بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على

سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله

على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق

باذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

الابتداء بتحرير هذه المطالب في المسودة مساء الثلاثاء غرة جمادى الاولى ، سنة ١٣٩٢ هجرية.

الابتداء بإلقاء هذه المضامين في مجلس الدرس ضحى الاحد السادس من شهر جمادى الاولى ، سنة ١٣٩٢ هجرية.

الابتداء بتبييض هذه المطالب في هذه الأوراق مساء الثلاثاء الخامس عشر من شهر جمادى الاولى ، سنة ١٣٩٢ هجرية.

محمد سعيد الطباطبائي الحكيم



القسم الثّاني

في الأصول المبتنية على العمل



القسم الثاني

في الأصول المبتنية على العمل

وقد سبق في التمهيد لمباحث الأصول أن المراد بها الكبريات المبتنية على العمل والناظرة له ، لابتنائها على التعذير والتنجيز وتحديد مواردهما ، وهي مباحث الحجج والأصول العملية ، في مقابل القسم الأول المبحوث فيه عن مدركات واقعية لا تتضمن العمل بنفسها ، وإنما يترتب عليها لخصوصية موضوعها أو بضميمة أمر خارج عنها.


تمهيد

اعلم أن من التفت إلى حكم شرعي فإما أن يحصل له القطع به أو بعدمه أو لا ، وعلى الثاني فاما أن تقوم عنده الحجة المعتبرة عقلا أو شرعا عليه أو لا.

لا إشكال في وجوب متابعة القطع في الصورة الاولى ، ومتابعة الحجة في الثانية ، وأما في الثالثة فإن دل دليل شرعي أو عقلي على وجوب الفحص عن الحكم أو الحجة تعين ، ومع تعذر الفحص أو استكماله أو عدم قيام الدليل على وجوبه ، كان له الرجوع إلى الوظيفة العملية الشرعية أو العقلية المقررة للجاهل ، وهي المعبر عنها بالأصول في مصطلحهم.

ولا إشكال في شيء من ذلك ، إلا أن الذي ينبغي التنبيه عليه أمور ..

الأول : أن الترتب بين القطع وما بعده عقلي ، لامتناع جعل الحجة أو الأصل مع القطع ، لحجيته الذاتية ، وأما الترتب بين الرجوع للحجة والرجوع للأصول فهو مبني على تقديم أدلة الحجج على أدلة الأصول بالحكومة أو الورود أو غيرهما ، على ما يأتي الكلام فيه في شروط العمل بالأصل إن شاء الله تعالى.

الثاني : أنه لا فرق في موضوع الأقسام بين الحكم الالزامي وغيره ، كالاستحباب ، ولا وجه للتخصيص بالأول ـ الذي هو المراد بالتكليف في كلامهم ـ لجريان الأقسام المذكورة في الجميع. ولا سيما مع عموم الغرض المهم ـ وهو الاستنباط ـ لها.

نعم ، بعض الأصول العملية ـ كالبراءة ـ يختص بالحكم الإلزامي ، إلا أنه لا يقتضي تخصيص التقسيم به بعد ما ذكرنا.

الثالث : أن الأولى تعميم موضوع الأقسام المتقدمة لمطلق الملتفت ـ كما


ذكرنا ـ وعدم تخصيصه بالمكلف ـ كما صنعه شيخنا الأعظم قدّس سرّه (١) وغيره ـ لعدم أخذ التكليف في رتبة سابقة على التقسيم ، بل شرائط المكلف كسائر الأمور المعتبرة في الحكم الشرعي مما يمكن أن تكون موردا للقطع أو الحجة أو الوظيفة العملية ، فتجري الأقسام بلحاظها ، فلو فرض الشك في التكليف للشك في ما يعتبر في البلوغ لجرى فيه الشك في التكليف من سائر الجهات بلا فرق أصلا.

بل قد تفرض الأقسام المذكورة مع العلم بعد البلوغ بناء على ما عرفت من عموم موضوع التقسيم للأحكام غير الإلزامية ، على ما هو الحق من اختصاص أدلة رفع القلم بها.

