
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
المقصد الرابع في أحكام الأولاد :
والبحث فيه يقع
بالنسبة إلى الأولاد وسنن الولادة والحضانة ، فهنا مقامات :
الأول : ما يتعلق بالأولاد وبمن يلحقون
، وهم إما أن
يكونوا أولاد زوجة موطوءة بالعقد الدائم أو أولاد موطوءة بالملك ، أو أولاد موطوءة
بالشبهة ، فهنا مسائل :
الأولى : في أولاد الموطوءة بالعقد الدائم ، لا خلاف بين
الأصحاب كما ادعاه جملة منهم في أن ولد الزوجة الدائمة يلحق بالزوج بشروط ثلاثة :
(أحدها) الدخول
بالزوجة ، والدخول الموجب للحوق الولد يتحقق عندهم بغيبوبة الحشفة أو قدرها من
مقطوعها في القبل وإن لم ينزل ، وألحقوا به الوطء في الدبر أيضا.
قال في المسالك
: وذكر الشهيد في قواعده أن الوطء في الدبر على هذا الوجه يساوي القبل في هذا
الحكم وغيره إلا في مواضع قليلة استثناها ـ ثم قال : ـ وما وقفت على كلام أحد
يخالف ذلك ، انتهى.
وأنت خبير بما
فيه على إطلاقه من الإشكال ، فإنه مع العلم بعدم الانزال
وإن كان الجماع في القبل ، وكذا مع الجماع في الدبر كيف يحكم بالإلحاق
والحال هذه ولم أر من تنبه لذلك إلا السيد السند في شرح النافع حيث قال : وقد يقع
الاشكال مع العلم بعدم نزول الماء ، وذكر المصنف في الشرائع وغيره أن الوطء في
الدبر على هذا الوجه يساوي الوطء في القبل في هذا الحكم وهو أشد إشكالا ، وربما
ظهر من كلام ابن إدريس والعلامة في التحرير أنه لا عبرة بالوطء في الدبر ، وهو
متجه. انتهى كلامه ، وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.
نعم لو كان قد
أنزل لكنه عزل عن الزوجة فإن الإلحاق في هذه الصورة كما قطعوا به جيد ، لإمكان أن
يسبقه شيء من الماء يتحقق به الحمل من غير أن يشعر به ، أما في الصورتين
المذكورتين فلا وجه لذلك يمكن الاستناد إليه والبناء في الحكم عليه.
ومما يدل على
ما ذكرناه في صورة العزل ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عليهالسلام عن علي عليهالسلام قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : كنت أعزل عن جارية لي فجاءت بولد ، فقال صلىاللهعليهوآله : قد ينفلت ، فألحق به الولد». ونحوه في بعض التوقيعات
الخارجة من الناحية المقدسة .
ثم إنه ينبغي
أن يعلم أنه لا بد أن يكون الزوج ممن يمكن التولد منه من جهة السن ، فلو كان صغيرا
لا يمكن حصول ذلك منه لم يلحق به الولد ، ونقل عن العلامة في الإرشاد أنه اكتفى
ببلوغ العشر ، وهو مشكل ، إلا أن يعلم بالعادة وقوع ذلك منه.
و (ثانيها) مضي
أقل مدة الحمل ، وهي ستة أشهر من حين الوطء ، قال في شرح النافع : وهو موضع وفاق ،
وفي المسالك نسب الإجماع على ذلك إلى علماء الإسلام.
__________________
ويدل عليه قوله
تعالى «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً» مع قوله تعالى «وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ» فإنه يتركب من الآيتين أن حمله يكون ستة أشهر ، لأنها
هي الباقية من الثلاثين شهرا بعد عامي الفصال ، وليست هذه المدة هي أقصى مدة الحمل
للإجماع والوجدان ، فتعين أن يكون أقل مدته.
ويدل على ذلك
الأخبار أيضا ومنها ما رواه في الفقيه عن سلمة بن الخطاب بسنده عن علي عليهالسلام قال : «أدنى ما تحمل المرأة لستة أشهر ، وأكثر ما تحمل
لسنة».
وما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا كان للرجل منكم الجارية يطؤها فيعتقها
فاعتدت ونكحت فإن وضعته لخمسة أشهر فإنه من مولاها الذي أعتقها ، وإن وضعت بعد ما
تزوجت لستة أشهر فإنه لزوجها الأخير».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهماالسلام «في المرأة تزوج في عدتها ، قال : يفرق بينهما وتعتد عدة واحدة منهما ، وإن
جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر فهو للآخر ، وإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر فهو
للأول». ورواه في الفقيه في الصحيح قال : «وفي رواية جميل في المرأة ـ الحديث».
__________________
وما رواه في
الكافي عن محمد بن يحيى يرفعه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : لا تلد المرأة لأقل من ستة أشهر». إلى غير ذلك من
الأخبار المتفرقة في جملة من الأحكام الآتي بعضها إن شاء الله.
و (ثالثها) أن
لا يتجاوز أقصى مدة الحمل ، وهو مما لا خلاف فيه ، إنما الخلاف في تقدير المدة المذكورة
، هل هي سنة أو تسعة أشهر أو عشرة أشهر؟ مع الاتفاق على أنه لا يزيد على السنة.
وإلى (الأول)
ذهب المرتضى في الانتصار مدعيا عليه الإجماع ، ونفي عنه البأس في المختلف وهو مذهب
أبي الصلاح ، واختاره شيخنا في المسالك وسبطه السيد السند في شرح النافع ، وجعله
المحقق في الشرائع متروكا ، وإلى هذا القول مال صاحب الكفاية. وإلى (الثاني) أكثر
الأصحاب فإنه المشهور بينهم. وإلى (الثالث) الشيخ في موضع من المبسوط ، قال في
الشرائع بعد نقل القول بذلك : وهو حسن يعضده الوجدان.
والواجب بمقتضى
عادتنا في الكتاب نقل الأخبار التي وصلت إلينا في المسألة المذكورة ، ثم الكلام
فيها بما وفق الله سبحانه لفهمه منها ببركة أهل الذكر عليهمالسلام.
ومنها ما تقدم في
رواية سلمة بن الخطاب من قوله «وأكثر ما تحمل لسنة». وهذه الرواية صريحة في
السنة ، إلا أنه قال في الوافي : وفي بعض النسخ «وأكثر ما تحمل لسنتين» فإن صح
فلعله ورد على التقية.
أقول : وبلفظ
السنتين نقل الخبر في كتاب الوسائل ، ولم يذكر غيرها ، وعلى هذا النسخة لا دلالة
في الرواية على شيء من الأقوال المذكورة.
__________________
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن معاوية بن حكيم عن أبي إبراهيم عليهالسلام أو أبيه عليهالسلام «أنه قال في المطلقة يطلقها زوجها فتقول : أنا حبلى فتمكث سنة ، قال : إن
جاءت به لأكثر من سنة لم تصدق ولو ساعة واحدة في دعواها».
وما رواه في
الكافي عن عبد الرحمن بن سيابة عمن حدثه عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألت عن غاية الحمل بالولد في بطن أمه كم هو؟
فإن الناس يقولون : ربما بقي في بطنها سنتين ، فقال : كذبوا أقصى مدة الحمل تسعة
أشهر لا يزيد لحظة. ولو زاد ساعة لقتل امه قبل أن يخرج». وهذه الرواية كما ترى
صريحة في التسعة.
وما رواه في
روضة الكافي عن أبان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن مريم حملت بعيسى تسع ساعات ، كل ساعة شهر». وهي
ظاهرة في التسعة.
واستند السيد
السند في شرح النافع في الاستدلال على ما اختاره من السنة. وكذا من تبعه في ذلك
إلى صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سمعت أبا إبراهيم يقول : إذا طلق الرجل امرأته
فادعت حبلى انتظر تسعة أشهر ، فإن ولدت وإلا اعتدت بثلاثة أشهر ثم قد بانت منه».
ورواية محمد بن
حكيم عن أبي الحسن عليهالسلام : قال : «قلت له : المرأة الشابة
__________________
التي تحيض مثلها يطلقها زوجها فيرتفع حيضها كم عدتها؟ قال : ثلاثة أشهر ،
قلت : فإنها ادعت الحبل بعد ثلاثة أشهر ، قال : عدتها تسعة أشهر ، قلت : فإنها
ادعت الحبل بعد تسعة أشهر؟ قال : إنما الحبل تسعة أشهر ، قلت : تزوج؟ قال : تحتاط
بثلاثة أشهر ، قلت : فإنها ادعت بعد ثلاثة أشهر ، قال : لا ريبة عليها تزوجت إن
شاءت». قال : والظاهر أن المراد بقوله «الحبل تسعة أشهر» أن الغالب فيه ذلك ، ثم
أمرها بالاحتياط ثلاثة أشهر ، وذلك مجموع السنة ، وفي رواية أخرى لابن حكيم ـ ثم
نقل الرواية المتقدمة الظاهرة في السنة ، ثم قال : ـ وذكر جدي أنه وقع في زمانه في
بعض النساء تأخر حمله سنة ، وحكي لنا في هذا الزمان أنه وقع ذلك أيضا في بعض نساء
بلدنا ، ولا ريب أن اعتبار ذلك عادة وإن كان نادرا أولى من الحكم بنفي النسب عن
أهله ، انتهى.
أقول : مرجع
استدلاله بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، والرواية الاولى من روايتي محمد بن حكيم
مع أن ظاهرهما أنما هو الدلالة على القول بالتسعة إلا أنه عليهالسلام لم يرخص لها في التزويج إلا بعد مضي التسعة والثلاثة
الأشهر التي بعدها الذي مجموعه سنة ، فهو يدل على أن أقصى مدة الحمل سنة ، إذ لو
كان ذلك تسعة أشهر لجوز لها النكاح بعد التسعة ، أو حمل ما دل بظاهره على التسعة
على أنه الأغلب.
وفيه : (أولا)
أن المستفاد من أخبار هذه المسألة ـ أعني مسألة المسترابة كما سيأتي إن شاء الله
تحقيقه في محله ـ هو أن هذه الأشهر الأخيرة هي العدة الشرعية ومضي التسعة الأشهر
وإن حصل به براءة الرحم وحصل اليقين بعدم الحبل لمضي المدة التي هي أكثر الحمل ،
لكنه لا ينافي وجوب الاعتداد ، فإن ما علل به وجوب الاعتداد من تحصيل براءة الرحم
ليس كليا يجب إطراده ، لتخلفه في مواضع لا تحصى ، كمن مات عنها زوجها بعد عشر سنين
من مفارقتها ، وكذا في الطلاق مع أنه لا ريب في وجوب العدة.
و (ثانيا) أن
ارتكاب التأويل في الأخبار فرع وجود المعارض ، وهم لم يذكروا على ما اختاروه من
القول بالسنة دليلا يوجب إخراج هذه الأخبار عن ظاهرها ، فحمله ما دل على التسعة ـ كهذه
الروايات على أن ذلك الغالب ـ خروج عن الظاهر ، يتوقف على وجود المعارض الراجح
الدال على القول بالسنة ، وليس إلا ما أورده من ظاهر رواية محمد بن حكيم الثانية التي هي مع الغماض عن المناقشة في دلالتها معارضة بما
هو أظهر دلالة منها كرواية عبد الرحمن بن سيابة والرواية التي بعدها ، على أنك قد عرفت في غير موضع مما
تقدم أن من القواعد المقررة في كلامهم أن إطلاق الأخبار إنما تحمل على الأفراد الغالبة
المتكررة المتكثرة دون الفروض النادرة التي ربما لا تقع ولا تعلم إلا بمثل هذه
الحكايات التي نقلها.
و (ثالثا) أن
اعتماده في الاستدلال على القول بالسنة بهاتين الروايتين بالتقريب الذي ذكره من ضم
الثلاثة أشهر الأخيرة إلى التسعة ، وأن المجموع يصير سنة منقوض بما دلت عليه موثقة
عمار الظاهرة في أن أقصى الحمل سنة ، حيث إنه عليهالسلام أوجب الاعتداد فيها بالثلاثة بعد مضي السنة ، وهي ما
رواه عن أبي عبد الله
__________________
عليهالسلام «أنه سئل عن رجل عنده امرأة شابة ، وهي تحيض كل شهرين أو ثلاثة أشهر حيضة
واحدة ، كيف يطلقها زوجها؟ فقال : أمرها شديد تطلق طلاق السنة تطليقة واحدة على
طهر من غير جماع بشهود ، ثم تترك حتى تحيض ثلاث حيض متى حاضت ، فإذا حاضت ثلاثا
فقد انقضت عدتها ، قيل له : وإن مضت سنة ولم تحض فيها ثلاث حيض؟ قال : إذا مضت سنة
ولم تحض ثلاث حيض يتربص بها بعد السنة ثلاثة أشهر ، ثم قد انقضت عدتها» الحديث ، وهذا
الخبر من الأخبار الدالة على السنة ، وهو كما ترى ظاهر فيما قدمنا ذكره ، من أن
هذه الثلاثة الأشهر الأخيرة هي العدة الشرعية ، وإن علم براءة الرحم بمضي أقصى
الحمل بالتسعة كما في الأخبار المتقدمة ، أو السنة كما في هذه الرواية ، لا أن هذه
الثلاثة تضم إلى المدة الأولى ليحصل بالمجموع أقصى الحمل ، وإلا للزم أن أقصى
الحمل بناء على هذه الرواية خمسة عشر شهرا وهو باطل يقينا.
وبالجملة فإن
ما تكلفه ـ رحمهالله ـ وقبله جده في المسالك من الاستدلال على ما ذهبا إليه
بهذه الرواية فهو لا يخلو من تكلف وتعسف ، وسيظهر لك ـ إن شاء الله تعالى ـ ذلك في
المسألة المذكورة وفق الله سبحانه للوصول إليها.
والعلامة في
المختلف قد اقتصر على نقل أقوال المسألة ، وهي الثلاثة المذكورة ولم يتعرض لذكر
أدلة شيء منها ، وقد عرفت أن روايات المسألة وهي التي وقفنا عليها منحصرة في
القول بالتسعة والقول بالسنة ، وأما القول بالعشرة فلم نقف له على خبر ، إلا أن
ظاهر بعضهم أنه مروي أيضا ، قال ابن حمزة ـ على ما نقله عنه في المختلف ـ : أكثر
مدة الحمل فيه روايات ثلاثة : تسعة أشهر ، وعشرة ، وسنة.
ثم لا يخفى أن
ما دل عليه خبر محمد بن حكيم الأول قد روى نحوه في أخبار أخر له أيضا منها ما رواه
عن أبي عبد
الله عليهالسلام أو أبي الحسن عليهالسلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته ، فلما مضت ثلاثة أشهر
ادعت حبلى ، قال : ينتظر بها تسعة
__________________
أشهر ، قال : قلت : فإنها ادعت بعد ذلك حبلى ، قال : هيهات هيهات ، إنما
يرتفع الطمث من ضربين ، إما حبل بين وإما فساد من الطمث ، ولكنها تحتاط بثلاثة
أشهر بعد».
وأنت خبير بما
في هذا الخبر من الدلالة الظاهرة على ما قررناه ، والوضوح فيما اخترناه ، والتقريب
فيه أنه لما ادعت الحبل بعد الثلاثة الأشهر فأمره عليهالسلام بالانتظار لتسعة أشهر التي هي أقصى مدة الحمل ، فإن ظهر
فيها حمل فذاك ، وإلا فإنه قد تبين بانقضاء المدة المذكورة عدم الحمل ، ولهذا لما
قال له الراوي أنها بعد التسعة ادعت الحبل ، قال : هيهات هيهات. يعنى هذا لا يكون
أبدا بأن تمضي مدة تسعة أشهر لم يتبين فيها الحمل ثم يتبين بعدها ، وما ذاك إلا من
حيث إنها أقصى مدة الحمل ، ولو كان مدة الحمل سنة كما يقوله أولئك لم يكن لهذا
الكلام معنى بالكلية ، بل كان ينبغي أن يرتب على مضي السنة ، لا التسعة الأشهر ،
ثم إنه أمره بالثلاثة الأشهر بعد التسعة التي تبين بها عدم الحمل وبراءة الرحم منه
احتياطا ، وهي العدة الشرعية المأمور بها بعد الطلاق ، وإنما نسبها إلى الاحتياط
لتبين براءة الرحم قبلها ، وإنما هي مؤكدة لذلك والوجه ما قد عرفته من أن التعليل
ببراءة الرحم إنما هو للتقريب إلى الأفهام ، لا أنه علة حقيقية ، يدور المعلول
معها وجودا وعدما.
نعم يبقى
الكلام في الجمع بين أخبار السنة والتسعة ، ولا يحضرني الآن وجه شاف يعول عليه.
ومن فروع
المسألة ما لو وضعت الولد بعد سنة من وقت الجماع فإنه على القول بكون أقصى مدة
الحمل تسعة لا يلحق بالزوج ، وإنما يلحق به على تقدير القول بالسنة ، وهذا معظم
الشبهة عند شيخنا الشهيد الثاني وسبطه ، وإليه أشار السيد السند فيما قدمنا نقله
عنه بقوله في آخر كلامه «ولا ريب أن اعتبار ذلك عادة وإن كان نادرا أولى من الحكم
بنفي النسب عن أهله ، ومرجعه إلى التمسك
بأن الولد للفراش» كما ذكره جده بقوله : واستصحاب حكمه ، وحكم الفراش أنسب
وإن كان خلاف الغالب.
وفيه أنه متى
قام الدليل بأن أقصاه تسعة كما عرفته من الأخبار التي قدمناها ، وهي ما بين نص
وصريح في ذلك وظاهر ، فإنه يجب تخصيص حديث الفراش بها ، وقد عرفت أن جل أخبار محمد
بن حكيم وهي متعددة زيادة على ما نقلناه ظاهرة في التسعة ، وما ارتكبوه من تأويلها
قد عرفت ما فيه بما أظهرناه من ضعف باطنه وخافية ، على أنك قد عرفت أن مقتضى
قواعدهم إنما هو الحمل على الأفراد الغالبة المتكررة ، لا الفروض الشاذة النادرة.
وتحقيق الكلام
في المقام يتم برسم فوائد :
الأولى : اختلف الأصحاب فيما لو دخل بزوجته وجاءت بولد لأقل من
ستة أشهر وهو حي كامل ، فقال الشيخ المفيد : إن ولدت زوجته على فراشه حيا تاما
لأقل من ستة أشهر من يوم لامسها فليس بولد في حكم العادة ، وهو بالخيار إن شاء أقر
به ، وإن شاء نفاه عنه.
وقال الشيخ في
النهاية : فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر حيا سليما جاز له نفيه عن نفسه.
وقال ابن إدريس
: يجب عليه نفيه ، وإلى هذا القول ذهب إليه من تأخر عنه وهو المشهور بين
المتأخرين.
قال في المختلف
وهو المعتمد لنا : أنه ليس ولدا له فسكوته عن نفيه يوجب لحاقه به واعترافه بنسبه ،
وهو حرام إجماعا. وعلى هذا المنهاج كلام غيره ، وهو الظاهر الذي لا إشكال فيه.
والعجب من مثل
الشيخين في خلافهما لذلك. روى الصدوق في الفقيه ، والشيخ في التهذيب عن أبان بن تغلب قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل تزوج امرأة
__________________
فلم تلبث بعد ما أهديت إليه إلا أربعة أشهر حتى ولدت جارية ، فأنكر ولدها
وزعمت هي أنها حملت منه ، قال : فقال : لا يقبل منها ذلك ، وإن ترافعا إلى السلطان
تلاعنا وفرق بينهما ولم تحل له أبدا».
وكذا يجب أن
يكون الحكم كذلك فيما إذا ولدت الزوجة بعد أقصى زمان الحمل من حين الوطء فإنه يجب
على الزوج نفيه لانتفائه عنه في نفس الأمر ، فهو في معلومية نفيه عنه كما لو ولدت
به قبل الدخول ، أو ولدت به لأقل من ستة أشهر كما تقدم ، وقد ذكر جملة من الأصحاب
هنا أن ذلك يعلم بأحد أمرين ، إما اتفاق الزوجين على عدم الوطء في المدة المذكورة
، أو ثبوت ذلك بغيبة أحدهما عن الآخر في جميع هذه المدة.
ومما ورد
بالنسبة إلى الغيبة ما رواه في الكافي عن يونس «في المرأة يغيب عنها زوجها فتجيء بولد ، أنه
لا يلحق الولد بالرجل إذا كانت غيبة معروفة ، ولا تصدق إنه قدم فأحبلها». وقوله «إذا
كانت غيبته معروفة» فيه إشارة إلى محل المسألة.
الثانية
: لا خلاف ولا
إشكال في أنه لو زنت المرأة على فراش زوجها كان الولد ملحقا بالزوج لا ينتفي منه
إلا باللعان ، للخبر المستفيض عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر».
وروى الكليني عن سعيد الأعرج في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد ،
لمن يكون الولد؟ قال : للذي
__________________
عنده ، لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر».
وما رواه في
التهذيب عن سعيد الأعرج في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : الرجل يتزوج المرأة وليست بمأمونة تدعي
الحمل ، قال : ليصبر لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر».
إلى غير ذلك من
الأخبار الواردة بهذا المضمون ، ولا فرق في ذلك بين كون الولد مشبها للزاني في
الخلق والخلق أم لا ، عملا بالإطلاق.
تنبيه
قوله «الولد
للفراش» قيل : أي لمالك الفراش ، وهو الزوج أو المولى. أقول : قال في كتاب المصباح
المنير : قوله «الولد للفراش» أي الزوج ، فإن كل واحد من
الزوجين يسمى فراشا للآخر ، كما سمي كل واحد منهما لباسا للآخر ، انتهى. وعلى هذا
فلا يحتاج إلى تقدير مضاف كما في الأول. وقوله «وللعاهر ـ أي الزاني ـ الحجر»
يحتمل معنيين : أحدهما أن الحجر كناية عن الخيبة والحرمان بمعنى لا شيء له ، كما
يقال : له التراب. وثانيهما أنه كناية عن الرجم بالأحجار ، ورد بأن ليس كل زان يجب
رجمه.
قال السيد
الرضي صاحب كتاب نهج البلاغة في كتاب المجازات النبوية بعد ذكر الخبر : هذا مجاز
على أحد التأويلين وهو أن يكون المراد أن العاهر لا شيء له في الولد ، فعبر عن
ذلك بالحجر ، أي له من ذلك ما لاحظ فيه ولا انتفاع به ، كما لا ينتفع بالحجر في
أكبد الأحوال ـ إلى أن قال : ـ وأما التأويل الآخر الذي يخرج به الكلام عن حيز
المجاز إلى الحقيقة فهو أن يكون المراد أنه ليس
__________________
للعاهر إلا إقامة الحد عليه وهو الرجم بالأحجار فيكون الحجر هنا اسما للجنس
لا المعهود ، وهذا إذا كان العاهر محصنا ، فإن كان غير محصن فالمراد بالحجر هنا
على قول بعضهم الإعناف به والغلظ عليه بتوفية الحد الذي يستحقه من الجلد ، وفي هذا
القول تعسف ، والاستكراه ـ وإن كان داخلا في باب المجاز ـ إلا أن الغلظ على من
يقام عليه الحد إذا كان الحد جلدا لا رجما لا يعبر عنه بالحجر لأن ذلك بعيد عن سنن
الفصاحة ، والأولى الاعتماد على التأويل الأول.
الثالثة : إذا اختلف الزوجان في الدخول وعدمه فادعته المرأة
ليلحق به الولد وأنكره الزوج فلا ريب في أن القول قوله بيمينه لأن الأصل عدمه ولأن
الدخول من فعله فيقبل قوله فيه ، ولو اتفقا على الدخول لكن أنكر الزوج الولادة
وادعى أنها أتت به من خارج فالقول قوله بيمينه أيضا لأن الأصل عدم الولادة ، ولو
اعترف بالدخول والولادة وحصلت الولادة بعد مضي أقل مدة الحمل وقبل مضي أقصاه فإن
الولد يلحق به شرعا ويلزمه الإقرار به ، ولو أنكره والحال هذه لم ينتف عنه إلا
باللعان وهو موضع وفاق.
أما لو ادعى
الأب ولادته لدون ستة أشهر أو لأزيد من أقصى الحمل وادعت الزوجة ولادته بعد مضي
أقل مدته أو قبل مضي أقصاه ، فظاهر إطلاق بعض العبارات أن القول قول المرأة ، وأن
الحكم كما في سابق هذا الموضع والأنسب بقواعدهم والأربط بضوابطهم أن القول قول
المرأة فيما إذا ادعى الزوج ولادته بعد مضي أقصى الحمل ، لأن الأصل عدم مضي تلك
المدة ، والأصل عدم تقدم الوطء على الوقت الذي تعترف به المرأة.
وأما في صورة
ما إذا ادعى ولادته قبل مضي أقل مدة الحمل وادعت المرأة مضي تلك المدة ، فيشكل
القول بتقديم قولها في ذلك ، لأن الأصل عدم مضي
__________________
تلك المدة المتنازع فيها ، وعدم تقدم الوطء عن الوقت الذي يعترف به الزوج ،
فالأظهر هنا تقديم قول الزوج في ذلك ، ومن هنا حمل بعضهم إطلاق تقديم قول المرأة
في الاختلاف في المدة على المعنى الأول ليتجه الحكم بتقديم قول المرأة.
قال في شرح
النافع : ومتى قلنا بتقديم قول المرأة فالظاهر أن عليها اليمين كما صرح به الشهيد
وجماعة ، وربما ظهر من كلام بعض الأصحاب عدم يمينها وهو بعيد. انتهى ، وهو جيد.
الرابعة : لو زنى بامرأة فأحبلها ثم تزوجها ، وكذا لو زنى بأمة غيره ثم اشتراها لم
يجز له إلحاق الولد بنفسه ، لأن الولد إنما حصل بالزنا ، والنسب لا يثبت بالزنا ،
ومجرد الفراش لا يقتضي إلحاق ما علم انتفاؤه.
ويدل على ذلك
من الأخبار صريحا ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي ابن مهزيار عن محمد بن الحسن القمي
قال : «كتب بعض أصحابنا على يدي أبي جعفر عليهالسلام : جعلت فداك ما تقول في رجل فجر بامرأة فحبلت ثم إنه
تزوجها بعد الحمل فجاءت بولد وهو أشبه خلق الله به ، فكتب عليهالسلام بخطه وخاتمه : الولد لغية لا يورث».
وفي الصحيح عن
الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أيما رجل وقع على وليدة قوم حراما ثم اشتراها
فادعى ولدها فإنه لا يورث منه ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر».
الخامسة : إذا طلق الرجل زوجته فاعتدت وتزوجت ثم أتت بولد فإن
كان لدون ستة أشهر فهو للأول ولو كان لستة أشهر فصاعدا فهو للأخير ، وكذا لو أعتق
أمة فتزوجت بعد العدة ثم ولدت فإن الحكم في الولد كما ذكر من التفصيل.
والوجه في
الأول ظاهر لانتفاء الولد في هذه الحال عن الثاني بعدم مضي أقل مدة الحمل من وطيه
، مؤيدا ذلك بالأخبار الآتية في المقام ، ونحوه في الحكم بكونه للأول أيضا ما لو
أتت به قبل تجاوز أقصى مدة الحمل من وطء الأول ولم تتزوج لأنها فراشه حينئذ ولم
يشاركه فراش آخر ليشاركه في الولد.
وأما الثاني
وهو ما لو أتت به لستة أشهر فصاعدا فالحكم به للثاني ظاهر فيما لو كان الإتيان به
بعد مضي أقصى مدة الحمل من وطء الأول فإنه لا يمكن إلحاقه بالأول حينئذ ، وإنما
الكلام فيما لو أتت به قبل مضي الأقصى ، فإنه يمكن أن يكون من الأول لعدم تجاوز
أقصى مدة الحمل من وطئه ، وأن يكون من الثاني لمضي أقل مدة الحمل من وطئه ،
والمشهور ـ وبه قطع الشيخ في النهاية والمحقق وجماعة ـ أنه للثاني ، وقال الشيخ في
المبسوط : تعتبر القرعة لإمكان أن يكون من الأول ومن الثاني لأن الأم فراش لكل
منهما حال وطئه ، ولا ترجيح إلا بالقرعة.
ويدل على
المشهور جملة من الأخبار ، منها ما رواه الكليني في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا كان للرجل منكم الجارية يطؤها فيعتقها
فاعتدت ونكحت فإن وضعت لخمسة أشهر فإنه من مولاها الذي أعتقها ، وإن وضعت بعد ما
تزوجت لستة أشهر فإنه لزوجها الأخير».
__________________
وما رواه في
التهذيب عن زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل إذا طلق امرأته ثم نكحت وقد اعتدت ووضعت لخمسة
أشهر فهو للأول ، وإن كان ولدا ينقص من ستة أشهر فلأمه ولأبيه الأول ، وإن ولدت
لستة أشهر فهو للأخير».
وما رواه الصدوق
في الفقيه في الصحيح عن جميل بن دراج «في المرأة تتزوج في عدتها ،
قال : يفرق بينهما وتعتد عدة واحدة منهما ، فإن جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر فهو
للأخير ، وإن جاءت بولد في أقل من ستة أشهر فهو للأول».
ورواه الكليني
والشيخ عن جميل بن دراج عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهماالسلام «في المرأة تزوج» الحديث.
وما رواه الشيخ
عن أبي العباس البقباق قال : «إذا جاءت بولد لستة أشهر فهو للأخير ، وإن
كان أقل من ستة أشهر فهو للأول».
وقد اشتركت هذه
الروايات في الدلالة على أنه مع تعدد صاحب الفراش فإنه يحكم للأول إن نقص عن الستة
، وإن كانت ستة فصاعدا فهو للثاني ، ومنه يظهر بطلان القول بالقرعة ، وكذا الحكم
في الأمة لو باعها سيدها بعد الوطء فإنه متى ولدت عند المشتري لأقل من ستة تبين
أنه من البائع ، ويزيد هنا أنه يبطل البيع لظهور كونها أم ولد ، وأما لو ولدت لستة
فصاعدا فهو من المشتري والبيع صحيح.
__________________
وظاهر شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك عدم الوقوف على شيء من الروايات التي ذكرناها دليلا
للقول باللحوق بالثاني منهما متى كان لستة فصاعدا ، لأنه بعد نقل القولين
المذكورين إنما علل كلا منهما بالعلل الاعتبارية المتعارفة في كلامهم ثم قال :
واختار المصنف إلحاقه بالثاني ولعله أقوى.
المسألة
الثانية : في أولاد
الموطوءة بالملك وما يترتب عليها من الأحكام ، وذلك يقع في مواضع : منها أنه متى
وطأ الأمة فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا لزم الإقرار به لأنه لو نفاه لم يلاعن امه
بل يحكم بنفيه ظاهرا ، ولو اعترف به بعد ذلك الحق به ، وتفصيل الوجه في هذا
الإجمال أن يقال :
أما لزوم
الإقرار به إذا لم يعلم انتفاؤه عنه فيدل عليه بعد اتفاق الأصحاب على الحكم
المذكور ما رواه الكليني في الصحيح عن سعيد بن يسار قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن الجارية تكون للرجل يطيف بها وهي تخرج فتعلق ، قال :
يتهمها الرجل أو يتهما أهله؟ قلت : أما ظاهرة فلا ، قال : إذا لزمه الولد».
__________________
وعن سعيد بن
يسار قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل وقع على جارية له تذهب وتجيء وقد عزل عنها ولم
يكن منه إليها شيء ، ما تقول في الولد؟ قال ، أرى أن لا يباع هذا يا سعيد ، قال :
وسألت أبا الحسن عليهالسلام فقال : أيتهمها؟ فقلت : أما تهمة ظاهرة فلا ، قال :
فيتهمها أهلك؟ فقلت : أما شيء ظاهر فلا ، قال : فكيف تستطيع أن لا يلزمك الولد».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن عمر بن يزيد قال : «كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام : في هذا العصر رجل وقع على جاريته ثم شك في ولده ،
فكتب عليهالسلام : إن كان فيه مشابهة منه فهو ولده».
وظاهر هذه
الأخبار عدم لحوقه به مع التهمة ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وأما أنه لو
علم انتفاؤه عنه فإنه يجوز له نفيه ، وينبغي ظاهرا من غير أن يتوقف على لعان ، فهو
مجمع عليه بينهم ، وقد نقل الإجماع على ذلك فخر المحققين في شرح القواعد وشيخنا
الشهيد الثاني في الروضة والمسالك.
وأما سقوط
اللعان هنا فلأن مورده ـ كما دلت عليه الآية ـ الزوجان كما سيجيء بيانه إن شاء
الله تعالى في محله. قال سبحانه «وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ» الآية.
وأما انتفاؤه
ظاهرا بمجرد النفي ، فاستدل عليه زيادة على الإجماع المدعى بأن ذلك لا يعرف إلا من
قبله ، فلو لم ينتف بنفيه ـ والحال أنه لا ينتفي باللعان ـ لزم كون ولد الأمة أقوى
من ولد الحرة لأن ولد الحرة ينتفي باللعان ، وهذا لا يمكن نفيه أصلا على هذا
التقدير ، وذلك معلوم البطلان. انتهى ، وفيه ما لا يخفى.
وبالجملة فإني
لا أعرف لهم دليلا ظاهرا إلا الإجماع المدعى.
__________________
وأما أنه إذا
اعترف به بعد الإنكار الحق به ، فاستدل عليه بخبر «إقرار العقلاء
على أنفسهم جائز». ولأن الملاعن الذي ينتفي عنه الولد باللعان إذا أكذب نفسه الحق
به الولد ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى في باب اللعان ـ وإلحاقه به فيما إذا
اعترف به بعد النفي بطريق أولى.
تذنيبات
الأول : لا
يخفى أن ما ذكروه من هذه الأحكام في ولد الأمة يجيء مثله ـ كما صرح به الأصحاب ـ في
ولد المتعة من لزوم الاعتراف به إذا لم يعلم انتفاؤه ، وأنه إذا انفاه ينتفي ظاهرا
من غير لعان ، وإذا اعترف به بعد النفي الحق به.
قال السيد
السند في شرح النافع : ونقل جدي ـ رحمهالله عليه ـ في باب المتعة من الروضة والمسالك الاتفاق على
أن ولد المتعة ينتفي بغير لعان ، مع أنه قال في هذا الباب من الروضة : أن انتفاء
ولد المتعة بمجرد النفي هو المشهور ، وحكي عن المرتضى ـ رحمة الله عليه ـ قولا
بإلحاقها بالدائمة في توقف انتفاء ولدها على اللعان.
أقول : وقد
تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام في الفصل الثالث في المتعة ، وبينا ما في المسألة
من الاشكال ، وإن لم يتنبه إليه أحد من علمائنا الأبدال ، وأن الروايات التي
استندوا إليها في ذلك لا تخلو من الإجمال ، فليرجع إليه من أحب تحقيق الحال.
الثاني : لا خلاف بين الأصحاب في أنه متى أقر بالولد فإنه لا يقبل منه إنكاره بعد
ذلك ، وقد ادعى الإجماع على ذلك جملة منهم وعليه تدل الأخبار أيضا.
ومنها ما رواه الشيخ
في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال : وأيما رجل أقر بولد ثم انتفى منه فليس له ذلك ولا كرامة ، يلحق
به ولده
__________________
إذا كان من امرأته أو وليدته».
وما رواه في
الكافي والفقيه عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام «أن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : من أقر بولد ثم نفاه جلد الحد والزم الولد».
وما رواه في
التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهمالسلام قال : «إذا أقر الرجل بالولد ساعة لم ينتف منه أبدا».
وما رواه في
الكافي عن سعد بن سعد في الصحيح قال : «سألته ـ يعني أبا الحسن
الرضا عليهالسلام ـ عن رجل كان له ابن يدعيه فنفاه وأخرجه من الميراث
وأنا وصيه فكيف أصنع؟ فقال ـ يعني الرضا عليهالسلام ـ : لزمه الولد بإقراره بالمشهد لا يدفعه الوصي عن شيء
قد علمه».
وما رواه في
التهذيب عن أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل ادعى ولد امرأة لا يعرف له أب ثم انتفى من ذلك ،
قال : ليس له ذلك».
وما رواه في
التهذيب عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا أقر الرجل بولد ثم نفاه لزمه».
الثالث : إذا كان للجارية موال عديدة ووطأها كل منهم وولدت ،
فإما أن يكون وطء الموالي متفرقا بأن وطأها الأول ثم باعها من الثاني فوطأها ثم
باعها من الثالث فوطأها وهكذا ، وإن كان في طهر واحد ، أو يكون وطء الموالي
__________________
مجتمعا بحيث يكونون مشتركين في الجارية فوطأها كل منهم من حيث الملك فهنا
قسمان :
(أحدهما) أن
يكون الموالي متفرقة على الوجه الذي ذكرناه ، والذي ذكره الأصحاب أنه يحكم بالولد
للأخير الذي عنده الجارية إن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعدا من يوم وطئها ، وإلا
كان للذي قبله بالشرط المذكور ، وهكذا في كل واحد منهم ، وهي وإن كانت فراشا
للجميع أو كالفراش إلا أن الولد عندهم يلحق بالمالك بالفعل دون الزائد وإن أمكن
لحوقه به ، هذا إن حصل شرط الإلحاق وهو التولد على الوجه المذكور ، وإلا فالسابق ،
لأنه ناسخ لحكم الذي قبله مع إمكان اللحوق أيضا ، وهكذا.
والذي يدل على
ما ذكروه من تقديم الحاضر دون من سبق وإن أمكن اللحوق ما رواه المشايخ الثلاثة ـ رحمة الله عليهم ـ عن الصيقل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته يقول : وسئل عن رجل اشترى جارية ثم وقع
عليها قبل أن يستبرء رحمها ، قال : بئس ما صنع ، ويستغفر الله ولا يعود ، قلت :
فإنه باعها من آخر ولم يستبرء رحمها ثم باعها الثاني من رجل آخر فوقع عليها ولم
يستبرء رحمها فاستبان حملها عند الثالث ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : الولد للفراش وللعاهر الحجر».
ورواه الشيخ في
التهذيب بسند آخر عن الصيقل قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام وذكر مثله ، إلا أنه قال «قال أبو عبد الله عليهالسلام : الولد للذي عنده الجارية ، وليصبر لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر».
وقال عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي «وإن كانوا ثلاثة واقعوا جارية على
__________________
الانفراد بعد أن اشتراها الأول وواقعها ثم اشتراها الثاني وواقعها ثم اشترى
الثالث وواقعها ، كل ذلك في طهر واحد ، فأتت بولدها لكان الحق أن يلحق الولد بالذي
عنده الجارية ويصبر لقول رسول الله صلىاللهعليهوآله : الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، هذا مما لا يخرج في
النظر وليس فيه إلا التسليم ، وفي الخبرين دلالة على كون الأمة فراشا ، والأصحاب
قد استدلوا في ذلك بهذين الخبرين لضعف قول من منع كونها فراشا.
و (ثانيهما) أن
يطأها الموالي المشتركون فيها في طهر واحد ، ولا ريب أنهم قد فعلوا محرما فإنه لا
يجوز لأحد الشركاء الوطء بدون إذن الشركاء الأخر ، لكنه لا يكون بذلك زانيا بل
عاصيا يستحق التعزير ويلحق به الولد ، ويقوم عليه الأمة والولد يوم سقط حيا ، وقد
تقدم تحقيق الكلام في المسألة في كتاب البيع والكلام هنا فيما إذا اجتمعوا على الوطء فإنهم وإن
فعلوا محرما إلا أن الولد لاحق بهم لا بمعنى أنه يكون مشتركا بين الجميع بل يختص
بواحد منهم ، يجب الرجوع إلى القرعة في تعيينه كما دلت عليه الأخبار ، فكل من خرج
اسمه الحق به الولد واغرم حصص الباقين من قيمته وقيمة امه ، لأنها قد صارت أم ولد
بالنسبة إلى من الحق به ، وها أنا أسوق ما وقفت عليه من أخبار المسألة.
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا وقع الحر والعبد والمشرك بامرأة في طهر واحد
فادعوا الولد أقرع بينهم فكان الولد للذي يخرج سهمه».
وما رواه في
الكافي والفقيه عن عاصم بن حميد عن أبي بصير في الصحيح أو
__________________
الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليا عليهالسلام إلى اليمن فقال له حين قدم : حدثني بأعجب ما ورد عليك ،
قال : يا رسول الله أتاني قوم قد تبايعوا جارية فوطؤوها جميعا في طهر واحد فولدت
غلاما واحتجوا فيه كلهم يدعيه فأسهمت بينهم وجعلته للذي خرج سهمه ، وضمنته نصيبهم
، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله عزوجل إلا خرج سهم المحق».
ورواه الشيخ عن عاصم بن حميد عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر عليهالسلام مثله. وما رواه في التهذيب عن معاوية بن عمار في الصحيح
والصدوق عنه في الضعيف عن أبي عبد الله عليهالسلام «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت فادعوه جميعا أقرع الوالي
بينهم ، فمن قرع كان الولد ولده ، ويرد قيمة الولد على صاحب الجارية» الحديث.
وما رواه في
التهذيب عن سليمان بن خالد في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قضى علي عليهالسلام في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد. وذلك في
الجاهلية قبل أن يظهر الإسلام فأقرع بينهم وجعل الولد لمن قرع وجعل عليه ثلثي
الدية للآخرين ، فضحك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى بدت نواجده قال : وما أعلم فيها شيئا إلا ما قضى
علي عليهالسلام».
ونحو ذلك صحيحة
الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا وقع المسلم واليهودي والنصراني على المرأة
في طهر واحد أقرع بينهم ، وكان الولد للذي تصيبه القرعة».
__________________
قال في المسالك
ـ بعد أن ذكر صحيحة أبي بصير المشتملة على بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليا عليهالسلام إلى اليمن ولم ينقل سواها ـ ما صورته : والأصحاب حكموا
بمضمونها وحملوا قوله «وضمنته نصيبهم» على النصيب من الولد والام معا كما لو كان
الواطئ واحدا منهم ابتداء ، فإنه يلحق به ويغرم نصيبهم منهما كذلك ، لكن يشكل
الحكم بضمانه لهم نصيب الولد لادعاء كل منهم أنه ولده وأنه لا يلحق بغيره ، ولازم
ذلك أنه لا قيمة له على غيره من الشركاء ، وهذا بخلاف ما لو كان الواطئ واحدا ،
فإن الولد محكوم بلحوقه به ، ولما كان من نماء الأمة المشتركة جمع بين الحقين
بإغرامه قيمة الولد لهم وإلحاقه به ، بخلاف ما هنا ، والرواية ليست صريحة في ذلك ،
لأن قوله «وضمنته نصيبهم» يجوز إرادة النصيب من الأم ، لأنه هو النصيب الواضح لهم
باتفاق الجميع بخلاف الولد ، ويمكن أن يكون الوجه في إغرامه نصيبهم من الولد ، أن
ذلك ثابت عليه بزعمه أنه ولده ، ودعواهم لم يثبت شرعا ، فيؤاخذ المدعي بإقراره
بالنسبة إلى حقهم ، والنصيب في الرواية يمكن شموله لهما معا من حيث إن الولد نماء
أمتهم ، فلكل منهم فيه نصيب سواء الحق به أم لا ، ولهذا يغرم من لحق به نصيب
الباقين في موضع الوفاق ، وعلى كل حال فالعمل بما ذكره الأصحاب متعين ولا يسمع
الشك فيه مع ورود النص به ظاهرا وإن احتمل غيره ، انتهى.
أقول : لا يخفى
أن الرواية المذكورة وإن أوهمت ما ذكره من حيث عدم الصراحة في كون ما يغرمه نصيبهم
من الولد ، إلا أن صحيحة معاوية بن عمار صريحة في ذلك لقوله «فمن قرع كان الولد
ولده ، وترد قيمة الولد على صاحب الجارية».
وحاصله : أن من
غلب بالقرعة وخرج اسمه يجب عليه إعطاء شريكه في الجارية حصته من قيمة الولد ،
فقوله «قيمة الولد» أي حصته من قيمة الولد ،
__________________
وهو أيضا ظاهر صحيحة سليمان بن خالد وإن عبر عن القيمة بالدية ، فإنه بعد
أن حكم بأن الولد لمن قرع أوجب عليه ثلثي القيمة أي قيمة الولد ، لأن الشركاء ثلاثة
كما هو مذكور في صدر الخبر.
وبالجملة فإن
ظاهر هذه الروايات المشتملة على القيمة إنما أريد بها قيمة الولد ، لأن سياقها
إنما هو في حكم الأولاد لا قيمة الجارية ، وإن كان ذلك أيضا واجبا عليه إلا أنه لم
يتعرض له في هذه الأخبار ، وإنما يستفاد من أخبار كما تقدم في كتاب البيع ، وعلى
هذا فيمكن أن يقال ـ في دفع ما ذكره من الاستشكال ـ أنه لما دلت الأخبار بعد إلحاق
الولد به بالقرعة وصيرورته هو الأب الحقيقي بذلك صار في حكم ما لو كان الواطئ لها
واحدا من الشركاء خاصة ، ويترتب عليه هنا ما ذكر في تلك المسألة ، ودعوى كل من
الشركاء ـ أنه ولده بزعمه بعد خروج القرعة لواحد معين ـ في حكم العدم ، فإن القرعة
قد عينت الأب الحقيقي.
وقال في كتاب
الفقه الرضوي ولو أن رجلين اشتريا جارية وواقعاها جميعا فأتت بولد
لكان الحكم فيه أن يقرع بينهما ، فمن أصابت القرعة الحق به الولد ، ويغرم نصف قيمة
الجارية لصاحبه ، وعلى كل واحد منهما نصف الحد. انتهى ، وهذا الخبر قد تضمن قيمة
الجارية خاصة.
الرابع : أنه
لو وطأها المولى ووطأها أجنبي بالزنا فولدت فإنه لا خلاف في إلحاقه بالمولى ،
لأخبار الفراش المتظافرة وصحيحة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد ،
لمن تكون الولد؟ قال : للذي تكون عنده لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر». وموثقة
__________________
سماعة قال : «سألته عن رجل له جارية فوثب عليها ابن له ففجر
بها ، قال : قد كان رجل عنده جارية وله زوجة فأمرت ولدها أن يثب على جارية أبيه
ففجر بها ، فسأل أبو عبد الله عليهالسلام عن ذلك فقال : لا يحرم ذلك على أبيه ، إلا أنه لا ينبغي
له أن يأتيها حتى يستبرئها للولد ، فإن وقع فيما بينهما ولد فالولد للأب إذا كانا
جامعاها في يوم واحد وشهر واحد».
وإنما الاشكال
والخلاف فيما لو حصل في الولد أمارة تغلب على الظن أن الولد ليس من المولى ، قال
الشيخ في النهاية : إذا حصل في الولد أمارة يغلب معها الظن أنه ليس من المولى لم
يجز له إلحاقه به ولا نفيه عنه ، وينبغي أن يوصي له بشيء ولا يورثه ميراث الأولاد
، وتبعه على ذلك جملة من الأصحاب منهم المحقق في النافع ، وفي الشرائع نسبه إلى
قيل ، وتردد فيه ، والظاهر أنه المشهور.
ويدل عليه من
الأخبار ما رواه في الكافي عن محمد بن عجلان قال : «إن رجلا من الأنصار أتى أبا
جعفر عليهالسلام فقال له : إني قد ابتليت بأمر عظيم ، إني وقعت على
جاريتي ثم خرجت في بعض حوائجي فانصرفت من الطريق ، فأصبت غلامي بين رجلي الجارية
فاعتزلتها فحبلت ثم وضعت جارية لعدة تسعة أشهر ، فقال له أبو جعفر عليهالسلام : احبس الجارية لا تبعها وأنفق عليها حتى تموت أو يجعل
الله لها مخرجا ، فإن حدث بك حدث فأوص بأن ينفق عليها من مالك حتى يجعل الله لها
مخرجا» الحديث.
ورواه الكليني
والشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن
__________________
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن رجلا من الأنصار أتى أبي ـ الحديث. كما تقدم
إلى قوله ـ حتى يجعل الله لها مخرجا» وفيه أيضا «فقال له أبي عليهالسلام : لا ينبغي لك أن تقربها ولا تنفيها» عوض قوله «فقال له
أبو جعفر عليهالسلام» إلخ.
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن حريز عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل كان يطأ جارية له وأنه كان يبعثها في حوائجه وأنها حبلت وأنه بلغه
عنها فساد ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : إذا ولدت أمسك الولد ولا يبيعه ويجعل له نصيبا في
داره ، قال : فقيل له : رجل يطأ جارية له وأنه لم يكن يبعثها في حوائجه وأنه
اتهمها وحبلت ، فقال : إذا هي ولدت أمسك الولد ولا يبيعه ويجعل له نصيبا من داره
وماله ، وليس هذه مثل تلك».
وما رواه المشايخ
الثلاثة عن عبد الحميد بن إسماعيل قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل كانت له جارية يطؤها وهي تخرج في حوائجه فحبلت
فخشي أن لا يكون منه ، كيف يصنع؟ أيبيع الجارية والولد؟ قال : يبيع الجارية ولا
يبيع الولد ولا يورثه من ميراثه شيئا».
وأنت خبير بأنه
ليس في شيء من هذه الأخبار على تعددها دلالة على ما ذكره الشيخ من اشتراط حصول
أمارة يغلب معها الظن بأنه ليس من المولى في ترتب ما ذكره من الأحكام التي جعلها
حالة وسطى بين الولد والأجنبي ، وغاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هو حصول الزنا
منها مع وطء المولى لها أو التهمة لها بالزنا ، وأن هذه الأحكام مترتبة على ذلك ،
وفيه ما لا يخفى من الاشكال لما عرفت من الأخبار المتقدمة وأخبار القاعدة المشهورة
من أن «الولد للفراش
__________________
وللعاهر الحجر» ومحل البحث أحد أفراد القاعدة ومقتضى جميع ذلك حرية الولد وإلحاقه بالأب.
قال في المسالك
: القول المذكور للشيخ وأتباعه وأكثر الأصحاب استنادا إلى روايات كثيرة دالة
بظاهرها على ذلك لكنها مختلفة الدلالة والاسناد ، والواضح السند منها ليس بصريح في
المطلوب ، والدال عليه الآخر ضعيف السند ، ولكثرتها أعرضنا عن نقلها مضافا إلى
مخالفتها للقواعد الشرعية ، والأخبار الصحيحة المتفق عليها من أن «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وأنه لا عبرة في
الولد بمشابهة الأب أو غيره ، ولأن الولد المذكور إن كان لاحقا به فهو حر وارث ،
وإلا فهو رق ، فجعله طبقة ثالثا وقسما آخر ليس بجيد ، ومقتضى النصوص أن الولد يملك
الوصية ولا يملكه المولى ولا الوارث ، وهي من خواص الحر ، لكن عدم إلحاقه به ينافي
ذلك ، فالأقوى الاعراض عن مثل هذه الروايات ، والأخذ بالمجمع عليه من أن الولد
للفراش حيث تجتمع شرائط إلحاقه به ، انتهى.
أقول : ومن
أخبار المسألة ما رواه في التهذيب عن جعفر بن محمد بن إسماعيل ابن الخطاب «أنه كتب إليه
يسأله عن ابن عم له كانت له جارية تخدمه وكان يطؤها ، فدخل يوما إلى منزله فأصاب
معها رجلا تحدثه فاستراب بها فهدد الجارية فأقرت أن الرجل فجر بها ثم إنها حبلت
فأتت بولد ، فكتب عليهالسلام : إن كان الولد لك أو فيه مشابهة منك فلا تبعهما فإن
ذلك لا يحل لك ، وإن كان الابن ليس منك ولا فيه مشابهة منك فبعه وبع أمه».
__________________
وعن يعقوب بن
يزيد في الصحيح قال : «كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام في هذا العصر رجل وقع على جاريته ، ثم شك في ولده ،
فكتب عليهالسلام : إن كان فيه مشابهة منه فهو ولده».
وأنت خبير بما
عليه أخبار هذه المسألة من الاختلاف والاضطراب بما لا يقبل الإصلاح ويزيل الارتياب
، فجملة منها وهو أكثرها على الإلحاق بصاحب الفراش مع العلم بالزنا فضلا عن التهمة
به ، أعم من أن يظهر في الولد مشابهته له أم المشابهة للزاني أم لا ، وجملة وافرة
ظاهرة في أنه مع التهمة فضلا عن وقوع الزنا بالفعل يجعل للولد تلك الحالة الوسطى
كما هو صريح أكثر هذه الأخبار الأخيرة ، ونحوها مفهوم الأخبار المتقدمة في صدر
المسألة كما أشرنا إليه ثمة ، وهذان الخبران قد تضمنا أنه مع تحقق الزنا يرجع إلى
مشابهة الولد لمولى الجارية وعدمها.
مع أن هنا جملة
من الأخبار دالة بصريحها على أنه قد يخرج الولد على غاية من البعد عن الأب في
اللون ونحوه من الأمور التي جعلوها منشأ للإلحاق به ، وأنه ابنه حقيقة ، وإن كنا
لا نهتدي لأسباب عدم المشابهة والاختلاف التام بينهما في الخلق والخلق مثل ما رواه
في الكافي عن عبد الله بن سنان عن بعض أصحابه عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «أتى رجل من الأنصار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : هذه ابنة عمي وامرأتي لا أعلم إلا خيرا وقد
أتتني بولد شديد السواد منتشر المنخرين جعد قطط ، أفطس الأنف ، لا أعرف شبهه في
أخوالي ولا في أجدادي ، فقال لامرأته : ما تقولين؟ قالت : لا والذي بعثك بالحق
نبيا ما أقعدت مقعده مني منذ ملكني أحدا غيره ، قال : فنكس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم برأسه مليا ثم رفع بصره إلى السماء ثم أقبل على الرجل
فقال : يا هذا إنه ليس من أحد إلا بينه وبين آدم تسعة وتسعون عرقا كلها تضرب في
النسب ، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروق
__________________
تسأل الله لشبه لها ، فهذا من تلك العروق التي لم يدركها أجدادك ولا أجداد
أجدادك ، خذ إليك ابنك ، فقالت المرأة : فرجت عني يا رسول الله».
وما رواه في
الكافي عن ابن مسكان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن رجلا أتى بامرأته إلى عمر فقال : إن امرأتي
هذه سوداء وأنا أسود ، وإنها ولدت غلاما أبيض ، فقال لمن بحضرته : ما ترون؟ فقالوا
: نرى أن ترجمها ، فإنها سوداء وزوجها أسود وولدها أبيض ، قال : فجاء أمير المؤمنين
عليهالسلام وقد وجه بها لترجم فقال : ما حالكما؟ فحدثاه ، فقال
للأسود : أتتهم امرأتك؟ فقال : لا ، قال : فأتيتها وهي طامث؟ قال : قد قالت لي في
ليلة من الليالي : إني طامث ، فظننت أنها تتقي البرد فوقعت عليها ، فقال للمرأة :
هل أتاك وأنت طامث؟ قالت : نعم سله قد حرجت عليه وأبيت ، قال : فانطلقا فإنه
ابنكما وإنما غلب الدم النطفة فابيض ، ولو قد تحرك اسود فلما أيفع اسود». .
وروى الصدوق في
الفقيه مرسلا قال : «قال النبي صلىاللهعليهوآله : من نعم الله عزوجل على الرجل أن يشبهه ولده».
قال : «وقال
الصادق عليهالسلام : إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقا جمع كل
صورة بينه وبين آدم ، ثم خلقه على صورة إحداهن ، فلا يقولن أحد لولده هذا لا
يشبهني ولا يشبه شيئا من آبائي».
أقول : ويمكن
تفسير خبر العروق بهذا الخبر ، ومقتضى ذينك الخبرين أنه لو كان الحاكم غير المعصومين
عليهمالسلام هو نفي الولد في هاتين الصورتين عن أبيه عملا بما دلا
عليه ، وهذان الخبران كما ترى على خلافهما ، فكيف يصح أن يجعل ما اشتمل عليه قاعدة
شرعية ، والحال كما عرفت.
__________________
ويمكن الجمع
بين الأخبار بحمل خبر جعفر بن محمد بن إسماعيل وصحيحة يعقوب بن يزيد على مورديهما
، وأنها قضية في واقعة فلا تتعدى إلى غيرها.
وكيف كان فالمسألة
لا تخلو من شوب الاشكال وإن كان الأقرب هو اللحوق بمن عنده الجارية ، وظاهر السيد
السند في شرح النافع الميل إلى القول المشهور لصحة بعض أخباره حيث قال : وعذر
المصنف في العمل بهذه الروايات واضح لصحة بعضها واعتضادها بالبعض الآخر وعمل
الأصحاب بها ، ومع ذلك فالمسألة بمحل تردد ، انتهى.
وفيه أن هذه
الروايات سيما ما اشتمل عليه أكثرها من التهمة لا يبلغ قوة
المعارضة لما دلت عليه تلك الأخبار لكثرتها وصراحتها في اللحوق بصاحب الفراش ، ولا
يحضرني الآن مذهب العامة في هذه المسألة ، فينبغي أن يراجع.
المسألة
الثالثة : في وطء الشبهة ، قال في المسالك : لا خلاف في أن وطء
__________________
الشبهة كالصحيح في لحوق أحكام النسب ، انتهى.
أقول : وقد
تقدم الكلام في تعريفه وبيان الخلاف في نشر حرمة المصاهرة به في الفصل الثاني في
أسباب التحريم ، وأما لحوق ولد الشبهة بالواطئ كما في النكاح الصحيح فيدل عليه
مضافا إلى الإجماع المذكور جملة من الأخبار.
ومنها صحيحة
جميل بن دراج «في المرأة تزوج في عدتها : قال : يفرق بينهما وتعتد عدة واحدة منهما ، فإن
جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر فهو للأخير ، وإن جاءت بولد في أقل من ستة أشهر فهو
للأول» هكذا في الفقيه. ورواه الكليني والشيخ في الضعيف عن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهماالسلام في المرأة. إلخ.
وما رواه في
الكافي عن زرارة في الموثق قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام ـ إلى أن قال : ـ قلت : فإن تزوج امرأة ثم تزوج أمها
وهو لا يعلم أنها أمها؟ قال : قد وضع الله عنه بجهالة لذلك ، ثم قال : إذا علم أنها
أمها فلا يقربها ، ولا يقرب البنت حتى تنقضي عدة الام منه ، فإذا انقضت عدة الام
حل له نكاح البنت ، قلت : فإن جاءت الام بولد؟ قال : هو ولده وأخو امرأته».
وقد تقدم
الكلام في أنه لو وطأ أمة الغير بشبهة فولدت الحق الولد بالحر
وعليه فكه بالقيمة لمولى الجارية على خلاف في ذلك.
ومن أفراد نكاح
الشبهة ما لو تزوج امرأة بظن أنها لا زوج لها بموت أو
__________________
طلاق ، فظهر أنه لم يمت أو لم يطلق فإنها ترد على الأول بعد الاعتداد من
الثاني ، وما أتت من الأولاد بعد تزويج الثاني يلحق بالثاني بالشرائط المتقدمة ،
هذا إذا كان التزويج بحكم الحاكم أو شهادة الشاهدين ، لأن وطء الثاني يكون شبهة
مسوغة للوطء وموجبة لإلحاق الولد ، وثبوت الاعتداد بعد ظهور الفساد ، وأما لو كان
التزويج وقع بالعمل بخبر من لا يثبت به الحكم شرعا كالواحد فإن كان لظن جواز
التعويل عليه شرعا جهلا منهما بالحكم الشرعي فإنه شبهة أيضا ، وإلا كان ذلك زنا
فلا مهر ولا يلحق الولد بالواطئ ولا عدة عليها منه إلا على القول بوجوبها في الزنا
مطلقا ، والظاهر أنه لا خلاف في هذه الأحكام ، وعليها يدل أيضا جملة من الأخبار.
ومنها ما رواه المشايخ
الثلاثة عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا نعي الرجل إلى أهله أو خبروها أنه طلقها
فاعتدت ثم تزوجت فجاء زوجها الأول بعد فإن الأول أحق بها من هذا الآخر دخل بها
الأول أو لم يدخل ، ولها من الأخير المهر بما استحل من فرجها».
وزاد في الكافي
والتهذيب «وليس للآخر أن يتزوجها أبدا». وروى هذا المضمون بعدة طرق في كتب الأخبار
المشهورة ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة مستوفى في الفصل الثاني.
المقام
الثاني : في سنن
الولادة وما يستحب فعله بالمولود.
قالوا :
والواجب استبداد النساء بالمرأة عند الولادة دون الرجال إلا مع عدم النساء ، وأما
الزوج فلا بأس به وإن وجد النساء ، وعلل وجوب استبداد النساء بها بأن مثل ذلك يوجب
سماع صوتها غالبا والاطلاع على ما يحرم عليهم.
وفيه ما تقدم
في غير موضع من عدم ثبوت تحريم سماع صوت الأجنبية
__________________
بل قيام الدليل على جوازه ، نعم التعليل الثاني لا بأس به إن لزم ذلك ،
والظاهر. جواز ذلك للرجال المحارم إلا أن يستلزم المباشرة لما لا يجوز لهم المباشرة
ونظر ما لا يجوز نظره ، ومع الضرورة لتعذر النساء بالكلية يسقط البحث لأن الضرورات
تبيح المحظورات كما يستفاد من جملة من الروايات ، وكما صرحوا به من إباحة ذلك
للطبيب في وقت الحاجة ولو إلى العورة ، وهذا الوجوب في جميع المراتب كفائي يجب على
كل من بلغه حالها من النساء إلى أن يحصل من يقوم به فيسقط عن الباقين ، وهكذا في
الرجال حيث تلجئ الضرورة إليهم.
وأما السنن
التي أشرنا إليها (فمنها) إخراج من في البيت من النساء وقت الولادة ، وهو حكم غريب
لم أقف في كلام الأصحاب ، وقد رواه في الكافي والفقيه عن جابر عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «كان علي بن الحسين عليهالسلام إذا حضرت ولادة المرأة قال : أخرجوا من في البيت من
النساء لا يكون أول ناظر إلى عورة».
قال في الوافي : يعني لا يكون أول من ينظر إليه امرأة ويقع نظرها إلى
عورته منه ، فإنهن ينظرن أولا إلى عورته ليعلم أنه ذكر أو أنثى ، بل ينبغي أن يقع
عليه أولا نظر رجل وأن ينظر منه إلى غير عورة.
(ومنها) الأذان
في اذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى ، روى في الكافي عن أبي يحيى الرازي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا ولد لكم المولود أي شيء تصنعون به؟ قلت : لا
أدري ما نصنع به ، قال : فخذ عدسة من جاوشير فذيفه بماء ثم قطر في أنفه في المنخر
الأيمن قطرتين وفي الأيسر قطرة واحدة ، وأذن في اذنه
__________________
اليمنى وأقم في اليسرى تفعل به ذلك قبل قطع سرته ، فإنه لا يصرع أبدا ولا
تصيبه أم الصبيان». قوله «فخذ عدسة» أي مقدار عدسة.
وعن حفص
الكناسي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «مروا القابلة أو بعض من يليه أن تقيم الصلاة في
اذنه اليمنى».
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من ولد له مولود فليؤذن في اذنه اليمنى بأذان الصلاة
وليقم في اليسرى فإنه عصمة من الشيطان الرجيم».
وروى في الفقيه
مرسلا قال : «قال الصادق عليهالسلام : المولود إذا ولد يؤذن في اذنه اليمنى ويقام في اليسرى».
والظاهر حمل رواية حفص على الرخصة.
(ومنها) تحنيكه
بماء الفرات وتربة الحسين عليهالسلام قالوا : فإن لم يوجد ماء الفرات فبماء قراح ، ولو لم
يوجد إلا ماء ملح جعل فيه شيء من التمر أو العسل.
والذي وقفت
عليه من الأخبار هنا ما رواه في الكافي عن يونس عن بعض أصحابه عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «يحنك المولود بماء الفرات ويقام في اذنه».
قال : وفي
رواية أخرى «حنكوا أولادكم بماء الفرات وتربة الحسين عليهالسلام وإن لم يكن فبماء السماء».
__________________
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : حنكوا أولادكم بالتمر ، هكذا فعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالحسن والحسين عليهماالسلام».
وروى في كتاب
عيون أخبار الرضا بسنده فيه عن أم الرضا عليهالسلام «تقول في حديث : لما وضعت ابني عليا دخل على أبوه موسى بن جعفر عليهالسلام فناولته إياه في خرقة بيضاء فأذن في اذنه اليمنى وأقام
في اليسرى ودعا بماء الفرات فحنكه به ثم رده إلى فقال : خذيه فإنه بقية الله في
أرضه».
وفي كتاب الفقه
الرضوي كما سيأتي نقل كلامه التحنيك بالعسل وهو مستند الأصحاب
فيما قدمنا نقله عنهم. لكن الظاهر أنهم أخذوا ذلك من كلام الصدوقين اللذين من
عادتهما الإفتاء بعبارات هذا الكتاب كما عرفته.
وروى في الفقيه
عن الرضا عليهالسلام عن آبائه عن علي بن الحسين عليهمالسلام عن أسماء بنت عميس عن فاطمة عليهاالسلام «قالت : لما حملت بالحسين عليهالسلام وولدته جاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا أسماء هلمي ابني ، فدفعته إليه في خرقة صفراء
فرمى بها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأذن في اذنه اليمنى وأقام في اذنه اليسرى».
أقول : التحنيك
إدخال ذلك إلى حنكه وهو أعلى داخل الفم ، وأنت خبير بأن أكثر الأخبار اشتمل على
استحباب الأذان في الاذن اليمنى والإقامة في الاذن اليسرى وبعضها اشتمل على
الإقامة في الاذن اليمنى خاصة ، والظاهر أنه محمول على الرخصة ، وإن كان الأفضل
الأول.
ثم إن المستفاد
من هذه الأخبار هو استحباب التحنيك بماء الفرات ، وهو
__________________
النهر المشهور ، ومع عدمه فبماء المطر ، والأصحاب ذكروا أنه مع عدمه فبماء
عذب ، ومع تعذره بأن كان مالحا يوضع فيه التمر أو العسل ، ولم أقف فيه على نص ،
والذي يقتضيه الجمع بين هذه الأخبار أنه يحنك بماء الفرات وإلا فبماء المطر يوضع
فيه شيء من التربة وشيء من حلاوة التمر أو العسل فيحصل العمل بالجميع.
(ومنها) غسل
المولود ، وقد تقدم الكلام فيه في كتاب الطهارة .
(ومنها) أن
يسميه بأحد الأسماء المستحسنة وأفضلها ما يتضمن العبودية لله ويليها في الفضل
أسماء الأنبياء والأئمة ، كذا ذكره جملة من الأصحاب ، منهم المحقق والعلامة.
أقول : ما ذكره
من الأفضل ما تضمن العبودية لله ويليها في الفضل أسماء الأنبياء والأئمة عليهمالسلام لم نقف عليه فيما وصل إلينا من نصوص المسألة.
ومنها ما رواه في
الكافي عن ثعلبة بن ميمون عن رجل قد سماه عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «أصدق الأسماء ما سمي بالعبودية وأفضلها أسماء
الأنبياء».
وعن موسى بن
بكر عن أبي الحسن الأول عليهالسلام قال : «أول ما يبر الرجل ولده أن يسميه باسم حسن ،
فليحسن أحدكم اسم ولده».
وعن عبد الله
بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : استحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة ، قم
يا فلان بن فلان إلى نورك ، قم يا فلان بن فلان لا نور لك».
__________________
وعن أحمد عن بعض أصحابنا عمن ذكره عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يولد لنا ولد إلا سميناه محمدا ، فإذا مضى
سبعة أيام فإن شئنا غيرنا وإن شئنا تركنا».
وعن فلان بن
حميد «أنه سأل أبا
عبد الله عليهالسلام وشاوره في اسم ولده ، فقال : سمه بأسماء من العبودية ،
فقال : أي الأسماء هو؟ فقال : عبد الرحمن».
وعن عاصم
الكوزي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : من ولد له أربعة أولاد لم يسم أحدهم باسمي فقد
جفاني».
وعن سليمان بن
جعفر الجعفري قال : «سمعت أبا الحسن عليهالسلام يقول : لا يدخل الفقر بيتا فيه اسم محمد أو أحمد أو علي
أو الحسن أو الحسين أو جعفر أو طالب أو عبد الله أو فاطمة من النساء».
ويستفاد من بعض
الأخبار استحباب التسمية قبل الولادة وإلا فبعد الولادة حتى السقط ، فروى في
الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام عن أبيه عن جده عليهمالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : سموا أولادكم قبل أن يولدوا ، فإن لم تدروا أذكر أم
أنثى فسموهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى ، فإن أسقاطكم إذا لقوكم في القيامة
ولم تسموهم يقول السقط لأبيه ألا سميتني وقد سمى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم محسنا قبل أن يولد».
وروى الحميري
في كتاب قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري
__________________
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : سموا أسقاطكم فإن الناس إذا دعوا يوم القيامة
بأسمائهم تعلق الأسقاط بآبائهم فيقولون لم لم تسمونا؟ فقالوا : يا رسول الله هذا
من عرفنا أنه ذكر سميناه باسم الذكور ومن عرفناه أنها أنثى سميناها باسم الإناث ، أرأيت
من لم يستبن خلقه كيف نسميه؟ قال : بالأسماء المشتركة مثل زائدة وطلحة وعنبسة
وحمزة.
أقول : الظاهر
أن المراد منه ما اقتران بتاء التأنيث من أسماء الرجال فإنه صالح لكل منهما ،
والمستفاد من أكثر الأخبار كما سيأتي إن شاء الله تعالى في أخبار سنن اليوم السابع
اختصاص استحباب التسمية باليوم السابع ، وأكثر ما ذكرنا من الأخبار هنا مطلق لا
منافاة فيه.
وإنما الإشكال
في الخبرين الأخيرين ، والظاهر عندي في الجمع بين هذه الأخبار هو حمل استحباب
التسمية قبل الولادة على التسمية بمحمد وأنه يستمر على هذه التسمية إلى اليوم
السابع ، فإن شاء استمر وإن شاء غير كما دل عليه الخبر المرسل المتقدم.
وأما السقط
فإنه بعد ولادته سقطا يسميه بعد الولادة للعلة المذكورة في الخبر ، ويكون هذا
مستثنى من أخبار المسألة ، ثم في اليوم السابع يستحب له التسمية بما شاء كما دلت
عليه تلك الأخبار إن أراد التغيير عن اسم محمد الذي قلنا أنه يستحب تسميته به قبل الولادة.
(ومنها) تكنيته
، إلا أن منها ما يستحب ومنها ما يكره ، والكنية ـ بضم الكاف ـ من الأعلام ما صدر
بأب أو أم ، ومن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه
في الكافي عن معمر بن خثيم عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث قال فيه : قال : «إنا لنكني أولادنا في صغرهم مخالفة
النبز أن يلحق بهم».
__________________
أقول : فيه
إشارة إلى قوله تعالى «وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ» والمراد بالنبز اللقب السوء.
وروى في الكافي
عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من السنة والبر أن يكنى الرجل باسم ابنه».
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام «أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن أربع كنى عن أبي عيسى وعن أبي الحكم وعن أبي
مالك وعن أبي القاسم إذا كان الاسم محمدا».
وعن زرارة قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : إن رجلا كان يعشي علي ابن الحسين عليهالسلام كان يكنى أبا مرة ، وكان إذا استأذن عليه يقول : أبو
مرة بالباب ، فقال له علي بن الحسين عليهماالسلام : يا هذا إذا جئت بابنا فلا تقولن أبو مرة.
(ومنها) أن لا
يسمى ببعض الأسماء كما رواه في الكافي عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دعا بصحيفة حين حضره الموت يريد أن ينهى عن أسماء يسمى
بها فقبض ولم يسمها ، منها : الحكم وحكيم وخالد ومالك وذكر أنها ستة أو سبعة مما
لا يجوز أن يسمى بها».
وعن محمد بن
مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إن أبغض الأسماء إلى الله حارث ومالك وخالد».
__________________
وعن صفوان رفعه عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام قال : «هذا محمد قد أذن لهم في التسمية به ، فمن أذن
لهم في «ياسين» يعني التسمية به ، وهو اسم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم».
وروى الصدوق في
الخصال عن جابر عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ألا إن خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وحارثة
وهمام ، وشر الأسماء ضرار ومرة وحرب وظالم». قال في المسالك ـ بعد أن ذكر المصنف أن من جملة الأسماء المنهي عن
التسمية به ضرارا ـ ما صورته : وليس في الأخبار تصريح بالنهي عن ضرار بخصوصه ،
ولكنه من الأسماء المنكرة ، وهو غفلة منه عن الاطلاع على هذا الخبر حيث إنه ليس في
الكتب الأربعة.
وروى الكشي في
كتاب الرجال عن علي بن عنبسة قال : «قال أبو عبد الله لعبد الله بن
أعين : كيف سميت ابنك ضريسا؟ قال : كيف سماك أبوك جعفرا؟ قال :
إن جعفرا نهر
في الجنة ، وضريس اسم شيطان».
(ومنها) سنن
اليوم السابع من ولادته ، وهي ما رواه في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «في المولود قال : يسمى في اليوم السابع ويعق عنه ويحلق رأسه ويتصدق بوزن
شعره فضة ، ويبعث إلى القابلة بالرجل مع الورك ويطعم منه ويتصدق».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا ولد لك غلام أو جارية فعق
__________________
عنه يوم السابع شاة أو جزورا وكل منهما وأطعم وسم واحلق رأسه يوم السابع
وتصدق بوزن شعره ذهبا أو فضة وأعط القابلة طائقا من ذلك ، فأي ذلك فعلت فقد أجزأك».
أقول : الظاهر
أن المراد بقوله «أي ذلك» بالنسبة إلى ما خير فيه من الشاة أو الجزور والفضة أو
الذهب.
وعن أبي الصباح
الكناني قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الصبي المولود متى يذبح عنه ويحلق رأسه ويتصدق بوزن
شعره ويسمى؟ قال : كل ذلك في يوم السابع».
وعن عمار بن
موسى في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن العقيقة عن المولود وكيف هي؟ قال : إذا
أتى للمولود سبعة أيام سمي بالاسم الذي سماه الله ، ثم يحلق رأسه ويتصدق بوزن شعره
ذهبا أو فضة ، ويذبح عنه كبش ، وإن لم يوجد كبش أجزأه ما يجزي في الأضحية ، وإلا
فحمل أعظم ما يكون من حملان السنة ، ويعطي القابلة ربعها ، وإن لم تكن قابلة فلأمه
، تعطيها من شاءت وتطعم منه عشرة من المسلمين ، فإن زادوا فهو أفضل وتأكل منه ،
والعقيقة لازمة إن كان غنيا أو فقيرا إذا أيسر فعل ، وإن لم يعق عنه حتى ضحي عنه
فقد أجزأته الأضحية ، وقال : إن كانت القابلة يهودية لا تأكل من ذبيحة المسلمين
أعطيت قيمة ربع الكبش». ، وفي الفقيه «فإن زاد فهو أفضل» وليس فيه «وتأكل منه» وفي
نسخ التهذيب «ولا تأكل منه».
وقال في كتاب
الفقيه الرضوي «فإذا ولد فأذن في اذنه الأيمن وأقم
__________________
في اذنه الأيسر وحنكه بماء الفرات إن قدرت عليه أو بالعسل ساعة يولد ، وسمه
بأحسن الاسم ، وكنه بأحسن الكنى ، ولا يكنى بأبي عيسى ولا بأبي الحكم ولا بأبي
الحارث ولا بأبي القاسم إذا كان الاسم محمدا ، وسمه اليوم السابع ، واختنه ، واثقب
اذنه واحلق رأسه ، وزن شعره بعد ما تحلقه بفضة أو بالذهب وتصدق بها وعق عنه كل ذلك
يوم السابع». ثم ذكر أحكام العقيقة كما سننقله كملا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وظاهر بعض
الأخبار أنه لو لم يحلق في اليوم السابع سقط الاستحباب ، رواه الكليني في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام قال : «سألته عن مولود يحلق رأسه بعد يوم السابع ، فقال
: إذا مضى سبعة أيام فليس عليه حلق».
(ومنها) حلق
الرأس كملا فلا يترك له قنازع فإنه مكروه كما تكاثرت به الأخبار ، فروى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام : قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : لا تحلقوا الصبيان القزع ، والقزع أن يحلق موضعا ويدع
موضعا».
قال في الوافي : وفي بعض النسخ «لا تخلفوا الصبيان» ـ بالخاء المعجمة
والفاء ـ والنسخة الأولى تكون على حذف مضاف ، أي لا تحلقوا الصبيان حلق القزع ،
والقزع ـ بالتحريك ـ قطع من السحاب واحدها قزعة سمي حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه
في مواضع متعددة القزع تشبيها بقطع السحاب المتفرقة ، ويقال : القنازع أيضا كما في
بعض الأخبار الآتية إن شاء الله ، وواحدتها قنزعة بضم القاف والزاي وفتحهما
وكسرهما.
__________________
وروى في الكافي
عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «اتي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بصبي يدعو له وله قنازع فأبى أن يدعو له ، وأمر أن يحلق
رأسه».
وربما نافى ما
ورد في الكراهة في هذين الخبرين ما روي من ثبوت القنازع للحسن والحسين عليهماالسلام كما رواه في الكافي عن الحسين بن خالد قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن التهنئة بالولد متى؟ قال : إنه لما ولد الحسن بن علي
عليهالسلام هبط جبرئيل بالتهنئة على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في اليوم السابع وأمره أن يسميه ويكنيه ويحلق رأسه ويعق
عنه ويثقب اذنه ، وكذلك كان حين ولد الحسين عليهالسلام أتاه في اليوم السابع فأمره بمثل ذلك ، قال : وكان لهما
ذؤابتان في القرن الأيسر وكان الثقب في الاذن اليمنى في شحمة الاذن ، وفي اليسرى
في أعلى الأذن ، فالقرط في اليمنى والشنف في اليسرى» ـ. قال في الكافي : ـ «وقد روي أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ترك لهما ذؤابتين في وسط الرأس وهو أصح من القرن».
وقد ذكر بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين للجمع بين هذا الخبر وما قبله وجوها لا تخلو
من التكلف والبعد ، والأقرب أن يقال في ذلك إن الأخبار الدالة على الكراهة مخصوصة
بما إذا كان ما يترك بغير حلق في مواضع متفرقة ، لا في موضع واحد ، ويؤيده أن ظاهر
كلام أهل اللغة تخصيص اسم القنازع بما إذا كان كذلك ، وما ذكر في خبر الحسن
والحسين عليهماالسلام إنما هو في موضع واحد.
قال في النهاية
الأثيرية في الحديث أنه نهى عن القنازع وهو أن
__________________
يؤخذ بعض الشعر ويترك منه مواضع متفرقة لا يؤخذ كالقزع.
وقال في
القاموس : وأما نهي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن القنازع فهو أن يؤخذ الشعر ويترك منه مواضع.
إلا أنه ربما
أشكل ذلك بما رواه في الكافي عن القداح عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه كان يكره القزع في رؤوس الصبيان ، وذكر أنه القزع أن يحلق الرأس إلا
قليلا ويترك وسط الرأس يسمى القزعة».
وفي بعض النسخ
حذف قوله «ويترك» وبذلك يظهر بقاء المسألة في زاوية الإشكال إلا أن يقال باختصاص
ذلك بهما عليهماالسلام.
(ومنها) ثقب
الاذن ، واستحبابه متفق عليه بين الأصحاب ويدل عليه جملة من الأخبار منها ما تقدم
في حديث الحسن والحسين عليهماالسلام وما تقدم من كلامه عليهالسلام في كتاب الفقه وما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن ثقب اذن الغلام من السنة ، وختانه لسبعة أيام
من السنة».
وعن عبد الله
بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن ثقب اذن الغلام من السنة وختان الغلام من
السنة».
وما رواه الصدوق
عن السكوني قال : «قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا فاطمة اثقبي أذني الحسن والحسين عليهماالسلام خلافا لليهود». ونقل عن بعض العامة تحريمه لما
__________________
فيه من تأليم الولد وإنه أذى لم يؤذن فيه.
وفيه أن الاذن
قد ظهر من هذه الأخبار ، واستمرت عليه سيرة الناس في سائر الأعصار والأمصار ، قال
في المسالك ـ بعد الاستدلال برواية الحسين ابن خالد ونقل كلام هذا
البعض من العامة ـ ما لفظه : فإن صح حديثنا أو جبرته الشهرة فهو الاذن ، وإلا فما
قال موجه.
وفيه أن صحيحة
عبد الله بن سنان قد صرحت به ، ولكنه لم يقف عليها ، وإلا لذكرها ولم يتعرض لهذا
الكلام.
بقي الكلام في
أن ظاهر إطلاق كلام الأصحاب حصول السنة بثقب اذن واحدة ، وهو ظاهر إطلاق رواية
مسعدة بن صدقة وصحيحة عبد الله بن سنان وصريح روايتي الحسين بن خالد والسكوني
الواردتين في الحسنين عليهماالسلام حصول ذلك في الأذنين ، والظاهر حمل إطلاق ما عداهما
عليهما فيكون السنة في ثقب الأذنين ، ولم أقف على من تعرض لذلك من الأصحاب.
(ومنها) الختان
، وعده الأصحاب من مستحبات اليوم السابع أيضا ، وقد تقدم ما يدل عليه.
ويدل عليه أيضا
ما رواه في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «اختنوا أولادكم لسبعة أيام فإنه أطهر وأسرع
لنبات اللحم وإن الأرض لتكره بول الأغلف». ونحوه ما تقدم في حديث مسعدة بن صدقة.
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : طهروا
__________________
أولادكم يوم السابع فإنه أطيب وأطهر وأسرع لنبات اللحم ، وإن الأرض تنجس من
بول الأغلف أربعين صباحا».
وعن عبد الله
بن جعفر في الصحيح «أنه كتب إلى أبي محمد علي بن الحسن عليهالسلام أنه روى عن الصادقين أن اختنوا أولادكم يوم السابع
يطهروا ، وأن الأرض تضج إلى الله من بول الأغلف ، وليس جعلت فداك لحجامي بلدنا حذق
بذلك ، ولا يختنونه يوم السابع وعندنا حجام اليهود ، فهل يجوز لليهود أن يختنوا
أولاد المسلمين أم لا؟ فوقع عليهالسلام : السنة يوم السابع فلا تخالفوا السنن إن شاء الله».
وعن علي بن
يقطين في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن ختان الصبي لسبعة أيام من السنة هو أو يؤخر ، وأيهما
أفضل؟ قال : لسبعة أيام من السنة وإن أخر فلا بأس».
وعن المغيرة عمن ذكره عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المولود يعق عنه ويختن لسبعة أيام».
إذا تقرر ذلك
فاعلم أن تمام تحقيق الكلام في هذا المقام يقع في مواضع :
الأول : لا
خلاف بين علماء الإسلام ، كما ادعاه جملة من الأعلام في أنه يجب الاختتان بعد
البلوغ ، وإنما الخلاف فيما قبله ، فذهب الأكثر إلى أنه كغيره من التكاليف التي لا
تجب إلا بالبلوغ ، والأصل براءة ذمة الولي من هذا التكليف ، ونقل عن العلامة في
التحرير أنه قال : ولا يجوز تأخيره إلى البلوغ.
قال السيد
السند في شرح النافع : وربما كان مستنده الروايات المتضمنة لأمر الولي بذلك ، وهو
ضعيف للتصريح في صحيحة علي بن يقطين بأنه لا بأس
__________________
بالتأخير ، انتهى.
وفيه أن الظاهر
من الصحيحة المذكورة إنما هو أنه لا بأس بالتأخير عن السابع ، بمعنى أنه لا يتحتم
له فعله وجوبا أو استحبابا في اليوم السابع بل يجوز التأخير عنه ، والقائل بالوجوب
إنما أراد به الوجوب الموسع إلى ما قبل البلوغ فيتضيق حينئذ ، وعلى هذا فلا تكون
الرواية منافية لتلك الأخبار التي استند إليها ذلك القائل بالوجوب ، وليس المراد
أنه لا بأس بالتأخير إلى البلوغ ليتم ما ذكره. نعم يمكن الاستدلال على الاستحباب
بالأخبار الدالة على أنه من السنن.
مثل ما رواه في
الكافي عن عبد الله بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ختان الغلام من السنة وخفض الجواري ليس من السنة».
وما تقدم في رواية
مسعدة بن صدقة من قوله عليهالسلام «ثقب اذن الغلام من السنة ، وختانه لسبعة أيام من السنة».
فجعله في قرن
ثقب الاذن ظاهر في كونه مثله في الاستحباب ، إلا أن باب المناقشة غير مسدود ،
وظاهر المحقق في الشرائع الميل إلى هذا القول أيضا حيث قال : وأما الختان فمستحب
يوم السابع ، ولو أخر جاز ، ولو بلغ ولم يختن وجب أن يختن نفسه ، والختان واجب
وخفض الجواري مستحب.
قال في المسالك
ـ بعد أن ذكر أنه هل أول وقت وجوبه قبل التكليف بحيث إذا بلغ الصبي يكون
قد اختتن قبله ولو بقليل ، أم لا يجب إلا بعد البلوغ كغيره من التكليفات المتعلقة
بالمكلف ـ ما صورته : يظهر من عبارة المصنف الأول ، لإطلاق حكمه عليه بالوجوب ولا ينافيه
حكمه باستحبابه يوم السابع ، لأن الوجوب على هذا القول موسع من حين الولادة إلى أن
يقرب التكليف ، وعلى
__________________
هذا فيكون فعله يوم السابع أفضل أفراد الواجب ، ولأجل ذلك أطلق عليه
الاستحباب كما يقال : يستحب صلاة الفريضة في أول وقتها ، وعلى هذا فيكون الوجوب
متعلقا بالولي فإن لم يفعل إلى أن بلغ الصبي أثم ، وتعلق الوجوب حينئذ بالصبي ،
وبهذا القول صرح في التحرير ، انتهى.
أقول : ما ذكره
جيد ، إلا أنه لا يتحتم حمل العبارة المذكورة عليه بحيث لا يمكن احتمال غيره ، إذ
من الجائز أن يكون قوله «والختان واجب» وهو الذي أشار إليه بقوله «لإطلاق حكمه
عليه بالوجوب» إنما هو بالنسبة إلى ما بعد البلوغ ، فإنه لما ذكر أولا أن الختان
مستحب يوم السابع ولو أخر جاز ، وعلم منه استحباب الختان بعد الولادة وأن الفضل في
اليوم السابع ذكر حكم الختان بعد البلوغ بقوله «ولو بلغ ولم يختن وجب عليه أن يختن
نفسه» وقوله «والختان واجب» يعني بعد البلوغ.
وبالجملة فإن
هذه الجملة متعلقة بما قبلها مما يدل على وجوبه بعد البلوغ ولا ارتباط لها بصدر
العبارة الدالة على استحبابه بعد الولادة. وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور ،
فإن التمسك بالأصل أقوى متمسك حتى يقوم دليل واضح على الخروج عنه ، والأمر في
الروايات المتقدمة غير ظاهر في الوجوب سيما بالنظر إلى تلك التعليلات التي اشتملت
عليها تلك الأخبار ، فإنها بالحمل على الاستحباب أنسب كما وقع نحوه في غير هذه
المسألة.
قال في المسالك
ـ في تعليل قول المشهور ـ : ووجه الثاني أن الختان شرط في صحة الصلاة
ونحوها من العبادات ، فلا يجب إلا مع وجوب المشروط ، ولو سلم أنه واجب لنفسه
فمتعلقه المكلف والأصل براءة ذمة الولي من فعله ، والأمر قبل البلوغ محمول على
الاستحباب ، انتهى.
أقول : أما ما
ذكره من أن الختان شرط في صحة الصلاة فلا يحضرني دليل يدل عليه ولا نص يوجب المصير
إليه ، واستدل بعضهم على ذلك بنجاسة الجلدة
__________________
الساترة فإنها لوجوب قطعها في حكم الميتة ، وضعفه أظهر من أن يخفى. نعم ما
ذكره بعد ذلك جيد كما أشرنا إليه.
الثاني
: لا خلاف بين
الأصحاب في استحباب ذلك في النساء ، وليس بواجب إجماعا ، ويعبر عنه بالخفض بالنسبة
إلى النساء والختان بالنسبة إلى الرجال.
فروى في الكافي
عن عبد الله بن سنان في الصحيح قال : «ختان الغلام من السنة وخفض الجواري
ليس من السنة».
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «خفض النساء مكرمة ، ليست من السنة ولا شيئا
واجبا ، وأي شيء أفضل من المكرمة».
قال بعض
مشايخنا : مكرمة أي موجبة لحسنها وكرامتها عند زوجها ، والمعنى ليست من السنن بل
من التطوعات. أقول : ويؤيده ما يأتي إن شاء الله تعالى في حديث أم حبيب.
وعن عبد الله
بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الختان سنة في الرجال ومكرمة في النساء».
وعن أبي بصير قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الجارية تسبى من أرض الشرك فتسلم فتطلب لها من
يخفضها ، فلا تقدر على امرأة؟ فقال : إنما السنة في الختان على الرجال ، وليس على
النساء».
وروى الفقيه عن غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهماالسلام قال : «
__________________
قال علي عليهالسلام : لا بأس أن لا تختن المرأة ، فأما الرجل فلا بد منه».
وروى الشيخ في
التهذيب عن وهب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهمالسلام قال : «لا تخفض الجارية حتى تبلغ سبع سنين». وفي هذا
الخبر دلالة على أن وقت الخفض في النساء بلوغ السبع وفي الذكور اليوم السابع.
وروى محمد بن
مسلم في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لما هاجرت النساء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هاجرت فيهن امرأة يقال لها أم حبيب ، وكانت خافضة تخفض
الجواري ، فلما رآها رسول الله صلىاللهعليهوآله قال لها : يا أم حبيب العمل الذي كان في يدك هو في يدك
اليوم؟ قالت : نعم يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلا أن يكون حراما فتنهاني عنه ، فقال : لا ، بل حلال
فادني مني حتى أعلمك ، قالت : فدنوت منه فقال : يا أم حبيب إذا أنت فعلت فلا تهتكي
ـ أي لا تستأصلي ـ فإنه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج» الحديث.
وبالجملة
فالحكم للذكر والأنثى معلوم كما عرفت ، وإنما يبقى الكلام في الخنثى ، قال في
المسالك : وأما الخنثى فإن الحق بأحدهما لحقه حكمه ، وإن أشكل
أمره ففي وجوبه في حقه وتوقف صحة صلاته عليه وجهان : من الشك في ذكوريته التي هي
مناط الوجوب ، معتضدا بأصالة البراءة ، ولاشتماله على تأليم من لا يعلم وجوبه عليه
، ومن انحصار أمره فيهما ، فلا يحصل اليقين بصحة العبادة بدونه ، ولأنه مأخوذ
بمراعاة الجانبين حيث يمكن ، ولدخوله في عموم قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «الختان من الفطرة الحنفية». وقولهم عليهمالسلام «اختنوا أولادكم
__________________
يوم السابع يطهروا». لأن لفظ الأولاد يشمل الجميع خرج منه الإناث بدليل من
خارج فيبقى الباقي ، ولا ريب أن هذا أولى ، انتهى.
أقول : أما
التعليل بتوقف صحة الصلاة عليه فعليل ، لما عرفت من عدم قيام دليل عليه ، وإن
اشتهر ذلك بينهم.
وأما التمسك
بإطلاق هذه الأخبار ففيه أن إطلاق الأخبار إنما ينصرف إلى الافراد المتكررة
المتعارفة ، فإنها هي التي ينصرف إليها الإطلاق دون الفروض النادرة التي ربما لا
توجد إلا فرضا ، ومع تسليم شموله لها فإنه يجب تخصيصه بما دل من الأخبار على
اختصاص ذلك بالذكر من الأولاد دون الإناث ، والخنثى ليست بذكر ، وبالجملة فالظاهر
إنما هو الوجه الأول من كلامه.
الثالث : قد عرفت أنه قد ادعى الإجماع من علمائنا الأعلام على وجوب الختان على
البالغ ، ولا أعرف لهم دليلا واضحا ولا معتمدا صريحا غير هذا الإجماع المدعى ، مع
أن أكثر النصوص مصرح بالاستحباب ، وها أنا أتلو عليك ما وقفت عليه من الأخبار في
هذا الباب.
فمنها ما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن هشام بن سالم عن عن أبي عبد الله
عليهالسلام قال : «من الحنيفية الختان».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من سنن المرسلين الاستنجاء والختان».
وقد تقدم قريبا
في رواية عبد الله بن سنان «أن الختان سنة في الرجال ومكرمة في النساء».
__________________
وفي رواية أبي
بصير «إنما السنة في
الختان على الرجال وليس على النساء».
وفي تفسير
العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «ما أبقت السنة شيئا حتى أن منها قص الشارب
والأظفار والأخذ من الشارب والختان».
وعن طلحة بن
زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي عليهمالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن الله عزوجل بعث خليله بالحنيفية وأمره بأخذ الشارب وقص الأظفار
ونتف الإبط وحلق العانة والختان».
ولا يخفى أن عد
الختان في قرن هذه الأشياء المتفق على استحبابها قرينة ظاهرة في الاستحباب.
وروى في الكافي
عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : إذا أسلم الرجل اختتن ولو بلغ ثمانين سنة».
وروى في كتاب
عيون أخبار الرضا بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليهالسلام «أنه كتب إلى المأمون : والختان سنة واجبة للرجال ومكرمة للنساء».
وهذان الخبران
أقصى ما ربما يتوهم منه الدلالة على الوجوب ، وقيام الحمل على تأكد الاستحباب أقرب
قريب. وبالجملة فإنه لا دليل في الأخبار يعتمد عليه ، وإنما العمدة هو الإجماع
المدعى.
الرابع : ويستحب الدعاء وقت ختن الصبي بما رواه في الفقيه عن مرازم بن حكيم
__________________
عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الصبي إذا ختن قال : يقول : اللهم هذه سنتك وسنة نبيك صلواتك عليه وآله
واتباع منا لك ولنبيك بمشيتك وبإرادتك وقضائك لأمر أردته وقضاء حتمته وأمر أنفذته
فأذقته حر الحديد في ختانه وحجامته لأمر أنت أعرف به مني ، اللهم فطهره من الذنوب وزد
في عمره وادفع الآفات عن بدنه والأوجاع عن جسمه ، وزده من الغنى وادفع عنه الفقر
فإنك تعلم ولا نعلم» قال أبو عبد الله عليهالسلام : أي رجل لم يقلها عند ختان ولده فليقلها عليه من قبل
أن يحتلم ، فإن قالها كفى حر الحديد من قتل أو غيره».
(ومنها) العقيقة
، وقد تقدم ذكرها في سنن يوم السابع إلا أنها لكثرة ما يتعلق بها من الأحكام حسن
إفرادها بالذكر ، وأصل العقيقة على ما يفهم من كلام أهل اللغة الشعر الذي يخرج به
المولود آدميا كان أو غيره من بطن أمه ، ويقال : بمعنى الشق.
قال في المصباح
المنير : عق عن ولده عقا من باب قتل ، والاسم العقيقة وهي
الشاة التي تذبح يوم الأسبوع ، ويقال للشعر الذي يولد عليه المولود من آدمي وغيره
عقيقة ، وعق بالكسر ، يقال : أصل العق الشق ، يقال : عق ثوبه كما يقال : شق ثوبه ،
بمعناه ، ومنه يقال : عن الولد أباه عقوقا ـ من باب قعد ـ إذا عصاه وترك الإحسان
إليه. انتهى ، ومثله كلام غيره ، وكأن الشعر الذي يولد عليه المولود سمي بالعقيقة
، لأنه يحلق عنه ثم قيل للذبيحة التي تذبح لأنه يشق حلقومها.
قال الهروي في
كتاب الغريبين : والعق في الأصل الشق والقطع ، وسمي الشعر الذي يخرج على المولود
من بطن امه وهو عليه عقيقة لأنها إن كانت على إنسي حلقت وإن كانت على بهيمة نسلتها
، وقيل للذبيحة عقيقة لأنها يشق حلقومها ، ثم قيل للشعر الذي ينبت بعد ذلك الشعر
عقيقة على جهة الاستعارة ، انتهى.
__________________
وكيف كان
فتحقيق الكلام فيها يقع في مواضع :
الأول : اختلف الأصحاب في وجوبها واستحبابها ، والمشهور الثاني وإلى الأول ذهب
المرتضى وابن الجنيد ادعى إليه في الانتصار إجماع الإمامية ويظهر من المحدث
الكاشاني في الوافي الميل إليه حيث قال : باب العقيقة ووجوبها ، ثم أورد جملة من
الأخبار الظاهرة في ذلك.
ومنها ما رواه في
الكافي والفقيه عن علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح عليهالسلام قال : «العقيقة واجبة إذا ولد للرجل فإن أحب أن يسميه
من يومه فعل».
وما رواه في
الكافي عن علي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «العقيقة واجبة».
وعن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كل مولود مرتهن بالعقيقة».
وما رواه في
الفقيه مرسلا قال : وفي رواية أبي خديجة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كل إنسان مرتهن بالفطرة ، وكل مولود مرتهن
بالعقيقة». قال في الوافي ـ بعد ذكر هذين الخبرين ـ : يعني أن زكاة الفطرة
والعقيقة حقان واجبان في عنق الإنسان والمولود ، وهما مقيدان بهما لا ينفكان عنهما
إلا بالأداء».
وما رواه في
الكافي في الموثق عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كل مولود مرتهن بعقيقته».
__________________
وعن أبي بصير في الموثق أو الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن العقيقة أواجبة هي؟ قال : نعم واجبة».
وما رواه في
الكافي عن عبد الله بن سنان وفي الفقيه عن عمر بن يزيد في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إني والله ما أدري كان أبي عق عني أم لا ، قال :
فأمرني أبو عبد الله عليهالسلام فعققت عن نفسي وأنا شيخ. وقال عمر : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : كل امرئ مرتهن بعقيقته ، والعقيقة أوجب من الأضحية».
وذهب الشيخ ومن
تأخر عنه إلى الاستحباب ، وغاية ما استدل به العلامة في المختلف بعد اختياره الاستحباب هو أصالة البراءة ، ثم أورد
دليلا للمرتضى روايتي علي بن أبي حمزة وأبي بصير ، وأجاب بأن المراد شدة
الاستحباب.
وأنت خبير بما
فيه ، واعترضه في المسالك في استدلاله للمرتضى بهاتين الروايتين بأن السيد لا
يستند في مذهبه إلى الأخبار الصحيحة إذا كانت من طريق الآحاد ، وكيف يحتج برواية
ابن أبي حمزة وهو مصرح بكفره وكفر أضرابه من الفرق ، وإنما أوجبها لما توهمه من
إجماع الإمامية عليه كما أشار إليه في الانتصار ، وجعل الإجماع مستنده في أكثر
المسائل ، وإن كان في تحقق الإجماع نظر ، إلا أنه رأى ذلك حسبما اتفق عليه. انتهى
، وهو جيد يعلم منه التساهل في دعاويهم الإجماع ، ولم يذكر في المسالك دليلا على
الاستحباب ، وإنما قال ـ بعد إيراد رواية أبي بصير ورواية علي بن أبي حمزة ورواية
أبي المعزا المصرحة بالوجوب ـ : وهذه الأخبار مع قطع النظر عن سندها محمولة على
تأكد الاستحباب
__________________
أو ثبوته لأنه معنى الوجوب لغة. ويؤيد الثاني قول الصادق عليهالسلام في رواية عمر بن يزيد «والعقيقة أوجب من الأضحية».
وفيه أن الحمل
على خلاف الظاهر يتوقف على وجود المعارض وهو لم يذكر ما يعارضها ، وأما الطعن بضعف
السند فهو ليس بمرضي ولا معتمد ، وأما رواية عمر بن يزيد فهي ظاهرة فيما ذكره ،
وقال السيد السند في شرح النافع : وأما الروايات المتضمنة للوجوب فكلها ضعيفة
السند ، ومع ذلك إنما يتم الاستدلال بها إذا ثبت كون الوجوب حقيقة شرعية أو عرفية
في اصطلاحهم في المعنى المتعارف الآن عند الفقهاء وهو غير معلوم.
أقول :
والتحقيق أن المسألة لا تخلو من شوب الاشكال لما عرفت مما قدمناه من الأخبار
الظاهرة في الوجوب.
وأما الطعن
فيها بضعف السند فقد عرفت أنه عند من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح غير مرضي ولا
معتمد ، إلا أن مما يعارض ذلك ويدافعه أولا ما قدمناه تحقيقه في غير موضع من أن
الوجوب في الأخبار من الألفاظ المتشابهة لاستعماله فيها في معان عديدة :
(أحدها) هذا
المعنى المصطلح عليه الآن بين الفقهاء ، وهذا هو الذي أشار إليه السيد السند ـ رحمة
الله عليه.
و (ثانيا) عد
العقيقة في قرن تلك الأمور المتفق على استحبابها في الأخبار التي تقدمت في سنن
اليوم السابع فإنه مما يثمر الظن الغالب بكونها مثلها.
و (ثالثا) ما
عرفت من رواية عمر بن يزيد التي هي صحيحة برواية الصدوق حيث جعل العقيقة أوجب من
الأضحية التي هي مستحبة اتفاقا ، فالظاهر أن الوجوب إنما هو بمعنى الثبوت أو تأكد
الاستحباب اللذين هما أحد معاني هذا اللفظ ، فإنه هو الذي يجري فيه التفضيل بمعنى
أشد ثبوتا
أو آكد استحبابا.
ونحو ذلك ما
ورد في موثقة سماعة قال : «سألته عن رجل لم يعق عن ولده حتى كبر وكان غلاما
شابا أو رجلا قد بلغ ، قال : إذا ضحي عنه أو ضحى الولد عن نفسه فقد أجزأه عن
العقيقة».
وموثقة عمار
الساباطي عن أبي عبد الله عليهالسلام وفيها «وإن لم يعق عنه حتى ضحى فقد أجزأه الأضحية». والتقريب
فيها أنها لو كانت واجبة كغيرها من الواجبات فإنه لا يعقل إجزاء الأضحية المستحبة
اتفاقا عنها إذ لا نظير له في الأحكام الشرعية. ومقتضى الوجوب تعلق الخطاب بها حتى
يأتي بها ، وقيام غيرها مما لا يخاطب به حتما يحتاج إلى دليل ، فإن ثبت له نظير في
الأحكام فذلك ، وإلا فلا.
هذا ، وأما ما
رواه في الكافي عن ذريح عن أبي عبد الله عليهالسلام «في العقيقة قال : إذا جاز سبعة أيام فلا عقيقة له». مما يدل على سقوطها
بعد السبعة فهو معارض بالأخبار المستفيضة الدالة على الإتيان بها مطلقا ، سيما
أخبار الوجوب وأنه مرتهن بها ، وحمله بعض المحدثين على نفي العقيقة الكاملة ، من
قبيل من لم يصل في جماعة فلا صلاة له ، أو على الرخصة ، والأول أقرب.
الثاني : قد ذكر جملة من الأصحاب أنه يستحب مساواة العقيقة للمولود ،
__________________
بأن يعق عن الذكر ذكرا وعن الأنثى أنثى. أقول : أكثر الأخبار الواردة ظاهرة
في مساواة الغلام للجارية في العقيقة.
ومنها ما رواه في
الكافي عن منصور بن حازم في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «العقيقة في الغلام والجارية سواء».
وعن سماعة في الموثق قال : «سألته عن العقيقة فقال : في الذكر
والأنثى سواء».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عقيقة الغلام والجارية كبش».
وعن عبد الله
بن مسكان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن العقيقة فقال : عقيقة الجارية والغلام
كبش كبش».
وروى الحميري
في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي ابن جعفر عن أخيه قال : «سألته
عن العقيقة عن الغلام والجارية سواء؟ قال : كبش كبش».
وعن محمد بن
عبد الحميد عن يونس بن يعقوب قال : «سألت أبا الحسن موسى عليهالسلام عن العقيقة الجارية والغلام فيها سواء؟ قال : نعم».
وأما ما يدل
على ما ذكروه من استحباب مساواة العقيقة للمولود فهو ما رواه في الفقيه عن محمد بن زياد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن العقيقة؟ فقال : شاة أو بقرة أو بدنة ،
ثم يسمى ويحلق رأس المولود يوم السابع ويتصدق
__________________
بوزن شعره ذهبا أو فضة ، فإن كان ذكر عق عنه ذكرا ، وإن كان أنثى عق عنها
أنثى».
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي : وإذا أردت أن تعق عنه فليكن عن الذكر ذكرا وعن الأنثى
أنثى.
قال الصدوق ـ رحمة
الله عليه ـ في الفقيه : ويجوز أن يعق عن الذكر بأنثى وعن الأنثى بذكر ، وقد
روي أن يعق عن الذكر بأنثيين وعن الأنثى بواحدة. وما استعمل في ذلك فهو جائز.
وظاهره في
المسالك عدم الوقوف على دليل الحكم المذكور ، حيث إنه بعد ذكر
عبارة المصنف الدالة على الحكم المذكور قال : استحباب مساواتها للولد في الذكورية
والأنوثية ، رواه الكليني مرسلا عن الباقر عليهالسلام قال : «إذا كان يوم السابع وقد ولد لأحدكم غلام أو
جارية فليعق عنه كبشا عن الذكر ذكرا وعن الأنثى مثل ذلك». وروى أخبار كثيرة على
أجزاء الذكر والأنثى مطلقا ، ثم أورد صحيحة منصور بن حازم إلى أن قال : مع أن
الرواية الأولى ليست صريحة في اعتبار المساواة ، بل الظاهر من قوله «والأنثى مثل
ذلك» أن المستحب كونها ذكرا في الذكر والأنثى ، فيكون موافقا لغيره من الأخبار
الدالة على التسوية بينهما ، انتهى.
واقتفاه سبطه
في شرح النافع أيضا قال : وذكر جمع من الأصحاب منهم المصنف في الشرائع أنه يستحب
أن يعق عن الذكر ذكرا وعن الأنثى أنثى ورواه الكليني مرسلا عن أبي جعفر عليهالسلام ثم أورد الرواية التي أوردها جده ثم قال : وهي ضعيفة
السند قاصرة المتن.
__________________
والعجب أن
الرواية مذكورة في الفقيه فكيف غفلا عنها حتى تمسكا بهذه الرواية ، والحق أن هذه
المرسلة محتملة لكل من المعنيين المذكورين ، فهي متشابهة لا يمكن الاعتماد عليها في
شيء منهما.
الثالث : قد صرحوا بأنه لو عجز عنها في الحاضر توقع المكنة ولا يجزي التصدق بثمنها
، ويدل عليه ما رواه الكليني في الحسن عن محمد بن مسلم قال : «ولد لأبي جعفر عليهالسلام غلام فأمر زيد بن علي أن يشتري له جزورين للعقيقة ،
وكان زمن غلاء ، فاشترى له واحدة وعسرت عليه الأخرى ، فقال لأبي جعفر عليهالسلام : قد عسرت علي الأخرى فنتصدق بثمنها؟ فقال : لا ،
اطلبها حتى تقدر عليها فإن الله عزوجل يحب إهراق الدماء وإطعام الطعام».
وعن ابن بكير في الموثق قال : «كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام فجاءه رسول عمه عبد الله بن علي فقال له : يقول عمك :
إنا طلبنا العقيقة فلم نجدها فما ترى نتصدق بثمنها؟ فقال : لا ، إن الله يحب إطعام
الطعام وإراقة الدماء».
الرابع : قد ذكروا أنه يستحب فيها شروط الأضحية من كونها سليمة من العيوب سمينة ،
ولم أقف في الأخبار على ما يدل عليه ، بل الظاهر منها خلافه ، وهو الظاهر من
الكليني أيضا حيث إنه عنون الباب فقال : باب أن العقيقة ليست بمنزلة الأضحية ، ثم
ذكر فيه ما رواه في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن منهال القماط قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إن أصحابنا يطلبون العقيقة إذا كان إبان تقدم الأعراب
فيجدون الفحولة ، وإذا كان غير ذلك الإبان لم توجد فيعز عليهم ، فقال : إنما هي
شاة لحم ليست بمنزلة الأضحية يجزي
__________________
فيها كل شيء».
وروى أيضا عن
مرازم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «العقيقة ليست بمنزلة الهدي ، خيرها أسمنها». وحاصله
أنه لا يشترط فيها ما يشترط في الهدي وإن كان الأفضل فيها الأسمن.
الخامس : يكره أكل الوالدين منها بل جملة العيال ، ويتأكد في الأم ، فروي في
الكافي عن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يأكل هو ولا أحد من عياله من العقيقة ، وقال
: وللقابلة الثلث من العقيقة ، فإن كانت القابلة أم الرجل أو في عياله فليس لها
منها شيء ، وتجعل أعضاء ثم يطبخها ويقسمها ، ولا يعطيها إلا لأهل الولاية ، وقال
: يأكل من العقيقة كل أحد إلا الأم».
وعن الكاهلي في الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «في العقيقة ، قال : لا تطعم الام منها شيئا».
وعن ابن مسكان عمن ذكره عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا تأكل المرأة من عقيقة ولدها» الحديث.
وفي كتاب الفقه
الرضوي «ولا يأكل منه الأبوان ، وإن أكلت منه الام فلا ترضعه». وبهذه العبارة أعني
قوله «وإن أكلت منه الام لم ترضعه» عبر في الفقيه فقال : والأبوان لا يأكلان من العقيقة وليس ذلك بمحرم
عليهما ، وإن أكلت منه الام لم ترضعه» ولم أقف على من صرح بذلك من الأصحاب غيره ،
__________________
ولا على خبر يتضمن ذلك غير ما في الكتاب المذكور.
ومما يدل على
حمل النهي على الكراهة ما ورد من جواز أكل الأب منها كما رواه في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «في المولود يسمى في اليوم السابع ويعق عنه ـ إلى أن قال : ـ ويبعث إلى
القابلة بالرجل مع الورك ويطعم منه ويتصدق».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا ولد لك غلام أو جارية فعق عنه يوم السابع
شاة أو جزورا وكل منها وأطعم» الحديث.
ومما يدل على
جواز أكل العيال ما رواه في الكافي عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث عقيقة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الحسن والحسين عليهماالسلام قال : «وعق عنهما شاة شاة ، وبعثوا برجل شاة إلى
القابلة ، ونظروا ما غيره ، فأكلوا منه وأهدوا إلى الجيران ، وحلقت فاطمة عليهاالسلام رؤوسهما وتصدقت بوزن شعرهما فضة». والمراد أنهم نظروا
في غير ما بعثوا به إلى القابلة فأكلوا منه وأهدوا فكأن «ما» هنا وقعت زائدة أو
استفهامية.
ثم إن ما دل
عليه خبر أبي خديجة من أن العقيقة تجعل أعضاء يعني لا يكسر لها عظم مما صرح به
الأصحاب أيضا وحكموا بكراهته ، وعليه دل الخبر المذكور.
ونحوه ما رواه في
الكافي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث قال : «واقطع العقيقة جداول واطبخها وادع عليها رهطا من المسلمين».
__________________
إلا أنه قد روى
في الفقيه مرسلا قال : «قال عمار الساباطي : وسئل عن العقيقة إذا
ذبحت هل يكسر عظمها؟ قال : نعم يكسر عظمها ويقطع لحمها وتصنع بها بعد الذبح ما شئت».
والظاهر أن هذا الخبر خرج مخرج التنبيه على الجواز فلا ينافي الكراهة.
السادس
: من المستحبات
طبخها وإطعامها المؤمنين. قال في كتاب الفقه الرضوي «وتفرق لحمها على قوم مؤمنين محتاجين ، وإن أعددته طعاما ودعوت عليه قوما
من إخوانك فهو أحب إلي ، وكلما أكثرت فهو أفضل ، وحده عشرة أنفس وما زاد ، وأفضل
ما تطبخ به ماء وملح». انتهى.
وفي كتاب
الفقيه «وروي أن أفضل ما تطبخ به ماء وملح». والظاهر أنه إشارة إلى ما ذكره عليهالسلام هنا.
وفي موثقة عمار
«ويطعم منه
عشرة من المسلمين فإن زادوا فهو أفضل وتأكل منه». وفي الخبر ما يدل على الرخصة
للأب في الأكل ، وقد تقدم مثله.
وفي التهذيب «ولا تأكل منه». وهو على حسب ما دل عليه غيره من كراهة الأكل للأب أيضا.
وقد تقدم في رواية عبد الله بن سنان «واطبخها وادع عليها رهطا من المسلمين». وفي
رواية أبي خديجة المتقدمة «ثم يطبخها ويقسمها
__________________
ولا يعطيها إلا لأهل الولاية». وفي حديث يحيى بن أبي العلاء المتقدمة أيضا «فأكلوا
وأهدوا إلى الجيران». وظاهره إهداء اللحم من غير طبخ. وفي حديث حفص الكناسي المروي
في الكافي عن أبي عبد الله عليهالسلام «ويدعى نفر من المسلمين فيأكلون ويدعون للغلام».
وقال في الفقيه
«وإن شاء قسمها
أعضاء كما هي ، وإن شاء طبخها وقسم معها خبزا ومرقا ولا يعطيها إلا لأهل الولاية».
أقول : وقد
تلخص من ذلك جواز الجمع إلا أن الأفضل الطبخ في منزله وأن يضيف إلى اللحم شيئا من
خبز أو أرز أو بعض الحبوب وأن يدعو لها المؤمنين في منزله ، وأن أقل من يدعوه عشرة
لا أقل.
السابع
: لا ريب في
استحباب إعطاء القابلة جزء من العقيقة إذا لم تكن من العيال كما صرحت به رواية أبي
خديجة المتقدمة لأن العيال لا يأكلون منها كما تقدم.
بقي الكلام في
تعيين ما تعطى ، والروايات في ذلك لا تخلو من اختلاف ، ففي رواية أبي خديجة
المتقدمة ثلث العقيقة. وقد تقدم أيضا في حديث يحيى ابن أبي العلاء في عقيقة
الحسنين عليهماالسلام «وبعثوا برجل شاة إلى القابلة». وفي رواية أبي بصير المتقدمة أيضا «ويبعث
إلى القابلة بالرجل مع الورك». وفي روايته الثانية مما حذفناه منها «وأعط القابلة
طائفا من ذلك» . وهو إما بالفاء بعد
__________________
الياء المهموزة ، أو بالباء الموحدة ثم القاف كما ذكره في النهاية وهو عبارة عن العضو أو القطعة.
وفي موثقة عمار
عن أبي عبد الله عليهالسلام «ويعطي القابلة ربعها وإن لم تكن قابلة فلأمه تعطيه من شاءت ـ إلى أن قال :
ـ وإن كانت القابلة يهودية لا تأكل من ذبيحة المسلمين أعطيت قيمة ربع الكبش». وفي
رواية حفص الكناسي «واهدى إلى القابلة الرجل مع الورك». ونحوها موثقة سماعة وحسنة الكاهلي وأكثر هذه الأخبار على الرجل والورك ، والظاهر أن العمل
بكل من هذه الأخبار حسن ، وأما ما اشتمل عليه موثقة عمار من أنه مع عدم القابلة
فلأمه تعطيه من شاءت فهو مما صرح به الأصحاب أيضا.
قال في المسالك
: والمراد أن الأب يعطيها حصة القابلة إن كان هو الذابح للعقيقة وتصدق به
، لأنه يكره أن تأكل منها ، وفي قوله عليهالسلام «تعطيها من شاءت» إشارة إلى أن صدقتها به لا يختص بالفقراء بل تتأدى السنة
بصدقتها على الغني والفقير ، انتهى.
الثامن : قد ذكروا أنه لو لم يعق الأب عنه عق عن نفسه بعد البلوغ ، وتدل عليه
الأخبار المتقدمة المصرحة بوجوبها وأنه مرتهن بها ، فيبقى تحت عهدة الأمر حتى يحصل
الامتثال ، وقد تقدم في الموضع الأول في موثقة سماعة أن الرجل
__________________
إذا لم يعق عن ولده وقد كبر أنه إذا ضحي عنه أو ضحى الولد عن نفسه فقد أجزأ
عن العقيقة ، ومفهومه أنه لو لم يضح عن نفسه ولا ضحى عنه أبوه فالخطاب باق.
ويؤيده ما ورد
من أنه مع الشك في أن أباه هل عق عنه أم لا؟ فإنه يستحب له أن يعق عن نفسه كما
تقدم في صحيحة عمر بن يزيد بطريق الفقيه المذكورة في الموضع الأول. وقد صرحوا أيضا
بأنه لو مات الصبي في اليوم السابع فإن مات قبل الزوال سقطت وإن مات بعده لم يسقط.
وعلى ذلك تدل
ما رواه في الكافي والفقيه عن إدريس بن عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن مولود يولد فيموت يوم السابع هل يعق عنه؟ قال : إن
كان مات قبل الظهر لم يعق عنه ، وإن مات بعد الظهر عق عنه».
التاسع : فيما يستحب أن يقال وقت الذبح ، فروى في الكافي عن الكرخي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «تقول على العقيقة إذا عققت : بسم الله وبالله
اللهم عقيقة عن فلان لحمها بلحمه ودمها بدمه وعظمها بعظمه ، اللهم اجعله وقاء لآل
محمد صلى الله عليه وعليهم».
وعن يونس عن بعض أصحابه عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا اذبحت فقل : بسم الله وبالله والحمد لله
والله أكبر إيمانا بالله وثناء على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والعصمة لأمره والشكر لرزقه والمعرفة بفضله علينا أهل
البيت ، فإن كان ذكرا فقل : اللهم إنك وهبت لنا ذكرا وأنت أعلم بما وهبت ، ومنك ما
أعطيت وكل ما صنعنا ، فتقبله على سنتك وسنة نبيك ورسولك صلىاللهعليهوآلهوسلم واخسأ عنا الشيطان الرجيم ، لك سفكت الدماء لا شريك لك
والحمد لله رب العالمين». قوله «بفضله علينا أهل البيت» المراد
__________________
به أهل بيت نفسه كما نبه عليه بعض المحدثين.
وعن سهل عن بعض أصحابه رفعه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «نقول على العقيقة» وذكر مثله وزاد فيه «اللهم
لحمها بلحمه ودمها بدمه وعظمها بعظمه وشعرها بشعره وجلدها بجلده ، اللهم اجعله
وقاء لفلان بن فلان».
وروى في الكافي
والفقيه عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا أردت أن تذبح العقيقة قلت (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا
تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفاً) مسلما (وَما أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) ، (إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) وأنا من المسلمين ، اللهم منك ولك بسم الله وبالله
والله أكبر اللهم صل على محمد وآل محمد ، وتقبل من فلان بن فلان ، وتسمي المولود
باسمه ثم تذبح».
وروى في الكافي
بسنده عن محمد بن زياد عن أبي عبد الله عليهالسلام ، وفي الفقيه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «يقال عند العقيقة : اللهم منك ولك ما وهبت وأنت
أعطيت ، اللهم فتقبل منا على سنة نبيك صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ونستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، وتسمي وتذبح ،
وتقول : لك سفكت الدماء لا شريك لك والحمد لله رب العالمين ، اللهم اخسأ الشيطان
الرجيم».
وروى في الكافي
عن الكاهلي في الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال في العقيقة : إذا ذبحت تقول (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) مسلما (وَما
__________________
أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) ، اللهم منك ولك ، اللهم هذا عن فلان بن فلان».
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي «فإن أردت ذبحه فقل : بسم الله وبالله منك وبك ولك وإليك عقيقة فلان بن
فلان على ملتك ودينك وسنة نبيك محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، باسم الله وبالله والحمد لله والله أكبر إيمانا بالله
وثناء على رسول الله ، والعصمة بأمره والشكر لرزقه والمعرفة لفضله علينا أهل البيت
، فإن كان ذكرا فقل : اللهم أنت وهبت لنا ذكرا وأنت أعلم بما وهبت ومنك ما أعطيت
ولك ما صنعنا ، فتقبله منا على سنتك وسنة نبيك صلىاللهعليهوآلهوسلم فاحتبس عنا الشيطان الرجيم ، ولك سفكت الدماء ولوجهك
القربات لا شريك له».
تكملة في الرضاع
والكلام فيها
يقع في موردين الأول في الرضاع نفسه ، والكلام فيه يقع في مواضع :
الأول : قالوا : إن أفضل ما يرضع به الصبي لبن أمه لأنه أوفق بمزاجه وأنسب بطبعه
، وهو غذاؤه في بطن امه.
أقول : ويدل
عليه ما رواه الكافي عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه».
الثاني : المعروف من كلام الأصحاب أنه لا يجب على الأم إرضاع الولد. واستدل عليه
مضافا إلى الأصل بقوله عزوجل «فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ... وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرى» ولو كان الرضاع واجبا عليها
__________________
لما حسن أن يقال «فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ» إلا أنه يشكل ذلك بأن مورد الآية كما ينادي به سياق
الكلام إنما هو المطلقة البائن ، وعدم الوجوب هنا مما لا خلاف فيه.
قال في كتاب
مجمع البيان «فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»
أي وإن أرضعن
الولد لأجلكم بعد البينونة فاعطوهن أجر الرضاع يعني اجرة المثل. انتهى ، وهذا
الكلام في الآية الثانية ، فإن السياق كله إنما هو في المطلقة ، وحينئذ فاستدلال
أصحابنا بهاتين في المقام لا يخلو من نظر ، إذ محل البحث إنما هو الزوجة.
والأظهر
الاستدلال على ذلك بما رواه في الكافي عن سليمان بن داود المنقري قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن الرضاع ، قال : لا تجبر المرأة على إرضاع الولد
وتجبر أم الولد». وهو صريح في المراد.
الثالث : يجب تقييد الحكم المذكور كما نبه عليه غير واحد من الأصحاب بأن ذلك مشروط
بوجود الأب وقدرته على دفع الأجرة ، أو عدم تبرعها ، أو وجود مال للولد ووجود
مرضعة سواها ، وإلا وجب ذلك عليها كما يجب عليها الإنفاق عليه إذا كان الأب معسرا
أو مفقودا.
الرابع : إطلاق
كلام أكثر الأصحاب يقتضي عدم الفرق بين اللبأ ، وهو أول ما يحلب بعد الولادة وغيره
عملا بإطلاق الدليل ، وأوجب جماعة منهم العلامة في القواعد والشهيد إرضاعها اللبأ
، محتجين بأن الولد لا يعيش بدونه ، ورده جمع ممن تأخر عنهما بأنه ممنوع بالوجدان.
__________________
قال في المسالك
: ولعلهم أرادوا الغالب ، أو أنه لا يقوى ولا يشتد بنيته إلا به ، ثم إنه
على القول بالوجوب هل تستحق الأم اجرة عليه من الأب أو من الولد إن كان له مال أم
لا؟ قولان : والأول مذهب الأكثر مستندين إلى إطلاق قوله تعالى «فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»
وبالثاني قطع
المقداد في كنز العرفان محتجا بأنه واجب ، ولا يجوز أخذ الأجرة على الواجب.
قال في المسالك
: وكليته ممنوعة ، فإن مالك الطعام يلزمه بذله للمضطر ، ولكن بالعوض
باعتراف هذا القائل ، وإن كان فيه خلاف أيضا ، انتهى.
وتوضيحه أن
الممتنع هو أخذ الأجرة على نفس العمل الذي يجب عليه القيام به ، مثل تغسيل الموتى
ودفنهم ونحو ذلك لا أخذ عوض ما يجب بذله كدفع المال إلى المضطر ، واللبأ من قبيل
الثاني لا الأول.
وأنت خبير بأن
قضية الوجوب سقوط الأجرة إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك ، والآية المذكورة ليست من
محل البحث في شيء ، فإن المدعى وجوب الإرضاع عليها ، والآية المذكورة قد عرفت أن
موردها المطلقة البائنة وعدم الوجوب عليها ظاهر ، وما ذكروه من بذل الطعام للمضطر
إن وجد ما يدل على ما ادعوه من الأخبار فلا إشكال ، وإلا فللمناقشة فيما ذكروه
مجال ، ولا يحضرني الآن شيء من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة.
الخامس : لا خلاف ولا إشكال في جواز استئجار الأب الأم للرضاع إذا كانت مطلقة
بائنة ، لأن منافعها مملوكة لها ولا تعلق للأب بها ، إنما الخلاف فيما لو كانت
زوجة ، فالمشهور بين الأصحاب الجواز مستندين إلى عموم قوله «فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ».
وفيه ما عرفت
من أن مورد هذه الآية إنما هي المطلقة ، فهي دليل للأول من هذين الحكمين لا
للثاني. نعم يدل على ذلك أصالة الجواز لأنك قد عرفت
__________________
بالخبر المتقدم أن الإرضاع غير واجب عليها ، فكما يجوز استئجارها لا رضاع
غيره فكذا لا رضاعه ، ومنع الشيخ في المبسوط من استيجار الزوج بها ، وكذا منع من استئجارها لخدمته
وخدمة غيره وإرضاع ولد غيره ، مستندا إلى أن زوجها قد ملك الاستمتاع بها في كل وقت
إلا ما استثنى من أوقات الصلاة والصيام ، فما عقدت عليه من المنافع لا يقدر على
إيفائه ، وإذا لم تقدر على إيفائه كان العقد باطلا ، كما لو آجر نفسه شهرا ثم
آجرها ذلك الشهر بغير المستأجر.
وأجيب بمنع ملك
الزوج لجميع منافعها وإنما ملك الاستمتاع ولا يلزم من استحقاقه في جميع الأوقات
ملك غيره من المنافع ، وما ذكره الشيخ قول لبعض العامة ولا ريب في ضعفه.
السادس : لا
يخفى أنه على تقدير القول المشهور من جواز استئجارها لإرضاع ولدها ، فإن تعلقت
الإجارة بها نفسها لم يكن لها إرضاع غيره ، فإن فعلت فلا اجرة لها ، وإن تعلقت بها
وبغيرها بأن كان الاستئجار على تحصيل الرضاع كيف اتفق بها أو بغيرها جاز ، ومع عدم
تعيين أحد الأمرين بأن أطلق إشكال ، ولا يبعد إلحاقه بالقسم الأول ، لأنه الذي
ينصرف إليه ظاهر الإطلاق ، والمشهور على ما ذكره في المسالك جواز إرضاعها له بنفسها وغيرها ، قال : لأنها حينئذ
أجير مطلق ، ومن شأنه جواز تحصيل المنفعة بنفسه وغيره. انتهى ، والأقرب الأول وهو
اختيار سبطه في شرح النافع.
السابع : ينبغي
أن يعلم أن الأجرة من مال الولد إن كان له مال وإلا فعلى الأب ، وظاهر بعض
العبارات أنه مع حياة الأب فالأجرة على الأب ، ومع موته فالأجرة من مال المرتضع ،
وهو على إطلاقه غير جيد بل الوجه هو
__________________
ما قدمنا ذكره.
وروى في الكافي
والتهذيب عن ابن أبي يعفور في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «أن أمير المؤمنين عليهالسلام قضى في رجل توفى وترك صبيا فاسترضع له أن أجر رضاع الصبي
مما يرث من أبيه وامه».
ورواه الشيخ بطريق آخر وزاد فيه «من حظه مما ورث من أبيه». وروى في
التهذيب عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قضى علي عليهالسلام في صبي مولود مات أبوه أن رضاعه من حظه مما ورث من أبيه».
وروى في الكافي
عن عبد الله بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل مات وترك امرأته ومعها منه ولد فألقته على خادم لها فأرضعته ، ثم
جاءت تطلب رضاع الغلام من الوصي ، فقال : لها أجر مثلها وليس للوصي أن يخرجه من
حجرها حتى يدرك ويدفع إليه ماله».
وفي هذه
الأخبار دلالة على عدم وجوب الرضاع على الام كما تقدم ، وجواز استئجارها للرضاع
كما هو المشهور ، وظاهر صحيحة عبد الله بن سنان استحقاقها الأجرة وإن أرضعته
بغيرها ، ومقتضى كلامهم حمله على كون الاستئجار وقع كذلك أو كونه مطلقا إلا أن
الخبر لا يخلو من الإجمال.
الثامن : قد
صرحوا بأن الأم أحق برضاعه إذا تبرعت أو قنعت بما يطلب غيرها ، ولو طلبت زيادة على
ما يرضى به غيرها فللأب انتزاعه منها ، ويدل على
__________________
الحكم الأول أعني أحقيتها بالرضاع إذا تبرعت أو قنعت بما يطلب غيرها قوله
سبحانه «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ» فإن الآية شاملة لهاتين الصورتين.
ورواية أبي
بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته يقول : المطلقة الحبلى ينفق عليها حتى تضع
حملها ، وهي أحق بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة أخرى ، يقول الله تعالى «لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ»
. لا يضار الصبي ولا تضار به في رضاعه ، وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق
حولين كاملين ، فإن أراد الفصال عن تراض منهما كان حسنا ، والفصال هو الفطام».
وعلى الحكم
الثاني وهو انتزاعه منها لو طلبت الزيادة قوله تعالى «وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى»
.
ويدل على
الحكمين معا ما رواه الشيخ عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة وهي حبلى أنفق عليها حتى
تضع حملها وإذا وضعته أعطاها أجرها ولا يضارها إلا أن يجد من هو أرخص منها أجرا
فإن هي رضيت بذلك الأجر فهي أحق بابنها حتى تفطمه».
وعن أبي العباس
عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال : فإن قالت المرأة لزوجها الذي طلقها : أنا أرضع ابني بمثل ما تجد
من يرضعه فهي أحق به». وهذه الرواية دليل على الصورة الثانية من الحكم الأول.
وحكى الشيخ في
الخلاف قولا بأن الأم أحق بالولد متى طلبت اجرة المثل
__________________
وإن وجد الأب من يأخذ أقل أو يتبرع ، تمسكا بإطلاق الآية المتقدمة والأخبار
المذكورة ترده كما عرفت.
التاسع : لا خلاف ولا إشكال في أن للمولى إجبار أمته على الرضاع
لأنها مع جميع منافعها ملك له سواء في ذلك منافع الاستمتاع وغيرها ، بخلاف الزوجة
حيث اختص الاستحقاق بمنافع الاستمتاع ولا فرق في ذلك بين أم الولد وغيرها ، وقد
تقدم في الموضع الثاني قوله عليهالسلام في رواية المنقري «وتجبر أم الولد». وذكر أم الولد لا يقتضي نفي ذلك عن غيرها.
العاشر : ظاهر بعض الأخبار استحباب الإرضاع من الثديين معا ، وهذا الحكم لم يتعرض
له أحد من الأصحاب فيما أعلم ، ويدل عليه ما رواه في الكافي عن محمد بن العباس بن الوليد عن أبيه عن امة أم إسحاق
بنت سليمان «قالت : نظر إلى أبو عبد الله عليهالسلام وأنا أرضع أحد ابني محمدا أو إسحاق ، فقال ، يا أم
إسحاق لا ترضعيه من ثدي واحد وأرضعيه من كليهما ، يكون أحدهما طعاما والآخر شرابا»
، ورواه في الفقيه مرسلا قال : «نظر الصادق عليهالسلام إلى أم إسحاق وهي ترضع أحد ابنيها» الحديث.
قال في الوافي : لما كان في الجديد لذة كان اللبن الجديد مما يسيغ
القديم كما أن الشراب يسيغ الطعام ، فصح بهذا الاعتبار أن يكون أحدهما بمنزلة
الطعام والآخر بمنزلة الشراب ، انتهى.
وروى في الفقيه
بإسناده عن محمد بن علي الكوفي عن إسماعيل بن مهران عن مرازم عن جابر بن
يزيد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : «قال رسول الله
__________________
صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا وقع الولد في بطن امه ـ إلى أن قال : ـ وجعل الله
تعالى رزقه في ثدي امه أحدهما شرابه وفي الآخر طعامه» الخبر.
الحادي عشر : قال
في الشرائع : لو ادعى الأب وجود متبرعة وأنكرت الأم فالقول قول
الأب ، لأنه قد يدفع عن نفسه وجوب الأجرة. على تردد. قال في المسالك : منشأ التردد من كون الام منكرة لما يدعيه من وجود
المتبرعة ، والأصل عدمه ، فيكون القول قولها لأنه المدعي ، ولأن الحق ثابت لها وهو
يدعي إسقاطه بوجود المتبرعة ، والأصل عدم سقوطه إلى أن يثبت ، ومما ذكره المصنف من
أن الأم تدعي شغل ذمة الأب بالأجرة وهو ينفي ذلك عن نفسه ، والأصل براءة ذمته منها
، ولأنه يعسر عليه إقامة البينة على ما يقوله فيصدق بيمينه وهو قول الشيخ في
المبسوط وهو الأشهر ، انتهى.
أقول : الظاهر
أن الأنسب بقواعدهم والأقرب إلى ضوابطهم هو ما قرره الشارح أولا ، فإن مقتضى صورة
النزاع التي فرضوها هو أن الأب ادعى وجود متبرعة والام أنكرت ، فالأب هو المدعي
والام هي المنكرة ، فيجب العمل بمقتضى القاعدة المنصوصة فيهما كما في كل مدع ومنكر
، وقضية ذلك أن القول قول الام بيمينها ، وأما جعل الام مدعية ـ لأنها تدعي شغل
ذمة الأب بالأجرة ، وهو منكر لأنه ينفي بذلك عن نفسه ـ وليس هو صورة الدعوى التي
فرضوها ، وإنما ذلك من لوازمها على أنه لا معنى لدعوى الام شغل ذمة الأب بالأجرة
قبل الرضاع ، لأن هذا النزاع إنما وقع في أول الأمر قبل دفع الولد إليها ، وقبل
تعيين الأجرة بأمره ، ومرجعه إنما هو إلى دعوى شغل الذمة لو أرضعت بعد دفع الولد
إليها.
وبالجملة فإن
عد الام مدعية والأب منكرا بهذا التقريب الذي ذكروه
__________________
ـ مع كون صورة النزاع الذي فرضوه إنما هو على الوجه الذي عرفت ـ لا يخلو من
غموض وإشكال.
المورد
الثاني : في مدته ،
والكلام فيه أيضا يقع في مواضع :
الأول : لا
خلاف نصا وفتوى في أن مدة الرضاع المحدودة شرعا وإن جاز النقيصة عنها والزيادة عليها
حولان كاملان.
ويدل على ذلك
قوله تعالى «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ»
وما سيأتي من الأخبار المذكورة في المقام إن شاء الله تعالى.
الثاني : قد
صرح الأصحاب بجواز الاقتصار على أحد وعشرين شهرا لا أقل لظاهر قوله تعالى «وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً»
فإذا حملت به تسعة أشهر كما هو الغالب كان الباقي للرضاع أحدا وعشرين
شهرا.
ويدل على ذلك
أيضا جملة من الأخبار منها ما رواه في التهذيب عن عبد الوهاب بن الصباح قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : الفرض في الرضاع أحد وعشرون شهرا ، فما نقص عن أحد
وعشرين شهرا فقد نقص المرضع ، فإن أراد أن يتم الرضاعة له فحولين كاملين».
وما رواه في
الكافي عن سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الرضاع أحد وعشرون شهرا فما نقص فهو جور على الصبي».
وظاهر الخبرين
تحريم ما نقص عن أحد وعشرين كما هو ظاهر الأصحاب أيضا لحكمه في الأول بأن الأحد
وعشرين هو الفرض ، وفي الثاني بأن ما نقص منه جور وظلم للصبي.
__________________
واستشكل ذلك في
شرح النافع فقال : ولو قيل بجوازه إذا اقتضت مصلحة الولد ذلك وتراضى عليه الأبوان
لم يكن بعيدا ، قال : ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين
كاملين ، فإن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراض منهما فهو حسن».
أقول : الظاهر
أن الوجه في الجمع بين هذا الخبر والخبرين الأولين هو تخصيص النقصان في هذا الخبر
بما لا يبلغ النقصان عن ذلك الحد ، فإن الخبرين الأولين ظاهران بل صريحان في تحريم
النقص عن ذلك المقدار.
بقي هنا شيء
يجب التنبيه عليه وهو : أنه قد تقدم في المسألة الاولى من المقام الأول الاستدلال
بهذه الآية ، أعني قوله «وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً»
على أن أقل
الحمل ستة أشهر ، وأقصى الفصال عامان ، وهنا قد استدلوا بها على أن أقصى الفصال
أحد وعشرون شهرا ، وأن يشكل أيضا ذلك على تقدير القول بأن أقصى الحمل سنة ، والقول
بأن أقصاه عشرة أشهر ، وجواز أن تضعه لسبعة أشهر ، وفي جميع هذه الصور لا يتم أن
الفصال أحد وعشرون شهرا ، ولهذا نقل عن ابن عباس أن من ولد لستة أشهر ففصاله في
عامين ، ومن ولد لسبعة فمدة رضاعه ثلاثة وعشرون شهرا ، ومن ولد لتسعة هو أحد
وعشرون.
قال في المسالك
: وهو قول موجه جامع بين الآيات.
أقول : والأظهر
عندي عدم الرجوع في الاستدلال في هذه المسألة إلى الآية المذكورة بل الاعتماد على
الأخبار التي ذكرناها ، والمستفاد من النصوص الواردة في تفسير هذه الآية أن نزولها
كان في الحسين عليهالسلام كما ينادي به سياق الكلام في الآية قبل هذا الموضع
وبعده ، ولا بأس بذكر خبر من تلك الأخبار.
__________________
وهو ما رواه في
الكافي بسنده إلى أبي خديجة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لما حملت فاطمة عليهاالسلام بالحسين عليهالسلام جاء جبرئيل إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : إن فاطمة ستلد غلاما تقتله أمتك من بعدك فلما
حملت فاطمة الحسين عليهالسلام كرهت حمله ، وحين وضعت كرهت وضعه ، ثم قال أبو عبد الله
عليهالسلام : لم تر في الدنيا أم تلد غلاما تكرهه ، ولكنها كرهت
لما علمت أنه سيقتل ، قال : وفيه نزلت هذه الآية «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ
بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً»
. ونحوه غيره ، وعلى هذا فمحل الاستدلال بالآية إنما هو ما قدمناه في
المسألة الاولى من المقام الأول من هذا المقصد ، وجميع ما ذكره من الإشكالات
والاحتمالات في الآية باعتبار الاستدلال بها في هذا المقام فهو نفخ في غير ضرام.
الثالث : قد
ذكروا أنه يجوز الزيادة على الحولين شهرا وشهرين لا أكثر ، وقيل : إنه مروي ، وقد
اعترف السيد السند في شرح النافع بأنه لم يقف على الرواية ، وهو كذلك ، فإنا بعد
الفحص والتتبع لم نقف عليها في شيء من كتب الأخبار.
نعم قد روى
الكليني وابن بابويه في الصحيح عن سعد بن سعد الأشعري عن أبي
الحسن الرضا عليهالسلام قال : «سألته عن الصبي هل يرتضع أكثر من سنتين؟ فقال :
عامين ، قلت : فإن زاد على سنتين هل على أبويه من ذلك شيء؟ قال : لا».
وظاهر هذه
الرواية جواز الزيادة على الحولين مطلقا ، وهم لا يقولون به ، والأمر بالحولين في
الآية والأخبار لا يقتضي المنع عما زاد.
الرابع : قد
صرحوا بأن ما يجوز لها إرضاعه من الشهر والشهرين لا تستحق
__________________
عليه اجرة ، واستشكله على إطلاقه في المسالك بأنه إنما يتم على تقدير عدم حاجة الولد إليه ، أما لو
احتاج إليه لمرض ونحوه بحيث لا يمكن غذاؤه فيها بغير اللبن كان اللبن حينئذ بمنزلة
النفقة الضرورية ، فعدم استحقاق الام عليه اجرة مطلقا لا يخلو من نظر ، إلا أن عمل
الأصحاب ورواياتهم على ذلك ، فلا مجال لخلافه.
أقول : من
الروايات التي استند إليها الأصحاب فيما ذكروه ما تقدم في صحيحة الحلبي من قوله عليهالسلام «ليس للمرأة أن يأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين كاملين».
وما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث «أنه نهى أن يضار الصبي أو تضار أمه في رضاعه ،
وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين ، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما قبل
ذلك كان حسنا ، والفصال هو الفطام».
وقد تقدم في
رواية أبي بصير المذكورة في الموضع الثامن من المورد الأول نحو ذلك.
وأنت خبير بأنه
وإن كان ظاهر هذه الأخبار هو عدم جواز أخذ الأجرة على هذه المدة الزائدة ، إلا أنه
يجب تخصيصها بصورة عدم الضرورة للرضاع كما هو الغالب ، والأخبار إنما خرجت بناء
على ذلك ، ويؤيده قوله في تلك الأخبار بعد هذه الكلام «فإن أرادا فصالا عن تراض
قبل ذلك كان حسنا» فإن الكلام من أوله إلى آخره مبني على صحة الولد وسلامته ، وإلا
فالمستفاد من الأخبار
__________________
أن الضرورات تبيح المحظورات ، وحينئذ فيجب عليها رضاعه في تلك المدة لمكان
الضرورة ، ويجب على الأب الأجرة حسبما قرره ـ رحمهالله ـ أولا.
وأما ما ذكره ـ
رحمة الله عليه ـ من أن عمل الأصحاب ورواياتهم على ذلك فلا مجال لخلافه ، ففيه أن
غاية ما يفهم من كلامهم ومن الأخبار المذكورة هو إطلاق القول بالمنع من أخذ الأجرة
على هذه المدة ، وليس في شيء منهما ما يدل صريحا أو ظاهرا على أن الأمر كذلك في
صورة الاضطرار إلى الرضاع هذه المدة ، فالجميع قابل للتقييد بما ذكرناه ، فلا
منافاة كما توهم ، وإلى ما ذكرناه يميل كلام سبطه في شرح النافع حيث قال : ولو
اضطر الولد إلى الرضاع بعد الحولين لمرض ونحوه فالأقرب وجوب أجرتها على الأب لأن
ذلك بمنزلة النفقة الضرورية. انتهى وهو جيد.
المقام
الثالث : في الحضانة ،
والظاهر أن أصلها من حضن الطائر بيضه ، أي ضمه تحت جناحه ، قال في كتاب المصباح
المنير بعد ذكر المعنى المذكور : والحضانة ـ بالفتح والكسر ـ اسم
منه. وقال في المسالك : هي ـ بفتح الحاء ـ ولاية على الطفل والمجنون لفائدة تربيته
، وما يتعلق بها من مصلحته من حفظه وجعله في سريره ورفعه وكحله ورهنه وغسل خرقه
وثيابه وتنظيفه ونحو ذلك وهي بالأنثى أليق منها بالرجل ، لمزيد شفقتها وخلقها
المعد لذلك بالأصل ، انتهى.
والواجب أولا
نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، وكلام الأصحاب في المقام ، والكلام في ذلك
بما يسر الله تعالى فهمه بتوفيقه وببركة أهل الذكر عليهمالسلام.
فمن الأخبار ما
رواه في الكافي عن أبي العباس البقباق قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل أحق بولده أم المرأة؟ فقال : لا بل الرجل ، قال
: فإن قالت المرأة لزوجها الذي طلقها أنا أرضع ابني بمثل ما تجد من ترضعه فهي أحق
به».
__________________
وفي معنى هذه
الرواية روايات تقدمت في الموضع الثامن من المورد الأول من التكملة في الرضاع.
وفي الصحيح أو
الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الحلبي المطلقة ينفق عليها حتى تضع حملها ، وهي
أحق بولدها حتى ترضعها بما تقبله امرأة اخرى ، إن الله عزوجل يقول «لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ»
الحديث.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن المنقري عمن ذكره قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن الرجل يطلق امرأته وبينهما ولد أيهما أحق بالولد؟
قال : المرأة أحق بالولد ما لم تتزوج».
ورواه في
الفقيه عن المنقري عن حفص بن غياث أو غيره قال : «سألت أبا عبد
الله عليهالسلام» الحديث.
وما رواه في
الفقيه عن عبد الله بن جعفر في الصحيح عن أيوب بن نوح قال : «كتب
إليه بعض أصحابه أنه كانت لي امرأة ولي منها ولد فخليت سبيلها فكتب عليهالسلام : المرأة أحق بالولد إلى أن يبلغ سبع سنين إلا أن تشاء
المرأة».
وما رواه المشايخ
الثلاثة عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليهالسلام في قوله تعالى «وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ»
قال : ما دام
الولد في الرضاع فهو بين الأبوين
__________________
بالسوية ، فإذا فطم فالأب أحق به من الأم ، فإذا مات الأب فالأم أحق به من
العصبة ، فإن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم وقالت الام : لا أرضعه إلا بخمسة
دراهم فإن له أن ينزعه منها إلا أن ذلك خير له وأرفق به أن يذره مع أمه».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن داود الرقي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة حرة نكحت عبدا فأولدها أولادا ، ثم إنه طلقها
فلم تقم مع ولدها وتزوجت ، فلما بلغ العبد أنها تزوجت أراد أن يأخذ ولده منها ،
وقال : أنا أحق بهم منك إذا تزوجت ، فقال : ليس للعبد أن يأخذ منها ولدها ، وإن
تزوجت حتى يعتق هي أحق بولدها منه ما دام مملوكا ، فإذا أعتق فهو أحق بهم منها».
وما رواه الصدوق
في الصحيح عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «أيما امرأة حرة تزوجت عبدا فولدت منه أولادا فهي
أحق بولدها منه وهم أحرار ، فإذا أعتق الرجل فهو أحق بولده منها لموضع الأب».
وما رواه في
الكافي في الموثق عن جميل وابن بكير جميعا «في الولد من الحر
والمملوكة ، قال : يذهب إلى الحر منها».
وروى ابن الشيخ
في أماليه عن أبيه عن أبي الصلت عن ابن عقدة عن عبد الله ابن علي
عن الرضا عن آبائه عن علي عليهمالسلام «أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قضى بابنة حمزة لخالتها ، وقال : الخالة والدة».
__________________
وروى ابن إدريس
في مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم من مولانا أبي الحسن
علي بن محمد عليهالسلام برواية الجوهري والحميري عن أيوب بن نوح قال : «كتب
إليه ـ يعني بشار بن بشير ـ : جعلت فداك رجل تزوج امرأة فولدت منه ثم فارقها ، متى
يجب له أن يأخذ ولده؟ فكتب : إذا صار له سبع سنين ، فإن أخذه فله ، وإن تركه فله».
هذا ما حضرني
من أخبار المسألة ، والكلام في هذا المقام بما يحيط بأطراف النقض والإبرام يقع في
مسائل :
الأولى : في
الحضانة وقت الرضاع وبعده ، (أما) الأول فقد صرح جملة من الأصحاب بأن الأم أحق
بالولد مدة الرضاع قال في المسالك : ولا خلاف فيه إذا كانت متبرعة أو رضيت بما
تأخذ غيرها من الأجرة.
أقول : ويدل
على ما ذكره جملة من هذه الروايات المنقولة هنا ، وما تقدم في الموضع الثامن من
المورد الأول من التكملة ، إلا أن ابن فهد في المهذب ادعى الإجماع أيضا على اشتراك
الحضانة بين الأبوين مدة الرضاع ، قال : وقع الإجماع على اشتراك الحضانة بين
الأبوين مدة الحولين ، وعلى سقوطها بعد البلوغ ، انتهى.
ويدل على ما
قاله رواية داود بن الحصين وقوله عليهالسلام فيها «ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية».
إلا أنها تضعف عن معارضة تلك الأخبار الدالة على القول الأول سندا وعددا. وبالجملة
فإنه لا إشكال بعد دلالة هذه الأخبار على أحقية الأم به مدة الرضاع إذا تبرعت أو
رضيت بما رضي به غيرها.
وإنما الإشكال
فيما إذا سقط حقها من الرضاعة واسترضع الأب غيرها بأن لم تتبرع ولم ترض بما رضي به
غيرها ، فإنه قد تقدم في رواية داود بن الحصين أن للأب أن ينزعه منها ، وحينئذ
فإذا زال حقها من الرضاع فهل يزول
__________________
أيضا حقها من الحضانة أم يبقى؟ قولان : وبالأول صرح المحقق في الشرائع وإلى
الثاني ذهب ابن إدريس فقال : لا يسقط حقها من الحضانة ، لأنهما حقان متغايران ،
فلا يلزم من سقوط أحدهما سقوط الآخر ، وهو قوي من حيث الاعتبار ، إلا أن ظاهر قوله
عليهالسلام في رواية داود بن الحصين أن للأب أن ينزعه منهما إن لم
ترض بما رضي به غيرها يرد ما ذكره ، ويؤيده أيضا مفهوم رواية أبي الصباح الكناني ورواية أبي العباس ، وإلى القول بما ذهب إليه المحقق مال السيد السند في
شرح النافع لما ذكرناه ، وأيده بما يلزم من الحرج في تردد المرضعة إلى الأم في كل
وقت يحتاج الولد إلى الرضاع والعسر المنفيين بالآية والرواية وظاهر جده في المسالك
والروضة الميل إلى ما ذهب إليه ابن إدريس استضعافا لرواية داود بن الحصين ، وإمكان
حملها على أن المراد نزعه من جهة الرضاع لا مطلقا ، قال : والضرر بذلك لا يبلغ حدا
لإسقاط الحق الثابت ، وحينئذ فتأتي المرضعة وترضعه عندها مع الإمكان ، فإن تعذر
حمل الصبي إلى المرضعة وقت الإرضاع خاصة ، فإن تعذر جميع ذلك اتجه سقوط حقها من
الحضانة للحرج والضرر.
أقول : والأقرب
هو ما ذهب إليه المحقق ـ رحمة الله عليه ـ لظاهر الروايات المذكورة ، وإن كان ما
ذهب إليه ابن إدريس لا يخلو من قوة من حيث الاعتبار.
هذا بالنسبة
إلى مدة الحولين ، (وأما) بعدهما فقيل : إن الأب أحق بالذكر والام أحق بالأنثى حتى
تبلغ سبع سنين ، وهو قول الشيخ في النهاية وابن إدريس وابن البراج وابن حمزة
والمحقق.
وقيل : إن الأم
أحق بالذكر مدة الحولين ، وبالأنثى إلى تسع سنين وهو قول الشيخ المفيد وتلميذه سلار وقيل : إن الأم أحق بالولد ما لم تتزوج ،
__________________
ذهب إليه الصدوق في كتاب المقنع وقيل : إن الأم أحق بالبنت ما لم تتزوج ،
وبالصبي إلى سبع سنين ، إختاره ابن الجنيد والشيخ في الخلاف محتجا بإجماع الفرقة
وأخبارهم ، وأنكر ابن إدريس في سرائره هذا القول وبالغ في رده فقال : ما ذكره
شيخنا في مسائل خلافه قول بعض المخالفين ، وما اخترناه هو الصحيح ، لأنه لا خلاف
أن الأب أحق بالولد في جميع الأحوال ، وهو المولى عليه والقيم بأمره ، فأخرجناه
بالإجماع الحولين في الذكر ، وفي الأنثى السبع سنين ، فمن ادعى أكثر من ذلك يحتاج
إلى دليل قاطع ، وهو مذهب شيخنا في نهايته ، والعجب قوله في آخر المسألة «دليلنا
إجماع الفرقة وأخبارهم» وهو مما يضحك به الثكلى ، من أجمع منهم معه؟ وأي خبر لهم
في ذلك؟ بل أخبارنا بخلافه واردة ، وإجماعنا بضد ما قاله ـ رحمهالله ـ ورد العلامة في المختلف على ابن إدريس وبالغ في
تهجينه والإزراء عليه بجرأته على الشيخ.
أقول : لا ريب
أن كلام ابن إدريس جيد لكن الأولى الاقتصار على بيان المسألة من غير تعرض للإزراء
بالشيخ ـ رحمة الله عليه.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن ما تضمنه القول الأول من أن الأب أحق بالذكر ظاهر من الأخبار المتقدمة
الدالة على اختصاص الام به مدة الحولين ، فإن مفهومها أنه بعد الحولين تصير
الحضانة للأب ، وأما ما تضمنه من أن الأم أحق بالأنثى حتى تبلغ سبع سنين فلم نقف
له على نص صريح ، وليس في الأخبار المتقدمة وهي أخبار المسألة كملا ـ مما يتضمن
السبع إلا صحيحة أيوب بن روح وروايته المنقولة من مستطرفات السرائر ، وظاهرهما
العموم لكل من الذكر والأنثى ، وأن الأم أحق بهما في هذه المدة ، وإلى العمل بهذه
الصحيحة على عمومها مال السيد السند في شرح النافع ، والشيخ ومن تأخر عنه حملوها
على البنت جمعا بينها وبين ما دل على أن الذكر بعد الحولين تصير حضانته إلى الأب ،
وحينئذ فيصير الخبر باعتبار ذلك دليلا لما ذكره في النهاية.
وأما القول
الثاني فالوجه في حكم الذكر ظاهر مما عرفت. وأما الأنثى وأنها في حضانة الأم إلى تسع
سنين فلم نقف على خبر يدل عليه ، وقد اعترف بذلك من تقدمنا أيضا ، ولعل شيخنا
المفيد ـ رحمة الله عليه ـ وصل إليه خبر بما ذكره وإن لم يصل إلينا.
وأما القول
الثالث ـ وهو مذهب الصدوق ـ فيدل عليه رواية المنقري المتقدمة ، ورواية حفص بن غياث والشيخ ـ رحمهالله ـ قد حمل الرواية تارة على ما إذا كانت تكفله بما يكفله
غيرها ، قال : ويحتمل أن يكون المراد بالولد هنا الأنثى ويحتمل أن يكون المراد به
ما لم يفطم.
وأما القول
الرابع فقد عرفت ما فيه من كلام ابن إدريس ، والأقرب عندي في الجمع بين أخبار
المسألة هو أن يقال : إنه بعد الطلاق إن وقع التشاجر والنزاع بين الأبوين في
الحضانة فالظاهر أن الأب أحق به إلا في مدة الحولين إذا رضيت بما يرضى به غيرها ،
أو تبرعت ، فإنها تصير حينئذ أحق ، وإلى ما ذكرنا من أحقية الأب يشير قوله عليهالسلام في رواية البقباق بعد أن سأله : الرجل أحق بولده أم المرأة؟ فقال : بل
الرجل ، وإن لم يكن هناك تنازع بينهما فالأم أحق به إلى السبع ما لم تتزوج ، وعلى
ذلك يحمل ما دل على السبع على عمومه ، ويؤيده ما ورد في جملة من الأخبار الدالة
على ما ينبغي أن يفعل بالولد في مبدأ نشوه وتربيته.
ففي خبر يونس عن رجل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «دع ابنك يلعب سبع سنين وألزمه نفسك سبعا ، فإن
أفلح وإلا فإنه لا خير فيه».
__________________
وفي الفقيه عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «يربى الصبي سبعا ، ويؤدب سبعا ويستخدم سبعا».
وفي رواية يونس
بن يعقوب عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أمهل صبيك حتى يأتي له ست سنين ، ثم ضمه إليك
سبع سنين ، فأدبه بأدبك» الحديث.
وفي رواية ابن
أسباط عن عمه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن الغلام يلعب سبع سنين ، ويعلم الكتاب سبع
سنين ، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين».
فإنه لا يخفى
أن السبع التي هي مدة التربية واللعب إنما يكون عند الأم لأنها هي المربية له ،
وإليه يشير قوله «ثم ضمه إليك وألزمه نفسك» يعني بعد تلك السبع ، وهو ظاهر في أن
الأب إنما يضمه إلى نفسه وتصير الحضانة له بعد تلك السبع التي مضت للولد عند امه ،
ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.
المسألة
الثانية : قد صرح الأصحاب بأن حضانة الأم حيث تثبت لها الحضانة
مشروطة بشروط :
الأول : أن تكون مسلمة إذا كان الولد مسلما كولد المسلم
المحكوم بالإسلام لإسلام أبيه ، وعلل بأن الحضانة ولاية ، ولا ولاية للكافر على
المسلم ، للآية وبأنها تفتنه عن دينه لأنه ينشأ على ما يألفه منها.
قالوا : ولو
كان الولد كافرا تبعا لأبويه فحضانته على ما فصل إن ترافعوا إلينا.
الثاني : أن
تكون حرة ، فلا حضانة لها لو كانت أمة لأن منافعها مملوكة
__________________
لسيدها ، فهي مشغولة بخدمته عن الحضانة ، ولأن الحضانة ولاية ، والمملوك
ليس أهلا لها.
أقول : ويؤيده
بل يدل عليه ما تقدم من رواية داود الرقي وصحيحة الفضيل بن يسار ومقطوعة جميل وابن بكير والتقريب فيها أنه رتب الولاية في الحضانة على الحرية
فمنع الأب من الحضانة ما دام رقا ، وأنما يجوز له بعد الحرية مع ما عرفت آنفا من
أن الحضانة للأب إلا في مدة الرضاع
الثالث : أن
تكون عاقلة ، فلا حضانة للمجنون لأن المجنون يحتاج إلى من يحضنه ، فكيف يحضن غيره
، قالوا : ولا فرق بين أن يكون الجنون مطبقا أو أدوارا ، إلا أن يقع نادرا من غير
أن تطول مدته فلا يبطل الحق ، وفي إلحاق المرض المزمن الذي لا يجرى زواله كالسل
والفالج بحيث يشغل الألم عن كفالته وتدبير أمره وجهان : من اشتراكهما في المعنى
المانع من مباشرة الحفظ ، وأصالة عدم سقوط الولاية مع إمكان تحصيلها بالاستنابة ،
ولعل هذا أرجح.
قيل ولو كان المرض مما يعدي كالجذام والبرص فالأظهر سقوط
حضانتها بذلك تحرزا من تعدي الضرر إلى الولد ، وهو مبني على الخبر الوارد عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «فر من المجذوم فرارك من الأسد». ويحتمل بناء على خبر «لا عدوى ولا طيرة». وخبر من ذا الذي أعدى الأول عدم سقوط الولاية ،
والشهيد في قواعده ذكر
__________________
هذا شرطا على حدة.
الرابع : أن
تكون فارغة من حقوق الزوج ، فلو تزوجت سقط حقها من الحضانة.
أقول : ويدل
على هذا الشرط ما تقدم في حديثي المنقري وحفص بن غياث الدالين على أن المرأة أحق
بالولد ما لم تتزوج ، ونقل الشهيد الثاني في الروضة الإجماع على هذا الشرط وإطلاق
النص ، وكلام الأصحاب يقتضي أنه لا فرق في سقوط حقها بالتزويج بين دخول الزوج
وعدمه ، ويحتمل اختصاص السقوط بحال الدخول لأنه الذي يحصل فيه الاشتغال بحقوق
الزوج المانعة لها من الكفالة.
بقي الكلام في
أنه لو طلقت الام فهل تعود إليها الولاية لزوال المانع وهو التزويج؟ أم لا لخروجها
بالنكاح عن الاستحقاق فلا تعود إلا بدليل؟ قولان : أولهما للشيخ ، والثاني لابن
إدريس ، والشيخ إنما استدل هنا بأخبار العامة ، فاحتج بما رواه أبو هريرة «أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : الأم أحق بحضانة ابنها ما لم تتزوج». قال : حد
حقها بالتزويج ، فإذا زال التزويج فالحق باق على ما كان.
وعن عبد الله
بن عمر «أن امرأة قالت : يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء وحجري له
حواء ، وأن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني ، فقال لها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنت أحق به ما لم تنكحي».
احتج ابن إدريس
بأن الحق خرج عنها بالنكاح وعوده يحتاج إلى دليل ، والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم جعل غاية الاستحقاق للحضانة التي تستحقها الام تزويجها
، وهذه قد تزوجت. فخرج الحق منها.
والعجب من
الشيخ في استناده إلى هذه الأخبار العامية ، مع روايته للأخبار التي من طرق أهل
البيت عليهمالسلام في كتب الحديث.
قال العلامة في
المختلف بعد نقل القولين المذكورين : والوجه ما قاله
__________________
الشيخ لأن الحضانة جعلت إرفاقا بالصبي ، فإذا تزوجت الام خرجت باشتغالها
بزوجها وحقوقه عن الحضانة للطفل ، فلهذا سقطت ، فإذا طلقت زال المانع فيبقى
المقتضي سليما عن المعارض فيثبت حكمه ، وظاهر السيد السند في شرح النافع الميل إلى
هذا القول أيضا حيث جعله الأقرب ، والظاهر أنه كذلك ، ثم إنه بناء على العود
بالطلاق فظاهر كلام السيد المشار إليه أنه إنما يعود بمجرد الطلاق إذا كان الطلاق
بائنا ، ولو كان رجعيا فبعد العدة.
وفيه أنه من
الممكن ترتب الحكم على مجرد الطلاق في الرجعي أيضا بناء على أنها لا يجب عليها بعد
الطلاق شيء من حقوق الزوجية التي بها حكموا بزوال حضانتها بالتزويج ، وحينئذ
فتكون فارغة لكفالة الصبي والقيام بأحواله.
الخامس : أن
تكون أمينة ، فلا حضانة لمن لا أمانة لها ، قال في شرح النافع : وهذا الشرط لم
يعتبره المصنف ، وقد اعتبره الشيخ في المبسوط وجماعة منهم الشهيد في القواعد ، ولا
بأس به لأن من لا أمانة لها ربما خانت في حفظ الولد ، ولأن في التكليف بتسليم
الولد إلى غير المأمونة عسرا وحرجا فكان منفيا.
أقول : لا يخفى
ما في هذه التعليلات العليلة ، فإن الخروج عما ثبت شرعا لها من حق الحضانة بمثل
هذه التعليلات لا يخلو من مجازفة ، على أنه من المعلوم الذي جبلت عليه الطباع حنو
المرأة على ولدها وحرصها على القيام به واللطف به في جميع أحواله وحرصها على ما
يصلحه وينفعه ، كل ذلك جبلة وطبيعة وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا مرية فيه ، وكيف
مع هذا يتم ما ذكره من قوله «وربما خانت في حفظ الولد».
وبالجملة فإن
كلامه ـ رحمهالله ـ عندي هنا غير موجه ، على أنه لو تم ما ذكروه من هذه
التخريجات لجرى ذلك في الأب أيضا وهو معلوم البطلان ، ولعل ترك هذا الشرط هو
الأظهر ، فإن الام لمزيد شفقتها وحنوها على ولدها طبيعة وجبلة يمنع مما توهمه علة
لهذا الشرط.
السادس : أن
تكون مقيمة ، فلو انتقلت إلى محل تقصر فيه الصلاة سقط حقها من الحضانة عند الشيخ
في المبسوط ، ثم نقل عن قوم أنه إن كان المنتقل هو الأب فالأم أحق به ، وإن انتقلت
الأم فإن كان انتقالها من قرية إلى بلد فهي أحق به ، وإن كان من بلد إلى قرية
فالأب أحق به ، لأن في السواد يقل تعليمه وتخرجه ، وقال ـ بعد نقل ذلك ـ : إنه قوي
، وحكى الشهيد في قواعده قولا بأن الأب لو سافر جاز له استصحاب الولد وسقطت حضانة
الأم.
أقول : الظاهر
أن جميع هذه التفريعات والتعليلات كلها من كلام العامة ، كما عرفت في غير موضع من
الكتب السابقة ، جرى عليها الشيخ في المبسوط وتبعه غيره.
ولا يخفى ما في
بناء الأحكام الشرعية عليها من المجازفة في أحكامه سبحانه المبنية على النصوص
الواضحة من الكتاب والسنة ، كما استفاضت به أخبارهم عليهمالسلام.
المسألة
الثالثة : قد صرحوا بأنه لو مات الأب وقد صارت الحضانة له بأن
كان الولد أكبر من سنتين والبنت أكبر من سبع ـ بناء على ما ذكروه مما تقدم نقله
عنهم ـ فإن الحضانة تنتقل إلى الأم دون الوصي المنصوب من قبل الأب وغيره ، وكذا
تكون الأم أحق لو كان الأب مملوكا أو كافرا وإن تزوجت ، إلا أن يعتق المملوك ويسلم
الكافر.
أقول : أما
الحكم الأول فلم أقف له على دليل في النصوص وهم أيضا لم يذكروا له دليلا ، وإن كان
من الأدلة الاعتبارية الجارية في كلامهم ، والمقطوع به في النصوص هو أن الحضانة
لها في مدة الرضاع كما تقدم ، وأن الأب لا يزاحمها فيها ، فلو مات في هذه الحال
فالام باقية على ولايتها ، وليس للوصي معارضتها لأنها إذا كانت في هذه الحال أولى
من الأب على تقدير وجوده فهي أولى من وصيه بطريق الأولى مع موته.
وكذا في السبع
في البنت على ما يدعونه مما تقدم في كلامهم لعين ما ذكر ،
وأما بعد هذه المدة فيما إذا صارت الولاية للأب لو مات الأب فلا أعرف دليلا
على رجوع الولاية لها ، وأنها حق الوصي ، إلا أن ظاهر كلامهم الاتفاق على أنها
للأم ، وفرعوا عليه أيضا عدم الفرق بين كون الام متزوجة أم لا ، وبهذا التعميم صرح
العلامة في الإرشاد فقال : ولو مات الأب لم تسقط به يعني التزويج ، واستحقت
الحضانة إلى وقت التزويج.
وأما الحكم
الثاني ، فإما بالنسبة إلى كون الأب مملوكا فقد تقدم ما يدل عليه من الأخبار مثل
رواية داود الرقي وصحيحة الفضيل بن يسار ومقطوعة جميل وابن بكير ، وفي الأولى دلالة على الأولوية وإن تزوجت كما ذكروه ،
وأما بالنسبة إلى كونه كافرا فاستدلوا عليه بمفهوم الأولوية من المملوك فإنه متى
كانت الأم أولى من الأب المملوك فبطريق الأولى تكون أولى من الكافر ، لأنه أبعد من
الولاية.
المسألة
الرابعة : قد اختلف الأصحاب في حكم الحضانة مع فقد الأبوين
اختلافا زائدا لعدم النصوص الواردة في هذا المقام غير رواية ابن الشيخ الطوسي في
أماليه الواردة في ابنة حمزة ، والأكثر في هذه المسألة على تعدي الحكم إلى باقي
الأقارب ، وترتيبهم على ترتيب الإرث تمسكا بظاهر قوله تعالى «وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ»
فإن الأولوية تشمل الإرث والحضانة وغيرهما ، ولأن الولد يفتقر إلى التربية
والحضانة ، فلا بد من أن يكون له من يقوم بذلك ، والقريب أولى من البعيد ، وعلى
هذا فمع فقد الأبوين ينظر في الموجود من الأقارب ، ويقدر لو كان وارثا ، ويحكم له
بحق الحضانة ، ثم إن اتحد اختص ،
__________________
وإن تعدد أقرع بينهم لما في اشتراكهم من الإضرار بالولد.
قال في المسالك
: وهذا القول هو المعتمد. وقيل : إنه مع فقد الأبوين تكون الحضانة لأب الأب مقدما
على غيره من الاخوة والأجداد ، وإن شاركوه في الإرث ، وهذا هو الذي قطع به المحقق
والعلامة في غير المختلف وجماعة منهم الشيخ في موضع من المبسوط وابن إدريس كما
سيأتي في نقل كلامه. وقيل :
إنه مع فقد
الأبوين ينتقل الحكم إلى الأجداد ، ويقدمون على الاخوة وإن شاركوهم في الميراث ،
ولا يفرق بين الجد للأب وغيره ، ومع فقدهم ينتقل إلى باقي مراتب الإرث ، وهذا
القول مذهب العلامة في الإرشاد ، وأجمل حكم الأجداد ، ولم يفصل الحكم في الأجداد
مع التعدد والعلو ، ومن يتقرب منهم بالأب أو الأم. وقيل : إنه مع موت الأب تقوم
امه مقامه في ذلك ، فإن لم يكن له أم وكان له أب قام مقامه في ذلك ، فإن لم يكن له
أب ولا أم كانت الأم التي هي الجدة أحق به من البعد ، وهذا القول مذهب الشيخ
المفيد في المقنعة. وقيل : إن من مات من الأبوين كان الباقي أحق به من قرابة الميت
إلا أن يكون المستحق له غير رشيد ، فيكون من قرب إليه أولى به ، فإن تساوت القربات
قامت القربات مقام من هي له قرابة في ولايته ـ إلى أن قال : ـ والام أولى ما لم
تتزوج ثم قرابتها أحق به من قرابة الأب لحكم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بابنة حمزة لخالتها دون أمير المؤمنين عليهالسلام وجعفر ، وقد طالبا بها لأنها ابنة عمهما جميعا ، وقال
أمير المؤمنين عليهالسلام : عندي ابنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي أحق بها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ادفعوها إلى خالتها ، فإن الخالة أم. وهذا القول لابن
الجنيد ، وفي المسألة أقوال أخر غير ما ذكرناه.
أقول :
والمسألة لعدم النص لا تخلو من الإشكال إلا أن الظاهر أن ما ذكره ابن إدريس هنا هو الأقرب إلى جادة الاعتدال حيث قال ـ بعد أن نقل
عن
__________________
الشيخ في الخلاف كلاما طويلا يتضمن تعدية ولاية الحضانة إلى باقي الوراث
وتقديم بعضهم على بعض ـ ما صورته : ما ذكره الشيخ في الخلاف من تخريجات المخالفين
ومعظم قول الشافعي ، وبناهم على القول بالعصبة ، وذلك عندنا باطل ، ولا حضانة
عندنا إلا للام نفسها والأب ، فأما غيرهما فليس لأحد عليه ولاية سوى الجد من قبل
الأب خاصة.
قال في شرح
النافع : ويظهر من المصنف في الشرائع الميل إلى هذا القول ، ولا يخفى وجاهته ،
وإنما قلنا بثبوت الولاية للجد من قبل الأب لأن له ولاية المال والنكاح ، فيكون له
ولاية التربية بطريق أولى ، وإنما كانت الأم أولى منه بالنص ، فمع عدمها وعدم من
هو أولى منه تثبت الولاية ، وعلى هذا فلو فقد الأبوان والجد فإن كان للولد مال
استأجر الحاكم له من يربيه من ماله ، فإن لم يكن له مال كان حكم تربيته حكم
الإنفاق عليه ، فيجب على المؤمنين كفاية. انتهى وهو جيد ، ولهم هنا تفريعات على ما
ذكروه من الأقوال أعرضنا عن التطويل بنقلها لما عرفت في الأصل المبني عليه في
المقام من كونه في معرض التزلزل والانهدام.
المقصد الخامس في النفقات :
وأسبابها ثلاثة
: الزوجية ، والقرابة ، والملك ، ولا خلاف بين علماء الإسلام في وجوبها : بهذه
الثلاثة ، وحينئذ فالكلام في هذا المقصد يقع في مطالب ثلاثة.
الأول
في الزوجية : والأصل في وجوب نفقة الزوجة الكتاب والسنة قال الله عزوجل «الرِّجالُ قَوّامُونَ
عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا
مِنْ أَمْوالِهِمْ» وقال سبحانه «لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ
اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْراً» .
