القبول بالإيجاب؟

وكذا هل يكفي في الصحة أهلية المشتري حين القبول وإن لم يكن أهلا له حال الإيجاب ، أم تعتبر حال إنشاء البائع أيضا؟ أفاد المصنف قدس‌سره ـ تبعا للقوم ـ اشتراط العقد بأهلية كلّ من الموجب والقابل في حال إنشاء الآخر ، لأنّ للعقد حالة وحدانيّة ، فبقاء كلّ واحد من الموجب والقابل على صفة الإنشاء شرط لمجموع العقد ، فانتفاء الشرط من أحدهما حالة الإنشاء يوجب عدم انعقاد العقد ، فالمعاهدة والمعاقدة لا تصدق إلّا مع اتصافهما بالشرائط حال الإنشاء.


فلو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير قابل للقبول ، أو خرج البائع حال القبول عن قابلية الإيجاب لم ينعقد (١).

ثم (٢) إنّ عدم قابليّتهما إن كان لعدم كونهما قابلين للتخاطب كالموت والجنون والإغماء ـ بل النوم ـ فوجه الاعتبار عدم تحقّق معنى المعاقدة والمعاهدة حينئذ.

وأمّا (٣) صحة القبول من الموصى له بعد موت الموصى فهو (٤) شرط حقيقة لا ركن ، فإنّ حقيقة الوصية الإيصاء ، ولذا (٥) لو مات قبل القبول قام

______________________________________________________

والوجه في هذا الشرط فيما إذا كان فقدانه موجبا لعدم قابلية فاقده للتخاطب كالموت والجنون واضح ، إذ لا معنى لمعاهدة العاقل مع المجنون أو النائم أو المغمى عليه.

(١) جواب قوله : «فلو كان» وقد تقدّم آنفا وجه عدم الانعقاد.

(٢) مقصوده أنّ القابلية المعتبرة في المتعاقدين تكون مقوّمة لعقديّة العقد ، سواء أكانت لأجل أهليّة التخاطب ، أم لأجل اعتبار الرّضا في العقد.

(٣) هذا إشكال على اعتبار بقاء كلّ من المتعاقدين على الشرائط إلى تمام العقد ، وحاصله : أنّ الموصى له حين ما يقبل الوصية التمليكية ليس للموجب ـ وهو الموصى ـ أهلية الإنشاء ، لفرض موته ، وهذا دليل على عدم اعتبار أهلية كل منهما حال إنشاء الآخر.

(٤) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : أنّ قبول الموصى له ليس ركنا كركنيّة القبول في العقود ، بل قبول الوصية شرط لها لا جزء للعقد ، فإنّ الوصية حقيقة هي الإيصاء الذي هو من الإيقاعات ، لا العقود. ومورد البحث في هذه المسألة هو العقد لا الإيقاع ، فالوصية خارجة عنه موضوعا.

(٥) يعني : ولأجل كون الوصية التمليكية إيصاء ـ أي إيقاعا لا عقدا ـ يقوم الوارث مقامه ، إذ لو كانت عقدا كان القبول ركنا ، واللّازم حينئذ البطلان ، وعدم قيام


وارثه مقامه. ولو ردّ جاز له القبول (١) بعد ذلك.

وإن كان (٢) لعدم الاعتبار برضاهما فلخروجه أيضا (٣) عن مفهوم التعاهد والتعاقد ، لأنّ المعتبر فيه عرفا رضا كلّ منهما لما ينشئه الآخر حين إنشائه ، كمن

______________________________________________________

الوارث مقام الموصى له ، إذ المفروض انتفاء السبب الموجب للحق ـ وهو العقد ـ بانتفاء جزئه أعني به القبول ، فلم يتحقق سبب تامّ لحقّ الموصى له حتّى ينتقل إلى وارثه. فقيام الوارث مقام الموصى له يكشف عن كون إيجاب الموصى سببا تامّا لثبوت حقّ للموصى له ، فينتقل ذلك الحقّ إلى وارثه ، ولا يصحّ ذلك إلّا إذا كانت الوصية إيقاعا.

(١) يعني : لو ردّ الموصى له جاز لوارثه قبول الوصية بعد موت الموصى له ما دام الموصى حيّا. وهذا يدلّ على عدم كون القبول ركنا ، إذ لو كان ركنا لكان الرّد مانعا عن انضمامه مع الإيجاب ، كما هو كذلك في جميع العقود ، هذا.

ثم إنّ جواز القبول بعد الرّد إنما هو في الرّد الواقع حال حياة الموصى ، أمّا ما كان حال موته وقبل قبول الموصى له فلا خلاف في عدم جواز القبول بعده ، وفي الجواهر «الإجماع بقسميه عليه» (١). وتنقيح ذلك موكول إلى محله.

(٢) معطوف على قوله : «إن كان» وحاصله : أنّ عدم قابلية الموجب والقابل إن كان لعدم العبرة برضاهما كالمحجور بفلس أو سفه ، فوجه اعتبار الأهلية في الموجب والقابل أيضا هو الوجه السّابق ، حيث إنّ عدم الأهليّة يوجب إلغاء رضاهما شرعا ، فكان التعاهد منهما كالعدم في نظر الشارع وإن لم يكن كذلك في نظر العرف ، فهذا العقد عقد عرفي ذو أثر عرفي وإن لم يكن شرعيّا ذا أثر كذلك.

(٣) يعني : كخروج العقد عن مفهوم التعاهد في القسم الأوّل ، وهو عدم أهلية التخاطب.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ٢٥٦


يعرض له الحجر بفلس أو سفه (١) ، أو رقّ لو فرض (٢) ، أو مرض موت.

والأصل (٣) في جميع ذلك أنّ الموجب لو فسخ قبل القبول لغا الإيجاب السابق. وكذا لو كان المشتري في زمان الإيجاب غير راض ، أو كان ممّن لا يعتبر رضاه (٤) كالصغير.

فصحة كلّ من الإيجاب والقبول يكون معناه قائما في نفس المتكلم من أوّل العقد إلى أن يتحقق تمام السبب ، وبه يتمّ معنى المعاقدة ، فإذا لم يكن هذا المعنى قائما في نفس أحدهما ، أو قام ولم يكن قيامه معتبرا (٥) لم يتحقق معنى المعاقدة.

______________________________________________________

(١) لا يخفى : أنّ ذكر الحجر بالفلس وشبهه لا يناسب المقام وهو البطلان ، ضرورة أنّ الحجر بالمذكورات لا ينافي الصحة ، لأنّ تصرف المحجور بها يصحّ بالإجازة. والحمل على رضا المالك بما أنّه مالك لأمر العقد كما ترى.

(٢) كما إذا كان البائع حربيّا ، فاسترقّ قبل قبول المشتري.

(٣) يعني : أنّ منشأ الالتفات إلى وجه اعتبار ما ذكرناه ـ من اعتبار رضا كلّ من المتعاقدين حال إنشاء الآخر في حصول المعاقدة والمعاهدة ـ هو وضوح فساد الإيجاب بفسخ الموجب قبل إنشاء القبول مع عدم رضا القابل بهذا الفسخ ، ففساد الإيجاب يكشف إنّا عن اعتبار رضا كلّ منهما ـ حال إنشاء الآخر ـ في تحقّق المعاهدة. وعليه فلا يتّجه ما أفاده المحقق الإيرواني قدس‌سره «من أنّ هذا عين المسألة المبحوث عنها ، لا أصلها» (١).

(٤) يعني : لا عبرة برضاه شرعا ، وإن كان معتبرا عرفا كما في المميّز.

(٥) كبيع الراهن بدون إذن المرتهن الّذي تعلّق حقّه بالعين المرهونة.

لكن عدم تحقّق المعاهدة عرفا هنا ممنوع ، بل عدم الصحة فيه إنّما هو لأجل تعلق حق الغير بالمعقود عليه ، ولذا يصح إذا تعقّبه الرّضا ممن له الحق.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٢


ثمّ إنّهم (١) صرّحوا بجواز لحوق الرّضا لبيع المكره ، ومقتضاه (٢) عدم اعتباره من أحدهما حين العقد ، بل يكفي حصوله بعده (٣) فضلا عن حصوله بعد الإيجاب وقبل القبول (٤).

______________________________________________________

ومن هنا يظهر أنّ الحكم بصحة بيع المكره إذا لحقه الرّضا ليس على خلاف القاعدة ، بل على طبقها. فما في المتن «من كون الحكم بالصحة في بيع المكره إذا لحقه الرّضا على خلاف القاعدة للإجماع» غير ظاهر ، بل هو على طبق القاعدة ، لأنّ المفقود حال العقد هو الرّضا الذي لا يعتبر تقارنه مع العقد.

(١) غرضه أنّه لا يرد النقض ببيع المكره الذي لا يكون حين الإنشاء راضيا ، مع أنّ الرّضا دخيل في المعاهدة ، فلا تكون أهليّة المتعاقدين ـ في حال إنشاء كلّ منهما ـ دخيلة في المعاهدة. فصحة بيع المكره دليل على عدم دخل الرّضا حين الإنشاء في الصحة. وعلى هذا تنحصر القابلية في القسم الأوّل وهو أهلية التخاطب.

وجه عدم ورود النقض : أنّ اعتبار الرّضا وطيب النّفس حال الإنشاء مسلّم ، ولا ينافيه صحة عقد المكره الملحوق بالرّضا ، وذلك لخروجه بالإجماع عن القاعدة المقتضية للغوية الإنشاء الفاقد للرّضا ، هذا. لكنه محلّ تأمّل ، فراجع التعليقة.

(٢) يعني : ومقتضى تصريحهم بجواز لحوق الرّضا ببيع المكره هو عدم اعتبار أصل رضا المتعاقدين حين العقد.

(٣) أي : حصول الرّضا بعد العقد.

(٤) يعني : أنّ صحة عقد المكره ـ الفاقد للرّضا حال الإنشاء ـ تقتضي بالأولوية القطعية صحة العقد الذي تحقق الرّضا فيه بعد الإيجاب وقبل القبول.

ووجه الأولوية : مقارنة القبول لشرط الصحة أي الرّضا بالإيجاب. وعليه فلا وجه لجعل الرّضا من الشرط المقوّم لمفهوم المعاهدة والمعاقدة.


اللهمّ إلّا أن يلتزم (١) بكون الحكم في المكره على خلاف القاعدة لأجل الإجماع (*).

______________________________________________________

(١) هذا جواب النقض ، يعني : لو لا الإجماع كان اعتبار مقارنة الرّضا للعقد مقتضيا لبطلان عقد المكره.

__________________

(*) وتنقيح البحث في هذا الشرط منوط ببيان جهات.

الأولى : في مورد هذا الشرط ، وأنّه هو العقد أو المتعاقدان.

والثانية : في انقسام عدم أهلية المتعاقدين إلى قسمين.

والثالثة : فيما يقتضيه الأصل مع فرض فقدان الدليل.

أمّا الجهة الأولى فنخبة الكلام فيها : أنّ الظاهر أنّ أوّل من تنبّه لاعتبار هذا الشرط هو المصنف قدس‌سره ، ولم نظفر بمن تعرّض له قبله ، ولعلّ عدم التعرّض له لأجل عدم كونه شرطا زائدا على أصل العقد ، حيث إنّه مقوّم له ، بداهة تقوّم التعاقد بقابلية المشتري حين إيجاب البائع للتخاطب ، وإلّا فلا يتحقق التعاهد بين الموجب وبين من يكون كالجدار أو الحمار ، فهذا من الأمور المحقّقة للموضوع ، ولذا عدّ من شرائط العقد ، لتقوّم مفهوم العقد العرفي بأهلية كلّ من المتبايعين للإنشاء ، ولم يعدّ من شرائط المتعاقدين مع كون عدّه منها أشبه.

وأمّا الجهة الثانية فحاصلها : أنّ عدم أهلية المتعاقدين تارة يكون مانعا عن تحقّق أصل التعاقد ، كأن يكونا غافلين عرفا غير قاصدين لمدلول اللفظ. وأخرى يكون مانعا عن الرّضا بالعقد ، فالكلام يقع في موضعين :

الأوّل : في عدم الأهلية المانع عن تحقق التعاهد.

والثاني : في المانع عن الرّضا المعتبر في العقد.

أمّا الموضع الأوّل ففيه أقوال :

الأوّل : ما اختاره المصنف والمحقّق النائيني قدس‌سرهما من اعتبار واجدية كلّ منهما لجميع القيود المعتبرة في تحقق العقد في حال إنشاء الآخر ، وجعل المحقق النائيني هذا


.................................................................................................