وأما تخصيص الموضوع بالمجتهد ـ كما يظهر من بعضهم ـ فلا وجه له بعد جريان الأقسام في غيره ، إذ العامي إن فرض حصول القطع له بالحكم الشرعي تعين عليه العمل به ، وإلا فان فرض قيام الحجة عليه في حقه ـ ولو كانت هي فتوى المجتهد ـ تعين عليه العمل بها ، وإلا تعين عليه ما يتعين على المجتهد في فرض فقد الحجة.

ومجرد تعذر الرجوع عليه لبعض الحجج أو لبعض الأصول ـ كالبراءة ـ لا يقتضي تخصيص التقسيم به ، بل هو كتعذرها في بعض الموارد على المجتهد ، لحصول الموانع له.

نعم ، الغرض المهم في المقام لما كان هو استنباط الأحكام الفرعية عن أدلتها التفصيلية كان الغرض المذكور في بعض الأقسام مختصا بالمجتهد ، إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص التقسيم به ، وإلا كان اللازم عدم التعرض للقطع ، لعدم دخله في الغرض المذكور ، كما سيأتي. مع أن الغرض من التقسيم الإشارة الاجمالية إلى المقاصد المبحوث عنها ، لا التفصيلية المبنية على التدقيق ، بل هي

__________________

(١) الشيخ المرتضى الأنصاري قدّس سرّه (منه).


موكولة إلى حين الدخول في المقاصد.

وبهذا يظهر أنه لا حاجة في التعميم إلى ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه (١) من دعوى إمكان حصول الصفات في حق بعض العوام ممن له خبرة بالأدلة وإن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد. كما يمكن رجوعه للأدلة الاجتهادية والأصول العملية بتوسط فحص المجتهد ، حيث إنه ينوب عنه في ذلك.

على أن ما ذكره لا يخلو في نفسه عن الإشكال ، على ما قد يتضح في بعض المباحث الآتية.

كما يظهر أنه لا حاجة إلى تخصيص موضوع التقسيم بالأحكام الكلية ، بل يجري في الأحكام الجزئية التي يلحقها العلم والجهل بسبب العلم بتحقق الموضوع في الخارج والجهل به ، وإن اختص الغرض بالأحكام الكلية.

الرابع : إنما جعلنا المدار في القسمين الأخيرين على قيام الحجة المعتبرة وعدمه ـ كما جرى عليه المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ لا على الظن والشك ـ كما جرى عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ لعدم خصوصية الظن والشك في الأحكام المذكورة لهما. إذ موضوع الحجية لا يختص بالظن ، بل قد يكون أمورا أخر قد لا توجب الظن بل تجتمع معه تارة ، ومع الشك ـ بل الوهم ـ اخرى.

كما أن موضوع الأصول العملية لا يختص بالشك ، بل يعم صورة وجود الظن غير المعتبر ، وليس موضوعها الا عدم الحجة على الحكم الواقعي ، كما ذكرنا.

ودعوى : أنّ المراد بالظن هو النوعي المعتبر ، لا مطلق الشخصي. كما ترى! تلاعب بالألفاظ ، إذا لا معنى لحجية الظن النوعي.

بل غاية ما يقال : ان الحجة ما من شأنه أن يفيد الظن وإن لم يفده فعلا. وهو ـ مع عدم تماميته ، لإمكان حجية ما ليس من شأنه أن يفيد الظن ـ راجع في

__________________

(١) الشيخ ضياء الدين العراقي قدّس سرّه (منه).


الحقيقة إلى أن المدار على الحجية ، لا على الظن.

نعم ، ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن تثليث الأقسام بالوجه المذكور في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه إنما هو بلحاظ خصوصيات الأقسام المذكورة من حيثية وجوب الحجية وإمكانها وامتناعها ، لا بلحاظ كونها موضوعا للحجية الفعلية وعدمه ، فالقطع حيث كان تام الكشف وجبت حجيته عقلا ، والظن حيث كان فيه نحو نقص في الكاشفية أمكن حجيته بجعل الشارع ، والشك حيث لم يكن فيه كشف أصلا امتنعت حجيته.