__________________
وروى ثقة
الإسلام في الكافي عن إسحاق بن عمار في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما حق المرأة على زوجها الذي إذا فعله كان محسنا؟ قال
: يشبعها ويكسوها وإن جهلت غفر لها».
وروى في الفقيه
في الصحيح عن ربعي عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليهالسلام «في قوله عزوجل «وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللهُ»
قال : إذا أنفق
عليها ما يقيم ظهرها مع كسوة ، وإلا فرق بينهما».
وعن عاصم بن
حميد عن أبي بصير في الصحيح قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها
ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقا على الامام أن يفرق بينهما». إلى غير ذلك من
الأخبار التي تقدم جملة منها في الفائدة السادسة عشر من فوائد المقدمة.
إذا عرفت ذلك
فتحقيق الكلام في المقام يتوقف على بسطه في مسائل :
الأولى : لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط النفقة بالعقد الدائم
، فلا يجب لمتمتع بها نفقة ، وإليه يشير قول الصادق عليهالسلام في رواية زرارة «تزوج منهن ألفا فإنما هن مستأجرات». وقول أبي جعفر عليهالسلام في رواية محمد بن مسلم «لأنها لا تطلق ، ولا تورث وإنما هي مستأجرة». ومن المعلوم أن الأجير لا
نفقة وإنما
__________________
الخلاف بينهم في أنه هل تجب النفقة بمجرد العقد إذا كان دائما وإن سقطت
بالنشوز ، أو أنه يشترط مع العقد التمكين الكامل؟ وعرفه المحقق في الشرائع بأنه
التخلية بينها وبينه بحيث لا يختص موضعا ولا وقتا. فلو بذلت نفسها في زمان دون
زمان أو مكان دون آخر مما يسوغ فيه الاستمتاع لم يحصل التمكين قولان ، الأكثر على
الثاني ، بل لم أقف على مصرح بالأول وإن ذكر بلفظ «قيل».
ثم إنه على
تقدير القول المشهور فهل يتوقف حصول التمكين على لفظ من قبل المرأة يدل على ذلك
مثل أن تقول : سلمت نفسي إليك في أي مكان شئت ونحو ذلك مع حصول التخلية أم لا؟
قولان ، وبالأول صرح العلامة في التحرير ، وصرح في المسالك بأنه ذلك ظاهر كلام
جملة من الأصحاب ثم استشكل في ذلك .
أقول : بل يجب
القطع بعدمه ، أما (أولا) فلعدم الدليل عليه ، والقائل به لم ينقل عنه ذكر دليل
على ذلك ، ولو من الأدلة الاعتبارية الجارية في كلامهم وأصالة العدم أقوى مستمسك
حتى يقوم الدليل الواضح من الكتاب أو السنة على ما يوجب الخروج عنه ، وهذه قاعدتهم
في غير مقام من الأحكام.
وأما (ثانيا)
فلأن الأصل المبني عليه هذا القول أعني القول بوجوب التمكين على الوجه الذي عرفت ،
وأن وجوب النفقة متوقف على ذلك مما لم يقيموا عليه دليلا واضحا ولا برهانا لائحا ،
غير مجرد الدعوى مع ظهور الأدلة على خلافه ، وهو ما قدمناه من الأخبار الدالة على
ترتب وجوب النفقة على مجرد
__________________
الزوجية التي لا خلاف في حصولها بمجرد العقد.
قال السيد
السند في شرح النافع : وقد اختلف الأصحاب في اعتبار هذا الشرط ، فذهب الأكثر إلى
اعتباره ، وأن العقد بمجرده لا يوجب النفقة ، وإنما تجب بالتمكين ، إما بجعله تمام
السبب أو سببا تاما أو شرطا في الوجوب ، وربما قيل بوجوب النفقة بالعقد كالمهر
لكنها تسقط بالنشوز ، والمعتبر الأول اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع الوفاق ،
وليس فيما وصل إلينا من الأدلة النقلية ما ينافي ذلك صريحا ولا ظاهرا ، انتهى.
أقول فيه : إن
الأخبار التي أشرنا إليها أظهر ظاهر في ترتب النفقة على مجرد العقد فإن ما اشتمل
عليه جملة منها مما ذكرناه وما لم نذكره من قوله عليهالسلام «حق المرأة على زوجها» يعني من حيث الزوجية ، لأن التعليق على الوصف يشير
بالعلية ، وهو صريح في المطلوب ، ونحوه قوله «من كانت عنده امرأة فلم يكسها ويطعمها ما يقيم صلبها» إلخ أظهر ظاهر فيما ذكرناه فإنه
بمجرد العقد يصدق أنه عنده امرأة.
وبالجملة
فدلالة الأخبار على ما ذكرناه أظهر ظاهر كما عرفت ، فدعواه أنه لم يصل إليه من
الأدلة النقلية ما ينافي ذلك عجيب من مثله ـ رحمهالله.
وممن وافقنا
على هذه المقالة ـ وإن غلب عليه رعاية الشهرة فتوقف فيما قاله ـ شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك والحري أن ننقل جميع ما ذكره في المقام بلفظه وإن طال به
زمان الكلام.
قال ـ قدسسره ـ بعد الكلام في المقام «ولا ريب في أن للنفقة تعلقا
بالعقد والتمكين جميعا فإنها لا تجب قبل العقد ، ولو نشزت بعد العقد لم تطالب
بالنفقة ، واختلف في أنها بم تجب؟ فقيل : بالعقد كالمهر لا التمكين ، لدلالة
الأدلة السابقة
__________________
على وجوبها للزوجة من غير تقييد ، غايته أن النشوز لما ثبت أنه مانع من
وجوب الإنفاق كان الشرط عدم ظهور المانع ، فما لم يوجد المانع يستمر الوجوب المعلق
على الزوجية الحاصلة بالعقد ، فالعقد مثبت ، والنشوز مسقط ، ولأنها تجب للمريضة
والرتقاء ، وقيل : لا تجب بالعقد مجردا بل بالتمكين ، لأن المهر يجب به والعقد لا
يوجب عوضين مختلفين ، ولأن النفقة مجهولة الجملة ، والعقد لا يوجب مالا مجهولا ،
ولما روي «أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تزوج ودخل بعد سنتين ولم ينفق إلا بعد دخوله». ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «اتقوا الله في النساء فإنهن عوار عندكم ، اتخذتموهن بأمانة الله ،
واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف». أوجب لهن إذا
كن عند الرجال ، وهو يدل على التمكين ، ولأن الأصل براءة الذمة من وجوب النفقة خرج
منه حالة التمكين بالإجماع فيبقى الباقي على الأصل ، وفي جميع هذه الأدلة نظر ،
لأن عدم إيجاب العقد عوضين مختلفين وعدم إيجابه مالا مجهولا مجرد دعوى أو استبعاد
قد دلت الدليل على خلافهما فإن الآيات الدالة على وجوب النفقة على الزوجة من غير
تقييد يدل على أن العقد أوجب النفقة على ذلك الوجه ، وأي مانع من إيجاب العقد
أمرين مختلفين كما في شراء الدابة والمملوك ، فإن العقد يوجب الثمن كالمهر ، ويوجب
الإنفاق المجهول من غير شرط إجماعا ، وعدم إنفاق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل الدخول ـ لو سلم ـ لا يدل على عدم الوجوب بإحدى
الدلالات ، والخبر يدل على خلاف مطلوبكم لأن الضمير في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «ولهن عليكم» يعود على النساء المصدر بذكرهن ، وهن أعم من الممكنات ،
ووصفهن بالوصفين لا يدل على التمكين المدعى كونه شرطا أو سببا لأن استحلال فروجهن
يحصل مع التمكين التام وعدمه ، وأما
__________________
أصالة البراءة فإنما تكون حجة مع عدم دليل ناقل عنه ، لكنه موجود هنا
بالعمومات الدالة على وجوب نفقة الأزواج ، والأصل عدم التخصيص ، وعلى كل حال
فالأظهر بين الأصحاب هو القول الثاني كما أشار إليه المصنف ـ رحمهالله ـ» انتهى ، وهو جيد وجيه كما لا يخفى عن الفطن النبيه.
ولكنه ـ رحمة
الله عليه ـ لمراعاة الشهرة في المسألة لم يصرح بالفتوى بما قاله ، وفي قوله «وكذا
قول المحقق في المتن» إن ذلك يعني شرطية التمكين أو سببيته هو الأظهر بين الأصحاب
ما يؤذن بالتردد ، بل المحقق قد صرح في متن عبارته بالتردد ، فقال «وفي وجوب
النفقة بالعقد أو بالتمكين تردد ، أظهره بين الأصحاب وقوف الوجوب على التمكين» وهو
ظاهر في بقائه على التردد ، لتخصيصه الأظهرية بالأصحاب ، ولم يذكر أن الأظهر عنده
ذلك.
وبالجملة
فالأظهر هو القول المخالف للمشهور ، فإنه هو المؤيد بالأدلة والمنصور ، وما عدل
بمحمل من الضعف والقصور ، وتنقيح البحث في المسألة يتم برسم فوائد :
الأولى : قد
صرحوا بأنه يظهر فائدة الخلاف المذكور في مواضع منها ما لو اختلفا في التمكين بأن
ادعته المرأة وأنكره الزوج ، فإن قلنا إن التمكين سبب أو شرط فالقول قول الزوج ،
وعلى المرأة البينة ، لأنها تدعي ما يخالف الأصل ، وإن قلنا إنها تجب بالعقد
والنشوز مانع كان القول قولها لأن الأصل استمرار ما ثبت بالعقد ، وهو يدعي السقوط
بالنشوز فعليه البينة.
ومنها ما لو لم
يطالبها الزوج بالزفاف ، ولم تمنع هي منه ولا عرضت نفسها عليه ومضت لذلك مدة ، فإن
اعتبرنا التمكين فلا نفقة لها لأنه لم يحصل من جانبها تمكين قولي ولا فعلي كما هو
المفروض ، وإن قلنا إنها تجب بالعقد وتسقط بالنشوز وجبت النفقة ، إذ المفروض أنه
لم يقع من جانبها امتناع يتحقق به النشوز.
أقول : لا يخفى
ما في كلامهم في هذا التمكين الذي ادعوا شرطيته أو سببيته
في وجوب الإنفاق من الإجمال ، وعدم ظهور معنى يترتب عليه الخلاف في هذا
المجال ، فإنه إن كان عبارة عن أن تبذل نفسها وتعرض نكاحها عليه فهو لا يكون إلا
بالقول الذي تقدم ، وقد عرفت أنه خلاف المشهور ، وإن كان عبارة عن إجابتها له متى
طلب وتسليم نفسها متى أراد من غير تعلل ولا توقف على زمان ولا مكان كما هو ظاهر
تعريف المحقق المتقدم مع تعريفه بالتخلية بينها وبينه ـ فهو حاصل في هذه الصورة
المفروضة ، ولا ثالث لهذين المعنيين ، فإنه متى لم يطالبها الزفاف ولم يطلب الدخول
بها وهي منتظرة له في ذلك فالتمكين حاصل ، وإنما حصل التأخير بسببه ، إلا أن
يقولوا بأنه يجب عليها أن تخرج من بيتها وتمضي إليه وتطالبه بالدخول ، أو تقول له
ذلك القول المتقدم ، وهو ظاهر البطلان.
وبالجملة فإن
كلامهم في تحقق معنى هذا التمكين الذي ادعوه غير منقح ولا موجه كما لا يخفى على
المتأمل بعين الإنصاف.
الثانية : لو
كانت الزوجة صغيرة يحرم جماعها فالمشهور أنه لا نفقة لها لعدم تحقق التمكين من
جانبها من حيث عدم صلاحيتها لذلك عادة.
وقال ابن إدريس
: إذا كانت الزوجة صغيرة والزج كبير وجب عليه نفقتها لعموم وجوب النفقة
على الزوجة ، ودخوله مع العلم بحالها ، وهذه ليست ناشزا والإجماع منعقد على وجوب
النفقة على الزوجات.
واعترضه السيد
السند في شرح النافع فقال ـ بعد نقل كلامه ـ : وفي ثبوت ما ادعاه من العموم نظر ،
وفي الإجماع منع ، مع أنه ـ رحمهالله ـ يعتبر في وجوب النفقة التمكين ، لا انتفاء النشوز ،
والتمكين لا يتحقق مع الصغر ، انتهى.
أقول : أما
قوله «إن في ثبوت ما ادعاه من العموم نظر» فهو محل نظر لما عرفت من ظاهر الآيات
والأخبار الدالة على وجوب النفقة مع تحقق الزوجية من غير تقييد بحال ولا زمان. نعم
ما أورده عليه من أنه قائل بشرطية التمكين
__________________
والتمكين هنا غير حاصل فهو ظاهر الورود عليه ، إلا أنه يمكن أن يجاب عنه
بأن التمكين الواجب على تقدير القول به إنما هو ممن له أهلية ذلك ، وإن كان ظاهر
كلامهم الأعم من ذلك حيث حكموا هنا بأن العلة في عدم وجوب النفقة هو عدم التمكين
من حيث صغرها وعدم قابليتها ، والظاهر أن ما ذكرنا أقرب ، وكيف كان فقول ابن إدريس
هو الظاهر من الأخبار المتقدمة المترتب فيها وجوب الإنفاق على مجرد الزوجية بقول
مطلق.
الثالثة : لو كانت الزوجة كبيرة والزوج صغيرا قال الشيخ في المبسوط والخلاف لا نفقة
عليه ، وظاهر جملة من الأصحاب منهم ابن الجنيد والمحقق في الشرائع والعلامة في
المختلف والشهيد الثاني وغيرهم بل الظاهر أنه المشهور الوجوب.
قال في الشرائع
: أما لو كانت كبيرة والزوج صغيرا قال الشيخ لا نفقة لها ، وفيه إشكال
منشأه تحقق التمكين من طرفها والأشبه وجوب الإنفاق ، انتهى.
واستشكل في شرح
النافع كلام المحقق هنا ثم قال : وقول الشيخ متجه لأنه الأصل ولا مخرج عنه.
أقول : قد عرفت
بما قدمناه من التحقيق تزعزع هذا الأصل ، وأنه بالبناء عليه غير حقيق ، وقد بينا
المخرج عنه وهو عموم الآيات والأخبار المستفيضة ، فالظاهر هو ما ذهب إليه الجماعة
، أما على ما اخترناه في المسألة من ترتب الوجوب على مجرد حصول الزوجية وعدم ظهور
النشوز فظاهر ، وأما على ما هو المشهور من اشتراط التمكين فلأنه المفروض ، والأصل
عدم اشتراط أمر آخر في الوجوب ، وهو قابلية الزوج للاستمتاع بها.
وعلل ما ذهب
إليه الشيخ بوجه عليل نقله في المسالك وأجاب عنه ، على أنه مع ثبوته وصحته فبناء
الأحكام الشرعية على مثله ـ من هذه العلل الاعتبارية والتوجيهات العقلية ـ مما
حظرت الأخبار جوازه ، كما تقدم ذكره في غير موضع.
__________________
الرابعة : قالوا
: إذا غاب الزوج عن المرأة فإن كانت غيبته بعد أن حصل التمكين من الزوجة وجب عليه
النفقة واستمرت عليه مدة غيبته ، وإن كانت غيبته قبل التمكين فإن اكتفينا بالعقد
وجعلنا النشوز مانعا فالحكم كذلك حيث لم يثبت النشوز ، وإن اعتبرنا التمكين في
الوجوب شرطا أو سببا فلا نفقة لها ، فلو حضرت في هذه الصورة عند الحاكم وبذلت
التسليم والطاعة لزوجها اعلم بذلك ، فإن وصل إليها وجبت النفقة حينئذ ، وإن لم
يفعل ، فإذا مضى زمان يمكنه الوصول فيه إليها عادة فرض لها الحاكم النفقة في ماله
لأن الامتناع منه.
ولو نشزت
المرأة مع حضور الزوج فغاب عنها وهي كذلك ثم عادت إلى الطاعة لم تجب نفقتها إلى أن
يعلم بعودها ، ويمضي زمان يمكنه الوصول إليها لخروجها بالنشوز عن استحقاق النفقة ،
فلا تعود إلا مع تحقق التمكين.
أقول : قد عرفت
مما قدمناه من التحقيق في المسألة ما في بعض هذه الشقوق من الاختلال وبعض من
الإجمال ، وما ذكروه من حضورها عند الحاكم على تقدير اعتبار التمكين فلا أعرف له
وجها ولا ما يوجبه.
نعم الواجب
عليها إعلامه ، وبعد علمه بذلك فإنه يجب عليه الإنفاق عليها لزوال المانع ، وهو
النشوز ، رجع من سفره أم لم يرجع ، فلو لم يرجع ولم ينفق عليها رفعت أمرها إلى
الحاكم حينئذ وأخبرته بالحال ليجزي عليها النفقة من ماله.
الخامسة : لا
تسقط النفقة بامتناعها عن الوطء لعذر شرعي كالحيض وفعل الواجب أو عقلي كالمرض ،
وهل يفرق في الواجب بين المضيق والموسع أم لا؟ قولان ، فاعتبر الشيخ والعلامة في
القواعد في جواز مبادرتها إلى الواجب الموسع من الصوم إذن الزوج ، ونقل عن الشيخ
في موضع من المبسوط أنه اعتبر ذلك في قضاء الفريضة أيضا ، وظاهر جمع منهم السيد
السند في شرح النافع عدم الفرق صوما كان أو صلاة ، لأصالة عدم ثبوت سلطنته عليها
في فعل الواجب ، وهو الأقرب ، والظاهر أنه المشهور ، واتفق الجميع على جواز
مبادرتها إلى الصلاة
الواجبة في أول الوقت بغير إذنه ، وفرقوا بينهما بما لا يخلو من نظر ، وعلى
ما اخترناه فلا ضرورة إلى الفرق المذكور ، والمشهور بين الأصحاب أنه لو كان الفعل
مندوبا فإن كان مما يتوقف على إذن الزوج كالحج والصوم فإن فعله بدون إذنه موجب
لفساده ، ولكنه لا يوجب منع النفقة ، لأنه غير مانع من التمكين ، إلا أن تمنعه من
الاستمتاع ، فيكون هو السبب في عدم وجوب النفقة لا نفس العبادة.
ونقل عن الشيخ
أنه أسقط النفقة مع امتناعها من الإفطار ، وأورد عليه بأنه على إطلاقه مشكل ، فإن
النشوز لا يتحقق بترك غير الاستمتاع فلا يتحقق بمخالفتها في ترك الأكل والشرب إذ
لا يجب عليها إطاعته في ذلك ، إلا أن يقال : إن ترك الإفطار يقتضي الامتناع عن
الوطء.
وفيه أن الموجب
حينئذ إنما هو الامتناع من الوطء ، وعبارة الشيخ أعم لأنه رتب النشوز على المطالبة
بالفطر فتمتنع.
وبالجملة فضعف
القول المذكور ظاهر ، وإن كان مما لا يتوقف على إذنه جاز لها فعله بغير الإذن إلا
أن يكون ذلك مانعا من الاستمتاع بأن يطلبه منها في ذلك الوقت فتجب عليها طاعته ،
لأن المندوب لا يعارض الواجب ، ولو استمرت والحال هذه لم تستحق نفقة لتحقق النشوز
، بل يحكم ببطلان الفعل نظرا إلى النهي ، أو يصح وإن أثمت بالمخالفة ، وجهان
مبنيان على أن الأمر بالشيء هل يستلزم النهي عن ضده الخاص أم لا؟ والأظهر عندي
الثاني كما تقدم تحقيقه في غير موضع من الكتب المتقدمة.
السادسة : قال
في الشرائع : لو كانت مريضة أو رتقاء أو قرناء لم تسقط النفقة
لإمكان الاستمتاع بما دون الوطء قبلا وظهور العذر فيه.
قال في المسالك
: لما حكم بعدم وجوب الإنفاق على الصغيرة ، وإن مكنت
__________________
من حيث تعذر الوطء ذكر ما يمكن أن يشاركها في الحكم وهو المريضة والرتقاء
والقرناء ، ونبه المصنف على الفرق بينها وبين الصغيرة بأن الاستمتاع بالرتقاء
والقرناء ممكن في ما دون الفرج وظهور العذر فيه من حيث كونه مانعا دائما ، فلا
يناسب إدامة الحبس عليها مع عدم النفقة ، بخلاف الصغيرة فإن لها أمدا يرتقب ، وأما
المريضة فإن الوطء وإن تعذر لها مطلقا إلا أن ذلك عارض متوقع الزوال كالحيض فلا
يؤثر ، انتهى.
أقول : لا يخفى
ما في هذه التعليلات العليلة في بيان الفرق بين الصغيرة وغيرها مما ذكر هنا من
الوهم وعدم صلوحها لتأسيس الأحكام الشرعية المبنية على التوقيف من صاحب الشريعة.
على أن لقائل
أن يقول : إن إمكان الاستمتاع بما دون الوطء الذي جعلوه موجبا للنفقة في هذه
الأفراد المذكورة يجري في الصغيرة ، إذا المحرم إنما هو وطؤها الذي ربما أوجب
إفضاؤها ، وأما الاستمتاع بها بالملاعبة ونحوها فهو ممكن كما في أولئك ، فلم لا
تجب لها النفقة!
وبالجملة
فالجميع مشتركة في العذر المانع من الوطء وإن تفاوتت ، باعتبار كون عذر الصغيرة
مرجو الزوال ، وعذر أولئك ليس كذلك ، ومشتركة في إمكان الاستمتاع بغير الجماع فلا
فرق حينئذ ، والحق الحقيق بالاتباع الذي لا يحتاج إلى تكلف ولا يتطرق إليه النزاع
هو اشتراك الجميع في وجوب النفقة نظرا إلى عموم الآيات والروايات التي قد اعترف
سابقا فيما قدمنا من كلامه بأن مقتضاها ترتب وجوب النفقة على مجرد تحقق الزوجية ،
وهؤلاء كملا أزواج بغير خلاف ولا إشكال ، فتجب لها النفقة على كل حال ، والركون إلى
خلاف ذلك ـ بناء على هذه التكلفات البعيدة والتخريجات الغير السديدة ـ مجازفة محضة
في أحكامه.
المسألة
الثانية : قد صرح المحقق بأنه تثبت النفقة للمطلقة الرجعية كما تثبت للزوجة ،
وتسقط نفقة البائنة وسكناها سواء كانت عن طلاق أو فسخ.
نعم لو كانت
حاملا لزم الإنفاق عليها حتى تضع ، وهل النفقة للحمل أو لامه؟ قولان ، وفي الحامل
المتوفى عنها زوجها روايتان أشهرهما أنه لا نفقة لها ، والأخرى ينفق عليها من نصيب
ولدها.
وتفصيل ما
اشتمل عليه هذا الكلام من الأحكام يقع في مقامات :
الأول : ما
ذكره من وجوب النفقة للمطلقة الرجعية كما تثبت للزوجة موضع وفاق لأنها بسبب بقائها
تحت سلطنة الزوج وحبسها عن الأزواج بمنزلة الزوجة بل هي زوجة وإن خرجت عنها في بعض
الأحكام.
ويدل على ذلك
أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيده متعددة عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إن المطلقة ثلاثة ليس لها نفقة على زوجها ، إنما
ذلك للتي لزوجها عليها رجعة».
وما رواه في
الكافي عن سعد بن أبي خلف في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن
موسى عليهالسلام عن شيء من الطلاق ، فقال : إذا طلق الرجل امرأته طلاقا
لا يملك فيه الرجعة فقد بانت منه ساعة طلقها وملكت نفسها ولا سبيل له عليها ،
وتعتد حيث شاءت ولا نفقة لها ، قال : قلت : أليس الله يقول «لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ»
قال : فقال : إنما عنى بذلك التي تطلق تطليقة بعد تطليقة ، فتلك التي لا
تخرج حتى تطلق الثالثة ، فإذا طلقت الثالثة فقد بانت منه ولا نفقة لها ،
__________________
والمرأة التي يطلقها الرجل تطليقة ثم يدعها حتى يخلو أجلها فهذه أيضا تقعد
في منزل زوجها ، ولها النفقة والسكنى حتى تنقضي عدتها».
وروى الثقة
الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله ابن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى
بن جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن المطلقة إلها نفقة على زوجها حتى تنقضي
عدتها؟ قال : نعم». وإطلاقه محمول على الرجعية لما يظهر لك إن شاء الله تعالى من
أن غيرها لا نفقة لها.
وبالجملة
فالحكم المذكور اتفاقي نصا وفتوى فلا إشكال ، واستثنى بعضهم من النفقة الواجبة لها
آلة التنظيف لأن الزوج لا ينتفع بذلك.
قال في المسالك
: وهو حسن ، وقال سبطه في شرح النافع : والإطلاق أجود فلعل الله يحدث بعد ذلك
أمرا.
أقول : ما ذكره
سبطه ـ رحمهالله ـ هو المؤيد بالأخبار الكثيرة ، ومنها ما رواه في
الكافي عن أبي بصير في الموثق عن أحدهما عليهماالسلام «في المطلقة تعتد في بيتها وتظهر له زينتها لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا».
وعن محمد بن
قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «المطلقة تشوق لزوجها ما كان عليها رجعة ولا
يستأذن عليها». والمراد تتزين له بحيث يشتاق إليها.
وفي رواية
زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المطلقة تكتحل وتختضب وتلبس ما شاءت من الثياب
لأن الله عزوجل يقول «لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً»
. لعلها أن تقع في نفسه فيراجعها» إلى غير ذلك من الأخبار.
__________________
ولا تسقط نفقة
المعتدة إلا بما تسقط به نفقة الزوجة ، ويستمر إلى انقضاء العدة ، ولو ظهر بالمرأة
أمارات الحمل بعد الطلاق فعلى الزوج الإنفاق عليها إلى أن تضع ، ولو أنفق عليها ثم
تبين أنها لم تكن حاملا قيل : إنها ترد ما دفع إليها ، وفيه تردد.
الثاني : ما
ذكره من سقوط نفقة البائن وسكناها إذا لم تكن حاملا ، فالظاهر أنه موضع وفاق ،
وتدل عليه الأخبار المتكاثرة.
ومنها ما تقدم
في رواية زرارة وصحيحة سعد وما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المطلقة ثلاثا على السنة هل لها سكنى
أو نفقة؟ قال : لا».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن المطلقة ثلاثا إلها سكنى ونفقة؟ قال : حبلى هي؟ قلت : لا ، قال
: لا».
وعن سماعة في الموثق قال : «قلت : المطلقة ثلاثا إلها سكنى أو
نفقة؟ فقال : حبلى هي؟ فقلت : لا ، قال : ليس لها سكنى ولا نفقة».
وما رواه الشيخ
في التهذيب في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن المطلقة ثلاثا. لها النفقة والسكنى؟ فقال : أحبلى هي؟ قلت : لا
، قال : لا». إلا أنه روى الشيخ أيضا في الصحيح عن ابن سنان قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المطلقة ثلاثا على العدة لها سكنى أو نفقة؟ قال :
نعم». والشيخ حمله على
__________________
الاستحباب ، قال : ويحتمل أن يكون المراد به إذا كانت المرأة حاملا.
أقول : وكلا
الاحتمالين بعيد إلا أن الثاني أقل بعدا.
الثالث : ما ذكره
من أنها لو كانت حاملا لزم الإنفاق عليها حتى تضع ، وهو مما لا أعرف فيه خلافا ،
ويدل عليه قوله عزوجل «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ»
وهي تدل بعمومها على من كانت رجعية أو بائنة.
ومن الأخبار ما
رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «الحامل أجلها أن تضع حملها وعليه نفقتها
بالمعروف حتى تضع حملها».
وعن عبد الله
بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته وهي حبلى قال : أجلها أن تضع حملها وعليه نفقتها حتى
تضع حملها».
ونحوهما صحيحة
الحلبي ورواية الكافي ، والجميع دال على البائن التي هي محل البحث من حيث الإطلاق
كالآية ، فإن الطلاق فيها أعم من أن يكون بائنا أو رجعيا ، وإنما الخلاف بينهم في
أن النفقة هنا هل هي للحامل لأجل الحمل؟ أو أنها للحمل؟ قولان ، الأكثر على الثاني
وهو قول الشيخ في المبسوط ، وتبعه عليه أكثر الجماعة مستندين إلى دوران وجوب
النفقة مع الحمل وجودا وعدما ، فإنها لو كانت حائلا فإنها لا نفقة لها ومتى كانت
حاملا وجبت النفقة ، فلما وجبت بوجوده وسقطت بعدمه دل على أنها له كدورانها مع
الزوجية وجودا وعدما ،
__________________
ولوجوبها له منفصلا فكذا متصلا ، ولنص الأصحاب على أنه ينفق عليها من مال
الحمل.
وذهب جمع منهم
ابن حمزة إلى الأول ، مستندين إلى أنه لو كانت النفقة للحمل لوجبت نفقته دون
نفقتها مقدرة بحال الزوج ، لأن نفقة الأقارب غير مقدرة بخلاف نفقة الزوجة ، ولأنها
لو كانت للحمل لوجبت على الجد كما لو كان منفصلا وهي لا تجب عليه هنا ، ولأنها لو
كانت للولد لسقطت بيسار الولد كما إذا ورث أو أوصى له بشيء فقبله أبوه.
قال في المسالك
ـ بعد ذكر ذلك ـ : والشيخ التزم بعض هذه الإلزامات فحكم بسقوطها بيسار الولد
وثبوتها على الجد ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في المسألة حيث
اقتصر فيه على نقل القولين المذكورين ونقل أدلتهما ولم يتعرض لترجيح شيء منهما ،
ولا للطعن في أدلة أحدهما.
وظاهر سبطه
السيد السند في شرح النافع ترجيح القول الأول قال : وقيل إنها للحامل وهو الأصح
لأنه المستفاد من الآية ، فإن الضمير في «عليهن» يرجع إلى الحامل بغير إشكال ، ثم
أورد بعض الأدلة المتقدمة.
أقول :
والمسألة محل إشكال لعدم النص الواضح القاطع لمادة القيل والقال ، وأما قوله في
شرح النافع في الاستدلال على ما اختاره بأنه المستفاد من الآية من حيث إن الضمير
في «عليهن» يرجع إلى الحامل فهو عجيب ، إذ الجميع متفقون على أن الإنفاق إنما هو
على الام ، وهي التي تأكل وتشرب وتلبس ، وإنما الخلاف في أن هذا الإنفاق عليها هل
لاستحقاقها له وأنها هي صاحبة الحق وإن كان السبب في ذلك الحمل الذي في بطنها؟ أو
أن المستحق لذلك إنما هو الحمل والإنفاق عليها إنما هو لأجل الحمل بأن يعيش في
بطنها حتى تلده فهو المستحق أولا وبالذات ، والإنفاق عليها إنما هو بمنزلة الطريق
إلى بقائه؟
وبالجملة فإن
الآية لا دلالة فيها على ما ادعاه ، ثم إنهم قد ذكروا هنا
فروعا عديدة على القولين المذكورين لا بأس بذكرها ، وإن كان قليل الجدوى في
هذا المجال لما عرفت من عدم ثبوت الأصل وأنه محل الاشكال ، فكل ما يتفرع عليه باق
في زاوية الإجمال والاحتمال.
و (منها) إذا
تزوج الحر أمة وشرط مولاها رق الولد وقلنا بجواز ذلك فأبانها وهي حامل فعلى القول
بأنها للحمل لا تجب على والده ، لأن الولد ملك لغيره ، وإنما يجب على سيده ، وهو
سيد الأمة ، وعلى القول بأنها للحامل تجب على الزوج.
و (منها) إذا
تزوج عبد بأمة فأبانها حاملا فعلى القول بأن النفقة للحمل تكون على سيد الولد
منفردا أو مشتركا دون الأب لأنه عبد والعبد لا تجب عليه نفقة أقاربه : وعلى القول
بأنها للحامل فإن النفقة على العبد في كسبه أو على سيده.
و (منها) ما لو
تزوج عبد بحرة وشرط مولى العبد رقية الولد ، فإن جعلنا النفقة للحمل فهي على
المولى ، وإن جعلناها للحامل فهي في ذمة المولى أو كسب العبد على الخلاف في ذلك.
وعلى هذه
الفروع اقتصر الشيخ والمحقق ، وزاد المتأخرون أن (منها) ما لو لم ينفق عليها حتى
مضت مدة أو مجموع العدة ، فمن قال بوجوبها للحمل فإنه لا يوجب قضاءها لأن نفقة
الأقارب لا تقضى ، ومن قال أنها لها أوجب القضاء لأن نفقة الزوجة مما يقضى كما
سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قال في المسالك
: وأورد على هذا بأن القضاء إنما هو للزوج لكونها معاوضة ، والزوجية هنا منتفية
قطعا ، وأجيب بأن الوجوب لها على حد الوجوب للزوجة وفيه منع. ويمكن الجواب بأن
النفقة حق مالي والأصل فيه وجوب القضاء ، خرج القريب من ذلك بدليل خارج ، لأنها
معونة لسد الخلة فيبقى الباقي على الأصل ، انتهى.
أقول : لا يخفى
ما في هذا الجواب من تطرق المناقشة إليه ، فإن مرجع كلام المورد إلى أنه ليس كل
نفقة يجب قضاؤها ، فإن نفقة الأقارب لا يجب قضاؤها ونفقة الزوجة التي قام الدليل
على وجوب قضائها إنما هي التي وجبت من حيث الزوجية لأنها في مقابلة التمكين كما
تقدم ، فهي معاوضة كما ذكره ومن ثم إن الناشز ومن أخلت بالتمكين لا نفقة لهما ،
وما عدا ذلك فالأصل براءة الذمة من النفقة أو قضائها ، وبذلك يظهر لك ما في قوله «إن
النفقة حق مالي والأصل فيه وجوب القضاء» فإنه مغالطة ، إذ الخصم يمنع الكبرى على
الإطلاق.
وبالجملة فإنه
لما كان المعلوم من الأدلة أن وجوب نفقة الزوجة إنما هو من قبيل المعاوضة ، فهي لا
تكون إلا من حيث الزوجية ، ووجوب القضاء إنما يفرع على ذلك ، والزوجية مفقودة في
محل البحث ، كما هو المفروض ، فالقول بوجوب القضاء في محل البحث خلف ظاهر ، والأصل
الذي ادعاه من وجوب القضاء معارض بأن الأصل براءة الذمة.
و (منها) ما لو
كانت ناشزا حال الطلاق ، أو نشزت بعده ، فعلى القول بأن النفقة لها تسقط لما علم
من أن المطلقة حيث يجب نفقتها كالزوجة تسقط نفقتها حيث تسقط ، وتجب حيث تجب ، وعلى
القول بأنها للحمل لا تسقط.
أقول :
ويعتريني في هذا المقام إشكال حيث إن ظاهر كلامهم وقولهم هنا النفقة للحامل ليس
المراد به أنها تستحق النفقة أصالة كما في استحقاقها لو كانت زوجة أو مطلقة رجعية
، وإنما المراد استحقاقها لا لأجل الحمل وبقائه وحفظه إلى أن تلده ، وحينئذ
فالنشوز لا يؤثر في منع النفقة ، وهم متفقون على أن البائن لا تستحق نفقة وهذه
بائن ، وإنما استحقاقها من أجل الحمل ، ولهذا قيل : بأن النفقة إنما هي للحمل
دونها. وبالجملة فالظاهر أن النشوز سيما بعد الطلاق البائن لا يؤثر في منع النفقة
على القول بأن النفقة لها.
و (منها) ما لو
ارتدت بعد الطلاق فيسقط نفقتها على الأول دون الثاني. إلى
غير ذلك من المواضع التي من أراد الوقوف عليها فليرجع إلى المسالك وغيره من
المطولات.
الرابع : ما
ذكره من الحامل المتوفى عنها زوجها ، والخلاف في هذه المسألة مشهور بين الأصحاب
لاختلاف أخبارها ، فذهب الشيخ في النهاية والأكثر ومنهم الصدوق في المقنع وابن
الجنيد وأبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة إلى وجوب الإنفاق عليها من مال الولد ،
وذهب جمع منهم ابن إدريس والمحقق والعلامة وسائر المتأخرين إلى العدم ، وهو
المنقول عن الشيخ المفيد كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، ونقله في المختلف عن
ابن أبي عقيل حيث قال : وقال ابن أبي عقيل : لا نفقة للمتوفى عنها زوجها سواء كانت
حبلى أو غير حبلى ، واختاره في المسالك.
والذي وصل إلى
من الأخبار في هذا المقام منه ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال في الحبلى المتوفى عنها زوجها : أنها لا نفقة لها».
وعن أبي الصباح
الكناني في الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «في المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها هل لها نفقة؟ قال : لا».
وعن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام «في المرأة المتوفى عنها زوجها هل لها نفقة؟ فقال : لا».
وما رواه في
التهذيب عن زيد أبي أسامة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام
__________________
عن الحبلى المتوفى عنها زوجها هل لها نفقة؟ فقال : لا».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : «سألته عن المتوفى عنها زوجها إلها نفقة؟ قال :
لا».
وما رواه في
الكافي والفقيه عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «المرأة الحبلى المتوفى عنها زوجها ينفق عليها من
مال ولدها الذي في بطنها».
قال في شرح
النافع بعد ذكر هذه الرواية : وجمع من الأصحاب وصفوها بالصحة ، وهو منظور فيه ،
فإن في طريقها محمد بن الفضيل وهو مشترك بين الثقة والضعيف ، ولعلهم اطلعوا على
قرائن أفادت أنه ثقة ، ونحوه قال في المسالك.
أقول : بل
الظاهر أن وصفها بالصحة إنما وقع سهوا من المتقدم ، فتبعه عليه من تأخر عنه لعدم
المراجعة إلى السند ، وأمثاله كثيرة كما لا يخفى على المتتبع.
وما رواه في
الكافي عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : «المتوفى عنها زوجها ينفق عليها من ماله».
وما رواه في
الفقيه عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهمالسلام قال : «نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها من جميع المال
حتى تضع». وأكثر هذه الأخبار قد دل على أنه لا نفقة لها كما ذهب إليه ابن إدريس
ومن تأخر عنه.
والشيخ قد
حملها على أنه لا نفقة لها يعني من مال الميت وإن كان لها النفقة
__________________
من مال الولد ، قال في شرح النافع بعد نقل ذلك عنه : ولا بأس بهذا الجمع لو
تكافأت الروايات في السند والدلالة ، لكنه محل نظر.
وفيه أن صحيحة
محمد بن مسلم الاولى قد صرحت ـ بعد نفي النفقة أو النهي عنها ـ بأنه ينفق عليها من
مالها ، وبذلك يظهر أنه لا يتم هذا الجمع ، فنفي البأس عنه إنما نشأ عن الغفلة عن
ملاحظة الصحيحة المذكورة ، فإنها صريحة في أنه إنما ينفق عليها من مالها لا من مال
الميت ، ولا مال الولد ، ونقل عن الشيخ المفيد في كتاب التمهيد أنه أنكر الحكم
بالإنفاق عليها من مال الحمل تمام الإنكار ، فقال : إن الولد إنما يكون له مال عند
خروجه إلى الأرض حيا ، فأما وهو جنين لا يعرف له موت من حياة فلا ميراث له ولا مال
على الاتفاق ، فكيف ينفق على الحبلى من مال من لا مال له لو لا السهو في الرواية
أو الإدخال فيها. انتهى ، كذا نقله عنه ابن إدريس لتأييد ما ذهب إليه.
وقال العلامة
في المختلف : والتحقيق أن نقول : إن جعلنا النفقة للحمل فالحق ما قاله الشيخ ، وإن
جعلناها للحامل فالحق ما قاله المفيد.
واعترضه السيد
السند في شرح النافع فقال : ما ذكره بعيد عن التحقيق ، إذ ليس في الروايات
المتضمنة لهذا الحكم دلالة على أن النفقة للحمل بوجه ، وإنما المستفاد منها
أن ينفق على الحامل من نصيب الحمل ، فإن وجب العمل بها تعين المصير إلى هذا الحكم
مطلقا ، وإن ترجح ردها ـ إما لقصورها من حيث السند أو الدلالة أو لما ذكره المفيد
من أن الحمل لا مال له ـ وجب نفي هذا الحكم رأسا كما ذكره المفيد وابن إدريس ، أما
التفصيل فلا وجه له ، انتهى.
أقول : الظاهر
أن مراد العلامة من هذا الكلام هو الجمع بين أخبار المسألة بحمل ما دل على وجوب
الإنفاق عليها من مال ولدها الذي في بطنها ، على أن هذه النفقة للولد لا للحامل ،
وحمل ما دل على أنه لا نفقة بالكلية كما دلت عليه
__________________
أكثر الأخبار على النفقة للحامل ، ومرجعه إلى أنها تستحق النفقة للولد ،
ولا تستحقها لنفسها ، وحينئذ فقول السيد «أن المستفاد من الأخبار أن ينفق على
الحامل من نصيب الحمل ، فإن وجب العمل. إلخ» مردود بأنه وإن استفيد ما ذكره من هذا
الخبر إلا أن الأخبار الأخر ظاهرة في أنه لا نفقة مطلقا والواجب الجمع بين الجميع
بوجه يرفع الاختلاف من البين ، فكيف يتم قوله إنه إن عمل بهذه الرواية كان كذا ،
وإن وجب ردها كان كذا ، فإن فيه إنا نريد العمل بالرواية المذكورة على وجه تجتمع
به مع الروايات الأخر وهو يحصل بالتفريع على تلك المسألة.
قوله «ليس في
الروايات المتضمنة لهذا الحكم دلالة على أن النفقة للحمل بوجه» مسلم لكن ارتكاب
التأويل لا يتوقف على ذلك كما لا يخفى فإن التأويل ليس إلا الحكم بخلاف الظاهر ،
والرواية وإن لم تكن متضمنة لذلك ولا دلالة عليه إلا أنه يمكن حملها على ذلك.
وبالجملة
فالظاهر أن ما ذكره ـ رحمهالله ـ لا يخلو من شوب المناقشة بحسب فهمي القاصر ، وبعض
مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين احتمل في الجمع بين روايات المسألة
بحمل ما دل على وجوب الإنفاق من نصيب الولد على ما إذا كانت محتاجة لأنه تجب
نفقتها عليه ، وحمل ما دل على عدم الإنفاق على ما إذا لم تكن محتاجة ، وهو لا يخلو
من قرب.
وكيف كان
فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال ، وإن كان ما ذهب إليه المتأخرون أقرب ، لتكاثر
الأخبار به ، وعدم نهوض رواية أبي الصباح التي استند إليها المتقدمون بالمعارضة ،
إلا أن شهرة الفتوى بها بين المتقدمين ـ سيما الصدوق فإنه قال في الفقيه «والذي
نفتي به رواية الكناني» ـ مما يوجب مزيد اعتبار لها.
بقي الكلام في
الروايات الباقية ومنها صحيحة محمد بن مسلم الثانية ، وقوله فيها «ينفق عليها من
ماله» والشيخ قد استدل بهذه الرواية على ما ذهب إليه من
__________________
وجوب الإنفاق من مال الولد ، مدعيا أن الضمير في قوله «من ماله» يعود إلى
الولد ، قال في الاستبصار : قوله عليهالسلام «ينفق عليها من ماله» محمول على أنه ينفق عليها من مال الولد إذا كانت
حاملا ، والولد وإن لم يجر له ذكر جاز لنا أن نقدره لقيام الدليل كما فعلناه في
مواضع كثيرة من القرآن وغيره. انتهى ، ولا يخفى ما فيه من البعد ، فإن تقدير الولد
فرع الدلالة عليه في الخبر بوجه ، والخبر لا دلالة فيه على محل البحث وهي الحامل ،
وإنما مورده المتوفى عنها زوجها وهذا الخبر أورده في الكافي في باب الرجل يطلق
امرأته ثم يموت قبل أن تنقضي عدتها ، وهو يشعر بأنه حمل الخبر على المطلقة قبل
الوفاة وإن لم تكن حاملا.
وكيف كان
فالخبر مع كونه بحسب ظاهره لا يخلو من الاشكال ليس من أخبار المسألة التي يمكن
الاعتماد إليها في الاستدلال ، وحمله بعض المحدثين من متأخري المتأخرين أنه يستحب
للورثة ذلك.
ومنها رواية
السكوني المتضمنة لأن نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها من جميع المال والشيخ حمله في التهذيبين تارة على الاستحباب مع رضاء
الورثة ، واخرى على نصيب الولد قبل القسمة لعدم تميزه بعد لتوقفه بعد على العلم
بكونه ذكرا أو أنثى ، ولعل الثاني أقرب ، وأقرب منه الحمل على التقية ، لمخالفة
الخبر لفتوى الطائفة وأخبارهم مضافا إلى أن الرواية من العامة.
المسألة
الثالثة : الظاهر أن الرجوع في قدر النفقة إلى العرف والعادة ،
وكذا في الاخدام وعدمه ، وتفصيل الكلام في المقام أنه ينبغي أن يعلم أنه لما كانت
الأوامر بالنفقة في الكتاب والسنة مطلقة مثل قوله عزوجل
__________________
«وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ»
وقوله «فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللهُ»
وقولهم عليهمالسلام فيما تقدم من الأخبار «يشبعها ويقيم ظهرها ويطعمها ما يقيم صلبها». ونحو ذلك كان المرجع فيها إلى
العرف والعادة فيما جزم له الأصحاب ، لأنه الحكم في ذلك حيث لا يرد له تقدير من
الشارع.
وهكذا الكلام
في الكسوة فإنه قد تقدم في الأخبار أن الواجب عليه الكسوة وفي بعض ما يستر العورة
ونحو ذلك ، والأصحاب قد صرحوا بأنها ترجع فيما تحتاج إليه ـ من الطعام وجنسه من
البر والشعير والتمر والزبيب والذرة وغيرها ، والإدام الذي تأتدم به من السمن
والزيت والشيرج واللحم واللبن وغيره ، والكسوة من القميص والسراويل والمقنعة
والجبة وغيرها وجنسها من الحرير والقطن والكتان ، والإسكان في دار وبيت لا يقين
بحالها ، والإخدام إذا كانت من ذوي الحشمة والمناصب المقتضية لذلك ، وآلة الادهان
التي تدهن به شعرها وترجله من شيرج أو زيت مطلق أو مطيب بالورد أو البنفسج أو
غيرهما مما يعتاد لأمثالها والمشط وما تغسل به الرأس من السدر والطين والصابون على
حسب عادة البلد ونحو ذلك مما يحتاج إليه ـ إلى عادة أمثالها من أهل بلدها ، وإن
اختلفت العادة رجع إلى الأغلب ، ومع التساوي فما يليق منه بحاله.
أقول : والذي
حضرني من الأخبار المتعلقة مضافا إلى الأخبار المتقدمة ما رواه الشيخ في الصحيح
والكليني بسنده فيه إرسال عن شهاب بن عبد ربه قال : «قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام ما حق المرأة على زوجها؟ قال : يسد جوعتها ويستر عورتها
__________________
ولا يقبح لها وجها ، فإذا فعل ذلك فقد أدى والله إليها حقها ، قلت : فالدهن؟
قال : غبا يوم ولا يوم لا ، قلت : فاللحم؟ قال : في كل ثلاثة أيام فيكون في الشهر
عشر مرات لا أكثر من ذلك في كل ستة أشهر ، ويكسوها في كل سنة أربعة أثواب ثوبين
للشتاء وثوبين للصيف ، ولا ينبغي أن يقفر بيته من ثلاثة أشياء : دهن الرأس والخل
والزيت ويقوتهن بالمد ، فإني أقوت به نفسي ، وليقدر لكل إنسان منهم قوته فإن شاء
أكله وإن شاء وهبه وإن شاء تصدق به ، ولا تكون فاكهة عامة إلا أطعم عياله منها ،
ولا يدع أن يكون للعيد عندهم فضلا في الطعام أن ينيلهم من ذلك شيئا لا ينيلهم في
سائر الأيام».
أقول : ما
اشتمل عليه الخبر من التقدير بالمد في النفقة لم يقف على قائل به إلا الشيخ ـ رحمة
الله عليه ـ في الخلاف ، وفي المبسوط فصل فجعل على الموسر مدين كل يوم وعلى
المتوسط مدا ونصفا وعلى المعسر مدا.
أقول : أما
التقدير بالمد كما ذكره في الخلاف فقد عرفت مستنده ، وأما التفصيل الذي ذكره في
المبسوط فلم نقف له على مستند في الأخبار إلا أن يكون نوع من الاعتبار.
وقال في
المسالك ـ بعد نقل ذلك عن الشيخ ـ : والأصل في هذا التقدير أن المد قدره الشارع في
الكفارات قوتا للمسلمين فاعتبرت النفقة به ، لأن كل واحد منهما مال يجب بالشرع
لأجل القوت ، ويستقر في الذمة ، وربما أوجب الشارع في بعض الكفارات لكل مسكين مدين
، فجمع في القول الثاني بين الأمرين فجعل المدين على الموسر ، والمد على المعسر
وجعل المتوسط بينهما ، فألزمه بمد ونصف ، والأقوى ما اختاره المصنف من عدم التقدير
، والرجوع إلى قدر الكفاية وسد الخلة وهي الحاجة وهو اختيار ابن إدريس وسائر
المتأخرين لأن التقدير رجوع إلى تخمين وضرب من القياس لا يطابق أصول مذهبنا ،
انتهى.
والظاهر أن
شيخنا المذكور غفل عن الخبر الذي نقلناه ، وإنما التجأ
في توجيه كلام الشيخ إلى الحمل على الكفارة ، وقد عرفت ورود النص به.
نعم ما ذكره في
المبسوط خال من النص ، والإيراد عليه إنما هو بالنسبة إلى ما ذكره في المبسوط خاصة
، إلا أنه يمكن حمل الخبر المذكور على أن ذلك كان عادتهم في تلك الأوقات كما
يستفاد من جملة من الروايات بالنسبة إلى الكفارات والصدقات كما في حديث ضيعة
الصادق عليهالسلام المسماة بعين زياد.
وأما قوله في
الخبر «والصبغ في كل ستة أشهر» فالظاهر أن المراد به مثل الحناء والوسمة والثياب
المصبوغة ، وأما ما اشتمل عليه من أن اللحم في كل ثلاثة أيام ، فلا أعلم به قائلا
على هذا الإطلاق ، والمنقول عن الشيخ أنه اعتبر اللحم في كل أسبوع مرة محتجا بأنه
المعروف قال : ويكون يوم الجمعة.
وعن ابن الجنيد
أنه أوجب اللحم على المتوسط في كل ثلاثة أيام.
وكيف كان
فالعمل على ما دل عليه الخبر من كونه في كل ثلاثة أيام متوسطا أو غيره ، والظاهر
أن المراد بالدهن الذي حكم بكونه غبا هو دهن البدن ، فإنه في الصدر الأول متعارف
ليبوسة أهوية تلك البلدان.
ثم إن الظاهر
من كلام العلامة في المختلف أنه لم يقف أيضا على الخبر المذكور كما لا يخفى على من
راجعه ، ونحوه ابن إدريس في رده على الشيخ في ما ادعاه من الدليل على هذه المسألة
بإجماع الفرقة وأخبارهم ، وأنكر وجود الأخبار بذلك ، والكل صادر عن غفلة عن النص
المدعى ، ومع أنه صحيح السند صريح الدلالة ، إلا أن الظاهر أن الوجه فيه ما
ذكرناه.
تنبيهات
الأول : لا يخفى أن في النساء من لا تخدم نفسها بحسب عادة أمثالها وأهل بلدها لشرفها
وعلو منزلتها بل لها من يخدمها ، فهذه يجب على الزوج أن يتخذ لها خادما بآية
المعاشرة بالمعروف ، ولا فرق عند الأصحاب بين كون الزوج معسرا
أو موسرا ، حرا أو عبدا ، لأن الاعتبار بحال المرأة في بيت أبيها ، ويجب أن
يكون الخادم امرأة أو صبيا أو محرما لها ، وفي جواز مملوكها الخصي نظر ، ينشأ من
جواز نظره إليها وعدمه ، وقد تقدم الكلام فيه في بعض فوائد المقدمة ، وأما من تخدم
نفسها بحسب العادة فلا تجب في حقها ذلك إلا لمرض ونحوه ، فعلى الزوج حينئذ إقامة
من يخدمها.
الثاني
: قالوا : إذا أخدمها بحرة أو أمة مستأجرة فليس عليه سوى
الأجرة وإن أخدمها بجاريته كانت نفقتها عليه من جهة الملك ، وإن كان يخدمها بكفاية
مؤنة خادمها فهذا موضع نفقة الخادم ، والقول في جنس طعامها وقدره كما هو في جنس
طعام المخدومة ، ولو قال الزوج : أنا أخدمها لإسقاط مؤنة الخدمة عن نفسه فله ، لأن
ذلك حق عليه يجب عليه وفاؤه بنفسه أو غيره ، هذا مما لا يستحيى منه كغسل الثوب
واستسقاء الماء وكنس البيت وطبخ الطعام ، أما ما يستحيى منه كالذي يرجع إلى خدمة
نفسها من صب الماء على يدها وحملها إلى الخلاء وغسل خرق الحيض والجماع ونحو ذلك
فلها الامتناع من خدمته لأنها تحتشمه وتستحيي منه فيضر بحالها ، وأطلق جماعة تخيره
في الخدمة بنفسه مطلقا لأن الحق عليه فالتخيير في جهاته إليه.
الثالث
:
قد عرفت أنه
يرجع في جنس المأكول والملبوس والإدام إلى عادة أمثالها من أهل البلد ، وكذا في
المسكن ، قالوا : ولها المطالبة بالتفرد بالمسكن عن مشارك غير الزوج ، والمراد من
المسكن ما يليق بها من دار وحجرة وبيت فالتي يليق بها الدار والحجرة لا يسكن معها
غيرها في دار واحدة بدون رضاها ، لكن لو كان في دار حجرة مفردة المرافق فله أن
يسكن ، وكذا لو أسكن واحدة في العلو وواحدة في السفل والمرافق متميزة ، ولا تجمع
بين الضرتين ، ولا بين المرأة وغيرها في بيت واحد مطلقا إلا بالرضا.
الرابع
: قالوا : تختلف
الكسوة باختلاف الفصول والبلدان في الحر والبرد فيعتبر في الشتاء زيادة الحشو
بالقطن ونحوه ، ويرجع في جنسه من القطن
والكتان والحرير إلى عادة أمثالها ، وكذا يجب في الصيف الثياب اللائقة
بحالها من الكتان والحرير ونحوه مما يعتاد ، ويعتبر مع ذلك ثياب التجمل زيادة على
ثياب البدلة إذا كانت من أهل التجمل ، ولو كانت البلاد باردة ولم يستغن بالثياب عن
الوقود وجب لهن الحطب والفحم بقدر الحاجة ، ويجب أيضا مراعاة ما يفرش على الأرض من
البساط والحصير والملحفة والنطع والمخدة واللحاف بما يليق بحالها عادة بحسب الفصول
، وقد عد الفقهاء في هذا الباب أشياء كثيرة بحسب ما اتفق اعتياده عندهم ، ومرجعه
إلى ما يعتبر في العادة لأمثالها في بلدها في كل وقت بما يناسبه.
المسألة
الرابعة : وهي تتضمن حكمين (أحدهما) لا خلاف بين الأصحاب في أن الزوجة تملك نفقة
يومها مع التمكين ، فلو منعها وانقضى اليوم أو الأيام وجب قضاؤها.
قال في المسالك
: لما كان المقصود من النفقة القيام بحاجتها وسد خلتها لكونها محبوسة لأجله
فالواجب منها أن يدفع يوما فيوما ، إذ لا وثوق باجتماع الشرائط في باقي الزمان ،
والحاجة تندفع بهذا المقدار ، فيجب دفعها في صبيحة كل يوم إذا طلع الفجر ولا
يلزمها الصبر إلى الليل ليستقر الوجوب لتحقق الحاجة لأنها تحتاج إلى الطحن والخبز
والطبخ ، إذ الواجب عليه دفع الحب ونحوه ومؤنة إصلاحه لا عين المأكول عملا بالعادة
، فلو لم يسلم إليها أول النهار لم تنله عند الحاجة ، ولو منعها من النفقة وانقضى
اليوم ممكنة استقرت ذلك اليوم في ذمته لأن نفقة الزوجة اعتياض في مقابلة الاستمتاع
، فتصير بمنزلة الدين ، وكذا نفقة الأيام المتعددة إذا مضت ولم ينفق عليها ،
انتهى.
أقول : لا أعرف
لما ذكره من هذا التفصيل نصا واضحا ولا دليلا صالحا ، فإن الظاهر من الأخبار
المتقدمة سيما صحيحة شهاب بن عبد ربه أن الواجب شرعا إنما هو عين المأكول لا الحب
وأمثاله مما يحتاج إلى علاج ومزاولة
واستناده ـ في الوجوب لما ذكره إلى العادة ـ مردود ، بأن ذلك إنما هو من
حيث المسامحة والتراضي وعدم المضايقة في الحقوق الشرعية ، ألا ترى أن العادة قاضية
بتكلف المرأة في خدمة البيت بما لا يجب عليها شرعا من طبخ وخبز وغسل ثياب لنفسها
وزوجها ونحو ذلك.
وبالجملة فإن
الظاهر أن الحق الشرعي لها إنما هو شيء يوكل بغير مؤنة ولا كلفة من خبز أو تمر أو
نحوهما ، وهذا هو ينطبق عليه حديث المد وهو الظاهر من تلك الأخبار المطلقة من قوله
«يشبعها ويقيم صلبها» ونحو ذلك والتكليف بما زاد مما ذكره هو وغيره ـ رحمهالله ـ محتاج إلى دليل ولا دليل ، والتمسك بقضية العادة بين
الناس قد عرفت أنه غير خال من وصمة الشك والالتباس إلا أني أظن أن ما ذكرناه مما
يكبر في صدور بعض الناظرين في المقام ممن تألف متابعة الشهرة في الأحكام وكل ميسر
لما خلق له.
نعم ما ذكره من
قضاء النفقة لو أخر دفعها عن وقتها لا ريب فيه لما ذكره ، ثم إنه قال في المسالك
أيضا : ثم استحقاق الزوجة المئونة على وجه التمليك لا الإمتاع ، لأن الانتفاع به
لا يتم إلا مع ذهاب عينه ، وكذا حكم كلما يستهلك من آلة التنظيف والدهن والصابون
والطين ونحو ذلك ، فإذا دفعه إليها ملكت نفقة اليوم وتخيرت بين التصرف فيه أو في
بعضه واستفضال بعضه وجميعه والإنفاق على نفسها من مالها كما تخير في جهات أموالها
، انتهى.
أقول : ويدل
عليه قوله عليهالسلام في صحيحة شهاب المتقدمة «ويقدر لكل إنسان منهم قوته فإن
شاء أكله وإن شاء وهبه وإن شاء تصدق به».
و (ثانيهما) قد
اختلف الأصحاب في كون الكسوة تمليكا أو إمتاعا ، وبالأول قال الشيخ في المبسوط ،
والمحقق والعلامة في غير التحرير والقواعد والثاني خيرة العلامة في القواعد وشيخنا الشهيد الثاني في
الروضة والمسالك ،
__________________
وتردد العلامة في التحرير.
احتج من قال
بالأول بقوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ» والتقريب فيها أنه عطفها على الرزق ، فيكون الواجب فيهما
واحدا لاقتضاء العطف التسوية في الحكم وهو في الرزق التمليك فيكون كذلك في الكسوة
، ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «ولهن عليكم (رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»
فاللام للملك.
وتنظر فيه في
المسالك قال : لمنع اقتضاء العطف التسوية في جميع الأحكام وجميع الوجوه سلمنا ،
لكن المعتبر الاشتراك في الحكم المذكور دون صفته وكيفيته ، فإن قولنا : أكرم زيدا
وعمرا يقتضي اشتراكهما في أصل الإكرام لا التسوية فيه من كل وجه. والظاهر من الحكم
هنا هو كون الرزق مستحقا عليه فيكون الكسوة كذلك ، وأما كيفية الاستحقاق فأمر آخر
خارج عن أصل الحكم ، ومن الجائز أن يريد بقوله «وَكِسْوَتُهُنَّ»
جعلهن مكتسئين
وهو يتم بالامتاع. وأما الخبر فمع قطع النظر عن إسناده يجوز أن تكون اللام
للاستحقاق لا الملك أو الاختصاص بل هو الأصل فيها ، كما حققه جماعة وهما يتحققان
بالإمتاع ، انتهى.
أقول :
والمسألة عندي محل توقف وإشكال لعدم النص القاطع لمادة القيل والقال ، والركون إلى
هذه التعليلات المتعارضة في كلامهم والجارية على رؤوس أقلامهم في تأسيس الأحكام
الشرعية مجازفة محضة. ثم إنهم ذكروا بناء على القولين المذكورين فروعا يظهر فيها
فائدة الخلاف.
(منها) ما لو
دفع إليها كسوة لمدة جرت العادة ببقائها إليها فتلفت في يدها
__________________
قبل مضي المدة من غير تقصير ، فعلى القول بالتمليك لا يجب عليه إبدالها
لأنه قد وفى ما عليه فأشبه ما إذا ملكها النفقة فتلفت في يدها. وعلى القول
بالإمتاع يجب عليه إبدالها قالوا : ولو أتلفتها بنفسها فلا إبدال على القولين لأنه
على الإمتاع يلزمها ضمانها فكأنها لم تتلف ، وأما على الملك فظاهر مما تقدم.
(ومنها) لو
انقضت المدة والكسوة باقية لرفقها بها فعليه كسوة أخرى على الأول وهو الذي حكم به
في الشرائع لأن ملكها لها مترتب على المدة المعتادة لها كما لو استفضلت من طعام
يومها ، وعلى الثاني لا تلزمه حتى يبلى عندها.
(ومنها) ما لو
مات في أثناء المدة أو ماتت هي أو طلقها والكسوة باقية في المدة التي تصلح لها
فعلى القول بالإمتاع تسترد مطلقا. وعلى القول بالتمليك قال في المسالك : يحتمل
قويا ذلك. يعني الاسترداد مطلقا لأنه أعطاها للمدة المستقبلة وهو غير واجبة كما لو
أعطاها نفقة أيام ، وهو الذي جزم به المصنف فيما يأتي وعدمه لأن تلك المدة بالنسبة
إلى الكسوة كاليوم بالنسبة إلى النفقة ، وسيأتي أن النفقة لا تسترد لو وقع ذلك في
أثناء النهار.
(ومنها) إذا لم
يكسها مدة صارت الكسوة دينا عليه على الأول كالنفقة ، وعلى الإمتاع لا يصير دينا.
(ومنها) أنه
يجوز له أخذ المدفوع إليها ويعطيها غيره على القول بالامتناع وعلى القول بالتمليك
لا يجوز ذلك إلا برضاها.
(ومنها) أنه لا
يصح لها بيع المأخوذ ولا التصرف فيه بغير اللبس إن قلنا بالإمتاع ، ويصح على القول
بالتمليك ، إن لم يناف غرض الزوج من التزين والتجمل.
(ومنها) جواز
إعطائها الكسوة بالإعارة والإجارة على تقدير القول بالتمليك دون القول بالإمتاع ،
ولو تلف المستعار فضمانه على الزوج.
المسألة
الخامسة : قد صرح بعض الأصحاب بأنه إذا ادعت البائن أنها حامل
صرفت إليها النفقة يوما فيوما ، فإن تبين الحمل ، وإلا استعيدت. ومقتضى هذا الكلام
وجوب النفقة بمجرد دعواها ، وإن لم يتبين أو يظن صحة ذلك ، قيل :
ووجهه أن الحمل في ابتدائه لا يظهر إلا لها ، فقبل قولها فيه كما يقبل في
الحيض والعدة ، لأن الجميع من الأمور التي يختص بها ولا يعلم إلا من قبلها ، وأيضا
فإن في ذلك جمعا بين الحقين ، وحق الزوج على تقدير عدم ظهور ذلك ينجبر بالرجوع
عليها ، وفي التأخير إلى أن يتحقق إضرار لها مع حاجتها إلى النفقة ، وعدم وجوب
قضائها لو قلنا إن النفقة للحمل ، لأن نفقة الأقارب لا تقضى.
ونقل عن الشيخ
في المبسوط أنه علق وجوب الإنفاق على ظهور الحمل ، وعن العلامة في التحرير أنه
علقها على شهادة أربع من القوابل ، وهو ظاهر اختياره في المسالك قال : لأن وجوب
الإنفاق على الزوجة انقطع بالطلاق البائن ، ووجوبه عليها مشروط بالحمل ، والأصل
عدمه إلى أن يتحقق ، وحكم الزوجة به في الابتداء ظني ، والظن قد يكذب ، ولأنه
تعالى قال «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ»
شرط في الإنفاق عليهن كونهن أولات حمل ، وهذا الوصف لا يتحقق بمجرد الدعوى
، انتهى.
أقول :
والمسألة لما عرفت من تقابل هذه التعليلات في المقام وعدم النص الواضع عنهم عليهمالسلام محل توقف وإشكال ، وما ذكره في المسالك جيد ، إلا أنه
يمكن تخصيصه بما تقدم أولا من التعليلات ، ثم إنه على تقدير وجوب الإنفاق عليها
بمجرد دعواها هل تطالب بكفيل لجواز ظهور خلاف ما ادعته؟ قال في المسالك : فيه
وجهان منشأهما أنها استولت على مال الغير بسبب لم يثبت في نفس الأمر ، وإنما حكم
به الشارع لتعذر إثبات موجبها قطعا ، فلو أخرت إلى الوضع لزم الإضرار بها كما
قررناه ، فيجمع بين الحقين بالدفع إليها بكفيل ، ومن حيث عدم ثبوت استحقاق الرجوع
عليها الآن ، والأول لا يخلو من قوة ، انتهى.
المسألة
السادسة : المشهور بين الأصحاب أنه لا نفقة للبائن إلا المطلقة الحامل ، لأن أسباب
النفقة منحصرة في الثلاثة المتقدم ذكرها التي أحدها الزوجية ،
__________________
والبائن ليست زوجة فتزول السببية ، خرج من ذلك بالنص والإجماع الحامل
المطلقة ، فيبقى ما عداها على حكم الأصل.
وقيل بوجوب
النفقة على البائن بغير الطلاق إذا كانت حاملا ، نظرا إلى أن وجوب النفقة على
المطلقة الحامل لأجل الحمل من حيث كونه ولدا للمنفق لا لأجلها ، وهذه العلة موجودة
في الحامل منه غير المطلقة ، وبذلك أفتى في المبسوط حتى في الحامل من نكاح فاسد
كنكاح الشغار مع الجهل محتجا بعموم الأخبار الدالة على وجوب الإنفاق على الحامل.
قال في المسالك
: ويضعف الأول بأنه مبني على العمل بالقياس ، وإلا فالآية صريحة في الحامل المطلقة
، ومع ذلك فكون النفقة للحمل غير معلوم ، وإنما المعلوم أنها للحامل وإن كان ذلك
بسببه.
وأما الأخبار
التي ادعى الشيخ عمومها فذكرها في التهذيب ، وكلها مقيدة بالطلاق إلا رواية محمد
بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «الحامل أجلها أن تضع حملها وعليه نفقتها
بالمعروف حتى تضع حملها».
فهذه شاملة
بإطلاقها لغير المطلقة ، لكنها ضعيفة السند بمحمد بن قيس فإنه مشترك بين الثقة
وغيره ، ويمكن حملها على المطلقة حيث يستقل بنفسها.
نعم لو ثبت
أنها للحمل اتجه ذلك ، والذي دلت عليه النصوص وجوبها للمطلقة الحامل فيقتصر عليها
لكونه على خلاف الأصل ، انتهى.
أقول : مرجع
الكلام في هذا المقام إلى الخلاف المتقدم في أن النفقة هل هي للحامل أو الحمل؟ وقد
قدمنا في تلك المسألة أن ظاهره في المسالك هو التوقف حيث اقتصر على نقل القولين
وأدلتهما ، ولم يتعرض لترجيح شيء منهما وظاهره هنا ترجيح كونها للحامل. والذي
يقرب عندي الرجوع في ذلك إلى
__________________
الأخبار ، فإن المستفاد من أكثرها هو كون موردها المطلقة كما هو ظاهر الآية
وليس فيها ما ربما ينافي ذلك إلا إطلاق صحيحة محمد بن قيس وهو محمول على ما دل
عليه غيرها من التقييد بالمطلقة لأنه هو الفرد الشائع المتكثر ، وقضيته الجمع بين
الأخبار ذلك.
وأما طعنه في
الصحيحة المذكورة باشتراك محمد بن قيس فقد تكرر منه في هذا الكتاب في غير موضع وقد
نبهنا على أنه غلط محض كما اعترف به سبطه أيضا في شرح النافع.
المطلب
الثاني ، في نفقة الأقارب : والكلام في هذا المطلب يقع في مواضع :
الأول : المفهوم
من كلام الأصحاب أن نفقة الإنسان على نفسه مقدمة على غيره من زوجة أو غيرها من
الآباء والأولاد بل على جميع الحقوق من الديون وغيرها ولا إشكال فيه ، ونفقة
الزوجة مقدمة على نفقة الأقارب ، قال السيد السند في شرح النافع : إن هذا الحكم
مقطوع به في كلام الأصحاب وظاهرهم أنه موضع وفاق واستدلوا على ذلك بأن نفقة الزوجة
وجبت على وجه المعاوضة في مقابل الاستمتاع بخلاف نفقة القريب ، فإنها إنما وجبت لمجرد
المواساة ، وما كان وجوبه على وجه المعاوضة أقوى مما وجب على وجه المواساة ، ولهذا
لم تسقط نفقة الزوجة بغنائها ولا بمضي زمان بخلاف نفقة القريب.
أقول : المفهوم
من الأخبار وجوب النفقة للجميع ، وقضية الاشتراك في الوجوب تساوي الجميع في ذلك من
غير تقديم لبعض على بعض ، ومجرد قوة النفقة على الزوجة وأنها أقوى بهذه الوجوه
المذكورة لا تصلح لتأسيس حكم شرعي عليه كما عرفت في غير موضع مما تقدم.
والذي حضرني من
الأخبار هنا ما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن
__________________
حريز عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : من الذي أجبر عليه وتلزمني نفقته؟ فقال : الوالدان
والولد والزوجة».
وروى الشيخ في
التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله.
وما رواه في
الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : من يلزم الرجل من قرابته ممن ينفق عليه؟
قال : الوالدان والولد والزوجة». وزاد في الفقيه «والوارث الصغير ، يعني الأخ وابن
الأخ ونحوه» والظاهر أن التفسير من الراوي كما جزم به في الوافي ، ويحتمل أن يكون
من كلام الصدوق.
وعن جميل في الصحيح عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام قال : «لا يجبر الرجل إلا على نفقة الأبوين والولد ،
قلت لجميل : والمرأة؟ قال : روى بعض أصحابنا وهو عنبسة بن مصعب وسورة بن كليب عن
أحدهما عليهماالسلام أنه إذا كساها ما يواري عورتها وأطعمها ما يقيم صلبها
أقامت معه وإلا طلقها ، قال : قلت لجميل : فهل يجبر على نفقة الأخت؟ قال : إن أجبر
على نفقة الأخت لكان ذلك خلاف الرواية».
والمراد من
الخبر المذكور أنه يجبر على نفقة الوالدين والوالد ، وأما المرأة فإنه يخير بين
الإنفاق عليها وبين طلاقها ، وأما ما ذكر بالنسبة إلى الأخت فالمراد أنه لو قيل
بوجوب النفقة عليها لكان ذلك خلاف ظاهر النصوص حيث إن ظاهرها مشعر بالحصر في
العمودين والزوجة.
وهذه الأخبار
كما ترى ظاهرة فيما ذكرناه من اشتراك الجميع في الوجوب ، فترجيح بعضها على بعض
بالتقديم يحتاج إلى دليل من النصوص ، والمسألة لا تخلو
__________________
من الإشكال ، لأن الخروج عما ظاهرهم الاتفاق عليه مشكل ومتابعتهم من غير
دليل أشكل.
الثاني : لا خلاف ولا إشكال في وجوب النفقة على الأبوين وإن ارتفعا ، والأولاد وإن
سفلوا ، ولم يظهر من أحد من الأصحاب خلاف في ذلك إلا ما يتراءى من تردد المحقق في
الشرائع والنافع ، ثم جزم بعد ذلك بالحكم المذكور ووافق القول المشهور.
قال السيد
السند في شرح النافع : أجمع العلماء كافة على وجوب النفقة على الأبوين والأولاد ـ إلى
أن قال : ـ وهل يتعدى الوجوب إلى من علا من الآباء والأمهات أو سفل من الأولاد؟
المشهور بين الأصحاب ذلك ، بل لم أقف فيه على مخالف صريح أو تردد سوى المصنف ،
وكأن منشأ التردد من الشك في صدق الآباء والأمهات والأولاد على من علا أو سفل منهم
بطريق الحقيقة ، وهو في محله ، وإن كان الأقرب وجوب النفقة على الجميع. انتهى ،
وبنحو ذلك صرح جده في المسالك أيضا.
أقول : وقد
تقدم تحقيق القول في هذه المسألة ـ أعني إطلاق الأب على من علا والابن على من سفل
ـ في مواضع ، ولا سيما في كتاب الخمس. وأوضحنا بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة
أن الإطلاق المذكور حقيقة في الموضعين بما لا يعتريه للناظر المنصف شك في البين ،
ولا يخفى أن جزم هؤلاء السابقين ثمة من صدق الإطلاق حقيقة بوجوب الإنفاق في هذه المسألة على من علا من الآباء وسفل من الأبناء
لا يخلو من مدافعة ومناقضة لأن الوجوب مترتب على الصدق حقيقة وهم لا يقولون به ،
والفرق بين هذا الموضع وتلك المواضع المتقدمة غير ظاهر ، بل صريح كلامهم هنا هو
صحة ما ذكرنا ولكن لا أعرف لهم وجه عذر في
__________________
الخروج عما حكموا به ثمة إلا ما ربما يدعى من الإجماع هنا على العموم ،
وظاهره في المسالك أن تردد المصنف إنما هو لذلك حيث قال : إنا لا نعلم مخالفا من
أصحابنا في دخولهم هنا ، وإنما تردد المصنف لضعف الدليل ، ومن أصوله ـ رحمة الله
عليه ـ أنه لا يعتد بحجية الإجماع بهذا المعنى كما نبه عليه في مقدمة المعتبر ،
وهو الحق الذي لا يحيد عنه المنصف ، انتهى.
أقول : قد أجاد
بما أفاد ولكنه قد خالف نفسه في ذلك في غير موضع كما لا يخفى على من مارس كلامه
وتتبع كتابه ، وكيف كان فالحكم على ما اخترناه بحمد الله سبحانه واضح لا شك فيه ،
ولا ريب يعتريه ، وأما ما عدا من ذكرنا من الأقارب فقد صرح الأصحاب بأنه لا تجب
النفقة عليهم بل يستحب ، ولا سيما إذا كان وارثا ونقل العلامة في القواعد قولا
بوجوب النفقة على الوارث ، وأسند شراحه هذا القول إلى الشيخ ، مع أنه على ما نقل
عنه في المبسوط قطع باختصاصها بالعمودين ، وأسند وجوبها للوارث إلى الرواية وحملها
على الاستحباب وأنكر جملة ممن تأخر عنه الوقوف على هذه الرواية.
أقول : يمكن أن
تكون الرواية المذكورة هي ما رواه الشيخ في التهذيب عن غياث عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «اتي أمير المؤمنين عليهالسلام بيتيم فقال : خذوا بنفقته أقرب الناس إليه من العشيرة
كما يأكل ميراثه».
ويؤكدها ما
تقدم في آخر صحيحة محمد الحلبي برواية صاحب الفقيه ، والشيخ في الاستبصار حملها على
الاستحباب ، أو على ما إذا لم يكن وارث غيره إن مات كل واحد منهما ورث صاحبه ولم
يكن هناك من هو أولى منه ، وبهذا التقريب
__________________
الذي ذكره ـ رحمة الله عليه ـ يتم الاستدلال ، وإلا في التوقف على سواها في
هذا المجال ، وإلى القول بما تضمنته صحيحة الحلبي من وجوب الإنفاق على الوارث
الصغير يميل كلام السيد السند في شرح النافع حيث إنه بعد أنه أنكر الوقوف على
الرواية التي ادعاها في المبسوط قال : نعم مقتضى صحيحة الحلبي وجوب النفقة على
الوارث الصغير ، والعمل بها متجه لصحتها ووضوح دلالتها ، انتهى.
ومما يدل على
استحباب النفقة على من عدا من ذكر ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن زكريا المؤمن رفعه إلى أبي عبد الله عليهالسلام «قال : من عال ابنتين أو أختين أو عمتين أو خالتين حجبتاه من النار بإذن
الله».
وفي تفسير
الإمام العسكري عليهالسلام في قوله تعالى «وَمِمّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ» قال : من الزكاة والصدقات والحقوق اللازمات ـ إلى أن
قال : ـ وذوي الأرحام القريبات والآباء والأمهات ، وكالنفقات المستحبة على من لم
يكن فرضا عليهم النفقة وسائر القربات ـ الحديث.
الثالث : المفهوم من كلام الأصحاب هو أن نفقة الولد إنما تجب على أبيه دون أمه
لقوله تعالى «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ» فأوجب أجرة الرضاع على الأب فكذا غيرها من النفقات.
أقول : ويؤيده
أيضا عدم وجوب الإرضاع عليها ، بل لها الامتناع وأنها كغيرها من الأجانب
المستأجرات ، ولو كانت النفقة عليها واجبة كالأب لما صح ذلك.
وبالجملة
فالتمسك بأصالة براءة ذمتها من ذلك أقوى مستمسك حتى يقوم الدليل على الخروج عنه ،
وقد صرحوا أيضا بأن النفقة الواجبة على الأب لو مات
__________________
الأب أو كان فقيرا فإنها تنتقل إلى آبائه الأقرب فالأقرب ، واستندوا في ذلك
إلى أن أب الأب أب فيدخل تحت ما دل على وجوب النفقة على الأب.
وأورد عليه في
شرح النافع بأن هذا الاستدلال لو تم لاقتضى مساواة الجد وإن علا للأب ، لا تقدم
الأب كما هو المدعي ـ ثم قال : ـ إلا أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على الحكم المذكور
ولعله الحجة.
أقول : وفيه
تأييد ظاهر لما اخترناه في المسألة من صدق الأب حقيقة على الجد وإن علا ، ونحوه
الابن وإن سفل ، والركون إلى حجية الإجماع هنا قد تقدم قريبا ما فيه.
ثم إنهم قالوا
: إنه مع عدم الآباء والأجداد أو فقرهم تجب النفقة على الام ، ومع عدمها أو فقرها
فعلى آباء الام وأمهاتها وإن علوا مقدما في الوجوب الأقرب فالأقرب. كذا نص عليه
الشيخ في المبسوط ، وكثير من المتأخرين لم يتعرضوا لحكم الآباء والأمهات من قبل
الأم.
أقول : لم أقف
في النصوص على ما يتضمن هذا الحكم ، أعني حكم الام وآبائها وأمهاتها ، والظاهر أن
ذلك من تخريجات الشيخ ـ رحمة الله عليه.
ومما يتفرع على
القرب والتساوي كما ذكروه أمور : (الأول) أنه لو كان الأب والام معسرين ولا يجد
الولد سوى نفقة أحدهما فالظاهر أنهما يكونان فيه بالتساوي لتساوي رتبتهما وعدم
الترجيح ، وكذا لو كان له أب معسر وابن كذلك ذكرا كان أو أنثى ، أما لو كان له أب
معسر وجد كذلك وعجز عن نفقتهما جميعا فإنه يقدم نفقة الأب لأنه الأقرب ، وكذا لو
كان له جد وجد أب أو ابن وابن ابن.
(الثاني) لو
كان له ولدان ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما وله أب موسر ، وجب على الأب نفقة الآخر
، فإن اختلفا في قدر النفقة وكان مال الأب يسع أحدهما بعينه كالأقل نفقة اختص به
ووجبت نفقة الآخر على جده ، وإن تساويا
في النفقة واتفقا على الشركة أو على أن يختص كل واحد منهما بواحد فذاك ،
وإلا رجعا إلى القرعة.
(الثالث) لو
كان للمعسر أب وابن موسران كانت النفقة عليهما بالسوية لتساويهما في المرتبة ، أما
لو كان له أب وجد فالنفقة على أبيه دون جده ، وكذا القول فيما لو كان له أب وابن
ابن فإن النفقة على الأب لأنه الأقرب.
(الرابع) لو
كان فقيرا وله أم وابن موسران قيل ـ في تساويهما في وجوب الإنفاق أو تقدم الولد
على الام ـ وجهان : منشأهما اتحاد المرتبة ، وكون الولد مقدما على الجد المقدم
عليها ، فيكون أولى بالتقدم أقول : يمكن أن يقال بترجيح تقديم الولد في وجوب
الإنفاق ، لأنه المستفاد من النصوص المتقدمة ، وأما الأم فلم يقم دليل على وجوب
الإنفاق عليها على الولد كما عرفت ، غاية الأمر أنهم ذكروا أنه مع فقد من يجب عليه
من الأب وإن علا والابن وإن سفل فإنه يجب على الام ثم آبائها وأمهاتها الأقرب
فالأقرب ، والولد هنا موجود.
الموضع
الرابع : أنه يشترط
في المنفق عليه الفقر والعجز عن الاكتساب ، فلو لم يكن كذلك لم يجب الإنفاق عليه ،
وربما قيل باشتراط الفقر خاصة وأنه لا يشترط عدم القدرة على الاكتساب لحصول الحاجة
بالفعل ، وهو مردود بأن النفقة معونة على سد الخلة ، والمكتسب قادر فهو كالغني ،
ومن ثم منع من الزكاة ومن الكفارات المشروطة بالفقر.
نعم يعتبر في
الكسب كونها لائقا بحاله عادة ، فلا يكلف من كان شريف القدر والعالم الكنس
والدباغة ونحوهما ، ولو أمكن المرأة الكسب بالتزويج بمن يليق بها تزويجه عادة فهي
قادرة بالقوة ، وهل يشترط عدم تمكن القريب من أخذ نفقته من الزكاة ونحوها من
الحقوق؟ احتمالان ، قال في شرح النافع : أظهرهما العدم ، تمسكا بالإطلاق.
الخامس : أنه يجب الإنفاق على القريب المبغض وإن كان فاسقا أو
كافرا لعموم الآية وسائر الأدلة مما تقدم وغيره كقوله عزوجل «وَصاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً» وموردها الكافران ، والفاسقان بطريق أولى ، ومن
المصاحبة بالمعروف الإنفاق عليهما.
قالوا : ولا
يقدح كونهما غير وارثين لعدم الملازمة بينهما ، وبذلك صرح الأصحاب وأكثر العلماء
من غيرهم ، قال الشيخ في المبسوط : كل سبب يجب به الإنفاق من زوجية ونسب وملك يمين
فإنا نوجبها مع اختلاف الدين ، كما توجبها مع اتفاقه لأن وجوبها بالقرابة ، وتفارق
الميراث لأنه يستحق بالقرابة في الموالاة ، واختلاف الدين يقطع الموالاة.
وأغرب المحقق
الشيخ فخر الدين في شرحه على ما نقل عنه في المسالك حيث جعل المانع من الإرث كالرق
والكفر والقتل مانعا من وجوب الإنفاق ، قال : وربما نقل عنه أن ذلك إجماعي ،
والأمر بخلافه ، لتصريح الأصحاب بنحو ما قلناه ، ولم نقف على مخالف لهم فيه. انتهى
، وأشار بقوله «بنحو ما قلناه» إلى ما قدمه أولا من نحو ما ذكرناه في صدر الكلام.
السادس : المشهور أنه لا يجب إعفاف من تجب نفقته ، والمراد بالإعفاف أن يصيره ذا
عفة إما بتزويجه أو يعطيه مهرا يتزوج به أو يملكه جارية أو يعطيه ثمن جارية صالحة
له ، ونقل عن بعض الأصحاب القول بالوجوب للأب وإن علا ، لأن ذلك من أهم المصاحبة
بالمعروف المأمور بها في الآية ، ولأنه من وجوه حاجاته المهمة ، فيجب على الابن
القيام به كالنفقة والكسوة ، والمشهور الاستحباب وهو الأظهر.
وتؤيده الأخبار
الدالة على أنه لا يجوز له التصرف في جارية ابنه إلا أن
__________________
يقومها على نفسه ، ولو كان ذلك واجبا على الابن لجاز له التصرف فيها مطلقا
كما في غيرها من النفقة الواجبة ، فإنه مع إخلال الابن بها يجوز له أخذها ، ويقبل
قوله في الحاجة إلى النكاح والرغبة فيه على ما صرح به الأصحاب.
قالوا : ونفقة
الزوجة تابعة للاعفاف ، فإن وجب وجبت ، وإلا استحبت ، وكذا القول في نفقة زوجة
الأب التي تزوجها بغير واسطة الابن ، وأوجب الشيخ في المبسوط نفقة زوجته وإن لم
يجب إعفافه ، قال : لأنها من جملة مؤنته وضروراته ، كنفقة خادمه حيث يحتاج إليه.
قال في المختلف
: لا يجب على الولد الغني الإنفاق على زوجة والده المعسر ، ولا على الوالد وجوب
الإنفاق على زوجة ولده المعسر لأصالة البراءة ، وأوجب الشيخ في المبسوط النفقة
فيها لأنها من مؤنة والده.
أقول : لا أعرف
له دليلا غير ما ذكر من هذا الدليل الاعتباري الذي لا يخفى ضعفه مع ما عرفت من عدم
الدليل في أصل المسألة .
السابع : قالوا : لو دافع من وجبت عليه النفقة أجبره الحاكم ، فإن امتنع حبسه ،
وقيل : يتخير بين حبسه وتأديبه لينفق بنفسه ، وبين أن يدفع من ماله قدر النفقة إن
كان له مال ظاهر ، وإن توقف على بيع شيء من عقاره وماله جاز ، لأن حق النفقة واجب
فكان كالدين ، ولو كان من تجب عليه النفقة غائبا تولى الحاكم الإنفاق من ماله
كالحاضر الممتنع. قيل : وللحاكم أن يأذن له في الاستدانة والإنفاق ثم الرجوع عليه
بعد حضوره.
قال في المسالك
: ولو لم يقدر على الوصول إلى الحاكم ففي جواز استقلاله بالاستقراض عليه أو البيع
من ماله مع امتناعه أو غيبته وجهان ، أجودهما الجواز ،
__________________
لأن ذلك من ضروب المقاصة حيث يقع أخذ القريب في الوقت والزوجة مطلقا ،
انتهى.
المطلب
الثالث ، في نفقة المملوك : وهو إما أن يكون من الأناسي أو غيره من سائر
الحيوانات ، فالكلام هنا في موضعين :
الأول ـ في
المملوك الأناسي وفيه مسألتان :
الاولى : لا
خلاف نصا وفتوى في وجوب النفقة عليه إذا لم يكن له مال.
روى ثقة
الإسلام في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا الأب والام والولد
والمرأة والمملوك ، وذلك أنهم عياله لازمون له».
وعن جميل بن
دراج في الصحيح أو الحسن قال : «لا يجبر الرجل إلا على نفقة الأبوين والولد»
الحديث.
وروى الصدوق في
العلل في الصحيح عن عبد الله بن الصلت عن عدة من أصحابنا يرفعونه إلى أبي عبد
الله عليهالسلام «أنه قال : خمسة لا يعطون من الزكاة الولد والوالدان والمرأة والمملوك ،
لأنه يجبر على النفقة عليهم». إلى غير ذلك من الأخبار.
وقد نقل غير
واحد من أصحابنا أنه لا خلاف بين علماء الإسلام في الحكم المذكور ولا فرق في
المملوك بين الصغير والكبير ، والصحيح والأعمى ، والمدبر والمرهون والمستأجر
وغيرها ، وكذا لا فرق بين الكسوب وغيره ، لكن متى كان كسوبا يخير المولى بين
الإنفاق عليه من ماله وأخذ كسبه وبين الإنفاق عليه من كسبه ،
__________________
والمرجع إلى واحد لأن الكسب أحد أموال السيد ، ولهذا لو قصر كسبه وجب
الإتمام على السيد ، ولو تعدد المالك وزعت النفقة على الجميع بحسب الملك ، ويرجع
في قدر النفقة إلى عادة مماليك أمثال المولى من أهل بلاده لأنها غير متعددة شرعا
على المشهور ، فيجب الرجوع فيها إلى العادة كما قلنا ، فيعتبر قدر ما يكفيه من طعام
وكسوة ، ويرجع في الكيفية إلى ما تقدم من عادة أمثال مماليك الموالي من أهل بلاده
، ولو كان السيد ممن يتنعم في الطعام والإدام والكسوة استحب له التوسعة على مملوكه
كذلك.
وروي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إخوانكم حولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان
أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، ويلبسه مما يلبس».
قال في المسالك
بعد نقله : أنه محمول على الاستحباب ، أو على أن الخطاب للعرب الذين مطاعمهم
وملابسهم متقاربة ، أو على أنه جواب سائل علم حاله ، فأجاب على ما اقتضاه الحال
كما وقع في كثير من أجوبته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أقول : الظاهر
أن الخبر المذكور عامي لعدم وجوده في كتب أخبارنا كما لا يخفى على من راجعها ، فلا
ضرورة إلى ارتكاب هذه التكلفات في تأويله ، ولو امتنع السيد عن الإنفاق عليه خيره
الحاكم بين بيعه وبين الإنفاق عليه وجبره على أحدهما إن لم يكن له مال.
المسألة
الثانية : قالوا : يجوز مخارجة المملوك على شيء فما فضل يكون له ، فإن كفاه
لنفقته وإلا أتمه المولى ، والمراد بالخارجة ضرب خراج معلوم على المملوك يؤديه كل
يوم أو كل سنة أو مدة مما يكسبه ، وما فضل عن ذلك الذي ضربه عليه فإنه يكون للعبد
، وهل للسيد إجبار العبد على ذلك؟ قولان ، اختار في المسالك الثاني ، ومثله سبطه
السيد السند في شرح النافع ، وعلله بأنه يملك استخدامه المعتاد لا تحصيل ذلك القدر
المطلوب منه بالكسب.
__________________
واختار العلامة
في التحرير جواز إجباره على ذلك إذا لم يتجاوز بذلك المجهود لأنه يملك منافعه ،
فله نقلها إلى غيره بالعوض على كره منه والمخارجة مثله. قالوا : وإذا وفي وزاد ما
يكتسبه فالزيادة مبرة من السيد إلى عبده وتوسيع عليه.
أقول : هذا
مبني على ما هو المشهور بينهم من عدم جواز ملك العبد ، وفيه ما ستعرفه ـ إن شاء
الله ـ في المقام ، وقد تقدم أيضا تحقيق ذلك في كتاب البيع. والذي وقفت عليه هنا
من الأخبار الدالة على مشروعية المخارجة ما رواه الصدوق في الفقيه عن الحسن بن محبوب عن عمر بن يزيد في الصحيح قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أراد أن يعتق مملوكا له وقد كان مولاه يأخذ منه
ضريبة فرضها عليه في كل سنة ورضي بذلك المولى ، فأصاب المملوك في تجارته مالا سوى
ما كان يعطي مولاه من الضريبة ، قال : فقال : إذا أدى إلى سيده ما كان فرض عليه ،
فما اكتسب بعد الفريضة فهو للمملوك. ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام : أليس قد فرض الله تعالى على العباد فرائض ، فإذا
أدوها لم يسألهم عما سواها ، قلت : فللمملوك أن يتصدق مما اكتسب ويعتق بعد الفريضة
التي كان يؤديها إلى سيده؟ قال : نعم وأجر ذلك له ، قلت : فإن أعتق مملوكا مما كان
اكتسب سوى الفريضة لمن يكن ولاء المعتق؟ فقال : يذهب فيتولى من أحب إذا ضمن جريرته
، وعقله كان مولاه وورثه ، قلت : أليس قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الولاء لمن أعتق؟ فقال : هذا سائبة لا يكون ولاؤه
لعبد مثله ، قلت. فإن ضمن العبد الذي أعتقه جريرته وحدثه يلزمه ذلك ويكون مولاه
ويرثه؟ فقال : لا يجوز ذلك ، لا يرث عبد حرا».
وفي هذا الخبر
فوائد عديدة قد ذكرنا وسنذكر ـ إن شاء الله ـ كلا منها
__________________
في موضعه ، ومن أظهرها دلالة على ملك العبد لفاضل الضريبة ، كما اخترناه
مما قدمنا تحقيقه في كتاب البيع وهو أحد القولين في المسألة.
ولو قلنا بأنه
لا يملك كما هو القول الآخر كان الأمر كما قدمنا نقله عنهم من أن فاضل الضريبة
مبرة من السيد إلى عبده إلا أن النص المذكور على خلافه.
الموضع
الثاني : في نفقة
البهائم المملوكة ، مأكولة كانت أو غير مأكولة ولا خلاف في وجوب نفقتها كما نقله
غير واحد من الأصحاب ، وعلى ذلك تدل الأخبار.
ومنها ما رواه في
الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام» قال : للدابة على صاحبها ستة حقوق ، لا يحملها فوق
طاقتها ، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها ، ويبدأ بعلفها إذا نزل ، ولا يسمها ،
ولا يضربها في وجهها فإنها تسبح ، ويعرض عليها الماء إذا مر به».
وروى في الفقيه
عن السكوني بإسناده قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : للدابة على صاحبها خصال ، يبدأ بعلفها إذا نزل ،
ويعرض عليها الماء إذا مر به ، ولا يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها ، ولا يقف على
ظهرها إلا في سبيل الله ، ولا يحملها فوق طاقتها ، ولا يكلفها من المشي إلا ما
تطيق». إلى غير ذلك من الأخبار.
ويقوم مقام
علفها وسقيها تخليتها في المرعى لترعى فيه ، ويجزي بعلفه كما هو المتعارف في جميع
البلدان ، ولو لم يجزها فعلى المالك الإتمام ، ولو امتنع المالك أجبره الحاكم على
بيعها أو علفها أو ذبحها لو كانت مأكولة اللحم ، أو للانتفاع بإهابها ، وإذا لم
ينتفع بها بالذبح اجبر على أحد الأمرين.
فوائد
الأولى : قالوا
: لا يجوز تكليف الدابة ما لا تطيقه من تثقيل الحمل وإدامة
__________________
السير. أقول : وقد عرفت ما يدل عليه من الخبرين المتقدمين.
الثانية : قالوا
: يجوز غصب العلف لإبقائها إذا لم يوجد غيره ولم يبذله المالك بالعوض ، كما يجوز
غصبه كذلك لحفظ نفس الإنسان ، وإن كان يلزمه المثل أو القيمة.
الثالثة : قالوا
: لا يجوز الحلب إذا كان يضر بالبهيمة لقلة العلف وإن لم يضر ولدها ، وتركه إذا لم
يكن في الحلب إضرار بها لما فيه من تضييع المال والإضرار بالبهيمة. قيل : ويحتمل
الوجوب ، ويستحب أن لا يستقصي في الحلب.
الرابعة : قالوا
: ينبغي أن يبقى للنحل شيء من العسل في الكوارة ، ولو احتاجت إليه كوقت الشتاء
وجب إبقاء ما يكفيها عادة ، ويستحب أن يبقى أكثر من الكفاءة إلا أن يضر بها.
الخامسة : قد
صرحوا بأنه حيث إن ديدان القز إنما تعيش بالتوت ، فعلى مالكها القيام بكفايتها منه
وحفظها من التلف ، فإن عن الورق ولم يعتن بها باع الحاكم من ماله واشترى لها منه
ما يكفيها. قال في شرح النافع بعد نقل ذلك عن جده في المسالك : وهو كذلك ، وإذا
جاء وقتها بتخفيف جوزها في الشمس وإن هلكت تحصيلا للغرض المطلوب منها. قال في شرح
النافع : وعليه عمل الناس كافة عصرا بعد عصر من غير نكير فكان إجماعا ، ويدل عليه
قوله تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً» أي لأجل انتفاعكم به في دنياكم ودينكم.
السادسة : ما
كان من المال ما لا روح له كالعقار ، فالمفهوم من كلام الأصحاب أنه لا يجب عمارته
ولا زراعة الأرض ، لكنه يكره تركه إذا أدى إلى الخراب. قال في المسالك : وفي وجوب
سقي الزرع والشجرة وحرثه مع الإمكان قولان ، أشهرهما العدم.
__________________
ولنقطع الكلام
حامدين للملك العلام على جزيل نعمائه الجسام ، وجميل أياديه العظام ، التي من
أهمها الفوز بسعادة الاختتام ، مصلين على نبيه محمد وآله مصابيح الظلام ، وأركان
الإسلام ، وكعبة الاعتصام ، وبدور التمام ، سائلين منه عزوجل الأمداد بالتوفيق ، الذي هو خير صاحب ورفيق ، إلى الفوز
بإتمام الكتب الباقية ، وأن ينيم عني عيون العوائق ، ويجعلني في درعه الحصينة
الواقية ، وأن يعصمني من زلل الأقدام ، وزيغ الأفهام ، وطغيان الأقلام ، في نعمه
منه سبحانه وعافيته ، إنه أكرم مقصود ومسؤول ، وأجود مرجو ومأمول ، وقد اتفق
الفراغ من هذا المجلد وهو المجلد التاسع من كتاب «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة»
ويتلوه المجلد العاشر في كتاب الطلاق وما يتبعه من الكتب في اليوم الثاني من
شهر جمادى الثانية أحد شهور السنة الخامسة والثمانين بعد المائة والألف من الهجرة
النبوية في الأرض المقدسة كربلاء المعلى بيد العبد يوسف بن أحمد ابن إبراهيم
البحراني جزاه الله تعالى بإحسانه وجوده وامتنانه ، آمين آمين آمين.
__________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين ، وصلى الله على محمد وعترته الطاهرين ، وسلام على المرسلين وعلى عباده
الصالحين.
كتاب الطلاق
ولهم فيه
تعريفات قد أردفت بإيرادات ليس في التعرض لذكرها مزيد فائدة بعد ظهور المعنى لكل
من خاض الفن ومارس الأخبار وكلام علمائنا الأبرار.
مقدمة
قد تكاثرت
الأخبار وبه صرح جملة من علمائنا الأبرار ، بكراهة الطلاق مع التئام الأخلاق.
فروى في الكافي
عن سعد بن طريف عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «مر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم برجل فقال : ما فعلت امرأتك؟ فقال : طلقتها يا رسول الله
، قال : من غير سوء؟ قال : من غير سوء. ثم إن الرجل تزوج فمر به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : تزوجت؟ فقال : نعم. ثم مر به فقال له بعد ذلك :
ما فعلت امرأتك؟ قال : طلقتها قال : من غير سوء؟ قال : من غير سوء. ثم إن الرجل
تزوج فمر به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال :
__________________
تزوجت؟ فقال : نعم ، ثم قال له بعد ذلك : ما فعلت امرأتك؟ قال : طلقتها ،
قال : من غير سوء؟ قال : من غير سوء. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن الله عزوجل يبغض أو يلعن كل ذواق من الرجال ، وكل ذواقة من النساء».
وما رواه فيه أيضا عن ابن أبي عمير في الصحيح أو الحسن عن غير واحد
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ما من شيء مما أحله الله عزوجل أبغض إليه من الطلاق ، وأن الله يبغض المطلاق الذواق».
وعن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن الله عزوجل يحب البيت الذي فيه العرس ، وما من شيء أبغض إلى الله عزوجل من الطلاق».
وعن طلحة بن
زيد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعت أبي عليهالسلام يقول : إن الله عزوجل يبغض كل مطلاق ذواق».
وبإسناده عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «بلغ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن أبا أيوب يريد أن يطلق امرأته ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن طلاق أم أيوب لحوب». أقول : يعني بالحوب الإثم.
وعن صفوان بن
مهران في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : تزوجوا وزوجوا ـ إلى أن قال : ـ وما من شيء أحب إلى
الله عزوجل من بيت يعمر بالنكاح ، وما من شيء أبغض إلى الله عزوجل من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة ، يعني الطلاق».
__________________
وروى الفضل
الطبرسي في مكارم الأخلاق قال : «قال عليهالسلام : تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش. قال :
وقال عليهالسلام : تزوجوا ولا تطلقوا فإن الله لا يحب الذواقين
والذواقات».
أقول : وإنما
حملنا هذه الاخبار مع إطلاقها على التئام الأخلاق ، لورود أخبار أخر في مقابلتها
دالة على الأمر بالطلاق مع عدم التئام الأخلاق.
ومنها ما رواه في
الكافي عن عثمان بن عيسى عن رجل عن أبي جعفر عليهالسلام «أنه كانت عنده امرأة تعجبه ، وكان لها محبا ، فأصبح يوما وقد طلقها ، واغتم
لذلك ، فقال له بعض مواليه : جعلت فداك لم طلقتها؟ فقال : إني ذكرت عليا عليهالسلام فتنقصته فكرهت أن ألصق جمرة من جمر جهنم بجلدي».
وعن خطاب بن
سلمة (مسلمة خ ل) قال : «كانت عندي امرأة تصف هذا الأمر ، وكان أبوها
كذلك ، وكانت سيئة الخلق فكنت أكره طلاقها لمعرفتي بإيمانها وإيمان أبيها ، فلقيت
أبا الحسن موسى عليهالسلام وأنا أريد أن أسأله عن طلاقها ـ إلى أن قال : ـ فابتدأني
فقال : يا خطاب كان أبي زوجني ابنة عم لي وكانت سيئة الخلق ، وكان أبي ربما أغلق
علي وعليها الباب رجاء أن ألقاها ، فأتسلق الحائط وأهرب منها ، فلما مات أبي
طلقتها ، فقلت : الله أكبر أجابني والله عن حاجتي من غير مسألة».
وعن خطاب بن
مسلمة قال : «دخلت عليه ـ يعني أبا الحسن موسى عليهالسلام وأنا أريد أن أشكو إليه ما ألقى من امرأتي من سوء خلقها
، فابتدأني فقال : إن أبي كان زوجني مرة امرأة سيئة الخلق فشكوت ذلك إليه فقال :
ما يمنعك من فراقها ، قد جعل الله ذلك إليك ، فقلت فيما بيني وبين نفسي : قد فرجت
عني».
__________________
بقي هنا إشكال
وهو أنه قد تكاثرت الأخبار بأن الحسن عليهالسلام كان رجلا مطلقا للنساء حتى عطب به أبوه علي عليهالسلام على ظهر المنبر.
ومن الأخبار في
ذلك ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن عليا عليهالسلام قال وهو على المنبر : لا تزوجوا الحسن ، فإنه رجل مطلاق
، فقام إليه رجل من همدان فقال : بلى والله أزوجه ، وهو ابن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وابن أمير المؤمنين عليهالسلام فإن شاء أمسك وإن شاء طلق».
وعن يحيى بن
أبي العلاء عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن الحسن بن علي عليهماالسلام طلق خمسين امرأة فقام علي عليهالسلام بالكوفة فقال : يا معاشر أهل الكوفة لا تنكحوا الحسن عليهالسلام فإنه رجل مطلاق ، فقام إليه رجل فقال : بلى والله
أنكحته إنه ابن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وابن فاطمة عليهاالسلام فإن أعجبته أمسك ، وإن كره طلق».
وروى البرقي في
كتاب المحاسن عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال
: «أتى رجل أمير المؤمنين عليهالسلام فقال له : جئتك مستشيرا إن الحسن والحسين وعبد الله بن
جعفر خطبوا إلى فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : المستشار مؤتمن ، أما الحسن فإنه مطلاق للنساء ، ولكن
زوجها الحسين فإنه خير لابنتك».
وربما حمل
بعضهم هذه الأخبار على ما تقدم في سابقها من سوء خلق في أولئك النساء أو نحوه مما
يوجب أولوية الطلاق ، ولا يخفى بعده ، لأنه لو كان كذلك لكان عذرا شرعيا ، فكيف
ينهى أمير المؤمنين عليهالسلام عن تزويجه والحال كذلك. وبالجملة فالمقام محل أشكال ،
ولا يحضرني الآن الجواب عنه ، وحبس القلم عن ذلك أولى بالأدب.
__________________
والكلام في هذا
الكتاب في أركان الطلاق وأقسامه ولواحقه ، فهنا مقاصد ثلاثة :
الأول : في الأركان
وهي أربعة :
الأول : المطلق ويعتبر فيه شروطا أربعة أحدها البلوغ والكلام فيه يقع في موضعين :
الأول : لا
خلاف بين الأصحاب في عدم صحة طلاق من لم يبلغ عشرا وإن كان مميزا ، كما لا خلاف في
صحة طلاق من كان بالغا ، وإنما الخلاف فيمن بلغ عشرا وهو مميز ، فذهب الشيخ في
النهاية وابن البراج وابن حمزة وغيرهم إلى صحة طلاقه ، وذهب ابن إدريس إلى العدم
وهو المشهور بين المتأخرين ، وقال علي بن بابويه في رسالته : والغلام إذا طلق
للسنة فطلاقه جائز ، وظاهره عدم التقييد بالعشر ولا بالتمييز.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير عن بعض رجاله عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «يجوز طلاق الصبي إذا بلغ عشر سنين».
وما رواه في
الكافي والفقيه عن سماعة في الموثق قال : «سألته عن طلاق الغلام ولم
يحتلم وصدقته ، قال : إذا هو طلق للسنة ووضع الصدقة في موضعها وحقها فلا بأس وهو
جائز».
وما رواه في
الكافي في الموثق عن ابن بكير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «
__________________
يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل ووصيته وصدقته وإن لم يحتلم».
وما رواه الشيخ
بطريقه عن علي بن الحسن بن علي بن فضال عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير
عن جميل بن دراج عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال : «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيته
وإن لم يحتلم».
وما رواه في
الكافي عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه أو الصبي أو
مبرسم أو مجنون أو مكره».
وعن أبي الصباح
الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ليس طلاق الصبي بشيء».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يجوز طلاق الصبي ولا السكران».
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي «والغلام إذا طلق للسنة فطلاقه جائز».
وروى الحميري
في كتاب قرب الاسناد عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد
عن أبيه عن علي عليهمالسلام قال : «لا يجوز طلاق الغلام حتى يحتلم».
__________________
أقول : هذه
جملة ما حضرني من الأخبار في المسألة ، وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك نقل متن
مرسلة ابن أبي عمير عن ابن بكير ، ونقل ذلك عن ابن أبي عمير أيضا قال في الكتاب
المذكور ـ بعد قول المصنف : وفي من بلغ عشرا عاقلا فطلق للسنة رواية بالجواز فيها
ضعف ـ ما صورته : الرواية التي أشار إليها رواها ابن فضال عن ابن بكير عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «يجوز طلاق الصبي إذا بلغ عشر سنين». وضعفها
بالرجلين المذكورين فإنهما فطحيان ، ومع ذلك عمل بمضمونها الشيخان وجماعة من
المتقدمين ، وقد روى في معناها ابن أبي عمير في الحسن مرسلا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «يجوز طلاق الصبي إذا بلغ عشر سنين». وروى ابن
بكير جواز طلاقه غير مقيد بالعشر أيضا عنه عليهالسلام قال : «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل ووصيته وصدقته
وإن لم يحتلم». انتهى.
أقول : ما ذكره
من رواية ابن بكير الاولى وهم نشأ من الشيخ في التهذيب تبعه عليه من لم يتأمل
المقام مثل شيخنا المذكور ، ومثله صاحب الوسائل ، وقد نبه على ما ذكرناه السيد
السند ـ رحمة الله عليه ـ في شرح النافع حيث قال بعد نقل مرسلة ابن أبي عمير كما
نقلناه : وقد جعل الشيخ في التهذيب هذه الرواية رواية ابن بكير ، وهو غير جيد ،
فإن رواية ابن بكير رواه الكليني متقدمة على هذه الرواية بغير فصل ، وكأن نظر
الشيخ سبق من سند رواية ابن بكير إلى متن رواية ابن أبي عمير ، وقد وقع نحو ذلك في
عدة مواضع من التهذيب فينبغي التنبيه عليه.
انتهى ، وهو
جيد لما قدمناه في مواضع عديدة سيما في كتب العبادات من ذكر ما وقع للشيخ من أمثال
ذلك في متون الأخبار وأسانيدها ، وقل ما يخلو خبر من نحو ذلك.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن غاية ما تعلق به السيد السند في شرح النافع ـ دليلا لما اختاره من القول
المشهور بين المتأخرين ـ هو تمسك بمقتضى الأصل فيما لم يقم دليل على خلافه ،
ورواية أبي الصباح الكناني ورواية أبي بصير
المتقدمين ، ثم أجاب عن مرسلة ابن أبي عمير بضعف الإسناد بالإرسال ، ولم
ينقل غيرها من الأخبار الدالة على مذهب الشيخ ومن تبعه.
وأنت خبير بما
فيه أما (أولا) فلأن الأصل يجب الخروج عنه بالدليل كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
وأما (ثانيا) فإن الطعن في مرسلة ابن أبي عمير مع كونه خلاف قواعدهم وما صرحوا به
من عدهم مرسلاته في حكم المسانيد ، فهو وارد عليه في استدلاله بروايتي الكناني
وأبي بصير.
والتحقيق أنه
بالنظر إلى الأخبار فإن قوة قول الشيخ مما لا يداخله الإنكار بعد ضم الأخبار
المذكورة بعضها إلى بعض بحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها ، فيحمل الصبي
في رواية الكناني وأبي بصير ونحوهما مما دل على عموم عدم جواز طلاقه على من لم
يبلغ العشر أو من بلغ ، ولكن لا يعقل ذلك ، وما دل على جواز طلاقه مطلقا كموثقات
محمد بن مسلم وسماعة وابن بكير ونحوها على من بلغ عشرا ، وكان يعقل ذلك ، وبه
يجتمع الأخبار على وجه واضح المنار ، ويظهر قوة قول الشيخين وأتباعهما وهو ظاهر
الصدوق في الفقيه لاقتصاره على نقل موثقة سماعة الدالة على هذا القول ، وهو صريح
عبارة أبيه في الرسالة كما عرفت ، والظاهر أنه المشهور بين المتقدمين.
وقال السيد
السند في شرح النافع ـ بعد نقله عبارة الشيخ علي بن الحسين بن بابويه المذكورة ـ ما
لفظه : وربما كان مستنده في هذا الإطلاق ما رواه ولده في الفقيه عن زرعة عن سماعة
ـ ثم نقل الرواية حسبما قدمناه ، ثم قال : ـ وهذه الرواية ضعيفة بالإضمار ،
واشتمال سندها على عدة من الواقفية ، فلا يصلح التعلق بها في إثبات هذا الحكم ، انتهى.
أقول : فيه أن
مستند الشيخ المذكور إنما هو كتاب الفقه الرضوي ، فإن عبارته التي قدمنا نقلها عنه
عين عبارة الكتاب المتقدمة ، حسبما عرفت في غير موضع مما تقدم من إفتائه في
الرسالة بعبارات هذا الكتاب كما أوضحناه
سابقا ، بما لا يداخله الشك ولا الارتياب. ولكنهم لعدم اطلاعهم على الكتاب
المذكور يتكلفون له تحصيل الأدلة المناسبة ، كما هي قاعدته في المختلف.
وبالجملة فإن
الظاهر عندي هو القول المذكور لاجتماع الأخبار عليه ، والقول بما عليه المتأخرون
موجب لطرح أخبار المسألة مع اعتبار أسانيدها قوتها ، والجمع بين الأخبار مهما أمكن
روي من طرح بعضها ، وإلى هذا القول يميل كلام صاحب الكفاية.
الثاني : لا
خلاف بين الأصحاب في أنه ليس للولي أن يطلق عن الصبي قبل بلوغه ، ويدل عليه الخبر
المشهور من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «الطلاق بيد من أخذ بالساق».
وما رواه في
الكافي عن الفضل بن عبد الملك قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يزوج ابنه وهو صغير؟ قال : لا بأس. قلت : يجوز
طلاق الأب؟ قال : لا». ووصف السيد السند في شرح النافع هذه الرواية بالصحة ، مع أن
في طريقها عبد الله بن محمد المشهور بنيان أخا أحمد بن محمد بن عيسى وهو مجهول في
الرجال.
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام «في الصبي يتزوج الصبية يتوارثان؟ قال : إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما
فنعم. قلت : فهل يجوز طلاق الأب؟ قال : لا».
وعن عبيد بن
زرارة في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله.
نعم لو بلغ
فاسد العقل جاز للولي أن يطلق عنه مع مراعاة الغبطة على المشهور بين المتقدمين
والمتأخرين ، بل ادعى عليه فخر المحققين الإجماع ، ولم
__________________
ينقل الخلاف هنا إلا عن الشيخ في الخلاف ، فإنه ذهب إلى عدم الجواز محتجا
بإجماع الفرقة ، وتبعه ابن إدريس ، واحتج كل من القائلين المذكورين بجملة من
الأدلة العقلية التي ليس في التطويل بذكرها مزيد فائدة ، والظاهر هو القول المشهور
للأخبار التي هي المعتمد في الورود والصدور.
ومنها ما رواه ثقة
الإسلام والشيخ في الصحيح عن أبي خالد القماط قال : «قلت لأبي عبد الله
عليهالسلام : الرجل الأحمق الذاهب العقل أيجوز طلاق وليه عليه؟ قال
: ولم لا يطلق هو؟ قلت : لا يؤمن إن هو طلق أن يقول غدا لم أطلق ، أو لا يحسن أن
يطلق ، قال : ما أرى وليه إلا بمنزلة السلطان».
وما رواه في
الكافي والفقيه عن أبي خالد قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل يعرف رأيه مرة وينكره اخرى ، يجوز طلاق وليه عليه؟
قال : ما له هو لا يطلق؟ قلت : لا يعرف حد الطلاق ولا يؤمن عليه إن طلق اليوم أن
يقول غدا لم أطلق ، قال : ما أراه إلا بمنزلة الإمام يعني الولي».
أقول : المراد
من كون الولي بمنزلة السلطان أو بمنزلة الإمام يعني في تولي الطلاق عنه كما يفصح
به الخبر الآتي ، والظاهر أن قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لم لا يطلق؟» مبني على كون الجنون أدوارا كما هو ظاهر الخبر الثاني ،
وحينئذ فيطلق في وقت إفاقته ، فأجاب السائل بأنه في حال الإفاقة ليس كامل العقل ،
لما ذكره في الخبرين.
وما رواه في
الكافي عن أبي خالد القماط عن أبي عبد الله عليهالسلام «في طلاق
__________________
المعتوه قال : يطلق عنه وليه فإني أراه بمنزلة الامام».
وعن شهاب بن
عبد ربه قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : المعتوه الذي لا يحسن أن يطلق ، يطلق عنه وليه عن
السنة» الحديث.
احتج ابن إدريس
بأن الأصل بقاء العقد وصحته ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «الطلاق بيد من أخذ بالساق».
وفيه أن الأصل
يجب الخروج عنه بالدليل وقد عرفت ، والخبر مع تسليم صحة سنده مطلق يجب تقييده بما
ذكرنا من الأخبار ، على أنه غير مناف للمراد ، وذلك لأن طلاق الولي طلاقه ، كما
أنه يجوز طلاق الوكيل بالإجماع ، إذ لم يوجب أحد من الأصحاب إيقاع الطلاق مباشرة
من الزوج.
قال في المسالك
ـ بعد أن استدل للقول المشهور بالروايتين الأولتين ـ : وفي الاحتجاج بهذه الأخبار
نظر ، لأن جعل الولي بمنزلة الامام والسلطان لا يدل على جواز طلاقة عنه ، ولأن متن
الحديث لا يخلو من قصور ، لأن السائل وصف الزوج بكونه ذاهب العقل ، ثم يقول له
الامام «ماله لا يطلق» مع الإجماع على أن المجنون ليس له مباشرة الطلاق ، ولا
أهلية التصرف ، ثم يعلل السائل عدم طلاقه بكونه ينكر الطلاق أو لا يعرف حدوده ، ثم
يجيبه بكون الولي بمنزلة السلطان وكل هذا يضعف الاحتجاج بها ، وأيضا فهذه الأخبار
ليس فيها تقييد باشتراط طلاقه بالمصلحة والغبطة للمجنون ، ومن ثم ذهب ابن إدريس
إلى عدم الجواز ، وقبله الشيخ في الخلاف محتجا بإجماع الفرقة ، وبأصالة بقاء العقد
وصحته ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ثم أورد الخبر النبوي المتقدم.
أقول : أما ما
طعن به من عدم دلالة جعل الولي بمنزلة السلطان ـ على جواز طلاقه عنه ـ فقد عرفت
إفصاح الرواية الثالثة به ، وبها كشف نقاب الإبهام عن
__________________
الروايتين المذكورتين كما أشرنا إليه آنفا ، وآكد ذلك الرواية الرابعة ،
ولكن العذر له واضح حيث لم يطلع عليها وإلا لأوردهما.
وأما الطعن في
المتن بما ذكره فقد تقدم الجواب عنه.
وبالجملة فإنه
إذا ضمت هذه الأخبار الأربعة بعضها إلى بعض فإنه لا إشكال في قوة القول المشهور ،
وما عليه القول الآخر من القصور. وشيخنا المذكور قد رجع في آخر كلامه إلى القول
المشهور ، وإنما كلامه هنا نوع مناقشة أوردها في البين ، مع أنك قد عرفت أنه لا
أثر لها ولا عين.
نعم ما ذكره ـ من
أنه ليس في هذه الأخبار تقييد باشتراط الطلاق بالمصلحة ـ متجه ، إلا أنه يمكن
الرجوع في ذلك إلى الأدلة العامة الدالة على أن تصرف الولي منوط بالمصلحة إن ثبت
ذلك.
الثاني من
الشروط الأربعة المتقدمة العقل ، فلا يصح طلاق المجنون ولا السكران ولا من زال
عقله بإغماء أو شرب مرقد لعدم القصد. والمراد بالمجنون المطبق ، لأن من كان جنونه
أدوارا فله أن يطلق في حال الإفاقة بغير إشكال. والمراد بالسكران من بلغ بتناول
المسكر إلى حد يرتفع معه القصد ، وقيل في حده إنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف
سره المكتوم.
ومن الأخبار
الدالة على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن طلاق المعتوه الذاهب العقل أيجوز طلاقه؟ قال : لا.
وعن المرأة إذا كانت كذلك أيجوز بيعها وصدقتها؟ قال : لا».
وما رواه في
الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كل طلاق
__________________
جائز إلا طلاق المعتوه أو الصبي أو مبرسم أو مجنون أو مكره».
وما رواه في
التهذيب عن زكريا بن آدم قال : «سألت الرضا عليهالسلام عن طلاق السكران والصبي والمعتوه على عقله ومن لم يتزوج
، فقال : لا يجوز».
وما رواه في
الكافي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن طلاق السكران ، فقال : لا يجوز ولا
كرامة».
وعن أبي الصباح
الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال ليس طلاق السكران بشيء».
وما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح برواية التهذيب عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن طلاق السكران ، قال : لا يجوز ولا عتقه»
وزاد في التهذيب «قال : وسألته عن طلاق المعتوه ، فقال : وما هو؟ قلت : الأحمق
الذاهب عقله ، قال : لا يجوز. قلت : والمرأة كذلك يجوز بيعها وشراؤها؟ قال : لا».
وما رواه في
التهذيب عن إسحاق بن جرير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن السكران يطلق أو يعتق أو يتزوج ، أيجوز
له وهو على حاله؟ قال : لا يجوز له».
وأما ما رواه في
التهذيب والفقيه عن شعيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن المعتوه أيجوز طلاقه؟ فقال : ما هو؟ فقلت : الأحمق الذاهب
العقل فقال : نعم». فحمله الصدوق ـ رحمهالله ـ في الفقيه والشيخ في الكتابين على ما
__________________
إذا طلق عنه وليه ، وجوز في الاستبصار حمله على ناقص العقل دون فاقده.
أقول : ظاهر
هذه الأخبار أن المعتوه هو المجنون الذاهب العقل ، وظاهر كلام جملة من أهل اللغة
أنه الناقص العقل.
قال الفيومي في
كتاب المصباح المنير : عته عتها من باب تعب وعتاها بالفتح : نقص عقله من غير
جنون أو دهش ، وفيه لغة ثانية عته بالبناء للمفعول عتاهة بالفتح وعتاهية بالتخفيف
فهو معتوه بين العته.
وفي التهذيب : المعتوه المدهوش من غير حس أو جنون ، انتهى.
وقال في
القاموس : عته كعني عتها وعتها وعتاها بضمها فهو معتوه نقص عقله
أو فقد أو دهش ، انتهى.
والظاهر من
سؤالهم عليهمالسلام السائل في بعض هذه الأخبار بعد ذكر المعتوه «ما هو» هو
أنه يطلق على كل من الأمرين ـ أعني فاقد العقل وناقصه ـ فإذا أجاب بأنه فاقد العقل
منع عليهالسلام من جواز وقوع تلك الأمور منه ، ومفهومه أنه لو لم يكن
كذلك جاز وقوعها ، وقد تقدم حكم طلاق الولي. عن المجنون.
وأما السكران
ونحوه من المغمى عليه وشارب المرقد فظاهر الأصحاب الاتفاق على عدم جواز طلاق الولي
عنه ، لعدم الدليل على ذلك ، ولظهور الفرق بأن لهؤلاء أمدا قريبا إلى الإفاقة
ورجوع العقل لهم ، فهم في حكم النائم بخلاف المجنون المطبق بناء على الغالب.
الثالث من
الشروط المتقدمة الاختيار ، فلا يصح طلاق المكره كما لا يصح شيء من تصرفاته ، وهو
إجماعي كما نقله السيد السند في شرح النافع ، ويدل
__________________
عليه مضافا إلى الإجماع المذكور جملة من الأخبار منها ما رواه في الكافي عن زرارة في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن طلاق المكره وعتقه ، فقال : ليس طلاقه
بطلاق ، ولا عتقه بعتق» الحديث.
وعن يحيى بن
عبد الله بن الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته يقول : لا يجوز طلاق في استكراه ولا يجوز
يمين في قطيعة رحم ـ إلى أن قال : ـ وإنما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير
استكراه ولا إضرار».
وعن عبد الله
بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته يقول : لو أن رجلا مسلما مر بقوم ليسوا
بسلطان فقهروه حتى يتخوف على نفسه أن يعتق أو يطلق ففعل لم يكن عليه شيء».
وينبغي أن يعلم
أن الإكراه الموجب لبطلان ما يترتب عليه من طلاق وغيره مشروط بأمور :
(منها) قدرة
المكره على ما توعده به لغلبة أو سلطان أو تغلب.
(منها) عجز
المكره عن دفع ذلك عن نفسه ، ولو بفرار أو استعانة بالغير.
(ومنها) أن
يعلم أو يظن غالبا أنه لو لم يفعل ما يريده وامتنع من ذلك أو وقع به المكروه.
(ومنها) أن
يكون ما توعده به مضرا بالمكره في نفسه أو من يجري مجراها من والديه وولده وأقاربه
من قتل أو جرح أو ضرب شديد أو حبس أو شتم أو أخذ مال مضر به ، ويختلف ما عدا القتل
والجرح باختلاف طبقات الناس ومراتبهم ، فربما كان قليل الشتم يضر بالوجيه صاحب
الوقار ، والضرب لا يضر ببعض آخر ولا يبالي به ، وربما ضر أخذ عشرة دراهم ببعض
لفقره ، ولا يضر مائة دراهم أو
__________________
أكثر بآخر لكثرة أمواله.
ومن الأصحاب من
جعل المال مطلقا من قبيل القتل والجرح ، فجعل القليل والكثير منه محققا للإكراه ،
وبه صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروضة والأظهر ما ذكرناه ، وهو الذي استظهره في المسالك ،
ومثله سبطه السيد السند في شرح النافع ، ومجمل الكلام في المقام أنه يتحقق الإكراه
بتوعده بما يكون مضرا به بحسب حاله في نفسه أو من يجري مجراه مع قدرة المتوعد على
ما توعد به وحصول الظن بأنه يفعله لو لم يفعل.
فروع
الأول : قالوا
: لو خير الزوج بين الطلاق ودفع مال غير مستحق وألزم أحد الأمرين فهو إكراه ،
بخلاف ما لو خير بينه وبين فعل يستحقه الآمر من دفع مال أو غيره.
أقول : يمكن
الاستدلال على الثاني بما رواه في الكافي عن محمد بن الحسن الأشعري قال : «كتب بعض موالينا إلى
أبي جعفر عليهالسلام : إن معي امرأة عارفة أحدث زوجها فهرب عن البلاد فتبع
الزوج بعض أهل المرأة ، فقال : إما طلقت وإما رددتك فطلقها ومضى الرجل على وجهه ،
فما ترى للمرأة؟ فكتب بخطه : تزوجي يرحمك الله».
والتقريب فيه
أن ما خيره فيه من الوجه الثاني ـ وهو رده للقيام بواجب الزوجة ـ أمر واجب عليه ،
والامام قد أمرها بالتزويج لصحة الطلاق.
__________________
وبالجملة
فالخبر صريح في أن نحو ذلك ليس بإجبار ، وليس الوجه فيه إلا ما ذكرناه.
وأما الحكم
الأول فالظاهر أنه لا إشكال فيه أيضا إلا أنه يجب تقييد المال بكونه مضرا به كما
تقدم ، ويمكن الاستدلال عليه بما رواه في الكافي عن منصور بن يونس في الموثق قال : «سألت العبد الصالح عليهالسلام وهو بالعريض فقلت له : جعلت فداك إني قد تزوجت امرأة
وكانت تحبني فتزوجت عليها ابنة خالي وقد كان لي من المرأة ولد فرجعت إلى بغداد
فطلقتها واحدة ثم راجعتها ، ثم طلقتها الثانية ثم راجعتها ، ثم خرجت من عندها أريد
سفري هذا حتى إذا كنت بالكوفة أردت النظر إلى ابنة خالي ، فقالت أختي وخالتي : لا
تنظر إليها والله أبدا حتى تطلق فلانة ، فقلت : ويحكم والله مالي إلى طلاقها من
سبيل ، فقال لي : هو من شأنك ليس لك إلى طلاقها من سبيل ، فقلت : جعلت فداك إنه
كانت لي منها ابنة وكانت ببغداد وكانت هذه بالكوفة وخرجت من عندها قبل ذلك بأربع ،
فأبوا علي إلا تطليقها ثلاثا ، ولا والله جعلت فداك ما أردت الله وما أردت إلا أن
أداريهم عن نفسي وقد امتلأ قلبي من ذلك جعلت فداك. فمكث طويلا مطرقا ، ثم رفع رأسه
إلى وهو متبسم فقال : أما ما بينك وبين الله عزوجل فليس بشيء ، ولكن إذا قدموك إلى السلطان أبانها منك».
والتقريب فيه
أن مرجع المسألة إلى التخيير بين الطلاق وبين ما هو غير مستحق عليه شرعا ، فإنه في
هذه الحال يكون إكراها ، وما دل عليه الخبر من هذا القبيل ، فإن منعه من زوجته
التي هي ابنة خاله أمر محرم كالمثال الذي ذكروه من دفع مال غير مستحق بخلاف ما إذا
كان مستحقا عليه شرعا ، فإنه ليس بإكراه كالرد المتقدم.
الثاني : لو
اكره على الطلاق فطلق ناويا له قيل : يقع صحيحا ، وهو اختيار
__________________
العلامة في التحرير ، وبه جزم شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ، وفي المسالك
أنه الأصح ، لحصول اللفظ والقصد ، ولأن القصد لا إكراه عليه ، فلو لا حصول الرضا
بالعقد لما قصد إليه. وقيل بالبطلان إذ المفروض أنه لو لا الإكراه لما فعله ، وعقد
المكره باطل بالنص والإجماع.
قال في شرح
النافع ـ بعد نقل القولين ـ : وحجتيهما والمسألة محل إشكال ، وهو كذلك ، ويمكن
تأييد القول الثاني بقوله عليهالسلام
في رواية يحيى
بن عبد الله ابن الحسن المتقدمة «وإنما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير استكراه
ولا إضرار». فإنه وإن صدق على هذا الطلاق المفروض أنه أريد به الطلاق ، بمعنى أنه
حصل القصد إليه ، لكنه ناش عن الاستكراه والإضرار ، فالقصد إليه مع كونه ناشئا عن
الإكراه غير مجد في صحته ، وكيف كان فالمسألة باقية في غشاوة الإشكال.
الثالث : قالوا
: لو أكرهه على طلاق امرأته بعينها فطلق غيرها صح ، وكذا لو أكرهه على أن يطلق طلقة
واحدة فطلق أزيد ، والوجه فيه أنه يشعر باختياره فيما أتى به إذ لم يتعلق الإكراه بذلك ، والظاهر أنه لا إشكال فيه.
أما لو أكرهه على طلاق إحدى الزوجتين فطلق معينة ، فالذي اختاره السيد السند في
شرح النافع وقبله جده في الروضة أنه إكراه وعلله في شرح النافع بأنه لا يمكن التخلص من الضرر
المتوعد به بدون ذلك. قيل بأنه يقع الطلاق لأنه مختار في تعيينها ، ولأنه لما عدل
من الإبهام إلى التعيين فقد زاد على ما أكرهه
__________________
عليه لأن الإكراه على طلاق إحداهما لا على طلاق هذه ، وطلاق هذه طلاق
إحداهما مع زيادة. وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالكلي ليس أمرا بجزئي معين.
ورد بأن متعلق
الإكراه وإن كان كليا لكنه يتأدى في ضمن طلاق كل واحدة بعينها ، وطلاق واحدة غير
معينة. فكل واحد من الافراد داخل في المكره عليه ، ومدلول عليه بالتضمن.
نعم لو صرح له
بالحمل على طلاق واحدة مبهمة بأن يقول : أحدا كما طالق مثلا فعدل عنه إلى طلاق
معينة فلا شبة هنا في وقوع الطلاق على المعينة لأنه غير المكره عليه جزما.
وأنت خبير بأنه
بالنظر إلى هذه التعليلات فإن القول الأول هو الأقرب ، إذ هو الأربط بالقواعد
والأنسب ، إلا أنك قد عرفت في غير موضع مما تقدم ما في البناء على أمثال هذه
التعليلات.
الرابع : قال
في المسالك : لا يعتبر في الحكم ببطلان طلاق المكره التورية ، وإن كان يحسنها
عندنا ، لأن المقتضي لعدم وقوعه هو الإكراه الموجب لعدم القصد إليه ، فلا يختلف
الحال بين التورية وعدمها ، ولكن ينبغي التورية للقادر عليها بأن ينوي بطلاق فاطمة
المكره عليها غير زوجته ممن يشاركها في الاسم ، أو ينوي طلاقها من الوثاق ، أو
يعلقه في نفسه بشرط ، ولو كان جاهلا بها أو أصابه دهشة عند الإكراه ـ كسل السيف
مثلا ـ عذر إجماعا ، انتهى.
وربما كان في
قوله «عندنا» إيماء إلى أنه عند المخالفين ليس كذلك ، فتعتبر التورية عندهم في
بطلان العقد ، ويكون منشأ بطلانه ذلك ، ولا ريب في ضعفه لما ذكره ـ رحمة الله
عليه.
الخامس : قال
في الكتاب المتقدم ذكره أيضا : يستثني من الحكم ببطلان فعل المكره ما إذا كان
الإكراه بحق ، فإنه صحيح كإكراه الحربي على الإسلام والمتردد ، إذ لو لم يصح لما
كان للإكراه عليه معنى ، وله موارد كثيرة ذكرناها
فيما سلف من هذا الكتاب ، والعبارة الجامعة لها مع السابقة أن يقال : ما لا
يلزمه في حال الطواعية لا يصح منه إذا أتى به مكرها. وما يلزمه في حال الطواعية
يصح مع الإكراه عليه ، ولا يخلو الحكم بإسلام الكافر مع إكراهه عليه من غموض من
جهة المعنى ، وإن كان الحكم به ثابتا من فعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فما بعده ، لأن كلمتي الشهادة نازلتان في الاعراب عما
في الضمير منزلة الإقرار ، والظاهر من حال المحمول عليه بالسيف أنه كاذب ، لكن لعل
الحكمة فيه أنه مع الانقياد ظاهرا وصحبة المسلمين والاطلاع على دينهم يحصل له
التصديق القلبي تدريجا ، فيكون الإقرار اللساني سببا في التصديق القلبي ، انتهى.
أقول : لا ريب
أن محل الاشكال عنده هنا إنما هو إسلام المنافقين المقرين بمجرد اللسان مع عدم
التصديق القلبي ، والأخبار قد دلت على أن فائدة هذا الإسلام إنما هو بالنسبة إلى
الأمور الدنيوية من حقن الدم والمال والطهارة ، وجواز المناكحة ونحو ذلك ، وأما
بالنسبة إلى الآخرة فإنهم من أهل النار والإكراه حينئذ إنما تعلق بإظهاره وإن كان
كاذبا بحسب الواقع ، وهذا مما لا غموض فيه ، ويصير من قبيل الإكراه على الحقوق
الواجبة كأداء الدين ونحوه ، فإنه كما يجب على المديون أداء ما يلزمه شرعا كذلك
يجب على الكافر الانقياد بهذا الدين والدخول فيه ، وإن كان الأول حقا لغيره سبحانه
، والثاني حقا له جل شأنه.
بقي الكلام في
أنه مع عدم تصديقه بالإسلام واعتقاده له وإذعانه به فالفائدة في مجرد إظهاره لأجل
هذه الأمور الدنيوية قليل الجدوى.
والجواب عن ذلك
أن الفائدة فيه (أولا) إعراضه عن المنازعة والمقاومة بالحرب لهذا الدين وأهله ،
وهي من أهم الفوائد.
(وثانيا) ما
ذكره شيخنا المذكور من رجاء دخوله في هذا الدين وتصديقه به ، وتدل عليه الأخبار
الواردة في تألف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم منافقي قريش بدفع
الزكوات لهم ، كما ورد في تفسير (الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ) ، وقد تقدمت الأخبار بذلك في كتاب الزكاة ، وفي بعضها ،
فأمر الله نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ، ويثبتوا
على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروا به ، وإن كان أصحابنا لم يطلعوا على هذه الأخبار
، حيث فسروا (الْمُؤَلَّفَةِ) في آية الزكاة بالتأليف للجهاد ، ومورد الأخبار
المذكورة أنما هو التأيف للبقاء على دين الإسلام والتصديق به كما قدمنا تحقيقه في
الكتاب المذكور.
السادس : قال
في المسالك : لو تلفظ بالطلاق ثم قال كنت مكرها وأنكرت المرأة ، فإن كان هناك
قرينة تدل على صدقه بأن كان محبوسا أو في يد متغلب دلت القرينة على صدقه قبل قوله
بيمينه ، وإلا فلا.
ولو طلق في
المرض فقال كنت مغشيا على أو مسلوب القصد لم يقبل قوله إلا ببينة تقوم على أنه كان
زائل العقل في ذلك الوقت ، لأن الأصل في تصرفات المسلم الصحة إلى أن يثبت خلافها ،
وإنما عدلنا في دعوى الإكراه عن ذلك بالقرائن لظهورها وكثرة وقوعها ، ووضوح
قرائنها بخلاف المرض ، انتهى.
أقول : ما ذكره
من قبول قوله «بيمينه» في المسألة الاولى مع انضمام القرائن المذكورة إلى الدعوى
مقطوع به في كلام الأصحاب ، واحتجوا عليه بأن القصد إلى العقد والرضا به شرط في
صحة العقد. لكن لما لم يمكن الاطلاع على الرضا غالبا إلا باللفظ الدال عليه اكتفى
الشارع به إذا لم تقم قرينة على عدم الرضا ، أما مع وجود القرينة الدالة على
انتفائه فلا يكفي التعويل على دلالة اللفظ لانتفاء الدليل عليه ، والأصل عدمه.
وأما ما ذكره
في المسألة الثانية من عدم قبول قوله «إلا بالبينة» فهو على إطلاقه محل نظر ، وذلك
لأنه إن طابق الظاهر فالأمر كما ذكره ، وإن ظهر من حال المريض اضطراب واختلاط كعدم
انتظام كلامه وتغير أحواله ثم ادعى زوال العقل والحال كما فرضنا فإن الظاهر قبول
قوله ـ لعين ما ذكر في المسألة الأولى ـ اعتمادا على القرائن في الموضعين.
الرابع : من الشروط المتقدمة القصد ، وهو لا يختص بالطلاق بل
يشترط القصد في صحة التصرفات اللفظية من الطلاق وغيره إجماعا كما نقله بعضهم ، وتدل
عليه من الأخبار الواردة في الطلاق
رواية زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال : لا طلاق إلا ما أريد به الطلاق».
ورواية هشام بن
سالم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق».
وفي رواية محمد
بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام «أنه قال : لا يقع الطلاق بإكراه ولا إجبار ولا على سكر ولا على غضب».
وقد تقدم في
حديث يحيى بن عبد الله بن الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «إنما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير استكراه ولا إضرار».
ورواية عبد
الواحد بن مختار الأنصاري قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق».
ورواية اليسع قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول في حديث : ولو أن رجلا طلق على سنة وعلى طهر من
غير جماع وأشهد ولم ينو الطلاق لم يكن طلاقه طلاقا».
__________________
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي : «ولا يقع إلا على طهر من غير جماع بشاهدين عدلين مريدا
للطلاق». ومما يترتب على ذلك طلاق الساهي والنائم والغالط والهازل ، وحال الغضب
الذي يرتفع معه القصد ، ومنه أيضا الأعجمي الذي لقن الصيغة ولا يفهم معناها.
بقي الكلام في
أنه لو ادعى المطلق عمد القصد ، فقيل : بأنه لا يقبل منه كما في سائر التصرفات
القولية من بيع ونحوه ، لأن الظاهر من حال العاقل المختار القصد إلى مدلول اللفظ
الذي يتلكم به ، فإخباره بخلاف ذلك مناف للظاهر ، وهو ظاهر اختيار شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك وسبطه في شرح النافع.
وأطلق جمع من
الأصحاب منهم المحقق في الشرائع أن المطلق لو قال «لم أقصد الطلاق» قبل منه ظاهرا
، ودين بنيته باطنا ، وإن تأخر تفسيره ما لم يخرج العدة ، لأنه إخبار عن نيته ،
وظاهره أن العلة في قبول قوله هو كون ذلك إخبارا عن نيته ، إذ لا يمكن الاطلاع
عليها إلا من قبله ، فكان قوله مقبولا كنظائره من الأمور التي لا تعلم إلا من
المخبر ، وهو جيد فيما إذا وقع ذلك في العدة الرجعية لأن ذلك يعد رجعة كإنكار
الطلاق.
وإنما الإشكال
في العدة البائنة ، فإن ظاهر كلامه أن العدة فيه أعم من الرجعية والبائنة ، ووجه
الاشكال فيها أن الزوجية فيها زائلة بالكلية ، فحكمها في ذلك حكم ما بعد العدة
الرجعية ، فكيف يتم قبول قوله في هذه الحال؟ على أنك قد عرفت معارضة ما ذكره من
العلة بما قدمنا ذكره في علة القول الأول من أن الظاهر من حال العاقل المختار.
إلخ.
ولو قيل : إن
الأصل مرجح عليه هنا ، للزم مثله في البيع ونحوه من العقود والإيقاعات ، مع
الاتفاق منهم على عدم قبول قبوله في عدم القصد فيها ،
__________________
واختصاص الطلاق بذلك مشكل.
قيل : وربما
كان مستند حكمهم بذلك وتخصيص الطلاق بذلك موثقة منصور بن يونس المتقدمة من حيث دلالتها على أنه طلق امرأته ولم يكن له
في طلاقها نية ، وإنما حمله عليه بعض أقاربه ، فقال عليهالسلام «ما بينك وبين الله فليس بشيء» وهو مشعر بقبول قوله ، وفيه : إنا قد بينا
أن مورد الخبر المذكور إنما هو الإكراه ـ بالتقريب الذي ذكرناه ذيله ـ وجواب
الامام عليهالسلام له بذلك إنما هو بناء على ما نقله من القصة المتضمنة
لاكراهه على الطلاق لا من حيث مجرد دعواه عدم القصد.
وبالجملة
فالأظهر عدم القبول ـ كما هو القول الأول ـ إلا مع قيام القرينة على صدقه ، أو
كونها في عدة رجعية فيجعل ذلك بمنزلة الرجعة ، والظاهر أنه لو صادقته المرأة على
ذلك فهو كما ذكرنا أيضا لكون الحق منحصرا فيهما ، فيعاملان بما اتفقا عليه ، ويرجع
أمرهما في صدقهما وكذبهما إلى الله عزوجل.
تنبيهان
الأول : لا
خلاف بين الأصحاب في جواز الوكالة في الطلاق الغائب ، وإنما الخلاف في الحاضر ،
فالمشهور الجواز ، وذهب الشيخ وأتباعه إلى المنع. قال في النهاية : إذا وكل الرجل
غيره بأن يطلق عنه لم يقع طلاقه إذا كان حاضرا في البلد ، فإن كان غائبا جاز
توكيله في الطلاق. وتبعه ابن حمزة وابن البراج.
احتج الأصحاب
على ما هو المشهور بينهم بأصالة صحة الوكالة ، وصحة إيقاع الصيغة المشترطة في نظر
الشارع ، ووجود المقتضي وهو الصيغة ، وانتفاع المعارض وهو اشتراط المباشرة ، إذ لا
تعلق لغرض الشارع في إيقاع هذا الفعل
__________________
من مباشر دون غيره ، وما رواه سعيد الأعرج في الصحيح عن الصادق عليهالسلام «في رجل يجعل أمر امرأته إلى رجل ، فقال : اشهدوا إني قد جعلت أمر فلانة
إلى فلان فيطلقها ، أيجوز ذلك للرجل؟ قال : نعم». قالوا : وترك الاستفصال في الحال
يدل على عموم المقال.
وأنت خبير بأن
ظاهر هذا الخبر أن الوكالة فيه ليست على النهج المبحوث عنه ، فإن ظاهره إنما هو جعل
الاختيار في الطلاق وعدمه إلى ذلك الرجل ، فإن شاء طلق وإن شاء لم يطلق إلا أن
الرجل اختار الطلاق فطلق ، ومحل البحث إنما هو توكيل الغير في إيقاع صيغة الطلاق ،
والذي يدل على الجواز هنا جملة من الأخبار منها :
ما رواه المشايخ
الثلاثة في الصحيح في بعضها عن ابن مسكان عن أبي هلال الرازي ـ والظاهر
أنه مجهول ـ قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل وكل رجلا بطلاق امرأته إذا حاضت وطهرت وخرج الرجل
، فبدا له ، فأشهد أنه قد أبطل ما كان أمره به ، وأنه قد بدا له في ذلك ، قال :
فليعلم أهله والوكيل».
وما رواه في
الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام في رجل جعل طلاق امرأته بيد رجلين فطلق أحدهما وأبى
الآخر ، فأبى أمير المؤمنين عليهالسلام أن يجيز ذلك حتى يجتمعا جميعا على الطلاق».
__________________
وما رواه الشيخ
عن اليقطيني قال : «بعث إلى أبو الحسن الرضا عليهالسلام رزم ثياب وغلمانا ودنانير وحجة لي وحجة لأخي موسى بن
عبيد وحجة ليونس بن عبد الرحمن ، فأمرنا أن نحج عنه ، وكان بيننا مائة دينار
أثلاثا فيما بيننا ، فلما أردت أن أعبي الثياب رأيت في أضعاف الثياب طينا ، فقلت
للرسول : ما هذا؟ فقال : ليس يوجه بمتاع إلا جعل فيه طينا من
قبر الحسين عليهالسلام ، ثم قال الرسول : قال أبو الحسن عليهالسلام : هو أمان بإذن الله ، وأمرنا بالمال بأمور من صلة أهل
بيته وقوم محاويج لا مؤنة لهم ، وأمر بدفع ثلاثمائة دينار إلى رحم امرأة كانت له ،
وأمر لي أن أطلقها عنه وأمتعها بهذا المال ، وأمرني أن اشهد على طلاقها صفوان بن
يحيى وآخر نسي محمد بن عيسى اسمه».
أما ما استدل
به الشيخ وأتباعه على ما ذهبوا إليه فهو ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا تجوز الوكالة في الطلاق». قال في التهذيب ـ بعد
نقل هذا الخبر ـ : وهذا الحديث لا ينافي الأخبار الأولة ، لأنا نحمل هذا الخبر على
الحال التي يكون الرجل فيها حاضرا غير غائب ، فإنه متى كان الأمر على ما وصفناه لم
يجز وكالته في الطلاق. والأخبار الأولة في تجويز الوكالة مختصة بحال الغيبة ولا
تنافي بين الأخبار. وقال ابن سماعة : إن العمل على الذي ذكر فيه أنه لا يجوز
الوكالة في الطلاق ولم يفصل ، وينبغي أن يكون العمل على الأخبار كلها حسبما قدمناه
، انتهى.
وقال في الكافي
ـ بعد نقل الأخبار الدالة على الجواز ـ : وروي أنه لا يجوز الوكالة في الطلاق ـ ثم
أورد خبر زرارة المذكور ثم قال : ـ وقال الحسن بن سماعة :
__________________
وبهذا الحديث نأخذ.
أقول : وقد ظهر
من ذلك أن في المسألة أقوالا : القول المشهور وهو الجواز ، ومذهب الشيخ وأتباعه
وهو التفصيل بين الحضور والغيبة ، ومذهب الحسن بن سماعة وهو المنع والتوقف في
المسألة ، وهو ظاهر الكليني ، حيث نقل الرواية المخالفة لما ذكره أولا ولم يجب
عنها بشيء ، ويرد على ما ذهب إليه الشيخ أنه لا قرينة في الأخبار المذكورة تؤنس
بهذا التفصيل ، وأكثر الأخبار مطلق ، وإن كان مورد بعضها الغيبة ، ويرد على ما
ذكره ابن سماعة أن فيه طرحا للأخبار الدالة على القول المشهور ، وهي أكثر عددا
وأوضح سندا.
وبالجملة فظهور
الخبر الأخير في المعارضة مما لا ينكر ، ولا يحضرني الآن محمل صحيح يحمل عليه ،
قال في الوافي ـ بعد ذكر استبعاد حمل الشيخ ـ : ولو جاز تقييد الخبر بحال الحضور
استنادا إلى ظهور بعض ما يخالفه في الغائب لجاز تقييده بالنساء في كله أمر الطلاق
إليهن استنادا إلى ورود ما يوافقه فيهن كما يأتي في الباب الآتي من التخيير ،
انتهى.
ومراده أنه لو
صح حمل الشيخ ـ والحال أنه لا قرينة تؤنس به في هذه الأخبار إلا مجرد ورود بعض
الأخبار في طلاق الغائب كذلك ـ لجاز أيضا أن يحمل إطلاق هذا الخبر على ما دلت عليه
الأخبار الدالة على عدم جواز التخيير للنساء في الطلاق ، وأنه موكول لهن ، كما
سيأتيك الاخبار به إن شاء الله قريبا ، ويأتي بيان الوجه فيها ، فيكون هذا الخبر
من الأخبار الدالة على القول المشهور من أنه لا يجوز للنساء الوكالة في الطلاق بأن
يتولين ذلك مباشرة أو وكالة.
وأنت خبير بما
فيه من البعد كما في مذهب الشيخ ، وبالجملة فالمسألة عندي لا تخلو من نوع توقف ،
والأنسب بقواعد الأصحاب كما هي قاعدتهم في جميع الأبواب هو حمل النهي في هذا الخبر
على الكراهة ، لكن من قواعدهم أنهم لا يرتكبون الجمع إلا مع التكافؤ في السند ،
فاكتفوا هنا برد الخبر المذكور
لضعف سنده ، وأعرضوا عنه لذلك ، قال في المسالك : وعلى قول الشيخ يتحقق
الغيبة بمفارقة مجلس الطلاق وإن كان في البلد.
أقول : فهم هذا
المعنى من عبارة الشيخ التي قدمنا نقلها عنه لا يخلو من إشكال ، بل ظاهرها إنما هو
الغيبة عن البلد لا عن مجلس الطلاق ، فإنه بعد أن صرح بأنه لم يقع طلاقه إذا كان
حاضرا في البلد قال : وإن كان غائبا جاز ، المتبادر منه يعني غائبا عن البلد ،
ومفهومه أنه متى كان حاضرا في البلد لم يجز. وحينئذ فإن كان ما ذكره ـ رحمهالله ـ مأخوذا من كلام آخر غير هذه العبارة فيمكن صحة ما
ادعاه ، وإن كان من هذه العبارة فالأمر كما ترى.
الثاني : المشهور
بين الأصحاب أنه يجوز جعل الأمر إليها في طلاق نفسها وقال الشيخ في المبسوط : وإن
أراد أن يجعل الأمر إليها فعندنا لا يجوز على الصحيح من المذهب ، وفي أصحابنا من
أجازه.
قال في المختلف
ـ في الاحتجاج لما اختاره من القول المشهور ـ : لنا أنه فعل يقبل النيابة ، والمحل
قابل فجاز كما وكل غيرها من النساء أو توكلت في طلاق غيرها.
واحتج في
المسالك بما دل على جواز النيابة فيه مطلقا قال : وهو يشمل استنابتها كغيرها. ثم
نقل عن الشيخ أنه استند في تخصيصها بالمنع إلى أن القابل لا يكون فاعلا ، وظاهر قوله
صلىاللهعليهوآلهوسلم «الطلاق بيد من أخذ بالساق». فإنه يقتضي عدم صحة التوكيل مطلقا ، خرج عنه
غير المرأة بدليل من خارج ، فتبقى هي على أصل المنع. ثم رده فقال : ولا يخفى ضعف
الدلالة ، فإن المغايرة بين القابل والفاعل يكفي فيه الاعتبار ، وهما مختلفان
بالحيثية ، والخبر مع تسليمه لا يفيد الحصر ، وعلى تقدير تسليم إفادته فما أخرج
غيرها من الوكلاء عنه يخرجها لتناوله لها ، انتهى.
__________________
وعندي في
المسألة نوع توقف ، وإن كان القول المشهور لا يخلو من قوة بالنظر إلى هذه
التعليلات ، إلا أن الاعتماد عندنا في الأحكام الشرعية إنما هو على النصوص ،
والزوجية قد ثبتت وتحققت ، فرفعها ورفع ما يترتب عليها يتوقف على دليل واضح من
النصوص.
وقال في
الكفاية : ولو وكلها في طلاق نفسها ففي صحته قولان ، والأدلة من الجانبين محل
البحث. انتهى ، وفيه إيذان بتوقفه في المسألة. ونحوه المحدث الكاشاني في المفاتيح
حيث إنه اقتصر على نقل القولين من غير ترجيح في البين ، وهذا في محله كما عرفت.
الركن
الثاني : المطلقة ، ويشترط فيها
أمور الأول : أن تكون زوجة فلا أثر لطلاق الموطوءة بالملك ولا الأجنبية ، وكذا لو
علق الطلاق بالتزويج بأن قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، أو كل من أتزوج فهي طالق
، والأصل في ذلك أن كلا من النكاح والطلاق أحكام شرعية يتوقف ثبوتها والحكم بها
على الأسباب والعلل المنوطة بها شرعا فهي توقيفية ، والنكاح لما ثبت بما رسمه
الشارع من الأسباب والشروط ، فرفعه ورفع ما يترتب عليه متوقف على ما ثبت من الشارع
كونه رافعا مزيلا لحكمه. والذي علم من الشارع هو ورود الطلاق على الأزواج خاصة دون
ملك اليمين والأجانب ، واستصحاب الحل فيهن باق لا رافع له شرعا ، وإلحاقهن بحكم
الزوجات قياس لا يوافق أصول المذهب وبذلك صرحت الأخبار أيضا.
ومنها ما رواه في
الكافي عن عبد الله بن سليمان عن أبيه قال : «كنا في المسجد ،
فدخل علي بن الحسين عليهالسلام ولم أثبته وعليه عمامة سوداء قد أرسل
__________________
طرفيها بين كتفيه فقلت لرجل قريب المجلس مني : من هذا الشيخ؟ فقال : ما
لك لم تسألني عن أحد دخل المسجد غير هذا الشيخ؟ فقلت : لم أر أحدا دخل المسجد أحسن
هيئة في عيني من هذا الشيخ ، فقال : إنه علي بن الحسين عليهالسلام فقمت وقام الرجل وغيره فاكتنفناه وسلمنا عليه ، فقال له
الرجل : ما ترى في رجل سمى امرأته بعينها وقال يوم يتزوجها هي طالق ثلاثا ثم بدا
له أن يتزوجها ، أيصلح له ذلك؟ فقال : إنما الطلاق بعد النكاح ، قال عبد الله :
فدخلت أنا وأبي على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهالسلام فحدثه أبي بهذا الحديث ، فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : أنت تشهد على علي بن الحسين عليهالسلام بهذا الحديث؟ قال : نعم».
قال الكاشاني ـ
في الوافي ذيل هذا الخبر ـ : أراد أبو عبد الله عليهالسلام بهذا السؤال تسجيل الحكم عليه حيث إنه مخالف لمذاهب
العامة وعملهم ، وكان المخاطب منهم ، ولعله ممن يحسن اعتقاده في علم علي بن الحسين
عليهالسلام ، انتهى.
وعن سماعة قال : «سألته عن الرجل يقول يوم أتزوج فلانة فهي طالق ،
فقال : ليس بشيء ، إنه لا يكون طلاق حتى يملك عقدة النكاح».
وعن محمد بن
قيس في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن رجل قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق وإن
اشتريت فلانا فهو حر ، وإن اشتريت هذا الثوب فهو في المساكين ، فقال : ليس بشيء ،
لا يطلق إلا ما يملك ، ولا يعتق إلا ما يملك ، ولا يتصدق إلا بما يملك».
__________________
وما رواه الصدوق
في الصحيح عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن رجل قال : كل امرأة أتزوجها ما عاشت أمي فهي طالق ، فقال : لا
طلاق إلا بعد نكاح ، ولا عتق إلا بعد ملك». ورواه في المقنع عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مرسلا.
وعن النضر بن
قرواش عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث قال : «لا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك».
وروى في كتاب
قرب الاسناد عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه
عن علي عليهمالسلام «أنه كان يقول : لا طلاق لمن لا ينكح ، ولا عتاق لمن لا يملك».
أقول : المراد
بالنكاح في هذه الأخبار الثلاثة مع رواية عبد الله بن سليمان المتقدمة هو العقد لا
الوطء ، وإلا لم يتم الحصر في الأولين ولا السلب في الآخرين ، ويؤيده ما تقدم في
موثقة سماعة من قوله «عقدة النكاح» وحينئذ ففي هذه الأخبار دلالة ظاهرة على تمام
المدعى من عدم الطلاق بالمملوكة والأجنبية والمعلق طلاقها بالتزويج ، وهو بحمد
الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
وروى الفضل بن
الحسن الطبرسي في كتاب مجمع البيان عن حبيب بن أبي ثابت قال : «كنت عند علي بن الحسين عليهالسلام فقال له رجل : إني قلت يوم أتزوج فلانة فهي طالق ، فقال
: اذهب فتزوجها ، فإن الله بدأ بالنكاح قبل الطلاق فقال «إِذا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ»
.
__________________
أقول : وهذا
الخبر أيضا ظاهر فيما قلناه.
وبالجملة
فالحكم المذكور اتفاقي نصا وفتوى فلا إشكال ، وإنما خالف في ذلك العامة ، فحكم
بعضهم بوقوعه على الأجنبية مطلقا ، وبعضهم بوقوعه إذا علقه بتزويجها ، بمعنى
احتساب ذلك من الطلقات الثلاث المحرمة على تقدير تزويجها. وضعف الجميع بما ذكرنا
من الأخبار ظاهر.
الثاني : أن
يكون العقد دائما ، فلا يقع الطلاق بالأمة المحللة ولا المتمتع بها ولو كانت حرة ،
والحكم هنا أيضا موضع وفاق كما نقله في المسالك ، قال : ولأن التحليل نوع إباحة ،
فمتى شاء الزوج تركها بغير طلاق فلا حاجة إليه ، والمتمتع بها تبين بانقضاء المدة
وبإسقاطه لها كما مر ، وقد روى محمد بن إسماعيل في الصحيح عن الرضا عليهالسلام قال : «قلت : وتبين بغير طلاق؟ قال : نعم». والاعتماد
على الاتفاق ، وإلا فتعدد الأسباب ممكن ، انتهى.
أقول : ومما
يدل على عدم وقوع الطلاق بالمحللة الأخبار الأربعة المتقدمة الدالة على أن الطلاق
إنما هو بعد النكاح ، والنكاح كما عرفت عبارة عن العقد وهو قسيم للتحليل ، فلا
يدخل فيه.
ومما يدل على
عدم وقوعه بالمتمتعة الصحيحة التي ذكرها ، وما رواه في الكافي عن هشام بن سالم قال : «قلت : كيف يتزوج المتعة؟ قال :
تقول يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا يوما ، فإذا مضت تلك الأيام كان طلاقها في شرطها».
وأما قوله «والاعتماد
على الاتفاق ، وإلا فتعدد الأسباب ممكن» ففيه أنه
__________________
وإن كان تعددها ممكنا إلا أن ذلك فرع ثبوت السببية ، وحيث لم يثبت هنا
سببية الطلاق فالأصل عدمها لما تقدم من أن الأحكام المذكورة توقيفية ، فلا يحتاج
إلى الاتفاق ، وفي معنى ما ذكرنا من الأخبار أخبار أخر لا ضرورة لا يرادها مع عدم
المخالف.
الثالث : أن
يطلقها في طهر لم يقربها فيه ـ بمعنى أن تكون مسترابة ـ فلو طلقها في طهر ومسها
فيه لم يقع طلاق ، ويستثني من ذلك اليائسة والصغيرة والحامل والمسترابة على تفصيل
يأتي ذكره إن شاء الله.
وأما ما يدل
على الحكم الأول ـ أعني عدم صحة الطلاق في طهر واقعها فيه ـ فاتفاق الأصحاب
وإجماعهم على ذلك أولا. وثانيا الأخبار المستفيضة بل قيل إنها ربما بلغت حد
التواتر.
ومنها ما رواه الشيخ
في الصحيح عن عمر بن أذينة عن زرارة وبكير ابني أعين ومحمد بن مسلم وبريد
بن معاوية العجلي والفضيل بن يسار وإسماعيل الأزرق ومعمر بن يحيى بن بسام كلهم
سمعوه من أبي جعفر عليهالسلام ومن ابنه بعد أبيه عليهماالسلام بصورة ما قالوا وإن لم أحفظ حروفه غير أنه لم يسقط جمل
معناه : إن الطلاق الذي أمر الله به في كتابه وسنة نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه إذا حاضت المرأة وطهرت من حيضها أشهد رجلين عدلين
قبل أن يجامعها على تطليقه ـ الحديث.
وما رواه في
الكافي بالسند المذكور عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام «أنهما قالا : إذا طلق الرجل في دم النفاس أو طلقها بعد ما يمسها فليس
طلاقه إياها بطلاق».
وما رواه في
الكافي عن ابن أذينة في الصحيح عن بكير وغيره عن أبي جعفر
__________________
عليهالسلام قال : «كل طلاق لغير العدة فليس بطلاق ، أن يطلقها وهي
حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها قبل أن تحيض ، فليس طلاقها بطلاق» الحديث. إلى
غير ذلك من الأخبار كما تقدمت الإشارة إليه.
وأما ما يدل
على الثاني ـ وهو استثناء اليائسة وما بعدها بعد الاتفاق على الحكم المذكور ـ فجملة
من الأخبار :
ومنها ما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا بأس بطلاق خمس على كل حال : الغائب عنها
زوجها ، والتي لم تحض ، والتي لم يدخل بها ، والحبلى ، والتي قد يئست».
وما رواه المشايخ
الثلاثة عن إسماعيل بن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «خمس يطلقهن الرجل على كل حال : الحامل المتيقن
حملها ، والغائب عنها زوجها ، والتي لم تحض ، والتي قد يئست من المحيض ، والتي لم
يدخل بها».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم وزرارة وغيرهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام «قالا : خمس يطلقهن أزواجهن متى شاءوا ، الحامل المستبين حملها ، والجارية
التي لم تحض ، والمرأة التي قعدت من المحيض ، والغائب عنها زوجها ، والتي لم يدخل
بها».
وما رواه الصدوق
في الخصال عن حماد بن عثمان في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «خمس يطلقن على كل حال : الحامل ، والتي قد يئست
من المحيض ، والتي لم يدخل بها ، والغائب عنها زوجها ، والتي لم تبلغ المحيض».
__________________
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن المذكور في كلام الأصحاب عد الصغيرة في جملة من استثني من الحكم المتقدم
، والمذكور في الأخبار عدا رواية الخصال كما عرفت إنما هو التي لم تحض ، وليس فيها
تعرض لذكر الصغيرة ، والظاهر أن الشيخ ومن تأخر عنه من الأصحاب فهموا من هذا اللفظ
الكناية عن الصغيرة فجعلوها من جملة الخمس ، ولم يذكروا التي لم تحض ، قال الشيخ
في النهاية بعد عد الصغيرة : والمراد بالصغيرة من نقص سنها عن تسع سنين ، قال :
ومن كان لها تسع سنين فصاعدا ، ولم تكن حاضت بعد وأراد طلاقها فليصبر عليها ثلاثة
أشهر ، ثم يطلقها بعد ذلك.
واعترضه في شرح
النافع فقال : وعندي في التخصيص نظر ، ولا يبعد أن يكون المراد بمن لم تحض التي لم
تحض مثلها عادة وإن زاد سنها عن التسع ، ومراده ـ رحمهالله ـ أن تفسيره من لم تحض الوارد في الأخبار بالصغيرة خاصة
محل نظر ، بل الأولى في تفسيره هو الحمل على ما هو أعم ، وهي التي لم تحض مثلها
عادة ، سواء كان لنقص سنها عن التسع أو لم يكن ، فيكون أعم من الصغيرة والمسترابة.
ولقائل أن يقول
: إن رواية الخصال قد تضمنت على التي لم تبلغ المحيض وهي عبارة ، عن الصغيرة ،
وحينئذ فيحمل عليها إطلاق الأخبار الباقية ، وبه يظهر صحة ما ذكره الأصحاب من عد
الصغيرة في هذا الباب ويزول ما ذكره السيد المذكور من الإيراد.
وكيف كان فإنهم
عدوا المسترابة في جملة من استثني بشرط مضي ثلاثة أشهر ، وهي عندهم من كانت في سن
من تحيض وهي لا تحيض ، سواء كان عدم حيضها لعارض من رضاع أو مرض أو يكون خلقيا ،
قالوا : وإطلاق المسترابة عليها مجرد اصطلاح ، وإلا فقد يحصل مع انقطاع الحيض
استرابة الحمل وقد
لا يحصل ، إلا أنه لا بد في طلاقها من مضي ثلاثة أشهر ولا يقع قبلها وهو
مقطوع به في كلامهم بل الظاهر أنه موضع وفاق.
ويدل عليه ما
رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن داود بن أبي يزيد العطار عن بعض أصحابه عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المرأة يستراب بها ، ومثلها تحمل
ومثلها لا تحمل ولا تحيض وقد واقعها زوجها ، كيف يطلقها إذا أراد طلاقها؟ قال :
فليمسك عنها ثلاثة أشهر ثم يطلقها».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن إسماعيل بن سعد الأشعري قال : «سألت الرضا عليهالسلام عن المسترابة من المحيض كيف تطلق؟ قال : تطلق بالشهور».
والظاهر أن المراد بالشهور الأشهر الثلاثة.
ويؤيده ما رواه
في الكافي عن الحسن بن علي بن كيسان قال : «كتبت إلى الرجل عليهالسلام أسأله عن رجل له امرأة من نساء هؤلاء العامة ، وأراد أن
يطلقها ، وقد كتمت حيضها وطهرها مخافة الطلاق ، فكتب عليهالسلام : يعتزلها ثلاثة أشهر ثم يطلقها.
الرابع : أن
يعين المطلقة ، على خلاف في ذلك ، وتوضيح ذلك : إنه قد اختلف الأصحاب في أنه لو
كان له أكثر من زوجة فقال : إحداكن طالق ،
__________________
أو إحدى زوجاتي طالق ، فالمشهور أنه باطل لوجوب التعيين ، وهو مذهب الشيخ
المفيد والسيد المرتضى وابن إدريس والشيخ في أحد قوليه والمحقق في أحدهما ، والعلامة
في أحدهما وكذا الشهيد في أحدهما وهو اختيار السيد السند في شرح النافع ، وهو
الأظهر لما قدمنا ذكره سابقا من أن النكاح والطلاق أمور توقيفية يجب الوقوف فيها
على ما رسمه الشارع صحة وبطلانا ، ولا ريب أن النكاح عصمة مستفادة من الشرع فلا بد
في زواله من سبب شرعي قد علم من الشارع ، والقدر المعلوم إجماعا ونصا كما هو
المفهوم من أخبار أهل البيت عليهمالسلام هو المعين ، فمن ادعى سببية غيره فعليه الدليل ، وليس
له إلى ذلك سبيل.
وقال الشيخ في
المبسوط : إنه يصح. واختاره ابن البراج وتبعهما المحقق والعلامة والشهيد في أقوالهم
الأخر ، واحتجوا بأصالة عدم الاشتراط ، وعموم مشروعية الطلاق.
ويرد على الأول
ما أشرنا إليه من أن الطلاق من الأمور التوقيفية ، لا مدخل للأصل فيها ، بل المدار
فيه على وجود السبب الذي جعله الشارع لذلك ، وحيث لم يوجد فلا يمكن الحكم به.
وعلى الثاني
منع العموم على وجه يتناول ما ذكروه ، بل منع كون ذلك طلاقا ، ولهم بناء على هذا
القول تفريعات قد اختلفت فيها أنظارهم واضطربت فيها أفكارهم.
منها أنه متى
طلق ولم يعين فهل يستخرج المطلقة بالقرعة أو يرجع في ذلك إلى تعيينه؟ قولان :
اختار أولهما المحقق في الشرائع ، وثانيهما العلامة في القواعد.
ومنها أنه على
القولين المذكورين ، فهل يحكم بوقوع الطلاق من حين اللفظ أو من حين التعيين؟ قولان
آخران : اختار أولهما الشيخ في المبسوط ، وثانيهما العلامة في القواعد والتحرير ،
ويتفرع على ذلك العدة ، فعلى الأول تعتد من حين
اللفظ ، وعلى الثاني من حين التعيين. إلى غير ذلك من التفريعات والمباحث
الطويلة المتفرعة على هذا القول ، وحيث قد عرفت أنه لا دليل على القول المذكور.
فلا ضرورة إلى التشاغل بما يتفرع عليه.
الخامس : أن
تكون طاهرة من الحيض والنفاس بشرط أن تكون مدخولا بها وزوجها حاضرا ، فلو طلقها في
حال الحيض والنفاس مع عدم الأمرين المذكورين فلا خلاف في عدم وقوعه طلاقا ، وبه
تظافرت الأخبار.
فروى الشيخ في الصحيح عن محمد الحلبي قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يطلق امرأته وهي حائض؟ قال : الطلاق على غير
السنة باطل».
وقد تقدم في صحيحة
عمر بن أذينة الثانية عن الجماعة المتقدم ذكرهم إذا طلق الرجل في دم
النفاس أو طلقها بعد ما يمسها فليس طلاقة إياها بطلاق.
وما رواه في
الكافي عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق امرأته وهي حائض ، فقال : الطلاق بغير السنة
باطل».
وقد تقدم أيضا
في رواية ابن أذينة في الصحيح عن بكير وغيره ما يدل على ذلك ، إلى غير ذلك من الأخبار.
وأما ما يدل
على صحة طلاق الحائض غير المدخول بها والغائب عنها زوجها فهو ما تقدم من الأخبار
الدالة على أن خمسا يطلقن على كل حال ، وعد منهن
__________________
التي لم يدخل بها والغائب عنها زوجها.
وبالجملة
فالحكم المذكور مما لا خلاف فيه ولا إشكال ، وإنما محل البحث والاشكال الذي طال
فيه النزاع والجدال وكثر فيه القيل والقال قدر الغيبة الموجبة لجواز الطلاق في
المحيض ، وتفصيل الكلام في المقام أن يقال :
لا خلاف نصا
وفتوى في جواز طلاق الحائض إذا كان الزوج غائبا في الجملة فلو أراد أن يطلق زوجته
وقد خرج عنها في طهر جامعها فيه ، فهل يكفي في الجواز مجرد الغيبة؟ أم لا بد من
أمر آخر وتربص مدة معينة؟
وها أن أنقل ما
وصل إلى من الأقوال والأخبار صحيحها وضعيفها بناء على ما هو المختار ، فأقول :
قد ذهب الشيخ
المفيد وسلار والشيخ علي بن الحسين بن بابويه وابن أبي عقيل
وغيرهم إلى جواز طلاق الغائب إذا كانت بحيث لا يمكنه استعلام حالها من غير تربص ،
وادعى ابن أبي عقيل تواتر الأخبار بذلك.
وقال الصدوق في
الفقيه : وإذا أراد الغائب أن يطلق امرأته ، فحد غيبته التي
إذا غابها كان له أن يطلق متى شاء ، أقصاه خمسة أشهر أو ستة أشهر ،
__________________
وأوسطه ثلاثة أشهر ، وأدناه شهر.
وقال الشيخ في
النهاية : ومتى لم يكن دخل بالمرأة وطلقها وقع الطلاق وإن كانت حائضا ، وكذلك إن
كان غائبا شهرا فصاعدا وقع طلاقه إذا طلقها وإن كانت حائضا ـ وقال في موضع آخر
منها : ـ إذا خرج إلى السفر وقد كانت طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع جاز له أن
يطلقها أي وقت شاء ، ومتى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه بجماع فلا يطلقها حتى يمضي
ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ، ثم يطلقها بعد ذلك أي وقت شاء.
وكلامه الأول
يرجع إلى ما ذكره الصدوق في الفقيه ، وبه صرح ابن حمزة أيضا ، فقدر مدة التربص
بشهر فصاعدا.
وبما ذكره من
الكلام الثاني صرح ابن البراج وقال ابن الجنيد : والغائب لا يطلق حتى يعلم أن المرأة
برية من الحمل أو هي حامل ، فإن علم ذلك فأوقع الطلاق على شرائطه وقع ، ثم قال :
وينتظر الغائب بزوجته من آخر جماع أوقعه ثلاثة أشهر إذا كانت ممن تحمل ، وإن كانت
آيسة أو لم تبلغ إلى حال الحمل طلقها إذا شاء وهو ظاهر في تقدير مدة التربص بثلاثة
أشهر وعلم براءة رحمها من الحمل.
واختار هذا
القول العلامة في المختلف ، وذهب الشيخ في الاستبصار وابن إدريس والعلامة في أكثر
كتبه ، والمحقق وهو المشهور بين المتأخرين إلى اعتبار مضي مدة يعلم انتقالها من
الطهر الذي واقعها فيه إلى آخر بحسب عادتها ، ولا يتقدر بمدة مخصوصة.