__________________

الشرط كسابقه من القضايا التي قياساتها معها ، حيث قال مقرّر بحثه الشريف ما لفظه : «لا يخفى أنّ هذا الشرط أيضا كالشرط السابق من القضايا التي قياساتها معها ، بل منشأ اعتباره هو المنشأ لاعتبار الشرط السابق ، لأنّ العقد لا ينعقد إلّا بفعل الاثنين ، فلو فقد حين إنشاء أحدهما شرائط العقد فوجودها سابقا أو لاحقا لا أثر له ، ومجرّد تحقق الشرط حين إنشاء الآخر لا يفيد بعد كون إنشائه جزءا من العقد ، لا إيقاعا مستقلّا ، فلو كان المشتري حين إنشاء البائع نائما لا يصحّ العقد ، وكذلك العكس. والتفصيل بينهما كما في حاشية السيد قدس‌سره لا وجه له ، وما يدّعيه من الصحّة بلا إشكال في العقود الجائزة ، فإنّها في العقود الإذنية لا العهدية» (١).

الثاني : عدم اعتبارها فيهما كما في حاشية المحقق الايرواني قدس‌سره ، حيث قال ـ بعد قول المصنف قدس‌سره : فوجه الاعتبار عدم تحقق معنى المعاقدة ـ ما لفظه : «فيه منع ، فإنّه لا يعتبر في تحقق مفهوم المعاقدة إلّا وجود الشرائط المعتبرة في كلّ من المتعاقدين حال إنشاء نفسه» (٢).

ومحصّله : أنّه إن كان اعتبار هذا الشرط لأجل توقف مفهوم المعاقدة فذلك غير ظاهر ، ضرورة صدق المعاهدة على الإنشائين اللذين كان إنشاء كل من المتعاقدين في حال واجديته لشرائط إنشاء نفسه وإن لم يبق على تلك الشرائط حين إنشاء الآخر ، فلو كان بقاؤه عليها شرطا فلا بدّ أن يكون شرطا تعبّديا ، لا مقوّما لمفهوم العقد كما هو المفروض في الموضع الأوّل.

الثالث : اعتبار واجدية القابل للشرائط في حال الإيجاب ، وعدم اعتبارها بالنسبة إلى الموجب ، نسب ذلك إلى السيد قدس‌سره في بعض الفروض.

الرابع : عكس ذلك ، بأن كان الموجب جامعا للشرائط حين القبول ، من دون اعتبار ذلك في القابل حين إنشاء الإيجاب.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٤

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٢


.................................................................................................

__________________

أقول : تنقيح الكلام في الموضع الأوّل يتوقف على صرف عنان البحث الى مقامات ثلاثة :

الأوّل : في الإيجاب ، والثاني في القبول ، والثالث فيما بينهما.

أمّا المقام الأوّل : فملخّص البحث فيه : أنّه قد استدل ـ كما في المتن ـ لاعتبار واجدية القابل لتلك القيود ـ حين إنشاء الإيجاب ـ بأنّ المعاقدة لا تتحقق بدونها.

وأيّده المحقق الأصفهاني قدس‌سره بما حاصله : أنّ مناط المعاهدة مع الغير يقتضي كونهما معا كذلك في حال الإيجاب والقبول ، إذ معيّة المتعاقدين ليست معيّة جسم مع جسم ، ولا معيّة حيوان مع حيوان ، بل معيّة شاعر ملتفت إلى ما يلتزم للغير ويلتزم الغير له ، وإلّا فلا ينقدح القصد الجدّي في نفس العاقل إلى المعاهدة مع من هو كالجدار أو كالحمار. وعلمه بالتفاته فيما بعد لا يصحّح المعاهدة معه فعلا (١) ، هذا.

وفيه : أنّ حقيقة العقد ليست من مقولة الفعل ، ولا من مقولة اللفظ ، ولا من الاعتبارات النفسانية المحضة ، بل هي ارتباط أحد الالتزامين بالآخر ، والرّابط بينهما ـ كما تقدم سابقا ـ هو وحدة الملتزم به. والالتزام قائم بالنفس ، ولا يسقط عن صلاحية ارتباطه بالتزام آخر بعروض عارض من نوم أو إغماء أو جنون ، فإنّ الالتزامات النفسانية لا تسقط عن الاعتبار بشي‌ء من ذلك.

وتوضيح المقام منوط بتقديم مقدّمتين.

إحداهما : عدم اعتبار التخاطب في شي‌ء من العقود ـ غير النكاح والمعاملات الذمية ـ حتى يلتزم باعتبار الأهلية في المتعاقدين في زمان الإنشائين وما بينهما ، فإنّ البيع مثلا ـ كما تقدّم في صدر الكتاب ـ هو التبديل بين المالين ، أو المبادلة بينهما ، من دون نظر إلى حيثية التخاطب ، فهذه الحيثية أجنبية عن حقيقة البيع ، فإذا قال الدلّال مثلا : «بعت هذا الكتاب بدينار» واستيقظ نائم والتفت إلى هذا الإيجاب وقال : «قبلت»

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٣


.................................................................................................

__________________

فلا ينبغي الارتياب في صدق البيع عرفا عليه مع عدم الأهلية المصحّحة للتخاطب.

ثانيتهما : كون القبول تنفيذا للإيجاب وإمضاء له كالإجازة في عقد الفضولي ، فكما لا يعتبر في المجيز أهليّته للإجازة حين عقد الفضولي ، فكذلك في القابل ، فالإيجاب هنا بمنزلة عقد الفضولي ، والقبول بمنزلة الإجازة.

وبعد لحاظ هاتين المقدمتين يتّضح عدم اعتبار أهليّة القابل حين إنشاء الإيجاب.

وقد ظهر مما ذكرنا ضعف ما في كلام المحقق المزبور من قوله : «إذ معيّة المتعاقدين إنّما هي معيّة شاعر ملتفت إلى ما يلتزم للغير ويلتزم الغير له ، وإلّا فلا ينقدح القصد الجدي في نفس العاقل .. إلخ».

وجه الضعف : أنّ البيع ونحوه ليس إلّا تبديلا إنشائيا بين شيئين ، وليس البيع من المعاهدة المعتبر فيها وجود الشرائط للمتعاهدين حين التعاهد. والقبول ليس إلّا إمضاء للإيجاب.

وعلى تقدير كون البيع من المعاهدات يمكن أيضا منع اعتبار الشرائط لكلّ منهما حال تحقق المعاهدة ، لصدق المعاقدة العرفية على العهد الذي صدر من أحدهما حال نوم الآخر ، وبعد استيقاضه قبل ذلك العهد ، فإنّه عقد عرفي بلا إشكال ، وهو موضوع للاعتبار العقلائي والشرعي ، هذا.

ولا إشكال في انقداح القصد الجدّي في نفس الموجب مع علمه بلحوق القبول بعد دقيقة من شخص نائم بعد استيقاضه ، فلا يتوقف انقداح القصد الجدّي على التفات شخص خاص إلى إيجابه ووجدانيّة لشرائط الإنشاء حين الإيجاب.

بل يمكن أن يقال : بعدم اعتبار القصد الجدّي في الإنشاء ، وكفاية الإنشاء الإيجابي برجاء لحوق القبول من شخص مّا ، كما تقدم في بحث التنجيز.

وأمّا ما قيل في وجه اعتبار واجديّة القابل للشرائط حال الإيجاب من : «أنّه


.................................................................................................

__________________

لا ريب في أنّه يعتبر في ترتيب العقلاء والشارع الأثر على الالتزام النفساني أن يظهره لمن هو طرفه في المعاملة ، فإذا كان الطرف غير قابل للتخاطب فالإظهار له كلا إظهار ، فلأجل ذلك يعتبر قابلية القابل للتخاطب حال الإيجاب ، فتدبّر ، فإنّه دقيق».

فيتوجه عليه : أنّ المراد بالإظهار إن كان إنشاء الإيجاب بشرط قابلية القابل للتخاطب حينه ، ففيه ما عرفت من منع اعتبار أهلية المتعاقدين للتخاطب ، لخروج التخاطب عن ماهية العقد.

وإن كان مجرّد الإظهار لمن هو طرفه في المعاملة ، فيكفي في صحة القبول اطّلاع القابل على إنشاء الموجب بأيّ نحو كان ولو بعد إفاقته من إغمائه أو جنونه.

وبالجملة : فلا تكون أهلية القابل حين إنشاء الإيجاب ممّا هو مقوّم لمفهوم العقد العرفي كما هو مدّعى الخصم ، هذا.

وأمّا المقام الثاني : ـ وهو اعتبار أهلية الموجب حين إنشاء القبول ـ فقد استدلّ عليه بوجوه :

أحدها : ما تقدم آنفا من قولنا : «وأمّا ما قيل في وجه اعتبار واجديّة القابل للشرائط .. إلخ» وفيه : ما مرّ ، فلاحظ.

ثانيها : أنّ القبول لمّا كان متمّما للعقد ومخرجا لكل من المالين عن ملك مالكه فلا بدّ أن يكون الموجب أيضا في هذا الحال أهلا للتملّك حتى يترتب الأثر على التزامه النفساني ، هذا.

وفيه : أنّ التمليك الإنشائي الذي هو حقيقة البيع قد أنشأه البائع ، وبالقبول يتمّ موضوع الأمر الاعتباري وهو الملكية ، فلو كان الموجب حيّا ملكه ، وإلّا يملكه وارثه إن أمضى هذا العقد ، حيث إنّ المال انتقل قبل القبول إلى الوارث الذي هو يقوم مقام الموجب المالك.

فالمتحصل : أنّ العقد العرفي لا يتقوّم ببقاء الموجب على شرائط الإنشاء إلى


.................................................................................................

__________________

زمان القبول ، هذا.

ثالثها : عدم تحقق المعاهدة من جهة انتفاء الالتزام النفساني بالإغماء والجنون مثلا ، فلا يبقى التزام من الموجب حتّى يرتبط بالالتزام القابل ، هذا.

وفيه : عدم زوال الالتزامات النفسانية بالموت فضلا عن النوم والإغماء. ولو كان الموت مزيلا للالتزام النفساني لم يكن فرق بين وقوع الموت قبل لحوق الالتزام القبولي وبعده ، لأنّ ضمّ التزام آخر إلى الالتزام الإيجابي مثلا لا يوجب بقاءه إن كان الموت مزيلا له.

وبالجملة : لا يتقوّم العقد العرفي بواجديّة الموجب لشرائط الإنشاء حال القبول ، هذا.

وأمّا المقام الثالث فقد ظهر حاله ممّا مرّ في المقامين المتقدمين ، فلا يعتبر أهلية المتعاقدين للإنشاء في الزمان المتخلّل بين إنشائهما.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في الموضع الأوّل ـ وهو عدم الأهليّة الموجب لعدم تحقق المعاهدة العرفية ـ أنّ اعتبار واجدية كلّ من المتعاقدين لشرائط الإنشاء مختصّ بحال إنشاء نفسه. ولا دليل على اعتبارها في كلّ منهما في زمان الانشائين وبينهما ، والله العالم.

وأمّا الموضع الثاني ـ وهو اعتبار الشرائط المعتبرة في صحة العقد ونفوذه بعد واجديّتهما لما هو دخيل في تحقق العقد العرفي ـ فاختلفوا فيه أيضا على أقوال.

وملخّص الوجه في اعتبار الشرائط الزائدة على الأمور المقوّمة للعقد العرفي : أنّه قد استدل المصنف قدس‌سره على اعتبارها في المتعاقدين حال كلّ واحد من الإنشائين على ما يستفاد من عبارته بوجهين :

الأوّل : عدم تحقق معنى المعاقدة بدون رضا المتعاقدين أو أحدهما ، كما هو صريح عبارته ، حيث قال : «وإن كان لعدم الاعتبار برضاهما فلخروجه أيضا عن مفهوم


.................................................................................................

__________________

التعاهد والتعاقد ، لأنّ المعتبر فيه عرفا رضا كلّ منهما لما ينشئه الآخر حين إنشائه ، كمن يعرض له الحجر .. إلخ» فإنّه صريح في كون الرّضا دخيلا في مفهوم العقد ، لا أنّه شرط تعبدي في العقد العرفي ، هذا.

ولكن فيه ما لا يخفى ، فإنّه مصادرة واضحة ، لأنّ دخل الرضا في مفهوم العقد العرفي أول الكلام ، بل المعلوم خلافه ، وإلّا لكان عقد المكره والصبي المميّز والرّاهن بدون إذن المرتهن والمفلّس وغيرهم من المحجورين عن التصرف غير قابل للإجازة ، لعدم كونه عقدا عرفيّا على الفرض ، مع القطع بأنّها عقود عرفية قابلة للتأثير بالإجازة.

ودعوى : كون جميعها خارجة بالإجماع كما ترى ، لأنّ الإجماع لا يجعل غير العقد عقدا ، بل يخرج العقد العرفي الباطل شرعا ـ بلسان العموم ـ عن القواعد المقتضية للبطلان ، فيكون الإجماع مخصّصا لعموم ما دلّ على بطلان العقد بعدم الرّضا حقيقة كعقد المكره ، أو تنزيلا كعقد المحجور بفلس أو سفه أو غيرهما ، فإنّ رضاهما كالعدم شرعا.