وفيه .. أولا : أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه وإن أشار إلى ذلك في مبحث البراءة ، إلا أنه لم يتضح منه كون التقسيم بلحاظه ، بل ظاهره كون التقسيم بلحاظ الحجية وعدمها فعلا ، ولذا ذكر أن الظن الذي لم يدل على اعتباره دليل بحكم الشك.

وثانيا : أنه لا يظهر الوجه في امتناع جعل الحجية للشك ، لأن الظاهر أن المعيار في الحجية في باب الطرق والامارات ليس هو الكشف الذاتي الناقص في الأمارة ، ليختص بالظن ولا يجري في الشك ، بل المعيار فيها لسان الجعل والتعبد ، فإن كان مبنيا على اعتبار الشيء ، طريقا إلى الواقع كان حجة ، وإن كان شكا ، بل وهما ، وإن كان مبنيا على محض التعبد بالعمل من دون نظر إلى الواقع ولا كشف عنه كان أصلا وإن كان ظنا ، كما اعترف بالأخير شيخنا الأعظم قدّس سرّه في خاتمة الاستصحاب.

وثالثا : أن ما يقبل الحجية قد لا يكون هو الظن أو الشك ، بل أمرا آخر ، يقارن أحدهما أو كلا منهما ، كخبر الواحد ، فلا يكون التقسيم مستوفيا للأقسام ، بخلاف ما ذكرنا.

الخامس : أنه قد يظهر منهم في تحرير التقسيم أنه مع عدم الحجة المعتبرة ينحصر الأمر بالرجوع للأصول العملية ، وليس الأمر كذلك ، بل هو مختص بما إذا لم يدل الدليل على وجوب الفحص عن الواقع أو الحجة ـ كما


في مورد أصالة التخيير مطلقا ، وفي غيره في العبادات بناء على لزوم نية الوجه مع الامكان فيها ـ فإن الدليل المذكور يكون مانعا من الرجوع للأصول العملية. ومن ثمّ كان ما ذكرنا في بيان حكم الصورة الثالثة أولى.

السادس : أن الكبرى المذكورة في التقسيم المتقدم حيث كانت بديهية ـ لما سيأتي من بداهة وجوب متابعة القطع ، وكذا الحجة والأصل العملي في موردهما ، لأنه مقتضى جعلهما ـ فالمهم تشخيص موضوعها وصغرياتها ، وحيث كان تشخيص موارد القطع وضبطها متعذرا ، لأنه أمر حقيقي تابع لأسبابه التكوينية غير المنضبطة ، لم يقع موردا للكلام في المقام ، واختص الكلام بتشخيص الحجج ومفاد الأصول العملية ومواردها ، ليرجع إليها مع عدم القطع ، فإنها لما كانت تابعة لجعل الشارع وحكم العقل تيسر ضبطها ، تبعا لما يستفاد من أدلتها.

ومن هنا كان الغرض المقصود بالأصل للأصولي ـ الباحث عن طرق استنباط الأحكام الشرعية الواقعية التي هي مفاد الحجج ، والظاهرية التي هي مفاد الأصول ـ البحث في مقامين ..

الأول : في مباحث الحجج.

الثاني : في مباحث الأصول العملية شرعية كانت أو عقلية.

كما أن المناسب لهذا القسم من مباحث الأصول التعرض هنا لبعض المباحث المتعلقة بالقطع ، تبعا لغير واحد لأنه مثلها في الحجية ولزوم المتابعة.

وبعض هذه المباحث ليس مختصا بالقطع ، بل يعم غيره من الحجج والأصول ، لكن لا من حيثية تشخيص مواردها ـ الذي هو الغرض الأصلي للمقام ، كما عرفت ـ بل بلحاظ الأحكام اللاحقة لها في ظرف قيامها وجريانها ، كالبحث عن التجري ، وعن مقتضى العلم الإجمالي ، وتقسيم القطع إلى الطريقي والموضوعي ، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.