والأصل في
اختلاف هذه الأقوال اختلاف الأخبار الواردة عن الأئمة عليهمالسلام ومنها ما تقدم في الشرط الثالث من الأخبار الدالة على
أن خمسا يطلقن على
__________________
كل حال .
والظاهر أنه
بإطلاق هذه الأخبار أخذ الشيخ المفيد ومن تبعه من المشايخ المتقدم ذكرهم كما هو
صريح عبارتي ابن أبي عقيل والشيخ علي بن بابويه.
ونحو هذه
الأخبار أيضا ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته وهو غائب؟ قال :
يجوز طلاقه على كل حال ، وتعتد امرأته من يوم طلقها».
وما رواه في
التهذيب «في الرجل يطلق امرأته وهو غائب ، فيعلم أنه يوم طلقها كانت طامثا ، قال :
يجوز».
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي : «واعلم أن خمسا يطلقن على كل حال ، ولا يحتاج أن
ينتظر طهرهن : الحامل والغائب عنها زوجها والتي لم يدخل بها والتي لم تبلغ الحيض
والتي قد يئست من الحيض».
أقول : وبهذه
العبارة عبر الشيخ علي بن الحسين بن بابويه في رسالته إلى ابنه كما تقدمت الإشارة
إليه فقال ـ على ما نقله في الفقيه ـ : واعلم يا بني أن خمسا يطلقن على كل حال ،
ولا يحتاج الرجل أن ينتظر طهرهن ، ثم عد هؤلاء المذكورات ، وهو مؤيد لما قد تقدم
ذكره في غير مقام من إفتائه بعبارات الكتاب المذكور.
ومنها ما رواه في
الكافي في الموثق عن إسحاق عن أبي عبد الله عليهالسلام
__________________
قال : «الغائب إذا أراد أن يطلقها تركها شهرا».
وعن حميد عن
ابن سماعة قال : «سألت محمد بن أبي حمزة : متى يطلق الغائب؟ قال :
حدثني إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله أو أبي الحسن عليهماالسلام قال : إذا مضى له شهر».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الرجل إذا خرج من منزله إلى السفر فليس له أن
يطلق حتى تمضي ثلاثة أشهر».
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن إسحاق بن عمار في الموثق قال : «قلت لأبي إبراهيم عليهالسلام : الغائب الذي يطلق كم غيبته؟ قال : خمسة أشهر أو ستة
أشهر ، قلت : حد دون ذا؟ قال : ثلاثة أشهر».
وما رواه في
الكافي عن بكير في الحسن قال : «أشهد على أبي جعفر عليهالسلام أني سمعته أنه يقول : الغائب يطلق بالأهلة والشهور».
وجمع الشيخ بين
هذه الأخبار المختلفة في مدة التربص بحملها على اختلاف عادات النساء في الحيض ،
وعلم الزوج بحال زوجته في ذلك فقال : فمن يعلم من حال زوجته أنها تحيض في كل شهر
يجوز له أن يطلقها بعد انقضاء الشهر ، ومن يعلم أنها لا تحيض إلا في كل ثلاثة أشهر
لم يجز له أن يطلقها إلا بعد انقضاء ثلاثة أشهر ، وكذلك من تحيض في كل ستة أشهر ،
وحينئذ فالمراعى في جواز ذلك مضي حيضة وانتقالها إلى طهر لم يقربها فيه بجماع.
واقتفاه
__________________
في هذا أكثر المتأخرين.
قال المحقق
الشيخ علي ـ رحمة الله عليه ـ : وهو الذي يقتضيه النظر الصحيح والوقوف مع القوانين
الأصولية ، لأن الأخبار الدالة على وجوب التربص مدة ليصح الطلاق لا يجوز إجراؤها
على ظاهرها من الاختلاف والتنافي ، ولا إطراح بعضها ، فلم يبق إلا الجمع بينها
بالحمل على أن المراد مراعاة زمان يعلم الزوج الغائب حصول الحيض بعد طهر الجماع ،
والانتقال عنه إلى الطهر ، وأن الاختلاف ينزل على اختلاف عادة النساء في حصول
الحيض باعتبار شهر أو ثلاثة أشهر أو خمسة أو ستة ، فقد اشتركت أخبار التربص في أن
الانتقال من طهر إلى طهر آخر شرط في صحة الطلاق من الغائب ولو ظنا مستفادا من عادة
المرأة إن كانت معلومة ، وإلا فمن غالب عادات النساء. ودلت رواية أبي بصير على أنه لو طلقها وعلم يوم طلقها أنها كانت طامثا يجوز
الطلاق. ولا ريب أن ما اشتركت فيه هذه الأخبار مخصوص لعموم الخبرين الدالين على
جواز تطليق زوجة الغائب على كل حال ، انتهى كلامه.
أقول : لا ريب
أن تلك الأخبار المطلقة التي دلت على مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه من أولئك الفضلاء
دالة على جواز الطلاق على كل حال ، والأخبار الدالة على التربص بالنظر إلى القاعدة
الأصولية يجب أن تكون مخصصة لها ، لكن الإشكال في هذه الأخبار الدالة على التربص
من حيث اختلافها ، فإن التخصيص بها يتوقف على جمعها على وجه يرفع الاختلاف بينها.
والجمع بينها بما ذكروه من اختلاف عادات النساء بناء على الغائب بعيد جدا ، فإنه
وإن قرب في رواية الشهر إلا أنه بعيد في رواية الثلاثة الأشهر ، وأبعد منه في
رواية الخمسة والستة الأشهر ، فإن الغالب في هذا المقدار ممنوعة أشد المنع ، بل هو
مخالف للغالب ، على أن تلك الأخبار ليس فيها سؤال عن واقعة مخصوصة حتى تنزيلها على
كون المرأة
__________________
معتادة بتلك العادة ، وإنما وقع السؤال في كل خبر منها عن مطلق النساء
ومطلق الغائب ، فكأنه بمنزلة القاعدة الكلية والضابطة الجلية لا اختصاص له بفرد دون فرد.
وبالجملة فإن
تخصيص إطلاق تلك الأخبار بأخبار التربص مع اختلافها غير تام ، فلا بد من جمعها على
وجه تلتئم به ، وهذا الوجه الذي ذكروه قد عرفت ما فيه.
نعم يتجه عند
من يعمل بهذا الاصطلاح المحدث ترجيح روايات الثلاثة الأشهر لصحة بعضها ، فيخصص بها
هذا الإطلاق ، ولهذا قال السيد ـ في شرح النافع حيث إنه من أرباب هذا الاصطلاح ـ ما
لفظه : والذي يقتضيه الجمع بين الأخبار الصحيحة بعد طرح غيرها اعتبار الثلاثة
الأشهر حملا لما أطلق فيه من الأخبار جواز طلاق الغائب على هذا المقيد ، ويعضده أن
الغالب من حال الغائب وزوجته أن يكون حالها مجهول عنده فتكون كالمسترابة التي يجب
التربص بها ثلاثة أشهر ومع ذلك فما ذهب إليه شيخنا المفيد ـ قدسسره ـ ومن تبعه من عدم اعتبار التربص غير بعيد عن الصواب
حملا لما تضمن ذلك على الأفضلية ، إذ من المستبعد جدا إطلاق صحة طلاق الغائب على
كل حال في الأخبار الصحيحة الواردة في مقام البيان مع أنها مشروطة بأمر آخر غير
مذكور ، وفي موثقة إسحاق بن عمار إشعار بذلك أيضا ، والمسألة محل تردد ، ولا ريب
أن اعتبار الثلاثة أشهر كما تضمنته صحيحة جميل بن دراج أولى وأحوط ، انتهى.
أقول : ومرجع
كلامه هنا في توجيه كلام الشيخ المفيد إلى وجه آخر في الجمع بين المطلق والمقيد ،
وهو العمل بالمطلق على إطلاقه ، وحمل المقيد على
__________________
الاستحباب ، المنع في كلامهم إنما هو من الحمل على القاعدة الأصولية من حمل
المطلق على المقيد ، وبعض الأخبار يشير إليه ويعضده ، وما ذكره من الاستبعاد غير
جيد ، فإن نظيره في الأحكام غير عزيز بل شائع كثير ، وما ذهب إليه الشيخ في
الاستبصار ومن تبعه ممن تقدم ذكره جيد ، إلا أن الكلام في تطبيق أخبار التربص عليه
، فإن فيه ما عرفته من أن مبنى كلامه إلى أن اختلاف الأخبار مبنى على اختلاف عادات
النساء ، فمن كانت عادتها في الشهر مرة لا يجوز طلاقها إلا بعد شهر ، ومن كانت في
كل ثلاثة أشهر فلا يجوز إلا بعد الثلاثة ، وهكذا وقد تقدم ما فيه.
وبالجملة
فالمسألة محل إشكال ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة في المسألة فلعل أخبار التربص
إنما خرجت مخرج التقية ، أو اختلافها إنما كان من حيث ذلك.
بقي في المقام مسائل
الاولى : إذا
قلنا بوجوب التربص مدة فطلق الغائب زوجته ، فلا يخلو إما أن يطلق بعد مضي المدة
المعتبرة أو قبلها ، وعلى كل من التقديرين المذكورين إما أن يوافق فعله كونها
جامعة لشرائطه في الواقع ، بأن تكون قد حاضت بعد طهر المواقعة فوقع الطلاق حال
الطهر ، أو لا يوافق ، بأن تبين وقوعه في طهر المواقعة أو حالة الحيض أو يستمر
الاشتباه ، وحينئذ فهنا صور :
الاولى : أن
يطلقها بعد المدة المعتبرة ثم تظهر الموافقة بأن كانت قد انتقلت من طهر المواقعة
إلى طهر آخر ، وأن الطلاق وقع حال الطهر ، ولا إشكال هنا في صحة الطلاق إجماعا
لاجتماع شرائطه المعتبرة في صحته ظاهرا وفي نفس الأمر.
الثانية :
الصورة بحالها ، ولكن ظهر بعد ذلك كونها حائضا حال الطلاق ، ولا إشكال هنا أيضا في
صحة الطلاق لأن المعتبر في صحة طلاق الغائب مراعاة المدة
المعتبرة ، وهو حاصل هنا ، وظهور الحيض هنا غير مانع لعدم العلم به حال
الطلاق ، وظهوره بعد ذلك مستثنى بالنص والفتوى كما تقدمت به الأخبار ومنها رواية
أبي بصير المصرحة بكونه قد طلق امرأته وهو غائب ثم علم بعد ذلك
أنها يوم طلقها كانت طامثا فأجاز عليهالسلام الطلاق. وبالجملة فإن الصحة في هذه الصورة مجمع عليها
نصا وفتوى.
الثالثة :
الصورة الأولى بحالها ، لكن ظهر بعد ذلك كونها باقية في طهر المواقعة لم تنتقل منه
إلى حيض ولا طهر آخر.
قال في المسالك
: وهو صحيح أيضا لعين ما ذكر في سابق هذه الصورة ، وهو وقوعه على الوجه المعتبر
شرعا ولأن الطلاق إذا حكم بصحته في حالة الحيض بالنص والإجماع فلأن يحكم بصحته في
حال الطهر أولى ، لما قد عرفت من أن شرط الطلاق في غير الغائب أمران : وقوعه في
طهر ، وكون الطهر غير طهر المواقعة ، فإذا اتفق وقوعه في حالة الحيض تخلف الشرطان
لعدم طهر آخر غير طهر المواقعة وعدم الخلو من الحيض ، وإذا اتفق وقوعه في حالة
الطهر فالمتخلف شرط واحد ، وهو كون الطهر غير طهر المواقعة ، فإذا كان تخلف
الشرطين في الغائب غير مانع فتخلف أحدهما أولى بعدم المنع ، انتهى.
وعورض بأن شرط
الطلاق من غير الغائب أمران : الانتقال من طهر المواقعة ، ووقوع الطلاق في الطهر ،
فإذا اتفق وقوعه في حال الحيض تخلف الثاني ، وإذا اتفق في طهر المواقعة تخلف الأول
: فلا تتم الأولوية المذكورة.
واستظهر المحقق
الشيخ علي ـ رحمهالله ـ عدم الوقوع لانتفاء شرط الصحة ، وهو استبراء الرحم
خرج منه حال الحيض ، فيبقى الباقي ، ونمنع من وجود الشرط فإن الاذن في الطلاق
استنادا إلى الظن لا يقتضي الحكم بالصحة إذا ظهر بطلان الظن.
__________________
وأجيب عنه بأن
الشرط المعتبر في طلاق الغائب ليس إلا مراعاة المدة المعتبرة وهو حاصل كما هو
المفروض ، وصحة الطلاق لو ظهر وقوعه حال الحيض المستفادة من رواية أبي بصير وغيرها
، وعمل الأصحاب مبنية عليه ، وحينئذ فلا يقدح ظهور بطلان الظن ولا يؤثر فيما حكم
بصحته كما ظنه ـ رحمهالله.
وبالجملة فإن
الشرط المعتبر حاصل كما هو التقدير ، والمانع وهو ظهور الخطأ لا يصلح للمانعية ،
كيف وقد تخلف فيما هو أولى بالحكم أو مساو في المنع. والفصل بين الحالين ـ مع تخلف
الشرط فيهما ، والقول بصحة أحدهما دون الآخر تعلقا بفقد الشرط لظهور بطلان الظن ـ تحكم
محض.
وأما حديث كون
الحكمة ـ في انتظار المدة المقررة ـ هو استبراء الرحم ، فحديث شعري ، والعلة
المذكورة مستنبطة محضة لا منصوصة ، فلا يلزم اطرادها. وإنما المنصوص فيما وصل
إلينا من الأخبار اعتبار انقضاء المدة واستنبط منها الاكتفاء بظن الانتقال من طهر
إلى آخر ، وكلاهما متحقق.
أقول : لا ريب
أنه بالنظر إلى ظاهر أخبار المسألة مطلقها ومقيدها يظهر قوة القول الأول ، لأن
المطلق منها قد دل على أن الغائب يطلق زوجته على كل حال ، وهذه الحال المفروضة
التي هي محل البحث داخلة في العموم بلا ريب ، والمقيد بالتربص دل على أنه يتربص
بها المدة المعتبرة وبعدها يجوز له طلاقها ، ولا استفصال فيها بين ظهور كونها وقت
الطلاق حائضا أو في طهر المواقعة أو غير ذلك ، وعدم الاستفصال دليل العموم في
المقال.
الرابعة : أن
يطلقها مراعيا للمدة المعتبرة ، ويستمر الاشتباه فلا يعلم كونها حال الطلاق ذات
حيض أم لا ، في طهر المواقعة أم لا ، والطلاق هنا صحيح قولا واحدا كما ذكره في
المسالك ، ووجهه وجود المقتضي ، وهو مضي المدة المعتبرة ، لأن شرط صحة طلاق الغائب
مراعاة مضي المدة المعتبرة مع عدم العلم بكونها وقت الطلاق حائضا أو باقية في طهر
المواقعة ، وهو حاصل كما هو المفروض ، وعدم
المانع ، إذ ليس إلا الاشتباه ، وهو غير صالح للمانعية ، فإنه مع الظهور
كما تقدم لا يبطل الطلاق ، فبطريق الأولى مع الاشتباه.
الخامسة : أن
يطلقها قبل مضي المدة المعتبرة إلا أنه ظهر بعد الطلاق وقوعه في طهر لم يقربها فيه
، قالوا : وفي صحة الطلاق وجهان : من حصول شرط الصحة في نفس الأمر وظهور ذلك ، ومن
عدم وجود الشرط المعتبر في صحة الطلاق حال إيقاعه.
ورجح الأول في
المسالك بأنه يمكن أن يجعل ظهور اجتماع الشرائط بعد ذلك كاشفا عن صحته ، خصوصا مع
جهله ببطلان الطلاق من دون مراعاة الشرط ، لقصده حينئذ إلى طلاق صحيح ، ثم ظهر
اجتماع شرائطه ، ثم قال : فالأظهر الصحة.
واعترضه سبطه
في شرح النافع بأنه مشكل لإطلاق النص الدال على اعتبار المدة في الغائب ولم تحصل
هنا ، وهو جيد.
السادسة :
الصورة بحالها إلا أنه تبين عدم الانتقال من طهر المواقعة أو كونها حائضا أو استمر
الاشتباه ، والظاهر أنه لا إشكال في بطلان الطلاق لعدم حصول الشرط ، وهو مضي المدة
المعتبرة ، وأكده ظهور كون الطلاق في طهر المواقعة أو حال الحيض أو استمرار
الاشتباه ، فالإشكال في الأول باحتمال الصحة إنما نشأ من انكشاف الحال بما يقتضي
الصحة ، والأمر هنا بالعكس.
المسألة
الثانية : لو تربص بها
المدة المعتبرة وأخبره من يعتد بقوله شرعا أنها حائض بسبب تغيير عادتها ، وكذا لو
أخبره ببقائها في طهر المواقعة ، أو بكونها حائضا حيضا آخر بعد الطهر ، فطلقها
والحالة هذه ، فهل يصح أم لا؟ إشكال ، وجزم المحقق الشيخ علي وشيخنا الشهيد الثاني
بالعدم.
احتج المحقق
المذكور بأن ظاهر الأخبار يقتضي العلم بطهرها وقت الطلاق أو ظنه ، ولعموم الدلائل
الدالة على المنع من طلاق الحائض ، خرج ما دل عليه
أخبار الخمس اللاتي يطلقن على كل حال ، ومنها زوجة الغائب بعد
التربص إذا ظهر كونها حائضا عند الطلاق. لرواية أبي بصير فيبقى الباقي على أصله ، انتهى.
وقيل : بأن فيه
وجها آخر بالصحة لحصول الشرط ، وهو انقضاء المدة المعتبرة ، ولا يخلو من قوة ، لما
عرفت من أن المستفاد من النصوص إنما هو التربص المقدار المذكورة وظن الانتقال من
طهر إلى آخر إنما استفيد استنباطا كما اعترف به في المسالك ، وما ذكره المحقق
المزبور من أن ظاهر الأخبار يقتضي العلم بطهرها وقت الطلاق ، أو ظنه إنما يسلم له
بالنسبة إلى أخبار الحاضر ، وهو غير محل البحث ، وإلا فأخبار طلاق الغائب لا إشعار
فيها بما ذكره إن لم يكن فيما إشعار بخلافه ومع تسليم عموم الدلائل الدالة على
المنع من طلاق الحائض يجب تخصيصه بما دل على صحة طلاق الغائب إما مطلقا أو بعد مدة
التربص مطلقا وإن ظهر كونها حائضا.
والتحقيق أن
هنا عمومين قد تعارضا (أحدهما) عموم المنع من طلاق الحائض الشامل لطلاق الغائب
وغيره (وثانيهما) عموم جواز طلاق الغائب على كل حال مطلقا أو بعد المدة المعتبرة
الشامل حالي ظن الحيض وعدمه ، وتخصيص أحدهما بالآخر يحتاج إلى مخصص من خارج ، ومنه
يظهر بقاء المسألة في قالب الاشكال وإن كان مقتضى الاحتياط سيما في الفروج تخصيص
العموم الثاني بالأول
المسألة
الثالثة : ظاهر الأصحاب أنه لو خرج في طهر لم يقربها فيه فإنه
يصح طلاقها من غير تربص وإن اتفق في الحيض ، وبه صرح الشيخ في النهاية فيما قدمنا
من عبارته ، ونحوها عبارة ابن البراج.
وقال في
المسالك : لو كان خروج الزوج في طهر آخر غير طهر المواقعة
__________________
يصح طلاقها من غير تربص ما لم يعلم كونها حائضا ، ولا يشترط هنا العلم أو
الظن بعدم الحيض لأن شرط الصحة هنا موجود ، وهو استبراؤها بالانتقال من طهر إلى
آخر ، وإنما الحيض بعد ذلك مانع من صحة الطلاق ، ولا يشترط في الحكم بصحة الفعل
العلم بانتفاء موانعه ، بل يكفي عدم العلم بوجودها.
وظاهر سبطه
السيد السند في شرح النافع التوقف والاستشكال في هذا المقام ، حيث إنه بعد نسبة
أصل الحكم المذكور إلى الشيخ في النهاية وجماعة قال : وهو مشكل ، لإطلاق ما تضمن
اعتبار مضي المدة في الغائب ، فإنه يتناول بإطلاقه من خرج في طهر المواقعة وغيره ،
ولأن ما تضمن بطلان طلاق الحائض متناول لهذه الصور كما يتناول غيرها ، فيتوقف
الحكم بالصحة في هذه الصورة على وجود دليل عليه. نعم لو قيل : بأن من هذا شأنه يصح
طلاقه من غير تربص إذا اتفق وقوع الطلاق في الطهر كان متجها ، لأن الحاضر يقع طلاقه
على هذا الوجه ، فالغائب أولى ، لأنه أخف حكما منه ، انتهى وهو جيد.
ويزيده إيضاحا
وبيانا أنه لا ريب في صحة هذا القول بناء على مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه من أولئك
الأفاضل من صحة الطلاق مع عدم التربص ، إنما الإشكال بناء على وجوب التربص ، فإن
فيه :
(أولا) أن ظاهر
أخبار التربص هو وجوب ذلك أعم من هذه الصورة المفروضة وغيرها ، وتخصيصها يحتاج إلى
دليل.
(وثانيا) أنه
كما أن من شروط صحة الطلاق العلم بانتقال المرأة من طهر المواقعة إلى طهر آخر كذلك
من شروطه العلم بكونها غير حائض وقت الطلاق كما قدمنا بيانه ـ ودلالة الأخبار عليه
ـ في الشرط الخامس.
وغاية ما يفهم
من الأخبار بالنسبة إلى الفرق بين الحاضر والغائب هو أن الغائب يصح طلاقه بعد
التربص للمدة المعتبرة ، وإن اتفق كون الطلاق في طهر المواقعة أو اتفق كونها حائضا
وقت الطلاق. وأما الحاضر فلا بد من تقدم العلم
بعدم الأمرين المذكورين ، وحينئذ فالحكم بصحة الطلاق مع الغيبة وعدم التربص
بل بمجرد العلم بكونها في غير طهر المواقعة ، وإن كان حائضا يحتاج إلى دليل لكونه
على خلاف ما يظهر من أدلة وجوب التربص ، فيبقى على الأصل من اشتراط العلم بعدم
الحيض الذي قامت الأدلة على أنه شرط في صحة الطلاق.
قوله ـ رحمهالله ـ : ولا يشترط هنا العلم أو الظن بعدم الحيض لأن شرط
الصحة هنا موجود ، وهو استبراؤها بالانتقال من طهر إلى آخر مردود بأنه كما أن من
الشروط الانتقال من طهر إلى آخر كذلك منها العلم بكونها طاهرا وقت الطلاق كما عرفت
، وغاية ما دل عليه الدليل سقوط هذين الشرطين في الغائب مع التربص لا مع عدمه ،
وبالجملة فالأظهر عندي ما ذكره السيد السند المذكور ـ رحمهالله.
المسألة
الرابعة : لو كان حاضرا لكن لا يمكنه الوصول إلى الزوجة واستعلام
حالها لحبس ونحوه ، فهو بمنزلة الغائب فيما عرفت من حكمه والأقوال فيه ، كما أنه
لو كان غائبا ولكن يمكنه استعلام أحوالها لورود الأخبار عليه ممن يعتقد صدقة ،
ويركن في صحة الأخبار إليه ، فإنه يكون في حكم الحاضر.
والذي يدل على
الحكم الأول من الأخبار ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا
الحسن عليهالسلام عن رجل تزوج امرأة سرا من أهلها وهي في منزل أهلها ،
وقد أراد أن يطلقها وليس يصل إليها ليعلم طمثها إذا طمثت ولا يعلم بطهرها إذا طهرت
، قال : فقال : هذا مثل الغائب عن أهله ، يطلقها بالأهلة والشهور ، قلت : أرأيت إن
كان يصل إليها الأخبار الأحيان والأحيان لا يصل إليها فيعلم حالها ، كيف يطلقها؟
فقال ، إذا مضى له شهر لا يصل إليها فيه فيطلقها إذا نظر إلى غرة الشهر الآخر
بشهود ، ويكتب الشهر الذي يطلقها فيه ويشهد على طلاقها رجلين ، فإذا مضى ثلاثة
أشهر
__________________
فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب ، وعليه نفقتها في تلك الثلاثة الأشهر
التي تقعد فيها».
وأنت خبير بأن
قوله عليهالسلام أولا «يطلقها بالأهلة والشهور» أي بالأهلة مع معلوميتها
، أو العدد مع عدم المعلومية المؤذن بتعدد الشهور لا يخلو من مدافعة لقوله ثانيا «إذا
مضى له شهر لا يصل إليها فيطلقها» المؤذن بكون مدة التربص شهرا خاصة ، إلا أن يحمل
على أن أقل ذلك شهر وأكثره ثلاثة أشهر ، فتحمل الثلاثة على الاستحباب.
والظاهر أنه
إلى ذلك يشير كلام الشيخ في النهاية حيث قال : ومتى كان للرجل زوجة معه في البيت
غير أنه لا يصل إليها فهو بمنزلة الغائب عن زوجته ، فإذا أراد طلاقها فليصبر إلى
أن يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ثم يطلقها إن شاء.
والقول بهذا
الحكم والاستدلال عليه بالخبر المذكور مما جرى عليه من تأخر عن الشيخ ، إلا ابن
إدريس فإنه اعترضه في ذلك ، فقال : الذي يقتضي أصول مذهبنا وإجماعنا منعقد عليه
أنه لا يجوز للحاضر أن يطلق زوجته المدخول بها وهي حائض بغير خلاف ، وحمل الحاضرة
في البلد على تلك قياس ، وهو باطل عندنا ، والأصل الزوجية ، فمن أوقع الطلاق يحتاج
إلى دليل قاهر ، وما ذكره شيخنا خبر واحد أورده إيرادا لا اعتقادا كما أورد أمثاله
مما لا يعول عليه ولا يعرج عليه ، ولو لا إجماعنا على طلاق الغائب وإن كانت زوجته
حائضا لما صح ، فلا نتعداه ولا نتخطاه ، انتهى.
ورده العلامة
في المختلف فقال : والمعتمد قول الشيخ ، لنا أن المقتضي معلوم الثبوت والمعارض لا
يظن ثبوته ، بل يظن عدمه فيثبت الحكم ، أما وجود المقتضي فلأن لفظ الطلاق موضوع
شرعا للبينونة وسبب تام فيها وقد وجد ، وأما انتفاء المعارض فلأنه ليس إلا الحيض
وهو غير معلوم الثبوت بل مظنون العدم ،
إذ التقدير ذلك ، وأما ثبوت الحكم عند ذلك فهو ظاهر لأن المقتضي لجواز
تطليق الغائب ـ وهو خفاء حالها عنه مع غلبة ظنه بالانتقال من طهر المواقعة إلى
غيره ـ موجود هنا وبثبوت العلم يلزم ثبوت الحكم ولا يرجع ذلك إلى القياس بل إلى
وجود ما جعله الشارع علة ، وما رواه الشيخ في الصحيح ـ ثم ساق الخبر كما قدمناه ثم
قال : ـ وهذا نص في الباب ، وإذا وافق المعلوم المعقول الحديث الصحيح المنقول
واشتهر بين الجماعة العمل به كان معينا ، انتهى وهو جيد.
أقول : ونظير
الخبر المذكور ما رواه في الكافي عن الحسن بن علي بن كيسان قال : «كتبت إلى الرجل عليهالسلام أسأله عن رجل له امرأة من نساء هؤلاء العامة وأراد أن
يطلقها وقد كتمت حيضها وطهرها مخافة الطلاق ، فكتب عليهالسلام : يعتزلها ثلاثة أشهر ويطلقها».
وهذا الخبر مع
كون مورده مورد الأول تضمن التربص بثلاثة أشهر ، والظاهر حمله على ما قدمناه من
استحباب الثلاثة ، وأنها أكثر مدة التربص ، وأما الحمل على أن عادتها في كل ثلاثة
أشهر فبعيد جدا.
الركن
الثالث : الصيغة : ينبغي أن يعلم هنا وإن تقدمت الإشارة إليه أن النكاح لما كان عصمة
مستفادة من الشرع وقف زواله على رافع شرعي ، وبسبب من جانب الشارع يوجب رفع ذلك ،
وقد اتفق النص والفتوى على الصحة بلفظ الطلاق بإضافته إلى لفظ يدل على التعيين ،
كقوله أنت أو فلانة أو هذه أو نحو ذلك ، وما عدا ذلك فيجب نفيه إلى أن يثبت دليل
على صحة الوقوع به.
والذي وقفت
عليه من الأخبار في هذا المقام ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن حماد بن عثمان عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل
__________________
قال لامرأته : أنت مني خلية أو برية أو بتة أو بائن أو حرام ، فقال : ليس
بشيء».
والعجب من
صاحبي الوافي والوسائل أنهما لم ينقلا هذه الرواية في جملة روايات المسألة
المذكورة ، وهذا المكان هو محلها اللائق بها.
وروى في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم «أنه سأل أبا جعفر عليهالسلام عن رجل قال لامرأته : أنت علي حرام أو بائنة أو بتة أو برية
أو خلية ، قال : هذا كله ليس بشيء ، إنما الطلاق أن يقول لها في قبل العدة بعد ما
تطهر من حيضها قبل أن يجامعها : أنت طالق أو اعتدي ، يريد بذلك الطلاق ، ويشهد على
ذلك رجلين عدلين».
ونقل العلامة
في المختلف عن البزنطي قال : «روى أحمد بن محمد بن أبي نصر في كتاب الجامع عن محمد
بن سماعة عن محمد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام «في رجل قال لامرأته : أنت حرام أو بائنة أو بتة أو برية أو خلية ، فقال :
هذا ليس بشيء إنما الطلاق أن يقول لها من قبل عدتها قبل أن يجامعها : أنت طالق ،
ويشهد على ذلك رجلين عدلين». وهذه الرواية خالية من الزيادة التي في سابقتها وهي
قوله : اعتدي يريد بذلك الطلاق.
وما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الطلاق أن يقول لها : اعتدي أو يقول : أنت طالق».
وعن محمد بن
قيس في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «الطلاق
__________________
للعدة أن يطلق الرجل امرأته عند كل طهر ، ويرسل إليها أن اعتدي فإن فلانا
قد طلقك ، قال : هو أملك برجعتها ما لم تنقض عدتها».
وعن عبد الله
بن سنان في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «يرسل إليها فيقول الرسول : اعتدي فإن فلانا قد
فارقك. قال ابن سماعة : وإنما معنى قول الرسول اعتدي فإن فلانا قد فارقك ـ يعني
الطلاق ـ إنه لا يكون فرقة إلا بطلاق».
قال في الكافي
بعد هذا الخبر : حميد بن زياد عن ابن سماعة عن علي بن الحسن الطاطري قال : الذي
أجمع عليه في الطلاق أن يقول : أنت طالق أو اعتدي ، وذكر أنه قال لمحمد بن أبي
حمزة : كيف يشهد على قوله : اعتدي؟ قال : يقول : اشهدوا اعتدي ، قال ابن سماعة :
غلط محمد بن أبي حمزة أن يقول : اشهدوا اعتدي ، قال الحسن بن سماعة : ينبغي أن يجيء
بالشهود إلى حجلتها أو يذهب بها إلى الشهود إلى منازلهم ، وهذا المحال الذي لا
يكون ، ولم يوجب الله عزوجل هذا على العباد ، فقال الحسن : ليس الطلاق إلا كما روى
بكير بن أعين أن يقول لها وهي طاهر من غير جماع : أنت طالق ، ويشهد شاهدين عدلين ،
وكل ما سوى ذلك فهو ملغى» انتهى ، ومقتضاه عدم وقوع الطلاق حتى من هذه المادة إلا
بهذا اللفظ بخصوصه فلا يصح بلفظ أنت طالق أو من المطلقات أو أنت مطلقة على خلاف في
هذه اللفظة يأتي إن شاء الله ذكره ، وهو جيد.
إذا تقرر ذلك
فاعلم أن تحقيق الكلام هنا يقع في مواضع :
أحدها
: المشهور بين
الأصحاب انحصار صيغة الطلاق في لفظ الطلاق بالتقريب المذكور آنفا ، وذهب ابن
الجنيد إلى وقوعه أيضا بلفظ اعتدي قال : الطلاق لا يقع إلا بلفظ الطلاق أو قوله
اعتدي ، وأما ما عدا ذلك فلا يقع به ، واحتجوا له بروايتي
__________________
محمد بن مسلم والحلبي الصحيحتين أو الحسنتين ، وحملهما الشيخ في كتابي
الأخبار على أن لفظ اعتدي إنما يعتبر إذا تقدم قول الرجل أنت طالق ثم يقول اعتدي
قال : لأن قوله لها اعتدي ليس له معنى لأن لها أن تقول : من أي شيء أعتد؟ فلا بد
أن يقول اعتدي لأني طلقتك ، فالاعتبار إذا بلفظ الطلاق لا بهذا القول إلا أنه يكون
هذا القول كالكاشف عن أنه لزمها حكم الطلاق الموجب لها ذلك.
واعترضه الشهيد
الثاني في المسالك وسبطه في شرح النافع حيث إنهما ممن يدور مدار صحة الأسانيد بناء
على هذا الاصطلاح المحدث ، فمالا إلى قول ابن الجنيد لهذين الخبرين من حيث اعتبار
سنديهما ، فأجابا عن كلام الشيخ بما ملخصه : أنه لا يخفى ما فيه من البعد وشدة
المخالفة للظاهر ، لأنه عليهالسلام جعل قوله اعتدي معطوفا على قوله أنت طالق ب «أو»
المفيدة للتخير في إحدى الروايتين ومعطوفا عليه في الرواية الأخرى ، فكيف ينحصر وقوعه
بأحد اللفظين الذي خير بينه وبين اللفظ الآخر وقوله ـ رحمهالله ـ «أنه لا معنى لقوله اعتدي» غير جيد لأنه إذا نوى به
الطلاق وحكم الشارع بحصول البينونة به يصير في معنى أنت طالق ، فإذا قالت من أي شيء
أعتد؟ يقول : من هذا الطلاق الواقع بهذا اللفظ ، غاية الأمر أنها لم تفهم ذلك من
قوله اعتدي ، فسألت عنه ، وذلك لا يوجب أن لا يكون له معنى ، ولا يمكن الجواب عن
هاتين الروايتين بالحمل على التقية لأن في إحدى الخبرين ما ينافي ذلك ، وهو أنه لا
يقع الطلاق بقوله أنت حرام أو بائنة أو برية أو خلية ، فإن الطلاق عند المخالفين
يقع بجميع ذلك مع النية ، انتهى.
أقول : لا ريب
أن ظاهر الروايتين المذكورتين هو الدلالة على مذهب ابن الجنيد ، ومقتضى العمل بهذا
الاصطلاح المحدث القول بما دل عليه هذان الخبران لأنهما أصح أخبار المسألة ، ولكن
الأصحاب قديما وحديثا قد اعترضوا عنهما ، ولم يقل بهما من المتقدمين إلا ابن
الجنيد الذي قد علم من تتبع أحواله وأقواله الميل إلى مذهب المخالفين والعمل
بأخبارهم والاستناد إليها والاستدلال بها ،
بل بالقياس الذي منعته الشريعة ، ولم يقل به من المتأخرين إلا هذان
الفاضلان كما عرفت ، وإلا فغيرهما من المحقق والعلامة وغيرهما كلهم على القول
المشهور.
وكيف كان فإن
التحقيق في المقام بناء على ما هو المختار عندنا من العمل جميع الأخبار ، وهو رد
هذه الأخبار المتقدمة بعضها إلى بعض ، وحمل مطلقها على مقيدها ، ومجملها على
مفصلها ، وارتكاب التأويل في الروايتين المذكورتين بقرينة ما دلت عليه الروايات
الأخر ، وأن قوله عليهالسلام في صحيحة محمد بن قيس أو حسنته «يرسل إليها اعتدي ، فإن
فلانا قد طلقك» ظاهر في أن هذه الرسالة إخبار عن طلاق سابق ، وأمر لها بالاعتداد
منه ، لا أن «أعتدي» هي صيغة الطلاق وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ،
وحاصل معنى الخبر أن يطلق الرجل امرأته عند كل طهر ثم يرسل إليها. إلخ. ونحوه
رواية عبد الله بن سنان ، وقوله عليهالسلام «يرسل إليها فيقول الرسول اعتدي فإن فلانا قد فارقك» والرواية الأولى منهما
صحتها أو حسنتها ـ إنما هو بإبراهيم بن هاشم الذي في سند ذينك الخبرين ،
واعتبارهما إنما هو به ، فيجب عليهم قبولها لذلك. وتعضدها رواية البزنطي ،
ودلالتها على الحصر في قوله «أنت طالق» وهي صريحة في المدعى. وحينئذ فيجب حمل
إطلاق خبري الحلبي ومحمد بن مسلم فيما دلا عليه من أن «أعتدي» صيغة الطلاق على
هذين الخبرين من تقدم الطلاق ، وأن قوله «اعتدي» إنما هو إخبار عن تقدم طلاق ،
وأمر لها بالاعتداد منه حسبما ذكره الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وظاهر كلام الكليني
المتقدم نقله وقوع الخلاف بين أصحاب الأئمة عليهمالسلام يومئذ ، فمذهب محمد بن أبي حمزة القول بأن «اعتدي» من
صيغ الطلاق ، ومذهب الحسن بن سماعة الذي رواه عن بكير بن أعين هو أن الصيغة إنما
هي «أنت طالق» ، وفي المسالك ذكر أنه عبد الله بن بكير بن أعين وطعن فيه ، والذي
في الكافي إنما هو بكير الممدوح المعدود حديثه في الحسن ، وما ذكره من
بعد الحمل على التقية إنما يتم له في رواية محمد بن مسلم ، لاشتمالها على
تلك الألفاظ دون رواية الحلبي ، فيمكن حملها على التقية ولا مانع منه ، ولا ينافيه
عدم إمكان ذلك في تلك الرواية لجواز حملها على التقية بالمعنى الآخر الذي تقدمت
الإشارة إليه غير مرة ، وقد تقدم في المقدمة الاولى من المقدمات التي في أول كتاب الطهارة.
وبالجملة
فالظاهر عندي هو القول المشهور وارتكاب التأويل في هذين الخبرين جمعا بينهما وبين
الأخبار الأخر كما عرفته.
تنبيه
ظاهر شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك توسعة الدائرة في المقام بالحكم بالصحة في جملة من
الكنايات الظاهرة في إرادة معنى الطلاق تفريعا على الحكم بالصحة بلفظ اعتدي كما
اختاره ، وأن ذلك لازم لمن قال بهذا القول. قال ـ رحمهالله ـ : نعم يمكن أن يقال : إن حكمه بوقوع الطلاق بقوله
اعتدي مع النية وهو كناية قطعا يدل على وقوعه بغيره من الكنايات التي هي أوضح معنى
من قوله اعتدي مثل قوله أنت مطلقة أو طلقتك أو من المطلقات أو مسرحة أو سرحتك أو
مفارقة أو فارقتك أو من المسرحات أو من المفارقات إلى غير ذلك من الكنايات التي هي
أوضح دلالة على الطلاق من قوله اعتدي ، بل قيل : إن السراح والفراق وما اشتق منهما
ومن الطلاق صريح لا كناية لورودها في القرآن مرادا بها الطلاق كقوله تعالى «وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَراحاً جَمِيلاً» «وَسَرِّحُوهُنَّ
سَراحاً جَمِيلاً» «أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ» «أَوْ فارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ» «وَإِنْ يَتَفَرَّقا
يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ»
«فوقوع الطلاق
__________________
بقوله اعتدي يدل بمفهوم الموافقة على وقوعه بجميع هذه الألفاظ وما في
معناها ، وتبقى الكنايات التي لا تدخل في مفهوم الموافقة ـ بل إما مساوية لقوله
اعتدي أو أخفى ـ مردودة لعدم الدليل.
ومنها قوله في
الخبر خلية وبرية وبتة وبتلة ونحوها ، وحينئذ نكون أعملنا جميع الأخبار المعتبرة
مؤيدا بعموم الآيات والأخبار الدالة على الطلاق من غير تقييد ، ولا يضرنا مفهوم
الحصر في قوله «إنما الطلاق أن يقول : أنت طالق» لوجهين :
(أحدهما) أن
الحصر في الصيغتين بطريق المطابقة ، وفي غيرهما بطريق الالتزام فلا منافاة.
(والثاني)
إمكان حمله على مجرد التأكيد بقرينة قوله في رواية الحلبي «الطلاق أن يقول لها» من
غير أداة الحصر ، ولا يرد على هذا الحصر المبتدأ في خبره ، لأن ذلك غير مطرد كما
حقق في محله ، وقد وقع استعمال «إنما» في الكلام الفصيح مجردا عن الحصر ، وتقدم
مثله في الأخبار ، ولو قيل بهذا القول لكان في غاية القوة ، وتوهم أنه خلاف
الإجماع قد تكلمنا عليه غير مرة ، انتهى.
أقول : لا ريب
أن ما ذكره من لزوم صحة الطلاق بهذه الكنايات المذكورة لمن قال بصحته بلفظ اعتدي
جيد ، وأما أن ذلك صحيح كما ادعى قوته فهو ممنوع ، وما تكلفه في منع الحصر في
الأخبار المذكورة بعيد جدا ، فإن المتأمل في سياقها لا يخفى عليه فهم الحصر منها ،
إذ لا يخفى أن قوله عليهالسلام ـ بعد عد تلك الألفاظ المدعي وقوع الطلاق بها ليس بشيء
ـ الطلاق أن يقول لها كذا وكذا في حال الطهر قبل المجامعة بشهادة عدلين أظهر ظاهر
في إرادة الحصر ، ويؤيده ذكر شروط صحة الطلاق الآخر من الشهادة على الطلاق ،
والانتقال من طهر المواقعة ، وكونها طاهرا ، فإن ذلك كله أدل دليل على أن المراد
الحصر في هذا اللفظ مع اجتماع هذه الشروط ، وتكلف خلاف ذلك بعيد عن سياق الأخبار
المذكورة كما لا يخفى على المتأمل المنصف.
وأما ورود لفظ
السراح والفراق في القرآن بمعنى الطلاق فالظاهر في الجواب عن ذلك أن يقال : لا
يخفى أن جل الآيات القرآنية وجملة الأخبار الواردة في السنة المطهرة إنما اشتملت
على التعبير عن هذه الفرقة المخصوصة بلفظ الطلاق ، وظاهرها أن هذا هو اللفظ
الحقيقي الموضوع لهذا المعنى ، وأن ما عداه من لفظ السراح والفراق ونحوهما إنما
أطلقا مجازا أو كناية عنه في مقام المحاورة ، فلا يلزم من صحة صيغته بالطلاق صحة
صيغته بهما ، لأن الصيغة أمر آخر متوقف على التوقيف والسماع من الشارع كما عرفت ،
ومقتضى ذلك الاكتفاء في صيغة الطلاق ، بكل لفظ من هذه المادة ، إلا أنك قد عرفت
أنه حيث كان النكاح عصمة شرعية ، فيجب استصحابها إلى أن يثبت المزيل لها شرعا ،
والذي علم من الأخبار المتقدمة بالتقريب المتقدم إنما هو لفظ مخصوص من هذه المادة
، لا كل لفظ منها ، فيجب الوقوف على ما علم كونه مزيلا ، وتخصيص ما ذكرنا من
العموم بذلك.
وثانيها : أنه لا يخفى أن ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من عدم الاكتفاء بتلك
الألفاظ في صحة الطلاق من قوله «خلية أو برية» ونحوهما مما لا خلاف بين أصحابنا
فيه نوى بهما الطلاق أو لم ينو ، وإنما الخلاف هنا من العامة حيث حكموا بوقوع
الطلاق بها مع نيته ، والوجه في ذلك أن أصحابنا يشترطون في صحة الطلاق صراحة اللفظ
الدالة عليه ، فلا يجوز بالمشترك الدال عليه وعلى غيره ، والظاهر أن مرادهم
باشتراط النية فيه مع كون القصد إلى الطلاق شرطا في صحته ـ وإن كان باللفظ الصريح
كما تقدم ذكره ـ هو أن الكناية لا يحكم بوقوع الطلاق بها إلا من العلم بإرادة
الطلاق بخلاف الصريح ، فإن الحكم بوقوع الطلاق لا يتوقف على ذلك ، وإن كان القصد
إلى الطلاق معتبرا فيه أيضا.
وتوضيح ذلك ما
أفاده شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث قال : وهذه
النية أمر آخر غير القصد الذي تقدم اعتباره في الصيغة الصريحة لأن المراد
بالنية هنا قصد إيقاع الطلاق ، وهناك قصد لفظه لمعناه. وتحقيق الفرق أنه لما كان
المعنى في اللفظ الصريح متحدا اكتفى بقصد اللفظ للمعنى بمعنى كون المتلفظ قاصدا
قابلا للقصد ، وإن لم يصرح بالقصد ، ولهذا حكم عليه به بمجرد سماع اللفظ ، وإنما
احترزوا باشتراط القصد عن مثل الساهي والنائم إذا أوقعا لفظا صريحا فإنه لا يعتد
به لعدم القصد إلى مدلوله ، بخلاف الكناية فإن ألفاظها لما كانت مشتركة بين
المقصود منها وهو الطلاق ونحوه لم تحمل عليه بمجرد قصده إلى المعنى لاشتراكه ، بل
لا بد من القصد إلى بعض معانيه ، وهو الطلاق مثلا ، وهذا القصد على خلاف الأصل ،
لأنه تخصيص المشترك بأحد معانيه ، فلا بد من العلم به ، وإلا لم يحكم عليه بالطلاق
ولا غيره ، بخلاف الصريح ، فإن الأصل فيه إذا وقع من العاقل الخالي عن الموانع أن
يكون قاصدا به مدلوله ، فهذا هو الفارق بين القصدين ، فتدبره ، فإنه من مواضع
الاشتباه على كثير. انتهى ، وهو جيد رشيق ، وقد تقدم ما يؤكده ويعضده.
بقي هنا مواضع
وقع الخلاف فيها (منها) ما لو قال : أنت مطلقة ، فظاهر الشيخ في المبسوط أنه يقع
بها الطلاق مع النية ، قال في الكتاب المذكور : عندنا أن قوله أنت مطلقة إخبار عما
مضى فقط ، فإن نوى به الإيقاع في الحال فالأقوى أن نقول إنه يقع. وقال في الخلاف :
إذا قال لها : أنت مطلقة لم يكن ذلك صريحا منه في الطلاق وإن قصد بذلك أنها مطلقة
الآن ، وهذا القول هو المشهور بين الأصحاب.
ويرد على ما
ذهب إليه في المبسوط أنه يلزمه القول بذلك في غير هذه الصيغة ، لأن كلامه ظاهر في
كونه هنا كناية إذ الصريح كما عرفت لا يفتقر إلى النية ، وحينئذ فيلزمه القول بذلك
في سائر الكنايات من ألفاظ هذه المادة ،
إذ لا يعرف هنا وجه خصوصية لهذه الصيغة دون غيرها ، مثل قوله أنت من
المطلقات أو أنت طلاق ، بل هي أبلغ من قوله أنت طالق ، كما صرحوا به ، لأنهم متى
أرادوا المبالغة في فاعل عدلوا به إلى لفظ المصدر ، فيقولون في عادل عدلا ، مبالغة
لأنه أبلغ منه.
والمحقق في
الشرائع رد هذا القول بأنه بعيد عن شبه الإنشاء ، لأنه إخبار عن وقوع الطلاق فيما
مضى ، والأخبار غير الإنشاء.
واعترضه في
المسالك بأن المصنف على ما تكرر منه مرارا وكذا غيره يجعلون لفظ الماضي أنسب
بالإنشاء ، بل قد جعله في النكاح صريحا في الإنشاء ، فما الذي عدا فيما بدا؟
وقولهم إن نقل الاخبار إلى الإنشاء على خلاف الأصل مسلم ، لكن يطالبون بالفارق بين
المقامين ، والموجب لجعله منقولا في تلك المواضع دون هذا ، فإن جعلوه النص فهو
ممنوع ، بل ورد في الطلاق ما هو أوسع كما ستراه. وإن جعلوه الإجماع فالخلاف في
المقامين موجود في صيغ كثيرة. انتهى ، وهو جيد متين بل جوهر ثمين.
وحينئذ فالحق
في رد القول المذكور إنما هو عدم النص الدال على وقوع الطلاق بهذه الصيغة ، وقد
عرفت أصالة استصحاب الحكم بالنكاح حتى يثبت الرافع شرعا ، والذي استفيد من الأخبار
المتقدمة إنما هو صيغة طالق بإضافة ما يعين المطلقة ، ويبقى الباقي على أصالة
المنع ، وهذا هو الحق في الجواب : مضافا إلى ما أشرنا إليه من أن اللازم من القول
بهذه الصيغة القول بغيرها من صيغ الكنايات من هذه المادة ، وهو لا يلتزمه ولا يقول
به.
(ومنها) ما لو
قال : طلقت فلانة ، فقال الشيخ : إنه لا يقع به طلاقا ، قال : لأنه إخبار لا
إنشاء.
وفيه (أولا) أن
أكثر صيغ العقود المقصود بها الإنشاء إنما عبر فيما بلفظ الماضي الذي هو صريح في
الاخبار ، فنقلوه إلى الإنشاء في تلك العقود ، مثل بعت
وزوجت وصالحت ونحو ذلك ، وما نحن فيه كذلك ، على أنه لا خلاف في الصحة بلفظ
فلانة طالق ، وقد صرحوا بأن الماضي أقرب إلى الإنشاء من اسم الفاعل.
(وثانيا) أن
الشيخ قد صرح ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ بأنه لو قيل له : هل طلقت فلانة؟ فقال :
نعم ، كان جوابه بنعم طلاقا لها ، وليس الوجه فيه إلا أن قوله نعم مقتض لإعادة
السؤال ، فكأنه قال : طلقتها ، فقول نعم في معنى طلقتها ، وحينئذ فإذا وقع الطلاق
باللفظ الراجع إلى شيء وقع بذلك الشيء البتة وهو «طلقتها» فيما نحن فيه ، فحكمه
بالصحة ثمة موجب للحكم بها في هذه الصورة ، وهو ظاهر.
(ومنها) ما لو
قيل له : هل طلقت فلانة؟ فقال : نعم ، فإن المشهور بين الأصحاب وبه صرح الشيخ في
النهاية أنه يقع طلاقا ، وبه صرح ابن حمزة وابن البراج وغيرهما. وقال ابن إدريس :
وإن قيل للرجل : هل طلقت فلانة؟ فقال : نعم ، كان ذلك إقرارا منه بطلاق شرعي.
قال في المختلف
: والتحقيق أن نقول : إن قصد بذلك الإقرار بطلاق سابق حكم عليه به ظاهرا ودين
بنيته في نفس الأمر ، وإن قصد بذلك الإنشاء فهل يصح؟ ظاهر كلام النهاية نعم ،
وظاهر كلام ابن إدريس المنع.
أقول : والشيخ
قد استند فيما ذهب إليه إلى رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهمالسلام «في الرجل يقال له : أطلقت امرأتك؟ فيقول : نعم ، قال : قد طلقها حينئذ».
فالتقريب فيها
أن قوله نعم صريح في إعادة السؤال على سبيل الإنشاء ، لأن نعم في الجواب تابع للفظ
السؤال ، فإذا كان صريحا كان الجواب صريحا فيما السؤال صريح فيه ، ولهذا إذا قيل
لزيد في ذمتك مائة؟ فإن قال نعم كان إقرارا يوجب الحكم عليه بها.
وفيه (أولا)
أنه قد تقدم في سابق هذا الموضع اعتراف الشيخ بأنه لا يقع
__________________
الطلاق بقوله طلقت فلانة فكذا فيما هو بمعناه وهو قول «نعم» بالتقريب
المذكور ، ولأن صحته كذلك تقضي صحة سائر العقود به مثل أن يقول له : هل بعت فلانا؟
فيقول : نعم ، وهم لا يقولون به ، وإنما خصوا الطلاق بذلك بالرواية.
(وثانيا) أنه
لا يلزم من تضمن نعم معنى السؤال أن يكون بمنزلة لفظه من كل وجه ، وقائما مقامه من
جميع الوجوه ، ولذا قال في المسالك : إنا لو جوزنا وقوعه بلفظ طلقت فلانة لا يلزم
منه جواز وقوعه بلفظ نعم ، للفرق بين الملفوظ والمقدر في صيغ العقود والإيقاعات.
(وثالثا) عدم
صراحة الرواية في كون نعم مقصودا بها الإنشاء ، فيحتمل الاخبار ، وأنه سأل عن
إيقاع طلاق سابق ، فأجاب بنعم ، وأتى بالسبب الموجب للحكم عليه بالطلاق ، وهو
اعترافه به. قال في المختلف بعد الطعن في الرواية بضعف السند ، مع أن الشيخ قال في
المبسوط : يلزم الطلاق ، فإن كان صادقا لزمه باطنا وظاهرا ، وإن كان كاذبا لزمه في
الحكم ، وهذا دليل على أنه جعله إقرارا بالطلاق لا إنشاء ، وتحمل الرواية على أنه
أتى بالسبب الموجب للحكم عليه بالطلاق. انتهى ، وهو ظاهر فيما قلناه.
ثم إن العلامة
في المختلف احتج أيضا برواية البزنطي المتقدمة أيضا الدالة على حصر صيغ الطلاق في
قوله : أنت طالق ، قال في المسالك ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : وهذه الرواية أوضح دلالة
على تخصيص أنت طالق من بين الصيغ المتنازع في وقوعه بها ، وهي سالمة من إضافة ما
تقدم في رواية محمد بن مسلم أو يقول لها اعتدي ، ولو صحت لكانت أجود في الدلالة
على نفي تلك الأقوال ، انتهى.
أقول : لا يخفى
أن الكتاب المذكور من الأصول المشهورة والكتب المأثورة ، والرواية صحيحة باصطلاح
أصحابنا المتقدمين الذي عليه العمل دون هذا الاصطلاح المحدث فيثبت بها المدعى ،
والعلامة مع كونه أصل هذا الاصطلاح المحدث قد اعتمد عليها ، واستدل بها في المقام.
وبالجملة
فالأقرب في المسألة هو ما ذهب إليه ابن إدريس إلا إذا علمنا أنه
لم يقع منه غيره ، وينبغي تقييد إطلاق كلام ابن إدريس بذلك ، والعلامة قيده
بقصد الإقرار كما تقدم في كلامه.
قال في المسالك
: ولا إشكال مع القصد ، إنما الكلام مع الجهل بحاله ، والوجه ما قلناه من الحكم
بكونه إقرارا إلا مع العلم بانتفاء سابق ، ويرجع في ذلك إلى القرائن المفيدة لكونه
مريد الإنشاء أو الإقرار. انتهى ، وهو مؤيد لما قلناه وواضح فيما ادعيناه.
ثم إنه بعد
الوصول إلى هذا المكان اتفق وقوع النظر على جملة من الأخبار الظاهرة فيما ذهب إليه
الشيخ زيادة على رواية السكوني التي طعنوا فيها بضعف السند.
ومنها ما رواه الكافي
عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : فرجل طلق امرأته من هؤلاء ولي بها حاجة
، قال : فيلقاه بعد ما طلقها وانقضت عدتها عند صاحبها فتقول له : أطلقت فلانة؟
فإذا قال نعم فقد صار تطليقة على طهر ، فدعها من حين طلقها تلك التطليقة حتى تنقضي
عدتها ، ثم تزوجها ، فقد صارت تطليقة بائنة».
وما رواه في
الكافي والفقيه في الحسن أو الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل طلق امرأته ثلاثا فأراد رجل أن يتزوجها ، فكيف يصنع؟ فقال : يدعها
حتى تحيض وتطهر ، ثم يأتيه ومعه رجلان شاهدان فيقول : أطلقت فلانة؟ فإذا قال نعم
تركها ثلاثة أشهر ، ثم خطبها إلى نفسه».
وما رواه في
التهذيب عن إسحاق بن عمار في الموثق «في الرجل يريد
__________________
أن يتزوج المرأة وقد طلقت ثلاثا فأراد رجل أن يتزوجها ، كيف يصنع فيها؟ قال
: يدعها حتى تطهر ، ثم يأتي زوجها ومعه رجلان يقول : قد طلقت فلانة؟» الحديث. كما
في سابقه.
وعن حفص بن
البختري في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل طلق امرأته ثلاثة ، فأراد رجل أن يتزوجها ، كيف يصنع؟ قال : يأتيه
فيقول : طلقت فلانة؟ فإذا قال نعم تركها ثلاثة أشهر ، ثم خطبها إلى نفسه».
أقول : قد
اشتركت هذه الأخبار مع تعددها وقوة أسانيدها في الدلالة على وقوع الطلاق بلفظ نعم
بعد السؤال عن أنه هل طلق أم لا ، وأن ذلك يقع طلقة واحدة بقرينة الأمر بإحضار
الشاهدين بسماع ذلك ، وإيجاب العدة بعد سماع ذلك من الزوج. ومن الظاهر البين
الظهور أن لفظ نعم هنا إنما وقع جوابا للسؤال عن طلاق سابق ، وأن الزوج المخبر
بقوله نعم إنما قصد ذلك ، لا أنه قصد الإنشاء ، لأن المفروض في الاخبار أنه مخالف
، وقد طلقها بمقتضى مذهبه ، واللازم من ذلك صحة الطلاق الثاني من غير اعتبار قصد
الإنشاء ، وفيه رد على الأصحاب فيما ادعوه من وجوب قصد الإنشاء في صحة الطلاق ، فإنه
عليهالسلام قد حكم بصحة الطلاق في هذه الأخبار مع معلومية قصد
الاخبار كما عرفت ، وهذا مما يؤكد ما قدمناه ذكره في غير موضع سيما في كتب المعاملات
من أنه ينبغي أن يكون المدار على ما ترد به الأخبار وإن خالف ذلك مقتضى قواعدهم
المقررة وضوابطهم المعتبرة.
ولو ادعى إرادة
الإنشاء بعد التلفظ بهذا القول فمقتضى قواعد الأصحاب وبه صرح بعضهم قبول قوله ،
لأنه منوط بنيته ، ولا يمكن استعلام ذلك إلا منه كما تقدم مثله مرارا.
__________________
(ومنها) أن
الشيخ في النهاية قال : وينوب مناب قوله أنت طالق بغير العربية بأي لسان كان فإنه
تحصل به الفرقة ، وأطلق. ونحوه كلام ابن حمزة وابن البراج وغيرهما ، وقال ابن
إدريس : وما ينوب مناب قوله أنت طالق بغير العربية بأي لسان كان فإنه تحصل به
الفرقة إذا تعذر عليه لفظ العربية ، فأما إذا كان قادرا على التلفظ بالطلاق
بالعربية فطلق بلسان غيرها ، فلا تقع الفرقة بذلك ، لأنه ليس عليه دليل ، والأصل
بقاء العقد.
احتج الشيخ على
ما نقل عنه ، بأن المقصود في المحاورات بالذات إنما هو المعاني دون الألفاظ ،
لأنها دلائل ، ونسبة الألفاظ متساوية ، وبما رواه وهب ابن وهب عن جعفر عن أبيه عن علي عليهمالسلام قال : «كل طلاق بكل لسان فهو طلاق».
وقال في
المختلف بعد أن نقل احتجاج الشيخ المذكور ونقل عن ابن إدريس الاحتجاج بأن الأصل
عصمة الفروج ، والاستصحاب يدل على بقاء العقد ، والفرقة أمر شرعي ولم يثبت ، ونحن
في هذه المسألة من المتوقفين.
أقول : والعجب
منه ـ قدسسره ـ من توقفه في هذه المسألة مع أن مقتضى اصطلاحه الحكم
بضعف الرواية المذكورة ، سيما وراويها أكذب البرية ، وهو يرد الروايات الموثقات بل
الحسنة في بعض الأوقات ، اعتمادا على هذا الاصطلاح ، فما باله يتوقف هنا ، وأدلة
ابن إدريس واضحة الظهور ، وموافقة للقواعد الشرعية ، لو لا ظاهر الرواية المذكورة
، على أن الرواية غير صريحة في المدعى ، وظاهرها إنما هو عدم إمكان العربية ، لأن
الظاهر أن المراد منها إنما هو أن أهل كل لسان من عربي أو عجمي أو تركي أو نحوها
فله أن يطلق بلسانه ، ومن الغالب اختصاص أهل كل لسان بذلك اللسان لا يتجاوزونه إلى
غيره ، ومعرفة بعضهم لألسن متعددة أمر على خلاف الغالب لا يحمل عليه الإطلاق.
وما ذهب إليه
ابن إدريس هو المشهور بين المتأخرين كما نقله في المسالك ،
__________________
وزاد في الاحتجاج على ما ذكره ابن إدريس بأن اللفظ العربي هو الوارد في
القرآن والأخبار المتكرر في لسان أهل الشرع ، والظاهر هو ما ذهب إليه ابن إدريس
لما عرفت ، وما علل به الشيخ من قوله «إن المقصود في المحاورات بالذات هو المعاني
دون الألفاظ» وأورد عليه في سائر العقود ، وهو لا يقول به.
وثالثها : أنه لا خلاف بين الأصحاب في عدم وقوع الطلاق بالكتابة من الحاضر القادر
على النطق ، إنما الخلاف في أنه هل يقع من الغائب القادر على اللفظ أم لا؟
فالمشهور العدم ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط والخلاف مدعيا عليه الإجماع ، وقال في
النهاية ، فإن كتب بيده أنه طلق امرأته وهو حاضر ليس بغائب لم يقع الطلاق ، فإن
كان غائبا وكتب بخطه أن فلانة طالق وقع الطلاق ، وإن قال لغيره : اكتب إلى فلانة
امرأتي بطلاقها لم يقع الطلاق. فإن طلقها بالقول ثم قال لغيره اكتب إليها بالطلاق
كان الطلاق واقعا بالقول دون الأمر ، وتبعه على ذلك جملة من أتباعه ، والأصل في
هذا الاختلاف اختلاف أخبار المسألة.
والذي وقفت عليه
منها ما رواه في الكافي والفقيه عن أبي حمزة الثمالي في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل قال لرجل : اكتب يا فلان إلى امرأتي بطلاقها ،
أو اكتب إلى عبدي بعتقه ، يكون ذلك طلاقا أو عتقا؟ فقال : لا يكون طلاقا ولا عتقا
حتى ينطق به بلسانه ، أو يخطه بيده وهو يريد به الطلاق أو العتق ، ويكون ذلك منه
بالأهلة والشهور ، ويكون غائبا عن أهله». أقول : وهذه الرواية هي مستند الشيخ في
النهاية ومن تبعه.
وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر
__________________
عليهالسلام : رجل كتب بطلاق امرأته أو بعتق غلامه ، ثم بدا له
فمحاه ، قال : ليس ذلك بطلاق ولا عتاق حتى يتكلم به».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن ابن أذينة قال : «سألته عن رجل كتب إلى امرأته بطلاقها أو
كتب بعتق مملوكه ولم ينطق به لسانه ، قال : ليس بشيء حتى ينطق به».
وما رواه بسند
آخر عن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل» الحديث.
وأجاب العلامة
في المختلف عن صحيحة الثمالي بالحمل على حالة الاضطرار ، قال : وتكون لفظة «أو»
للتفصيل لا للتخيير ، لا يقال : هذه الرواية مختصة بالغائب ، والرواية الأولى
مطلقة ، والمقيد مقدم ، لأنا نقول : الغيبة والحضور لا تأثير لهما في السبب ، فإنا
نعلم أن اللفظ لما كان سببا في البينونة استوى إيقاعه من الغائب والحاضر ، وكذا
الكتابة لو كانت سببا لتساوي الحال فيهما ، مع أن في روايتنا ترجيحا بسبب موافقته
للأصل ، وتأيدها بالنظر والشهرة في العمل ، انتهى.
واعترضه في
المسالك فقال : وفيه نظر ، لأن الرواية صريحة في أن المطلق يقدر على التلفظ ، لأنه
قال : اكتب يا فلان إلى امرأتي بطلاقها. إلخ ، فلا وجه لحمله على حالة الاضطرار ،
ومع ذلك ففي هذه الرواية ترجيح على السابقة لصحة سندها ، وأنها مقيدة بالنية
والغيبة وتلك مطلقة فيهما ، فجاز كون منعه من وقوع الطلاق لعدم النية بالكتابة ،
أو لعدم العلم بالنية ، أو يحمل على حال الحضور جمعا ، على أنه مع ثبوت المرجح لا
ضرورة إلى الجمع. وأما ما قيل : إن الغيبة والحضور لا تأثير لهما في السببية فهو
مصادرة ومحضة ، لأن الخصم يدعي
__________________
الفرق ، ويحتج عليه بالخبر الصحيح ، وهو الفارق بين الكتابة واللفظ المشترك
في السببية بين الغائب والحاضر ، فكيف يدعى عدم تأثير الغيبة والحضور؟ وبذلك انقطع
الأصل الذي ادعوه ، وثبت سببية الطلاق.
وأما دعوى ترجيح
الأول بموافقة الأصل والشهرة في العمل ففيه : أن الصحيح مقدم على الحسن ، فلا
تعارض ، ثم إن المقيد مقدم على المطلق ، انتهى.
أقول : ما ذكره
ـ رحمهالله ـ وإن ترائي أنه جيد ، ولذا تبعه فيه جملة ممن تأخر عنه
كالمحدث الكاشاني في المفاتيح والفاضل الخراساني في الكفاية ، إلا أنه لا يخفى على
المتتبع أن الذي عهد من الشارع في أبواب العقود والإيقاعات والإقرارات ونحوها إنما
هو الألفاظ والأقوال الدالة على هذه المعاني دون مجرد الكتابة ، ولهذا لم يجوزها
أحد بالكتابة ، ويبعد اختصاص الطلاق بهذا الحكم لعدم ظهور خصوصيته له بذلك ،
ويعضده ما ورد في بعض الأخبار إنما يحرم الكلام ، ويؤكده أيضا الحصر في أنت طالق
المستفاد من الروايات المتقدمة حسبما تقدم تحقيقه ، فإنه كما يكون الحصر في هذه
الصيغة موجبا لنفي ما سواها من الصيغ اللفظية فكذلك الكتابة ، لأنها عندهم من جملة
الصيغ الموجبة للطلاق. هذا مع ما في تحقق الشهادة في هذه الصورة من الإشكال ، فإن
الإشهاد إنما يطلق حقيقة على سماع لفظ الطلاق من المطلق ، فإنه بمجرد سماع ذلك منه
يجب بشهادة الشاهدين الحكم عليه بوقوع الطلاق.
وأما في
الكتابة حيث قيدوها بالقصد إلى الطلاق الذي لا يعلم إلا بإقراره واعترافه ، فيشكل
الشهادة على مجرد رؤية الكتابة حال الكتابة أو بعدها ، على أن ما ذكره من جواز كون
منعه عليهالسلام من وقوع الطلاق لعدم النية بالكتابة ، أو لعدم العلم
بالنية أو الحضور جمعا بين الأخبار مدخول بأن قوله عليهالسلام «ليس ذلك بطلاق حتى يتكلم به في صحيحة زرارة ، وقوله في صحيحة ابن أذينة «ليس
بشيء حتى ينطق به» ظاهر في أن عدم الصحة إنما استند إلى عدم النطق والتكلم
ـ نوى أو لم ينو ، حفر أو غاب ، علمت البينة (النية خ ل) أم لا ـ لا إلى
عدم النية أو عدم العلم بها أو عدم الحضور كما ادعاه ، وأن المدار إنما هو على
النطق ، والكلام وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لذوي الأفهام ، وبه يظهر بطلان ما
ادعاه من الجمع في المقام.
وهل يشترط في
الشهادة أيضا رؤية حال الكتابة أو يكفي رؤيتها بعد ذلك ، قال في المسالك : وجهان ،
والأول لا يخلو من قوة ، لأن ابتداءها هو القائم مقام اللفظ لا استدامتها ، وإنما
تعلم النية بإقراره ، ولو شك فيها فالأصل عدمها ، وحينئذ فتكون الكتابة كالكناية ،
ومن ثم ردها الأصحاب مطلقا اطرادا للقاعدة مع أنهم نقضوها في مواضع كما ترى.
أقول : وهذا
أيضا مما يوهن هذا القول لما صرحوا به بل أجمعوا عليه من اشتراط الصراحة في صيغة
الطلاق وعدم جواز وقوعه بالكتابة.
وبالجملة
فالمسألة عندي محل توقف ، ولعل الخبر المذكور إنما خرج مخرج التقية ، ولا يحضرني
الآن أقوال العامة في المسألة ، فليلاحظ ذلك.
قال في المسالك
: ولا فرق في الغائب بين البعيد بمسافة القصر وعدمه ، مع احتمال شموله للغائب عن
المجلس لعموم النص ، والأقوى اعتبار الغيبة عرفا ، ولتكن الكتابة للكلام المعتبر
في صحة الطلاق كقوله : فلانة طالق ، أو يكتب إليها : أنت طالق ، ولو علقه بشرط
كقوله : إذا قرأت كتابي فأنت طالق ، فكتعليق اللفظ.
أقول : احتمال
شموله للغائب عن المجلس غير جيد ، فإن النص وهو صحيحة الثمالي تضمن الغائب عن أهله
، وهو لا يصدق إلا على المسافر عن بلده. نعم لو كان بلفظ الغائب خاصة ، لربما أمكن
ما ذكره.
وأما ما ذكره
من كون الكتابة بالكلام المعتبر في صحة الطلاق كقوله فلانة طالق ففيه : أن تعين
هذه الصيغة بمقتضى الدليل إنما هو بالنسبة إلى
التلفظ بالطلاق ، وأما أحاديث الكتابة فهي مطلقة وتخصيصها يحتاج إلى دليل ،
وكما خرج عن أخبار وجوب اللفظ بهذا الخبر فليخرج عنها أيضا بالعمل بإطلاق هذه
الأخبار من إيقاع الكتابة بأي لفظ من هذه المادة عملا بإطلاق الأخبار المذكورة والتقييد
إنما ثبت في العبارة اللفظية.
إتمام
نعم لو تعذر
النطق كفت الكتابة والإشارة من غير خلاف يعرف ، ومنه الأخرس ، فيصح طلاقه بذلك كما
تصح سائر عقوده وأقاريره وعباراته ، ولا بد من فهم الشاهدين ذلك منه ليحكم عليه به
، والظاهر تقديم الكتابة إذا كان ممن يكتب على الإشارة كما اختاره ابن إدريس ،
لأنها أقوى في الدلالة على المراد ، لكن لا بد أن يفهم أنه نوى بها الطلاق.
ومن الأخبار
الواردة في المقام ما رواه المشايخ الثلاثة عن البزنطي في الصحيح في بعض الطرق قال : «سألت الرضا عليهالسلام عن الرجل تكون عنده المرأة ثم يصمت ولا يتكلم ، قال :
يكون أخرس؟ قلت : نعم ، فيعلم منه بغضا لامرأته وكراهته لها ، أيجوز أن يطلق عنه
وليه؟ قال : لا ، ولكن يكتب ويشهد على ذلك ، قلت :
أصلحك الله
فإنه لا يكتب ولا يسمع كيف يطلقها؟ قال : بالذي يعرف منه به من فعاله ، مثل ما
ذكرت من كراهته وبغضه لها».
وما رواه في
الكافي عن أبان بن عثمان قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن طلاق الأخرس ، قال : يلف قناعها على رأسها ويجذبه».
__________________
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها فيضعها على رأسها
ويعتزلها».
ورواه الشيخ بسند آخر عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله.
وما رواه في الكافي
عن يونس «في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته فقال : إذا فعل في قبل
الطهر بشهود ، وفهم عنه كما يفهم عن مثله ويريد الطلاق جاز طلاقه على السنة».
وهذه الأخبار
كلها متفقة الدلالة على ما ذكره ، ونقل عن الصدوقين وجماعة من الأصحاب أنهم
اعتبروا فيه إلقاء القناع على المرأة ، يري أنها قد حرمت عليه لرواية السكوني وأبي
بصير ، ومنهم من خير بين الإشارة وإلقاء القناع ، ومنهم من جمع بينهما ، والتحقيق
الاكتفاء بما يفهم ذلك كائنا ما كان ، وذكر بعض الأفراد في الأخبار إنما خرج مخرج
التمثيل.
ورابعها : أنه لا خلاف بين علماء العامة في صحة التخيير بمعنى تفويض الزوج أمر
الطلاق إلى المرأة وتخييرها في نفسها قاصدا بذلك الطلاق ، فإذا اختارت نفسها وقع
الطلاق ، وأن ذلك بمنزلة توكيلها في طلاق نفسها ، فالتخيير كناية عن ذلك ، واحتجوا
بآية التخيير النازلة على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد اعتزاله أزواجه.
وأما أصحابنا
فقد اختلفوا في ذلك ، فذهب جمع منهم ابن الجنيد وابن أبي عقيل والسيد المرتضى ،
ونقل عن ظاهر الصدوق إلى وقوع الطلاق به إذا اختارت نفسها بعد تخييره لها على
الفور مع اجتماع الشرائط من الاستبراء وسماع الشاهدين ،
__________________
والمشهور ـ وهو
مذهب الشيخ ، وبه صرح الشيخ علي بن بابويه في الرسالة وجملة المتأخرين ـ عدم وقوع
الطلاق به.
قال ابن الجنيد
على ما نقله في المختلف : إذا أراد الرجل أن يخير امرأته اعتزلها شهرا وكان على
طهر من غير جماع في مثل الحالة التي لو أراد أن يطلقها فيه طلقها ، ثم خيرها فقال
لها : قد خيرتك أو جعلت أمرك إليك ، ويجب أن يكون ذلك بشهادة ، فإن اختارت نفسها
من غير أن تشاغل بحديث من قول أو فعل كان يمكنها أن لا تفعل صح اختيارها ، وإن
اختارت بعد فعلها ذلك لم يكن اختيارها ماضيا ، وإن اختارت في جواب قوله لها ذلك
وكان مدخولا بها وكان تخييره إياها عن غير عوض أخذه منها كان كالتطليقة الواحدة
التي هو أحق برجعتها في عدتها ، وإن كانت غير مدخول بها فهي تطليقة بائنة ، وإن
كان تخييره عن عوض فهي بائن وهي أملك بنفسها ، وإن جعل الاختيار إلى وقت معينة
واختارت قبله جاز اختيارها ، وإن اختارت بعده لم يجز.
وقال ابن أبي
عقيل : والخيار عند آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخير الرجل امرأته ويجعل أمرها إليها في أن تختار
نفسها أو تختاره بشهادة شاهدين في قبل عدتها ، فإن اختارت المرأة نفسها في المجلس
فهي تطليقة واحدة وهو أملك برجعتها ما دامت لم تنقض عدتها ، وإن اختارت فليس بطلاق
، ولو تفارقا ثم اختارت المرأة نفسها لم يقع شيء ، ولو قال لها : قد جعلت أمرك
بيدك فاختاري نفسك في مجلسك ، فسكتت أو تحولت عن مجلسها بطل اختيارها بترك ذلك ،
وإن سمى الرجل في الاختيار وقتا معلوما ثم رجع عنه قبل بلوغ الوقت كان ذلك له ،
وليس يجوز للزوج أن يخيرها أكثر من واحدة بعد واحدة ، وخيار بعد خيار بطهر وشاهدين
، فإن خيرها أكثر من واحدة أو خيرها أو تخير نفسها في غير عدتها كان ذلك ساقطا غير
جائز ، وإن خير الرجل أباها أو أخاها أو أحد من أوليائها كان اختيارها.
وقال الشيخ علي
بن بابويه : ولا يقع الطلاق بإجبار ولا إكراه ولا على
شك ، فمنه طلاق السنة ، وطلاق العدة ـ إلى أن قال : ـ ومنه التخيير. ولما
بحث عن تلك الأقسام إلى أن وصل إلى التخيير فقال : وأما التخيير فأصل ذلك : إن الله عزوجل أنف لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم بمقالة قالها بعض نسائه : أترى محمدا لو طلقنا لا نجد
أكفاءنا من قريش يتزوجونا ، فأمر الله عزوجل نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعتزل نساءه تسعة وعشرين يوما ، فاعتزلهن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في مشربة أم إبراهيم ثم نزلت هذه الآية «يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً»
فاخترن الله ورسوله فلم يقع طلاق.
هذا ما حضرني
من عبائر المتقدمين ، والواجب أولا نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم الكلام
فيها بما يسر الله عزوجل فهمه منها وجمعها على وجه يرسل به غشاوة الاختلاف عنها.
فمنها ما رواه الصدوق
في الفقيه في الصحيح عن ابن أذينة عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا خيرها وجعل أمرها بيدها في قبل عدتها من غير
أن يشهد شاهدين فليس بشيء ، وإن خيرها وجعل أمرها بيدها بشهادة شاهدين في قبل
عدتها فهي بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن اختارت نفسها فهي واحدة ، وهو أحق برجعتها ،
وإن اختارت زوجها فليس بطلاق».
وما رواه في
الكتاب المذكور عن ابن مسكان عن الصيقل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الطلاق أن يقول الرجل لامرأته : اختاري ، فإن
اختارت نفسها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب ، وإن اختارت زوجها فليس بشيء ، أو
يقول : أنت طالق ، فأي ذلك فعل فقد حرمت عليه ، ولا يكون طلاق ولا خلع ولا مباراة
__________________
ولا تخير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين».
وعن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يخير امرأته أو أباها أو وليها ، فقال : كلهم بمنزلة واحدة إذا
رضيت».
وعن الحسن بن
محبوب عن جميل بن صالح عن الفضيل بن يسار في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل قال لامرأته : قد جعلت الخيار إليك ، فاختارت
نفسها قبل أن يقوم ، قال : يجوز ذلك عليه. قلت : فلها متعة؟ قال : نعم. قلت : فلها
ميراث إن مات الزوج قبل أن تنقضي عدتها؟ قال : نعم ، وإن ماتت هي ورثها الزوج».
وأقول : ولتفرد
صاحب الفقيه بهذه الأخبار نسب إليه القول بمضمونها كما تقدمت الإشارة إليه.
وما رواه في
التهذيب عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قلت له : رجل خير امرأته ، قال : إنما الخيار
لها ما داما في مجلسهما ، فإذا افترقا فلا خيار لها».
وبسند آخر عن
زرارة مثله ، وزاد «أصلحك الله ، فإن طلقت نفسها ثلاثا قبل أن يتفرقا من مجلسهما؟
قال : لا يكون أكثر من واحدة ، وهو أحق برجعتها قبل أن تنقضي عدتها ، قد خير رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نساءه فاخترنه ، فكان ذلك طلاقا ، قال : فقلت له : لو
اخترن أنفسهن؟ فقال : ما ظنك برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لو اخترن أنفسهن أكان يمسكهن».
وعن زرارة
ومحمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : «لا خيار إلا على طهر من غير جماع بشهود».
وعن زرارة عن أحدهما عليهماالسلام قال : «إذا اختارت نفسها فهي تطليقة
__________________
بائنة ، وهو خطاب من الخطاب ، وإن اختارت زوجها فلا شيء».
وعن بريد
الكناسي عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «لا ترث المخيرة من زوجها شيئا من عدتها ، لأن
العصمة قد انقطعت فيما بينها وبين زوجها من ساعتها ، فلا رجعة له عليها ولا ميراث
بينهما».
وعن حمران في الحسن قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : المخيرة تبين من ساعتها من غير طلاق ولا ميراث
بينهما ، لأن العصمة منها قد بانت ساعة كان ذلك منها ومن الزوج».
أقول : وهذه
الأخبار وما في معناها هي أدلة القول الآخر في المسألة.
وأما ما يدل
على القول المشهور وهو المؤيد المنصور كما سيظهر لك إن شاء الله غاية الظهور فمنها
:
ما رواه في
الكافي في الموثق عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها ، بانت
منه؟ فقال : لا ، إنما هذا شيء كان لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصة أمر بذلك ففعل ، ولو اخترن أنفسهن لطلقهن ، وهو
قول الله عزوجل «قُلْ لِأَزْواجِكَ
إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً».
أقول : ظاهر الخبر
المذكور أنه لا بد بعد اختيارها نفسها من الطلاق من الزوج ، لا أنها تبين بمجرد
الاختيار أو يحصل الطلاق بذلك ، بل لا بد من اتباعه بالطلاق ، وأنه صلىاللهعليهوآله لو اخترن أنفسهن لطلقهن ، ولا يخفى أن ظاهر الآية
المذكورة ذلك ، إلا أنه مناف لأخبار المسألة كما عرفت وتعرف ، إلا أن يقال :
__________________
إن هذا إنما هو بالنسبة إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم كما هو مورد الخبر ، لكن الظاهر أنه لا قائل بالفرق.
قال الشيخ في
كتابي الأخبار بعد نقل هذا الخبر : قال الحسن بن سماعة : وبهذا الخبر
تأخذ في الخيار.
وما رواه في
الكافي عن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الخيار ، فقال : وما هو وما ذاك؟ إنما ذاك شيء كان
لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم».
وعن محمد بن
مسلم في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إني سمعت أباك يقول : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خير نساءه فاخترن الله ورسوله فلم يمسكهن على الطلاق
ولو اخترن أنفسهن لبن ، فقال : إن هذا حديث كان أبي يرويه عن عائشة : وما للناس
والخيار ، إنما هذا شيء خص الله عزوجل به رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم».
أقول : لعل
الوجه في نسبته عليهالسلام هذا الخبر إلى رواية أبيه عليهالسلام عن عائشة المؤذن بكذبه هو ما اشتمل عليه من أنهن لو
اخترن أنفسهن لبن ، حيث إن ظاهر الخبر الأول الاحتياج إلى الطلاق بعد الاختيار ،
وإلا فإنه ليس فيما نقله زرارة عن أبيه عليهالسلام ما يخالف الواقع في القصة.
وما رواه في
الكافي عن زرارة في الموثق قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : إن الله عزوجل أنف لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن مقالة قالتها بعض نسائه ، فأنزل الله تعالى آية
التخيير ، فاعتزل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تسعة وعشرين ليلة في مشربة أم إبراهيم ، ثم دعاهن
فخيرهن فاخترنه فلم يك شيئا ، فلو اخترن أنفسهن كانت واحدة بائنة. قال : وسألته عن
مقالة المرأة ما هي؟ قال : فقال : إنها قالت «ترى محمدا» أنه لو طلقنا إنه لا
يأتينا الأكفاء من قومنا يتزوجونا».
__________________
وعن محمد بن
مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل إذا خير امرأته ، فقال : إنما الخيرة لنا ليس لأحد ، وإنما خير
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمكان عائشة ، فاخترن الله ورسوله ، ولم يكن لهن أن
يخيرن غير رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم».
قوله عليهالسلام «إنما الخيرة لنا» يعني باعتبار اختصاص ذلك برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومنزلتهم معه واحدة. وقوله «لمكان عائشة» قيل في معناه
: إنه لما لم يطلقهن بل خيرهن لأنه صلىاللهعليهوآله كان يحب عائشة لحسنها وجمالها ، وكان يعلم أنهن لا
يخترن غيره لحرمة الأزواج عليهن. أو أن السبب الأعظم في هذه القضية كان سوء معاشرة
عائشة ، وقلة احترامها له صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي بعد أن ذكر في صدر البحث أقسام الطلاق إجمالا : وإن منه
طلاق السنة وطلاق العدة وطلاق الغلام ـ ثم شرح هذه الأشياء كلا على حدة إلى أن قال
: ـ وأما التخيير فأصل ذلك أن الله أنف لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم بمقالة قالتها بعض نسائه ، إلى آخر ما في عبارة الشيخ
علي بن بابويه ـ رحمهالله ـ حيث إنها مأخوذة من الكتاب المذكور على ما عرفت في
غير موضع مما تقدم.
أقول : والأقرب
عندي هو القول المشهور لوجوه : (أحدها) أن مقتضى القاعدة المنصوصة ـ المتفق على
ورودها عنهم عليهمالسلام من عرض الأخبار مع الاختلاف بل بدونه على مذهب العامة
والأخذ بخلافه ـ هو حمل أخبار الوقوع على التقية ، ولذلك أن الشيخ أيضا حملها على
ذلك ، لاتفاق العامة على ما دلت هذه الأخبار عليه ، ويؤيده اختلاف الأخبار
باختلافهم في أحكامه من كونه طلاقا رجعيا أو بائنا ونحو ذلك.
(وثانيها) أنه
مع العمل بأخبار الوقوع فإنه يلزم طرح الأخبار الدالة على العدم ، إذ لا محمل لها
، ومن القواعد المقررة عندهم أن إعمال الدليلين مهما
__________________
أمكن أولى من طرح أحدهما.
(وثالثها) تأيد
أخبار المنع بجملة من الأخبار الدالة على عدم صحة تفويض أمثال ذلك إلى النساء.
ومنها ما رواه في
الكافي عن الحسن بن علي بن فضال عن بعض أصحابنا عن أبي عبد
الله عليهالسلام «في امرأة نكحها رجل فأصدقته المرأة واشترطت عليه أن بيدها الجماع والطلاق
فقال : خالف السنة وولى الحق من ليس أهله ، وقضى أن على الرجل الطلاق ، وأن بيده
الجماع والطلاق ، وتلك السنة».
وما رواه في
الفقيه والتهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قضى علي عليهالسلام في رجل تزوج امرأة وأصدقها واشترطت أن بيدها الجماع
والطلاق ، قال : خالف السنة وولت الحق من ليس بأهله ، قال : قضى أن على الرجل
النفقة ، وبيده الجماع والطلاق ، وذلك السنة».
أقول : في
الفقيه «فأصدقته» مكان «فأصدقها وأن عليه الصداق» بدل «على الرجل النفقة».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن مروان بن مسلم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها؟ قال
: فقال : ولى الأمر من ليس أهله وخالف السنة ولم يجز النكاح».
وقد اشتركت هذه
الأخبار في الدلالة على أن جعل الطلاق بيد المرأة خلاف
__________________
السنة النبوية والشريعة المحمدية صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فكل ما خالفها فهو باطل البتة ، حتى أنه عليهالسلام في الحديث الأخير حكم ببطلان النكاح ، ومورده كما ترى
مورد تلك الأخبار لأنه قال فيه : «إنه جعل أمر امرأته بيدها» وهذا هو معنى التخيير
فهو أصرح الأخبار في بطلان التخيير ، إذ لو كان ذلك سائغا كما يدعونه لصح شرطه في
العقد ولم يحكم ببطلان النكاح ، والخبر كما ترى على خلافه.
وظاهر شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك ـ باعتبار تصلبه في العمل بهذا الاصطلاح المحدث ـ ترجيح
القول بالوقوع لرجحان أخباره بالكثرة والصحة والصراحة ، قال ـ رحمهالله ـ : وأجاب المانعون عن الأخبار الدالة على الوقوع
بحملها على التقية ، ولو نظروا إلى أنها أكثر وأوضح سندا وأظهر دلالة لكان أجود ،
ووجه الأول واضح ، والثاني أن فيها الصحيح والحسن والموثق ، وليس فيها ضعيف ،
بخلاف أخبار المنع ، فإن فيها الضعيف والمرسل والمجهول.
أقول : لا يخفى
أن الحمل على التقية لا تنافيه صحة الأخبار وتكاثرها ، بل لو ادعي كون ذلك مؤكدا
للحمل على التقية لكان أقرب لشيوع التقية وخفاء الحق الواقعي بتلك البلية ، فلا
جرم قلت أخباره وقل انتشاره على أن هذا الاصطلاح المحدث لا وجود له عند أصحابنا
المتقدمين ، بل الأخبار كلها صحيحة عندهم بهذا الاعتبار ، وإنما الضعف بوجوه أخر
لا تعلق لها بالسند كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب في أول جلد كتاب الطهارة ، والقاعدة المروية عنهم عليهمالسلام في تعارض الأخبار صادقة على الجميع ، لا اختصاص لها
بمادة دون اخرى ، ولا ريب في صدقها على ما نحن فيه ، فيجب العمل بمقتضاها ، إلا
أنه لما كانت هذه القاعدة مطرحة في كلامهم ـ كما لا يخفى على من خاض بحور نقضهم
__________________
وإبرامهم ـ وأن بما اخترعوا لهم في الجمع بين الأخبار ولا وجود لها في
السنة ولا في الكتاب من حمل النواهي الكراهة والأوامر على الاستحباب ، ضربوا عنها
صفحا ، وطووا عنها كشحا بمثل هذه التعليلات العليلة ونحوها.
تفريعات على القول بالتخيير
الأول : أنه هل
يكون الطلاق الواقع بالتخيير إذا اختارت نفسها طلاقا رجعيا أم بائنا؟ ظاهر عبارة
ابن أبي عقيل المتقدمة أنه يكون رجعيا ، وعليه تدل من أخبار التخيير المتقدمة
صحيحة محمد بن مسلم المروية في الفقيه ، لقوله فيها ، «وهو أحق برجعتها» ونحوها
صحيحة الفضيل بن يسار لحكمه فيها بالموارثة التي هي فرع بقاء الزوجية ، ورواية
زرارة لقوله فيها «وهو أحق برجعتها قبل أن تنقضي عدتها».
وقيل : إنها
تكون بائنة ، وعليه تدل من الأخبار المذكورة رواية الصيقل ، لقوله فيها «فإن
اختارت نفسها فقد بانت منه ، وهو خاطب من الخطاب» ورواية زرارة الأخرى لقوله فيها «إذا
اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة ، وهو خاطب من الخطاب» ورواية بريد الكناسي ، وهي
أصرح الجميع ، ونحوها حسنة حمران ، والظاهر أن هذا الاختلاف في هذه الأخبار منشؤه
اختلاف العامة في ذلك ، ولكن لا يحضرني الآن نقل مذاهبهم ، إلا أنك لما عرفت أن
هذه الأخبار إنما خرجت مخرج التقية وجميع ما تضمنته إنما هو من أقوالهم ، فالظاهر
أن منشأ هذا الاختلاف فيها هو ما ذكرناه.
وكيف كان فهو
مما يوهن التمسك بها والاعتماد عليها إذ لا حاجة للجمع بينها في ذلك ، فلم يبق إلا
تعارضها وتساقطها.
وظاهر كلام ابن
الجنيد المتقدم أن كون ذلك رجعيا أو بائنا إنما هو باعتبار أمر آخر ، وهو أنه إن
كان التخيير بعوض كان بائنا ، كالطلاق بالعوض وإلا كان رجعيا.
قال في المسالك
: وفيه جمع بين الأخبار ، وفيه أنه لا يكاد يشم لهذا التفصيل ولا لهذا العوض رائحة
في الأخبار بالكلية ، وكيف يكون جمعا بينها مع أنه لا إشارة في شيء من الأخبار
إليه فضلا عن الدلالة الظاهرة عليه ، بل ظاهر سياق الأخبار المذكورة بل صريحها أن
كلا من الأمرين إنما يترتب على مجرد التخيير ، ولا دليل على العوض بالكلية ولا
سيما رواية بريد الكناسي وحسنة حمران ، فإنهما تناديان بأوضح دلالة على أن نفي
الميراث وانقطاع العصمة والبينونة وعدم الرجعة إنما يترتب على اختيارها نفسها خاصة
، ودعوى كون ذلك بعوض إنما هو من قبيل الرمي في الظلام والقياس في الأحكام الذي
منعت منه شريعة الملك العلام ، إذ مرجع ما ذكروه إنما هو إلى أنه حيث ثبت ذلك في
الطلاق بعوض أثبتناه في التخيير إذا كان ثمة عوض بل هذا أشد بعدا لعدم الجامع بين
المقيس والمقاس عليه.
وبالجملة فإن
بعد هذا القول في المقام مما لا يخفى على ذوي الأفهام ، إلا أن شيخنا المذكور لما
كان مائلا إلى القول بالتخيير كما عرفت تشبث في الذب عنه بذلك.
وأما قوله أيضا
على أثر ما تقدم ـ ويمكن الجمع بينها بحمل البائن على تخيير من لا عدة لها كغير
المدخول بها واليائسة والرجعي على من لها عدة رجعية لأن التخيير جائز للجميع على
القول به ـ فهو في البعد مثل سابقه ، فإن سياق أخبار التخيير ينادي بأفصح لسان
وأوضح بيان بأن ما تضمنته تلك الأخبار من الأحكام إنما ترتب على التخيير ، بمعنى
أنه متى خيرها واختارت نفسها لزم كذا وكذا ، أعم من أن تكون ذات عدة أم لا ،
ومقتضى ما ذكره من احتمال الجمع بما ذكر إنما هو ترتب البينونة وعدم الإرث وعدم
الرجعة على عدم الدخول بها أو على كونها يائسة ، والأخبار خالية من الاشعار به ،
بل ظاهرها كما عرفت إنما هو ترتب ذلك على مجرد التخيير ، وبالجملة فإن مقتضى إطلاق
هذه الأخبار
هو ما ذكرناه ، والتخصيص يحتاج إلى دليل وليس فليس.
الثاني : عبارة
ابن أبي عقيل المتقدمة اشتراط وقوع الخيار في المجلس قبل التفرق لقوله «وإن اختارت
نفسها في المجلس فهي تطليقة واحدة» وعليه تدل رواية زرارة لقوله فيها «إنما الخيار
لها ما داما في المجلس فإذا افترقا فلا خيار لها» وصحيحة محمد بن مسلم وهي الأولى
لقوله فيها «فهي بالخيار ما لم يتفرقا» وقوله في صحيحة الفضيل بن يسار «واختارت
نفسها قبل أن تقوم» وهو وإن كان في كلام الراوي ، إلا أن الحجة تقرير الامام عليهالسلام ، وإطلاق المجلس يقتضي عدم الفرق بين طول المجلس وقصره
، وعدم الفرق بين تخلل كلام أجنبي بين التخيير والاختيار أم لا.
لكن الظاهر من
عبارة ابن الجنيد هو اتصال الاختيار بالتخيير اتصالا عرفيا بمعنى عدم ضرر الفصل
بالسعال ونحوه من الفصل القليل ، لقوله «فإن اختارت نفسها من غير أن تشاغل بحديث
من قول أو فعل كان يمكنها أن لا تفعله صح اختيارها ، وإن اختارت بعد فعلها ذلك لم
يكن اختيارها ماضيا. انتهى وظاهره فورية التخيير ، وعلى هذا يكون المجلس كناية عن
هذا الاتصال العرفي إلا أنه ينافيه قوله «ما لم يتفرقا» في رواية زرارة وصحيحة
محمد بن مسلم و «قبل أن يقوم» في صحيحة الفضيل فإن ظاهره أن الغاية المبطلة للخيار هي
التفرق عن المجلس ، فما لم يتفرقا وإن طال الجلوس أو حصل الفصل فإنه لا يبطل
التخيير وعلى هذا فما ذكره ابن الجنيد من هذا الشرط لا دليل عليه من الأخبار
المذكورة.
__________________
وبذلك يظهر أن
ما ذكروه في هذا المقام ـ من أنه إذا كان بمنزلة عقد التمليك لم يكن العبرة
بالمجلس بل بالمقارنة ، وإن جعل بمنزلة التوكيل لم يكن المجلس أيضا معتبرا بل يجوز
مع التراخي ـ لا معنى له ، بل إن الذي ينبغي أن يقال بناء على ما قالوه من صحة
التخيير : إن هذا حكم برأسه والمجلس فيه أثر على الوجه المتقدم في الأخبار
بالتقريب الذي شرحناه. وأما بناء على ما قلناه من عدم القول بذلك ، فإن الوجه فيه
أنه حيث كان العامة القائلون بهذا القول قد اشترطوا فيه هذا الشرط خرجت الأخبار
مصرحة به وفاقا لهم
الثالث : يشترط
في هذا التخيير عند القائل به ما يشترط في صحة الطلاق من استبراء المرأة وسماع
الشاهدين وغير ذلك. وهل يكفي سماعهما نطقها خاصة ، أو يعتبر سماعهما نطقهما معا؟ قال
في المسالك : ظاهر الرواية والفتوى الأول ، وأن الفراق يقع بمجموع الأمرين فيعتبر
سماعهما من الشاهدين ، فينزل حينئذ منزلة الخلع حيث يقع البذل من جانبها والطلاق
من جانبه ، وإن اختلفا في كون الطلاق هنا من جانبها ويحتمل الاكتفاء بسماع
اختيارها ، لأن الفراق إنما حصل به ، ولهذا لو ردته أو اختارته لم يقع ، فيكون ذلك
بمنزلة تفويض الطلاق إليها ، فلا يشترط إلا سماع ما دل على الطلاق لا سماع ما هو
بمنزلة الوكالة فيه ، انتهى.
أقول : اتفقت
السنخ على لفظ الأول في قوله «ظاهر الرواية والفتوى الأول» ومنها نسخة بخط المصنف
ـ رحمة الله عليه ـ والأنسب في التعبير إنما هو الثاني عوض لفظ الأول لأن العبارة
المتقدمة كما ذكرناه هو أنه هل يكفي سماعهما نطقها خاصة أو يعتبر سماعهما نطقهما
معا ، والأول منهما هو الاكتفاء بسماع نطقها خاصة ، والثاني هو سماعهما نطقهما معا
، والذي ادعاه من النص والفتوى ورتب عليه الكلام بقوله «وأن الفراق يقع بمجموع
الأمرين. إلخ» إنما يتجه على الثاني ، ويدلك على ذلك أيضا قوله أخيرا «ويحتمل
الاكتفاء
بسماع اختيارها» وهذا هو الأول قد جعله احتمالا. وبالجملة فالظاهر وقوع
السهو من قلم المصنف في التعبير بلفظ الأول في هذا المقام ، وإنما حقه أن يقول
الثاني.
وكيف كان فالذي
تقدم في أخبار المسألة مما يدل على ذلك ما تضمنته صحيحة محمد بن مسلم من قوله «وإن
خيرها أو جعل أمرها بيدها بشهادة شاهدين. إلخ» وهو ظاهر في كون شهادة الشاهدين على
تخيير الرجل لها أو جعله الأمر بيدها مع اختيارها إن اختارت نفسها ، وهو ظاهر فيما
ادعاه من كون الشهادة على الأمرين وما تضمنته رواية الصيقل من قوله «ولا يكون
تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين» وهو أيضا يرجع إلى الأول ، وإن كان
الأول أظهر.
وما في صحيحة
زرارة ومحمد بن مسلم من قوله عليهالسلام «لا خيار إلا على طهر من غير جماع بشهود» وهو يرجع إلى سابقه ، والمعنى
فيهما أنه لا خيار أو لا تخيير بأن يخير الرجل امرأته فتختار نفسها إلا بهذه
الشروط.
وأما الاحتمال
الذي ذكره أخيرا فهو جيد من حيث الاعتبار كما ذكره ـ رحمهالله ـ إلا أن ظواهر النصوص على خلافه ، والأظهر هو الوقوف
على مقتضى ما دلت عليه الأخبار.
الرابع : قال
في المسالك : يجوز له الرجوع في التخيير مطلقا ، وهو الظاهر من رواية زرارة «إنما
الخيار لهما ما داما في مجلسهما» ولأنه إن كان تمليكا كان الرجوع فيه قبل القبول
جائزا ، وإن كان توكيلا فكذلك بطريق أولى ، ومقتضى قوله «إن الخيار لهما ما داما
في المجلس» جواز فسخه لكل منهما في المجلس وإن وقع التخيير من كل منهما ، وهو مشكل
من جانبها مطلقا ، إذ لا خيار لها في الطلاق مطلقا ، ومن جانبه لو كان بائنا ، إلا
أن الأمر فيه أسهل لإمكان تخصيصه بالرجعي.
أقول : الظاهر
أن المعنى في قوله عليهالسلام في خبر زرارة «إنما الخيار لها
ما داما في مجلسهما» إنما هو أنه متى خيرها فاختارت نفسها فإنه يشترط أن
يكون في مجلس واحد ، بمعنى أنه لو خيرها وسكتت حتى تفرقا ثم اختارت نفسها لم يقع ،
فلا بد من أن يكون التخيير منه والاختيار منها في مجلس واحد. ويشير إلى ذلك قوله
في صحيحة محمد بن مسلم «فإن خيرها أو جعل أمرها بيدها بشهادة شاهدين في قبل عدتها
فهي بالخيار ما لم يتفرقا» فإنه دال على أنه يشترط أن يكون اختيار نفسها في مجلس
تخيير الزوج لها ، لا بعد مفارقته ، وفي معناه صحيحة الفضيل.
وبالجملة
فالمراد بالخيار هو التخيير الذي يترتب عليه الفراق لا الخيار في الرجوع عن مقتضى
التخيير كالخيار في سائر العقود بمعنى فسخها ، حتى أنه يدعى أنه مقتضى قوله «إن
الخيار لها ما داما في المجلس» جواز فسخه لكل منهما في المجلس ، وإن وقع التخيير ،
من كل منهما ، وكيف يتم الفسخ بعد اختيارها نفسها وأكثر الأخبار قد دل على أنها
باختيارها نفسها قد بانت منه وانقطعت العصمة بينهما من ساعته كما صرحت به حسنة
بكير ، ورواية بريد الكناسي ، وكيف يتم الفسخ بعد حصول البينونة وانقطاع العصمة ،
وعلى تقدير الروايات الأخر الدالة على أنه بمنزلة الطلاق الرجعي كيف يتم لها فسخ
الطلاق حسبما ذكره من أنه لا خيار لها في الطلاق مطلقا ، وبهذا يظهر لك أن حمله
الرواية على ما ذكره ـ من جواز الرجوع في التخيير بمعنى فسخه من الزوج أو من كل
منهما ـ ليس في محله ، وإنما المعنى فيها ما قلناه.
وأما تكرارهم
التفريع على التمليك أو التوكيل فقد عرفت أن الظاهر أن يقال : إن هذا حكم برأسه
عند من قال به ، يترتب عليه من الأحكام ما دلت عليه أخباره.
وخامسها : قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه يشترط تجريد صيغة
الطلاق من الشرط والصفة. بل ادعى عليه ابن إدريس كما نقل عنه الإجماع ، ومثله
شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ، فإنه قال بعد ذكر المصنف الحكم المذكور : وهو
موضع وفاق منا. وظاهرهم أن المستند فيه إنما
هو الإجماع ، والظاهر أنه لذلك نسب المحقق في الشرائع الحكم المذكور إلى
قول المشهور مؤذنا بالتوقف فيه والطعن في دليله. وظاهره في المسالك الميل أيضا إلى
ذلك ، قال ـ رحمهالله ـ : نبه بقوله على قول المشهور على ضعف مستنده ، فإنه
ليس عليه نص ، وإنما أوردوا عليه أدلة ظاهرية كقولهم : إن النكاح أمر ثابت متحقق ،
ولا يزول إلا بسبب متحقق ، ووقوعه مع الشرط مشكوك فيه. وقولهم : إنه مع عدم الشرط
إجماعي ، ولا دليل على صحته بالشرط ، ونحو ذلك ، فإن هذا كله مندفع بعموم الأدلة
على ثبوت حكم الطلاق حيث يقع أعم من كونه منجزا أو معلقا على شرط.
وقال سبطه في
شرح النافع بعد نقل ذلك عنه : وهو جيد لو ثبت ما ادعاه من العموم لكنه محل نظر ـ ثم
قال : ـ ويمكن أن يستدل على اعتبار هذا الشرط مضافا إلى ما سبق بقوله عليهالسلام في حسنة محمد بن مسلم «إنما الطلاق أن يقول لها. أنت طالق أو اعتدي». فإن الصيغة المعلقة على شرط
أو صفة خارجة عن هذين اللفظين ، والمعتمد ما عليه الأصحاب ، انتهى.
أقول : ما
ادعاه شيخنا المذكور من العمومات ليس في محله ، وإنما هنا إطلاقات ، والظاهر أن
مراده ذلك ، فإنهم يعبرون عن أحدهما بالآخر ، إلا أنه قد تقرر أن الإطلاق إنما
يحمل على الأفراد الشائعة المتكررة ، فإنها هي التي يتبادر إليها الإطلاق ، دون
الفروض النادرة ، ولا ريب أن المتكرر في الطلاق إنما هو المنجز الغير المعلق ، بل
ذكر المعلق إنما هو فرض أرادوا التنبيه على حكمه لو وقع.
نعم لو استدل
على صحة الطلاق مع التعليق بالأدلة الدالة على وجوب الوفاء
__________________
بالشروط لكان وجها ، إلا أنه يمكن الجواب عنه بأن النكاح والطلاق من الأمور
التوقيفية يحتاج في ثبوتها إلى ما دل شرعا على ما يوجب النكاح أو الطلاق كما تقدم
ذكره ، ولم يعلم من الشارع صحة الطلاق مع التعليق ، والأصل بقاء عصمة النكاح حتى
يقوم الدليل الشرعي على انقطاعها. وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور ، وهو الأوفق
بالاحتياط كما لا يخفى.
والمراد بالشرط
المعلق عليه هو ما يحتمل وقوعه وعدمه كدخول الدار مثلا ، وبالصفة ما لا بد من
وقوعه عادة كطلوع الشمس ، وقد استثني من الحكم ببطلان الطلاق المعلق على الشرط ما
إذا كان الشرط معلوم الوقوع عند إيقاع الصيغة كما لو قال : أنت طالق إن كان الطلاق
يقع بك ، وهو يعلم وقوعه ، فإن الطلاق هنا يقع صحيحا حيث إنه لا تعليق في المعنى ،
ونقل عن الشيخ أن الطلاق لا يقع لصدق تعليقه على الشرط ، وهم اتفقوا على بطلان
الطلاق المعلق على الشرط وهذا منه ، لأن قوله «إن كان يقع بك» شرط لغة وعرفا ورده
المحقق في الشرائع بأن ما ذكره حق إن كان المطلق لا يعلم ، وأما مع علمه بأن
الطلاق يقع بها وهي مستكملة لشرائطه فلا.
وتوضيحه : أن
التعليق على الشرط لم يكن مبطلا من حيث كونه تعليقا على شرط ، وإنما أبطل من حيث
عدم التنجيز وإيقاعه في الحال ، فالمدار في صحته إنما هو على التنجيز ، ومطلق
الشرط لا ينافيه ، بل الشرط الذي لا يعلم وقوعه ، وإلا فلو علم حال الطلاق أنها
جامعة للشرائط من عدم الحيض وكونها في طهر لم يقربها فيه فقد علم حينئذ صلاحيتها
لوقوع الطلاق بها ، فإذا علقه على وقوعه بها فقد علقه على أمر يعلم حصوله حال
الطلاق ، فلم يناف ذلك بتنجيزه بخلاف
__________________
ما لو جهل حالها ، وكذا القول في كل شرط يعلم وقوعه حالة الطلاق كقوله : إن
كان يوم الجمعة فأنت طالق ، مع علمه بأنه يوم الجمعة ، فإن الطلاق يقع البتة ، لأن
الشرط في قوة الوصف ، فكأنه قال بناء على المثال الأول : أنت طالق في هذا الوقت
الذي يقع فيه الطلاق بك ، وأنت طالق في هذا اليوم بناء على المثال الثاني.
وسادسها : اختلف الأصحاب فيما لو فسر الطلقة باثنين أو ثلاث ، فهل يبطل الطلاق من
أصله؟ أو يلغو التفسير وتصير واحدة؟ قولان : (الأول) للسيد المرتضى في الانتصار
وسلار وابن أبي عقيل وابن حمزة (والثاني) للشيخ في النهاية والمرتضى في القول
الآخر وابن إدريس والمحقق والعلامة في المختلف وجماعة ، والظاهر أنه هو المشهور
سيما بين المتأخرين ، واتفق الجميع على عدم وقوع المجموع ، بمعنى أنه لا يقع ثلاثا
أو اثنين بمجرد قوله ذلك ، بل لا بد لوقوع العدد من تخلل الرجعة ، والأصل في هذا
الاختلاف الروايات والتعليلات.
أما القول
الثاني فإن العلامة في المختلف قد استدل عليه بوجود المقتضي ، وهو قوله «أنت طالق»
وانتفاء المانع ، إذ ليس إلا قوله ثلاثا ، وهو غير معارض لأنه مؤكد لكثرة الطلاق
وإيقاعه وتكثير سبب البينونة ، والواحدة موجودة في الثلاث لتركبها منها ومن وحدتين
اخرتين ، ولا منافاة بين الكل وجزئه. فيكون المقتضي وهو الجزء خاليا من المعارض.
ورد بأنه ضعيف جدا لمنع كون الثلاث مؤكدة للواحدة ـ أعني
المقيدة بقيد الوحدة ـ بل منافية لها ، والموجود في ضمن الثلاث الواحدة لا بشرط ،
والمطلوب هنا الواحدة بشرط لا بمعنى المقيدة بقيد الوحدة ، وهي غير داخلة في
الثلاث قطعا. وهو جيد ، والأولى الرجوع إلى الأخبار ، وها أنا أسوق ما حضرني من
الأخبار الدالة على هذا القول
__________________
ومنها ما رواه في
الكافي عن زرارة في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد وهي
طاهر ، قال : هي واحدة».
وفي الصحيح أو
الحسن عن أحدهما عليهماالسلام قال : «سألته عن الذي يطلق في حال طهر في مجلس ثلاثا؟
قال : هي واحدة».
وفي الصحيح عن
أبي بصير الأسدي ومحمد بن علي الحلبي وعمر بن حنظلة جميعا عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «الطلاق ثلاثا في غير عدة ، إن كانت على طهر
فواحدة ، وإن لم تكن على طهر فليس بشيء». قوله «في غير عدة» أي إذا لم يكن للعدة
، بأن يرجع في العدة ويجامع.
وعن عمرو بن
البراء قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إن أصحابنا يقولون : إن الرجل إذا طلق امرأته مرة أو
مائة مرة فإنما هي واحدة ، وقد كان يبلعنا عنك وعن آبائك عليهمالسلام أنهم كانوا يقولون : إذا طلق مرة أو مائة مرة فإنما هي
واحدة ، فقال : هو كما بلغكم».
وما رواه في
التهذيب عن زرارة عن أحدهما عليهماالسلام «في التي تطلق في حال طهرها في مجلس ثلاثا ، قال : هي واحدة».
وعن بكير في الحسن أو الموثق عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إن طلقها للعدة أكثر من واحدة فليس الفضل على
الواحد بطلاق».
وما رواه الكليني
في الصحيح عن شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد الله عليهالسلام
__________________
«في حديث قال : قلت : فطلقها ثلاثا في مقصد ، قال : ترد إلى السنة ، فإذا
مضت ثلاثة أشهر أو ثلاثة قروء فقد بانت منه بواحدة».
ونحو رواية أبي
محمد الوابشي عن أبي عبد الله عليهالسلام.
وعن الكلبي
النسابة عن الصادق عليهالسلام «في حديث قال فيه : فقلت : فرجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا ، فقال : ترد
إلى كتاب الله وسنة نبيه».
وعن محمد بن
سعيد الأموي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق ثلاثا في مقصد واحد ، قال : فقال : أما أنا
فأراه قد لزمه ، وأما أبي فكان يرى ذلك واحدة».
أقول : الظاهر
أن ما أفتى به عليهالسلام من لزوم الطلاق وأنه يكون بائنا إنما خرج مخرج التقية ،
ويؤيده أن الراوي اموي ، والذي نقله عن أبيه هو الموافق للأخبار المذكورة ، وأورد
شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد على الاستدلال بهذه الأخبار أن السؤال فيها عمن طلق
ثلاثا في مجلس وهو أعم من أن يكون بلفظ الثلاث أو بلفظ لكل واحد مرة ، والثاني لا
نزاع فيه ، فلم قلتم أنه غير مراد ، وبتقدير عدم تعينه للإرادة يكون أعم من كل
واحد ، والعام لا يستلزم الخاص.
وأجاب عنه في
المسالك فقال : إن لنا الاستدلال بعمومه الشامل للقسمين فإن «من» من صيغ العموم ،
فيتناول من طلق ثلاثا مرسلة ، كذا وبثلاثة ألفاظ ، وقد حكم على هذا العام بوقوع
واحدة ، فيتناول بعمومه موضع النزاع كما هو شأن كل عام.
__________________
واعترضه سبطه
في شرح النافع فقال : وعندي في هذا الجواب نظر ، فإن لفظة «من» وإن أفاد العموم
وتناول كل مطلق ، لكن لفظ «طلق» مثبت فلا يفيد العموم على وجه يتناول أقسام الطلاق
، وعموم المطلق يتحقق بتناول اللفظ لكل مطلق أوقع الطلاق بثلاثة ألفاظ ، فلا يجب
تناوله لمن طلق ثلاثا بلفظ واحد مرسل ، مع أن المتبادر من قوله «طلق ثلاثا» أنه
أوقع الطلاق بثلاث صيغ ، إذ لا يصدق على من قال «سبحان الله عشرا» أنه سبح الله
عشر مرات. وبالجملة فهذه الروايات غير دالة على المطلوب صريحا ولا ظاهرا. انتهى ،
وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، إلا أن آخر العبارة لا يخلو من خزازة
ولعله لغلط وقع فيها.
وحق الكلام أن
يقال : إذ لا يصدق على من قال «سبح الله عشرا» إلا أنه سبح الله عشر مرات لا أن
يقول «سبحان الله» عشرا خاصة ، ونحو ذلك من الألفاظ المؤدية لهذا المعنى ، ويؤيد
قوله في حسنة بكير أو موثقته المتقدمة إن طلقها للعدة أكثر من واحدة ، فليس الفضل
على الواحد بطلاق ، فإن المراد منها كما هو الظاهر إنما هو تعدد الطلاق. وحينئذ
فيحمل عليها إطلاق الأخبار المذكورة ، وكيف كان فإن لم يكن ما ذكرناه هو الأظهر من
الأخبار المذكورة فلا أقل من كونه أحد الاحتمالين ، وبه يبطل الاستدلال لقيام
الاحتمال.
ومما يدل على
كونه واحدة متى تعددت العبارة ثلاثا مثلا وأن الزائد لغو ـ مضافا إلى ما ذكره شيخنا
الشهيد من أنه لا نزاع فيه ـ رواية إسحاق بن عمار الصيرفي عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام «أن عليا عليهالسلام كان يقول : إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها ثلاثا
في كلمة واحدة فقد بانت منه ، ولا ميراث بينهما ولا رجعة ، ولا تحل له حتى تنكح
زوجا غيره ، وإن قال : هي طالق ، هي طالق ، هي طالق فقد بانت منه بالأولى ، وهو
خاطب من الخطاب ، إن شاءت
__________________
نكحته نكاحا جديدا ، وإن شاءت لم تفعل». وصد الخبر إنما خرج مخرج التقية ،
كما هو مذهب العامة ، وعلى ذلك حمله الشيخ وغيره ، ويدل عليه ما رواه الشيخ عن أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كنت عنده فجاء رجل فسأله عن رجل طلق امرأته
ثلاثا ، قال : بانت منه. قال : فذهب ثم جاء رجل آخر من أصحابنا فقال : رجل طلق
امرأته ثلاثا ، فقال : تطليقة. وجاء آخر فقال : رجل طلق امرأته ثلاثا ، فقال : ليس
بشيء. ثم نظر إلي فقال : هو ما ترى ، قال : قلت : كيف هذا؟ قال : هذا يرى أن من
طلق امرأته ثلاثا حرمت عليه ، وأنا أرى أن من طلق امرأته ثلاثا على السنة فقد بانت
منه ، ورجل طلق امرأته ثلاثا وهي على طهر فإنما هي واحدة ، ورجل طلق امرأته ثلاثا
على غير طهر فليس بشيء» .
أقول : في هذا
الخبر دلالة على أنهم عليهمالسلام كثيرا ما يجيبون باعتبار علمهم بالحال ، والأول كان من
المخالفين وأجابه عليهالسلام بما يوافق معتقده ظاهرا من حصول البينونة بمجرد الثلاث
، ولكنه عليهالسلام أراد مع وقوعه على السنة كما أوضحه. والثاني حيث كان من
أصحابنا أجابه بما أجاب به أصحابه عليهالسلام في هذه الأخبار حيث
__________________
إنه فهم منه أنه طلق ثلاثا في مجلس واحد. والثالث لما علم أنه طلق على غير
طهر أجابه بالبطلان من حيث فوات أحد شروط الطلاق.
احتج من قال
بالبطلان (أولا) بأن الواحدة المنفردة ـ أعني المقيدة بقيد الوحدة ـ غير مرادة فلا
تقع ، لأن من جملة شرائط الصحة القصد إلى الطلاق ، والمقصود هو التطليقات الثلاث
غير واقع إجماعا ، ومرجعه إلى أن المقصود غير واقع والصالح للوقوع غير مقصود ،
لأنه غير مريد للواحدة المقيدة بقيد الوحدة.
وأجيب عنه بأن
قصد الثلاث يستلزم قصد كل واحدة ، وفيه ما تقدم في صدر المسألة في الجواب عما
استدل به في المختلف.
(وثانيا)
الروايات ، وهي التي عليها المعول في الاستدلالات ، لما عرفت ما في هذه الأدلة
العقلية من المناقضات.
ومنها ما رواه الشيخ
في الصحيح عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من طلق ثلاثا في مجلس فليس بشيء ، من خالف كتاب
الله رد إلى كتاب الله».
وعن علي بن
إسماعيل قال : «كتب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليهالسلام : جعلت فداك روى أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام في الرجل يطلق امرأته ثلاثا بكلمة واحدة على طهر بغير
جماع بشاهدين أنه يلزمه تطليقة واحدة ، فوقع بخطه عليهالسلام : أخطأوا على أبي عبد الله عليهالسلام أنه لا يلزم الطلاق ، ويرد إلى كتاب الله وسنته إن شاء
الله».
أقول : والذي
يظهر لي في الجمع بين أخبار المسألة هو حمل ما دل أنها واحدة على ما إذا وقع
الطلاق بصيغ ثلاث في مجلس واحد ، فإنه هو المتبادر من هذه العبارة بالتقريب الذي
عرفته آنفا ، وحمل الأخبار الدالة على أنه ليس بشيء
__________________
وأنه باطل على ما إذا وقع الطلاق بصيغة واحدة تضمنت لفظ «ثلاثا» والعامة
هنا على لزوم الطلاق وكونه بائنا لا تحل له بعده إلا بالمحلل كما عرفت ، والأئمة عليهمالسلام قد ردوه وحكموا ببطلانه رأسا.
وتوضيح هذا
الجمع مكاتبة عبد الله بن محمد المذكورة حيث إنها تضمنت تخطئة من حكم بالواحدة في
صورة تضمن الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة ، ومنه يفهم أن كونه واحدة في الأخبار
المتقدمة إنما هو في صورة تعدد الصيغة ثلاثا في مجلس واحد ، وقد حكم عليهالسلام في الخبر ببطلان ذلك ، وأنه لا يلزمه طلاق مطلقا ، لا
واحدة كما هو المشهور عندهم ، ولا أزيد كما ذهب إليه العامة ، بل هو باطل يرد إلى
الكتاب والسنة ، فهو ظاهر في الجمع المذكور بكل طرفيه ، ويؤكده ما تقدم من التقريب
المشار إليه.
ومما يؤيد
البطلان متى كان دفعة واحدة دون أن يكون ذلك تطليقة واحدة ما رواه
الراوندي في
كتاب الخرائج عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت إني ابتليت فطلقت أهلي ثلاثا في دفعة ، فسألت
أصحابنا فقالوا : ليس بشيء ، وأن المرأة قالت : لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله عليهالسلام ، فقال : ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء».
وبالجملة فإنه
ليس لما ذكرناه من هذا الجمع مناف إلا شهرة الحكم بين أصحابنا بكونه يقع واحدة متى
كان الطلاق بصيغة واحدة مشتملة على لفظ «ثلاثا» وعلى ما ذكرناه من أن الطلاق ثلاثا
في مجلس بلفظ «ثلاثا» خاصة دون تعدد الصيغ باطل من أصله تحمل الأخبار المتكاثرة
القائلة «إياكم والمطلقات ثلاثا في مجلس واحد ، فإنهن ذوات أزواج».
__________________
ومن هنا يمكن
الاستدلال للقول بالبطلان بهذه الأخبار ، فإن المطلقة ثلاثا في مجلس واحد بمعنى
تثليث الصيغ لا خلاف ولا إشكال في كونه يقع واحدة ، فلم يبق إلا الحمل على إيقاع
الصيغة بلفظ ثلاثا الذي هو محل البحث هنا وقد حكموا عليهمالسلام بالبطلان ، وأن المطلقات كذلك ذوات أزواج. إلا أن الشيخ
لحكمه بوقوع الثلاث واحدة في الصورة المذكورة كما هو المشهور حمل هذه الأخبار على
اختلاف بعض الشرائط الموجبة لصحة الطلاق ، ولا يخفى بعده.
ويؤيد الروايات
المذكورة ما قدمناه من الأخبار الدالة على أنه إذا أراد الرجل تزويج المطلقة ثلاثا
انتظر أن تكون في طهر وأتى بشاهدين معه ، وسأل زوجها هل طلقت فلانة؟ فإذا قال نعم
فهي تطليقة ، تعتد بعدها عدة المطلقة ، ثم يتزوجها ، فإنها أظهر ظاهر في بطلان
الطلاق الأول الذي وقع من المخالف.
لكن بإزاء هذه
الأخبار أيضا أخبار أخر تدل على جواز التزويج في هذه الصورة من غير الاحتياج إلى
طلاق آخر ، إلزاما لهم بما ألزموا به أنفسهم.
ومنها ما رواه في
التهذيب عن إبراهيم بن محمد الهمداني في الصحيح أو الحسن قال : «كتبت
إلى أبي جعفر عليهالسلام مع بعض أصحابنا فأتاني الجواب بخطه الشريف : فهمت ما
ذكرت من أمر بنتك وزوجها فأصلح الله لك ما تحب صلاحه فأما ما ذكرت من خسته بطلاقها
غير مرة ، فانظر يرحمك الله فإن كان ممن يتولانا ويقول بقولنا فلا طلاق عليه ،
لأنه لم يأت أمرا جهله ، وإن كان ممن يتولانا ويقول بقولنا فاختلعها منه فإنه إنما
نوى الفراق بعينه».
وعن عبد الرحمن
بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : امرأة طلقت
__________________
على غير السنة ، قال : تتزوج هذه المرأة ، ولا تترك بغير زوج».
وعن عبد الله
بن سنان قال : «سألته عن رجل طلق امرأته بغير عدة ثم أمسك عنها
حتى انقضت عدتها ، هل يصلح لي أن أتزوجها؟ قال : نعم ، لا تترك المرأة بغير زوج».
وعن ابن جبلة قال : «حدثني غير واحد من أصحاب علي بن أبي حمزة عن علي
بن أبي حمزة أنه سأل أبا الحسن عليهالسلام عن المطلقة على غير السنة ، أيتزوجها الرجل؟ فقال :
ألزموهم من ذلك ما ألزموا أنفسهم ، وتزوجوهن فلا بأس بذلك قال الحسن : وسمعت جعفر
بن سماعة وسئل عن امرأة طلقت على غير السنة ، ألي أن أتزوجها؟ فقال : نعم. قلت : أليس
تعلم أن علي بن حنظلة روى إياكم والمطلقات على غير السنة فإنهن ذوات أزواج؟ فقال :
يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس ، قلت : وأي شيء روى علي بن أبي
حمزة؟ قال : روى عن أبي الحسن عليهالسلام أنه قال : ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم ، وتزوجوهن
فإنه لا بأس بذلك».
وعن عبد الأعلى
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ، قال : إن
كان مستحقا بالطلاق ألزمته ذلك».
وعن أبي العباس
البقباق قال : «دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام قال : فقال لي : ارو عني أن من طلق امرأته ثلاثا في
مجلس واحد فقد بانت منه».
__________________
وما رواه في
الكافي عن جعفر بن محمد بن عبد الله عن أبيه قال : «سألت أبا
الحسن الرضا عليهالسلام عن تزويج المطلقات ثلاثا ، فقال لي : إن طلاقكم لا يحل
لغيركم ، وطلاقهم يحل لكم ، لأنكم لا ترون الثلاث شيئا وهم يوجبونها».
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن جعفر بن محمد العلوي قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام» الحديث ، بدون قوله «وهم يوجبونها».
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنه قد صرح الأصحاب بأنه لو كان المطلق مخالفا يعتقد الطلاق ثلاثا لزمته ،
وكذا كل طلاق على غير السنة مما يحكمون بلزومه وصحته كوقوع الطلاق بغير إشهاد
ووقوعه في الحيض وباليمين وبالكناية مع النية ، فإنه في جميع هذه المواضع يلزمون
بصحته ويحكم عليهم بذلك ، واستدلوا على ذلك بجملة من الأخبار المتقدمة ، مثل صحيحة
إبراهيم بن محمد الهمداني ورواية على بن أبي حمزة ورواية عبد الأعلى ، وما ذكروه ـ
رحمة الله عليهم ـ ودلت عليه الأخبار المذكورة من إلزامهم بذلك والحكم عليهم به
مما لا إشكال فيه ، مضافا إلى الإجماع المدعى عليه كما نقله في المسالك.
ويؤيده أيضا ما
رواه محمد بن مسلم في الموثق عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن الأحكام ، قال : يجوز على كل ذي دين ما
يستحلونه». ورواية عبد الله بن محرز الواردة في الميراث.
__________________
إنما الإشكال
في أن جملة من هذه الروايات قد صرحت بجواز تزويج تلك المرأة المطلقة بهذا الطلاق
الجاري على غير السنة ، مع ما عرفت من الروايات الدالة على أن المطلقات على غير
السنة ذوات أزواج ، فلا يجوز تزويجهن ، والأخبار الدالة على أنه متى أراد الرجل
تزويج واحدة ممن طلقت كذلك انتظر طهرها وأتى بشاهدين معه فسأل زوجها هل طلقت فلانة؟
فإذا قال نعم كانت تطليقة واعتدت لها ، فإذا خرجت من العدة جاز تزويجها.
والمنافاة بين
هذه الروايات ظاهرة ولم أر من تعرض لوجه الجمع بينها. والظاهر خروج هذه الأخبار
الدالة على الجواز مخرج الرخصة في التزويج بهن ، وإليه يشير كلام جعفر بن سماعة
المتقدمة وإن كان الأصل والأفضل هو المنع.
ومما يستأنس به
لذلك رواية شعيب الحداد قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : رجل من مواليك يقرؤك السلام ، وقد أراد أن يتزوج
امرأة قد وافقته وأعجبه بعض شأنها ، وقد كان لها زوج ، فطلقها ثلاثا على غير السنة
، وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت آمره ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : هو الفرج وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ، ونحن
نحتاط فلا يتزوجها».
فإن الظاهر أن
هذا المنع على وجه الأفضلية ، فالاحتياط هنا مستحب ، وإن جاز التزويج رخصة
بالأخبار المتقدمة.
ويمكن الجمع
بين هذه الأخبار بأنه إن كانت الزوجة مخالفة جاز
__________________
تزويجها ، وإليه يشير حديث الإلزام بما ألزموا أنفسهم ، وإن كانت مؤمنة فلا إلا بطلاق جديد. إلا أنه ينافيه
ظاهر خبر إبراهيم بن محمد الهمداني مع عدم الإشارة إليه في شيء من هذه الأخبار.
الركن
الرابع في الاشهاد : وفيه مسائل :
الأولى : اتفق
النص والفتوى على اشتراط الاشهاد في صحة الطلاق ، فلا بد من حضور شاهدين حال إنشاء
الطلاق ، ولو تجرد عنهما بطل ، وبذلك تكاثرت الأخبار.
ومنها قوله عليهالسلام في صحيحة محمد بن مسلم «طلاق السنة يطلقها تطليقة يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين»
الحديث.
وقوله عليهالسلام في صحيحة زرارة «فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع ، ويشهد شاهدين على ذلك»
الحديث.
وقوله عليهالسلام في صحيحة أبي بصير «فإذا طهرت طلقها واحدة بشهادة شاهدين ـ إلى أن قال : ـ فإن طلقها واحدة
أخرى على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم تركها حتى يمضي أقراؤها ـ إلى أن قال
أيضا : ـ وأما طلاق الرجعة فإنه يدعها حتى تحيض وتطهر ثم يطلقها بشهادة شاهدين» الحديث.
وفي حسنة زرارة
ومحمد بن مسلم ومن معهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام «أنهما قالا : وإن طلقها في استقبال عدتها طاهرا من غير جماع ولم يشهد على
ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق».
__________________
وحسنة زرارة
ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «الطلاق لا يكون بغير شهود ، والرجعة بغير شهود»
الحديث.
ورواية أبي
الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من طلق بغير شهود فليس بشيء». إلى غير ذلك من
الأخبار التي تأتي إن شاء الله في المباحث الآتية.
ثم إنه لا بد
من شهادتهما مجتمعين ، فلا يجزي لو كانا متفرقين.
ويدل عليه ما
رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن البزنطي قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل طلق امرأته على طهر من غير جماع وأشهد اليوم
رجلا ، ثم مكث خمسة أيام ، ثم أشهد آخر ، فقال إنما أمر أن يشهدا جميعا».
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن ابن بزيع عن الرضا عليهالسلام قال : «سألته عن تفريق الشاهدين في الطلاق؟ فقال : نعم
، وتعتد من أول الشاهدين ، وقال : لا يجوز حتى يشهدا جميعا».
أقول : صدر
الخبر مراد به الأداء بمعنى جواز تفريق الشاهدين في أداء الشهادة ولهذا قال «من
أولها» فإن إخبارها بالطلاق بعد وقوعه كاف في الشروع في العدة ، والتزويج يتوقف
على الثاني لثبوت الطلاق بذلك ، وعجز الخبر مراد به التحمل كما دل عليه الخبر
الأول.
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي : وإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته يتربص بها حتى تحيض
وتطهر ، ثم يطلقها تطليقة واحدة في قبل عدتها بشاهدين عدلين في مجلس واحد ، فإن
أشهد على الطلاق رجلا واحدا ثم أشهد بعد
__________________
ذلك برجل آخر لم يجز ذلك الطلاق ، إلا أن يشهدهما جميعا في مجلس واحد بلفظ
واحد. إلخ. ويكفي سماعهما في الشهادة على الطلاق ، ولا يشترط استدعاؤهما لذلك لأن
الشهادة لا يشترط في ثبوتها في نفسها طلبها من الشهود.
وعلى ذلك يدل
ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن أحمد بن محمد ابن أبي نصر قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن رجل كانت له امرأة طهرت من حيضها فجاء إلى جماعة
فقال : فلانة طالق ، أيقع عليها الطلاق ولم يقل اشهدوا؟ قال : نعم».
وعن صفوان بن
يحيى عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طهرت امرأته من حيضها فقال فلانة
طالق ، وقوم يسمعون كلامه ، ولم يقل لهم اشهدوا ، أيقع الطلاق عليها؟ قال : نعم ،
هذه شهادة».
وهل يشترط في
الشهادة على الطلاق العلم بالمطلقة؟ ظاهر السيد السند في شرح النافع ذلك ، ولم أقف
لغيره على كلام في هذا المقام.
قال ـ رحمة
الله عليه ـ : واعلم أن الظاهر من اشتراط الإشهاد أنه لا بد من حضور شاهدين يشهدان
الطلاق بحيث تتحقق معه الشهادة بوقوعه ، وإنما يحصل ذلك مع العلم بالمطلقة على وجه
يشهد العدلان بوقوع طلاقها ، فما اشتهر بين أهل زماننا من الاكتفاء بمجرد سماع
العدلين صيغة الطلاق ـ وإن لم يعلما المطلق والمطلقة بوجه ـ بعيد جدا ، بل الظاهر
أنه لا أصل له في المذهب ، فإن النص والفتوى متطابقان على اعتبار الاشهاد ، ومجرد
سماع صيغة لا يعرف قائلها لا يسمى إشهادا قطعا ، وممن صرح باعتبار علم الشهود
بالمطلقة الشيخ ـ رحمهالله ـ في النهاية ، فإنه قال «ومتى طلق ولم يشهد شاهدين ممن
ظاهره الإسلام كان طلاقه غير واقع ، ثم قال : وإذا أراد الطلاق فينبغي أن يقول :
فلانة طالق ، ويشير إلى المرأة بعد أن يكون العلم قد سبق بها من الشهود ، فيقول
هذه طالق».
__________________
ويدل على ذلك ـ
مضافا إلى ما ذكرناه من عدم تحقق الاشهاد بدون العلم بالمطلقة ـ ما رواه الكليني
عن محمد بن أحمد بن مطهر قال : «كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليهالسلام : إني تزوجت نسوة لم أسأل عن أسمائهن ثم أريد طلاق
إحداهن وتزويج امرأة أخرى ، فكتب عليهالسلام : انظر إلى علامة إن كانت بواحدة منهن فتقول : اشهدوا
أن فلانة التي لها علامة كذا وكذا هي طالق ، ثم تزوج الأخرى إذا انقضت العدة». انتهى
كلامه.
أقول : ظاهر
كلامه أن مراده بالعلم بالمطلقة والمطلق هو العلم الموجب لتميزها وتشخصها دون
العلم في الجملة ، وإلا فالعلم في الجملة مما لا إشكال فيه ولا مرية يعتريه ، لا
من أهل زمانه ولا من غيرهم ، وهو الذي جرى عليه كافة من حضرنا مجالسهم من مشايخنا
المعاصرين.
وأما العلم
بالمعنى الذي ذكر ، فلا أعرف عليه دليلا واضحا ، وجميع ما استدل به في المقام لا
يخلو من النظر الظاهر لذوي الأفهام ، مع قيام صريح الدليل ـ كما ستعرف إن شاء الله
تعالى ـ على خلافه.
فأما ما ذكره
من عدم تحقق الاشهاد بدون العلم بالمطلقة ، ففيه ما ذكرناه من التفصيل ، بأنه إن
أراد العلم بها على وجه تميزها وتشخصها فهو ممنوع ، وهو عين المدعى ، لا بد
لإثباته من دليل ، وإن أراد في الجملة فهو مسلم ، والأمر كذلك ، فإنه لو قال :
زوجتي فاطمة طالق ، والشهود ليس لهم معرفة سابقة بها إلا بهذا الاسم الذي ذكره في
هذه الحال ، فإنه كاف في العلم بها. وكذلك المطلق إذا علموا أن اسمه زيد مثلا فإنه
يكفي في العلم به ، ولا يشترط أزيد من ذلك.
وعلى هذا تدل
عبارة الشيخ التي نقلها دون ما عداه ، فإن قوله «فينبغي
__________________
أن يقول : فلانة طالق» يعني يسمي المطلقة باسمها العلمي كما ذكرناه ، ومع
عدم معرفة اسمها العلمي فلا بد من شيء يدل على التعيين لوجوبه في صحة الطلاق كما
تقدم ، بأن يشير إلى امرأة جالسة ويقول هذه طالق ، بعد علم الشهود بها ولو في
الجملة بأن تكون بنت فلان أو أخت فلان أو البصرية أو الكوفية أو نحو ذلك مما يفيد
العلم في الجملة.
وأما الخبر
الذي ذكره ، فإنه تضمن أن الزوج لا يعرف أسماء النساء ، والحال أنه يريد طلاق
واحدة منهن ، ومن شروط الطلاق كما تقدم تعيين المطلقة فلا يصح لو كان عنده زوجات
متعددة أن يقول : إحداكن طالق ونحوه ، وإن خالف في ذلك بعض الأصحاب كما تقدم ، إلا
أن الأشهر الأظهر وجوب التعيين ، وحينئذ فإذا تعذر معرفة الاسم العلمي ليعبر به في
صيغة الطلاق فلا بد من لفظ يفيد التعيين ، مثل أن يعلمها بعلامة تزيل الاشتراك
وتوجب التعيين ، وظاهر الخبر أنه لو كان يعرف أسمائهن وطلق واحدة منهن بالاسم
العلمي لصح الطلاق ، ولم يشترط زيادة على ذلك ، وأنه إنما صار إلى التعيين
بالعلامة لتعذر معرفة الاسم العلمي ، وهذا عين ما نقول به ولا دلالة فيه على العلم
الذي يدعيه ، بل غايته العلم في الجملة.
ومما يدل صريحا
على ما قلناه وينادي بصحة ما ادعيناه ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعن محمد بن يحيى عن أحمد بن
محمد جميعا عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي بصير يعني المرادي قال : «سألت أبا
جعفر عليهالسلام عن رجل يتزوج أربع نسوة في عقدة واحدة أو قال في مجلس
واحد ومهورهن مختلفة ، قال : جائز له ولهن ، قلت : أرأيت إن هو خرج إلى بعض
البلدان فطلق واحدة من الأربع ،
__________________
وأشهد على طلاقها قوما من أهل تلك البلاد وهم لا يعرفون المرأة ، ثم تزوج
امرأة من أهل تلك البلاد بعد انقضاء عدة تلك المطلقة ، ثم مات بعد ما دخل بها ،
كيف يقسم ميراثه؟ قال : إن كان له ولد فإن للمرأة التي تزوجها أخيرا من تلك البلاد
ربع ثمن ما ترك ، وإن عرفت التي طلقت بعينها ونسبها فلا شيء لها من الميراث وليس
عليها العدة ، قال : وتقسم الثلاث النسوة ثلاثة أرباع ثمن ما ترك ، وعليهن العدة ،
وإن لم تعرف التي طلقت من الأربع قسمن النسوة ثلاثة أرباع ثمن ما ترك بينهن جميعا
وعليهن جميعا العدة».
ورواه الشيخ في
الصحيح عن الحسن بن محبوب ، وطريقه إليه صحيح ، وهو مع صحة سنده صريح في صحة طلاق
من لم يعرفها الشهود ، ومن الظاهر أن هذه المعرفة المنفية إنما هي المعرفة الشخصية
التي ادعاها ، وإلا فإنه لا بد في صحة الطلاق من التعيين الموجب لوقوع الطلاق على
واحدة معينة ، ولا ينافيه الاشتباه المذكور في آخر الرواية ، لجواز أن يكون القوم
الذين طلق بحضورهم قد نسوا الاسم الذي سماها به.
وبالجملة
فالخبر ظاهر بل صريح في خلاف ما ادعاه. نعم ربما يدل على ما ذكره ما رواه الشيخ في الحسن عن حمران عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يكون خلع ولا تخيير ولا مباراة إلا على طهر
من المرأة من غير جماع وشاهدين يعرفان الرجل ويريان ويعرفان المرأة ويحضران
التخيير ، وإقرار المرأة أنها على طهر من غير جماع يوم خيرها. فقال له محمد بن
مسلم : ما إقرار المرأة هاهنا؟ قال : يشهد الشاهدان عليها بذلك للرجل ، حذار أن
تأتي بعد فتدعي أنه خيرها وهي طامث ، فيشهدان عليها بما سمعا منها» الحديث.
إلا أن ظاهر
هذا الخبر لم يتضمن الطلاق ، وهو غير هذه الأشياء المذكورة ،
__________________
ويمكن حمله على الاستحباب والاحتياط.
وبالجملة فإن
ما ذكرنا من الاكتفاء بالمعرفة الإجمالية هو الذي جرى عليه مشايخنا الذي عاصرناهم
وحضرنا مجالس طلاقهم كما حكاه هو أيضا عما اشتهر في زمانه ، وأما ما ادعاه ـ رحمهالله ـ فلم أقف له على موافق ، ولا دليل يعتمد عليه ، ولم
أقف لأحد من أصحابنا على بحث في هذه المسألة سوى ما نقلناه عنه ، وقد عرفت ما فيه.
المسألة
الثانية : المشهور بين الأصحاب اعتبار العدالة في الشاهدين ،
وعليه يدل ظاهر الآية ، وهو قوله تعالى «ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ» والتقريب فيها أن الخطاب للمسلمين ، فالإسلام مستفاد من
قوله منكم ، ويبقى اعتبار العدالة أمرا زائدا على الإسلام ، فلا يكفي مجرد الإسلام
كما ادعاه جملة من الأعلام ، أو لهم الشيخ في بعض كتبه. وقد وافق على الاستدلال
بالآية شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في هذا الكتاب وإن خالف نفسه في كتاب
الشهادات فارتكب التأويل فيها بما يخرجها عن الاستدلال بها بما لا يخفى ضعفه على
المتأمل في هذا المقال.
ومن الاخبار
الدالة على ما ذكرناه من اشتراط العدالة قول الصادقين عليهماالسلام في صحيحة الفضلاء «وإن طلقها في استقبال عدتها طاهرا من غير جماع ، ولم يشهد على ذلك رجلين
عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق».
وقول أبي جعفر عليهالسلام في حسنة بكير وغيره «وإن طلقها للعدة بغير شاهدي عدل فليس طلاقه بطلاق».
وقول أمير
المؤمنين عليهالسلام في رواية محمد بن مسلم «أشهدت رجلين عدلين كما أمر الله عزوجل؟ فقال : لا ، فقال : اذهب فإن طلاقك ليس بشيء».
__________________
وقول أبي جعفر عليهالسلام في صحيحة زرارة «ثم يطلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين عدلين ويراجعها» الحديث.
وقول أبي الحسن
عليهالسلام في حسنة أحمد بن محمد بن أبي نصر «يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشاها بشاهدين عدلين كما قال الله عزوجل في كتابه ، فإن خالف ذلك رد إلى كتاب الله تعالى».
إلى غير ذلك من
الأخبار التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر لك ضعف القول بالاكتفاء بمجرد
الإسلام كما تقدم نقله عن الشيخ ، وتبعه فيه جملة من الأعلام ، منهم شيخنا الشهيد
الثاني وسبطه في شرح النافع والمحدث الكاشاني في المفاتيح. قال في النهاية : ومتى
طلق ولم يشهد شاهدين ممن ظاهره الإسلام كان طلاقه غير واقع ـ ثم قال : ـ فإن طلق
بمحضر من رجلين مسلمين ولم يقل لهما اشهدا وقع طلاقه ، وجاز لهما أن يشهدا بذلك.
أقول : هكذا
نقل عنه السيد السند في شرح النافع ، وفيه أنه وإن ذكر هذا الكلام في كتاب الطلاق
إلا أنه قال في كتاب الشهادات : العدل الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين وعليهم هو
أن يكون ظاهره ظاهر الايمان ، ثم يعرف بالستر والعفاف ، والكف عن البطن والفرج
واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر ـ
إلى أن قال : ـ وغير ذلك الساتر لجميع عيوبه ، ويكون متعاهدا للصلوات الخمس مواظبا
عليهن حافظا لمواقيتهن متوفرا على حضور جماعة المسلمين غير متخلف عنهم إلا لمرض أو
علة أو عذر ، وهو كما ترى مضمون ما دلت عليه صحيحة ابن أبي يعفور الواردة
__________________
في تعريف العدالة ، ثم قال : ويعتبر في شهادة النساء الايمان والستر
والعفاف وطاعة الأزواج ، وترك البذاء والتبرج إلى أندية الرجال ، انتهى.
وحينئذ فما
ذكره من العبارة المذكورة في النكاح إنما أجمل فيها اعتمادا على ما قدمه في كتاب
الشهادات حيث إنه ذكره أولا قبل كتاب النكاح ، وإلا للزم التناقض بين كلاميه في
كتاب واحد ، نعم ظاهره في المبسوط ذلك ، إلا أن ظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك أن الخلاف هنا غير الخلاف المشهور في معنى العدالة ، من أنها عبارة عن
الملكة الراسخة كما هو المشهور بين المتأخرين أو الإسلام ، وأن كلام الشيخ هنا
مبني على ذلك.
قال في المسالك
في هذا المقام : وهل المعتبر في العدالة هنا ظهورها بترك المعاصي والقيام
بالواجبات مع الايمان الخالص كما اعتبر في غايره من الشهادات؟ أم يكفي الإسلام وإن
انتفى الايمان الخالص والعدالة بالمعنى المشهور؟ والأشهر الأول ـ إلى أن قال : ـ القول
بالاكتفاء فيهما هنا بالإسلام للشيخ في النهاية وجماعة منهم القطب الراوندي ، إما
بناء على أن الأصل في المسلم العدالة أو خصوص رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر
البزنطي الحسنة قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل طلق امرأته بعد ما غشيها بشهادة (شاهدين خ ل)
عدلين ، فقال : ليس هذا طلاقا ، فقلت : جعلت فداك كيف طلاق السنة؟ فقال : يطلقها
إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشاها بشهادة عدلين كما قال الله عزوجل في كتابه ، فإن خالف ذلك يرد إلى كتاب الله تعالى ،
فقلت له : فإن طلق على طهر من غير جماع بشاهد وامرأتين؟ فقال : لا تجوز شهادة
النساء في الطلاق ، وقد تجوز شهادتهن مع غيرهن في الدم إذا حضرنه ، فقلت : فإن
أشهد رجلين ناصبين على الطلاق ، أيكون طلاقا؟ فقال : من ولد على الفطرة أجيزت
شهادته على الطلاق بعد أن يعرف منه خيرا».
__________________
وهذه الرواية
واضحة الاسناد والدلالة على الاكتفاء بشهادة المسلم في الطلاق ولا يرد أن قوله «بعد
أن يعرف منه خيرا» ينافي ذلك ، لأن الخير قد يعرف من المؤمن وغيره ، هو نكرة في
سياق الإثبات لا يقتضي العموم ، فلا ينافيه مع معرفة الخير منه بالذي أظهر من
الشهادتين والصلاة والصيام وغيرها من أركان الإسلام أن يعلم منه ما يخالف الاعتقاد
الصحيح لصدق معرفة الخير منه معه ، وفي الخبر ـ مع تصديره باشتراط شهادة عدلين ثم
اكتفاؤه بما ذكر ـ تنبيه على أن العدالة الإسلام وإذا أضيف إلى ذلك أن لا يظهر
الفسق كان أولى ، انتهى.
قال سبطه في
شرح النافع بعد نقل ذلك عنه : هذا كلامه ـ رحمهالله ـ وهو جيد ، والرواية الاولى مع صحتها دالة على ذلك
أيضا ، فإن الظاهر أن التعريف في قوله عليهالسلام فيها «وعرف بالصلاح في نفسه» للجنس لا للاستغراق وهاتان
الروايتان مع صحبتهما سالمتان من المعارض فيتجه العمل بهما.
أقول : أشار
بالرواية الاولى إلى ما قدمه في كلامه من استدلاله لهذا القول بصحيحة عبد الله بن
سنان قال : «قلت للرضا عليهالسلام : رجل طلق امرأته وأشهد شاهدين ناصبين ، قال : كل من
ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته». ثم أورد رواية أحمد بن محمد بن
أبي نصير وأردفها بكلام جده المذكور في تقريب الاستدلال بها من قوله «وهذه الرواية
واضحة الإسناد. إلخ».
وأنت خبير بأنا
قد قدمنا في بحث صلاة الجمعة من المجلد الثاني في الصلاة تحقيق الكلام في هذا المقام ، وأحطنا بأطراف النقض
والإبرام ، وأوضحنا ما في كلام هذين الفاضلين من البطلان الظاهر لجملة الأفهام ،
وأنه من أفحش الأوهام الناشئة عن الغفلة وعدم التدبر لأخبار أهل الذكر عليهمالسلام ، إلا أنه ربما عسر
__________________
على الناظر في هذا الكتاب مراجعة ذلك الكتاب المذكور فيجره الوهم والتعصب
لهذين الفاضلين إلى نسبة كلامنا إلى الضعف والقصور لما جبلت عليه قرايح أبناء
الوقت والزمان من التعويل على أقوال المتقدمين دون الأقران ، فلا علاج إنا ارتكبنا
مرارة التكرار لازاحة هذا الوهم عن تلك الأفكار ، فنقول : إن هذا الكلام باطل من
وجوه :
الأول : ما
قدمنا ذكره من دلالة الآية والأخبار على أن العدالة أمر زائد على مجرد الإسلام ،
المعتضد ذلك بدلالة جملة من الأخبار كصحيحة ابن أبي يعفور المشهورة وغيرها مما قدمنا ذكره في ذلك الكتاب ، الدال
جميع ذلك على أنها عبارة عن التقوى والصلاح والعفاف ونحوها ، وبذلك يظهر ما في قول
سبطه من أنهما سالمتان من المعارض فيتجه العمل بهما.
الثاني : أنه
لا خلاف بين أصحابنا من هؤلاء القائلين بهذا القول وغيرهم في كفر الناصب ونجاسته
وحل ماله ودمه ، وأن حكمه حكم الكافر الحربي ، وإنما الخلاف في المخالف الغير
الناصب هل يحكم بإسلامه كما هو المشهور بين المتأخرين؟ أم بكفره كما هو المشهور
بين المتقدمين؟ والروايتان قد اشتملتا على شهادة الناصبين على الطلاق ، فكيف يتم
الحكم بالإسلام؟ ثم صحة الطلاق فرعا على ذلك مع الاتفاق نصا وفتوى على الكفر ، إلا
أن يريدوا بالإسلام مجرد انتحال الإسلام ، فيدخل حينئذ فيه الخوارج والمجسمة
والمشبهة فيكون ظلمات بعضها فوق بعض.
ثم لو تنزلنا
عن ذلك وحملنا الناصب في الخبرين على المخالف كما ربما يدعيه الخصم ، حيث إن
مذهبهم الحكم بإسلام المخالفين ، فإنا نقول : إن قبول شهادة المخالف مخالف للأدلة
الشرعية كتابا وسنة لدلالتها على عدم جواز
__________________
قبول شهادة الفاسق والظالم ، وأي فسق وظلم أظهر من الخروج من الايمان
والإصرار على ذلك ، لاعتقاد الفاسد المترتب عليه ما لا يخفى من المفاسد.
وأما ما أجاب
به المحدث الكاشاني في المفاتيح ـ تبعا لصاحب المسالك من أن الفسق إنما يتحقق بفعل
المعصية ، مع اعتقاد كونها معصية لا مع اعتقاد كونها طاعة ، والظلم إنما يتحقق
بمعاندة الحق مع العلم به ـ فهو مردود بأنه لو تم هذا الكلام المنحل الزمام المموه
الفاسد الناشئ عن عدم إعطاء التأمل حقه في هذه المقاصد لاقتضى قيام العذر
للمخالفين وعدم استحقاق العذاب في الآخرة ، ولا أظن هؤلاء القائلين يلتزمونه.
وذلك فإن
المكلف إذا بذل جهده وجده في تحصيل الحق وأتعب الفكر والنظر في ذلك وأداه نظره إلى
ما كان باطلا في الواقع لعروض الشبهة له فلا ريب في أنه يكون معذورا عقلا ونقلا ،
لعدم تقصيره في السعي في طلب الحق وتحصيله ، وامتثال ما أمر به ، وكذا يقوم العذر
لمنكري النبوات من أهل الملل والأديان ، وهذا في البطلان أظهر من أن يحتاج إلى
التبيان.
وبالجملة فإنه
إن كان في هذا الاعتقاد الذي جعله طاعة ، وعدم العلم الذي ذكره إنما نشأ عن بحث
ونظر ، فإنه يقوم بهما العذر شرعا عند الله عزوجل ، فلا مناص عما ذكرناه ، وإلا فلا معنى لكلامه بالكلية
، كما هو الظاهر لكل ذي عقل وروية.
الثالث : أنه
قد استفاضت الروايات والأخبار عن الأئمة الأبرار عليهمالسلام كما بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا «الشهاب الثاقب في
بيان معنى الناصب» وما يترتب عليه من المطالب بكفر المخالفين وشركهم ونصبهم
ونجاستهم ، وأن الكلب واليهودي خير منهم ، وهذا مما لا يجامع مع الحكم بالإسلام
البتة فضلا عن العدالة ، ودلت أيضا على أنهم ليسوا من الحنيفية على شيء ، وأنهم
ليسوا إلا مثل الجدر المنصوبة ، وأنه لم يبق في يدهم إلا مجرد استقبال القبلة ،
واستفاضت
بعرض الأخبار على مذهبهم والأخذ بخلافه واستفاضت ببطلان أعمالهم ، وأمثال ذلك مما يدل على خروجهم عن الملة المحمدية
والشريعة النبوية بالكلية ، والحكم بعد التهم لا يجامع شيئا من ذلك.
الرابع : أنه
يلزمه مما ذكره من أن الخبر نكرة في سياق الإثبات فلا يعم ، وكذا قول سبطه «أن
التعريف في قوله : وعرف بالصلاح في نفسه للجنس لا للاستغراق» دخول أكثر الفسقة
والمردة في هذا التعريف ، إذ ما من فاسق في الغالب إلا وفيه صفة من صفات الخير ،
فإذا جاز اجتماع العدالة مع فساد العقيدة جاز مع شرب الخمر والزنا واللواط ونحو
ذلك من الكبائر بطريق أولى ، بل يدخل في ذلك الخوارج والمرجئة وأمثالهما من الفرق
التي لا خلاف في كفرها ، حيث إن الخبر بهذا المعنى حاصل فيهم ، فيثبت عدالتهم بذلك
، وإن كانوا فاسدي العقيدة ومتصفين بالكبائر العديدة ، نعوذ بالله من زلل الإقدام
في الأحكام وطغيان الأقلام في معالم الحلال والحرام.
الخامس : قوله «إن
الخير يعرف من المؤمن ـ إلى قوله ـ الصدق معرفة الخير منه» فإن فيه زيادة على ما
تقدم أن الأخبار الصحيحة الصريحة قد استفاضت ببطلان عبادات المخالفين لاشتراط صحة
العبادة بالإقرار بالولاية ، بل ورد عن الصادق عليهالسلام سواء على الناصب صلى أم زنا . والمراد بالناصب هو مطلق المخالف كما حققناه في كتابنا
المذكور آنفا ، وحينئذ فأي خيرية في أعمال من قام الدليل على بطلانها وأنها في حكم
العدم ، وكونها في الظاهر بصورة العبادة لا يجدي نفعا ، لأن خيرية الخير وشرية
الشر إنما هو باعتبار ما يترتب على كل منهما
__________________
من النفع والضر كما ينادي به الخبر النبوي «لا خير بخير بعده النار ، ولا شر بشر بعده الجنة».
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الذي ظهر لي في معنى الخبرين المذكورين أنهما إنما خرجا مخرج التقية.
وتوضيح ذلك :
إنه قد ظهر بما قدمناه من الوجوه أن المخالف ناصبا كان بالمعنى الذي يدعونه أو
غيره لا خير فيه بوجه من الوجوه ، فخرج من البين بذلك ولو حمل الخير في الخير على
مطلق الخير كما ادعاه في المسالك لجامع الفسق البتة ، إذ لا فاسق متى كان مسلما
إلا وفيه خير ، فيلزم صحة الطلاق مع شهادة الفاسق ، وهو باطل إجماعا نصا وفتوى ،
لدلالة الآية والرواية على رد خبره ، فلا بد من حمل الخير على أمر زائد على مجرد
الإسلام ، ووجه الإجمال في الخبرين بالنسبة إلى هذه العبارة إنما هو التقية التي
هي في الأحكام الشرعية أصل كل بلية ، وذلك أن السائل في الخبر الثاني لما سأله عن كيفية طلاق السنة أجابه عليهالسلام بالحكم الشرعي الواضح ، وهو أن يطلقها إذا طهرت من
حيضها قبل أن يغشاها بشاهدين عادلين كما قال الله تعالى عزوجل في كتابه ، فإن خالف ذلك رد إلى الكتاب ، بمعنى أنه
يبطل ما أتى به من الطلاق لمخالفة الكتاب باشتراط عدالة الشاهدين ونحوه من تلك
الشروط.
ولا ريب أن
الطلاق بشهادة الناصبين بهذا التقرير باطل عند كل من له أنس بالأخبار ومعرفة بما
يعتقدونه عليهمالسلام في مخالفيهم من الكفر والشرك والعداوة ، فيجب رد من
أشهدهما على طلاق إلى كتاب الله الدال على بطلان هذا الطلاق ، لكن لما سأل سائل
بعد ذلك عن خصوص ذلك ، وكان المقام لا يقتضي الإفصاح بالجواب الواقعي أجمل عليهالسلام في الجواب بعبارة توهم بظاهرها ما ذكره ، وتوهموه في
بادي
__________________
النظر ، إلا أنه لما كان الناصب بمقتضى ما علم من مذهبهم وتواترت به
أخبارهم لا خير فيه بالكلية كما عرفته ، وجب إخراجه من المقام ، وحمل العبارة
المذكورة على من عداه ، ومما ذكرنا يعلم الكلام في الخبر الآخر.
وبذلك يظهر لك
زيادة على ما قدمناه ما في كلام السيد السند وقوله «إن الروايتين سالمتان من
المعارض» فإن معارضيهما أكثر من أن يحصى.
وبالجملة فإن
الواجب في الاستدلال بالخبر في هذا الموضع وغيره النظر إلى انطباق موضع الاستدلال
على مقتضى القواعد المعتبرة ، والقوانين المقررة في الأخبار ، فمتى كان مخالفا لها
وخارجا عنها وجب طرحه ، وامتنع الاستناد إليه ، وإن كان ذلك الخبر صحيح السند صريح
الدلالة ، لاستفاضة أخبارها بعرض الأخبار على الكتاب والسنة ، ولكن عادة أصحاب هذا
الاصطلاح سيما السيد المذكور قصر النظر على الأسانيد ، فمتى صح الخبر لم ينظروا
إلى ما في متنه من العلل كما قدمنا التنبيه عليه في غير موضع.
ثم إنه قال في
المسالك في هذا المقام : ويتفرع على المشهور من اعتبار عدالة الشاهدين بمعنى ملكة
التقوى والمروة أن المعتبر ثبوتها ظاهرا لا في نفس الأمر لأنه لا يطلع عليه إلا
الله ، فلو اعتبر ذلك في حق غيرهما لزم التكليف بما لا يطاق ، فلا يقدح فسقهما في
نفس الأمر في صحة الطلاق مع ظهور عدالتهما ، ولا يشترط حكم الحاكم بها ، بل ظهورها
عند المطلق ومن يرتب على الطلاق حكما ، وهل يقدح فسقهما في نفس الأمر بالنسبة
إليهما حتى لا يصلح لأحدهما أن يتزوج بها أم لا؟ نظرا إلى حصول شرط الطلاق ، وهو
العدالة ظاهرا ، وجهان ، وكذا لو علم الزوج فسقهما مع ظهور عدالتهما ، ففي الحكم
بوقوع الطلاق بالنسبة حتى تسقط عنه حقوق الزوجية ، ويستبيح أختها والخامسة وجهان ،
والحكم بصحته فيهما لا يخلو من قوة ، انتهى.
أقول : لا يخفى
أن العدالة بالنسبة إلى المتصف بها غيرها بالنسبة إلى غيره ممن يتبعه ويعتقد
عدالته ، وكلامه بالنسبة إلى الغير صحيح لا شك فيه
ولا مرية تعتريه سواء فسرنا العدالة بالملكة كما هو المشهور بين المتأخرين
، وهو الذي ذكره هنا ، أو حسن الظاهر الذي دل عليه صحيح ابن أبي يعفور كما هو المشهور بين متأخري المتأخرين ، فإنه على أي
منهما إنما يبنى فيهما على ما يظهر للتابع ومعتقد العدالة من الاتصاف بذلك الصفات
التي تضمنها الخبر مع عدم ظهور ما ينافيها ، وإنما الاشكال ومحل البحث بالنسبة
إليه هو في نفسه.
وتوضيحه : إن
من علم من نفسه الفسق مع كونه على ظاهر العدالة بين الناس ، فهل يجوز له الدخول في
الأمور المشروطة بالعدالة ، وتقلدها من الإمامة في الجملة والجماعة والشهادة
والجلوس في مجلس الحكم والقضاء بين الناس ونحو ذلك أم لا؟
ظاهر شيخنا
المذكور ذلك ، واقتضاه فيما ذكره هنا من الصورتين المذكورتين بعض مشايخنا
المعاصرين وتوقف آخر ، وفي الكفاية وافقه في
__________________
الاولى دون الثانية.
والذي ظهر لي
بعد إمعان النظر في المقام ومراجعة أخبارهم عليهمالسلام هو عدم جواز الدخول في هذه الأمور والحال هذه.
وبيان ذلك : إن
ظاهر الآية والأخبار الدالة على النهي عن قبول خبر الفاسق ، والنهي عن الصلاة خلفه
إنما هو من حيث الفسق ، لأن التعليق على الوصف مشعر بالعلية ، وهو مشعر بأن الفاسق
ليس أهلا لهذا المقام ، ولا صالحا لتقلد هذه الأحكام ، وإذا كان الشارع لم يره
أهلا لذلك ، ولا صالحا لسلوك هذه المسالك لمنع الناس من الاقتداء به وقبول خبره ،
ونحو ذلك ، فهو في معنى منعه له من ذلك ، فإدخاله نفسه فيما لم يره الله عزوجل أهلا له موجب لمخالفته عزوجل والتعرض لسخطه. وجواز اقتداء الناس به من حيث عدم ظهور
فسقه لهم لا يدل على جواز الدخول له ، لأن حكم الناس في ذلك غير حكمه هو في حد
ذاته ، والكلام إنما في الثاني ، وأحدهما لا يستلزم الآخر بوجه ، نظير ذلك في
الأحكام غير عزيز ، فإن لحم الميتة محرم على العالم به ، وحلال بالنسبة إلى الجاهل
به.
ويؤيد ما قلناه
ظواهر جملة من الأخبار مثل صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «خمسة لا يؤمون الناس على كل حال : المجنون
والأبرص والمجذوم وولد الزنا والأعرابي».
ونحوها صحيحة
محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام.
والتقريب فيهما
أنهما إنما قد صرحا بتوجه النهي إلى هؤلاء عن الإمامة لأنهم ليسوا من أهلها
باعتبار ما هي عليه من العيوب المذكورة المانعة من أهلية الإمامة ، وبعض الأخبار
وإن ورد أيضا في نهي الناس عن الائتمام بهم ، إلا أن
__________________
النهي إنما توجه إلى المؤتمين.
وأما في هذين
الخبرين الصحيحين فإنه إنما توجه إلى الامام بأن لا يكون من أحد هؤلاء ، فلو فرضنا
عدم علم الناس بما هم عليه من هذه الصفات المانعة من الإمامة مع اعتقاد الناس فيهم
العدالة ، فإنه يجوز للناس الاقتداء بهم بالتقريب المتقدم ، لكن بمقتضى هذين
الخبرين لا يجوز لهم الإمامة لما هم عليه من الموانع المذكورة وإن خفيت على الناس
، وهذا بعينه جار في الفاسق الذي هو محل البحث بأن كان عالما بفسق نفسه وإن خفي
على الناس ، ومما يؤيد ذلك قول أمير المؤمنين عليهالسلام لشريح : يا شريح جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي
نبي أو شقي ، ونحوه.
والتقريب فيها
هو ظهورها في النهي عمن لم يكن مستكملا لأسباب النيابة وشرائطها ، وأهلية الحكم
والفتوى ، ولا ريب أن أعظم الأسباب المانعة الفسق ، فهي ظاهرة في منع الفاسق من
الجلوس في هذا المقام وإن كان ظاهر العدالة بين الأنام ، وعدم جواز تقلده الأحكام.
وجواز تقليد. الناس له من حيث عدم ظهور فسقه لهم لا يدل على جوازه له ، لأنه عالم
بأن الشارع قد منع الناس عن اتباع الفاسق وتقليده ، وليس إلا من حيث فسقه ، فالفسق
صفة مانعة من تقلد هذه الأمور ، وكلام من قدمنا كلامه وإن كان مخصوصا بالشهادة أو
مع الإمامة ، إلا أن المواضع الثلاثة واحد ، فإن مبنى الكلام هو أنه هل يكتفي
بظهور العدالة في جواز التقلد لهذه الأمور المشروطة بها وإن لم يكن كذلك واقعا؟ أم
لا بد من ثبوتها واقعا؟ فالكلام جار في جميع ما يشترط فيه العدالة ، وهذا أحدها.
ومما يؤيد ما
ذكرناه بأوضح تأييد هو أن الظاهر المتبادر من الآية والأخبار المصرح فيها بالعدالة
واشتراطها في الشاهد مثل قوله عزوجل
«وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ» وقوله عليهالسلام يطلقها بحضور عدلين أو إذا شهدا عدلين ونحو ذلك هو
اتصاف الشاهد بالعدالة في حد نفسه وذاته ، لا بالنظر إلى غيره ، إذ لا يخفى أن
قولنا فلان عدل وفلان ثقة مثل قولنا فلان عالم وشجاع وجواد ونحو ذلك ، ومن المعلوم
في جميع ذلك إنما هو اتصافه بهذه الصفات في حد ذاته ، غاية الأمر أنه قد يطابق علم
المكلف والواقع في ذلك ، وقد يختلفان ، بأن يكون كذلك في نظر المكلف ، وإن لم يكن
واقعا ، وحينئذ فيلزم كلا حكمه ، فيلزم من اعتقد عدالته جواز الاقتداء به مثلا
وقبول شهادته ، ويلزمه هو عدم جواز الدخول في ذلك ، كذا يلزم من اطلع على فسقه عدم
جواز الاقتداء به.
وعلى هذا فإذا
كان المراد من الآية والأخبار المشار إليها إنما هو اتصافه في حد ذاته ، فكيف يجعل
المناط الاتصاف بالعدالة باعتبار الغير كما توهموه وبنوا عليه ما بنوا من الفروع
المذكورة؟ ولا ريب أنه متى كان كذلك إنما هو بالنسبة إليه في حد ذاته ، فإنه لا
يجوز له الدخول فيما هو مشروط بالعدالة البتة.
وبذلك يظهر ما
في كلام صاحب المسالك ومن تبعه من الوهن والقصور ولا سيما في فرضه الثاني ، وهو ما
إذا علم الزوج فسقهما فطلق بحضورهما مع ظهور عدالتهما بين الناس ، فإنه أوهن من
بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ، ومقتضى تجويزه الطلاق هنا جواز اقتداء من علم
فسق الامام به في الصلاة ، لظهور عدالته بين الناس ، وهكذا قبول فتواه وأحكامه ،
والكل في البطلان أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، وبالحملة فالطلاق في الصورتين
المفروضتين مما لا إشكال في بطلانه ولا سيما الثانية.
المسألة
الثالثة : قال المحقق ـ رحمة الله عليه ـ في الشرائع : فلو شهد
أحدهما
__________________
بالإنشاء ثم شهد الآخر به بانفراده لم يقع الطلاق ، أما لو شهدا بالإقرار
لم يشترط الاجتماع ، ولو شهد أحدهما بالإنشاء والآخر بالإقرار لم يقبل ، ولا تقبل
شهادة النساء في الطلاق لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال ، ولو طلق ولم يشهد ثم
أشهد كان الأول لغوا ووقع حين الإشهاد إذا أتى باللفظ المعتبر في الإنشاء.
أقول : الكلام
في هذه المقالة في مواضع : الأول : قوله «ولو شهد أحدهما ـ إلى قوله ـ لم يقع
الطلاق» والوجه في عدم وقوع الطلاق دلالة الأخبار صريحا وكذا ظاهر الآية على اجتماع الشاهدين في السماع ، وأنه لا يكفي تفريقهما
بأن يطلق بحضرة واحد منهما ثم يطلق مرة أخرى بحضرة الآخر.
ومن الأخبار
المذكورة ما رواه في الكافي عن أحمد بن أبي نصر في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا
الحسن عليهالسلام عن رجل طلق امرأته على طهر من غير جماع أشهد اليوم رجلا
، ثم مكث خمسة أيام واشهد آخر ، قال : إنما أمر أن يشهدا جميعا».
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليهالسلام قال : «سألته عن تفريق الشاهدين في الطلاق ، فقال : نعم
وتعتد من أول الشاهدين وقال : لا يجوز حتى يشهدا جميعا».
وموضع الدلالة
من الخبر المذكور قوله في آخره «ولا يجوز حتى يشهدا جميعا» وأن المراد به حال
التحمل للشهادة ، وصدر الخبر مراد به الأداء لها ، ولهذا قال «وتعتد من أول
الشاهدين» ولكن لا يجوز التزويج إلا بعد أداء الشاهد الثاني الذي يحصل به الثبوت
الشرعي ، ولو جاز التفريق في التحمل لم يجز الاعتداد إلا بالأخير لعدم صحة الطلاق
إلا بعد شهادة الأخير ، هذا مع قطع النظر
__________________
عن تصريحه في آخر الخبر بعدم جواز التفريق ، وبالجملة فالحكم المذكور لا
خلاف ولا إشكال فيه.
الثاني : قوله «أما
لو شهدا بالإقرار لم يشترط الاجتماع» والوجه فيه ظاهر ، لأن الإقرار اعتراف وإخبار
عن طلاق سابق و «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» والحكم فيه كما في غيره من
الإقرارات ، ولا يشترط فيه اجتماع الشهود وإنما يشترط ذلك في الشهادة على إنشاء
الطلاق كما دل عليه الخبران المتقدمان نعم لو كان الطلاق الأول باطلا ، كأن يكون
بغير شهود أو بشاهد واحد ، وعلم أن الإقرار الذي أقر له أخيرا إنما هو إشارة إلى
ذلك الطلاق ، فلا ريب في البطلان وإن أقر به عند شاهدين مجتمعين ، فإنه إذا لم يصح
الطلاق السابق لم يصح الإقرار به ، والحكم بالصحة إنما هو مع إطلاق الإقرار ، لأن
الإطلاق منزل على الصحيح سواء شهد على إقراره الواحد شاهدان في دفعة ، أو شهدا
متفرقين بأن أقر عند كل واحد ، لأن صحة الإقرار لا يشترط فيها
الاشهاد ، وإنما المعتبر ثبوته شرعا متى توقف عليها وهو يحصل مع كل من الأمرين لأن مرجعهما إلى أمر واحد ، وبالجملة فالحكم مما لا
إشكال فيه.
الثالث : قوله «ولو
شهد أحدهما بالإنشاء والآخر بالإقرار لم يقبل» والوجه فيه ظاهر مما تقدم ، فإن
الطلاق الذي سمعه أحدهما بالإنشاء باطل لعدم استكماله لشروط صحة الطلاق ، وهو
اجتماع الشاهدين ، ومتى بطل كان الإقرار به باطلا وإن شهد به اثنان فضلا عن الواحد
كما عرفت آنفا.
الرابع : قوله «ولا
تقبل شهادة النساء في الطلاق ـ إلى قوله ـ إلى الرجال» ويدل عليه ظاهر الآية وجملة
من الأخبار مضافا إلى ظاهر اتفاق الأصحاب على
__________________
(منه ـ قدسسره ـ).
ذلك ، فإن قوله عزوجل «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ» ظاهر في اعتبار ذكوريتهما.
ومن الأخبار قول
أبي عبد الله عليهالسلام في صحيحة الحلبي «وأنه سئل عن شهادة النساء في النكاح ، قال : تجوز إذا كان معهن رجل ، وكان
علي عليهالسلام يقول : لا أجيزها في الطلاق» الحديث.
وقول أبي الحسن
الرضا عليهالسلام في رواية محمد بن الفضل «ولا تجوز شهادتهن في الطلاق ولا في الدم».
وقول أبي عبد
الله عليهالسلام في رواية داود بن الحصين «وكان أمير المؤمنين عليهالسلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح ولا يجيز في الطلاق إلا
بشاهدين عدلين».