وما أفاده المحقق الإيرواني في توجيه كلام المصنف قدس‌سره بقوله : «لعلّ المراد أنّ رضاهما بعد أن كان في نظر الشارع كلا رضا ، والمفروض أنّ رضاهما مما يعتبر في تحقق مفهوم التعاهد لا جرم كان تعاهدهما في نظره بمنزلة العدم ، فلا يكون عقدهما عقدا معتبرا شرعا وإن كان عقدا عرفيا ذا أثر عرفي» (١).

لا يخلو من غموض ، لأنّ تنزيل رضا المحجور عليه شرعا بمنزلة العدم في ترتب الأثر الشرعي لا يخرج العقد عن مفهومه العرفي الذي لا يعتبر فيه الرّضا ، ولذا كان عقد المكره عقدا حقيقة مع عدم الرّضا به حين إنشائه.

والحاصل : أنّ العقد الفاقد للرّضا حقيقة أو تنزيلا عقد عرفي غير مؤثّر شرعا ، فليس الرّضا مقوّما لمفهوم العقد العرفي كما هو واضح.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٣


.................................................................................................

__________________

الثاني : برهان إنّي ، وهو : أنّ لغويّة الإيجاب بفسخ الموجب له قبل تمامية القبول تكشف إنّا عن شرطيّة رضا الموجب إلى زمان القبول المتمّم للعقد الذي هو الموضوع للأمر الاعتباري ، إذ لو لم يكن الرّضا شرطا كذلك لم يؤثّر الفسخ ، حيث إنّ ما يهدمه الفسخ عين ما يعمّره الرّضا ، هذا.

وفيه : ما لا يخفى ، ضرورة أنّ لغوية الإيجاب إنّما هي بسبب الفسخ ، لأنّ الالتزام ينحلّ حقيقة به ، فلا يبقى بعد الفسخ إيجاب حتى ينضمّ إليه القبول ويرتبط به حتى يحصل منهما عقد. فلغوية الإيجاب بفسخ الموجب أجنبية عن المقام ، فلا تكشف عن اعتبار رضا الموجب حال إنشاء القابل ، وعن تحقق معنى التعاقد.

وهذا بخلاف الموت والنوم والإغماء ، فإنّها لا توجب انحلال الالتزام ، ولذا لا تبطل العهود والالتزامات بالموت إلّا ما ليس التزاما حقيقة كالعقود الجائزة ، فلو أوجب البائع ومات ـ فضلا عن الجنون والنوم ـ وقبل المشتري تمّ موضوع الاعتبار ، غاية الأمر أنّ وارث الموجب يقوم مقامه ، لانتقال المال إليه قبل قبول المشتري.

وبالجملة : فالشرط في لحوق القبول بالإيجاب حتى يتحقق العقد هو بقاء الالتزام الإيجابي وعدم انحلاله بالفسخ ، لا بقاء الموجب على شرائط الإنشاء إلى تمامية القبول.

وكذا لا يشترط أهلية القابل لشرائط الإنشاء حين الإنشاء الإيجابي ، فلو كان محجورا لصغر أو فلس أو سفه أو نحوها وزال الحجر بعد إنشاء الإيجاب وقبل الإيجاب كان ذلك عقدا عرفيا. فعدم الأهلية المانع عن اعتبار الرّضا شرعا بالإيجاب حين إنشائه لا يمنع عن تحقق العقد العرفي كما أفاده المصنف قدس‌سره. فلا ينبغي جعل الحجر شرعا مانعا عن تحقق المعاهدة العرفية ، بل هو مانع عن تأثير العقد شرعا.

نعم إذا كان الحجر للجنون أو عدم التمييز فمنع تحقق المعاهدة عرفا في محلّه. وأمّا إذا كان لتعلّق حقّ الغير كحقّ المرتهن والغرماء فمنع المعاهدة العرفيّة غير ظاهر جدّا.


.................................................................................................

__________________

فالمتحصل : أنّه لا يعتبر بقاء أهلية الإنشاء من ناحية الشروط الشرعية في المتعاقدين في زمان الإنشاءين ولا بينهما ، بل العبرة بوجود تلك الشرائط في كل من المتعاقدين حال إنشاء نفسه ، هذا.

وأمّا الجهة الثالثة فملخص الكلام فيها : أنّ وجه اعتبار الشرائط في تمام آنات الإنشائين في كلّ من المتعاقدين إن كان لعدم صدق العقد العرفي فقد عرفت ما فيه.

وإن كان لدليل خاص شرعي ففيه : أنّه لم يقم دليل تامّ على اعتبار أهلية كلّ من المتعاقدين في جميع آنات الإنشائين وبينهما ، فإذا شكّ في اعتبارها شرعا فالمرجع إطلاق أدلة نفوذ العقود.

ودعوى : انصرافها إلى العقود المتعارفة ، وخروج المقام عن العقود المتعارفة ، قد عرفت سابقا ما فيها. نعم بناء على تسليمها يرجع إلى أصالة الفساد.

فتلخص من جميع ذلك : أنّ واجدية المتعاقدين للشروط العرفية المقوّمة لمفهوم العقد العرفي كالحياة والعقل والالتفات معتبرة في حال إنشاء كلّ منهما لنفسه ، وليست معتبرة في جميع آنات الإنشائين وبينهما.

وأمّا الشروط الشرعية المعتبرة في صحة العقد ونفوذه فهي معتبرة فيهما في الجملة ولو بعد العقد ، ولذا يصحّ بيع المكره بعد حصول رضاه وطيب نفسه ، وبيع المحجور عن التصرف لفلس أو رهن أو غيرهما ، إذ لا شبهة في صحته بعد ارتفاع الحجر ، فإنّ سلطنة المالك معتبرة في البيع ولو بعد العقد.

وبالجملة : فالشروط العرفية معتبرة في خصوص حال الإنشاء. وأمّا الشروط الشرعية فهي معتبرة في المتعاقدين في الجملة ولو بعد العقد ، لأنها معتبرة في موضوع اعتبار الشارع ، فهي جزء الموضوع ، وبتحققها يتم الموضوع. واعتبار مقارنتها لنفس العقد محتاج إلى الدليل.

ففرق واضح بين الشروط العرفية المقوّمة للعقد ، وبين الشروط الشرعية المقوّمة لصحته وترتّب الأثر عليه ، فلاحظ وتدبّر.


فرع (١) : لو اختلف المتعاقدان اجتهادا أو تقليدا في شروط الصيغة ، فهل

______________________________________________________

اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة

(١) الغرض من عقد هذا الفرع هو بيان حكم العقد الذي اختلف المتعاقدان في شرائطه صحّة وفسادا.

وتوضيحه : أنّه لا كلام في صحة العقد الذي روعيت فيه الشروط المعتبرة فيه بنظر المتعاقدين ، فإذا اجتهدا في شرطيّة تقدم الإيجاب والفارسية والماضوية وقالا بعدمها ، فعقدا بالفارسي المضارع المقدّم قبوله على إيجابه صحّ. وكذا الحال إذا قلّدا مجتهدا نافيا لاعتبار ما ذكر ، أو قلّد كلّ منهما مجتهدا فاتّفقا في الفتوى.

وأمّا إذا اجتهدا واختلفا في الرأي ، أو قلّد أحدهما من يقول بعدم جواز تقديم القبول وبجواز العقد بالفارسي ، وقلّد الآخر من يقول بالعكس ، بأن جوّز تقديم القبول واشترط العربية ، فيتجه هذا البحث ، وهو : أنّه هل يجوز لكلّ واحد من المتعاقدين العمل برأيه أو برأي مقلّده ، مع فرض بطلانه بنظر الآخر؟ أم تتوقف صحة العقد على رعاية كافة الشرائط حتى يعتقد كلاهما بصحّته ، أفاد المصنف قدس‌سره أنّ في المسألة وجوها ثلاثة :

الأوّل : صحّة العقد في حقّهما مطلقا ، سواء لزم من عمل كلّ منهما على مقتضى مذهبه كون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بسببيّته للنقل ، أم لا.

الثاني : عدم صحة العقد في حقّهما مطلقا.


يجوز أن يكتفي كلّ منهما بما يقتضيه مذهبه (١) أم لا؟ وجوه ، ثالثها : اشتراط عدم كون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بكونه سببا في النقل ، كما لو فرضنا أنّه

______________________________________________________

الثالث : التفصيل بين أن يكون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بسببيته للنقل فيبطل ، وأن لا يكون ممّن لا قائل بسببيّته فيصح.

مثاله : ما لو قال المشتري بجواز تقديم القبول على الإيجاب ، مع قوله بعدم جواز العقد بالفارسي ، وقال البائع بجواز العقد بالفارسيّ ، فقدّم المشتري القبول باللّفظ العربي عملا بمذهبه ، وأوجب البائع بالفارسيّ عملا بمذهبه ، فحصل من ذلك عقد فارسي مقدّم القبول. ومن المعلوم أنّ القائل بالعربية يعتبرها في جميع العقد المركب من الإيجاب والقبول ، فمع كون الإيجاب فارسيّا لا يكون العقد عربيّا ، بل يصدق عليه العقد بالفارسي في الجملة. فالقائل باعتبار العربية يحكم بفساد العقد المزبور من جهة عدم العربية ، والقائل بوجوب تأخير القبول عن الإيجاب يحكم بفساده من جهة تقدّم القبول ، فلا يوجد قائل بسببيّة هذا العقد للنقل.

ومثال ما إذا وجد قائل بسببيته هو : أن يكون القائل باعتبار العربية موجبا ، فأوجب بالعربية ، وقبل الآخر بالفارسية ، فإنّه يوجد قائل بسببيّة هذا العقد ، لأنّ من لا يعتبر العربية يقول بسببيته ، مع فرض تقدّم إيجابه على قبوله.

(١) بمعنى الإكتفاء بما يقتضيه مذهبه بالنسبة إلى خصوص ما يصدر منه ، وأمّا بالنسبة إلى الصادر من الآخر فيعمل بما يقتضيه مذهبه ، لا مذهب نفسه ، فإذا اختلفا في اعتبار العربية ، وكان القائل باعتبارها موجبا كفى صدور الإيجاب منه بالعربية ، وإن كان القبول بالفارسية. فلا يلزم أن يقع القبول بالعربي أيضا ، بل يكتفي في القبول بمذهب القابل ، فيكون كلّ من الإيجاب والقبول صحيحا بمذهب منشئه فقط ، فاجتهاد كلّ واحد منهما أو تقليده حجة على الآخر ، وإلّا فحجية اجتهاد كلّ منهما في تمام العقد تقتضي فساده.


لا قائل بجواز تقديم القبول على الإيجاب ، وجواز (١) العقد بالفارسي. أردؤها أخيرها (٢).

والأوّلان (٣) مبنيّان على أنّ الأحكام الظاهريّة المجتهد فيها بمنزلة (٤) الواقعية الاضطرارية (٥) ،

______________________________________________________

(١) الواو للمعيّة ، ومقصوده التمثيل للوجه الثالث ، وقد عرفته آنفا.

(٢) لأردئيّة وجهه وهو العلم الإجمالي ببطلان هذا العقد القائل بفساده كلّ واحد من المتعاقدين ، ومن المعلوم عدم جواز ترتيب آثار الصحة على عقد لم يقل أحد بصحّته.

وجه الأردئية : أنّ المرجع في العقد مجتهدان ، أحدهما يفتي بجواز العقد الفارسي ، والآخر بجواز تقديم القبول على الإيجاب ، فموضوع فتوى أحدهما مغاير لموضوع فتوى الآخر. نظير ما قيل في العبادات من صحّة صلاة واجدة لتسبيحة واحدة وفاقدة للسورة ، استنادا إلى فتوى من يكتفي بتسبيحة واحدة ومن يفتي بعدم جزئية السورة ، فإنّ هذه الصلاة باطلة برأي كلّ منهما. لكن كلّ واحد منهما مرجع في جزء من الصلاة ، لا في مجموعها حتى يقال : إنّ كلّ واحد منهما قائل ببطلانها.

(٣) وهما الصحة مطلقا والفساد كذلك.

(٤) خبر قوله : «أن الأحكام» أي : هل تكون بمنزلة .. إلخ.

(٥) المراد بها هي السببيّة ، يعني : أنّ مبنى الصحة والفساد هو الخلاف في كون الأمارات حجة على الموضوعية أو على الطريقيّة. وعلى الأوّل يكون قيام الأمارة على شي‌ء موجبا لحدوث مصلحة في المؤدّى موجبة لتشريع الحكم على طبقها وإن كان مخالفا للحكم الواقعي الأوّلي ، فتكون الأمارة من العناوين الثانوية المغيّرة لأحكام العناوين الأوّلية.