وقول علي عليهالسلام في رواية السكوني «شهادة النساء لا تجوز في نكاح ولا طلاق ولا في الحدود إلا في الديون وما
لا يستطيع الرجل النظر إليه».
وقوله عليهالسلام في رواية محمد بن مسلم «لا تجوز شهادة النساء في الهلال ولا في الطلاق».
الخامس : قوله «ولو
طلق ولم يشهد ثم أشهد. إلخ» والوجه في كون الأول لغوا هو عدم استكمال الشرائط التي
من جملتها سماع الشاهدين ، والحكم بوقوع الثاني لا بد فيه أيضا من استكمال الشرائط
، وإلا لم يقع. وقوله «إذا
__________________
أتى باللفظ المعتبر في الإنشاء» إشارة إلى قصد الطلاق ، فلو قصد الاخبار
ولو كان بذلك اللفظ لقوله «اشهدوا بأن فلانة طالق» قاصدا به الاشهاد لا الإنشاء لم
يقع. وعلى هذا فالمائز بين العبارتين وصحة الطلاق في أحدهما دون الآخر هو النية
والقصد فإن قصد الإنشاء وقع ، وإن قصد الاشهاد لم يقع ، ويمكن علم الشاهدين به
بالقرائن المفهمة للحال ، أو أخباره بذلك.
والأصل في هذا
الحكم
صحيحة أحمد بن
محمد قال : «سألته عن الطلاق ، فقال : على طهر ، وكان علي عليهالسلام يقول : لا طلاق إلا بالشهود ، فقال له رجل : إن طلقها
ولم يشهد ثم أشهد بعد ذلك بأيام فمتى تعتد؟ فقال : من اليوم الذي أشهد فيه على
الطلاق». والظاهر أن إطلاق الرواية مبني على ما علم من غيرها من إخبار الطلاق من
وجوب استكمال الشروط في صحته الذي من جملتها قصد الإنشاء وغيره.
المقصد الثاني في أقسام الطلاق
وينقسم إلى
بدعي وسني ، والسني ينقسم إلى بائن ورجعي ، والرجعي ينقسم إلى عدي وغيره ، فهنا
أقسام أربعة :
الأول
: الطلاق
البدعي ، منسوب إلى البدعة وهو المحرم إيقاعه ، والمراد بالسني الذي يقابله هنا هو
السني بالمعني الأعم ، وهو الجائز شرعا سواء كان واجبا أو مندوبا أو مكروها .
__________________
وللبدعي أسباب
ثلاثة : (أحدها) الحيض ، فلا يجوز طلاق الحائض بعد الدخول مع حضور الزوج أو ما في
حكمه من غيبته دون المدة المشروطة على ما تقدم تحقيقه مع كونها حائلا ، وكذا
النفساء.
(وثانيها) عدم
استبرائها بطهر آخر غير ما مسها فيه بأن يطلقها في الطهر الذي مسها فيه. وهذان
السببان متفق عليهما بين الخاصة والعامة.
(وثالثها)
طلاقها أزيد من واحدة بغير رجعة مخللة بين الطلقات ، والتحريم في هذه الصورة من
خصوصيات مذهب الشيعة ، ووافقهم أبو حنيفة ومالك في بدعية الجمع بين الطلقات بلفظ
واحد ، واتفق الجمهور على صحة طلاق البدعة مع الإثم ، وأصحابنا على بطلانه إلا فيما زاد على الواحد ، فإنه مع وقوعه مترتبا يقع
واحدا إجماعا ، ومع وقوعه بلفظ واحد يقع واحدا أيضا على الخلاف المتقدم.
وأورد على ما
ذكر من التخصيص بهذه الأسباب الثلاثة الطلاق بالكتابة ، وبدون الإشهاد فإنه باطل ،
وكذا الطلاق أزيد من مرة مرتبا إذا لم يتخلل بينها رجعة.
ويمكن الجواب
باختصاص البدعة بالثلاثة المتقدمة ، وأن ما زاد يكون باطلا ويكون الطلاق الباطل
أعم من البدعي فإنه مجرد اصطلاح لا مشاحة فيه ، لكن على هذا لا يكون القسمة حاصرة
، فإن المقسم مطلق الطلاق الذي هو أعم من الصحيح والفاسد ، وكيف كان فالأمر في ذلك
سهل بعد وضوح الحكم في كل من هذه الأفراد.
الثاني :
الطلاق السني البائن ، وهو ما لا يصح للزوج الرجعة معه ، وهو
__________________
سنة : طلاق التي لم يدخل بها ، واليائسة ، ومن لم تبلغ المحيض ، والمختلعة
، والمبارأة ما لم ترجعا في البذل ، والمطلقة ثلاثا بينها رجعتان إذا كان حرة ،
وإلا فاثنتان.
قالوا :
والمراد بالدخول الموجب للعدة القدر الموجب للغسل ، وهو غيبوبة الحشفة أو قدرها في
قبل أو دبر.
أقول : وتدل
عليه جملة من الأخبار تقدم نقلها في فصل المهور ، إلا أن في دخول الموطوءة في
الدبر في ذلك إشكال تقدم التنبيه عليه. والمراد بمن لم تبلغ المحيض ، أي لم تبلغ
التسع ، فلو بلغتها لزمتها العدة مع الوطء ، وإن لم تكن ممن تحيض عادة ، وتقييد
المختلعة والمبارأة بما لم ترجعا في البذل يقتضي أن الطلاق يكون رجعيا مع الرجوع
فيه ، فالعدة هنا قد تكون بائنة ورجعية بالاعتبارين المذكورين.
الثالث : الطلاق الرجعي العدي ، وهو الذي يصح معه الرجعة وإن
لم يرجع ويكون ذلك فيما عدا الأقسام الستة المتقدمة في البائن ، وعلى هذا وما تقدم
في سابق هذا القسم يكون طلاق المختلعة تارة من أقسام البائن ، وهو فيما إذا لم
ترجع في البذل ، وتارة من أقسام الرجعي ، وهو في صورة الرجوع ، وإطلاق الرجعي على
هذا القسم يكون بسبب جواز الرجوع فيه وإمكانه ، ويعبر عن بعض أفراده بطلاق العدة وهو أن يطلق على الشرائط ، ثم يراجع قبل الخروج من
العدة ويواقع ، ثم يطلقها في غير طهر المواقعة ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم يطلقها
في طهر آخر ، وهذه تحرم في الثالثة حتى تنكح زوجا غيره ، وفي التاسعة مؤبدا كما ذكروه
من غير خلاف يعرف ، وفيه كلام يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى في المقام ،
ولو طلق بعد المراجعة قبل المواقعة صح ، إلا أنه لا يسمى طلاق العدة ، لاختلال أحد
__________________
شروطه وهو المواقعة ، ويكون طلاق السنة بالمعنى الأعم.
الرابع
: الطلاق السني
بالمعنى الأخص ، وهو المشار إليه آنفا بأنه غير العدي ، وهو عبارة أن يطلقها
ويتركها حتى تخرج من العدة ، رجعية كانت العدة أو بائنة ، ثم يتزوجها إن شاء ثم
يطلقها ويتركها حتى تخرج من العدة ثم يتزوجها ، وهذه تحرم في كل ثالثة حتى تنكح
زوجا غيره على المشهور ، ولا تحرم مؤبدا وإن بلغ تسعا ، وفيه أيضا ما سيأتي
التنبيه عليه إن شاء الله تعالى ، وهو يشارك طلاق العدة في الحكم الأول ، ويفارقه
في الثاني ، والثاني منهما محل وفاق عندهم.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع :
الأول : قال السيد السند في شرح النافع : قد نقل جمع من الأصحاب الإجماع على أن
المطلقة تسعا للعدة تحرم مؤبدا ، ولم ينقلوا على ذلك دليلا. والذي وقفت عليه في
ذلك ما رواه الكليني عن زرارة بن أعين وداود بن سرحان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الملاعنة إذا لاعنها زوجها لم تحل له أبدا ،
والذي يتزوج المرأة في عدتها وهو يعلم لا تحل له أبدا ، والذي يطلق الطلاق الذي لا
تحل له حتى تنكح زوجا غيره ثلاث مرات لا تحل له أبدا ، والمحرم إذا تزوج وهو يعلم
أنه حرام عليه لا تحل له أبدا».
وفي الصحيح عن
جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليهالسلام ، وإبراهيم بن عبد الحميد عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهماالسلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة فتزوجت ، ثم طلقها زوجها
فتزوجها الأول ، ثم طلقها فتزوجت رجلا آخر ، ثم طلقها فتزوجها الأول ، فطلقها هكذا
ثلاثا لم تحل له أبدا».
وإطلاق الرواية
الاولى وخصوص الثانية يقتضي حصول التحريم بالطلقات
__________________
التسع التي ليست للعدة ، لكن لا أعلم بمضمونه قائلا ، انتهى.
أقول : قد تقدم
تحقيق الكلام في المقام في المطلب الرابع في استيفاء العدد من الفصل الثاني في أسباب
التحريم من كتاب النكاح ، وذكرنا ما يدل على كلام الأصحاب ، إلا أن المسألة بقيت
في قالب الاشكال لعدم حضور ما يحصل به الجمع بين أخبارها ، وإلى ما ذكرنا من هذا
الكلام أشرنا فيما قدمنا في القسم الثالث والرابع بقولنا فيه ما ينبغي التنبيه
عليه ، فإن مقتضى ما ذكره السيد السند من الأخبار المذكورة التحريم بالتسع مؤبدا
في الطلاق العدي والسني بالمعنى الأخص جميعا ، والأصحاب إنما أثبتوا التحريم بذلك
في العدي خاصة وصرحوا بنفيه في السني.
وثانيها : قد
تكاثرت الأخبار بتقسيم الطلاق إلى طلاق العدة وطلاق السنة ، وبذلك صرح الشيخ في
النهاية وجمع من الأصحاب.
فروى الكليني في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «أنه قال : كل طلاق لا يكون عن السنة أو على العدة ليس بشيء ، قال زرارة :
قلت لأبي جعفر عليهالسلام : فسر لي طلاق السنة وطلاق العدة ، فقال : أما طلاق
السنة فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فلينتظر بها حتى تطمث وتطهر ، فإذا خرجت من
طمثها طلقها تطليقة من غير جماع ، ويشهد شاهدين على ذلك ، ثم يدعها حتى تطمث
طمثتين فتنقضي عدتها بثلاث حيض وقد بانت منه ، ويكون خاطبا من الخطاب ، إن شاءت
زوجته وإن شاءت لم تزوجه ، وعليه نفقتها والسكنى ما دامت في عدتها ، وهما يتوارثان
حتى تنقضي العدة ، قال : وأما طلاق العدة الذي قال الله تعالى «فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ»
فإذا أراد الرجل منكم أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض
وتخرج من حيضها. ثم يطلقها تطليقة من غير جماع ،
__________________
ويشهد شاهدين عدلين ويراجعها من يومه ذلك إن أحب ، أو بعد ذلك بأيام قبل أن
تحيض ، ويشهد على رجعتها ويواقعها حتى تحيض ، فإذا حاضت وخرجت من حيضها طلقها
تطليقة أخرى من غير جماع ، ويشهد على ذلك ، ثم يراجعها أيضا متى شاء قبل أن تحيض ،
ويشهد على رجعتها ويواقعها ، وتكون معه إلى أن تحيض الحيضة الثالثة ، فإذا خرجت من
حيضتها الثالثة طلقها التطليقة الثالثة بغير جماع ويشهد على ذلك ، فإذا فعل ذلك
فقد بانت منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، قيل له : فإن كانت ممن لا تحيض؟
فقال : مثل هذه تطلق طلاق السنة».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «طلاق السنة يطلقها تطليقة على طهر من غير جماع
بشهادة شاهدين ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها ، فإذا مضت أقراؤها فقد بانت منه ، وهو
خاطب من الخطاب إن شاءت نكحته وإن شاءت فلا ، وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها
قبل أن تمضى أقراؤها فتكون عنده على التطليقة الماضية».
وعن أبي بصير في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن طلاق السنة ، قال : طلاق السنة إذا
أراد الرجل أن يطلق امرأته يدعها إن كان قد دخل بها حتى تحيض ثم تطهر ، فإذا طهرت
طلقها واحدة بشهادة شاهدين ، ثم يتركها حتى تعد ثلاثة قروء ، فإذا مضت ثلاثة قروء
فقد بانت منه بواحدة ، وكان زوجها خاطبا من الخطاب ، إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم
تفعل ، فإن تزوجها بمهر جديد كانت عنده على ثنتين باقيتين وقد مضت الواحدة ، فإن
هو طلقها واحدة أخرى على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم تركها حتى تمضي أقراؤها
، فإذا مضت أقراؤها من قبل أن يراجعها فقد بانت منه باثنتين وملكت أمرها ، وحلت
للأزواج ، وكان زوجها خاطبا من الخطاب ، إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تفعل ، فإن هو
تزوجها
__________________
تزويجا جديدا بمهر جديد كانت معه بواحدة باقية وقد مضت اثنتان ، فإن أراد
أن يطلقها طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره تركها ، حتى إذا حاضت وطهرت أشهد
على طلاقها تطليقة واحدة ، ثم لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وأما طلاق الرجعة فأن
يدعها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلقها بشهادة شاهدين ثم يراجعها ويواقعها ، ثم ينتظر
بها الطهر ، فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على التطليقة أخرى ثم يراجعها ويواقعها ،
ثم ينتظر بها الطهر ، فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على التطليقة الثالثة ، ثم لا تحل
له حتى تنكح زوجا غيره ، وعليها أن تعتد ثلاثة قروء من يوم طلقها التطليقة الثالثة»
الحديث.
قال في الكافي
: ويستفاد من كلام بعضهم أن المعتبر في طلاق العدة الطلاق ثانيا بعد المراجعة
والمواقعة ، وبعضهم لم يعتبر الطلاق ثانيا.
قيل : وربما
لاح من كلام الشيخ في النهاية وجماعة أن الطلاق الواقع بعد المراجعة والمواقعة
يوصف بكونه عديا وإن لم يقع بعده رجوع ووقاع ، لكن الطلاق الثالث لا يوصف بكونه
عديا إلا إذا وقع بعد الرجوع والوقاع ، وفي بعض الروايات دلالة عليه.
أقول : ظاهر
القول الأول والثاني هو اتصاف الطلاق الأول والثاني بكونه عديا دون الثالث ، لأن
الأول جعل شرط الاتصاف بكونه عديا هو الطلاق ثانيا بعد المراجعة والمواقعة ،
والقول الثاني اقتصر على المراجعة والمواقعة ، وكل منها حاصل في التطليقة الاولى
والثانية ، أما الثالثة فلا ، ومقتضى ما نقل عن النهاية والجماعة المذكورين هو عدم
اتصاف الطلاق الأول بكونه عديا ، وإنما يتصف بذلك الطلاق الثاني والثالث.
والذي وقفت
عليه في تفسير الطلاق العدي من الأخبار المروية في كتب الأخبار هو ما نقله من
الخبرين المذكورين ، ولم أقف على غيرهما. والمفهوم منهما أن الطلاق العدي عبارة عن
هذه الطلقات الثلاث الواقعة على هذه الكيفية من غير
تخصيص بالأولى أو الثانية أو غيرهما.
وفي معنى
الخبرين المذكورين قول الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي ـ بعد أن ذكر طلاق السنة على نحو ما قدمناه في الأخبار
المذكورة ـ : «وأما طلاق العدة فهو أن يطلق الرجل امرأته على طهر من غير جماع
بشاهدين عدلين ثم يراجعها من يومه أو من غد أو متى ما يريد من قبل أن تستوفي
قروءها. فإذا أراد أن يطلقها ثانية لم يجز ذلك إلا بعد الدخول بها ، وإذا أراد
طلاقها يتربص بها حتى تحيض وتطهر ، ثم طلقها في قبل عدتها بشاهدين عدلين ، فإن
أراد مراجعتها راجعها. فإن طلقها الثالثة فقد بانت منه ساعة طلقها ، فلا تحل له
حتى تنكح زوجا غيره ، فإذا انقضت عدتها منه وتزوجها رجل آخر وطلقها أو مات عنها
وأراد الأول أن يتزوجها فعل ، وإن طلقها ثلاثا واحدة بعد واحدة على ما وصفناه لك
فقد بانت منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فإن تزوجها وطلقها أو مات عنها
وأراد الأول أن يتزوجها فعل ، فإن طلقها ثلاث تطليقات على ما وصفته واحدة بعد
واحدة فقد بانت منه ، ولا تحل له بعد تسع تطليقات أبدا».
وربما أشعر صدر
كلامه عليهالسلام بأن طلاق العدة ليس إلا عبارة عن الطلاق على الشروط ،
ثم الرجوع في العدة خاصة حيث إنه بعد أن فسره بذلك قال : «فإذا أراد أن يطلقها
ثانية لم يجز ذلك إلا بعد الدخول بها» فجعل الدخول بها شرطا في صحة الطلاق ثانيا.
وظاهره أن طلاق العدة يتحقق بدون المواقعة.
وكيف كان فتوقف
صحة الطلاق ثانيا على المواقعة محل كلام يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى ،
وقد تضمن ذلك عجز صحيحة أبي بصير المتقدمة مما لم ننقله منها ، وهو موافق لما ذهب
إليه ابن أبي عقيل في تلك المسألة الآتي تحقيقها إن شاء الله تعالى في محله.
وقال شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك : واعلم أن تعريف المصنف وغيره لطلاق
__________________
السنة بالمعنى الأخص يقتضي اختصاصه بذات العدة ، وأنه يشمل العدة البائنة
والرجعية ، وفي كثير من الأخبار كالذي أسلفناه ما يدل على اختصاصه بالعدة الرجعية
ثم لا يراجع فيها ، والوجه لحوق أحكامه بكل طلاق لا يلحقه رجعة ، سواء كان ذلك
لعدم العدة أم لكونها بائنة ، أم لكونها رجعية ولم يرجع ، فإنها لا تحرم به في
التاسعة مؤبدا ، لاختصاص ذلك الحكم بطلاق العدة ، ولصدق عدم الرجعية في جميع ما
ذكرناه ، انتهى.
أقول : ما ذكره
ـ رحمهالله ـ من دلالة الأخبار على اختصاص طلاق السنة بذات العدة
الرجعية التي لم يرجع فيها جيد كما لا يخفى على من تأمل الأخبار التي قدمناها ،
فتعريفه بما يدخل فيه غير هذا الفرد من العدة البائنة أو غير ذات العدة غير جيد.
نعم لما كان
التحريم في التاسعة مقصورا في الأخبار على طلاق العدة ومشروطا فيه المراجعة في
العدة والمواقعة بعد الرجعة كان ما عداه من الأقسام المذكورة لا تحرم بها المرأة
في التاسعة ، فهو حكم ثابت لطلاق السنة وغيره من الأفراد المذكورة.
وثالثها :
المشهور بين الأصحاب أنه إذا طلق زوجته طلاق السنة المتقدم شرحه فإنها بعد الثالثة
لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وهذا الطلاق يفارق طلاق العدة في أن المطلقة به لا
تحرم مؤبدا ، بخلاف طلاق العدة فإنها تحرم بعد التاسعة مؤبدا ، وهو محل وفاق على
ما نقله في المسالك ، ويشاركه بناء على المشهور في عدم الحل بعد الثالثة حتى تنكح
زوجا غيره.
ونقل عن عبد
الله بن بكير أن هذا الطلاق ـ أعني طلاق السنة ـ لا يحتاج إلى محلل بعد الثلاثة بل استيفاء العدة الثالثة بهدم التحريم ، وهو ظاهر
الصدوق
__________________
في الفقيه أيضا ، حيث قال بعد أن أورد طلاق السنة : فجائز له أن
يتزوجها بعد ذلك ، وسمي طلاق السنة طلاق الهدم ، لأنه متى استوفت قروءها وتزوجها
ثانية هدم الطلاق الأول. وهو كما ترى ظاهر فيما ذهب اليه ابن بكير ، والمشهور في
كلام الأصحاب تخصيص الخلاف في هذا المقام بابن بكير ، حتى أن شيخنا الشهيد الثاني
في الروضة اعترض المصنف في قوله في اللمعة «وقد قال بعض الأصحاب أن هذا الطلاق لا
يحتاج إلى محلل بعد الثلاث» ـ بعد تفسيره البعض المذكور بابن بكير وذكر رواياته ـ بأن
عبد الله بن بكير ليس من أصحابنا الإمامية ، ولقد كان ترك حكاية قوله في هذا
المختصر أولى.
وفيه أنه يجوز
أن يكون المصنف إنما أراد بذلك البعض الصدوق لما عرفت ثم إنه لا يخفى عليك أن
الظاهر أن عبارة الصدوق هنا مأخوذة من كتاب الفقه الرضوي حيث قال عليهالسلام بعد شرح طلاق السنة : «وسمي طلاق السنة طلاق الهدم ،
لأنه متى استوفت قروءها وتزوجها الثانية هدم الطالق الأول ـ وهي كما ترى عين عبارة
الصدوق ، ثم قال عليهالسلام : ـ وروي أن طلاق الهدم لا يكون إلا بزوج ثان». انتهى ،
وهو إشارة إلى القول المشهور ، وفي نسبة ذلك إلى الرواية إيذان بأن الأول هو الذي
يختاره ويفتي به عليهالسلام ، ولهذا أفتى به الصدوق ـ رحمة الله عليه.
والواجب أولا
نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم الكلام بما يسر الله سبحانه فهمه منها ،
فمما يدل على القول المشهور صحيحة أبي بصير المتقدمة في سابق هذا الموضع.
__________________
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل طلق امرأته ، ثم تركها حتى انقضت عدتها ، ثم تزوجها ، ثم طلقها من
غير أن يدخل بها ، حتى فعل ذلك ثلاثا ، قال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره».
وعن الحسن بن
زياد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن طلاق السنة كيف يطلق الرجل امرأته؟
فقال : يطلقها في طهر قبل عدتها من غير جماع بشهود فإن طلقها واحدة ثم تركها حتى
يخلو أجلها فقد بانت منه ، وهو خاطب من الخطاب ، وإن راجعها فهي عنده على تطليقة
ماضية ، وبقي تطليقتان ، وإن طلقها الثانية ثم تركها حتى يخلو أجلها فقد بانت منه
، وإن هو أشهد على رجعتها قبل أن يخلو أجلها فهي عنده على تطليقتين ماضيتين وبقيت
واحدة ، فإن طلقها الثالثة فقد بانت منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وهي
ترث وتورث ما كان له عليها رجعة من التطليقتين الأولتين».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : إذا أراد الرجل الطلاق طلقها قبل عدتها في غير جماع
فإنه إذا طلقها واحدة ثم تركها حتى يخلو أجلها إن شاء أن يخطب مع الخطاب فعل ، فإن
راجعها قبل أن يخلو أجلها أو بعده كانت عنده على تطليقة ، فإن طلقها الثانية أيضا
فشاء أن يخطبها مع الخطاب إن كان تركها حتى يخلو أجلها ، فإن شاء راجعها قبل أن ينقضي وإن فعل
فهي عنده على تطليقتين ، فإن طلقها الثالثة
__________________
فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وهي ترث وتورث ما كانت في الدم من
التطليقتين الأولتين».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن ابن أذينة وزرارة وبكير ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية
والفضيل بن يسار وإسماعيل الأزرق ومعمر بن يحيى بن بسام كلهم سمعه عن أبي جعفر عليهالسلام وعن ابنه أبي عبد الله عليهالسلام بصورة ما قالوا وإن لم أحفظ حروفه غير أنه لم يسقط جمل
معناه : إن الطلاق الذي أمر الله به في كتابه وسنة نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن المرأة إذا حاضت وطهرت من حيضها أشهد رجلين عدلين
قبل أن يجامعها على تطليقه ، ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض لها ثلاثة قروء ، فإن
راجعها كانت عنده على تطليقتين وإن مضت ثلاثة قروء قبل أن يراجعها فهي أملك بنفسها
، فإن أراد أن يخطبها مع الخطاب خطبها ، فإن تزوجها كانت عنده على تطليقتين ، وما
خلا هذا فليس بطلاق.
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يراجعها بعد انقضاء عدتها ، فإذا طلقها
الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره» الحديث.
وما رواه في
الكافي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام في المطلقة التطليقة الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجا
غيره ويذوق عسيلتها».
ونحو هذه
الرواية مما دل بإطلاقه على ما ذكرناه ما رواه الشيخ في
__________________
الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليهالسلام قال : «البكر إذا طلقت ثلاثة مرات وتزوجت من غير نكاح
فقد بانت منه ، ولا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره».
ونحوها رواية
طربال عن أبي عبد الله عليهالسلام.
وعن عبد الله
بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام «في امرأة طلقها زوجها ثلاثا قبل أن يدخل بها ، قال : لا تحل له حتى تنكح
زوجا غيره».
وأما ما يدل
على ما ذهب إليه ابن بكير من أن استيفاء العدة يهدم الطلاق المتقدم ، ولا تحتاج
المطلقة كذلك إلى محلل بعد الثالثة ، فهو ما رواه
الشيخ عن ابن بكير عن زرارة قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : الطلاق الذي يحبه الله والذي يطلقه الفقيه وهو
العدل بين المرأة والرجل أن يطلقها في استقبال الطهر بشهادة شاهدين وإرادة من
القلب ثم يتركها حتى تمضي ثلاثة قروء ، فإذا رأت الدم في أول قطرة من الثالثة وهو
آخر القروء ـ لأن الأقراء هي الأطهار ـ فقد بانت منه ، وهي أملك بنفسها ، فإن شاءت
تزوجته وحلت له بلا زوج ، فإن فعل هذا بها مائة مرة هدم ما قبله وحلت بلا زوج ،
وإن راجعها قبل أن تملك نفسها ثم طلقها ثلاث مرات يراجعها ويطلقها لم تحل له إلا
بزوج».
وما رواه في
الكافي عن حميد بن زياد ، عن عبد الله بن أحمد عن ابن أبي عمير
عن ابن المغيرة عن شعيب الحداد ، عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته ثم لم يراجعها حتى حاضت ثلاث حيض ، ثم تزوجها ثم
طلقها فتركها حتى حاضت ثلاث حيض ، ثم تزوجها ، ثم طلقها من غير أن يراجع ، ثم
تركها حتى حاضت ثلاث حيض ، قال : له أن يتزوجها أبدا ما لم
__________________
يراجع ويمس. وكان ابن بكير وأصحابه يقولون هذا ما أخبرني ابن المغيرة ، قال
: قلت له : من أين قلت هذا؟ قال : قلته من قبل رواية رفاعة ، روى عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه يهدم ما مضى ، قال : قلت له : فإن رفاعة إنما قال :
طلقها ، ثم نزوجها رجل ثم طلقها ، ثم تزوجها الأول ، إن ذلك يهدم الطلاق الأول».
وعن حميد بن
زياد عن ابن سماعة عن محمد بن زياد وصفوان عن رفاعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأة حتى بانت منه وانقضت
عدتها ، ثم تزوجت زوجا آخر فطلقها أيضا ، ثم تزوجها زوجها الأول ، أيهدم ذلك
الطلاق الأول؟ قال : نعم. قال ابن سماعة : وكان ابن بكير يقول : المطلقة إذا طلقها
زوجها ثم تركها حتى تبين ثم تزوجها فإنما هي عنده على طلاق مستأنف قال : وذكر
الحسين بن هاشم أنه سأل ابن بكير عنها ، فأجابه بهذا الجواب ، فقال له : سمعت في
هذا شيئا؟ فقال : رواية رفاعة ، فقال : إن رفاعة روى إذا دخل بينهما زوج ، فقال :
زوج وغير زوج عندي سواء ، فقلت : سمعت في هذا شيئا؟ فقال : لا ، هذا ما رزق الله عزوجل من الرأي ، قال ابن سماعة : وليس نأخذ بقول ابن بكير ،
فإن الرواية إذا كان بينهما زوج».
وعن محمد بن
أبي عبد الله عن معاوية بن حكيم عن ابن المغيرة قال : «سألت عبد الله بن بكير عن رجل طلق امرأته واحدة
ثم تركها حتى بانت منه ثم تزوجها ، قال : هي معه كما كانت في التزويج ، قال : قلت
له : فإن رواية رفاعة إذا كان بينها زوج ، فقال لي عبد الله : هذا زوج وهذا مما
رزق الله من الرأي ومتى ما طلقها واحدة فبانت منه ثم تزوجها زوج آخر ثم طلقها
زوجها
__________________
فتزوجها الأول فهي عنده مستقبلة كما كانت ، فقلت لعبد الله : هذا برواية من؟
فقال : هذا مما رزق الله تعالى. قال معاوية بن حكيم : روى أصحابنا عن رفاعة ابن
موسى أن الزوج يهدم الطلاق الأول ، فإن تزوجها فهي عنده مستقبلة. قال أبو عبد الله
عليهالسلام : يهدم الثلاث ولا يهدم الواحدة والثنتين. ورواية رفاعة
عن أبي عبد الله عليهالسلام هو الذي احتج به ابن بكير» انتهى ما ذكره في الكافي.
وقد تقدم نقل
كلام الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي كما عبر به الصدوق في الفقيه.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الشيخ بعد نقل الرواية الأولى التي رواها ابن بكير عن زرارة أجاب عنها
فقال : فهذه الرواية أوكد شبهة من جميع ما تقدم من الروايات ، لأنها لا تحتمل
شيئا مما قلناه ، لكونها مصرحة خالية من وجوه الإضمار إلا أن في طريقها عبد الله
بن بكير ، وقد بينا من الأخبار ما تضمن أنه قال حين سئل عن هذه المسألة «هذا مما
رزق الله من الرأي ـ ثم قال : ـ ومن هذه صورته فيجوز أن يكون أسند ذلك إلى رواية
زرارة نصرة لمذهبه الذي كان أفتى به ، وأنه لما رأى أصحابه لا يقبلون ما يقوله
برأيه أسنده إلى من رواه عن أبي جعفر عليهالسلام ، وليس عبد الله بن بكير معصوما لا يجوز عليه هذا ، بل
وقع عنه من العدول عن اعتقاد مذهب الحق إلى اعتقاد مذهب الفطحية ما هو معروف من
مذهبه ، والغلط في ذلك أعظم من إسناده فيما يعتقد صحته بشبهة إلى بعض أصحاب الأئمة
عليهمالسلام ، وإذا كان الأمر على ما قلناه لم يعرض هذه الرواية ما
قدمناه ، انتهى.
واعترضه جملة
من أفاضل المتأخرين ومتأخريهم ، بأن هذا القدح العظيم في ابن بكير ينافي ما صرح به
في فهرسته من توثيقه ، وما رواه الكشي من الإجماع على تصحيح ما يصح عنه ، ويوجب
عدم جواز العمل بروايته مع أنهم متفقون على
__________________
العمل بها ، بل ترجيحها بما تقدم من الإجماع المذكور على غيرها.
وأنت خبير بأنه
لا يخفى على المعترض ـ فيما قدمناه من الروايات عن الكافي المتضمنة لمحاجة الأصحاب
لعبد الله المذكور فيما تفرد به وذهب إليه ، وجوابه تارة بالأخذ برواية رفاعة ، مع
أن رواية رفاعة إنما تضمنت الهدم بالزوج الثاني ، لا بمجرد استيفاء العدة كما
ادعاه ، وجوابه تارة بأن هذا مما رزقه الله من الرأي ، ـ أنه لو كان لهذه الرواية
التي نقلها عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام أصل يومئذ لكانت هي الأولى لاحتجاجه وإلجام ألسنة
المعترضين عليه ، وحيث لم يحتج بها ولم يذكرها علم أنها مخترعة بعد ذلك ، وأنه لما
رأى عدم قبول قوله وما احتج به في تلك الأخبار عدل إلى هذه الرواية لما ذكره الشيخ
من الشبهة التي عرضت له.
ومنه يعلم
الجواب عما اعترضوا به الشيخ من أن ذلك موجب لعدم جواز العمل برواية عبد الله
المذكور ، لأن الشيخ لم يطعن عليه بأنه يعتقد المخالفة في الحكم الشرعي ، وإنما
أسند إليه عروض الشبهة في ذلك وأنه بسبب عروض هذه الشبهة وتوهم أنها حق روى عن
زرارة هذه الرواية.
والأقرب عندي
هو حمل ما ذكره ابن بكير من هذه الأقوال وكذا رواية صحيحة زرارة على التقية وأن
ابن بكير كان عالما بالحكم المذكور في كلام الأصحاب ، ولكنه عدل عن القول به
وإظهار الإفتاء به تقية ، وعلى هذا يحمل صدر رواية معلى بن خنيس المتقدمة.
وبالجملة فإن
شهرة الحكم بين متقدمي الأصحاب ومتأخريهم مع اعتضادها بما قدمناه من الأخبار
المتكاثرة ظاهرة في أن ذلك هو مذهبهم عليهمالسلام ، وأن القول بخلاف ذلك ضعيف.
ومن الأخبار
الدالة على مذهب ابن بكير أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح
__________________
عن عبد الله بن سنان قال : «إذا طلق الرجل امرأته فليطلق على طهر بغير جماع
بشهود ، فإن تزوجها بعد ذلك فهي عنده على ثلاث وبطلت التطليقة الاولى ، وإن طلقها
اثنتين ثم كف عنها حتى تمضي الحيضة الثالثة بانت منه بثنتين ، وهو خاطب من الخطاب
، فإن تزوجها بعد ذلك فهي عنده على ثلاث تطليقات وبطلت الاثنتان ، فإن طلقها ثلاث
تطليقات على العدة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره».
وحمله الشيخ
على أنه تزوجها بعد العدة وبعد أن تزوجها زوج آخر ، ولا يخفى بعده ، والأظهر حمله
على ما حملنا عليه أمثاله ، على أن الرواية المذكورة مقطوعة ، وإنما هي فتوى عبد
الله بن سنان فلا تقوم به حجة.
مسائل
الاولى : في طلاق الحامل لا خلاف بين الأصحاب في جواز طلاقها
مرة ، وعليه تدل جملة من الأخبار مثل قول أبي عبد الله عليهالسلام في صحيحة الحلبي «لا بأس بطلاق خمس على كل حال : الغائب عنها زوجها ، والتي لم تحض ، والتي
لم يدخل بها ، والحبلى ، والتي يئست من المحيض».
وقول أبي جعفر عليهالسلام في رواية إسماعيل بن جابر الجعفي «خمس يطلقن على كل حال : الحامل المتيقن حملها» الحديث ، وبهذا المضمون
أخبار عديدة ، وإنما يجوز تطليق هؤلاء على كل حال ، لأنهن مأمونات من العلوق.
إنما الخلاف
بين الأصحاب فيما زاد على المرة ، فقال الصدوقان في الرسالة والمقنع : وإن راجعها
ـ يعني الحبلى ـ قبل أن تضع ما في بطنها ، أو يمضي لها ثلاثة أشهر ، ثم أراد
طلاقها فليس له ذلك حتى تضع ما في بطنها وتطهر ثم يطلقها. وهو ظاهر في المنع من
الطلاق ثانيا ما دامت حاملا ، أو يمضي ثلاثة
__________________
أشهر أعم من أن يكون للعدة وغيره.
وقال الشيخ في
النهاية : وإن أراد أن يطلق امرأته وهي حبلى يستبين حملها فيطلقها أي وقت شاء ،
وإذا طلقها واحدة كان أملك برجعتها ما لم تضع ما في بطنها ، فإذا راجعها وأراد
طلاقها للسنة لم يجز له ذلك حتى تضع ما في بطنها ، فإذا راجعها أراد طلاقها للعدة
واقعها ثم طلقها بعد المواقعة ، فإذا فعل ذلك فقد بانت منه بطلقتين ، وهو أملك
برجعتها ، فإن راجعها وأراد طلاقها ثالثة واقعها ، ثم يطلقها ، فإذا طلقها الثالثة
لم تحل له حتى تنكح زوجها غيره. وتبعه ابن البراج وابن حمزة.
وذهب ابن
الجنيد إلى المنع من طلاق العدة إلا بعد شهر ، ولم يتعرض لغيره قال على ما نقله في
المختلف : والحبلى إذا طلقها زوجها وقع عليها الطلاق ، وله أن يرتجعها ، فإن أراد
طلاقها تركها شهرا من حال جماعة في الرجعة ثم طلقها فإن ارتجعها الثانية وأراد
طلاقها طلقها كذلك ، فإذا ارتجعها ثم طلقها كذلك لم تحل له حتى تنكح زوجها غيره.
وذهب ابن إدريس
والمحقق وجماعة إلى جواز طلاقها مطلقا كغيرها ، وأنه يجوز طلاقها للسنة كما يجوز
للعدة ، إذ لا مانع من إجماع ولا كتاب ولا سنة متواترة ، والأصل الصحة مع عموم «فإن
طلقها».
أقول : والأصل
في هذا الاختلاف اختلاف أخبار المسألة ، فالواجب أولا نقل ما وصل إلينا من أخبار
المسألة ثم الكلام فيها بما رزقه الله تعالى فهمه منها.
فمنها ما رواه الشيخ
في التهذيب عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «طلاق الحامل واحدة ، وإن شاءت راجعها قبل أن تضع
، فإن وضعت قبل أن يراجعها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب».
__________________
وعن إسماعيل
الجعفي في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «طلاق الحامل واحدة ، فإذا وضعت ما في بطنها فقد
بانت منه». ورواه الكليني نحوه.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «طلاق الحامل واحدة وعدتها أقرب الأجلين».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الحبلى تطلق تطليقة واحدة».
وما رواه في
الكافي بأسانيد عديدة فيها الصحيح عن إسماعيل الجعفي عن أبي
جعفر عليهالسلام قال : «طلاق الحامل واحدة فإذا وضعت ما في بطنها فقد
بانت منه».
وما رواه
الصدوق في الفقيه عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام مثله ، وطريقه إلى زرارة صحيح في المشيخة.
وما رواه في
التهذيب عن سماعة في الموثق قال : «سألته عن طلاق الحبلى ، فقال
: واحدة ، وأجلها أن تضع حملها».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الحلبي في الصحيح قال : «طلاق الحبلى واحدة وأجلها
أن تضع حملها وهي أقرب الأجلين».
__________________
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن محمد بن منصور الصيقل عن أبيه عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته وهي حبلى ، قال : يطلقها. قلت : فيراجعها؟ قال : نعم
يراجعها ، قلت : فإنه بدا له بعد ما راجعها أن يطلقها ، قال : لا ، حتى تضع».
وما رواه في
الكافي في الصحيح عن بريد الكناسي وهو مجهول قال : «سألت أبا
جعفر عليهالسلام عن طلاق الحبلى فقال : يطلقها واحدة للعدة بالشهور
والشهود ، قلت : فله أن يراجعها؟ قال : نعم وهي امرأته ، قلت : فإن راجعها ومسها
ثم أراد أن يطلقها تطليقة أخرى ، قال : لا يطلقها حتى يمضي لها بعد ما مسها شهر ،
قلت : فإن طلقها ثانية وأشهد على طلاقها ثم راجعها وأشهد على رجعتها ومسها ، ثم
طلقها التطليقة الثالثة وأشهد على طلاقها لكل عدة شهر ، هل تبين منه كما تبين
المطلقة على العدة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره؟ قال : نعم ، قلت : فما
عدتها؟ قال : عدتها أن تضع ما في بطنها ، ثم قد حلت للأزواج».
وما رواه في
التهذيب عن إسحاق بن عمار في الموثق قال : «قلت لأبي إبراهيم عليهالسلام : الحامل يطلقها زوجها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها
ثم يطلقها الثالثة ، قال : تبين منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره».
وعن إسحاق بن
عمار في الموثق عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته وهي حامل ، ثم راجعها
ثم طلقها ثم راجعها ثم طلقها الثالثة ،
__________________
في يوم واحد ، تبين منه؟ قال : نعم».
وما رواه في
التهذيب عن ابن بكير عن بعضهم قال : «في الرجل تكون له المرأة
الحامل وهو يريد أن يطلقها قال : يطلقها إذا أراد الطلاق بعينه يطلقها بشهادة
الشهود ، فإن بدا له في يومه أو من بعد ذلك أن يراجعها يريد الرجعة بعينها فليراجع
ويواقع ثم يبدو له فيطلق أيضا ثم يبدو له فيراجع كما راجع أولا ، ثم يبدو له فيطلق
فهي التي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره إذا كان إذا راجع يريد المواقعة والإمساك
ويواقع».
وعن إسحاق بن
عمار في الموثق عن أبي الحسن الأول عليهالسلام قال : «سألته عن الحبلى تطلق الطلاق التي لا تحل له حتى
تنكح زوجا غيره؟ قال : نعم ، قلت : ألست قلت لي إذا جامع لم يكن له أن يطلق؟ قال :
إن الطلاق لا يكون إلا على طهر قد بان ، أو حمل قد بان ، وهذه قد بان حملها».
أقول : لما
توهم السائل عدم جواز الطلاق بعد الجماع قبل الاستبراء أجابه عليهالسلام بأن هذا في غير الحامل المستبين حملها لتكاثر الأخبار
كما عرفت بأنها من اللواتي يطلقن على كل حال.
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي : «وأما طلاق الحامل فهو واحد ، وأجلها أن تضع ما في
بطنها ، وهو أقرب الأجلين ، فإذا وضعت أو سقطت يوم طلقها أو بعده متى كان فقد بانت
منه وحلت للأزواج ، فإن مضى لها ثلاثة أشهر من قبل أن تضع فقد بانت منه ، وتحل
للأزواج حتى تضع ، فإن راجعها من قبل أن تضع ما في بطنها أو يمضي لها ثلاثة أشهر
ثم أراد طلاقها فليس له ذلك حتى تضع ما في بطنها وتطهر ثم يطلقها».
هذا ما حضرني
من الأخبار في المقام ، والشيخ قد حمل الأخبار الأولة الدالة
__________________
بظاهرها على انحصار طلاق الحامل في الواحدة على طلاق السنة جمعا بين
الأخبار المذكورة وما قابلها ، وهو جيد كما يظهر لك إن شاء الله تعالى.
والسيد السند
في شرح النافع لما كان مطمح نظره متعلقا بالأسانيد ، فهو يدور مدار الأسانيد
الصحيحة ، رجح العمل بالأخبار الدالة على انحصار طلاقها في الواحدة لكثرة الأخبار
الصحاح فيها ، فقال بعد البحث في المسألة : والذي يقتضيه الوقوف مع الأخبار
الصحيحة المستفيضة الحكم بأن طلاق الحامل واحد ، لكن المصنف في الشرائع ادعى
الإجماع على جواز طلاق الحامل ثانيا للعدة ، ثم نقل الخلاف في طلاقها للسنة ، ونقل
عنه أنه قال في بعض تحقيقاته : الوجه الاعراض عن أخبار الآحاد والالتفات إلى ما دل
عليه القرآن من جواز طلاقها مطلقا ، ويشكل بأن الأخبار المتضمنة ـ لأن طلاق الحامل واحدة ـ مستفيضة كما عرفت وأسانيدها معتبرة
، وليس لها ما يصلح للمعارضة ، فإطراحها مشكل ، انتهى وهو جيد.
بناء على هذا
الاصطلاح المحدث الذي هو عليه فإن الأخبار في هذه المسألة ظاهرة التعارض لدلالة
ظاهر أخبار الواحدة على انحصار طلاق الحامل فيها ، وإنها لا تطلق إلا واحدة ، فلو
راجعها قبل خروج العدة فليس له أن يطلقها إلا بعد وضع الحمل كما دلت عليه رواية
الصيقل وكلام الرضا عليهالسلام في كتاب فقه الرضوي ودلالة الأخبار الباقية على أنها
تطلق ثانية وثالثة وهي حامل بعد المراجعة والمواقعة أو مع عدمها ، ومن قاعدة أرباب
هذا الاصطلاح أنهم لا يجمعون بين الأخبار إلا بعد التكافي في الأسانيد ، وأخبار
الزيادة على واحدة قاصرة عن المعارضة لضعف أسانيدها ، فيتعين العمل بأخبار
الواحدة.
هذا حاصل كلامه
ـ رحمهالله ـ وهذا هو مذهب الصدوقين ، فإن ما نقله الأصحاب عنهما
مما قدمنا ذكره في صدر المسألة لم ينقل على وجهه ، ورسالة الشيخ علي بن الحسين بن
بابويه ، وإن كانت لا تحضرني الآن لكن المقنع عندي
__________________
موجود ، والذي فيه عين ما ذكر الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي ، وإن فرق بعض ألفاظه عن بعض إلا
أن المرجع إلى أمر واحد ، وهذه صورة ما فيه :
واعلم أن أولات
الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ، وهو أقرب الأجلين ، وإذا وضعت أو أسقطت يوم طلقها
أو بعده متى كان فقد بانت منه فلا تحل للأزواج حتى تضع ، فإن راجعها قبل أن تضع ما
في بطنها أو يمضي لها ثلاثة أشهر ثم أراد طلاقها فليس له حتى تضع ما في بطنها ثم
تطهر ويطلقها ، وسئل الصادق عليهالسلام عن المرأة الحامل يطلقها زوجها ثم يراجعها ثم يطلقها
الثالثة ، فقال : قد بانت منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وطلاق الحامل
واحدة وعدتها أقرب الأجلين ، انتهى.
وأنت خبير بأن
المفهوم منه هو ما نقلناه عن كتاب الفقه ، فإنه أفتى فيه بكون طلاق الحامل واحدة
وعدتها أقرب الأجلين ، وهو وضع الحمل كما هو مذهبه في المسألة ، وأفتى بناء على
ذلك بأنه لو راجعها قبل مضي العدة وهي ثلاثة أشهر أو وضع الحمل فإنه ليس طلاقها
إلا بعد وضع الحمل ، وهو ظاهر بل صريح في أنه لا يجوز له طلاقها ثانيا ما دامت
حاملا ، ثم نقل عن الصادق عليهالسلام مضمون ما دلت عليه موثقتا عمار المتقدمتان من جواز
الزيادة على طلقة واحدة ، وفي نسبة ذلك إلى الرواية مع إفتائه بخلافه ما يدل على
اختلاف الرواية يومئذ عندهم ، ولكن الراجح عنده ما أفتى به اعتمادا على الكتاب
الذي أفتى بعبارته ، ومثله كثير قد قدمنا التنبيه عليه ، سيما في كتب العبادات من
اعتماد الصدوقين على الكتاب المذكور والإفتاء بعبائره في مقابلة الأخبار الصحيحة
الصريحة المتكاثرة الدالة على خلاف ذلك.
ومما شرحناه
يظهر لك أن مستند الصدوقين فيما ذهبا إليه إنما هو كتاب الفقه الرضوي كما عرفته في
غير موضع مما تقدم من الكتب السابقة ، وأن مذهب الصدوقين هو ما يظهر من السيد
السند التعويل عليه ، وليته كان حيا فأهديه إليه.
نعم يبقى
الإشكال في الروايات الأخر وما دلت عليه من جواز التعدد ، والشيخ قد جمع بين أخبار
المسألة كملا بحمل ما دل على أن طلاق الحامل واحدة ولا يجوز ما زاد عليها على طلاق
السنة بالمعنى الأخص ، وحمل الأخبار الدالة على جواز الزيادة على واحدة على طلاق
العدة.
واعترضه الشهيد
الثاني (أولا) بأن محل الخلاف إنما هو الطلاق الثاني لا الأول للاتفاق على صحة
الأول كما تقدم ، واستفاضة الأخبار به سنيا كان أو عديا ، والطلاق السني بالمعني
الأخص لا يقع ثانيا بالنسبة إلى الحامل لأنها بعد الطلاق الأول للسنة ـ الذي شرطه
الخروج من العدة ـ لا يجوز العقد عليها إلا بعد وضع الحمل ، وحينئذ لا يكون حاملا
، فلو طلقها والحال هذه لم يدخل في محل البحث.
نعم الطلاق
الأول يصدق عليه أنه للسنة متى تركها حتى وضعت حملها ، لكنه ليس محل خلاف ، إنما
محله الطلاق الثاني كما عرفت ، وهو لا يتم في الحامل بالكلية.
و (ثانيا) بأن
تخصيصه الجواز بالعدي ، فيه أن الأخبار قد دلت على جواز التعدد ، وإن لم يكن عديا
كموثقتي إسحاق بن عمار الأولتين من موثقاته الثلاث المتقدمة ، فإن ظاهرهما
المراجعة من غير مواقعة ، وهو ليس بعدي ولا سني بالمعني الأخص ، نعم هو سني
بالمعنى الأعم.
أقول : يمكن
الجواب عما ذكره ـ رحمهالله ـ أما عن (الأول) فبأنه وإن كان محل الخلاف إنما هو
الطلاق الثاني للحامل كما ذكر ـ رحمهالله ـ إلا أن الشيخ لم يلحظ ذلك ، لأن مطمح نظره إلى الجمع
بين أخبار المسألة ، وجملة منها قد صرحت بالانحصار في الطلقة الواحدة ، فلا يجوز
طلاقها ثانيا ، وجملة منها صرحت بالزيادة على الواحدة ، والشيخ حمل الواحدة في هذه
الأخبار وهي التي لم يقع قبلها طلقة على طلاق السنة ، بمعنى أنه إذا أراد أن يطلق
الحامل
طلاق السنة طلقها طلقة واحدة ، وتركها حتى تضع حملها ، ولا يجوز أن يراجعها
ويطلقها قبل الوضع طلاقا سنيا ، لأنه مشروط بالخروج من العدة التي هي هنا وضع
الحمل ، فطلاق السنة طلاقا ثانيا لا يكون للحامل بالكلية ، فإنها بعد وضع الحمل لو
طلقت لم يكن طلاق حامل فيخرج عن محل البحث.
وأما عن (الثاني)
فبأن يقال : إنه لا ريب أن أخبار الزيادة على واحدة منها ما هو صريح في طلاق العدة
كرواية بريد الكناسي ، وإن اشتملت على الشهر هنا زيادة على ما شرط في طلاق
العدة في غير هذا الموضع ، ورواية ابن بكير عن بعضهم.
ومنها ما هو
مطلق كموثقتي إسحاق بن عمار الأولتين من الثلاث المتقدمات وطريق الجمع بينها تقييد
إطلاق هاتين الروايتين بما دلت عليه الروايتان الأخريان ، والظاهر أن هذا هو الذي
قصده الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وإلى ما ذكرناه يشير كلام العلامة في المختلف ، حيث
قال بعد البحث في المسألة ما لفظه :
والتحقيق في
هذا الباب أن يقول : طلاق العدة والسنة واحد وإنما يصير للسنة بترك المراجعة وترك
المواقعة ، وللعدة بالرجعة في العدة والمواقعة ، فإن طلقها لم يظهر أنه للسنة أو
للعدة إلا بعد وضع الحمل ، لأنه إن راجع قبله كان طلاق العدة ، وإن تركها حتى تضع
كان طلاق السنة ، فإن قصد الشيخ ذلك فهو حق ، وتحمل الأخبار عليه ، انتهى.
أقول : لا ريب
أن هذا هو الذي قصده الشيخ ـ رحمهالله ـ وإن خرج فيه عن محل البحث ، حيث إن مراده الجمع بين
أخبار المسألة وكلام العلامة كما ترى إنما هو بالنسبة إلى الطلاق الأول فهو الذي
حمل عليه كلام الشيخ ، وبذلك يعلم اندفاع ما أورده شيخنا المتقدم ذكره على الشيخ ـ
رحمة الله عليه.
__________________
نعم يبقى
الكلام فيما دلت عليه رواية بريد من اعتبار الشهر في طلاق العدة هنا ، والواجب
تقييد ما أطلق من الأخبار بها إذ لا معارض لها ـ مع قوة سندها ، فإن رواتها غير
الراوي المذكور من الثقات الإمامية ـ إلا إطلاق الأخبار المذكورة ، وهي قابلة
للتقييد بها ، وحينئذ فمتى راجع وواقع لم يجز له الطلاق إلا بعد مضي شهر من يوم
المواقعة ، ويحتمل بالنسبة إلى موثقتي إسحاق بن عمار العمل بظاهرهما من جواز
الطلاق ثانيا بعد المراجعة من غير مواقعة ، وإن لم يكن عديا ولا سنيا بالمعنى
الأخص بل بالمعنى الأعم ، ولعله أظهر ، وقد تلخص مما ذكرنا أنه متى أراد الطلاق
للسنة وليس له أن يطلقها إلا طلقة واحدة ويتركها حتى تضع حملها وإن أراد الطلاق
للعدة ، فإن رجع وواقع فليس له الطلاق ثانيا إلا بعد مضي الشهر ، فإن لم يواقع
بناء على ما ذكرنا من الاحتمال فله أن يطلقها متى شاء ، وحينئذ فيثبت للحامل طلاق
السنة بالمعنى الأخص وطلاق العدة خاصة بناء على كلام الشيخ ومن تبعه ، وطلاق السنة
بالمعنى الأعم بناء على ما ذكرناه من الاحتمال عملا بإطلاق الموثقتين المذكورتين.
ومن ذلك يعلم
أنه متى كان محل الخلاف هو الطلاق الثاني ـ كما هو ظاهر كلام الأصحاب وبه صرح في
المسالك وغيره ـ في غيره ـ فإنه لا يجري ذلك في طلاق السنة لما عرفت آنفا ، وإنما
تطلق للعدة خاصة بقاء على كلام الشيخ ، وللسنة بالمعنى الأعم على ما ذكرناه من
الاحتمال ، فما ذكره ابن إدريس ومن تبعه من المتأخرين ـ ومنهم شيخنا في المسالك من
جواز تطليقها مطلقا كغيرها ـ لا أعرف له وجها.
قال في المسالك
بعد البحث في المسألة ما صورته : والحق الاعراض عن هذه التكلفات التي لم يدل عليها
دليل ، والرجوع إلى حكم الأصل من جواز طلاق الحامل كغيرها مطلقا ، بشرائطه وعدم
الالتفات إلى هذه الأخبار الضعيفة الاسناد المتناقضة الدلالة ، وما فيها من الصحيح
ليس فيه ما ينافي الجواز وحمل أخبار النهي
عن الزائد على الكراهة ، وجعله قبل شهر آكد ، من غير أن يفرق بين كون
الواقع طلاق عدة أو سنة بمعنييه ، وقد ظهر بذلك أن القول بجواز طلاقها مطلقا هو
الأقوى. واعلم أنه قد ظهر أن القول بجواز طلاقها ثانيا للعدة وفاقي في الجملة لأن
المتأخرين جوزوه مطلقا ، والشيخ خص الجواز به ، وابن الجنيد قيده بعد شهر ، وابنا
بابويه أطلقا جوازه بعد ثلاثة أشهر ، وبذلك ظهر صحة ما ادعاه المصنف من جوازه
إجماعا ، وإن كان بعضهم يشترط في صحته شرطا زائدا ، لأن ذلك لا ينافي الحكم بجوازه
في الجملة. إلى آخر كلامه ـ رحمهالله.
وفيه نظر ، أما
(أولا) فإنه مع تسليم الاعراض عن الروايات الضعيفة باصطلاحهم فإنه لا يتم ما ذكره
من الجواز مطلقا ، قوله «وما فيها من الصحيح ليس فيه ما ينافي الجواز ممنوع ، لما
عرفت من أن ظاهرها انحصار صحة طلاق الحامل في الواحدة ، فلا يجوز غيرها ، وهو ظاهر
كلام سبطه في شرح النافع كما قدمناه ، ويؤيده تصريح رواية الصيقل وكلام الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه ، وكذا عبارة المقنع بأنه ليس له أن يطلق
بعد المراجعة حتى تضع.
وأما (ثانيا)
فما ادعاه من جواز طلاقها للسنة بالمعنى الأخص فإنه غير مستقيم كما شرحناه آنفا ،
وبذلك اعترف أيضا فيما تقدم من كلامه ، حيث قال في الاعتراض على عبارة الشيخ في
النهاية : والسني بالمعنى الأخص لا يتحقق في الحامل ، لأنه لا يصير كذلك إلا بعد
الوضع والعقد عليها ثانيا ، وحينئذ فلا يكون حاملا ، والكلام في الطلاق الواقع
بالحامل. انتهى ، فكيف يدعي هنا جوازه ، ما هذا إلا عجب عجيب من هذا النحرير ،
وسهو ظاهر في هذا التحرير.
وأما (ثالثا)
فإن ما ادعاه في تشييد دعوى الوفاق على جواز الطلاق العدي ثانيا من أن الصدوقين
أطلقا جوازه بعد ثلاثة أشهر ، أشد عجبا مما تقدم ، فإن عبارتهما المنقولة في
كلامهم كما قدمنا ذكرها في صدر المسألة صريحة في أن ذكر الثلاثة أشهر إنما هو لصحة
الرجعة لا للطلاق ، وهذه صورتها : وإن راجعها
قبل أن تضع ما في بطنها أو يمضي لها ثلاثة أشهر ثم أراد طلاقها فليس له ذلك
حتى تضع ما في بطنها وتطهر ثم يطلقها. وهي صريحة في أن الطلاق ثانيا لا يجوز إلا
بعد الوضع والطهارة من النفاس ، والثلاثة الأشهر إنما هي بالنسبة إلى صحة الرجوع ،
وذلك لأن الحامل تبين بأقرب الأجلين ، أما الثلاثة الأشهر أو الوضع.
والغرض بيان أن
الرجعة وقعت في العدة قبل مضي واحد من الأمرين المذكورين فتكون الرجعة صحيحة ، أما
لو أراد الطلاق ثانيا بعد هذه الرجعة فإنه لا يجوز له إلا بعد أن تضع ، ويؤكده ما
شرحناه سابقا من بيان مذهب الصدوقين في هذه المسألة. فانظر إلى ما في هذا الكلام
من الخلل الظاهر لذوي الأفهام ، والغرض من التنبيه على ما في أمثال هذا المقال من
السهو الواضح الناشئ من الاستعجال هو وجوب التأمل وتحقيق الحال ، وعدم الركون إلى
من قال ، وإن كان من مجلي حلبة الرهان في ذلك المجال ، وفي المشهور «اعرف الرجال
بالحق ، ولا تعرف الحق بالرجال» وبالجملة فالظاهر عندي هو العمل بجملة الأخبار
المذكورة ، والجمع بينها ما قدمنا ذكره.
المسألة
الثانية : لا خلاف بين الأصحاب في أنه إذا طلق الحامل المدخول
بها ثم راجعها وواقعها كما هو طلاق العدة المتقدم فإنه يجوز أن يطلقها ثانيا ،
إنما الخلاف فيما إذا طلقها بعد المراجعة الخالية من المواقعة ، سواء كان في طهر
الطلاق الأول أو الطهر الذي بعده ، والمشهور بين الأصحاب صحة الطلاق.
ونقل عن ابن
أبي عقيل أنه خالف في ذلك وحكم بعدم وقوع الطلاق على هذا الوجه ، سواء كان في طهر
الطلاق الأول أو الطهر الذي بعده ، وهذه صورة عبارته على ما نقله عنه غير واحد
منهم العلامة في المختلف وغيره.
قال ـ رحمهالله ـ : لو طلقها من غير جماع قبل تيسر المواقعة بعد الرجعة
لم يجز ذلك ، لأنه طلقها من غيره أن ينقضي الطهر الأول ، ولا ينقضي الطهر الأول
إلا بتدليس المواقعة بعد المراجعة ، فإذا جاز أن يطلق التطليقة الثانية بلا
طهر جاز أن يطلق كل تطليقة بلا طهر ، ولو جاز ذلك لما وضع الله الطهر ، انتهى.
واعترضه شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك بعد نقل عبارته بما هذا لفظه : وإنما ذكرنا عبارته
لاشتمالها على الاستدلال على حكمه ، وبه يظهر ضعف قوله مع شذوذه ، فإنا لا نسلم أن
الطهر لا ينقضي بدون المواقعة ، للقطع بأن تخلل الحيض بين الطهرين يوجب انقضاء
الطهر السابق ، سواء واقع فيه أم لا.
ثم لا نسلم
اشتراط انقضاء الطهر في صحة الطلاق مطلقا. وإنما الشرط انقضاء الطهر الذي واقعها
فيه ، وهو منتف هنا لأن الطلاق الأول وقع بعده في طهر آخر ، لأنه الغرض فلا يشترط
أمر آخر ، انتهى.
أقول : وتحقيق
المقام على وجه لا يعتريه النقض والإبرام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا
الأعلام ـ رفع الله تعالى أقدارهم في دار السلام ـ قد سبق لي في بعض أجوبة مسائل
بعض الطلبة الكرام ، وهو يتوقف على نقل ما ورد من الأخبار في هذا المجال ، ليتضح
بذلك حقيقة الحال ، ويظهر ما في كلام جملة من الأصحاب من الاختلال ، فنقول :
من الأخبار
الدالة على ما هو المشهور موثقة إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته ثم راجعها بشهود ، ثم
طلقها ثم بدا له فيراجعها بشهود ، تبين منه؟ قال : نعم ، قلت : كل ذلك في طهر واحد
، قال : تبين منه».
وهي كما ترى
صريحة في أن مجرد الرجعة كاف في صحة الطلاق ثانيا وإن كان في طهر الطلاق الأول.
وصحيحة عبد
الحميد بن عواض ومحمد بن مسلم «قالا : سألنا أبا عبد الله
__________________
عليهالسلام عن رجل طلق امرأته وأشهد على الرجعة ولم يجامع ، ثم طلق
في طهر آخر على السنة أتثبت التطليقة الثانية من غير جماع؟ قال : نعم ، إذا هو
أشهد على الرجعة ولم يجامع كانت التطليقة ثانية». وهي صريحة أيضا في المدعى ،
والطلاق الثاني هنا وقع في طهر آخر غير طهر الطلاق الأول.
وصحيحة البزنطي
قال : «سألت الرضا عليهالسلام عن رجل طلق امرأته بشاهدين ، ثم راجعها ولم يجامعها بعد
الرجعة حتى طهرت من حيضها ، ثم طلقها على طهرت بشاهدين ، أتقع عليها التطليقة
الثانية وقد راجعها ولم يجامعها؟ قال : نعم».
وحسنة أبي علي
بن راشد قال : «سألته مشافهة عن رجل طلق امرأته بشاهدين على طهر
، ثم سافر وأشهد على رجعتها ، فلما قدم طلقها من غير جماع ، أيجوز ذلك له؟ قال :
نعم ، قد جاز طلاقها». وهما صريحتان أيضا في المدعى.
واستدل جملة من
الأصحاب على ذلك أيضا بما ورد من الأخبار دالا على تحقق الرجعة مع عدم الجماع كصحيحة
عبد الحميد الطائي عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قلت له : الرجعة بغير جماع تكون رجعة؟ قال : نعم».
وظني أن هذا
الاستدلال ليس في محله ، فإنه لا يفهم من كلام ابن أبي عقيل منع حصول الرجعة إلا
بالجماع معها ، بل ظاهر عبارته أن مراده إنما هو كون الجماع شرط في صحة الطلاق
الواقع بعد الرجعة ، فالرجعة تقع وإن لم يكن ثمة جماع ، ولكن لو طلقها والحال هذه
لم تحسب له إلا بالتطليقة الأولى دون هذه.
والذي يدل على
ما ذهب إليه ابن أبي عقيل صحيحة عبد الرحمن بن
__________________
الحجاج قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام في الرجل يطلق امرأته ، له أن يراجع؟ قال : لا يطلقن
التطليقة الأخرى حتى يمسها».
ورواية المعلى
بن خنيس عن أبي عبد الله «في الرجل يطلق امرأته تطليقة ، ثم
يطلقها الثانية قبل أن يراجع ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : لا يقع الطلاق الثاني حتى يراجع ويجامع».
وموثقة إسحاق
بن عمار عن أبي إبراهيم عليهالسلام قال : «سألته عن رجل يطلق امرأته في طهر من غير جماع ،
ثم راجعها من يومه ذلك ثم يطلقها ، أتبين منه بثلاث طلقات في طهر واحد؟ فقال :
خالف السنة ، قلت : فليس ينبغي له إذا هو راجعها أن يطلقها إلا في طهر آخر؟ قال :
نعم ، قلت : حتى يجامع؟ قال : نعم».
هذه الروايات
الثلاث صريحة فيما ذهب إليه ابن أبي عقيل ، مع أنه لم ينقلها ، وإنما نقلها
الأصحاب له في كتب الاستدلال ، واستدل له في المختلف وتبعه عليه جملة من المتأخرين
عنه برواية أبي بصير عن أبي عبد الله قال : «المراجعة هي الجماع وإلا فإنما
هي واحدة».
وفي هذا
الاستدلال ما عرفت آنفا ، والظاهر أنهم فهموا من منع ابن أبي عقيل من الطلاق ثانيا
بعد الرجعة بدون جماع أن الوجه فيه عدم حصول الرجعة بالكلية ، فيصير الطلاق لاغيا.
وأنت خبير بأنه لا دلالة في كلامه على ذلك إذ أقصى ما يدل عليه عدم صحة ذلك الطلاق
الأخير خاصة ، وأما أن العلة فيه عدم
__________________
حصول الرجعة ، فلا دلالة فيه عليه.
ويدل على هذا
القول أيضا صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «أنه قال : كل طلاق لا يكون على السنة أو على العدة فليس بشيء». ثم فسر عليهالسلام طلاق السنة وطلاق العدة بما تقدم ذكره في سابق هذه
المسألة ، والتقريب فيها أنه من الظاهر أن الطلاق بعد المراجعة بدون المواقعة غير
داخل في شيء من ذينك الفردين فيثبت بموجب الخبر أنه ليس بشيء.
وأجاب السيد
السند في شرح النافع بأن قوله «ليس بشيء» يعتد به في الأدلة كما في هذين النوعين
، وفيه من البعد ما لا يخفى.
ويدل على هذا
القول أيضا بأوضح دلالة وأفصح مقالة وإن لم ينبه عليه أحد من علمائنا الأعلام صحيحة
أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن طلاق السنة ، قال : طلاق السنة إذا
أراد الرجل أن يطلق امرأته يدعها إن كان دخل بها حتى تحيض ثم تطهر ، فإذا طهرت
طلقها واحدة بشهادة شاهدين ، ثم تركها حتى تعتد ثلاثة قروء ، فإذا مضت ثلاثة قروء
فقد بانت منه بواحدة وكان زوجها خاطبا من الخطاب ـ إلى أن قال : ـ وأما طلاق
الرجعة ، فإن يدعها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلقها بشهادة شاهدين ، ثم يراجعها ويواقعها
، ثم ينتظر بها الطهر ، فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على تطليقة أخرى ، ثم يراجعها
ويواقعها ، ثم ينتظر بها الطهر فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على التطليقة الثالثة
، فإن طلقها واحدة على طهر بشهود ثم انتظر بها حتى تحيض وتطهر ثم طلقها قبل أن
يراجعها لم يكن طلاقه الثانية طلاقا لأنه طلق
__________________
طالقا ، لأنه إذا كانت المرأة مطلقة من زوجها كانت خارجة عن ملكه حتى
يراجعها ، فإذا راجعها صارت في ملكه ما لم تطلق التطليقة الثالثة ، فإذا طلقها
التطليقة الثالثة فقد خرج ملك الرجعة من يده ، فإن طلقها على طهر ثم راجعها فانتظر
بها الطهر من غير مواقعة فحاضت وطهرت ، ثم طلقها قبل أن يدنسها بمواقعة بعد الرجعة
لم يكن طلاقه لها طلاقا لأنه طلقها التطليقة الثانية في طهر الاولى ، ولا ينقض
الطهر إلا مواقعة بعد الرجعة ، وكذلك لا تكون التطليقة الثالثة إلا بمراجعة
ومواقعة بعد المراجعة ، ثم حيض وطهر بعد الحيض ، ثم طلاق بشهود حتى يكون لكل
تطليقة طهر من تدنيس المواقعة بشهود».
أقول : ويقرب
بالبال العليل والفكر الكليل أن هذا الخبر هو معتمد ابن أبي عقيل فيما ذهب إليه ،
وإن دلت تلك الأخبار الأخر أيضا عليه ، حيث إن كلامه في التحقيق راجع إلى نقل هذا
الخبر بالمعنى في بعض ، وبألفاظه في آخر وحاصل معنى الخبر المذكور أنه لو طلق ثم
راجع من غير مواقعة ثم طلقها في طهر آخر لم يكن ذلك طلاقا ، لأنه وقع في طهر
الطلقة الاولى ، وقوله «ولا ينقض الطهر. إلخ» في مقام التعليل لذلك ، بمعنى أن
الطهر الآخر الذي تصير به الطلقة الواقعة فيه ثانية وتكون صحيحة هو ما وقع بعد
الرجعة المشتملة على المواقعة ، ثم الحيض بعدها والطهر منه.
ثم ذكر عليهالسلام أنه لا تكون التطليقة الثالثة ولا تصح إلا بمراجعة
قبلها ومواقعة. إلخ ، والطهر المعتبر في كلامه عليهالسلام هو الطهر من تدنيس المواقعة الذي هو الجماع ، فكأنه
أراد به الطهر من الجنابة ، فإنه ما لم يواقعها مرة أخرى فهي على ذلك الطهر ، ولا
يزول ذلك الطهر إلا بمواقعة أخرى ، وهو خلاف ما هو المعروف بين الأصحاب في هذا
الباب من كون الطهر عن النقاء من الحيض على الوجوه المقررة ثمة.
ولهذا اعترض
شيخنا الشهيد الثاني فيما قدمنا من كلامه على عبارة ابن
أبي عقيل التي هي كما عرفت إنما أخذت من هذا الخبر ، ولم يدر كلام ابن أبي
عقيل إنما هو مأخوذ من هو الخبر ، فإن الإشكال الذي في عبارته إنما نشأ من هنا ،
وإن الاعتراض على كلام ابن أبي عقيل اعتراض على هذا الخبر ، فإن الطهر بالمعنى
المذكور في كلام ابن أبي عقيل كما هو في هذا الخبر ليس هو المعروف بينهم. وعلى هذا يتم ما ذكره ابن أبي عقيل في عبارته من قوله «وإذا
جاز أن يطلق التطليقة الثانية. إلخ».
ويندفع عنه ما
أورده عليه شيخنا الشهيد الثاني أيضا هنا ، لأنه إذ فسر الطهر في عبارته بالمعنى
المذكور في الخبر فالاعتراض عليه اعتراض على الخبر المذكور ، ولا أراك ترتاب بعد
التأمل في مضمون الخبر في صحة ما ذكرناه من كون عبارة ابن أبي عقيل مأخوذة من هذا
الخبر وملخصة منه ، ولا تشك بعد معلومية ما شرحناه من معنى الخبر وكلام ابن أبي عقيل
في صحة ما قدمنا ذكره من أن ابن أبي عقيل لم يذهب الى اشتراط المواقعة في صحة
الرجعة كما توهموه حسبما ينادي به هذا الخبر الذي منه أخذت عبارته ، فإنه عليهالسلام صرح بأنه لو طلق قبل المراجعة لم يكن طلاقه الثاني
طلاقا ، لأنه طلق طالقا ، وعلله بأن المطلقة تخرج عن ملك الزوج ولا تدخل في ملكه
إلا بالرجعة ، ثم صرح عليهالسلام بأنه إذا طلقها ثم راجعها من غير مواقعة ثم طلقها لم
يكن طلاقه ذلك طلاقا ، وعلله من حيث وقوع الطلاق في طهر الطلقة الاولى ، مع أن شرط
صحة تعدد الطلاق تعدد الأطهار ، وحينئذ فلو كانت الرجعة التي حصلت منه بعد الطلاق
من غير جماع غير صحيحة كما يدعونه ـ من أن المرأة باقية على مقتضى الطلاق الأول ـ
__________________
لعلله عليهالسلام بما علل به سابقه من كونه طلق طالقا ، فإنه أوضح في
التعليل وأظهر كما لا يخفى.
وبالجملة
فالظاهر أن ما ادعوه من ذلك مجرد توهم نشأ من حكم ابن أبي عقيل ببطلان الطلاق
الأخير ، ولا وجه له ظاهرا عندهم إلا ذلك ، حيث إن هذا الوجه الذي علل به الابطال
كما في الرواية غريب على قواعدهم ، ولم يقفوا على هذه الرواية بالكلية ، ولم
يتعرضوا لها في الكتب الاستدلالية.
وأما قوله عليهالسلام في رواية أبي بصير السابقة «المراجعة هي الجماع»
فالظاهر أن المعنى فيها أن المراجعة الموجبة لصحة الطلاق بعدها هي ما اشتملت على
الجماع كما يدل عليه قوله «وإلا فهي واحدة» كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الجمع بين هذه الأخبار لا يخلو عن أحد وجوه :
الأول : ما
ذكره شيخنا في كتابي الأخبار من حمل الأخبار الواردة بالنهي عن تكرار الطلاق بعد
الرجعة بدون وطء ، فإن ذلك الطلاق لا يقع على كون ذلك الطلاق للعدة ، لأنه كما
تقدم في سابق هذه المسألة مشروط بالرجعة والوطء بعدها عندهم ، وحمل أخبار الجواز
على طلاق السنة بالمعنى الأعم ، ونسبه المحقق في الشرائع بعد نقل ذلك عنه إلى
التحكم ، وهو القول بغير دليل.
قال في المسالك
: ووجهه أن كلا من الأخبار ورد في الرجل يطلق على الوجه المذكور ، ويجيب الامام عليهالسلام بالجواز أو النهي من غير استفصال ، فيفيد العموم من
الطرفين ، ولأن شرط العدي الوطء بعده وبعد الرجعة منه في العدة ، وها هنا شرط في
جواز الطلاق ثانيا سبق الوطء ، وسبقه ليس بشرط في طلاق العدة ، وإنما الشرط تأخره
، فيلزم الشيخ أخذ غير الشرط مكانه. ثم قال ـ رحمة الله عليه : ـ وللشيخ أن يجيب
بأن الباعث على الجمع التعارض ، فلا يضره عمومها من الطرفين على تقدير تسليمه ،
لأن تخصيص العام لأجل الجمع جائز ، خير من إطراح أحد الجانبين ، والوطء الذي جعل
معتبرا في الطلاق ثانيا يجعل الطلاق السابق عديا
وليس الحكم مختصا بالطلاق الثاني بل بهما معا ، بمعنى أن من أراد طلاق
المرأة للعدة أزيد من مرة فليس له ذلك ، ولا يتحقق إلا بالمراجعة والوطء ليصير
الثاني عديا أيضا ، وليصير الثالث بحكمها لتحرم في الثالثة عليه قطعا بخلاف ما لو
طلقها على غير هذا الوجه ، فإن فيه أخبارا تؤذن بعدم التحريم لعدم نقضها ، انتهى.
هذا ، وعندي
فيما ذهب إليه الشيخ ـ رحمهالله ـ من الجمع المذكور نظر من وجوه : (أحدها) ما ذكره في
المسالك في بيان أحد وجهي التحكم الذي نسبه المحقق إلى الشيخ من أن الحمل على
الطلاق العدي يوجب اشتراطه بسبق الوطء مع أن الشرط فيه إنما هو تأخر الوطء.
وما أجاب به
شيخنا الشهيد الثاني عنه ـ من أن الوطء الذي جعل معتبرا في الطلاق ثانيا يجعل
الطلاق السابق عديا. إلى آخره ـ ينافي ما صرح به الشيخ من أن مراده بالطلاق العدي
هو الثاني لا الأول. فإنه قال في كتاب الاستبصار ـ بعد أن نقل في حيز «أما» صحيحة عبد الحميد الطائي
المتقدمة وصحيحة محمد بن مسلم الدالتين على أن الرجعة بغير جماع رجعة ـ ما صورته :
فالوجه في هذين الخبرين أنه يكون رجعة بغير جماع ، بمعنى أنه يعود إلى ما كان عليه
من أنه يملك مواقعتها ، ولو لا الرجعة لم يجز ذلك ، وليس في الخبر أنه يجوز له أن
يطلقها تطليقة أخرى للعدة وإن لم يواقع ، ونحن إنما اعتبرنا المواقعة فيمن أراد
ذلك ، فأما من لا يريد ذلك فليس الوطء شرطا له. انتهى ، وهو صريح في أن مراده
بالطلاق العدي هو الثاني المسبوق بالمواقعة كما لا يخفى.
وقال أيضا ـ بعد
إيراد صحيحة البزنطي وحسنة أبي علي بن راشد المتقدمتين الدالتين على وقوع الطلقة الثانية
وجوازها بعد المراجعة من غير جماع ـ ما لفظه : لأنه ليس في هذه الأخبار أن له أن
يطلقها طلاق العدة ، ونحن إنما نمنع أن يجوز له أن يطلقها طلاق العدة ، فأما طلاق
السنة فلا بأس أن يطلقها بعد ذلك
__________________
... إلخ. فإنه كما ترى قد حمل قوله في صحيحة البزنطي «أيقع عليها التطليقة
الثانية» وقوله في حسنة أبي علي «أيجوز له ذلك» على كون ذلك الطلاق الثاني سنيا
يعني بالمعنى الأعم لا عديا ، وهو مشعر بأنه لو حصلت المواقعة بعد تلك الرجعة لكان
الطلاق الواقع بعد عديا لأن حكمه بكونه سنيا لا عديا إنما هو من حيث عدم تقدم
المواقعة وحصول الرجعة خالية عن المواقعة.
وبالجملة فحيث
كان محل الاختلاف في الأخبار إنما هو بالنسبة إلى وقوع التطليقة الثانية الواقعة
بعد الرجعة بغير مواقعة وصحتها ، بل عدم الوقوع والصحة ، فبعض الأخبار دل على صحة
ذلك الطلاق وبعضها دل على العدم ، جمع الشيخ بينها بحمل أخبار عدم الصحة على ما
إذا قصد بذلك الطلاق العدي فإنه لا يجوز له بذلك ولا يصح منه ، ولا يقع للعدة لعدم
المواقعة قبله ، وإنما يقع للسنة خاصة. هذا حاصل مراد الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وصريح
عبائره كما لا يخفى وحينئذ فيتوجه عليه ما تقدم إيراده ، ولا يندفع بما اعتذر عنه
به في المسالك ، فتأمل وأنصف.
(وثانيها) أن
الشيخ قد استند في وجه الجمع الذي ذكره إلى رواية المعلى ابن خنيس عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الذي يطلق ثم يراجع ثم يطلق فلا يكون بين الطلاق
والطلاق جماع ، فتلك تحل له قبل أن تزوج زوجا غيره ، والتي لا تحل له حتى تنكح
زوجا غيره هي التي تجامع بين الطلاق والطلاق».
وأورد عليه
بأنه لا دلالة في هذه الرواية إلا على أن الجماع بين الطلاقين شرط في التحريم
الموجب المحوج إلى المحلل ، وأما التفصيل بالسني والعدي واشتراط الجماع بعد الرجوع
في العدة خاصة فلا دلالة في الخبر عليه ، على أن في هذا الخبر من الإشكال أيضا ما
يمنع من العمل به والاعتماد عليه لدلالته على أن غير الطلاق العدي لا تبين منه في
الثالثة. وهو خلاف ما عليه الأصحاب
__________________
ومنهم الشيخ أيضا ، فهي مخالفة لقواعدهم. نعم ربما أمكن انطباقها على مذهب
ابن أبي عقيل.
(وثالثها) أن
مقتضى ما ذكره الشيخ من الحمل هو أنه متى راجع ثم طلق من غير مواقعة فإنه يكون
الطلاق صحيحا وإن لم يقع للعدة بزعمه وإنما يقع للسنة ، مع أن المفهوم من الأخبار
المانعة هو الإبطال رأسا وعدم وقوع الطلاق مطلقا كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الدالة على النهي عنه ، ورواية المعلى بن خنيس المصرحة بأنه لا يقع الطلاق الثاني حتى يراجع ويجامع ،
ونحوها موثقة إسحاق بن عمار وحمل هذه الأخبار على الطلاق العدي كما زعمه ، بمعنى
أنه لا يقع عديا ، وإن وقع سنيا قد عرفت فساده من الوجه الأول ، فيبقى التعارض بين
أخبار الطرفين على حاله كما لا يخفى.
الثاني : ما
اختاره جملة من أصحابنا منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وسبطه السيد السند في
شرح النافع من حمل النهي على الكراهة ، وأخبار الجواز على أصل الإباحة.
قال في المسالك
: ووجه أولوية الجماع البعد عن مذهب المخالفين المجوزين لتعدد الطلاق كيف اتفق ،
ليصير الأمران على طرف النقيض ، حيث إن ذلك معدود عند أصحابنا من طلاق البدعة كما
سلف ، ثم لو لم يظهر الوجه في الجمع لكان متعينا حذرا من إطراح أحدهما رأسا ، أو
الجمع بما لا يقتضيه أصول المذهب كما جمع به الشيخ ، والحمل على الجواز والاستحباب
سالم من ذلك وموجب لإعمال الجميع.
وفيه أن ذلك
وإن أمكن في بعض الأخبار ، إلا أنه لا يجري في جميعها ،
__________________
مثل رواية المعلى الدالة على أنه لا يقع ، فإنه صريح في الإبطال رأسا ،
ومثل صحيحة زرارة وصحيحة أبي بصير فإنها صريحتان في الابطال ، ولكن العذر لمثل شيخنا
المشار إليه في ذلك واضح ، حيث إنهم لم يتعرضوا لنقل الروايات المذكورة ولم يقفوا
عليها.
الثالث : ما
ذهب إليه المحدث الكاشاني في كتاب الوافي والمفاتيح من أنه إن كان غرضه من الرجعة
أن يطلقها تطليقة أخرى حتى تبين منه فلا يتم مراجعتها ولا يصح طلاقها بعد المراجعة
ولا يحسب من الثلاث حتى يمسها ، وإن كان غرضه من الرجعة أن تكون في حبالته وله
فيها حاجة ، ثم بدا له أن يطلقها ، فلا حاجة إلى المس ويصح طلاقها ويحسب من الثلاث
، قال : وإنما جاز هذا التأويل لأنه كان أكثر ما يكون غرض الناس من المراجعة
الطلاق والبينونة كما يستفاد من الأخبار ، ويشار إليه بقوله عليهالسلام وإلا فإنها واحدة ، حتى أنه ربما صدر ذلك عن الأئمة عليهمالسلام كما مضى في حديث أبي جعفر عليهالسلام أنه قال «إنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي بها حاجة» ،
انتهى كلامه زيد مقامه.
وأشار بحديث
أبي جعفر عليهالسلام إلى رواية أبي بصير قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فقال :
أخبرك بما صنعت أنا بامرأة كانت عندي فأردت أن أطلقها فتركتها حتى إذا طمثت وطهرت
طلقتها من غير جماع وأشهدت على ذلك شاهدين ، ثم تركتها حتى إذا كادت أن تنقضي
عدتها راجعتها ودخلت بها وتركتها حتى إذا طمثت وطهرت ثم طلقتها على طهر من غير
جماع بشاهدين ، ثم تركتها حتى إذا كان قبل أن تنقضي عدتها
__________________
راجعتها ودخلت بها ، حتى إذا طمثت وطهرت ثم طلقتها على طهر بغير جماع بشهود
، وإنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي بها حاجة».
وما ذكره ـ رحمة
الله عليه ـ من الجمع لا يخلو عندي من قرب ، ويؤيده ما ورد في تفسير قوله سبحانه «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً لِتَعْتَدُوا» من رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً لِتَعْتَدُوا» قال : الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ثم
طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات ، فنهى الله عزوجل عن ذلك».
ورواية الحسن
بن زياد عنه عليهالسلام قال : «لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته ثم يراجعها وليس
له فيها حاجة ثم يطلقها ، فهذا الضرار الذي نهى الله تعالى عزوجل عنه إلا أن يطلق ثم يراجع وهو ينوي الإمساك».
فإن هاتين
الروايتين صريحتان في أنه متى كان قصد من المراجعة مجرد البينونة فلا يجوز له ذلك
، ولا يصح طلاقه الثاني لما فيه من الإضرار بها في مدة العدد الثلاث بعدم الجماع
ونحوه ، وقد تكون العدة تسعة أشهر مع أن غاية ما رخص به الشارع في ترك الجماع إذا
كانت زوجة أربعة أشهر ، فالزيادة على ذلك إضرار محض ، فنهى الله سبحانه عنه ،
والظاهر أنه من أجل هذا النهي الموجب للتحريم وبطلان الطلاق كان الامام عليهالسلام يجامع بعد كل رجعة مع أن قصده البينونة.
وبالجملة فهذا
الوجه عندي لما عرفت في غاية القوة ، وعليه يجتمع أكثر أخبار المسألة ، ولعل في
قوله في موثقة إسحاق بن عمار الاولى «ثم بدا له فراجعها» إشارة إلى ذلك بمعنى بدا
له وظهر إرادة المعاشرة فراجع ، وعلى هذا الوجه يمكن تطبيق الروايات الثلاث الأول
التي ذكرناها في أدلة ابن أبي عقيل ،
__________________
فإنها وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ما ذكر من التفصيل ، إلا أنها بالتأمل في
مضامينها والتعمق في معانيها يظهر أنها إنما خرجت من ذلك القبيل.
أما صحيحة عبد
الرحمن فإنه إنما سئل عن الرجل إذا طلق فهل له أن يراجع أم لا؟
فأجاب عليهالسلام «لا يطلق التطليقة الأخرى حتى يمسها». وأنت خبير بأن هذا الجواب بحسب
الظاهر غير منطبق على السؤال ، والظاهر أنه عليهالسلام فهم من السائل بقرينة حالية ، وإن لم ينقل في الخبر أن
مراده السؤال عن الرجعة بمجرد إيقاع الطلاق بعدها ، فأجاب عليهالسلام بالنهي عن هذا الطلاق على هذا النحو ، إلا أن يمسها كما
فعل الباقر عليهالسلام فيما تقدم من حديث أبي بصير ، ومعناها يرجع إلى معنى
رواية أبي بصير كما أوضحناه سابقا.
وأما رواية
المعلى فالظاهر أن غرض السائل أنه هل يصح الطلاق من غير رجعة ،
بمعنى أنه يترتب عليه ما يترتب على المواقع بعد الرجعة من البينونة ونحوها؟ وغرضه
من ذلك استعلام ما لو قصد البينونة بالطلاق على هذا النحو ، فإنه لا ثمرة للطلقة
الثانية لو صحت إلا قصد ذلك وحصوله ، فأجاب عليهالسلام بأنه لا يقع الطلاق الثاني على هذا الوجه إلا مع الجماع
بعد المراجعة.
وأما موثقة
إسحاق بن عمار فهي صريحة في ذلك ، فإن إيقاع ذلك في يوم أو في طهر
دليل على كون الباعث على تلك الرجعة هو مجرد قصد البينونة ، فلذا نسبه إلى مخالفة
السنة.
بقي هنا شيء
وهو أن هذا الوجه وإن اجتمعت عليه أدلة القول المشهور وكذا هذه الروايات الثلاث
بالتقريب الذي عرفته ، لكن يبقى الإشكال في كلامه ـ رحمة الله عليه ـ من وجهين :
__________________
(الأول) قوله «فلا
يتم مراجعتها» فإن فيه دلالة على أن المراجعة بدون النكاح بعدها إذا كان قصده مجرد
البينونة لا يقع ، وهو موافق لما صرح به غيره من الأصحاب كما قدمنا ذكره ، حيث
أوردوا في الاستدلال صحيحة عبد الحميد الطائي ورواية أبي بصير وقد أوضحنا لك أنه لا دليل على عدم وقوع الرجعة ، وإنما
غاية ما يستفاد من الأخبار عدم صحة الطلاق خاصة ، وحينئذ فتبقى بعد الرجعة على حكم
الزوجية إذا طلقها ضرارا بغير جماع فيجب لها ما يجب للزوجة.
(الثاني) من
جهة صحيحة أبي بصير التي هي كما عرفت معتمد ابن أبي عقيل وصريح عبارته ، فإنها لا
تندرج تحت هذا التأويل ، حيث إنه عليهالسلام قد علل فساد الطلاق الواقع على ذلك الوجه فيها بوجه آخر
من كونه لم يقع في طهر الطلقة الاولى ، وعلى هذا فيبقى الإشكال بحاله في المسألة ،
لأن الظاهر أنه معتمد ابن أبي عقيل في الاستدلال على ما ذهب إليه إنما هو هذه
الرواية كما أوضحناه آنفا ، وهي غير منطبقة على شيء من هذه الوجوه الثلاثة التي
نقلناها في الجمع بين أخبار المسألة وما عداها من الأخبار وإن دل بحسب الظاهر على
مذهب ابن أبي عقيل ، إلا أنه لم يستند إليه في الاستدلال ولم يصرح به ، ومع هذا
فإنه يمكن تطبيقه كما ذكرناه ، وأما هذه الصحيحة فهي صريحة في مدعاه غير قابلة
لذلك ، مع كونها مشتملة على ما عرفت من إطلاق الطهر على خلاف ما هو المعهود من
معناه في الأخبار وكلام الأصحاب ، ولم أقف على ما تعرض للكلام فيها من المحدثين
الذين نقلوها في كتب الأخبار ، ولم ينقلها أحد في كتب الفروع الاستدلالية ، بل لم
يستوفوا الأخبار فيها بالكلية ، ولا يحضرني الآن وجه تحمل عليه سوى الرد والتسليم
لقائلها ، وإرجاع الحكم فيها لعالم من آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
المسألة
الثالثة : في حكمين
مما يتعلق بطلاق الغائب : (إحداهما) لو طلق غائبا ثم حضر ودخل بها ولم يعلمها ثم
بعد ذلك ادعى الطلاق ، فإنه لا تقبل دعواه ، ولو أقام البينة بالطلاق لم تقبل
بينته ، ولو أولدها والحال هذه الحق به الولد للحكم في ظاهر الشرع بثبوت الزوجية.
ويدل على ذلك
ما رواه ثقة الإسلام عن سليمان بن خالد قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق امرأته وهو غائب وأشهد على طلاقها ، ثم قدم
فأقام مع المرأة أشهرا لم يعلمها بطلاقها ، ثم إن المرأة ادعت الحبل ، فقال الرجل
: قد طلقتك وأشهدت على طلاقك ، قال : يلزم الولد ولا يقبل قوله».
وأيده بعضهم
بأن تصرف المسلم مبني على الصحة ، فإذا ادعى بعد ذلك ما يخالفه لا يزول ما قد ثبت
سابقا.
وأورد عليه بأن
تصرفه إنما يحمل على المشروع حيث لا يعترف بما ينافيه ، ولهذا لو وجدناه يجامع
امرأة واشتبه حالها فإنا لا نحكم عليه بالزنا ، لكن إذا أقر أنه زان حكم عليه به ،
وعلل أيضا بأن الوجه في عدم قبول بينته أنه قد كذبها بفعله.
وأورد عليه أنه
إنما يتم إذا كان هو الذي أقامها ، فلو قامت الشهادة حسبة ، وورخت بما ينافي فعله
، قبلت وحكم بالبينونة.
نعم يبقى
الكلام في إلحاق الولد بهما أو بأحدهما ، وهو مبني على ما تقدم في الكلام في
الأولاد من اعتبار العلم بالحال وعدمه ، والظاهر هو العمل بالخبر المذكور ،
والمفهوم منه أنه لا يقبل قوله وإن أقام البينة. ويمكن الفرق بين ما نحن فيه وبين
الاعتراف بالزنا ، بأن الاعتراف بالطلاق مستلزم لدفع أحكام الزوجية الواجبة عليه
بظاهر الشرع ، فهو في معنى الاعتراف في حق غيره ، فلا يقبل بخلاف الزنا ، فإنه حق
لله سبحانه محضا أو مشتركة في بعض الوجوه.
__________________
هذا كله إذا كان الطلاق بائنا أو رجعيا وانقضت المدة قبل فعله المكذب
لدعواه ، وإلا قبل ، وكان الوطء رجعة بلا إشكال.
(وثانيهما) ما
لو كان غائبا وله أربع نسوة ثم طلق إحداهن ، فإنه قد صرح الأصحاب بأنه لا يجوز أن
يتزوج عوضها في حال غيبته إلا بعد مضي تسعة أشهر.
والأصل في هذا
الحكم ما رواه ثقة الإسلام عن حماد بن عثمان في الحسن أو الصحيح قال : «قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام : ما تقول في رجل له أربع نسوة طلق واحدة منهن وهو غائب
عنهن متى يجوز له أن يتزوج؟ قال : بعد تسعة أشهر ، وفيها أجلان : فساد الحيض وفساد الحمل».
وجملة من
الأصحاب كالمحقق والعلامة وغيرهما قد ألحقوا بذلك الحكم تزويج الأخت ، فصرحوا بأنه
إذا طلق الغائب وأراد العقد على أختها في حال غيبته فإنه لا يجوز له إلا بعد تسعة
أشهر.
والشيخ في
النهاية خص الحكم بتزويج الخامسة تبعا للنص ، واقتفاه ابن إدريس في ذلك فقال :
فأما إن كانت واحدة فطلقها طلاقا شرعيا وأراد أن يعقد على أختها في حال سفره ،
فإذا انقضت عدتها على ما يعلمه من عادتها فله العقد على أختها ولا يلزمه أن يصبر
تسعة أشهر ، لأن القياس عندنا باطل ، وكذا التعليل ، فليلحظ الفرق بين المسألتين.
__________________
واعترضه
العلامة في المختلف فقال بعد ذلك عنه : وهو خطأ ، إذ لا فرق بين الأمرين ، وكما
تحرم الخامسة كذا تحرم الأخت في العدة ، وكما أوجبنا الصبر تسعة أشهر في الخامسة
استظهارا كذا يجب في الأخت ، وقوله «فإذا انقضت عدتها على ما يعلمه من عادتها فله
العقد على أختها» يوهم أنه مع علمه بخروج العدة لا يجوز في الخامسة ، وليس بجيد ،
بل الصبر إنما يجب في الخامسة مع الاشتباه ، انتهى.
وأورد عليه
السيد السند في شرح النافع بأن ما ذكره أولا ـ في توجيه إلحاق الأخت بالخامسة ـ لا
يخرج عن القياس ، وما ذكره ثانيا ـ من إيهام كلام ابن إدريس عدم جواز تزويج
الخامسة مع العلم بخروج المطلقة من العدة ـ غير واضح ، فإن المراد بالعلم هنا الظن
المستفاد من معرفة العادة كما سبق في طلاق الغائب ، وهذا القدر يكفي في جواز تزويج
الخامسة ، نعم لو حصل العلم القطعي بخروج المطلقة من العدة جاز له العقد على أختها
وعلى الخامسة من غير إشكال ، إلا أن ذلك خلاف ما أراده ابن إدريس.
أقول : لا يخفى
أن المفهوم من الأخبار وكلام الأصحاب أن الاعتداد بتسعة أشهر إنما هو فيما لو كانت
المرأة مسترابة الحمل ، وإلا فالعدة إنما هي ثلاثة أشهر خاصة مع عدم إمكان
الاعتداد بالأقراء.
ومما يدل على
الأمرين المذكورين موثقة محمد بن حكيم عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «قلت له : المرأة الشابة التي تحيض مثلها يطلقها
زوجها ويرتفع حيضها كم عدتها؟ قال : ثلاثة أشهر ، قلت : فإن ادعت الحبل بعد ثلاثة
أشهر؟ قال : عدتها تسعة أشهر ، قلت : فإن ادعت الحبل بعد تسعة أشهر؟ قال : إنما
الحبل
__________________
تسعة أشهر» الحديث ، وبمضمونها أخبار عديدة .
ومما يدل على
الثاني الأخبار المستفيضة ، ومنها في خصوص الغائب صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قال : إذا طلق الرجل امرأته وهو غائب فليشهد على ذلك ، فإذا مضى
ثلاثة أشهر فقد انقضت عدتها».
ومقتضى هذه
الرواية أنه بعد انقضاء الثلاثة يجوز تزويج الأخت وتزويج الخامسة ، وأنت خبير بأن
ما دلت عليه الرواية المتقدمة من وجوب التربص تسعة أشهر مناف لما دلت عليه هذه
الرواية ، من أن العدة إنما هي ثلاثة أشهر لأن موردهما من طلق امرأته وهو غائب ،
وكم عدتها ، وإن كان السؤال في الأولى عن طلاق إحدى الأربع وفي هذه الرواية مطلق ،
وقد ورد الجواب بالتسعة في الاولى ، والثلاثة في الثانية ، ولا يعلم هنا وجه
خصوصية لإحدى الأربع فيستثنى من هذه القاعدة المستفادة من النصوص كما أشرنا إليه ،
ولا وجه للجمع إلا حمل الرواية الأولى على المسترابة ، وبذلك يظهر لك قوة ما ذكره
العلامة في اعتراضه على ابن إدريس وضعف ما أورده عليه السيد السند ، فإنه إذا كان
مقتضى القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى أن العدة فيمن انقطع عنها الحيض إنما هو الاعتداد
__________________
بثلاثة أشهر ، والاعتداد بالتسعة إنما هو مع الاسترابة بالحمل من غير فرق
في ذلك بين طلاق الغائب والحاضر كما هو مقتضى إطلاق النصوص المشار إليها ، فلا وجه
لما اشتملت عليه رواية حماد من التسعة إلا الحمل على المسترابة ، وإلا فاستثناؤها
من هذه القاعدة الكلية والضابطة الجلية مع عدم خصوصية تدل على ذلك مشكل ، وحينئذ
فلا فرق بين الخامسة والأخت في الحكم المذكور.
وقال السيد
السند المذكور في الكتاب المشار إليه : ولو علم انتفاء الحمل صبر مقدار ما يمضي
فيه ثلاثة قروء على حسب ما يعلمه من عادتها ، أو ثلاثة أشهر ، ويدل على ذلك صحيحة
محمد بن مسلم ـ ثم أورد الرواية المذكورة ثم قال : ـ حكم عليهالسلام بانقضاء عدتها بذلك بناء على الغائب من أن كل شهر تحصل
فيه حيضة للمرأة ومتى انقضت العدة جاز التزويج بالأخت ، والخامسة ، خرج من ذلك ما
إذا كان الحمل ممكنا ، فإنه يجب التربص بالرواية المتقدمة ، فيبقى ما عداها مندرجا
في هذا الإطلاق ، انتهى.
أقول : لا يخفى
أنما ذكره إنما يتم لو دلت الروايتان على ما ادعاه في صحيحة محمد بن مسلم من العلم
بانتفاء الحمل ، وفي صحيحة حماد بن عثمان أو حسنته من كون الحمل ممكنا مع أن
الروايتين لا دلالة لهما على شيء من الأمرين المذكورين ، وإنما هما بالنسبة إلى
ما ذكره مطلقتان ، إذ غاية ما دلتا على أن كلا من الرجلين المذكورين طلق امرأته
وهو غائب ، غاية الأمر أن رواية حماد دلت على كون المطلقة رابعة ، وأما أن المرأة
مما علم انتفاء الحمل عنها ، أو أن الحمل ممكن فتكون مسترابة فلا دلالة عليه
بالكلية كما هو ظاهر ، فلم يبق إلا أن يحمل إطلاق كل منهما على ما ذكره متى كان
ذلك ، فلا خصوصية للرابعة بالاعتداد تسعة أشهر كما دلت عليه رواية حماد ، بل ذلك
يجري في كل
__________________
مسترابة إذ العلة في التسعة إنما هي الاسترابة لا خصوصية الرابعة. وبذلك
يظهر لك ما في قوله ، فيبقى ما عداها مندرجا في هذا الإطلاق.
وأما صحيحة
محمد بن مسلم فهي جارية على ما دلت عليه الأخبار المتكاثرة ـ من أنه متى لم يمكن العدة بالأقراء فإنها تعتد
بالشهور الثلاثة ـ لا يحتاج إلى حمل ولا تأويل ، وبذلك يتضح لك ما قدمنا ذكره من
أنه بذلك يظهر لك قوة ما ذكره العلامة.
المسألة
الرابعة : قد صرح الأصحاب بأنه يكره للمريض أن يطلق ، ولو طلق
كان طلاقه صحيحا ، وأنه يرث زوجته إذا ماتت في العدة الرجعية ، ولا يرثها في
البائن ولا بعد العدة ، وترثه هي سواء طلقها بائنا أو رجعيا ما بين الطلاق وبين
السنة ما لم تتزوج أو يبرأ من المرض الذي طلقها فيه.
أقول : تحقيق
الكلام في هذا المقام يقع في مقامات :
الأول : ما ذكر من كراهة الطلاق للمريض زيادة على ما ورد من
كراهته الطلاق مطلقا مما تكاثرت به الأخبار ، بل ربما دل بعضها بظاهره على التحريم
، ولهذا نقل القول بالتحريم عن ظاهر عبارة الشيخ المفيد في المقنعة ، والمشهور
الكراهة.
ومن الأخبار
الواردة في المقام ما رواه في الكافي عن عبيد بن زرارة في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يجوز طلاق المريض ، ويجوز نكاحه».
وما رواه في
الكافي وفيه عن زرارة في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ليس للمريض أن يطلق وله أن ينكح».
__________________
وعن عبيد بن
زرارة في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المريض ، إله أن يطلق امرأته في تلك الحال؟ قال : لا
، ولكن له أن يتزوج إن شاء ، فإن دخل بها ورثته ، وإن لم يدخل بها فنكاحه باطل».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن زرارة في الصحيح عن أحدهما عليهمالسلام قال : «ليس للمريض أن يطلق وله أن يتزوج ، فإن هو تزوج
ودخل بها فهو جائز ، وإن لم يدخل بها حتى مات في مرضه فنكاحه باطل ولا مهر لها ولا
ميراث».
وإنما حملت هذه
الأخبار على الكراهة مع ظهورها في التحريم لما سيأتي إن شاء الله من الأخبار
الدالة على صحة طلاقه لو طلق في هذه الحال ، وسيأتي أيضا إن شاء الله تعالى ما هو
الوجه في الكراهة.
الثاني : ما
ذكر أنه يرث زوجته إذا ماتت في العدة الرجعية ، وهو مجمع عليه بين الأصحاب كما
نقله في المسالك.
وأما أنه لا
يرثها في البائن ولا بعد العدة الرجعية فلانقطاع العصمة بينهما خرج ميراثها منه
بالنصوص الآتية وبقي ما عداه على مقتضى القاعدة ، ويعضده بعده النصوص الدالة على
ذلك أن المطلقة رجعية بمنزلة الزوجة ، فتثبت لها أحكام الزوجة التي من جملتها
الحكم المذكور ما دامت في العدة ، وينتفي إذا بانت بأحد الوجهين المذكورين.
ومن الأخبار
الدالة على الحكمين المذكورين ما رواه في الكافي عن زرارة
__________________
في الموثق قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل يطلق المرأة ، قال : ترثه ويرثها ما دام له
عليها رجعة».
وما رواه في
الفقيه في الصحيح عن الحسن بن محبوب عن ابن رئاب عن زرارة عن
أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل امرأته توارثا ما كانت في العدة ،
فإذا طلقها التطليقة الثالثة فليس له عليها رجعة ، ولا ميراث بينهما». إلى غير ذلك
من الأخبار الكثيرة الدالة على ثبوت التوارث في العدة الرجعية ، وانتفائه
مع البينونة.
وبذلك يظهر ما
في كلام صاحب الكفاية تبعا للسيد السند في شرح النافع من المناقشة في الحكم الأول.
قال في الكفاية : ويرث زوجته في العدة الرجعية عند الأصحاب ، ونقل غير واحد منهم
الإجماع عليه لكن إطلاق الصحيحة المذكورة ينافيه ، وأشار بالصحيحة المذكورة إلى ما
قدمه من صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن الرجل يحضره الموت فيطلق امرأته ، هل يجوز طلاقها؟ قال : نعم ،
وإن مات ورثته ، وإن ماتت لم يرثها».
والسيد السند
بعد أن ذكر الحكم المذكور في كلام الأصحاب اعترضه بأن مقتضى صحيحة الحلبي المتقدمة
أن الزوج لا يرثها مطلقا ، وحمل الروايات على الطلاق البائن ينافيه قوله عليهالسلام قبل ذلك «فإن مات ورثته» والمسألة محل إشكال.
أقول ـ وبالله
التوفيق ـ : لا إشكال بحمد الملك المتعال فإن إطلاق الصحيحة المذكورة يجب تقييده
بالروايات المستفيضة الدالة على التوارث في العدة الرجعية مطلقا صحيحا كان أو
مريضا ، وقد عرفت بعضها ، وأما الصحيحة المذكورة فالمراد منها إنما هو ما لو طلق
المريض زوجته وخرجت عن العدة ، فإن مات ورثته ،
__________________
وإن ماتت لم يرثها على التفصيل الاتي إن شاء الله تعالى ، وما ذكر من أن
الزوج لا يرثها في البائن هو المشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخرين ، وبه قطع الشيخ
في الخلاف محتجا بإجماع الفرقة وأخبارهم ، إلا أنه قال في النهاية وتبعه فيه جملة
من أتباعه : إذا طلق الرجل امرأته وهو مريض فإنهما يتوارثان ما دامت في العدة ـ ثم
قال : ـ ولا فرق في جميع هذه الأحكام بين أن تكون التطليقة هي الأولى أو الثانية
أو الثالثة ، وسواء كان له عليهما رجعة أم لم يكن ، انتهى .
ومرجعه إلى
ثبوت التوارث بينهما في العدة مطلقا رجعية كانت أو بائنة. واختصاص الإرث بعد العدة
بالمرأة ، دون العكس إلى مدة السنة كما سيأتي ، ولا ريب في ضعفه ، لأن الطلاق
البائن موجب لانقطاع العصمة بين الزوجين الموجب سقوط التوارث ، استثني من ذلك
إرثها منه بالنص والإجماع ـ كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ـ وبقي الباقي.
ومن الأخبار
الدالة على القول المشهور إطلاق موثقة زرارة وصحيحته المتقدمتين ونحوهما غيرهما ، والتقريب فيهما أنهما خصا
التوارث من الجانبين بما إذا كانت في العدة الرجعية ، ومتى خرجت من العدة أو كانت
العدة بائنة فلا توارث خرج منه بالنص والإجماع إرث المرأة من الزوج إذا طلقها وهو
مريض ، فإنها ترثه في العدة البائنة وبعد العدة الرجعية إلى سنة كما سيأتي إن شاء
الله تعالى وسيأتي في الأخبار الآتية ما يدل على ذلك.
__________________
ومن أظهر
الأدلة أيضا ما سيظهر لك إن شاء الله من أن المقتضي لإرث
الزوجة في صورتي العدة البائن وبعد الخروج من العدة الرجعية إنما هو التهمة بمنعها
من الإرث ، وهذه العلة منتفية من جانب الزوج كما لا يخفى.
واعلم أنه قد
احتج في المسالك للقول المشهور بموثقة زرارة المتقدمة ، ثم قال في تقريب الاستدلال
بها : وقيد الرجعة لا يصلح في ميراثها إجماعا لثبوته مطلقا فيبقى في ميراثه وللقرب
، وإذا انتفى القيد انتفى الحكم تحقيقا لفائدته. ثم استدل له بحسنة الحلبي التي
تقدم وصفها بصحيحة الحلبي ، ثم قال : وليس ذلك في الرجعي لاتفاقهما في الحكم فهو
في البائن ، ثم قال : وحجة الشيخ وأتباعه روايات تدل بظاهرها على ثبوت التوارث
بينهما من غير تفصيل ، والأخبار من الجانبين غير نقية ، والأولى الرجوع إلى حكم
الأصل ، والوقوف على موضع الوفاق ، وهو دال على الأول ، انتهى.
أقول : أما
تقريب الاستدلال بموثقة زرارة كما ذكره فهو إنما يتم لو كان موردها طلاق المريض
ليترتب عليه صحة قوله ، وقيد الرجعة لا يصلح في ميراثها إجماعا لثبوته مطلقا ، مع
أن الرواية كما عرفت مطلقة شاملة للصحيح والمريض ، فلا يتم ما ذكره ، وكذا التعليل
بالقرب إنما يتجه على كون موردها المريض ، وإلا فهو لغو ، فالحق أن الاستدلال بها
إنما هو بالتقريب الذي قدمناه ، وأما استدلاله بحسنة الحلبي ، ففيه أنه لو حمل
قوله «وإن ماتت لم يرثها على الطلاق البائن» لنافى قوله «وإن ماتت ورثته» كما
تقدمت الإشارة إليه في كلام سبطه
__________________
السيد السند ، بل الأظهر في معنى الخبر إنما هو ما قدمنا ذكره.
وأما قوله «إن
حجة الشيخ وأتباعه روايات تدل بظاهرها على ثبوت التوارث بينهما من غير تفصيل» ففيه
: إنا لم نقف على شيء من هذه الأخبار في طلاق المريض بالكلية ، وستمر بك إن شاء
الله مذيلة ببيان ما اشتملت عليه من الأحكام.
الثالث : ما
ذكره بقوله «وترثه سواء طلقها بائنا أو رجعيا. إلى آخر الكلام» والوجه فيه أنه لا
خلاف نصا وفتوى في أن مطلقه المريض ترثه في العدة البائنة بعد انقضاء العدة
الرجعية إلى سنة ما لم يبرأ من مرضه ذلك أو تتزوج هي قبل انقضاء السنة.
وإنما الخلاف
في أن وجوب الإرث لها في هاتين الصورتين الخارجتين من القواعد المقررة هل هو لمجرد
إطلاق النصوص الدالة على ذلك أعم من أن يكون السبب الداعي إلى الطلاق من جهته أو
من جهتها؟ أو أن العلة إنما هي التهمة بالإضرار بها ومنعها من الميراث ، فقوبل
حينئذ بنقيض مطلوبه من توريثها في المدة المذكورة ما لم تتزوج أو يبرأ أو تزيد على
السنة؟ أو يكون السبب من جهتها ، ويكون الحكم هنا كما في القاتل وحرمانه من الإرث
، مقابلة له بضد مطلوبه؟ المشهور الأول ، وإلى الثاني ذهب الشيخ في الاستبصار
والعلامة في المختلف وجملة من متأخري المتأخرين كالمحدث الكاشاني والمحدث الشيخ
محمد بن الحسن الحر العاملي وغيرهما ، وهو الأظهر.
وها أنا أتلو
عليك أخبار المسألة زيادة على ما تقدم منها بحيث لا يشذ منها شيء إن شاء الله.
ومنها ما رواه في
الكافي عن أبي العباس في الصحيح أو الحسن عن أبي
__________________
عبد الله عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة في مرضه ورثته ما دام في
مرضه ذلك ، وإن انقضت عدتها إلا أن يصح منه ، قال : قلت : فإن طال به المرض؟ فقال
: ما بينه وبين سنة». دلت هذه الرواية على تحديد المدة بالسنة ، فلا ميراث بعدها ،
وعلى الإرث في السنة مع استمرار المرض وإن كان الطلاق بائنا أو بعد العدة الرجعية.
وما رواه في
الكافي والفقيه عن الحذاء وأبي الورد كلاهما عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل امرأته تطليقة في مرضه ثم مكث في
مرضه حتى انقضت عدتها فإنها ترثه ما لم تتزوج ، فإن كانت تزوجت بعد انقضاء العدة
فإنها لا ترثه».
وما رواه في
الكافي عن عبد الرحمن بن الحجاج في الموثق عمن حدثه عن أبي عبد
الله عليهالسلام «في رجل طلق امرأته وهو مريض ، قال : إن مات في مرضه ولم تتزوج ورثته ، وإن
كانت قد تزوجت فقد رضيت بالذي صنع ، فلا ميراث لها». وهما دالان على أنه بالتزويج
يزول الإرث.
وعن عبيد بن
زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته وهو مريض حتى مضى لذلك
سنة ، قال : ترثه إذا كان في مرضه الذي طلقها فيه لم يصح من ذلك». ومفهومه دال على
ما ذكره الأصحاب من أنه لو صح لم ترثه.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن أبي العباس في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته وهو مريض تطليقة وقد
كان طلقها قبل ذلك
__________________
تطليقتين؟ قال : فإنها ترثه إذا كان في مرضه ، قال : قلت : وما حد المرض؟ قال
: لا يزال مريضا حتى يموت وإن طال ذلك إلى سنة».
وعن أبي العباس
في الصحيح برواية المشايخ الثلاثة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة في مرضه ورثته ما دام في
مرضه ذلك وإن انقضت عدتها إلا أن يصح منه ، قال : قلت : فإن طال به المرض؟ قال :
ما بينه وبين سنة».
وعن سماعة
برواية الثلاثة في الموثقة قال : «سألته عليهالسلام عن رجل طلق امرأته ، قال : ترثه ما دامت في عدتها ، وإن
طلقها في حال إضرار فهي ترثه إلى سنة ، فإن زاد على السنة يوما واحدا لم ترثه»
وزاد في الكافي والتهذيب «وتعتد منه أربعة أشهر وعشرا ، عدة المتوفى عنها زوجها». وبهذه
الرواية استدل الشيخ على ما قدمنا نقله عنه ، وردها المتأخرون بضعف السند ، وهو
غير مرضي ولا معتمد.
وما رواه في
الكافي والفقيه عن أبان عن رجل عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال في رجل طلق امرأته تطليقتين في صحته ، ثم طلق التطليقة الثالثة
وهو مريض : إنما ترثه ما دام في مرضه وإن كان إلى سنة». وهذه الرواية مع رواية أبي
العباس الثانية ظاهرة الدلالة في أنها ترثه في عدة الطلاق البائن كما قدمنا ذكره
ونحوهما ما يأتي في موثقة عبيد بن زرارة.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الحلبي وأبي بصير وأبي العباس جميعا
__________________
عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال : ترثه ولا يرثها إذا انقضت العدة».
وما رواه
في التهذيب عن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته في مرضه ، قال : ترثه ما دام في مرضه وإن انقضت
عدتها».
وعن عبيد بن
زرارة في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته تطليقتين ثم يطلقها الثالثة وهو مريض فهي ترثه».
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن ابن مسكان عن البقباق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق امرأته وهو مريض ، قال : ترثه في مرضه ما
بينه وبين سنة إن مات من مرضه ذلك ، وتعتد من يوم طلقها عدة المطلقة ، ثم تتزوج
إذا انقضت عدتها ، وترثه ما بينها وبين سنة إن مات في مرضه ذلك وإن مات بعد ما
تمضي سنة فليس لها ميراث».
ولا منافاة بين
هذا الخبر وبين ما تقدم في موثقة سماعة من أنها تعتد عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا
، فإن المراد من هذا الخبر أنها تعتد بعد طلاقه لها عدة المطلقة ، وهما يتوارثان في
العدة كما تقدم ، فإذا انقضت العدة امتنع ميراثه منها لو ماتت ، وبقي ميراثها منه
لو مات ، فلو مات قبل السنة ورثته ، واعتدت منه عدة المتوفى عنها زوجها ما لم
تتزوج قبل ذلك ، وعلى هذا تحمل موثقة سماعة.
وما رواه في
كتاب من لا يحضره الفقيه عن صالح بن سعيد عن يونس
__________________
عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته ما العلة التي من أجلها إذا طلق الرجل
امرأته وهو مريض في حال الإضرار ورثته ولم يرثها؟ فقال : هو الإضرار ومعنى الإضرار
منعه إياها ميراثها منه ، فألزم الميراث عقوبة».
وهذا الخبر
صريح فيما ذهب إليه الشيخ مما تقدم نقله عنه ، وهو ظاهر الصدوق بناء على قاعدته
المذكورة في صدر كتابه.
وما رواه في
التهذيب عن محمد بن القاسم الهاشمي قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا ترث المختلعة والمبارأة والمستأمرة في طلاقها
من الزوج شيئا إذا كان ذلك منهن في مرض الزوج وإن مات في مرضه ، لأن العصمة قد
انقطعت منهن ومنه».
أقول : وفي هذا
الخبر ما يشير إلى ذلك ، فإن الأخبار المتقدمة كلها قد اتفقت على ميراثها منه إلى
سنة وإن خرجت من العدة ، وهؤلاء إنما خرجوا من الحكم المذكور لأن العلة في الطلاق
من جهتهن بالمطالبة بالطلاق دون المطلقة التي لا تطلب ذلك ، بل ربما تكون كارهة له
وإن بانت كما ذكره في الاستبصار.
هذا ما حضرني
من أخبار المسألة ، وأنت خبير بأنه إذا ضم بعضها إلى بعض ما تقدم وما تأخر من غير
رد لشيء منها كما هو قاعدتنا في الكتاب ، فإن الناتج من ذلك هو أنه لا ينبغي
للمريض أن يطلق زوجته إضرارا بها ، وهذا هو العلة في المنع الوارد في الأخبار
المتقدمة في صدر المسألة.
ثم إنه إن فعل
ذلك وخالف فإن طلاقة يكون صحيحا ، فيجوز للمرأة التزويج بعد الخروج من العدة ، فإن
تزوجت بعد العدة أو بريء المريض من مرضه أو جاز المرض السنة فلا ميراث بينهما ،
وإلا فهي ترثه وإن بانت منه بطلاق بائن أو خروج من العدة الرجعية عقوبة ومقابلة له
بضد ما قصده من منعها من الميراث بالطلاق ، وتعتد عدة المتوفى عنها زوجها متى
ورثته.
وأما ما ادعاه
في المسالك من ورود أخبار دالة على ما ذهب إليه الشيخ من أنه
__________________
يرثها كما ترثه في العدة البائنة ، فليس في الأخبار المذكورة ما يدل عليه
وليس غيرها في الباب.
نعم هنا بعض
الأخبار الموهمة لذلك ، إلا أنه ليس فيها تصريح بالمرض ، بل ظاهرها إنما هو
الصحيح.
ومنها ما رواه في
التهذيب عن عبد الرحمن عن موسى بن جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته آخر طلاقها ، قال : نعم
يتوارثان في العدة».
وعن يحيى
الأزرق عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «المطلقة ثلاثا ترث وتورث ما دامت في عدتها». والشيخ
قد حملها تارة على ما إذا وقعت الثلاث في مجلس واحد فتحسب بواحدة يملك معها الرجعة
، واخرى على ما إذا وقعت الثالثة في حال مرض الزوج ، فإنه يوجب الإرث وإن انقطعت
العصمة.
وأنت خبير بما
في هذا الاستدلال مع تعدد الاحتمال من الضعف والقصور ، وبه يظهر قوة القول المشهور
كما تقدم ذكره ، والتأويل الثاني إنما يتم لو قام الدليل من خارج على ميراثه منها
كما قام على ميراثها منه ، وإلا فإتيانه بمجرد هذه الرواية لا يخفى ما فيه.
تنبيهات
الأول : المشهور
أنه كما لا يلحق بالطلاق غيره من أنواع الفسخ اتفاقا كذلك لا يلحق بالمرض غيره مما
يشبهه من الأحوال المخوفة ، وقوفا فيما خالف الأصل على موضع اليقين ، ونقل عن ابن
الجنيد أنه ألحق الأسير الغير الآمن على نفسه غالبا ، والمأخوذ للقود بحد يخاف عليه
، مثل ما يخاف عليه بالمرض.
__________________
ونفى عنه العلامة ـ رحمهالله عليه ـ البأس ، ولا يخفى أنه مجرد قياس لا يخرج عن ظلمة
الالتباس.
الثاني : اختلف
الأصحاب فيما لو طلق الأمة مريضا طلاقا رجعيا ، أو الكتابية ، ثم أعتقت الأمة
وأسلمت الكتابية في العدة ومات في مرضه ، فقيل بأنهما ترثان في العدة ولا ترثان
بعدها ، لانتفاء التهمة ، لأن الأمة والكتابية لا ترثان وقت الطلاق.
وقيل : إنهما
ترثان مطلقا ولو بعد العدة ، لوجود المقتضي للإرث ـ وهو الطلاق في المرض ـ وانتفاء
المانع ، إذ ليس هنا إلا كونهما غير وارثين وقت الطلاق ، وهو لا يصلح للمانعية ،
لأن المعتبر استحقاق الإرث حال الحكم به ، والمفروض أنهما حال الموت حرة مسلمة.
وأنت خبير بأن
القولين المذكورين متفرعان على الخلاف المتقدم ذكره من أن الموجب للميراث بعد
العدة أو كون الطلاق بائنا هل هو مجرد إطلاق الأخبار الدالة على أن المريض إذا طلق
امرأته في حال مرضه ورثته إلى سنة؟ أو أن الموجب إنما هو حصول التهمة بكون طلاقه
لها لقصد حرمانها من الميراث؟ فالقول الثاني وهو القول بميراثها مطلقا يتفرع على
الأول ، والأول على الثاني.
وقيل في
المسألة أيضا قول ثالث ، وهو أنها لا ترث وإن انتفت التهمة وعلل بأنه طلقهما في حال لم يكن لهما
أهلية الإرث ، والمفروض كون الطلاق بائنا ، فلم يصادف وقت الإرث أهليتهما له
للبينونة ولا وقت الطلاق لوجود المانع وهو الرق والكفر.
ونقل عن فخر
المحققين أنه استدل على هذا القول بأن النكاح الحقيقي لم يوجب لهما الميراث فكيف
الطلاق. واعترضه في المسالك بمنع أن النكاح لا يوجب الميراث ، قال : بل هو موجب له
مطلقا ، ولكن الكفر والرق مانعان من الإرث إذ الإسلام والحرية شرط فيه ، وتخلف
الحكم عن السبب لوجود مانع
__________________
أو فقد شرط لا يقدح في سببيته ، فإذا فقد المانع أو وجد الشرط عمل السبب
عمله كما حقق في الأصول والأمر هنا كذلك ، انتهى.
أقول : والظاهر
بالنظر إلى ما قدمنا اختياره من أن الموجب للإرث إنما هو التهمة بقصده الإضرار بها
هو القول الأول من الأقوال الثلاثة المذكورة ، وهو اختيار العلامة في المختلف ،
ونقله فيه عن ابن الجنيد أيضا وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك بناء على ترجيحه
القول بإطلاق الأخبار المتقدمة وعدم صلاحية المخصص للتخصيص لضعف الاسناد اختار
الثاني.
الثالث : إذا
ادعت المطلقة المريض أن المريض طلقها قبل موته في حال المرض ، وأنكر الوارث ذلك
وزعم أنه طلقها في حال الصحة قالوا : إن القول هنا قول الوارث لتساوي الاحتمالين
المذكورين ، والأصل عدم التوارث إلا مع وجود سببه.
توضيحه : أن
إرث المطلقة هنا لما كان جاريا على خلاف الأصل ومتوقفا على شرط ـ وهو وقوع الطلاق
في حال مرض الموت ـ فلا بد في ثبوت الميراث من العلم بوجود الشرط المذكور ، وإلا
فالأصل عدم الإرث.
الرابع : قالوا
: لو طلق أربعا في مرضه وتزوج أربعا ودخل بهن ثم مات فيه كان الربع أو الثمن بينهن
بالسوية ، وإنما قيد تزويج الأربع الجديدات بالدخول لما سيأتي إن شاء الله من أن
صحة نكاح المريض مشروط بالدخول. فلو مات قبله فلا ميراث ، وحينئذ فإذا دخل بالأربع
الجديدات ورثته بالدخول والزوجية المقتضية لذلك ، وورثته الأربع الأول أيضا لوجود
سببه ، وهو الطلاق في مرض الموت المقتضي للإرث وإن خرجن عن الزوجية. وحينئذ فتشترك
الجميع في الربع أو الثمن بالسوية كاشتراك الأربع فيه ولا ميراث لما زاد عن الأربع
بالزوجية إلا في هذه الصورة ، والله العالم.
المقصد الثالث
في جملة من الأحكام المتعلقة بالمقصد المتقدم
وفيه فصول :
الأول في المحلل :
ويشترط فيه
شروط ، الأول : أن يكون الزوج بالغا ، وفي المراهق خلاف ، والذي قطع به الأكثر
العدم ، وقوى الشيخ في المبسوط والخلاف وقوع التحليل بالمراهق ، وهو من قارب الحلم
، فإنه يحصل بوطئه التحليل.
ويدل على
المشهور صريحا ما رواه في الكافي عن علي بن الفضل الواسطي قال : «كتبت إلى الرضا عليهالسلام : رجل طلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا
غيره فتزوجها غلام لم يحتلم ، قال : لا ، حتى يبلغ. فكتبت إليه : ما حد البلوغ؟ فقال
: ما أوجب على المؤمنين الحدود».
وما روي في عدة
أخبار عنه صلىاللهعليهوآله «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». وهو ما فسره في النهاية وغيرها من كتب اللغة كناية عن لذة الجماع ، وقيل : الانزال
، وهو لا يتحقق إلا في البالغ لأن اللذة التامة إنما تحصل بإنزال المني وإن حصل
قبله لذة ما ، ويشير إليه التشبيه بالعسل المشتمل على كمال اللذة ، واستدل للشيخ
بظاهر قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ»
الصادق ذلك الصغير والكبير ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني ـ رحمهالله عليه ـ في المسالك بالميل إلى ما ذهب إليه الشيخ مستندا
إلى ظاهر الآية المذكورة ، واستضعافا لسند الرواية المتقدمة ، وحملا للحديث النبوي
على ما يشمل المراهق لأن له لذة
__________________
الجماع ، وكذلك المرأة تلتذ به فيتناوله الخبر.
وفيه : أن ما
استند إليه من ظاهر الآية يرده أنهم قد صرحوا في غير مقام بأن الإطلاق إنما ينصرف
إلى الأفراد الكثيرة المتعارفة دون الأفراد النادرة ، ولا ريب أن نكاح غير البالغ
من أندر الفروض النادرة.
وأما رد الرواية
بضعف السند فقد عرفت أنه غير مرضي ولا معتمد ، أما عندنا فظاهر ، وأما عندهم
فلجبرها بشهرة الفتوى بمضمونها ، حتى أن سبطه الذي هو عمدة المشيدين لهذا الاصطلاح
المحدث قد قال بالقول المشهور واستدل بها.
وأما دعوى دخول
المراهق في الحديث النبوي فهو بعيد غاية البعد لما أشرنا إليه آنفا.
الثاني : أن
يطأها المحلل ، فلا يكفي العقد المجرد عن الوطء ، ولا الخلوة المضاف إليه. ونقل
الإجماع على ذلك من الخاصة والعامة إلا من سعيد بن المسيب ، حيث اكتفى بمجرد العقد
عملا بظاهر الآية المتقدمة ، لأن النكاح حقيقة في العقد.
وفيه مضافا إلى
الإجماع المذكور أن إطلاق الآية مخصص بأخبار العسيلة ، ومنها في خصوص ما نحن فيه ،
ما رواه في الكافي عن أبي حاتم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته الطلاق الذي لا تحل
له حتى تنكح زوجا غيره ثم تزوج رجلا لا يدخل بها ، قال : لا حتى يذوق عسيلتها».
وما رواه في
التهذيب عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يراجعها بعد انقضاء عدتها ، فإذا طلقها
الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فإذا تزوجها غيره ولم يدخل بها وطلقها أو
مات عنها لم تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها».
__________________
وخبر العسيلة
أيضا مروي عندهم كما هو مروي عندنا ، فروى غير واحد منهم «أنه جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت : كنت عند رفاعة ، فبت طلاقي ، فزوجت بعده عبد
الرحمن بن الزبير ، فطلقني قبل أن يمسني ـ وفي رواية : وأنا معه مثل هدية الثوب ـ فتبسم
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي
عسيلته ، ويذوق عسيلتك».
الثالث : أن
يكون الوطء في القبل فلا يكفي في الدبر ، وقال في المسالك : وهو مستفاد أيضا من
ذوق العسيلة ، فإنه منتف من الجانبين في غير القبل ، ولأنه المعهود.
أقول : وفي هذا
الكلام تأييد لما أوردناه عليه آنفا من استناده إلى ظاهر الآية في تقوية مذهب
الشيخ ، مع أنه خلاف المعهود ، واستناده إلى الحديث النبوي في شموله المراهق ،
بدعوى حصول اللذة له فإن اللذة أيضا حاصلة بالجماع في الدبر ، ولم يرتكب ذلك فاعله
إلا لما يراه فيه من اللذة ، ولكنها لا يبلغ لذة النكاح في القبل ، ودعواه ـ رحمة
الله عليه ـ أنه منتف من الجانبين في غير القبل ممنوعة لما عرفت.
الرابع : كون
الوطء موجبا للغسل ، وحده أن تغيب الحشفة أو قدرها من مقطوعها ، لأن ذلك هو مناط
أحكام الوطء كلها ، قالوا : والفرق بين أن يحصل مع ذلك انتشار العضو وعدمه حتى لو
حصل بإدخال الحشفة بالاستعانة ، كفى على ما يقتضيه إطلاق النص والفتوى.
ويشكل ذلك
بأخبار العسيلة الظاهرة في حصول اللذة بذلك الجماع ، ومجرد إدخال المقدار المذكور
على هذا الوجه لا يترتب عليه لذة كما لا يخفى ، ودعوى اقتضاء إطلاق النص ما ذكروه
ممنوع ، فإن الإطلاق إنما
__________________
يحمل على الأفراد الشائعة المتكررة دون الفروض النادرة ، ويؤيد ذلك بأخبار
العسيلة المذكورة. وبالجملة فالظاهر عندي ضعف ما ذكروه ، وإن كان ظاهرهم الاتفاق عليه.
الخامس : كون
ذلك بالعقد الدائم ، واحترزنا بالعقد عن ملك اليمين والتحليل لقوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ» والنكاح حقيقة في العقد ، وعلى تقدير كونه حقيقة في
الوطء فلفظ الزوج موجب لخروج النكاح بالملك والتحليل إذ لا يسمى واحد منهما زوجا ،
ويدل على ذلك قوله تعالى «فَإِنْ طَلَّقَها»
والنكاح بملك
اليمين أو التحليل لا طلاق فيه.
ومن الأخبار
الدالة على ذلك بالنسبة إلى ملك اليمين ما رواه في التهذيب عن الفضيل عن أحدهما عليهماالسلام قال : «سألته عن رجل زوج عبده أمته ثم طلقها تطليقتين ،
أيراجعها إن أراد مولاها؟ قال : لا ، قلت : أفرأيت أن وطأها مولاها أيحل للعبد أن
يراجعها؟ قال : لا ، حتى تزوج زوجا غيره ويدخل بها فيكون نكاحا مثل نكاح الأول ،
وإن كان قد طلقها واحدة فأراد مولاها راجعها».
والتقريب فيها
أن الأمة تحرم بتطليقتين ولا تحل إلا بالمحلل ، وقد منع عليهالسلام نكاح المولى أن يكون تحليلا موجبا لجواز مراجعة الزوج
الأول لها ، وأوجب زوجا غيره مثل التزويج الأول ، ونحوها أيضا رواية عبد الملك بن
أعين.
واحترزنا
بالدائم عن نكاح المتعة ، فإنه لا يحصل به تحليل اتفاقا وفتوى ،
__________________
ومن الأخبار في ذلك ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام «قال سألته عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، ثم تمتع منها رجل آخر ، هل تحل للأول؟
قال : لا».
وعن الصيقل قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
فتزوجها رجل متعة ، أيحل له أن ينكحها؟ قال : لا ، حتى تدخل في مثل ما خرجت منه».
أقول : وفي هذا
الخبر دلالة على عدم التحليل بشيء من الثلاثة المذكورين فإن الذي خرجت منه إنما
هو النكاح بالعقد الدائم ، وهو الذي حصل به التحريم بالتكرر ثلاث مرات ، فلا بد في
المحلل الذي تدخل فيه أن يكون كذلك ، فلا يجزي نكاح الملك ولا التحليل ولا المتعة
، وهو ظاهر.
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن الصيقل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى
تنكح زوجا غيره ، فيتزوجها رجل متعة ، أتحل للأول؟ قال : لا ، لأن الله تعالى يقول
«فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها»
والمتعة ليس
فيها طلاق».
أقول : ومن هذا
الخبر أيضا يستفاد عدم التحليل بملك اليمين والتحليل ، إذ لا طلاق في شيء منهما
كما عرفت.
وعن هشام بن
سالم في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل تزوج امرأة ثم طلقها فبانت فتزوجها رجل آخر متعة ، هل تحل لزوجها
الأول؟ قال : لا ، حتى تدخل فيما خرجت منه». والتقريب فيها كما تقدم في رواية
الصيقل الاولى.
__________________
وعن عمار بن
موسى في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق امرأته تطليقتين للعدة ، ثم تزوجت متعة ، هل
تحل لزوجها الأول؟ قال : لا : حتى تزوج ثباتا».
أقول : وفي هذا
الخبر دلالة على ما ذكرناه من الشرط المذكور الموجب لخروج الثلاثة المذكورة ، فإن
ثباتا إما بالثاء المثلثة ثم الباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق ، أو بالباء
الموحدة أولا ثم بالتائين المثناتين من فوق من البت بمعنى اللزوم ، والمعنيان
متقاربان ، وهما كناية عن العقد الدائم كما وقع التعبير به في غير هذا الخبر أيضا.
ومن أخبار
المسألة زيادة على ما ذكر ما رواه في الكافي عن إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
، فتزوجها عبد ثم طلقها ، هل يهدم الطلاق؟ قال : نعم ، لقول الله تعالى في كتابه «حَتّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ» وقال : هو أحد الأزواج». وفي الخبر دلالة على التحليل
بتزويج العبد كالحر.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن التحليل المذكور إذا استكمل الشرائط المذكورة فإنه لا خلاف في هدمه
الثلاث الطلقات إذا وقع بعدها ، وإنما الخلاف في هدمه ما دون الثلاث ، بمعنى أنه
إذا طلق الزوجة طلقة واحدة أو طلقتين ثم خرجت من العدة فتزوجت بغيره تزويجا مشتملا
على شروط التحليل المتقدمة ثم طلقها أو مات عنها ثم رجعت إلى الزوج الأول بعقد
جديد ، فهل تبقى معه على ثلاث تطليقات ، بمعنى أن هذا التزويج قد هدم الطلاق الأول
فكأنه لم يطلقها بالكلية ولا يحسب تلك الطلقة أو الطلقتان؟ أو أنها تبقى معه على
ما بقي من الثلاث ،
__________________
بمعنى أن التزويج الثاني لم يهدم الطلاق الأول فتبقى بعد عودها إلى الأول
على واحدة أو اثنتين؟ قولان ، المشهور الأول ، وقيل بالثاني ، إلا أن القائل به
غير معلوم ، وإنما نقله الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا المتأخرين ، وهو الظاهر
عندي من الأخبار كما ستمر بك إن شاء الله تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار.
والذي يدل على
القول المشهور ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن رفاعة في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته حتى بانت منه وانقضت
عدتها ثم تزوجت زوجا آخر فطلقها أيضا ثم تزوجها زوجها الأول ، أيهدم ذلك الطلاق
الأول؟ قال : نعم».
ورواها الشيخ
في التهذيب بسند فيه ضعف عن رفاعة بن موسى قال : «قلت لأبي عبد
الله عليهالسلام : رجل طلق امرأته تطليقة واحدة فتبين منه ثم يتزوجها
آخر فيطلقها على السنة فتبين منه ثم يتزوجها الأول ، على كم هي عنده؟ قال : على
غير شيء. ثم قال : يا رفاعة كيف إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجها ثانية استقبل الطلاق ،
فإذا طلقها واحدة كانت على اثنتين».
وما رواه في
التهذيب عن عبد الله بن عقيل بن أبي طالب عليهالسلام في الضعيف قال : «اختلف رجلان في قضية إلى علي عليهالسلام وعمر في امرأة طلقها زوجها تطليقة أو اثنتين ، فتزوجها
آخر فطلقها أو مات عنها ، فلما انقضت عدتها تزوجها الأول ، فقال عمر : هي منك على
ما بقي من الطلاق. وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : سبحان الله أيهدم ثلاثا ولا يهدم واحدة».
وأما ما يدل
على القول الآخر فظاهر الآية وهي قوله تعالى «فَإِنْ طَلَّقَها
__________________
فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ»
فإن المراد من
الآية كما ذكره المفسرون وبه وردت الأخبار أنه إذا طلقها الثالثة ، وهو أعم من أن
يتحلل ذلك نكاح زوج غيره أم لا ، إذ المدار في التحريم المتوقف حله على المحلل هو
حصول الطلقات الثلاث مطلقا ، وبه أخبار صحاح صراح متكاثرة.
ومنها ما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن وفي التهذيب في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته تطليقة واحدة ثم تركها
حتى قضت عدتها ثم تزوجها رجل غيره ثم إن الرجل مات أو طلقها فراجعها الأول ، قال :
هي عنده على تطليقتين باقيتين».
وما رواه في
الكافي عن علي بن مهزيار في الصحيح قال : «كتب عبد الله بن
محمد إلى أبي الحسن عليهالسلام : روى بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام في الرجل يطلق امرأته على الكتاب والسنة فتبين منه
بواحدة فتزوج زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها فترجع إلى زوجها الأول ، أنها تكون
عنده على تطليقتين وواحدة قد مضت ، فوقع عليهالسلام تحته : صدقوا. وروى بعضهم أنها تكون عنده على ثلاث
مستقبلات ، وأن تلك التي طلقها ليست بشيء لأنها قد تزوجت زوجا غيره ، فوقع عليهالسلام بخطه : لا».
وما رواه الشيخ
عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن أحمد عن عبد الله بن محمد قال : «قلت
له : روي عن أبي عبد الله عليهالسلام في الرجل يطلق امرأته على الكتاب والسنة فتبين منه
بواحدة وتزوج زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها فترجع إلى زوجها الأول أنها تكون
عنده على تطليقتين وواحدة قد مضت ، فقال : صدقوا».
__________________
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن منصور عن أبي عبد الله عليهالسلام في امرأة طلقها زوجها واحدة أو اثنتين ثم تركها حتى
تمضي عدتها فتزوجها غيره فيموت أو يطلقها فيتزوجها الأول ، قال : هي عنده على ما
بقي من الطلاق».
ورواه أيضا
بسند آخر في الصحيح عن ابن مسكان عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله.
وعن جميل بن
دراج في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة فتزوجت ثم يطلقها فتزوجها
الأول ثم طلقها فتزوجت رجلا ثم طلقها ، فإذا طلقها على هذا ثلاثا لم تحل له أبدا».
ونحو روى
إبراهيم بن عبد الحميد عن الحسن عليهالسلام وفي بعض متون هذا الخبر وهو الذي نقله في المسالك عن
حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليهالسلام وإبراهيم بن عبد الحميد عن الكاظم عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة فتزوجت ثم طلقها زوجها
فتزوجها الأول ثم طلقها فتزوجت رجلا ، ثم طلقها هكذا ثلاثا لا تحل له أبدا».
والتقريب في
هذا الخبر أنه لو هدم الزوج المتوسط الطلاق الذي تقدم من الزوج الأول لكان إذا
طلقها على الوجه المذكور في الخبر تحل له أبدا لعدم الموجب للتحريم. والظاهر أن
المراد بقوله «لم تحل له أبدا» يعني حتى تنكح زوجا غيره.
وما رواه الشيخ
عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن موسى بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «أن عليا عليهالسلام كان يقول في الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يتزوجها بعد
زوج : إنها عنده على ما بقي من طلاقها». وليس في سند هذا
__________________
الخبر من يتوقف في شأنه إلا موسى بن بكير ، فإنه قيل : إنه واقفي إلا أنه
من أصحاب الأصول ، والراوي عنه صفوان الذي قد نقل فيه إجماع العصابة على تصحيح ما
يصح عنه ، فالرواية لا يخلو من الاعتبار في سندها.
وما رواه أحمد
بن محمد بن عيسى في نوادره عن النصر عن عاصم عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته تطليقة ثم نكحت بعده
رجلا غيره ثم طلقها فنكحت زوجها الأول ، فقال : هي عنده على تطليقة».
هذا ما حضرني
من روايات هذا القول ولا يخفى على الناقد البصير ضعف معارضة روايتي القول المشهور
لهذه الأخبار ، بل التحقيق أنه ليس للقول المشهور إلا رواية رفاعة ، لأن رواية عبد
الله بن عقيل لم تستند إلى إمام ، وإنما استندت إليه ، فهي ليست بدليل شرعي ، ولا
سيما مع معارضتها برواية الباقر عليهالسلام عن علي عليهالسلام خلاف ما دلت عليه كما عرفت ، فلم يبق إلا رواية رفاعة ،
والعمدة في ترجيحها إنما هو شهرة القول بها ، فانحصر الدليل في الشهرة ، ولهذا أن
جملة من المتأخرين قد ترددوا في المسألة ، واستشكلوا فيها من حيث صحة أخبار القول
الثاني وتكاثرها ومن حيث شهرة القول الأول حيث لم يظهر له مخالف منهم ، ومنهم
العلامة في التحرير والسيد السند في شرح النافع والفاضل الخراساني في الكفاية ، ونسبه
المحقق في كتابيه إلى أشهر الروايتين ، ومثله العلامة في القواعد والإرشاد إيذانا
بالتوقف فيه.
والشيخ قد أجاب
عما نقله من أدلة هذا القول بوجوه : (منها) أن الزوج الثاني لم يدخل بها ، أو كان
تزوج متعة ، أو لم يكن بالغا ، فإن في جميع هذه المواضع لا يحصل التحليل كما تقدم
ذكره ، أو الحمل على التقية محتجا بأنه مذهب عمر كما دلت عليه رواية عبد الله بن
عقيل ، ولا يخفى بعد الجميع.
قال السيد
السند في شرح النافع بعد ذكر محامل الشيخ : ولا يخفى بعد
__________________
هذه المحامل ، والمسألة محل تردد ، والقول بعدم الهدم لا يخلو من قوة ، إلا
أن المشهور خلافه ، ومن ثم اقتصر المصنف على جعل رواية الهدم أشهر مؤذنا بتوقفه
فيه وهو في محله ، انتهى.
وقال جده في
المسالك بعد ذكر جملة من أدلة هذا القول : ولا يخفى عليك قوة دليل هذا الجانب لضعف
مقابله ، إلا أن عمل الأصحاب عليه ، فلا سبيل إلى الخروج عنه ـ ثم نقل محامل الشيخ
الثلاثة الأول ، وقال عقيبها : ـ وما أشبه هذا الحمل بأصل الحجة.
أقول : لا يخفى
عليك ما في التمسك بعمل الأصحاب في مقابلة هذه الأخبار الصحاح الصراح المستفيضة من
المجازفة ، فإنه لا ريب أن المأخوذ على الفقيه في الفتوى بالأحكام الشرعية إنما هو
الأخذ بما أنزل الله سبحانه مما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة. ولا سيما الخبر
المستفيض من الخاصة والعامة عنه صلىاللهعليهوآله «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا
علي الحوض ، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما». لا ما ذكره غير ، من العلماء وإن ادعوا
الإجماع عليه.
وبذلك اعترف هو
نفسه ـ رحمة الله عليه ـ في مسألة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية من كتاب
الوصايا ، وقد قدمنا كلامه في كتاب الوصايا إلا أنه لا بأس بنقل ملخصه هنا.
قال ـ رحمة
الله عليه ـ : ولا يقدح دعواه الإجماع في فتوى العلامة بخلافه ، لأن الحق أن إجماع
أصحابنا إنما يكون حجة مع تحقق دخول قول المعصومين عليهمالسلام في جملة قولهم ـ إلى أن قال : ـ وبهذا يظهر جواز مخالفة
الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع
إذا قام عنده الدليل
__________________
على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، لكن زلة المتقدم متسامحة
عند الناس دون المتأخرين ، انتهى.
فانظر إلى ما
بينه وبين هذا الكلام المنحل الزمام من الغفلة مما حققه في ذلك المقام ، الذي هو
الحقيق بالأخذ به والالتزام ، ثم إنا لو نزلنا عن القول بمقتضى قواعدهم من أنه لا
يجمع بين الأخبار إلا بعد تحقق المعارض بينها ، وقلنا بثبوت التعارض بين روايات
القول الآخر وموثقة رفاعة ، فالواجب الرجوع إلى طرق الترجيح الواردة في مقبولة عمر
بن حنظلة ورواية زرارة ونحوهما ، ومن الطرق المذكورة الترجيح
بالأعدل والأفقه والأورع.
(ومنها)
الترجيح بالشهرة ، ولا ريب في حصول الترجيح بهاتين الطريقتين لروايات القول الآخر دون رواية رفاعة ، فإن روايات عدم الهدم قد رواها كثير
من فقهاء أصحابهم عليهمالسلام كزرارة وعلي بن مهزيار ومنصور بن حازم وجميل بن دراج
وعبد الله بن علي بن أبي شعبة وأخيه محمد ، فتكون روايات عدم الهدم بذلك أشهر
رواية وأعدل وأفقه وأورع رواة والمراد بالشهرة التي هي أخذ طرق الترجيح إنما هي
الشهرة في الرواية ، لا العمل كما حقق في محله ، وكذا المجمع عليه ، وهو حاصل
لروايات عدم الهدم خاصة.
وبالجملة
فالترجيح بهاتين الطريقتين مما لا إشكال في اختصاصه بالروايات المذكورة.
(ومنها)
الترجيح بموافقة الكتاب ، وهو أيضا مخصوص برواية عدم الهدم
__________________
بالتقريب الذي قدمناه ، وقد استفاضت الأخبار بالرد إلى الكتاب ، وأن ما خالف كتاب الله زخرف.
(ومنها)
الترجيح بالاحتياط كما تضمنته مرفوعة زرارة وهو أيضا مخصوص بالرواية المذكورة.
(ومنها أيضا)
الأخذ بقول الأخير من الإمامين عليهماالسلام . وهذه القاعدة ذكرها الصدوق في كتابه ، وهو أيضا حاصل
الروايات المذكورة.
وبيانه : أن
صحيح علي بن مهزيار قد اشتمل على عرض القولين المذكورين على أبي الحسن الهادي عليهالسلام فصدق روايات القول الآخر ، وبقي روايات القول المشهور.
أما الترجيح
بالتقية فهو أقوى ما يمكن أن يتمسك به لترجيح خبر رفاعة.
وفيه (أولا)
أنه مبني على ثبوت ذلك ، وهو غير معلوم ، فإن المستند بكونه حكم عمر إنما هو رواية
عبد الله بن عقيل ، وهي غير مستندة إلى الامام عليهالسلام
__________________
بل المخبر بذلك إنما هو عبد الله المذكور ، وقوله ليس بحجة شرعية ، سيما مع
معارضة خبر زرارة الدالة على أن عليا عليهالسلام كان يقول إنها على ما بقي من الطلاق ، وهي صريحة في أن
مذهب علي عليهالسلام هو القول بعدم الهدم ، والراوي عنه ابنه الباقر عليهالسلام ، ولا تعارضه رواية عبد الله بن عقيل عنه عليهالسلام خلافه.
(وثانيا) أن
العامة مختلفون في المسألة أيضا على ما نقله الشيخ في الخلاف ، والقول بالهدم منقول عن أبي حنيفة وأبي يوسف وابن عمر
، وليس حمل أخبار عدم الهدم على التقية كما ذكره الشيخ بأولى من حمل رواية رفاعة
الشاذة النادرة عليه ، سيما مع ما علم من كتب السير والتواريخ من شيوع مذهب أبي
حنيفة في زمانه وقوته ، وهو في عصر الصادق عليهالسلام المروي عنه القول بالهدم ، وحينئذ فلا يبعد حمل رواية
رفاعة الدالة على الهدم على التقية.
ويؤيده أن
المنقول في كتب السير والأخبار أن شهرة هذه المذاهب الأربعة إنما كان قريبا من سنة
خمس وستين وستمائة ، واستمر الأمر إلى هذا الزمان وأما في الأعصار السابقة فإن
المعتمد في كل زمان على من اعتنت به خلفاء الجور وقدموه للقضاء والفتيا وإليه يرجع
الحكم في جميع البلدان ، وكان المعتمد في زمن أبي حنيفة على فتاويه ، وفي زمن
هارون الرشيد وهو في عصر مولانا الكاظم عليهالسلام على فتاوي أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة ، قالوا : قد
استقضاه الرشيد واعتنى به حتى لم يقلد في بلاد العراق والشام ومصر إلا من أشار
إليه أبو يوسف ، وفي زمن المأمون كان الاعتماد على يحيى بن أكثم القاضي ، وفي زمن
المعتصم على أحمد ابن أبي داود القاضي ، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يكون
المشهور في عصر مولانا الصادق عليهالسلام الذي عليه عمل العامة ، وإليه ميل قضاتهم وحكامهم هو
القول بالهدم بل هو الواقع ، لأن اعتماد العامة في وقت الصادق عليهالسلام كان على أبي حنيفة القائل بالهدم ، فالتقية منه لشيوع
مذهبه في تلك الأيام ، وإن كان نادرا في وقت
__________________
آخر ، وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه.
(وثالثا) أنه
من الممكن عدم الترجيح هنا بهذه القاعدة ـ أعني التقية وعدمها ـ فإن طرق الترجيح
التي اشتملت عليها مقبولة عمر بن حنظلة مترتبة ، فأولها الترجيح بالأعدل والأفقه
والأورع ، ثم بعدها الترجيح بالأشهر والمجمع عليه ، ثم الترجيح بمخالفة العامة ، فالترجيح
بمخالفة العامة إنما وقع في المرتبة الثالثة وهو لا يصار إليه إلا مع تعذر الترجيح
بما قبله من المراتب.
وقد عرفت أن
الترجيح بالمرتبتين الأولتين حاصل لروايات عدم الهدم ، وحينئذ فلا يصار إلى
الترجيح بالتقية. فإن قلت : إن جملة من الأخبار قد دلت على الترجيح بمخالفة العامة
مطلقا ، قلنا : يجب تقييد ما أطلق بما دلت عليه هذه الأخبار الناصة على الترتيب
بين هذه المراتب.
وكيف كان فقد
ظهر لك مما حققناه في المقام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام قوة القول
بأخبار عدم الهدم ، وأنه هو الذي لا يحوم حوله نقض ولا إبرام.
مسائل
الاولى : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في حصول التحليل بالذمي كالمسلم إذ لم
يذكر أحد منهم أن الإسلام شرط في المحلل ، ولا طلاق الآية ، وهي قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ» فلو طلق الذمية ثلاثا فتزوجت بعده ذميا ثم بانت منه
وأسلمت أو جوزنا نكاح الكتابية ابتداء جاز للأول نكاحها ، ويتصور طلاق المسلم
للذمية ثلاثا على تقدير أن رجوعه في طلاقها في العدة ليس ابتداء نكاح فلا يمنع منه
، أو على القول بجواز نكاحها ابتداء ، أو على تقدير طلاقها مرتين في حال كفرهما ،
ووقوع الثالثة بعد إسلام الزوج دونها ، فإذا تزوجت ذميا أفاد التحليل لزوجها
المسلم إذا أسلمت أو قلنا بجواز نكاحها ابتداء للمسلم.
وقالوا : وكذا
لو كان الزوج كافرا أو ترافعوا إلينا حكمنا بحلها له سواء
كان ذميا أم لا ، وكذا لو أسلم الزوج وقد حللها كافر مثلها ، لأن أنكحة
الكفار مقرة على حالها كما تقدم في بابه.
الثانية : لا خلاف بين أصحابنا في أن الاعتبار بالتحريم الموجب للمحلل وكون التحريم
يحصل بثلاث أو اثنين إنما هو بالنسبة إلى المرأة دون الزوج ، بمعنى أنه لو كان
تحته امرأة حرة واستحكمت ثلاث طلقات فإنها لا تحل له إلا بمحلل سواء كان الزوج حرا
أو مملوكا ، ولو كان تحته أمة واستكملت اثنين حرمت حتى تنكح زوجا غيره سواء كان
زوجها حرا أو مملوكا ، وخالفنا العامة في ذلك ، فجعلوا الاعتبار بحال الزوج ، فإذا
كان حرا اعتبر في التحريم الثلاث سواء كان تحته أمة أو حرة ، وإن كان الزوج عبدا
اعتبر طلقتان وإن كان تحته حرة ، ومظهر الخلاف في الحر تحته الأمة ، وبالعكس ،
وإلا فلا خلاف فيما إذا كان حرا تحته حرة ، أو مملوكا تحته مملوكة للاتفاق على
الثلاث في الاولى والاثنتين في الثانية.
وتدل على ما
ذهب إليه الأصحاب الأخبار المتكاثرة ، ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح عن عيص بن القاسم قال : «إن ابن شبرمة قال :
الطلاق للرجل فقال أبو عبد الله عليهالسلام : الطلاق للنساء ، وبيان ذلك : أن العبد تكون تحته
الحرة فيكون تطليقها ثلاثا ، ويكون الحر تحته الأمة ، فيكون طلاقها تطليقتين».
وعن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام في الصحيح قال : «سألته عن حر تحته أمة أو عبد تحته حرة
، كم طلاقهما وكم عدتهما؟ فقال : السنة في النساء في الطلاق فإن كانت حرة فطلاقها
ثلاثا ، وعدتها ثلاثة قروء ، وإن كان حرا تحته أمة فطلاقها تطليقتان وعدتها قرءان».
__________________
وعن عبد الله
بن سنان في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «طلاق المملوك للحرة ثلاث تطليقات ، وطلاق الحر
للأمة تطليقتان».
وما رواه في
الفقيه عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : إذا كانت الحرة تحت العبد كم يطلقها؟
فقال : قال علي عليهالسلام : الطلاق والعدة بالنساء». إلى غير ذلك من الأخبار.
الثالثة : قد عرفت أن الأمة تحرم بتطليقتين ، ولا تحل لزوجها الأول إلا بمحلل
مستجمع للشرائط المتقدمة ، وهنا مواضع ثلاثة ، ربما كانت مظنة للشبهة ، إلا أنها
قد انكشفت عنها بالأخبار الدالة على اندراجها في القاعدة المذكورة.
الأول : ما لو
كانت تحته أمة فطلقها تطليقتين ثم إنه اشتراها ، فمقتضى القاعدة المتقدمة عدم جواز
نكاحه لها حتى تزوج زوجا آخر متصفا بصفات التحليل.
وعلى ذلك يدل
ما رواه الشيخ عن بريد بن معاوية العجلي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الأمة يطلقها تطليقتين ، ثم يشتريها. قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره».
وما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل حر كانت تحته أمة فطلقها طلاقا
بائنا ثم اشتراها ، هل يحل له أن يطأها؟ قال : لا».
وعن بريد
العجلي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال في رجل تحته أمة
__________________
فطلقها تطليقتين ثم اشتراها ، قال : لا يصلح له أن ينكحها حتى تزوج زوجا
غيره ، وحتى تدخل في مثل ما خرجت منه».
وعن سماعة في الموثق قال : «سألته عن رجل تزوج امرأة مملوكة ثم
طلقها ثم اشتراها بعده ، هل تحل له؟ قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره».
أقول : المراد
طلاقا بائنا بالمرتين لأنه هو الذي يترتب عليه التحريم.
وأما ما رواه الشيخ
عن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل كانت تحته أمة فطلقها طلاقا بائنا ثم اشتراها بعد
، قال : يحل له فرجها من أجل شراها ، والحر والعبد في هذه المنزلة سواء».
وقال الكليني
بعد ذكر حديث الحلبي المتقدم : قال ابن أبي عمير : وفي حديث آخر «حل له
فرجها من أجل شرائها ، والحر والعبد في ذلك سواء».
ويظهر من ابن
الجنيد القول بمضمون هذا الخبر على ما نقله في المسالك ، فقد أجاب الشيخ عنه في
كتابي الأخبار بحمل البينونة على الخروج من العدة لا البينونة بطلقتين وقيد إباحة
الفرج بالشراء بما إذا تزوجت زوجا آخر واعترض عليه ببعد هذه التأويلات. ومال في
الوافي إلى حمل الأخبار الأخيرة على الرخصة وإن كان على
كراهية.
والأقرب حمل
الخبر المجوز على التقية كما يشير إليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عن رجل كانت تحته أمة فطلقها
__________________
على السنة فبانت منه ثم اشتراها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجا غيره ، قال : أليس
قد قضى علي عليهالسلام في هذا؟ أحلتها آية وحرمتها آية ، وأنا أنهى عنها نفسي
وولدي».
ورواه الكليني عن عبد الله بن سنان نحوه ، والنهي الذي نسبه إلى نفسه
وولده حقيقة في التحريم.
وأما ما زعمه
في الوافي من حمل الخبر المذكور على ما قدمنا نقله عنه من الجواز على كراهة فإنه
في غاية البعد ، فإن مقتضى القاعدة كما عرفت هو التحريم مع تأيدها بالأخبار
المتقدمة.
ومما يدلك على
أن المراد بهذه العبارة إنما هو التحريم ما رواه الشيخ في التهذيب عن معمر بن يحيى بن بسام قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عما يروي الناس عن أمير المؤمنين عليهالسلام عن أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلا
نفسه وولده ، فقلنا : كيف ذلك؟ قال : أحلتها آية وحرمتها آية أخرى. قلنا : هل تكون
إحداهما نسخت الأخرى؟ أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ قال : قد بين لهم إذ نهى
نفسه وولده ، فقلنا : ما منعه أن يبين للناس؟ قال : خشي أن لا يطاع : فلو أن أمير
المؤمنين عليهالسلام ثبت قدماه أقام كتاب الله كله ، والحق كله». وروى ذلك
علي بن جعفر في كتابه نحوه.
__________________
الثاني : ما لو
طلقت الأمة تطليقتين ثم وطأها المالك فإنها لا تحل لزوجها إلا بالتزويج ثانيا
بشروط التحليل ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا.
وتدل على ذلك
رواية الفضيل المتقدمة في الشرط الخامس من شروط التحليل.
ونحوها رواية
عبد الملك بن أعين قال : «سألته عن رجل زوج جاريته رجلا فمكثت معه ما شاء
الله ، ثم طلقها فرجعت إلى مولاها فوطأها ، أتحل لزوجها إذ أراد أن يراجعها؟ فقال
: لا ، حتى تنكح زوجا غيره».
ونحوه ما رواه
أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن الحلبي في الصحيح ، وإطلاق الطلاق محمول
على المرتين ، لأنه هو الموجب للمحلل كما صرحت به رواية الفضيل المذكورة.
الثالث : ما لو
أعتقت الأمة بعد الطلاق مرتين أو أعتق زوجها أو هما معا ، فإن العتق لا يهدم
الطلاق ، وكذا لو عتقت بعد تطليقة واحدة ، فإنها تكون عنده على تطليقة أخرى.
ويدل عليه ما
رواه الشيخ عن رفاعة في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن العبد والأمة يطلقها تطليقتين ثم يعتقان جميعا ، هل
يراجعها؟ قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره فتبين منه».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «المملوك إذا كانت تحته مملوكة فطلقها ثم أعتقها
صاحبها كانت عنده على واحدة».
وعن الحلبي في الصحيح قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام في العبد تكون تحته
__________________
الأمة فيطلقها تطليقة ثم أعتقا جميعا ، كانت عنده على تطليقة واحدة».
ورواه الصدوق بإسناده عن حماد عن الحلبي نحوه.
وعن هشام بن
سالم في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ذكر أن العبد إذا كان تحته الأمة فطلقها تطليقة
فأعتقا جميعا كانت عنده على تطليقة واحدة».
وما ذكرنا من
الحكم المذكور هو المشهور. ونقل عن ابن الجنيد أنه ذهب إلى أن الأمة إذا أعتقت قبل
وقوع الطلاق الثاني بها انتقل حكم طلاقها إلى حال الحرائر ، فلا تحرم إلا
بالثالثة.
وأيده في
المسالك بما وقع لهم في نظير هذه المسألة فيما ذكروه في نكاح المشركات إذا أسلم
العبد وعنده أربع وأعتق ، وكذا في باب القسم بين الزوجات إذا أعتقت الأمة في أثناء
القسم ، وملخص ذلك أنه متى كان العتق قبل استيفاء حق العبودية فإنه يلحق بالأحرار
في الحكم ، والمسائل الثلاث مشتركة في ذلك ، فيتجه ما ذكره ابن الجنيد بناء على
ذلك.
إلا أن فيه (أولا)
أن ما ذكرناه من الأخبار المتكاثرة في هذه المسألة صريحة في رد هذا القول ودفعه.
(وثانيا) أن ما
ذكروه في المسألتين المذكورتين ليس إلا مجرد تخريجات قد بنوا اختلافهم عليها في
ذينك الموضعين ، ولهذا إنا لم نتعرض لذكر هاتين المسألتين فيما سلف لعدم النص مع
كثرة الاختلاف والتخريجات المتدافعة. وبالجملة فالمعتمد هنا هو القول المشهور ،
وهو المؤيد بالأخبار والمنصور.
الرابعة : المعروف من كلام الأصحاب وقوع التحليل من الخصي إذا وطأ بالشرائط
المتقدمة. لأن التحليل معتبر فيه ما يعتبر في الجماع الموجب للغسل من إيلاج الحشفة
أو قدرها من مقطوعها ، والخصاء غير مانع من ذلك ، فإن غاية ما يترتب عليه هو عدم
__________________
الانزال خاصة ، حتى أن الشيخ أنكر كونه عيبا محتجا بأن الخصي يولج ويبالغ
أكثر من الفحل وإنما لا ينزل ، وعدم الانزال ليس بعيب ، وقد تقدم الكلام معه في
ذلك.
وبالجملة
فالظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في الحكم المذكور ، إلا أنه قد روى الشيخ في الصحيح عن صفوان عن محمد بن مضارب وهو مجهول في
الرجال إلا أنه يفهم من بعض الأخبار ما يؤذن بمدحه قال : «سألت الرضا عليهالسلام عن الخصي يحلل؟ قال : لا يحلل». وردها المتأخرون بضعف
الراوي ، ويمكن حملها على خصي لا يحصل منه الجماع على الوجه المعتبر ، وإلى العمل
بالخبر المذكور مال في المسائل فقال : باب أن الخصي لا يحلل المطلقة ثلاثا ، ثم
أورد الخبر المذكور ، وأردفه بخبر آخر رواه الشيخ أيضا عن صفوان عن محمد بن مضارب
مثله إلا أن فيه «يحل ولا يحل» ولا يخفى ما فيه من الاشكال كما عرفت.
الخامسة : إذا ارتد المحلل بعد التزويج بها ، فإن كان بعد وطئها
في القبل فلا إشكال في حصول التحليل حينئذ ، وإن كان قبله لم يحصل التحليل بالوطء
في العدة ، لأنه بارتداده قد انفسخ العقد ، وإن بقي أثره بعوده إليها لو راجع في
العدة بالعقد السابق ، ويتصور ثبوت العدة مع عدم الدخول قبلا ، بأن يكون قد وطأها
في الدبر فإنه لا يكفي في التحليل كما تقدم ، ويوجب العدة عند الأصحاب ، وكذا لو
خلا بها عند جمع منهم ، فإنها لا توجب التحليل وتوجب العدة.
وألحق ابن
الجنيد بالخلوة التذاذه بما ينزل به الماء.
أما لو لم يحصل
منه ما يوجب العدة من هذه الأمور المذكورة قبل الارتداد فإنها تبين منه ، ويصير في
حكم الأجنبي لا أثر لوطئه بالكلية لانفساخ العقد بالردة
__________________
وثبوت البينونة بذلك. وعلى هذا فهنا أقسام ثلاثة ، ثالثها الوطء في العدة
زمان الردة ، وفائدته جواز الرجوع إليها في العدة لو رجع إلى الإسلام ، وجملة منهم
لم يذكروا إلا القسمين الآخرين ، وهو أنه إن كانت الردة قبل الوطء انفسخ النكاح
وصار وطء أجنبي لا يحلل قطعا وإن كان بعده حلت بالأول ، وأنت قد عرفت ثبوت قسم
ثالث ، ويجري ما ذكر من الحكم في الزوجة أيضا لو كانت هي المرتدة فوطأها في زمان
ردتها ثم رجعت إلى الإسلام.
السادسة
: المفهوم من
كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف قبول قول المرأة في موت الزوج وعدمه ، وطلاقه لها
والخروج من العدة. وعليه تدل ظواهر جملة من الأخبار ، ويؤيده أن من القواعد
المقررة عندهم قبول قول من لا منازع له وبه تضافرت الأخبار في جزئيات الأحكام كما
بسطنا الكلام عليه في كتاب الزكاة وما نحن فيه من جملة أفرادها.
ومن أخبار
القاعدة المذكورة ما رواه في الكافي والتهذيب عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه ألف
درهم فسأل بعضهم بعضا : ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا ، وقال واحد منهم : هو
لي ، فلمن هو؟ قال : هو الذي ادعاه».
ويؤيده أيضا أن
الأخبار الواردة بإثبات الدعاوي بالبينات والأيمان لا عموم فيها على وجه يشمل ما
نحن فيه ، وإنما موردها ما إذا كان النزاع بين خصمين مدع ومنكر.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنه لو ادعت المرأة المطلقة ثلاثا أنها تزوجت وحللت
__________________
نفسها لزوجها الأول ، فالمشهور قبول قولها ، وظاهر المحقق في الشرائع
والنافع التوقف في ذلك ، وإليه يميل كلام الفاضل الخراساني في
كتاب الكفاية ، وأنت خبير بأن مقتضى القواعد المشار إليها هو قبول قولها.
ومن الأخبار
الدالة على ذلك أيضا ما في رواية ميسر وهي صحيحة إليه قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها :
ألك زوج؟ فتقول : لا ، فأتزوجها؟ قال : نعم ، هي المصدقة على نفسها».
وفي رواية أبان
بن تغلب قال : «قلت لأبي عبد الله ع : إني أكون في بعض الطرقات
فأرى المرأة الحسناء ، ولا آمن أن تكون ذات بعل أو من العواهر قال : ليس هذا عليك
، إنما عليك أن تصدقها في نفسها».
والتقريب فيهما
ـ وإن كان موردهما نفي الزوج ـ هو حكمه عليهالسلام بأنها المصدقة على نفسها الشامل لما نحن فيه ، فإن
مقتضاه أن كل ما أخبرت به عن نفسها مما لا يعرف إلا من جهتها فإنها مصدقة فيه.
وبذلك يظهر لك
ما في قول صاحب الكفاية ـ بعد إشارته للخبرين المذكورين ـ وللتأمل في عموم
الروايتين بحيث يشمل محل البحث مجال. فإن ثبوت التعميم بالتقريب الذي ذكرناه مما
لا مجال لإنكاره ، نعم يتم ما ذكره بالنظر إلى مورد الخبرين إلا أن الاعتبار إنما
هو بجوابه عليهالسلام الذي هو كالضابطة الكلية في أنها مصدقة على نفسها في كل
ما لا يعلم إلا من جهتها.
قال في المسالك
في تعليل القول المشهور : ولأنها مؤتمنة في انقضاء العدة
__________________
والوطء مما لا يمكن إقامة البينة عليه ، وربما مات الزوج أو تعذر مصادقته
لغيبة ونحوها ، فلو لم يقبل منها ذلك لزم الإضرار بها والحرج المنفيين.
أقول : ويؤيده
أيضا مع دخوله في ضابطة الخبرين المذكورين ما في رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر وغيره قال : «قلت للرضا عليهالسلام : الرجل يتزوج المرأة فيقع في قلبه أن لها زوجا ، فقال
: ما عليه ، أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج». وهي ظاهرة
فيما ذكره شيخنا المذكور.
وتدل على أصل
المدعى صحيحة حماد عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل طلق امرأة ثلاثا فبانت منه فأراد مراجعتها ، فقال لها : إني أريد
مراجعتك ، فتزوجي زوجا غيري ، فقالت : قد تزوجت زوجا غيرك وحللت لك نفسي ، أتصدق
ويراجعها؟ وكيف يصنع؟ قال : إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها».
قال في المسالك
: وكما يقبل قولها في حق المطلق يقبل في حق غيره ، فكذا الحكم في كل امرأة كانت
مزوجة وأخبرت بموته وفراقه وانقضاء العدة في وقت محتمل ولا فرق بين تعيين الزوج
وعدمه ، ولا بين إمكان استعلامه وعدمه. انتهى ، وقد عرفت وجه صحته مما تقدم.
ومما يؤكد
الاعتماد على قولها ما دل على كراهة السؤال ولو مع التهمة مثل ما رواه في التهذيب عن فضيل مولى محمد بن راشد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : إني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي أن لها
زوجا ، ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجا ، قال : ولم فتشت؟». وعن مهران بن محمد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قيل له :
__________________
إن فلانا تزوج امرأة متعة فقيل : إن لها زوجا فسألها ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : لم سألها؟».
وما رواه في
الفقيه عن يونس بن عبد الرحمن عن الرضا عليهالسلام في حديث قال : «قلت له : المرأة تزوجت متعة فينقضي
شرطها ويتزوجها رجل وآخر قبل تنقضي عدتها ، قال : وما عليك إنما إثم ذلك عليها». أقول
: المراد أنها تزوجها الآخر جاهلا مع علمها هي بذلك.
بقي الكلام
فيما دلت عليه صحيحة حماد من اشتراط كون المرأة ثقة في قبول قوله ، مع أن ظاهر
الأخبار وكلام الأصحاب خلافه ، وحمله جملة من المتأخرين منهم شيخنا في المسالك على
أن المراد بالثقة من تسكن النفس إلى خبرها ، وإن لم تكن متصلة بالعدالة المشترطة
في قبول الشاذة ، وهو جيد.
وكيف كان فهو
لا يخلو من منافرة لما دلت عليه الأخبار الأخيرة من كراهة الفحص وإن كان مع التهمة
، ويمكن الجمع بين الأخبار المذكورة بحمل صحيحة حماد على ما هو الأفضل في مقام
التهمة من الفحص. والظاهر أن ما دل عليه الخبر من إخبارها بالتحليل عقيب أمره لها
بذلك المشعر برغبتها في الرجوع إلى الزوج كان محل التهمة ، فأمر بالتثبت والعمل
بقولها بالشرط المذكور ، وحمل الأخبار الأخيرة على الجواز شرعا ، أو العمل بسعة
الشريعة وأنه غير مكلف شرعا بالفحص ولا يجب عليه ذلك.
فروع
الأول : قال في
المسالك : لو عينت الزوج يعني المحلل فكذبها في أصل النكاح احتمل تصديقها في
التحليل ـ وإن لم يثبت عليه موجب الزوجية لوجود المقتضي لقبول قولها مع تكذيبه ،
وهو إمكان صدقها مع تعذر إقامة البينة على جميع ما
__________________
تدعيه ، ومجرد إنكاره لا يمنع صدقها في نفس الأمر ـ وعدمه نظرا إلى تقديم
قوله لأنه منكر واستصحابا للأصل ، ولإمكان إقامة البينة على أصل التزويج.
وفيه أنه لا
منافاة بين الأمرين ، لأنا لا نقبل قولها إلا في حقها خاصة ، والأصل لو عارض لقدح
في أصل دعواها مطلقا ، انتهى.
أقول : الظاهر
من الأخبار المتقدمة هو الثاني ، لأن قبول قولها إنما هو في موضع لا يمكن الاطلاع
عليه إلا من جهتها ، فإن دعواها لا معارض له ، والمعارض هنا موجود ، والاطلاع على
الحال ممكن من غيرها وهو الزوج ، فإنه بإنكاره تزويجها بالكلية قد حصلت المعارضة
لدعواها التحليل ، والاطلاع على كذب الدعوى المذكورة بالنظر إلى إنكار التزويج ،
وقوله «إن المقتضي لقبول قولها إمكان صدقها» ليس في محله ، بل المقتضي لذلك إنما
انحصار الاطلاع على ذلك الأمر المدعى فيها ، فلا يعلم إلا من جهتها سيما مع تعذر
اطلاع الغير عليه بالكلية ، ولهذا نسب تكليفها باليمين أو البينة إلى الحرج
والعسر. ودعواها التحليل هنا لما عارضها إنكار الزوج المحلل النكاح من أصله خرجت
المسألة عما نحن فيه ورجعت إلى سائر الدعاوي المتضمنة لمدع ومنكر ، ووجب فيها ما يجب
ثمة ، وبعد ثبوت أحد الأمرين يترتب عليه الحكم المناسب للمقام من تحليل وعدمه ،
وهكذا ينبغي أن يحقق المقام.
الثاني : إذا
اتفق المحلل والمرأة على الإصابة بعد الدخول فلا إشكال في حصول التحليل للزوج
الأول ولو كذبها في ذلك ، قال الشيخ في المبسوط : إنه يعمل الزوج الأول على ما
يغلب على ظنه في صدقها وصدق المحلل ، لأن الغرض تعذر البينة والظن مناط الأحكام
الشرعية غالبا فيرجع إليه.
وقال المحقق
بعد نقل قول الشيخ المذكور : ولو قيل : يعمل بقولها على كل حال كان حسنا ، لتعذر
إقامة البينة بما تدعيه.
قال في المسالك
: والأقوى ما اختاره المصنف لما ذكره من تعذر إقامة البينة ،
مع أنها تصدق في شرطه وهو انقضاء العدة ، فكذا في سببه ، ولأنه لولاه لزم
الحرج والضرر كما أشرنا إليه سابقا ، وإنما يقبل قولها فيما يتعلق بها من حل
النكاح. ونحوه لا في حقه ، ولا يلزمه إلا نصف المهر ، حتى لو أنكر أصل العقد لم
يلزمه المهر وإن قبل قولها في التزويج ، انتهى.
أقول ـ وبالله
الثقة لبلوغ كل مأمول ـ : إن الظاهر أن الكلام في هذه المسألة كما في سابقتها ،
فإن المسألة ـ بحصول المعارض والمنازع في صحة ما تدعيه من الوطء الذي يترتب عليه
التحليل ـ قد خرجت عن مدلول الأخبار المتقدمة ورجعت إلى مسائل المدعي والمنكر ،
فيجب على المدعي إقامة البينة ، ومع تعذرها فاليمين على المنكر ، والواجب على
الزوج اليمين في عدم الإصابة أو الرد ، وكيف كان فإن ثبت ذلك ترتب عليه التحليل ،
وإلا فلا تحليل.
وبالجملة فإن
مناط قبول قولها الذي دلت عليه الأخبار ليس مجرد تعذر البينة عليها خاصة ، وإلا
لاتسع المجال بالنسبة إلى غيرها من أفراد المدعين كما لا يخفى ، بل هو ادعاؤها
دعوى لا راد لها ولا مقابل فيها وأنه لا يعلم صحتها إلا من جهتها.
ونظير ما ذكروه
ما لو ادعت المرأة أن لا زوج لها وادعى آخر أنها زوجته ، فإن الظاهر أنه لا قائل
بجواز تزويجها في هذه الحال بناء على أنها مصدقة في دعوى عدم الزوج ، والحال أن
مدعى زوجيتها موجود ، وإنما قبول قولها مع عدم ذلك كما هو ظاهر من الأخبار
المتقدمة.
الثالث : لو
وطأها المحلل وطئا محرما شرعا كالوطء في الإحرام منه أو منها أو منهما والوطء في
الحيض وفي الصوم الواجب ونحو ذلك فهل يحصل به التحليل أم لا؟ قولان :
(أحدهما) العدم
، ذهب إليه الشيخ وابن الجنيد ، واستدل الشيخ بأن التحريم
معلوم ، ولا دليل على أن هذا الوطء محلل ، ولقول النبي صلىاللهعليهوآله «حتى يذوق عسيلتها». يدل عليه ، لأنه إنما أراد بذلك ذوقا مباحا ، لأن
النبي صلىاللهعليهوآله لا يبيح المحرم ، وأيضا فإنه محرم عليه هذا الوطء ومنهي
عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، ولأن الإباحة تعلقت بشرطين بالنكاح والوطء
، ثم إن النكاح إذا كان محرما لا يحل للأول ، وكذلك الوطء.
(وثانيهما)
ثبوت التحليل بذلك. اختاره العلامة في المختلف وغيره وشيخنا في المسالك ، والظاهر
أنه المشهور بين المتأخرين.
قال في المختلف
: لنا قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ» جعل غاية التحريم نكاح الغير ، وقد حصل ، ومطلق النكاح
أعم من النكاح في وقت يباح فيه أو يحرم ، والحكم معلق على المطلق ، ولأنه وطء في
نكاح صحيح قبلا ، فوجب بأن يحصل به الإحلال كما لو وطأها وقد ضاق ، عليه وقت
الصلاة ، ويمنع علم التحريم بعد النكاح الثاني ، وإرادة المباح هو المتنازع ،
وتعليق الرجعة على مطلق النكاح الشامل للمحرم لا يقتضي إباحة المحرم ، والنهي إنما
يدل على الفساد في العبادات ، والفرق بين تحريم النكاح وتحريم الوطء طاهر للإجماع
على اشتراط النكاح الصحيح بخلاف المتنازع ، انتهى.
والحق أن
المسألة لخلوها من النص غير خالية من شوب الإشكال ، إلا أنه يمكن أن يقال : إن
الظاهر بالنظر إلى إطلاق الأخبار المتقدمة في شروط التحليل هو القول الثاني ، إذ
غاية ما يستفاد منها هو التزويج دواما والدخول بها ، وأما أن ذلك الوطء يشترط فيه
أن يكون مباحا ـ كأن لا يكون زمن الحيض ولا النفاس ولا الإحرام مثلا ـ فلا ،
وورودها في مقام البيان عارية عن اشتراط ذلك ظاهر في
__________________
عدم الشرط المذكور ، والشروط الخمسة المتقدمة حاصلة في صورة هذا الوطء
المنهي عنه ، فيحصل به التحليل حينئذ.
وبالجملة فإن
إطلاق الأخبار المذكورة شامل لهذا الوطء فيحصل به التحليل ، وتقييدها يحتاج إلى
دليل وليس فليس.
الفصل الثاني في الرجعة :
والأصل فيها
الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى «وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً»
أي بردهن إلى النكاح ، والرجعة فيهن في زمان العدة والتربص إن أرادوا
بالرجعة إصلاحا لما بينهن ، ولم يريدوا المضارة لهن.
وقوله تعالى «فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ»
والإمساك بالمعروف الرجعة وحسن المعاشرة ، والتسريح بإحسان التطليقة
الثالثة بعد المراجعة كما في الحديث النبوي ، أو أن لا يراجعها حتى تخرج من العدة
وتبين منه.
وقوله سبحانه «وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ»
أي قاربن بلوغ الأجل «فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ» أي راجعوهن بقصد المعاشرة بالمعروف والقيام بواجبهن من
غير طلب ضرار بالمراجعة ، أَوْ
«سَرِّحُوهُنَّ»
أي خلوهن حتى
تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً» أي لا تراجعوهن بقصد الإضرار بهن من غير رغبة فيهن.
وروى في الفقيه
قال : «سئل الصادق عليهالسلام عن هذه الآية فقال : الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو
أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات ، فنهى الله عزوجل عن ذلك».
وأما الأخبار
فهي مستفيضة ، وستأتي جملة منها في أثناء المباحث الآتية
__________________
إن شاء الله تعالى.
وأما الإجماع
فقد نقله غير واحد ، وكيف كان فتفصيل الكلام في هذا الفصل وتحقيق ما اشتمل عليه
يقع في مواضع :
الأول : لا
خلاف في أن الرجعة تقع بالقول والفعل ، والأول إجماعي من الخاصة والعامة ، والثاني
إجماعي عندنا ، ووافقنا عليه بعض العامة ، والقول إما صريح في معنى الرجعة كقوله
راجعتك وارتجعتك ، وأصرح منه إضافة قوله إلى نكاحي.
قال شيخنا
الشهيد الثاني في الروضة ـ بعد أن ذكر هذه الألفاظ الثلاثة وأنها صريحة في الرجعة
ـ ما لفظه : وفي معناه رددتك وأمسكتك لورودهما في القرآن ، قال الله تعالى «وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ». «فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ»
ولا يفتقر إلى نية الرجعة لصراحة الألفاظ ، وقيل : يفتقر إليها في
الأخيرين لاحتمالهما غيرهما كالإمساك باليد أو في البيت ونحوه ، وهو حسن.
قال سبطه السيد
السند في شرح النافع بعد نقل ذلك عنه : أقول قد بينا فيما سبق أنه لا بد من القصد
إلى مدلول اللفظ الصريح وقصد المعنى المطلوب في غيره ، وإنما يفترقان في أن التلفظ
بالصريح يحكم عليه بقصد مدلوله من غير احتياج إلى إخباره بذلك ، والتلفظ بغيره لا
يحكم عليه بقصد المعنى المطلوب منه إلا مع اعترافه بذلك أو وجود القرينة الدالة
عليه ، فقوله إنه لا يفتقر مع الإتيان براجعتك إلى نية الرجعة لا يخلو من تسامح.
انتهى ، وهو جيد ، لأن الإتيان بالألفاظ في الرجعة أو غيرها مجردة عن نية المعنى
المراد منها ، وقصده لا يقع إلا من عابث أو ساه أو نائم ، وإلا فالعقلاء إنما تورد
الألفاظ في كلامهم ومحاوراتهم مقرونة بقصد معانيها المرادة منها. نعم ، فهم السامع
تلك المعاني المرادة قد لا يتوقف على شيء وراء مجرد ذلك اللفظ ، وهو الصريح في
معناه الذي
__________________
لا يحتمل غيره ، وقد يتوقف على أمر آخر من ضم قرينة في الكلام أو اعترافه
بذلك ، وهذا يكون في غير الصريح مما يحتمل معنيين أو أكثر.
وكيف كان فكل
ما دل على قصد الرجل في النكاح من الألفاظ بنفسه أو ضم شيء من خارج فهو مفيد
للرجوع بلا خلاف ولا إشكال.
وأما الرجوع
بالفعل كالوطء والتقبيل واللمس بشهوة فهو موضع وفاق ، وربما كان أقوى في الدلالة
على الرجعة من القول ، إلا أنه لا بد من أن يقصد به الرجوع لأنه في حد ذاته أعم من
ذلك ، فلا عبرة بما وقع منه سهوا أو بقصد عدم الرجعة أو لا بقصدها فإن ذلك لا يفيد
الرجوع ، وإن فعل حراما في غير صورة السهو والغفلة لانفساخ النكاح بالطلاق وإن كان
رجعيا ، ولو لا ذلك لم تبن بانقضاء العدة ، إلا أنه لا حد عليه وإن كان عالما
بالتحريم لعدم خروجها بعد عن حكم الزوجية رأسا ، فغاية ما يلزم هو التعزير على فعل
المحرم إلا مع الجهل بالتحريم.
ومما يدل على
وقوع الرجعة بالوطء ما رواه الصدوق عن الحسن بن محبوب في الصحيح عن محمد بن القاسم قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام : من غشي امرأته بعد انقضاء العدة جلد الحد ، وإن غشيها
قبل انقضاء العدة كان غشيانه إياها رجعة». وإطلاق الخبر يشمل ما ذكرناه من الصور
المستثناة ، إلا أن الظاهر تقييده بما عداها ، فإن الأحكام صحة وبطلانا وثوابا
وعقابا دائرة مدار القصود والنيات كما تقدم تحقيقه في بحث النية من كتاب الطهارة .
ومما يقع به
الرجعة أيضا إنكار الطلاق ، قال في شرح النافع : وهذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه
مخالفا.
وقال في
المسالك : وظاهرهم الاتفاق على كونه رجوعا. وعلله المحقق في الشرائع بأنه يتضمن
التمسك بالزوجية ، قال في المسالك : ولأنه أبلغ من
__________________
الرجعة بألفاظها المشتقة منها وما في معناها لدلالتها على رفعه في غير
الماضي ودلالة الإنكار على رفعه مطلقا.
أقول : والأولى
الرجوع إلى النص الوارد في المقام ، وهو ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن أبي ولاد الحناط في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن امرأة ادعت على زوجها أنه طلقها تطليقة
طلاق العدة طلاقا صحيحا ـ يعني على طهر من غير جماع ـ وأشهد بها شهودا على ذلك ،
ثم أنكر الزوج بعد ذلك ، فقال : إن كان إنكار الطلاق قبل انقضاء العدة فإن إنكاره
للطلاق رجعة لها ، وإن أنكر الطلاق بعد انقضاء العدة فإن على الامام أن يفرق
بينهما بعد شهادة الشهود بعد ما يستحلف أن إنكاره الطلاق بعد انقضاء العدة وهو
خاطب من الخطاب». وهي صحيحة صريحة مؤيدة بعمل الأصحاب ، فلا مجال للتوقف في الحكم
المذكور.
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي «وأدنى المراجعة أن يقبلها أو ينكر الطلاق فيكون إنكار الطلاق مراجعة».
الثاني : يستحب
الاشهاد في الرجعة ولا يجب اتفاقا ، وعليه تدل جملة من الأخبار.
منها ما رواه في
الكافي عن زرارة ومحمد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إن الطلاق لا يكون بغير شهود ، وإن الرجعة بغير
شهود رجعة ولكن ليشهد بعد فهو أفضل».
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الذي يراجع ولم يشهد قال : يشهد أحب إلي ، ولا أرى بالذي صنع بأسا».
__________________
وعن محمد بن
مسلم قال : «سئل أبو جعفر عليهالسلام عن رجل طلق امرأته واحدة ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها
ولم يشهد على رجعتها ، قال : هي امرأته ما لم تنقض عدتها ، وقد كان ينبغي له أن
يشهد على رجعتها ، فإن جهل ذلك فليشهد حين علم ، ولا أرى بالذي صنع بأسا ، وأن
كثيرا من الناس لو أرادوا البينة على نكاحهم اليوم لم يجدوا أحد يثبت على الشهادة
على ما كان من أمرهما ، ولا أرى بالذي صنع بأسا ، وإن يشهد فهو أحسن».
وفي صحيحة محمد
بن مسلم «وإنما جعل الشهود لمكان الميراث» إلى غير ذلك من الأخبار.
وقال الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه الرضوي «فإن أراد مراجعتها راجعها ، وتجوز المراجعة بغير شهود كما يجوز التزويج ،
وإنما تكره المراجعة بغير شهود من جهة الحدود والمواريث والسلطان». انتهى.
الثالث : لو
طلقها طلاقا رجعيا فارتدت ، فهل يصح مراجعتها في حال الردة؟ المشهور المنع ، فكما
أنه لا يصح ابتداء الزوجية فكذا استدامتها ، ويؤيد ذلك أن الرجوع تمسك بعصم
الكوافر المنهي عنه في الآية نهي فساد لقوله «وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» . وعلل أيضا بأن المقصود من الرجعة الاستباحة ، وهذه
الرجعة لا تفيد الإباحة فإنه لا يجوز الاستمتاع بها ولا الخلوة بها ما دامت مرتدة.
وعلل الجواز
بأن الرجعية زوجة ، ويؤيده عدم وجوب الحد بوطئها ، ووقوع الظهار واللعان والإيلاء
بها ، وجواز تغسيل الزوج لها وبالعكس فهي بمنزلة الزوجة.
__________________
وأنت خبير بأن
المسألة وإن كانت خالية من النص في هذه الصورة إلا أن مقتضى ما قدمنا نقله عنهم في
كتاب النكاح في مسألة ارتداد أحد الزوجين ـ من أنه متى كانت المرتدة المرأة وكان ذلك قبل الدخول
انفسخ العقد بينهما في الحال ، وإن كان بعد الدخول كان الفسخ وعدمه مراعى بانقضاء
العدة وعدمه ، فإن انقضت العدة ولم ترجع إلى الإسلام فقد بانت منه ـ هو جريان هذا
الحكم فيما نحن فيه ، فإنها في العدة وإن كانت زوجته يجوز مراجعتها كما يجوز
تزويجها ابتداء ، إلا أنها بالارتداد قد عرض لها ما يوجب انفساخ الزوجية إما في
الحال كما لو لم يكن ثمة دخول ، وإما مراعى بانقضاء العدة في صورة الدخول ،
فالرجوع إليها في حال الارتداد وإن كان في العدة ، إلا أن الارتداد قد أوجب فسخ
النكاح هنا ، كما أوجبه لو لم يكن ذات عدة رجعية بل زوجة أصلية ، إلا أنه يمكن أن
يقال بصحة الرجعة لا صحة مستقرة ، بل مراعاة بعدم انقضاء العدة على الارتداد ،
بمعنى أنه لو رجعت إلى الإسلام قبل انقضائها استقرت صحة الرجعة ، وإلا تبين فسادها
، كما أنها بالارتداد تنفسخ زوجيتها انفساخا مراعى بانقضاء العدة على الارتداد ،
فلو رجعت إلى الإسلام قبل انقضائها بقيت على الزوجية السابقة.
الرابع : لو
طلق وراجع فأنكرت الدخول بها أولا وزعمت أن لا عدة عليها ولا رجعة فالقول قولها
بيمينها ، لأنها تدعي ما يوافق الأصل ، إذ الأصل عدم الدخول ، وحينئذ فإذا حلفت
بطلت رجعته التي يدعيها عليها ولا نفقة لها ولا سكنى ولا عدة عليها ، وجاز لها أن
تنكح زوجا غيره في الحال ، وليس له أن ينكح أختها ، ولا أربعا غيرها لاعترافه
بأنها زوجته.
بقي الإشكال في
المهر ، فإن مقتضى كلام الزوج أن لها المهر كملا ، ومقتضى كلامها أنه إنما تستحق
بالنصف خاصة لدعواها عدم الدخول بها ، وحينئذ فإن
__________________
كانت قد قبضت المهر كملا فليس للزوج مطالبتها بشيء لاعترافه باستحقاقها
إياه ، لكن لا يجوز لها التصرف في أزيد من النصف ، ولو لم تقبضه لم يجز لها أن
تقبض إلا النصف خاصة.
وكيف كان
فينبغي أن يقبض الحاكم النصف الآخر من يدها أو يده ، لأنه مال لا يدعيه أحد ، وحفظ
مثل ذلك وظيفة الحاكم الشرعي ، ولا يبعد أن الحكم فيه الصرف في وجوه البر ، وله
نظائر عديدة في الأخبار.
ولو انعكس
الحكم فادعت المرأة الدخول وأنكر الزوج فالقول قوله بيمينه ، وحينئذ فإذا حلف فلا
رجعة ولا سكنى ولا نفقة لها عليه ، وعليها العدة لادعائها الدخول ، ويرجع بنصف
الصداق إن كانت قبضته ، ولو لم تقبضه رجعت عليه بالنصف خاصة».
الخامس : المشهور
بين الأصحاب أن رجعة الأخرس بالإشارة المفهمة لها كغيرها من عقوده وإيقاعاته ،
ونقل عن الصدوقين أنه أخذ القناع من رأسها.
أقول : قال
الشيخ علي بن الحسين في رسالته إلى ولده «الأخرس إذا أراد أن يطلق امرأته ألقى على رأسها قناعها يريها أنها قد حرمت
عليه ، وإذا أراد مراجعتها كشف القناع عنها يرى أنها قد حلت» ونحو ذلك في كتاب
المقنع لابنه ، وهذا القول قد جعله الشيخ وابن البراج رواية ، وكذلك المحقق في
النافع أسنده إلى الرواية.
قال السيد
السند في شرح النافع : ولم نقف عليها في شيء من الأصول. نعم روى الكليني عن السكوني عن الصادق عليهالسلام «أنه قال : طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها فيضعها على رأسها ويعتزلها». ونسب
هذا القول في الشرائع إلى الشذوذ.
__________________
ويقرب في البال
أن العبارة المنقولة عن الشيخ علي بن بابويه مأخوذة من كتاب الفقه الرضوي على النهج الذي قد عرفت في غير موضع ، إلا أن كتاب
الفقه الرضوي الذي عندي لا يخلو من غلط وسقط في هذا المكان ، فإنه عليهالسلام عد طلاق الأخرس في أفراد الطلاق التي ذكرها في أول
الباب وفي مقام التفصيل ، وبيان كل فرد فرد من تلك الأفراد لم يتعرض لطلاق الأخرس
بالكلية ، فليلاحظ ذلك من نسخة اخرى.
وكيف كان
فينبغي حمل ذلك على ما إذا فهم من ذلك الطلاق والرجعة ، فيرجع إلى ما هو المشهور ،
لأن ذلك من جملة إشاراته المعتبرة في ذلك.
السادس : الظاهر
أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه إذا ادعت الزوجة انقضاء العدة بالحيض في زمان يمكن
فيه ذلك ـ وأقله ستة وعشرون يوما ولحظتان كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ كان قولها مقبولا في
ذلك.
ويدل عليه ما
رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «الحيض والعدة إلى النساء إذا ادعت صدقت».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «العدة والحيض إلى النساء».
روى أمين
الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي عن الصادق عليهالسلام في قوله
__________________
تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ
ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ»
قال : قد فوض
الله إلى النساء ثلاثة أشياء الحيض والطهر والحمل».
وجملة من
الأصحاب قد استدلوا بالآية المذكورة بتقريب أنه لو لا قبول قولهن في ذلك لم يؤتمن
في الكتمان ، وإطلاق النصوص المذكورة يقتضي عدم الفرق بين دعوى المعتاد وغيره.
وأما ما رواه الصدوق
في الفقه مرسلا عن أمير المؤمنين عليهالسلام «أنه قال في امرأة ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض أنه يسأل نسوة من
بطانتها هل كان حيضها فيما مضى على ما ادعت؟ فإن شهدت صدقت وإلا فهي كاذبة». فقد
حمله الشيخ في كتابي الأخبار على المتهمة جمعا بين الأخبار ، وهو جيد لما تقدم
قريبا من الأخبار المؤيدة لهذه الأخبار الدالة على قبول قولها في أمثال هذه
الأمور.
وأما ما قربه
الشهيد في اللمعة من أنه لا يقبل من المرأة دعوى غير المعتاد إلا بشهادة
أربع من النساء المطلعات على باطن أمرها ، وادعى أن ذلك ظاهر الروايات فلا أعرف له
وجها ، إذ ليس سوى رواية السكوني المذكورة مع معارضتها بما هو أكثر عددا وأصح سندا
وأصرح دلالة ، فيتعين حملها على المتهمة كما ذكره الشيخ. هذا كله فيما إذا لم يكن
لها مقابل في دعواها ولا منازع فإنه يقبل قولها بغير يمين ويجوز لها التزويج ، أما
لو أنكر الزوج ما ادعته من الخروج من العدة فإنه يتوجه عليها اليمين وتخرج المسألة
عما نحن فيه كما تقدمت الإشارة إليه.
__________________
قال في شرح
النافع بعد أن ذكر نحو ذلك : وهو مقطوع به في كلام الأصحاب ، ولو ادعت المرأة
انقضاء العدة بالأشهر فالظاهر أنه إن لم يكن لها مقابل ولا راد لدعواها فإنه يقبل
قولها عملا بالأخبار المتقدمة ، وإن أنكر الزوج ذلك فإنه لا يقبل قولها ، والقول
قول الزوج بيمينه كما ذكره الأصحاب أيضا.
قال في المسالك
: لأن هذا الاختلاف راجع في الحقيقة إلى وقت الطلاق ، والقول قوله فيه كما تقدم
قوله في أصله ، ولأنه مع دعوى بقاء العدة يدعي تأخر الطلاق ، والأصل فيه معه
لأصالة عدم تقدمه في الوقت الذي تدعيه ، انتهى.
ولو كانت من
ذوات الحمل فادعت وضعه قال في المسالك : صدقت أيضا بيمينها مع إمكانه لما تقدم ،
ويختلف الإمكان بحسب دعواها ، فإن ادعت ولادة ولد تام فأقل مدة تصدق فيها ستة أشهر
ولحظتان من يوم النكاح ، لحظة لإمكان الوطء ولحظة للولادة ، فإن ادعت أقل من ذلك
لم تصدق ، وإن ادعت سقطا مصورا أو مضغة أو علقة اعتبر إمكانه عادة.
وربما قيل :
إنه مائة وعشرون يوما ولحظتان في الأول ، وثمانون يوما ولحظتان في الثاني ،
وأربعون ولحظتان في الثالث ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «يجمع أحدكم في بطن امه أربعون يوما نطفة ، وأربعون يوما علقة ، وأربعون
يوما مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح». وحيث قدم قولها في ذلك لم تكلف إحضار الولد لعموم
الأدلة وجواز موته وتعذر إحضاره ، انتهى.
أقول : لا يخفى
أن ظاهر الأخبار المتقدمة الدالة على أنها مصدقة في العدة هو شمول العدة لجميع
أفرادها من كونها بالحيض أو الأشهر أو وضع الحمل ، وحينئذ فلا وجه لاشتراط اليمين
هنا في تصديقها دون الفردين المتقدمين ، وطلب اليمين
__________________
منها إنما هو في مقام ظهور منازع فيما ادعته كما تقدم ، سواء كان في هذا
الموضع وغيره ، وأما مع عدمه فقضية الأخبار المذكورة قبول قولها من غير يمين.
بقي التقييد
بإمكانه وهو مما لا بأس به ، في هذا الموضع وما تقدم أيضا.
وأما ما نقله
من الخبر النبوي فيما إذا ادعت سقطا كاملا أو مضغة أو علقة ، وأن الخبر المذكور
دليل للقول الذي نقله ففيه أن الظاهر أن الخبر المذكور ليس من طريقنا لعدم وجوده
في أخبارنا ، إلا أن نظيره مما ورد بمعناه قد ورد في الأخبار عنهم عليهمالسلام ، والظاهر أنه لم يخطر بباله يومئذ وإلا لنقله واستدل
به ، بل رجح هذا القول على ما ذكره أولا لدلالتها عليه.
فمن الأخبار
الدالة على ذلك ما رواه في الكافي في الموثق عن الحسن بن الجهم قال : «سمعت أبا الحسن
الرضا عليهالسلام يقول : قال أبو جعفر عليهالسلام : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما ، ثم تصير علقة
أربعين يوما ، ثم تصير مضغة أربعين يوما ، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين
خلاقين» الخبر.
وعن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث طويل قال فيه : «فتصل النطفة إلى الرحم فتردد
فيه أربعين يوما ، ثم تصير مضغة أربعين يوما» الحديث.
وفي رواية محمد
بن إسماعيل أو غيره عن أبي جعفر عليهالسلام قال فيها «فإنه أربعين ليلة نطفة وأربعين ليلة علقة
وأربعين ليلة مضغة ، فذلك تمام أربعة أشهر ، ثم يبعث الله ملكين خلاقين» الخبر.
وبذلك يظهر لك
رجحان القول المذكور لدلالة هذه الأخبار الصحيحة الصريحة عليه دون ما ذكره أولا.
__________________
فرع
قالوا : إذا
ادعت الحمل فأنكر الزوج وأحضرت ولدا فأنكر ولادتها له فالقول قوله لإمكان إقامة
البينة بالولادة.
أقول : الفرق
بين هذا الحكم وما تقدم من تقديم قولها في الوضع هو الاتفاق ثمة على الحمل وأنه من
الزوج وإنما الاختلاف في الولادة ، ولا ريب أن المرجع إليها في ذلك للآية
والرواية.
وأما هنا فإن
الزوج ينكر الحمل فضلا عن وضعه ، فالقول قوله بيمينه لأصالة عدم الحمل ، ولا فرق
بين أن تحضر ولدا أو تدعي ولادته ، فلا يلحق به بمجرد دعواها لجواز التقاطها له ،
وإنما يلزمه الاعتراف بما علم ولادته على فراشه لا ما تدعي المرأة ولادته كذلك ،
وحينئذ فلا يحكم بانقضاء العدة بذلك بل يفتقر إلى مضي عدة بالأقراء أو الأشهر
فيرجع إليها فيها وإن كذبت في الآخر.
السابع : لو
ادعى الزوج بعد انقضاء العدة أو بعد أن تزوجت أنه قد رجع فيها في العدة ، قال في
المسالك : نظر ، فإن أقام الأول عليها بينة فهي زوجته سواء دخل بها الثاني أو لم
يدخل ، ويجب لها مهر المثل على الثاني إن دخل بها ، وإن لم يكن بينة وأراد التحليف
سمعت دعواه على كل منهما. ثم ساق الكلام في صورة الدعوى على الزوجة وما في المسألة
من الشقوق وصورة الدعوى على الزوج الثاني وما يترتب على ذلك.
قال شيخنا
المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني في أجوبة المسائل الحسنية : إذا
طلقها ورجع وأشهد على الرجعة وأقام بينة شرعية بذلك حكم له بها وإن تزوجت عند
الأصحاب كما يستفاد من كلامهم ، وممن صرح بذلك شيخنا الشهيد الثاني ـ ثم قال بعد
نقل كلام شيخنا الشهيد الثاني رحمهالله عليه بتمامه ـ ما لفظه : وفي الكل إشكال لعدم الظفر بنص
في ذلك كله إلا أن أصل
المسألة ليس بموضع إشكال عندهم كما يعرف من كلامهم ، وإن كان عندي أيضا
فيها توقف ، وهذه هي المسألة التي وقع النزاع فيها بين الشيخ الثقة الجليل زين
الدين علي بن سليمان القدمي البحراني والشيخ أحمد ابن الشيخ محمد بن علي بن يوسف
بن سعيد المشاعي الاصبعي ، وقد حكم الشيخ أحمد بقبول الدعوى مع قبول البينة ،
وألحقها بالأول ومنع الثاني ، وخالفه الشيخ علي وحكم بها للثاني ولم يسمع دعوى
الأول احتجاجا بأن الرجوع لا بد فيه من الاعلام في العدة ، والنكاح قد وقع صحيحا
مطابقا للشرع ، فلا يكفي الرجوع الذي لم يحصل العلم به إلا بعد التزويج ، واستفتيا
فيها فقهاء العصر وكتبا فيها إلى سائر البلدان كشيراز وأصفهان ، فصححوا كلام الشيخ
أحمد وخطأوا الشيخ عليا ، والحق أن هذا هو ظاهر كلام الأصحاب لأنهم لم يشترطوا في
صحة الرجوع الاعلام ، وليس هو من باب عزل الوكيل ـ كما يجيء بيانه ـ وإن كان لي
فيها تأمل لعدم النص الصريح في المسألة ، انتهى كلامه.
أقول : لا ريب
أن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على القول بأنه يملك رجعتها متى رجع في العدة وإن لم
يبلغها الخبر ، وأنه بالإشهاد على الرجعة يسترد نكاحها لو نكحت غيره مع عدم بلوغها
الخبر.
قال في المسالك
: الرابع : أن يقع النزاع بعد ما نكحت ، ثم جاء الأول فادعى الرجعة سواء كان
عذرهما في النكاح لجهلهما بالرجعة أم نسبتهما إلى الخيانة والتلبيس نظر ، فإن أقام
عليها بينة. إلى آخر ما تقدم.
وقال العلامة
في القواعد ولا يشترط علم الزوجة في الرجعة ولا رضاها ، فلو لم تعلم وتزوجت ردت
إليه ، وإن دخل الثاني بعد العدة ولا يكون الثاني أحق بها. انتهى ، وعبارته وإن
كانت مطلقة بالنسبة إلى ثبوت الرجعة وعدمه إلا أن مراده بعد الثبوت بالشهادة لما
صرح به قبيل هذا الكلام من قوله «ويستحب الاشهاد» وليس شرطا ، لكن لو ادعى بعد
العدة وقوعها فيها لم تقبل دعواها إلا بالبينة.
وقال في
التحرير : ولا يشترط في صحة الرجعة إعلام الزوجة ولا الشهادة بها ، فلو راجعها
بشهادة اثنين وهو غائب في العدة صحت الرجعة ، فإن تزوجت حينئذ كان فاسدا سواء دخل
الثاني أو لا ، ولا مهر على الثاني مع عدم الدخول ولا عدة ، ومع الدخول المهر
والعدة ، وترجع إلى الأول بعدها. إلى غير ذلك من عباراتهم التي يقف عليها المتتبع.
والعجب من شيخنا
المحدث الصالح المتقدم ذكره في إنكار النصوص على ما ذهب إليه الأصحاب لعدم اطلاعه
عليها في هذا الباب مع أنها موجودة مكشوفة القناع واجبة الاتباع ، وكذا ظاهر ما
نقله عن الشيخين الجليلين في القضية التي نقلها والاستفتاء في المسألة إلى البلدان
، مع أن إخبارها واضحة البيان فيما ذكره علماؤنا الأعلام.
والذي وقفت
عليه من ذلك ما رواه في الكافي بسند صحيح إلى المرزبان قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن رجل قال لامرأته : اعتدي فقد خليت سبيلك ، ثم أشهد
على رجعتها بعد أيام ثم غاب عنها قبل أن يجامعها حتى مضت لذلك شهر بعد العدة أو
أكثر ، فكيف تأمره؟ فقال : إذا أشهد على رجعته فهي زوجته».
أقول : ظاهر
هذه الرواية كما ترى واضحة الدلالة على أنه بمجرد الاشهاد على الرجعة في العدة
تثبت الزوجية كما هو المشهور بلغها الخبر أو لم يبلغها ، تزوجت بعد العدة لعدم
بلوغ الخبر أو لم تتزوج ، وليس في سند هذا الخبر من ربما يتوقف في شأنه سوى
المرزبان ، وهو ابن عمران بن عبد الله ، وقد ذكر النجاشي أن له كتابا وهو مؤذن بكونه من أصحاب الأصول ، وروى
الكشي حديثا يشعر بحسن
__________________
حاله ، ولهذا عد شيخنا المجلسي في الوجيزة حديثه في الحسن.
وما رواه في
الكافي عن الحسن بن صالح قال : «سألت جعفر بن محمد عليهالسلام عن رجل طلق امرأته وهو غائب في بلدة اخرى وأشهد على
طلاقها رجلين ثم إنه راجعها قبل انقضاء العدة وقد تزوجت ، فأرسل إليها : إني كنت
قد راجعتك قبل انقضاء العدة ولم اشهد ، قال : لا سبيل له عليها ، لأنه قد أقر
بالطلاق وادعى الرجعة بغير بينة فلا سبيل له عليها ، ولذلك ينبغي لمن طلق أن يشهد
، ولمن راجع أن يشهد على الرجعة كما أشهد على الطلاق ، وإن كان قد أدركها قبل أن
تزوج كان خاطبا من الخطاب».
والتقريب فيها
أن قوله «وادعى الرجعة بغير بينة فلا سبيل له عليها» يدل بمفهومه على أنه لو كان
له بينة على الرجعة كان له سبيل عليها مؤكدا ذلك بالأمر لمن راجع أن يشهد على
الرجعة كما يشهد على الطلاق حتى يثبت الزوجية في الأول كما ينبغي في الثاني.
وما رواه الشيخ
عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عليهالسلام «في رجل أظهر طلاق امرأته وأشهد عليه وأسر رجعتها ثم خرج ، فلما رجع وجدها
قد تزوجت ، قال : لا حق له عليها من أجل أنه أسر رجعتها وأظهر طلاقها». والتقريب
فيه كما في سابقه.
ويؤيد ذلك أيضا
إطلاق جملة من الأخبار مثل قول أبي جعفر عليهالسلام في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم «وأن الرجعة بغير شهود رجعة ، ولكن ليشهد بعد فهو أفضل». وقوله عليهالسلام أيضا في حديث آخر لمحمد بن مسلم «وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تنقضي أقراؤها». وفي ثالث
لمحمد بن مسلم أيضا
__________________
عنه عليهالسلام «وقد سئل عن رجل طلق امرأته واحدة ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها ولم يشهد
على رجعتها ، قال : هي امرأته ما لم تنقض العدة ، وقد كان ينبغي له أن يشهد على
رجعتها فإن جهل ذلك فليشهد حين علم ، ولا أرى بالذي صنع بأسا» الحديث.
إلى غير ذلك
مما هو على هذا المنوال ، فهي كما ترى شاملة بإطلاقها لما لو علمت المرأة أو لم
تعلم ، تزوجت أو لم تزوج ، فإنها بمجرد الرجعة في العدة تكون زوجته شرعا واقعا ،
وإنما الإشهاد على ذلك لدفع النزاع وثبوت الزوجية في الظاهر ، فلو فرضت أن الزوجة
صدقته ووافقته على دعواه قبل التزويج بغيره صح نكاحه لها ، فتوقف شيخنا المحدث
الصالح ـ رحمة الله عليه ـ في المسألة لعدم النص عجيب ، وأعجب منه حكم شيخنا قدوة
المحدثين ورئيس المحققين الشيخ علي بن سليمان المتقدم ذكره بعدم صحة الرجعة لعدم
بلوغ الخبر لها في العدة لما ذكره من التعليل في مقابلة الأخبار المذكورة ، وإن
أمكن أن يقال : إنه لا ريب أن ما ذكره من التعليل المذكور قوي متين لأن الأحكام
الشرعية لم تبن على ما في نفس الأمر والواقع ، والنكاح الذي وقع أخيرا وقع صحيحا
بحسب ظاهر الشرع ، وإبطاله بمخالفة ما في نفس الأمر مشكل لما ذكرناه ، إلا أنه لما
دلت الأخبار المذكورة على خلافه وجب الخروج عنه.
ولكن يؤيد ما
ذكره شيخنا المذكور بل يدل على ذلك صريحا ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن الذي لا يقصر عن الصحيح بإبراهيم بن
هاشم عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام «أنه قال في رجل طلق امرأته وأشهد شاهدين ، ثم أشهد على رجعتها سرا منها
واستكتم الشهود فلم تعلم المرأة بالرجعة حتى انقضت عدتها ، قال : تخير المرأة ،
فإن شاءت زوجها وإن شاءت غير ذلك ، وإن تزوجت قبل أن تعلم بالرجعة التي أشهد عليها
زوجها فليس للذي طلقها عليها
__________________
سبيل ، وزوجها الأخير أحق بها».
وهي كما ترى
صريحة فيما ذهب إليه شيخنا الشيخ علي المذكور ، ولعل اعتماده فيما ذهب إليه إنما
كان على هذه الرواية سيما مع صحتها وصراحتها وضعف ما يقابلها وإن لم ينقل ذلك عنه
في الحكاية المتقدمة ، فإن الشيخ المذكور في الاطلاع على الأخبار وما اشتملت عليه
من الأسرار كان ممن لا ثاني له ، ولهذا اشتهر في بلاد العجم تسميته بأم الحديث في
وقته ، وبذلك يظهر لك بقاء المسألة في قالب الاشكال.
وفي بعض
الحواشي المنسوبة إلى شيخنا المجلسي المولى محمد باقر على هذا الخبر ما صورته :
ظاهره اشتراط علم الزوجة في تحقق الرجعة ، ولم أر به قائلا ويمكن حمله على ما إذا
لم يثبت بالشهود ، وهو بعيد ، انتهى.
وأصحابنا لم
يتعرضوا للكلام في هذه الأخبار ، أما في كتب الاستدلال كالمسالك ونحوه فإنهم لم
يتعرضوا لنقل شيء من الروايات بالكلية وإنما ذكروا الحكم المذكور مسلما بينهم من
غير استدلال ، كأنه من قبيل المجمع عليه بينهم ، وفي كتب الأخبار لم يتعرضوا لهذا
الاختلاف الظاهر بين روايات المسألة ، وربما أشعر سكوتهم عن ذلك بأن الحكم المذكور
اتفاقي نصا وفتوى ، والحال كما عرفت ، فإنه وإن كان ظاهر الفتوى ذلك إلا أن النصوص
كما رأيت ظاهرة الاختلاف ، والصحيحة المذكورة صريحة الدلالة في المخالفة لما
تقدمها من الأخبار ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة في هذه المسألة ، فلعل الصحيحة
المذكورة من حيث الاتفاق على خلاف ما دلت عليه إنما خرجت مخرج التقية.
وفي كتاب سليم
بن قيس وهو أحد الأصول المشهورة والكتب المأثورة المعتمد عليها
عند محققي أصحابنا كما صرح به شيخنا المجلسي ـ رحمهالله ـ في
__________________
كتاب البحار في رواية له عن علي عليهالسلام يذكر فيها بدع عمر وإحداثه ، قال عليهالسلام : وأعجب من ذلك أن أبا كيف العبدي أتاه فقال : إني طلقت
امرأتي وأنا غائب فوصل إليها الطلاق ، ثم راجعتها وهي في عدتها ، وكتبت إليها فلم
يصل الكتاب حتى تزوجت ، فكتب إليه : إن كان هذا الذي تزوجها دخل بها فهي امرأته ،
وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك ، وكتب له ذلك وأنا شاهد ولم يشاورني ولم يسألني
ويرى استغناءه بعلمه عني ، فأردت أن أنهاه ، ثم قلت : ما أبالي أن يفضحه الله ، ثم
لم تعبه الناس بل استحسنوه واتخذوه سنة وقبوله ورأوه صوابا وذلك قضاء لا يقضي به
مجنون» الحديث وهو كما ترى غير خال من شوب الاشكال لما تضمنه من الإجمال ، ووجه
البطلان في قضائه الذي نفاه عليه أن هذا التفصيل لا وجه له ، لأن جواز الدخول
وعدمه تابع لصحة التزويج وعدمها وفرع عليها ، فإن كان التزويج صحيحا فلا معنى
لكونها زوجة الأول مع عدم الدخول ، وإن كان باطلا فلا وجه لكونها زوجة الثاني مع
الدخول لما عرفت من التبعية والفرعية ، وجهل الرجل المذكور أكثر من تحويه السطور أو يقوم به مداد البحور ، واعترافه في غير مقام
غير منكور ، والله العالم.
بقي الكلام
فيما لم يكن ثمة بينة ، وقد فصل الكلام في ذلك شيخنا في المسالك بما لم يسلكه قبله
سالك ، قال ـ رحمهالله ـ : وإن لم يكن بينة وأراد التحليف سمعت دعواه على كل
منهما ، فإن ادعى عليها فأقرت له بالرجعة لم يقبل إقرارها على الثاني ، وفي غرمها
للأول مهر المثل لتفويت البضع عليه قولان ، تقدم البحث فيهما في النكاح ، وإن
أنكرت فهل تحلف؟ فيه وجهان مبنيان على أنها هل تغرم له لو أقرت أم لا؟ فإن لم نقل
بالغرم فلا وجه لتحليفه ، لأن الغرض منه الحمل على الإقرار ولا فائدة فيه ، فإن
قلنا بالتحليف فحلفت سقط دعوى الزوج ، وإن نكلت حلف وغرمها مهر المثل ولا يحكم
ببطلان النكاح الثاني ، وإن
__________________
جعلنا اليمين المردودة كالبينة لأنها إنما يكون كذلك في حق المتداعيين
خاصة.
وربما احتمل
بطلان النكاح على هذا التقدير لذلك ، وهو ضعيف ، فإذا انقطعت الخصومة معها بقيت
على الزوج الثاني ، ثم إن أنكر صدق بيمينه ، لأن العدة قد انقضت والنكاح وقع صحيحا
في الظاهر ، والأصل عدم الرجعة ، وإن نكل ردت اليمين على المدعي ، فإن حلف حكم
بارتفاع النكاح الثاني ، ولا تصير المرأة للأول بيمينه.
ثم إن قلنا :
إن اليمين المردودة كالبينة ، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح فلا شيء لها
عليه إلا مهر المثل مع الدخول ، وإن قلنا إنها كالإقرار ، وإقراره عليها غير مقبول
، ولها كمال المسمى إن كان بعد الدخول ، ونصفه إن كان قبل ، والأقوى ثبوت المسمى
كملا مطلقا ، وإن جعلناها كالبينة لما ذكرناه من أنها إنما يكون كالبينة في حق
المتنازعين خاصة ، وإذا انقطعت الخصومة بينهما فله الدعوى على المرأة إن لم يكن
سبق بها ، ثم ينظر إن بقي النكاح الثاني ، فإن حلف فالحكم كما ذكر فيما إذا بدأ
بها ، وإن لم يبق بأن أقر الثاني للأول بالرجعة أو نكل فحلف الأول فإن أقرت المرأة
سلمت إليه ، وإلا فهي المصدقة باليمين ، فإن نكلت وحلف المدعي سلمت إليه ، ولها
على الثاني مهر المثل إن جرى دخول ، وإلا فلا شيء عليه كما لو أقرت بالرجعة ، وكل
موضع قلنا لا تسلم المرأة إلى الأول لحق الثاني ، وذلك عند إقرارها أو نكولها أو
يمين الأول ، فإذا زال حق الثاني بموت أو غيره سلمت إلى الأول ، كما لو أقر بحرية
عبد في يد غيره ثم اشتراه فإنه يحكم عليه بحريته ، انتهى.
أقول : لا يخفى
أن جملة من هذه الأحكام يمكن استنباطه من الرجوع إلى القواعد المقررة والضوابط
المشتهرة ، وجملة منها لا تخلو من الاشكال لما عرفت من تعدد الاحتمالات ،
والاحتياط في أمثال ذلك مطلوب على كل حال.
تذنيب
إذا ادعى أنه
راجع زوجته الأمة في العدة فصدقته وأنكر المولى وادعى خروجها قبل الرجعة فلا خلاف
في أن القول قول الزوج ، إنما الخلاف في أنه هل يقبل قوله من غير يمين أم لا بد من
اليمين؟
المنقول من الشيخ
الأول ، واستنادا إلى أن الرجعة تفيد استباحة البضع ، وهو حق يتعلق بالزوجين فقط ،
فمع مصادقة الزوجة على صحة الرجعة ووقوعها شرعا لا يلتفت إلى رضا المولى : ولا
موجب لليمين على الزوج ، لأن اليمين إن كانت للمرأة فهي قد صدقته فلا يمين في
البين ، وإن كان للمولى فقد عرفت أن رضاه غير معتبر.
وتردد المحقق
في ذلك ووجهه الشارح في المسالك بأن حق المولى إنما يسقط زمن الزوجية لا مع زوالها
، وهو الآن يدعي عود حقه والزوج ينكره فيتوجه اليمين ، قال : وبهذا يظهر منع تعلق
الحق بالزوجين فقط ، فإن ذلك إنما هو في زمن الزوجية ، إذ قبلها الحق منحصر في
المولى وكذا بعدها ، والنزاع هنا في ذلك ، فالقول باليمين أجود بل يحتمل تقديم قول
المولى لقيامه في ذلك مقام الزوجة ، وقولها مقدم على الوجه المتقدم ، فلا أقل من
اليمين على الزوج ، انتهى.
أقول : والحكم
لكونه خاليا من النص موضع توقف وإشكال ، كما عرفت في أمثاله الجارية على هذا
المنوال ، والاعتماد على هذه التعليلات العليلة مجازفة في أحكام الملك المتعال.
إلحاق فيه اشقاق
قد جرت عادة
جملة من الأصحاب بذكر الحيل الشرعية في هذا المقام ، قال المحقق في الشرائع : يجوز
التوصل بالحيل الشرعية المباحة دون المحرمة في إسقاط ما لو لا الحيلة لثبت ، ولو
توصل بالمحرمة أثم وتمت الحيلة.
قال شيخنا في
المسالك بعد ذكر ذلك : هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه ، والغرض منه التوصل إلى
تحصيل أسباب تترتب عليها أحكام شرعية ، وتلك الأسباب قد تكون محللة وقد تكون محرمة
، والغرض من تعليم الفقيه الأسباب المباحة ، فأما المحرمة فيذكرونها بالفرض ليعلم
حكمها على تقدير وقوعها ، انتهى.
أقول : لا ريب
أن جملة من الحيل المشار إليها قد دلت عليها الأخبار بالخصوص ، وجملة منها وإن لم
تدل عليه النصوص إلا أنها موافقة لمقتضى القواعد المتفق عليها بينهم.
(ومنها) ما هو
باطل ، وإن توهم كونه حيلة شرعية موجبة لتحليل ما أريد منها كما سيظهر لك إن شاء
الله ، إلا أن العمل على ما لم يوجد فيه نص بالخصوص على الإطلاق لا يخلو من إشكال
لما يظهر مما حكاه الله تعالى في كتابه عن اليهود في قضية الاصطياد الذي نهوا عنه
يوم السبت ، وأنه عزوجل مسخهم قردة بما عملوه من الحيلة في ذلك.
ففي تفسير
الإمام العسكري عليهالسلام عند قوله تعالى في سورة البقرة «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ» قال : «قال علي بن الحسين عليهالسلام : كان هؤلاء قوما يسكنون على شاطئ بحر فنهاهم الله
وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت ، فتوصلوا إلى حيلة ليحلوا بها لأنفسهم ما
حرم الله ، فخذوا أخاديد وعملوا طرقا تؤدي إلى حياض يتهيأ للحيتان الدخول فيها من
تلك الطرق ، ولا يتهيأ لها الخروج إذا همت بالرجوع ، فجاءت الحيتان يوم السبت
جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد وحصلت في الحياض والغدران ، فلما كانت عشية
اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من صائدها فرامت الرجوع فلم تقدر ، وبقيت
ليلتها في مكان يتهيأ أخذها بلا اصطياد لاسترسالها
__________________
فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها ، وكانوا يأخذون يوم الأحد ويقولون
: ما اصطدنا في السبت وإنما اصطدنا في الأحد ، وكذب أعداء الله بل كانوا آخذين بها
بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتى كثر من ذلك مالهم» الحديث.
ويظهر من
المحقق الأردبيلي ـ رحمهالله عليه ـ التوقف في استعمال هذه الحيل ، ولو كانت بحسب
الظاهر جارية على نهج القوانين الشرعية ، ذكر ذلك في غير موضع من شرحه على كتاب
الإرشاد ، منها في باب الربا حيث قال ـ في تمثيل المصنف بقوله : مثل إن أراد بيع
قفيز حنطة بقفيز من شعير أو الجيد بالرديين وغير ذلك ـ ما لفظه : يبيع
المساوي بالمساوي قدرا ويستوهب الزائد ، وهو ظاهر لو حصل القصد في البيع والهبة ،
وينبغي الاجتناب عن الحيل مهما أمكن ، وإذا اضطر يستعمل ما ينجيه عند الله ، ولا
ينظر إلى الحيل وصورة جوازها ظاهرا ، لما عرف من علة تحريم الربا ، وكأنه إلى ذلك
أشار في التذكرة بقوله : لو دعت الضرورة إلى بيع الربويات مستفضلا مع اتحاد الجنس.
إلخ ، انتهى كلامه رحمة الله عليه.
ومحصله : أن
الفقهاء قد ذكروا جملة من الحيل الموجبة للخروج من الربا كما قدمنا ذكره في كتاب
البيع ، ومنها ما ذكر هنا ، وهو أن يبيعه المساوي ويهب له الزائد ، وظاهر المحقق
المذكور التوقف في ذلك من حيث عدم القصد إلى الهبة ، وإنما الغرض منها التوصل إلى
تحليل ما حرم الله تعالى بالحيل إلا ما ورد به النص وإلا فما ذكره من أن القصد لم
يكن للهبة من حيث هي وإنما القصد إلى تحليل الربا يمكن خدشه بأنه لا تشترط قصد
جميع الغايات المترتبة على ذلك العقد ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته كما صرح
به شيخنا في المسالك وتبعه من تأخر عنه في ذلك حيث قال ونعم ما قال :
ولا يقدح في
ذلك كون هذه الأمور غير مقصودة بالذات ، والعقود تابعة
__________________
للقصود ، لأن قصد التخلص من الربا إنما يتم مع القصد إلى بيع صحيح أو قرض
أو غيرهما من الأنواع المذكورة وذلك كاف في القصد ، إذ لا يشترط في القصد إلى عقد
قصد جميع الغايات المترتبة عليه ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته فإن من أراد
شراء دار مثلا ليؤاجرها ويكتسب بها فإن ذلك كاف في الصحة ، وإن كان لشراء الدار
غايات أخر أقوى من هذه وأظهر في نظر العقلاء ، وكذا القول في غير ذلك من أفراد
العقود ، وقد ورد في أخبار كثيرة يدل على جواز الحيلة على نحو ذلك ، انتهى.
والواجب هنا
ذكر جملة مما خطر بالبال من الأنواع التي توصل إلى تحليلها بالاحتيال والتمييز بين
صحيحها وفاسدها زيادة على ما تقدم سيما في باب الربا من كتاب البيع وكتاب الشفعة.
(ومنها) ما
اشتهر في هذه الأوقات من أنه إذا كان في ذمة الرجل ألف درهم من وجه الخمس أو
الزكاة فإنه يبيع سلعة قيمتها مائة درهم على فقير بألف درهم ثم يحتسب عليه الثمن
بما في ذمته من وجه الخمس أو الزكاة ، وهذا البيع بحسب القواعد الشرعية صحيح إذا
وقع بالتراضي من الطرفين ومعرفة المبيع من الجانبين ، ولكن إذا نظرت إلى الواقع
وأنه لم يدفع في الحقيقة من تلك الألف إلا مائة درهم خاصة حصل الإشكال في حصول
البراءة من الزائد بهذه الحيلة ، وكانت قريبة من حيلة اليهود في إسقاط ما حرم الله
عليهم.
ولا يبعد أن
يقال إن الذمة مشغولة بهذا المبلغ بيقين ، ولا تبرأ إلا بيقين دفعه كملا ، وحصول
الدفع بهذه الحيلة غير معلوم يقينا على أنه يمكن أن يقال : إن في صحة هذا البيع
إشكالا ، لأنه وإن صح البيع في أمثاله بزيادة على الثمن الواقعي أضعافا مضاعفة إلا
أنه مخصوص بقصد المشتري الى دفع الثمن ورضاه بالمبيع بهذا الثمن ، وفيما نحن فيه
ليس كذلك ، فإن المشتري إنما رضي بالشراء بهذا الثمن من حيث علمه بأنه لا يؤخذ منه
، وإلا فمن المجزوم به أنه لا يرضى بدفع هذا الثمن في مقابلة هذا المبيع اليسير
كما هو المفروض.
وبالجملة فإنه
من الظاهر أن المشتري لم يقصد دفع الثمن ، مع أن الثمن أحد أركان المبيع كما تقدم
في كتاب البيع فهو في قوة أنه اشترى بلا ثمن ، ولا خلاف في بطلانه لما عرفت. وكيف
كان فالجزم ببراءة الذمة عندي في هذه الصورة محل توقف وإشكال.
(ومنها) ما لو
خافت المرأة من تزويج زوجها بامرأة معينة فحملت ولدها على أن يتزوج بها قبل أبيه ،
أو أمة يريد شراءها الأب فاشتراها الابن ، أو حملت الام ابنها على الزنا بتلك
المرأة التي يريد أبوه تزويجها أو الأمة التي يريد شراءها بناء على نشر الحرمة
بالزنا ، فإنه وإن أثم من حيث حرمة الزنا إلا أن الحيلة تحصل به.
(ومنها) ما لو
كرهت المرأة زوجها وأرادت انفساخ العقد بينهما فارتدت انفسخ النكاح وبانت منه إن
كان قبل الدخول ، ولو كان بعده توقف البينونة على انقضاء العدة قبل رجوعها ، فإن
أخرت إلى انقضائها بانت منه ، فإذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قبل وتمت الحيلة ،
كذا ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ولا يخلو من إشكال ، فإن مقتضى هذا
الكلام أن إظهار الارتداد لم يقع عن تغير في الاعتقاد للإسلام واعتقاد الكفر ،
والكفر الموجب للفسخ إنما مناطه الاعتقاد لا مجرد الإظهار ، ومجرد الإظهار إنما
يوجب الفسق لا الكفر.
وبالجملة فإنه
لا يظهر في صحة هذه الحيلة على وجه ينفسخ بها النكاح إذ مرجعها إلى إظهار الكفر من
غير زوال اعتقاد الإسلام وهو غير موجب للارتداد شرعا.
(ومنها) ما
عدوه في هذا الباب من الحيل المبيحة لنكاح جماعة امرأة في
__________________
يوم واحد بأن يتزوجها أحدهم ويدخل بها ثم يطلقها ، ثم يتزوجها ثانية
ويطلقها من غير دخول ، فإنه يجوز للآخر أن يتزوجها في تلك الحال لسقوط العدة حيث
إنها غير مدخول بها. هكذا ذكر في المفاتيح ثم قال : وهو غلط واضح لأن العدة الأولى
لم تسقط إلا بالنسبة إلى الزوج الأول الذي هو صاحب الفراش حيث لا يجب الاستبراء من
مائه ، وأما بالنسبة إلى غيره فما العلة في سقوطها ، وإنما الساقط العدة الثانية
فقط ليس إلا ، انتهى.
أقول : لا ريب
أن ما أورده عليهم ظاهر الورود كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ، إلا أن كلامه
أيضا لا يخلو من سهو وغفلة ، فإنه قد فرض المسألة في نكاح قوم لامرأة واحدة في يوم
، وهذا لا يتم فيما فصله وأوضحه من أنه يتزوجها أحدهم ويدخل بها ثم يطلقها. إلخ ،
فإن الطلاق بعد الدخول لا يصح عندنا إلا بعد الاستبراء بحيضة أو ثلاثة أشهر ،
وحينئذ فكيف يمكن ما فرضه من وقوع نكاح القوم في يوم واحد ، اللهم إلا أن يكون
مراده الرد على العامة القائلين بجواز الطلاق في الطهر الذي واقع فيه من غير حاجة
إلى الاستبراء ، وإن كان الظاهر من كلامه إنما هو الرد على من ذهب من أصحابنا إلى
صحة هذه الحيلة.
ثم إن من ذهب
من أصحابنا إلى ذلك وجوزه فإنما يفرضه في المتعة حيث إنها تبين بمجرد انقضاء المدة
أو هبتها.
لكن المفهوم من
كلام الفضل بن شاذان وكلام الشيخ المفيد على ما نقله المرتضى ـ رحمة الله
عليه ـ في كتاب المجالس الذي جمعه من كلام الشيخ المفيد ـ رحمة الله عليه ـ هو
إنكار ذلك وتخصيصه بالعامة ، مع أنهم يلزمهم مثل ذلك متى قالوا بسقوط العدة في
الصورة المذكورة كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ، وصورة الإلزام الذي ألزم به
الفضل بن شاذان من جواز نكاح عشرة لامرأة واحدة في يوم واحد موضعه طلاق الخلع
والطلاق البائن ، حيث إن العامة لا يوجبون الاستبراء ويجوزون الطلاق في الحيض ،
قال الشيخ المفيد ـ بعد حكاية ما وقع للفضل بن شاذان مع العامة ـ ما صورته :
والموضع الذي لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة دون الشيعة الإمامية أنهم يجيزون
الخلع والطلاق والظهار في الحيض وفي الطهر الذي قد
__________________
حصل فيه جماع من غير استبانة حمل ، والإمامية تمنع من ذلك وتقول إن هذا أجمع
لا يقع بالحاضرة التي تحيض إلا بعد أن تكون طاهرا من الحيض طهرا لم يحصل فيه جماع
، فلذلك سلمت مما وقع فيه المخالفون ، انتهى.
وظاهر كلام
هؤلاء المشايخ بل الظاهر أنه المشهور هو سقوط العدة عن المختلعة والمطلقة ثلاثا لو
عقد عليها الزوج بعد ذلك قبل انقضاء العدة ثم طلقها قبل الدخول ، وأنها يجوز لغيره
في تلك الحال التزويج بها لدخوله تحت عموم الآية ، ولم يتفطن هؤلاء الإعلام إلى أن
ما ألزموه العامة من هذه الشناعة التي شنعوا بها عليهم لازمة لهم متى قالوا بهذا
القول ، وذلك فإنه لو انقضت عدة المستمتعة وتم أجلها أو وهبها ذلك فإنها تبين في
الحال ، ولا خلاف في أنه يجوز لزوجها العقد عليها في تلك العدة ، فلو عقد عليها ثم
أبرأها قبل الدخول بها فإنه لا عدة عليها لكونها غير مدخول بها ، فيجوز لآخر أن
يتمتعها ويعمل بها ما عمل وهكذا حسبما شنعوا به على العامة ، ومنشأ الغلط في هذه
المسألة هو أن العدة إنما تسقط بالنسبة إلى الزوج كما تقدم في كلام المحدث المتقدم
، فإنه يجوز له العقد عليها قبل انقضاء العدة لعدم وجوب الاستبراء من مائه الذي هو
العلة في وجوب العدة ، وأما بالنسبة إلى غير الزوج فلا تسقط ، وطلاقه لها ثانيا
بعد هذا العقد المجرد عن الدخول لا يؤثر في سقوط تلك العدة الاولى ، وإنما يؤثر في
عدة هذا الطلاق ، والتمسك بظاهر الآية في المقام مغالطة ، فإنها إنما دلت على سقوط
العدة في الطلاق أو الإبراء الثاني ولا نزاع فيه ، ومحل النزاع إنما هو العدة
الاولى والإبراء الأول ، والآيات والروايات الدالة على وجوب العدة شاملة لهذه
الصورة ، والسقوط إنما ثبت بالنسبة إلى الزوج خاصة بدليل خاص ، وأما غيره فعموم
الآيات والروايات دال على وجوبها.
والذي يدل على
ما ذكرنا من الاختصاص بالزوج ما رواه في الكافي في
__________________
الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير عمن رواه قال : «إن الرجل إذا تزوج المرأة
متعة كان عليها عدة لغيره ، فإذا أراد هو أن يتزوجها لم يكن عليها منه عدة يتزوجها
إذا شاء».
وقد وقفت على
رسالة في المتعة الظاهر أنها من تصانيف المحقق الفيلسوف العماد مير محمد باقر
الداماد ، وقد جنح فيها إلى القول المشهور ولم يتفطن إلى ما فيه من القصور فصرح
بأن المستمتعة المحتال في سقوط عدتها بذلك النحو لا عدة عليها لا للعقد الثاني ولا
للأول.
وممن أنكر ذلك
وصرح ببطلان هذه الحيلة شيخنا البهائي ـ رحمهالله عليه ـ في أجوبة مسائل الشيخ صالح الجزائري حيث قال بعد كلام في المقام :
أما لو دخل بالمتمتع بها ثم أبرأها ثم تمتع بها وأبرأها قبل الدخول فالذي أعتمد
عليه أنه لا تحل لغيره العقد عليها إلا بعد العدة ، ولا فرق بين الإبراء والطلاق ،
وما يوجد في كتب الأصحاب من جواز ذلك لانخراطه في سلك المطلقات قبل الدخول لا أعول
عليه ولا أقول به ، وللكلام فيه مجال واسع ليس هذا محله ، والله أعلم ، انتهى.
(ومنها) ما لو
أراد التوصل إلى حل نظر يحرم عليه نظرها ، ولمس من يحرم عليه لمسها بأن يعقد الرجل
بابنه الصغير متعة على امرأة بالغة لأجل أن يحل للأب نظر تلك المرأة المعقود عليها
ولمسها ، أو يعقد الرجل بابنته الصغيرة على رجل لأجل أن يكون ذلك الرجل محرما لام
البنت وجدتها يحل له نظرهما ولمسهما ونحو ذلك ، والظاهر عندي صحة ذلك وأنه يترتب
على هذا العقد ما يترتب على عقود النكاح ، والمقصود منها النكاح ، وإن لم يكن هذا
العقد مقصودا به النكاح ، وقد عرفت مما قدمنا نقله قريبا عن شيخنا الشهيد الثاني
في المسالك أنه لا يشترط في صحة العقد قصد جميع غاياته المترتبة عليه بل يكفي قصد
بعضها ، على أن ما تمسك به من توهم عدم جواز ذلك من أن العقود تابعة للقصود وقصد
النكاح هنا غير موجود.
وفيه (أولا)
أنه إن أريد القصد ولو في الجملة فهو حاصل ، وإن أريد القصد إلى كل ما يترتب على
ذلك العقد فعلى مدعي ذلك إثباته بالدليل ، مع أن ظاهر الأدلة كما سيظهر لك إنما هو
خلاف ذلك.
(وثانيا) أن
الظاهر من الأخبار على وجه لا يزاحمه الإنكار وهو انخرام هذه القاعدة وبطلان ما
رتبوه عليها من هذه الفائدة كما لا يخفى على من جاس خلال ديار الأخبار والتقط من
لذيذ تلك الثمار.
وها أنا أتلو
عليك ما حضرني من الأخبار المشار إليها ، فمن ذلك الأخبار الواردة في التخلص من
الربا والحيلة في دفعه.
ومنها ما رواه في
الكافي عن محمد بن إسحاق بن عمار قال : «قلت لأبي الحسن عليهالسلام : إن سلسبيل طلبت مني مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة
آلاف درهم ، فأقرضتها تسعين ألفا وأبيعها ثوبا أو شيئا يقوم على بألف درهم بعشرة
آلاف درهم ، قال : لا بأس».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن محمد بن إسحاق بن عمار أيضا قال : «قلت للرضا عليهالسلام : الرجل يكون له المال قد حل على صاحبه ، يبيعه لؤلؤة
تسوى مائة درهم بألف درهم ، ويؤخر عليه المال إلى وقت؟ قال : لا بأس ، قد أمرني
أبي عليهالسلام ففعلت ذلك. وزعم أنه سأل أبا الحسن عليهالسلام عنها فقال له مثل ذلك».
وروى المشايخ
الثلاثة ـ رحمة الله عليهم ـ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج
قال : «سألته عليهالسلام عن الصرف ـ إلى أن قال : ـ فقلت له : أشتري ألف درهم
ودينار بألفي
__________________
درهم؟ قال : لا بأس ، إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني ، وكان يقول هذا
فيقولون إنما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم
لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم : نعم الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال». إلى
غير ذلك من الأخبار الواردة كذلك.
والتقريب فيها
أنهم عليهمالسلام قد حكموا بصحة بيع هذه الأشياء المذكورة بأضعاف ثمنها
الواقعي توصلا إلى الخروج من الوقوع في الربا ، وأصل البيع غير مقصود البتة ،
ولهذا أنكرته العامة العمياء ، وإنما المقصود ما ذكرناه ، والشارع قد سوغه وجوزه
كما نقله عنه نوابه عليهالسلام وخلفاؤه عليهالسلام وبه يظهر أنه لا يشترط قصد جميع ما يترتب على ذلك
العقد.
(ومنها) الأخبار
الدالة على صحة بيع الآبق مع ضميمة وإن كانت يسيرة والثمار قبل ظهورها أو بلوغ حد
الصلاح مع الضميمة أيضا ، فلو لم يوجد الآبق ولم تخرج الثمار أو خرجت
وفسدت كان الثمن في مقابلة الضميمة ، مع أن تلك الأثمان أضعاف ثمن هذه الضميمة
واقعا والعقد أولا ، وبالذات لم يتوجه إلى بيع الضميمة بهذا الثمن الزائد البتة ،
وهم عليهمالسلام قد حكموا بصحة البيع فيها بهذا الثمن ، وإن كان الغرض
من ضمها إنما هو التوصل إلى صحة بيع تلك الأشياء.
(ومنها) الأخبار
الدالة على أن العقد المقترن بالشرط الفاسد صحيح وإن بطل الشرط كما هو أحد القولين
في المسألة ، وجمهور الأصحاب وإن كانوا بناء على هذه القاعدة حكموا ببطلان العقد
من أصله ، لأن المقصود بالعقد هو المجموع وأصل العقد مجردا عن الشرط غير مقصود
فيكون باطلا ، لأن العقود تابعة للقصود
__________________
فما كان مقصودا غير صحيح ، وما كان صحيحا غير مقصود ، إلا أن الأخبار ترده
في جملة من الأحكام كما في صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام «في الرجل يتزوج المرأة بمهر إلى أجل مسمى ، فإن جاء بصداقها إلى أجل مسمى
فهي امرأته ، وإن لم يأت بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل ، وذلك شرطهم عليه
حين أنكحوه ، فقضى للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم». ونحوه صحيحته الأخرى
أيضا.
وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام الواردة في بريرة وأنها كانت مملوكة لقوم فباعوها عائشة
واشترطوا أن لهم ولاءها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الولاء لمن أعتق.
وروى الكليني عن الوشاء عن الرضا عليهالسلام قال : «سمعته يقول : لو أن رجلا تزوج امرأة وجعل مهرها
عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا ، والذي جعل لأبيها فاسدا».
والسيد السند
صاحب المدارك في شرح النافع حيث إنه من القائلين بهذه القاعدة التجأ في الواجب عن
صحيحتي محمد بن قيس إلى قصرهما على مورديهما بعد أن حكم أنهما في حكم رواية واحدة
، ولم يعلم أن الدلالة على ما ذكرناه لا ينحصر فيهما ، مع أنه قد اعترف بما ذكرناه
في رواية الوشاء المذكورة فقال : ويستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله
على هذا الشرط الفاسد ، انتهى.
(ومنها) الأخبار
الدالة على أن عقد المتعة مع عدم ذكر الأجل فيه ينقلب دائما كما في موثقة عبد الله
بن بكير قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : إن سمى الأجل فهو متعة ، وإن لم يسم الأجل فهو نكاح
بات».
__________________
ونحوها رواية
أبان بن تغلب ورواية هشام بن سالم كما تقدم جميع ذلك في المسألة المذكورة.
وقد استشكل
جملة من متأخري المتأخرين بناء على هذه القاعدة في العمل بهذه الأخبار ، وهو مجرد
استبعاد عقلي في مقابلة النصوص ، فإن الدلالة على هذا الحكم غير مختص لهذه الأخبار
لما عرفت مما تلوناه من الأخبار المذكورة ، فإنها صريحة في رد القاعدة المذكورة
وبمضمونها قال الأصحاب : فلا وجه لهذا الاستشكال ولا مستند لهذه القاعدة إلا مجرد
العقل ، وإن دل بعض الأخبار في بعض الجزئيات على ما تضمنته ، إلا أنه ليس على وجه
كلي يوجب كونه قاعدة كلية ، والأحكام الشرعية توقيفية تدور مدار الأدلة الشرعية
وجودا وعدما ، وإن اشتهر بينهم ـ رضوان الله عليهم ـ تقديم الأدلة العقلية على
الأدلة النقلية حتى أنهم في الكتب الاستدلالية تراهم في جملة الأحكام إنما يبدأون
بالأدلة العقلية ثم يردفونها بالأدلة النقلية ، وهو غلط محض كما أوضحناه بما لا
مزيد عليه في جملة من زبرنا.
وبالجملة فإن
الظاهر مما تلوناه من الأخبار المذكورة هو عدم الاعتماد على هذه القاعدة ، إلا أن
تحمل على ما قدمنا ذكره آنفا من القصد ولو في الجملة ، وبه تنطبق على هذه الأخبار
كما لا يخفى على ذوي الأفكار ، وفي هذه المسألة توهمات أخر قد بينا فسادها في
كتابنا «الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية» من أحب الوقوف عليها فليرجع إليه.
(ومنها) ما لو
كان عليه دين قد بريء منه بالأداء إلى صاحبه ، أو إبراء صاحبه من ذلك الدين فادعى
عليه وخاف من دعوى الأداء أو الإبراء أن تنقلب اليمين إلى المدعي لعدم البينة
فأنكر الاستدانة من رأس ، فإنه يجوز له أن يحلف على ذلك بشرط التورية ليخرج من
الكذب على ما صرح به الأصحاب من غير خلاف يعرف.
__________________
والمراد
بالتورية بأن يقصد بمدلول اللفظ إلى أمر غير ما يدل ظاهر اللفظ بأن يقصد بقوله «ما
استدنت منك» نفي الاستدانة في مكان مخصوص أو زمان مخصوص غير الزمان أو المكان الذي
وضعت فيه الاستدانة واقعا ، أو يقصد نوعا من المال غير الذي استدانه فينوي في حال
حلفه على أحد هذه الوجوه ما كان الضرورة حيث إنه بريء الذمة واقعا غير مخاطب
بالأداء شرعا. هذا إذا كان المدعى عليه مظلوما كما عرفت ، فإن التورية في يمينه
لدفع ذلك الظلم حائزة شرعا.
وأما لو كان
المدعي محقا فأنكر المدعى عليه وحلف موريا بها يخرجه عن الكذب فإنه لا تفيده التورية
هنا ، لأن اليمين هنا على نية المدعي وقصده دون المدعى عليه ، فيترتب على هذه
اليمين ما يترتب على من حلف بالله كاذبا من الإثم والمؤاخذة.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن صفوان قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه ، قال :
اليمين على الضمير».
وما رواه في
الكافي والفقيه عن إسماعيل بن سعد الأشعري في الصحيح عن الرضا عليهالسلام مثله.
وما رواه في
الكافي عن مسعدة بن صدقة قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : وسئل عما يجوز وما لا يجوز في النية على الإضمار
في اليمين فقال :
قد يجوز في
موضع ولا يجوز في آخر ، فأما ما يجوز فإذا كان مظلوما فيما حلف
__________________
عليه ونوى اليمين فعلى نيته ، وأما إذا كان ظالما فاليمين على نية المظلوم.
أقول : وبما دل
عليه الخبر الثاني يجب تخصيص الخبر الأول بضمير المظلوم فقوله «اليمين على الضمير»
يعني ضمير المظلوم ، وهو خاص بالصورة الاولى من الصورتين المتقدمتين ، ومن الخبر
الثاني يظهر أن التورية في الصورة الثانية لا تفيد صاحبها فائدة لأنه عليهالسلام حكم في هذه الصورة بأن اليمين على نية المظلوم وقصده ،
فلا أثر للتورية حينئذ في هذه الصورة من الظالم ، ويظهر من جملة من الأخبار جواز
الحلف في مثل هذه المقام والاخبار بغير الواقع وإن لم يرتكب التورية ، وموردها ما
إذا لم يكن التوصل إلى حقه أو دفع الضرر عن نفسه إلا بتلك اليمين الكاذبة فإنه
يجوز له الحلف والحال هذه ، وما نحن فيه من قبيل الثاني وهو دفع الضرر عن نفسه.
ومن الأخبار
المشار إليها ما رواه في الفقيه بطريقه إلى ابن بكير عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليهالسلام : نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم
ويخلون سبيلنا ، ولا يرضون منا إلا بذلك ، قال : فاحلف لهم ، فهو أحلى من التمر
والزبد».
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن الوليد بن هشام المرادي ـ وهو مهمل ـ قال
: «قدمت من مصر ومعي رقيق ، ومررت بالعشار فسألني ، فقلت : هم أحرار كلهم. فقدمت
المدينة فدخلت على أبي الحسن عليهالسلام فأخبرته بقول العشار ، فقال : ليس عليك شيء».
وما رواه في
الفقيه في الصحيح عن الحلبي قال : «سألته عن الرجل يحلف
__________________
لصاحب العشور ، يجوز بذلك ماله؟ قال : نعم».
وما رواه في
الكافي عن محمد بن مسعود الطائي قال : «قلت لأبي الحسن عليهالسلام إن أمي تصدقت علي بدار لها ـ أو قال : بنصيب لها في دار
ـ فقالت لي : استوثق لنفسك ، فكتبت إني اشتريت وأنها قد باعتني وأقبضت الثمن ،
فلما ماتت قال الورثة : احلف إنك اشتريت ونقدت الثمن ، فإن حلفت لهم أخذته ، وإن
لم أحلف لهم لم يعطوني شيئا ، قال : فقال : احلف وخذ ما جعلت لك».
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن محمد بن أبي الصباح قال : «قلت لأبي الحسن عليهالسلام : إن أمي تصدقت علي بنصيب لها في دار ، فقلت لها : إن
القضاة لا يجيزون هذا ، ولكن اكتبيه شراء ، فقالت : اصنع من ذلك ما بدا لك في كل
ما ترى أنه يسوغ لك ، فتوثقت ، فأراد بعض الورثة أن يستحلفني أني قد نقدتها الثمن
ولم أنقدها شيئا ، فما ترى؟ فقال : احلف لهم».
واحتمال تقييد
إطلاق هذه الأخبار بالأولة وإن أمكن إلا أن الظاهر أنه لا يخلو من بعد ، ومن أراد
الاطلاع على ما يزيد ما ذكرنا من المواضع التي ذكرها الأصحاب في أمثلة الاحتيال فليراجع
إلى مطولاتهم.
الفصل الثالث في العدد :
جمع عدة ، وهي
على ما ذكره الجوهري أيام أقراء المرأة. ونحوه في القاموس ، وزاد أيام حدادها على الزوج. وفي النهاية الأثيرية عدة المرأة
__________________
المطلقة والمتوفى عنها زوجها ما تعده من أيام أقرائها وأيام حملها ، أو
أربعة أشهر وعشر ليال. وعرفها شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بأنها شرعا اسم لمدة معدودة تتربص فيها المرأة لمعرفة
براءة رحمها أو للتعبد أو التفجع على الزوج ، وشرعت صيانة للأنساب وتحصينا لها عن
الاختلاط ، والأصل في وجوب العدة قبل الإجماع الآيات القرآنية والأخبار المعصومية عليهمالسلام.
قال عز شأنه «وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»
«وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ
مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي
لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ»
«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً» «ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها» .
وأما الأخبار
فهي متواترة متكاثرة وستمر بك ـ إن شاء الله تعالى ـ في الأبحاث الآتية.
قال في المسالك
واعلم أن المدة المستدل بمضيها على براءة الرحم تتعلق تارة بالنكاح ووطء
الشبهة وتشتهر باسم العدة ، واخرى بملك اليمين ، وإما حصولا في الابتداء أو زوالا
في الانتهاء ، وتشتهر باسم الاستبراء ، والنوع الأول منه ما يتعلق بفرقة بين
الزوجين ، وهو حي كفرقة الطلاق واللعان والفسوخ ، ويشمله عدة الطلاق لأنه أظهر
أسباب الفراق ، وحكم العدة وطء الشبهة حكمها ، وإلى ما يتعلق بفرقة تحصل بموت
الزوج وهي عدة الوفاة ، انتهى.
أقول : والكلام
في هذا الفصل يقع في مقامات : الأول : أجمع العلماء من الخاصة والعامة على أنه لا عدة على الزوجة الغير المدخول
بها ، سواء بانت بطلاق أو فسخ
__________________
لأن الغرض منها براءة الرحم ، نعم خرج من هذا الحكم المتوفى عنها زوجها
للاتفاق نصا وفتوى على وجوب العدة في الحال المذكور.
ومما يدل على
نفي العدة في غير الوفاة الآية والأخبار المتكاثرة. قال الله عزوجل «ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها».
ومن الأخبار في
ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل إذا طلق امرأته ولم يدخل بها ،
فقال : قد بانت منه وتزوج من ساعتها إن شاءت».
وما رواه في
الكافي في الصحيح عن زرارة عن أحدهما عليهماالسلام «في رجل تزوج امرأة بكرا ثم طلقها قبل أن يدخل بها ثلاث تطليقات في كل شهر
تطليقة ، قال : بانت منه في التطليقة الاولى واثنتان فضل ، وهو خاطب يتزوجها متى
شاءت وشاء بمهر جديد ، قيل له : فله أن يراجعها إذا طلقها تطليقة واحدة قبل أن
تمضي ثلاثة أشهر؟ قال : لا ، إنما كان يكون له أن يراجعها لو كان دخل بها أولا ،
فأما قبل أن يدخل بها فلا رجعة له عليها قد بانت منه ساعة طلقها».
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فليس
عليها عدة تزوج من ساعتها إن شاءت ، وبينهما تطليقة واحدة ، وإن كان فرض لها مهرا
فلها نصف ما فرض». إلى غير ذلك من الأخبار.
وأما ما ذكرنا من
خروج عدة الوفاة عن هذا الضابط المذكور فستأتي
__________________
الأخبار الدالة عليه عند ذكر المسألة إن شاء الله تعالى.
بقي الكلام هنا
في مواضع بها يتم تنقيح المقام : الأول : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب ـ إذ لم
ينقل هنا خلاف في الباب ـ في أن المراد بالدخول الوطء قبلا أو دبرا وطئا موجبا
للغسل.
واستدل على ذلك
بقول أبي عبد الله عليهالسلام في حسنة الحلبي في رجل دخل بامرأة «إذا التقى الختانان وجب المهر
والعدة». وبهذا المضمون أخبار عديدة.
وصحيحة عبد
الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ملامسة النساء هو الإيقاع».
وفي الصحيح عن
عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سأله أبي وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة فأدخلت
إليه فلم يمسها ولم يصل إليها حتى طلقها ، هل عليها عدة منه؟ فقال : إنما العدة من
الماء ، قيل له : فإن كان واقعها في الفرج ولم ينزل؟ فقال : إذا أدخله وجب الغسل
والمهر والعدة».
وفي الموثق عن
يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته يقول : لا يوجب المهر إلا الوقاع في الفرج».
إلى غير ذلك من
الأخبار التي من هذا القبيل ، وعندي فيما ذكروه ـ رحمة الله عليهم ـ من شمول
الدخول المترتبة عليه هذه الأحكام المذكورة في هذه الأخبار للوطء في الدبر إشكال ،
فإنى لم أقف على نص صريح في ذلك سيما مع ما تقدم من الخلاف نصا وفتوى في إيجاب
الوطء في الدبر للغسل كما تقدم في كتاب الطهارة مع ترجيح العدم كما تقدم ،
والاستناد في ذلك إلى هذه الأخبار
__________________
ونحوها لا يخلو من غموض.
قال السيد
السند في شرح النافع بعد استدلال الأصحاب بصحيحة عبد الله ابن سنان الثانية :
وربما تناول هذه الرواية بإطلاقها الوطء في الدبر ، انتهى.
ويضعف بأنه من
المقرر في كلامهم كالقاعدة الكلية عندهم أن الإطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد
المتكثرة الشائعة ، فإنها هي التي يحمل عليها الإطلاق ويتبادر إلى الفهم دون
الفروض النادرة ، ولا ريب أن الفرد الشائع في الوطء إنما هو الجماع في القبل لأنه
هو المندب إليه والمحثوث إليه سيما مع كراهة الآخر ، بل قيل بتحريمه. وبالجملة
فالمسألة عندي لا تخلو من توقف وإشكال.
الثاني : نقل
عن جمع من الأصحاب أنه لا فرق بين وطء الكبير والصغير وإن نقص سنه ، عن زمان إمكان
التولد منه عادة لإطلاق النص.
قال في المسالك
: واعلم أنه لا فرق بين وطء الصبي القاصر عن سن من يصلح للولادة له وغيره لوجود
المقتضي ، وهو الوطء الذي جعل مناطا لها كوطء الكبير بتغيب الحشفة خاصة من غير
إنزال ، ويتغلب جانب التعبد هنا نظرا إلى تعليق الحكم بالوجه المنضبط ، انتهى.
وعندي في
المسألة نوع توقف لما عرفت من أن الطلاق في الأخبار إنما تحمل على الأفراد الشائعة
المتعارفة المتكررة ، وهي هنا البالغ دون الصغير ، فإنه نادر بل مجرد فرض ، والحمل
على البالغ الذي أولج من غير إنزال ـ كما ذكره ودلت عليه صحيحة عبد الله بن سنان
الثانية ـ لا يخرج عن القياس.
والأحكام
الشرعية كما قدمنا ذكره في غير موضع منوطة بالأدلة الصريحة الواضحة وهي هنا خفية
وغير لائحة ، ويمكن الاستئناس لذلك بما تقدم في خبر الواسطي المذكور في صدر الفصل الأول الدال على عدم حصول التحليل
بالغلام الذي لم يحتلم حتى يبلغ ، فإن فيه إيماء إلى عدم ترتب الأحكام الشرعية على
__________________
نكاح غير البالغ ، التي من جملتها التحليل. وبالجملة فالحكم عندي غير خال
من شوب التوقف والاشكال.
الثالث : قد
صرح جماعة من الأصحاب منهم شيخنا في المسالك وسبطه في شرح النافع بأنه يلحق بالوطء
دخول المني المحترم في الفرج فيلحق به الولد إن فرض ، وتعتد بوضعه ، وظاهرهم عدم
وجوب العدة بدون الحمل هنا ، وعندي فيه توقف أيضا لعدم الوقوف على نص يصلح دليلا
لهذا الإلحاق.
الرابع : ظاهر
كلام الأصحاب ـ وبه صرح في المسالك ـ وجوب العدة على مدخولة الخصي ، فإنه وإن لم
ينزل ولكنه يولج فيكون بمنزلة الفحل الذي يولج ولا ينزل ، والمعتبر في هذا الباب
هو الإيلاج خاصة كما عرفت ، وعليه دلت الأخبار.
ويدل على ما
ذكروه من وجوب العدة هنا ما رواه في الكافي والفقيه عن أبي عبيدة في الصحيح قال : «سئل أبو جعفر عليهالسلام عن خصي تزوج امرأة وفرض لها صداقا وهي تعلم أنه خصي ،
فقال : جائز ، فقيل : فإنه مكث معها ما شاء الله ثم طلقها ، هل عليها عدة؟ قال :
نعم ، أليس قد لذ منها ولذت منه» الحديث.
إلا أنه قد روى
الشيخ في التهذيب في الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى
__________________
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : «سئل الرضا عليهالسلام عن خصي تزوج امرأة على ألف درهم ثم طلقها بعد ما دخل
بها ، قال : لها الألف الذي أخذت منه ولا عدة عليها».
وجمع المحدث
الكاشاني في الوافي والمفاتيح بين الخبرين بحمل العدة في الخبر الأول على
الاستحباب.
وفيه أن وجوب
العدة هو مقتضى القواعد الشرعية والضوابط المرعية المستفادة من الأخبار المعصومية
لما عرفت من دلالة الأخبار على أن مناط العدة هو الإيلاج وإن لم يحصل إنزال ،
وإطلاق الأخبار شامل للخصي وغيره ، مؤيدا ذلك باتفاق الأصحاب على الحكم المذكور ،
وتخرج صحيحة أبي عبيدة المذكورة شاهدة على ذلك ، فالواجب جعل التأويل في جانب
الرواية الثانية المخالفة لتلك القواعد المذكورة ، لا الاولى.
ولو كان الرجل
مجبوبا ـ وهو مقطوع الذكر وسليم الأنثيين ـ فالمشهور أنه لا عدة على المرأة لعدم
حصول الدخول الذي هو مناط ذلك.
__________________
ونقل عن الشيخ
في المبسوط وجوب العدة محتجا بإمكان المساحقة. ورد بأن مجرد الإمكان غير كاف في
الوطء الكامل.
والحق في
الجواب أن الحكم بالوجوب يتوقف على الدليل ، وغاية ما دلت عليه الأخبار هو إدخال
الذكر على الوجه المتقدم ، وهو غير حاصل. نعم لو ظهر بها حمل لحقه الولد ، واعتدت حينئذ
بوضعه كما ذكره الأصحاب.
وأما الممسوح
الذي لم يبق له شيء ولا يتصور منه دخول فقد صرح الأصحاب بأنه لو أتت منه بولد لم
يلحقه على الظاهر ، ولا يجب على زوجته منه عدة ، وربما قيل : حكمه حكم المجبوب ،
وهو بعيد.
الخامس : لا
عدة للحامل من الزنا : بلا خلاف ، فيجوز لها التزويج قبل الوضع ، وأما مع عدمه
فالمشهور أنه كذلك ، لأن الزنا لا حرمة له ، وبه علل الأول أيضا وأثبتها العلامة
في التحرير. قال في المسالك : ولا بأس به ، حذرا من اختلاط المياه وتشويش الأنساب.
أقول : وهذا
القول وإن ندر فهو المختار لما دل عليه من الأخبار ، ومنها ما رواه في الكافي عن إسحاق بن جرير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : الرجل يفجر بالمرأة ثم يبدو له في
تزويجها ، هل يحل له ذلك؟ قال : نعم إذا هو اجتنبها حتى تنقضي عدتها باستبراء
رحمها من ماء الفجور فله أن يتزوجها ، وإنما يجوز له تزويجها بعد أن يقف على
توبتها».
وما رواه الحسن
بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول عن أبي جعفر محمد بن علي الجواد عليهالسلام «أنه سئل عن رجل نكح امرأة على زنا ، أتحل له أن يتزوجها؟ فقال : يدعها حتى
يستبرئها من نطفته ونطفة غيره ، إذ لا يؤمن منها أن يكون
__________________
قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه ، ثم يتزوج بها إذا أراد ، فإنما
مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراما فأكل منها حلالا».
وبذلك يظهر لك
ما في قولهم إن الزنا لا حرمة له ، وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك ويأتي إن شاء الله في المباحث الآتية ما يشير إليه
أيضا.
السادس : المشهور
أنه لا تجب العدة بالخلوة ، ونقل عن ابن الجنيد القول بالوجوب حيث قال على ما نقله
عنه السيد السند في شرح النافع : الأغلب في من خلا بزوجته ، ولا مانع له عنها وقوع
الوطء إن كانت ثيبا ، والالتذاذ بما ينزل به الماء إذا كانت بكرا ، وإن كان زمان
اجتماعهما يمكن ذلك فيه حكم عليه بالمهر ، وعليها بالعدة إن وقع الطلاق ، إلا أنه
ربما عرض أمور لا يمكن إشهادة على إيقاعه والإنسان على نفسه بصيرة.
أقول : قد تقدم
تحقيق الكلام في هذا المقام في بحث المهور في كتاب النكاح وملخصه أن الموجب للمهر والعدة إنما هو المواقعة دون
مجرد الخلوة إلا في مقام التهمة بأن يخلو بها ، وتدل القرائن على الوقاع ، ومع هذا
يعترف الزوجان بعدمه ، فإنه لا يقبل قولهما لقيام التهمة.
وأما الأخبار
الدالة بظاهرها على ثبوت ذلك بمجرد الخلوة فسبيلها الحمل على التقية دون ما ذكره
أصحابنا من التأويل فإنه بعيد كما أوضحناه ثمة.
المقام
الثاني : في
المستقيمة الحيض ، وهي تعتد بثلاثة أقراء ، وهي الأطهار على الأشهر الأظهر إذا
كانت حرة سواء كانت تحت حر أو عبد. وتفصيل هذا الإجمال على وجه يتضح به الحال يقع
في مواضع :
__________________
الأول : القرء
ـ بالفتح والضم ـ يجمع على أقراء وقروء ، سواء كان بمعنى الطهر أو الحيض ، ونقل عن
بعض أهل اللغة أنه بالفتح الطهر ويجمع على فعول كحرث وحروث وضرب وضروب ، والقرء
بالضم الحيض ويجمع على أقراء مثل قفل وأقفال.
قال في المسالك
بعد نقل ذلك : والأشهر عدم الفرق بين الضم والفتح وأنه يقع على الحيض
والطهر جميعا بالاشتراك اللفظي أو المعنوي.
أقول : في كتاب
المصباح المنير للفيومي : والقرء فيه لغتان : الفتح وجمعه قرء وأقراء
مثل فلس وإفلاس وأفلس ، والضم ويجمع على أقراء مثل قفل وأقفال ، قال أئمة اللغة :
ويطلق على الطهر والحيض ، وحكاه ابن فارس أيضا. انتهى ، وهو ظاهر في القول المشهور
كما أشار إليه شيخنا المذكور.
وكيف كان فقد
اختلفوا في إطلاق هذا اللفظ عليهما فقيل : إنه حقيقة في الطهر مجاز في الحيض ، فإن
القرء بمعنى الجمع والطهر هو الذي يجمع الدم في بدنها ويحبسه في الرحم ، وقيل
بالعكس لأن المرأة لا تسمى من ذوات الأقراء إلا إذا حاضت ، وقيل : الأشهر الأظهر
أنه مشترك بينهما كسائر الأسماء المشتركة ، ورجح الأولان بأن المجاز خير من
الاشتراك ، ويرده نص أهل اللغة على الاشتراك كما عرفت من عبارة المصباح المنير ،
ولا رجحان للمجاز عليه بعد ثبوته.
الثاني :
المراد بالمستقيمة الحيض هي من كان الحيض يأتيها على عادة النساء في كل شهر مرة ،
وفي معناها من كانت تعتاد الحيض فيما دون الثلاثة أشهر ، فإن حكمها الاعتداد
بالأقراء كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وفسرها شيخنا
في المسالك بأنها معتادة الحيض وقتا وعددا ، وفي حكمها
__________________
معتادته وقتا خاصة وأورد عليه بأنه غير واضح ، لأن من اعتادت الحيض فيما
زاد على ثلاثة أشهر لا تعتد بالأقراء وإن كانت لها عادة وقتا وعددا ، انتهى وهو
جيد.
الثالث : لا
خلاف بين العلماء من الخاصة والعامة في أن الحرة المطلقة المدخول بها ومن في
معناها إذا كانت على الوجه المتقدم تعتد بثلاثة أقراء كما قال عز شأنه «وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»
وهو خبر في معنى الأمر.
وإنما الخلاف
في المراد من الآية وأنه أي المعنيين الطهر أو الحيض؟ لما عرفت من إطلاقه عليها ،
والمعروف من مذهب الأصحاب أنه الطهر : وعليه تدل جملة من الأخبار ، وقيل : إنه
الحيض ، وعليه تدل جملة منها أيضا.
فمن الأخبار
الدالة على الأول ما رواه في الكافي عن زرارة في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قلت له : أصلحك الله رجل طلق امرأته على طهر من
غير جماع بشهادة عدلين ، فقال : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلت
للأزواج ، قلت له : أصلحك الله إن أهل العراق يروون عن علي عليهالسلام أنه قال : هو أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة
الثالثة ، فقال : كذبوا».
وعن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام في الصحيح قال : «المطلقة إذا رأت الدم من الحيضة
الثالثة فقد بانت منه».
وعن زرارة في الموثق بأسانيد عديدة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «أول دم رأته
__________________
من الحيضة الثالثة فقد بانت منه».
وعن إسماعيل
الجعفي في الموثق عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته ، قال : هو أحق برجعتها
ما لم تقع في الدم من الحيضة الثالثة».
وعن زرارة في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : «المطلقة ترث وتورث حتى ترى الدم الثالث : فإذا
رأته فقد انقطع».
وعن زرارة في الموثق عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سمعته يقول : المطلقة تبين عند أول قطرة من الدم
في القرء الأخير».
وعن إسماعيل
الجعفي في الموثق عن أبي جعفر عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته ، فقال : هو أحق برجعتها ما لم تقع في الدم الثالث».
وما رواه في
التهذيب عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليهالسلام : إني سمعت ربيعة الرأي يقول : إذا رأت الدم من الحيضة
الثالثة بانت منه ، وإنما القرء ما بين الحيضتين ، وزعم أنه إنما أخذ ذلك برأيه ،
فقال أبو جعفر عليهالسلام : كذب ، لعمري ما قال ذلك برأيه ولكنه أخذه عن علي عليهالسلام ، قال : قلت : وما قال علي فيها؟ قال : كان يقول : إذا
رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها ولا سبيل له عليها ، وإنما القرء ما
بين الحيضتين ، وليس لها أن تتزوج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة».
وعن محمد بن
مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته متى تبين منه؟ قال :
حين يطلع الدم من الحيضة الثالثة تملك نفسها ، قلت : فلها
__________________
أن تتزوج في تلك الحال؟ قال : نعم ، ولكن لا تمكن من نفسها حتى تطهر من
الدم».
وما رواه في
الكافي عن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «المطلقة تبين عند أول قطرة من الحيضة الثالثة «قال
: قلت : بلغني أن ربيعة الرأي قال : من رأيي أنها تبين عند أول قطرة ، فقال : كذب
ما هو من رأيه ، إنما هو شيء بلغه عن علي عليهالسلام».
وعن زرارة في الصحيح أو الحسن قال : «سمعت ربيعة الرأي يقول : إن
من رأيي أن الأقراء التي سمى الله عزوجل في القرآن إنما هو الطهر بين الحيضتين ، فقال : كذب لم
يقله برأيه ، ولكنه إنما بلغه عن علي عليهالسلام ، فقلت : أصلحك الله كان علي عليهالسلام يقول ذلك؟ فقال : نعم إنما القرء الطهر تقرأ فيه الدم
فتجمعه فإذا جاء الحيض دفعته».
وعن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «القرء ما بين الحيضتين».
وعن محمد بن
مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام في الصحيح أو الحسن مثله.
وعن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام في الحسن قال : «الأقراء هي الأطهار».
وعن عبد الرحمن
بن أبي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المرأة إذا طلقها زوجها متى تكون هي أملك بنفسها؟
قال : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها ، قلت : فإن عجل الدم عليها
قبل أيام قرئها؟ فقال : إذا كان الدم قبل عشرة أيام فهو أملك بها وهو من الحيضة
التي طهرت منها ، فإن
__________________
كان الدم بعد العشرة أيام فهو من الحيضة الثالثة وهي أملك بنفسها».
وما رواه الفضل
بن الحسن الطبرسي في كتاب مجمع البيان والعياشي في تفسيره عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «أن عليا عليهالسلام كان يقول : إنما القرء الطهر يقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا
جاء الحيض قذفته ، قلت : رجل طلق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين ، قال :
إذا دخلت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها وحلت للأزواج ، قلت : إن أهل العراق يروون
أن عليا عليهالسلام يقول : إنه أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة
، فقال : كذبوا».
هذا ما وقفت
عليه من الأخبار الدالة على القول المشهور وهي كما ترى فيه واضحة الظهور ، وما دل
منها كما هو المصرح به في أكثرها على أن انقضاء الأطهار الثلاثة تحصل بالدخول في
الدم الثالث مبني على عد الطهر الذي طلقت فيه ، وأنه في الغالب يكون الحيض بعده
متأخرا عنه بزمان وإن قصر ، إلا فلو فرض حصول أول الحيض بعد انقضاء صيغة الطلاق
بلا فصل فإنها لا تخرج من العدة برؤية الدم الثالث حيث إنه لم يسبق لها إلا طهران
خاصة ، بل لا بد من الطهر بعد الدم الثالث ، وبذلك صرح الشيخان وغيرهم كما سيأتي
ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما ما يدل
على القول الآخر فمن ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة أقراء وهي
ثلاث حيض».
وعن أبي بصير وهو المرادي في الصحيح مقطوعا مثله ، وحملهما الشيخ في
التهذيبين تارة على التقية ، واخرى على عدم استيفاء الثالثة.
__________________
وعن القداح في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام قال : «قال علي عليهالسلام : إذا طلق الرجل المرأة فهو أحق بها ما لم تغتسل من
الثالثة».
وعن إسحاق بن
عمار عمن حدثه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «جاءت امرأة إلى عمر فسألته عن طلاقها ، قال :
اذهبي إلى هذا فاسأليه ـ يعني عليا عليهالسلام ـ فقالت لعلي عليهالسلام : إن زوجي طلقني ، قال : غسلت فرجك؟ قال : فرجعت إلى
عمر فقال : أرسلتني إلى رجل يلعب ، قال : فردها إليه مرتين كل ذلك ترجع فتقول :
يلعب ، قال : فقال لها : انطلقي إليه فإنه أعلمنا ، قال : فقال لها علي عليهالسلام : غسلت فرجك؟ قالت : لا ، قال : فزوجك أحق ببضعك ما لم
تغسلي فرجك».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته تطليقة على طهر من غير جماع يدعها حتى تدخل في قرئها
الثالث ويحضر غسلها ثم يراجعها ويشهد على رجعتها ، قال : هو أملك بها ما لم تحل
لها الصلاة».
وعن الحسن بن
زياد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «هي ترث وتورث ما كان له الرجعة من التطليقتين
الأولتين حتى تغتسل».
هذا ما حضرني
من الأخبار الدالة على القول الآخر ، والشيخ كما عرفت قد حملها على التقية ، وحمل
خبر عمر على التقية في الفتوى أو في الرواية.
ونقل عن شيخه
المفيد ـ رحمة الله عليه ـ أنه قال : إذا طلقها في آخر طهرها اعتدت بالحيض ، وإن
طلقها في أوله اعتدت بالأطهار ، وجعله وجه جمع بين الأخبار ، ثم قال : وهذا وجه
قريب غير أن الأولى ما قدمناه.
__________________
أقول : لا يخفى
قرب ما قربه من تأويل الشيخ المفيد ، إلا أن الأخبار خالية من الإشارة إليه فضلا
عن الدلالة عليه ، والمعتمد هو الحمل على التقية كما يشير إليه صحيح زرارة المتقدم
في صدر الأخبار حيث كذب عليهالسلام أهل العراق فيما نقلوه عن علي عليهالسلام من جعل الأقراء هي الحيض بعد أن أسنده إليهم ، ونحوه
الرواية المنقولة من كتاب مجمع البيان وتفسير العياشي.
وقد تضمنت جملة
من الروايات المذكورة أن مذهب علي عليهالسلام إنما هو كون القرء بمعنى الطهر ، ولعل ما تضمنه خبر
المرأة التي سألت عمر هو مستند أهل العراق فيما نقلوه عن علي عليهالسلام من أن القرء بمعنى الحيضة ، إلا أنه ينافيه تكذيبه عليهالسلام فيما نقلوه.
واحتمل في
التهذيبين في خبر المرأة أن يكون على وجه إضافة المذهب إليهم
فيكون قول أبي عبد الله عليهالسلام : قال علي عليهالسلام : إن هؤلاء يقولون كذلك ، لا أنه يكون مخبرا في الحقيقة
عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال : وقد صرح أبو جعفر عليهالسلام في رواية زرارة وغيرها بأنهم كذبوا على علي عليهالسلام. انتهى ، وهو في مقام الجمع بين هذه الأخبار غير بعيد ،
وبه ترتفع المنافاة المتقدم ذكرها.
وبذلك يظهر أن
المعتمد هو القول المشهور لما عرفت من تضافر الأخبار به مؤيدة بفتوى الطائفة بذلك.
الرابع : لا
خلاف بين الأصحاب في أنها تحتسب بالطهر الذي طلقت فيه ، فيكون أحد الأطهار الثلاثة
الموجبة للخروج من العدة. قال السيد السند في شرح النافع : هذا الحكم مقطوع به في
كلام الأصحاب ، وظاهرهم أنه موضع وفاق أقول : وتدل عليه الأخبار المتقدمة الدالة
على أنها بالدخول في الدم الثالث فقد انقضت عدتها ، فإنه مني كما عرفت آنفا على
الاحتساب بالطهر الذي طلقت فيه كما أوضحناه آنفا لأن هذا هو الغالب ، فمن أجل ذلك
بني عليه
__________________
إطلاق الأخبار ، فإن وقوع الطلاق على وجه يكون الحيض بعده بلا فصل نادر أشد
الندور. ولو اتفق ذلك بأن حاضت بعد انتهاء لفظ الطلاق ولم يحصل زمان بين الطلاق
والحيض صح الطلاق لوقوعه في الطهر ، ولم يحسب ذلك الطهر من العدة ، لأنه لم يعقب
الطلاق بل يفتقر ذلك إلى ثلاثة قروء مستأنفة بعض الحيض.
الخامس : أطلق
المحقق في النافع انقضاء العدة في رؤية الدم الثالث كما هو ظاهر إطلاق الأخبار ،
وقيده في الشرائع بما إذا كانت عادتها مستقرة بالزمان ، قال : وإن اختلفت صبرت إلى
انقضاء أقل الحيض آخذا بالاحتياط ، ومرجعه إلى اشتراط أن يكون أول الحيض منضبطا ،
وفي ذلك إنما يكون في المعتادة وقتا وعددا وفي المعتاد وقتا ، أما لو اختلفت
عادتها وقتا ولم تكن مستقرة بأن كانت تحيض تارة في أول الشهر واخرى في وسطه وتارة
في آخره فإنها بالنسبة إلى أوله كالمضطربة فلا يحكم بانقضاء العدة إلا مع العلم
بكونه حيضا ، وذلك بعد مضي ثلاثة أيام.
أقول : الكلام
هنا مبني على ما تقدم تحقيقه في باب الحيض من كتاب الطهارة من أن المبتدئة والمضطربة هل تحيض برؤية الدم؟ أو
تستظهر للعبادة بأن لا تتحيض إلا بعد مضي ثلاثة أيام؟ قولان ، وفي المسألة قول
ثالث اختاره السيد السند في المدارك ، وهو أنها تتحيض برؤية الدم إذا كان بصفة دم
الحيض ، وإلا فإنها إنما تتحيض بعد الثلاثة الأيام ، فعلى القول بأنها تتحيض بمجرد
رؤية الدم جرى الإطلاق في عبارة النافع ، وهو أنها تخرج من العدة برؤية الدم
الثالث للحكم بكونه حيضا بمجرد رؤية الدم بعد الطلاق ، وعلى القول الثاني لا تخرج
من العدة إلا بعد مضي الثلاثة لتحقق كونه حيضها بعدها ، واحتمال عدم الحيض قبل
إتمامها.
__________________
ويحتمل في
عبارة الشرائع أنه وإن قلنا بأن المضطربة وأختها تتحيضان بمجرد رؤية الدم إلا أن
الأحوط للعدة الأخذ بالقول الآخر ، وهذا هو الظاهر من العبارة فإن التعبير
بالاحتياط إنما ينطبق على هذا المعنى ، والذي حققناه في باب الحيض كما تقدم في
كتاب الطهارة أنه لا دليل على اعتبار التربص ثلاثة أيام كما قالوه ، والأخبار
الواردة في المسألة صريحة في التحيض ، بمجرد رؤية الدم في المضطربة والمبتدئة ،
وحينئذ فلا إشكال ، وما ادعى من الاحتياط هنا يتوقف على وجود الدليل على اعتبار
الثلاثة في تلك المسألة ، وعلى هذا جرى إطلاق أخبار المسألة هنا كما لا يخفى.
السادس : قد
صرح الأصحاب بأن أقل زمان تنقضي به العدة ستة وعشرون يوما ولحظتان ، واللحظة
الأخيرة ليست من العدة وإنما هي دالة على الخروج.
وبيانه : أنه
يمكن أن يفرض أن يطلقها وقد بقي من الطهر لحظة بعد الطلاق ، ثم تحيض أقل الحيض
ثلاثة أيام ، ثم تطهر أقل الطهر عشرة ، والجميع ثلاثة عشر يوما ولحظة وقد حصل لها
طهران ، ثم تحيض أقل الحيض ثلاثة أيام ، ثم تطهر أقل الطهر عشرة ، فهذه ثلاثة عشر
اخرى ، والجميع ستة وعشرون يوما ولحظة ، ثم تحيض بعد تمام العشرة الأخيرة وبالحيض
لحظة من أوله يتبين انقضاء الطهر الثالث وتمامه ، فتكون هذه اللحظة الأخيرة من
الحيض كاشفة عن الخروج من العدة ، ولا مدخل لها في العدة لانقضائها بالطهر الثالث
، وحينئذ فأقلها في الحقيقة ستة وعشرون يوما ولحظة ، وهي التي من أولها لا غير ،
وقيل بأن اللحظة الأخيرة جزء من العدة ، ونسب إلى الشيخ لتوقف انقضاء العدة عليها
فكانت كغيرها من الأجزاء ، ولا ريب في ضعفه ، فإن مجرد توقف انقضاء العدة عليها لا
يستلزم كونها جزء منها ، وإنما هي كاشفة عن سبق انتهاء الطهر الثالث الذي هو نهاية
العدة ومظهر الخلاف في الرجوع في تلك اللحظة ، فتصح على قول الشيخ المذكور ، لأنها
من العدة وتبطل على المشهور ، وكذا فيما لو
تزوجت بغيره ، فيها فيصح على المشهور ويبطل على قول الشيخ ، وفيما لو مات
الزوج فيها فعلى المشهور ينتفي الإرث وعلى قول الشيخ ترث.
هذا ، ومما ذكر
من أن أقل ما تنقضي به العدة المدة المذكورة مبني على الغالب ، وإن كان أيضا في حد
ذاته نادرا ، إلا أنه قد يتفق أيضا فيما هو أقل من ذلك ، بأن يطلقها بعد الوضع
وقبل رؤية دم النفاس بلحظة ، ثم ترى دم النفاس لحظة لأنه محسوب بحيضة وإن كان لحظة
كما تقدم في بابه ، فإذا رأت بعد الطلاق دم النفاس لحظة ثم مضى لها أقل الطهر ثم
رأت الدم ثلاثة أيام أقل الحيض ثم انقطع عشرة أيام ثم رأت الدم الثالث انقضت عدتها
بأول لحظة من الدم الثالث ، ومجموع ذلك ثلاثة وعشرون يوما وثلاث لحظات ، والكلام
في اللحظة الأخيرة هنا كما سبق من الدخول والخروج.
السابع : لو
اختلف الزوجان فادعت المرأة بقاء جزء من الطهر بعد الطلاق ليكون أول الأطهار
الثلاثة وتقصر بذلك العدة وأنكر الزوج ذلك بأن ادعى وقوع الحيض بعد الطلاق بلا
فاصلة لتكون الأطهار الثلاثة متأخرة عن الحيض فتطول مدة العدة ليتمكن من الرجوع
فيها ، والمعروف من كلام الأصحاب وعليه تدل ظواهر الآية والأخبار الدالة على
الرجوع إليها في الحيض والطهر أن القول قول المرأة هنا وإن كان معه أصالة بقاء
العدة واستصحاب حكم الزوجية ، إلا أنك قد عرفت أن دليل تقديم قولها أقوى ، للآية
والرواية ، وهي مقدمة على دليل الاستصحاب وإن كان حجة في هذا الباب ، لأن مرجعه
إلى الاستناد إلى عموم الدليل وإطلاقه.
بقي الكلام في
النفقة في المدة الزائدة على تقدير دعواه ، فمقتضى ما ادعته أنها لا تستحق فيها
نفقة لخروجها من العدة ، فإن كان قد دفعها إليه لم يرجع بها ، لأنه معترف
باستحقاقها لذلك ، فليس له انتزاعها ، وإن لم يكن دفعها لم يكن لها المطالبة بها
لاعترافها بعدم الاستحقاق.
قال في المسالك
بعد ذكر نحو ذلك : ويحتمل جواز أخذها منها في الأول لما تقدم من أن شرط استحقاق
المطلقة رجعيا النفقة بقاؤها على الطاعة كالزوجة ، وبادعائها البينونة لا يتحقق
التمكين من طرفها ، فلا تستحق نفقة على القولين ، فله المطالبة بها حينئذ ، فلا
يكون كالمال الذي لا يدعيه أحد لأن مالكه هنا معروف ، ويمكن الفرق بين عدم التمكين
المستند إلى دعوى البينونة وبينه على تقدير الاعتراف ببقاء العدة بالنسبة إليه ،
لأنها بزعمها ليست ناشزا في الأول بخلاف الثاني ، والأجود الأول ، انتهى.
المقام
الثالث : في
المسترابة ، وهي المسترابة الحيض أو الحمل ، وتسمى ذات الشهور ، وما يلحق بذلك من
الأحكام ، وفيه بحوث :
الأول : في المسترابة بالحيض ، وهي التي لا تحيض مع كونها في
سن من تحيض ، فإنها تعتد من الطلاق والفسخ ـ وفي معناهما وطء الشبهة ـ بثلاثة أشهر
إذا كانت حرة تحت عبد أو حر ، ولا فرق عندهم في كون انقطاع حيضها خلقيا أو لعارض
من حمل أو إرضاع أو مرض ، فإنها تعتد بالأشهر الثلاثة لظاهر عموم قوله عزوجل «وَاللّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ»
أي فعدتهن كذلك.
قال في كتاب
مجمع البيان للطبرسي «وَاللّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ»
فلا تدرون لكبر
ارتفع حيضهن أم لعارض «فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ» وهن اللواتي أمثالهن يحضن ، لأنهن لو كن في سن من لا
تحيض لم يكن للارتياب معنى ، وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهمالسلام ، انتهى.
__________________
وعلى هذا
فالريبة تتحقق بأن تكون في سن من تحيض ولا تحيض ، أما من لا تحيض مثلها فلا ريبة
فيها ، وحينئذ فيحمل قوله تعالى «وَاللّائِي لَمْ
يَحِضْنَ» على من كان انقطع الحيض عنها خلقة وطبيعة ، والظاهر أن
المراد من اليأس من الحيض في الآية ليس ما يتبادر من ظاهر اللفظ ، بل المراد منه
أن ينقطع عنها الدم ثلاثة أشهر فصاعدا ، فإن الاعتداد بالأشهر هو والذي سيقت له
الآية إنما يترتب على ما قلناه لا على اليأس منه بالكلية ، إذ لا عدة على اليائس.
وينبغي أن يعلم
أن ظاهر الآيات والأخبار أن الأصل في عدة الحامل الأقراء وأما الاعتداد بالأشهر
فإنما هو لفقد الأقراء ، قال عزوجل «وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»
وقال سبحانه «وَاللّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ»
إلى قوله «وَاللّائِي لَمْ
يَحِضْنَ» فاشترط في اعتدادهن بالأشهر فقد الأقراء من حيث عدم
الحيض.
وأما الأخبار
الواردة في المقام فهي مستفيضة ، ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن أو الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «أمران أيهما سبق بانت به المطلقة المسترابة
تستريب الحيض إن مرت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت به ، وإن مرت بها ثلاثة
حيض ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض. قال ابن أبي عمير : قال جميل :
وتفسير ذلك إن مرت ثلاثة أشهر إلا يوما فحاضت ، ثم مرت بها ثلاثة أشهر إلا يوما
فحاضت ، ثم مرت بها ثلاثة أشهر إلا يوما فحاضت ، فهذه تعتد بالحيض على هذا الوجه
ولا تعتد بالشهور ، وإن مرت ثلاثة أشهر بيض لم تحض فيها فقد بانت».
وما رواه في
الكافي عن زرارة في الموثق عن أحدهما عليهماالسلام قال : «أي
__________________
الأمرين سبق إليها فقد انقضت عدتها ، إن مرت بها ثلاثة أشهر لا ترى فيها
دما فقد انقضت عدتها ، وإن مرت ثلاثة أقراء فقد مضت عدتها».
وعن الحلبي في الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا ينبغي للمطلقة أن تخرج إلا بإذن زوجها حتى
تمضي عدتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تحض».
وعن داود بن
سرحان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة المطلقة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تكن
تحيض».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : «في التي تحيض في كل ثلاثة أشهر مرة أو في ستة أو
في سبعة أشهر ، والمستحاضة التي لم تبلغ الحيض والتي تحيض مرة وترتفع مرة والتي لا
تطمع في الولد والتي قد ارتفع حيضها وزعمت أنها لم تيأس والتي ترى الصفرة من حيض
ليس بمستقيم ، فذكر أن عدة هؤلاء كلهن ثلاثة أشهر».
وعن أبي العباس
قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق امرأته بعد ما ولدت وطهرت وهي امرأة لا ترى
دما ما دامت ترضع ، ما عدتها؟ قال : ثلاثة أشهر».
أقول : وقد
اشتركت هذه الأخبار في الدلالة على ما أشرنا إليه آنفا من أن الاعتداد بالأشهر إنما
هو مع عدم إمكان حصول الأقراء ، وأنه مع إمكان حصول الأقراء فأيهما سبق اعتدت به ،
وبه يظهر أن المراد باليأس في الآية الذي رتب عليه الاعتداد بالأشهر إنما هو
انقطاع الدم ثلاثة أشهر فصاعدا كما تقدم ذكره ، وعليه دلت الأخبار.
بقي هنا شيء
وهو أن ظاهر حسنة زرارة أو صحيحته وهي المتقدمة في
__________________
صدر هذه الروايات أنه متى مرت بها ثلاثة أشهر بيض قبل الثلاث حيض تعتد بها
، ومتى مرت بها ثلاثة حيض لم يتخلل بينها ثلاثة أشهر بيض اعتدت بها.
وربما يستفاد
منها الاكتفاء بثلاثة أشهر بيض وإن تخللت بين الحيضتين ، ولا تتخصص بالسبق كما
يعطيه ظاهر كلام الأصحاب ، إلا أن فيه ما سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله.
وحينئذ فلو فرض
أن حيضها إنما يكون فيما زاد ثلاثة أشهر ولو ساعة وطلقت في أول الطهر فمضت الثلاثة
من غير أن ترى الدم فيها اعتدت بالأشهر ، ولو فرض كونها معتادة الحيض في آخر كل
ثلاثة بحيث لم تسلم لها ثلاثة أشهر بيض لم تعتد بالأشهر.
واستشكل ذلك في
المسالك بعد ذكر نحو ما ذكرناه قال : ويشكل على هذا بما لو كانت
عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مثلا مرة ، فإنه على تقدير طلاقها في أول الطهر
أو ما قاربه بحيث يبقى له منه ثلاثة أشهر بعد الطلاق تنقضي عدتها بالأشهر كما تقرر
، لكن لو فرض طلاقها في وقت لا يبقى من الطهر ثلاثة أشهر تامة كان اللازم من ذلك
اعتدادها بالأقراء ، فربما صارت عدتها سنة وأكثر على تقدير وقوع الطلاق في وقت لا
يتم بعده ثلاثة أشهر بيضا ، والاجتزاء بالثلاثة على تقدير سلامتها ، فتختلف العدة
باختلاف الطلاق الواقع بمجرد الاختيار مع كون المرأة من ذوات العادة المستقرة في
الحيض ، ويقوى الاشكال لو كانت لا ترى الدم إلا في كل سنة أو أزيد ، فإن عدتها
بالأشهر على المعروف في النص والفتوى ومع هذا فيلزم مما ذكروه هنا من القاعدة أنه
لو طلقها في وقت لا يسلم بعد الطلاق ثلاثة أشهر أن تعتد بالأقراء وإن طال زمانها ،
وهذا بعيد مناف لما قالوه من أن أطول عدة تفرض عدة المسترابة وهي سنة أو تزيد
ثلاثة أشهر كما سيأتي. ولو قيل بالاكتفاء بثلاثة أشهر إما مطلقا أو بيضا كما لو
خلت من الحيض ابتداء كان
__________________
حسنا ، انتهى كلامه.
أقول : الظاهر
عندي في الجواب عن هذا الإشكال الذي عرض له ـ رحمة الله عليه ـ في هذا المجال هو
أن المتبادر من المعتادة كما تقدمت الإشارة إليه في الموضع الثاني من سابق هذا
المقام هي من كانت الحيض يأتيها على عادة نسائها وأمثالها في كل شهر مرة ، فإن هذا
الفرد هو الغالب المتكرر المتكثر دون من تعتاد ذلك في كل أربعة أشهر أو خمسة أو
أزيد ، فإن ذلك من الفروض النادرة ، وقد عرفت في غير مقام أن من القواعد المقررة
بينهم حمل إطلاق الأخبار على الأفراد الشائعة المتكررة ، فإنها هي التي ينصرف
إليها الإطلاق دون الفروض النادرة ، وحينئذ فجميع من ذكره من هذه الفروض النادرة
إنما يعتددن بالأشهر خاصة ، وتخرج صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة شاهدة على ذلك حيث
عد ممن يعتددن بالأشهر من تحيض في كل ثلاثة أشهر مرة أو في ستة أو في سبعة.
أقول : ونحوها
ما زاد على ذلك ، فإن ما ذكره عليهالسلام إنما خرج مخرج التمثيل ، ومن ثم إنه نقل في المسالك عن
المصنف والعلامة في كتبه أن من كانت لا تحيض إلا في كل خمسة أشهر أو ستة أشهر
عدتها بالأشهر وأطلق ، وزاد في التحرير : أنها متى كانت لا تحيض في كل ثلاثة أشهر
فصاعدا تعتد بالأشهر ولم تعتد بفروض الحيض في أثنائها كما فرضناه ، ثم نقل صحيحة
محمد بن مسلم المذكورة وقال بعدها : وهي تؤيد ما ذكرناه ، انتهى.
وبالجملة فإن
المعتادة التي حكمها التحيض بالأقراء هي التي تعتاد الحيض في كل شهر مرة ، وفي
معناها من تعتاد الحيض فيما دون الثلاثة ، وعلى هذا فلو كانت تعتاد الحيض في كل
أربعة أشهر مرة مثلا وطلقت في وقت لا يسلم لها ثلاثة أشهر بيض فإنها تعتد بالأشهر
، وتحسب مبدأ الثلاثة الأشهر من طهرها من الحيض الذي عرض لها بعد الطلاق حتى يكمل
الثلاثة.
بقي الإشكال
هنا فيمن تحيض في كل ثلاثة أشهر مرة ، فإن ظاهر كلامه
الاكتفاء بها في الخروج من العدة كما أشار إليه بقوله «ولو قيل. إلخ»
ومما يؤيد ما
ذكره من الاكتفاء بثلاثة أشهر مطلقا يعني وإن لم يكن بيضا صحيحة محمد بن مسلم
الدالة على أن من تحيض في كل ثلاثة أشهر مرة فإنها تعتد بالشهور.
ونحوها صحيحة
أبي مريم عن أبي عبد الله عليهالسلام «عن الرجل كيف يطلق امرأته وهي تحيض في كل ثلاثة أشهر حيضة واحدة؟ فقال :
يطلقها تطليقة واحدة في غرة الشهر ، فإذا انقضت ثلاثة أشهر من يوم طلقها فقد بانت
منه ، وهو خاطب من الخطاب».
إلا أن ظاهر
صحيحة زرارة المتقدمة الاعتداد في هذه الصورة بالأقراء كما عرفته من
تفسير جميل للرواية المذكورة ، ولهذا أن السيد السند في شرح النافع حمل الروايتين
الأولتين على من تحيض بعد الثلاثة الأشهر ولا يخفى بعده ، فإن مفاد لفظة «في» هو
الظرفية وكون الحيض في أثناء الثلاثة لا بعدها.
ومثل الروايتين
أيضا رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال في المرأة يطلقها زوجها وهي تحيض في كل ثلاثة أشهر حيضة ، فقال :
إذا انقضت ثلاثة أشهر انقضت عدتها ، تحسب بها لكل شهر حيضة».
وظاهر هذه
الروايات كما ترى هو أن من كانت عادتها في الحيض في كل ثلاثة أشهر فإنها تعتد
بالأشهر ، ولا قائل به من الأصحاب بل ظاهرهم الاتفاق على اعتدادها بالأقراء كما
تقدم في كلام جميل في ذيل صحيحة زرارة ، وهو ظاهر الصحيحة المذكورة وغيرها ، ولكن
هذه الأخبار كما ترى على خلافه. وما تأولوها به مما قدمنا نقله عن السيد السند
وكذا كما يأتي من تأويل الشيخ بعيد غاية البعد ، إلا أن الأوفق
__________________
بالقواعد هو ما عليه الأصحاب.
وقد وقع نحو
ذلك من الإشكال أيضا فيمن تعتاد الحيض في كل خمسة أشهر أو ستة أشهر مثلا مرة واحدة
، فإن المفهوم من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنها تعتد بالأشهر لحصول ثلاثة
أشهر بيض في تلك المدة فتخرج بها من العدة ، وعليه تدل صحيحة محمد بن مسلم
المتقدمة وصحيحة زرارة أو حسنته المتقدمة أيضا وغيرهما. وأولى بالحكم المذكور
منهما ما لو كانت تحيض في كل سنة أو سنتين مرة ، فإنها تعتد بالأشهر أيضا.
ويدل على ذلك
ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن التي لا تحيض إلا في ثلاث سنين أو أربع سنين ، قال :
تعتد ثلاثة أشهر ثم تزوج إن شاءت».
إلا أنه قد ورد
بإزائها من الأخبار ما يدل على اعتدادها بالأقراء كما رواه في التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «في التي لا تحيض إلا في ثلاث سنين أو أكثر من ذلك ، قال : تنتظر مثل
قروئها التي كانت تحيض إلا في استقامتها ، ولتعتد ثلاثة قروء وتزوج إن شاءت».
وعن الغنوي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال «في المرأة التي لا تحيض إلا في ثلاث سنين أو خمس
سنين ، قال : تنتظر مثل قروئها التي كانت تحيض فلتعتد ثم تزوج إن شاءت».
وعن أبي الصباح
قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن التي لا تحيض إلا في
__________________
ثلاث سنين ، قال : تنتظر مثل قروئها التي كانت تحيض في استقامتها ، ولتعتد
ثلاثة قروء ثم تزوج إن شاءت».
وهذه الأخبار
حملها في الاستبصار على المستحاضة التي كانت لها عادة مستقيمة تغيرت عن ذلك فتعمل
على عادتها السابقة المستقيمة ، وحمل أخبار الأشهر على ما إذا لم تكن لها عادة
بالحيض أو نسيت عادتها فإنها تعتد بالأشهر.
وفي التهذيب
حمل الجميع على من كانت لها عادة مستقيمة وكانت عادتها في كل شهر مرة ، قال : وقد
نبه عليهالسلام بقوله «تحسب بها كل شهر حيضة على ذلك» يعني في خبر أبي
بصير المتقدمة.
وكيف كان
فالعمل على ما عليه الأصحاب ودلت عليه تلك الأخبار ، وترد هذه الأخبار إلى قائلها
وهو أعلم بها.
البحث
الثاني : في
المسترابة بالحمل ، وهي التي ابتدأت العدة بالأشهر فرأت في الشهر الثالث أو قبله
حيضا ، فإن كملت لها ثلاثة قروء بأن حصل لها قرءان بعد الأول وهو السابق على الدم
فإنه محسوب بقرء كما تقدم ، ولو أزيد من ثلاثة أشهر اعتدت بها وإن تأخرت الحيضة الثانية أو الثالثة فقد
استرابت بالحمل.
وقد اختلف
الأصحاب على قولين : أحدهما ـ وهو اختيار ابن إدريس والمحقق وهو الذي عليه الأكثر
ـ : أنها تصير مدة يعلم بها براءة رحمها من الحمل وهي عندهم تسعة أشهر من حين
الطلاق ، لأنها أقصى الحمل على المشهور ، فإن ظهر بها حمل اعتدت بوضعه ، وإن لم
يظهر بها حمل علم براءة رحمها واعتدت بعد التسعة بثلاثة أشهر.
__________________
والأصل في هذا
الحكم ما رواه الشيخ في التهذيب عن سورة بن كليب «قال سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق امرأته تطليقة على طهر من غير جماع طلاق
السنة وهي ممن تحيض ، فمضى ثلاثة أشهر فلم تحض إلا حيضة واحدة ، ثم ارتفعت حيضتها
حتى مضت ثلاثة أشهر أخرى ، ولم تدر ما رفع حيضها ، قال : إذا كانت شابة مستقيمة
الطمث فلم يطمث في ثلاثة أشهر إلا حيضة ثم ارتفع طمثها فلا تدري ما رفعها فإنها
تربص تسعة أشهر من يوم طلاقها ، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر ثم تزوج إن شاءت».
واعترض هذا
الخبر في المسالك ومثله سبطه السيد السند في شرح النافع (أولا) بضعف السند.
و (ثانيا)
بأنها مخالفة للأصل في اعتبار الحمل بتسعة أشهر من حين الطلاق فإنه لا يطابق شيئا
من الأقوال في أقصى الحمل ، لأن مدته معتبرة من آخر وطء يقع بها لا من حين الطلاق
، فلو فرض أنه كان معتزلا لها أزيد من ثلاثة أشهر تجاوزت مدته أقصى الحمل على جميع
الأقوال ، فقد يكون أزيد من شهر فيخالف القولين بالتسعة والعشرة.
(وثالثا) أن
اعتدادها بثلاثة أشهر بعد العلم ببراءتها من الحمل غير مطابق لما سلف من الأصول
لأنه مع طرو الحيض قبل تمام الثلاثة ـ إن اعتبرت العدة بالأقراء وإن طالت كما
يقتضيه الضابط السابق ـ لم يتم الاكتفاء بالثلاثة ، وإن اعتبر خلو ثلاثة أشهر بيض
بعد النقاء فالمعتبر بعد العلم بخلوها من الحمل حصول الثلاثة كذلك ولو قبل العلم ،
لأن عدة الطلاق لا يعتبر فيها القصد إليها بخصوصها ، بل لو مضت المدة وهي غير
عالمة بالطلاق كفت ، فكذلك هنا.
(ورابعا) أن
المستفاد من الأخبار الصحيحة الاكتفاء بمضي ثلاثة أشهر خالية من الحيض ، فلو قيل
بالاكتفاء بها مطلقا كان متجها ، كذا صرح به في شرح النافع.
__________________
(وخامسا) أنه
ليس في الرواية ما يدل على أنه لمكان الحمل بل في التقييد بالتسعة ما يشعر به ،
وفي تقييدها بكونها من حين الطلاق ما قد يقتضي خلافه.
أقول ـ وبه
سبحانه التوفيق لإدراك كل مأمول ونيل كل مسؤول ـ : إنه لا يخفى أنه قد روى ثقة
الإسلام في الكافي عن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح قال : «سمعت أبا
إبراهيم عليهالسلام يقول : إذا طلق الرجل امرأته فادعت حبلا انتظر تسعة
أشهر ، فإن ولدت وإلا اعتدت بثلاثة أشهر ثم قد بانت منه».
وعن محمد بن
حكيم في الموثق عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «قلت له : المرأة الشابة التي تحيض مثلها يطلقها
زوجها ويرتفع حيضها ، كم عدتها؟ قال : ثلاثة أشهر قلت : فإنها ادعت الحبل بعد
الثلاثة أشهر ، قال : عدتها تسعة أشهر ، قلت : فإنها ادعت الحبل بعد التسعة أشهر ،
قال : إنما الحبل تسعة أشهر ، قلت : تزوج؟ قال : تحتاط بثلاثة أشهر ، قلت : فإنها
ادعت بعد ثلاثة أشهر ، قال : لا ريبة عليها تزوجت إن شاءت».
وعن محمد بن
حكيم أيضا في الموثق عن العبد الصالح عليهالسلام قال : «قلت له : المرأة الشابة التي تحيض مثلها يطلقها
زوجها فيرتفع طمثها ، ما عدتها؟ قال : ثلاثة أشهر قلت : جعلت فداك فإنها تزوجت بعد
ثلاثة أشهر فتبين لها بعد ما دخلت على زوجها أنها حامل ، قال : هيهات من ذلك يا
ابن حكيم ، رفع الطمث ضربان : إما فساد من حيض فقد حل له الأزواج وليس بحامل ،
وإما حامل فهو يستبين في ثلاثة أشهر لأن الله تعالى قد جعله وقتا يستبين منه الحمل
، قال : قلت : فإنها ارتابت بعد ثلاثة أشهر ، قال : عدتها تسعة أشهر ، قلت : فإنها
ارتابت بعد تسعة أشهر ، قال : إنما الحمل تسعة أشهر ، قلت : فتزوج؟ قال : تحتاط
بثلاثة
__________________
أشهر ، قلت : فإن ارتابت بعد ثلاثة أشهر؟ قال : ليس عليها ريبة ، تزوج».
وما رواه محمد
بن حكيم أيضا عن أبي عبد الله عليهالسلام أو أبي الحسن عليهالسلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته ، فلما مضت ثلاثة أشهر
ادعت حبلا ، فقال : ينتظر بها تسعة أشهر ، قال : قلت : فإنها ادعت بعد ذلك حبلا ،
فقال : هيهات هيهات إنما يرتفع الطمث من ضربين : إما حمل بين ، وإما فساد من الطمث
، ولكنها تحتاط بثلاثة أشهر بعد» الحديث.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الكلام في هذا المقام يقع في مواضع :
الأول : أنه لا
يخفى على المتأمل في هذه الروايات أن الاعتداد بتسعة أشهر ثم ثلاثة بعدها حكم
المسترابة بالحمل ، فإنه لا فرد هنا سواها يثبت له هذا الحكم اتفاقا نصا وفتوى ،
ورواية سورة المذكورة وإن لم يصرح فيها بالاسترابة كما في الروايات التي نقلها ،
إلا أن إطلاقها محمول على ما صرحت به هذه الأخبار لما عرفت من الاتفاق نصا وفتوى
في أنه ليس هنا فرد يثبت له هذا الحكم غير المسترابة بالحمل.
وحينئذ فجميع
ما أوردوه على الرواية المتقدمة يجري في هذه الأخبار لاشتراك الجميع في محل هذه
الإيرادات ، ولا فرق بين ما نقلناه من هذه الروايات وبين رواية سورة إلا من حيث إن
الاسترابة مستندة في هذه الأخبار إلى دعوى المرأة الحبل ، وفي تلك الرواية إلى
رؤية الدم مرة أو مرتين وانقطاعه ، وإلا فالجميع مشترك في حصول الاسترابة ، وأن
حكمها هو ما ذكره في هذه الأخبار ، والظاهر أن الذي حملهم على هذه الإيرادات هو
ضعف سند الرواية وعدم المعاضد لها فيما دلت عليه.
وقد عرفت مما
نقلناه من هذه الأخبار التي فيها الصحيح باصطلاحهم والموثق وتعدد الخبر بذلك أن
ذلك غير مختص برواية سورة ، بل هو جار في جميع هذه
__________________
الأخبار ، وحينئذ فردها جميعا بهذه التشكيكات والإيرادات من غير مخالف في
البين من الأخبار ولا من علمائنا الأبرار إلا الشاذ النادر غير ملتفت إليه ، بل لا
يخلو من الرد على الشارع والجرأة عليه ، والواجب العمل بها وتطبيقها على الأصول
والقواعد المقررة كما سيظهر لك إن شاء الله.
الثاني : أن ما
ذكره من الطعن في الرواية بضعف السند ـ وهذا الإيراد من خصوصيات سبطه السيد السند
ـ ففيه ما عرفت في غير موضع مما تقدم أنه غير مرضي ولا معتمد ، أما (أولا)
فلانجبار ضعفها بشهرة العمل بها بين الأصحاب ، وأما (ثانيا) فلاعتضادها بما ذكره
من الأخبار ، فإن الحكم بما تضمنته غير منحصر فيها كما عرفت.
الثالث : ما
ذكروه من مخالفة الرواية للأصل في اعتبار الحمل تسعة أشهر من حين الطلاق ، فإن فيه
أن غاية ما تدل عليه الرواية المذكورة أنها تربص تسعة أشهر من يوم طلقها ، ولا
تعرض فيها لكون ذلك مدة الحمل ، ومثلها الروايات المذكورة ، على أن موثقتي ابن
حكيم قد صرحتا بكون هذه التسعة عدة لها ، ولا يخفى أن من شأن العدة أن يكون
مبدؤها بعد الطلاق.
نعم صرح في
الموثقتين المذكورتين بأنها بعد الاعتداد تسعة أشهر لا تكون مسترابة لأن أقصى
الحمل تسعة أشهر ، وقد حصلت ، ولكن هذا لا يستلزم ما ذكره لجواز أن يكون المراد
أنه لما مضت لها تسعة أشهر من حين الطلاق واعتدت بها فإنه لا استرابة عليها لحصول
أقصى مدة الحمل ، بمعنى أن عدتها وقعت بما هو أقصى الحمل ، فلا ريبة ، غاية الأمر
أن العدة الشرعية لها هنا قد وقعت بما هو أقصى الحمل وإن كان ذلك زائدا على مدة
أقصى الحمل متى اعتبر من بعد الوطء.
__________________
وبالجملة
فالغرض من ذكر التسعة بيان الاعتداد بها ، وأنها تخرج بها وإن استلزم حصول أقصى
الحمل بذلك ، فلا إشكال بحمد الله المتعال .
الرابع : ما
ذكره بقوله «إن اعتدادها بثلاثة أشهر بعد العلم ببراءتها من الحمل فإن فيه أن
براءة الرحم بعد التسعة كما تضمنته الأخبار المذكورة لا ينافيه وجوب الاعتداد
بعدها بالثلاثة الأشهر حتى أنه ينسب إلى مخالفة الأصول ، فإنه لا يخفى على الماهر
المتأمل في العلل الواردة في الأخبار أنها ليست عللا حقيقة يدور المعلول مدارها
وجودا وعدما ، وعلى تقدير كونها كذلك في بعض الموارد فإنه لا يجب اطرادها ، وكون
ذلك حكما كليا. ألا ترى أنه قد ورد النص بأن مشروعية العدة للعلم ببراءة الرحم من
الحمل ، مع أنه لو طلق زوجته أو مات عنها بعد عشرين سنة لم يقربها فيها بالكلية لو
جبب عليها العدة في الموضعين المذكورين.
وحينئذ فتصريح
الأخبار هنا بوجوب الاعتداد ثلاثة أشهر لا ينافيه معلومية براءة الرحم بمضي التسعة
، كما أنه لا منافاة بين وجوب العدة فيما فرضناه مع
__________________
معلومية براءة الرحم بمدة تلك العشر السنين.
وأما ما ذكروه
من أنه مع طرو الحيض قبل تمام الثلاثة إن اعتبرت العدة بالأقراء. إلخ فإن لقائل أن
يقول : إن إطلاق الأخبار المذكورة يقتضي الاجتزاء بالثلاثة مطلقا بيضا كانت أم
مشتملة على الحيض ، لأنها قد خرجت من العدة بالتسعة ، وإنما هذه الثلاثة لمزيد
الاحتياط في البراءة من الحمل وهو حاصل بالثلاثة بيضا كانت أم لا.
على أنك قد
عرفت في البحث الأول ورود جملة من الأخبار الدالة على أن من كان عادتها الحيض في
كل ثلاثة أشهر مرة فإنها تعتد بها ، وإن لم يوافق ذلك مقتضى قواعدهم ، وإليه أشار
في المسالك كما قدمنا ذكره ، وقد عرفت بعد ما تأولها به فليكن الحكم في هذه الصورة
، كذلك إذا اقتضته الأخبار بل هو أولى مما دلت عليه تلك الأخبار وإن لم يوافق قواعدهم.
الخامس : أن ما
ذكره في شرح النافع من أن المستفاد من الأخبار الصحيحة الاكتفاء بمضي ثلاثة أشهر
خالية من الحيض. إلخ فإن فيه أن الظاهر من تلك الأخبار وإن تفاوتت ظهورا وخفاء أن
المراد إنما هو بعد الطلاق ، بمعنى أن أي الأمرين سبق من ثلاثة أشهر بيض أو
الأقراء الثلاثة فقد بانت به ، للاتفاق نصا وفتوى ، على أنه متى تمت ثلاثة أشهر
بيض بعد الطلاق فإنها تخرج من العدة إلا أن تدعي حبلا كما دلت عليه روايات محمد بن
حكيم ، أما لو عرض لها الحيض قبل تمام الثلاثة ولم يحصل بها ثلاثة أقراء متوالية
فإنها تكون حينئذ مسترابة.
ففي موثقة جميل
عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام قال : «أي الأمرين
__________________
سبق إليها فقد انقضت عدتها ، إن مرت بها ثلاثة أشهر لا ترى فيها دما فقد
انقضت عدتها ، وإن مضت ثلاثة أقراء فقد انقضت عدتها».
وفي رواية أبي
مريم «فإن انقضت
ثلاثة أشهر من يوم طلقها فقد بانت منه».
وفي موثقة
زرارة عن أحدهما عليهماالسلام قال : «أي الأمرين سبق إليها فقد انقضت عدتها ، إن مرت
بها ثلاثة أشهر لا ترى فيها دما فقد انقضت عدتها ، وإن مرت بها ثلاثة أقراء فقد
انقضت عدتها».
والمراد بالسبق
يعني بعد الطلاق ، بمعنى أن أيهما تقدم على الآخر فقد حصلت به البينونة ، وإلا
فحصول الثلاثة البيض بعد تقدم الدم مرة أو مرتين غير مجد ولا موجب للخروج من العدة
لحصول الاسترابة بالحمل كما دلت عليه رواية سورة فإنها قد تضمنت أنه بعد حصول حيضة لها في الثلاثة
الأشهر الأول انقطع الدم عنها ثلاثة أشهر أخرى ، وقد حكم عليهالسلام عليها بالاسترابة ، وأن تعتد بالتسعة ولم يلتفت إلى تلك
الثلاثة البيض التي مرت بعد تلك الثلاثة التي فيها الدم.
نعم في صحيحة
زرارة أو حسنته المتقدمة ما يوهم ذلك كما تقدمت الإشارة إليه إلا أن المفهوم من
كلام الأصحاب إنما هو ما ذكرناه.
ويمكن الجواب
عن الرواية المذكورة بأن غاية ما تدل عليه بالمفهوم هو أنه إن مرت بها ثلاث حيض
وكان بينها ثلاثة أشهر فإنها لا تعتد بالأقراء.
وأنت خبير بأنه
لا يلزم من عدم اعتدادها بتلك الثلاثة الأشهر البيض
__________________
لجواز أن يرجع حكمها إلى المسترابة كما قلنا ، فتعتد بتسعة أشهر ثم الثلاثة
كما دل عليه خبر سورة.
وبالجملة فإن
عدم الاعتداد بالأقراء أعم من الاعتداد بتلك الثلاثة الأشهر البيض المفروضة ، ومن
الانتقال إلى حكم المسترابة الذي نحن فيه كما هو ظاهر ، وحينئذ فلا منافاة في
الرواية لما تدعيه
السادس : ما
ذكروه من أنه ليس في الرواية ما يدل على أنه لمكان الحمل ... إلخ ، والظاهر أن
المراد بهذا الكلام الرد على الأصحاب فيما ذكروه من الاستدلال بالرواية على ما
ادعوه مما قدمنا ذكره من أنها إذا حاضت في الثلاثة الأول ثم احتبست الحيضة الثانية
أو الثالثة فقد استرابت بالحمل.
فاعترضوهم بأنه
ليس في الرواية ما يدل على مكان الحمل وإن أشعر به التقييد بالتسعة ، إلا أنه
يخالفه التقييد بكون التسعة من حين الطلاق.
وفيه ما عرفت
آنفا من أنه وإن كان الأمر كما ذكروه بالنسبة إلى هذه الرواية إلا أنه بانضمام ما
قدمناه من الأخبار الواردة في هذه المسألة معتضدة باتفاق كلمة الأصحاب فإنه يعلم
أن الاعتداد بالتسعة ثم الثلاثة بعدها إنما هو في المسترابة لا غير ، وأما
المنافاة التي أشار إليها فقد عرفت الجواب عنها في الموضع الثالث.
وبالجملة فإنه
بعد ورود هذه الأخبار التي ذكرناها متضمنة إلى رواية سورة التي اعترضوها بهذه
الوجوه لا ينبغي الالتفات إلى ما ذكروه ، لجريان ما ذكروه في الأخبار المذكورة
كملا وردها بهذه التخريجات العقلية مع وضوحها في الدلالة وعدم المعارض مما لا
يتجشمه محصل.
الثاني من
القولين المتقدمين : أنها تصبر سنة لأنها أقصى مدة الحمل ، فإن ظهر بها
__________________
حمل اعتدت بوضعه ، وإن مرت الأقراء الثلاثة بها ضمن هذه المدة اعتدت بها ،
وإلا اعتدت بثلاثة أشهر بعد كمال السنة إن لم يتم الأقراء في أثنائها.
وعلى هذا القول
يدل ما رواه في الكافي والتهذيب عن عمار الساباطي في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن رجل عنده امرأة شابة وهي تحيض كل شهرين أو ثلاثة أشهر حيضة
واحدة ، كيف يطلقها زوجها؟ فقال : أمرها شديد ، تطلق طلاق السنة تطليقة واحدة على
طهر من غير جماع بشهود ، ثم يترك حتى تحيض ثلاث حيض متى حاضت ، فإذا حاضت ثلاثا
فقد انقضت عدتها ، قيل له : وإن مضت سنة ولم تحض فيها ثلاث حيض؟ فقال : يتربص بها
بعد السنة ثلاثة أشهر ، ثم قد انقضت عدتها ، قيل : فإن مات أو ماتت؟ فقال : أيهما
مات ورثه صاحبه ما بينه وبين خمسة عشر شهرا».
وظاهر الشيخ في
النهاية الجمع بين رواية عمار المذكورة ورواية سورة ابن كليب بحمل الاولى على
احتباس الدم الثالث فيجب عليها الصبر إلى سنة ، والثانية على احتباس الدم الثاني
فتصبر إلى تسعة ، ثم تعتد بثلاثة أشهر في كلا الحالتين.
قال ـ رحمة
الله عليه ـ في كتاب النهاية : وإذا كانت المرأة مسترابة فإنها تراعى الشهور والحيض
، فإن مرت بها ثلاثة أشهر بيض لم تر فيها دما فقد بانت منه بالشهور ، وإن مرت بها
ثلاثة أشهر إلا يوما ثم رأت الدم كان عليها أن تعتد بالأقراء ، فإن تأخرت عنها
الحيضة الثانية فلتصبر من يوم طلقها إلى تمام التسعة أشهر ، فإن لم تر دما فلتعتد
بعد ذلك ثلاثة أشهر وقد بانت منه ، فإن رأت الدم فيما بينها وبين التسعة أشهر
ثانيا واحتبس عليها الدم الثالث فلتصبر تمام السنة ثم
__________________
تعتد بعد ذلك بثلاثة أشهر تمام الخمسة عشر شهرا وقد بانت منه ، وأيهما مات
ما بينه وبين الخمسة عشر شهرا ورثه صاحبه ، انتهى.
وفي الاستبصار
صرح بالعمل برواية سورة بن كليب ، وحمل موثقة عمار على الفضل والاستحباب بمعنى أن
الأفضل لها أن تعتد إلى خمسة عشر شهرا.
والمحقق في
الشرائع بعد أن نقل عن الشيخ في النهاية حمل رواية عمار على احتباس الدم الثالث ،
نسبة إلى التحكم ، وهو القول بغير دليل.
ووجهه أن الخبر
المذكور لا تعرض فيه لكون المحتبس هو الدم الثالث ، بل غاية ما تضمنت أنها لم تحض
في السنة ثلاث حيض أعم من أن تكون حاضت فيها مرة أو مرتين.
واعتذر في ذلك
للشيخ ـ رحمة الله عليه ـ عما أورد عليه بأن هذا التنزيل الذي ذكره في النهاية
يوافق ظاهر الخبرين ، قال : ولأنه قال في الخبر الأول ـ يعني خبر سورة ـ أنها لم
تطمث في الثلاثة الأشهر إلا مرة ثم ارتفع حيضها ، وهو صريح في احتباس الثانية
وأوجب التربص تسعة أشهر. إلخ. وقال في الثاني : أنه انقضت سنة ولم تحض فيها ثلاث
حيض ، وهذا وإن كان شاملا لنفي الثانية أو الثالثة إلا أن طريق الجمع بينهما بحمله
على احتباس الثالثة ، والقرينة قوله «لم تحض فيها ثلاث حيض» فإنها لو لم تحض إلا
مرة يقال لم تحض فيها حيضتين أو إلا حيضة ، فهذا وجه مصير الشيخ إلى ما ذكره من
التنزيل.
ثم اعترضه بأنه
مع ذلك لا يسلم من التحكم ، لأن الفرق بين احتباس الثانية والثالثة لا مدخل له في
هذه الأحكام ، فإن احتمال الحمل يوجب فساد اعتبار الاثنتين كما يوجب فساد الواحدة
، وأقصى الحمل مشترك بين جميع أفراد النساء بالتسعة أو السنة أو غيرهما ، فالفرق
بين جعل مدة التربص للعلم بالبراءة من الحمل تسعة تارة وسنة أخرى يرجع إلى التحكم
، انتهى.
ثم قال : وعلى
تقدير الاعتبار برواية عمار فيما ذكره الشيخ في الاستبصار
من الجمع أدخل في الحكم.
أقول : وإلى
الجمع بما ذكره في الاستبصار مال في المختلف أيضا ، وكيف كان فإن الظاهر عندي هو
الاعتماد على رواية سورة في هذه المسألة لاعتضادها كما عرفت بالأخبار التي قدمناها
حسبما أوضحناه من التحقيق المتقدم.
وبذلك يظهر لك
ما في قوله في المسالك «اعلم أن طريق الروايتين قاصر عن إفادة مثل هذا الحكم خصوصا رواية سورة ،
لكن الشهرة مرجحة لجانبها على قاعدتهم ، ولو قيل بالاكتفاء بالتربص مدة يظهر فيها
انتفاء الحمل كالتسعة من غير اعتبار مدة اخرى كان وجها» فإنه جيد بناء على التمسك
بهذا الاصطلاح المحدث وعدم المراجعة لما أسلفناه من الأخبار ، وإلا فمع ملاحظة
الأخبار المذكورة سيما مع صحة سند بعضها واعتبار الباقي منها وكثرتها فإنه لا مجال
للتوقف في الحكم بالثلاثة بعد التسعة ، وقد تقدم في كلام سبطه السيد السند الميل
إلى الاكتفاء بالثلاثة الأشهر الخالية من الحيض ، وقد عرفت ما فيه ، والحق كما
عرفت هو وجوب الجميع كما عليه الأصحاب قديما وحديثا.
تنبيهان
الأول : لا
يخفى أن ما ذكرنا من الحكم المذكور مخصوص بالحرة كما تقدمت الإشارة إليه في صدر
البحث الأول ، ويشير إليه الأمر بالاعتداد بثلاثة أشهر بعد التسعة أو السنة
ومراعاة الأقراء الثلاثة ، فلو كانت أمة اعتبر عدتها في الأمرين.
الثاني : قال
شيخنا الشهيد الثاني في الروضة : وإطلاق النص والفتوى يقتضي عدم الفرق بين استرابتها
بالحمل وعدمه في وجوب التربص تسعة أو سنة ثم الاعتداد بعدها حتى لو كان زوجها
غائبا عنها فحكمها كذلك ، وإن كان ظاهر الحكم
__________________
يقتضي اختصاصه بالمسترابة ، ثم نقل عن المصنف أنه احتمل في بعض تحقيقاته
الاكتفاء بالتسعة لزوجه الغائب محتجا بحصول مسمى العدة.
أقول : ما ذكره
من إطلاق النص والفتوى في إيجاب الاعتداد بالتسعة أو السنة ثم ثلاثة أشهر بعدهما
وإن لم تكن مسترابة بالحمل عندي محل نظر.
أما النص فإنه
وإن كان كذلك بالنظر إلى ظاهر روايتي سورة وعمار إلا أن المفهوم أن المستفاد من
جملة من الأخبار ومنها روايات ابن حكيم المتقدمة أن انقطاع الحيض إما من
فساد من الحيض أو حصول الحمل ، فإنه يحصل العلم بالأمرين بمرور ثلاثة أشهر بيض ،
فإنها إن استرابت بالحمل صبرت إلى التسعة أو العشرة ، وإلا انقضت عدتها بتلك
الأشهر الثلاثة البيض لمعلومية كون ذلك من فساد في الحيض ، والغائب عنها زوجها كما
فرضه لا يقوم فيها احتمال الحمل فلا تكون مسترابة ، ويتعين أن يكون انقطاع دمها في
تلك الثلاثة متى مرت بها ثلاثة أشهر بيض إنما هو لفساد في الحيض فتعتد بها وتخرج
من العدة ، ولا يجب عليها انتظار التسعة أشهر أو العشرة كما توهمه ـ رحمة الله
عليه.
__________________
ومن الروايات
الدالة على ما ذكرنا زيادة على ما تقدم ما رواه محمد بن حكيم أيضا قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة يرتفع حيضها ، فقال : ارتفاع الطمث ضربان :
فساد من حيض وارتفاع من حمل ، فأيهما كان فقد حلت للأزواج إذا وضعت أو مرت بها
ثلاثة أشهر بيض وليس فيها دم».
وهي كما ترى
ظاهرة بل صريحة في أنه مع العلم بعدم الحمل كما هو المفروض في كلامه بالنسبة إلى
من غاب عنها زوجها فإنها تخرج من العدة بمرور ثلاثة أشهر بيض سواء كان من أول
الأمر كما هو متفق عليه أو بعد ذلك كما فيما نحن فيه ، لأنها بعد أن رأت الدم مرة
أو مرتين ثم انقطع ثلاثة أشهر فصاعدا مع غيبة زوجها عنها فإنه لا استرابة بالحمل
فيعلم أن ذلك لفساد في الحيض ، فيكفي الثلاثة الأشهر في الخروج من العدة ، لأنه عليهالسلام في هذا الخبر قد حكم بأنه إذا مرت بها ثلاثة أشهر بيض
مع معلومية عدم الحمل خرجت بها من العدة لمعلومية أن انقطاع الحيض إنما هو لفساد
في الحيض دون احتمال الحمل ، ومع معلومية الحمل فإنها تعتد بوضعه ، وهو ظاهر.
وعلى هذا
فإطلاق الخبرين المذكورين محمول على احتمال الاسترابة بالحمل ، وإلا فمع تعين عدم
الاسترابة فإنه لا ضرورة إلى الصبر تسعة فضلا عن العشرة.
وأما ما ادعاه
من إطلاق الفتوى فهو وإن وقع في بعض العبارات اعتمادا على ظهور الحكم وأن بلوغ
التسعة أو العشرة إنما هو من حيث الاسترابة بالحمل إلا أن أكثر العبارات قد اشتمل
على التقييد.
أما في صدر
الكلام ـ كما في عبارة الشيخ في النهاية المتقدمة ـ فإنه جعل محل البحث والكلام في
المسألة المسترابة ونحوها كلام أتباعه.
__________________
وأما في
الأثناء كما عبر به المحقق في الشرائع حيث قال : أما لو رأت في الثالث حيضا وتأخرت
الثانية أو الثالثة صبرت تسعة أشهر لاحتمال الحمل ، ثم اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر.
إلخ.
ونحوها عبارته
في النافع أيضا وهو كما ترى صريح في أن الصبر تسعة أشهر إنما هو
لاحتمال الحمل ، فلو لم يكن محتملا لم يجب عليه الصبر المدة المذكورة ، ولا ما ذكر
بعد ذلك.
وقال ابن إدريس
في السرائر بعد نقل كلام النهاية المتقدم : والذي يقوى في نفسي أنها إذا احتبس
عنها الدم الثالث بعد مضي تسعة أشهر اعتدت بعدها بثلاثة أشهر تمام السنة لأنها
تستبرئ بتسعة أشهر وهو أقصى مدة الحمل ، فيعلم أنها ليست حاملا ثم تعتد بعد ذلك
عدتها وهي ثلاثة أشهر. إلخ. وهو صريح أيضا فيما قلناه ، فإن الغائب عنها زوجها قد
علم أنها ليست حاملا من أول الأمر فلا يحتاج إلى التربص تسعة أشهر ، وهو ظاهر ،
إلى غير ذلك من عباراتهم.
وبالجملة فإن
ما ذكره ـ رحمة الله عليه ـ من الكلام المذكور بمحل من القصور كما عرفت ، وبذلك
يظهر أيضا ما في الذي نقله عن الشهيد من الاحتمال فإنه أبعد بعيد في هذا المجال ،
إذ المفهوم من الأخبار أن التسعة إنما هي من حيث احتمال الاسترابة بالحمل ، وهو
الموافق للأصول كما اعترف به وعبر عنه بظاهر الحكم لا في مقام يقطع فيه بعدمه ، بل
الظاهر إنما هو الخروج بالثلاثة البيض الحاصلة قبل بلوغ التسعة.
__________________
البحث
الثالث : قد عرفت أن المرأة إذا كانت في سن من تحيض وهي لا تحيض
فإن عدتها ثلاثة أشهر بلا خلاف ، ولكن الأصحاب قد اختلفوا هنا في الصغيرة التي لم
تبلغ تسع سنين إذا طلقت بعد الدخول بها وإن فعل زوجها محرما ، وكذا في اليائسة هل
عليها عدة أم لا؟ وكذا في صورة الفسخ ووطء الشبهة الموجبين للعدة في غير هذا
الموضع.
فالمشهور بين
الأصحاب أنه لا عدة عليها ، وبه صرح الشيخان والصدوقان وسلار وأبو الصلاح وابن
البراج وابن حمزة ومن تأخر عنه.
قال السيد
المرتضى : الذي أذهب إليه أن على الآية ـ من الحيض والتي لم تبلغ ـ العدة على كل
حال من غير شرط الذي حكيناه عن بعض أصحابنا ـ يعني بذلك أن لا تكون في سن من تحيض
ـ وتبعه في ذلك ابن زهرة ، والمعتمد هو الأول كما تكاثرت به الأخبار عن الأئمة
الأطهار عليهمالسلام.
ومنها ما رواه في
الكافي عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : ثلاث يتزوجن على كل حال ، التي لم تحض ومثلها لا تحيض
، قال : قلت : وما حدها؟ قال : إذا اتي لها أقل من تسع سنين ، والتي لم تدخل بها ،
والتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض ، قال : قلت : وما حدها؟ قال : إذا كان
لها خمسون سنة».
وما رواه الشيخ
في التهذيب في الموثق عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سمعت أبا عبد
الله عليهالسلام يقول : ثلاث يتزوجن على كل حال ، التي قد يئست من
المحيض ومثلها لا تحيض قلت : ومتى تكون كذلك؟ قال : إذا بلغت ستين سنة فقد يئست من
المحيض ومثلها لا تحيض ، والتي لم تحض ومثلها لا تحيض ، قلت : ومتى تكون كذلك؟ قال
: ما لم تبلغ تسع سنين ، فإنها لا تحيض ومثلها لا تحيض ، والتي لم يدخل بها».
__________________
وما رواه في
الكافي عن جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام «في الرجل يطلق الصبية التي لم تبلغ ولا تحمل مثلها وقد كان دخل بها ،
والمرأة التي قد يئست من الحيض وارتفع حيضها ولا تلد مثلها ، قال : ليس عليهما عدة
وإن دخل بهما».
وما رواه في
الفقيه عن جميل أنه قال «في الرجل ـ الحديث إلى قوله ـ عدة». فيكون
الخبر صحيحا.
وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن حماد بن عثمان عمن رواه عن أبي
عبد الله عليهالسلام «في الصبية التي لا تحيض مثلها والتي قد يئس من المحيض ، قال : ليس عليهما
عدة وإن دخل بهما».
وعن محمد بن
مسلم في الموثق عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «التي لا تحبل مثلها لا عدة عليها».
وما رواه المشايخ
الثلاثة ـ رحمة الله عليهم ـ عن محمد بن مسلم قال : «سمعت أبا
جعفر عليهالسلام يقول في المرأة التي قد يئست من المحيض يطلقها زوجها ،
قال : قد بانت منه ولا عدة عليها».
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن حماد بن عثمان قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن التي قد يئست من المحيض ، والتي لا تحيض مثلها ، قال
: ليس عليهما عدة».
وعن جميل بن
دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام «في الرجل
__________________
يطلق الصبية التي لم تبلغ ولا تحمل مثلها ، قال : ليس عليها عدة وإن دخل
بها».
ونقل عن
المرتضى ـ رحمة الله عليه ـ الاحتجاج على ما ذهب إليه بقوله تعالى «وَاللّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ»
قال : وهذا صريح في أن الآيات واللائي لم يحضن عدتهن الأشهر على كل حال.
ثم أورد على
نفسه بأن في الآية شرطا وهو قوله تعالى «إِنِ ارْتَبْتُمْ»
وهو منتف عنهما
، ثم أجاب بأن الشرط لا ينفع أصحابنا ، لأنه غير مطابق لما يشترطونه وإنما يكون
نافعا لهم لو قال تعالى : إن كان مثلهن يحضن في الآيسات وفي اللائي لم يبلغن
المحيض إذا كان مثلهن تحيض. وإذا لم يقل تعالى ذلك بل قال «إِنِ ارْتَبْتُمْ»
وهو غير الشرط
الذي شرطه أصحابنا فلا منفعة لهم به. ولا يخلو قوله تعالى «إِنِ ارْتَبْتُمْ»
أن يريد به ما
قاله جمهور المفسرين وأهل العلم بالتأويل من أنه تعالى قال : إن كنتم مرتابين في
عدة هؤلاء النساء وغير عالمين بمبلغها.
ووجه المصير في
هذا التأويل ما روي في سبب نزول هذه الآية أن ابي بن كعب قال : يا رسول الله إن
عددا من عدد النساء لم يذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال ، فأنزل الله
تعالى «وَاللّائِي يَئِسْنَ»
إلى قوله «وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ»
فكان هذا دالا
على أن المراد بالارتياب ما ذكرناه ، لا الارتياب بأنها يائسة أو غير يائسة لأنه
تعالى قد قطع في الآية على اليأس من المحيض والمشكوك في حالها والمرتاب في أنها
تحيض أو لا تحيض لا تكون يائسة.
ثم أطال في
الكلام على عادته ـ رحمة الله عليه ـ في كل مقام ، وأجيب عن ذلك بمنع كون المراد
بالريبة بالمعنى الذي ذكره إذ من المحتمل عودها إلى اليأس من المحيض ، وإنما أتى
بالضمير مذكرا لكون الخطاب مع الرجال كما يدل عليه قوله «مِنْ نِسائِكُمْ»
، ولأن النساء
يرجعن في معرفة أحكامهن أو إلى
__________________
رجالهن أو إلى العلماء فكأن الخطاب لهم لا للنساء.
أقول : ويؤيد
ما ذكروه من رجوع الريبة إلى النساء ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألت عن قول الله عزوجل «إِنِ ارْتَبْتُمْ»
ما الريبة؟
فقال : ما زاد على شهر فهو ريبة ، فلتعتد ثلاثة أشهر ولتترك الحيض ، وما كان في
الشهر لم يزد في الحيض على ثلاث حيض فعدتها ثلاث حيض».
قال الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ : الوجه فيه أنه إن تأخر الدم عن
عادتها أقل من الشهر فليس لريبة الحبل بل ربما كان لعلة ، فلتعتد بالأقراء ، فإن
تأخر الدم شهرا فإنه يجوز أن يكون للحبل فتعتد ثلاثة أشهر ما لم تر فيها دما ،
انتهى.
وتوضيحه : أنه
لما كان مقتضى الطبيعة والعادة التي جعلها الله في النساء هو الحيض في كل شهر مرة
فلو انقطع عنها ذلك شهرا فصاعدا كان ذلك لريبة فلتعتد بالشهور ، وإذا مضت لها
ثلاثة أشهر بيض ولا تنتظر الحيض التي كانت تعتاده سابقا إن رأت الدم في الشهر فلا
ريبة هنا ، وإن تأخر عن عادتها فلتعتد بالحيض. ومرجع ذلك إلى ما تقدم من الأخبار
الدالة على أن أيهما سبق من الشهور أو الأقراء اعتدت به ، وقد تقدم في صدر البحث
الأول نقلا عن الطبرسي في مجمع البيان معنى آخر للريبة يرجع إلى تعلقها بالنساء
أيضا ، وقد أسنده إلى أئمتنا عليهمالسلام.
وبذلك يظهر لك
أن ما ذكره ـ رحمة الله عليه ـ من المعنى الذي اعتمد فيه على تلك الرواية العامية
التي نقلها ليس مما يعول عليه ولا يلتفت إليه ، ومع الإغماض عن ذلك فلا أقل أن
يكون ما ذكرناه محتملا في الآية ومساويا لما ذكره من الاحتمال ، فإنه كاف في دفع
تعلقه بالآية والاستناد إليها في الاستدلال. نعم ربما ظهر ما ذكره من بعض الأخبار
الواردة في المقام ، ومنها :
__________________
ما رواه في
الكافي والتهذيب عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال : «عدة التي لم
تبلغ المحيض ثلاثة أشهر ، والتي قد قعدت عن المحيض ثلاثة أشهر».
قال في الكافي
ـ بعد ذكر الروايات التي قدمنا نقلها عنه دالة على القول المشهور ـ : وقد روي أن
عليهن العدة إذا دخل بهن ـ ثم أورد هذه الرواية ثم قال : ـ وكان ابن سماعة يأخذ
بها ، ويقول : إن ذلك في الإماء لا يستبرئن إذا لم يكن بلغن الحيض ، فأما الحرائر
فحكمهن في القرآن ، يقول الله عزوجل «وَاللّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ»
وكان معاوية بن
حكيم يقول : ليس عليهن عدة ، وما احتج به ابن سماعة فإنما قال الله عزوجل «إِنِ ارْتَبْتُمْ»
وإنما ذلك إذا
وقعت الريبة بأن قد يئسن ، فأما إذا جازت الحد وارتفع الشك أنها قد يئست أو لم تكن
الجارية بلغت الحد فليس عليهن عدة ، انتهى ما ذكره في الكافي.
وكلامه هنا في
معنى الريبة يرجع إلى ما قدمنا نقله عن الطبرسي الذي أسنده إلى الأئمة عليهمالسلام ، وعلى هذا فالمراد باللائي يئسن من المحيض في الآية
يعني في الجملة ، فإن حصل الشك والريبة في تحققه وعدمه فالحكم الاعتداد بالأشهر
الثلاثة وكذا من لم تحض لصغر كان أم لا ، فإن عدتها ثلاثة أشهر.
وبالجملة فإن
الآية ظاهرة في تقييد اعتداد اليائسة بالثلاثة الأشهر بالريبة فلا تثبت بدونها ،
والريبة على ما عرفت من الخبر ، وكلام هذين الفاضلين إنما ترجع إلى الشك في بلوغ
السن الذي يحصل اليأس ، كما هو ظاهر كلام الفاضلين المذكورين ، أو الريبة في الحمل
كما هو ظاهر الخبر ، وعلى كل منهما يسقط تعلقه بالآية ، وهذا بحمد الله سبحانه
ظاهر لا سترة عليه.
ثم إنه في
الكافي لم يتعرض للجواب عن الخبر المذكور مع رده له ، والمتأخرون
__________________
قد ردوه بضعف السند بجماعة من رواته مع أنها غير مستندة إلى إمام ، فلا
يعارض بها تلك الأخبار المتقدمة.
وقال الشيخ في
الكتابين : هذا الخبر نحمله على من يكون مثلها تحيض لأن الله
تعالى شرط ذلك وقيده بمن يرتاب بحالها ، قال الله تعالى «وَاللّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ»
فشرط في إيجاب
العدة ثلاثة أشهر بأن تكون مرتابة ، وكذلك كان التقدير في قوله «وَاللّائِي لَمْ
يَحِضْنَ» أي فعدتهن ثلاثة أشهر ، وهذا أولى مما قاله ابن سماعة
لأنه قال : تجب العدة على هؤلاء كلهن ، وإنما سقط عن الإماء العدة ، لأن هذا تخصيص
منه في الإماء من غير دليل ، والذي ذكرناه مذهب معاوية بن حكيم من متقدمي فقهاء
أصحابنا وجميع الفقهاء المتأخرين ، وهو مطابق لظاهر القرآن وقد استوفينا تأويل ما
يخالف ما أفتينا به مما ورد من الأخبار فيما تقدم ، انتهى.
أقول : وما
ذكره من التأويل للخبر المذكور ظاهر بالنسبة إلى التي قعدت عن المحيض ، وهي
اليائسة بمعنى أنها قعدت عن المحيض والحال أن مثلها تحيض.
أما بالنسبة
إلى الصغيرة التي عبر عنها بأنها لم تبلغ الحيض فهو مشكل ، لأن المتبادر منها أنها
التي لم تبلغ التسع ، وحينئذ فلا يتجه قوله «إن مثلها تحيض» إلا أن يحمل قوله «لم
تبلغ المحيض» أي لم تحض بالفعل ، وهو وإن كان بعيدا إلا أنه في مقام الجمع غير
بعيد لضرورة الجمع بين الأخبار. وكيف كان فإنه ينافيه الخبر الآتي.
ومنها ما رواه في
التهذيب عن محمد بن حكيم قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام فقلت : المرأة التي لا تحيض مثلها ولم تحض كم تعتد؟ قال
: ثلاثة أشهر ، قلت : فإنها ارتابت ، قال : تعتد آخر الأجلين تعتد تسعة أشهر ، قلت
: فإنها ارتابت
__________________
قال : ليس عليها ارتياب ، لأن الله تعالى جعل للحبل وقتا فليس بعده ارتياب».
والخبر كما ترى
ظاهر في أن من لم تحض ولا تحيض مثلها فإنها تعتد ثلاثة أشهر وهو صادق على الصغيرة
واليائسة ، ولا وجه للجواب عنها إلا بالحمل على زيادة «لا» في قوله «التي لا تحيض
مثلها» من قلم الشيخ أو النساخ. إلا أن في الخبر إشكالا من وجه آخر ، وهو أن
السائل قال : «قلت : فإن ارتابت ـ يعني بعد الثلاثة أشهر ـ قال عليهالسلام : تعتد تسعة أشهر» وحينئذ فمتى حملنا الخبر على الصغيرة
التي لم تبلغ التسع فكيف يمكن فرض الارتياب فيها باحتمال الحبل وهي لم تبلغ التسع؟
وبالجملة
فالخبر على ظاهره غير مطابق للقواعد الشرعية والضوابط المرعية ، فلا أوسع من رده
إلى قائله عليهالسلام.
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال في الجارية التي لم تدرك الحيض ، قال : يطلقها زوجها بالشهور ، وقيل :
فإن طلقها تطليقة ثم مضى شهر ثم حاضت في الشهر الثاني؟ قال : فقال : إذا حاضت بعد
ما طلقها بشهر ألقت ذلك الشهر واستأنفت العدة بالحيض ، فإن مضى لها بعد ما طلقها
شهران ثم حاضت في الثالث أتمت عدتها بالشهور ، فإذا مضى لها ثلاثة أشهر فقد بانت
منه ، وهو خاطب من الخطاب ، وهي ترثه ويرثها ما كانت في العدة».
وهو ظاهر كما
ترى في وجوب العدة بالشهور على الصغيرة التي لم تدرك الحيض أي لم تبلغ. ويمكن
الجواب عنه بحمل قوله «لم تدرك الحيض» أي لم يقع بها حيض وإن كانت في سن من تحيض ،
وباب المجاز واسع.
ولكن يبقى في
الخبر أيضا إشكال من وجه آخر ، حيث إنه حكم بأنه إذا
__________________
مضى لها شهران بعد ما طلقها ثم حاضت في الثالث فقد انقضت عدتها ، وقد مضى
نظيره في الأخبار التي تقدمت في البحث الأول من هذا المقام ، إلا أن يحمل قوله «ثم
حاضت في الثالث» يعني بعد الثالث ، فلا يبعد حمل ما تضمن وجوب العدة على الصغيرة
واليائسة من الأخبار على التقية لما صرح به في الوسائل من موافقتها لمذاهب المخالفين ، فإن ثبت فإنه لا مندوحة
عنه ، بل وإن لم يثبت إذ ليس بعد دلالة ظاهر الآية على ما ذكرناه واستفاضة الأخبار
به كما عرفت واتفاق علماء الفرقة الناجية إلا من شذ على ذلك إلا خروج هذه الأخبار
مخرج التقية بالمعنى المشهور أو المعنى الآخر الذي تقدمت الإشارة إليه مرارا.
تنبيهات
الأول : قال
السيد السند في شرح النافع : واعلم أن المصنف وجمعا من الأصحاب صرحوا بأن المراد
بالصغيرة من نقص سنها عن التسع ، ومورد الروايات التي لا تحيض مثلها ، وهي تتناول
من زاد سنها على التسع إذا لم يحض مثلها ، وقد وقع التصريح في صحيحة جميل بعدم
وجوب العدة على من لم يحمل مثلها وإن كان قد دخل بها الزوج ، مع أن الدخول بمن دون
التسع محرم ، وحمله على الدخول المحرم خلاف الظاهر ، ولو قيل بسقوط العدة عن
الصبية التي لم يحمل مثلها وإن كانت قد تجاوزت التسع لم يكن بعيدا من الصواب وإن
كان الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذكروه ، انتهى.