وعلى الثاني ـ وهو الطريقية ـ تكون مؤدّياتها أحكاما عذريّة.

فعلى الموضوعية يصحّ العقد ، وعلى الطريقية لا يصحّ.


فالإيجاب (١) بالفارسية من المجتهد القائل بصحّته ـ عند من يراه باطلا ـ بمنزلة (٢) إشارة الأخرس ، وإيجاب العاجز عن العربية ، وكصلاة (٣) المتيمّم بالنسبة إلى واجد الماء؟ أم (٤) هي أحكام عذريّة (٥) لا يعذر فيها إلّا من اجتهد أو قلّد فيها (٦). والمسألة محرّرة في الأصول.

هذا (٧) كلّه إذا كان بطلان العقد.

______________________________________________________

(١) هذا متفرّع على سببيّة الأمارات ، لأنّ صحّة الإيجاب الفارسي عند القائل بصحّته حكم واقعي ثانوي ، فيكون صحيحا عند القائل باعتبار العربية ، لكون الإيجاب الفارسيّ عند من يعتبر العربية بمنزلة إشارة الأخرس ، إذ لا شبهة في كون إشارة الأخرس إيجابا أو قبولا صحيحا عند من يرى اعتبار العربية مثلا كصحة ايتمام المتوضّي بالمتيمّم.

(٢) خبر قوله : «فالإيجاب».

(٣) فإنّ صحة صلاة المتيمّم حكم واقعي ثانوي ، وصحة صلاة المتوضّي حكم واقعي أوّلي.

(٤) معطوف على «الأحكام المجتهد فيها».

(٥) هذا هو الطريقية ، فمؤدّيات الأمارات حينئذ أحكام عذرية مختصة بمن اجتهد أو قلّد فيها ، إذ يمكن أن يكون الحكم العذري موضوعا للأثر بالنسبة إلى الغير ، مثل ما دلّ على «أنّ لكلّ قوم نكاحا» حيث إنّ نكاح كل قوم حكم عذري ، لا يجوز للغير تزويجها لنفسه أو لغيره.

(٦) يعني : فيختصّ الإجزاء بذلك المجتهد ومقلّده ، دون غيره ، فلا ينفذ بالإضافة إلى شخص آخر.

(٧) أي : ابتناء المسألة على السببية والطريقية. وغرضه الإشارة إلى تفصيل بين الشروط. ومحصّله : أنّ ابتناء المسألة على كون الأحكام الظاهرية أحكاما اضطرارية أو عذريّة إنّما يكون في غير الشروط الثلاثة من الصّراحة والعربية


عند كلّ (١) من المتخالفين مستندا إلى فعل الآخر كالصراحة والعربية والماضويّة والترتيب (٢).

وأمّا الموالاة والتنجيز وبقاء المتعاقدين على صفات صحة الإنشاء إلى آخر العقد ، فالظاهر أنّ اختلافها يوجب فساد المجموع (٣) ، لأنّ بالإخلال بالموالاة أو التنجيز أو البقاء على صفات صحة الإنشاء يفسد عبارة من يراها شروطا ، فإنّ الموجب إذا علّق مثلا أو لم يبق على صفة صحة الإنشاء إلى زمان القبول باعتقاد (٤) مشروعية ذلك (٥) لم يجز من القائل ببطلان هذا تعقيب هذا الإيجاب

______________________________________________________

والماضوية ونحوها ممّا يستند بطلان العقد فيه إلى فعل أحد المتعاقدين. وأمّا الشروط التي توجب فساد العقد عند كليهما كالموالاة وغيرها فلا يبتني بطلان العقد بها على المبنى المزبور من طريقية الأمارات وسببيّتها ، بل يبطل مطلقا.

(١) الظاهر أنّ الصحيح أن تكون العبارة هكذا : «عند أحد المتخالفين» بدل «كلّ من المتخالفين».

(٢) ليس الترتيب وما تقدّمه من الشروط الثلاثة مما يوجب فساد العقد عند كلّ من المتعاقدين ، إذ القائل بعدم اعتبارها لا يذهب إلى اعتبار عدمها.

(٣) أي : فساد مجموع جزئي العقد ، وهذا قرينة على لزوم بدليّة «أحد» عن لفظ «كل» في العبارة المتقدمة ، لأنّ فساد المجموع عبارة أخرى عن فساده عندهما معا ، وهذا الفساد عند كلّ منهما ناش عن فعل الآخر.

(٤) متعلق بقوله : «علّق ، لم يبق».

(٥) أي : الإيجاب التعليقي ، أو الإيجاب الذي لم يبق موجبه على صفة صحّة الإنشاء إلى زمان القبول ، فإنّ الموجب إذا أنشأ الإيجاب المعلّق أو المنجّز لكن لم يبق على صفة الإنشاء إلى آخر زمان القبول ـ مع اعتقاد الموجب مشروعية الإيجاب وصحّته في هاتين الصورتين ـ لم يجز وضعا للقابل الذي يرى بطلان هذا الإيجاب أن ينشئ القبول ، لاعتقاده لغويّة الإيجاب وكونه كالعدم ، ومع هذا الاعتقاد يصير


بالقبول. وكذا (١) القابل إذا لم يقبل إلّا بعد فوات الموالاة بزعم صحة ذلك ، فإنّه يجب على الموجب إعادة إيجابه إذا اعتقد اعتبار الموالاة ، فتأمّل (٢).

______________________________________________________

القبول أيضا لغوا ، فلا يتم العقد الذي هو موضوع الأثر.

(١) المفروض في مثال الموالاة اعتقاد الموجب باعتبارها ، واعتقاد القابل بعدمها ، فإنّه إذا تخلّل الفصل بين الإيجاب والقبول لم يجز للموجب ترتيب الأثر على هذا العقد ، لعدم تحقق عنوان المعاهدة بنظره.

(٢) لعلّه إشارة إلى المناقشات التي ذكرناها في التعليقة في قسم الشروط فراجعها (*).

__________________

(*) تنقيح البحث في هذا الفرع منوط ببيان الوجوه والاحتمالات المتصورة في اختلافهما في الشروط ، فنقول وبه نستعين : إنّ الشرط المختلف فيه تارة يكون عرفيّا بمعنى اختلافهما في كونه دخيلا في مفهوم العقد عرفا كالقصد إلى مدلول العقد ، والموالاة والتنجيز بناء على كونهما من الشرائط المقوّمة لمفهوم العقد العرفي ، بأن يكون القائل باعتبارهما مدّعيا لتقوّم العقد العرفي بهما ، والقائل بعدم اعتبارهما منكرا لذلك. وأخرى يكون شرعيّا.

وعلى الأوّل قد يكون دليل الشرط المختلف فيه لبّيّا ، وقد يكون لفظيّا.

وثالثة قد يكون العقد الفاقد للشرط المختلف فيه فاسدا عند الكل ، كما إذا فرضنا عدم القائل بسببية العقد المركّب من الإيجاب العربي المتأخر ، والقبول الفارسي المتقدّم. وقد يكون صحيحا بنظر أحدهما دون الآخر كالعقد الملتئم من الإيجاب العربي المتقدم ، والقبول الفارسي المتأخّر ، فإنّه صحيح عند القائل منهما بعدم اعتبار العربية.

ورابعة قد يكون بطلان رأي الطرف معلوما للطرف الآخر ، وقد يكون مظنونا له بالظن الاجتهادي. فإن كان بطلان العربية مثلا معلوما للطرف الآخر صحّ العقد ،


.................................................................................................

__________________

وإن كان مظنونا بطل.

وخامسة قد يكون المستند في نفي شرطيّة ما رآه أحد المتعاقدين شرطا أمارة ، وقد يكون المستند فيه أصلا.

وسادسة : أنّ اختلاف المتعاقدين قد يكون موجبا لفساد الجزئين كالتعليق ، فإنّ قبول الإيجاب المعلّق قبول تعليقي ، وكالترتيب القائم بكلا الجزئين. فصور المسألة كثيرة.

الأولى : ما إذا كان الاختلاف في الشرط العرفي كالتنجيز والموالاة. وحكمها الرجوع إلى العرف في أنّه هل يصدق عليه مفهوم العقد عرفا أم لا. فعلى تقدير الصدق يكون صحيحا ، لأنّه عقد عرفي يشمله مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وعلى فرض عدم الصدق أو الشّك فيه لا وجه للصحة ، لعدم شمول دليل الصحة له ، إمّا للقطع بعدم موضوعه ، أو الشّك فيه ، ومقتضى أصالة الفساد عدم الصحة.

الثانية : ما إذا كان دليل الشرط لبّيّا كالإجماع ، فإنّ المتيقن من الإجماع هو غير صورة الاختلاف الناشئ عن الاجتهاد كاعتبار العربية ، فإنّ الوجه فيه ـ كما قيل ـ هو الإجماع ، فيقتصر على المتيقن المزبور ، ويرجع في صورة الاختلاف إلى عموم دليل وجوب الوفاء بالعقد ، فيحكم بصحّته.

ومثل الدليل اللّبّي الدليل اللّفظي المجمل ، فإنّ المتيقن منه هو غير صورة اختلاف المتعاقدين اجتهادا أو تقليدا. نعم إذا كان للدليل إطلاق فيبتني على اعتباره حتى في صورة الاختلاف.

الثالثة : ما إذا كان العقد فاسدا عند الكل ، كالعقد المركّب من الإيجاب العربي المتأخّر والقبول الفارسي المتقدّم ، وفرضنا عدم قائل بصحته ، لأنّ كلّا من القائلين باعتبار العربية وعدمه يقول بفساد هذا العقد. أمّا القائل باعتبار العربيّة فلفقدان العربية. وأمّا القائل بعدم اعتبارها فلفقدان الترتيب ، هذا.


.................................................................................................

__________________

ونظير ذلك ما ذكره جمع من محشّي العروة من أنّه إذا كان هناك مجتهدان متساويان ، وكان أحدهما يرى عدم وجوب السورة ، ولا يرى الاجتزاء بمرّة واحدة في التسبيحات الأربع. والآخر يرى الاكتفاء بها ، ولكنّه يرى وجوب السورة ، فقلّد العامي كلّا منهما في فتواه فصلّى بغير السورة مقتصرا على المرّة الواحدة في التسبيحات الأربع ، فإنّ هذه الصلاة ـ بعد فرض انحصار المجتهد في الدنيا بهما ـ باطلة عند الكل.

ولكن فيه : أن مثل هذا الإجماع لا يصلح للاستناد إليه لعدم توارد أقوال المجمعين على عنوان واحد ، بل كلّ أفتى بعنوان غير العنوان الذي أفتى به صاحبه ، ويخطّئ كلّ من المفتيين صاحبه في الفتوى ، فمورد الإجماع عنوان انتزاعي ، لأنّه ينتزع عن كل واحدة من الفتويين المتعلّقتين بعنوانين مختلفين كالعربية والترتيب ، فالمرجع هو عموم دليل الصحة بعد وضوح استناد كل من المتعاقدين إلى حجّة.

والمصنف قدس‌سره جعل الفساد في هذا العقد ـ الذي لا قائل بصحّته ـ أردء الوجوه ، ولعلّه لما عرفته آنفا.

وكذا الحال في نظيره المتقدّم عن جمع ، وأنّ الصحيح ما ذهب إليه السيّد قدس‌سره في العروة (١) ، من أن المقلّد يجتزئ بالصلاة المذكورة ، لاستناده ـ في كلا عملية ـ إلى حجّة شرعية ، وهي فتوى من يقلّده.

والمقام أيضا كذلك ، لأنّ كلّا من المتعاقدين مستند إلى حجة شرعية سواء أكان هناك قائل بصحة العقد المركّب أم لا.

وأمّا إذا كان العقد صحيحا بنظر أحدهما دون الآخر كالعقد الملتئم من الإيجاب العربي المتقدم والقبول الفارسي المتأخر ـ حيث إنّه صحيح عند القابل المنكر لاعتبار العربية ، وفاسد عند الموجب القائل باعتبارها ـ فابتنى المصنف قدس‌سره صحّة العقد وفساده على كون الأحكام الظاهرية أعذارا صرفة أو أحكاما واقعية ثانوية اضطرارية ، كإشارة

__________________

(١) : العروة الوثقى ، ج ١ ، ص ٢٤ ، المسألة : ٦٥ من مسائل التقليد.


.................................................................................................

__________________

الأخرس ، والعاجز عن العربية ، وتيمّم المعذور عن الطهارة المائية.

فعلى الأوّل يختص الحكم الظاهري بمن قامت عنده الأمارة دون غيره ، فيبطل العمل بالنسبة إلى غيره الذي لا يقول بالصحة. فمن لا يعتبر العربية ـ ولذا ينشئ الإيجاب بالفارسية ـ لا يترتب عليه أثر عند القابل الذي يعتبر العربية ، ولا يجوز له أن يجتزئ بالإيجاب الفارسي ، فيكون العقد فاسدا.