وفيه نظر ،
وذلك لأنه وإن كان قد ورد في بعض الأخبار التعبير بالتي لا تحيض مثلها كما ذكره ،
إلا أنهم قد فسروه عليهمالسلام في جملة من الأخبار بمن لم تبلغ التسع كما في رواية عبد
الرحمن بن الحجاج وهي الاولى من الروايات
__________________
المتقدمة ، فإنه لما عد عليهالسلام من جملة الثلاث اللائي يتزوجن على كل حال التي لا تحيض
ومثلها لا تحيض سأله السائل : ما حدها؟ قال : إذا أتى لها أقل من تسع سنين ومثلها
موثقته وهي الثانية من الروايات ، وحينئذ فيجب حمل ما أطلق من
الأخبار على هذين الخبرين ليرتفع التنافي بينهما والتدافع.
وأما ما اعتضد
به من صحيحة جميل الدالة على الدخول بمن لا تحمل مثلها من أن الدخول بها
حرام وأن الحمل على الدخول المحرم خلاف الظاهر ففيه أن مرسلة جميل وهي الأخيرة من
الروايات المتقدمة قد تضمنت بأن الرجل يطلق الصبية التي لم تبلغ ولا تحمل مثلها
فقال عليهالسلام «ليس عليها عدة وإن دخل بها» ومعلوم أن الدخول بها محرم.
ونحوها مرسلة
جميل الأخرى وهي الثالثة من الروايات في الرجل يطلق الصبية التي لم تبلغ ولا
تحمل مثلها وقد كان دخل بها ، ومن المعلوم أن الدخول بها حرام.
وفي معنا هما
صحيحة حماد بن عثمان أو حسنته عمن رواه عن أبي عبد الله عليهالسلام.
وبذلك يظهر لك
أن استبعاده الحمل على الدخول المحرم ـ باعتبار إطلاق الرواية التي ذكرها ـ ليس في
محله ، بل إطلاق الرواية المذكورة محمول على تقييد هذه الأخبار.
ومنه يظهر أن
الحق ما قاله الأصحاب من أن محل البحث هي الصغيرة التي لم تبلغ التسع وإن دخل بها
وارتكب المحرم في الدخول بها. وأن ما توهمه من سقوط العدة عمن بلغت التسع إذا لم
تحمل مثلها في غاية البعد عن الصواب لمنافاته
__________________
لما دلت عليه أخبار الباب. وبالجملة فإن ما ذكره مجرد وهم نشأ عن قصور
التتبع للأخبار كما عرفت.
الثاني : اختلف
الأصحاب في تحديد السن الذي به تكون المرأة يائسة لاختلاف الأخبار ، ونحن قد حققنا
الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في باب الحيض من كتاب الطهارة فمن أحب الوقوف عليه فليرجع إلى الكتاب المذكور.
الثالث : قد
صرح الأصحاب بأنه لو رأت المطلقة الحيض مرة ثم بلغت اليأس أكملت العدة بشهرين.
واستدلوا عليه
بما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ عنه في التهذيب عن هارون بن حمزة عن أبي عبد الله عليهالسلام «في امرأة طلقت وقد طعنت في السن فحاضت حيضة واحدة ثم ارتفع حيضها ، فقال :
تعتد بالحيضة وشهرين مستقبلين ، فإنها قد يئست من المحيض».
وعلل أيضا بأن
الوجه في ذلك حكم الشارع عليها بوجوب العدة قبل اليأس وقد كانت حينئذ من ذوات
الأقراء ، فإذا تعذر إكمالها لليأس المقتضي انتفاء حكم الحيض مع تلبسها بالعدة
أكملت بالأشهر لأنها بدل عن الأقراء كما تقرر فيجعل لكل قرء شهر.
والأولى أن
يجعل هذه وجها للخبر المذكور لا علة مستقلة لما قدمنا لك في غير موضع من أن أمثال
هذه التعليلات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، ولو فرض بلوغها حد اليأس بعد أن
حاضت حيضتين احتمل إكمال العدة بشهر كما هو مقتضى ما دلت عليه الرواية المذكورة ،
ولكن الأصحاب اقتصروا على مورد الرواية ، ولا تكاد توجد عدة ملفقة من الأمرين إلا
هذه ، وإنما لم تجعل من انقطع
__________________
دمها قبل تمام العدة لعارض كذلك لأن عود الدم هنا ممكن واحتسابه من الحيض
جائز ، بخلاف اليأس الذي تبين به انقطاع الحيض بالمرة.
البحث
الرابع : في جملة من
الأحكام الملحقة بهذا المقام.
الأول : قال
المحقق في الشرائع : ولو استمر الدم مشتبها رجعت إلى عادتها في زمان
الاستقامة واعتدت به ولو لم يكن لها عادة اعتبرت صفة الدم واعتدت بثلاثة أقراء ،
ولو اشتبه رجعت إلى عادة نسائها ، ولو اختلفن اعتدت بالأشهر ، انتهى.
والمراد
باستمراره أي تجاوزه العشرة ، والمراد باشتباهه في هذا المقام هو أنه بعد تجاوز
العادة متى كانت ذات عادة إلى أن يتجاوز العشرة محتمل لأن يكون حيضا وعدمه ، وإن
كان مع الانقطاع قبل العشرة أو تجاوزها يكون غير مشتبه ، وما ذكر من الرجوع بعد
تجاوز العشرة إلى العادة متى كانت ذات عادة والاعتداد بها وكذا لو لم تكن ذات عادة
بل كانت مبتدئة أو مضطربة من العمل بالتمييز إذا حصلت شرائطه المتقدمة في باب
الحيض مما لا إشكال فيه ولا خلاف.
إنما الإشكال
في قوله «ولو اشتبه رجعت إلى عادة نسائها» فإنه على إطلاقه ـ وإن
__________________
كان قد صرح به الشيخ قبله والعلامة في أكثر كتبه بعده ـ محل إشكال ، وذلك
لأن من لم يكن لها عادة واعتبرت صفة الدم مراد بها المبتدئة والمضطربة كما عرفت ،
ومقتضى العبارة أنهما مع فقد التميز ترجعان إلى عادة نسائهما ، وهذا في المبتدئة
جيد لما تقدم في باب الحيض من الأخبار الدالة عليه ، وقول الأصحاب به. وأما
المضطربة فلا دليل عليه فيها ، ولا قائل به إلا ما ينقل عن أبي الصلاح ، وهو شاذ
مردود بعدم الدليل عليه ، بل الحكم فيها أنها مع فقد التميز ترجع إلى الروايات ،
وليس لحكم الحيض في العدة أمر يقتضي هذا بخصوصه.
وبالجملة فإن
تصريحهم بذلك هنا ـ على خلاف ما قرروه واتفقوا عليه إلا الشاذ منهم كما عرفت في
باب الحيض ـ لا يخلو من تدافع.
نعم مقتضى ما
قرروه في باب الحيض أن المبتدئة مع فقد التميز وفقد عادة النساء ، والمضطربة مع
فقد التميز ترجعان إلى التحيض بالروايات المتقدمة في باب الحيض.
وأما هنا فإن
الأخبار قد صرحت بأنها تعتد بالأشهر الثلاثة في موضع الأخذ بالروايات ثمة التي
تنقص عن الثلاثة الأشهر.
ومن الأخبار
المشار إليها ما رواه في الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة المرأة التي لا تحيض والمستحاضة التي لا
تطهر ثلاثة أشهر ، وعدة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة التي لم تحض والمستحاضة التي لم تطهر ثلاثة
أشهر ، وعدة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء».
__________________
وما رواه في
التهذيب عن زرارة قال : «إذا نظرت فلم تجد الأقراء إلا ثلاثة
أشهر ، فإذا كانت لا يستقيم لها حيض تحيض في الشهر مرارا فإن عدتها عدة المستحاضة
ثلاثة أشهر ، وإذا كانت تحيض حيضا مستقيما فهو في كل شهر حيضة بين كل حيضتين شهر ،
وذلك القرء».
قال في الوافي
: «فلم تجد الأقراء إلا في ثلاثة أشهر» أي لم تجد الأطهار الثلاثة إلا في ثلاثة
أشهر ، وهذا ينقسم إلى قسمين كما فصله ، انتهى.
وما رواه المشايخ
الثلاثة عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام «أنه قال في التي تحيض في كل ثلاثة أشهر مرة أو في ستة أو في سبعة أشهر
والمستحاضة التي لم تبلغ الحيض ، والتي تحيض مرة وترتفع مرة ، والتي لا تطمع في
الولد والتي قد ارتفع حيضها وزعمت أنها لم تيأس ، والتي ترى الصفرة من حيض ليس
بمستقيم ، فذكر أن عدة هؤلاء كلهن ثلاثة أشهر».
وبهذه الأخبار
خرجت المستحاضة المستمر دمها بالنسبة إلى العدة عن الحكم التي تقرر لها في باب
الحيض فحكمها بالنسبة إلى العدة الاعتداد ثلاثة أشهر ، وأما بالنسبة إلى العبادات
فترجع فيها إلى الروايات المتقدمة في باب الحيض.
قال في المسالك
: ويمكن أن تكون حكمة العدول عن الروايات إلى الأشهر انضباط العدة بذلك ، دون
الروايات من حيث إنها تتخير في تخصيص العدد بما شاءت من الشهر ، وذلك يوجب كون
العدة بيدها زيادة ونقصانا ، وذلك غير موافق لحكمة العدة ، انتهى.
ومن جملة أخبار
المسألة ما رواه الشيخ عن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما
__________________
عليهماالسلام قال : «تعتد المستحاضة بالدم إذا كان في أيام حيضها ،
أو بالشهور إن سبقت لها ، فإن اشتبه فلم تعرف أيام حيضها من غيرها فإن ذلك لا يخفى
، لأن دم الحيض دم عبيط حار وأن دم الاستحاضة دم أصفر بارد».
أقول : وفي هذه
الرواية دلالة على ما تقدم نقله عن الأصحاب من العمل بالتميز مبتدئة كانت أو
مضطربة بحمل عدم المعرفة على ما هو أعم من وجود أيام حيض لها سابقا ، ولكن أضلتها
أو لم تكن بالكلية ، ومرجعه إلى توجه التقي إلى القيد والمقيد ، أو القيد خاصة ،
ويحتمل اختصاصها بالمضطربة.
وما رواه في
الفقيه عن محمد بن مسلم في الصحيح «أنه سأل أبا جعفر عليهالسلام عن عدة المستحاضة ، قال : تنظر قدر أقرائها فتزيد يوما
أو تنقص يوما ، فإن لم تحض فلتنظر إلى بعض نسائها فلتعتد بأقرائها».
وفي هذا الخبر
دلالة على ما تقدم أيضا من أن ذات العادة مع استمرار الدم ترجع إلى عادتها السابقة
، والمبتدئة تنظر إلى حيض نسائها وتعتد بأقرائهن.
وأما ما ذكروه
هنا من جريان هذا الحكم في المضطربة فقد عرفت ما فيه ، وأنه لا دليل عليه لا في
باب الحيض ولا في هذا الباب.
الثاني : قد
صرح الأصحاب بأنه متى طلقت في أول الهلال وكانت تعتد بالأشهر اعتدت بثلاثة أشهر
هلالية ، لأن الشهر حقيقة في الهلالي ، وهو مما لا خلاف فيه.
إنما الخلاف
فيما لو طلقت في أثناء الشهر فقيل : إنها متى طلقت في أثناء الشهر وانكسر ذلك
الشهر اعتبر بعده شهران هلاليان وأكمل المنكسر ثلاثين يوما.
(أما) الأول
فلما عرفت من أن الشهر متى أطلق فإنه حقيقة في الهلالي.
(وأما) الثاني
فلأنه لما امتنع في الشهر الأول أن يكون هلاليا لفوات بعضه وجب الانتقال إلى الشهر
العرفي وهو الثلاثون.
__________________
وقيل بأنه تجبر
الأول بقدر ما فات منه ، ووجهه أن إطلاق الشهر محمول على الهلالي ، فإذا فات بعضه
أكمل من الرابع بقدر الفائت ، فلو فرض كونه تسعة وعشرين يوما وطلقها وقد مضى منه
عشرون يوما أكمله بتسعة من الشهر الرابع وقيل : إنه ينكسر الجميع فيسقط اعتبار
الأهلة في الثلاثة ، ووجهه أن المنكسر أولا يتمم مما يليه فينكسر أيضا وهكذا.
وإلى القول
الأول مال المحقق في الشرائع والشهيد الثاني في شرحه ، وتحقيق الكلام في المقام قد
مر مستوفى في باب السلم من كتاب المعاملات فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.
قال في المسالك
: واعلم أن انطباق الطلاق ونحوه من العقود على أول الشهر يتصور بأن يبتدأ في اللفظ
قبل الغروب من ليلة الهلال بحيث يقترن بأول الشهر لا بابتدائه في أول الشهر ، لأنه
إلى أن يتم لفظه يذهب جزء من الشهر فينكسر.
أقول : لا يخفى
ما فيه من العسر وتعذر معرفة ذلك على سائر الناس ، مع أن الذي صرح به في كتاب
السلم إنما هو بناء الابتداء على العرف ، فلا يقدح فيه اللفظة ولا الساعة ، وهو
ظاهر غيره أيضا كما قدمنا ذكره في كتاب السلم.
قال في كتاب
السلم : يعتبر في أولية الشهر وأثنائه العرف لا الحقيقة لانتفائها دائما أو غالبا
إذ لا يتفق المقارنة المحضة بغروب ليلة الهلال ، فعلى هذا لا يقدح فيه نحو اللحظة
، ويقدح فيه نصف الليل ونحوه ، وحيث كان المرجع إلى العرف فهو المعيار ، والظاهر
أن الساعة غير قادحة. انتهى وهو جيد ، لا ما ذكره في هذا الكتاب من اعتبار الأولية
الحقيقية.
الثالث : لا
خلاف بين الأصحاب في أنه لو ارتابت بالحمل بأن وجدت علامة تفيد الظن به بعد العدة
نكحت أو لم تنكح جاز لها التزويج ، وكان نكاحها صحيحا
__________________
للحكم شرعا بانقضاء العدة المبيح للتزويج ، فلا يعارضه الظن الطارئ بالريبة
، ومرجعه إلى أن الشك لا يعارض اليقين ، وهي قاعدة كلية متفق عليها.
إنما الخلاف
فيما لو حصلت الريبة قبل انقضاء العدة ، فهل يجوز لها التزويج بعد انقضاء العدة أم
لا؟
وبالثاني قال
الشيخ في المبسوط ، فإنه حكم بأنه لا يجوز لها أن تنكح بعد انقضاء العدة إلى أن
يتبين الحال ، وعلله بأن النكاح مبني على الاحتياط.
وبالأول صرح
المحقق والعلامة لوجود المقتضي ، وهو الخروج من العدة وانتفاء المانع ، إذ الريبة
بذاتها لا توجب الحكم بالحمل ، والأصل عدمه.
أقول : ويمكن
تأييد ما ذهب إليه الشيخ هنا بروايات محمد بن حكيم المتقدمة وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة أيضا ، والتقريب فيها أنها دلت على أن
المسترابة بعد الثلاثة الأشهر التي هي العدة لذات الشهور تعتد بتسعة أشهر ، بناء
على كون مدة الحمل هي التسعة أو سنة كما في موثقة عمار بناء على كونها سنة ، ثم إنها تحتاط بعد المدة المذكورة
بثلاثة أشهر ، ولعل تعبير الشيخ بالاحتياط وقع تبعا لما صرحت به الروايات المذكورة
، فإنها صرحت بأنها بعد التسعة أو العشرة لا ريبة عليها ، ولكن تحتاط بالصبر ثلاثة
أشهر ، وأنه لا يجوز لها التزويج إلا بعد مضي الثلاثة الأخيرة مع الحكم بانتفاء
الريبة عنها بعد التسعة أو السنة ، إلا أنه يمكن تخصيص محل البحث بما لو حصلت
الريبة في الثلاثة الأشهر التي هي العدة لذات الشهور ، وإلا فإنها بعد تمام الثلاثة
وعدم الريبة يجوز لها التزويج كما يدل عليه ما رواه في الكافي عن محمد بن حكيم في الحسن عن
__________________
العبد الصالح عليهالسلام قال : «قلت له : المرأة الشابة التي تحيض مثلها يطلقها
زوجها فيرتفع طمثها ، ما عدتها؟ قال : ثلاثة أشهر ، قلت : جعلت فداك فإنها تزوجت
بعد ثلاثة أشهر ، فتبين لها بعد ما دخلت على زوجها أنها حامل ، قال : هيهات من ذلك
يا ابن حكيم ، رفع الطمث ضربان : إما فساد من حيضة فقد حل لها الأزواج وليس بحامل
، وإما حامل فهو يستبين في ثلاثة أشهر ، لأن الله تعالى قد جعله وقتا يستبين فيه
الحمل ، قال : قلت : فإنها ارتابت بعد ثلاثة أشهر ، قال : عدتها تسعة أشهر ، قلت :
فإنها ارتابت بعد تسعة أشهر ، قال : إنما الحمل تسعة أشهر ، قلت : فتزوج؟ قال :
تحتاط بثلاثة أشهر ، قلت : فإنها ارتابت بعد ثلاثة أشهر ، قال : ليس عليها ريبة ،
تزوج».
المقام
الرابع في عدة الحامل
: والمشهور في كلام الأصحاب أن عدتها وضع الحمل حيا كان أو ميتا تاما كان أو ناقصا
إذا تحقق أنه مبدأ نشو آدمي ، ويدل عليه قوله عزوجل «وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ»
وهي بإطلاقها
شاملة لما ذكرناه من الأفراد ، ويدل على ذلك الأخبار أيضا ، منها :
ما رواه في
الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا طلقت المرأة وهي حامل فأجلها أن تضع حملها
وإن وضعت من ساعتها».
وما رواه في
الفقيه في الصحيح والكليني في الموثق عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليهالسلام قال : «سألته عن الحبلى إذا طلقها زوجها فوضعت سقطا ثم
أو لم يتم فقد انقضت عدتها ، أو إن كان مضغة ، قال : كل شيء وضعته يستبين أنه حمل
ثم أو لم يتم فقد انقضت عدتها وإن كان مضغة». وهو صريح فيما ذكرناه من الأفراد
المتقدمة.
__________________
وما رواه في
التهذيب عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته وهي حبلى وكان في بطنها
اثنان فوضعت واحدا وبقي واحد ، قال : تبين بالأول ولا تحل للأزواج حتى تضع ما في
بطنها».
وعن عبد الله
بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المرأة تضع ، أيحل لها أن تتزوج قبل أن
تطهر؟ قال : إذا وضعت تزوجت ، وليس لزوجها أن يدخل بها حتى تطهر».
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «طلاق الحبلى واحدة ، وإن شاء راجعها قبل أن تضع
، وإن وضعت قبل أن يراجعها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب».
وما رواه في
الكافي عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «طلاق الحامل واحدة ، فإذا وضعت ما في بطنها فقد
بانت منه».
ورواه الصدوق
عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام وطريقه إليه في المشيخة صحيح ، فيكون الخبر صحيحا.
وقال الصدوق في
الفقيه : واعلم أن أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وهو أقرب الأجلين ، فإذا
وضعت أو أسقطت يوم طلقها أو بعده متى كان فقد بانت منه وحلت للأزواج فإذا مضى بها
ثلاثة أشهر من قبل أن تضع فقد بانت منه ولا تحل للأزواج حتى تضع ، انتهى ونقل ذلك
عن ابن حمزة أيضا.
وقال العلامة
في المختلف : المشهور أن عدة الحامل وضع الحمل في الطلاق ، وقال الصدوق ـ ثم أورد
العبارة المذكورة ثم قال : ـ وقال السيد المرتضى : مما
__________________
يظن أن الإمامية مجمعة عليه ومنفردة به القول إن عدة الحامل المطلقة أقرب
الأجلين ، بمعنى أن المطلقة إذا كانت حاملا ووضعت قبل مضي الأقراء الثلاثة فقد
بانت بذلك ، وإن مضت الأقراء الثلاثة قبل أن تضع حملها بانت بذلك أيضا ، وقد بينا
في جواب المسائل الواردة من أهل الموصل المتضمنة أنه ما ذهب جميع أصحابنا إلى هذا
المذهب ، ولا أجمع العلماء منا عليه ، وأكثر أصحابنا يفتي بخلافه ، وإنما عول من
خالف من أصحابنا على خبر يرويه زرارة عن الباقر عليهالسلام وقد بينا أنه ليس بحجة ، ثم سلمناه وتأولناه.
وقال ابن إدريس
: وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن الحامل عدتها أقرب الأجلين من جملتهم ابن بابويه ،
ومعنى ذلك أنه إن مرت بها ثلاثة أشهر فقد انقضت عدتها ولا تحل للأزواج حتى تضع ما
في بطنها ، وإن وضعت الحمل بعد طلاقه بلا فصل بانت منه وحلت للأزواج ، وتعجب منه ،
انتهى.
أقول : ظاهر
كلامي المرتضى وابن إدريس ذهاب جملة من الأصحاب إلى هذا القول وأن منهم الصدوق ،
وظاهر كلام المتأخرين تخصيص الخلاف بالصدوق.
والذي يدل على
هذا القول ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي الصباح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «طلاق الحامل واحدة وعدتها أقرب الأجلين».
وعن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «طلاق الحبلى واحدة ، وأجلها أن تضع حملها ، وهو
أقرب الأجلين».
ورواه في
الكافي أيضا عن ابن مسكان عن أبي بصير في الصحيح عن أبي عبد
الله عليهالسلام مثله.
والسيد السند
في شرح النافع إنما استدل لهذا القول برواية أبي الصباح ،
__________________
ثم ردها بضعف السند لاشتماله على محمد بن الفضيل وهو مشترك ، مع أنك قد
عرفت ورود هذين الخبرين الصحيحين بذلك.
والتحقيق عندي
في الجواب أن هذه الأخبار غير صريحة بل ولا ظاهرة فيما ادعاه الصدوق ـ رحمة الله
عليه ـ لأن المفهوم من أخبار المسألة كملا بعد ضم بعضها إلى بعض هو أن عدة الحامل
وضع الحمل ، فإنه أقرب الأجلين كما هو مدلول صحيحتي الحلبي وأبي بصير ، وإنما وصف
وضع الحمل بأنه أقرب الأجلين لجواز حصوله بعد الطلاق بلحظة أو أيام يسيرة ، ونحو
ذلك بخلاف التحديد بالثلاثة الأشهر فإنه لا قرب فيها بالكلية ، وحينئذ فمعنى قوله
في رواية الكناني «وعدتها أقرب الأجلين» أن عدتها هو وضع الحمل الذي هو أقرب
الأجلين ، فهو صفة لموصوف محذوف لا أن المراد ما توهمه ـ رحمة الله عليه ـ ومن معه
من أن المعنى أقرب العدتين ، بمعنى أن أيهما سبق اعتدت به ، فإنه مردود بالآية
والأخبار المتكاثرة كما عرفت.
وعلى تقدير ما
ذكرناه تجمع الآية وأخبار المسألة كملا ويرتفع التنافي من البين.
وأما ما ذكره
المرتضى من دلالة رواية زرارة عن الباقر عليهالسلام على قول الصدوق فإنا لم نقف فيما وصل إلينا من الأخبار
عليها ، وإنما الذي وصل إلينا ما ذكرناه من الروايات الثلاث المنقولة ، وتمام
تحقيق الكلام في المقام يتم برسم مسائل :
الأولى
: ـ اختلف
الأصحاب فيما لو كانت حاملا باثنين فولدت واحدا فهل تبين بوضع الأول ، وإن لم ينكح
إلا بعد وضع الثاني؟ أو أنها لا تبين إلا بوضعهما معا؟ قولان :
(أولهما) للشيخ
في النهاية وابن البراج وابن حمزة وابن الجنيد وعليه تدل رواية عبد الرحمن بن أبي
عبد الله المتقدمة.
__________________
وقال أمين
الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي في كتاب مجمع البيان «وروى أصحابنا أن الحامل إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الزوج ، ولا يجوز
لها أن تعقد على نفسها لغيره حتى تضع الآخرة». ويحتمل إرادة الرواية المذكورة
ونقلها بالمعنى ، ويحتمل أن يكون رواية أخرى بهذا اللفظ ، ولعله الأقرب.
(وثانيهما)
للشيخ في الخلاف والمبسوط وابن إدريس والعلامة والمحقق ، وادعى في الخلاف إجماع
أهل العلم عليه ، واختاره في المسالك وسبطه السيد السند في شرح النافع تمسكا بظاهر
الآية ، فإنه مع بقاء شيء من الحمل في الرحم لا يصدق وضع حملهن ، واستضعافا
للرواية ، قال : والرواية واضحة المتن ، لكن في طريقها عدة من الواقفية والمجاهيل
، وذلك مما يمنع العمل بها.
وأنت خبير بأنه
وإن كان ظاهر الآية كما ذكروه إلا أن مقتضى كلامه ـ رحمة الله عليه ـ أنه لو صح
الخبر لأمكن تخصيص الآية به ، وحينئذ فمن لا يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث ويحكم
بصحة الأخبار جريا على ما جرت عليه متقدمو علمائنا الأبرار ، فإنه له أن يخصص
الآية المذكورة به إذ لا معارض له في البين إلا إطلاق الآية ، والجمع بين الدليلين
بما ذكرنا أولى من طرح أحدهما كما هي القاعدة المطردة في كلامهم.
وممن ذهب إلى
ما اخترناه المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في كتاب الوسائل.
الثانية : ظاهر الآية والأخبار المتقدمة أن انقضاء العدة إنما يحصل بخروجه أجمع ،
فلو خرج نصفه أو أزيد متصلا أو منفصلا فإنه لا يصدق وضع الحمل المترتب عليه الخروج
من العدة في الآية والأخبار ، فتبقى أحكام الزوجية من الرجعة في الرجعية والميراث
لو مات أحدهما ، ونحو ذلك وهو ظاهر.
الثالثة : لا خلاف ولا إشكال في أنه لا يكفي وضعه نطفة مع عدم استقرارها
__________________
في الرحم ، وأما معه فظاهر الشيخ الحكم بانقضاء العدة بها مطلقا ، وفيه
إشكال للشك في كونه قد صار حملا ، ويأتي مثل ذلك في العلقة من الدم التي لا تخطيط
فيها ، ووافق الشيخ هنا جماعة من الأصحاب منهم المحقق.
قال في المسالك
: وهو قريب مع العلم بأنها مبدأ نشو آدمي ، وإلا فلا ، ولو سقطت مضغة فالأقرب كما
استقربه في المسالك أيضا أنها تكفي في العلم بذلك.
الرابعة : قال في المسالك : يشترط في الحمل كونه منسوبا إلى من العدة منه ، إما
ظاهرا أو احتمالا ، فلو انتفى عنه شرعا لم يعتد به ، وإمكان تولده منه بأن يكون
فحلا أو مجبوبا له بقية أو لا معها ، لما تقدم من لحوق الحمل به ، ولو انتفى عنه
شرعا بأن ولدته تاما لدون ستة أشهر من يوم النكاح أو لأكثر وبين الزوجين مسافة لا
تقطع في تلك المدة لم تنقض به العدة. وكذا لا يلحق بالممسوح على الأظهر وإن أمكنت
المساحقة في حقه لفقد آلة التولد ، انتهى وهو جيد.
الخامسة : قد صرح الأصحاب بأنه لو طلقت المرأة فادعت الحمل صبر عليها أقصى الحمل ،
وهو تسعة أشهر عند بعض ، وهو المشهور كما تقدم ، وسنة عند آخر ، وعشرة أشهر عند
ثالث ، ثم لا يقبل دعواها ، وقد تقدمت جملة من الروايات الدالة على هذا الحكم في
صدر البحث الثاني من سابق هذا المقام ، وهي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وروايات محمد بن حكيم ، وهي متفقة في الدلالة على التسعة ، وموثقة عمار
المتقدمة في المذكور آنفا وهي دالة على القول بالسنة. وأما القول بالعشرة فلم نقف
له على خبر.
واستدل شيخنا
في المسالك ونقله سبطه السيد السند في شرح النافع على القول بالسنة بصحيحة عبد
الرحمن بن الحجاج المشار إليها ، وهي ما رواه في الصحيح «قال : سمعت أبا إبراهيم عليهالسلام يقول : إذا طلق الرجل امرأته وادعت أنها حبلى انتظر
تسعة أشهر ، فإن ولدت وإلا اعتدت بثلاثة أشهر ثم قد بانت منه».
__________________
قال في شرح
النافع : وهذه الرواية صريحة في وجوب التربص سنة ، لكنها لا تدل صريحا على أن ذلك
أقصى الحمل. انتهى ، ونحوه كلام جده في المسالك.
وأنت خبير بما
فيه ، فإن الظاهر أن مرجع هذه الرواية إلى ما دلت عليه روايات محمد بن حكيم
المتقدمة من أنها بعد الاسترابة أو ادعاء الحمل بعد الثلاثة فإنها تصبر تسعة أشهر
، فإن ظهر الحمل فيها وإلا اعتدت بعدها بثلاثة أشهر ، إلا أن أكثر روايات محمد بن
حكيم صرحت بأن تلك التسعة أقصى مدة الحمل ، وهذه الرواية فيها نوع إجمال ، إلا
أنها عند التأمل ترجع إلى ذلك ، لأن قوله «انتظر تسعة أشهر فإن ولدت وإلا اعتدت»
ظاهر في أن التسعة أقصى مدة الحمل ، وإلا فلا معنى لفرض الولادة فيها ، ولو كان
أقصى الحمل سنة كما يدعون دلالة هذا الخبر عليه لكان تخصيص هذا الفرض بالتسعة
لاغيا ، لأن محله السنة لا التسعة ، والثلاثة التي بعد التسعة قد عرفت آنفا أنها
هي العدة الشرعية بعد تيقن براءة الرحم بمضي التسعة.
وبالجملة فإن
روايات محمد بن حكيم وهذه الرواية قد اشتركت في الدلالة على أنها بالاسترابة ودعوى
الحمل بعد الثلاثة تصبر تسعة أشهر ، فإن ظهر بها حمل وإلا اعتدت بعدها بثلاثة أشهر
، غاية الأمر أن أكثر روايات ابن حكيم صرحت بكون التسعة أقصى مدة الحمل ، وهذه وإن
لم تكن صريحة في ذلك إلا أنها ظاهرة فيه. ومع تسليم عدم ظهورها وأنها مطلقة في ذلك
فإنه يجب تقييد إطلاقها على ما قيد به تلك الأخبار ، وإلا كان ذكر التسعة في البين
لغوا.
والدليل على
القول بالسنة إنما هو موثقة عمار كما تقدم ، ولكنها حيث دلت على التربص سنة ثم الاعتداد
بثلاثة أشهر فيكون الجميع خمسة عشر شهرا. مع أنه لا قائل بكون الحمل كذلك أطرحوها.
وكيف كان فالعمل
__________________
على القول بالتسعة.
السادسة : قد صرح الأصحاب بأنه لو طلقها رجعيا ثم مات استأنف عدة
الوفاة ، أما لو كانت بائنا فإنها تقتصر على إتمام عدة الطلاق. وعلل بأن المطلقة
رجعيا بحكم الزوجة فيثبت لها ما يثبت للزوجة من الأحكام كالتوارث بينهما والظهار
والإيلاء وغيرهما من أحكام الزوجية. ومنها ما هنا من وجوب استئناف عدة الوفاة وعدم
البناء على ما تقدم بخلاف البائنة ، فإنها في حكم الأجنبية.
ويدل على ما
ذكروه من الحكم الأول جملة من الأخبار.
ومنها ما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام «في رجل طلق امرأته طلاقا يملك فيه الرجعة ثم مات عنها قال : تعتد بأبعد
الأجلين أربعة أشهر وعشرا».
وعن هشام بن
سالم عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثم مات قبل أن تنقضي عدتها ، قال : تعتد
أبعد الأجلين عدة المتوفى عنها زوجها».
وعن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين لأن عليها
أن تحد أربعة أشهر وعشرا ، وليس عليها في الطلاق أن تحد».
__________________
أقول : قوله «عدة
المتوفى عنها زوجها» يعني إذا كانت مطلقة آخر الأجلين أي أبعدهما ، وفيه تعليل
استئناف عدة الوفاة بأنها يجب عليها الحداد فيها وهي أربعة أشهر وعشرا ، فلا بد من
الحداد فيها من أولها إلى آخرها ، بخلاف عدة الطلاق فإنه ليس فيه حداد ، ومن ثم
وجب عليها استئناف عدة الوفاة.
وما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سمعته يقول : أيما امرأة طلقت ثم توفي عنها
زوجها قبل أن تنقضي عدتها ولم تحرم عليه فإنها ترثه ، ثم تعتد عدة المتوفى عنها
زوجها ، وإن توفيت وهي في عدتها ولم تحرم عليه فإنه يرثها ـ وزاد في التهذيب ـ وإن
قتل ورثت من ديته ، وإن قتلت ورث من ديتها ، ما لم يقتل أحدهما الآخر».
وما رواه في
الفقيه عن سماعة في الموثق قال : «سألته عن رجل طلق امرأته ثم
إنه مات قبل أن تنقضي عدتها ، قال : تعتد عدة المتوفى عنها زوجها ولها الميراث».
وعن محمد بن
مسلم قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل طلق امرأته تطليقة من غير جماع ثم توفي عنها وهي
في عدتها ، قال : ترثه ، ثم تعتد عدة المتوفى عنها زوجها» الحديث.
وأما الحكم
الثاني وهو أنه متى كان الطلاق بائنا فإنها تقتصر على إتمام عدة الطلاق ، فيدل
عليه الأصل السالم من المعارض لأن ما تقدم من الروايات بعد ضم مطلقه إلى مقيده
تقتضي اختصاص الاستئناف بالموت العدة الرجعية ، ويدل عليه أيضا مفهوم قوله في
صحيحة محمد بن قيس «ولم تحرم عليه» الذي هو كناية عن الطلاق بائنا.
__________________
وأما ما رواه في
الكافي عن علي بن إبراهيم عن بعض أصحابنا «في المطلقة البائنة
إذا توفي عنها زوجها وهي في عدتها قال : تعتد بأبعد الأجلين». فردها المتأخرون
بضعف السند ، قال في شرح النافع : وضعف هذه الرواية يمنع من العمل بها ، وحمله بعض
محدثي متأخري المتأخرين على الاستحباب وفيها ما لا يخفى ، ولا يحضرني الآن وجه
وجيه تحمل عليه.
بقي هنا شيء
وهو أنه لا إشكال فيما ذكرنا من وجوب استئناف عدة الوفاة لو مات الزوج في عدة
الرجعية فيما إذا زادت عدة الوفاة على عدة الطلاق كما هو الغالب ، إنما الإشكال
فيما لو انعكس الفرض كالمسترابة التي عدتها في الطلاق تسعة أشهر أو سنة ثم ثلاثة
أشهر بعد ذلك ، فإن عدة الطلاق هنا أزيد من عدة الوفاة التي هي أربعة أشهر وعشرة
أيام.
وحينئذ فهل
تجتزي في هذه الحال بعدة الوفاة نظرا إلى عموم أدلة عدة الوفاة وأنه لا فرق بين
المسترابة وغيرها؟ أو تعتبر بأبعد الأجلين من أربعة أشهر وعشرة أيام ومن مدة يعلم
فيها انتفاء الحمل لأنها بالاسترابة تكون في معرض الحمل وفرض الحامل المتوفى عنها
زوجها الاعتداد بأبعد الأجلين كما سيأتي ذكره إن شاء الله؟ أو أنه يجب عليها إكمال
عدة المطلقة بثلاثة أشهر بعد التسعة أو السنة أو أربعة أشهر وعشرة أيام بعدهما عوض
الثلاثة الأشهر؟ أوجه :
رجح في القواعد
الأول على إشكال. واستوجهه السيد السند في شرح النافع قصرا لما خالف الأصل على
موضع النص.
وقال في
المسالك في توجيه الأوجه المذكورة من إطلاق الحكم بانتقالها إلى عدة الوفاة : ولا
دليل فيها على اعتبار ما زاد عن أبعد الأجلين ، ثم يتجه فيها
__________________
الاكتفاء بأربعة أشهر وعشرة ما لم يظهر الحمل لأصالة العدم ومن أن انتقالها
إلى عدة الوفاة انتقال إلى الأقوى والأشد ، فلا يكون سببا في الأضعف.
ووجه الثالث أن
التربص بها مدة يظهر فيها عدم الحمل لا يحتسب من العدة كما سبق ، وإنما تعتد بعدها
ومن ثم وجب للطلاق ثلاثة أشهر ، فيجب للوفاة أربعة أشهر وعشرة ، والحق الاقتصار في
الحكم المخالف للأصل على مورده ، والرجوع في غيره إلى ما تقتضيه الأدلة ، وغايتها
هنا التربص بها إلى أبعد الأجلين من الأربعة الأشهر وعشرة والمدة التي يظهر فيها
عدم الحمل ولا يحتاج بعدها إلى أمر آخر ، ودعوى الانتقال هنا إلى الأقوى مطلقا
ممنوع ، وإنما الثابت الانتقال إلى عدة الوفاة كيف اتفق. انتهى.
أقول :
والمسألة لا تخلو من شوب الاشكال ، لعدم الدليل الواضح في هذا المجال وتدافع
التعليلات وقيام الاحتمال ، إلا أنه يمكن أن يقال ـ ولعله الذي تجتمع عليه الأخبار
ـ : إن مقتضى أخبار عدة الوفاة هو وجوب إلغاء عدة الطلاق والعمل بعدة الوفاة ،
ومقتضى أخبار المسترابة هو التربص تسعة أشهر أو سنة ، ثم الثلاثة الأشهر بعد أي
منهما ، والجمع بين روايات الطرفين يقتضي الانتقال إلى عدة الوفاة ، بأن يكون في
الثلاثة الأخيرة بعد إتمام التسعة أو السنة ، لأن عدة الطلاق في المسترابة إنما هي
الثلاثة الأشهر الأخيرة ، دون التسعة أو السنة كما مر تحقيقه ، والتسعة أو السنة
إنما هي لاستبراء الرحم ، وإن أطلق عليها لفظ العدة في بعض الأخبار توسعا وتجوزا ،
وحينئذ فلو مات في ضمن التسعة أو السنة وجب إتمامها ثم الاعتداد بعدة الوفاة ، ولو
مات في ضمن الثلاثة وجب استئناف عدة الوفاة.
وبالجملة فإن
روايات استئناف عدة الوفاة دلت على أن ذلك إذا وقع الموت في ضمن العدة الرجعية ،
والعدة بالنسبة إلى المسترابة إنما هي الثلاثة الأخيرة كما عرفت فيختص الحكم بها ،
ويؤيده أن ذلك هو الأحوط ، وفيه عمل بروايات
الطرفين وعدم إلغاء شيء منها في البين.
السابعة : قد تقدم أنه يشترط في الحمل الذي تنقضي العدة بوضعه كونه منسوبا
إلى من العدة منه ، وعلى هذا فلو حملت من الزنا ثم طلقها الزوج بأن يعلم انتفاؤه
عن الفراش بكونه غائبا عنها تلك المدة ، أو تلد تاما لدون ستة أشهر من يوم النكاح
فإنها تعتد بما كانت تعتد به لو لا الزنا ، فإن لم يجامع حملها حيض اعتدت بالأشهر
، وإن جامعه وقلنا بجواز حيضها كما هو أظهر القولين اعتدت بالأقراء وبانت بانقضاء
الأشهر أو الأقراء ، وإن لم تضع حملها فإن الزنا لا حرمة له ، حملت منه أو لم تحمل
، ولذا أيضا أنه لو حملت من الزنا ولم تكن ذات بعل فإنه يجوز لها التزويج قبل أن
تضع ، وعليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب.
أما لو لم تحمل
من الزنا فظاهر الأكثر أنها كذلك. وقرب في التحرير أن عليها مع عدم الحمل العدة
وهو الظاهر عندي.
وعليه يدل ما
رواه في الكافي عن إسحاق بن جرير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : الرجل يفجر بالمرأة ثم يبدو له في
تزويجها ، هل يحل له ذلك؟ قال : نعم إذا هو اجتنبها حتى تنقضي عدتها باستبراء
رحمها من ماء الفجور فله أن يتزوجها» الخبر.
وفي معناه
رواية كتاب تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة ، وقد تقدمت.
__________________
وتؤيدهما
الأخبار الدالة على أنه إذا أدخله فقد وجبت العدة والمهر والرجم
والغسل.
ولو كان الوطء
بشبهة وحملت ثم طلقها فلا يخلو إما أن يكون إلحاق الولد بالزوج من حيث الفراش أم
لا ، بل بالواطئ لبعد الزوج عنها في تلك المدة فلا يمكن إلحاقه به ، وحينئذ فيجب
عليها عدة الطلاق خاصة على الأول ، وعلى الثاني يجب عليها كما صرحوا به عدتان
بأن تعتد أولا من الواطئ بوضع الحمل ثم من الزوج عدة الطلاق. قالوا : ولا يتداخلان
عندنا لأنهما حقان مقصودان للآدميين كالدين ، فتداخلهما على خلاف الأصل.
وأنت خبير بما
في هذا التعليل وأمثاله كما عرفت في غير موضع مما تقدم وقد تقدم في كتاب النكاح
اختلاف الروايات في اتحاد العدة أو تعددها في مثل هذا الموضع ، وهو نكاح الشبهة ،
وأن المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعا هو التعدد ، مع أن المفهوم من جملة من
الأخبار أن التعدد مذهب العامة ومقتضاه حمل أخبار التعدد على التقية ، وأن القول
بالاتحاد هو الأظهر.
ومن الأخبار
المشار إليها ما رواه المشايخ الثلاثة عن زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن امرأة نعي إليها زوجها فاعتدت وتزوجت ، فجاء زوجها
الأول ففارقها وفارقها الآخر ، كم تعتد للناس؟ قال : ثلاثة قروء ، وإنما يستبرء
رحمها بثلاثة قروء ، وتحل للناس كلهم ، قال زرارة : وذلك أن أناسا قالوا : تعتد
عدتين من كل واحد عدة ،
__________________
فأبى ذلك أبو جعفر عليهالسلام وقال : تعتد ثلاثة قروء وتحل للرجال».
وما رواه في
الكافي عن يونس عن بعض أصحابه «في امرأة نعي إليها زوجها
وتزوجت ، ثم قدم الزوج الأول ، فطلقها وطلقها الآخر قال : فقال إبراهيم النخعي
عليها أن تعتد عدتين ، فحملها زرارة إلى أبي جعفر عليهالسلام فقال : عليها عدة واحدة». وبالجملة فإنهم لقصور تتبعهم
للأخبار يقعون في مثل هذا وأمثاله.
المقام
الخامس : في عدة
الوفاة وما يترتب عليها ، والمعتدة عدة الوفاة إما أن تكون حائلا أو حاملا ،
فالكلام هنا في مواضع :
الأول : في عدة الحائل ، لا خلاف بين الأصحاب وغيرهم في أن
الحرة الحائل المتوفى عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام صغيرة كانت أو كبيرة
مدخولا بها أم غير مدخول بها دائمة أو متمتعا بها ، والأصل في ذلك قوله عزوجل «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْراً» وهي بإطلاقها شاملة لما ذكرنا من الأفراد وغيرها من
الأمة والحامل ، إلا أن هذين الفردين المذكورين خرجا بالدليل كما سيأتي ذكره إن
شاء الله تعالى.
وأما الأخبار
الواردة في المقام فهي مستفيضة.
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام «في الرجل يموت وتحته امرأة لم يدخل بها ، قال : لها نصف المهر ولها
الميراث كاملا وعليها العدة كاملة».
وعن عبيد بن
زرارة في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل تزوج
__________________
امرأة ولم يدخل بها ، قال : إن هلكت أو هلك أو طلقها فلها النصف ، وعليها
العدة كملا ولها الميراث».
وما رواه في
الكافي عن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح عن رجل عن علي بن
الحسين عليهالسلام «أنه قال في المتوفى عنها زوجها ولم يدخل بها أن لها نصف الصداق ، ولها
الميراث وعليها العدة».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن لم يكن دخل بها وقد فرض لها مهرا فلها نصف ما
فرض لها ولها الميراث وعليها العدة».
وبهذا المضمون
عدة من الأخبار قد أشركت في الدلالة على أن المتوفى عنها زوجها قبل الدخول عليها
العدة كملا.
إلا أنه قد روى
الشيخ في التهذيب عن محمد بن عمر الساباطي قال : «سألت الرضا عليهالسلام عن رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ، قال : لا
عدة عليها وسألته عن المتوفى عنها زوجها من قبل أن يدخل بها ، قال : لا عدة عليها
هما سواء».
وردها
المتأخرون كما في المسالك وشرح النافع للسيد السند لضعف السند وشذوذها ومخالفتها
للقرآن.
أقول : والأظهر
عندي أنها محمولة على التقية كما يشير إليه ما رواه الشيخ في التهذيبين عن عبيد بن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل طلق
__________________
امرأته قبل أن يدخل بها ، أعليها عدة؟ قال : لا ، قلت له : المتوفى عنها
زوجها قبل أن يدخل بها ، أعليها عدة؟ قال : أمسك عن هذا».
وما رواه في الكافي
عن عبيد بن زرارة في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام «في المتوفى عنها زوجها ولم يدخل بها ، قال : هي بمنزلة المطلقة التي لم
يدخل بها إن كان سمى لها مهرا فلها نصفه وهي ترثه ، وإن لم يكن سمى لها مهرا فلا
مهر لها وهي ترثه ، قلت : العدة؟ قال : كف عن هذا». ولا ريب أن أمره عليهالسلام للسائل بالكف في هذين الخبرين لا وجه له إلا التقية.
ومن أخبار
المسألة ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح أو الحسن عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج
قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المرأة يتزوجها الرجل متعة ثم يتوفى عنها ، هل عليها
العدة ، قال : تعتد أربعة أشهر وعشرا ـ إلى أن قال : ـ قلت : فتحد؟ قال : فقال :
نعم ، إذا مكثت عنده أياما فعليها العدة وتحد وإذا كانت يوما أو يومين أو ساعة من
النهار فقد وجبت العدة ولا تحد».
وما رواه عن
عمر بن أذينة عن زرارة في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام : ما عدة المتعة إذا مات عنها الذي تمتع بها؟ قال :
أربعة أشهر وعشرا ، قال : يا زرارة كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت
أو أمة ، أو على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزوجها أو ملك يمين فالعدة أربعة
أشهر وعشرا ، وعدة المطلقة ثلاثة أشهر ، والأمة المطلقة عليها نصف ما على الحرة ،
وكذلك المتعة عليها ما على الأمة».
وأما ما ورد في
رواية علي بن يقطين من أن عدتها في الوفاة خمسة وأربعون يوما ، وفي رواية
أخرى خمسة وستون يوما. فقد تقدم الكلام فيها في كتاب النكاح
__________________
في الفصل الثالث في نكاح المتعة.
ومن أخبار
المسألة أيضا ما رواه في الكافي عن محمد بن سليمان عن أبي جعفر الثاني عليهالسلام قال : «قلت له : جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث
حيض أو ثلاثة أشهر وصارت عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ، فقال : أما
عدة المطلقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد ، وأما عدة المتوفى عنها زوجها
فإن الله عزوجل شرط للنساء شرطا وشرط عليهن شرطا فلم يجيء بهن فيما
شرط لهن ، ولم يجر فيما اشترط عليهن ، أما ما شرط لهن في الإيلاء أربعة أشهر إذ
يقول الله عزوجل «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ»
فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك وتعالى أنه غاية
صبر المرأة من الرجل ، وأما ما شرط عليهن فإنه أمرها أن تعتد إذا مات عنها زوجها
أربعة أشهر وعشرا ، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته عند إيلائه قال
الله تبارك وتعالى في عدتهن «يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً»
ولم يذكر
العشرة الأيام في العدة إلا مع الأربعة الأشهر في ترك الجماع فمن ثم أوجبه عليها
ولها».
قال في الوافي
: «فلم يجيء بهن» بسكون الجيم من جاء كسعي أي لم يحبسهن ولم يمسكهن «ولم يجر» بضم
الجيم من الجور خلاف العدل ، انتهى.
أقول : قد نقل
بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين أن في بعض النسخ بالحاء المهملة قال :
من المحاباة بمعنى العطية والصلات ، أي قرر هذا الحكم رفقا لطاقتهن ووسعهن فيما
فرض إصلاحهن ، وفيما فرض عليهن فلم يجاب ولم يتفضل عليهن فيما شرط لهن في الإيلاء
بأن يفرض أقل من أربعة أشهر ، ولم يجر عليهن من الجور والظلم فيما فرض عليهن في
عدة الوفاة بأن
__________________
يفرض أكثر من أربعة أشهر ، وأما العشر فلعله لم تحسب لاشتغالها فيه
بالتعزية وانكسار شهوتها بالحزن ، فكأنه غير محسوب ، وفي بعض النسخ بالجيم ، ويمكن
أن يكون مهموزا من جأي كسعي : أي جلس ، أي لم يحبسهن ولم يمسكهن ، والأول أظهر ،
انتهى.
أقول :
والمحاباة لغة بمعنى المسامحة ، إلا أنها ترجع إلى العطية ، قال في كتاب المصباح
المنير : بأن محاباة مسامحة مأخوذة من حبوة إذا أعطيته ،
وحينئذ فالمراد أنه سبحانه لم يسامحهن بأن يفرض لهن في الإيلاء أقل من الأربعة
أشهر.
قال في المسالك
: تعتبر مدة العدة بالهلال ما أمكن ، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي وكان الباقي
منه أكثر من عشرة أيام تعد ما بقي وتحسب ثلاثة أشهر عقيبه بالأهلة ، وتكمل ما بقي
من شهر الوفاة ثلاثين من الشهر الواقع بعد الثلاثة وتضم إليها عشرة أيام ، فإذا
انتهت إلى الوقت الذي مات فيه الزوج يوم مات فقد انتهت العدة ، وإن كان الباقي أقل
من عشرة أيام ولم تعتده وتحسب أربعة أشهر بالأهلة عقيبه وتكمل الباقي عشرة من
الشهر السادس ، وإن كان الباقي عشرة بلا زيادة ولا نقصان اعتدت بها ، وتضم إليها
أربعة أشهر بالأهلة ، وفي هذا المنكسر ثلاثين ، أو الاكتفاء بإكمال ما فات منه
خاصة ما تقدم في نظائره من الخلاف ، وإن انطبق الموت على الشهر الهلالي حسبت أربعة
أشهر بالأهلة وضمت إليها عشرة أيام من الشهر الخامس ، فلو كانت محبوسة لا تعرف
الهلال ولا تجد من يخبرها ممن يعتمد بقوله اعتدت بالأيام ، وهي مائة وثلاثون يوما
، انتهى كلامه وهو جيد.
والعشرة
المعتبرة في العدة هي عشرة ليال مع أيامها ، وإن كانت الأيام غير داخلة في العشر
المجردة عن التاء على المشهور عند أهل اللغة.
الثاني
: في عدة
الحامل ، وهي أبعد الأجلين من وضعها واستكمال أربعة
__________________
أشهر وعشرة أيام ، وهو موضع وفاق وإجماع كما نقله غير واحد منهم ، وعليه
تدل الأخبار المتكاثرة.
قيل : وفيه جمع
بين عموم الآيتين ، وهما قوله عزوجل «وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً»
وقوله تعالى «وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».
والتقريب في
ذلك أن الحامل داخلة تحت عموم الآيتين وشملها عمومها ، وامتثال الأمر يقتضي التربص
بأبعد الأجلين ليحصل كل من العدتين.
وفيه أن الظاهر
من سياق آية وضع الحمل موردها إنما هو عدة الطلاق فلا عموم فيها بحيث يشمل عدة
الوفاة ، وبالجملة فالمرجع في ذلك إنما هو إلى الأخبار الواردة بذلك.
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب عن سماعة في الموثق قال : «قال : المتوفى عنها زوجها
الحامل ، أجلها آخر الأجلين إذا كانت حبلى فتمت لها أربعة أشهر وعشرا ولم تضع فإن
عدتها إلى أن تضع ، وإن كانت تضع حملها قبل أن يتم لها أربعة أشهر وعشرا تعتد بعد
ما تضع تمام أربعة أشهر وعشرا ، وذلك أبعد الأجلين».
وما رواه في
الكافي عن عبد الله بن سنان في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الحبلى المتوفى عنها زوجها عدتها آخر الأجلين».
وعن محمد بن
قيس في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليهالسلام في امرأة توفي عنها زوجها وهي حبلى ، فولدت قبل أن
تنقضي أربعة أشهر وعشر فتزوجت ، فقضى أن يخلى عنها ثم لا يخطبها حتى ينقضي آخر
الأجلين
__________________
فإن شاء أولياء المرأة أنكحوها وإن شاءوا أمسكوها ، فإن أمسكوها ردوا عليه
ماله».
وعن محمد بن
مسلم في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : المرأة الحبلى المتوفى عنها زوجها تضع وتزوج قبل أن
يخلو أربعة أشهر وعشر؟ قال : إن كان زوجها الذي تزوجها دخل بها فرق بينهما واعتدت
ما بقي من عدتها الاولى وعدة اخرى ، ومن لم يكن دخل بها فرق بينهما واعتدت ما بقي
من عدتها ، وهو خاطب من الخطاب».
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال : في الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها آخر الأجلين».
وعن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين لأن عليها
أن تحد أربعة أشهر وعشرا وليس عليها في الطلاق أن تحد». وإطلاقها محمول على الحامل
لما عرفت من أخبار المسألتين.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المرأة الحبلى يموت زوجها فتضع وتزوج
قبل أن تمضي لها أربعة أشهر وعشرا ، فقال : إن كان دخل بها فرق بينهما ، ثم لم تحل
له أبدا ، واعتدت بما بقي عليها من الأول ، واستقبلت عدة اخرى من الآخر ثلاثة قروء
، وإن لم يكن دخل بها فرق بينهما ، واعتدت بما بقي عليها من الأول وهو خاطب من
الخطاب».
__________________
وخالف العامة
في هذا الحكم فجعلوا عدتها وضع الحمل كالطلاق ولو بلحظة من يوم الوفاة ، والأخبار
كما ترى ترده.
الثالث : فيما يترتب عليها وهو الحداد ، ولا خلاف فيه بين كافة أهل العلم من
الخاصة والعامة ، والأخبار به من الفريقين متضافرة ، وهو عبارة عن ترك الزينة ،
وعلى ذلك اتفقت كلمة الفقهاء وأهل اللغة أيضا.
قال في كتاب
المصباح المنير حدت المرأة على زوجها تحد ، وتحد حدادا بالكسر فهي حاد
بغير هاء ، وأحدت إحدادا فهي محد ، ومحدة ، إذا تركت الزينة لموته ، وأنكر الأصمعي
الثلاثي واقتصر على الرباعي ، انتهى.
وقال في الصحاح
أحدت المرأة أي امتنعت من الزينة والخضاب بعد وفاة الزوج.
وقال في
القاموس والحادة المحدة تاركة الزينة للعدة.
وظاهر عبارة
الصحاح الاقتصار على الرباعي كما ذكره الأصمعي ، وعبارة القاموس ظاهرة فيهما.
ومن الأخبار
الواردة في المقام ما رواه في الكافي عن ابن أبي يعفور في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المتوفى عنها زوجها ، فقال : لا تكتحل
للزينة ولا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا ، ولا تبيت عن بيتها ، وتقضي الحقوق ،
وتمتشط بغسله ، وتحج وإن كانت في عدتها».
قال في كتاب
مجمع البحرين والغسلة بالكسر الطيب وما تجعله المرأة
__________________
في شعرها عند الامتشاط ، ونحوه ما نقل عن الصحاح.
وفي القاموس ما تجعله المرأة في شعرها عند الامتشاط وما يغسل به
الرأس من خطمي ونحوه قال في كتاب المصباح المنير وظاهر عبارة الصحاح وكتاب المجمع اشتماله على الطيب.
وما رواه في
الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «في حديث قال فيه : فتمسك عن الكحل والطيب والأصباغ».
وعن أبي العباس
قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : المتوفى عنها زوجها قال : لا تكتحل للزينة ولا تطيب ،
ولا تلبس ثوبا مصبوغا ، ولا تخرج نهارا ، ولا تبيت عن بيتها ، قلت : أرأيت إن
أرادت أن تخرج إلى حق كيف تصنع؟ قال : تخرج بعد نصف الليل وترجع عشاء».
وعن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المتوفى عنها زوجها ليس لها أن تطيب ولا تزين
حتى تنقضي عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المرأة يتوفى عنها زوجها وتكون في
عدتها ، أتخرج في حق؟ فقال : إن بعض نساء النبي صلىاللهعليهوآله سألته فقالت : إن فلانه توفي عنها زوجها ، فتخرج في حق
ينوبها؟ فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أف لكن قد كنتن من قبل أن ابعث فيكن ، وأن المرأة
منكن إذا توفي عنها زوجها أخذت بعسرة فرمت بها خلف ظهرها ، ثم قالت : لا أمتشط ولا
أكتحل
__________________
ولا أختضب حولا كاملا ، وإنما أمرتكن بأربعة أشهر وعشرا ثم لا تصبرن ، لا
تمتشط ولا تكتحل ولا تختضب ولا تخرج من بيتها نهارا ولا تبيت عن بيتها ، فقالت :
يا رسول الله فكيف تصنع إن عرض لها حق؟ فقال : تخرج بعد زوال الليل وترجع عند
المساء ، فتكون لم تبت عن بيتها قلت له : فتحج؟ قال : نعم».
وعن محمد بن
مسلم قال : «جاءت امرأة إلى أبي عبد الله عليهالسلام تستفتيه في المبيت في غير بيتها وقد مات زوجها ، فقال :
إن أهل الجاهلية كان إذا مات زوج المرأة أحدت عليه امرأته اثني عشر شهرا ، فلما
بعث الله محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم رحم ضعفهن فجعل عدتهن أربعة أشهر وعشرا ، وأنتن لا
تصبرن على هذا!!».
وما رواه في
كتاب الفقيه في الصحيح قال : «كتب الصفار إلى أبي محمد الحسن ابن
علي عليهماالسلام في امرأة مات عنها زوجها ، وهي في عدة منه ، وهي محتاجة
لا تجد من ينفق عليها ، وهي تعمل للناس ، هل يجوز لها أن تخرج وتعمل وتبيت عن
منزلها في عدتها قال : فوقع عليهالسلام : لا بأس بذلك إن شاء الله».
وما رواه في
الفقيه والتهذيب عن عمار الساباطي في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن المرأة يموت زوجها ، هل يحل لها أن تخرج من منزلها في عدتها؟
قال : نعم وتختضب وتدهن وتكتحل وتمتشط وتصبغ وتلبس المصبغ وتصنع ما شاءت بغير زينة
لزوج».
وما رواه في
الكافي عن ابن بكير في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام
__________________
عن التي توفي عنها زوجها أتحج؟ قال : نعم وتخرج وتنتقل من منزل». ورواه في
الفقيه مرسلا مقطوعا.
وما رواه في
الكافي عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المتوفى عنها زوجها أتخرج من بيت زوجها؟
قال : تخرج من بيت زوجها وتحج وتنتقل من منزل إلى منزل».
أقول :
والمفهوم من هذه الأخبار أن الحداد هو ترك كل ما يعد زينة في البدن أو اللباس وإن
اختلف ذلك باختلاف العادات في البلدان ، فيحكم على كل بلد بما هو المعتاد فيها ،
فلا يحرم عليها دخول الحمام ولا تنظيف البدن ولا تسريح الشعر ولا تقليم الأظفار
ولا السواك ولا السكنى في المساكن العالية ولا التدثر بالفرش الفاخرة ، لأن ذلك لا
يعد من الزينة عرفا.
وظاهر صحيحة
ابن أبي يعفور المتقدمة ورواية أبي العباس جواز الكحل للضرورة وعدم قصد الزينة به
، وفيها إشارة إلى أن ما كان زينة وألجأت إليه الضرورة فإنه لا بأس به. ويؤيده ما
ورد من أن الضرورات تبيح المحظورات ، وإن لم يرد بهذا اللفظ ، إلا أن هذا المعنى
مستفاد من عدة من الأخبار تقدمت الإشارة إليها في غير موضع.
وفي المسالك
أنه مع الضرورة إلى الاكتحال فتكتحل ليلا وتمسحه نهارا وفيه أن إطلاق الخبرين
المتقدمين تدفعه ، فإنه متى كان الاكتحال لغير الزينة فلا بأس ببقائه نهارا ،
والنفع المترتب عليه لا يختص بالليل وإن كان آكد والاحتياط يقتضي الوقوف على ما
ذكره إذا لم تلجأ الضرورة إليه نهارا.
وأما ما يظهر
من موثقة عمار من أنها تختضب وتدهن وتصبغ وتصنع ما شاءت ، فلا يخلو من مدافعة لما
تقدمها من الأخبار ، ومن ثم قال في الوافي ذيل الموثقة المذكورة : ينبغي حمل هذا
الخبر على الشذوذ.
__________________
أقول : أما ما
اشتمل عليه الخبر المذكور من التدهن والامتشاط فالظاهر أنه غير داخل في الزينة لما
عرفت ، وأما الخضاب والصبغ وأن تصنع ما تشاء فالظاهر حمله على الضرورة ، وإليه
يشير قوله «لغير زينة من زوج» أي يجوز فعل هذه الأشياء لا لقصد التزين للأزواج
وليس بعد ذلك إلا لغرض ألجأت إليه الضرورة.
بقي الكلام في
اختلاف هذه الأخبار في جواز الخروج من بيتها والبيات في غيره ، فإن أكثر الأخبار
قد دل على المنع بآكد وجه إلا مع الضرورة ، فتخرج بعد نصف الليل وتعود عشاء ،
وجملة منها قد دل على الجواز مطلقا ، وهي الأخبار الأخيرة ، والظاهر الجمع بينهما
بما تضمنته صحيحة الصفار المتقدمة من إلجاء الحاجة إلى ذلك والضرورة فتخرج نهارا ،
وتبيت في غيره ليلا.
والشيخ في
كتابي الأخبار جمع بينها بحمل أخبار النهي عن البيتوتة عن بيتها على الاستحباب كما
هو قاعدته غالبا في جميع الأبواب ، وظاهر الأخبار المانعة بآكد منع لا يساعده.
ومن أخبار
المسألة زيادة على ما قدمنا ما رواه أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في
الاحتجاج والشيخ في كتاب الغيبة عن صاحب الزمان عليهالسلام مما كتب في أجوبة مسائل محمد بن عبد الله بن جعفر
الحميري حيث سأله عن المرأة يموت زوجها ، هل يجوز لها أن تخرج في جنازته أم لا؟
التوقيع : تخرج في جنازته ، وهل يجوز لها وهي في عدتها أن تزور قبر زوجها؟ التوقيع
: تزور قبر زوجها ولا تبيت عن بيتها ، وهل يجوز لها أن تخرج في قضاء حق يلزمها أم
لا تخرج من بيتها في عدتها؟ التوقيع : إذا كان حق خرجت فيه وقضته ، وإن كان لها
حاجة ولم يكن لها من ينظر فيها خرجت لها حتى تقضيها ، ولا تبيت إلا في منزلها.
أقول : وهذا
الخبر قد اشتمل على ما فصلناه في تلك الأخبار بعد حمل مطلقها على مقيدها وملخصه
أنه مع الضرورة إلى الخروج فلا إشكال في جواز الخروج
__________________
وإن استلزم البيات في غير بيتها ، ومع عدم الضرورة فإنه يرخص لها الخروج
لقضاء الحقوق التي يلزمها من عيادة مريض أو حضور تعزية ونحو ذلك من الحقوق التي
يقوم بها النساء بعضهن لبعض ونحو ذلك من الأمور المستحبة ، لكن لا تبيت إلا في
بيتها ، ولا ينافي ذلك الأخبار الدالة على جواز الانتقال من منزل إلى آخر.
ومنها زيادة
على ما قدمناه ما رواه في الكافي عن معاوية بن عمار في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المرأة المتوفى عنها زوجها تعتد في
بيتها أو حيث شاءت؟ قال : بل حيث شاءت ، إن عليا عليهالسلام لما توفي عمر أتى أم كلثوم فانطلق بها إلى بيته».
وعن سليمان بن
خالد في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة توفي عنها زوجها ، أين تعتد في بيت زوجها تعتد
أو حيث شاءت؟ قال : بل حيث شاءت ، ثم قال : إن عليا عليهالسلام لما مات عمر أتى أم كلثوم فأخذ بيدها فانطلق بها إلى
بيته».
وعن عبد الله
بن سليمان «قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المتوفى عنها زوجها أتخرج إلى بيت أبيها وأمها من
بيتها إن شاءت فتعتد؟ فقال : إن شاءت أن تعتد في بيت زوجها اعتدت ، وإن شاءت اعتدت
في أهلها ، ولا تكتحل ولا تلبس حليا».
وعن يونس عن رجل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المتوفى عنها زوجها أتعتد في بيت تمكث
فيه شهرا أو أقل من شهر أو أكثر ثم تتحول منه إلى غيره فتمكث في المنزل الذي تحولت
إليه مثل ما مكثت في المنزل الذي تحولت
__________________
منه ، كذا صنعتها حتى تنقضي عدتها؟ قال : يجوز ذلك لها ولا بأس».
والشيخ ومن
تبعه قد عملوا بهذه الأخبار ، فقالوا بجواز ترك البيات في المنزل وجواز الخروج حيث
شاءت ، وحملوا أخبار النهي على الكراهة.
والأقرب أن
جواز الانتقال من منزل إلى آخر لا ينافي وجوب الاستقرار في ذلك المنزل الذي استقرت
فيه ، فلا يجوز لها الخروج والرجوع إليه إلا في الصورة التي قدمنا ذكرها من
الضرورة وقضاء الحقوق ، فلا منافاة.
وفي المقام
فوائد يجب التنبيه عليها :
الاولى : ما ذكرنا من الحكم المذكور مختص بالزوجة ، فلا يتعدى إلى غيرها من أقارب
الميت وبناته ولا إلى إمائه ولو كن موطوءات أو أمهات أولاد ، للأصل ، وتعليق الحكم
في الأخبار على الزوجة المشار إليها بالمتوفى عنها زوجها نعم قد ورد في بعض
الأخبار الأمر بالاعتداد لهن ثلاثا.
فروى الشيخ في
التهذيب عن محمد بن مسلم قال : «ليس لأحد أن يحد أكثر من ثلاثة
إلا المرأة على زوجها حتى تنقضي عدتها».
وعن أبي يحيى
الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «يحد الحميم على حميمه ثلاثا ، والمرأة على زوجها
أربعة أشهر وعشرا». والظاهر أنه على الاستحباب.
الثانية : قد صرح في المسالك بأنه لا فرق في الزوجية بين الصغير والكبير ولا
المسلمة والكافرة ، ولا بين المدخول بها وغيرها ، لإطلاق الأدلة المتقدمة ، وعلى
هذا فالتكليف في الصغيرة متعلق بالولي ، فعليه أن يجنبها ما تتجنبه الكبيرة من
الأمور المعتبرة في الحداد ونحوها المجنونة ، انتهى.
وظاهره أن
الحكم المذكور اتفاقي ، حيث لم يشر إلى خلاف فيه ، مع أن المنقول عن ابن إدريس منع
ذلك في الصغيرة فإنه لا حداد عليها ، وإليه مال
__________________
العلامة في المختلف أيضا ، حيث نقل ذلك عن ابن إدريس فقال في الكتاب
المذكور ـ بعد أن نقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط القول بوجوب العدة عليها ـ ما لفظه
: وقال ابن إدريس : ولي في الصغيرة نظر ، لأن لزوم الحداد حكم شرعي وتكليف سمعي ،
والتكاليف لا تتوجه إلا إلى العقلاء ، وإنما ذهب شيخنا في مسائل خلافه إلى أن
الصغيرة يلزمها الحداد ، ولم يدل بإجماع الفرقة ولا بالأخبار ، وهذه المسألة لا نص
لأصحابنا عليها ولا إجماع.
ثم قال في
المختلف : وقول ابن إدريس لا بأس به ، لأن الحداد هو ترك ما يحصل به الجمال
والزينة ، ولبس الثياب المزعفرات والملونات التي تدعو النفس إليها وتميل الطباع
نحوها ، وهو إنما يؤثر في البالغ دون الصبية غالبا ، انتهى.
أقول : ما
استدل به ابن إدريس ـ من اختصاص الخطابات بهذه التكاليف في الأخبار المتقدمة
بالبالغة العاقلة ، والأصل براءة ذمة الولي ـ جيد وجيه ، كما لا يخفى على الفطن
النبيه.
الثالثة
: هل يفرق في
الزوجة بين الحرة والأمة؟ قولان.
فذهب الشيخ في
النهاية إلى الفرق بينهما ، واختاره ابن البراج في كتابيه ونقله في المختلف عن ابن
الجنيد وشيخنا المفيد وابن أبي عقيل من المتقدمين ، وهو اختيار العلامة في المختلف
وشيخنا في المسالك وسبطه في شرح النافع.
وذهب الشيخ في
المبسوط إلى عدم الفرق بينهما فيجب عليهما الحداد معا ،
__________________
واختاره ابن إدريس ، وهو ظاهر أبي الصلاح وسلار وابن حمزة ، حيث أوجبوا
الحداد على المعتدة ولم يفصلوا.
والأظهر الأول
، لما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إن الأمة والحرة كلتيهما إذا مات عنهما زوجهما
سواء في العدة ، إلا أن الحرة تحد والأمة لا تحد».
احتج الشيخ على
ما ذهب إليه في المبسوط وابن إدريس على ما نقله العلامة في المختلف بقوله عليهالسلام «لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا
على زوج أربعة أشهر وعشرا» ولم يفرق.
قال في المختلف
: والجواب : إن هذه الرواية لم تصل إلينا مسندة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنما رواها الشيخ مرسلة ولا حجة فيها ، انتهى.
أقول فيه : إن
هذه الرواية بعينها وإن لم ترد من طرقنا ، إلا أن نظيرها مما قدمناه في الفائدة الاولى
، وهو رواية محمد بن مسلم ورواية الواسطي قد ورد من طرقنا ، وهو وإن دل على ما دل
عليه الخبر المذكور لكن الجواب من ذلك ظاهر بأن إطلاق الخبرين المذكورين مقيدة
بالصحيحة المذكورة ، ومن القاعدة المسلمة تقديم العمل بالمقيد وتقييد المطلق به.
ثم إن العلامة
في المختلف قال ونعم ما قال : والعجب أن ابن إدريس ترك مقتضى العقل والنقل وهو
أصالة البراءة من التكليف بالحداد وما تضمنته الرواية الصحيحة التي قدمناها وعول
على هذا الخبر المقطوع السند ، مع ادعائه أن الخبر الواحد المتصل لا يعمل به ،
فكيف المرسل ، وهذا يدل على قصور قريحته وعدم تفطنه بوجوه الاستدلال ، انتهى وهو
جيد.
__________________
الرابعة : الظاهر أنه لا خلاف في أن المطلقة لا حداد عليها رجعية كانت أو بائنة.
أما الرجعية
فلبقاء أحكام الزوجية وتوقع الرجعة ، بل ظاهر جملة من الأخبار استحباب التزين لها
كما ستقف عليه.
وأما البائن
فعلله في المسالك بأنها مجفوة بالطلاق ، فلا يلائم التكليف بما يقتضي التفجع على
الزوج والحزن بخلاف المتوفى عنها زوجها.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بالمقام ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المطلقة تكتحل وتختضب وتلبس ما شاءت من الثياب
لأن الله عزوجل يقول «لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً»
لعلها أن تقع في نفسه فيراجعها.
وعن محمد بن
قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «المطلقة تشوق لزوجها ما كان له عليها رجعة ولا
يستأذن عليها».
وعن أبي بصير عن أحدهما عليهماالسلام «في المطلقة تعتد في بيتها وتظهر له زينتها لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا».
وهذه الأخبار
كما ترى ظاهرة في نفي الحداد في المطلقة الرجعية ، وأنه يستحب لها الزينة كما
قدمنا ذكره.
وما رواه في
الفقيه عن عمار الساباطي في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه
__________________
سئل عن المرأة إذا اعتدت ، هل يحل لها أن تختضب في العدة؟ قال : لها أن
تكتحل وتدهن وتمتشط وتصبغ وتلبس الصبغ وتختضب بالحناء وتصنع ما شاءت لغير زينة من
زوج».
وما رواه في
الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين لأن عليها
أن تحد أربعة أشهر وعشرا وليس عليها في الطلاق أن تحد».
وهذان الخبران
ظاهران في نفي الحداد عن المطلقة بائنة كانت أو رجعية.
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن محمد بن يعقوب بسنده إلى مسمع بن عبد الملك عن أبي
عبد الله عليهالسلام عن علي عليهالسلام قال : «المطلقة تحد كما تحد المتوفى عنها زوجها ولا
تكتحل ولا تطيب ولا تختضب ولا تمتشط».
قال في الوافي
بعد نقل هذا الخبر كما نقلناه : هذا الحديث لم نجده في الكافي والذي يظهر من كلام
صاحب الوسائل أنه موجود فيه ، حيث إنه نقل ذلك عن العدة عن سهل عن أبي شمعون عن
عبد الله بن عبد الرحمن عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليهالسلام. إلى آخر الخبر ، ثم قال : ورواه الشيخ بإسناده عن محمد
ابن يعقوب إلا أنه يحتمل أنه اعتمد على كلام الشيخ وروايته عن محمد بن يعقوب بهذه
الاسناد فأسنده عن محمد بن يعقوب ثم أسنده إلى الشيخ.
وبالجملة فإنه
لا يحضرني الآن كتاب الكافي فليراجع.
وكيف كان فهذه
الرواية كما ترى ظاهرة المخالفة لما قدمناه من الأخبار ، والشيخ ـ رحمة الله عليه
ـ حملها على البائن ، وأنه يستحب لها الحداد ، قال : لأن استعمال الزينة إنما
يستحب لها في الطلاق الرجعي ليراها الرجل فربما يراجعها ولا بأس به في مقام الجمع
وإن كان لا يخلو من نوع بعد ، إذ ليس بعد ذلك إلا
__________________
طرحه من البين.
وما رواه في
كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن
جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن المطلقة لها أن تكتحل وتختضب وتلبس
ثوبا مصبوغا؟ قال : لا بأس إذا فعلته من غير سوء».
وهذا الخبر
نظير ما تقدم في خبر عمار من قوله عليهالسلام «تصنع ما شاءت لغير ريبة من زوج». ومرجعها إلى أنها يجوز لها الزينة ما لم
يكن التزين لغير زوجها الذي طلقها من الأجانب.
ومن هنا يمكن
حمل خبر مسمع وما تضمنه من النهي عن تلك الأشياء المذكورة فيه على ما إذا لم يكن
لغير الزوج من الأجانب ، كما يشير إليه هذان الخبران ، وإن سماها حدادا ، وهو محمل
قريب كما لا يخفى على الأريب.
الخامسة : لو أخلت بما وجبت عليها من الحداد فلا إشكال في أنها
تكون عاصية لإخلالها بالواجب ، وهل تنقضي عدتها؟ أم لا بل يجب عليها استئناف ما
أخلت به بأن تحد في قدر ما مضى من تلك الأيام؟ قولان.
أشهرهما على ما
نقله في المسالك الأول ، قال : للأصل ، وعدم المنافاة بين المعصية له تعالى
وانقضاء العدة ، فتدخل في عموم الأدلة الدالة على انقضاء العدة بما بعد المدة
المضروبة لعموم قوله تعالى «فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ» ثم نقل عن أبي الصلاح والسيد الناصر شارح الرسالة أنه
لا يحسب من العدة ما لا يحصل فيه الحداد من الزمان للإخلال لمراد الشارع ، فلم
يحصل الامتثال ويجب الاستئناف ، ثم رده بأنه نادر ، والأظهر هو قول المشهور.
السادسة : لو وطئت المرأة بعقد الشبهة ثم مات الواطئ فإن العدة
الواجبة عليها عدة الطلاق لا عدة الوفاة ، لأن أخبار عدة الوفاة موردها الزوجة ولا
زوجية
__________________
هنا وإن عوملت معاملة الزوجة في بعض الأحكام لدليل خاص.
وبالجملة
فالحكم في الأخبار متعلق بالزوجة وهي المنكوحة بالعقد الصحيح والعدة هنا إنما
ترتبت على الوطء لا على العقد حتى أنه لو وطأها شبهة عن غير عقد بالكلية كأن يطأها
بظن أنها زوجته مثلا فإنه يجب عليها عدة الطلاق ، فهذه العدة واجبة عليها لذلك حيا
كان أو ميتا ، فلا يتعلق بها حكم عدة الوفاة ولا ما يترتب عليها من الحداد.
المقام
السادس : في حكم المفقود زوجها ، وتفصيل الكلام في المقام حسب ما ذكره علماؤنا الأعلام أن يقال : لا إشكال
ولا خلاف في أن الغائب إن علمت حياته فهو كالحاضر ، وإن علم موته اعتدت منه وجاز
تزويجها ، ولو علمت الوفاة هي خاصة جاز لها التزويج وإن لم يحكم بها الحاكم ، لكن
لا يجوز لمن علم بالزوجية ولم يثبت عنده موت الزوج تزويجها ، نعم لو كان جاهلا
بحالها وعول على إخبارها بعدم الزوج أو وفاته فإنه يجوز له تزويجها لأنها مصدقة في
إخبارها كما دلت عليه الأخبار.
إنما الإشكال
فيما لو انقطع خبره ولم يثبت موته ولا حياته ، فإن الذي تقتضيه الأصول واستصحاب
حكم الزوجية هو وجوب الصبر إلى أن يثبت موته شرعا ، لكن قد وردت الأخبار عنهم عليهمالسلام بخلاف ذلك في الباب ، إلا أنها أيضا لا يخلو بعضها مع
بعض من التدافع والاضطراب.
وقد اتفقت كلمة
الأصحاب كما هو ظاهر الأخبار الآتية أيضا على أنه يجب الصبر عليها ما أنفق عليها
في مال المفقود أو الولي أو غيرهما ، وأما مع عدم من ينفق فإنه يجب الصبر عليها
أربع سنين ليطلب فيها ، وأن النفقة في ضمن الأربع إما من مال المفقود إن كان له
مال ، وإلا فمن بيت المال ، وبعد الأربع مع حصول الفحص فيها أو بعدها يجري عليها
الحكم المذكور.
والواجب أولا
نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ثم الكلام فيها بما وفق
الله تعالى فهمه منها ببركة أهل الذكر عليهمالسلام.
ومنها ما رواه في
الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن المفقود ، فقال : المفقود إذا مضى له أربع سنين بعث الوالي أو
يكتب إلى الناحية التي هو غائب فيها فإن لم يوجد له أثر أمر الوالي وليه أن ينفق
عليها فما أنفق عليها فهي امرأته ، قال : قلت : فإنها تقول : فإني أريد ما تريد
النساء ، قال : ليس ذلك لها ولا كرامة ، فإن لم ينفق عليها وليه أو وكيله أمره أن
يطلقها فكان ذلك عليها طلاقا واجبا».
وما رواه المشايخ
الثلاثة عن بريد بن معاوية قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المفقود كيف يصنع بامرأته؟ قال : ما سكتت عنه وصبرت
يخلي عنها ، فإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجلها أربع سنين ، ثم يكتب إلى الصقع
الذي فقد فيه يسأل عنه ، فإن خبر عنه بحياة صبرت ، وإن لم يخبر عنه بشيء حتى تمضي
الأربع سنين دعي ولي الزوج المفقود فقيل له : هل للمفقود مال؟ فإن كان له مال أنفق
عليها حتى يعلم حياته من موته ، وإن لم يكن له مال قيل للولي : أنفق عليها ، فإن
فعل فلا سبيل لها إلى أن تتزوج ما أنفق عليها ، وإن أبى أن ينفق عليها أجبره
الوالي على أن يطلق تطليقة في استقبال العدة وهي طاهرة ، فيصير طلاق الولي طلاق
الزوج ، فإن جاء زوجها قبل أن تنقضي عدتها من يوم طلقها الوالي فبدا له أن يراجعها
فهي امرأته وهي عنده على تطليقتين ، وإن انقضت العدة قبل أن يجيء ويراجع فقد حلت
للأزواج ، ولا سبيل للأول عليها».
قال في الفقيه
: وفي رواية اخرى «أنه إن لم يكن للزوج ولي طلقها الوالي
__________________
ويشهد شاهدين عدلين ، فيكون طلاق الوالي طلاق الزوج ، وتعتد أربعة أشهر
وعشرا ثم تتزوج إن شاءت».
وما رواه في
الكافي عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام «في امرأة غاب عنها زوجها أربع سنين ولم ينفق عليها ، ولم تدر أحي هو أم
ميت ، أيجبر وليه على أن يطلقها؟ قال : نعم ، وإن لم يكن له ولي طلقها السلطان ،
قلت : فإن قال الولي : أنا أنفق عليها ، قال : فلا يجبر على طلاقها ، قال : قلت : أرأيت
إن قالت : أنا أريد ما تريد النساء ولا أصبر ولا أقعد كما أنا؟ قال : ليس لها ولا
كرامة إذا أنفق عليها».
وما رواه في الكافي
والتهذيب في الموثق عن سماعة قال : «سألته عن المفقود ، قال : إن
علمت أنه في أرض فهي تنتظر له أبدا حتى يأتيها موته أو يأتيها طلاقه ، وإن لم تعلم
أين هو من الأرض كلها ولم يأتها منه كتاب ولا خبر فإنها تأتي الإمام فيأمرها أن
تنتظر أربع سنين فيطلب في الأرض ، فإن لم يوجد له أثر حتى تمضي الأربع سنين أمرها
أن تعتد أربعة أشهر وعشرا ، ثم تحل للرجال ، فإن قدم زوجها بعد ما تنقضي عدتها ،
فليس له عليها رجعة ، وإن قدم وهي في عدتها أربعة أشهر وعشرا فهو أملك برجعتها».
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام «أن عليا عليهالسلام قال في المفقود : لا تتزوج امرأته حتى يبلغها موته أو
طلاق أو لحوق بأهل الشرك».
هذا ما وقفت
عليه من أخبار المسألة ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن تحقيق
__________________
الكلام في المقام يتوقف على بسطه في مسائل :
الأولى : اختلف الأصحاب لاختلاف هذه الأخبار في أنه بعد الطلب أربع سنين ولم يعرف
له خبر فهل يكفي أمر الحاكم لها بالاعتداد عدة الوفاة؟ أم لا بد من الطلاق أولا من
الولي أو الحاكم مع عدمه؟ وعلى تقدير الثاني ، فهل العدة عدة الطلاق أو عدة الوفاة؟
أقوال :
فذهب الشيخان
إلى الأول ، وبه قال ابن البراج وابن إدريس ، وهو الذي صرح به العلامة في القواعد
والإرشاد والمحقق في كتابيه ، وعلى هذا القول تدل موثقة سماعة.
وقيل بالثاني
وأن العدة عدة الوفاة ، وهو مذهب الصدوق في المقنع وابن حمزة.
قال في المقنع
: إذا امتنع الولي أن يطلق أجبره الوالي على أن يطلقها ، فيصير طلاق الولي طلاق
الزوج ، فإن لم يكن له ولي طلقها السلطان ، واعتدت أربعة أشهر وعشرة أيام. ونحوه
كلام ابن حمزة واختاره العلامة في المختلف.
ويدل على طلاق
الولي أكثر الأخبار المذكورة وعلى طلاق الوالي رواية أبي الصباح والمرسلة المنقولة
عن الفقيه ، وعلى كون العدة في هذه الصورة عدة الوفاة المرسلة المذكورة.
وقيل : بأن
العدة في هذه الصورة إنما هي عدة الطلاق ، وهو ظاهر أكثر الأخبار المذكورة ، وإليه
يميل كلام السيد السند في شرح النافع وقبله جده ـ رحمة الله عليه ـ في المسالك.
ويظهر من هذه
الأخبار أن العدة عدة الطلاق ، إلا أن القائلين بالطلاق صرحوا بأن العدة عدة
الوفاة ، ولا يخلو من إشكال ، ورواية سماعة الدالة عليها
__________________
موقوفة ضعيفة السند ، انتهى.
وقال ابن
الجنيد : وإن لم يأت خبره بعد أربع سنين وكان له ولي أحضره السلطان وأمره بالنفقة
عليها من مال المفقود أو من مال وليه ، فإن أنفق وإلا أمر السلطان بأن يطلق ، فإن
طلقها وقع طلاقه موقع طلاق زوجها ، وإن لم يطلق أمرها والي المسلمين أن تعتد ،
فإذا خرجت من العدة حلت للأزواج.
وظاهر هذه
العبارة أنه مع تعذر الطلاق من الولي فإن الوالي يأمرها بالاعتداد من غير طلاق ،
وإن العدة حينئذ عدة الوفاة ، وأما في صورة طلاق الولي فإنها مجملة بالنسبة إلى
العدة ، وحينئذ يكون هذا قولا رابعا في المسألة.
وأنت خبير بأن
القول الأول وإن دلت عليه موثقة سماعة إلا أنها معارضة بما هو أكثر عددا وأصح سندا
مما يدل على الطلاق من الولي ثم مع تعذره من الحاكم الشرعي ، والجمع بين أخبار
المسألة فيما ذكرناه لا يخلو من الاشكال.
قال بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين يمكن الجمع بين الأخبار بتخير الإمام أو الحاكم بين
أمرها بعدة الوفاة بدون طلاق وبين أمر الولي بالطلاق فتعتد عدة الطلاق ، أو حمل
أخبار الطلاق على ما إذا كان له ولي ، وأخبار عدة الوفاة مع عدمه ، انتهى.
أقول : ينافي
الحمل الثاني ما دلت عليه رواية أبي الصباح الكناني ومرسلة الفقيه لدلالتهما على
أنه مع عدم الولي يطلقها الولي أو السلطان ، لا أنها تعتد عدة
__________________
الوفاة كما ذكره.
ويمكن أن يقال
ـ والله سبحانه وقائل هذه الأخبار أعلم بحقيقة الحال ـ : إن المستفاد من هذه
الأخبار بعد ضم مطلقها إلى مقيدها ومجملها إلى مبينها أنه يطلقها الولي ، ومع عدمه
فالحاكم ، وتعتد عدة الوفاة.
وتوضيحه أن
غاية ما تدل عليه موثقة سماعة أنه بعد تحقق انقطاع خبره يأتي الإمام فيأمرها
بالاعتداد عدة الوفاة ، وهي بالنسبة إلى الطلاق وعدمه مطلقة ، فيجب حملها على ما
دلت عليه موثقة سماعة من عدة الوفاة. وسند ما ذكرنا مرسلة الصدوق حيث تضمنت عدة الوفاة بعد
الطلاق من الولي أو الوالي ، ولا ينافي ذلك جواز المراجعة في العدة لو قدم وهي في
العدة ، لأن هذه العدة عدة طلاق من جهة ، وعدة وفاة من جهة.
وأما رواية
السكوني ـ فضعفها ومعارضتها بما ذكرناه من أخبار المسألة بمنع القول بها ، مؤيدا
ذلك بعمل الطائفة على خلاف ما دلت عليه ـ فهي مردودة إلى قائلها عليهالسلام ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة ، وحملها على التقية غير
بعيد.
الثانية : ظاهر كلام الأصحاب الاتفاق على أنه لا يقع الطلاق أو الأمر بالاعتداد إلا
بعد الفحص عنه ، بأن ترفع أمرها إلى الحاكم فيؤجلها أربع سنين من حين رفع أمرها
إليه ، ويفحص عنه في تلك الأربع سنين ، فإن لم يعرف خبره أمر الولي بالطلاق أو
أمرها بالاعتداد.
__________________
قال في القواعد
«ولو لم ترفع خبرها إلى الحاكم فلا عدة حتى يضرب لها المدة ثم تعتد ولو صبرت مائة
سنة ، وابتداء المدة من رفع القصة إلى الحاكم وثبوت الحال عنده لا من وقت انقطاع
الخبر» وفي انطباق الأخبار على ما ذكروه إشكال فإن المفهوم منها بعد ضم بعضها إلى
بعض أن الأربع سنين المضروبة أعم من أن يكون من حين الفقد وانقطاع الخبر ، أو رفع
الأمر إلى الحاكم ، وأن الفحص أعم من أن يكون في الأربع أو قبلها أو بعدها من
الولي أو الوالي أو غيرهما.
أما صحيحة
الحلبي أو حسنته فإنها دلت على أنه «إذا مضى له أربع سنين بعث الوالي أو يكتب» وهي
ظاهرة في كون الأربع من حين الفقد ، وأنه لم يقع الفحص في الأربع ، وإنما وقع
بعدها ، وهي بحسب ظاهرها لا تنطبق على كلامهم ، وطريق الجمع بينها وبين ما بعدها
من الأخبار أن يكون مبدأ الأربع من حين الفقد ، إلا أنه لما لم يقع الفحص فيها وجب
أن يكون بعدها.
وأما صحيحة
بريد فإنها ظاهرة فيما ذكروه وكذا موثقة سماعة ، فإنهما قد تضمنتا رفع الأمر
الحاكم ، وأنه يأمرها بالتربص أربع سنين ثم يطلب فيها ، وأن مبدأ الأربع هو الرفع
إلى الحاكم ، إلا أن باب الاحتمال غير مغلق.
وأما رواية أبي
الصباح الكناني فإنها ظاهرة فيما دلت عليه صحيحة الحلبي من أن الأربع مبدؤها من
حين الفقد ، وأن الرفع إلى الحاكم إنما وقع بعد الأربع ، وهي خالية من ذكر الفحص
عنه ، فيجب تقييدها بذلك حسبما تضمنته صحيحة الحلبي بأن يفحص عنه بعد الأربع أو في
أثنائها ، ثم مع عدم معرفة خبره يجبر الولي على أن يطلقها ثم السلطان مع عدمه.
والظاهر أن
الوجه في الجمع بين هذه الأخبار هو أنه إن لم ترفع أمرها إلى الحاكم إلا بعد مضي
الأربع من حين الفقد فإنه يفحص عنه حتى يعلم أمره وأنه مع ظهور فقده وعدم العلم
بحياته يجري عليه الحكم المذكور من غير تقييد بمدة ، وإن رفعت أمرها من أول الأمر
قبل مضي الأربع من حين الفقد
أو في أثنائها فإنه يجب عليها التربص مدة الأربع أو تمامها والفحص في تلك
المدة ثم إجراء الحكم المذكور.
الثالثة : قال في المسالك : لو تعذر البحث من الحاكم إما لعدمه أو لقصور يده تعين
عليها الصبر إلى أن يحكم بموته شرعا أو يظهر حاله بوجه من الوجوه لأصالة بقاء الزوجية
، وعليه يحمل ما روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه».
وعن علي عليهالسلام «أنه قال : هذه امرأة ابتليت فلتصبر». ومن العامة من أوجب ذلك مطلقا عملا
بهاتين الروايتين.
أقول : لا يخفى
ما فيه من الاشكال والداء العضال والضرر المنفي بالآية والرواية الواردتين في
أمثال هذا المجال ، وبهما استدلوا في غير حكم من الأحكام ، وخصصوا بهما ما كان ثمة
من دليل مطلق وعام ، ولا ريب أن كلامه ـ رحمة الله عليه ـ هذا مبني على ظاهر ما
اتفقت عليه كلمتهم من توقف الطلاق أو الاعتداد على رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ،
كما سمعت من عبارة العلامة في القواعد من أنه لو مضت مائة سنة ولم ترفع أمرها إلى
الحاكم فلا طلاق ولا عدة بل تبقى على حكم الزوجية وأن الفحص ضمن الأربع سنين لا بد
أن يكون من الحاكم ، وفي الحكم بتعينه من الأخبار المذكورة نظر لما عرفت آنفا من
أن بعضها وإن دل على الرفع إلى الحاكم إلا أن البعض الآخر خال من ذلك ، وأن الفحص
المأمور به لا يتعين كونه من الحاكم بل يكفي لو كان من الولي أو غيره.
ويؤيد ما
فهمناه من هذه الأخبار ما صرح به المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال ـ بعد نقل
أخبار المسألة المذكورة حسبما نقلناه ـ وإن أردت أن يتضح لك ما تضمنته هذه الأخبار
بحيث تتلاءم وتتطابق فاستمع لما يتلى عليك ، فنقول وبالله التوفيق : إذا فقد الرجل
بحيث لم يوجد له خبر أصلا ، فإن مضى عليه من حين
__________________
فقد خبره أربع سنين ولم يوجد من أنفق على امرأته بعد ذلك ولم تصبر هي على
ذلك اجبر وليه على طلاقها بعد تحقق الفحص عنه ، سواء وقع الفحص قبل مضي الأربع أو
بعده ، وسواء وقع من الولي أو الوالي أو غيرهما ، وعدتها عدة الوفاة. إلى آخر
كلامه ـ رحمة الله عليه.
وهو كما ترى
ظاهر في ترتب الحكم على حصول هذه الأمور من الحاكم أو غيره ، ومحصله أنه مع مضي
أربع سنين من حين الفقد وحصول الفحص من كل من كان قبل مضي الأربع أو بعده ، فإنه
بعد مضي المدة المذكورة يجب على الولي طلاقها أو الحاكم ، وإن لم ترفع أمرها إلى
الحاكم بالكلية.
وبالجملة فإنه
لا ظهور في هذه الأخبار على توقف الطلاق على رفع الأمر إلى الحاكم ، وأن مبدأ
الأربع التي يجب عليها التربص فيها من مبدأ الرفع ، وأن الفحص إنما هو من الحاكم ،
كما هو ظاهر كلامهم ، بل الذي يظهر منها إنما هو وجوب التربص أربع سنين ، رفعت
أمرها إليه قبل الأربع أم لم ترفع ، وأن مبدأ الأربع من حين الفقد ، ولا ينافيه
قوله في صحيح بريد «أجلها أربع سنين» وكذا موثقة سماعة لإمكان حملهما على أن ذلك
كان مبدأ الفقد ، أو أن المراد تمام الأربع لو علم الفقد سابقا قبل الرفع ، جمعا
بينهما وبين صحيحة الحلبي الظاهرة في أن مبدأ الأربع من حين الفقد ، وكذا رواية
أبي الصباح ، وأنه يجب الفحص عنه من كل من كان في الأربع أو بعدها ، فإنه بعد تحقق
الفقد يجب على الولي أو الوالي مع عدم الولي طلاقها ، وذكر الرفع في صحيحة بريد
وموثقة سماعة إنما خرج مخرج التمثيل لا الحصر ، وأصل الحكم إنما يدور ويبنى على
مضي الأربع سنين مع حصول الفحص كيف كان.
هذا ما أدى
إليه الفهم القاصر من هذه الأخبار ، وإن كان الاحتياط فيما صاروا إليه ، ومتى ثبت
أن الحكم لا اختصاص له بالحاكم كما ذكرناه ، فلا إشكال في أنه مع فقده أو قصور يده
فإنه لا ينتفي الحكم المذكور ، بل يجب على عدول
المؤمنين القائمين مقامه في تولي بعض الأمور الحسبية القيام بذلك ، وتخرج
الآيات والأخبار الدالة على نفي الضرر والحرج والضيق في هذا الدين شاهدا على ذلك.
وكيف كان فإن
ما ذكرناه إن لم يكن أرجح فلا أقل أن يكون مساويا لما ذكروه في الاحتمال من
الأخبار.
وأما الخبران
اللذان ذكرهما فالظاهر أنهما من أخبار العامة لعدم وجودهما في أخبارنا ، وبهما
يظهر قرب ما احتملناه في رواية السكوني من حملها على التقية مضافا إلى نقل القول
عنهم.
الرابعة : قال في المسالك أيضا : لا فرق في المفقود بين من أنفق فقده في جوف البلد
أو في السفر وفي القتال ، وما إذا انكسرت سفينة ولم يعلم حاله ، لشمول النص لذلك
كله وحصول المعنى ، ولا يكفي دلالة القرائن على موته بدون البحث ، إلا أن تنضم
إليها أخبار من يتاخم قوله العلم بوفاته ، فيحكم بها حينئذ من غير أن تتربص به المدة
المذكورة ، ولا فرق حينئذ بين أن يحكم الحاكم بموته وعدمه ، بل إذا ثبت ذلك عندها
جاز لها التزويج ولم يجز لغيرها أن يتزوجها إلا أن يثبت عنده ذلك أيضا ، ولو حكم
الحاكم بها كفي في حق الزوج بغير إشكال.
أقول : في فهم
ما ذكره من الإطلاق في الفقد وشموله لهذه الأفراد المعدودة من النصوص نظر ، فإن
ظاهر الأخبار المتقدمة تخصيص الحكم بالسفر إلى قطر من الأقطار ، أو مطلقا من غير
معلومية أرض مخصوصة ، وأنه يكتب أو يرسل في الفحص عنه إلى ذلك القطر أو في الجوانب
الأربعة أو بعضها مما يعلم أو يظن السفر إليه ، وأما الفقد في البلد أو في معركة
القتال أو السفينة التي انكسرت في البحر فلا يكاد يشم له رائحة من هذه الأخبار ،
بل ربما كانت ظاهرة في خلافه ، إذ لا يتحقق الفحص في شيء من هذه المواضع المعدودة
، وأيضا فإنه بالنسبة إلى هذه الأفراد المعدودة فلتدل القرائن الموجبة للعلم
العادي على الموت ، بخلاف مجرد السفر إلى بلد وفقد خبره ، والفرق بين الأمرين
ظاهرين غاية الظهور لمن
أعطى التأمل حقه في هذه السطور.
ومن هنا كان
بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين يحكم بخروج هذه الأفراد عن حكم المفقود
المذكور في هذه الأخبار.
قال ـ رحمهالله ـ ونعم ما قال : إن من حصل العلم العادي بعدم حياته فإنه يجوز نكاح زوجته
وإن لم ترفع أمرها إلى الحاكم ، ومثله يأتي أيضا في قسمة الميراث ، لأن المفقود في
مثل البحر مع كثرة المترددين من السواحل المحيطة بموضع الغرق يحصل العلم من مجاري
العادة بهلاكهم كما هو واضح ، وهو أقوى من العلم بالشاهدين. وكذا المفقود في
المفاوز في شدة الحر والبرد مع إحاطة الأودان بالأطراف ولم يخبر
عنه منها مع كثرة المترددين. وكذا المفقود في المعارك العظام لا يحتاج فيه إلى
التأجيل أربع سنوات ليفحص فيها عن حاله في الأطراف لأن ذلك إنما هو في المفقود لا
كذلك ، وأما هنا فيكفي في مثله حصول المترددين في الأطراف التي يظن بجاري العادة
أنه لو كان حيا لكان فيها وأتى بخبره المترددون ، وحيث لم يأت له خبره علم هلاكه ،
انتهى.
وإلى هذا أيضا
كان الآخند المولى محمد جعفر الأصفهاني المشهور بالكرباسي صاحب الحواشي على
الكفاية وهو من فضلائنا المعاصرين ، وقد زوج جملة من النساء اللاتي فقدت أزواجهن
في معركة قتال الأفغان مع عسكر شاه سلطان
__________________
حسين في مفازة قرب كرمان.
وبالجملة فإن
مورد الأخبار المتقدمة السفر ، وأن الفقد حصل فيه فيرسل إلى الفحص عنه في تلك
الجهة أو الجهات ، وما ذكره ليس كذلك ، والاشتراك في مجرد الفقد لا يوجب الإلحاق
فإنه قياس محض ، وأيضا فإن الفحص المأمور به في الأخبار لا يتحقق في هذه الأفراد ،
فإذا كان الفقد في مفازة كطريق الحج مثلا إذا قطع على قفل الحاج جملة من المتغلبين
وقتلوهم وأخذوا أموالهم فإلى من يرسل وممن يفحص ، وهكذا في معركة القتال.
وبذلك يظهر لك
ما في دعواه شمول النص لهذه الأفراد فإنه كيف تكون شاملة لها وموردها الفقد في
السفر إلى البلدان المعمورة بالناس لتمكن الفحص منهم والسؤال وتحقيق الأحوال. نعم
الجميع مشتركون في المعنى وهو الفقد وعدم العلم بالحياة والموت ، ولكن مجرد ذلك لا
يكفي في ترتب الأحكام المذكورة.
الخامسة : قال في المسالك أيضا : الحكم مختص بالزوجة فلا يتعدى إلى ميراثه ولا عتق
أم ولده ، وقوفا فيما خالف الأصل على مورده ، فيتوقف ميراثه وما يترتب على موته من
عتق أم الولد والمدبر والوصية وغيرها إلى أن يمضي مدة لا يعيش مثله إليها عادة ،
وسيأتي البحث فيه ، والفرق بين الزوجة وغيرها مع ما اشتهر من أن الفروج مبنية على
الاحتياط وراء النص الدال على الاختصاص دفع الضرر الحاصل على المرأة بالصبر دون
غيرها من الوارث ونحوهم ، وأن للمرأة الخروج من النكاح بالجب والعنة لفوات
الاستمتاع ، وبالإعسار بالنفقة على قول لفوات المال ، فلأن يخرج هنا ـ وقد اجتمع
الضرران ـ أولى ، ويدل على عدم الحكم بموته أنها لو صبرت بقيت الزوجية ، فزوالها
على تقدير عدمه لدفع الضرر خاصة فيقيد بمورده ، انتهى.
أقول : لا يخفى
مقتضى الأصل واستصحاب حكم الزوجية وأصالة الحياة بعد
ثبوتها هو توقف جميع هذه الأمور من خروج الزوجة عن الزوجية وقسمة الميراث
وانعتاق أم الولد ونحو ذلك مما ذكره على العلم بالموت ، إلا أنه قد قام الدليل كما
عرفت من الروايات المتقدمة على خروج الزوجة من هذا الأصل بمجرد فقد الزوج ، وإن لم
يتحقق موته حسب ما عرفت من الكلام في ذلك.
وكما خرجت
الزوجة بالأخبار المذكورة خرج الميراث أيضا بموثقة سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المفقود يحبس ماله على الورثة قدر ما يطلب في
الأرض أربع سنين ، فإن لم يقدر عليه قسم ماله بين الورثة».
وموثقة إسحاق
بن عمار قال : «قال لي أبو الحسن عليهالسلام : المفقود يتربص بماله أربع سنين ثم يقسم».
وهذه الرواية
وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى طلبه مدة الأربع ، إلا أنه يجب حمل إطلاقها على ما
تضمنه الخبر الأول من الطلب تلك المدة ، وإلى هذا القول مال جملة من الأصحاب منهم
الصدوق والمرتضى وأبو الصلاح.
واستوجهه في
المسالك أيضا ، إلا أنه اختار فيه القول المشهور ، وهو أنه ينتظر به مدة لا يعيش
إليها عادة ، مع أنه لا دليل عليه إلا ما ذكرنا من الأصل الذي يجب الخروج عنه
بالدليل ، وهو هنا موجود كما عرفت ، وتؤيده أخبار الزوجة المذكورة لأنه متى جاز
ذلك في الزوجة ـ مع أن عصمة الفروج أشد وأهم في نظر الشارع ـ فليجز في قسمة المال
بطريق أولى. وأما ما ذكره في الفرق بين الزوجة والمال فإن فيه :
(أولا) أن النص
كما دل على حكم الزوجة فخرجت به عن حريم الأصل المذكور كذلك المال قد خرج
بالموثقتين المذكورتين ، إلا أن له أن يقول برد الموثقتين المذكورتين لضعفهما عنده
، وعده الموثق في قسم الضعيف وترجيح الأصل
__________________
عليهما ، بناء على تصلبه في هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من
الصلاح ، وهو عندنا غير مسموع كما لا يخفى على من له إلى الإنصاف أدنى رجوع.
(وثانيا) أنه
كما تكون الحكمة في الاعتداد بعد المدة دفع الضرر من الزوجة فيجوز أن تكون الحكمة
أيضا في قسمة الميراث دفع الضرر عن الوارث بعين ما قاله في إعسار الزوج بالنفقة ،
وإن كان أحد الضررين وأشد ، أشدية الضرر عليها دون الوارث مقابل بمطلوبية العصمة
في الفروج للشارع زيادة على الأموال.
وبالجملة
فالأصل في ذلك هو النص ، وهذه التوجيهات تصلح لأن تكون بيانا لوجه الحكمة فيه ، لا
عللا مؤسسة للحكم ، وحيث كان النص فيما تدعيه موجودا صح البناء عليه ، ويبقى ما
عدا مورد النص في هذين الموضعين على حكم حريم الأصل كما ذكروه.
السادسة
: قال في
المسالك : لو أنفق عليها الولي أو الحاكم من ماله ثم تبين تقدم موته على الإنفاق
فلا ضمان عليها ولا على المنفق للأمر به شرعا ، ولأنها محبوسة لأجله ، وقد كانت
زوجته ظاهرا والحكم مبني على الظاهر.
وقال سبطه في
شرح النافع : بل نقل ذلك عنه هذا كلامه ـ رحمة الله عليه ـ وهو مشكل لظهور أن هذا
التصرف وقع في مال الغير بغير إذنه فينبغي أن يترتب على التصرف الضمان ، وإن لم
يأثم بذلك كما لو تصرف الوكيل بعد موت الموكل ولما يعلم بموته ، والمسألة قوية
الاشكال وإن كان المصير إلى ما ذكره ـ رحمة الله عليه ـ غير بعيد ، والله أعلم.
أقول : الظاهر
ـ والله أعلم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه ـ ضعف ما ذكره من
الإشكال.
أما (أولا)
فلأن الأحكام الشرعية لا تناط بالواقع ونفس الأمر للزوم الحرج والشارع إنما كلف
بالظاهر ظهر خلافه أم لم يظهر ، وإذا كان الإنفاق مأمورا به شرعا وواجبا بحسب ظاهر
الشرع فكيف يترتب عليه الضمان بعد ظهور
خلافه ، ومن المعلوم أن امتثال الأمر الواجب بحسب ظاهر الشرع لا يتعقبه إثم
ولا غرم ، وإلا للزم من ذلك أنه يوجب عليه الإنفاق ثم يوجب عليه الضمان وهو لا
يصدر عن الحكيم جل شأنه.
وأما (ثانيا)
فإن ما اعتضد به من تصرف الوكيل بعد موت الموكل ولما يعلم موته وأنه يضمن في هذه
الحال ، فإنهم وإن ذكروا ذلك إلا أنهم لم يستندوا فيه إلى دليل صريح ولا نص صحيح ،
وإنما استندوا فيه إلى ما يتعاطونه من الأدلة الاعتبارية كما لا يخفى على من راجع
كلامهم ، فلا يفيد التعلق به مزيد فائدة ، إلا أنه قد أطلعنا على بعض النصوص
الدالة عليه كما تقدم في كتاب الوكالة ، وعلى تقديره فالحمل عليه قياس لا يوافق
أصول المذهب ، وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره جده ـ رحمة الله عليه.
السابعة
: لا خلاف ولا
إشكال في أنه لو قدم الزوج وقد خرجت من العدة وتزوجت فإنه لا سبيل له عليها ، ولو
جاء وهي في العدة كان أملك بها ، وإنما الخلاف فيما لو جاء وقد خرجت من العدة ولم
تتزوج فالأكثر على أنه كالأول ، وبه قال الصدوق في المقنع وابن إدريس وابن حمزة
وابن الجنيد والشيخ في المبسوط.
ونقل في
المختلف عن الشيخين أنه إن جاء وهي في العدة أو قد قضتها ولم تتزوج كان أملك بها
من غير نكاح يستأنفه ، بل بالعقد الأول. وتبعهما ابن البراج وهذا القول للشيخ في
الخلاف والنهاية.
ونقل في شرح
النافع وقبله جده في المسالك عن الشيخ أنه ادعى أن بهذا القول رواية ، وبذلك صرح
المحقق في النافع فقال : فيه روايتان أشهرهما أنه لا سبيل له عليها ، وهذه الرواية
لم نقف عليها ، وقد اعترف في المسالك وسبطه في شرح النافع أيضا بذلك ، بل نقل في
المسالك عن جماعة ممن سبقه أنهم اعترفوا بذلك ، ونقل عن فخر المحققين أنه قوى هذا
القول أيضا.
وللعلامة في
المختلف قول ثالث ، تفصل بأن العدة إن كانت من طلاق الولي
فلا سبيل للزوج عليها ، وإن كانت بأمر الحاكم لها بالاعتداد من غير طلاق
كان أملك بها.
أقول : والظاهر
هو القول المشهور ، وعليه تدل الأخبار المتقدمة لقوله عليهالسلام في صحيحة بريد «فإن انقضت العدة قبل أن يجيء أو يراجع فقد حلت للأزواج ، ولا سبيل له عليها».
وقوله عليهالسلام في موثقة سماعة «فإن قدم زوجها بعد ما تنقضي عدتها فليس له عليها رجعة».
وأما ما فصله
العلامة في المختلف ففيه أن موثقة سماعة المشتملة على أمر الإمام لها بالاعتداد
أربعة أشهر وعشرا قد تضمنت أنه متى قدم بعد انقضاء العدة فليس له عليها رجعة ،
وكيف يدعي أنه إذا كانت العدة بأمر الحاكم كان أملك بها؟ ما هي إلا غفلة واضحة.
الثامنة : الظاهر من صحيحة بريد وموثقة سماعة هو أنه لو جاء وهي في العدة فإنه لا
يعود حكم الزوجية إلا بالرجعة في الطلاق لقوله عليهالسلام في الاولى «وإن جاء زوجها من قبل أن تنقضي عدتها فبدا
له أن يراجعها فهي امرأته ، وهي عنده على تطليقتين» وفي الثانية «وإن قدم هي في
عدتها أربعة أشهر وعشرا فهو أملك برجعتها» وهو مؤكد للحكم بصحة الطلاق.
والذي يظهر من
عبارات الأصحاب هو عود الزوجية قهرا بمجيئه لقول المحقق في كتابيه «فإن جاء في العدة
فهو أملك بها» وربما كان التفاتهم إلى أنه بمجيئه في العدة تبين بطلان الطلاق
والاعتداد لظهور حياته ، فلم يصادف ذلك محلا.
وفيه أن
الأحكام الشرعية إنما تبتني على الظاهر ، ظهر خلافه أم لم يظهر
__________________
كما تقدمت الإشارة إليه ، والشارع قد أمر بالطلاق والتزويج بعد الخروج من
العدة بناء على حكمه بالوفاة ، وظهور حياته لا ينقض ما حكم به أولا.
نعم عباراتهم
المذكورة ليست نصا فيما ذكرناه بل يحتمل حملها على ما يدل عليه الخبران المذكوران.
التاسعة : قالوا : لو نكحت بعد العدة ثم بان موت الزوج كان العقد الثاني صحيحا ولا
عدة سواء كان موته قبل العدة أو معها أو بعدها ، لأن عقد الأول سقط اعتباره في نظر
الشارع فلا حكم لموته كما لا حكم لحياته ، والوجه فيما قالوه إن حكم الشارع لها
بالاعتداد والبينونة قاطع للنكاح السابق ، ألا ترى أنه لو ظهرت حياته وجاء وهي في
العدة توقف عود الزوجية على الرجوع في الطلاق كما عرفت.
وأما بعد
انقضاء العدة وإن لم تتزوج فإنه لا رجوع له عليها بالمرة ، وحينئذ فما حكم به من
انقطاع الحكم السابق بالبينونة لا فرق فيه بين ظهور موت الزوج أو حياته ، ولا بين
تبين موته قبل العدة أو بعدها.
وللشافعية قول
ببطلان العدة لو ظهر موته فيها أو بعدها قبل التزويج ، بناء على أنه لو ظهر حينئذ
كان أحق ، لأن الحكم بالعدة والبينونة كان مبنيا على الظاهر ومستند حكم الحاكم
الاجتهاد ، وقد تبين خطأه. فعليها تجديد عدة الوفاة بعد بلوغها الخبر لغيرها ، بل
يحتمل وجوب العدة ثانيا وإن نكحت لما ذكر ، وسقوط حق الأول منها لو حضر وقد تزوجت
لا ينفي الاعتداد منه لو مات.
وضعفه ظاهر مما
قدمناه في سابق هذه المسألة ، مؤيدا بأصالة العدم حتى يقوم دليل شرعي على ما ذكروه
، وثبوته بهذه التخريجات العليلة ممنوع ، فإنها لا تصلح عندنا لتأسيس الأحكام كما
عرفته في غير مقام.
العاشرة : ظاهر أكثر الأصحاب أنه لا نفقة على الغائب في زمان العدة ولو حضر قبل
انقضائها. وتردد فيه المحقق في الشرائع ، وعلل القول بعدم النفقة
بأن العدة عدة وفاة وهي لا تستتبع النفقة ، وربما علل بالنظر إلى حكم
الحاكم بالفرقة.
ورد بأن حكمه
بالفرقة لا يوجب سقوط النفقة ، لأن حكمه بها يحصل بالطلاق الرجعي مع بقائها.
أقول : الظاهر
أن هذا التعليل إنما خرج بناء على ما هو المشهور في كلامهم من أمر الحاكم
بالاعتداد أربعة أشهر وعشرا ، وأنها عدة وفاة ، لا أن الحكم فيها طلاق الولي أو
الوالي كما هو أحد القولين في تلك المسألة ، وحينئذ فيرجع هذا التعليل إلى التعليل
الأول.
ووجه التردد
المذكور ما ذكروا من أنها في حكم الزوجة ما دامت في العدة ، فتجب لها النفقة لو
حضر قبل انقضائها ، فلو لا أنها زوجته لما صح له ذلك إلا بعقد جديد ، وخصوصا على
القول بأن الولي يطلقها ، لأن الظاهر أن الطلاق رجعي لما ظهر من الروايات أنه
يراجعها إذا حضر ، والطلاق الرجعي لا يسقط النفقة.
أقول : يمكن أن
يقال بأن القول بسقوط النفقة كما عليه الأكثر مبني على ما هو المشهور من أن الحكم
في المفقود هو أمر الحاكم امرأته بالاعتداد عدة الوفاة ، وحينئذ فيكون حكمها حكم
الزوجة المتوفى عنها زوجها ، ليس لها نفقة ، ودعوى أنها في حكم الزوجية على إطلاقه
ممنوع ، والحكم بجواز رجوع الزوج لها لو جاء وهي في العدة مستثنى بالنص ، لأن
التحقيق كما تقدمت الإشارة إليه أن هذه العدة عدة وفاة من جهة وعدة طلاق من جهة ،
وإن قلنا بالقول الآخر وهو أن الحكم فيها طلاق الولي أو الوالي فإن العدة كما
قدمنا ذكره أربعة أشهر وعشرا ، لا عدة طلاق كما ذكروه ، فإنه هو الذي تجتمع عليه
الأخبار.
وبالجملة فإن
المسألة وإن كانت لا تخلو من الاشكال لخلوها من النص القاطع لمادة القيل والقال ،
إلا أن الأنسب بما قدمنا تحقيقه هو ما عليه الأكثر من سقوط النفقة.
الحادية
عشر : لا إشكال ولا خلاف في أنه لو مات أحد الزوجين بعد
العدة والتزويج بزوج آخر فإنه لا توارث بينهما لانقطاع العصمة بينهما ، وما دلت
عليه الأخبار المتقدمة من أنه لو حضر وقد تزوجت فلا سبيل له عليها ، ومثله ما لو
وقع الموت بعد العدة وقبل التزويج على الأشهر الأظهر ، لما عرفت آنفا من أنه
كالأول في انقطاع السبيل والعصمة بينهما.
وأما على القول
الآخر من أنه لو حضر بعد انقضاء العدة كان أملك بها فقد عرفت ضعفه لعدم دليل يدل
عليه ، والرواية التي ادعى ووردها بذلك لم نقف عليها.
وإنما الاشكال
والخلاف فيما لو مات أحدهما وهي في العدة ، ففي ثبوت التوارث قولان : (أحدهما)
العدة لأن العدة عدة وفاة وهي تقتضي نفي الإرث.
(وثانيهما)
ثبوته ، واختاره المحقق في الشرائع ، وجعله في المسالك هو الأقوى ، قال : لبقاء
حكم الزوجية بما قد علم ، ولأن العدة في حكم الرجعية ـ كما عرفت ، وهي لا تقطع
التوارث بين الزوجين ، وجعلها عدة وفاة ـ مبني على الظاهر وعلى وجه الاحتياط وإلا
لم تجامع الطلاق ، فإذا تبين خلاف الظاهر رجع حكم الطلاق الرجعي والزوجية من رأس.
أقول :
والمسألة كسابقتها لا تخلو من الإشكال أيضا لعدم النص ، وإلا أن الأوفق بما قدمنا
تحقيقه هو القول بالعدم ، قوله «لبقاء حكم الزوجية وأن العدة في حكم العدة الرجعية
التي لا تقطع التوارث» ممنوع ، لأن المستفاد من كونها عدة وفاة ترتب أحكام عدة
الوفاة عليها من عدم النفقة في العدة وعدم التوارث فيها.
نعم خرج من ذلك
جواز الرجوع لو جاء قبل الخروج من العدة بالنص ، فبقي ما عداه من أحكام عدة الوفاة
، ولا ينافي ذلك مجامعتها للطلاق ، لأن الطلاق هنا إنما وقع احتياطا لاحتمال
الحياة.
وبالجملة فإن
ما ذكرناه إن لم يكن هو الأقرب في المسألة فلا أقل أن يكون مساويا لما ذكروه من
الاحتمال.
الثانية
عشر : إذا تزوجت بعد العدة وهي أربعة أشهر وعشر والفحص وهو
أربع سنين وأتت بولد يمكن إلحاقه بالثاني الحق به على الأشهر الأظهر ، فلو حضر
الزوج الأول وادعاه لم يلتفت إلى دعواه لأن الولد لا يبقى في الرحم هذه المدة
المذكورة ليمكن إلحاقه به ، ولو ادعى أنه قدم عليها في خلال هذه المدة وجامعها ،
وكان ما يدعيه ممكنا.
قال الشيخ :
إنه يقرع بينهما ، لأنها صارت فراشا لهما معا ، وإن كان فراش الأول قد زال ، كما
لو طلقها وتزوجت ثم أتت بولد يمكن إلحاقه فإنه يقرع بينهما. كما اختاره في تلك
المسألة حسبما تقدم نقله ثمة ، والمشهور أنه للثاني خاصة لأنها فراش له الآن حقيقة
، والولد له وفراش الأول قد زال ، ومثله الكلام في المسألة التي نظر بها كما تقدم
ذكره.
المقام
السابع : في عدة
الإماء والاستبراء ، وقد تقدم في الاستبراء مستوفى في كتاب البيع في فصل بيع
الحيوان ، وربما بقي من مسائله ما لم يسبق له ذكر وسيأتي ذكره إن شاء الله في جملة
مسائل هذا المقام. إلا أنه يجب التنبيه هنا على أمر ، وإن كان قد سبقت الإشارة
إليه في الموضع المذكور ، وهو أن السيد السند ـ رحمة الله عليه ـ قال في كتاب
الطلاق من شرح النافع في تعداد من يسقط استبراؤها من الإماء ما صورته : وثالثها أن
تكون صغيرة ، وقد ورد بعدم وجوب استبرائها روايات منها ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال في رجل ابتاع جارية لم تطمث قال : إن كانت صغيرة لا يتخوف عليها
الحمل فليس عليها عدة وليطأها إن شاء ، وإن كانت قد بلغت ولم تطمث فإن عليها العدة»
الحديث.
وفي الحسن عن
ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال في الجارية التي
__________________
لم تطمث ولم تبلغ الحبل إذا اشتراها الرجل ، قال : ليس عليها عدة يقع عليها».
ومقتضى هاتين
الروايتين وما في معناهما أنه لا يجب استبراء الصغيرة التي لم تحمل مثلها وإن
تجاوز سنها التسع ، ولا يمكن حملها على ما دون التسع ، للتصريح في الروايتين بجواز
وطئها من غير استبراء ، ومن نقص سنها عن التسع لا يجوز وطؤها إجماعا.
وبما ذكرنا صرح
جدي ـ رحمهالله عليه ـ في المسالك ، فإنه قال بعد أن أورد هذه الروايات
: وفي هذه الروايات المعتبرة دلالة على أن الأمة التي بلغت التسع ولم تحض لا
استبراء عليها ، وليس فيها ما ينافي ذلك ، وهي أيضا موافقة لحكمة الاستبراء ، لأن
بنت العشر سنين وما قاربها لا تحمل عادة ، فلا مقتضي لاستبرائها كاليائسة ، انتهى.
أقول : لا يخفى
أن ما ذكره من الحمل المذكور لا يجري في صحيحة الحلبي المذكورة لقوله عليهالسلام فيها «وإن كانت قد بلغت ولم تطمث» المقابل لقوله «إن
كانت صغيرة» وهو ظاهر في أن المراد بالصغيرة من لم تبلغ التسع فكيف يمكن حمل
الصغيرة على من بلغت التسع إذا كان لم تحمل مثلها كما ادعاه.
وقد اعترف بذلك
جده في المسالك في هذا الموضع الذي نقل بعضه ، وكلام جده وهو الذي نقله إنما هو
بالنسبة إلى غير الصحيحة المذكورة كما هو صريح عبارته وإلا فإنه اعترف بعدم قبول
الصحيحة المذكورة لهذا الاحتمال. بل هي عنده باقية في زاوية الاشكال. وها أنا أذكر
لك صورة كلام جده في المقام وإن طال به زمام الكلام ليتضح لك ما في كلامه ـ رحمهالله ـ من الغفلة الظاهرة لجملة الأنام.
قال في كتاب
الطلاق ـ في عد من يسقط استبرائهن من الإماء بعد ذكر اليائسة حيث ذكرها المصنف ولم
يذكر الصغيرة ـ ما لفظه : وما في معناها الصغيرة التي لم تبلغ المحيض ولم يذكرها
معها ، وذكرها في باب البيع ، ويمكن أن
يكون وجه تركها أن المراد منها عند الإطلاق من سنها دون تسع سنين ومتى كانت
كذلك فوطؤها حرام مطلقا ، وغيره لا يحرم في زمن الاستبراء لكنها مذكورة في روايات
كثيرة ، وفيها تصريح بجواز وطئها حينئذ بغير استبراء ، فمنها صحيحة الحلبي ـ ثم
ساق الرواية كما قدمناه ثم قال : ـ
ولا يمكن
تنزيلها على من تجاوز سنها التسع ولم تحض بناء على ما هو الغالب من عدم حيضهن بعد
التسع أيضا ليجمع بين جواز وطئها وعدم بلوغها الحيض ، لأن هذا الحمل ينافي قوله «وإن
كانت قد بلغت ولم تطمث فإن عليها العدة» لأن بلوغها عند الأصحاب يحصل بالتسع. وفي
صحيحة عبد الله بن أبي يعفور ـ ثم ساقها كما تقدم ثم قال : ـ
وقريب منها صحيحة
عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا قعدت عن المحيض أو لم تحض فلا عدة عليها». وفي
هذه الروايات المعتبرة دلالة على أن الأمة التي بلغت التسع ولم تحض لا استبراء
عليها ، وليس فيها ما ينافي ذلك بخلاف رواية الحلبي ، وهي أيضا موافقة لحكمة
الاستبراء. إلى آخر ما تقدم في نقل سبطه المذكور عنه ، وهو صريح كما ترى في أن هذا
الاحتمال إنما يجري فيما عدا صحيحة الحلبي ، والعجب أنه نقل العبارة المذكورة وحذف
من وسطها قوله «بخلاف رواية الحلبي» ويمكن قد سقط ذلك من نسخة الكتاب الذي نقل عنه
هذه العبارة.
وكيف كان فإن
ظاهر قوله عليهالسلام في صحيحة الحلبي «وإن كانت بلغت ولم تطمث فإن عليها
العدة ظاهر بل صريح في رد الحمل الذي تكلفوه ، لدلالته على أنها بعد التسع مع عدم
الطمث ، فإنه يجب عليها الاستبراء المعبر عنه بالعدة ، والرواية صحيحة باصطلاحهم ،
فكيف يمكن هذا مع القول بعدم وجوب الاستبراء على الصغيرة التي لم تحمل مثلها ، وإن
تجاوز سنها التسع كما ذكروه.
وتمام تحقيق
الكلام في هذا المقام وما يتعلق بدفع هذا الاشكال قد تقدم في
الموضع المشار إليه آنفا. إذا عرفت ذلك فاعلم أن البحث في هذا المقام يقع
في مسائل :
الأولى
: لا خلاف بين
الأصحاب في أن عدة الأمة قرءان ، وإنما الخلاف كما تقدم ذكره في أن القرء عبارة عن
الطهر أو الحيض ، وقد عرفت أن الأشهر الأظهر هو الأول ، وأن الأخبار الدالة على
الثاني محمولة على التقية ، لكن ذلك بالنسبة إلى الأخبار المختلفة في عدة الزوجة
الحرة.
وأما الأمة فإن
الذي حضرني من الأخبار المتعلقة بها ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «عدة الأمة حيضتان ، وقال : إذا لم تكن تحيض فنصف
عدة الحرة».
وعن سليمان بن
خالد في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الأمة إذا طلقت ما عدتها؟ قال : حيضتان أو شهران»
الحديث. .
وعن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن حر تحته أمة أو عبد تحته حرة كم طلاقها؟
وكم عدتها؟ قال : السنة في النساء في الطلاق ، فإن كانت حرة فطلاقها ثلاثا وعدتها
ثلاثة أقراء ، وإن كان حر تحته أمة فطلاقها تطليقتان وعدتها قرءان».
وعن محمد بن
قيس في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سمعته يقول : طلاق العبد للأمة تطليقتان وأجلها
حيضتان إن كانت تحض ، وإن كانت لا تحيض
__________________
فأجلها شهر ونصف».
وما رواه في
الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام في رواية تتضمن عدة الذمية قال : «عدتها عدة الأمة
حيضتان».
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان فإن كانت قد
قعدت عن المحيض فعدتها شهر ونصف».
وأنت خبير بأن
هذه الأخبار كلها متفقة الدلالة على أن عدتها حيضتان وليس الباب ما ينافيها.
والأصحاب بناء
على ما ذكروه في عدة الحرة من اختيار تفسير القرء بالطهر جروا عليه في هذا المكان
، مع أن الفرق ظاهر لأن الأخبار بما ذكروه في عدة الحرة متضافرة متكاثرة ، مستفيضة
صريحة ، وما عارضها يقصر عن معارضتها مع ظهور حمله على التقية.
وأما أخبار عدة
الأمة فهي التي نقلناها كما عرفت وهي متفقة على الحيضتين ومن ثم مال إلى العمل
بهذه الأخبار السيد السند في شرح النافع فقال ـ بعد أن ذكر أنه قد تقدم أن القرء
هو الطهر ، وأن ذلك هو الأظهر للأخبار الدالة عليه ـ ما لفظه : لكن ورد في الأمة
أخبار معتبرة الإسناد دالة على أنه الحيض هنا ، ثم نقل صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة
محمد بن قيس ، ثم قال : وليس لهذه الروايات معارض فيتجه العمل بها. انتهى ، وتبعه
في ذلك في الكفاية.
والمحدث الشيخ
محمد بن الحسن الحر العاملي في كتاب الوسائل تأول هذه
__________________
الأخبار بناء على ما هو المشهور من أن القرء بمعنى الطهر مطلقا في عدة
الحرة أو الأمة فقال : أقول : المراد من الحيضتين أنه لا بد من دخول الحيضة
الثانية ليتم الطهران وإن لم يتم الحيض الثاني لما مر ، أو محمول على التقية أو
الاستحباب أو على عدم جواز تمكين الزوج الثاني في الحيض الثاني.
وفيه أن ارتكاب
التأويل الذي هو خلاف الظاهر فرع وجود المعارض ولا معارض هنا ، ووجوده في عدة
الحرة لا يستلزم حمل أخبار الأمة عليه ، وما المانع من اختلاف العدتين في ذلك إذا
اقتضته الأدلة. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال ، والاحتياط فيها يقتضي
العمل بأخبار الحيضتين.
إذا تقرر ذلك
فاعلم أن في المقام فوائد يحسن التنبيه عليها :
الاولى : من
القواعد المستفادة من النصوص والمقررة في كلام الأصحاب أن كل عدد يؤثر فيه الرق
نقصانا يكون الرقيق فيه على النصف مما عليه الحر كالحدود وعدد المنكوحات والقسم
بين الزوجات والعدة بالأشهر من الطلاق ، أو الوفاة في إحدى الروايتين ، وإنما خرجت
العدة بالأقراء عن هذا الضابط وكذلك الطلاق ، فإن الأمة تعتد بقرءين مع أن الحرة
تعتد بثلاثة أقراء وتحرم بتطليقتين وتحرم الحرة بالثلاث لأن القرء كالطلاق لا
يتبعض ليمكن أخذ نصفه ، فوجب الإكمال فيهما ببلوغ الاثنين.
أما الطلاق
فظاهر ، وأما القرء فلأنه عبارة عن الطهر ، والطهر بين الدمين إنما يظهر نصفه إذا
ظهر كله بعود الدم ، فلا بد من الانتظار بعود الدم ، والاعتماد في ذلك كله على ما
دلت عليه النصوص ، وهذه الوجوه صالحة لبيان الحكم فيها.
الثانية : لا
فرق في هذه العدة بين القن والمدبرة والمكاتبة وأم الولد إذا زوجها مولاها فطلقها
الزوج ، كل ذلك لإطلاق النصوص. وكذا لا فرق بين كونها تحت حر أو عبد كما يستفاد من
صحيحة زرارة المتقدمة ، وفي معناها روايات أخر تقدمت ، ولو وطئت بشبهة كالنكاح
الفاسد ونحوه اعتدت بقرءين كما في الطلاق عن النكاح الصحيح ، ولو كانت الأمة
المطلقة حاملا فعدتها وضع الحمل إجماعا.
قال في التحرير
: ويدل عليه عموم «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» قيل ولو ادعت الحمل فالأظهر وجوب التربص بها سنة كالحرة ،
لأن الحمل لا يتفاوت فيه الحال بين الحرة والأمة ، وفي الروايات بإطلاقها دلالة
عليه ، وهو جيد.
قال في المسالك
: والمبعضة كالحرة عندنا تغليبا لجانب الحرية ، وظاهره دعوى الإجماع عليه ، ولم
أقف فيه على نص.
الثالثة : قيل
: بناء على أن القرء بمعنى الطهر إن أقل أزمان تنقضي به العدة ثلاثة عشر يوما
ولحظتان ، وذلك بأن يأتيها الدم بعد طلاقها بلحظة ثم تحيض ثلاثا ثم تطهر عشرة ثم
ترى الدم الثاني لحظة ، وهذه اللحظة دالة على انقضاء العدة ثم تطهر ، وهذه اللحظة
الأخيرة في الحقيقة إنما هي دليل على انقضاء العدة ، فالعدة حقيقة إنما هي ثلاثة
عشر يوما ولحظة حسبما تقدم في عدة الحرة.
قيل : ويمكن
انقضاؤها بأقل من ذلك كما إذا طلقها بعد الوضع وقبل رؤية دم النفاس بلحظة ، ثم رأت
دم النفاس لحظة وانقطع ، ثم مضت عشرة وهي طاهرة ، وجاءها دم الحيض ، وبرؤيته تنقضي
عدتها ، وحينئذ فالعدة عشرة أيام ولحظتان.
الرابعة : لو
لم تحض بالكلية أو كانت مسترابة فعدتها شهر ونصف كما تقدم في رواية محمد بن الفضيل
، وفي صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة أيضا إذا لم تحض فنصف عدة الحرة.
وروى في
التهذيب عن أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن طلاق الأمة فقال : تطليقتان ـ إلى أن قال : ـ وعدة
الأمة المطلقة شهر ونصف».
وعن سماعة في الموثق قال : «سألته عن عدة الأمة المتوفى عنها
زوجها
__________________
فقال : عدتها شهران وخمسة أيام. وقال : عدة الأمة التي لا تحيض خمسة
وأربعون يوما».
وما رواه في الفقيه بطريقه إلى سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة الأمة التي لا تحيض خمسة وأربعون ليلة ،
يعني إذا طلقت».
وما رواه في
التهذيب عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة الأمة إذا توفي عنها زوجها شهران وخمسة أيام
، وعدة المطلقة التي لا تحيض شهر ونصف».
والحكم مما لا
خلاف فيه ، وهذه الأخبار مثل عبارات الأصحاب قد تضمن بعضها التعبير شهر ونصف
والبعض الآخر بخمسة وأربعين يوما مطلقا.
وفصل في
المسالك تفصيلا حسنا بأنه إن قارن الطلاق الهلال اكتفي بالشهر الهلالي تم أم نقص
ثم أكملته بخمسة عشر يوما ، وإن طلقها في أثناء الشهر فالعدة خمسة وأربعون يوما ،
وقد تقدم الكلام في المقارنة في عدة الحرة.
المسألة
الثانية : إذا أعتقت
الأمة ثم طلقت فإنه يلزمها الاعتداد بعدة الحرة ولو أعتقت بعد الطلاق في العدة فإن
كان الطلاق رجعيا فكالأول ، وإن كانت بائنا أتمت عدة الأمة.
أما (الأول)
فظاهر لأنها بالعتق قد صارت حرة فيتعلق بها ما يتعلق بالحرة من الأحكام التي من
جملتها ما نحن فيه ، ومما يستأنس به لذلك الأخبار المتكاثرة الدالة على أن عدتها
من عتق سيدها لها متى أرادت التزويج بغير السيد عدة الحرة من الطلاق.
ومنها ما رواه في
التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن
__________________
أعتق رجل جارية ثم أراد أن يتزوجها مكانه فلا بأس ولا تعتد من مائه ، وإن
أرادت أن تتزوج من غيره فلها مثل عدة الحرة».
وما رواه في الكافي
عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل أعتق وليدته وهو حر ، وقد كان
يطؤها ، فقال : عدتها مثل عدة الحرة المطلقة ثلاثة قروء».
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : الرجل تكون تحته السرية فيعتقها ، فقال
: لا يصلح لها أن تنكح حتى تنقضي عدتها ثلاثة أشهر».
إلى غير ذلك من
الأخبار ، والتقريب فيها أنه متى وجب عليها العدة لعتق السيد الموجب لحريتها فطلاق
الأجنبي لها في هذه الحال أولى. وبالجملة فالحكم مما لا خلاف فيه ولا إشكال
يعتريه.
وأما (الثاني) فوجهه
الجمع بين ما دل على وجوب عدة الطلاق في هذه الصورة وهو ما رواه في الفقيه في الصحيح عن ابن أبي عمير عن جميل وهشام بن سالم جميعا
عن أبي عبد الله عليهالسلام «في أمة طلقت ثم أعتقت قبل أن تنقضي عدتها ، قال : تعتد بثلاث حيض ، فإن
مات زوجها ثم أعتقت قبل أن تنقضي عدتها فإن عدتها أربعة أشهر وعشرا».
وما رواه الشيخ
في التهذيب في الصحيح عن جميل عن أبي عبد الله عليهالسلام «في أمة كانت تحت رجل فطلقها ثم أعتقت ، قال : تعتد عدة الحرة».
وبين ما دل على
وجوب عدة الأمة ، وهو ما رواه في الفقيه والتهذيب
__________________
في الصحيح عن القاسم بن بريد عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا طلق الحر المملوكة فاعتدت بعض عدتها عنه ثم
أعتقت فإنها تعتد عدة المملوكة».
وسند هذا الجمع
المذكور ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي أيوب الخزاز عن مهزم وهو مجهول عن أبي
عبد الله عليهالسلام «في أمة تحت حر ـ طلقها على طهر بغير جماع تطليقة ، ثم أعتقت بعد ما طلقها
بثلاثين يوما ، فقال : إذا أعتقت قبل أن تنقضي عدتها اعتدت عدة الحرة من اليوم
الذي طلقها ، وله عليها الرجعة قبل انقضاء العدة ، فإن طلقها تطليقتين واحدة بعد
واحدة ثم أعتقت قبل عدتها فلا رجعة له عليها ، وعدتها عدة الأمة».
المسألة
الثالثة : المشهور بين الأصحاب بل قيل إنه موضع وفاق أن عدة
الذمية كالحرة في الطلاق والوفاة ، وفي الشرائع نسب الحكم بكونها عدة الأمة إلى
رواية شاذة. ونقل في المسالك عن العلامة أنه نقل عن بعض الأصحاب القول بما دلت
عليه هذه الرواية ، قال : ولم يعلم قائله.
والذي حضرني من
الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الإسلام الكافي والشيخ في التهذيب في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن نصرانية كانت تحت نصراني فطلقها ، هل
عليها عدة منه مثل عدة المسلمة؟ فقال : لا ، لأن أهل الكتاب مماليك الإمام ، ألا
ترى أنهم يؤدون الجزية كما يؤدي العبد الضريبة إلى مواليه ، قال : ومن أسلم منهم
فهو حر تطرح عنه الجزية ، قلت : فما عدتها إن أراد المسلم أن يتزوجها؟ قال : عدتها
عدة الأمة حيضتان أو خمسة وأربعون يوما قبل أن تسلم ، قال : قلت له : فإن أسلمت
بعد ما طلقها؟ قال :
__________________
إذا أسلمت بعد ما طلقها فإن عدتها عدة المسلمة ، قلت : فإن مات عنها وهي
نصرانية وهو نصراني فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها؟ قال : لا يتزوجها المسلم
حتى تعتد من النصراني أربعة أشهر وعشرا عدة المسلمة المتوفى عنها زوجها ، قلت له :
كيف جعلت عدتها إذا طلقها عدة الأمة ، وجعلت عدتها إذا مات عنها عدة الحرة المسلمة
، وأنت تذكر أنهم مماليك الامام؟ فقال : ليس عدتها في الطلاق مثل عدتها إذا توفي
عنها زوجها ـ وزاد في الكافي ـ ثم قال : إن الأمة والحرة كلتاهما إذا مات عنهما
زوجهما سواء في العدة ، إلا أن الحرة تحد والأمة لا تحد».
وعن يعقوب
السراج في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن نصرانية مات عنها زوجها وهو نصراني ، ما عدتها؟ قال
: عدة الحرة المسلمة أربعة أشهر وعشرا».
وأنت خبير بأن
الروايتين قد اشتركتا في الدلالة على عدة الوفاة ، وأنها عدة الحرة المسلمة ، وأما
عدة الطلاق فلم يتعرض في الرواية الثانية بالمرة.
والرواية
الأولى قد دلت صريحا على أنها عدة الأمة ، وهذه الرواية هي التي نسبها في الشرائع
إلى الشذوذ ، مع أنه لا معارض لها إلا. عموم الأدلة من الكتاب والسنة المتضمنة
لاعتداد المطلقة بثلاثة قروء ، أعم من أن تكون مسلمة أو ذمية ، وتخصيص هذه
العمومات بالصحيحة المذكورة غير عزيز مثله في الأحكام كما نبهنا عليه في غير موضع
مما تقدم في الكتاب وقد جروا على هذه القاعدة في أحكام عديدة ، وحينئذ لم
يبق ما يتراءى من ظاهر اتفاقهم على الحكم المذكور كما عرفت ، وهو مما لا يلتفت
إليه في مقابلة الأدلة وطرح الرواية
__________________
المذكورة وصحتها وصراحتها ، وإمكان تخصيص عموم تلك الأدلة بها غير معقول
ولا مقبول.
وبالجملة
فالمسألة لما عرفت غير خالية من شوب الاشكال ، وبذلك صرح أيضا السيد السند في شرح
النافع فقال : والمسألة محل تردد ، ولا ريب أن اعتدادها عدة المسلمة طريق الاحتياط
، وهو جيد.
قال في المسالك
: وحملت الرواية على أنها مملوكة إذ لم ينص على أنها حرة.
أقول فيه : إن
ظاهر قوله عليهالسلام في تعليل نفي عدة المسلمة عنها «لأن أهل الكتاب مماليك
الامام» هو كونها حرة كما لا يخفى على ذي الذوق السليم والفهم القويم. وإن الظاهر
أن مراده عليهالسلام أن وجوب عدة الأمة عليها وإن كانت حرة وعدة الحرة ثلاثة
قروء أن أهل الكتاب كملا لما كانوا مماليك الامام لحقها عدة المملوكة من هذه الجهة
، ولو كانت مملوكة بالمعنى الذي ذكره لم يظهر لهذا التعليل وجه بالكلية ، بل كان
الأنسب التعليل بكونها مملوكة كما ادعاه ، وبالجملة فإنه حمل بعيد بل غير سديد.
ثم إنه قال في
المسالك : واعلم أن فائدة إلحاقها بالأمة في الطلاق واضحة ، وأما في الوفاة فلا
تظهر إلا على تقدير كون عدة الأمة فيها على نصف عدة الحرة ، وسيأتي الخلاف فيه ،
انتهى.
المسألة
الرابعة : اختلف الأصحاب لاختلاف الأخبار في عدة الأمة المتوفى
عنها زوجها بأن زوجها المولى رجلا فمات عنها ، مع اتفاقهم على أنها في الطلاق على
نصف عدة الحرة.
فقيل بأنها على
النصف من عدة الحرة شهران وخمسة أيام ، وهو قول الشيخ المفيد وتلميذه سلار وأبي
الصلاح وابن أبي عقيل من المتقدمين ، وقد صرحوا بأنه لا فرق في كونها صغيرة أو
كبيرة مدخولا بها أم لا ، وظاهرهم أيضا أنها أعم
من أن تكون أم ولد أم لا.
وقيل بأنها عدة
الحرة أربعة أشهر وعشرة أيام ، وهو قول الصدوق في المقنع وابن إدريس. قال في
المقنع : عدة الأمة إذا توفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ، وروي أن عدتها
شهران وخمسة أيام. وظاهر كلامه إطلاق الحكم المذكور وأنه لا فرق بين الأفراد
المتقدم. وقال ابن إدريس : يجب عليها بوفاة زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام سواء كانت
أم ولد لمولاها أم لا. وقد رجع شيخنا في التبيان كما قاله في النهاية.
وقيل بالتفصيل
بين أم الولد وغيرها ، وهو قول الشيخ في النهاية وأتباعه ، والظاهر أنه المشهور
بين المتأخرين ومنهم المحقق والعلامة وشيخنا في المسالك وسبطه في شرح النافع. قال
في النهاية : إن كانت أم ولد لمولاها فعدتها مثل عدة الحرة أربعة أشهر وعشرة أيام
، وإن كانت مملوكة ليست أم ولد فعدتها شهران وخمسة أيام ، وهو قول ابن البراج.
والواجب أولا
نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة كما هي قاعدتنا في الكتاب ، ثم الكلام فيها بما
فتحه الله الكريم الوهاب.
فمنها ما رواه الشيخ
في التهذيب عن أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن طلاق الأمة فقال : تطليقتان. وقال : قال أبو عبد
الله عليهالسلام : عدة الأمة التي يتوفى عنها زوجها شهران وخمسة أيام ،
وعدة المطلقة شهر ونصف».
وعن سماعة في الموثق قال : «سألته عن الأمة يتوفى عنها زوجها فقال
: عدتها شهران وخمسة أيام. وقال : عدة الأمة التي لا تحيض خمسة وأربعون يوما».
وعن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة الأمة إذا توفي عنها زوجها شهران وخمسة أيام
، وعدة المطلقة التي لا تحيض شهر ونصف».
__________________
وعن محمد بن
مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الأمة إذا توفي عنها زوجها فعدتها شهران وخمسة أيام».
وعن محمد بن
القيس في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام «في حديث قال فيه : وإن مات عنها زوجها فأجلها نصف أجل الحرة شهران وخمسة
أيام».
أقول : وبهذه
الأخبار أخذ القائلون بالقول الأول وهي كما ترى مطلقة كما أطلقوه شاملة بإطلاقها
لجملة الأفراد التي تقدم ذكرها.
ومنها ما تقدم
في سابق هذه المسألة من قوله عليهالسلام
في آخر صحيحة
زرارة برواية الكناني ثم قال : إن الأمة والحرة كلتاهما إذا مات عنهما زوجهما
سواء في العدة ، إلا أن الحرة تحد والأمة لا تحد».
ومنها قوله عليهالسلام في صحيحة زرارة وقد تقدمت ، وفيها «يا زرارة كل النكاح إذا مات الزوج
فعلى المرأة حرة كانت أو أمة أو على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك
يمين فالعدة أربعة أشهر وعشرا».
وما رواه في
الكافي عن وهب بن عبد ربه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل كانت له أم ولد ، فزوجها من رجل
فأولدها غلاما ، ثم إن الرجل مات فرجعت إلى سيدها ، إله أن يطأها؟ قال : تعتد من
الزوج الميت أربعة أشهر وعشرة أيام ثم يطؤها بالملك من غير نكاح» الحديث.
وما رواه في
الفقيه في الصحيح عن الحسن بن محبوب عن وهب بن عبد ربه
__________________
عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال سألته عن رجل كانت له أم ولد فمات ولدها منه ، فزوجها من رجل فأولدها
غلاما ، ثم إن الرجل مات فرجعت إلى سيدها ، إله أن يطأها قبل أن يتزوج بها؟ قال :
لا يطأها حتى تعتد من الزوج الميت أربعة أشهر وعشرة أيام ثم يطؤها بالملك من غير
نكاح» الحديث.
وما رواه في
التهذيب عن سليمان بن خالد في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة المملوكة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر
وعشرا».
أقول : وبهذه
الأخبار وما هي عليه من الإطلاق أخذ القائلون بالقول الثاني وهي كما ترى ظاهرة فيه
سيما صحيحتي زرارة الأولتين.
ومنها ما رواه في
الكافي في الصحيح عن سليمان بن خالد قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الأمة إذا طلقت ، ما عدتها؟ فقال : حيضتان أو شهران
حتى تحيض ، قلت : فإن توفي عنها زوجها؟ فقال : إن عليا عليهالسلام قال في أمهات الأولاد : لا يتزوجن حتى يعتددن أربعة
أشهر وعشرا وهن إماء».
أقول : وعلى
هذه الرواية اعتمد القائلون بالقول الثالث ، فحملوا الأخبار الأولة على غير ذات
الولد ، والأخبار الثانية على ذات الولد ، وجعلوا هذه الصحيحة سندا للجمع المذكور.
وزاد في
المسالك وكذا سبطه في شرح النافع على هذه الصحيحة رواية وهب بن عبد ربه المنقولة
من الكافي بعد وصفها بأنها صحيحة.
وفيه (أولا) أن
الرواية المذكورة رواها في الكافي عن ابن محبوب عن وهب ابن عبد ربه كما نقله في
الوافي وفي الوسائل عن أحمد عن ابن محبوب ، وعلى أي منهما فإن طريق الكليني إلى كل
منهما غير معلوم الصحة.
__________________
(وثانيا) أنها
معارضة برواية صاحب الفقيه وهي صحيحة ، وقد تضمنت أن التزويج إنما وقع بعد موت
الولد ، مع أنه عليهالسلام حكم بأن العدة أربعة أشهر وعشرا. ومن هذه الصحيحة يعلم
بطلان ما ذكروه من الحمل ، فإنهم إنما حملوا روايات الأربعة أشهر وعشرا على أم
الولد من حيث إطلاقها ، وهذه الرواية كما ترى صريحة في أن الأمة ليست ذات ولد لأن
التزويج إنما وقع بعد موت الولد مع أنه عليهالسلام حكم بعدة الحرة فيها.
وعلى هذا فيمكن
أن يقال : إن ما نقل عن علي عليهالسلام في صحيحة سليمان ابن خالد من أن حكم أمهات الأولاد ذلك
لا يستلزم نفيه عن غيرهن ، وغاية ما في الباب أنه سئل عن الأمة التي توفي عنها
زوجها فأجاب بأن حكم أمهات الأولاد منهن الاعتداد بما ذكروه ، ودلالته على نفي ذلك
عما عداهن إنما هو بمفهوم اللقب ، وهو غير معمول عليه عندهم ، وبهذا يجاب أيضا عن
رواية وهب ابن عبد ربه التي استدلوا بها زيادة على ما عرفت ، فيكون هذا وجها ثالثا
للوجهين المتقدمين.
وبالجملة فإن
القول المذكور لا يخلو في نظري القاصر من القصور ، ولعل الأظهر إنما هو حمل أخبار
أحد الطرفين على التقية ، وقد نقل في الوسائل احتمال حمل أخبار الشهرين وخمسة أيام
على التقية ، قال : لأنه مذهب جمع من العامة ، فليتأمل ذلك حق التأمل ، فإن
المسألة محل إشكال. والحق تصادم الأخبار المذكورة ، وعدم قبولها لهذا الجمع الذي
ذكروه ، فإنه ناش عن عدم إعطاء التأمل حقه في المقام.
هذا كله إذا لم
تكن حاملا ، وإلا اعتدت بأبعد الأجلين من وضع الحمل والعدة المعتبرة ، قال في
المسالك : وهو موضع وفاق.
__________________
تنبيه
مما يتفرع على
الخلاف المذكور أنهم قالوا ـ بناء على القول بالتفصيل من أن أم الولد تعتد مع موت
الزوج عدة الحرة ، وغيرها عدة الأمة ـ : لو مات الزوج عن أم الولد في أثناء عدتها
الرجعية استأنفت عدة الحرة في الوفاة لأنها بمنزلة زوجة الحرة لو مات عنها زوجها
في العدة الرجعية ، ولو لم تكن ذات ولد وقد مات وهي في عدته الرجعية استأنفت عدة
الوفاة المقررة على الأمة كما لو مات وهي في عصمته ، هذا إذا كانت العدة رجعية ،
ولو كان الطلاق بائنا أتمت عدة الطلاق خاصة كالحرة إذا مات زوجها وهي في العدة
البائنة ، فإنه لا يجب عليها الاستئناف كالأولى لانقطاع العصمة بينهما ، وهو ظاهر.
المسألة
الخامسة : إذا مات المولى وأمته مزوجة فلا عدة عليها من موته
إجماعا كما نقله في المسالك ، وأما إذا لم تكن مزوجة فهل تعتد من موت مولاها عدة
الحرة أربعة أشهر وعشرا؟ أم لا عدة عليها ، بل يكفي استبراؤها لمن انتقلت إليه إذا
أراد وطؤها؟ قولان ، المشهور : الأول.
قال في المسالك
: وهو قول جماعة منهم الشيخ وأبو الصلاح وابن حمزة والعلامة في موضع من التحرير
والشهيد في اللمعة.
أقول : ظاهره
في المسالك أنه لا فرق هنا بين أم الولد وغيرها ، مع أنه قال في المختلف : قال أبو
الصلاح : عدة أم الولد لو مات سيدها أربعة أشهر وعشرة أيام. وهو ظاهر كلام ابن
حمزة ، وهو كما ترى ظاهر في تخصيص الحكم بأم الولد لا مطلقا ، وهو ظاهر كلامه.
وأما الشهيد في اللمعة فإنه قال : وتعتد أم الولد من وفاة زوجها أو سيدها عدة
الحرة. وهو أيضا كما ترى ظاهر في التخصيص بأم الولد ، والمراد أنها تعتد من وفاة
الزوج إن كانت مزوجة ومن السيد إذا مات إن لم تكن مزوجة.
وذهب ابن إدريس
إلى القول الثاني ، قال : لا عدة عليها من موت مولاها ،
لأنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع ، والأصل براءة
الذمة ، وهذه ليست زوجة بل باقية على الملك والعبودية إلى حين وفاته. قال في
المختلف : ولا بأس بقول ابن إدريس.
ثم إن العلامة
احتج بما رواه إسحاق بن عمار في الموثق قال : «سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الأمة يموت سيدها ، قال : تعتد عدة المتوفى عنها
زوجها». ثم قال : والجواب الحمل على ما إذا أعتقها للروايات.
والظاهر أن
استدلال العلامة بهذه الموثقة إنما هو بالنظر إلى إطلاقها ، وإلا فإنه لا تصريح
فيها بأم الولد.
ثم إنه في
المسالك بعد ذكر هذه المسألة كما ذكرناه قال : ولو كانت الأمة موطوءة للمولى ثم
مات عنها فظاهر الأكثر هنا أنه لا عدة عليها ، بل تستبرئ بحيضة كغيرها من الإماء
المتقدمة من مالك إلى آخر. وذهب الشيخ في كتابي الأخبار إلى أنها تعتد من موت
المولى كالحرة سواء كانت أم ولد أم لا. واستدل عليه برواية زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «في الأمة إذا غشيها سيدها ثم أعتقها فإن عدتها ثلاث حيض ، فإن مات عنها
زوجها فأربعة أشهر وعشرة أيام». وبموثقة إسحاق بن عمار السالفة وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : يكون الرجل تحته السرية فيعتقها ، فقال
: لا يصلح لها أن تنكح حتى تنقضي ثلاثة أشهر ، وإن توفي عنها مولاها فعدتها أربعة
أشهر وعشرا». ثم قال : والعجب مع كثرة هذه الأخبار وجودة أسنادها أنه لم يوافق
الشيخ
__________________
على مضمونها أحد ، وخصوا أم الولد بالحكم مع أنه لا دليل عليها بخصوصها. وأعجب
منه تخصيصه في المختلف الاستدلال على حكم أم الولد بموثقة إسحاق ، مع أنها تدل على
أن حكم الأمة الموطوءة مطلقا كذلك ، ومع ذلك فغيرها من الأخبار التي ذكرناها
يوافقها في الدلالة ، مع أن فيها ما هو أجود سندا ، انتهى.
وأما سبطه في
شرح النافع فإنه قال ـ بعد تحقيق الكلام في مسألة الأمة المتوفى عنها زوجها حسبما
أوضحناه في سابق هذه المسألة ـ ما ملخصه : ولم يذكر المصنف حكم الأمة الموطوءة إذا
مات مولاها ، وقد اختلف الأصحاب في حكمها ، فقال ابن إدريس : لا عدة عليها من موت
مولاها ـ إلى أن قال : ـ ونفى عنه البأس في المختلف ـ ثم قال : ـ وقال الشيخ في
كتابي الأخبار أنها تعتد من موت المولى كالحرة سواء كانت أم ولد أم لا. واستدل بما
رواه في الحسن عن الحلبي ثم أورد الروايات الثلاث التي تقدمت في كلام جده ثم قال
بعدها : وهذه الروايات معتبرة الاسناد وليس لها معارض صريحا فيتجه العمل بها ،
انتهى.
وأنت خبير بما
وقع لهم من الاضطراب في هذا المقام وإن تبعهم من تأخر عنهم من الأعلام.
أما كلامه في
المسالك فإنه فرض فيه مسألتين : (أولهما) في الأمة التي مات سيدها وليست مزوجة ،
ونقل عن الأكثر وجوب عدة الحرة عليها ، وعن ابن إدريس والعلامة في المختلف عدم
العدة ، وظاهره أن المراد بالأمة فيها ما هي أعم من ذات الولد وغيرها والموطوءة
وغيرها مع ما عرفت مما ذكرناه أن من وقفنا على كلامه قد خصها بذات الولد.
(والمسألة
الثانية) وهي موطوءة المالك إذا مات عنها ، وهي أخص من المسألة الاولى ، ونقل عنها
عن الأكثر عدم وجوب العدة ، وعن الشيخ في كتابي الأخبار الوجوب ، وظاهر سبطه في
شرح النافع أن خلاف ابن إدريس والعلامة في المختلف إنما هو في هذه المسألة ،
وظاهره أن الأكثر ومنهم الشيخ في كتابي الأخبار
على وجوب العدة ، حيث خص الخلاف بابن إدريس ـ رحمهالله ـ والعلامة ـ قدسسره ـ خاصة.
هذا مع ما عرفت
مما أسلفناه من عبارة المختلف أن محل المسألة إنما هي أم الولد ، والخلاف الذي نقل
عن ابن إدريس على عقب نقله عن أبي الصلاح إنما هو في أم الولد ، فانظر إلى هذا
الاضطراب في كلامهم ، وعدم تعين محل النزاع ، بل كل منهم يفرضه في مادة.
وأما الروايات
التي نقل في المسالك استدلال الشيخ ـ رحمهالله ـ بها على وجوب العدة على الموطوءة ، ووافقه عليها وشنع
على من خالفة في ذلك ونحوه سبطه أيضا.
ففيه أن محل
البحث هي الأمة الموطوءة التي مات عنها سيدها وظاهرها أنه مات سيدها وهي أمة ،
وهذه الروايات ما عدا موثقة إسحاق بن عمار قد تضمنت أنه قد أعتقها سيدها ، فالموت
إنما وقع بعد عتقها ، ولا ريب أنها بالعتق قد خرجت عن موضوع المسألة التي هي محل
البحث ، وكيف يستدلون بها على هذا القول ويشنعون على من خالفهم فيه؟ ومسألة وجوب
العدة على من أعتقها في حياته أو بعد موته مسألة أخرى سيأتي ذكرها إن شاء الله
تعالى على أثر هذه المسألة.
وكيف كان فمع
قطع النظر عما فرضوه من كون محل الخلاف مجرد الأمة التي مات عنها سيدها وهي غير
مزوجة أو أنه الأمة الموطوءة إذا مات عنها والرجوع إلى الأخبار ، فإني لم أقف في
هذا المقام إلا على موثقة إسحاق بن عمار المذكورة ، وموردها هو «الأمة يموت سيدها ، قال : تعتد
عدة المتوفى عنها زوجها». وإطلاق الأمة فيها شامل للموطوءة ، وغير الموطوءة ، أم
ولد كانت أو غيرها ، وقد عرفت مما قدمنا نقله عن العلامة ـ قدسسره ـ في المختلف أنه قيد هذه الروايات بما إذا أعتقت قبل
الموت حملا على الروايات الدالة على ذلك.
__________________
وفيه أن الحمل
على خلاف الظاهر فرع وجود المعارض ، وهو هنا غير موجود ، وظاهر إطلاق الموثقة
المذكورة أنه بمجرد الملك وإن لم تطأ يجب عليها عدة الوفاة عن سيدها مثل الزوجة
الغير المدخول بها. ولم أقف على مصرح به منهم إلا أنه المفهوم من عموم المسألة
الأولى التي فرضها في المسالك ، لأنه فرضها فيمن مات عنها سيدها وهي غير مزوجة.
وأنت خبير بأن
أصحاب المتون لم يتعرضوا لهذه المسألة كالمحقق في الشرائع ومختصره والعلامة في
القواعد والإرشاد وغيرهما في غيرهما ، وإنما أشار إليها أصحاب المطولات مع ما عرفت
من الاضطراب فيه.
المسألة
السادسة : المشهور بين الأصحاب أن الأمة إذا أعتقها سيدها في
حياته وكان يطؤها فإنه لا يجوز لها التزويج بغيره إلا بعد العدة بثلاثة أقراء ،
وإذا توفي عنها اعتدت عدة الوفاة كالحرة ، وكذا لو دبرها فإنها تعتد بعد موته عدة
الوفاة.
ذكر ذلك الشيخ
في النهاية وغيره ، وخالف في ذلك ابن إدريس فقال : قد ورد حديث بما ذكره الشيخ فإن
كان مجمعا عليه فالإجماع هو الحجة ، وإن لم يكن مجمعا عليه فلا دلالة على ذلك ،
والأصل براءة ذمتها من العدة لأن إحداهما غير متوفى عنها زوجها ـ أعني من جعل
عتقها بعد موتها فلا يلزمها عدة الوفاة ـ والأخرى غير مطلقة ـ أعني من أعتقها في
حياته فلا يلزمها عدة المطلقة ـ ولزوم العدة حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل
شرعي ، ولا دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع منعقد ، والأصل
براءة الذمة. انتهى وهو جيد على أصله الغير الأصيل ، وقاعدته التي خالف فيها
العلماء جيلا بعد جيل.
ومن الأخبار
الدالة على ما هو المشهور وهو المؤيد المنصور ما تقدم في سابق هذه المسألة من
رواية زرارة وحسنة الحلبي وموردهما «من غشيها سيدها ثم أعتقها
__________________
فإنها تعتد عدة المطلقة ، وإن مات قبل العدة اعتدت عدة الوفاة».
وما رواه في الكافي
في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال في رجل كانت له أمة فوطأها ثم أعتقها ، وقد حاضت عنده حيضة بعد ما
وطأها ، قال : تعتد بحيضتين». قال ابن أبي عمير في حديث آخر : تعتد بثلاث حيض.
قال السيد
السند في شرح النافع : ومقتضى هذه الرواية احتساب الحيضة الواقعة بعد الوطء وقبل
العتق من العدة ، ولا أعلم بمضمونها قائلا.
وفي الصحيح أو
الحسن عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل يعتق سريته ، أيصلح له أن يتزوجها بغير عدة؟ قال
: نعم ، قلت : فغيره؟ قال : لا ، حتى تعتد ثلاثة أشهر» الحديث. .
ورواه الشيخ في
التهذيب في الصحيح عن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله إلى قوله : ثلاثة أشهر.
ومن هذا الخبر
وسابقه يستفاد أنها لو لم تكن من ذوات الأقراء فإنها تعتد بالأشهر كما سيأتي
التصريح به في صحيحة داود الرقي.
__________________
وما رواه في
التهذيب في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن أعتق رجل جاريته ثم أراد أن يتزوجها مكانه
فلا بأس ، ولا تعتد من مائه ، وإن أرادت أن تتزوج من غيره فلها مثل عدة الحرة».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن داود الرقي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «في المدبرة إذا مات عنها مولاها أن عدتها أربعة أشهر وعشرا من يوم يموت
سيدها إذا كان سيدها يطؤها ، قيل له : فالرجل يعتق مملوكته قبل موته بساعة أو بيوم
، قال : فقال : هذه تعتد بثلاثة أشهر أو ثلاثة قروء من يوم أعتقها سيدها».
وأما ما رواه في
الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل أعتق وليدته عند الموت ، فقال :
عدتها عدة الحرة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا. قال : وسألته عن رجل أعتق
وليدته وهو حي وقد كان يطؤها ، فقال : عدتها عدة الحرة المطلقة ثلاثة قروء».
فظاهر صدرها
الدلالة على أن المعتقة تعتد عدة المتوفى عنها زوجها إذا كان قبل الموت ، مع
استفاضة هذه الأخبار بأن عدتها عدة المطلقة سواء كان صحيحا (حيا خ ل) أو في مرض
الموت ، ولهذا أن الشيخ حمل صدرها على المدبرة الموصي بعتقها ، كما تدل عليه رواية
داود الرقي لا أنه أعتقها بالفعل.
وما رواه في
الكافي عن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل تكون عنده السرية له وقد ولدت منه ومات ولدها
ثم يعتقها ، قال : لا يحل لها أن تتزوج حتى تنقضي عدتها ثلاثة أشهر».
__________________
هذه جملة ما
وقفت عليه من أخبار المسألة ، وكلها متفقة الدلالة واضحة المقالة على وجوب عدة
الحرة من الطلاق على الأمة إذا أعتقها سيدها ، وقد جعلوا عليهمالسلام العتق في هذه الحال مثل طلاق الحرة في وجوب العدة
المذكورة.
وأما المدبرة
فيدل عليها صحيح داود البرقي صريحا وصدر رواية أبي بصير حملا.
إلحاق
المشهور من غير
خلاف يعرف أنه لو مات زوج الأمة ثم أعتقت أتمت عدة الحرة تغليبا لجانب الحرية ،
ذكره الشيخ ومن تأخر عنه.
قال في المسالك
: وتوجيهه أنها بعد العتق مأمورة بإكمال عدة الوفاة ، وقد صارت حرة فلا تكون
مخاطبة بحكم الأمة فيجب عليها إكمال عدة الحرة نظرا إلى حالها حين الخطاب ، ولا
تنظر إلى ابتداء الخطاب بالعدة فإنها كل يوم مخاطبة بحكمها ، وهو معنى قوله «تغليبا
لجانب الحرية» ، انتهى.
أقول : قد عرفت
في غير موضع مما قدمنا أن مثل هذه التعليلات العقلية لا تصلح لتأسيس الأحكام
الشرعية ، والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه
الصدوق في الصحيح عن جميل وهشام بن سالم عن أبي عبد الله عليهالسلام «في أمة طلقت ثم أعتقت قبل أن تنقضي عدتها ، قال : تعتد بثلاث حيض ، فإن
مات عنها زوجها ثم أعتقت قبل أن تنقضي فإن عدتها أربعة أشهر وعشرا».
وحينئذ فما
ذكره من التوجيه يصلح لأن يكون وجها للنص المذكور وبيان الحكمة فيه ، ويعضده ما دل
عليه صدر الخبر وتقدم أيضا في غيره في المسألة الثانية من أنه لو أعتقت وهي في عدة
الطلاق لحقها حكم الحرة والاعتداد بعدتها ، وبذلك يظهر صحة الحكم المذكور وأنه لا
إشكال فيه.
__________________
المسألة
السابعة : في جملة من
المواضع التي ذكر الأصحاب فيها سقوط الاستبراء زيادة على ما قدمناه في كتاب البيع
وكتاب النكاح.
(منها) لو كاتب
جارية فإنه يحرم عليه وطؤها ، لأن الكتابة تقتضي نقلها عن ملكه وإن كان متزلزلا ،
سواء قيل بأن الكتابة بيع للمملوك من نفسه أم عتق بشرط ، وحينئذ فلو فسخت الكتابة
لعجزها لم يلزمها الاستبراء لما تقرر من أن الغرض من الاستبراء الفرق بين الماءين
المحترمين محافظة على الأنساب ، والماءان هنا من واحد. وقد تقدم في كتاب النكاح له
نظائر وردت بها النصوص ، ولأنه لا يحل لها التزويج بغيره زمن الكتابة كما سيأتي إن
شاء الله في محله.
(ومنها) ما لو
حرمت على السيد بارتداده أو ارتدادها ثم أسلمت أو أسلم هو فإنه لا يجب الاستبراء
لما عرفت من عدم تعدد الماء ، وهو الموجب للاستبراء ، ولا بد من تقييد ارتداده
بكونه عن ملة ليمكن عود ملكها إليه بعوده إلى الإسلام والمرتد الفطري يجب قتله
عندنا ، وتبين منه زوجته ، وتقسم أمواله وإن قلنا بقبول توبته فيما بينه وبين الله
سبحانه إلا أنها لا يوجب سقوط هذه الحقوق المذكورة فلا يمكن عودها إليه ، وهو
ظاهر.
(ومنها) ما لو
زوج المولى أمته ثم طلقها الزوج بعد الدخول فإنها لا تحل للمولى إلا بعد الاعتداد
من الزوج كما صرحت به الأخبار عموما وخصوصا ، إلا أنه تكفي العدة هنا عن الاستبراء
فيدخل الأقل تحت الأكثر. أما لو طلقها الزوج قبل الدخول فإنه لا عدة ولا استبراء
لعدم حصول الموجب سواء كان المولى أو غيره.
(ومنها) ما لو
اشترى مشركة أو مرتدة فمرت بها حيضة في تلك الحال التي هي عليها ثم أسلمت فإنه لا
يجب استبراء ثان ، واعتد بما وقع حال الكفر لحصول الغرض المقصود منه ، وكذا لو
استبرأها وهي محرمة عليه بسبب الإحرام فأحل ، والوجه في ذلك أنه لا يشترط في صحة
الاستبراء كون الأمة محللة للمولى لو لا الاستبراء ، بل يكتفي به وإن كانت محرمة
عليه بسبب آخر لحصول الغرض منه
وهو عدم اختلاف الماءين ، وحينئذ فإذا زال ذلك السبب المحرم الموجود حال
الاستبراء حلت للمولى بالاستبراء السابق.
المقام
التاسع :
في اللواحق ،
وفيه مسائل :
الأولى : قد صرح الأصحاب بأنه لا يجوز لمن طلق رجعيا أن يخرج الزوجة من بيته إلا
أن تأتي بفاحشة ، وهي أن تفعل ما يجب به الحد فيخرج لإقامته ، وأدنى ما تخرج له أن
تؤذي أهله ، ويحرم عليها الخروج ما لم تضطر ، ولو اضطرت إلى الخروج خرجت بعد
انتصاف الليل وعادت قبل الفجر.
أقول : تحقيق
الحال في تفصيل هذا الإجمال أن يقال : الظاهر أنه لا خلاف نصا وفتوى في وجوب
السكنى للمطلقة الرجعية كما تجب لها النفقة ، والأصل في ذلك قوله عزوجل «لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ»
، والأخبار المتكاثرة ومنها :
ما رواه في
الكافي في الصحيح عن سعد بن أبي خلف قال : «سألت أبا الحسن
موسى بن جعفر عليهالسلام عن شيء من الطلاق فقال : إذا طلق الرجل امرأته طلاقا
لا يملك فيه الرجعة فقد بانت منه ساعة طلقها وملكت نفسها ولا سبيل له عليها وتعتد
حيث شاءت ولا نفقة لها ، قال : فقلت : أليس الله عزوجل يقول (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ)؟ قال : فقال : إنما عنى بذلك التي تطلق تطليقة بعد
تطليقة ، فتلك التي لا تخرج ، ولا تخرج حتى تطلق الثالثة ، فإذا طلقت الثالثة فقد
بانت منه ولا نفقة لها ، والمرأة التي يطلقها الرجل تطليقة ثم يدعها حتى يخلو
أجلها فهذه أيضا تعتد في منزل زوجها ولها النفقة والسكنى حتى تنقضي عدتها».
__________________
وعن إسحاق بن
عمار عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «سألته عن المطلقة أين تعتد؟ قال : في بيت زوجها.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن أبي بصير عن أحدهما عليهماالسلام «في المطلقة أين تعتد؟ فقال : في بيتها إذا كان طلاقا له عليها رجعة ليس له
أن يخرجها ، ولا لها أن تخرج حتى تنقضي عدتها».
وما رواه في
الكافي عن سماعة في الموثق قال : «سألته عن المطلقة أين تعتد؟ قال
: في بيتها لا تخرج ، وإن أرادت زيارة خرجت بعد نصف الليل ولا تخرج نهارا ، وليس
لها أن تحج حتى تنقضي عدتها» الحديث.
وعن محمد بن
قيس في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام «قال المطلقة تعتد في بيتها ولا ينبغي لها أن تخرج حتى تنقضي عدتها ،
وعدتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إلا أن تكون تحيض».
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا ينبغي للمطلقة أن تخرج إلا بإذن زوجها حتى
تنقضي عدتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تحض».
وعن أبي الصباح
الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «تعتد المطلقة في بيتها ولا ينبغي لزوجها إخراجها
ولا تخرج هي».
أقول : إضافة
البيت في هذه الأخبار إليها وقع تبعا للآية ، والمراد به بيت الزوج أضيف إليها
للملابسة بالسكنى قبل الطلاق. وقد اتفق الأصحاب أيضا على أنه يحرم عليه إخراجها
إلا أن تأتي بفاحشة كما صرحت به الآية ، وأنه كما
__________________
يحرم عليه إخراجها يحرم عليها هي الخروج أيضا ، لكن اختلفوا في أن تحريم
الخروج عليها هل هو مطلقا وإن اتفقا عليه بأن أرادت الخروج ورضي الزوج بذلك؟ أو
يختص بعدم رضا الزوج ، فلو أجاز وأذن لها جاز؟ ظاهر المشهور الأول لإطلاق الآية
والأخبار ، ودلالتهما على تحريم الفردين المذكورين.