وعلى الثاني لا يختصّ به ، بل يكون نافذا في حق غير من قامت عنده الأمارة أيضا ، فإجتهاد كل مجتهد نافذ بالنسبة إلى مجتهد آخر أيضا. وعليه فيصح العقد المؤلّف من الإيجاب الفارسي والقبول العربي ، لنفوذ الاجتهاد المؤدّي إلى عدم اعتبار العربية بالنسبة إلى من لم يؤدّ اجتهاده إلى اعتبارها.

وبالجملة : فبناء على الموضوعية في الأمارات يصح العقد المزبور ، وبناء على الطريقية لا يصح ، هذا.

ولكن فيه : أنّ مجرّد البناء على السببية والطريقيّة لا يوجب صحّة العقد في الأوّل وفساده في الثاني ، بل لا بدّ من ملاحظة دليل الاعتبار. فإن كان مقتضاه عموم تنزيل مؤدّيات الأمارات منزلة الأحكام الواقعية لغير من قامت عنده الأمارة ، أو عموم العذر كذلك اقتضى ذلك صحّة العقد. وإن لم يكن لدليل الأمارة عموم أو إطلاق اختصّ الحكم أو العذر بمن قامت عنده الأمارة ، فلا يصحّ العقد المزبور مطلقا وإن قلنا بسببية الأمارات لا طريقيتها.

والحاصل : أنّ مجرّد السببيّة لا يستلزم صحة العقد ـ الملتئم من الإيجاب الفارسي والقبول العربي ـ عند القابل القائل باعتبار العربية في العقد. وكذا لا يستلزم مجرّد الطريقية فساد العقد المذكور.

فالحقّ أن يقال : إنّ دليل اعتبار الأمارة إن أحرز عمومه لغير من قامت لديه فلا إشكال في الإجزاء كإمامة المتيمّم للمتوضئ مثلا وإن أحرز عدم عمومه له


.................................................................................................

__________________

فلا ينبغي الإشكال في عدم الاجتزاء. وإن كان مجملا فمقتضى الأصل عدم الاكتفاء ، إذ المتيقن اختصاص مؤدّى الأمارة على كلّ من السببية والطريقية بمن قامت عنده.

وعليه فمقتضى أصالة الفساد فساد العقد المزبور ، إلّا إذا قام دليل خاص على جواز اجتزاء غير من قامت عنده الأمارة به ، كصحة ايتمام المتطهّر المائي بالمتطهّر الترابي ، للنصوص الدالة على ذلك ، كموثق ابن بكير قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أجنب ثم تيمّم فأمّنا ونحن طهور؟ فقال : لا بأس به» (١) وقريب منه غيره.

وكحرمة تزويج المعقودة بالفارسي على من يرى فساد العقد بالفارسي ، لما دلّ على «أنّ لكلّ قوم نكاحا» حيث إنّه يشمل نكاح المؤمن المعتقد لصحّة العقد الفارسي بالأولويّة ، بعد أن شمل نكاح أهل الأديان الفاسدة.

مضافا إلى : صدق ذات البعل عرفا عليها. والبعد عن مذاق الشارع من أن يجوّز تزويج زوجة الغير بمجرّد اجتهاده ، هذا.

الرابعة : التفصيل بين القطع بالخلاف والظن المعتبر ، كما إذا قطع مجتهد بفساد العقد الفارسي ، فلا يصح العقد المؤلف من الإيجاب العربي والقبول الفارسي ، ويصحّ إن كان ظانّا بفساده.

وقد ذكره السيّد قدس‌سره في حاشيته على المتن في مسألة تبدل الرأي ، حيث قال في صورة العلم بمخالفة الأحكام الاجتهادية للواقع ما لفظه : «لا يجوز ترتيب الأثر ، بل يجب النقض لو رتّب ، سواء أكان ذلك بالنسبة إلى نفسه ، كما إذا تبدّل رأيه بالانكشاف العلمي ، أو بالنسبة إلى غيره ممّن علم خطائه في إصابة الواقع ، وهو الذي عنونوه في الأصول هو : أنّه هل هي أحكام شرعية أو عذرية .. إلخ» (٢).

ومحصل ما أفاده قدس‌سره بطوله هو التفصيل بين العلم بالخلاف والظنّ به ، بالإجزاء

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٤٠١ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث : ٢

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٩٣


.................................................................................................

__________________

والصحة في الثاني ، والعدم في الأوّل. ففي المقام إن كان أحد المتعاقدين عالما باعتبار العربية كان العقد فاسدا ، لأنّ القبول الفارسي مقطوع الفساد عنده ، فلا ينضمّ إلى الإيجاب العربي. وإن كان ظانّا باعتبارها الموجب للظّن بفساد العقد المزبور كان العقد صحيحا ، لأنّ دليل اعتبار الظن متساوي النسبة إلى الظنين.

والظاهر أنّ مقصوده قدس‌سره عدم كون الاجتهاد الثاني هادما للاجتهاد الأوّل بحيث يجب تدارك الأعمال السابقة المأتيّ بها على طبقه ، لأنّ كلّا من الاجتهادين ظنّي ، ودليل اعتبار الظن متساوي النسبة إليهما ، فالظن الثاني لا يهدم الأوّل رأسا ، بل يهدمه بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة.

وقوله قدس‌سره : «وكذا لو كان رأيه عدم وجوب السورة .. إلى قوله : لأنّه كان مطابقا للظن الذي هو حجة في ذلك الزمان كهذا الظن اللّاحق» كالصريح في صحة العمل السابق ، لكونه مطابقا للظن الذي كان حجة في ذلك الزمان. فعلى تقدير مخالفة العمل السابق للواقع لا تجب إعادته لموافقته للطريق المعتبرة في ظرف الإتيان به.

وغرضه قدس‌سره من قوله : «لأنّ دليل حجية الظن متساوي النسبة إلى الظنين» هو ظنّ المجتهدين ، كما إذا ظنّ أحدهما اجتهادا بجواز العقد الفارسي ، والآخر كذلك بعدمه ، فإنّ دليل اعتبار الظن متساوي النسبة إلى الظنين. وأمّا بالنسبة إلى تبدّل الرأي فلا معنى لتساوي الدليل الى الظنين ، إذ المفروض زوال الظّن بعدم وجوب السورة ، وتبدّل الظن به بوجوبها ، فلا ظنّ بعدم وجوبها بعد تبدّله.

والحاصل : أن دعوى حجية الظن السابق وكونه عذرا بالنسبة إلى الأعمال السابقة في محلّها ، فإنّها ثابتة بالسيرة الجارية على عدم قضاء الأعمال السابقة الواقعة على طبق الآراء المعدول عنها ، أو الفتاوى التي مات المفتون بها. بل لا يخطر ببال أحد احتمال وجوب القضاء بعد العدول عن الرأي ، أو بعد موت المجتهد ، والرجوع الى الحي. فبهذا التسالم العملي المسمّى بالسيرة يثبت اعتبار الظّن الاجتهادي ما دام موجودا ، كدوران كل


.................................................................................................

__________________

حكم مدار وجود موضوعه.

نعم بعد زوال الاجتهاد الأوّل يجب تطبيق العمل على الاجتهاد الثاني ، إذ لا موضوع لدليل الاجتهاد الأوّل.

فما أفاده بعض أجلّة العصر من قوله : «وفيه أنّ الطرق الاجتهادية الظنيّة إذا قامت على خلاف اجتهاده الأوّل أو اجتهاد مجتهد آخر يكشف منها فعلا بطلان الاجتهاد السابق وخطاؤه. ومع قيام الأمارة المعتبرة على بطلانه أو بطلان كل اجتهاد يخالفه لا يكون دليل الحجية متساوي النسبة إليهما ، بل يختص الاجتهاد الفعلي بالحجيّة دون غيره ، فلو دلّ دليل على طهارة الغسالة ، وكان في طريقه ضعف ، وكان مقتضى اجتهاده الأوّل وثاقة الراوي ، ثم تبدّل رأيه إلى عدم الوثاقة ، فلا شبهة في هدم اجتهاده الثاني الأوّل ، لقيام الطريق الفعلي على بطلانه. ولا وجه لانطباق دليل حجية الظن عليه».

لا يخلو من غموض ، لأنّ في قوله : «يكشف منها فعلا بطلان الاجتهاد السابق .. إلخ» أنّ المراد بالبطلان إن كان مطلقا حتّى فيما مضى ، ففيه : ما عرفت من قيام السيرة على خلافه. وإن كان بالإضافة إلى خصوص الأعمال اللاحقة فهو صحيح. لكن السّيد صاحب العروة لم يذكر هذا ، بل قوله : «كهذا الظن اللّاحق» كالصريح في الاعتراف بحجية الاجتهاد الثاني في الزمان اللّاحق.

فقول السيّد قدس‌سره : «لأنّ دليل حجية ظن المجتهد متساوي النسبة إلى الظّنين» ناظر إلى كل واحد من الظّنين الحاصلين لكلّ من المجتهدين ، لأنّ الظنين الموجودين فعلا هما موجودان لهما ، حيث إنّ أحدهما ظانّ بصحة العقد الفارسي ، والآخر ظانّ بفساده. ولا مانع من حجية كلّ واحد من الظنين في حق صاحبه. ومقتضاه وإن كان جواز تزويج المرأة المعقودة بالعقد الفارسي لمن يرى بطلان العقد الفارسي ، وعدم حصول النكاح بذلك ، إلّا أنّ الدليل الخاص كقولهم : «لكل قوم نكاح» أو وجوب الاحتياط في الفروج أو «صدق ذات البعل عرفا عليها» يقتضي عدم الجواز.


.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فلا مانع من انطباق دليل اعتبار الظن على كلا الظنين الحاصلين للمجتهدين ، غاية الأمر أنّ لزوم ترتيب الأثر على كل واحد منهما بالنسبة إلى ظنّ الآخر منوط بالدليل ، وقد قام في موارد تقدّمت الإشارة إلى بعضها.

فالمتحصل : أنه مع العلم بشرطيّة أو مانعية شي‌ء للعقد لا يكون ظنّ غيره على خلافه حجّة عليه. إلّا فيما قام الدليل على وجوب اتّباع ظنّ الغير وترتيب الأثر عليه كموارد النكاح ، لأنّ لكلّ قوم نكاحا. ومع الظن بالشرطيّة أو المانعية يجب ترتيب الأثر عليه ، فلو ظنّ عدم شرطية العربية في العقد لم يجز لمن يظنّ اعتبارها تزويج المرأة المعقودة بالفارسيّة كما تقدّم.

ويمكن أن يصحّح العقد بأن يقال : إنّ الفتويين المتعارضتين في شروط العقد تسقطان عن الاعتبار ، ويرجع إلى عموم دليل نفوذ العقود ، بعد وضوح صدق العقد العرفي عليه.

الخامسة : التفصيل في نفي الشرطية بين كون مستنده الأصول العمليّة كأصالتي الحلّ والطهارة وكحديث الرفع ، وبين كونه الأمارات العقلائية أو الشرعية ، بالصحّة في الأوّل ، والبطلان في الثاني.

توضيحه : أنّ مفاد الأصول بالنسبة إلى الشّاك كالحكم الواقعي في ترتيب الآثار ، فالإيجاب الفارسي من الشّاك في اعتبار العربية استنادا إلى حديث الرفع في نفي اعتبارها إيجاب واقعي عند الشارع ، فبضمّ القبول إليه يتمّ ركنا المعاملة التي هي متقوّمة بإيجاب صحيح واقعي ، وقبول كذلك ، والمفروض تحققهما. ولا معنى لبطلان ما هو وظيفة الشّاك الّذي يرجع إلى الأصول العملية ، إذ لا واقع له حتى يكون خلافه باطلا ، فلا محالة يكون مقتضى الأصل العملي صحيحا أي مقرّرا شرعيّا للشّاكّ. فإذا كان الإيجاب الفارسي من الشّاك صحيحا ، فلا ينبغي الشّك في تمامية المعاملة حينئذ بانضمام القبول العربي إليه.


.................................................................................................

__________________

وهذا بخلاف ما إذا كان مستند عدم الشرطية الأمارة كإطلاق دليل نفوذ العقود ، بتقريب : أنّ إطلاقه ينفي كلّ شكّ في شرط أو مانع ، فيفتي لأجل ذلك بعدم اعتبار العربية مثلا. والمجتهد الآخر يرى عدم الإطلاق ، وأنّ استفادة إطلاق هذا الدليل خطأ ومخالف للواقع ، فيعتقد بطلان الإيجاب الفارسي ، ومع هذا الاعتقاد كيف ينضمّ القبول العربي إليه حتّى يتمّ ركنا العقد.

وبالجملة : يكون نفي الشرطية والمانعية بالأصول العملية في المعاملات كنفيهما بها في العبادات ، ولذا يصح الاقتداء بمن يكون اجتهاده مخالفا لاجتهاد إمامه في مانعية شي‌ء ، مع استناد الإمام في عدم المانعية إلى حديث الرفع الحاكم على أدلّة اعتبار الشرائط والموانع. فصلاة الإمام عند المأموم صحيحة واقعا ، لأنّ الشّاك في المانعية وظيفته نفي المانعية بحديث الرفع.

فما أفاده الفقيه الطباطبائي في العروة في بطلان العقد من قوله : «لأنّه ـ أي البيع ـ متقوم بطرفين» (١) لا يخلو إطلاقه من غموض ، لما عرفت من أنّ البطلان إنّما يتمّ إذا كان المستند في نفي الشرطية إطلاق الدليل الاجتهادي ، لأنّ المثبت للشرطية يخطّئه. وأمّا إذا كان مستنده مثل حديث الرفع فلا وجه للبطلان كما لا يخفى.

السادسة : ما أفاده المصنف قدس‌سره من التفصيل بين الشروط التي يسري فسادها إلى إنشاء الآخر ، بحيث يبطل مجموع الإيجاب والقبول ، كالموالاة والتنجيز وبقاء المتعاقدين على صفات صحّة الإنشاء إلى آخر العقد ، وبين الشروط التي لا يسري فسادها إلى إنشاء الآخر كالصراحة والعربية ونحوهما ، ببطلان العقد في الأوّل وصحته في الثاني ، فلا يجدي في الصحة كون الأحكام الظاهرية أعذارا ، أو بمنزلة الواقعية الاضطرارية الّتي بنى المصنف قدس‌سره صحة العقد وفساده عليها ، بل العقد باطل على كلا التقديرين ، لعدم تحقق العقد العرفي مع اختلال أحد الشروط المزبورة كالموالاة

__________________

(١) : العروة الوثقى ، ج ١ ، ص ٢٠ ، المسألة : ٥٥ من مسائل التقليد.


.................................................................................................

__________________

والتنجيز وبقاء أهلية المتعاقدين إلى آخر العقد ، هذا.

ولا يخفى أن هذا التفصيل بحسب الكبرى صحيح ، لكن الإشكال كلّه في الصغريات ، فإنّ عدّ التنجيز من الشروط المقوّمة لمفهوم العقد عرفا ممنوع ، لما مرّ سابقا من عدم الدليل على اعتبار التنجيز ، لا في حقيقة العقد ، ولا في صحّته وتأثيره.

أمّا الأوّل فواضح ، لما عرفت من صحة الإنشاء المعلّق عرفا ، وعدم توقف صدق العقد على التنجيز.

وأمّا الثاني فلأنّ الموجب إن كان قائلا باعتباره وأنشأ الإيجاب منجّزا بقوله : «بعتك هذا الكتاب بدينار» وقال القابل : «إن طلعت الشمس قبلت» فلا يسري التعليق إلى الإيجاب ، لأنّ الإيجاب الذي هو فعل الموجب دون القابل قد وجد متشخّصا ، وبعد وجوده يمتنع تعليق وجوده على شي‌ء ، نظير تعليق الضرب الواقع على شخص بأن يكون ذلك واقعا إن كان المضروب يهوديّا دون ما إذا كان مسلما ، فإنّ هذا التعليق في غاية البشاعة ، فلا يكون العقد من هذه الجهة فاسدا.

وتوهّم فساده لأجل عدم التطابق بين الإيجاب والقبول فاسد ، لعدم دليل على اعتبار هذا المقدار من التطابق بين الإنشائين ، فيصح العقد مطلقا ، أمّا مع طلوع الشمس فلتحقّق الشرط وفعليّته. وأمّا بدونه فلما مرّ أيضا من أنّ الموجب ـ الذي هو موجد البيع ـ لا يملك التمليك الحالي ، إذ الحال ظرف للإيجاب وإنشائه ، فالمنشأ نفس التمليك ، وبضمّ القبول إليه يتمّ السبب سواء لحق به في الحال أو الاستقبال.

وإن كان القابل قائلا باعتبار التنجيز والموجب قائلا بعدم اعتباره فأنشأ الموجب معلّقا ، وقال : «بعتك هذا الكتاب بدينار إن طلعت الشمس» فقبل القابل وقال : «قبلت» صحّ العقد أيضا ، لعدم كون القبول معلّقا ، وإنّما هو قبول إيجاب معلّق. ففرق واضح بين تعليق القبول على شي‌ء ، بأن يقول : «قبلت إن جاء زيد» وبين قوله عقيب : ـ بعتك إن جاء زيد ـ : «قبلت هذا الإيجاب المعلّق» إذ القبول في الأوّل معلّق دون الثاني ، لكونه قبولا


.................................................................................................

__________________

منجّزا لهذا المعلّق.

فالمتحصل : أنّ التنجيز ليس ممّا يوجب انتفاؤه فساد مجموع العقد ، فلا ينبغي عده ممّا يسري فساده إلى جزئي العقد ، كما لا يخفى.

وأمّا الموالاة فإن كان معتبرها هو القابل فلا يصحّ إنشاء القبول مع الفصل المخلّ بالموالاة ، فمع الفصل كذلك لا ينضمّ القبول إلى الإيجاب ، ويسري فساد القبول المتأخر كذلك إلى الإيجاب ، فيفسد كلا جزئي العقد.

وإن كان القائل باعتبارها هو الموجب ، فأوجب ، ولم يقبل المشتري إلّا مع الفصل المفوّت للموالاة ، فسد الإيجاب بنظر الموجب ، لأنّه يرى سقوط الإيجاب عن صلوحه لضمّ القبول إليه ، فقبل تحقق القبول خرج إيجابه عن الصحة التأهّليّة بنظر الموجب.

وكذا الكلام في بقاء الأهلية ، فإن اعتبره الموجب خرج إيجابه ـ المتعقب بالحجر ـ عن الصحّة التأهّلية ، فلا ينضم إليه القبول في نظره. وإن اعتبره القابل كان الإيجاب المتعقب بالحجر كلا إيجاب ، فلا ينضمّ إليه القبول.

فالمتحصل : أنّ العقد الفاقد للأهلية والموالاة فاسد بكلا جزئية ، بخلاف الفاقد للعربية والماضوية والصراحة. هذا على مذاق المصنف قدس‌سره. وقد تقدم الإشكال في اعتبار الموالاة وبقاء الأهلية إلى آخر العقد ، فيسقط ما فرّعوه عليهما ، فلاحظ وتدبّر.

وأمّا الترتيب فقد جعله المصنف أيضا مما لا يسري فساده إلى الجزء الآخر كالصراحة والعربية. لكن أورد عليه في تقرير سيدنا الخويي : «بأنّه مثل الموالاة والتنجيز ممّا يسري فساده إلى الجزء الآخر ، نظرا إلى أنّ التقدم والتأخر متضايفان ، فإذا تقدّم القبول على الإيجاب فقد تأخّر الإيجاب عن القبول ، فيسري فساد القبول المتقدّم إلى الإيجاب المتأخر» (١) هذا.

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٨١


.................................................................................................

__________________

وفيه : أنّه لا يعتبر عنده قدس‌سره تقدم الإيجاب وتأخر القبول من حيث التقدّم والتأخر ، بل قادحية تقدم القبول إنّما هي لأجل عدم تضمّنه للنقل في الحال ، ومن المعلوم عدم سراية هذه الخصوصية إلى الإيجاب ، لأنّه متضمّن للنقل في الحال مطلقا تقدّم أو تأخّر.

نعم بناء على كون تقدم الإيجاب على القبول لأجل الاقتصار على ما هو المتداول في العقود ، فيكون الإيجاب المتأخر فاقدا للصفة المعتبرة فيه ، وهي التداول الذي يجب الاقتصار عليه.

لكن هذا الوجه مبنى على انصراف العقود إلى خصوص المتداولة والمتعارفة وقد تقدم منعه ، وأنّ الحق خلافه. كما أنّ مقتضى التحقيق عدم تضمن الإيجاب وكذا القبول للتمليك والتملك في الحال ، بل الحال ظرف لهما. وانصراف العقود إلى المتعارفة قد عرفت سابقا ما فيها ، مع الغضّ عن كون كلّ من تقدم الإيجاب والقبول على الآخر متداولا عند العرف.

تتمة فيها مطلبان :

الأوّل : أنّ السيد قدس‌سره ذكر في حاشيته وجها لفساد العقد مع اختلاف المتعاقدين في الشروط. ومحصّل ذلك الوجه : أن العقد متقوّم بطرفين ، ويجب على كلّ من المتبايعين إيجاد عقد البيع ، وهو عبارة عن الإيجاب والقبول ، فلا يجوز لواحد منهما الأكل إلّا بعد ذلك ، فمع اعتقاد أحدهما ببطلانه ـ ولو لأجل بطلان أحد جزئية ـ لا يجوز له ترتيب الأثر. وإنّما يتم ما ذكره المصنف قدس‌سره لو كان المؤثر في حق البائع في جواز الأكل الإيجاب الصحيح ، وبالنسبة إلى المشتري القبول الصحيح. وليس كذلك ، إذ المؤثر المجموع ، وهو فعل كل واحد منهما.

وبعبارة أخرى : ليس جواز القبول معلّقا على وجود إيجاب صحيح من الغير حتى يقال : إنّ المفروض أنّه محكوم بالصحة عند الموجب ، بل البيع فعل واحد تشريكي. ولا بدّ من كونه صحيحا في مذهب كلّ منهما ليمكن ترتيب الأثر عليه ، وهذا


.................................................................................................

__________________

بخلاف مسألة النكاح ، فإنّ الفعل للأوّل ، والثاني مرتّب عليه أثره (١).

وحاصل كلامه ـ بعد أن قال : إنّ ترتب الأثر على ظن المجتهد الآخر إنّما يجوز فيما إذا كان فعله قائما مقام فعله موضوعا للأثر بالنسبة إليه كالنكاح وغيره ، دون ما كان فعله قائما مقام فعله ، كاستيجار الوليّ للقضاء عن الميّت من يعتقد بطلان صلاته ، فإنّ فعل الأجير فعل المستأجر ـ هو : أن ما نحن فيه أعني اختلاف المتعاقدين في الشروط من هذا القبيل ، لتقوّمه بطرفين. فلا بدّ أن يكون صحيحا في مذهب كلّ منهما ، لما أفاده في تقليد العروة ، فالبيع فعل واحد صادر منهما ، فلا بد من كونه صحيحا عندهما معا ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّ فعل الأجير ليس فعل المستأجر ، لأنّه نائب عن الميّت لا عن المستأجر ، ولذا قال في العروة بوجوب عمل الأجير على مقتضى تكليف الميّت اجتهادا أو تقليدا.

وثانيا : ـ بعد الغضّ عن ذلك ـ أنّ تنزيل المقام منزلة فعل الأجير غير وجيه ، إذ لا يعقل أن يكون فعل كلّ من المتعاقدين فعل الآخر ، ضرورة أنّه لا يعقل أن يكون الإيجاب قبولا والقبول إيجابا ، إذ الإيجاب فعل الموجب ، والقبول فعل القابل كما هو ظاهر قوله قدس‌سره في الحاشية : «ويجب على كل من المتبايعين إيجاد عقد البيع ، وهو عبارة عن الإيجاب والقبول» الى آخر ما تقدّم ، حيث إنّ ظاهره أنّ العقد ـ الذي هو الإيجاب والقبول ـ يوجده كل من المتعاقدين. مع أنّه لا يعقل أن يكون العقد بهذا المعنى فعلا لكلّ واحد منهما ، بل كلّ منهما يوجد جزءا من العقد الذي هو موضوع الأثر ، وإن كان اعتبار القبول اعتبار الإمضاء والتنفيذ لما أوجبه الموجب كما تقدم سابقا.

والحاصل : أنّ كون البيع فعلا واحدا تشريكيّا غير وجيه ، كيف؟ والإيجاب والقبول عرضان لمحلّين ، ويمتنع اتّحادهما وجودا ، ولذا ينطبق على العرضين لمحلّين ضابط التركيب ، لا التقييد.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٣


.................................................................................................

__________________

فاللازم حينئذ أن يكون كل واحد من الإيجاب والقبول مطابقا للحجّة عند موجده ، فالإيجاب الصحيح عند الموجب وكذا القبول المقبول عند القابل كاف في صحة العقد وترتّب الأثر عليه. نظير الصلاة الفاقدة للسورة استنادا الى فتوى من لا يرى جزئيّتها ، والمشتملة على المرة الواحدة في التسبيحات الأربع ، اعتمادا على فتوى من يكتفي بالواحدة ، فإنّ هذه الصلاة صحيحة ، لأنّ كلّا من فقدانها للسّورة وللثلاث من التسبيحات ممّا يستند إلى الحجة ، فإنّ مجموع الصلاة لم يقع عن تقليد أحد المجتهدين حتى يقال : إنّه لم يقل أحد منهم بصحتها ، بل وقع بعضها عن تقليد واحد ، وبعضها الآخر عن تقليد آخر.