قال في المسالك
تفريعا على ذلك : فلو اتفقا على الخروج منعهما الحاكم الشرعي لأن فيه حقا لله
تعالى كما أن في العدة حقا له تعالى ، بخلاف السكنى المستحقة بالنكاح ، فإن حقها
مختص بالزوجين.
وقيل بتقييد
التحريم بعدم الاتفاق ، فلو أذن لها في الخروج فخرجت جاز ، نقله في المسالك عن
جماعة من الأصحاب منهم أبو الصلاح والعلامة في التحرير. ويدل عليه ما تقدم في
صحيحة الحلبي أو حسنته ، فإنها ظاهرة في جواز الخروج مع إذنه. وعلى هذا فيخص بها
إطلاق الآية والأخبار المذكورة ، قال في المسالك : والأجود التحريم مطلقا عملا
بظاهر الآية.
وفيه أن
الرواية المذكورة معتبرة الإسناد عندهم إذ حسنها على تقدير عدها من الحسن إنما هو
بإبراهيم بن هاشم الذي لا راد لروايته ، منهم كما صرح به غير واحد ، فالواجب تخصيص
إطلاق الآية بها ، وهم قد جروا على هذه القاعدة في غير موضع ، ولهذا مال سبطه في
شرح النافع إلى ما ذكرناه فقال : والعمل بهذه الرواية متجه وإن كان المنع مطلقا
أحوط ، وهو جيد.
وأما الفاحشة
المذكورة في الآية الموجبة لإخراجها فقد اختلف فيها (فقيل) هي الزنا ، والمعنى إلا
أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن. (وقيل) مطلق الذنب وأدناه أن تؤذي أهله. (وقيل)
المعنى أن خروج المرأة قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه أي لا يطلق في الخروج الذي
هو فاحشة ، وقد علمنا أنه لا يطلق لهن في الفاحشة فيكون ذلك منعا لهن عن الخروج عن
أبلغ وجه.
والذي وقفت
عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي عن محمد بن علي بن جعفر قال : «سأل المأمون الرضا عليهالسلام عن قول الله عزوجل «لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ»
قال : يعني
بالفاحشة المبينة أن تؤذي أهل زوجها ، فإذا فعلت ذلك فإن شاء أن يخرجها من قبل أن
تنقضي عدتها فعل».
وعن علي بن
إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن الرضا عليهالسلام «في قوله عزوجل «لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ»
قال : أذاها لأهل
الرجل وسوء خلقها».
وما رواه في
الفقيه مرسلا قال : «سئل الصادق عليهالسلام عن قول الله عزوجل «وَاتَّقُوا اللهَ
رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ»
قال : إلا أن
تزني فتخرج ويقام عليها الحد».
وفي كتاب مجمع
البيان للطبرسي قيل : هو البذاء على أهلها فيحل لهم إخراجها ، وهو
المروي عن أبي جعفر عليهالسلام وأبي عبد الله عليهالسلام.
وروى علي بن
أسباط عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : «الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها وتسبهم».
وما رواه في
كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة بسنده فيه عن سعد بن عبد الله القمي قال : «قلت لصاحب
الزمان صلوات الله وسلامه عليه : أخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا أتت المرأة
بها في أيام عدتها حل للزوج أن يخرجها من بيته ، فقال عليهالسلام : الفاحشة المبينة هي السحق دون الزنا ، فإن المرأة إذا
زنت وأقيم عليها
__________________
الحد ليس لمن أرادها أن يمتنع بعد ذلك من التزويج بها لأجل الحد ، وإذا
سحقت وجب عليها الرجم ، والرجم أخزى ، ومن قد أمر الله برجمه فقد أبعده ، ومن
أبعده فليس لأحد أن يقربه».
وأكثر هذه
الأخبار على تفسير الفاحشة بالأذى لأهل زوجها ، ومرسلة الفقيه فسرتها بالزنا ،
ورواية إكمال الدين بالسحق ، وبذلك يظهر أن ما ذكره الأصحاب من التفسير بمطلق
الذنب وأن أدناه أن تؤذي أهله لا أعرف له وجها لأن الروايات صريحة في التخصيص بأذى
أهله ، وليس في شيء منها إشارة إلى مطلق الذنب ، وكذلك ما ذكره بعضهم من التفسير
بمطلق ما يوجب الحد وجعل من جملته الزنا فإنه لا وجه له لاختصاص المرسلة التي هي
مستند ذلك بالزنا ، فالتعدية إلى مطلق ما يوجب الحد على هذا القول وكذا التعدية
إلى مطلق الذنب على القول الآخر لا معنى له.
بقي الإشكال في
رواية سعد بن عبد الله المروية عن صاحب الزمان صلوات الله وسلامه عليه ، فإنها قد
تضمنت تفسيرها بالسحق دون الزنا ، وحملها في الوسائل على أن السحق أعظم أفراد
الفاحشة المبينة جمعا بينه وبين ما مضى ويأتي.
أقول : كيف يتم
هذا الحمل مع نفيه الزنا بمعنى أن الفاحشة في الآية لم يرد بها الزنا لقوله «السحق
دون الزنا» والقدر المحكوم به في هذه الروايات هو التفسير بأذى أهله ، وفيما عداه
من الزنا والسحق إشكال لتصادم الروايتين المذكورتين.
والظاهر أنه لو
لم ينفق عليها جاز لها الخروج لاكتساب المعيشة ، ويدل عليه ما رواه في الفقيه قال : «كتب الصفار إلى أبي محمد الحسن بن علي عليهماالسلام في امرأة طلقها زوجها ولم يجر عليها النفقة للعدة وهي
محتاجة ، هل يجوز لها أن تخرج وتبيت عن منزلها للعمل والحاجة؟ فوقع عليهالسلام : لا بأس بذلك إذا علم الله
__________________
الصحة منها».
قال في المسالك
: وتحريم إخراجها وخروجها مشروط بحالة الاختيار ، فلو اضطرت إلى الخروج جاز ، ووجب
كونه بعد انتصاف الليل وتعود قبل الفجر على ما ذكره المصنف وجماعة ، وهو في موقوفة
سماعة ـ ثم ساق الرواية المذكورة كما قدمنا ذكره ثم قال : ـ وإنما يعتبر ذلك حيث
تتأدى الضرورة به ، وإلا جاز الخروج مقدار ما تتأدى الضرورة به من غير تقييد
بالليل ، انتهى وهو جيد.
ويدل على الحكم
الآخر ما ذكرناه من صحيحة الصفار ، والظاهر أنه لم يقف عليها ، وإلا لنقلها دليلا
لما ذكره.
قالوا : ولا
يلزم ذلك في البائن والمتوفى عنها زوجها بل تبيت كل منهما حيث شاءت.
أقول : ويدل
على البائن صحيحة سعد بن أبي خلف المتقدمة ، وأما المتوفى عنها زوجها فاستدل السيد السند
في شرح النافع عليها بروايتي معاوية ابن عمار وسليمان بن خالد الدالتين على إخراج أمير المؤمنين عليهالسلام أم كلثوم من منزل عمر لما مات ، وقد تقدمتا في عدة
الوفاة ، قال : وقد ورد في بعض الروايات أن المتوفى عنها زوجها لا تبيت في غير
بيتها ويجب حملها على الكراهة جمعا بين الأدلة.
وفيه أنا قد
بينا في عدة الوفاة أنه لا منافة بين الوجوب البينونة في المنزل وجواز الخروج من
منزل إلى منزل بمعنى أنه لا يجب على مرأة الاعتداد في منزل الزوج خاصة كالمطلقة بل
لها أن تخرج إلى منزل أهلها فتعتد فيه أو منزل آخر ولو تعددت المنازل ، لكن متى
جلست واستقرت في ذلك المنزل لزمها حكم الاعتداد ، ومن جملته عدم الخروج إلا
للضرورة أو قضاء الحقوق كما دلت عليه الروايات
__________________
المتقدمة ثمة ، فلا منافاة ولا ضرورة إلى حمل تلك الأخبار على الكراهة ،
فإن ظاهر جملة منها مزيد التأكيد في ذلك الدال على التحريم كأخبار إنكار الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على النساء ، وأنهن كن في الجاهلية يلتزمن ذلك.
وبالجملة فإن
الظاهر من الأخبار أن هذا من أحكام الحداد الذي لا خلاف في وجوبه عليها ، وحينئذ
فيحرم عليها المبيت في غير بيتها كما يحرم عليها الزينة ، والله العالم.
المسألة
الثانية : لا خلاف في أن المطلقة الرجعية زمن العدة تستحق النفقة
والكسوة والمسكن لأنها زوجته مسلمة كانت أو ذمية.
قالوا : أما
الأمة فإن أرسلها مولاها ليلا ونهارا فلها النفقة والسكنى لوجود التمكين التام ،
ولو منعها ليلا أو نهارا فلا نفقة لعدم التمكين وأنه لا نفقة للبائن ولا سكنى إلا
أن تكون حاملا ، فلها ذلك حتى تضع.
أقول : ومن
الأخبار المتعلقة بهذه المسألة صحيحة سعد بن أبي خلف المتقدمة في سابق هذه
المسألة.
وما رواه في
الكافي والفقيه عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إن المطلقة ثلاثا ليس لها نفقة ولا سكنى على
زوجها إنما ذلك للتي لزوجها عليها رجعة».
أقول : قوله «ولا
سكنى» ليس في الكافي بل في الفقيه خاصة.
وما رواه في
الكافي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المطلقة ثلاثا على السنة هل لها سكنى
ونفقة؟ قال : لا».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن المطلقة ثلاثا إلها سكنى
__________________
أو نفقة؟ قال : حبلى هي؟ قلت : لا ، قال : لا».
وعن سماعة في الموثق قال : «قلت : المطلقة لها سكنى ونفقة؟ فقال :
حبلى هي؟ قلت : لا ، قال : ليس لها سكنى ولا نفقة».
وما رواه في
التهذيب عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سئل عن المطلقة ثلاثا إلها النفقة والسكنى؟ قال : أحبلى هي؟ قلت : لا
، قال : لا».
وعن ابن سنان قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المطلقة ثلاثا على العدة إلها سكنى أو نفقة؟ قال :
نعم». وهذا الخبر حمله الشيخ على الاستحباب قال : ويحتمل أن يكون المراد به إذا
كانت المرأة حاملا.
وما رواه في
الكافي عن محمد بن قيس في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «الحامل أجلها أن تضع حملها ، وعليه نفقتها
بالمعروف حتى تضع حملها».
ورواية عبد
الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يطلق امرأته وهي حبلى ، قال : أجلها أن تضع حملها وعليه نفقتها
حتى تضع».
ورواية أبي
الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة وهي حبلى أنفق عليها حتى
تضع حملها» الحديث.
وصحيحة الحلبي
أو حسنته عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الحبلى المطلقة ينفق عليها زوجها حتى تضع حملها»
الحديث.
والرواية
الاولى من هذه الروايات ونحوها صحيحة سعد بن أبي خلف قد
__________________
تضمنت حكم المطلقة الرجعية الحامل ، وأن لها السكنى والنفقة ما دامت في
العدة. والروايات الأخيرة وهي صحيحة محمد بن قيس وما بعدها قد تضمنت حكم المطلقة
الرجعية الحامل وأن لها النفقة والسكنى حتى تضع حملها. وباقي الروايات تضمنت حكم
المطلقة البائن حاملا كانت أو حائلا ، وأن الحائل لا نفقة لها ولا سكنى ، وأما
الحامل فلها النفقة والسكنى ، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام بما لا يحوم
حوله نقض ولا إبرام في المسألة الثانية من المقصد الخامس في النفقات من الفصل
الخامس فيما يلحق بالنكاح وهو آخر كتاب النكاح.
قالوا : وشرط
وجوب النفقة والسكنى للمطلقة رجعيا اجتماع الشرائط المعتبرة فيها حال الزوجية من
الصلاحية للاستمتاع وتسليم نفسها وغيره ، لأن المطلقة رجعيا تبقى بحكم الزوجة ،
فيعتبر فيما يجب لها ما يعتبر في الزوجة ، فلو كانت صغيرة لا تتحمل الجماع لم
تستحق النفقة في العدة كما لا تستحقها في النكاح ، وكذا لو طلقها وهي ناشزة لم
تستحق السكنى والنفقة في العدة كما لا تستحقها في صلب النكاح ، وكذا لو نشزت في
العدة ولو بالخروج عن مسكنها بغير إذنه تسقط نفقتها وسكناها ، ولو عادت إلى الطاعة
عاد الاستحقاق.
أقول : وما
ذكروه وإن لم يرد به نص بالخصوص إلا أنه الأوفق بالقواعد الشرعية لترتب ذلك على
بقاء الزوجية ، إلا أن عد الصغيرة منها لا يخلو من شيء فإنها لا عدة عليها بعد
الطلاق لعدم الدخول بها.
بقي هنا شيء
لم يتقدم ذكره ، وهو أنه لا ريب أن العدة تجب مع وطء الشبهة إجماعا نصا وفتوى ،
وهل تثبت النفقة لها لو كانت حاملا؟ وجهان ، بل قولان مبنيان على أن النفقة على
الحامل هل هي لها أو للحمل؟ فقال الشيخ : هي للحمل وحينئذ فتجب ، وإن كانت الحامل
غير مطلقة إذا كان الولد ملحقا بالواطئ كما هو محل البحث ، فإن نفقة ولده واجبة
عليه ، وإن لم تكن امه زوجته.
__________________
وأما على القول
بأنها للحامل فلا ، لأن الموطوءة بالشبهة ليست زوجة يجب الإنفاق عليها ، كذا قيل.
وفيه أن القائل
بكونها للحامل يقول بأنها لأجل الحمل ، لا أنها لها مطلقا حتى يعلل نفيها بأنها
ليست زوجة على أنه قد تقدم في الموضع المشار إليه أن المسألة موضع إشكال ، لعدم
النص الواضح في هذا المجال.
وظاهر المحقق
في الشرائع الاستشكال في هذه المسألة ـ أعني مسألة وجوب النفقة للموطوءة بالشبهة
بناء على كونها للحمل من وجه آخر ـ ومنشأ الاشكال مما تقدم من أنها بناء على القول
المذكور لولده الواجب النفقة عليه ، ومن إمكان أن يقال : إن وجوب نفقة البائن على
خلاف الأصل فيقتصر فيها على مورد النص ، وهو المطلقة الحامل فلا يتعدى إلى غيرها.
وبالجملة فالتمسك
بأصالة العدم أقوى مستمسك حتى يقوم دليل على الوجوب والتمسك في ذلك بما ذكر مع كون
تلك المسألة كما عرفت غير خالية من الاشكال مما لا يمكن الاعتماد عليه في هذه
الحال.
وقد علم مما
تقدم ـ وهو المشهور في كلام الأصحاب وعليه دل ما تقدم من الأخبار ـ أن نفقة المعتدة.
مختصة بالرجعية والبائن إذا كانت حاملا.
وأما المتوفى
عنها زوجها ، فإن كانت حائلا فلا نفقة لها إجماعا ، وإن كانت حاملا فلا نفقة لها
أيضا في مال المتوفى عنها إجماعا ، وإنما الخلاف في أنه يجب لها النفقة في نصيب
الولد أم لا؟ فظاهر المشهور بين المتقدمين الأول ، والمشهور بين المتأخرين الثاني
، وقد تقدم تحقيق الكلام في المسألة منقحا في الموضع المتقدم ذكره.
المسألة
الثالثة : قد صرح الأصحاب بأنه لو تزوجت في العدة لم يصح ولم
تنقطع عدة الأول ، فإن لم يدخل فهي في عدة الأول ، وإن وطأها الثاني عالما
بالتحريم فالحكم كذلك ، حملت أو لم تحمل ، ولو كان جاهلا ولم تحمل أتمت عدة الأول
لأنها أسبق ، واستأنفت أخرى للثاني على أشهر الروايتين.
أقول : أما عدم
صحة العقد عليها في العدة بائنة كانت أو رجعية فهو مما لا خلاف فيه نصا وفتوى ،
علم بالحكم أو لم يعلم ، وقد تقدمت الأخبار المتضافرة بذلك في كتاب النكاح.
وأما عدم
انقطاع عدة الأول فظاهر لعدم القاطع لها ، ومجرد العقد عليها لا أثر له في ذلك
لفساده وكونه في حكم العدم.
وأما أنه إذا
وطأها الثاني ودخل بها بعد العقد عالما بالتحريم فالحكم كذلك. يعني أنه لا عدة ،
فعلل بأنه زان ولا حرمة لمائه ، فتكفي بإكمال العدة الأولى سواء كانت عدة طلاق أم
عدة وفاة أم غيرهما ، وهو مبني على ما هو المشهور بينهم ، بل ربما ادعي عليه
الإجماع من أنه لا عدة على الزانية لا من ماء الزاني ولا غيره ، مع أنا قد قدمنا
في غير موضع ورود الأخبار بالعدة في هذا الموضع وهو مذهب ابن الجنيد
أيضا ، وحينئذ فالأظهر عدم الاكتفاء بإكمال العدة الأولى كما ذكروه.
وأما أنه لو
كان جاهلا ولم تحمل فإنها تتم عدة الأول ثم تستأنف أخرى للثاني فالوجه في ذلك أن
الدخول بها جاهلا يصير النكاح وطء شبهة ، وهو نكاح صحيح موجب للعدة.
وأما عدم تداخل
العدتين فعلل بأنه الأصل ، وأنهما حقان مقصودان كالدين ، وأسنده هنا إلى أشهر
الروايتين ، وأراد بهما الجنس لتعدد الروايات من الطرفين.
فمما يدل على
التعدد كما هو المشهور صحيحة الحلبي أو حسنته بإبراهيم
__________________
ابن هاشم عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن المرأة الحبلى يموت زوجها فتضع وتزوج
قيل أن تمضي لها أربعة أشهر وعشرا. فقال : إن كان دخل بها فرق بينهما ثم لم تحل له
أبدا واعتدت بما بقي عليها للأول واستقبلت عدة اخرى من الآخر ثلاثة قروء ، وإن لم
يكن دخل بها فرق بينهما واعتدت بما بقي عليها من الأول وهو خاطب من الخطاب».
وموثقة محمد بن
مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها ، قال :
إن كان دخل بها فرق بينهما ولم تحل له أبدا واعتدت بما بقي عليها من الأول
واستقبلت عدة اخرى من الآخر ، وإن لم يكن دخل بها فرق بينهما وأتمت عدتها من الأول
وكان خاطبا من الخطاب».
ورواية علي بن
بشير النبال عن أبي عبد الله عليهالسلام وفيها «وإن فعلت ذلك بجهالة منها ثم قذفها بالزنا ضرب
قاذفها الحد وفرق بينهما ، وتعتد بما بقي من عدتها للأولى ، وتعتد بعد ذلك عدة
كاملة».
ومما يدل على
الاتحاد صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «في امرأة تزوجت قبل أن تنقضي عدتها ، قال : يفرق بينهما وتعتد عدة واحدة
منهما جميعا».
وعن أبي العباس
عن أبي عبد الله عليهالسلام «في المرأة تزوج في عدتها ، قال : يفرق بينهما وتعتد عدة واحدة منهما جميعا».
وعن جميل عن
بعض أصحابه عن أحدهما عليهماالسلام «في المرأة تزوج في عدتها ، قال : يفرق بينهما وتعتد عدة واحدة منهما جميعا»
الخبر.
__________________
ورواية زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام «في امرأة فقدت زوجها أو نعي إليها فتزوجت ثم قدم زوجها بعد ذلك فطلقها ،
قال : تعتد منهما جميعا ثلاثة أشهر عدة واحدة وليس للآخر أن يتزوجها أبدا».
والظاهر من
نسبة الرواية إلى الشهرة أن المراد بها الشهرة في الفتوى ، فإن المشهور هو التعدد
كما عرفت ، وإلا فالشهرة في الرواية إنما هي في جانب الروايات الدالة على الاتحاد.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الشيخ في كتابي الأخبار أجاب عن روايتي زرارة وأبي العباس الدالتين على
الاتحاد بالحمل على ما إذا لم يكن الثاني دخل بها ، وهو كما ترى غفلة عجيبة ،
فإنهما قد صرحتا بأنها تعتد منهما جميعا عدة واحدة ، وكيف تعتد وهي غير مدخول بها.
وجملة من
المتأخرين كالسيد السند في شرح النافع حملوا أخبار التعدد على الاستحباب ، والأظهر
عندي حملها على التقية التي في اختلاف الأحكام أصل كل بلية.
وتدل على ذلك رواية
زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن امرأة نعي إليها زوجها فاعتدت وتزوجت ، فجاء زوجها
الأول ففارقها وفارقها الآخر ، كم تعتد للناس؟ فقال : ثلاثة قروء ، إنما يستبرء
رحمها بثلاثة قروء وتحل للناس كلهم. قال زرارة : وذلك أن أناسا قالوا تعتد عدتين
من كل واحد عدة ، فأبى ذلك أبو جعفر عليهالسلام وقال : تعتد ثلاثة قروء وتحل للرجال».
ورواية يونس عن
بعض أصحابه «في امرأة نعي إليها زوجها فتزوجت ثم
__________________
قدم الزوج الأول فطلقها وطلقها الآخر ، قال : فقال إبراهيم النخعي : عليها
أن تعتد عدتين. فحملها زرارة إلى أبي جعفر عليهالسلام فقال : عليها عدة واحدة».
ومن هذين
الخبرين يعلم أن الاتحاد مذهب العامة فيجب حمل أخباره على التقية بلا إشكال. وقد
تقدم هذا التحقيق في كتاب النكاح أيضا ونحوه في موضع آخر بعده أيضا.
هذا فيما لو
كان جاهلا ولم تحمل ، وأما لو حملت فيأتي ـ بناء على وجوب تعدد العدة وعدم التداخل
ـ التفصيل بأنه إن كان ثمة ما يدل على أنه للأول بأن وطئت للشبهة بعد الحمل اعتدت
للأول أولا بوضعه ، ثم تعتد للثاني بالأقراء ، وإلا بالأشهر وإن كان الحمل للثاني
ويعلم بوضعه لما زاد عن أكثر الحمل من وطء الأول ولما بينه وبين الأول من وطء الثاني اعتدت بوضعه للثاني
وأكملت عدة الأول بعد ذلك ، فإن كانت رجعية كان له الرجوع في زمن الإكمال دون زمان
الحمل على الأشهر.
وربما قيل
بجواز الرجوع في زمن الحمل أيضا لأنها لم تخرج بعد من عدته الرجعية ، لكن لا يجوز
الوطء إلى أن تخرج من عدة الشبهة ، ولو فرض انتفاء الحمل عنهما بأن ولدته لأكثر من
عدة الحمل من وطء الأول ولأقل من ستة أشهر من وطء الثاني لم يعتبر زمان الحمل من
العدة ، وأكملت الأولى بعد الوضع بالأقراء أو الأشهر على حسبها ، ثم اعتدت بعدها
للأخير كذلك.
ولو احتمل أن
يكون منهما كما لو ولدته فيما بين أقل الحمل وأقصاه بالنسبة إليهما انقضت إحدى
العدتين بوضعه على كل حال واعتدت بعد ذلك للآخر ، ثم إن الحق بالأول استأنفت عدة
كاملة للثاني بعد الوضع ، وإن الحق بالثاني أكملت عدة الأول ، كما لو كان الحمل
للثاني ابتداء.
__________________
بقي الكلام في
أنه في هذه الصورة التي يحتمل كونه منهما بمن يلحق منهما؟ قولان :
(أحدهما) للشيخ
وهو أنه يقرع بينهما لأنها صارت فراشا لكل منهما في وقت إمكان حمله فأشكل أمره ،
والقرعة لكل أمر مشكل ، ولا فرق في ذلك بين أن يتداعياه أم لا.
(وثانيهما)
وعليه الأكثر أنه يلحق بالثاني لأنها فراش له بالفعل وفراش الأول قد انقضى ، وصاحب
الفراش الثابت بالفعل حال الحمل أولى لقوله عليهالسلام «الولد للفراش» وقد تقدم تحقيق القول في هذا الحكم وذكر الروايات الدالة
على القول المشهور في كتاب النكاح.
المسألة
الرابعة : لا إشكال ولا خلاف في أن زوجة الحاضر تعتد من الطلاق
من حين وقوعه ، ومن الوفاة من حين وقوعها ، وأما لو كان الزوج غائبا فالأشهر
الأظهر أنها تعتد من الطلاق من حينه ، ومن الوفاة من يوم بلوغ الخبر ، وعلى ذلك
تدل الأخبار المتكاثرة.
ومنها بالنسبة
إلى الطلاق ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم قال : «قال لي أبو جعفر عليهالسلام : إذا طلق الرجل وهو غائب فليشهد على ذلك ، فإذا مضى
ثلاثة أقراء من ذلك اليوم فقد انقضت عدتها».
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته وهو غائب عنها ، من
أي يوم تعتد؟ فقال : إن قامت لها بينة عدل أنها طلقت في يوم معلوم وتيقنت فلتعتد
من يوم طلقت ، وإن لم تحفظ في أي يوم وفي أي شهر فلتعتد من يوم يبلغها».
وعن زرارة
ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية كلهم عن أبي جعفر عليهالسلام في الصحيح أو الحسن «أنه قال في الغائب إذا طلق امرأته
فإنها تعتد من اليوم
__________________
الذي طلقها».
وعلى هذا النهج
رواية زرارة ورواية أخرى له أيضا ورواية أبي الصباح الكناني .
وما رواه
في كتاب قرب
الاسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن
الرضا عليهالسلام في الصحيح قال : «سأله صفوان بن يحيى وأنا حاضر عن رجل
طلق امرأته وهو غائب فمضت أشهر ، فقال : إذا قامت البينة أنه طلقها منذ كذا وكذا
وكانت عدتها قد انقضت فقد حلت للأزواج ، قال : فالمتوفى عنها زوجها؟ قال : هذه
ليست مثل تلك ، هذه تعتد من يوم يبلغها الخبر ، لأن عليها أن تحد».
وتدل على ذلك
الأخبار الدالة على أنها إذا لم تعلم بالطلاق إلا بعد انقضاء العدة فلا عدة عليها
، ومنها رواية قرب الاسناد المذكورة.
وما رواه الشيخ
في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة وهو غائب ولم تعلم إلا بعد
ذلك بسنة أو أكثر أو أقل فإذا علمت تزوجت ولم تعتد» الحديث.
وما رواه الكليني
في الصحيح أو الحسن عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام «قال في المطلقة إذا قامت البينة أنه قد طلقها منذ كذا وكذا فكانت عدتها قد
انقضت فقد بانت».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه عن سئل عن المطلقة يطلقها زوجها فلا
__________________
تعلم إلا بعد سنة ، فقال : إن جاء شاهد اعدل فلا تعتد ، وإلا فلتعتد من يوم
يبلغها».
وأما بالنسبة
إلى الوفاة فيدل على ذلك ما تقدم في صحيحة البزنطي المروية في قرب الاسناد.
وما رواه ثقة
الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام «في الرجل يموت وتحته امرأة وهو غائب ، قال : تعتد من يوم يبلغها وفاته».
وعن أبي الصباح
الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «التي يموت عنها زوجها وهو غائب فعدتها من يوم
يبلغها إن قامت لها البينة أو لم».
وعن زرارة
ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام «قال في الغائب عنها زوجها إذا توفي ، قال : المتوفى عنها زوجها تعتد من
يوم يأتيها الخبر لأنها تحد عليه».
وعن ابن أبي
نصر في الصحيح أو الحسن عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : «المتوفى عنها زوجها تعتد من يوم يبلغها لأنها
تريد أن تحد عليه».
وعن الحسن بن زياد
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «في المرأة إذا بلغها نعي زوجها تعتد من يوم
يبلغها ، إنما تريد أن تحد له».
وعن رفاعة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المتوفى عنها زوجها وهو غائب متى تعتد؟ قال : يوم
يبلغها» الخبر.
__________________
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام «في حديث قال : المتوفى عنها زوجها وهو غائب تعتد من يوم يبلغها وإن كان قد
مات قبل ذلك بسنة أو سنتين».
وعن محمد بن
مسلم أيضا في الصحيح عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا طلق الرجل امرأته وهو غائب عنها فليشهد على
ذلك ، وإذا مضى ثلاثة أشهر فقد انقضت عدتها ، والمتوفى عنها تعتد إذا بلغها».
وما رواه الصدوق
في الفقيه بإسناده في قضايا أمير المؤمنين عليهالسلام «في حديث قال : والمطلقة تعتد من يوم طلقها زوجها والمتوفى عنها تعتد من
يوم يبلغها الخبر ، إن هذه تحد وهذه لا تحد».
وما رواه في
العلل عن أحمد بن محمد بن أبي نصر في الصحيح عن الرضا عليهالسلام «في المطلقة إن قامت البينة أنه طلقها منذ كذا وكذا ، وكانت عدتها قد انقضت
فقد بانت منه ، والمتوفى عنها زوجها تعتد حين يبلغها الخبر لأنها تريد أن تحد له».
قال في المسالك
بعد إيراد بعض الأخبار المذكورة المتضمنة للتعليل بالحداد ما لفظه : وفيه إشارة
إلى الفرق بينهما ، فإن المتوفى عنها عليها الحداد ، وهو لا يحصل قبل بلوغ الخبر ،
بخلاف المطلقة المقصود منها براءة الرحم ، وهو يحصل بمضي المدة علمت بالحال أم لم
تعلم. ويشكل الحكم على هذا التعليل في الأمة حيث لا يوجب عليها الحداد ، وأن مقتضاه
مساواتها للمطلقة لعدم المقتضي لجعل
__________________
عدتها من حين بلوغ الخبر ، ويمكن القول بمساواتها للحرة هنا نظرا إلى إطلاق
كثير من الأخبار اعتداد المتوفى عنها زوجها من حين بلوغ الخبر الشامل لها والتعليل
في الأحكام الشرعية ضبطا للقواعد الكلية لا يعتبر فيه وجوده في جميع أفرادها
الجزئية كحكمة العدة وغيرها من الأحكام ، وقد نبهنا على هذا البحث غير مرة. انتهى
وهو جيد ، وقد تقدم منا في هذا الكتاب ما يساعده ويؤيده.
إذا تقرر ذلك
فاعلم أن في المسألة أقوالا زائدة على ما ذكرناه منها قول ابن الجنيد بالتسوية بينهما في الاعتداد من حين الموت والطلاق إن
علمت الوقت وإلا حين يبلغها فيهما.
ويدل على هذا
القول ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبيد الله الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : امرأة بلغها نعي زوجها بعد سنة أو نحو
ذلك ، قال : فقال : إن كانت حبلى فأجلها أن تضع حملها ، وإن كانت ليست بحبلى فقد
مضت عدتها البينة إذا قامت لها أنه مات في يوم كذا وكذا ، وإن لم تكن لها بينة
فلتعتد من يوم سمعت».
وعن الحسن بن
زياد قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المطلقة يطلقها زوجها ولا تعلم إلا بعد سنة ،
والمتوفى عنها زوجها ولا تعلم بموته إلا بعد سنة ، قال : إن جاء
__________________
شاهدان عدل فلا تعتدان ، وإلا تعتدان».
وهذان الخبران
حملهما الشيخ في التهذيبين على الشذوذ لمخالفة سائر الأخبار فلم يجوز العدول عنها
إليهما ، ثم احتمل وهم الراوي واشتباهه المطلقة بالمتوفى عنها زوجها.
أقول : أما
الشذوذ فنعم ، لما عرفت من استفاضة الأخبار بخلافها ، وأما الحمل على وهم الراوي
بأن يكون سمع ذلك في المطلقة ثم اشتبه عليه وظن المتوفى عنها زوجها فبعيد غاية
البعد ، فإنه عليهالسلام قد جمع بينهما معا في الحكم وصرح بكل واحدة منهما على
حالها.
وشيخنا الشهيد
الثاني في المسالك ـ نظرا إلى ورود صحيحة الحلبي دالة على هذا القول ، وهو
أمثاله من أرباب هذا الاصطلاح يدورون مدار ذلك ـ جمع بين الأخبار بحمل الأخبار
السابقة على الاستحباب كما هي قاعدتهم المتعارفة في هذه الأبواب.
وقد عرفت ما
فيه مما قدمناه في غير موضع من هذا الكتاب ، والأظهر عندي حمل هذين الخبرين
على التقية ، فإن المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي نقل في الوسائل أن
القول بما دل عليه مذهب جميع العامة.
__________________
ونحو هذين
الخبرين ما رواه الشيخ في التهذيب عن وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام «أن عليا عليهالسلام سئل عن المتوفى عنها زوجها إذا بلغها ذلك وقد انقضت
عدتها ، فالحداد يجب عليها؟ فقال علي عليهالسلام : إذا لم يبلغها حتى تنقضي عدتها فقد ذهب ذلك كله وتنكح
من أحبت».
ومما يؤكد
القول المشهور ورود التعليل بالحداد ، وأنه واجب عليها كما تقدم ، وأنه إنما كانت
عدتها من يوم بلوغ الخبر لذلك والخبر المعلل باصطلاحهم مقدم في العمل به ، فالقول
بسقوط الحداد الثابت إجماعا بين كافة أهل العلم نصا وفتوى بهذه الأخبار الثلاثة مع
المعارضة بما تقدم مما هو أكثر عددا وأصح سندا مشكل غاية الإشكال مع تأيد تلك
الأخبار بالاحتياط الذي هو أحد المرجحات الشرعية في مقام تعارض الأخبار ، كما دلت
عليه مرفوعة زرارة.
ومنها ما ذهب
إليه الشيخ في التهذيب ، وهو أن المتوفى عنها تعتد من يوم وفاة الزوج وإن كانت
قريبة كيوم أو يومين أو ثلاثة ، وإلا فمن يوم بلغها الخبر.
واستدل عليه
بما رواه في الصحيح عن منصور قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول في المرأة يموت زوجها أو يطلقها وهو غائب ، قال :
إن كانت مسيرة أيام فمن يوم يموت زوجها تعتد ، وإن كان من بعد فمن يوم يأتيها
الخبر لأنها لا بد أن تحد له».
والأظهر عندي
ارتكاب التأويل في هذا الخبر وإن بعد بحمل مسيرة الأيام على الأيام القليلة التي
يمكن فيها وصول الخبر عاجلا ، وتصير حينئذ في حكم التي في البلد المعتدة من يوم
الوفاة. لأنه لا فرق بينهما إلا تأخر وصول الخبر فيما دلت عليه الرواية يوما أو
يومين عن يوم الوفاة ، وهذا في حكم الوفاة في البلد كما
__________________
لو كانت البلد متسعة جدا مشتملة على محلات عديدة بحيث يمكن تأخر وصول الخبر
من محلة إلى أخرى يوما أو يومين ، أو رستاق فيه قرى عديدة كذلك ، وحينئذ فيجتمع
هذا الخبر مع الأخبار المتقدمة ولا يصير بينه وبينها كثير تناف.
ومنها ما ذهب
إليه الشيخ أبو الصلاح وهو أنها تعتد من حين بلوغ الخبر مطلقا محتجا بأن العدة
من عبادات النساء ، وافتقار العدة إلى نية تتعلق بابتدائها ، وضعفه أظهر من أن
يخفى على ناظر ، فإن فيه طرحا للأخبار المتقدمة في المطلقة مع ما هي عليه من
الكثرة والصحة والصراحة مع ما في تعليله العليل ، لمنع كون العدة من العبادات
المتوقفة على النية بل من العبادات مطلقا.
تنبيهات
الأول : ظاهر
الأخبار المتعلقة بعدة الوفاة وأنها تعتد من يوم يبلغها الخبر أو يوم يأتيها الخبر
، ونحو ذلك من هذه العبارات أنه لا فرق في جواز الاعتداد لها بين كون المخبر ثقة
يفيد قوله ظن الموت أم لا ، صغيرا كان أو كبيرا ، ذكرا كان أو أنثى ، كل ذلك
للإطلاق ، إلا أنها وإن اعتدت وحدت بمجرد ذلك لكن لا يجوز لها التزويج إلا بعد
الثبوت الشرعي بالبينة أو الشياع وإن طالت المدة المتوسطة ، وأما خبر الطلاق فلا
بد أن يكون ثابتا معلوما كونه في أي وقت كما أشارت إليها الأخبار المتقدمة.
ومنها قوله عليهالسلام في صحيحة الحلبي أو حسنته «إن قامت لها بينة عدل
__________________
أنها طلقت في يوم معلوم وتيقنت فلتعتد من يوم طلقت». وفي صحيحة البزنطي
المنقولة من كتاب قرب الاسناد «إذا قامت البينة أنه طلقها منذ كذا وكذا. ونحوها صحيحته الأخرى المنقولة
من الكافي وما أطلق من الأخبار يحمل على هذه الأخبار المفصلة
المبينة.
ثم إنه متى ثبت
عندها خبر الطلاق ووقته فإن كان قد مضى من الزمان ما تنقضي به العدة فقد انقضت
عدتها ولتتزوج إن شاءت وإلا انتظرت تمام المدة.
الثاني : لو
بادرت فتزوجت بعد أن اعتدت بذلك الخبر الغير الثابت شرعا فإن التزويج يقع باطلا
بحسب الظاهر ، لأنا وإن جوزنا لها الاعتداد بمجرد ذلك الخبر إلا أنه لا يجوز لها
التزويج إلا بعد الثبوت الشرعي ، والحال أنه لم يثبت.
نعم لو ظهر أن
التزويج كان قد وقع بعد الموت والخروج من العدة كان صحيحا لمطابقة ما وقع ظاهرا
للواقع ، وإن أثم بالمبادرة إلى ذلك قبل الثبوت الشرعي لو كان عالما بتحريم الفعل
في تلك الحال.
وبذلك صرح
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ثم قال : ولو فرض دخول الزوج الثاني قبل العلم بالحال
والحكم بالتحريم ظاهرا ثم انكشف وقوعه بعد الموت والطلاق وتمام العدة لم تحرم عليه
بذلك ، وإن كان قد سبق الحكم به ظاهرا لتبين فساد السبب المقتضي للتحريم ، انتهى
وهو جيد.
ومرجع ذلك إلى
الاكتفاء في الصحة بمطابقة الواقع وإن كان في ظاهر
__________________
الأمر على خلاف المشروع ، وهو على خلاف ما بنوا عليه في غير موضع من
الأحكام حيث إن من جملة ما خرجوا فيه عن هذه القاعدة صلاة الجاهل بالأحكام الشرعية
فحكموا فيمن صلى لا عن اجتهاد ولا تقليد ببطلان صلاته وإن طابقت المشروع واقعا ،
وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في غير موضع من الكتب المتقدمة.
الثالث : قد
دلت صحيحة الحلبي أو حسنته وهي أول الروايات المتقدمة على التفصيل بين ما إذا قامت
البينة على طلاقها في يوم معلوم فإنها تعتد من ذلك اليوم. وإن لم تحفظ في أي يوم
ولا أي شهر فلتعتد من يوم بلوغ الخبر.
وظاهرها أن
الاعتداد ببلوغ الخبر في مقام يجهل وقت الطلاق على تقدير الجهل به بكل وجه بحيث
يحتمل وقوعه قبل الخبر بغير فصل ، والاعتداد من يوم الطلاق إنما هو في صورة العلم
بذلك اليوم الذي وقع فيه الطلاق ، مع أن هنا فردا آخر خارج عن هذين الفردين ، وهو
ما لو فرض العلم بتقدم الطلاق مدة كما لو كان الزوج في بلاد بعيدة يتوقف بلوغ
الخبر على قطع المسافة بينها وبينه فإنه يحكم بتقدمه في أقل زمان يمكن مجيء الخبر
فيه ، ويختلف باختلاف مسافات البعد وسرعة حركة المخبر وبطئها ، وحينئذ فكل وقت
يعلم تقدم الطلاق عليه يحسب من العدة وإن كان ذلك قبل بلوغ الخبر فتضيف بعد بلوغ
الخبر إلى ما تقدم ما تتم به العدة.
وبالجملة فإن
من كان زوجها بعيدا عنها بمسافة يعلم تقدم الطلاق عن بعض الأيام والشهور وإن جهلت
يوم وقوعه وشهره فإنها تعتد بما تقدم مما علم تأخره عن الطلاق ، وتضيف إليه بعد
بلوغ الخبر ما يكمل به العدة ، والرواية محمولة على عدم العلم بذلك بالكلية ، فلا
منافاة بين ما ذكرنا وبين ما دلت عليه الرواية المذكورة.
المسألة
الخامسة : قالوا : إذا
طلقها طلاقا رجعيا ثم راجعها انقضت العدة بالرجعة وعادت إلى النكاح الأول المجامع
للدخول ، وصارت كأنها لم تطلق بالنسبة إلى كونها الآن منكوحة ومدخولا بها ، وإن
بقي للطلاق السابق أثر ما من
حيث عده في الطلقات الثلاث المحرمة ، فإذا طلقها بعد هذه الرجعة قبل المسيس
لزمها استئناف العدة لأنها بالرجعة عادت إلى النكاح الذي مسها فيه ، فالطلاق
الثاني طلاق في نكاح وجد فيه المسيس سواء ، كان الثاني بائنا أم رجعيا لاشتراكهما
المقتضي للعدة ، وهو كونه طلاقا عن نكاح وجد فيه الوطء ، وفي معنى الطلاق البائن
الخلع.
وفي هذا الأخير
قول للشيخ في المبسوط بعدم العدة للخلع بناء على أن الطلاق بطل إيجابه العدة
بالرجعة ، ولم يمسها في النكاح المستحدث ، والحل المستحدث وهو ما بعد الرجعة ،
فأشبه ما إذا أبانها ثم جدد نكاحها وطلقها.
ورد بأن الرجعة
إنما أبطلت العدة المسببة عن الطلاق بسبب عود الفراش السابق ، وهو مقتض لصيرورتها
مدخولا بها ، وخلع المدخول بها يوجب العدة ، ولم يتجدد نكاح آخر لم يمسها فيه ،
وإنما عاد النكاح الممسوس فيه ، بخلاف ما إذا أبانها ثم جدد نكاحها لارتفاع حكم
النكاح الأول بالبينونة ، والنكاح بعده غير الأول ، وإذا طلقها بعده فقد وقع بغير
مدخول بها في ذلك النكاح.
هذا كله إذا
كان الطلاق الأول رجعيا ، أما لو كان بائنا كما إذا خالع زوجته المدخول بها ثم تزوجها
في العدة ثم طلقها قبل الدخول فإنه لا يلزمها منه العدة لأن العقد الثاني لم يعد
الفراش الأول ، وإنما أحدث فراشا آخر ، والعدة الأولى بطلت بالفراش المتجدد ولم
يحصل فيه دخول ، فإذا طلقها حينئذ فقد صدق أنها مطلقة عن نكاح غير مدخول بها فيه ،
فيدخل تحت عموم قوله تعالى «ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها».
وقيل : يلزم
العدة ، وهو منقول عن القاضي ابن البراج في المهذب محتجا بأنها لم تكمل العدة
الاولى وقد انقطعت بالفراش الثاني فتجب العود إليها بعد الطلاق. قالوا : وضعفه
واضح مما بيناه. هذا خلاصة ما ذكروه في هذا المقام ،
__________________
وهو ينحل إلى مسائل ثلاث :
الاولى : ما
إذا طلقها طلاقا رجعيا ثم راجعها ثم طلقها قبل الدخول ، وقد عرفت مما ذكروه أنه
بالرجعة قد رجع النكاح الأول ، فالطلاق الثاني الواقع بعد الرجعة إنما وقع لزوجة
مدخول بها فيجب العدة البتة ، إلا أنه لا يخلو من شوب الاشكال من حيث إن ما ذكروه
غير منصوص وإنما هو تعليل اعتباري.
وقد عرفت ما في
بناء الأحكام على هذه التعليلات الاعتبارية ، فإنه من الجائز أن يكون الطلاق الأول
قد رفع حكم النكاح ، فقوله «إنها بعد الرجعة كأنها لم تطلق ، وأنها الآن منكوحة
مدخولا بها» ممنوع لأن الطلاق قطع حكم النكاح الأول ومنع من استيجابه ، وإن ثبت
كونها زوجة بعد الرجعة إلا أنه ليس ثبوت الزوجية من جميع الجهات ليترتب عليها ما
ذكروه.
وبالجملة
فالمانع مستظهر حتى يقوم الدليل الشرعي على ما ذكروه وليس فليس. واستئناف العدة
بعد الطلاق الثاني لا يستلزم ما ذكروه ، بل يجوز أن يكون مستنده أنه حيث إن الطلاق
الثاني لما كان بغير مدخول بها فلا عدة عليها منه ، وعدة الطلاق الأول إنما انقطعت
بالنسبة إلى الزوج كما يأتي مثله في المسألة الثالثة.
وأما بالنسبة
إلى غيره فلا فيجب حينئذ بعد الطلاق الثاني استئناف عدة الطلاق الأول إذا أرادت
التزويج بغير الزوج ، لا بد لنفي ما ذكرناه من دليل.
الثانية : إذا
كان الثاني بائنا ، وهذا هو الذي خالف فيه الشيخ فقال بسقوط العدة كما تقدم من ذكر
دليله وما أورد عليه ، وفيه ما في سابقته من البحث المذكور فإن المسألتين من باب
واحد.
الثالثة : ما
إذا كان الطلاق الأول بائنا من خلع ونحوه ، وهذا هو محل الخلاف مع القاضي ابن
البراج.
قال الشيخ في
الخلاف على ما نقله في المختلف : إذا تزوج امرأة ثم خلعها ثم تزوجها وطلقها قبل
الدخول بها لا عدة عليها. وقال ابن البراج في المهذب : فإن خالعها ثم تزوجها ثم
طلقها استأنف أيضا العدة ولم يجز لها أن تبني على ما تقدم ـ ثم قال في المختلف : ـ
والوجه ما قاله الشيخ في الخلاف. انتهى ، وعليه جملة من وقفنا على كلامه من
الأصحاب ، ولم ينقل فيه الخلاف إلا عن القاضي المذكور.
والظاهر أن ما
ذكروه من الفرق بين المسألتين الأولتين وبين الثالثة إنما ألجأهم إليه الحكم في
الثالثة بسقوط العدة في الطلاق الثاني استنادا إلى ما ذكروه من ظاهر الآية ، وعلى
هذا بنوا الحيلة في إسقاط العدة في هذه الصورة فجوزوا لغير الزوج أن يعقد عليها
بعد هذا الطلاق الأخير لكونها مطلقة غير مدخول بها ، وقد تقدم الكلام معهم في هذه
المسألة في الإلحاق المذكور بعد الفصل الثاني في الرجعة من المقصد الثالث في جملة
من الأحكام ، وإلى ما اخترناه في هذه المسألة من من استئناف العدة كما ذكره القاضي
مال جملة من متأخري المتأخرين قد تقدم ذكرهم في الموضع المشار إليه.
وعلى ما ذكرناه
يتجه أن يقال : إن سقوط العدة الأولى بتزويجها في العدة وهو المشار إليه بالفراش
المتجدد إنما تثبت بالنسبة إلى الزوج لحل ذلك له خاصة حيث إنه لا يجب الاستبراء من
مائه الذي هو العلة في وجوب العدة ، وأما غيره فإنه لا يجوز له العقد عليها في هذه
الحال مع العلم إجماعا نصا وفتوى لكونها في العدة وحينئذ فإذا طلقها بعد هذا العقد
فإنه لا عدة عليها من هذا الطلاق الثاني بلا إشكال لدلالة الآية المذكورة المعتضدة
بالأخبار على عدم وجوب العدة على المطلقة الغير المدخول بها ، ونحن أنما نوجب
عليها العدة من الخلع الأول الذي قد تقدم فإن عدته إنما سقطت سابقا بالنسبة إلى
الزوج خاصة كما عرفت.
وحينئذ فقولهم «فقد
صدق أنها مطلقة عن نكاح غير مدخول بها فيه» مغالطة
ظاهرة ، فإن هذا الصدق المدعى إنما يتم بالنسبة إلى الطلاق الثاني ، وهو
ليس محل البحث ، وإنما محله الخلع الذي تقدم ، فإن الأدلة الدالة على وجوب العدة
منه دالة بإطلاقها على هذا الفرد الذي هو محل البحث ، غاية الأمر أنه قام الدليل
على سقوطها بالنسبة إلى الزوج خاصة ، فهو باق تحت إطلاق الأدلة المشار إليها ،
وتخرج رواية ابن أبي عمير المتقدمة في الموضع المشار إليه شاهدا على ما ذكرناه.
المسألة
السادسة : قد صرحوا : بأن الشبهة في الوطء إن وقعت من الطرفين
فالولد يلحق بهما وعليها العدة ولها مهر المثل إذا كانت حرة ، وإن اختصت بأحدهما
لحق به النسب ووجبت العدة عليها سواء كانت هي المختصة بالشبهة أو هو مراعاة لحق
الوطء الصحيح من طرف المشتبه عليه ، ويختص الحد بالعالم منهما ، ثم إن كانت هي
العالمة فلا مهر لها ، وإلا ثبت ، ولو كانت الموطوءة أمة وكانا معا جاهلين لحق به
الولد وعليه قيمته لمولاها يوم يسقط حيا لأنه عوض منفعتها الفائتة بالحمل وعقر
الأمة ، وإن كانت عالمة دونه فكذلك ، إلا أن في ثبوت المهر لمولاها هنا خلافا من
حيث إنها بغي ولا مهر لبغي وكونه لمولاها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) ، وإن كان هو العالم دونها فعليه الحد والولد رق
لمولاها ، وعليه القصر ، وحيث يثبت لها المهر فهل هو المثل لأنه عوض البضع شرعا
حيث لا مقدر؟ أم هو عشر قيمتها إن كانت بكرا ونصفه إن كانت ثيبا؟ قولان ، والمنصوص
منهما صحيحا هو الثاني.
أقول : وهذه
الأحكام قد مرت متفرقة في الأبحاث المتقدمة ، وتقدمت النصوص المتعلقة بها ، ولكنهم
ذكروها هنا إجمالا من حيث مناسبة المقام وتتميما لما ذكر هنا من الأحكام.
ثم إنهم قالوا
أيضا : إنه إذا طلقها بائنا ثم وطأها للشبهة فهل تتداخل العدتان لأنهما لواحد ،
وتؤيده الروايات الدالة على التداخل مع التعدد ، فمع
الاتحاد بطريق أولى؟ أم لا تتداخل بل تأتي بكل منهما على الكمال لأنهما
حقان مختلفان؟ قولان ، والثاني منهما للشيخ وابن إدريس ، والأول هو المشهور.
أقول : قد عرفت
مما قدمناه قريبا أن الأظهر هو الاتحاد مع التعدد وأن ما دل على
التعدد من الأخبار إنما خرج مخرج التقية. وحينئذ فالقول بذلك مع كونهما لواحد أظهر
ظاهر.
والمراد من
التداخل هو أنه يدخل الأقل منهما تحت الأكثر ، فلو كانت بالأقراء أو الأشهر
استأنفت العدة من حين الوطء ، فيدخل باقي العدة الأولى تحت الثانية ، وعلى تقدير
كون الأولى رجعية يجوز له الرجعة في تلك البقية لا بعدها لأن تلك البقية من عدته ،
وما بعدها من عدة الشبهة ، وقد خرجت من عدته فلا رجوع له عليه وقد خرجت من عدته.
قالوا : ويجوز
تجديد النكاح في تلك البقية وبعدها إذا لم يكن عدد الطلاق مستوفى ، يعني استيفاء
الطلقات المحرمة بأن حصلت ، فإنه لا يجوز العقد إما مطلقا أو إلا بمحلل.
ولو اجتمعت
العدتان من شخصين وكانت إحداهما عدة طلاق والأخرى عدة وطء الشبهة سواء كان المتقدم
عدة الطلاق أو وطء الشبهة فلا تداخل على المشهور وأما على ما اخترناه فيتداخلان.
ثم إنه على
المشهور إن لم يكن هناك حمل أكملت عدة الطلاق بالأقراء أو الأشهر إن كانت هي
المتقدمة لتقدمها وقوتها ثم اعتدت للثاني بعد الفراغ منها. وإن حصل هنا حمل ، فإن
كان من الأول فكالأول ، وإن كان من الثاني قدمت عدته لأنها لا تقبل التأخير وأكملت
عدة الأول بعد الوضع ، فإن كانت بالأقراء اعتبرت النفاس حيضا وأكملتها بعدها إن
بقي منها شيء ، ولا فرق في ذلك بين العدة الرجعية والبائنة إلا أن الرجعية يجوز
للزوج الرجوع فيها سواء تقدمت أم تأخرت لأن
__________________
ذلك من مقتضاها شرعا ، ثم إن كانت متقدمة على عدة الشبهة فرجع فيها اعتدت
عدة الشبهة بعد الرجوع ، ولا يجوز له الوطء إلى أن تنقضي العدة الثانية ، وإن كان
المتقدم هو عدة الشبهة كما إذا ظهر منه حمل فللزوج الرجوع في بقية عدته بعد الوضع
دون زمان الحمل لأنها حينئذ غير معتدة منه.
وربما قيل
بجواز الرجوع في زمن الحمل أيضا لأنها لم تخرج بعد من العدة الرجعية ، لكن لا يجوز
الوطء إلى أن تخرج عدة الشبهة ، والأصح الأول ولو كانت عدة الطلاق بائنة ، فالكلام
في جواز تزويجها في العدة كالقول في جواز الرجوع ، كذا أفاده شيخنا في المسالك سلك
الله تعالى به أفضل المسالك ، والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه ونوابه العالمون
بمعالم حلاله وحرامه.
هذا آخر الكلام
في كتاب الطلاق
ويتلوه إن شاء
الله تعالى الكلام في كتاب الخلع والمبارأة
والحمد لله
وحده وصلى الله عليه محمد وآله الطاهرين
كتاب الخلع والمبارأة
قال في القاموس
: الخلع ـ كالمنع ـ : النزع إلا أن في الخلع مهلة ـ إلى أن قال : ـ وبالضم
طلاق المرأة ببذل منها أو من غيرها كالمخالعة والتخالع. ونحوه قال الجوهري في
الصحاح.
وقال الفيومي
في المصباح المنير : خلعت النعل وغيره خلعا نزعته ، وخالعت المرأة زوجها
مخالعة إذا افتدت منه وطلقها على الفدية ، فخلعها هو خلعا والاسم الخلع بالضم ،
وهو استعارة من خلع اللباس لأن كل واحد منهما خالع الآخر ، فإذا فعلا ذلك فكأن كل
واحد نزع لباسه عنه.
ومقتضى كلامهم
أنه يطلق لغة على المعنى الشرعي.
قال في شرح
النافع : والظاهر أن هذا المعنى كان معروفا قبل ورود
__________________
الشرع ، ومقتضى كلام الفيومي في المصباح أن الخلع بالمعنى الشرعي مأخوذ من
الخلع بالفتح بمعنى النزع من حيث إن كلا منهما لباس للآخر كما أشار إليه الآية «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ»
وكأنه بمفارقة أحدهما الآخر على هذه الكيفية نزع لباسه.
والمبارأة
بالهمزة وقد تخفف ألفا : المفارقة. قال في القاموس : بارأه : فارقه ، والمرأة صالحها على الفراق.
وقال الجوهري : تقول : بارأت شريكي إذا فارقته ، وبارأ الرجل امرأته
والمراد هنا إبانتها بعوض مقصود لازم للزوج ، ويفترقان باختصاص الخلع بكراهتها له
خاصة ، والمبارأة باشتراكهما في الكراهة وفي أمور أخر يأتي ذكرها إن شاء الله
تعالى.
قال في المسالك
: واعلم أن الفرقة الحاصلة على العوض تارة تكون بلفظ الخلع والمبارأة فيلحقها
حكمهما ، وتارة تكون بلفظ الطلاق ، فيكون طلاقا بعوض ليس بخلع ، لكن جرت العادة
بالبحث عنه في كتاب الخلع ، لمناسبة له في كونه إبانة بعوض ، لكنه يخالفه في بعض
الأحكام ، فإنه طلاق محض يلحقه أحكام الطلاق بأسرها ، ويزيد عليه العوض ، وله
أحكام تخصه زيادة على أصل الطلاق سيأتي إن شاء الله تعالى بيانها ، انتهى.
ثم إن الظاهر
من كلام جل الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ أن الخلع ليس بواجب ، وظاهر الشيخ في
النهاية وجوبه متى قالت تلك الأقوال ، قال في الكتاب المذكور : إنما يجب الخلع إذا
قالت المرأة لزوجها : إني لا أطيع لك
__________________
أمرا ولا أقيم لك حدا ولا أغتسل لك من جنابة ولأوطئن فراشك من تكرهه إن لم
تطلقني ، فمتى سمع منها هذا القول وعلم من حالها عصيانه في شيء من ذلك لم تنطق به
وجب عليه خلعها. وتبعه أبو الصلاح وابن البراج في الكامل وابن زهرة.
كذا نقله عنهم
في المختلف ـ ثم قال : ـ لنا الأصل براءة الذمة من وجوب الخلع ـ ثم قال : ـ احتج
بأن النهي عن المنكر واجب ، وإنما يتم بهذا الخلع فيجب ـ ثم قال : ـ والجواب المنع
من المقدمة الثانية ، والظاهر أن مراد الشيخ بذلك شدة الاستحباب.
أقول : بل
الظاهر أن مراد الشيخ بالوجوب هنا إنما هو المعنى اللغوي ، أعني الثبوت بمعنى أن
ثبوت الخلع ومشروعيته متوقفة على ذلك ، وروايات المسألة على كثرتها إنما تضمنت أنه
لا يحل له خلعها حتى تقول ذلك ، بمعنى أنه لا يشرع ولا يثبت إلا بعد هذه الأقوال.
وليس في شيء منها ما يدل على الوجوب كما توهموه ، والجميع ظاهر فيما قلناه من
الحمل المذكور. وكيف كان فالكلام هنا يقع في مقصدين :
الأول : في الخلع
والأصل فيه
الآية الشريفة وهي قوله عزوجل «فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ».
وروى شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك في سبب نزل هذه الآية أنها نزلت في بنت عبد الله بن ابي
، وكانت زوجة ثابت بن قيس ، وكان يحبها وهي تبغضه ، فأتت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت : يا رسول الله لا أنا ولا ثابت ، ولا يجمع رأسي
ولا رأسه شيء ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكن أكره الكفر بعد الإسلام
ما أطيعه بغضا ، إني رفعت جانب الخبإ فرأيته أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادا
__________________
وأحقرهم قامة وأقبحهم وجها ، فنزلت الآية «فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ»
الآية ، وكان
قد أصدقها حديقة ، فقال ثابت : يا رسول الله تريد الحديقة؟ فقال رسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما تقولين؟ قالت : نعم وأزيده ، فقال : لا ، حديقته
فقط ، فاختلعت منه. ورواه الطبرسي في كتاب مجمع البيان ملخصا.
والظاهر أن
الخبر المذكور من طريق العامة فإني لم أقف عليه في كتب أخبارنا ، وهو مروي في
كتبهم بطرق متعددة ومتون مختلفة.
إذا تقرر ذلك
فاعلم أن البحث في الخلع وتحقيق الكلام فيه يقع في الصيغة والفدية والشرائط
والأحكام ، فهنا مقامات أربعة :
الأول في الصيغة :
والكلام يقع
فيها في مواضع : أحدها : لا يخفى أنه حيث كان الخلع من العقود المفيدة لابانة الزوجية بعوض مخصوص
فلا بد له من صيغة دالة عليه كغيره من نظائره ، وقد ذكروا أنه يقع ذلك بلفظ «خلعتك
وخالعتك على كذا ، وأنت أو فلانة مختلعة على كذا» مع أنه قد تقدم في الطلاق أن
بعضهم يمنع من وقوعه بلفظ «أنت مطلقة» معللا بأنه بعيد عن شبه الإنشاء ، وحكموا
بانعقاد بعضها بالجملة الاسمية كانعقاد الضمان بقوله «أنا ضامن» والهبة بقوله «هذا
لك» قاصدا به الهبة.
قال السيد
السند في شرح النافع ـ بعد نقل ذلك عنهم ، ونعم ما قال ـ : وليس في هذه الأحكام
أصل يتعين الرجوع إليه ولا مستند صالح يعول عليه.
أقول : وقد
تقدمه في هذا الكلام جده ـ قدسسره ـ في المسالك حيث قال : واللفظ الصريح فيه قوله «خلعتك
وخالعتك على كذا أو أنت أو فلانة مختلعة
__________________
على كذا».
أما الأولان
فواقعان بصيغة الماضي التي هي صريحة في الإنشاء على ما تقرر وتكرر.
وأما الأخيران
فلأنهما وإن لم يكونا باللفظ الماضي لكنهما يفيدان الإنشاء بل هما أصرح فيه من
الماضي المفتقر في دلالته على الإنشاء إلى النقل إليه.
ولكن مثل هذا
لم يلتزمه الأصحاب في جميع العقود اللازمة ، بل أمرهم فيه مضطرب من غير قاعدة يرجع
إليها ، ولا دلالة عليه من النصوص توجبها ، وقد تقدم في النكاح والطلاق ما يخالف هذا
، وأنه لا يقع بقوله «أنت مطلقة» ونحوه ، واعتمدوا في التزامه على خبر لا يوجب ذلك
الحصر كما بيناه ، ولو جوزوا في جميع الأبواب الألفاظ المفيدة للمطلوب صريحا من
غير حصر كان أولى ، انتهى وهو جيد ، وإن خالفه فيما مضى من الأبواب السابقة ،
ووافق الجماعة فيما ذهبوا إليه من هذه المواضع التي اعترضها هنا كما يخفى على من
راجع الكتاب المذكور.
وبه يظهر قوة
ما ذهبنا إليه في كتاب البيع وغيره من الكتب السابقة من عدم الانحصار في لفظ خاص
ولا صيغة خاصة ، بل كل ما أفاد المطلوب فإنه كاف في هذا المقام ، وسيأتي إن شاء
الله تعالى ما يزيده تأييدا ويوضحه تأكيدا ، في حديث جميل من حكاية خلع ذلك الرجل
لابنته من زوجها.
وعلى هذا فكما
يقع الخلع بالألفاظ المتقدمة كذا يقع بقوله «أنت طالق على كذا».
وقد صرح بذلك
جملة من الأصحاب أيضا ، منهم الشيخ في المبسوط حيث قال على ما نقل عنه : فأما إذا
كان الخلع بصريح الطلاق كان طلاقا بلا خلاف ومنهم العلامة حيث قال في الإرشاد :
الصيغة وهي : خلعتك على كذا أو أنت أو فلانة مختلعة على كذا أو أنت طالق على كذا.
ونحوه قال في القواعد والتحرير.
وفيه دلالة على
أن الطلاق بعوض من أقسام الخلع تترتب عليه أحكامه ،
وسيأتي تحقيق المسألة في محلها.
وحيث قد عرفت
مما تقدم في صدر الكلام أن الخلع من قبيل المعاوضات فلا بد فيه من القبول من
المرأة إن لم يسبق سؤالها ذلك ، ويعتبر تعاقبهما بحيث يكون أحدهما جوابا عن الآخر
، فإن تقدم التماسها بقولها : طلقني بألف مثلا اعتبر كونه جوابا على الفور بحيث لا
يتخلله زمان يوجب عدم ارتباط الجواب بالسؤال ، وإن تقدم لفظه فقال : خالعتك على
كذا اعتبر قبولها عقيب كلامه كذلك ، ولو قال : خلعتك على كذا ولم يتعقبه قبولها
على الفور فقد صرحوا بأن الأظهر بطلان الطلاق ، لأن الطلاق بالعوض لم يقع لانتفاء
شرطه ، والطلاق المجرد غير مقصود بل ولا مدلول عليه باللفظ ، لأن الكلام لا يتم
إلا بآخره ، كذا أفاده السيد السند ـ قدسسره ـ في شرح النافع.
والظاهر أنه
على هذا النهج كلام غيره من الأصحاب ، ولم أقف في النصوص على ما يدل عليه ، ولا
يهدي بوجه من الوجوه إليه ، وغاية ما يستفاد منها أنه إذا قالت المرأة تلك الأقوال
الدالة على البغض والكراهة لزوجها حل له أن يخلعها.
نعم في بعضها
ما ربما يشير إلى ما ذكره من سؤالها ذلك. وأما وجوب القبول منها بعد تقدم كلامه
وقوله : خلعتك على كذا وكون ذلك على الفور وإلا بطل ، فلم أقف فيه على نص.
وما ذكرنا من
البغض الذي يشير إلى سؤالها هو ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم في الحسن أو الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المختلعة التي تقول لزوجها : اخلعني وأنا أعطيك
ما أخذت منك ، فقال : لا يحل له أن يأخذ منها شيئا حتى تقول : والله لا أبر لك
قسما ولا أطيع لك أمرا ولآذنن في بيتك بغير إذنك ولأوطئن فراشك غيرك ، فإذا فعلت
ذلك من غير أن يعلمها حل له ما أخذ منها» الحديث.
__________________
وعن أبي الصباح
الكناني عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «إذا خلع الرجل امرأته فهي واحدة بائن وهو خاطب
من الخطاب ، ولا يحل له أن يخلعها حتى تكون هي التي تطلب ذلك منه من غير أن يضربها
، وحتى تقول : لا أبر لك قسما ولا أغتسل لك عن جنابة ولأدخلن بيتك من تكره ولأوطئن
فراشك ولا أقيم حدود الله فيك ، فإذا كان هذا منها فقد طاب له ما أخذ منها».
والرواية
الأولى غير ظاهرة الدلالة ، لأن الظاهر أن الكلام الأول إنما هو من السائل ، وكلام
الامام عليهالسلام خال من ذلك.
نعم الرواية
الثالثة ظاهرة في طلبها ذلك منه ، لكن لا دلالة فيها على أزيد من توقف المنع على
طلبها ذلك مع قولها لتلك الأقوال القبيحة ، ولا دلالة فيها على وقوع الخلع على أثر
هذا القول ، بحيث لا يفصل بينهما بزمان ، بل الظاهر إنما هو خلاف ذلك ، بمعنى أن
صحة الخلع متوقف على طلبها ذلك وقولها تلك الأقوال ، وحينئذ فيحل خلعها سواء كان
في ذلك المجلس أو غيره وفي ذلك اليوم أو بعده ، هذا ظاهر الخبر المذكور.
وكذا ظاهر
الخبر الأول لو فرضنا ذلك الكلام الأول من كلامه عليهالسلام فإنه يرجع إلى هذا الخبر ، ولم أقف على غيرهما مما
يتعلق بهذا الكلام الذي ذكره وظاهر كلامه أنهم بنوا الأمر فيما ذكروه على ما صرحوا
به من أن الخلع من قبيل المعاوضات. إلى آخر ما تقدم ، وهو من التعليلات الاعتبارية
التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.
الثاني : اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في صيغة الخلع إذا وقعت بلفظ الخلع
من الصيغ المتقدمة ونحوها هل يجب اتباعها بلفظ الطلاق ، أم تكفي وحدها؟ قولان.
__________________
وإلى الثاني
ذهب المرتضى ـ رضياللهعنه ـ في المسائل الناصرية فقال : إن الخلع إذا تجرد عن لفظ
الطلاق بانت به المرأة وجرى مجرى الطلاق ، ونحوه قال ابن الجنيد ، حيث صرح بأنه
ليس عليه أن يقول : قد طلقتك إذا قال : قد خالعتك. وإلى هذا القول مال العلامة في
المختلف والتحرير والشهيد في شرح الإرشاد ، ونقله في المختلف عن ظاهر الشيخ المفيد
والصدوق وابن أبي عقيل وسلار وابن حمزة ، واعتمده السيد السند في شرح النافع وقبله
جده ، والظاهر أنه المشهور ، وإلى الأول ذهب الشيخ في كتابي الأخبار ، وتبعه ابن
البراج في المهذب وابن إدريس ، وهو الظاهر من كلام أبي الصلاح ، واختاره الشهيد في
اللمعة.
وظاهر المحقق
في كتابيه التوقف في المسألة ، حيث إنه قال في الشرائع وهل تقع مجردة؟ المروي نعم ،
وقال الشيخ : لا تقع حتى تتبع بالطلاق. ونحوه في المختصر حيث قال : وهل يقع بمجرده
، قال علم الهدى : نعم ، وقال الشيخ : لا ، حتى يتبع بالطلاق ، انتهى.
وأنت خبير بأن
اقتصاره على مجرد نقل القولين كما في المختصر أو نسبة أحدهما إلى الرواية كما في
الشرائع ظاهر فيما قلناه.
والأصل في هذا
الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة عنهم عليهمالسلام في هذا المقام فالواجب أولا نقل ما وصل إلينا من أخبار
المسألة ، ثم الكلام فيها بما وفق الله سبحانه لفهمه منها ببركة أهل الذكر عليهم
الصلاة والسلام.
فمن الأخبار
الدالة على القول الثاني ما رواه الصدوق في الصحيح عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة المختلعة عدة المطلقة ، وخلعها طلاقها ، وهي
تجزي من غير أن يسمى طلاقا». .
__________________
وما رواه الشيخ
عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «لا يكون الخلع حتى تقول : لا أطبع لك أمرا ولا أبر لك قسما ولا أقيم
لك حدا فخذ مني وطلقني فإذا قالت ذلك فقد حل له أن يخلعها بما تراضيا به من قليل
أو كثير ، ولا يكون ذلك إلا عند سلطان ، فإذا فعلت ذلك فهي أملك بنفسها من غير أن
يسمى طلاقا».
وعن سليمان بن
خالد في الصحيح قال : «قلت : أرأيت إن هو طلقها بعد ما خلعها ، أيجوز عليها؟
قال : قال : ولم يطلقها وقد كفاه الخلع؟ ولو كان الأمر إلينا لم نجز طلاقها».
وعن محمد بن
إسماعيل بن بزيع في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن المرأة تباري زوجها أو تختلع منه بشهادة شاهدين على
طهر من غير جماع هل تبين منه بذلك؟ أو هي امرأته ما لم يتبعها بالطلاق؟ فقال :
تبين منه ، وإن شاءت أن يرد إليها ما أخذ منها وتكون امرأته فعلت ، فقلت : إنه قد
روي أنه لا تبين منه حتى يتبعها بطلاق ، قال : ليس ذلك إذا خلعا ، فقلت : تبين منه؟
قال : نعم».
وما رواه في
الكافي عن محمد بن إسماعيل بن بزيع في الصحيح قال : «سألت أبا
الحسن الرضا عليهالسلام عن المرأة تباري زوجها أو تختلع منه بشاهدين على طهر من
غير جماع ، هل تبين منه؟ فقال : أما إذا كان على ما ذكرت فنعم ، قال : قلت : قد روي
لنا أنها من لا تبين منه يتبعها بالطلاق ، قال : فليس تلك إذا خلعا فقلت : تبين
منه؟ قال : نعم».
__________________
وأما ما يدل
على القول الأول فمنها ما رواه في الكافي عن موسى بن بكر عن العبد الصالح عليهالسلام قال : «قال علي عليهالسلام : المختلعة يتبعها بالطلاق ما دامت في العدة».
قيل المراد بالعدة هنا عدة الطهر ، أي لو حاضت بعد الخلع
قبل الطلاق لم يجز بل ينتظر الطهر.
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن موسى بن بكر عن أبي الحسن الأول عليهالسلام قال : «المختلعة يتبعها الطلاق ما دامت في عدتها».
هذا ما حضرني
من أخبار المسألة المذكورة.
قال ثقة
الإسلام في الكافي : حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة عن جعفر بن
سماعة أن جميلا شهد بعض أصحابنا وقد أراد أن يخلع ابنته من بعض أصحابنا ، فقال
جميل : ما تقول؟ رضيت بهذا الذي أخذت وتركتها؟ فقال : نعم ، فقال لهم جميل : قوموا
، فقالوا : يا أبا علي ليس تريد يتبعها بالطلاق؟ فقال : لا ، قال : وكان جعفر بن
سماعة يقول : يتبعها الطلاق ما دامت في العدة ، ويحتج برواية موسى بن بكر عن العبد
الصالح. نقل الرواية كما قدمناه.
وقال الشيخ في
التهذيبين : الذي أعتمده في هذا الباب وافتي به أن المختلعة لا بد
فيها من أن تتبع بالطلاق ، وهو مذهب جعفر بن سماعة والحسن بن سماعة وعلي
__________________
ابن رباط وابن حذيفة من المتقدمين ، ومذهب علي بن الحسين من المتأخرين ـ إلى أن قال : ـ واستدل من ذهب إليه من أصحابنا
المتقدمين بقول أبي عبد الله عليهالسلام : لو كان الأمر إلينا لم نجز إلا طلاق السنة.
واستدل الحسن
بن سماعة وغيره بأن قالوا : أنه قد تقرر أنه لا يقع الطلاق بشرط ، والخلع من شرطه
، وأن يقول الرجل : إن رجعت فيما بذلت فأنا أملك ببضعك ، وهذا شرط ، فينبغي أن لا
يقع به فرقة.
واستدل أيضا ابن
سماعة بما رواه عن الحسن بن أيوب عن ابن بكير عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقية ، وما
سمعت منى لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه».
ثم حمل ما خالف
ذلك مما يدل على أنه لا يحتاج إلى أن يتبع بطلاق على التقية لموافقتها لمذاهب
العامة.
قال السيد
السند ـ قدسسره ـ في شرح النافع بعد أن نقل عن الشيخ العمل برواية موسى
بن بكر المتقدمة ، وأنه أجاب عن الأخبار المتقدمة بالحمل على التقية لأنها موافقة
لمذهب العامة ما لفظه : وهذا الحمل إنما يتم مع تعارض الروايات وتكافئها من حيث
السند ، والأمر هنا ليس كذلك ، فإن الأخبار المتقدمة مع صحتها وسلامة أسانيدها
مستفيضة جدا ، وما احتج به الشيخ رواية واحدة ورواها موسى بن بكر ، وهو واقفي غير
موثق ، فكيف يعمل بروايته ويتركها الأخبار الصحيحة الدالة على خلافه؟
__________________
ما هذا إلا عجب
من الشيخ ، ومع ذلك فهذه الرواية متروكة الظاهر لتضمنها أن
المختلعة يتبعها بالطلاق ما دامت في العدة ، والشيخ لا يقول بذلك ، بل يعتبر وقوع
الطلاق بعد تلك الصيغة بغير فصل ، فما تدل عليه الرواية لا يقول به ، وما يقول به
لا تدل عليه الرواية ، انتهى.
أقول : أما ما
اعترض به من الوجه الأول فهو غير موجه كما أسلفنا لك تحقيقه في غير موضع مما تقدم
من الشيخ وأمثاله من المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم ، وأن جميع
الأخبار المروية في الأصول المعتمدة كلها صحيحة إلا ما استثني مما نبهوا عليه ،
وصحة الأخبار عندهم ليست بالأسانيد كما عليه اصطلاح المتأخرين ، وإنما هو بالمتون
، وما دلت عليه الأخبار بموافقته للكتاب والسنة وروايته في الأصول المعتمدة ونحو
ذلك ، ولا ريب أنه على هذا التقدير من الحكم بصحة جميع هذه الروايات ، فإنه مع
اختلافها يجب الجمع بينها ، ومن القواعد المقررة عن أصحاب العصمة عليهمالسلام وإن ألغوها وضربوا عنها صحفا في جميع المواضع عرض
الأخبار عند الاختلاف على مذهب العامة ، والأخذ بخلافه ، وقد استفاضت بذلك الأخبار
، ويؤكدها الحديث المنقول هنا في كلام الشيخ ، وهو خبر عبيد ابن زرارة ، وتلك
الأخبار الكثيرة الموافقة لمذهب العامة ، وحينئذ فيجب حملها على التقية ، عملا
بالقاعدة المذكورة ، وكثرتها وصحة أسانيدها لا ينافي حملها على التقية إن لم يؤكد.
وبالجملة فإن
كلام هذا الفاضل إنما يتمشى ويتم بناء على هذا الاصطلاح المحدث الذي بنوا عليه ،
وأما على مذهب المتقدمين فلا ، كما هو ظاهر لكل ناظر ، وبذلك يظهر لك أن تعجبه من
الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ مقلوب عليه.
نعم ما ذكره من
الوجه الثاني متجه ، إلا أن الظاهر من كلام صاحب
__________________
الكافي ونقله ذلك أيضا عن جعفر بن سماعة أن الطلاق الذي يوجبونه بعد الخلع
لا يشترطون فيه ما ذكره الشيخ وأتباعه من إلحاقه بالصيغة ، بل يكتفي بوقوعه في
العدة أي وقت كان ، وهذا إشكال آخر في المسألة أيضا ، وظاهر كلام الشيخين
المتقدمين أن هذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأخبار كان موجودا بين أصحاب الأئمة
عليهمالسلام ، وأن بعضهم مثل جميل كان يقول بعدم وجوبه. والاكتفاء
بمجرد صيغة الخلع ، وتلك الجماعة الذين ذكرهم الشيخ يقولون بوجوب ذلك.
وبالجملة
فالظاهر أنه إن ثبت أن مذهب العامة الاقتصار على صيغة الخلع كما ادعاه الشيخ وابن
سماعة فحمل تلك الأخبار على التقية غير بعيد ، إلا أن الظاهر من صحيحة سليمان بن
خالد المتقدمة إنما هو العكس ، فإنه عليهالسلام بعد أن أفتى بالاكتفاء بمجرد الخلع وأنه لا ضرورة إلى
الأتباع بالطلاق قال «ولو كان الأمر إلينا لم نجز طلاقها». فإنه ظاهر كما ترى في
أن الاتباع بالطلاق إنما أجازوه تقية ، ولو كان الأمر رجع إليهم لم يجيزوا الطلاق
هنا ، بل اكتفوا بالخلع ، وكيف كان فالمسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال ،
وللتوقف فيها مجال ، والله العالم بحقيقة الحال.
ثم إنه لا يخفى
أن ما اشتملت عليه حديث جميل المتقدمة نقله عن الكافي من الاكتفاء في وقوع الخلع
بالسؤال من الزوج بقوله «رضيت بهذا الذي أخذت وتركتها؟ فقال : نعم» أظهر ظاهر في
دفع ما ذكره أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في هذا المقام من الشروط في الصيغة ،
ووجوب سؤال المرأة أولا الخلع أو قبولها بعده ، ونحو ذلك ، وأن دائرة الأمر في هذا
العقد وغيره أوسع من ذلك مضافا إلى إطلاق الأخبار الواردة في المسألة حيث لا إشعار
في شيء منها بما
__________________
ذكروه.
وبذلك يظهر لك
ما في قولهم إن حقيقة الخلع هو قول الزوج ذلك مع سؤال المرأة أو قبولها ، لأن
السبب لا يتم إلا بهما فيكون مركبا منهما.
قالوا : ويمكن
أن يكون سؤالها شرطا في صحته ، فإن فيه أن غاية ما يفهم من أخبار المسألة أنه لا
بد من تحقق ذلك من المرأة ، وأما أنه يجب حال الصيغة وقول الزوج خلعتك على كذا
مقدما أو مؤخرا بحيث تكون الصيغة الموجبة للخلع مركبة منهما أو أنه شرط في الصحة
فلا دليل عليه بوجه كما أسلفنا ذكره في الموضع الأول.
الثالث : أنه على تقدير الاجتزاء بلفظ الخلع من غير اتباع له بالطلاق هل يكون ذلك
فسخا أو طلاقا؟ المرتضى ـ رحمة الله عليه ـ والأكثر على الثاني ، والشيخ على
الأول.
والأظهر ما ذهب
إليه الأكثر للنصوص الصريحة فيه كقوله عليهالسلام
في صحيحة
الحلبي المتقدمة «وخلعها طلاقها». وقول أبي عبد الله عليهالسلام في صحيحة الحلبي أو.
__________________
حسنته «فإذا قالت المرأة ذلك لزوجها حل له ما أخذ منها ، وكانت عنده على تطليقتين
باقيتين ، وكان الخلع تطليقة». وقوله عليهالسلام في صحيحة محمد بن مسلم أو حسنته «فإذا فعلت ذلك من غير أن يعلمها حل له ما أخذ منها وكانت تطليقة بغير طلاق
يتبعها ، وكانت بائنا بذلك» الخبر.
وفي خبر أبي
الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام «إذا خلع الرجل امرأته فهي واحدة بائن ، وهو خاطب من الخطاب».
وفي رواية أبي
بصير عنه عليهالسلام «فإذا قالت المرأة لزوجها ذلك حل خلعها وحل لزوجها ما أخذ منها ، وكانت
عنده على تطليقتين باقيتين ، وكان الخلع تطليقة». إلى غير ذلك من الأخبار ، وهي
كما ترى صريحة في المراد عارية عن وصمة الإيراد.
احتج في
المختلف للشيخ وأتباعه بأنها فرقة عريت عن صريح الطلاق ونيته فكانت فسخا كسائر
الفسوخ ، ثم أجاب عنه بأن لا استبعاد في مساواته للطلاق ، وقد دل الحديث عليه فيجب
المصير إليه ، انتهى.
وبالجملة فإنه
لا ريب في ضعف القول المذكور بعد ما عرفت من تكاثر الأخبار بالقول الآخر ، ويتفرع
على القولين عد الخلع في الطلقات المحرمة وعدمه ، فعلى القول بأنه فسخ لا يعد منها
أو يجوز تجديد النكاح والخلع من غير حصر ولا احتياج إلى محلل في الثلاث ، وعلى
القول بأنه طلاق تترتب عليه أحكام الطلاق ، وهذا هو المستفاد من الأخبار المتقدمة
الدالة على كونها عنده بعد الخلع على تطليقتين باقيتين ، وأن الخلع تطليقة.
__________________
الرابع : اعلم
أنه قد تكرر في كلام الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ ذكر طلاق الفدية والطلاق بعوض ،
وأنه تقع به البينونة كما تقع بالخلع ، ولم أقف في الأخبار على أثر لهذا الفرد ،
والموجود فيها إنما هو الخلع والمبارأة.
إلا أن ظاهر
الأصحاب من غير خلاف يعرف إلا من شيخنا الشهيد الثاني أنه هذا الفرد الذي ذكروه لا
يخرج عن الخلع أو المبارأة ، فهو أمر كلي شامل لكل منهما ، فهو أعم من كل منهما ،
وليس بخارج عنهما ، بل هو منحصر فيهما لا وجود له في مادة غيرهما لاشتراطه بالكراهة
المشترطة فيهما ، فإن كانت من الزوجة خاصة فهو خلع ، وإن كانت منهما معا فهو
مباراة ، ولما كان أعم من كل منهما فهو لا ينصرف إلى واحد منهما إلا بالنية والقصد
واجتماع شرائط ذلك المقصود ، فحيث يطلق فإن قصد به الخلع واجتمعت شرائطه وقع خلعا
، وإن قصد به المبارأة واجتمعت شرائطها وقع مباراة ، ومع الإطلاق يقع البينونة به
ويجوز انصرافه إلى ما اجتمع شرائطه منهما ، ولو انتفت شروط كل منهما كما لو انتفت
الكراهة بالكلية فهل يقع باطلا من أصله أو صحيحا رجعيا؟ قولان ، يأتي الكلام فيهما
إن شاء الله تعالى.
ولم نقف على
خلاف لما ذكرناه في كلام الأصحاب إلا لشيخنا المتقدم ذكره ، فإنه ذهب إلى أن
الطلاق بعوض ـ وهو طلاق الفدية ـ خارج عن الخلع والمبارأة لاشتراطهما بالكراهة
وعدم اشتراطه بها ، فعنده تحصل البينونة وإن لم يكن ثمة كراهة. ولم يسبق إليه غيره
سابق ولا لحقه فيه لاحق من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وادعى دلالة الأخبار عليه
، مع أنها في الدلالة على خلافه أوضح ، ويأتي على قوله المذكور أن الطلاق بعوض من
غير كراهة بالكلية تقع به البينونة وقد صرح بما ذكرناه عنه في غير موضع من شرحه
المسالك.
وفي شرح اللمعة
قال ـ قدسسره ـ في شرح قول المصنف في الشرائع «ويقع الطلاق من الفدية
بائنا وإن انفرد عن لفظة الخلع» ما صورته : إذا وقع
الطلاق مع الفدية به سواء كان بلفظ الخلع وقلنا إنه طلاق أن أتبع به أو
بلفظ الطلاق وجعله بعوض فإنه يقع بائنا لا رجعيا للنصوص الدالة عليه ، وقد تقدم
بعضها ـ إلى أن قال : ـ واعلم أنه مع اشتراك الخلع والطلاق بعوض في هذا الحكم
يفترقان بأن الخلع مختص بحال كراهة الزوجة له خاصة كما انفردت المبارأة بكون
الكراهة منهما ، واشتراط كون العوض بقدر ما وصل إليها ، بخلاف الطلاق بالعوض فإنه
لا يشترط فيه شيء من ذلك ، وقال أيضا في شرح قول المصنف في الشرائع «فلو خالعها
والأخلاق ملتئمة لم يصح الخلع ولا يملك الفدية به. ولو طلقها والحال هذه بعوض لم
يملك العوض وصح الطلاق وله الرجعة» ما لفظه : أما بطلان الخلع فلما تقدم من اشتراط
صحته بكراهتها له ، فبدون الكراهة يقع باطلا لفقد شرطه. وأما الطلاق بعوض فمقتضى
كلام المصنف والجماعة كونه كذلك لاشتراكهما في المعنى ـ إلى أن قال : ـ وهذا إن
كان إجماعا فهو الحجة ، وإلا فلا يخلو من إشكال ، لأن النصوص إنما دلت على توقف
الخلع على الكراهة ، فظاهر حال الطلاق بعوض أنه مغاير له وإن شاركه في بعض الأحكام
، انتهى.
وقال في مبحث
المبارأة في شرح قول المصنف «ولو اقتصر على قوله أنت طالق بكذا صح وكان مباراة ،
إذ هي عبارة عن الطلاق بعوض مع منافاة بين الزوجين» فقال ـ قدسسره ـ بعد كلام في المقام : وظاهر كلامهم انحصاره يعني
الطلاق بعوض فيهما يعني الخلع والمبارأة ، واعتبار مراعاة الحال فيه ، وعندي فيه
نظر ، وقد تقدم الكلام على مثله في الخلع ، ولو قيل بصحته مطلقا حيث لا يقصد به
أحدهما كان وجها لعموم الأدلة على جواز الطلاق مطلقا وعدم وجود ما ينافي ذلك في
خصوص البائن ، انتهى.
وقال في الروضة
: ولو أتى بالطلاق مع العوض فقال أنت طالق على كذا مع سؤالها أو قبولها بعده كذلك
أغنى عن لفظ الخلع وأفاد فائدته ولم يفتقر إلى ما يفتقر إليه الخلع من كراهتها له
خاصة ، لأنه طلاق بعوض لا خلع ، انتهى.
أقول ـ وبالله
تعالى التفهم لنيل كل مقصود ومأمول ـ : إن ما ذكره ـ قدسسره ـ في هذا المقام منظور فيه من وجوه :
الأول : قوله عزوجل «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما
حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ».
والتقريب في
الآية المذكورة أنها صريحة الدلالة واضحة المقالة في عدم حل أخذه الفدية من المرأة
إلا مع خوف عدم إقامة حدود الله سبحانه ، بأن يظهر لزوجها ما يدل على البغض
والكراهة والنفرة منه ، وأنه إن لم يطلقها ارتكبت في حقه تلك الأفعال المحرمة كما
سيأتي ذكرها في الأخبار الآتية إن شاء الله تعالى ، وقضية ذلك أنه لا يجوز للزوج
أخذ الفدية في الطلاق بعوض كالخلع إلا مع الكراهة ، ومع عدمها فلا يحل شيء من ذلك
، ولا يقع الطلاق بائنا كما سيأتي التصريح به في النصوص أيضا.
ولو قيل بأن
الآية مفسرة في الأخبار بالخلع وأنه السبب في نزولها فلا تتناول الطلاق بعوض.
قلنا : قد عرفت
فيما تقدم أن الرواية الدالة على سبب النزول إنما هي من طريق العامة ، فلا تقوم
حجة ، ومع تسليم ورودها من طرقنا لا تدل على الاختصاص إذ العبرة بعموم اللفظ ، وإن
كان الخلع أحد من أفرادها ، ولا ريب في دخول المبارأة تحت الآية المذكورة ، بل
ظهور الآية فيها أقوى لما تضمنه من إسناد عدم إقامة الحدود إليهما معا ، وذلك إنما
هو من شروط المبارأة ، ومن ثم حملها المحقق الأردبيلي في آيات الأحكام على
المبارأة خاصة ، وهو وإن كان له وجه إلا أن كلام جملة المفسرين وتؤيده الأخبار على
العدم.
وبالجملة
فالنظر في الآية إلى عموم اللفظ ، والاستدلال إنما وقع من هذه
__________________
الجهة وهي مما لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه ، والتخصيص يحتاج إلى دليل وليس
فليس.
الثاني :
الأخبار الدالة على أنه لا يحل للزوج أن يأخذ من الزوجة شيئا إلا أن تتعدى عليه
بذلك الكلام القبيح الدال على كراهتها له ، وأنها لا تبين منه إلا إذا كان أخذ
الفدية على هذا الوجه.
ومنها صحيحة
محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إذا قالت المرأة لزوجها جملة «لا أطيع لك أمرا»
مفسرة أو غير مفسرة حل له ما أخذ منها ، وليس له عليها رجعة». دلت الرواية بمفهوم
الشرط الذي هو حجة عند المحققين ، وعليه دلت الأخبار على أنه مع عدم القول المذكور
الدال على الكراهة لا يحل له أخذ شيء منها ، وله الرجعة عليها ، وهو المطلوب.
الثالث : عدم
الدليل على ما ذكره ، وهو دليل العدم كما تقرر في كلامهم لأن الأصل في الطلاق أن
يكون رجعيا إلا ما قام الدليل فيه على البينونة به ، ولا دليل هنا على ثبوت
البينونة بهذا الطلاق المجرد عن الكراهة وإن بذلت له مالا بل إما أن يقع باطلا من
أصله كما هو أحد القولين أو رجعيا كما هو القول الآخر ، والأخبار الدالة على
البينونة في هذا المقام منحصرة في الخلع والمبارأة ولم يصرح في شيء منها بطلاق
الفدية ولا طلاق العوض الذي هو محل البحث كما توهمه من دلالة الأخبار على هذا
الفرد ، فإنه لا وجود لهذه التسمية في الأخبار بالكلية.
نعم لما كان
المعتبر في الخلع والمبارأة بعد اجتماع شرائط كل منهما ما يدل من الألفاظ على
المعنى الذي يدل عليه أحد ذينك اللفظين من غير اختصاص بهما جوزنا لفظ الطلاق في كل
منهما ، فكما يقع الخلع بقوله خلعتك على كذا كذلك بقوله طلقتك على كذا ، وهكذا في
المبارأة ، وقد مر إلى ذلك الإشارة بما
__________________
قدمناه من أن طلاق الفدية أعم من كل منهما لا أنه فرد برأسه خارج عنهما كما
توهمه ـ قدسسره.
الرابع :
عبارات الأصحاب في هذا الباب ، فإنها متفقة النظام واضحة الانسجام على تخصيص
البينونة وحل الفدية بالكراهة ، وأنه مع عدمها فلا تحل الفدية
ولا تبين منه.
ومنها عبارة
المحقق في الشرائع المتقدمة قريبا ، ونحوها عبارة العلامة في القواعد حيث قال :
ولو خالعها والأخلاق ملتئمة لم يصح الخلع ولم يملك الفدية ولو طلقها حينئذ بعوض لم
يملكه ، ووقع رجعيا. ونحوه في التحرير والإرشاد والتلخيص.
وقال في كتاب
نهج الحق وكشف الصدق : ذهبت الإمامية إلى أنه إذا كانت الأخلاق ملتئمة بين الزوجين
والحال عامرة ، فبذلت له شيئا على طلاقها لم يحل له أخذه ، وخالف أبو حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد ، وقد خالفوا قول الله تعالى «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما
حُدُودَ اللهِ» وقد قال تعالى «فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ»
انتهى.
وقد صرح ابن
إدريس في تفسيره المنتخب من تفسير الشيخ ـ طاب ثراهما ـ بعدم جواز أخذ الفدية بدون
خوف عدم إقامة الحدود مطلقا.
وقال في كتاب
الحاوي : واعلم أن المدار في جواز الفراق بالفدية على كراهة الزوجة منفردة أو
مجامعة ، فإن انفردت بها جازت الزيادة على المهر ، وصح ـ على قول ـ تجرد صيغة
الخلع عن الطلاق ، وسمي خلعا وإن يتلفظ به ،
__________________
وإن كانت من الزوجين لم يجز الزيادة وتعينت صيغة المبارأة ، وسمي مباراة
وإن لم يتلفظ بها أو طلق بزائد على المهر وقعت البينونة ولم تلزم الزيادة ، فإن
انفرد بها الزوج أو كانت الأخلاق ملتئمة حرمت الفدية وكان الطلاق رجعيا ، انتهى.
وقال الشيخ
جمال الدين الشيخ أحمد بن عبد الله بن المتوج البحراني ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب آيات أحكام القرآن : وأما الطلاق بفدية وهو
أن تقول الزوجة للزوج : طلقني على كذا ، فيقول هو على الفور : فلانة على كذا طالق
، وهذا إن وقع في حال الكراهة منها فلفظة لفظ طلاق الفدية ومعناه خلع يحل له أخذ
ما بذلته من غير حد ، وإن وقع في حال يكون الكراهة منهما فلفظة لفظ طلاق الفدية
معناه المبارأة ، فلا يحل له أن يتجاوز في الفدية قدر ما وصل إليها ، انتهى. وهذه
العبارة كما ترى صريحة فيما قدمناه من أن طلاق الفدية لا تخرج عن الخلع والمبارأة
بل هو أعم من كل منهما ، ولا وجود له في غيرهما.
وقال الشهيد في
شرح اللمعة : ولا يصلح إلا مع كراهتها ، ولو لم تكره بطل البذل ووقع الطلاق رجعيا
، انتهى.
وبالجملة فإن
كل من تعرض للمسألة فإنه لم يذكره إلا على هذا الوجه الذي ذكرناه.
الخامس : اتفاق
الأصحاب ظاهرا على أن الطلاق بعوض تتعلق به أحكام الخلع ، وقد اعترف ـ قدسسره ـ بذلك فيما قدمناه من عبارته المذكورة في مبحث
المبارأة من قوله «وظاهر كلامهم انحصاره يعني الطلاق بعوض فيهما يعني الخلع
والمبارأة ، واعتبار مراعاة الحال فيه».
وحينئذ فإما أن
يكون لدليل أو نص يدل على مساواة الطلاق بعوض الخلع في جميع أحكامه ولكونه فردا من
أفراده مندرجا إعداده ، فيكون خلعا بعينه ،
__________________
والأول منتف ، فإنا بعد التتبع التام للأخبار لم نقف فيها على الطلاق بعوض
وطلاق الفدية والتسمية بهذا الاسم بالكلية فضلا عن الدلالة على أن حكمه حكم الخلع
أو أنه أمر خارج عنه مشارك له ، وإنما وقعت هذه التسمية في كلام الأصحاب خاصة ،
وحينئذ فيتعين الثاني ، ووقوع هذه التسمية من الأصحاب وقعت تفريعا على أنه لا
يتعين في الخلع الاقتصار على هذه المادة ، بل كلما أفاد مفادها من لفظ الطلاق
وغيره يقع الخلع به بعد استجماع شرائطه كما تقدم تحقيقه.
السادس : تصريح
جملة من الأصحاب بعد طلاق الفدية من الخلع كالشيخ في المبسوط ، حيث قسم الخلع إلى
واقع بصريح الطلاق وإلى واقع بغيره ، وجعل الأول طلاقا وخلعا ، وجعل الخلاف في
الثاني هل هو طلاق أم فسخ؟ قال : وأما إذا كان الخلع بصريح الطلاق كان طلاقا بلا
خلاف.
وقال العلامة
في الإرشاد : والصيغة وهي : خلعتك على كذا وأنت أو فلانة مختلعة على كذا وأنت طالق
على كذا ، ونحوه في القواعد والتحرير.
وقال سبطه
السيد السند في شرح النافع : إن الطلاق بعوض من أقسام الخلع كما صرح به المتقدمون
والمتأخرون من الأصحاب ـ ثم قال ولنعم ما قال : ـ وما ذكره جدي في الروضة والمسالك
من أن الطلاق بعوض لا يعتبر فيه كراهة الزوجة بخلاف الخلع ـ غير جيد لأنه مخالف
لمقتضى الأدلة وفتوى الأصحاب ، فإنا لا نعلم له في ذلك موافقا ، انتهى.
السابع : ما
ذكره في المسالك في شرح قول المصنف «ويقع الطلاق مع الفدية بائنا. إلخ» من قوله «فإنه
يقع بائنا لا رجعيا للنصوص الدالة عليه». فإن فيه أنه إن أراد بالنصوص هي نصوص
الخلع كما يشير إليه قوله «وقد تقدم بعضها» فهو جيد ، ولا دلالة فيه على ما يدعيه
، فإن دخول الطلاق بالفدية تحت الخلع وإجزاء أحكام الخلع عليه مع استجماع شرائطه
إنما هو لكونه خلعا لا لكونه طلاقا بالفدية ، فإنا لا نشترط في الخلع الإتيان بهذه
الصيغة بخصوصها بل كلما
جرى مجراها ، ومن جملته لفظ الطلاق.
وإن أراد
بالنصوص المذكورة ما صرح به في بحث المبارأة من قوله «لعموم الأدلة على جواز
الطلاق مطلقا» فهو محل بحث ونظر ، إذ لا يخفى على الحاذق اللبيب والموفق المصيب أن
غاية ما تدل عليه أخبار الطلاق هو جوازه وصحته في الجملة.
وأما أنه
كالخلع والمبارأة في كونه بائنا ويملك الزوج فيه الفدية فلا دلالة لها بوجه إن لم
تكن بالدلالة على خلافه أنسب وإلى ما ذكرناه أقرب ، لأن الطلاق من حيث هو لا يقتضي
البينونة بمجرده ، بل مقتضاه هو جواز الرجوع ما لم تخرج من العدة ، لامتداد حكم
الزوجية وبقائه إلى ذلك الوقت ، والبينونة ونحوها إنما عرض له بأسباب زائدة على
مجرد الطلاق.
وبالجملة فإن
كلامه ـ قدسسره ـ في هذا المقام من أفحش الأوهام ، والعجب من جملة ممن
عاصرناهم من علماء العراق حيث اعترفوا بما ذكره ـ قدسسره ـ في هذه المسألة فجروا على منواله وحكموا بصحة أقواله
، وطلقوا النساء وأبانوهن من أزواجهن ، وحللوا الفدية من غير كراهة في البين ،
والله الهادي لمن يشاء.
بقي الكلام في
أنه لو خلا ـ الطلاق بعوض ـ عن الكراهة ، فعلى المشهور من عدم حصول البينونة به
كما ادعاه شيخنا المتقدم ذكره ، فهل يكون صحيحا رجعيا أو باطلا من أصله؟ قولان ،
الظاهر أن المشهور الأول ، وبه صرح جملة ممن قدمنا كلامه كالمحقق والعلامة في جملة
من كتبه ، والشيخ منتجب الدين في كتاب الحاوي.
وبالثاني صرح
السيد السند في شرح النافع وعلله بأن الطلاق الرجعي غير مقصود ولا مدلول عليه
باللفظ ، إنما المقصود من لفظ الطلاق البائن ، لأن الكلام إنما يتم بآخره ، والغرض
إنما تعلق بذلك الطلاق الخاص ، ولم يتم ، فلا يتجه
صحة طلاق آخر. وبالجملة فما وقع غير مقصود ، وما قصد غير صحيح ولا واقع
والعقود بالقصود. وتبعه في هذا القول جملة ممن تأخر عنه ، منهم صاحب الكفاية
وشيخنا الشيخ سليمان البحراني وتلميذه الوالد ـ قدس الله روحهما.
والمسألة عندي
موضع توقف وإشكال لعدم النص الذي به يتضح الحال ، وما احتج به السيد المذكور من
الدليل ، وتبعه عليه هؤلاء الأجلاء ، فهو وإن كان مما يتسارع إلى الفهم قبوله ،
إلا أنك قد عرفت في غير موضع مما تقدم ما في بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه
التعليلات العقلية ، ولا سيما وقد ورد في جملة من النصوص ما يهدم هذه القاعدة ،
ويزلزل ما يترتب عليها من الفائدة ، فإن السيد ـ قدسسره ـ وجده قبله وتبعهما جماعة ممن تأخر عنهما قد صرحوا بأن
العقد المشتمل على شرط فاسد باطل من أصله ، وعللوه بهذا التعليل من أن أصل العقد
العاري عن الشرط غير مقصود ، والقصد إنما توجه للمجموع ، وهو غير صحيح ، فما كان
مقصودا غير صحيح ، وما كان صحيحا غير مقصود ، والعقود بالقصود فيلزم بطلان العقد
مع أنا رأينا جملة من النصوص الصحيحة الصريحة قد صرحت بصحة العقد وبطلان الشرط ،
فكيف يمكن اتخاذ ما ذكروه قاعدة كلية والحال كما ترى ، والله العالم.
تذنيب
هل يجب في
الكراهة المشترطة في صحة الخلع أن تكون ذاتية؟ أم يصح وإن كانت عارضية؟ المفهوم من
كلام الأصحاب كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى الثاني ، والمستفاد من كلام من
عاصرناه من مشايخنا في بلاد البحرين هو الأول ، وقد حظرناه في غير موضع ، وقد
كانوا لا يوقعون الخلع إلا بعد تحقيق الحال ومزيد الفحص والسؤال في ثبوت الكراهة
الذاتية وعدم الكراهة العارضية ، والسعي في قطع الأسباب الموجبة لكراهة التي
تدعيها المرأة ليعلم كونها ذاتية غير عارضية
فإذا تحققوا ذلك وعلموا أنه لا يمكن رفعها بوجه من الوجوه أوقعوا الخلع بها
، ومن الظاهر أنهم إنما أخذوا ذلك من مشايخهم وأساتيدهم لحضورهم مجالسهم وحلق
درسهم وسماعهم ذلك منهم مدة ملازمتهم لهم وتلمذهم عليهم.
والذي وقفت
عليه بعد الفحص والتتبع لكلام الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ خلاف ذلك ، فإن كلامهم
ظاهر في كونها أعم من العارضية والذاتية ، ولكنهم لم يصرحوا بذلك في باب وإن أشار
إليه بعضهم إشارة ، إلا أنهم أوضحوا ذلك في باب الشقاق بين الزوجين في تحقيق معنى
الإكراه على الفدية. وها أنا أسوق لك ما حضرني من عبائرهم وكلامهم في هذا المقام
ليظهر لك صحة المناقضة لما نقلناه عن أولئك الأعلام.
قال المحقق ـ رحمهالله ـ في كتابه الشرائع : ولو منعها شيئا من حقوقها أو
أغارها فبذلت له بدلا لخلعها صح ، وليس ذلك إكراها.
قال شيخنا في
المسالك ـ بعد نقل هذه العبارة ـ ما لفظه : المراد بالحق الذي منعها إياه فبذلت له
الفدية لأجله الحق الواجب لها من القسمة والنفقة ونحوهما ، وإنما لم يكن ذلك
إكراها وإن كان محرما لأنه أمر منفك عن طلب الخلع ولا يستلزمه ، بل قد يجامع إرادة
المقام معها ، وإنما الباعث على تركه حقها ضعف دينه وحرصه وميله إلى غيرها ونحو
ذلك مما لا يستلزم إرادة فراقها ولا يدل عليه بوجه ، ونبه بقوله «أغارها» أي تزوج
عليها ، على أنه لا فرق في ذلك بين ترك الحقوق الواجبة وغيرها ، لأن إغارتها غير
محرمة ، وترك شيء من حقوقها الواجبة محرم ، وكلاهما لا يقتضيان الإكراه.
أما غير الحق
الواجب كالتزويج عليها وترك بعض المستحبات كالجماع في غير الوقت الواجب والتسوية
بينها وبين ضراتها في الإنفاق ونحوه فظاهر ، حتى لو قصد بذلك فراقها لتفتدي لنفسها
لم يكن إكراها عليه لأن ذلك أمر سائغ. واقترانه بإرادة فراقها لا يقتضي الإكراه.
وأما تركه الحق
الواجب فلما ذكرناه من أنه بمجرده لا يدل على الإكراه بوجه ، وكذا لو قصد بترك
حقها ذلك ولم يظهره لها ، أما لو أظهر لها أن تركه لأجل البذل كان ذلك إكراها ،
وأظهر منه ما لو أكرهها على نفس البذل.
وما ذكره
المصنف قول الشيخ في المبسوط : ووافقها عليه العلامة في الإرشاد ، وفي التحرير نسب
القول إلى الشيخ ساكتا عليه مؤذنا بتردده فيه أو ضعفه ، وفي القواعد قيد حقوقها
بالمستحبة ، ومفهومه أنه لو منع الواجبة كان إكراها ـ وهذا القول نقله الشيخ في
المبسوط أولا عن بعض العامة ، ثم قال : ـ الذي يقتضيه مذهبنا أنه ليس بإكراه وهو
المعتمد. انتهى كلام شيخنا المذكور وهو كما ترى مع كلام المصنف صريح الدلالة في
أنه يكفي في صحة الخلع الكراهة الحاصلة من مضارة الزوج بمنع النفقة أو القسمة أو
حصول التزويج عليها أو نحو ذلك من موجبات النفور والكراهة العارضة.
وظاهره في
المسالك أنه لا نزاع ولا خلاف في صحة الخلع في هذا المقام وإنما الإشكال من جهة أن
ذلك يستلزم الإكراه على الفدية أم لا؟ والذي اختاره ـ قدسسره ـ واعتمده أنه ما لم يظهر أن ترك الحقوق لأجل الفدية
فليس ذلك إكراها ، وحينئذ فيصح الخلع كما هو صريح عبارة المصنف.
وقال أيضا في
المسالك ـ في باب الخلع عند قول المصنف «ولو أكرهها على الفدية فعل حراما» ـ ما
صورته : ولا يتحقق الإكراه بتفسيره في حقوقها الواجبة لها من القسم والنفقة ،
فافتدت منه لذلك على الأقوى ، إلا أن يظهر أن ذلك طلبا لبذلها ، فيكون إكراها لصدق
تعريفه عليه. ثم أحال ذلك على ما تقدم في باب الشقاق ، وهو ما قدمنا نقله عنه ،
وأشار بقوله «على الأقوى» إلى الرد على ما يفهم من ظاهر عبارة القواعد ، وهو الذي
نقله الشيخ في المبسوط عن بعض العامة.
وقال في شرح
اللمعة في بحث النشوز : وليس له منع بعض حقوقها لتبذل له مالا ليخلعها ، فإن فعل
فبذلت أثم وصح قبوله ، ولم يكن إكراها.
وقال العلامة
في التحرير : ولو منعها بعض حقوقها أو أغارها فبذلت له مالا صح وليس إكراها. قاله
الشيخ.
وقال في
القواعد : ولو منعها شيئا من حقوقها المستحبة أو أغارها فبذلت له مالا للخلع صح ،
ولم يكن إكراها ، ومفهومه كما صرح به في المسالك أنه إذا منع الواجبة كان إكراها
مبطلا للخلع.
وقال الشيخ
أمين الإسلام الطبرسي ـ رحمهالله ـ في كتاب مجمع البيان : والخلع بالفدية على ثلاثة أوجه :
(أحدها) أن
تكون المرأة عجوزا أو ذميمة فيضار بها الزوج لتفتدي نفسها منه ، فهذا لا يحل له
الفداء لقوله تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ
مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً»
الآية.
(الثاني) أن
يرى الرجل امرأته على فاحشة ، فيضار بها لتفتدي فهذا جائز وهو معنى قوله تعالى «وَلا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ».
(الثالث) أن
يخافا ألا يقيما حدود الله ، لسوء خلق أو قلة نفقة من غير ظلم أو نحو ذلك فيجوز
لهما جميعا الفدية على ما مر تفصيله ، انتهى.
والوجه الأول
في كلامه هو الإكراه على الفدية وهو المحرم ، والثاني ما استثني من قاعدة الخلع
وهو جواز الإكراه على الفدية ، والثالث هو موضوع المسألة.
وظاهر قوله «أو
قلة نفقة من غير ظلم» يعطي أنه لو كان قلة النفقة بقصد الإضرار بها والظلم لها كان
الخلع باطلا ، وكان ذلك من قبيل الإكراه على الفدية وهو مطابق لظاهر عبارة القواعد
كما عرفت ، وسوء الخلق المانع من إقامة الحدود كما يحتمل أن يكون من المرأة كذلك
يحتمل أن يكون من الرجل
__________________
بقرينة عطف قلة النفقة عليه ، وهو أظهر ، ومعناه أن الكراهة الحاصلة لها
لسوء خلق الزوج أو لفقد النفقة أو نحو ذلك.
وقال العلامة
في الإرشاد : ولو أغارها أو منعها بعض حقوقها فبذلت مالا للخلع حل وليس بإكراه.
هذا ما حضرني
من عبائر الأصحاب في المقام ، وكلها متفقة النظام على صحة الخلع الناشئ عن الكراهة
العارضة من غير نقل خلاف ولا توقف من أحد في المسألة وهو مؤذن بالاتفاق على الحكم
المذكور ، وكونه مسلما بينهم غير منكور.
وأما الآية
الواردة في الخلع وهي قوله «فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ»
وكذا الأخبار الواردة في الباب ، فغاية ما يستفاد منها أنه لا بد من بلوغ
الكراهة إلى حد يخاف فيه عدم إقامة حدود الله تعالى في حقه بأن تسمعه تلك الألفاظ
المذكورة في الأخبار ، وهذا لا يترتب على الكراهة الذاتية بخصوصها كما ربما توهمه
من خص الكراهة بها بل يجوز ترتبه على الكراهة العارضة لبعض الأسباب أو بالنسبة إلى
بعض الأشخاص ، ولا سيما في مقام الإغارة بالتزويج ، فإنه ربما حمل ذلك المرأة على
قتل زوجها فضلا عن أن تقصده بأنواع الأذى كما نقل عن كثير من النساء ، على أنه لم
يشترط أحد فيما أعلم ممن تقدم أو تأخر البلوغ إلى هذا الحد المستفاد من هذه
الأخبار وتوقف الخلع على كلامها بشيء من هذه العبارات كما عرفت من كلامهم الذي
أسلفنا نقله عن جماعة منهم.
وبالجملة فحيث
كان ظاهر كلمة الأصحاب على الاكتفاء بالكراهة العارضة وظواهر الأخبار لا تنافيه إن
لم تكن مؤيدة له لدلالتها بإطلاقها على ذلك ، فالقول بخلاف ذلك قول بغير دليل ،
ومشي على غير سبيل.
__________________
نعم قد تقدم في
الحديث العامي المروي في سبب النزول ما ربما يوهم ذلك إلا أنه لا دلالة فيه على
الاختصاص بذلك الفرد وأنه لا يصح في غيره ، والله سبحانه العالم.
فروع
الأول : قالوا
: لو طلبت منه طلاقا بعوض فخلعها مجردا عن لفظ الطلاق لم يقع على القولين ، ولو
طلبت خلعا بعوض فطلق به لم يلزم البذل على القول بوقوع الخلع بمجرده فسخا ويلزم
على القول بأنه طلاق أو أنه يفتقر إلى الطلاق.
وعلل الأول بأن
لم يأت بما طلبت فلا يستحق ما بذلت لأجله لأنها طلبت الطلاق ، وهو أمر يقع به
البينونة وترفع به الزوجية إجماعا ويقع به نقصان الطلاق فيكون جزء من المحرم ،
بخلاف الخلع لما قد عرفت من الخلاف فيه ، فإنا إذا قلنا إنه فسخ فكونه خلاف ما
طلبته واضح ، وإن جعلناه طلاقا فهو طلاق مختلف فيه ، وما طلبته لا خلاف فيه ، فظهر
أنه خلاف مطلوبها على القولين.
وعلل الثاني
وهو ما لو طلبت منه خلعا بعوض فطلق به ، بأنا إن جعلنا الخلع فسخا فطلق لم يلزم
البذل لأنه لم يأت بما طلبت ويقع الطلاق رجعيا إذ لا مانع من صحته كذلك فإنه غير
مشروط بالعوض ولا بالتماسها أو رضاها ، وإن جعلنا الخلع طلاقا أو مفتقرا إلى
الطلاق وأتبعه به لزم البذل لإتيانه بما التمسته وزيادة كما علم من السابقة.
أقول : حيث إن
ما ذكروه غير منصوص ولا مبرهن عليه بالأدلة الواضحة فللمناقشة فيه مجال واسع ، إذ
لا يخفى على من أعطى التأمل حقه في الأحكام الشرعية الدائرة مدار الأدلة القطعية
أنه لما كان المفهوم من نصوص هذا الباب هو أن مرجع الفراق مع البذل المشترط
بالكراهة إلى وقوع صيغته بلفظ الخلع خاصة أو لفظ الطلاق خاصة أو هما معا ، وأنه مع
الوقوع بأحد هذه الصيغ
يقع بائنا ويملك الزوج الفدية إلى غير ذلك من أحكام الخلع ، وإنما ذهب إليه
الشيخ من كونه متى وقع بلفظ الخلع خاصة فهو فسخ قول مطرح بالنصوص ، فهو في حكم
العدم ، فللقائل أن يقول إنه إذا كان الحكم الشرعي تساوي الصيغ الثلاث في الأحكام
وانتظامها في ذلك على أحسن نظام فلا فرق حينئذ بين أن يطلب منه طلاقا بعوض فيخلعها
أو خلعا فيطلقها بالعوض ، لأن مرجع الجميع شرعا إلى أمر واحد ، وليس بينهما فرق
إلا باختلاف الألفاظ ، وإلا فالمرجع شرعا إلى أمر واحد كما عرفت ، واختلاف الألفاظ
لا يترتب عليه أثر شرعا.
وبالجملة فإنه
قد أتى بما طلبته ، في كل من الصورتين ، لأن المراد هو الفراق البائن الذي به تحل
الفدية وهو الذي طلبته وإن عبرت بتلك العبارة وهو قد أتى به ، وإن عبر بعبارة أخرى
ترجع إلى تلك العبارة شرعا.
وأما الخلاف
والوفاق في تلك الألفاظ فلا دخل له بعد ثبوت الحكم شرعا للجميع وترتب الحكم الشرعي
على كل منهما كما هو المعتمد عندهم ، وعليه دلت نصوص المسألة ، وإن لم يكن ما
ذكرناه هو المتعين لما عرفت فلا أقل أن يكون مساويا في الاحتمال لما ذكروه ، وبه
لا يتم ما اعتمدوه ، والله العالم.
الثاني : قالوا
: لو ابتدأ فقال أنت طالق بألف أو عليك ألف صح الطلاق رجعيا ولم يلزمها الألف ولو
تبرعت بعد ذلك بضمانها لأنه ضمان ما لم يجب ، ولو دفعتها إليه كانت هبة مستأنفة ،
ولا تصير المطلقة بدفعها بائنة.
قال في المسالك
بعد نقل ذلك : يعتبر في صيغة الخلع وقوعها على وجه المعاوضة بينه وبين الزوجة
ويتحقق ذلك بأحد أمرين : تقدم سؤالها ذلك بعوض معين كقولها طلقني بألف أو اخلعني
بألف فيجيبها على ذلك ، ويكفي في ظهور المعاوضة حينئذ إتيانه بالطلاق أو الخلع
مقرونا بذلك العوض ، ومجردا عنه مع نيته ، كقوله أنت طالق بألف أو عليها أو على
العوض المذكور أو خلعتك عليها أو بها ، أو أنت طالقة أو مختلعة مجردا ناويا به
كونه بذلك العوض لظهور
المعاوضة فيه مع تقدم ذكره من جانب الزوجة كما لو قال بعني كذا بكذا فقال
بعتك.
والثاني :
ابتداؤه به مصرحا بذكر العوض كقوله أنت طالق بألف أو خلعتك بألف أو عليها ونحو ذلك
مع قبولها بعد بغير فصل يعتد به كغيره من المعاوضات ، فلو تخلف الأمران معا بأن
ابتدأت السؤال بغير عوض كقولها طلقني فأجابها كذلك ، أو أجابها بعوض ولم تجدد
القبول في محله ، أو ابتدأ بذكر العوض صريحا ولم يحصل منها القبول كذلك ، أو أتى
بلفظ لا يدل على العوض مع عدم تقدم سؤالها به ، وإن قبلت لم يلزم العوض ، بل إن
كان قد أتى بلفظ الطلاق وقع رجعيا ، وإن أتى بالخلع بطل ، ثم أطال الكلام في
المقام.
أقول : لا يخفى
على من تأمل أخبار هذا الباب بالتأمل الصائب ونظر فيها بالذهن الثاقب أنه لا دلالة
فيها على ما ادعوه من هذا التقرير الذي قرره ، وغاية ما يستفاد منها هو أنه متى حصلت
المنازعة والمجادلة بين الزوجين وإظهار النفور منها والتراضي على بذل معين بأي نحو
كانت تلك الألفاظ الجارية بينهما من لفظ الخلع أو الطلاق أو غيرهما فإنه بعد
تراضيهما على فدية مخصوصة تنخلع منه بمجرد تلك الألفاظ الجارية بينهما ، ويكون ذلك
بحضور العدلين ، وكونها طاهرا ، ونحو ذلك مما يشترط في الصحة.
وأما وجوب
سؤالها أولا أو قبولها ثانيا وكون ذلك فوريا ونحو ذلك مما ذكروه فلا دليل عليه إلا
مجرد دعواهم ذلك في المعاوضات وأن الخلع من جملتها ، مع أنا لا نسلم لهم هذه
الدعوى ، فإنك قد عرفت في كتاب البيع أنه لا يشترط في صحته ووقوعه أزيد من تراضي
البائع والمشتري على نحو مخصوص بما يتعلق بكل من المبيع والثمن ، فإنه يلزم البيع
بمجرد ذلك ، وما اشترطوه من الإيجاب والقبول على الوجوه التي قرروها والاعتبارات
التي اعتبروها فإنه لا دليل على شيء منها ، وحديث جميل المتقدم أظهر ظاهر فيما
ذكرناه في الخلع ، وعليه تنتظم
أخبار الباب كملا ، ولا سيما الأخبار الكثيرة الدالة على أنه إذا قالت تلك
الأقوال المحرمة حل له ما أخذ منها وكانت عنده على تطليقتين باقيتين ، فإن ظاهرها
أنه بمجرد هذه الأقوال الموجبة للكراهة وأخذ ما بذلته له تنخلع منه بالشروط الأخر
المعلومة من الأخبار الأخر من حضور الشاهدين ونحوه ، وليس هنا صيغة ولا عقد أزيد
من هذه الألفاظ الجارية بينهما التي استقر رضاهما عليها ونحو ذلك في البيع وغيره
من المعاوضات كما تقدم تحقيقه في محله.
ومن أوضح
الأخبار الدالة على ما قلناه ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن سنان ـ يعني عبد الله ـ
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الخلع لا يكون إلا أن تقول ـ إلى أن قال : ـ فإذا
قالت ذلك فقد حل له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها وكل ما قدر عليه مما تعطيه من
مالها ، فإن تراضيا على ذلك على طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة وهو خاطب من الخطاب
فإن شاءت زوجته نفسها» الحديث.
وهو صريح كما
ترى في ترتب ذلك على مجرد حصول التراضي بينهما على ما وقع ، وأنها تختلع منه بمجرد
ذلك ، ولا لفظ هنا ولا صيغة في البين أزيد مما استقر عليه رضاهما من الفدية بعد
تحقق الكراهة بتلك الأقوال ، ولا ينافي ذلك ما في بعض أخبار المسألة من قوله عليهالسلام «ولا يحل له أن يخلعها حتى تكون هي التي تطلب ذلك منه من غير أن يضر بها ،
وحتى تقول ما أبر لك قسما ولا أغتسل لك من جنابة. إلخ» فإنه لا دلالة في هذا الخبر
على أزيد من اشتراط طلبها الخلع وأن تكون هي المريدة له وأن تقول مع ذلك تلك
الأقوال المحرمة ، بمعنى أن الخلع لا يقع حتى يكون الداعي إليه من جهتها ، وأما
أنه يشترط ذلك في صيغة الخلع ولا تصح إلا به متقدما أو متأخرا فلا دلالة عليه ،
وسبيله سبيل
__________________
الأقوال المذكورة في اشتراطها في صحة الخلع ، إذ ليس المراد إلا توقف صحة
الخلع على صدور هذه الأقوال في الجملة وإن لم يكن في مجلس الخلع ، وبذلك يظهر أن
جميع ما أطال به ـ قدسسره ـ هنا وكذا غيره من الأصحاب مما لا يرجع إلى طائل ولا
يعود إلى حاصل ، والله العالم.
الثالث : قال
المحقق في الشرائع : إذا قالت طلقني بألف كان الجواب على الفور ، فإن تأخر لم
يستحق عوضا بل كان رجعيا.
وقال الشارح في
المسالك : قد تقرر أن الخلع يشبه عقود المعاوضات أو هو من جملتها لاشتماله على
افتداء البضع بعوض مخصوص وهو يقتضي لفظا دالا على إرادتها بذل ما تجعله عوضا ،
ولفظا منه يدل على إبانتها بذلك ، وكان ذلك كالإيجاب والقبول في العقود اللازمة
ولو من طرف واحد ، فإن ذلك لازم من طرفه الى أن ترجع في البذل ، فلا بد من وقوعهما
متعاقبين بحيث يدل على أن أحدهما جواب للآخر والتزامه به ، فإن تقدم التماسها
فقالت طلقني بألف مثلا اعتبر كون جوابه لها على الفور بحيث لا يتخللهما زمان طويل
، ولا كلام أجنبي يوجب رفع ارتباط أحدهما بالآخر ، فإن تقدم لفظه فقال خالعتك على
ألف مثلا اعتبر التزامها بالألف وقبولها لها عقيب كلامه كذلك ، ومتى حصل التراخي
بينهما طويلا على الوجه الذي بيناه لم يستحق عوضا ووقع الطلاق رجعيا يعني كونه
صحيحا خاليا عن العوض. إلى آخر كلامه زيد في إكرامه ، وعلى هذا النهج كلام غيره في
المقام.
وقد عرفت ما
فيه مما يكشف عن ضعف باطنه وخافية ، وإنما ذكرناها
__________________
بطوله لتطلع على العلة فيما ذكروه ، وأن منشأ الحكم بما ذكروه إنما هو هذه
الوجوه الاعتبارية والتخريجات الفكرية التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، سيما
مع ظهور الأدلة في خلافها ، فإن إطلاق أخبار الباب أظهر ظاهر في استحقاق الفدية
والبينونة بعد حصول الكراهة ، وبذل المرأة لما بذلته ، سواء قالت اخلعني أو طلقني
على كذا أو لم تقل ، وسواء قال هو خلعتك على كذا أو طلقتك على كذا أو نحو ذلك من الألفاظ
الدالة على هذا المعنى ، بل ولو لم يقل شيئا كما سمعته من كلام جميل في حديثه ، وقوله للزوج «ما تقول رضيت بهذا الذي أخذت وتركتها؟
فقال : نعم ، فقال لهم جميل : قوموا».
فإنه جعل جواب
الرجل عما سأله وقبوله لما ذكره هو الخلع كما هو ظاهر ، والرجل المذكور من أجلاء
فقهاء الأصحاب المعاصرين للأئمة الأطياب ، وهو ظاهر في أنه لم يفهم من الأئمة
صلوات الله عليهم في هذه المسألة أزيد من هذا ، فلو كان لهذه الشروط التي قرروها
والاعتبارات التي اعتبروها أصل في الحكم لما أهملها وحكم بخلافها ، ولهذا لما سئل
عن الاتباع بالطلاق الذي هو أحد القولين في المسألة وعليه دل بعض الأخبار نفاه
عملا بتلك الأخبار الدالة على نفيه.
وبالجملة فإن
جميع ما ذكروه في هذه الفروع إنما جروا فيه على هذه التعليلات الاعتبارية التي لا
تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية سيما مع ظهور الأخبار في عدمها كما أوضحناه ، والله
العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.
المقام الثاني في الفدية :
ومنه مسائل : الأولى : قد صرح الأصحاب بأن كلما يصح أن يكون مهرا يصح أن يكون فدية في الخلع ،
وأنه لا تقدير له في جانب الكثرة ، وقد تقدم في بحث المهر أن كلما يملكه المسلم من
عين أو دين أو منفعة يصح كونه مهرا إذا
__________________
كان متمولا ، وحينئذ فيصح أن يكون فدية في الخلع ولا تتقدر الفدية في جانب
الكثرة بما وصل إليها من المهر وغيره ، بخلاف عوض المبارأة فإنه لا يجوز أن يتجاوز
به ما وصل إليها.
أقول : الظاهر
أن المراد من قولهم «كلما صح أن يكون مهرا صح أن يكون فدية» إنما هو بيان أنه يجب
أن يكون شيئا متمولا في الجملة عينا كان أو دينا أو منفعة ، قليلا كان أو كثيرا ،
وأنه لا حد له بوجه من الوجوه ولا تقييد فيه بمادة من المواد بخلاف عوض المبارأة
كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن الأخبار
المتعلقة بهذا المقام قوله عليهالسلام
في موثقة سماعة
«فإذا هي
اختلعت فهي بائن ، وله أن يأخذ من مالها ما قدر عليه ، وليس له أن يأخذ من
المبارأة كل الذي أعطاه». دلت هذه الرواية على الفرق بين المختلعة والمبارأة بما
قدمنا ذكره ، وأنه لا يتقدر ما أخذه من فدية الخلع بقدر ، ولا يحد بحد.
وفي رواية
زرارة «فإذا قالت ذلك
فقد حل له أن يخلعها بما تراضيا عليه من قليل أو كثير».
وروى زرارة في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «المبارأة يؤخذ منها دون الصداق والمختلعة يؤخذ
منها ما شاء أو ما تراضيا عليه من صداق أو أكثر ، وإنما صارت المبارأة يؤخذ منها
دون المهر والمختلعة يؤخذ منها ما شاء لأن المختلعة تعتدي في الكلام وتتكلم بما لا
يحل لها» وفي جملة من أخبار الباب «حل له ما أخذ منها» ، وبالجملة فإن الحكم مما
لا إشكال فيه بعد ما عرفت.
الثانية
: قالوا : لا بد
في الفدية من العلم به بالمشاهدة أو الوصف الرافع
__________________
للجهالة ، وظاهرهم أنه يكفي العلم الجهلي بذلك بحيث يرتفع معظم الغرر ولا
يجب الاستقصاء ، فإن كان حاضرا فلا بد من التعيين بالإشارة كهذا الثوب وهذا العبد
وهذه الصبرة من الحنطة أو الوصف والقدر الذي يحصل به التعيين ، سواء كان عينا
شخصية أو كلية.
وإن كان غائبا
قال في الشرائع «لا بد من ذكر جنسه ووصفه وقدره» مع أنه اكتفى في الحاضر بالمشاهدة
وإن لم يعلم مقداره أو وزنه أو كليه أو زرعه فقال بعد الكلام المذكور «ويكفي في الحاضر
المشاهدة» وهذا هو المطابق لما تقدم ذكره في المهر ، وهم قد خرجوا على مجرى ما
تقدم في باب المهر ، وعلى هذا فلو بذلت له ما في ذمته من المهر جاز وإن لم تعلم
قدره ، لأن ذلك متعين في نفسه وإن لم يكن معلوما لها ، ويأتي على ما ذكره المحقق
في الشرائع من أن الغائب لا بد من ذكر جنسه ووصفه وقدره عدم الصحة ، لأن هذا من
قبيل الغائب الذي لا يصح الخلع إلا بعد معرفة مقداره ، وبهذا صرح في المسالك ،
وبالأول صرح سبطه في شرح النافع ، ويتفرع على أصل المسألة واعتبار هذا الشرط ما لو
خلعها على ألف وأطلق ولم يذكر المراد من تلك الألف جنسا ولا وصفا ولا قصدا ولا نية
فإنه لا يصح الخلع لعدم التعيين المانع من حملها على بعض دون بعض ـ والجهالة.
ولو اتفقا على
قصد معين بأن قصدت ألف درهم وقصد هو كذلك قال في المسالك : صح ولزمهما ما قصداه ،
وإن لم يجز ذلك في غيره من المعاوضات كالبيع لأن المقصود أن يكون العوض معلوما عند
المتعاقدين ، فإذا توافقا على شيء بالنية كان كما لو توافقا بالنطق.
هذا هو الذي
اختاره المصنف والعلامة ، وقبلهما الشيخ في المبسوط وهو الذي يقتضيه قوله «ولا قصد
فسد الخلع» لأن مفهومه صحته مع قصده ، وسيأتي في مسائل النزاع ما ينبه عليه أيضا.
ثم قال :
ويحتمل فساد الخلع بإهمال ذكر الجنس الوصف وإن كان قصداه
كما لا يصح ذلك في غيره من عقود المعاوضات ، وعلى المشهور فلو قالت بذلت
مالي في ذمتك أو ما عندي أو ما أعطيتني من الأسباب ونحو ذلك مع علمها بقدره ووصفه
صح ، ولو وقع البيع على مثل ذلك لم يصح ، بل لا بد فيه من التلفظ بما يعتبر تعيينه
من الجنس والوصف والقدر ، وهذا من الأمور المحتملة في هذا الباب من الغرر دون غيره
من المعاوضات المحضة ، انتهى.
واعترضه سبطه
هنا في شرح النافع فقال : وما ذكره من عدم صحة البيع على مثل ذلك غير واضح ،
والمتجه الصحة في الموضعين.
أقول : لا يخفى
أن روايات هذا الباب ومنها ما تقدم قريبا في سابق هذه المسألة مطلقة بالنسبة إلى
الفدية لا تعرض في شيء منها بتصريح ولا إشارة إلى ما ذكروه من اشتراط ما يشترط في
البيع والمعاوضات في الخلع ، وغاية ما يفهم منها أن كلما تراضيا عليه من المال
ونحوه صح به الخلع معلوما كان في نفسه أو مجهولا. نعم لا بد من أن يكون متفقا عليه
بينهما معلوما لكل منهما ليقع الرضا به وأن لا يكون مما يتعقبه الخلاف والنزاع ،
ففي بعض أخبار المسألة زيادة على ما تقدم «حل له أن يأخذ منها ما وجد» وفي آخر «فقد
طاب له ما أخذ منها» وفي ثالث «حل له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها ، وكلما قدر
عليه مما تعطيه من مالها» الحديث.
والجميع كما
ترى ظاهر فيما قلناه واضح فيما ادعيناه ، فعلى هذا لا إشكال في صحة الخلع على
الأشياء المشاهدة المشار إليها كهذا العبد وهذا الثوب وهذه الصبرة من الحنطة أو
الشعير ونحو ذلك مما لم يعلم قدره بالجملة ، وكذا يجوز على ما في الذمة من مهر
وغيره إذا تراضيا به معلوما كان مقداره أو مجهولا.
إلحاق
لو بذلت له
مائة درهم أو مائة دينار ولم تكن حاضرة مشارا إليها انصرف ذلك إلى الرائج من نقد
تلك البلد في ذلك الوقت إن اتحد ، وإن تعدد فإن كان
ثمة نقد غالب حمل عليه ، لأن المعاملات تنزل على النقد الغالب ، والخلع مما
يرجع إلى المال كسائر المعاملات ، ولا فرق في الغالب بين كونه ناقص الوزن عن
الدراهم الشرعية أو زائدة ، ولا بين كونه مغشوشا أو خالصا ، ولو تعدد ولم يكن فيها
غالب وجب التعيين وبطل الإطلاق كغيره من المعاوضات لاستحالة الترجيح من غير مرجح ،
ولو كان هناك نقد غالب أو نقد متحد فعينا غيره وتراضيا عليه صح ، لأن المرجع في
ذلك إليهما كما لو بذلت غير النقد ، كذا صرح به في المسالك ، وهو جيد لأن المرجع
في البذل إلى ما تراضيا عليه ، وأن يكون معلوما على وجه لا يتطرق إليه النزاع بعد
ذلك ، ولا يتحقق فيه الاختلاف بينهما.
الثالثة
: لو وقع الخلع
على ما لا يملكه المسلم كالخمر والخنزير وعلم الزوج بذلك فالظاهر أنه لا خلاف في
بطلان الخلع ، لأن من شرط الفدية أن يكون مالا مملوكا للمرأة ، قالوا : لأنه عوض
عن حق البضع فلا بد من صلاحيته للمعاوضة والأظهر الاستدلال بما تقدم في الأخبار من
كونه من مالها كما تكاثرت الدلالة عليه ، وما عللوه به يكون وجها للنص.
إنما الخلاف في
وقوعه طلاقا رجعيا وبه قال الشيخ في المبسوط لاشتماله على أمرين الطلاق والعوض ، فإذا
بطل أحدهما بقي الآخر كما لو لو اختل أحد الشرائط.
وفصل المحقق فقال : إن ما ذكره الشيخ حق إن اتبع بالطلاق ، وإلا كان
البطلان أحق ، انتهى.
وتوضيحه على ما
ذكره في المسالك : إنه مع الاقتصار على الخلع وعدمه الاتباع بالطلاق لا يتحقق صحة
الطلاق مع فساد العوض لأن الخلع الذي يقوم
__________________
مقام الطلاق أو هو الطلاق ليس إلا اللفظ الدال على الإبانة بالعوض ، فبدونه
لا يكون خلعا ، فلا يتحقق رفع الزوجية بائنا ولا رجعيا ، وإنما يتم إذا أتبعه
بالطلاق ليكونا أمرين متغايرين لا يلزم من فساد أحدهما فساد الآخر ، فيفسد حينئذ
الخلع لفوات العوض ويبقى الطلاق المتعقب له رجعيا لبطلان العوض الموجب لكونه بائنا
، قال : وهذا أقوى.
أقول : وفيه أن
ما اختاره هنا من صحة الطلاق رجعيا ينافي ما صرح به في غير موضع مما تقدم من أن
العقد المشتمل على شرط فاسد يجب أن يكون باطلا ، لأن الواقع غير مقصود ، والعقود
بالقصود ، وما قصد غير واقع ، فإنه آت في هذا المقام ، إذ القصد هنا إنما توجه إلى
الخلع بهذا البذل والبينونة به ولم يتعلق بمجرد الطلاق الرجعي ، فالطلاق الرجعي
غير مقصود ، والمقصود وهو البائن غير صحيح ولا واقع لعدم البذل ، فإن وجوده هنا
كعدمه. ومن هنا ينقدح قول ثالث وهو البطلان مطلقا. هذا إذا كان عالما كما تقدمت
الإشارة إليه.
أما لو كان جاهلا
بعدم ماليته كما لو ظنه خلا فبان خمرا ، أو ظنه عبدا فظهر حرا ، فظاهر الأصحاب كما
صرح به المحقق في الشرائع والعلامة في القواعد هو صحة الخلع وكان له بقدر الخمر
خلا كما لو أمهرها ذلك فظهر كونه كذلك.
وعلله في
المسالك قال : لأن تراضيهما على المقدار من الجزئي المعين الذي يظنان كونه متمولا
يقتضي الرضا بالكلي المنطبق عليه ، لأن الجزئي مستلزم له فالرضا به يستلزم الرضا
بالكلي ، فإذا فات الجزئي لمانع عدم صلاحيته للملك بقي الكلي ولأنه أقرب إلى
المعقود عليه.
ثم قال : ولم
ينقلوا هنا قولا في فساده ولا في وجوب قيمته عند مستحليه كما ذكروه في المهر مع أن
الاحتمال قائم فيه.
أما (الأول)
فلفقد شرط صحته وهو كونه مملوكا والجهل به لا يقتضي الصحة ، كما لو تبين فقد شرط
في بعض أركان العقد.
وأما (الثاني)
فلأن قيمة الشيء أقرب إليه عند تعذره ، ولأن المقصود من العين ماليته ، فمع تعذرها
يصار إلى القيمة لأنه لا مثل له في شرع الإسلام ، فكان كتعذر المثل في المثلي حيث
يجب ، فإنه ينتقل إلى قيمته ، ولو ظهر مستحقا لغيره فالحكم فيه مع العلم والجهل
كما فصل ، انتهى.
أقول :
والمسألة من أصلها غير خالية من شوب الاشكال لعدم النص الواضح في هذا المجال ،
وبناء الأحكام الشرعية على هذه التعليلات العقلية وإن اشتهر بينهم ، إلا أنه محض
مجازفة في أحكامه سبحانه التي استفاضت الآيات والروايات بالعلم فيها من الكتاب
العزيز أو السنة المطهرة سيما مع تعارض التعليلات المذكورة وقد تقدم في بحث المهور
نقل الخلاف في صحة العقد على هذه الأشياء وبطلانه وأنه على تقدير القول بالصحة فما
الواجب عوض هذه الأشياء؟ على أقوال ثلاثة وليس لهم في هذه المقالة إلا مجرد العلل
الاعتبارية ، فكل من ذهب منهم إلى قول علله بوجه اعتباري كما هنا ، والحكم عندي في
الجميع مرجوع إلى صاحب الأمر صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ، وإنما نقلت
مثل ذلك هنا وفي غير هذه المواضع للوقوف على مذاهب الأصحاب واحتجاجاتهم في هذه
الأبواب.
الرابعة : لا خلاف في صحة بذل الفدية من المرأة فإنه مورد الآية والأخبار ومثلها
وكيلها الباذل لذلك من مالها لرجوع ذلك بالأخرة إليها ، ولدخوله تحت الآية ، أعني
قوله «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ» وبذل وكيلها من مالها بإذنها في معنى بذلها.
وألحق في
المسالك بالوكيل الضامن له بإذنها من ماله ليرجع به عليها ، قال بعد ذكر الوكيل :
وكذا بذله ممن يضمن في ذمته بإذنها ، فيقول للزوج طلق زوجتك على مائة وعلي ضمانها
، والفرق بينه وبين الوكيل أن الوكيل يبذله من مالها بإذنها ، وهذا يبذل من ماله
بإذنها ليرجع عليها بما يبذله بعد ذلك ، فهو في
__________________
معنى الوكيل الذي يدفع العوض عن الموكل من ماله ليرجع إليه ، فدفعه له
بمنزلة إقراضه لها ، وإن كان بصورة الضمان ، انتهى.
أقول :
ويعتريني في هذه الصورة المذكورة إشكال من استفاضة الأخبار بكون البذل من مالها ،
ففي موثقة سماعة المتقدمة «ويأخذ من مالها ما قدر عليه» وفي صحيحة عبد الله بن
سنان المنقولة في تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم «فقد حل له أن يأخذ منها جميع
ما أعطاها ، وكلما قدر عليه مما تعطيه من مالها» الحديث.
وفي جملة من
الأخبار «حل له ما أخذ منها» ونحو ذلك مما يدل صريحا على أن المأخوذ من مال الزوجة
، والقول بذلك في الوكيل إنما هو من حيث كون المدفوع من مالها بإذنها وإن اختلف
الدافع.
أما في صورة
الدفع من ماله وإن كان بقصد الرجوع عليها فإنه لا يدخل تحت هذه الأخبار إلا بنوع
تكلف واعتبار ، والأصل بقاء الزوجية والعصمة فيها ومن الجائز أن يكون لمالها
خصوصية في ذلك دون مال غيرها وإن رجع به عليها.
وبالجملة
فالقول بذلك غير خال من وصمة الاشكال لخروجه عما صرحت به نصوص المسألة ، وكيف كان
فالصورتان الأولتان مما لا خلاف فيهما ولا إشكال.
إنما الخلاف في
صحته من المتبرع بالبذل من ماله ، بأن يقول للزوج : طلق امرأتك بمائه من مالي بحيث
يكون عوضا للخلع ، والأشهر الأظهر العدم ، لأن الأصل بقاء النكاح حتى يعلم المزيل
شرعا وليس فليس.
وأنت خبير بأنه
لا فرق بين هذه الصورة والصورة الملحقة سابقا إلا في الرجوع بعد الدفع كما في
الاولى وعدمه كما في الثانية ، وإلا فالبذل في كلتا الصورتين إنما هو من مال
الباذل.
ورد هذه الصورة
ـ بأصالة بقاء النكاح حتى يعلم المزيل ولم يعلم كون الدفع من مال الباذل مع عدم
الرجوع به مزيلا للنكاح ، لعدم وجود ذلك في أدلة المسألة ـ جار أيضا في الصورة
الملحقة ، فإن أصالة النكاح ثابتة ، والدفع من مال
أجنبي غير رافع للنكاح وإن كان بنية الرجوع ، لما عرفت من اختصاص النصوص
بكون المدفوع من مالها.
ومما يؤيد ما
ذكرناه من عدم صحة هاتين الصورتين الأخبار الدالة على جواز رجوعها فيما بذلته ،
وأن للزوج الرجوع فيها ، فإن ظاهرها اختصاص الرجوع بما بذلته ، وهي في هاتين
الصورتين لم تبذل شيئا ، وإنما بذله ذلك الأجنبي ، غاية الأمر أن في إحداهما على
وجه الرجوع وأنه يكون قرضا عليها ، وهذا لا يصدق به الرجوع فيما بذلته إلا بنوع من
التأويل والتكلف البعيد.
ويؤيد ما
ذكرناه أيضا ظاهر الآية ـ أعني قوله «فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ»
ـ وهي في هاتين
الصورتين لم تفتد بشيء ، وإنما فداها الأجنبي وبموجب ظاهر الآية لا تحل الفدية
للزوج لبقائه تحت الجناح بحيث إنها لم تفتد ، والجناح إنما ارتفعت عما افتدت به
دون ما فداها الغير إلا بارتكاب التأويلات البعيدة والتكلفات الغير السديدة.
وبالجملة
فالحكم المذكور غير خال عندي من الاشكال ، وذكر جملة من الأصحاب أن المخالف في هذه
المسألة من أصحابنا غير معلوم على التعيين ، إلا أنه مذهب جمهور الجمهور ، وربما
علل بأن البذل افتداء ، وهو جائز من الأجنبي كما تقع الجعالة منه على الفعل لغيره
وإن كان طلاقا.
ورد بأن البذل
المتنازع في صحة ما اقتضى جعل الطلاق معه خلعا لتترتب عليه أحكامه المخصوصة لا
مجرد بذل المال في مقابلة الفعل على وجه الجعالة ، كأن يقول : طلق زوجتك وعلي ألف
من مالي مثلا ، فإن الفرض هنا صحة وقوع الطلاق ، ولا مانع من صحته ولا من صحة
الجعالة عليه ، لكن لا يشترط هنا في إجابته المقارنة لسؤاله ولا الفورية ، ويكون
الطلاق رجعيا من هذه الجهة ، انتهى وهو جيد. وكيف كان فضعف القول المذكور أظهر من
أن يخفى.
قيل : ولو قلنا
بصحة الخلع الواقع مع بذل الأجنبي فهل للأجنبي أن يرجع
بالبذل ما دامت في العدة؟ يحتمل ذلك كما في بذل الزوجة ، ويحتمل قويا عدم
جواز الرجوع هنا مطلقا ، اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين وهو رجوع الزوجة
فيما بذلته خاصة.
أقول : وحيث
علم أن أصل القول المذكور لا وجه له ولا دليل عليه ، فالتفريع عليه مما لا وجه له
ولا سبيل إليه.
وفي هذا المقام
جملة من الفروع ذكرها الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ أعرضنا عن ذكرها لعدم النصوص
الدالة عليها وعدم الاعتماد عندنا على هذه التعليلات الاعتبارية ، فذكرها مجرد
تطويل بغير طائل فليرجع إليها من أحب الوقوف عليها في مطولات الأصحاب ، والله
العالم .
المقام الثالث في الشرائط :
وهي إما أن
تتعلق بالخالع أو المختلعة أو تكون خارجة عنهما ، فهنا مواضع ثلاثة :
الأول : ما يتعلق بالخالع ، ويشترط فيه البلوغ وكما العقل
والاختيار والقصد ، والوجه في ذلك أن الخلع طلاق كما تقدمت الإشارة إليه ، فيشترط
في الخالع ما يشترط في المطلق ، وقد تقدم تحقيق القول في هذه الشروط في كتاب
الطلاق فلا وجه لإعادة الكلام فيها.
قالوا : ولو
خالع ولي الطفل ، فإن جعلنا الخلع طلاقا أو مفتقرا إلى أن يتبع بالطلاق لم يصح
مطلقا لما تقدم من أنه ليس للولي أن يطلق عن الصبي وإن وجد مصلحة ، وإن جعلناه
فسخا كما هو القول الآخر صح ، وروعي في صحته المصلحة ، لأنه حينئذ بمنزلة المعاوضة
عنه وهي جائزة مع المصلحة ، فلا فرق حينئذ بين خلعه بمهر المثل أو أقل ، لأن
المصلحة هي المسوغة للفعل.
الثاني : ما يتعلق بالمختلعة ، ويشترط فيها مع الدخول بها أن
تكون في
__________________
طهر لم يقربها فيه إذا كان زوجها حاضرا وكان مثلها تحيض ، وأن تكون الكراهة
منها خاصة.
أما (الأول)
فلما تقدم تحقيقه في كتاب الطلاق ، لأن الخلع طلاق كما عرفت ، وقد تقدم اشتراط ذلك
فيه موضحا فيشترط هنا أيضا ، ويرجع في توضيحه إلى ما تقدم ، قالوا : ويشترط فيه
ذلك وإن قلنا بكونه فسخا لدلالة الأخبار على أنه لا يكون خلع إلا على طهر.
أقول :
والتحقيق أن ذكر هذا القول ـ أعني القول بكون الخلع فسخا ـ لا وجه له في هذه
المواضع ولا التفريع عليه لما تقدم من بيان ضعفه ، وظهور الأخبار الصحاح الصراح في
رده وتصريح الأخبار هنا باشتراط كون الخلع على طهر إنما خرج بناء على تلك الأخبار
الدالة على كونه طلاقا لا فسخا.
ومن الأخبار
الدالة على اشتراط كونه على طهر ما رواه الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «لا طلاق ولا خلع ولا مباراة ولا خيار إلا على
طهر من غير جماع».
وما رواه الكليني
أيضا في الصحيح عن محمد بن إسماعيل قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن المرأة تبارئ زوجها أو تختلع منه بشاهدين على طهر من
غير جماع ، هل تبين منه؟ فقال : إذا كان ذلك على ما ذكرت فنعم».
وما رواه في
التهذيب عن محمد بن إسماعيل بن بزيع في الصحيح قال : «سألت أبا
الحسن الرضا عليهالسلام عن المرأة تبارئ زوجها أو تختلع منه بشهادة شاهدين على
طهر من غير جماع ، هل تبين منه بذلك؟ أو هي امرأته ما لم يتبعها بالطلاق. فقال :
تبين منه» الحديث. وقد تقدم في الأخبار الدالة على أن الخلع لا يتبع بالطلاق وما
رواه
في الكافي عن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح قال : «سألت
__________________
أبا عبد الله عليهالسلام : هل يكون خلع أو مباراة إلا بطهر؟ فقال : لا يكون إلا
بطهر».
وما رواه في
التهذيب عن محمد بن مسلم وأبي بصير في الموثق «قالا : قال أبو
عبد الله عليهالسلام : لا اختلاع إلا على طهر من غير جماع».
وعن زرارة
ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الخلع تطليقة بائنة وليس فيه رجعة ، قال زرارة :
لا يكون إلا على مثل موضع الطلاق ، إما طاهرا وإما حاملا بشهود».
وعن ابن رئاب قال : «سمعت حمران يروي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لا يكون خلع ولا تخيير ولا مباراة إلا على طهر من
المرأة من غير جماع» الحديث ، وسيأتي تمامه قريبا إن شاء الله تعالى.
وأما (الثاني)
وهو كون الكراهة منها خاصة فلما استفاض في الأخبار من أنها لا تختلع حتى تقول تلك
الأقوال المحرمة الدالة على كمال كراهتها ونفرتها من زوجها.
ومنها زيادة
على ما تقدم ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المختلعة لا يحل خلعها حتى تقول لزوجها : والله
لا أبر لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ، ولأوطئن فراشك من تكرهه
ولآذنن عليك بغير إذنك ، وقد كان الناس يرخصون فيما دون هذا ، فإذا قالت المرأة
ذلك لزوجها حل له ما أخذ منها ، وكانت عنده على تطليقتين باقيتين ، وكان الخلع
تطليقة ، وقال : يكون الكلام من عندها».
__________________
وما رواه في
الكافي عن سماعة في الموثق قال : «سألته عن المختلعة فقال : لا
يحل لزوجها أن يختلعها حتى تقول : لا أبر لك قسما ولا أقيم حدود الله فيك ولا
أغتسل لك من جنابة ولأوطئن فراشك ولأدخلن بيتك من تكره من غير أن تعلم هذا ولا
يتكلمونهم ، وتكون هي التي تقول ذلك ، فإذا هي اختلعت فهي بائن وله أن يأخذ من
مالها ما قدر عليه» الحديث.
وما رواه في
الكافي عن محمد بن مسلم في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المختلعة التي تقول زوجها : اخلعني وأنا أعطيك
ما أخذت منك ، فقال :
لا يحل له أن
يأخذ منها شيئا حتى تقول : والله لا أبر لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولآذنن في بيتك
بغير إذنك ولأوطئن فراشك غيرك ، فإذا فعلت ذلك من غير أن يعلمها حل له ما أخذ منها
، وكانت تطليقة بغير طلاق يتبعها ، وكانت بائنا بذلك ، وكان خاطبا من الخطاب».
إلى غير ذلك من
الأخبار الجارية على هذا المنوال في اشتراط مشروعية الخلع بأمثال هذه الأقوال ،
وهو في غاية الاشكال والإعضال.
وبظاهر هذه
الأخبار وما دلت عليه من هذا الاشتراط أفتى الشيخ وغيره من المتقدمين حتى قال ابن
إدريس في كتابه : إن إجماع أصحابنا منعقد على أنه لا يجوز الخلع إلا بعد أن يسمع
منها ما لا يحل ذكره من قولها : لا أغتسل لك من جنابة ولا أقيم لك حدودا ولأوطئن
فراشك من تكرهه ، ويعلم ذلك فعلا ، انتهى.
ويشكل ذلك بما
لو لم تنته الكراهة إلى هذا المقدار ، فإنه بموجب هذه
__________________
الأخبار لا يجوز خلعها ، بل أن الذي شاهدناه من مشايخنا بل هو ظاهر متأخري أصحابنا هو الاكتفاء بما هو دون هذه
المرتبة.
ويشكل أيضا بما
لو لم تقل أمثال هذه الأقوال ، فإن النصوص على كثرتها متفقة على أنه لا يحل أخذ شيء
منها ، ولا يصلح خلعها حتى تقول ذلك ، حتى أنها دلت على أنه لا بد أن تكون تلك
الأقوال منها دون أن يعلمها غيرها ، والمفهوم من كلام متأخري الأصحاب عدم اشتراط
ذلك لأنهم جعلوا مناط الخلع حصول الكراهة منها ، ولم يشترط أحد منهم الإتيان بهذه
الأقوال بالفعل ، بل كلما دل على الكراهة من لفظ أو فعل أو نحو ذلك فهو كاف في صحة
الخلع وترتيب أحكامه عليه.
ولم أقف على من
تنبيه لهذين الإشكالين في المقام إلا السيد السند في شرح النافع ، فإنه تنبه
للإشكال الأول منهما ، فقال بعد نقل كلام ابن إدريس المذكور : وعلى هذا فيشكل وقوع
الخلع في كثير الموارد إذا لم يعلم وصول الكراهة من الزوجة إلى هذا الحد. انتهى ،
وقد غفل عن الإشكال الثاني مع أنه أشد وأعضل ، فإن كثيرا من النساء وإن كرهن كراهة
تامة إلا أنهن لا يهتدين إلى هذه الأقوال ولا أمثالها ، والنصوص كما ترى ظاهرة في
اشتراطها وكذا ظاهر كلام ابن إدريس.
__________________
وبالجملة
فالمسألة عندي غير خالية من شوب الاشكال ، وحيث قد عرفت أن الخلع طلاق كما دلت
عليه النصوص المتقدمة وإن لم يتبع بالطلاق ، فاللازم من ذلك هو لحوق أحكام الطلاق
له ، وقد تقدم في كتاب الطلاق جواز طلاق الحامل في الدم إن قلنا بأنها تحيض ، وكذا
طلاق التي لم يدخل بها وإن كانت في الحيض وكذا اليائسة وإن وطأها في طهر المخلعة ،
وحينئذ يصح خلع هؤلاء الثلاث في المواضع الثلاثة كما يصح طلاقهن ، ونقل عن بعض
أصحابنا أنه حكم بعدم جواز خلع الحامل إن قلنا إنها تحيض إلا في طهر آخر غير طهر المواقعة
بخلاف الطلاق.
قال في شرح
النافع بعد نقل هذا القول : وهو مجهول القائل والمأخذ ، أقول : وضعفه ظاهر مما
قدمناه.
الثالث
: ما هو خارج
عن الأولين ، ومنه الاشهاد ، فيتبعه في صحة الخلع حضور شاهدين عدلين ، وقد تقدم في
الأخبار قريبا ما يدل عليه.
ويدل عليه أيضا
ما رواه الشيخ عن علي بن رئاب قال : «سمعت حمران يروي عن أبي عبد الله
عليهالسلام قال : لا يكون خلع ولا تخيير ولا مباراة إلا على طهر من
غير جماع وبشاهدين يعرفان الرجل ويريان المرأة ويحضران التخيير وإقرار المرأة على
أنها على طهر من غير جماع يوم خيرها ، قال : فقال محمد بن مسلم : أصلحك الله ما
إقرار المرأة ها هنا؟ قال : قال : يشهد الشاهدان عليها بذلك للرجل حذرا أن تأتي
بعد فتدعي أنه خيرها ، وهي طامث فيشهدان عليها بما سمعا منها وإنما يقع عليها
الطلاق إذا اختارت نفسها قبل أن تقوم. وأما الخلع والمبارأة فإنه يلزمها إذا أشهدت
على نفسها بالرضا فيما بينها وبين زوجها بما يفترقان عليه في ذلك المجلس ، فإذا
افترقا على شيء ورضيا به كان ذلك جائزا عليهما ، وكانت تطليقة بائنة لا رجعة له
عليها سمي طلاقا أو لم يسم ، ولا ميراث بينهما في
__________________
العدة ، قال : والطلاق والتخيير من قبل الرجل ، والخلع والمبارأة يكون من
قبل المرأة».
أقول : ما دل
عليه هذا الخبر من اشتراط معرفة الشاهدين للرجل والمرأة بمعنى العلم بهما لم أقف
على من صرح به إلا السيد السند في شرح النافع ، وقد تقدم الكلام معه في هذه
المسألة في الركن الرابع في الاشهاد من كتاب الطلاق ، وظاهر الخبر المذكور مؤيد
لما قدمنا ذكره من عدم اشتراط صيغة خاصة للخلع أو المبارأة ، بل كلما دل على الرضا
بهما من الألفاظ الجارية بينهما فهو كاف في صحة الخلع وترتب أحكامه عليه ، فإنه
ينادي بظاهره أنهما إذا تراضيا على شيء وافترقا عليه من ذلك المجلس وكان ذلك
التراضي بحضور الشاهدين مع استكمال باقي الشرائط فإنه يكون خلعا ، وهذا نحو ما وقع
في خبر جميل المتقدم ذكره.
ومنه ما ذكروه
من أنه يشترط تجريده من الشرط ، والمراد الشرط الذي لا يقتضيه العقد ، أما لو
اقتضاه كما لو اشترط الرجوع إن رجعت في البذل فإنه لا بأس به ، بل اشتراطه في
التحقيق كلا اشتراط. فإن هذا الحكم ثابت له اشتراط أو لم يشترط.
أما ما لا
يقتضيه العقد فظاهر السيد السند في شرح النافع نقل الاتفاق على عدم جواز اشتراطه ، قال : ويدل عليه
أصالة عدم البينونة مع الخلع المعلق على الشرط السالمة عما يخرج عنه.
أقول : لا يخفى
ما في هذا التعليل العليل من الوهن سيما مع معارضته بعموم ما دل على مشروعية الخلع
الشامل لما كان مشروطا أو غير مشروط ، والكلام في هذه المسألة يجري على ما تقدم في
كتاب الطلاق من أنه يشترط تجريد الطلاق
__________________
من الشرط ، وظاهرهم الاتفاق على الحكم المذكور في الموضعين ، وهو الحجة
عندهم ، وإلا فما ذكر من التعليلات في كل من الموضعين عليلة لا يصلح لتأسيس حكم
شرعي.
وظاهر جملة من
الأصحاب ومنهم شيخنا في المسالك التوقف في الحكم المذكور في الطلاق ، وقد تقدم
البحث فيه مستوفى ، وهو الظاهر منه أيضا في هذه المسألة حيث قال : الكلام في
اشتراط تجريده عن الشرط كالكلام في الطلاق من أنه مذهب الأصحاب ، ودليله غير صالح
، وعموم الأدلة الدالة على مشروعيته يتناول المشروط وورود النص بجواز تعليق الظهار
على الشرط يؤنس بكونه غير مناف للصحة في الجملة ، إلا أن الخلاف هنا غير متحقق ،
فإن تم فهو الدليل ، انتهى.
أقول : ويؤيد
الصحة مع الشرط عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالشرط «وأن المؤمنين
عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو حلل حراما». وبالجملة فالمسألة محل توقف ،
والاحتياط يقتضي الوقوف على القول المشهور ، والله العالم.
ومن الشروط
المقتضية لبطلان العقد عند الأصحاب وهي التي ليست من مقتضيات العقد ما لو قال :
خالعتك إن شئت ، فإنه لا يصح وإن شاءت لأنه شرط ليس من مقتضى العقد ، وكذا لو قال
: إن ضمنت لي ألفا أو إن أعطيتني أو نحو ذلك ، وكذا : متى أو مهما أو أي وقت أو أي
حين ، قالوا : وضابطه أن يكون أمرا متوقعا بعد الصيغة علقت عليه يمكن وجوده وعدمه
، والله العالم.
المقام الرابع في الأحكام :
وفيه مسائل : الاولى : قالوا : لو أكرهها على الفدية فعل حراما ، ولو طلق به صح الطلاق ولم تسلم
له الفدية وكان له الرجعة.
أقول : هذا
الكلام يتضمن حكمين : (أولهما) أنه بإكراهه لها على الفدية
__________________
فعل محرما ولا يملك الفدية ، والوجه فيه ظاهر لقيام الأدلة العقلية
والنقلية بأنه «لا يحل مال امرئ إلا بإذنه». ويتحقق الإكراه عليها بتوعده إياها
بما لا تحتمله أو لا يليق بحالها من ضرب وشتم ونحوهما ، لا بالتقصير في حقوقها
الواجبة من النفقة والقسم فتعتدي منه لذلك فإنه لا يعد إكراها ، لأنه ربما يكون
الحامل عليه ضعف دينه وحرصه على المال. نعم لو ظهر لها أنه إنما فعل ذلك لتفتدي
منه فهو إكراه لصدق تعريفه عليه ، وقد تقدم في بحث الشقاق من كتاب النكاح ما يشير
إليه.
و (ثانيهما)
أنه حيث يتحقق الإكراه على البذل فإن كان الواقع طلاقا كما ذكروه ويكون من قبيل
الطلاق بعوض صح الطلاق خاصة وفسد البذل لعدم صحة كونه عوضا وكان له الرجعة كما في
سائر أفراد الطلاق ، ويحتمل بطلان الطلاق لعدم توجه القصد إليه إلا بالفدية وهي
باطلة ، فما قصد غير صحيح ، وما هو صحيح لم يتوجه إليه قصد ، وقد تقرر أن العقود
بالقصود.
وإن كان الواقع
خلعا وإن لم يتعرض له في العبارة المتقدمة كان باطلا ، وإن قلنا إنه طلاق فلا يكون
رجعيا لأن ماهيته لا تتحقق بدون صحة البذل عند الأصحاب.
الثانية
: قد صرحوا ـ رضوان
الله عليهم ـ بأنه لو خلعها والأخلاق ملتئمة لم يصح الخلع ولم يملك الفدية ، ولو
طلقها والحال هذه بعوض صح الطلاق ، ولا يملك العوض وله الرجعة.
أقول : أما عدم
صحة الخلع في هذه الحال فظاهر ، لأن من شروطها وقوع الكراهة ، والفرض أنه لا كراهة
كما هو المراد من التئام الأخلاق ، وإذا لم يصح الخلع لم يملك الفدية ، ثم إنه لا
يخفى أن التعبير بالتئام الأخلاق هنا عن عدم الكراهة الموجبة لصحة الخلع إنما خرج
مخرج الغالب ، وذلك فإن الكراهة أمر نفسي يمكن مجامعتها لالتئام الأخلاق ، فيمكن
أن تكرهه وتحسن السلوك
معه امتثالا للأوامر الشرعية ، والقيام بما هو الواجب عليها من حقوقه ،
ولكن لما كان ذلك على خلاف الغالب والطريقة الجارية بين الناس لم يلتفت إليه
الأصحاب وبنوا الأمر على الغالب ، وفي كلام العقلاء والظاهر أنه في بعض الأخبار «ما
أضمر أحدكم شيئا إلا أظهره الله تعالى على صفحات وجهه وفلتأت لسانه».
وفي المقام
حكاية يناسب ذكرها وهو أن رجلا مرض مرضا شديدا ، وكان له زوجة تقوم عليه وتخدمه
خدمة فائقة لم ير مثلها في الأزواج ، فلما من الله عليه بالصحة قال لزوجته : إن لك
علي حقا من أعظم الحقوق أحب أن أكافيك به واجازيك عليه ، وهو أنك قد خدمتني سيما
في هذا المرض خدمة زائدة ، فاطلبي ما تريدين ، فإنه لا بد لي من مكافاتك ، فقالت
له : إله عن هذا ، فإني لا أطلب شيئا ، فألح عليها وأكد تمام التأكيد بحيث إنها لم
تجد دفعا له ، فقالت إن كان ولا بد فإني أطلب الطلاق منك ، فتعجب الرجل غاية العجب
، وقال : إنك بهذه المحبة التي تظهر منك بهذه الخدمة العظيمة في الصحة والمرض كيف
تطلبين الطلاق؟ فقالت : اعلم إني منذ تزوجت بك فإني كارهة لك تمام الكراهة وإنما
كانت هذه الخدمة مني امتثالا لأمر الله سبحانه في القيام بما أوجبه علي من حقوقك ،
والظاهر أن الرجل أجابها إلى الطلاق بعد ذلك.
ثم إن ما ذكروه
من قولهم «ولو طلق صح الطلاق. إلخ» فالمراد أنه لو لم يقع بلفظ الخلع وإنما وقع
بلفظ الطلاق بعوض فإن الطلاق يكون صحيحا ، ولكنه يصير رجعيا لا بائنا ، ولم تسلم
له الفدية لما عرفت من الأخبار المتكاثرة المتقدمة من أن الفدية لا تحل إلا بتلك
الأقوال المنكرة التي هي كناية عن مزيد الكراهة ، والمفروض هنا أن الأخلاق ملتئمة
، هذا هو المشهور ، وقيل : بالبطلان ، وقد تقدم الكلام في ذلك في آخر الموضع
الرابع من المقام الأول في الصيغة ، ويأتي على ما ذهب إليه شيخنا الشهيد الثاني
كما قدمنا البحث فيه معه في الموضع المذكور أنه يقع الطلاق هنا موقع الخلع ويترتب
عليه ما يترتب على
البينونة واستحقاق البذل ونحو ذلك ، وقد عرفت ما فيه.
الثالثة : قد صرحوا ـ رضوان الله عليهم ـ بأنه يجوز عضلها إذا أتت بالفاحشة لتفتدي
نفسها ، وقيل : بأنه منسوخ والأكثر على العدم.
أقول : الأصل
في هذا الحكم قوله عزوجل «وَلا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ» والعضل لغة المنع والتضييق ، والمراد هنا التضييق
بالمنع من التزويج وسوء العشرة معها لتفتدى منه.
قال في المسالك
: واختلف في الفاحشة المستثناة بسببها ، فقيل : هو الزنا ، وقيل : ما يوجب الحد
مطلقا ، وقيل : كل معصية ، وكون الحكم على خلاف الأصل ينبغي معه الاقتصار على محل
الوفاق ، وهو الأول لأنه ثابت على جميع الأقوال ، انتهى.
أقول : أما
الفاحشة الموجبة لإخراج الزوجة المذكورة في قوله عزوجل «لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ»
فقد تقدم ذكر الخلاف فيها ، والأخبار المتعلقة بها وأكثر الأخبار
على أن المراد منها إيذاء أهلها وسوء خلقها معهم ، وفي رواية الزنا ، وفي ثالثة
أنها السحق لا الزنا وأما الفاحشة في هذه الآية فلم أقف على اختلاف الأقوال فيها
إلا فيما ذكره هنا ومن المحتمل قريبا أنه بنى على تلك الأقوال التي تقدمت في تلك
الآية.
وأما ما يتعلق
بهذه الآية من الأخبار فلم أقف فيه إلا على ما ذكره أمين الإسلام الطبرسي ـ طيب
الله مرقده ـ في كتاب مجمع البيان حيث قال :
__________________
«إِلّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» أي ظاهرة : وقيل : فيه قولان (أحدهما) يعني إلا أن يزنين
، عن الحسن وأبي قلابة والسندي وقالوا : إذا اطلع منها على زينة فله أخذ الفدية. (والآخر)
أن الفاحشة النشوز ، عن ابن عباس ، والأولى حمل الآية على كل معصية ، وهو المروي
عن أبي جعفر عليهالسلام واختاره الطبري ، انتهى.
وليس في المقام
غير هذه الرواية فيتعين الحمل عليها ، إلا أنه من المحتمل قريبا تفسير الفاحشة هنا
أيضا بما دلت عليه تلك الأخبار المتقدمة من تلك الأقوال القبيحة التي إذا قالتها
المرأة حل له ما أخذه منها وحل له خلعها ، ولكن هذا في الحقيقة يرجع إلى ما دل
عليه الخبر المتقدم من أنها كل معصية ، فإنه أحد أفراد المعاصي فلا يكون خارجا
عنه.
وبما ذكرنا
يظهر لك ما في كلامه ـ قدسسره ـ من الإشكال ، فإن العمل في تفسير الآية وبناء الأحكام
الشرعية على ذلك إنما هو على الأدلة الشرعية والحجج الواضحة الجلية ، لا على مجرد
الأقوال ، ليرجح منها ما هو المتفق عليه من تلك الأقوال وإن عرت عن الاستدلال.
وأما ما ذكر من
القول بأنها منسوخة فهو قول ذكره الشيخ في المبسوط وتبعه فيه بعض من تأخر عنه ،
والظاهر أنه من أقوال العامة كما نبه عليه شيخنا في المسالك.
قالوا : إن هذه
الآية منسوخة بقوله تعالى «الزّانِيَةُ
وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»
وإنه كان قبل نزول الحدود للرجل أن يعضل الزانية لتفتدي
__________________
نفسها ، فلما نزلت الحدود حرم أخذ المال بالإكراه.
وأنت خبير بأنه
لا وجود لهذه الأخبار المبني عليها هذا القول في شيء من أصولنا ، والموجود في
أخبارنا في تفسير هذه الآية أن الفاحشة فيها إنما هي بمعنى كل معصية كما عرفت لا
بخصوص الزنا ، وبالجملة فالقول المذكور غير ملتفت إليه ولا معول عليه.
الرابعة : لا ريب في أنه متى صح الخلع واجتمعت شرائطه كانت فرقة بائنة لا رجعة
للزوج فيها إلا أن ترجع هي فيما بذلت إذا كان رجوعها في العدة ، فإنه مع رجوعها
يكون الطلاق حينئذ رجعيا ، فإن شاء الرجل أن يرجع رجع.
فأما ما يدل
على البينونة بذلك على الوجه المذكور فجملة من الأخبار ، منها قوله عليهالسلام في صحيحة محمد بن مسلم «المختلعة التي تقول لزوجها : اخلعني ـ إلى أن قال عليهالسلام : ـ فإذا فعلت ذلك من غير أن يعلمها حل له ما أخذ منها
وكانت تطليقة بغير طلاق يتبعها ، وكانت بائنة بذلك ، وكان خطابا من الخطاب».
وفي رواية أبي
الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا خلع الرجل امرأته فهي واحدة بائنة ، وهو
خاطب من الخطاب».
وفي صحيحة محمد
بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام «حل له ما أخذ منها وليس له عليها رجعة».
وأما ما يدل
على كونه رجعيا متى رجعت هي في العدة فمنه صحيحة محمد ابن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليهالسلام قال فيها «تختلع منها بشهادة شاهدين
__________________
على طهر من غير جماع ، وهل تبين منه بذلك أو هي امرأته ما لم يتبعها
بالطلاق؟ فقال : تبين منه ، وإن شاءت أن يرد إليها ما أخذ منها وتكون امرأته فعلت»
الحديث.
وموثقة الفضل
أبي العباس عن أبي عبد الله ، عليهالسلام قال : «المختلعة إن رجعت في شيء من الصلح يقول :
لأرجعن في بضعك».
وفي صحيحة عبد
الله بن سنان المروية في تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي. رحمهالله ـ عن أبي عبد الله عليهالسلام وقد تقدم صدرها قال فيها «وإن تراضيا على ذلك على طهر بشهود فقد بانت
منه بواحدة وهو خاطب من الخطاب ، فإن شاءت زوجته نفسها ، وإن شاءت لم تفعل ، فإن
تزوجها فهي عنده على ثنتين باقيتين ، وينبغي له أن يشترط عليها كما يشترط صاحب
المبارأة : إن ارتجعت في شيء مما أعطيتني فأنا أملك ببضعك ، وقال : لا خلع ولا
مباراة ولا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين ، والمختلعة إذا
تزوجت زوجا آخر ثم طلقها يحل للأول أن يتزوجها ، ولا رجعة للزوج على المختلعة ،
ولا على المبادلة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها».
وفي هذه
الرواية الأخيرة وكذا صحيحة ابن بزيع ما يدل على الأمرين على البينونة بالخلع
وكونه رجعيا بعد رجوعها.
إذا تقرر ذلك
فاعلم أن المشهور أن للمرأة الرجوع ما دامت في العدة فإذا رجعت كان للزوج الرجوع
في نكاحها إن شاء ، صرح به الشيخ وغيره.
قال في النهاية
: وتكون تطليقة بائنة لا يملك رجعتها ، اللهم إلا أن ترجع المرأة فيما بذلته من
مالها ، فإن رجعت في شيء من ذلك كان له الرجوع أيضا في
__________________
بضعها ما لم تخرج من العدة ، فإن خرجت من العدة ثم رجعت في شيء مما بذلته
لم يلتفت إليها ولم يكن له عليها أيضا رجعة ، وإن أراد مراجعتها قبل انقضاء عدتها
إذا لم ترجع هي فيما بذلت أو بعد انقضائها كان ذلك بعقد مستأنف ومهر جديد.