فإذا كانت الصلاة التي هي أهمّ الارتباطيّات كذلك كانت البيع ونحوه من العقود ـ التي هي من المركبات الارتباطيّة ـ أولى.

فالتحقيق أن يقال : إن المرجع في المقام هو عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود. توضيحه : أنّ الشّك في اعتبار صحة مجموع الإيجاب والقبول عند كلّ منهما يرجع إلى الشّك في شرطيّة ذلك شرعا ، بعد صدق العقد العرفي على العقد المركّب من الإيجاب العربي والقبول الفارسي مثلا. والمرجع حينئذ هو العموم المزبور ، ومع هذا الوجه الواضح لا حاجة إلى جعل مبنى المسألة كون الأحكام الظاهرية اضطرارية أو عذريّة ، فلاحظ وتدبّر ، والله العالم.

المطلب الثاني : أنّه قد أورد المحقق الخراساني على ما أفاده المصنف قدس‌سرهما ـ من الصحة بناء على كون الأحكام الاجتهادية واقعية اضطرارية ـ بما حاصله : أنّ مجرد ذلك لا يجدي في الصحة إلّا إذا ثبت كونها اضطراريّة بالنسبة إلى الغير الذي له مساس بالعقد ، وإلّا فمجرّد كونه حكما حقيقيا في حقّ نفس الموجب أو القابل لا يجدي في الصحة.

والحاصل : أنّه لا بد من تقييد إطلاق الصحة ـ على القول بكون الأحكام الظاهرية


.................................................................................................

__________________

بمنزلة الاضطرارية ـ بما إذا كانت كذلك حتى في حق الغير ، هذا (١).

وقد ناقش فيه المحقق الأصفهاني قدس‌سره بما محصله : أن الاشكال مبني على كون الملكية من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، إذ بناء على حجية الأمارة على الموضوعية يتجه البحث عن إطلاق التعبد بالآثار وتقييده بخصوص من قامت عنده ، فإذا كانت الملكية متوقفة واقعا على العقد بالعربية وأنشأ الموجب بالفارسي وهو يرى صحته ، فتصرفه وإن كان في مال الغير حقيقة ، لكنه جائز حقيقة ، لحدوث مصلحة في التعبد بالأمارة ـ كإطلاق وجوب الوفاء بالعقود ـ غالبة على مفسدة التصرف في مال الغير ، والتعبد بالملكية تعبد بآثارها ، وحينئذ يمكن الإطلاق والتقييد. فبناء على الإطلاق يجوز للمعتقد جميع التصرفات المترتبة على الملك ، ولا يجوز لغيره التصرف فيه بدون رضاه ، وإن لم يعتقد سببية ما يراه المعتقد سببا. وبناء على التقييد يجوز لخصوص المعتقد التصرف فيه ، ولا يحرم على الطرف الآخر ـ الذي لا يرى سببية الإنشاء بالفارسي ـ التصرف فيه بدون رضا الموجب.

وأما بناء على ما هو الحق من كون الملكية من الاعتبارات الوضعية يشكل ما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره ، إذ كما تكون الملكية مجعولة شرعا فكذا سببها مجعول أيضا ، فالعقد الفارسي الذي قامت الحجة على سببيته شرعا يصير ذا مصلحة مقتضية لاعتبار الملكية شرعا ، فهو سبب تام في التأثير يقتضي ترتيب الملك عليه ولو في حق الطرف الآخر الذي لا يرى سببية الإنشاء الفارسي.

وهذا بخلاف الأحكام التكليفية ، فإنّ مجرد قيام الأمارة على خلاف الواقع لا يوجب بدلية مصلحة المؤدى عن مصلحة الواقع ، ولذا يجب التدارك ، هذا (٢).

أقول : الظاهر ورود الاشكال على المحقق الخراساني قدس‌سره القائل بأن الملكية

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٩

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٤


.................................................................................................

__________________

اعتبار شرعي وضعي كما صرّح به في بحث الأحكام الوضعية من الكفاية وحاشية الرسائل. الا أنه يبقى سؤال الفرق بين التكليف والوضع ، فإنّ لسان التعبد بالأمارة سواء على الطريقية أو الموضوعية هو وجوب تصديق العادل مثلا ، فلو كان مدلوله حدوث مصلحة بقيامها يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لزم التعبد بها سواء أكان المضمون إنشاء المعاملة بالفارسي أم وجوب صلاة الجمعة ، ولم يظهر وجه التفصيل بين البابين ، هذا.

بل لا حاجة الى التدارك ، لأنّه على السببية يكون من تبدل الموضوع كصيرورة المسافر حاضرا ، لا من انكشاف الخلاف.

وعليك بملاحظة ما اختاره هذا المحقّق في بحث الإجزاء من حاشية الكفاية ، لعلّك تستفيد منه ومما أفاده هنا أمرا آخر.

وكيف كان فالمختار ما ذكرناه في المسألة الثالثة (في ص ٦٢٢) والله هو الهادي للصواب.

هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء ، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في

الجزء الثالث في المقبوض بالعقد الفاسد ، والحمد لله أوّلا وآخرا ، وصلى الله على

سيّد المرسلين وآله الغرّ الميامين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.


الفهرست



تنبيهات المعاططاة....................................................... ٥ ـ ٣٠٣

التنبيه الأول : اشتراط صحة المعاطاة بشرائط البيع اللفظي وجريان احكامه فيها..... ٥ ـ ٤٧

المعاطاة المقصود بها الملك بيع طروء الملزِم............................................ ٦

عدم إشتراط المعاطاة المقصود بها الاباجة بشرائط البيع................................ ٩

تطرق احتمالات ثلاثة في اشتراط المعاطاة المقصود بها الملك بشرائط البيع......... ١٤ ـ ٢٤

ترجيح الاحتمال الأول......................................................... ٢٥

كلام الشهيد في نفي شرائط البيع اللفظي عن المعاطاة ، وتوجيهه..................... ٢٧

أ : حرمة الرّيا في البيع المعاطاتي.............................................. ٣٥

ب : جريان الخيارات في المعاطاة............................................. ٣٩

احتمال التفصيل بين الخيارات المختصة بالبيع وغيرها ، والمناقشة فيه.................. ٤٢

التنبيه الثاني : إنشاء المعاطاة بوجوه أربع.................................. ٤٨ ـ ٦٣

الأول : إنشاؤها بالتعاطي من الطرفين............................................ ٤٨


الثاني : إنشاؤها باعطاء أحدهما وأخذ الآخر....................................... ٥٠

الثالث : إنشاؤها بايصال الثمن وأخذ المثمن...................................... ٥٣

الرابع : إنشاؤها بالصيغة الملحونة................................................ ٥٥

مناقشة المحقق الإيرواني في اعتبار التعاطي من الطرفين............................... ٥٧

مناقشة المحقق النائيني والإيرواني في تحقق المعاطاة باعطاء أحدهما....................... ٥٨

تحقيق الوجه الثالث............................................................ ٦٠

التنبيه الثالث : تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة....................... ٦٤ ـ ٧٥

إذا كان العوضان عروضا تطرق في تمييز البائع وجوه................................. ٦٥

ترجيح احتمال كون الدافع أولا هو البائع.......................................... ٧٢

بيان المختار في المسألة.......................................................... ٧٣

التنبيه الرابع : أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين................... ٧٦ ـ ١٤٦

القسم الأول : تمليك المال بإزاء مال الآخر........................................ ٧٧

القسم الثاني : تمليك المال بإزاء تمليك مال الآخر................................... ٨١

عدم كونه بيعا ، واحتمال كونه هبة معوضة ، والمناقشة فيه........................... ٨٣

تصحيحه بجعل تمليك الثاني داعيا لا شرطا........................................ ٨٤

عدم كونه بيعاً ، وإحتمال كونه هبةً معوضة ، والمناقشة فيه.......................... ٨٣

تصحيحه بجعل تمليك الثاني داعياً لاشرطاً......................................... ٨٤

تصحيحه بجعلع صلحاً......................................................... ٨٦

القسم الثالث : إباحة أحدهما بازارء تمليك الآخر................................... ٨٦

القسم الرابع : قصد كل منهما إباحة مالة......................................... ٨٦

مناقشة المحقق النائيني والأصفهاني في القسم الثاني............................. ٨٩ ـ ٩٢

الاشكال في القسم الثالث والرابع بوجهين......................................... ٩٣

الاشكال في قسم الثالث ورابع بمنع إباحة مطلق التصرف........................... ٩٣


دفع الاشكال الاول بوجوه ثلاثة ، والمناقشة في كلُ منها...................... ٩٥ ـ ١٢٤

الأول : قصد التوكيل بلسان الاباحة ، أو التمليك كنايةً............................ ٩٥

المناقشة في هذا الوجه بعدم قصد التمليك ولا التوكيل............................... ٩٥

الثاني : قيام الدليل تعبدا على حصول الملكية للمباح له بمجرد الإباحة............... ١٠٠

عدم قيام الدليل في المقام على الملك الآني........................................ ١٠٢

الاستشهاد بما ذكره العلامة من دفع مال إلى غيره ليشتري به طعاما لنفسه........... ١٠٤

تصحيح الإباحة المطلقة بالالتزام بالملك التقديري................................. ١٠٨

المناقشة بعدم الدليل عليه في المقام.............................................. ١٠٩

قصور دليل الاباحة عن تصحيح اباحة مطلق التصرف............................ ١١٤

الثالث : تصحيح الاباحة المطلقة بتنظيرها برجوع الواهب وذي الخيار ، والنظر فيه.... ١١٤

الفرق بين الملك التقديري في تملك الميت للدية وبين رجوع الواهب.................. ١١٦

فذلكة الوجوه الثلاثة.......................................................... ١١٧

كلام جمع في تسليط الغاصب على الثمن وإباحة التصرف له...................... ١٢١

تحقيق الاشكال الثاني ، وتصحيح الإباحة بالعوض بالصلح........................ ١٢٥

دلالة حديث السلطنة على كون الإباحة بالعوض معاملة مستقلة................... ١٢٨

لو كانت معاملة مستقلة فهل هي لازمة أم لا؟................................... ١٢٩

الاشكال في الإباحة بإزاء الإباحة ، ودفعه....................................... ١٣٢

تحقيق حكم إباحة مطلق التصرف.............................................. ١٣٤

النظر في توقف البيع والعتق والوقف ونحوها على الملك............................ ١٣٨

التنبيه الخامس : جريان المعاطاة في غير البيع.......................... ١٤٧ ـ ١٧٩

كلام المحقق الثاني في استظهار جريان المعاطاة في الإجارة والهبة...................... ١٤٨

مناقشة المصنف في ما استظهره المحقق الثاني...................................... ١٥٢

الاشكال على مناقشة المصنف في كلام المحقق الثاني............................... ١٥٧


استظهار المصنف جريان المعاطاة في غير البيع.................................... ١٦٠

الاشكال في جريانها في الرهن.................................................. ١٦٢

ما احتمله الشهيد من جواز وقف المساجد بغير الصيغة............................ ١٦٩

تحقيق جريان المعاطاة في غير البيع............................................... ١٧٠

تحقيق جريان المعاطاة في غير البيع حتى العقود المتوقفة على القبض.................. ١٧٢

عدم جريان المعاطاة في عقد النكاح............................................. ١٧٦

التنبيه السادس : ملزمات المعاطاة..................................... ١٨٠ ـ ٢٥٤

تأسيس الأصل على كل من الملك والإباحة...................................... ١٨١

الملزم الأول : تلف العينين.............................................. ١٨٣ ـ ١٩٢

تلف إحدى العينين.................................................... ١٩٣ ـ ٢٠٦

تحقيق الكلام في صور تلف العينين أو إحداهما............................ ٢٠٦ ـ ٢١٢

الملزِم الثاني : كون أحد العوضين ديناً في ذمة الآخر........................ ٢١٣ ـ ٢١٧

سقوط الدّين وامتناع الشتغال الذمة به مرّة أُخرى................................. ٢١٣

الملزِم الثالث : نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم أو جائز................... ٢١٧ ـ ٢٤٢

حكم النقل بالناقل اللازم على كلُ من الملك والإباحة...................... ٢١٧ ـ ٢٢٠

عود العين إلى المتعاطي بحدوث سبب الفسخ.............................. ٢٢٠ ـ ٢٣٢

استصحاب بقاء ملك المتعاطي للمأخوذ بالمعاطاة وجواز التراد ، وعدمه.............. ٢٢١

عدم جواز التراد بناء على القول بالإباحة........................................ ٢٢٥

تقريب جواز التراد بناء على الإباحة بوجهين آخرين............................... ٢٢٦

حكم النقل بالناقل الجائز...................................................... ٢٣٢

الفرق بين الجواز الحقي والحكمي............................................... ٢٣٤

حكم عقد الفضول على المأخوذ بالمعاطاة................................. ٢٣٧ ـ ٢٤٢

نفوذ إجازة كلا المالكين ، ولزوم المعاطاة بها بناءً على الملك والاباحة.......... ٢٣٧ ـ ٢٤٠


جوار ردً كل منهما عقدّ الفضول قبل إجارة الآخر................................ ٢٤١

لو رجع الأوّل فأجاز الثاني.................................................... ٢٤١

الملزم الرابع : مزج إحدى العينين أو كلتيهما............................... ٢٤٣ ـ ٢٤٥

التصرف غير المغير للصورة ملزم أم لا؟.......................................... ٢٤٦

جواز الرجوع في المعاطاة حكم كما في الهبة....................................... ٢٤٨

الملزم الخامس : موت أحد المتعاطيين..................................... ٢٤٩ ـ ٢٥٢

الفرق بين الموت والجنون....................................................... ٢٥٢

التنبيه السابع : المعاطاة بعد اللزوم بيع أو معاوضة مستقلة.............. ٢٥٥ ـ ٢٧٠

كلام الشهيد الثاني في بيان الاحتمالين وما يترنب عليها.................... ٢٥٥ ـ ٢٦١

جواز جعل الخيار في المعاطاة المفيدة للملك الجائز................................. ٢٦٤

استظهار حمل الوجهين في كلام الشهيد على خصوص الاباحة...................... ٢٦٤

المعاطاة بيع عرفي سواء أفادت الملك أم الإباحة تعبدا.............................. ٢٦٦

كلام الشهيد في القواعد من جواز المعاطاة أو لزومها.............................. ٢٦٨

التنبيه الثامن : إلحاق الصيغة الملحونة بالمعاطاة........................ ٢٧١ ـ ٣٠٣

تحقق المعاطاة بانشائها بالقبض بعد الصيغة الملحونة............................... ٢٧٤

عدم العبرة بالقبض المبني على الوفاء بالصيغة الملحونة............................. ٢٧٦

كلام المحقق الثاني وغيره من إلحاق الصيغة الملحونة بالمعاطاة........................ ٢٧٨

كلام المحقق والعلامة في شمول المقبوض بالعقد الفاسد للمقام....................... ٢٧٩

الجمع بين الكلامين بما أفاده السيد العاملي............................... ٢٨١ ـ ٢٩٠

مناقشة المصنف في الجمع المزبور بوجوه.................................... ٢٨٥ ـ ٢٩٠

مختار المصنف في المسألة ، وتوقف الالحاق على أمرين............................. ٢٩٥

الاستشكال في الأمر الثاني.................................................... ٣٠٠


إختيار المصنف الالحاق بناء على الإباحة دون الملك.............................. ٣٠٢

مقدمة في ألفاظ عقد البيع................................................... ٣٠٤

اعتبار اللفظ في العقود اللازمة................................................. ٣٠٥

اكتفاء العاجز عن التلفظ بالإشارة أو الكتابة.............................. ٣٠٦ ـ ٣١٢

عدم وجوب التوكيل على العاجز................................................ ٣٠٧

اكتفاء العاجز عن التكلم بالكتابة.............................................. ٣١٢

ترجيح الإشارة على الكتابة وعدمه.............................................. ٣١٣

تحقيق دخل اللفظ في الانشاء........................................... ٣١٤ ـ ٣٢٩

الرجوع إلى أصالة عدم إشتراط اللفظ لو شكّ فيه................................ ٣١٦

أتحاء الشك في إعتبار اللفظ................................................... ٣١٦

ما يحتمل منعه عن جريان أصالة عدم الاشتراط................................... ٣١٨

كلام بعض الأعاظم في أقسام الحكم الوضعي ، والنظر فيه........................ ٣٢٠

ما أفيد من الفرق في جريان البراءة بين التكليف والوضع ، والنظر فيه................ ٣٢٢

جريان أصالة البراءة عن الشرطية في الشبهة الحكمية والموضوعية.................... ٣٢٧

الخصوصيات المعتبرة في الصيغة مادة وهيئة................................... ٣٣٠

صحة إنشاء الأمر الاعتباري بصيغ متعددة...................................... ٣٣١

ما يعتبر في مادة الصيغة....................................................... ٣٣٦

المبحث الأوّل : اعيبار الظهور الوضعي وعدم الاعتداد بالكناية................. ٣٣٦

ما اختاره المصنف من الاكتفاء بالظهور العرفي.................................... ٣٤١

النصوص الدالة على كفاية مطلق الظهور العرفي.................................. ٣٤٢

الاستشهاد بكلمات الفقهاء للاكتفاء بالظهور العرفي دون الصراحة والوضع اللغوي ٣٤٥ ـ ٣٥٧


كلام المحقق الثاني في الجمع بين كلمات الفقهاء.................................. ٣٥٨

ما افاده المصنف في مقام الجمع بين الكلمات.................................... ٣٥٨

توجيه كلام العلامة في التذكرة.................................................. ٣٦١

كلام فخر المحققين في توقيفية صيغ العقود ، والمناقشة فيه.......................... ٣٦٣

تحقيق الكلام في مواد صيغ العقود....................................... ٣٧١ ـ ٣٧٨

كلام المحقق النائيني قدس سره في المنع عن الانشاء بالكناية.................. ٣٧٣ ـ ٣٧٥

كلام المحقق النائيني في المنع عن الانشاء بالمجازات.......................... ٣٧٦ ـ ٣٧٧

المبحث الثاني : الفاظ الايجاب والقبول.............................. ٣٧٨ ـ ٤٠٧

أ : الفاظ الايجاب..................................................... ٣٧٨ ـ ٣٩٩

ب : ألفاظ القبول........................................................... ٤٠٠

انشاء البيع بالألفاظ المشتركة.................................................. ٤٠٧

المبحث الثالث : اعتبار العربية........................................ ٤٠٨ ـ ٤٢٠

هل يعتبر عدم كون المادة والهيئة ملحونة؟........................................ ٤١١

هل تعتبر العربية في خصوص الصيغة أم يعتبر في المتعلقات أيضا.................... ٤١٢

تحقيق اعتبار العربية........................................................... ٤١٤

اعتبار الماضوية...................................................... ٤٢٣ ـ ٤٢٥

أدلة اعتبار الماضوية........................................................... ٤٢٥

شرائط الهيئة التركيبية................................................. ٤٢٦ ـ ٦٢٦

الأول : اعتبار تقديم الايجاب على القبول............................. ٤٣١ ـ ٤٩٧

الإشارة إلى ما استدل به على الاعتبار........................................... ٤٣٢


اختلاف أنظار شيخ الطائفة في المسألة.......................................... ٤٣٣

الإشارة إلى دليل القول بجواز تقديم القبول على الايجاب........................... ٤٣٦

تحقيق المصنف في المسألة ؛ وتقسيم ألفاظ القبول في البيع إلى ثلاثة أقسام.... ٤٣٨ ـ ٤٦٧

القسم الأول : لفظ «قبلت» ونحوه ، ولا يجوز تقديمه على الايجاب................. ٤٣٩

الاستدلال بالاجماع وبالتعارف وبفرعية القبول للايجاب............................ ٤٤١

مناقشة السيد بحر العلوم في تفرع القبول على الايجاب والنظر فيها........... ٤٤٣ ـ ٤٤٧

اشكال المصنف على ما أفاده السيد بحر العلوم................................... ٤٤٦

اشكال المصنف على جواز التقديم بفحوى جوازه في النكاح........................ ٤٤٨

القسم الثاني من ألفاظ القبول : لفظ الأمر...................................... ٤٥١

اختلاف الفقهاء في جواز تقديم القبول بلفظ الأمر ، وإثبات الجواز.................. ٤٥٢

جواز تقديم القبول بلفظ الأمر................................................. ٤٥٧

القسم الثالث : لفظ «اشتريت» وشبهه ، وجواز تقديمه على الايجاب............... ٤٥٨

كلام العلامة والشهيد الثاني في كون بعض ألفاظ القبول أصلا ، وبعضها بدلا....... ٤٦١

عدم اعتبار المطاوعة في قبول البيع.............................................. ٤٦٣

أقسام القبول في سائر العقود............................................ ٤٦٧ ـ ٤٧٥

تقريب أقسام القبول في مطلق العقود بوجه آخر.................................. ٤٧٤

مرجعية العرف في الفرق بين الايجاب والقبول في باب البيع......................... ٤٧٦

تحقيق اعتبار تقدم الايجاب على القبول................................... ٤٧٧ ـ ٤٩٧

المبحث الثاني : اعتبار الموالاة بين الايجاب والقبول................... ٤٩٨ ـ ٥٢٣

الفروع التي فرعها الشهيد على اعتبار الموالاة............................... ٥٠٠ ـ ٥٠٤

مناقشة المصنف في كلام الشهيد بوجوه ثلاثة.............................. ٥٠٥ ـ ٥١١

مرجعية العرف في صدق الموالاة في كل مورد...................................... ٥١١

تحقيق شرطية الموالاة................................................... ٥١٣ ـ ٥٢٣


المبحث الثالث : إشتراط الإنشاء بالتنجيز............................. ٥٢٤ ـ ٥٨٩

كلمات الفقهاء في اعتبار التنجيز........................................ ٥٢٥ ـ ٥٣٥

الاجماع المتضافر نقله على اعتبار التنجيز في الوكالة............................... ٥٢٨

استدلال جمع على اعتبار التنجيز بمنافاة التعليق للجزم حال الانشاء................. ٥٣٠

كلام الشهيد في إطلاق مانعية التعليق................................... ٥٣٣ ـ ٥٣٦

كلام المصنف في أنحاء التعليق بالنظر إلى المعلق عليه....................... ٥٣٦ ـ ٥٤٠

القسم الأول : التعليق على معلوم الحصول حال العقد ، وحكمه الجواز.............. ٥٤٠

القسم الثاني : التعليق على معلوم الحصول في المستقبل ، وحكمه البطلان............ ٥٤٢

القسم الثالث : إذا كان المعلق عليه مشكوك الحصول ومصححا للعقد وحكمه البطلان ٥٤٤

القسم الرابع : التعليق على مصحًح النشاء ، وحكمه البطلان...................... ٥٤٥

ظهور كلام شيخ الطائفة في صحة هذا القسم ، والمناقشة فيه................ ٥٤٥ ـ ٥٥٠

مناقشة المصنف في ما نقله الشيخ عن بعض العامة......................... ٥٤٨ ـ ٥٥٠

استفادة عدم تحقق الاجماع في هذا القسم من سكوت الشيخ....................... ٥٥٠

ما أفاده الشهيد من صحة التعليق على مصحح الإنشاء ولو كان مشكوكا........... ٥٥٢

أدلة اعتبار التنجيز.................................................... ٥٥٣ ـ ٥٦٤

الأوّل : الاجماع....................................................... ٥٥٣ ـ ٥٥٥

الثاني : عدم قابلية الانشاء للتعليق ، والمناقشة فيه.......................... ٥٥٣ ـ ٥٦٤

الثالث : ما استدل به صاحب الجواهر قدس سره وما يرد عليه............... ٥٥٥ ـ ٥٦٣

الرابع : ما استدل به بعض الفقهاء من الاقتصار على القدر المتيقن ، وما يرد عليه.... ٥٦٣

الفرق بين تعليق الانشاء وتردد المنشئ........................................... ٥٦٥

كلام صاحب المقابس في عدم اخلال زعم فساد المعاملة........................... ٥٦٧

ما أفاده المصنف في الفرق بين الشرط المقوم للانشاء وغيره.................. ٥٦٨ ـ ٥٧٣

تحقيق المسألة......................................................... ٥٧٣ ـ ٥٨٩


المبحث الرابع : اعتبار التطابق بين الايجاب والقبول................... ٥٩٠ ـ ٦٠١

تحقيق المسألة......................................................... ٥٩٣ ـ ٦٠١

المبحث الخامس : اعتبار أهلية المتعاقدين حال العقد.................. ٦٠٢ ـ ٦١٥

تحقيق المسألة......................................................... ٦٠٧ ـ ٦١٥

فرع : اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة........................... ٦١٦ ـ ٦٣٤

هل الأحكام الظاهرية بمنزلة الواقعية الاضطرارية أم هي عذرية....................... ٦١٨

تفصيل المصنف بين الشروط............................................ ٦١٩ ـ ٦٢١

تفصيل الكلام في المسألة............................................... ٦٢١ ـ ٦٣٥

الفهرست............................................................ ٦٣٩ ـ ٦٤٨

هدى الطالب الى شرح المكاسب - ٢

المؤلف:
الصفحات: 648