وهذا الكلام
دال بإطلاقه على جواز رجوعها في البذل سواء اشترطت ذلك في العقد أم لا ، وسواء
اختار الرجل ذلك أم لا ، وظاهر ابن حمزة أنه مع الإطلاق وعدم اشتراط رجوعها ورجوعه
فلا بد من تراضيهما معا بالرجوع واتفاقهما عليه ، فلو لم يرض الزوج بالرجوع لم يكن
لها الرجوع ، بناء على أن الخلع عقد معاوضة ، فيعتبر في صحته تراضيهما ، ومع
التقييد فالحكم كما ذكره الشيخ إذا كان في العدة.
قال ابن حمزة
على ما نقله عنه في المختلف : يجوز أن يطلقا الخلع وأن تقيد المرأة بالرجوع فيما
افتدت به ، والرجل الرجوع في بضعها ، فإن أطلقا لم يكن لأحدهما الرجوع بحال إلا
برضا الآخر ، وإن قيدا لم يخل إما لزمتها العدة أو لم تلزم ، فإن لزمتها جاز
الرجوع ما لم تخرج من العدة ، فإن خرجت منها أو لم تلزم العدة لم يكن لهما الرجوع
بحال إلا بعقد جديد ومهر مستأنف.
واختار هذا
القول السيد السند في شرح النافع ، وقبله جده في المسالك ومراده بمن لم تلزمها
العدة ما لو كانت صغيرة أو يائسة أو غير مدخول بها ومن تمت عدتها ، وفي معناها
العدة البائنة كعدة المطلقة الثالثة ، وظاهره أنه مع التقييد ، فجواز رجوعها لازم
لجواز رجوعه ، فلو لم يمكنه الرجوع لكون العدة بائنة كأن تكون الطلقة ثالثة أو
كانت غير مدخول بها ونحوهما مما تقدم فإنه لا يجوز لها الرجوع ، وظاهر الأخبار
المتقدمة ، فإنها ظاهرة كالصريحة في إمكان رجوعه لقوله في صحيحة ابن بزيع «وتكون
امرأته» وقوله في موثقة الفضل «لأرجعن في بضعك» ونحوهما الرواية الثالثة إذ لا
يصدق شيء من ذلك فيما إذا كانت العدة بائنة ، كما أنه لا يصدق بعد خروج العدة ،
إلا أنه لا إشعار في شيء منها
بصورة التقييد كما ذكروه ، بل ظاهرها أعم من ذلك كما هو ظاهر عبارة الشيخ
في النهاية.
وكيف كان
فالظاهر من الأخبار المتقدمة هو اتفاقهما وتراضيهما على الرجوع شرط أحدهما أم لم
يشترط ، وإن كان الأولى الاشتراط كما دل عليه الخبر الثالث.
ويظهر الخلاف
من كلامي الشيخ وابن حمزة في أنه مع الإطلاق لو رجعت المرأة في بذلها ولم يرض
الرجل بذلك فإنه لا يصح رجوعها على قول ابن حمزة المتقدم ، لأنه اشترط في جواز
رجوعها تراضيهما معا عليه ، بناء على أنه عقد معاوضة ، فيعتبر في فسخه رضاهما.
وأما على قول الشيخ ، فإنه يصح لأن غاية ما دلت عليه الأخبار هو جواز رجوعه بعد
رجوعها ، فالشرط إمكان رجوعه في صحة رجوعها ، وإن لم يعتبر رضاه.
وبالجملة
فالأولى الوقوف على ظاهر الأخبار المذكورة كما أشرنا إليه.
بقي الكلام هنا
في مواضع : الأول : أنك قد عرفت أنه برجوع المرأة في البذل تصير العدة رجعية بعد
أن كانت بائنة قبل ذلك ، وحينئذ فهل تترتب عليها أحكام العدة الرجعية مطلقا كوجوب
النفقة والسكنى وتحديد عدة الوفاة لو مات في هذه العدة ونحو ذلك أم لا؟ إشكال ينشأ
من أن كونها عدة رجعية يقتضي ذلك إذ لا معنى للعدة الرجعية إلا ما يجوز للزوج
الرجوع فيها ، وهو يقتضي بقاء الزوجية الموجبة للأحكام المذكورة ، ومن أنها ابتدأت
على البينونة وسقوط هذه الأحكام ، فعودها بعد ذلك يحتاج إلى دليل ، والأصل يقتضي
استصحاب الحكم السابق ، ولا يلزم من جواز رجوعه على هذا الوجه كونها رجعية مطلقا
لجواز أن يراد بالرجعية ما يجوز للزوج الرجوع فيها مطلقا كما هو الظاهر ، وأما قبل
رجوعها فلا شبهة في انتفاء أحكام الرجعية عنها.
أقول : لا ريب
أن الأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ـ وإن لم يوجد نص في خصوص هذه
المسألة بالكلية ـ هو الوجه الأول من الاحتمالين
المذكورين ، فتجب هذه الأشياء المعدودة ونحوها ومنه ما لو مات الرجل
والمرأة في تلك الحال ، والظاهر أنه لا خلاف في ثبوت التوارث من الطرفين.
ومما يؤيد ذلك
قوله عليهالسلام في صحيحة ابن بزيع المتقدمة «وإن شاءت أن يرد عليها ما أخذ منها وتكون امرأته. إلخ». فإنه ظاهر في أنها
برجوعها في البذل تكون امرأته ، بمعنى ملك رجعتها ، كما أن المطلقة في العدة
الرجعية كذلك وقضية ذلك ترتب الأحكام المذكورة على رجوعها ، وجميع ما
علل به الوجه الثاني معلول.
أما قوله «إنها
ابتدأت على البينونة. إلخ» ففيه أن العدة وإن كانت ابتداؤها على البينونة وسقوط
تلك الأحكام إلا أنه برجوعها في البذل قد تغير الحكم من البينونة إلى الرجعية ،
فبتبدل الحكم المذكور تبدلت الأحكام المترتبة على كل منهما ، وبذلك يظهر ما في
قوله الأصل يقتضي استصحاب الحكم السابق وأي أصل هنا مع تبدل الحكم الأول إلى نقيضه
لأنها أولا كانت عدة بائنة والآن صارت عدة رجعية ، ومقتضي الأصل استصحاب أحكام
العدة الرجعية.
قوله «ولا يلزم
من جواز رجوعه على هذا الوجه. إلخ» مردود ، بأنه أي مانع يمنع من أن الشارع يحكم
بالبينونة وما يترتب عليها قبل رجوع المرأة في البذل ، ثم يحكم بالرجعة وما يترتب
عليها بعد الرجوع فيه ، وجواز أن يراد
__________________
بالرجعية ما يجوز للزوج الرجوع فيها مطلقا بمعنى رجعت أو لم ترجع خلاف
للظاهر لأنك قد عرفت أن هذه العدة قد اتصفت بالبينونة والرجعية باعتبارين ،
فبالنظر إلى عدم رجوع الزوجة بالبذل فهي بائنة لا يجوز للزوج الرجوع فيها كما صرحت
به الأخبار ، وباعتبار رجوعها فيه قد انقلب الحكم وتغير إلى نقيضه من الرجعية ،
ويترتب على كل منهما أحكامه الشرعية ، وظاهره في المسالك الميل إلى الوجه الثاني ،
وفيه ما عرفت.
الثاني : هل
يجوز للرجل أن يتزوج أخت الزوجة التي خلعتها؟ وكذا هل يجوز أن يتزوج برابعة أم لا؟
وجهان بل قولان ، أظهرهما الأول لتحقق البينونة التي من فروعها ذلك.
وعليه يدل
بالنسبة إلى تزويج الأخت ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل اختلعت منه امرأته أيحل له أن يخطب
أختها من قبل أن تنقضي عدة المختلعة؟ قال : نعم قد برئت عصمتها ، وليس له عليها
رجعة».
وعلل القول
بالمنع بأنه عقد متزلزل في حكم الرجعي ، ولأنه على تقدير تقدم ذلك ثم رجوعها يصير
جامعا بين الأختين وأزيد من العدد الشرعي.
وضعف التعليل
الأول أظهر من أن يخفى إذ لا تزلزل مع ثبوت البينونة به وكونه يصير رجعيا بعد
رجوعها لا يوجب منع إجراء أحكام البينونة عليه قبل الرجوع ، ولا يوصف بالتزلزل في
تلك الحال الاولى.
وأما الثاني
فهو مبني على تجويز الرجوع لها ، وسيأتي ما فيه ، ثم إنه على تقدير ما اخترناه من
جواز التزويج فهل للزوجة الرجوع في البذل بعد تزويجه بأختها أو أخذ الرابعة ، أم
لا؟ وجهان ، أقربهما الثاني لما تقدم من أن
__________________
رجوعها مشروط بإمكان رجوعه ، وهو في هذه الحال لا يمكنه الرجوع إليها.
وما قيل من أنه
يمكن إزالته بتطليق الأخت والرابعة بائنة فله الرجوع حينئذ لزوال المانع مردود ،
بأن ظاهر الأخبار الدالة على الانقلاب رجعيا بعد رجوعها أنها بمجرد رجوعها في
البذل صارت امرأته من غير توقف على أمر آخر وهذا لا تصير امرأته بمجرد ذلك ، كما
لا تصير ذات الطلقة الثالثة والغير المدخول بها امرأته بمجرد الرجعة ، فإذا لم تصر
امرأته بمجرد رجوعها في البذل امتنع رجوعه ، وقد عرفت أنه متى امتنع رجوعه فيها
امتنع رجوعها في البذل.
الثالث : هل
يجوز لها الرجوع في بعض ما بذلته؟ وجهان ، اختار ثانيهما السيد السند في شرح
النافع حيث قال : والأظهر أنه ليس للمرأة الرجوع في بعض ما بذلته.
وقال في
المسالك : لو رجعت في البعض خاصة هل يصح الرجوع ويترتب عليه صحة رجوعه؟ لم أقف فيه
على شيء يعتد به ، وفيه أوجه كل منها محتمل : (أحدها) جواز الرجوع ، ويترتب عليه
رجوعه. أما الأول فلما اتفق عليه الأصحاب من أن البذل غير لازم من جهتها ، فكما
يصح لها الرجوع في الجميع يصح في البعض لأن الحق لها ، فلها إسقاط الجميع فإن عدم
الرجوع في قوة الإسقاط ، إذ لا يلزم منه رجوع العوض الآخر بل جوازه ، وأما الثاني
فلأنه مترتب على رجوعها ، وقد حصل.
وفي رواية أبي
العباس ما يرشد إليهما ، لأنه قال «المختلعة إن رجعت في شيء
من الصلح يقول : لأرجعن في بضعك». وهو صريح في الاكتفاء بالبعض وترتب رجوعه عليه.
و (الثاني)
المنع فيهما. أما الأول فلأن جوازه يقتضي صيرورة الطلاق رجعيا
__________________
وإنما تصير رجعيا إذا لم يشتمل على عوض ، والعوض باق في الجملة ، إذ لا فرق
فيه بين القليل والكثير ، ومن ثم لو جعل ابتداء ذلك القدر الباقي بل أقل منه كفي
في البينونة ، فالجمع بين كون الطلاق رجعيا وبقاء العوض في مقابله متنافيان.
وفي صحيحة ابن
بزيع ما يرشد إليه ، لأنه قال «وإن شاءت أن يرد إليها ما أخذ منها وتكون امرأته
فعلت». وهي العمدة في الباب لصحتها ، وظاهرها اعتبار رد الجميع لأن ما من صيغ
العموم فلا يترتب عليه الحكم بالعوض.
و (ثالثها)
جواز رجوعها دونه. أما الأول فلما تقرر من أن البذل من جهتها جائز فيتخير في
الرجوع. وأما الثاني فلأن بقاء شيء من العوض مانع من رجوعه وهو حاصل هنا ،
وأضعفها الأخير لما يظهر من تلازم الأمرين حيث لا يكون المانع من قبله وهو هنا ليس
كذلك ، ولأن هذا لو صح لزم الإضرار به بأن ترجع في أكثر البذل ، وتبقى شيئا يسيرا
لتمنعه من الرجوع ، وهو منفي ، ولا وسيلة له إلى إسقاطه بخلاف ما تقدم ، والوسط لا
يخلو من قوة ، انتهى.
أقول : لا يخفى
أن المسألة المذكورة محل توقف وإشكال. أما بالنظر إلى التعليلات العقلية فلما عرفت
من تصادمها وتقابلهما مع ما عرفت من أنها وإن خلت من ذلك لا تصلح لتأسيس الأحكام
الشرعية.
وأما بالنظر
إلى الروايات فلتعارضها أيضا بحسب الظاهر ، فإن ظاهر صحيحة ابن بزيع كما ذكره
تخصيص الحكم بالرجوع في الجميع فلا يكفي الرجوع في البعض ، ومثلها قوله عليهالسلام في آخر صحيحة عبد الله بن سنان المتقدم نقلها عن تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم «إلا
أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها». وظاهر رواية أبي العباس كما ذكره صحة
الرجوع منها ومنه برجوعها في البعض لقوله «إن رجعت في شيء من الصلح ـ يعني البذل
ـ يقول : لأرجعن» والظاهر
__________________
أن شيخنا المذكور وسبطه إنما اختارا ما دلت عليه صحيحة ابن بزيع من حيث صحة
الرواية المذكورة وضعف الأخرى.
وفيه أن ما دلت
عليه رواية أبي العباس قد ورد في صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة لقوله عليهالسلام فيها «وينبغي له أن يشترط عليها كما يشترطه صاحب
المبارأة : وإن ارتجعت في شيء مما أعطيتني فأنا أملك ببعضك» ومثل هذه العبارة في
كثير من أخبار المبارأة ، ومنها الصحيح وغيره ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ،
وبذلك يظهر لك الاشكال.
ويمكن الجمع
بين هذه الأخبار بحمل «من» في هذه الأخبار على البيانية دون التبعيضية ، والظاهر
أنه هو الذي فهمه الأصحاب من هذه الأخبار حيث إن جميع ما دل على رجوع المرأة في
البذل في باب المبارأة إنما عبر عنه بهذه العبارة ، مع اتفاقهم على تخصيص الحكم
بالرجوع في الكل ، ولم يذكر أحد منهم ـ لا في الخلع ولا في المبارأة ـ الرجوع في
البعض ، وإنما وقع الكلام فيه من شيخنا المذكور ومن تأخر عنه كما أشار إليه بقوله «لم
أقف فيه على شيء يعتد به» ويبعد أشد البعد اتفاقهم على الحكم المذكور مع كون ظاهر
الأخبار كلها على خلافه لو حملت «من» على التبعيضية إلا أنه يحتمل أن يقال إن ما
دل على الرجوع في الجميع لا دلالة فيه على الحصر في هذا الفرد ، بل من الجائز كونه
أحد الفردين وما دلت عليه الأخبار الأخر من الجواز بالرجوع في البعض هو الفرد
الآخر ، إلا أن فيه ما عرفت ، والله العالم.
فوائد
الأولى : إذا
أراد الرجل إعادة الزوجة ولم ترجع في البذل ، فإنه لا يكون إلا بعقد جديد ومهر
مستأنف لأنها بالخلع صارت بائنة أجنبية وبطريق أولى لو خرجت من العدة.
الثانية : لا
إشكال في أنه لا توارث بين المختلعين لما عرفت من البينونة بالخلع ، والخروج عن
الزوجية بالكلية ، وانقطاع العصمة بينهما ، ويدل عليه قوله في رواية ابن رئاب
المتقدمة «ولا ميراث بينهما في العدة». ولا ريب في ثبوت التوارث بعد رجوعها ورجوعه ،
لأنه برجوعه فيها بعد رجوعها صارت زوجة.
وإنما محل
الاشكال فيما لو رجعت هي ولم يرجع هو ، ويأتي على ما قدمنا ذكره في الموضع الأول
من المقام الرابع ثبوت التوارث ونحوه من تلك الأحكام المذكورة ثمة ، لأنها برجوعها
في العدة تصير العدة رجعية ، يملك الزوج الرجوع فيها ، ومن شأن العدة الرجعية ترتب
تلك الأحكام عليها.
الثالثة : لو
خالعها وشرط الرجوع لم يصح ، لأن مقتضى الخلع البينونة ، فيكون هذا الشرط منافيا
لمقتضى العقد ، فيبطل ويترتب عليه بطلان الخلع ، والظاهر أن ترتب بطلان الخلع عليه
مبني على القاعدة المشهورة من أنه إذا فسد الشرط الذي تضمنه ذلك العقد لزم منه
بطلان تلك العقد ، حيث إنه لم يتوجه القصد إلى ذلك العقد إلا بهذا الشرط والحال
أنه فاسد ، فما تعلق به القصد غير صحيح ، وما هو صحيح ـ وهو العقد بدون الشرط
المذكور ـ لم يتعلق به القصد.
وقد عرفت ما في
هذه القاعدة من المناقشة في غير موضع مما تقدم ، وقضية ذلك صحة الخلع وإن بطل
الشرط المذكور ، ونحو ذلك يأتي في الطلاق بعوض ، فإنه كالخلع يكون بائنا ، والشرط
المذكور مناف لمقتضاه.
الرابعة : لو
اتفقا على قدر البذل كمائة مثلا واختلفا في الجنس. فادعت الزوجة أنه مائة درهم
وادعى الزوج أنه مائة دينار. والمشهور وبه صرح الشيخ وغيره أن القول قول المرأة
لأنها منكرة لما يدعيه ، والأصل عدم استحقاقه إياه ، قالوا : نعم ، لو أخذه على
وجه المقاصة اتجه جوازه.
__________________
واعترضهم في
المسالك فقال : ويشكل هذا القول من رأس ، لأن كلا منهما مدع ومدعى عليه ، والآخر
ينكر ما يدعيه ، وهذه قاعدة التخالف في نظائره من عوض البيع والإجارة وغيرهما ،
وإنما يتجه تقديم قول أحدهما إذا اتفق قولهما على قدر وادعى الآخر الزيادة عليه
وأنكرها الآخر ، فيكون منكر الزيادة منكرا لكل وجه ، ومدعيها مدعيا ، بخلاف صورة
النزاع لأن دعوى الذهب لا يجامع دعوى الفضة ، والإنكار من كل منهما لما يدعيه
الآخر متحقق ، فلو قيل بأنهما يتحالفان ويسقط ما يدعيانه بالفسخ أو الانفساخ فيثبت
مهر المثل إلا أن يزيد عما يدعيه الزوج كان حسنا ، ولا يتجه هنا بطلان الخلع
لاتفاقهما على صحته ، أو إنما يرجع اختلافهما إلى ما يثبت من العوض ، ويحتمل أن
يثبت مع تحالفهما مهر المثل مطلقا لتساقط الدعويين بالتحالف ، انتهى.
أقول : ما ذكره
ـ قدسسره ـ من رجوع حكم المسألة إلى التحالف جيد ، وإنما يبقى
الكلام في أنه بعد التحالف ، وسقوط كل مما يدعيانه ، فإن الظاهر هو بطلان الخلع
بالمرة لخلو الخلع من العوض لأنه منحصر في أحد هذين المذكورين ، وقد تساقطا معا
بالتحالف ، ومهر المثل غير مذكور في صيغة الخلع ولا مقصود ولا مراد بالكلية ، فبأي
وجه يثبت هنا؟ وتقديره والرجوع إليه بعد التحالف لا معنى له ، لأنه ليس من قبيل
المهر الذي يجب تقديره مع خلو عقد النكاح عنه ، وإنما هو عوض يجب ذكره في عقد
الخلع ، ويكون ركنا من أركانه ، وهو هنا منحصر في أحد هذين المذكورين ، لأنه لا بد
بحسب الواقع أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، لكن لما اشتبه ذلك وكان اللازم
شرعا هو التحالف الموجب لسقوطهما معا لزم منه خلو الخلع من العوض ، وهو موجب
لبطلانه ظاهرا وإن كان صحيحا في الواقع تتعلق به أحكامه بالنسبة إليهما المعلومية
ذلك عندهما كما في نظائره من العقود الصحيحة في الواقع الفاسدة بحسب الظاهر ،
ويؤيده ما تقدم في كتاب البيع من أنه بالتحالف يبطل البيع ونحوه من العقود التي
يكون
الحكم فيها ذلك.
وأما قوله «ولا
يتجه هنا بطلان الخلع لاتفاقهما على صحته» ففيه أن البيع كذلك أيضا ، مع أنهم
صرحوا بالبطلان بعد التحالف ، وذلك أنه إذا قال البائع بعتك بهذا العبد أو بهذا
الدينار ، وقال المشتري بل بهذه الجارية أو بهذه الدراهم ، فإنهما قد اتفقا على
وقوع البيع ، مع أنه بعد التحالف الذي هو الحكم في هذه الصورة يحكم ببطلان البيع ،
وإن اختلفوا في أن البطلان هل هو من الأصل فينزل البيع بمنزلة العدم؟ أو من حين
التحالف أو الفسخ كما نقله شيخنا في المسالك في كتاب البيع ؟
وبالجملة فإن
العقد الذي يجري فيه التحالف لا إشكال في صحته بحسب الواقع ونفس الأمر لاشتماله
على شرائط الصحة ، لكن باعتبار هذا الاختلاف بين المتعاقدين الموجب للتحالف الذي
يتساقط به الدعويان ويلزم منه الخلو من العوض يجب الحكم بالبطلان في ظاهر الأمر ،
وإلا لزم الترجيح بغير مرجح. وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكره وجه صحة يعتمد عليه
لما عرفت ، والله العالم.
الخامسة : قال
في المختلف : لو خالع المريض لم ترثه الزوجة في العدة ،
__________________
سواء قلنا إنه طلاق أو مفتقر إليه لانتفاء التهمة.
قال ابن إدريس
: وإلى هذا القول ذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره قال «ولنا في ذلك نظر» وهو يدل
على تردده ، لنا ما تقدم من انتفاء سبب التوارث وهي التهمة.
وما رواه محمد
بن القاسم الهاشمي عن الصادق عليهالسلام قال : «سمعته يقول : لا ترث المختلعة والمبارأة
والمستأمرة في طلاقها من الزوج شيئا إذا كان ذلك منهن في مرض الزوج وإن مات في
مرضه لأن العصمة قد انقطعت منهن ومنه». انتهى.
أقول : ما ذكره
العلامة ـ قدسسره ـ من نفي التوارث لانتفاء سببه وهو التهمة جار على
مذهبه في المسألة كما تقدم ذكره ، وهو المختار كما تقدم ذكره.
وأما على القول
المشهور من أن مطلقه المريض ترثه في مرضه وإن خرجت من العدة بالمرة ما لم تتزوج أو
يبرأ أو تمضي سنة ، سواء كان السبب الداعي إلى الطلاق من جهته أو من جهتها ، فإنها
ترثه في هذه الصورة ، وهو مردود بالأخبار المتقدمة التي من جملتها هذا الخبر ، ومن
هنا تنظر ابن إدريس هنا.
السادسة : نقل
في المختلف عن الصدوق في المقنع أنه قال في المختلعة : ولا تخرج من بيتها حتى
تنقضي عدتها ، وإذا طلقها فليس لها متعة ولا نفقة ولا سكنى.
ثم اعترضه فقال
: والجمع بين الكلامين مشكل ، والوجه أن لها الخروج لأنه طلاق بائن ، انتهى.
ومما يدل أنه
لا سكنى لها ولا نفقة ما رواه في من لا يحضره الفقيه عن رفاعة بن موسى في الصحيح «أنه سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن المختلعة ، إلها سكنى ونفقة؟ فقال : لا سكنى لها ولا
نفقة».
__________________
وما رواه في
الكافي عن رفاعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المختلعة لا سكنى لها ولا نفقة».
وإذا ثبت أن لا
سكنى لها على الزوج بل لها أن تسكن حيث شاءت ، فكيف يوجب عليها أن لا تخرج من
بيتها الذي هو عبارة عن بيت زوجها كما تقدم؟ إلا أنه قد ورد ما ينافي هذه الأخبار
مما يدل على كلام الصدوق ـ رحمة الله عليه.
ومنه ما رواه في
الكافي عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليهالسلام في المختلعة قال : «عدتها عدة المطلقة ، وتعتد في بيتها
، والمختلعة ، بمنزلة المبارأة».
وعن زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن عدة المختلعة ، قال : عدة المختلعة عدة المطلقة
ولتعتد في بيتها ، والمبارأة بمنزلة المختلعة».
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «عدة المبارأة والمختلعة والمخيرة عدة المطلقة ،
ويعتددن في بيوت أزواجهن».
وهي كما ترى
صريحة فيما ذكره الصدوق ، إلا أن الجمع بين الأمرين كما عرفت لا يخلو من الاشكال ،
والروايات الأول أوفق بأصول المذهب ، لأنها بائن بالاتفاق نصا وفتوى ، فلا سكنى
لها ولا نفقة لها.
واحتمل شيخنا
المجلسي ـ رحمهالله عليه ـ في حواشيه على كتب الأخبار حمل الروايات الأخيرة
على الاستحباب ، قال : وإن كان القول بظاهرها لا يخلو من قوة.
وفيه ما عرفت
من أن هذه الأخبار مع معارضتها بالأخبار الأول مخالفة لأصول المذهب.
__________________
وظاهر المحدث
الكاشاني الميل إلى حمل هذه الأخبار الأخيرة على التقية بقرينة الخبر الأخير ،
وعدة المخيرة فيه ، مع أنه لا تخيير عندنا ، وهو وإن كان لا يخلو من قرب إلا أن
الاشكال باق في المقام ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة ، فلعله كما دلت عليه هذه
الأخبار ، والله العالم.
المقصد الثاني في المبارأة
وأصلها
المفارقة ، وهي هنا عبارة عن الطلاق بعوض مع كراهة كل من الزوجين الآخر ، ولها
أحكام تخصها ، وأحكام تشارك الخلع فيها ، وأنا أذكر أولا ما وقفت عليه من الأخبار
المتعلقة بها ثم أردفها إن شاء الله بما يتعلق بها من الأبحاث في المقام.
الأول : ما
رواه ثقة الإسلام في الموثق عن سماعة قال : «سألته عن المبارأة كيف هي؟
فقال : تكون للمرأة شيء على زوجها من صداق أو من غيره ويكون قد أعطاها بعضه فيكره
كلا منهما صاحبه ، فتقول المرأة لزوجها ما أخذت منك فهو لي وما بقي عليك فهو لك ،
وأبارئك ، فيقول الرجل لها : فإن رجعت في شيء مما تركت فأنا أحق ببضعك». ورواه
الشيخ في التهذيب عن سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام وأبي الحسن عليهالسلام مثله.
الثاني : عن
محمد بن مسلم في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة قالت لزوجها : لك كذا وكذا وخل سبيلي ، فقال.
هذه المبارأة».
الثالث : عن
أبي بصير في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المبارأة تقول
__________________
المرأة لزوجها : لك ما عليك واتركني أو تجعل له من قبلها شيئا فيتركها ،
إلا أنه يقول : فإن ارتجعت في شيء فأنا أملك ، ولا يحل لزوجها أن يأخذ منها إلا
المهر فما دونه».
الرابع : عن
عبد الله بن سنان في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المبارأة تقول لزوجها : لك ما عليك وبارئني
فيتركها ، قال : قلت : فيقول لها : إن ارتجعت في شيء فأنا أملك ببضعك؟ قال : نعم».
الخامس : ما
رواه في من لا يحضره الفقيه في الصحيح عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المبارأة أن تقول لزوجها : لك ما عليك واتركني
فيتركها ، إلا أنه يقول : إن ارتجعت في شيء منه فأنا أملك ببضعك». ثم قال في
الفقيه «وروي أنه لا ينبغي له أن يأخذ منها أكثر من مهرها ، بل يأخذ منها دون مهرها».
السادس : وما
رواه في الكافي والتهذيب عن أبي الصباح الكناني قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : إن بارأت امرأة زوجها فهي واحدة وهو خاطب من الخطاب».
السابع ، ما
رواه في التهذيب عن إسماعيل الجعفي عن أحدهما عليهماالسلام قال : «المبارأة تطليقة بائن وليس فيها رجعة».
الثامن : عن
زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المبارأة تطليقة بائن وليس في شيء من ذلك رجعة».
__________________
التاسع : عن
زرارة ومحمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال : «لا مباراة إلا على طهر من غير جماع بشهود».
العاشر : عن
حمران قال : «سمعت أبا جعفر عليهالسلام يحدث يقول : المبارأة تبين من ساعتها من غير طلاق ولا
ميراث بينهما ، لأن العصمة منهما قد بانت ساعة كان ذلك منها ومن الزوج».
الحادي عشر : عن
جميل بن دراج في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المبارأة تكون من غير أن يتبعها الطلاق».
الثاني عشر :
ما رواه في الكافي عن زرارة في الصحيح أن الحسن عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «المبارأة يؤخذ منها دون الصداق والمختلعة يؤخذ
منها ما شاءت أو ما تراضيا عليه من صداق أو أكثر ، وإنما صارت المبارأة يؤخذ منها
دون الصداق ، والمختلعة يؤخذ منها ما شاء ، لأن المختلعة تعتدي في الكلام وتتكلم
بما لا يحل لها».
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع :
الأول : لا خلاف في أن المبارأة مشروطة بكراهة كل من الزوجين الآخر ، وهذا الشرط
مقطوع به في كلامهم ، وعليه يدل الخبر الأول ، وكذا ظاهر الآية ـ أعني قوله عزوجل «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما
حُدُودَ اللهِ» ـ فإن مورد الآية الخلع والمبارأة ، وقد أسند خوف
__________________
عدم إقامة الحدود الذي هو كناية عن الكراهة إلى كل منهما في حق الآخر.
وهذا من جملة
المواضع التي يفارق فيها المبارأة الخلع ، حيث إنه يشترط هنا الكراهة من الطرفين
وفي الخلع من طرف المرأة خاصة.
الثاني : المشهور بل ادعي عليه الإجماع كما صرح به المحقق في الشرائع والعلامة في
جملة من كتبه وجوب اتباع المبارأة بلفظ الطلاق ، وأنه لا يعتد بها بدونه ، مع أن
المحقق في النافع وهو متأخر عن الشرائع نسب القول بذلك إلى الأكثر ، وفيه إيذان
بعدم تحقق الإجماع المدعى ، وأنه لا دليل على ذلك إلا مجرد الشهرة.
والشيخ ـ رحمة
الله عليه ـ قال في التهذيب بعد أن أورد الروايات الدالة على عدم الاتباع بالطلاق
ومنها الخبر العاشر والحادي عشر قال : قال محمد بن الحسن : الذي أعمل عليه في
المبارأة ما قدمنا ذكره في المختلعة ، وهو أنه لا يقع بها فرقة ما لم يتبعها بطلاق
، وهو مذهب جميع أصحابنا المحققين من تقدم منهم ومن تأخر ، وليس ذلك منافيا لهذا
الخبر الذي ذكرناه ـ وعنى به رواية جميل ـ لأن قوله «المبارأة تكون من غير أن يتبعها
بالطلاق». لا يفيد أنه تقع الفرقة بينهما بذلك ـ إلى أن قال : ـ ولو كان صريحا
بالفرقة لكنا نحمله على ضرب من التقية كما قدمنا في باب الخلع.
وقال في
الاستبصار : وهذه الأخبار أوردناها على ما رويت ، وليس العمل على ظاهرها لأن
المبارأة ليس يقع بها فرقة من غير طلاق ، وإنما تؤثر في ضرب من الطلاق في أن يقع
بائنا لا يملك معه الرجعة ، وهو مذهب جميع فقهاء أصحابنا المتقدمين منهم
والمتأخرين لا نعلم خلافا بينهم في ذلك ، والوجه فيها أن نحملها على التقية لأنها
موافقة لمذهب العامة ، ولسنا نعمل به ، انتهى.
ويشكل أولا
بعدم الدليل على ما ذكره من الأخبار المذكورة ، وهي أخبار المسألة كملا ، بل هي في
خلافه ما بين صريح الدلالة وظاهرها ، فمن الأول الخبر العاشر والحادي عشر ، ومن
الثاني الخبر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس ،
فإنما اشتملت عليه من أنها تقول كذا ، ويقول الزوج كذا هو صيغة المبارأة
التي يترتب عليها حكمها مع استكمال باقي الشرائط من الطهارة والاشهاد ، وكونها في
طهر لم يقربها فيه وهم ـ رضوان الله عليهم ـ قد صرحوا بأن صيغة المبارأة بأن يقول
: بارأتك على كذا فأنت طالق.
وقال السيد
السند في شرح النافع ـ بعد نقل هذه الصيغة في كلام المصنف ـ ما لفظه : الكلام في
صيغة المبارأة كما في الخلع من افتقارها إلى اللفظ الدال عليه من قبل الزوج ،
والاستدعاء أو القبول من جهة المرأة.
مع أن ظاهر هذه
الأخبار كما ترى أن هذه صيغة المبارأة التي يترتب عليها أحكامها ، لأن هذا الأخبار
قد تضمنت أن المبارأة التي تترتب عليها الأحكام عبارة عن هذا القول منها ومنه ،
وليس في شيء منها تعرض للفظ الطلاق ولا لاستدعاء المرأة أو قبولها ، كما ذكره
السيد السند وغيره ، وعلى هذا النحو باقي أخبار المسألة من قولهم عليهمالسلام «المبارأة تطليقة بائن ليس فيها رجعة» ونحو ذلك فإنه قد رتب الحكم فيها على
المبارأة الصادقة لما ذكرناه من الأقوال التي اشتملت عليها تلك الأخبار ونحوها.
وبالجملة فإنه
لا يشم لهذا الطلاق رائحة من أخبار المسألة فضلا عن الدلالة عليه ، بل هي في عدمه
أظهر من أن ينكر.
وثانيا ما ذكره
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك من أن المبارأة لا يستعملها العامة ، ولا يعتبرون
فيها ما يعتبره أصحابنا بل يجعلونها من جملة كنايات الخلع أو الطلاق ، وحينئذ فكيف
يتم حمل ما ورد من أحكامها على التقية ، وأنت قد عرفت فيما تقدم من أخبار الخلع أن
بعضها دال على الاتباع بالطلاق كما يدعونه ، إلا أن الأكثر الأصح منها على العدم ،
وأما في هذا الباب فلا دلالة في شيء من أخباره كما عرفت على ما ذكروه.
وبالجملة فإنه
لم يبق في معارضة هذه إلا ما يدعونه من الإجماع وقد عرفت
ما فيه من الجدال والنزاع ، ويظهر من شيخنا الشهيد الثاني المناقشة في هذا
الإجماع وعدم تسليمه في أمثال هذه المقامات وهو كذلك ، وهذا
الموضع أيضا أحد مظاهر الفرق بين الخلع والمبارأة بالنظر إلى أنه في الخلع قد وقع
الخلاف في وجوب الاتباع بالطلاق وعدمه ، وفي المبارأة قد وقع الإجماع على وجوب
الاتباع ، وكل من قال في الخلع بالعدم أوجبه في المبارأة ، وفيه ما عرفت مما
أوضحنا تحقيقه.
الثالث
: اختلف
الأصحاب فيما يؤخذ من فدية المبارأة بعد الاتفاق على أنه لا يجوز له الزيادة على
ما أعطاها ، فالمشهور أنه يجوز له المهر فما دونه.
وذهب جمع من
الأصحاب إلى أنه لا يؤخذ إلا دون ما دفع إليهما ، ونقله في المختلف عن الشيخ علي
بن بابويه في الرسالة ، قال : قال الشيخ علي بن بابويه في رسالته في المبارأة :
وله أن يأخذ منها دون الصداق الذي أعطاها ، وليس له أن يأخذ الكل.
وممن صرح بجواز
أخذ المهر كملا الشيخ المفيد وابن إدريس ، وهو المشهور بين المتأخرين.
وقال الصدوق في
المقنع : ولا ينبغي له أن يأخذ منها أكثر من مهرها بل يأخذ منها دون مهرها. وهو
الظاهر من كلام الشيخ في النهاية وابن أبي عقيل وابن حمزة ، وهذا القول إنما تعرض
فيه للأكثر والأقل خاصة ، وأما جميع ما أعطاه من غير زيادة ولا نقصان فهو مجمل
فيه.
والذي يدل على
القول المشهور الخبر الثالث ، وهو صحيح صريح في ذلك ، وما ذكره السيد السند في شرح
النافع ـ من أنه ضعيف لاشتراك أبي بصير ـ مردود
__________________
بأن الراوي عن أبي بصير هنا عبد الله بن مسكان وهو من قرائن ليث المرادي
الثقة الجليل.
ويدل على ما
ذهب اليه الشيخ علي بن بابويه الخبر الثاني عشر وهو صحيح أو كالصحيح ، لأن حسنه
إنما هو بإبراهيم بن هاشم ، وما قدح به في الخبر المذكور في المسالك ـ من أنه
مقطوع ـ مردود بأنه وإن كان كذلك في التهذيب ومنه نقل ، إلا أنه في الكافي كما
نقلناه متصل لا قطع فيه.
ومن هنا يظهر لك
أن ما رجحه في المسالك من العمل بصحيحة أبي بصير بناء على رد هذه الرواية بالقطع
ليس في محله ، وما رجحه سبطه من العمل بهذه الرواية بناء على نقله لها من الكافي ،
وهي حسنة عنده كالصحيح بناء على طعنه في صحيحة أبي بصير باشتراك الراوي ليس في
محله أيضا ، لما ذكرناه من القرينة على أنه ليث المرادي الثقة الجليل ، ولهذا
وصفها في المسالك بالصحة ، وبذلك يظهر لك تصادم الخبرين المذكورين مع صحتهما معا
في البين ، وأنه لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر من حيث السند.
ويمكن الجمع
بينهما بحمل رواية الأقل من المهر على الأفضل ، وإن جاز له أخذ الجميع ، وهذا
الموضع أحد مظاهر الفرق بين الخلع والمبارأة كالموضع الأول.
الرابع : قال المحقق في الشرائع ـ بعد ذكر الصيغة وأنها عبارة عن أن يقول بارأتك
على كذا فأنت طالق ـ : ولو اقتصر على قوله أنت طالق بكذا صح ، وكان مباراة ، إذ هي
عبارة عن الطلاق بعوض مع منافرة بين الزوجين.
أقول : قد عرفت
مما قدمنا في كتاب الخلع أن الفرقة الحاصلة بالخلع أو المبارأة لا تنحصر في لفظ
الخلع أو المبارأة ، بل كلما أفاد هذا المعنى من الألفاظ متى استكمل باقي الشروط
فإنه يترتب عليه حكم تلك الفرقة الخاصة ، ومن ذلك قوله أنت طالق بكذا فإن استكمل
شرائط الخلع كان خلعا ، وإن استكمل شرائط المبارأة كان مباراة.
وبالجملة فإن
الطلاق بعوض وإن لم يرد بخصوصه في الأخبار إلا أنه
لا يخرج عن أحدهما حسبما قدمنا تحقيقه في الموضع الرابع من المقام الأول في
صيغة الخلع.
وما ذكره في
المسالك هنا بناء على ما ذهب إليه من وجوده في مادة غيرهما حيث قال : ولو قيل
بصحته مطلقا حيث لا يقصد به أحدهما كان وجها لعموم الأدلة قد قدمنا ما فيه مما
يكشف عن بطلان باطنه وخافية.
الخامس
: الظاهر أنه
لا خلاف في أن جميع ما ذكر من الشروط المعتبرة في صحة الطلاق فإنها تعتبر في
المبارأة أيضا ، وكذا ما يترتب على الخلع من البينونة بعد استكمال الشرائط فإنها
تترتب على المبارأة كذلك ، وكذا ما تقدم من أنه ليس للزوج الرجوع إلا أن ترجع هي
في البذل.
ومما يدل على
البينونة بذلك الخبر السابع والثامن والعاشر ، وعلى الاشتراط بشروط الطلاق قول
زرارة في الخبر الثامن وقوله عليهالسلام في الخبر التاسع ، وعلى رجوعه برجوعها الاشتراط المذكور
في جملة منها.
بقي أن ظاهر
هذه الأخبار إنما هو الرجوع في شيء مما أعطاها ، وهو ظاهر في الترتب على الرجوع
في البعض ، وقد تقدم الكلام فيه ، وبينا أن الظاهر حمل «من» هنا على البيانية لا
التبعيضية ، ولم أقف على من تعرض للكلام في ذلك إلا شيخنا في المسالك ، فقال هنا ـ
زيادة على ما تقدم في الخلع ـ : وفي هذه الأخبار التي ذكرناها سابقا في المبارأة
ما يدل على جواز رجوعه في الطلاق متى رجعت في شيء من البذل وإن لم يكن جميعه ،
وقد تقدم ما فيه في الخلع ، انتهى.
أقول : مقتضى
الوقوف على ظاهره هذه الأخبار المتفقة على هذه العبارات هو تخصيص الرجوع برجوعها
في البعض خاصة ، إذ ليس سواها في الباب ، ولا قائل به ، بل ظاهرهم التخصيص بالجميع
، ولا مخرج عن هذا الإشكال إلا بما ذكرنا من حمل «من» على البيانية ، والظاهر أنه
هو الذي فهمه الأصحاب ـ رحمة الله عليهم ـ من هذه العبارة ، والله العالم بحقائق
أحكامه.
كتاب الظهار
قال في كتاب
المصباح المنير : ظاهر من امرأته ظهارا مثل قاتل قتالا ، وتظهر : إذا
قال لها : أنت علي كظهر أمي ، إنما خص ذلك بالظهر لأن الظهر من الدابة موضع الركوب
، والمرأة مركوبة وقت الغشيان ، فركوب الام مستعار من ركوب الدابة ، ثم شبه ركوب
الزوجة بركوب الام الذي هو ممتنع ، وهو استعارة لطيفة ، فكأنه قال : ركوبك للنكاح
حرام علي ، وكان الظهار طلاقا في الجاهلية ، فنهوا عن الطلاق بلفظ الجاهلية وأوجب
عليهم الكفارة تغليظا في النهي ، انتهى.
وفي المسالك
أيضا : إنه كان طلاقا في الجاهلية كالإيلاء ، فغير الشرع حكمه إلى تحريمها لذلك
ولزوم الكفارة بالعود كما سيأتي ، انتهى.
وقيل في تعريفه
: إنه تشبيه الزوج المكلف زوجته ولو مطلقة رجعية في العدة بظهر امه ، وقيل وبمحرمة
نسبا أو رضاعا على ما سيأتي ذكره من الخلاف ، ولا خلاف بين العلماء في تحريمه.
والأصل في قوله
عزوجل «الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ
إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ
وَزُوراً» وقد
__________________
دلت الآية على أنه منكر وزور ، ولا ريب في تحريم كل منهما ، ونقل في
الشرائع قولا بأنه محرم ، ولكن يعفي عن فاعله يعني في الآخرة ، فلا يعاقب عليه
استنادا إلى قوله تعالى في آخر الآية «وَإِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».
قال في المسالك
: وهذا القول ذكره بعض المفسرين ولم يثبت عن الأصحاب ثم تنظر فيه بأنه لا يلزم من
وصفه تعالى بالعفو والغفران فعليتهما بهذا النوع من المعصية ، وذكره بعده لا يدل
عليه. نعم لا يخلو من باعث على الرجاء والطمع في عفو الله تعالى ، إلا أنه لا يلزم
منه وقوعه به بالفعل ، ونظائره في القرآن كثيرة مثل قوله تعالى «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً» مع أنه لم يقل أحد بوجوب عفوه عن هذا الذنب المذكور
قبله ـ إلى أن قال : ـ والحق أنه كغيره من الذنوب أمر عقابها راجع إلى مشية الله
تعالى ، انتهى.
والسبب في نزول
هذه الآية ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره بسنده المذكور فيه عن حمران عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إن امرأة من المسلمات أتت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت : يا رسول الله إن فلانا زوجي وقد نثرت له بطني
وأعنته على دنياه وآخرته ، لم ير مني مكروها ، أشكوه إليك ، قال : فيم تشكونيه؟ قالت
: إنه قال : أنت علي حرام كظهر أمي ، وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري ، فقال
لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضي فيه بينك وبين
زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلفين ، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عزوجل وإلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وانصرفت ، قال : فسمع الله تبارك وتعالى
__________________
مجادلتها لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في زوجها وما شكت إليه ، وأنزل الله عزوجل في ذلك قرآنا «بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها
وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ـ إلى قوله ـ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً
مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» قال : فبعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المرأة ، فأتته فقال لها : جيئني بزوجك ، فأتت به ،
فقال له : أقلت لامرأتك هذه أنت على حرام كظهر أمي؟ فقال : قد قلت لها ذلك ، فقال
له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : قد أنزل الله فيك وفي امرأتك قرآنا وقرأ : «بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها
وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ
إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ
مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ»
فضم إليك
امرأتك ، فإنك قد قلت منكرا من القول وزورا ، وقد عفا الله عنك وغفر لك ولا تعد ،
قال : فانصرف الرجل وهو نادم على ما قال لامرأته.
وكره الله عزوجل ذلك للمؤمنين بعد وأنزل الله «الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا»
يعني ما قال
الرجل الأول لامرأته أنت علي حرام كظهر أمي ، قال : فمن قالها بعد ما عفا الله
وغفر للرجل الأول ، فإن عليه «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا»
يعني مجامعتها «ذلِكُمْ تُوعَظُونَ
بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ
سِتِّينَ مِسْكِيناً» قال : فجعل عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا ، ثم قال «ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ»
قال : هذا حد
الظهار. وقال حمران قال أبو جعفر عليهالسلام : ولا يكون ظهار في يمين ، ولا في إضرار ، ولا في غضب ،
ولا يكون ظهار إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين».
ورواه ثقة
الإسلام في الكافي في الحسن عن حمران عن أبي جعفر عليهالسلام مثله.
__________________
وأنت خبير بأن
المفهوم من هذا الخبر أن ذكر العفو والمغفرة في آخر هذه الآية إنما هو بالنسبة إلى
ذلك الرجل الأول الذي كان هو السبب في نزول الآية لا بالنسبة إلى كل من ظاهر ، فإن
هذا الرجل المشار إليه كان جاهلا بتحريم ذلك ، ومن ثم عفا الله عنه ، وأما من علم
بعد ذلك فإنه لا يدخل تحت الآية ، بل تجب عليه الكفارة عقوبة لما ارتكبه من ذلك
الفعل المحرم كما صرح به عليهالسلام ، في الخبر المذكور.
وبما ذكرناه من
التفصيل يظهر لك ما في كلام شيخنا المتقدم ذكره من الإجمال ، وأن الفاعل لذلك
مطلقا تحت المشية ، فإنه لا معنى له ، إذ الأول كما عرفت معفو عنه لجهله ، والثاني
حيث كان عالما بتحريم ما ارتكبه فإنه يجب عليه الكفارة عقوبة لما ارتكبه ، فلا
معنى لقياس هذا الفرد على غيره من الذنوب الداخلة تحت المشية ، بل الحكم فيه
بمقتضى الخبر المذكور هو ما عرفت.
وروى الصدوق في
من لا يحضره الفقيه بطريقه إلى ابن أبي عمير عن أبان وغيره عن أبي عبد الله
عليهالسلام قال : «كان رجل على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقال له أوس ابن الصامت ، وكانت تحته امرأة يقال لها
خولة بنت المنذر ، فقال لها ذات يوم : أنت علي كظهر أمي ، ثم ندم وقال لها : أيتها
المرأة ما أظنك إلا وقد حرمت علي فجاءت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت : يا رسول الله إن زوجي قال لي : أنت علي كظهر
أمي ، وكان هذا القول فيما مضى يحرم المرأة على زوجها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما أظنك إلا وقد حرمت ، فرفعت المرأة يدها إلى السماء
فقالت : أشكو إلى الله فراق زوجي ، فأنزل الله عزوجل يا محمد «قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها»
الآيتين ، ثم
أنزل الله عزوجل الكفارة في ذلك فقال «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ» الآيتين.
__________________
أقول : يمكن
حمل إجمال الخبر الأول على هذا الخبر المذكور فيه اسم الرجل والمرأة فتكون القصة
واحدة ، وإن فصلت أحكامها في الرواية الاولى وأجملت في الثانية ، وإلا فيشكل الجمع
بينهما لو تعددت القصة.
وروى المرتضى
علي بن الحسين في رسالة المحكم والمتشابه نقلا من تفسير النعماني بإسناده إلى علي عليهالسلام قال : «وأما المظاهرة في كتاب الله عزوجل فإن العرب كانت إذا ظاهر رجل منهم من امرأته حرمت عليه
إلى آخر الأبد ، فلما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان بالمدينة رجل من الأنصار يقال له أوس بن الصامت ،
وكان أول رجل ظاهر في الإسلام فجرى بينه وبين امرأته كلام ، فقال لها : أنت علي
كظهر أمي ، ثم إنه ندم على ما كان منه ، فقال : ويحك إنا كنا في الجاهلية تحرم
علينا الأزواج في مثل هذا قبل الإسلام ، فلو أتيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسألته عن ذلك ، فجاءت المرأة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبرته ، فقال : ما أظنك إلا وقد حرمت عليه إلى آخر
الأبد ، فجزعت وبكت ، وقالت : أشكو إلى الله فراق زوجي ، فأنزل الله عزوجل «قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ـ إلى قوله ـ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ
نِسائِهِمْ» الآية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : قولي لأوس زوجك يعتق نسمة فقالت : وأنى له نسمة ،
والله ما له خادم غيري ، قال : فيصوم شهرين متتابعين ، قالت : إنه شيخ كبير لا
يقدر على الصيام ، قال : فمريه فليتصدق على ستين مسكينا فقالت : وأنى له الصدقة ،
فوالله ما بين لابتيها أحوج منا ، قال : فقولي له : فليمض إلى أم المنذر فليأخذ
منها شطر وسق تمر فليتصدق على ستين مسكينا» الحديث.
أقول : هذا
الخبر لا يخلو من الإشكال ، فإن ما تضمنه من وجوب الكفارة يرده ظاهر الآية
بالتقريب الذي قدمنا ذكره ، وما صرح به في الخبر الأول من العفو والمغفرة عن الأول
، وأن الكفارة إنما على من علم بالتحريم بعد هذه القصة ثم ظاهر لقوله عليهالسلام «فمن قالها بعد ما عفا الله وغفر للرجل الأول فإن عليه تحرير
__________________
رقبة ـ إلى أن قال : ـ فجعل عقوبة من ظاهر بعد النهى هذا» الحديث ، وأيضا
فإن الظاهر أن الظهار هنا لم يستجمع شرائط الظهار الموجبة للتكفير ، سيما الشاهدين
فإنه لم يتقرر بعد ، وإنما تقرر ورتبت عليه الأحكام بعد هذه القضية.
إذا تقرر ذلك
فاعلم أن البحث في هذا الكتاب يقع في الصيغة والمظاهر والمظاهرة ، وما يترتب على
ذلك من الأحكام ، فها هنا مطالب أربعة :
الأول في الصيغة :
لا خلاف ولا
إشكال في انعقاد الظهار بقوله أنت علي كظهر أمي ، قيل وفي معنى علي غيرها من
الألفاظ كمني وعندي ولدي ومعي ، وكذا يقوم مقام أنت ما شابهها من الألفاظ الدالة
على تميزها من غيرها كهذه أو فلانة.
ولو قال : أنت
كظهر أمي بحذف حرف الصلة فالأكثر على أنه ظهار ، واستشكله العلامة في التحرير ،
ووجهه في المسالك بأنه مع ترك حرف الصلة يحتمل أنه أراد كونها محرمة على غيره حرمة
ظهر امه عليه.
وفيه أن
الاحتمال لا ينافي الظهور ، والظاهر المتبادر من هذا اللفظ إنما هو إرادة التحريم
على نفسه الذي به يصدق الظهار ، والعمل إنما هو على الظاهر في جميع الموارد.
بقي هنا مواضع
وقع الخلاف فيها : ما لو شبهها بظهر غير الام من المحارم نسبا أو رضاعا.
فقيل بأنه لا
يقع ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف وابن إدريس في السرائر ، محتجا عليه بأن الظهار
حكم شرعي ، وقد ثبت وقوعه إذا علق بالظهر وأضيف إلى الأم ، ولم يثبت ذلك في باقي
الأرحام ولا المحرمات.
واستدل له بعض
الأصحاب بما رواه الشيخ في الصحيح عن سيف التمار
__________________
قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يقول لامرأته أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو
خالتي؟ قال : فقال : إنما ذكر الله الأمهات ، وأن هذا الحرام».
ورد ذلك جملة
من المتأخرين منهم السيد السند في شرح النافع وقبله جده في المسالك ومن تأخر عنهما
بأن الرواية غير دالة على ذلك بل هي بالدلالة على نقيضه أشبه ، فإن الظاهر من قوله
«وأن هذا الحرام» في هذه الرواية إنه ظهار محرم وإن لم يكن ذكره الله في كتابه.
أقول : ومن
المحتمل قريبا إن لم يكن هو الأقرب أن الإشارة في الخبر إنما توجهت إلى الذي ذكره
في كتابه لا إلى الأخت وما بعدها ، ويؤيده أنه الأقرب والمعنى أن الذي ذكره في
كتابه ورتب عليه الظهار إنما هو الام وهو الحرام الذي أشار إليه عزوجل بقوله «وَإِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً»
لا الأخت
ونحوها ، هذا هو الظاهر من الخبر ، وعليه بني الاستدلال. وأما ما ذكروه فإنه وإن
احتمل إلا أن الظاهر بعده ، وعلى هذا يكون الخبر دليلا للقول المذكور لا يعتريه
فتور ولا قصور ، إلا أنه معارض بغيره كما ستقف عليه.
وقيل بأنه يقع
بالتشبيه بالمحرمات النسبية المؤيد تحريمهن ، وهو قول ابن البراج.
قال في المهذب
: فإن شبهها بامرأة محرمة عليه على التأييد غير الأمهات كالبنات وبنات الأولاد
والأخوات وبناتهن والعمات والخالات ، فعندنا أنهن يجرين مجرى الأمهات ، وأما
النساء المحرمات عليه بالرضاع والمصاهرة فالظاهر أنه لا يكون بهن مظاهر ، انتهى.
ويدل على هذا
القول صريحا ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الظهار فقال : هو من كل ذي محرم أم أو أخت
__________________
أو عمة أو خالة ، ولا يكون الظهار في يمين ، قلت : وكيف يكون؟ قال : يقول
الرجل لامرأته وهي طاهر في غير جماع أنت علي حرام مثل ظهر أمي أو أختي ، وهو يريد
بذلك الظهار».
وما رواه في
الكافي في الصحيح أو الحسن عن جميل بن دراج قال : «قلت لأبي
عبد الله عليهالسلام : الرجل يقول لامرأته أنت علي كظهر عمته أو خالته ، قال
: هو الظهار».
وعن يونس عن
بعض رجاله عن أبي عبد الله عليهالسلام ، في حديث يأتي ذكره قريبا قال : «وكذلك إذا هو قال :
كبعض المحارم فقد لزمته الكفارة».
وقيل : بإضافة
المحرمات الرضاعية إلى المحرمات النسبية ، وهو قول الأكثر على ما ذكره في المسالك
، ومثله سبطه في شرح النافع.
أقول : ممن ذكر
هذا القول صريحا الشيخ في المبسوط حيث قال : إذا شبهها بامرأة تحرم لا على التأبيد
كالمطلقة ثلاثا أو أخت امرأته أو عمتها أو خالتها لم يكن مظاهرا بلا خلاف وإن
شبهها بمحرمة على التأبيد غير الأمهات والجدات كالبنات وبنات الأولاد والأخوات
وبناتهن والعمات والخالات ، فروى أصحابنا أنهن يجرين مجرى الأمهات. وأما النساء
والمحرمات عليه بالرضاع أو المصاهرة فالذي يقتضيه مذهبنا أن من يحرم عليه بالرضاع
حكمه حكم من يحرم بالنسب لقوله عليهالسلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وأما من يحرم عليه عليه بالمصاهرة
فينبغي أن لا يكون مظاهرا لأنه لا دليل عليه ، ونحوه ابن حمزة وابن الجنيد
__________________
فإنهما صرحا بذلك.
وأما باقي
الأصحاب ممن نسب إليه هذا القول كالشيخ في النهاية والشيخ المفيد والصدوق فإنما هو
من حيث الإطلاق ، ونحوهم غيرهم كابن أبي عقيل وابن البراج في الكامل وسلار وأبي
الصلاح وابن زهرة ، ويمكن أن يستدل على هذا القول زيادة على ما ذكره في المبسوط من
حديث «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» بإطلاق مرسلة يونس المذكورة ، وكذا إطلاق
قوله عليهالسلام في صحيحة زرارة «هو من كل ذي محرم» ولا ينافيه تخصيص
العد بالأم والأخت ومن معهما ، لأن الظاهر أن ذلك إنما خرج مخرج التمثيل لا الحصر
، ولا للزوم الحصر في هذه الأفراد المذكورة في الرواية ، والنص والإجماع على
خلافه.
وقيل : بإضافة
محرمات المصاهرة ، وهو اختيار العلامة في المختلف ، حيث قال بعد نقل أقوال المسألة
: والوجه عندي الوقوع إذا شبهها بالمحرمات على التأبيد ، سواء النسب والرضاع
والمصاهرة للاشتراك في العلة. والظاهر أنه أراد بها تأبيد التحريم ، فإنه مشترك
بين النسب والرضاع والمصاهرة.
وأورد عليه بأن
هذه العلة مستنبطة فلا عبرة بها. نعم يمكن الاستدلال عليه بإطلاق صحيحة زرارة
ورواية يونس المذكورتين ، لصدق كل ذي محرم على المحرمات بالمصاهرة ، والتمثيل بذي
المحرم النسبي لا يفيد الحصر فيه ، وظاهر السيد السند الميل إلى هذا القول لإطلاق الصحيحة المذكورة وهو غير بعيد ، بل لا يخلو من قرب.
ومنها : أنه هل
يقع بغير لفظ الظهر كأن يقول كبطن أمي أو يدها أو رجلها أو شعرها أم لا؟ قولان :
(أولهما) للشيخ
ـ رحمهالله ـ في الخلاف وجماعة مدعيا عليه في الخلاف إجماع
__________________
الفرقة ، وأنه إذا قال ذلك وفعل ما يجب على المظاهر كان أحوط في استباحة
الوطء وإذا لم يفعل كان مفرطا.
و (ثانيهما)
للسيد المرتضى ـ رضياللهعنه ـ في الانتصار مدعيا عليه الإجماع ، وتبعه ابن إدريس
وابن زهرة وجمع من الأصحاب وعليه المتأخرون.
والذي وقفت
عليه من الأخبار هنا ما رواه في الكافي عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن رجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي أو كيدها
أو كبطنها أو كفرجها أو كنفسها أو ككعبها ، أيكون ذلك الظهار؟ وهل يلزمه فيه ما
يلزم المظاهر؟ فقال : المظاهر إذا ظاهر من امرأته فقال هي عليه كظهر امه أو كيدها
أو كرجلها أو كشعرها أو كشيء منها ينوي بذلك التحريم فقد لزمته الكفارة في كل
قليل منها أو كثير ، وكذلك إذا هو قال كبعض ذوات المحارم فقد لزمته الكفارة».
وما رواه الشيخ
في التهذيب عن سدير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : الرجل يقول لامرأته أنت علي كشعر أمي
أو ككفها أو كبطنها أو كرجلها ، قال : ما عنى؟ إن أراد أنه الظهار فهو الظهار».
وهذان الخبران
كما ترى ظاهران فيما ذهب إليه الشيخ ومن تبعه من وقوع الظهار بهذه الصيغة.
وجملة من
المتأخرين كصاحب المسالك وسبطه ذكروا الرواية الثانية دليلا للشيخ وردوها بضعف
السند.
وأنت خبير بأن
من لا يعمل بهذا الاصطلاح كالشيخ وأمثاله من المتقدمين وجملة من متأخري المتأخرين
فإنه لا مناص له من العمل بالخبرين المذكورين لعدم المعارض في البين ، وغاية ما
استدل به لقول السيد المرتضى بأن الأصل
__________________
الإباحة إلا ما خرج عنها بدليل أو إجماع ، وهو الظهر ، فيبقى الباقي على
الأصل ولأن الظهار مشتق من الظهر ، فإذا علق بغيره بطل الاسم المشتق منه ، وهذه
التعليلات عند من يعمل بالخبرين المذكورين غير مسموعة ، لأنها مجرد اجتهاد في
مقابلة النصوص ، والأصل الذي اعتمدوه يجب الخروج عنه بالنص المذكور.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنهم في هذا الموضع قد ذكروا صورا عديدة تفريعا على التشبيه ، والنسبة فيه
من كونه بين الجملة والجملة أو الأجزاء والأجزاء أو الجملة والأجزاء ، ذلك مما
ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
الاولى : أن
يقع التشبيه بين جملة الزوجة وظهر الام ، وهو أن يقول : أنت علي كظهر أمي ، وهذا
هو المتفق عليه إجماعا نصا وفتوى ، وقد تقدم ما الحق به مما هو في معناه من تبديل
حرف الصلة وتبديل اللفظ الدال على التعيين.
الثانية : أن
يقع بين جملة الزوجة وجزء آخر من الام غير الظهر ، سواء كان مما لا يتم حياتها إلا
به كوجهها ورأسها وبطنها أو يتم كيدها ورجلها ، وسواء حلته الحياة أم لا ، وهذه
الصورة هي محل البحث المتقدم ، وقد عرفت الخلاف فيه وما يتعلق به من الأخبار.
الثالثة : أن
يشبه بالجملة بالجملة بأن يقول أنت علي كأمي ، أو بدنك أو جسمك علي كبدن أمي أو
جسمها ، وفي وقوع الظهار به قولان مبنيان على ما سبق ، والشيخ حيث قد حكم فيما سبق
بالوقوع حكم به هنا ، قال : لأن صحته مع تشبيهه بتلك الأجزاء تستلزم صحته مع
التشبيه بنفسها بطريق أولى لاشتمالها على تلك الأجزاء وزيادة ، ولاشتمال جملتها
على ظهرها الذي هو مورد النص ، فيدل عليه تضمنا.
وأجيب عنه بمنع
الأصل والأولوية ، فإن الأسباب الشرعية لا تقاس ، ونمنع من دخول الظهر في قوله أنت
، وجاز أن يكون لتخصيصه فائدة باعثة على الحكم ، والأكثر كما ذكره في المسالك على
عدم الوقوع بذلك لفوت الشرط وهو التشبيه بالظهر كما قد علم من السابق.
أقول : ونحن
وإن اخترنا مذهب الشيخ ثمة لما عرفت من دلالة الخبرين المذكورين عليه إلا أن حمل
هذه الصورة عليه كما ذكره لا يخرج عن ظلمة الالتباس المحتملة للوقوع في القياس.
الرابعة : أن
يشبه بعض أجزاء الزوجة بجملة الأم كأن يقول يدك أو رأسك أو رجلك علي كأمي ، وفيه
القولان السابقان. فالشيخ قال بصحته لأنه مركب من أمرين صحيحين ، وفيه منع ظاهر
مما تقدم.
الخامسة : أن
يشبه جزء الزوجة بظهر الأم بأن يقول بذلك وفرجك كظهر أمي ، وصححه الشيخ أيضا بطريق
أولى ، والأشهر الأظهر العدم لما عرفت.
السادسة : أن
يشبه الجزء بالجزء كأن يقول يدك علي كيد أمي ، وصححه الشيخ مع قصد الظهار ، ودليله
مركب مما سبق ، والأشهر الأظهر العدم كما تقدم.
السابعة : أن
يقع التشبيه بين الزوجة بصورها الست المذكورة وغير الام من المحارم ، فإن وقع بين
الجملة من الزوجة وبين الظهر من تلك المشبه بها فقد عرفت صحته مما تقدم.
وإن وقع بين
الجملة من الزوجة والجزء من المحارم غير الظهر فالظاهر بطلانه ، ويظهر من المحقق
ادعاء عدم الخلاف في ذلك.
وفي المختلف إن بعض علمائنا قال بوقوعه وآخرون بعدمه ، ونقل الخلاف
في ذلك عن ابن إدريس.
وإن وقع بين
الجملة والجملة بغير لفظ الظهر فالقولان ، وبالجملة فالظاهر الوقوف على موارد
النصوص ، وإن ضعف سندها بهذا الاصطلاح المحدث ، والله العالم.
__________________
تنبيهات
الأول : لا
خلاف في أن ما عدا من حرم بالنسب أو الرضاع أو المصاهرة من المحرمات الغير المؤبدة
فإنه لا يقع بهن ظهار ، وقد تقدم في عبارة الشيخ في المبسوط ما يدل على أنه لا خلاف
فيه.
وقال في
المسالك : أما من لا يحرم مؤبدا كأخت الزوجة وبنت غير المدخول بها مما يحرم جمعا
خاصة فحكمهما حكم الأجنبية في جميع الأحكام لأن تحريمهما يزول بفراق الام والأخت
كما يحرم جميع نساء العالم على المتزوج أربعا ، ويحل له كل واحدة ممن ليست محرمة
بغير ذلك على وجه التخيير بفراق واحدة من الأربع ، والأولى بعدم الوقوع تشبيها
بعمة الزوجة وخالتها ، لأن تحريمهما ليس مؤبدا عينا ولا جمعا مطلقا بل على وجه
مخصوص كما لا يخفى ، انتهى.
وأنت خبير بأن
ظاهر كلامهم يدور في صحة المظاهرة وعدمها على كون المشبه بها مؤبدة التحريم وعدمه
، فإن كان تحريمها مؤبدا صح أن يشبه بها في الظهار ، ويكون ظهارا صحيحا ، وإلا
فلا.
وفيه أن هنا
جملة من الأفراد التي تحريمها مؤبدا كما تقدم في كتاب النكاح مثل المطلقة تسعا ،
وأم من لاط به وبنته وأخته ، ومن زنى بها وهي ذات بعل أو في عدة رجعية ، ونحو ذلك
مما تقدم. فإن التحريم في الجميع مؤبد وهي خارج عن الأفراد الثلاثة المتقدمة ، مع
أن الظاهر أنه لا يقع الظهار بالتشبيه بإحداهن اتفاقا.
وبالجملة فإني
لا أعرف للتقييد بالتأبيد هنا وجها وجيها ، بل ينبغي أن يجعل الحكم منوطا بكل من
خرج عن الأفراد الثلاثة سواء كان تحريمه مؤبدا أم لا ، فإنه لا يقع الظهار به.
الثاني : ظاهر
الأصحاب أنه لا ريب في تحريم التشبيه بالجدة لأب كانت أو
أم على تقدير القول بوقوع الظهار بالتشبيه بالمحرمات النسبية ، وإنما
الكلام على تقدير الاختصاص بالأم فهل يتعدى إلى الجدة مطلقا؟ وجهان :
(أحدهما) نعم ،
لصدق الام عليها في قوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ» فإن المراد بالأمهات من ولدته بلا واسطة أو بواسطة وإن
علت والأصل في الاستعمال الحقيقة ، ويؤيده أنهن يشاركن الأم في سقوط القصاص ووجوب
النفقة.
(وثانيهما) لا
، لجواز سلبها عنها فيقال : ليست أمي بل أم أبي أو أم أمي ، ولقوله عزوجل «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ
إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ»
وهي مفيدة للحصر.
وأنت خبير بما
في الثاني من القصور لضعف مستنده المذكور.
أما أول دليله
فإنه إن أراد بقوله «ليست أمي» إن أراد على الإطلاق منعنا السلب ، وهو أول المسألة
، فالاستدلال به مصادرة محضة ، وإن أراد به يعني بلا واسطة بل هي أمي بالواسطة فلا
ضير فيه.
وأما ثاني
دليله فلصدق ولادتها له بولادة أحد أبويه ، والمراد ولدتا بواسطة أو غير واسطة ،
مع أن الحصر في ظاهر الآية إنما هو إضافي بالنسبة إلى المظاهر من امرأته بكونها
كأمه في التحريم عليه فلا تعلق لها بما نحن فيه ، وبذلك يظهر لك قوة الوجه الأول
من الوجهين المذكورين.
الثالث : لا
خلاف في أنه يشترط في صحة الظهار وترتب أحكامه عليه سماع الشاهدين لنطق المظاهر
وأن يكون ظاهرها في طهر لم يقربها فيه.
ومن الأخبار
الدالة على ما قلناه ما تقدم في صحيحة زرارة من قوله عليهالسلام «يقول الرجل لامرأته وهي طاهر في غير جماع : أنت علي حرام مثل ظهر أمي ،
وهو يريد بذلك الظهار».
__________________
وما رواه في
الكافي في الحسن عن حمران في حديث قال : «قال أبو جعفر عليهالسلام : لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب ، ولا
يكون ظهار إلا في طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين».
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابن فضال عمن أخبره عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يكون الظهار إلا على مثل موضع الطلاق».
ورواه الصدوق بإسناده عن ابن فضال وعن حمزة بن حمران عن أبي جعفر عليهالسلام ، في حديث قال : «لا يكون ظهار الا على طهر من غير جماع
بشهادة شاهدين مسلمين».
ورواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد عن حمزة بن
حمران مثله.
وما دل عليه
ظاهر هذين الخبرين من الاكتفاء بإسلام الشاهدين يجب حمله على التقية لما دلت عليه
الآية وجملة من الأخبار الصحيحة من اشتراط العدالة التي هي أمر زائد على الإسلام ،
وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام بما لا يحوم حوله نقض ولا إبرام في بحث صلاة
الجمعة من الجلد الثاني من كتاب الصلاة.
الرابع : لا
خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في أنه لا ينعقد الظهار
__________________
بقول الزوج كظهر أبي وأخي وعمي ، وقد ذكر الأصحاب ذلك هنا تنبيها على خلاف
بعض العامة ، حيث حكم بوقوع الظهار بالتشبيه بمحارم الرجال.
وفيه (أولا)
أنه لا دليل عليه وأصالة الإباحة ثابتة حتى يقوم دليل على خلافها.
(وثانيا) أن
الرجل ليس محل الاستمتاع ولا في معرض الاستحلال ، وهكذا لو قالت الزوجة أنت علي
كظهر أبي أو أمي فإنه لا يفيد التحريم إجماعا ، لأن الظهار كالطلاق مختص بالرجال.
وعلى ذلك يدل
أيضا ما رواه ثقة الإسلام والصدوق في كتابيهما عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام : إذا قالت المرأة زوجي علي حرام كظهر أبي فلا كفارة
عليها».
الخامس : اختلف
الأصحاب في تعليق الظهار على الشرط كأن يقول إن دخلت الدار أو فعلت كذا فأنت علي
كظهر أمي مريدا به التعليق ، فهل يقع الظهار متى وجد الشرط أم لا؟ قولان.
اختار أولهما
الشيخ في النهاية والخلاف والمبسوط والصدوق في المقنع وبه قال ابن حمزة والعلامة
والمحقق في النافع ، ونقله في المسالك عن أكثر المتأخرين قال : إنه الأقوى ، وكذا
اختاره سبطه في شرح النافع.
واختار ثانيهما
المرتضى ـ رحمة الله عليه ـ في الانتصار والشيخ المفيد ـ رحمهالله ـ وابن البراج في كتابيه الكامل والمهذب وسلار وأبو
الصلاح وابن زهرة ، وهو ظاهر ابن الجنيد ، وبه صرح ابن إدريس فقال : وهو الأظهر
بين أصحابنا الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأنه لا خلاف بينهم أن حكمه حكم الطلاق ،
ولا خلاف بينهم أن الطلاق لا يقع إذا كان مشروطا ، وهو اختيار السيد المرتضى
وشيخنا
__________________
المفيد وعليه جملة أصحابنا وهو اختيار المحقق في الشرائع وظاهره أنه قول
الأكثر وأن القول الآخر نادر ، مع أنه في النافع وهو متأخر عن الشرائع جعل القول
بالصحة مع الشرط أشهر الروايتين.
والأصل في
الخلاف اختلاف أخبار المسألة المذكورة ، فالواجب ذكر ما وصل إلينا من أخبارها ثم
الكلام فيها بما رزق الله تعالى فهمه منها ببركة أهل الذكر عليهمالسلام.
ومنها ما رواه ثقة
الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب عن عبد الرحمن ابن الحجاج عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الظهار ضربان أحدهما فيه الكفارة قبل المواقعة ،
والآخر بعدها ، فالذي يكفر قبل المواقعة الذي يقول أنت علي كظهر أمي ولا يقول : إن
فعلت بك كذا وكذا. والذي يكفر بعد المواقعة هو الذي يقول : أنت علي كظهر أمي إن
قربتك».
وما رواه الشيخ
عن عبد الرحمن بن الحجاج «قال الظهار على ضربين في أحدهما الكفارة إذا قال أنت علي كظهر أمي ولا
يقول أنت علي كظهر أمي إن قربتك».
وعن حريز في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : الظهار ظهاران فأحدهما أن يقول أنت علي كظهر أمي
ثم سكت ، فكذلك الذي يكفر قبل أن يواقع ، فإذا قال أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا
وكذا ففعل فعليه الكفارة حين يحنث».
وهذه الروايات
ظاهرة الدلالة على القول الأول ، ويؤيدها عموم الآيات الدالة على وقوع الظهار
المتناولة لموضع النزاع ، وعموم «المؤمنين عند شروطهم».
__________________
ومنها ما رواه في
الكافي والتهذيب عن القاسم بن محمد الزيات قال : «قلت لأبي الحسن الرضا عليهالسلام : إني ظاهرت من امرأتي ، فقال : كيف قلت؟ قال : قلت : أنت
علي كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا ، فقال : لا شيء عليك فلا تعد».
وما رواه في
الكافي في الموثق عن ابن بكير عن رجل من أصحابنا قال : «قلت
لأبي الحسن عليهالسلام : إني قلت لامرأتي أنت علي كظهر أمي إن خرجت من باب
الحجرة فخرجت ، فقال : ليس عليك شيء ، قلت : إني قوي على أن اكفره؟ فقال : ليس
عليك شيء ، إني قوي على أن أكفر رقبة ورقبتين ، قال : ليس عليك شيء قويت أو لم
تقو».
والتقريب فيهما
أن «شيئا» في الخبرين نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
وما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابن فضال عمن أخبره عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يكون الظهار إلا على مثل موضع الطلاق».
والتقريب فيه
أن الطلاق لا يقع معلقا على الشرط ، وحينئذ فيجب أن يكون الظهار كذلك ، لأنه
كالطلاق بمقتضى الخبر المذكور.
وأجاب في
المسالك ومثله سبطه في شرح النافع وقبلهما العلامة في المختلف عن الروايات بضعف
السند ، فلا تنهض حجة في مقابلة تلك الأخبار الصحاح ، والأخير لا يدل على محل
النزاع ، إذ الظاهر أنه إنما يريد بموضع الطلاق الشرائط المعتبرة فيه من الشاهدين
وطهارتها من الحيض وانتقالها إلى غير طهر المواقعة ، ونحو ذلك.
أقول : ما ذكره
ـ قدسسره ـ من عدم ظهور الخبر الثالث في الدلالة لاحتماله لما
ذكره جيد ، وعليه يدل ما قدمناه من الأخبار في التنبيه الثالث.
وأما الجواب عن
الأخبار بضعف السند فهو جيد على تقدير العمل بهذا
__________________
الاصطلاح المحدث ، وأما من لا يعمل به فلا بد له مع العمل بها من تأويلها
بما تجتمع به مع الأخبار الأخر ، والشيخ ـ رحمهالله ـ في التهذيب بعد أن طعن في الخبرين الأولين بضعف
الاسناد بتأولهما بتأويلات بعيدة.
وما رواه الشيخ
عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال : «سأل صفوان بن يحيى عبد الرحمن بن
الحجاج وأنا حاضر عن الظهار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إذا قال الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي لزمه
الظهار ، قال لها دخلت أو لم تدخلي خرجت أو لم تخرجي أو لم يقل شيئا فقد لزمه
الظهار».
أقول : الظاهر
أن المراد من الخبر هي أن الظهار لازم بهذه الصيغة ، علقه على شيء من الدخول أو
عدمه أو الخروج أو عدمه أو لم يعلق ، وحينئذ فيكون من أدلة القول الثاني.
وبالجملة فإنه
على تقدير العمل بجملة هذه الأخبار كما هو المختار فإن المسألة محل إشكال وإعضال ،
لعدم حضور وجه وجيه يجتمع عليه في هذا المجال هذا مع إمكان أن يقال إنهم قد صرحوا
ـ كما سيأتي ذكره بعد تمام الكلام في هذه المسألة ـ بأن الظهار لا يصح مع قصد
الحلف به وإن جعل يمينا كما هو عند العامة ، وهو في الصورة يشارك التعليق على
الشرط الذي هو محل البحث ، وإنما يفارقه بالنية والقصد ، فإذا قال أنت علي كظهر
أمي إن كلمت فلانا وإن تركت الصلاة فإن قصد به الزجر عن الفعل أو البعث عليه فهو
يمين ، وإن قصد به مجرد التعليق كان ظهارا ، والأخبار وكذا كلام الأصحاب قد منعت
من الحلف بالظهار لأن الحلف لا يكون إلا بالله عزوجل ، والمخالفون على صحته وصحة الحلف به.
وعلى هذا فمن
المحتمل قريبا حمل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وصحيحة
__________________
حريز على التقية ، بمعنى أن هذا الفرد المعلق على الشرط فيهما إنما هو من
قبيل اليمين ، وقد قصد به الزجر أو البعث على الفعل لا مجرد التعليق ، وإن الحكم
بصحته ووجوب الكفارة به في الخبرين المذكورين إنما هو على جهة التقية لأن العامة
يحكمون بصحة الحلف به ، ويوجبون الكفارة بالحنث به ، وبذلك يتعاظم الإشكال في هذا
المجال.
وإلى ما ذكرنا
يميل كلام المحدث الكاشاني ـ رحمة الله عليه ـ في الوافي حيث استوجه حمل هذه
الأخبار على التقية كما ذكرنا.
وروى في الكافي
عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن معاوية بن حكيم عن صفوان عن عبد الرحمن
بن الحجاج قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إذا حلف الرجل بالظهار فحنث فعلية الكفارة قبل
أن يواقع ، فإن كان منه الظهار في غير يمين فإنما عليه الكفارة بعد ما يوافق».
قال في الكافي
بعد نقل هذا الخبر : قال معاوية : وليس يصح هذا على جهة النظر والأثر في غير هذا
الأثر أن يكون الظهار لأن أصحابنا رووا أن الايمان لا يكون إلا بالله ، وكذلك نزل
بها القرآن ، انتهى.
وقال في الوافي
بعد نقل هذا الكلام عن الكافي : أقول : هذا هو الحق وقد مر الاخبار في ذلك ،
فالخبر محمول على تقدير صحته على التقية لموافقته لمذاهب العامة ، انتهى.
أقول : وأكثر
أخبار هذا الباب غير خال من الاشكال لما فيه من الاحتمال ، وعسى أن نشير إلى جملة
منها إن شاء الله تعالى بعد تمام الكلام في هذا المطلب.
بقي هنا شيء
ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن المحقق في الشرائع قال : ولا يقع إلا منجزا فلو علقه
بانقضاء الشهر ودخول الجملة لم يقع على القول الأظهر وقيل : إنه يقع وهو نادر.
__________________
وأنت خبير بأن
المشهور في كلام الأصحاب ، وهو الذي دلت عليه الأخبار أن محل الخلاف في هذا الموضع
إنما هو التعليق على الشرط دون الصفة ، وظاهر عبارته هنا أن محل الخلاف التعليق
على الصفة ، فإن ما ذكره من المثالين إنما هو من باب الصفة ، وهو الأمر الذي لا بد
من وقوعه عادة من غير احتمال تقدم ولا تأخر كالمثالين المذكورين ، وأما الشرط فهو
عبارة عما يجوز وقوعه عند التعليق وعدمه كقولك إن دخلت الدار وإن فعلت كذا وكذا
لنفسه أو المخاطب.
ويمكن أن يقال
إن الحكم من أصله مترتب على التعليق سواء كان المعلق عليه صفة أو شرطا ، وأن
الظاهر من الأخبار صحة وبطلانا إنما هو بالنسبة إلى التعليق ، وأنه هل يشترط كونه
منجزا لا يعلق على شيء بالكلية أم لا؟ ويؤيده أن هذا القسم فيما علق عليه من هذين
الفردين المعبر عن أحدهما بالشرط وعن الآخر بالصفة إنما هو أمر اصطلاحي من كلام
الأصحاب لا أثر له في النصوص.
وربما قيل : إن
الخلاف مختص بالشرط عملا بمدلول الأحاديث المذكورة في المسألة ، فإن متعلقها الشرط
فتبقى الصفة على أصل المنع.
وفيه أن ما ذكر
في الأخبار من ذكر الشرط إنما خرج مخرج التمثيل للتعليق فلا يقتضي الحصر فيه ،
والظاهر منها أن مرجع الخلاف إلى التخيير وعدمه.
وإلى ما ذكرنا
يميل كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك إلا أن المسألة بعد لا تخلو من شوب
الاشكال.
السادس : قد
صرح الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ من غير خلاف يعرف بأنه لا يقع الظهار في يمين
ولا في إضرار ولا في غضب ولا في سكر. وتفصيل هذا الإجماع بما يتضح به الحال.
أما بالنسبة
إلى كونه لا يقع يمينا فالمراد أنه لا يجعل جزاء على فعل أو ترك لقصد البعث على
الفعل أو الزجر عن الترك ، ولو علق لا بقصد شيء من هذين
الأمرين ، فهو محل البحث الذي تقدم الكلام فيه صحة وبطلانا وليس من اليمين
في شيء ، والفارق بين الأمرين هو القصد كما عرفت.
ويدل على عدم
صحة قصد اليمين به أولا : ما دل من الآيات والروايات على عدم الحلف إلا بالله عزوجل.
وثانيا : ما
رواه في الكافي في الحسن أو الموثق عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا طلاق إلا ما أريد به الطلاق ، ولا ظهار إلا
ما أريد به الظهار».
وحاصله أنه لا
يكون الطلاق طلاقا ولا الظهار ظهارا يترتب على كل منهما أحكامه إلا بالإرادة ،
والقصد إلى الغرض من كل منهما ، وهو الفرقة الخاصة ، فلو أراد بالظهار ما تقدم من
الزجر أو البعث فقال إن كان كذا أو إن فعلت كذا فامرأته طالق أو كانت كظهر امه
عليه فإنه لا يكون طلاقا ولا ظهارا.
وفي معنى هذه
الرواية موثقة عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الظهار الواجب ، قال : الذي يريد به
الرجل الظهار بعينه». والمراد بالوجوب هنا المعنى اللغوي أي الثابت الذي يترتب
عليه أحكامه. وقوله «بعينه» احترازا عما ذكرناه من إرادة معنى آخر غير مجرد
المفارقة ، وقد تقدم نحو هذا اللفظ في آخر صحيحة زرارة المتقدمة في صدر هذا المطلب وحسنة حمران المتقدمة في التنبيه
__________________
الثالث وفيهما «لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب».
وروى في الكافي
في الصحيح عن صفوان عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يصلي الصلاة أو يتوضأ ، فيشك
فيها بعد ذلك ، فيقول : إن أعدت الصلاة أو أعدت الوضوء فامرأته عليه كظهر امه ،
ويحلف على ذلك بالطلاق ، فقال : هذا من خطوات الشيطان ، ليس عليه شيء».
وهذا الخبر
مفسر للخبر الأول ، فإن الطلاق والظهار في هذا الخبر لم يقصد معناهما الحقيقي
المتبادر منهما ، فلذا جعله عليهالسلام لغوا من القول ، والعامة يجعلونه حلفا صحيحا يترتب عليه
أثره.
وأما بالنسبة
إلى الإضرار فلما تقدم في حسنة حمران ، ونقل عن فخر المحققين أنه حكى قولا بوقوع الظهار
بالإضرار ، لعموم الآية.
قال في شرح
النافع : وهو جيد لو لم يعمل بهذه الرواية ، وكذا بالنسبة إلى الغضب.
ويدل على عدم
الظهار في حال الغضب زيادة على حسنة حمران المذكورة
__________________
أيضا ما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر في الصحيح عن الرضا عليهالسلام قال : «الظهار لا يقع على الغضب».
وإطلاق الخبرين
المذكورين شامل لمطلق الغضب ، ارتفع معه القصد أو لم يرتفع.
وأما بالنسبة
إلى السكر فالأمر فيه أظهر ، فإن السكران لا شعور له.
وينبغي أن يضاف
إلى هذه الأفراد ما لو أراد أن يرضي بذلك امرأته ، والوجه فيه ظاهر لعدم القصد إلى
الظهار بالمعنى المراد به ، ولما رواه في التهذيب عن حمزة بن حمران قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي ، يريد أن يرضي
بذلك امرأته؟ قال : يأتيها ليس عليه شيء».
ورواه في
الفقيه عن ابن بكير عن حمران مثله ، وفي آخره «ليس عليها ولا
عليه شيء».
ومن الأخبار
الدالة على عدم صحته مع قصد الحلف أيضا ما رواه في الكافي والتهذيب في الموثق عن ابن بكير قال : «تزوج حمزة بن حمران ابنة
بكير فلما أراد أن يدخل بها قال له النساء : لسنا ندخلها عليك حتى تحلف لنا ولسنا
نرضى أن تحلف لنا بالعتق لأنك لا تراه شيئا ، ولكن احلف لنا بالظهار وظاهر من
أمهات أولادك وجواريك فظاهر منهن ، ثم ذكر ذلك لأبي عبد الله عليهالسلام فقال : ليس عليك شيء ، ارجع إليهن».
وهذا الحلف كان
على عدم طلاقها كما يفصح به خبر آخر في معناه ، وفيه
__________________
أنهم قالوا له «أنت مطلاق فنخاف أن تطلقها فلا ندخلها عليك حتى تقول إن
أمهات أولادك عليك كظهر أمك أن طلقتها» الحديث.
السابع : لو
قيد الظهار بمدة معينة كيوم أو شهر كأن يقول أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو سنة
، أو إلى شهر أو إلى سنة ، فقد اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال :
(أحدها) أنه لا
يكون ظهارا ، اختاره الشيخ في المبسوط حيث قال : إذا ظاهر من زوجته مدة مثل أن
يقول أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو سنة لم يكن ظهارا ، وتبعه ابن البراج وابن
إدريس.
(وثانيها) أنه
يقع ، وهو اختيار ابن الجنيد ، وإليه يميل كلام المحقق في الشرائع.
(وثالثها)
التفصيل ، فإن زادت المدة عن مدة التربص على تقدير المرافعة وقع ، وإلا فلا ،
وإليه يميل كلام شيخنا في المسالك ، قال : لأن الظهار يلزمه التربص مدة ثلاثة أشهر
من حين الترافع ، وعدم الطلاق ، وهو يدل بالاقتضاء على أن مدته تزيد عن ذلك ، وإلا
لانتفى اللازم الدال على انتفاء الملزوم ، وإلى هذا التفصيل ذهب في المختلف ولا
بأس به ، والرواية الصحيحة لا تنافيه وإن كان القول بالجواز مطلقا لا يخلو من قوة
، انتهى.
ونقل العلامة
في المختلف ومثله شيخنا في المسالك الاستدلال للشيخ فيما ذهب إليه من عدم صحة
الظهار بصحيحة سعيد الأعرج عن موسى بن جعفر عليهالسلام «في رجل ظاهر من امرأته يوما ، قال : ليس عليه شيء». .
__________________
والمحدث
الكاشاني في الوافي نقل هذه الرواية هكذا «ظاهر من امرأته فوقى ـ عوض قوله «يوما»
ـ قال : ليس عليه شيء» ثم قال : بيان : أي لم يقاربها ثم قال : وفي بعض النسخ «يوما»
مكان «فوفى» ، وإنما لم يجب عليه شيء لأن الظهار بمجرده لا يوجب شيئا ، ثم إن فاء
كفر أو طلق خلص ، وإن صبر «يوما» على النسخة الثانية فلا شيء عليه ، انتهى.
واختلاف النسخ
في ذلك مؤذن بوهن الاعتماد على الخبر في الاستدلال سيما أن ظاهره في الوافي
الاعتماد على نسخة «فوفى» حيث إنها هي التي نقلها في متن الخبر ، والثانية وهي
نسخة «يوما» إنما ذكرها في البيان مسندا لها إلى بعض النسخ المشعر بقلة ذلك البعض
، وظاهر الشيخين المذكورين حيث استدلا بالخبر بهذا النحو الذي ذكراه ، ولم يشيرا
إلى نسخة اخرى بالكلية هو الاعتماد عليه.
وأما ما نقل عن
ابن الجنيد من القول بوقوع الظهار بهذا القول فاحتجوا له بعموم الآية وأنه منكر من
القول وزور كالظهار المطلق.
واستدل له في
المسالك بما روي عن سملة بن صخر الصحابي وأنه كان قد ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان ثم وطأها
في المدة ، فأمره النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بتحرير رقبة ، ثم إنه ـ قدسسره ـ بعد ذكر صورة الرواية تفصيلا قال : وجملة الرواية عن
سلمة بن صخر قال : «كنت امرء قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل
رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان خوفا من أن أصيب في ليلتي شيئا فاتابع في
ذلك إلى أن يدركني النهار ولا أقدر على أن أنزل ، فبينما هي تخدمني من الليل إذ
انكشف لي منها شيء فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت
لهم انطلقوا معي إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبروه بخبري ، فقالوا : والله ما نفعل ، نتخوف أن
ينزل فينا قرآن ، ويقول فينا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مقالة يبقي علينا عارها ، لكن اذهب أنت واصنع ما بدا
__________________
لك ، فخرجت حتى أتيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبرته بخبري فقال : أنت بذاك؟ فقلت : أنا بذلك ، فقال
: أنت بذاك؟ فقلت : أنا بذلك ، فقال : أنت بذاك؟ فقلت : نعم ، ها أنا ذا فامض في
حكم الله عزوجل فأنا صابر له ، فقال : أعتق رقبة ، فضربت صفحة عنقي
بيدي وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال : فصم شهرين متتابعين
، فقال : فقلت : يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم ، قال : قال :
فتصدق ، قال : قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وما لنا عشاء ، قال : اذهب
إلى صاحب صدقة بني رزين قل له ، فليدفعها إليك فأطعم عنك وسقا من تمر ، فادفعه إلى
ستين مسكينا ، ثم استعن سائره عليك وعلى عيالك ، قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت
عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم السعة والبركة ، وقد أمرني بصدقتكم فادفعوها إلي ، قال
: فدفعوها إلى».
وفي رواية اخرى
«أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا فقال : تطعمه ستين مسكينا
لكل مسكين مد». وإنما أتينا على الرواية مع طولها لما تشتمل عليه من الفوائد
والنكت ، انتهى.
أقول :
والتحقيق أن المسألة لا تخلو من شوب الاشكال الموجب للبقاء في قالب الاحتمال.
وأما ما استدل
به للقول الأول من الصحيحة المذكورة فإن فيه زيادة على ما عرفت من اختلاف النسخ
الموجب لخروج الخبر عن موضع الاستدلال بناء على تلك النسخة الأخرى أن الخبر
المذكور على تقدير النسخة التي ذكروها غير صريح الدلالة ولا واضحها فيما ادعى منه
، لاحتمال أن يقال : إن المراد بيان أن الظهار بمجرده لا يوجب شيئا ، وإنما تجب
الكفارة بإرادة العود قبل انقضاء المدة ولما كانت مدة اليوم قصيرة ، فإذا صبر حتى
يمضي فليس عليه شيء ، وحينئذ فقوله «ليس عليه شيء» لا يستلزم أنه ليس ظهارا كما
هو المدعى ، بل هو أعم من ذلك كما عرفت ، ومتى قام الاحتمال بذلك بطل الاستدلال ،
هذا بناء على
النسخة التي أوردوها ، وإلا فالخبر لا تعلق له بما نحن فيه بناء على النسخة
الأخرى ، وترجيح إحدى النسختين على الأخرى يحتاج إلى مرجح ، وهذه علة أخرى.
وأما ما استدل
به لابن الجنيد من إطلاق الآية ففيه أنك قد عرفت في غير مقام مما تقدم أن الإطلاق
إنما يحمل على الأفراد الشائعة المتكررة ، فإنها هي التي ينصرف إليها الإطلاق دون
الفروض النادرة التي ربما لا تقع بالكلية ، وإنما تفرض فرضا ، ولا ريب أن التقييد
بمدة في الظهار شاذ نادر ، وكونه محرما ومنكرا من القول وزورا لا يستلزم كونه
ظهارا تترتب عليه أحكام الظهار فإن كثيرا من الأقوال محرمة ومنهي عنها أشد النهي ،
مع أنها لا يقع بها ظهار وإن اشتملت على لفظ الظهر.
وأما الرواية
التي سجل بها ونقلها بطولها ونوه بشأنها من أنه إنما نقلها بطولها لما اشتملت عليه
من الفوائد والنكت فالظاهر أنها عامية ، إذ لا وجود لها في كتب أخبارنا بالمرة ،
والعجب منهم في استسلامهم هذه الأخبار العامية في أمثال هذه المقامات ، وردهم
للأخبار الإمامية المنقولة في الأصول الصحيحة بمجرد العمل بهذا الاصطلاح المحدث.
وأما القول
بالتفصيل كما جنح إليه فهو يتوقف على الدليل ، وليس إلا مجرد هذه التعليلات
العقلية التي يتداولونها ، وقد عرفت ما فيه.
وأما ما ادعاه
ـ قدسسره ـ من أن العلامة ذهب في المختلف إلى هذا التفصيل فهو
عجيب ، فإن العلامة إنما ذكره احتمالا مؤذنا بأنه لا قائل به ، حيث إنه بعد أن نقل
قولي الشيخ وابن الجنيد ، ونقل دليلهما ، قال : ويحتمل القول بالصحة إن زاد عن مدة
التربص ، وإلا فلا ، انتهى. وأين هذه العبارة عما نقله عنه ، بل ظاهره إنما هو
التوقف في المسألة كما ذكرناه ، فإنه بعد أن نقل القولين الأولين أردفهما بهذا
الاحتمال ولم يرجح شيئا في البين.
الثامن : قد
وقع الخلاف هنا في صيغتين (إحداهما) ما لو قال أنت طالق
كظهر أمي فقال الشيخ في المبسوط : إذا قال أنت طالق كظهر أمي وقصد إيقاع
الطلاق بقوله «أنت» والظهار بقوله «كظهر أمي» طلقت بقوله «أنت طالق» ويصير مظاهرا
منها بقوله «كظهر أمي» إن كان الطلاق رجعيا ، ويكون تقديره أنت طالق ، وأنت كظهر
أمي.
وقال ابن
البراج : لا يقع بذلك ظهار ، نوى ذلك أو لم ينو.
قال في المختلف
: وهو الأقوى ، لنا إنه لم يأت بالصيغة ، ولا يقع الظهار بمجرد القصد الخالي منها
، وقوله «كظهر أمي» لغو ، لأنه لم يقل أنت مني ولا معي ولا عندي ، فصار كما لو قال
ابتداء كظهر أمي.
وقال المحقق في
الشرائع بعد أن نقل قول الشيخ : وفيه تردد ، لأن النية لا تستقل بوقوع الظهار ما
لم يكن اللفظ الصريح الذي لا احتمال فيه ، والظاهر أنه على هذا المنوال كلام من
تأخر عنهما ، وهو الظاهر من القواعد المقررة في هذه الأبواب بين الأصحاب ـ لأنه
بناء على ما ذكره الشيخ من قصد إيقاع الطلاق بقوله أنت طالق ، والظهار بقوله كظهر
أمي ـ وقوع الطلاق ، لحصول صيغته والقصد إليه ، وأما الظهار فإنه لم تحصل صيغته
الشرعية ، إذ لم يبق من الكلام بعد صيغة الطلاق إلا قوله كظهر أمي ، مع أن الاتفاق
قائم على أنه بمجرد قول الرجل كظهر أمي لا يكون مظاهرا.
وأما قوله «إنه
بتقدير أنت كظهر أمي» بمعنى أنه وإن صرفت كلمة الخطاب السابقة أولا إلى الطلاق ،
إلا أنها تعود إلى الظهار أيضا مع النية ويصير كأنه قال أنت طالق ، وأنت كظهر أمي.
ففيه ما عرفت
من أن اللفظ بانقطاعه عما تقدمه ليس صريحا في الظهار ، والنية غير كافية عندنا في
وقوع ما ليس بصريح ، وإنما يتوجه هذا عند من يعتد بالكنايات اعتمادا على النية ،
بل صرح بعض من يعتد بالكنايات هنا برد هذا أيضا بناء على ما عرفت من أنه إذا
استعملنا قوله أنت طالق في إيقاع
الطلاق لم يبق إلا كظهر أمي ، وهو لا يصلح كناية إذ لا خطاب فيه لأحد ،
وأيضا فالأصل في هذا التركيب أن تكون الجملة الواقعة بعد النكرة وصفا لها ، فيكون «كظهر
أمي» وصفا لقوله «طالق» فالعدول بها عن ظاهر التركيب الذي تقتضيه القواعد من غير
موجب خلاف الظاهر. نعم لو عكس فقال : أنت كظهر أمي طالق مع قصدهما معا صح الظهار
لوجود صيغته وقصده.
ويبقى الكلام
في الطلاق فيجري فيه الوجهان ، والشيخ على أصله هنا أيضا من صحتهما معا بالتقريب
الذي ذكره ثمة.
(وثانيهما) ما
لو قال أنت علي حرام كظهر أمي ، فقال الشيخ في المبسوط وتبعه ابن البراج : لو قال
أنت علي حرام كظهر أمي لم يكن مظاهرا سواء نواه أو لا. وتبعه أيضا المحقق في
الشرائع.
ورده العلامة
في المختلف والشهيد الثاني في المسالك وغيرهما بأنه مخالف لمذهبه في المسألة
السابقة ، وتوضيحه أنهم احتجوا هنا على ما ذهبوا إليه من عدم وقوع الظهار بهذه
الصيغة بأن الخطاب بقوله «أنت» انصرف إلى الكلمة الاولى ، وهي قوله «حرام» وتم
الكلام بحصول المسند والمسند إليه فيلغو لأن هذه العبارة لا تقتضي الظهار.
وأما قلة بعد
ذلك «كظهر أمي» وأنه وقع خاليا من المسند إليه لفظا ، والنية غير كافية في تقديره
، مع أنه في المسألة السابقة ادعى تقدير المسند إليه فقال : تقديره أنت طالق وأنت
كظهر أمي.
وكيف كان فإن
وقوع الظهار بهذه الصيغة يدل عليه ما في صحيح زرارة المتقدم عن الباقر عليهالسلام وفيه لما سأله عن الظهار كيف يكون؟ «قال عليهالسلام : يقول الرجل لامرأته وهي طاهر في جماع أنت علي حرام
كظهر أمي». وهي صريحة
__________________
في المطلوب وقوله فيها «حرام» تأكيد لغرضه من الظهار ، فلا ينافيه.
والعجب من
الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ في تجويز الظهار بالكنايات ، وما هو أبعد من هذه مع
الخلو عن النصوص في الجميع ، ومنعه هذه الصيغة مع ورود النص الصحيح بها.
المطلب الثاني في المظاهر :
لا خلاف في أنه
يعتبر في المظاهر ما يعتبر في المطلق من البلوغ وكمال العقل والاختيار والقصد ،
وتحقيق هذه الشروط قد مضى في كتاب الطلاق ، فليطلب من هناك ، فلا يصح ظهار الطفل
ولا المجنون ولا المكره ولا فاقد القصد ، بسكر كان أو إغماء أو غضب يبلغ به إلى
ذلك ، وهو مما لا إشكال ولا خلاف فيه بقي الكلام هنا في مواضع
الأول : أنه هل
يصح ظهار الخصي والمجبوب أم لا؟ وتفصيل القول في ذلك أنه إن بقي لهما ما يمكن به
الجماع المتحقق بإدخال
__________________
الحشفة أو قدرها من مقطوعها فلا إشكال في صحة ظهارهما لأنهما في حكم الصحيح
وإن لم يمكنهما الإيلاج بنى صحة ظهارهما وعدمها.
(أولا) على أن
فائدة الظهار هل يختص بالوطء بمعنى تحريم الوطء عليه خاصة ، ويحل له ما سوى ذلك؟
أو يشمل ما عداه من الاستمتاعات ، فيحرم عليه الجميع؟ وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك
إن شاء الله تعالى ، فإن قلنا بالثاني صح ظهارهما ، وإلا فلا ، لعدم ظهور فائدته.
(وثانيا) على
أنه هل يشترط في صحة الظهار الدخول أولا بالمظاهرة أم لا؟ فإن قلنا بالأول فلا
ظهار هنا حيث إنه لم يتحقق منهما الدخول ولم يوجد شرطه فلا وجود له ، وإن قلنا
بالثاني صح ظهارهما ، وسيأتي الكلام في المسألة إن شاء الله تعالى.
الثاني : هل يصح الظهار من الكافر أم لا؟ فذهب الشيخ في
المبسوط والخلاف إلى الثاني ، ونحوه يظهر من ابن الجنيد أيضا.
قال الشيخ في
الكتابين المذكورين : لا يصح الظهار من الكافر ولا التكفير.
وقال ابن
الجنيد : وكل مسلم من الأحرار وغيرهم إذا كان بالغا مملكا للفرج ممنوعا من نكاح
غيره بملكه إياه إذا ظاهر من زوجته في حال صحة عقله لزمه الكفارة. والقيد بالمسلم
في كلام مشعر باختياره لهذا القول ، ومن ثم نسباه إلى ظاهره.
وإلى الأول ذهب
ابن إدريس فقال : الذي يقوى في نفسي أن الظهار يصح من الكافر.
وبذلك قال
المحقق والعلامة : والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين. واحتجوا عليه بعموم الآية ،
وهي قوله عزوجل «وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ»
وغير ذلك من
العمومات.
احتج الشيخ بأن
من يصح ظهاره تصح الكفارة منه لقوله عزوجل «وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»
والكافر لا يصح منه الكفارة لأنها عبادة تفتقر إلى النية كسائر العبادات ، وإذا لم يصح منه التكفير الرافع
للتحريم لم يصح التحريم في حقه.
وأجيب بمنع عدم
صحتها منه مطلقا ، بلا غاية توقفها على شرط ، وهو قادر عليه بالإسلام كتكليف
المسلم بالصلاة المتوقفة على شرط الطهارة وهو غير متطهر لكنه قادر على تحصيله.
وأورد على ذلك
أن الذمي مقر على دينه متى قام بشرائط الذمة ، فحمله على الإسلام لذلك بعيد ، وأن
الخطاب بالعبادة البدنية لا يتوجه على الكافر الأصلي.
وأجيب بأنا لا
نحمل الذمي على الإسلام ، ولا نخاطبه بالصوم ، ولكن نقول : لا يمكن من الوطء إلا
هكذا ، فإما أن يتركه أو يسلك طريق الحمل.
أقول : ما
ذكروه في هذا المقام من النقض والإبرام ظاهر بناء على ما هو المشهور بينهم بل ربما
ادعي عليه الإجماع من كافة العلماء ما عدا أبي حنيفة من أن الكافر مخاطب بالفروع
ومكلف بها ، إلا أنها لا تقبل منه إلا بالإسلام.
وأما على ما
ذهب إليه بعض المحدثين من متأخري المتأخرين ، وهو الظاهر من أخبارهم عليهمالسلام كما تقدم تحقيق البحث فيه في كتاب الطهارة في باب غسل
الجنابة من أن الكافر غير مكلف ولا مخاطب بالأحكام الشرعية إلا
بعد الإسلام فإنه يتجه أن يقال بصحة ما ذهب إليه الشيخ هنا من عدم صحة الكفارة من
صوم أو عتق أو إطعام من الكافر لأنه غير مكلف بالعبادات حال كفره والصحة عبارة عن
امتثال الأمر ، وهو كما عرفت غير مأمور إلا بعد الايمان بالله ورسوله ،
__________________
فعدم صحة عباداته من حيث كفره ، ومتى ثبت عدم صحة الكفارة ثبت عدم صحة
ظهاره وعدم حصول التحريم به. لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ، ويؤكده
أن توبته بدونها خارج عن القانون الشرعي والدين المحمدي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأما قوله بمنع
عدم صحتها من الكافر مطلقا ، وإنما غايته توقفه على شرط بمعنى أن البطلان إنما هو
من حيث فقد شرط مقدور.
ففيه أن
البطلان ـ بناء على ما ذكرناه ـ إنما هو من حيث عدم التكليف بذلك وعدم توجه الأمر
إلى الكافر حال كفره ، لأن الصحة عبارة عن موافقة الأمر كما عرفت.
الثالث
: أنه لا خلاف
في وقوع الظهار من العبد ، بل قال في المسالك : إنه مذهب علمائنا أجمع ، وإنما
خالف فيه بعض العامة نظرا إلى أن لازم الظهار إيجاب تحرير رقبة ، والعبد لا
يملكها.
وأجيب بأن
وجوبها في الآية مشروط بوجدانها ، وقد قال تعالى «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا»
والعبد غير واحد فيلزمه الصوم.
أقول : ويدل
على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة ـ رضياللهعنهم ـ في الصحيح في بعضها عن محمد بن حمران وهو مجهول قال :
«سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المملوك أعليه ظهار؟ فقال : عليه نصف ما على الحر
صوم شهر ، وليس عليه كفارة من صدقة ولا عتق».
وما رواه في
الكافي عن جميل بن دراج في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث في الظهار قال : «إن الحر والمملوك سواء ، غير
أن على المملوك نصف ما على الحر من الكفارة ، وليس عليه عتق رقبة ولا صدقة ، إنما
هو عليه صيام
__________________
شهر» ، ورواه الصدوق عن جميل مثله إلى قوله من الكفارة.
وعن أبي حمزة
الثمالي عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن المملوك أعليه ظهار؟ فقال : نصف ما على
الحر من الصوم ، وليس عليه كفارة صدقة ولا عتق رقبة».
وربما أشعرت
هذه الأخبار بعدم ملك العبد لأن تخصيص الكفارة بالصوم دون الفردين الآخرين إنما هو
من حيث كونهما متوقفين على المال وأن العبد لا يملك ، وإلا فلو قلنا بملكه ـ كما
هو ظاهر جملة من الأخبار وهو المختار في المسألة وإن توقف تصرفه على إذن سيده ـ فإنه
لا يظهر لهذا التخصيص وجه بل ينبغي أن يجعل كالحر في أنه إن وجد تصدق أو أعتق رقبة
وإن لم يجد انتقل إلى الصيام.
المطلب الثالث في المظاهرة :
والكلام فيه
يقع في مواضع : الأول : قال في الشرائع : ويشترط أن تكون منكوحة بالعقد ، فلا يقع بالأجنبية ،
ولو علقه على النكاح ، قال الشارح في المسالك : هذا عندنا موضع وفاق ، والأصل فيه
أن الله تعالى علق الظهار على الأزواج ، فقال «وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ»
فيبقى غيرهن
على الأصل ، وخالف فيه بعض العامة ، فصححه بالأجنبية إذا علقه بنكاحها كما صححه
كذلك في الطلاق.
أقول : الظاهر
من إيراد هذه المقالة إنما هو الرد على هذا البعض من العامة في تجويزه الظهار
بالأجنبية إن علق على نكاحها ، إلا أن تقييد النكاح بالعقد في كلام المصنف ـ وكذا
استدلاله في المسالك بالآية الدالة على أنه لا يقع إلا بالأزواج ـ ظاهر في أنه لا
يقع بملك اليمين ، مع أنه سيأتي إن شاء الله تعالى أن الأشهر الأظهر وقوع الظهار
بها كما دلت عليه جملة من الأخبار ، والعجب من غفلة الشارح ـ قدسسره ـ عن التنبه لذلك والتنبيه عليه.
__________________
الثاني : أنه يشترط في المظاهرة أن تكون طاهرا طهرا لم يقربها
فيه إذا كان زوجها حاضرا وكان مثلها تحيض ، ولو كان غائبا صح ، وكذا لو كان حاضرا
وهي يائسة أو لم تبلغ ، وهذه الأحكام قد تقدم تحقيق الكلام فيها في كتاب الطلاق ،
والظهار يجرى مجراه في جميع ما ذكر ، وقد تقدم في جملة من الأخبار ما يدل على هذه
الأحكام منها.
في صحيحة زرارة
«أنه سأله عن
الظهار فقال : إنه يقول الرجل لامرأته وهي طاهر في جماع أنت علي كظهر أمي أو أختي
، وهو يريد بذلك الظهار».
وفي رواية
الفضيل بن يسار «ولا يكون الظهار إلا على موضع الطلاق». وهذه الرواية دالة على اعتبار هذه
الشروط إجمالا.
وفي رواية
حمران «لا يكون ظهار
إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين». إلى غير ذلك من الأخبار التي
تقدمت.
الثالث
: قد اختلف
الأصحاب ـ رحمة الله عليهم ـ في اشتراط الدخول بالمظاهرة وعدمه بالنسبة إلى صحة
الظهار وعدمها ، فذهب جمع منهم الشيخ المفيد والسيد المرتضى وابن إدريس وسلار وابن
زهرة وغيرهم إلى العدم فجوزوا الظهار من الزوجة قبل الدخول بها ، وذهب جمع منهم
الشيخ والصدوق إلى اشتراط صحة الظهار بذلك ، وهو الظاهر من ابن الجنيد وابن البراج
في كتابيه ، وعليه أكثر المتأخرين.
__________________
ويدل على هذا
القول من الأخبار ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل مملك ظاهر امرأته ، فقال لي : لا يكون ظهار ولا
إيلاء حتى يدخل بها».
ورواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب في الصحيح مثله ، ولا ملاك
للتزويج من غير دخول.
وما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام «قال في المرأة التي لم يدخل بها زوجها ، قال : لا يقع بها إيلاء ولا ظهار».
وما رواه في
التهذيب في الصحيح عن الفضيل بن يسار قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل مملك ظاهر امرأته ، قال : لا يلزم ـ ثم قال : ـ وقال
لي : لا يكون ظهار ولا إيلاء حتى يدخل بها» ، وقد تقدم معنى قوله مملك.
احتج من قال
بالأول بالعمومات ، وفيه أن العمل بالخاص مقدم على العام كما هي القاعدة ، الا أن
هذا إنما يتم على ما هو المشهور من العمل بخبر الآحاد وأما على مذهب السيد وابن
إدريس من عدم العمل بأخبار الآحاد فتبقى العمومات سالمة عن المعارض ، فيتجه القول
بذلك على أصلهما الغير الأصيل ومذهبهما الخارج عن نهج السبيل ، وبذلك يظهر لك أن
العمل إنما هو على القول الثاني.
الرابع : المشهور بين الأصحاب ـ رحمة الله عليهم ـ وقوع الظهار بالمستمتع بها
كالزوجة الدائمة ، وهذا مذهب السيد المرتضى وابن أبي عقيل وأبي الصلاح
__________________
وابن زهرة.
وظاهر الصدوق
وابن الجنيد العدم حيث قالا : ولا يقع الظهار إلا موقع الطلاق ، واختاره ابن
إدريس.
احتج الأولون
بالعمومات من الكتاب والسنة ، واحتج في المختلف للقول الثاني بأن الظهار حكم شرعي
يقف على مورده ولم يثبت في نكاح المتعة حكمه مع أصالة الإباحة ، ثم أجاب عنه
بالمنع من عدم الثبوت ، قال : وقد بينا العمومات.
واحتج في
المسالك لهذا القول بانتفاء لازم الظهار ، فإن منه المرافعة المترتبة على الإخلال
بالواجب بالوطء ، وإلزامه أحد الأمرين الفدية أو الطلاق ، وهو ممتنع في المتعة ،
وإقامة هبة المدة مقامه قياس ، وانتفاء اللوازم يدل على انتفاء الملزومات.
ثم إنه أجاب
عنه بأن هذه اللوازم مشروطة بزوجة يمكن في حقها ذلك فلا يلزم من انتفائها انتفاء
جميع الأحكام التي أهمها تحريم الاستمتاع من دون المرافعة ، وقد تقدم البحث في ذلك
في بابها من النكاح ، انتهى وهو جيد.
الخامس : اختلف
الأصحاب في الأمة الموطوءة بملك اليمين ولو مدبرة أو أم ولد فقيل : إنه يقع بها
الظهار وهو قول الشيخ ، قال : إنه يقع سواء كانت أمة مملوكة أو مدبرة أو أم ولد.
وقال في
المبسوط : وروى أصحابنا أن الظهار يقع بالأمة والمدبرة وأم الولد وهو اختيار ابن
أبي عقيل وابن حمزة. وقيل : إنه لا يقع بها ، وهو قول الشيخ المفيد وأبي الصلاح
وسلار وابن البراج في كتابيه وابن إدريس وغيرهم والأول
__________________
أظهر ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.
ويدل عليه من
الأخبار التي هي المعتمد في الإيراد والإصدار ما رواه المشايخ الثلاثة ـ عطر الله مراقدهم ـ عن إسحاق بن عمار في الموثق قال :
«سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل يظاهر من جاريته ، فقال : الحرة والأمة في ذلك
سواء».
وما رواه في
الكافي عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام قال : «وسألته عن الظهار على الحرة والأمة؟ قال : نعم».
وعن حفص بن
البختري في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهماالسلام «في
__________________
رجل كان له عشر جوار فظاهر منهن كلهن جميعا بكلام واحد ، فقال : عليه عشر
كفارات».
وما رواه الشيخ
عن ابن أبي يعفور قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل ظاهر من جاريته ، قال : هي مثل ظهار الحرة».
وعن محمد بن
مسلم في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن الظهار من الحرة والأمة؟ قال : نعم».
وما رواه في
قرب الاسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن
الرضا عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل يظاهر من أمته؟ فقال : كان جعفر
يقول : يقع على الحرة والأمة الظهار».
ويدل على القول
الثاني ما رواه الشيخ عن حمزة بن حمران قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل جعل جاريته عليه كظهر امه ، قال : يأتيها وليس
عليه شيء».
ورده في
المسالك ومثله سبطه في شرح النافع بضعف السند فلا يعارض ما تقدم من الأخبار التي
فيها الصحيح وغيره.
وأجاب عنها
الشيخ بالحمل على ما إذا أخل بشرائط الظهار ، قال في الاستبصار : لأن حمزة بن
حمران روى هذه الرواية في كتاب البزوفري أنه يقول ذلك لجاريته ويريد إرضاء زوجته ،
وهذا يدل على أنه لم يقصد به الظهار الحقيقي وإذا لم يقصد ذلك لم يقع ظهاره صحيحا
، ولا يحصل على وجه تتعلق به الكفارة ، انتهى.
__________________
وأشار بالرواية
المذكورة إلى ما قدمناه من رواية حمزة المذكورة في آخر التنبيه السادس من المطلب
الأول ، وهو وإن كان لا يخلو من بعد لاحتمال كون هذه الرواية غير تلك إلا أنه في
مقام الجمع بين الأخبار غير بعيد.
ويحتمل حمل
الرواية المذكورة على التقية ، فإن القول بمضمونها مذهب جمع من العامة كما ذكره
ابن أبي عقيل ـ رحمهالله ـ في عبارته وبحثه في ذلك معهم.
ونقل في
المسالك الاستدلال لهذا القول أيضا بقوله عليهالسلام
في مرسلة ابن
فضال «لا يكون ظهار
إلا على مثل موضع الطلاق». والطلاق لا يقع بملك اليمين.
وفيه أنا قد
قدمنا سابقا الجواب عن مثل هذا الاستدلال بهذا الخبر بأن الظاهر أن المراد إنما هو
بالنسبة إلى الشرائط المعتبرة في الطلاق من الشاهدين وكونها في طهر لم يقربها إلى
الشرائط المعتبرة وكونها طاهرا من الحيض نحو ذلك ، بمعنى أنه لا بد في الظهار من
استكماله لهذه الشروط المشترطة في الطلاق هذا هو الظاهر من الخبر ، لا ما ذكروه
هنا ، وكذا في مسألة تعليق الظهار الشرط كما تقدم من الاستدلال بهذا الخبر على نفي
ذلك ، فإن الظاهر بعده.
وبذلك يظهر لك
أن الأظهر هو القول الأول ، وأنه هو الذي عليه المعول والمحقق في الشرائع قد تردد
في هذه المسألة ، ونسب الوقوع إلى الرواية ، والظاهر ضعفه ، فإنه ليس لهذا القول
بعد الروايتين اللتين ذكرناهما إلا مجرد علل عليلة لا تصلح في حد ذاتها للاستدلال
، فضلا عن أن يكون في مقابلة تلك الأخبار والروايتان المذكورتان قد عرفت ما فيها ،
والله العالم.
السادس : وقالوا : ومع الدخول يقع ولو كان الوطء دبرا ، صغيرة كانت أو كبيرة ،
مجنونة أو عاقلة.
قيل في بيان
وجهه : إن إطلاق الدخول يشمل الدبر كما تحقق في
__________________
باب المهر وغيره ، وإطلاق الحكم يتناول الصغيرة وإن حرم الدخول بها
والكبيرة المجنونة والعاقلة.
أقول : قدمنا
في غير موضع أن إطلاق الدخول في الأخبار إنما ينصرف إلى الفرد المتعارف الشائع
المتكرر دون الفروض النادرة. ولا ريب أن الفرد الشائع المتكرر المندوب إليه إنما
هو الوطء في القبل خاصة.
وبالجملة فإن
بناء الأحكام عليه وإن اشتهر في كلامهم إلا أنه غير خال من الاشكال كما تقدم
تحقيقه بوجه أبسط ، والله العالم.
المطلب
الرابع في الأحكام : وفيه مسائل :
الاولى : قد صرح الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بأن الكفارة لا
تجب بمجرد الظهار ، وإنما تجب بالعود وإرادة الوطء وأنه لا استقرار لها.
أقول : تفصيل
هذا الإجمال يقع في مواضع ثلاثة :
الأول : أنه لا
خلاف بين كافة أهل العلم في أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار وإنما تجب بالعود ،
قال الله تعالى وعزوجل «وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»
الآية ، فإنه سبحانه رتب التحرير على العود ، والمراد إرادة العود لا
العود بالفعل ، نظيره قوله عزوجل «فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ»
«وإِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»
أي إذا أردت القراءة وإذا أردتم القيام ، والمراد بما قالوا تحريم الوطء
الذي حرموه على أنفسهم بالظهار ، والمعنى أنهم إذا أرادوا استباحة الوطء الذي
حرموه على أنفسهم بالظهار فلا بد أولا من تحرير رقبة.
__________________
ويدل على ما
ذكرنا من الأخبار ما رواه الشيخ في الصحيح عن جميل ابن دراج عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه سأله عن الظهار متى يقع على صاحبه فيه الكفارة؟ فقال : إذا أراد أن
يواقع امرأته ، قلت : فإن طلقها قبل أن يواقعها ، أعليه كفارة؟ قال : لا ، سقطت
الكفارة عنه».
وما رواه في
الصحيح عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يظاهر من امرأته ثم يريد أن يتم على طلاقها ،
قال : ليس عليه كفارة ، قلت : إن أراد أن يمسها؟ قال : لا يمسها حتى يكفر ، قلت :
فإن فعل فعليه شيء؟ قال : إي والله إنه لآثم ظالم ، قلت : عليه كفارة غير الاولى؟
قال : نعم».
وما رواه في
الكافي عن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : متى تجب الكفارة على المظاهر؟ قال : إذا أراد أن يواقع
، قال : قلت : فإن واقع قبل أن يكفر؟ قال : فقال : عليه كفارة أخرى».
أقول : ظاهر
هذا الخبر والخبر الأول أن الحنث الموجب للكفارة لا يقع بمجرد الإرادة للمواقعة ،
بل بالمواقعة بالفعل ، وسيأتي ما ظاهره المنافاة.
وما رواه في
الكافي عن علي بن مهزيار قال : «كتب عبد الله بن محمد إلى أبي
الحسن عليهالسلام : جعلت فداك إن بعض مواليك يزعم أن الرجل إذا تكلم
بالظهار وجبت عليه الكفارة حنث أو لم يحنث ، ويقول : حنثه كلامه بالظهار ، وإنما
__________________
جعلت عليه الكفارة عقوبة لكلامه ، وبعضهم يزعم أن الكفارة لا تلزمه حتى
يحنث في الشيء الذي حلف عليه ، فإن حنث وجبت عليه الكفارة ، وإلا فلا كفارة عليه
، فوقع عليهالسلام بخطه : لا تجب الكفارة حتى يجب الحنث».
أقول : أراد عليهالسلام بالوجوب في قوله «حتى يجب الحنث» معناه اللغوي ، أي حتى
يحصل الحنث ويثبت منه ، وقد عرفت أن الحنث يحصل بإرادة المواقعة ، والشيخ حمل هذا
الخبر على الظهار المشروط ، وجعل حنثه هو تحقق الشرط الذي علق عليه الظهار ، والظاهر
أنه نظر إلى قوله «حتى يحنث في الشيء الذي حلف عليه» فإنه ظاهر في أن السؤال إنما
كان عن الظهار المشروط المقصود به اليمين ، إلا أنك قد عرفت أنه لا يصح على أصولنا
وإنما يصح على أصول العامة ، أو لعله عليهالسلام أجمل في الجواب لذلك.
وبذلك يظهر أنه
لا وجه لما حمل عليه الشيخ الخبر من الظهار المشروط ، وأنه متى لم يحصل الشرط لم
تجب عليه الكفارة ، لأن ظاهر الخبر المذكور بالنظر إلى قوله «يحنث في الشيء الذي
حلف عليه» لا يلائم ما ذكره بناء على التقريب الذي ذكرناه ، ومع قطع النظر عن ذكر
الحلف أو تأويله بوجه على خلاف ظاهره ، فإن الخبر ظاهر فيما دلت عليه الأخبار
السابقة من تحقق الحنث بمجرد إرادة المواقعة ، فلا ضرورة إلى الحمل إلى الظهار
المشروط.
بقي هنا شيء
وهو أنه قد روى في الكافي عن زرارة قال : «قلت : لأبي جعفر عليهالسلام : إني ظاهرت من أم ولدي ثم وقعت عليها ثم كفرت ، فقال :
هكذا يصنع الرجل الفقيه إذا واقع كفر».
__________________
وروى في الكافي
والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن زرارة قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل ظاهر ثم واقع قبل أن يكفر ، فقال لي : أو ليس
هكذا يفعل الفقيه».
وهذان الخبران
بحسب الظاهر مخالفان لظاهر الكتاب والسنة الدال على وجوب الكفارة بإرادة المواقعة
، وأنه لا يجوز المواقعة بدون الكفارة ، والظاهر حملها على الظهار المشروط
بالمواقعة ، كقوله «أنت علي كظهر أمي إن واقعتك» قاصدا به الظهار دون الحلف للزجر
مثلا ، فإن الكفارة في هذه الصورة لا تجب إلا بعد المواقعة ، لأن الحنث إنما يقع
بعد المواقعة.
الثاني : الأشهر
الأظهر أن المراد من العود الموجب للكفارة هو إرادة المواقعة كما قدمنا ذكره ، وبه
صرح جملة من المتقدمين أيضا.
قال الشيخ في
كتابي المبسوط والخلاف : لا يجب الكفارة إلا إذا ظاهر ثم أراد الوطء إن كان الظهار
مطلقا ، وبعد حصول الشرط وإرادة الوطء إن كان مشروطا.
وبذلك صرح ابن
أبي عقيل والسيد المرتضى بعد أن ذكر أنه ليس لأصحابنا نص صريح في تفسيره ، وخالف
في ذلك ابن الجنيد فجعل العود عبارة عن إمساكها في النكاح بقدر ما يمكنه مفارقتها
فيه. قال على ما نقله عنه في المختلف : والمظاهر إذا أقام على إمساك زوجته بعد
الظهار بالعقد الأول زمانا ، فإن قل فقد عاد ـ إلى أن قال : ـ ولم يجز له أن يطأ
حتى يكفر.
ونقل عنه في
المسالك الاحتجاج على ذلك بأن العود للقول عبارة عن مخالفته ، يقال : قال فلان
قولا ثم عاد فيه ، وعاد له أي خالفه ونقضه ، وهو قريب من قولهم : عاد في هبته ـ ثم
قال في المسالك : ـ وهذان القولان للعامة أيضا ، ولهم قول ثالث إنه الوطء نفسه ،
والأصح الأول.
__________________
ثم إنه أجاب عن
الثاني وهو ما ذهب إليه ابن الجنيد ، قال : وجواب الثاني أن حقيقة الظهار كما
اعترفوا به تحريم المرأة عليه ، وذلك لا ينافي بقاؤها في عصمته ، فلا يكون إبقاؤها
بذلك عودا فيه ، وإنما يظهر العود في قوله بإرادة فعل ما ينافيه ، وذلك بإرادة
الاستمتاع أو به نفسه ، لكن الثاني غير مراد هنا لقوله «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا»
فجعل الكفارة
مترتبة على العود ، وجعلها من قبل أن يتماسا ، فدل على أن العود يتحقق قبل الوطء ،
وبهذا يضعف القول الثالث ، انتهى.
وأجاب في
المختلف ومثله في المسالك أيضا عما ذهب إليه ابن الجنيد بأن قوله عزوجل «ثُمَّ يَعُودُونَ»
يقتضي التراخي
بين الظهار والعود لدلالة «ثم» عليه وعلى قولهم بالقول الثاني لا يتحقق التراخي
على هذا الوجه.
أقول : لا يخفى
أن المستفاد من الآية والأخبار المتقدمة متى ضم بعضها إلى بعض إنما هو عبارة عن
إرادة المواقعة ، لا مجرد إمساكها ، لأن الآية دلت على ترتب الكفارة على العود ،
بمعنى إرادة العود بالتقريب المتقدم ، والأخبار صرحت بأن وقت الكفارة إرادة
المواقعة ، ومنه علم أن العود الموجب للكفارة عبارة عن إرادة المواقعة ، فلو
أمسكها ما أمسكها ولم يرد المواقعة لم يتحقق العود بذلك.
الثالث : قد
عرفت مما تقدم أنه لا إشكال في لزوم الكفارة بإرادة العود ، لكن الكلام في أنه متى
وجبت بذلك هل يكون وجوبها مستقرا بذلك حتى أنه لو طلقها بعد إرادة العود وقبل
الوطء تبقى الكفارة لازمة له؟ أو أنه لا استقرار لوجوبها إلا بالوطء بالفعل ،
فمعنى الوجوب إنما هو عبارة عن كونها شرطا في حل الوطء لتحريم العود بدونها؟ قولان
، أشهرهما الثاني ، وهو الذي صرح به المحقق في كتابيه.
قال في الشرائع
: ولا استقرار لها ، بل معنى الوجوب تحريم الوطء حتى يكفر ، وعلى هذا فتكون
الكفارة شرطا في حل الوطء ، كما أن الطهارة شرط
في صحة صلاة النافلة ، والإحرام شرط في دخول الحرم ، ولا يصدق على شيء من
هذه الشروط اسم الواجب بالمعنى المتعارف منه ، وهو ما يذم تاركه أو يعاقب على تركه
، فإن تارك الكفارة لو لم يطأ لا إثم عليه ، ولو وطأ أثم على وقوع الوطء على هذا
الوجه لا على ترك الكفارة. كما أن من صلى النافلة من غير طهارة يعاقب على إيقاع
الصلاة كذلك لا على ترك الطهارة ، وهذا الوجوب بهذا المعنى يسمى عندهم بالوجوب
الشرطي ، لأنه لا يترتب على تركه ما يترتب على ترك الواجب ، وإنما وجوبه عبارة عن
شرطيته في صحة ما جعل شرطا له ، وعلى هذا القول يدل ظاهر الآية ، فإن قوله عزوجل «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا»
غاية ما يدل
عليه توقف إباحة التماس على تحرير الرقبة ، لا وجوب التحرير بمجرد إرادة التماس.
وبالجملة فإن
مجرد إرادة العود مع عدم وقوع الوطء منه ولا التكفير لا يوجب حصول العصيان ،
والموجود في الآية تحرير الرقبة قبل التماس ، وهذا لم يحصل منه مماسة بالكلية.
وعلى ذلك يدل
أيضا ظاهر صحيحة الحلبي المتقدمة قريبا فيمن يظاهر امرأته ، ثم يريد أن يتم على
طلاقها «قال : ليس عليه كفارة ، قلت : إنه أراد أن يمسها ، قال : لا يمسها حتى
يكفر» فإن غاية ما تدل عليه أن جواز المس متوقف على التكفير ، فمتى لم يمس لا
يستقر عليه وإن أراد ، ومرجعه إلى أن التكفير شرط في جواز المس ، وهو المراد من الوجوب
الشرطي الذي ذكرناه ، لا الوجوب المستقر بالمعنى المتعارف. ونحوها أيضا صحيحة جميل
ورواية أبي بصير المتقدمتان بالتقريب المذكور.
__________________
ونقل عن
العلامة في التحرير أنه استقرب أن الوجوب يستقر بإرادة الوطء وإن لم يفعل ، محتجا
بالآية ، قال : لأن الله تعالى رتب وجوبها على العود بقوله «ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»
أي فعليهم ذلك
، والأصل بقاء هذا الوجوب المترتب.
وأجيب بمنع
الدلالة على الوجوب مطلقا ، بل غاية ما تدل الآية عليه هو توقف التماس على الكفارة
، وهذا ما ندعيه ، ولو سلم الوجوب فالمراد به المقيد بقبلية التماس ، والقبلية من
الأمور الإضافية لا تتحقق بدون المتضايفين فما لم يحصل التماس لا يثبت الوجوب ،
وهذا هو المراد من الوجوب الغير المستمر وبالجملة فالقول المذكور ضعيف لا يلتفت
إليه لما عرفت ، والله العالم.
الثانية : المشهور بين المتقدمين وعليه كافة المتأخرين أنه لو وطأ قبل الكفارة
لزمته كفارة أخرى ، ولو كرر الوطء تكررت الكفارة.
ويدل على ذلك صحيحة
الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يظاهر من امرأته ثم يريد أن يتم على طلاقها ،
قال : ليس عليه كفارة ، قلت : فإن أراد أن يمسها؟ قال : لا يمسها حتى يكفر ، قلت :
فإن فعل فعليه شيء؟ فقال : إي والله إنه لآثم ظالم ، قلت : عليه كفارة غير الاولى؟
قال : نعم».
وما رواه في
الكافي عن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : متى تجب الكفارة على المظاهر؟ قال : إذا أراد أن
يواقع ، قال : قلت ، قال : فإن واقع قبل أن يكفر؟ قال : فقال : عليه كفارة أخرى».
وهذه الرواية
وصفها في المسالك بالصحة ، ولا أعرف له وجها ، فإن طريقها في الكافي عن علي
الميثمي عن ابن أبي عمير عن حفص بن البختري عن أبى بصير ، وطريق الكليني إلى علي
الميثمي غير معلوم وعلي المذكور مجهول ، وأبو بصير مشترك.
__________________
وما رواه الشيخ
عن الحسن الصيقل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : رجل ظاهر من امرأته فلم يف ، قال :
عليه الكفارة من قبل أن يتماسا ، قلت : فإنه أتاها قبل أن يكفر ، قال : بئس ما صنع
، قلت : عليه شيء؟ قال : أساء وظلم قلت : فيلزمه شيء؟ قال : رقبة أيضا».
وما رواه في
الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال : إذا واقع المرة الثانية قبل أن يكفر فعليه كفارة أخرى ، ليس في
هذا اختلاف».
أقول : الظاهر
أن قوله «ليس في هذا اختلاف» من كلام أحد الرواة ، بمعنى أنه بتكرر الوطء تتكرر
الكفارة ، فلكل وطء كفارة من غير خلاف بين الخاصة والعامة في ذلك ، إنما الخلاف في
لزوم كفارة أخرى للوطء الأول كما هو محل البحث.
ونقل عن ابن
الجنيد أنه حكم بالتعدد ، وكذلك إذا كان فرض المظاهر التكفير بالعتق أو الصيام.
وأما إذا انتقل فرضه إلى الصيام فلا.
قال على ما نقل
عنه في المختلف والمسالك : والمظاهر إذا قام على إمساك زوجته بعد الظهار بالعقد
الأول زمانا ، وإن قل فقد عاد لما قال ، ولم يستحب له أن يطأ حتى يكفر ، فإن وطأ لم يعاود الوطء ثانيا حتى
يكفر ، فإن فعل وجب عليه بكل وطء كفارة ، إلا أن يكون ممن لا يجد العتق ولا يقدر
على الصيام فكفارته هي الإطعام فإنه إن عاود إلى جماع ثان قبل الإطعام فالنفقة لا
يوجب عليه كفارة ، لأن الله شرط في العتق والصيام أن يكون قبل العود ولم يشترط ذلك
في الإطعام والاختيار أن لا يعاود إلى جماع ثان حتى يتصدق.
__________________
واحتج له
الأصحاب بصحيحة زرارة المتقدمة في الموضع الأول من سابق هذه المسألة الدالة
على أن من واقع بعد الظهار قبل أن يكفر فهو فقير.
وحسنة الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : «سألته عن رجل ظاهر من امرأته ثلاث مرات ، قال :
يكفر ثلاث مرات ، قلت : فإن واقع قبل أن يكفر؟ قال : يستغفر الله ، ويمسك حتى يكفر».
ورواية زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إن الرجل إذا ظاهر من امرأته ثم يمسها قبل أن
يكفر فإنما عليه كفارة واحدة ، ويكف عنها زوجها حتى يكفر».
وأنت خبير بأن
ظاهر كلام ابن الجنيد بل صريحه موافقة الأصحاب فيما إذا كان التكفير بالعتق أو
الصيام ، فأوجب التعدد بالوطء بعد الظهار قبل الكفارة ، وتعددها بتعدد الوطء ،
وإنما يخالفهم في صورة ما إذا كان التكفير بالإطعام ، فإنه لا يوجب أزيد من كفارة
واحدة ، محتجا بظاهر الآية ، وهي قوله عزوجل «وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ـ إلى أن قال : ـ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ
سِتِّينَ مِسْكِيناً».
والتقريب فيها
أنه اشترط في كفارة العتق والصيام أنه لا يجوز له المواقعة إلا بعد تلك الكفارة ،
سواء واقعها مرة أو مرات ، فإنه يكرر الكفارة بذلك
__________________
لمنعه من المماسة قبل الكفارة ، فهو ممنوع في المس الأول والثاني ، وهكذا ،
فكل منهما وجب الكفارة.
وأما الإطعام
فأطلقه ولم يشترط فيه ذلك قبل المماسة ، بل ظاهره أنه متى كان كفارته الإطعام فإنه
يكفر بعد الظهار تماسا أو لم يتماسا فإنما عليه كفارة واحدة ، لأنه لم يعلق
الكفارة على التماس كما في الأولين ، بل قال : فإن لم يستطع التكفير بتلك
الكفارتين على الوجه المذكور فكفارته إطعام ستين مسكينا مرة واحدة وإن تماسا وتكرر
التماس ، لأنه لم يرتب الكفارة على التماس ليلزم تكررها بتكرره ، بل الموجب لها
إنما هو الظهار ، والواجب فيه كفارة واحدة ، والتعدد غير مستفاد من الآية في هذه
الكفارة.
وأما الأخبار
التي أوردوها دليلا لابن الجنيد فلا دلالة في شيء منها على هذا التفصيل الذي ادعى
ابن الجنيد من تخصيص محل خلافه مع الأصحاب بكفارة الإطعام ، بل هي مطلقة كإطلاق
الأخبار الدالة على القول المشهور ، ولا فرق في شيء منها بين الكفارات ، إلا أن
تلك دلت على التعدد مطلقا وهذه دلت على وحدة الكفارة مطلقا عتقا كانت الكفارة أو
صياما أو إطعاما ، فهي غير موافقة لابن الجنيد لأنه يخص ذلك بما إذا كان الكفارة
إطعاما ، وهذه الأخبار مطلقة ، وحملها على خصوص الإطعام كما يقوله ابن الجنيد تعسف
محض وتكلف صرف لا يساعد عليه شيء من عبائرها وألفاظها.
نعم الواجب
الكلام في الجمع بين هذه الأخبار ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حمل
الأخبار الأول على الاستحباب ، ثم إنه استشكل ذلك باعتبار صحة روايتي الحلبي وأبي
بصير بناء على ما قدمنا نقله عنه من حكمه بصحتها ، والتأويل فرع المعارضة وإلا
فالعمل على الترجيح بالصحة.
والشيخ ـ رحمة
الله عليه ـ قد حمل الأخبار الأخيرة الدالة على عدم تكرار
الكفارة على من فعل ذلك جاهلا ، واستدل عليه بصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «الظهار لا يقع إلا على الحنث ، فإذا حنث فليس له
أن يواقعها حتى يكفر ، فإن جهل وفعل كان عليه كفارة واحدة».
أقول :
والتحقيق أن الرواية الاولى من الروايات الأخيرة وهي صحيحة زرارة ليست مما ذكروه في شيء. وإنما المعنى فيها ما قدمنا
ذكره من الحمل على ما إذا كان الظهار مشروطا بالمواقعة ، بأن قال : أنت علي كظهر
أمي إن واقعتك ، فإنه لا تجب عليه الكفارة إلا بعد المواقعة ، ولا يحصل الحنث
الموجب لها إلا بذلك.
وأما حسنة
الحلبي فليس فيها إلا أنه إذا واقع قبل أن يكفر فليستغفر الله
وليمسك حتى يكفر. ولا دلالة فيه على أنه يكفر كفارة واحدة ، بل هي أعم من الواحدة
والاثنتين ، وحينئذ فيحمل على الكفارتين جمعا بين الأخبار المفصلة ، وعلى هذا
فتنحصر في رواية زرارة ، وهي لا تبلغ قوة في معارضة تلك الأخبار ، فيجب حملها على
ما ذكره الشيخ من الجاهل الناسي وبذلك يظهر قوة القول المشهور.
وأما ما ذكره
في المسالك بعد استبعاده ما ذكرناه من المحامل ، فقال : وقول ابن الجنيد لا يخلو
من قوة ، وفيه جمع بين الأخبار ، إلا أن الأشهر خلافه ففيه ما عرفت آنفا من أن قول
ابن الجنيد لا تعلق له بهذه الروايات الأخيرة ، لأنه يفصل في الكفارة بين العتق
والصوم وبين الإطعام ، فيوجب التعدد كما ذكره الأصحاب في الأولين ويوجب الواحدة في
الثالث ، وهذه الأخبار ليس فيها إشارة
__________________
إلى هذا التفصيل بالكلية ، وإنما هي مطلقة في اتحاد الكفارة ، عتقا كانت أو
صوما أو إطعاما ، وحمل هذه الأخبار الأخيرة على خصوص كفارة الإطعام ، مع أنه لا
إشارة إليه ، فضلا عن الدلالة عليه في شيء منها تعسف ظاهر ، وتحكم مجاهر.
وكيف كان فإنه
على تقدير القول المشهور من وجوب التعدد فإنه يجب تقييده بالعالم العامد دون
الجاهل والناسي كما دلت عليه صحيحة محمد بن مسلم وإن كان موردها إنما هو الجاهل ، إلا أن الناسي يشاركه
عند الأصحاب كما صرح به في المسالك وغيره.
الثالثة : لا
خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في أن المظاهر إذا طلق طلاقا رجعيا ثم راجع
في العدة فإن حكم الظهار باق فلا تحل له حتى يكفر.
وإنما الخلاف
في أنها إذا طلقها بائنا أو رجعيا ولكن تركها حتى خرجت من العدة ثم تزوجها بعقد
جديد فهل يكون حكم الظهار باقيا كالصورة الأولى أم لا؟ قولان ، أشهرهما وأظهرهما
الثاني.
ويدل على
الحكمين المذكورين ما رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه في الصحيح عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب الخزاز عن بريد
بن معاوية قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل ظاهر من امرأته ثم طلقها تطليقة ، فقال : إذا هو
طلقها تطليقة فقد بطل الظهار وهدم الطلاق الظهار ، قيل له : فله أن يراجعها؟ قال :
نعم هي امرأته ، فإن راجعها وجب عليه ما يجب على المظاهر من قبل أن يتماسا ، قلت :
فإن تركها حتى يحل أجلها وتملك نفسها ، ثم تزوجها بعد ذلك ، هل يلزمه الظهار من
قبل أن يمسها؟ قال : لا ، قد بانت منه وملكت نفسها».
إلا أن صاحب
الكافي قد روى هذه الرواية بعينها عن يزيد الكناسي عن
__________________
أبي جعفر عليهالسلام ، الخبر كما هو في من لا يحضره الفقيه ، ويزيد المذكور
بالياء المثناة من تحت ثم الزاي ، أو بريد بالباء الموحدة ثم الراء المهملة مجهول
في الرجال فيكون الحديث ضعيفا بهذا الاصطلاح المحدث ، لكنه من الجائز رواية كل
منهما له في ذلك المجلس. وكيف كان فهو ظاهر الدلالة على الحكمين المذكورين.
وذهب سلار وأبو
الصلاح إلى عود حكم الظهار بعد تزويجها ولو بعد العدة البائنة لعموم الآية وخصوص حسنة
علي بن جعفر عن أخيه عليهالسلام «أنه سأله عن رجل ظاهر من امرأته ثم طلقها بعد ذلك بشهر أو شهرين فتزوجت ثم
طلقها زوجها الذي تزوجها ، ثم راجعها الأول ، هل عليه فيها الكفارة للظهار الأول؟ قال
: نعم ، عتق رقبة أو صوم أو صدقة».
وأجاب الشيخ عن
هذه الرواية بالحمل على التقية لموافقتها لمذهب جمع من العامة ، واعترضه في
المسالك بأن العامة مختلفون في ذلك كالخاصة ، فلا وجه للتقية في أحد القولين.
وفيه أنه لا
منافاة في ذلك ، إذ من الجائز شيوع هذا القول بين العامة في ذلك الوقت ، فأفتى عليهالسلام بما يوافق قولهم يومئذ تقية ، وقد ورد في الأخبار أنه
مع اختلافهم في الحكم يؤخذ بخلاف ما إليه قضاتهم وحكامهم أميل.
__________________
في هذه الرياض
والعراص أصاب سهم القدر لمؤلفه الذي لا سعة عنه ولا مناص ، ولا محيد دون عموم
واختصاص ، فيا له من كرب لا يفيث منه حي ، ويا لها من ثلمة لا يسدها شيء ، وبه تم
الجزء الخامس والعشرون ـ حسب تجزئتنا ـ بحمد الله ومنه.
وسيليه ـ إن
شاء الله ـ تتمة لكتاب الظهار نهض بعبء تأليفه ابن أخيه وتلميذه
العلامة
النحرير آية الله المحدث الشيخ حسين بن محمد آل عصفور
متبعا خطى جده
وطريقة بحثه واسما له ب :
«عيون الحقائق
الناظرة في تتمة الحدائق الناضرة»
فخرج كاملا
متسقا ، مسديا في ذلك خدمة جليلة لرواد
العلم والفضيلة
، فلله درة وعلى الله أجره
وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين
فهرس الجزء الخامس
والعشرين
من كتاب الحدائق
الناضرة
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
المقصد
الرابع في أحكام الأولاد
|
٣
|
لو طلق الرجل
زوجته فاعتدت وتزوجت ثم أتت بولد
|
١٧
|
وفيه مقامات
: المقام الأول : ف يما يتعلق بالأولاد وبمن يلحقون ، وفيه مسائل :
|
٣
|
المسألة
الثانية : في أولاد الموطوءة بالملك وما يترتب عليها من الاحكام
|
١٩
|
المسألة
الأولى : في أولاد الموطوءة بالعقد الدائم
|
٣
|
لو أقر
بالولد ثم أنكره ، والاخبار الواردة في ذلك
|
٢١
|
أن أقل الحمل
ستة أشهر
|
٤
|
لو كان
للجارية موال عديدة ووطأها كل منهم وولدت ، والاخبار الواردة في المقام
|
٢٢
|
الروايات
الواردة لتحديد أقصى الحمل
|
٦
|
لو وطأها
المولى ووطئها أجنبي بالزنا فولدت
|
٢٧
|
لو وضعت
الولد بعد سنة من وقت الجماع
|
١١
|
الأخبار
الدالة على الحاق الولد بأبيه وان بعد عنه بالون ونحوه
|
٣١
|
لو دخل
بزوجته وجاءت بولد لأقل من ستة أشهر وهو حي كامل
|
١٢
|
المسألة
الثالثة : في وطء الشبهة
|
٣٣
|
لو زنت
المرأة على فراش زوجها
|
١٣
|
المقام
الثاني : في سنن الولادة وما يستحب فعله المولود
|
٣٥
|
لو اختلف
الزوجان في الدخول وعدمه
|
١٥
|
منها : إخراج
من في البيت من النساء
|
٣٦
|
لو زنى
بامرأة فأحبلها ثم تزوجها
|
١٦
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
ومنها :
الاذان في إذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى
|
٣٦
|
في حكم
الحضانة مع فقد الأبوين
|
٩٥
|
ومنها :
تحنيكه بماء الفرات وتربة الحسين عليه السلام
|
٣٧
|
المقصد
الخامس في النفقات وفيه مطالب ثلاثة :
|
٩٧
|
ومنها : غسل
المولود وتسميته بأحد الأسماء الحسنى
|
٣٩
|
المطلب الأول
: في الزوجية
|
٩٧
|
ومنها :
تكنيته
|
٤١
|
اشتراط
النفقة بالعقد الدائم
|
٩٨
|
ومنها : سنن
اليوم السابع من ولادته
|
٤٣
|
في ثبوت
النفقة للمطلقة الرجعية
|
١٠٨
|
ومنها : حلق
الرأس كملا
|
٤٥
|
أن الرجوع في
قدر النفقة إلى العرف والعادة
|
١١٩
|
ومنها : ثقب
الاذن
|
٤٧
|
أن الزوجة
تملك نفقة يومها مع التمكين
|
١٢٤
|
ومنها :
الختان
|
٤٨
|
لو ادعت
البائن أنها حامل
|
١٢٧
|
ومنها :
العقيقة
|
٥٦
|
أن النفقة هل
هي للحامل أو للحمل
|
١٢٨
|
تحقيق الكلام
في العقيقة يقع في مواضع
|
٥٧
|
المطلب
الثاني : في نفقة الأقارب
|
١٣٠
|
تكملة في
الرضاع : والكلام فيها يقع في موردين :
|
٧١
|
في نفقة
الانسان على نفسه
|
١٣٠
|
تكملة في
الرضاع : والكلام فيها يقع في موردين :
|
٧١
|
في وجوب
النفقة على الأبوين والأولاد
|
١٣٢
|
المورد
الثاني : في مدته
|
٧٩
|
في وجوب نفقة
الولد على أبيه دون امه
|
١٣٤
|
المقام
الثالث : في الحضانة
|
٨٣
|
في اشتراط
الفقر والعجز عن الاكتساب في المنفق عليه
|
١٣٦
|
أن الام أحق
بالولد مدة الرضاع
|
٨٦
|
المطلب
الثالث : في نفقة المملوك والكلام هنا في موضعين :
|
١٣٩
|
شرائط حضانة
الام
|
٩٠
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الأول : في
المملوك الاناسي
|
١٣٩
|
الخامس : أن
تكون طاهرة من الحيض والنفاس بشرط أن تكون مدخولا بها وزوجها حاضرا
|
١٨٢
|
الثاني : في
نفقة البهائم المملوكة
|
١٤٢
|
في الجمع بين
الاخبار المختلفة في مدة التربص
|
١٨٦
|
كتاب الطلاق
|
فيما يتفرع
على القول بوجوب التربص
|
١٨٩
|
وفيه مقدمة
ومقاصد ثلاثة
|
١٤٥
|
حكم الطلاق
من غير تربص لو خرج في طهر لم يقربها فيه
|
١٩٣
|
المقدمة : في
الاخبار الدالة على كراهة الطلاق مع التئام الأخلاق والاخبار الدالة على الامر
بالطلاق مع عدمه
|
١٤٥
|
لو كان حاضراً
ولا يمكنه استعلام حالها
|
١٩٥
|
المقصد الأول
: في الأركان وهي أربعة : الركن الأول : المطلق ، ويعتبر فيه شروط أربعة :
|
١٤٩
|
الركن الثالث
: الصيغة
|
١٩٧
|
ثانيها :
العقل
|
١٥٦
|
في انحصار
صيغة الطلاق في لفظ "الطلاق"
|
١٩٩
|
ثالثها :
الاختيار
|
١٥٨
|
فيما قاله
صاحب المسالك في وقوع الطلاق بالكنايات
|
٢٠٢
|
رابعها :
القصد
|
١٦٦
|
في الصيغ
التي وقع الخلاف في وقوع الطلاق بها
|
٢٠٥
|
الوكالة في
الطلاق
|
١٦٨
|
الاخبار
الظاهرة في وقوع الطلاق بلفظ "نعم"
|
٢٠٩
|
الركن الثاني
: المطلقة ، ويشترط فيها أمور :
|
١٧٣
|
فيما قاله
الشيخ من وقوع الطلاق بغير العربية
|
٢١١
|
الأول : أن
تكون زوجة
|
١٧٣
|
في عدم وقوع
الطلاق بالكتابة من الغائب القادر على اللفظ
|
٢١٢
|
الثاني : أن
يكون العقد دائماً
|
١٧٦
|
|
|
الثالث : أن
يطلقها في طهر لم يقربها فيه
|
١٧٧
|
|
|
الرابع : أن
يعين المطلقة
|
١٨٠
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
في كفاية
الكتابة والإشارة ممن تعذر النطق
|
٢١٦
|
في بيان ما
تتحق به العدالة هنا
|
٢٥٣
|
في اختلاف
الأصحاب في وقوع الطلاق بالتخيير ، والاخبار الواردة في الباب
|
٢١٧
|
في إبطال
القول بكفاية مجرد الاسلام بوجوه
|
٢٥٥
|
في تقريب عدم
وقوع الطلاق بالتخيير بوجوه
|
٢٢٣
|
فيما يتفرع
على اعتبار العدالة بمعنى ملكة التقوى
|
٢٥٩
|
تفريعات على
القول بالتخيير
|
٢٢٦
|
في عدم جواز
الدخول في الأمور المشروطة بالعدالة لمن علم من نفسه الفسق
|
٢٦٠
|
في اشتراط
تجريد صيغة الطلاق من الشرط والصفة
|
٢٣١
|
في عدم قبول
شهادة النساء في الطلاق
|
٢٦٥
|
الاخبار
الدالة على وقوع الطلاق لو فسر الطلقة باثنين أو ثلاث ونقل قولين في المسألة
|
٢٣٤
|
المقصد
الثاني : في أقسام الطلاق
|
فيما يدل على
بطلان طلاق من طلق ثلاثا في مجلس
|
٢٣٩
|
الأول :
الطلاق البدعي
|
٢٦٧
|
في تصريح
الأصحاب على إلزام المخالفين بما الزموا به أنفسهم
|
٢٤٣
|
الثاني :
الطلاق السني البائن
|
٢٦٨
|
الركن الرابع
: في الاشهاد واتفاق النص والفتوى على اشتراطه في صحة الطلاق
|
٢٤٥
|
الثالث :
الطلاق الرجعي العدي
|
٢٦٩
|
في عدم لزوم
العلم التفصيلي بالمطلقة وكفاية العلم في الجملة
|
٢٤٨
|
الرابع :
الطلاق السني بالمعنى الأخص
|
٢٧٠
|
في اعتبار
العدالة في الشاهدين
|
٢٥١
|
قد تكاثرت
الاخبار بتقسيم الطلاق إلى طلاق العدة وطلاق السنة
|
٢٧١
|
|
|
في طلاق
الحامل والاخبار الواردة فيه
|
٢٨٣
|
|
|
في نقل
المصنف كلمات الأصحاب في المقام ونقد بعضها
|
٢٨٨
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
لو طلق
الحامل المدخول بها ثم راجعها وواقعها
|
٢٩٤
|
لو طلق المريض
الأمة والكتابية طلاقاً رجعياً
|
٣٢٥
|
في اعتبار
الجماع في تحقق الرجعة وعدم اعتباره
|
٢٩٧
|
المقصد
الثالث
|
في الجمع بين
الاخبار الواردة في هذا المقام
|
٣٠١
|
في جملة من
الاحكام المتعلقة بالمقصد المتقدم وفيه فصول :
|
٣٢٧
|
في وجه جمع
الشيخ في المقام
|
٣٠٣
|
الفصل الأول
: في المحلل وشروطه
|
٣٢٧
|
فيما ذهب
إليه المحدث الكاشاني في الوافي والمفاتيح وإيراد المصنف عليه
|
٣٠٥
|
في الاخبار
الدالة على عدم التحليل بالمتعة
|
٣٣١
|
في ما يتعلق
بطلاق الغائب
|
٣٠٩
|
لو وقع
التحليل على ما دون ثلاث طلقات
|
٣٣٣
|
في كراهة
الطلاق للمريض
|
٣١٤
|
في الاستدلال
على أن التحليل لم يهدم الطلاق الأول
|
٣٣٥
|
أن المشهور
عدم إرث الزوج من البائن
|
٣١٧
|
وجوه أجوبة
الشيخ عما نقله من أدلة هذا القول
|
٣٣٦
|
في علة وجوب
الإرث للزوجة في الصورتين الخارجتين من القواعد المقررة ، وذكر الاخبار الواردة
في المقام
|
٣١٩
|
في حصول
التحليل بالذمي كالمسلم
|
٣٤١
|
في صحة طلاق
المريض وإن كان إضراراً بزوجته
|
٣٢٣
|
لو كانت تحته
أمة فطلقها تطليقتين ثم إنه اشتراها
|
٣٤٣
|
المشهور أنه
لا يلحق بالمرض غيره مما يشبهه من الأحوال المخوفة
|
٣٢٤
|
في وقوع
التحليل من الخصي
|
٣٤٧
|
|
|
في قبول قول
المرأة في موت الزوج وعدمه
|
٣٤٩
|
|
|
فروع متعلقة
بالتحليل
|
٣٥٢
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
الفصل الثاني
: في الرجعة
|
٣٥٦
|
الزوجة الغير
المدخول بها
|
٣٩١
|
أن الرجعة
تقع بالقول والفعل
|
٣٥٧
|
في أنه لا
عدة للحامل من الزنا
|
٣٩٧
|
في استحباب
الاشهاد في الرجعة وعدم وجوبه
|
٣٥٩
|
المقام
الثاني : في المستقيمة الحيض وفي معنى القرء
|
٣٩٨
|
لو طلق وراجع
فأنكرت الدخول بها
|
٣٦١
|
الاخبار
الدالة على أن المطلقة تبين عند الحيضة الثالثة
|
٤٠٠
|
في أن رجعة
الأخرس بالإشارة المفهمة لها
|
٣٦٢
|
الاخبار
الدالة على القول الآخر في المقام
|
٤٠٣
|
لو ادعت
الزوجة انقضاء العدة بالحيض
|
٣٦٣
|
في أنها
تحتسب بالطهر الذي طلقت فيه
|
٤٠٥
|
لو كانت من
ذوات الحمل فادعت وضعه
|
٣٦٥
|
في أقل المدة
التي تنقضي بها العدة
|
٤٠٧
|
الاخبار
الدالة على أن الاشهاد على الرجعة يثبت الزوجية
|
٣٦٩
|
المقام
الثالث : في المسترابة ، وفيه بحوث :
|
٤٠٩
|
لو لم يكن
بينة وأراد التحليف
|
٣٧٣
|
البحث الأول
: في المسترابة بالحيض
|
٤٠٩
|
الحاق : في
ذكر الحيل الشرعية
|
٣٧٥
|
الاخبار
الواردة في المقام
|
٤١٠
|
الاخبار
الدالة على صحة بيع الآبق مع ضميمة
|
٣٨٥
|
حكم من تعتاد
الحيض في كل خمسة أو ستة أشهر
|
٤١٥
|
في الموارد
التي دلت الاخبار على جواز الحلف بغير الواقع تورية
|
٣٨٨
|
البحث الثاني
: في المسترابة بالحمل ، فيه قولان
|
٤١٦
|
الفصل الثالث
: في العدد وفيه مقامات :
|
٣٩٠
|
في نقد
المصنف لما ذهب إليه السيد السند في المقام
|
٤١٧
|
المقام الأول
: في أنه لا عدة على
|
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
فيما يدل على
القول الثاني
|
٤٢٥
|
لو كانت
حاملا باثنين فولدت واحداً
|
٤٥٠
|
فيما ذهب
إليه الشهيد الثاني في الروضة ونقد المصنف له
|
٤٢٧
|
لو طلقت
المرأة فادعت الحمل صبر عليها أقصى الحمل
|
٤٥٢
|
البحث الثالث
: في الصغيرة التي لم تبلغ تسع سنين إذا طلقت بعد الدخول بها ، وكذا في اليائسة
هل عليها عدة أم لا؟
|
٤٣١
|
في تصريح
الأصحاب بأنه لو طلقها رجعيا ثم مات استأنف عدة الوفاة ، أما لو كانت بائناً
فإنها تقتصر على إتمام عدة الطلاق ونقل الاخبار الواردة في المقام
|
٤٥٤
|
فيما ذهب
إليه المرتضي في المقام
|
٤٣٣
|
لو حملت من
الزنا ثم طلقها الزوج بأن يعلم انتفاؤه عن الفراش
|
٤٥٨
|
الاخبار
الواردة في المقام
|
٤٣٥
|
المقام
الخامس : في عدة الوفاة والكلام هنا في مواضع :
|
٤٦٠
|
في رد ما تو
همه السيد السند من سقوط العدة عمن بلغت التسع إذا لم تحمل مثلها
|
٤٣٨
|
الأول : في
عدة الحائل والروايات الواردة فيها
|
٤٦٠
|
لو رأت
المطلقة الحيض مرة ثم بلغت اليأس
|
٤٤٠
|
الثاني : في
عدة الحامل والاخبار الواردة فيها
|
٤٦٤
|
البحث الرابع
: في جملة من الاحكام الملحقة بهذا المقام
|
٤٤١
|
الثالث :
فيما يترتب على عدة الوفاة وهو الحداد والاخبار الواردة فيه
|
٤٦٧
|
لو استمر
الدم مشتبها
|
٤٤١
|
في الجمع بين
ما اختلف من الاخبار في المقام
|
٤٧١
|
الاخبار
الواردة في المقام
|
٤٤٢
|
أن ما ذكر من
حكم الحداد مختص بالزوجة فلا يتعدى إلى غيرها من أقارب الميت
|
٤٧٣
|
لو طلقت في
أثناء الشهر
|
٤٤٤
|
|
|
لو ارتابت
بالحمل قبل انقضاء العدة
|
٤٤٥
|
|
|
المقام
الرابع : في عدة الحامل والاخبار الواردة في المقام
|
٤٤٧
|
|
|
في نقل كلمات
الأصحاب في المقام
|
٤٤٨
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
أن المطلقة
لا حداد عليها رجعية كانت أو بائنة
|
٤٧٦
|
من ماله ثم
تبين تقدم موته على الانفاق
|
٤٩٢
|
لو أخلت بما
وجب عليها من الحداد
|
٤٧٨
|
أنه لو قدم
الزوج وقد خرجت من العدة وتزوجت
|
٤٩٣
|
المقام
السادس : في حكم المفقود زوجها ونقل الاخبار الواردة في المقام
|
٤٧٩
|
أنه لو جاء
وهي في العدة
|
٤٩٤
|
أنه بعد
الطلب أربع سنين ولم يعرف له خبر فهل يكفي أم الحاكم لها بالاعتداد عدة الوفاة؟
أم لابد من الطلاق أولا من الولي أو الحاكم مع عدمه؟
|
٤٨٢
|
لو نكحت بعد
العدة ثم بان موت الزوج
|
٤٩٥
|
أنه لا يقع
الطلاق أو الامر بالاعتداد إلا بعد الفحص عنه
|
٤٨٤
|
أنه لو مات
أحد الزوجين بعد العدة والتزويج بزوج آخر فإنه لا توارث بينهما
|
٤٩٧
|
لو تعذر
البحث من الحاكم
|
٤٨٦
|
المقام
السابع : في عدة الإماء والاستبراء والروايات الواردة في المقام
|
٤٩٨
|
هل يكون فرق
في المفقود بين من اتفق فقده في جوف البلد أو في السفر وفي القتال وما لو انكسرت
سفينته ولم يعلم حاله؟
|
٤٨٨
|
الاخبار
الدالة على أن عدة الأمة حيضتان
|
٥٠١
|
هل الحكم
مختص بالزوجة فلا يتعدى إلى ميراثه ولا عتق أم ولده؟
|
٤٩٠
|
أنه لا فرق
في هذه العدة بين القن والمدبرة والمكاتبة وام الولد إذا زوجها مولاها فطلقها
الزوج
|
٥٠٣
|
لو أنفق
عليها الولي أو الحاكم
|
|
لو أعتقت
الأمة ثم طلقت فإنه يلزمها الاعتداد بعدة الحرة
|
٥٠٥
|
|
|
أن عدة
الذمية كالحرة في الطلاق والوفاة
|
٥٠٧
|
|
|
في عدة الأمة
المتوفى عنها زوجها ونقل الاخبار الواردة في المقام
|
٥٠٩
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
لو مات المولى
ولم تكن أمته مزوجة فهل تعتد من موت مولاها عدة الحرة أم يكفي استبراؤها لمن
انتقلت إليه إذا أراد وطؤها؟
|
٥١٤
|
تستحق النفقة
والكسوة والمسكن
|
٥٢٩
|
فيما ذهب
إليه صاحب المسالك في المقام ، ونقد المصنف له
|
٥١٦
|
أنه يشترط في
وجوب النفقة والسكنى للمطلقة رجعياً اجتماع الشرائط المعتبرة فيها حال الزوجية
|
٥٣١
|
حكم عدة
الأمة الموطوءة والمدبرة
|
٥١٨
|
لو تزوجت في
العدة لم يصح ولم تنقطع عدة الأول
|
٥٣٢
|
لو مات زوج
الأمة ثم أعتقت
|
٥٢١
|
لو كان الزوج
غائباً فالأشهر الاظهر أنها تعتد من الطلاق من حينه ومن الوفاة من يوم بلوغ
الخبر
|
٥٣٧
|
جملة من
المواضع التي ذكر الأصحاب فيها سقوط الاستبراء
|
٥٢٢
|
الاخبار
الواردة في المقام
|
٥٣٩
|
المقام
الثامن : في اللواحق ، وفيه مسائل
|
٥٢٣
|
في نقل
الأقوال زائدة على ما ذكر
|
٥٤١
|
في وجوب
السكنى للمطلقة الرجعية كما تجب لها النفقة ، والاخبار الواردة في المقام
|
٥٢٣
|
ظاهر الاخبار
أنه لا فرق في جواز الاعتداد لها بين كون المخبر ثقة يفيد قوله ظن الموت أم لا ،
صغيراً كان أو كبيراً ، ذكراً كان أو أنثى
|
٥٤٤
|
أن تحريم
الخروج عليها هل هو مطلقا أو يختص بعدم رضا الزوج؟
|
٥٢٥
|
لو طلقها بعد
الرجعة قبل المسيس لزمها استئناف العدة
|
٥٤٦
|
معنى الفاحشة
المذكورة في الآية الموجبة لاخراجها
|
٥٢٥
|
لو كان طلاق
الأول بائناً من خلع ونحوه
|
٥٤٨
|
لو لم ينفق
عليها جاز لها الخروج لاكتساب المعيشة
|
٥٢٧
|
لو طلقها
بائناً ثم وطأها للشبهة فهل تتداخل العدتان؟
|
٥٥٠
|
أن المطلقة
الرجعية زمن العدة
|
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
كتاب الخلع
والمباراة
|
لو خلا
الطلاق بعوض عن الكراهة فعلى المشهور من عدم حصول البينونة به ، هل يكون رجعياً
أو باطلا من أصله؟
|
٥٧٥
|
وفيه مقدمة
ومقصدان
|
هل يجب في
الكراهة المشترطة في صحة الخلع أن تكون ذاتية؟ أم يصح وإن كانت عارضية؟
|
٥٧٦
|
المقدمة : في
معنى الخلع والمباراة
|
٥٥٣
|
لو طلبت منه
طلاقاً بعوض فخلعها مجرداً عن لفظ الطلاق
|
٥٨١
|
المقصد الأول
: في الخلع
|
لو ابتدأ
بالطلاق مصرحاً بذكر العوض
|
٥٨٣
|
وفيه مقامات
المقام الأول : في الصيغة
|
٥٥٥
|
لو قالت
طلقني بألف هل يكون الجواب على الفور أم لا؟
|
٥٨٥
|
لابد في
الخلع من القبول من المرأة إن لم يسبق سؤالها ذلك
|
٥٥٨
|
المقام
الثاني : في الفدية
|
٥٨٦
|
صيغة الخلع
لو وقعت بلفظ الخلع هل يجب إتباعها بلفظ الطلاق؟ أم تكفي وحدها؟
|
٥٥٩
|
المراد من
قولهم : "كلما صح أن يكون مهراً صح أن يكون فدية"
|
٥٨٦
|
الاخبار
الواردة في المقام
|
٥٦٠
|
في عدم
الاشكال في صحة الخلع على الأشياء التي لم يعلم قدرها بالجملة
|
٥٨٧
|
على تقدير
الاجتزاء بلفظ الخلع من غير اتباع له بالطلاق هل يكون ذلك فسخاً أو طلاقاً؟
|
٥٦٦
|
حكم الخلع
فيما لو وقع على ما لا يملكه المسلم
|
٥٩٠
|
في ذكر
الأصحاب طلاق الفدية والطلاق بعوض وعدم وقوف المصنف على أثر لهذا الفرد في
الاخبار
|
٥٦٨
|
|
|
في نقد
المصنف لما ذهب إليه الشهيد الثاني في المقام
|
٥٧٠
|
|
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
حكم بذل
الفدية من الضامن والمتبرع
|
٥٩٢
|
لو أراد
الرجل إعادة الزوجة ولم ترجع في البذل فإنه لا يكون إلا بعقد جديد ومهر مستأنف
|
٦١٥
|
المقام
الثالث : في شرائط الخلع وفيه مواضع ثلاثة :
|
٥٩٥
|
لو خالع
المريض لم ترثه الزوجة في العدة
|
٦١٨
|
الأول : فيما
يتعلق بالخالع
|
٥٩٥
|
المقصد
الثاني : في المباراة
|
|
الثاني :
فيما يتعلق بالمختلعة
|
٥٩٥
|
الاخبار
الواردة في المباراة
|
٦٢١
|
الثالث :
فيما هو خارج عن الأولين ومنه الاشهاد وتجريده من الشرط
|
٦٠٠
|
أن المباراة
مشروطة بكراهة كل من الزوجين الآخر
|
٦٢٣
|
المقام
الرابع : في الاحكام ، وفيه مسائل :
|
٦٠٢
|
هل يجب اتباع
المباراة بلفظ الطلاق أم لا؟
|
٦٢٤
|
الأولى : لو
أكرهها على الفدية
|
٦٠٢
|
فيما يؤخذ من
فدية المباراة
|
٦٢٦
|
الثانية : لو
خلعها والأخلاق ملتئمة
|
٦٠٣
|
أن الفرقة
الحاصلة بالخلع والمباراة لا تنحصر في لفظهما
|
٦٢٧
|
الثالثة : في
حكم عضلها لو أتت بالفاحشة لتفتدي نفسها
|
٦٠٥
|
كتاب الظهار
|
الرابعة :
أنه متى صح الخلع واجتمعت شرائطه كانت فرقة بائنة
|
٦٠٧
|
معنى الظهار
والسبب في نزول الآية الشريفة
|
٦٢٩
|
أن للمرأة
الرجوع في البذل ما دامت في العدة
|
٦٠٨
|
الروايات
الواردة في سبب نزول الآية الشريفة ، وهنا مطالب أربعة :
|
٦٣٠
|
برجوع المرأة
في البذل هل تترتب عليها أحكام العدة الرجعية مطلقاً؟
|
٦١٠
|
المطلب الأول
: في الصيغة
|
٦٣٤
|
هل يجوز
للرجل أن يتزوج أخت زوجته التي خلعتها؟ وكذا هل يجوز أن يتزوج برابعة أم لا؟
|
٦١٢
|
كلمات
الأصحاب حول صيغة الظهار
|
٦٣٦
|
هل يجوز لها
الرجوع في بعض ما بذلته؟
|
٦١٣
|
ذكر صور
عديدة تفريعاً على التشبيه
|
٦٣٩
|
عنوان
|
صفحة
|
عنوان
|
صفحة
|
أنه لا يقع
الظهار بما عدا من حرم بالنسب أو الرضاع أو المصاهرة
|
٦٤١
|
هل إطلاق
الدخول يشمل الدبر؟ وهل إطلاق الحكم يشمل الصغيرة والمجنونة أم لا؟
|
٦٦٩
|
أنه لا يقع
الظهار بما عدا من حرم بالنسب أو الرضاع أو المصاهرة
|
٦٤٢
|
المطلب
الرابع : في الاحكام وفيه مسائل : الأولى : في أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار
وإنما تجب بالعود وإرادة الوطء
|
٦٧٠
|
في تعليق الظهار
على الشرط والاخبار الواردة في المقام
|
٦٤٤
|
أن المراد من
العود الموجب للكفارة هو إرادة المواقعة
|
٦٧٣
|
لا يقع
الظهار في يمين ولا إضرار ولا غضب ولا سكر والروايات الواردة في المقام
|
٦٤٩
|
متى وجبت
الكفارة بإرادة العود هل يكون وجوبها مستقراً بذلك أو أنه لا استقرار لوجوبها
إلا بالوطء بالفعل
|
٦٧٤
|
لو قيد
الظهار بمدة معينة ، ونقل كلمات الأصحاب في المقام
|
٦٥٣
|
الثانية : لو
وطأ قبل الكفارة لزمته كفارة أخرى ، ولو كرر الوطء تكررت الكفارة
|
٦٧٦
|
في ما لو قال
: "أنت طالق كظهر أمي"
|
٦٥٦
|
في الجمع بين
الاخبار الواردة في المقام
|
٦٧٩
|
المطلب
الثاني : في المظاهر وأنه يشترط فيه ما يشترط في المطلق
|
٦٥٩
|
الثالثة : لو
طلقها بائناً أو رجعياً ولكن تركها حتى خرجت من العدة ثم تزوجها بعقد جديد فهل
يكون حكم الظهار باقياً أم لا؟
|
٦٨١
|
هل يصح
الظهار من الكافر أم لا؟
|
٦٦٠
|
خاتمة الكتاب
|
٦٨٢
|
في وقوع
الظهار من العبد
|
٦٦٢
|
|
|
في وقوع
الظهار من العبد
|
٦٦٣
|
|
|
يشترط أن
تكون منكوحة بالعقد
|
٦٦٣
|
|
|
هل يشترط
الدخول في صحة المظاهرة أم لا؟
|
٦٦٤
|
|
|
اختلف
الأصحاب في الأمة الموطوءة بملك اليمين ولو مدبرة أم أم ولد
|
٦٦٦
|
|
|
|