ومن ثمّ كان المناسب جعلها مقدمة للمقصدين المذكورين لارتباطها بهما.

ومما ذكرنا ظهر أن التقسيم بالوجه المتقدم هو الأنسب بمقاصد الكتاب ، لتضمنه الإشارة الإجمالية لموضوعات مباحث المقصدين المذكورين والمقدمة ، بخلاف ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه (١) في أول كلامه من تثنية الأقسام ، حيث ذكر أن المكلف إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري ، فإما أن يحصل له القطع به أولا ، وعلى الثاني لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن الانسدادي أو الأصول العقلية.

فإن التقسيم المذكور وإن كان عقليا ، إلا أنه لا فائدة فيه ، لعدم تضمّنه الإشارة الإجمالية للمقاصد المبحوث عنها ، لوضوح أن القسم الأول جامع بين مباحث القطع والحجج وأهم الأصول العملية ، وهي الأصول الشرعية. فلا يتأدى بذلك الغرض المهم من التقسيم.

وأما مباحث التعارض فقد جعلها بعض المعاصرين في اصوله خاتمة لمباحث الحجج.

ولا يخفى أن بعض أحكام التعارض لا يختص بالحجج ، بل يجري في الأصول أيضا ، مثل مقتضى الأصل في المتعارضين. وبعضها يختص بخصوص الأخبار من الحجج ، كالتخيير ـ بناء على ثبوته ـ والمرجحات المنصوصة ، فلا وجه لجعله من لواحق مباحث الحجج.

كما لا وجه لجعله خاتمة للمقصدين الباحثين في الحجج والأصول ، لأنه ليس خارجا عن المقصد المهم حتى يجعل خاتمة لهما ، بل هو بحث في شئون الحجج والأصول وشروط فعلية الحجية والتعبد. ولذا كانت مسائله كبريات في الاستنباط.

__________________

(١) الشيخ ملا كاظم الخراساني الهروي قدّس سرّه (منه).


ومن ثمّ كان الأنسب جعله في مقصد مستقل ، كما صنعه المحقق الخراساني قدّس سرّه.

وعلى هذا يكون البحث في قسم الأصول الناظرة لمقام العمل في مقدمة ومقاصد ثلاثة ..

أما المقدمة ففي أحكام القطع وأقسامه.

وأما المقاصد الثلاثة ..

فالأول : في مباحث الحجج.

والثاني : في الأصول العملية.

والثالث : في التعارض.

ونسأله تعالى العون في الجميع والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


مقدمة

في أحكام القطع وأقسامه ، وفيها فصول ..

الفصل الأول

في حجية القطع

والحجية .. تارة : يراد بها محض لزوم المتابعة في مقام العمل.

واخرى : يراد بها المنجزية المستلزمة لاستحقاق العقاب بالمخالفة ، والمعذرية المستلزمة للأمان منه مع الموافقة ولو مع الخطأ وعدم الوصول للواقع.

ويظهر من بعض كلماتهم في المقام التلازم بين الأمرين ، بل الخلط بينهما ، وإن صرحوا بعدم الملازمة في غير المقام ، بل أشار بعضهم إلى ذلك في المقام.

ولأجل ذلك ينبغي الكلام في مقامين ..

المقام الأول : في وجوب متابعة القطع في مقام العمل ، ولعله المهم في المقام ، ولا يخفى أن كلمات الأعلام وإن تطابقت على ذلك ، إلا أنهم قد اختلفوا في تقريبه.

ولعل الأولى أن يقال : بعد فرض كون الواقع الذي يتعلق به القطع موردا لعمل المكلف إلزاما كان أو غيره ، فمن البديهي أنه بنفسه لا يقتضي فعلية


العمل ، لأن العمل من الأمور التابعة للاختيار المنوط بالالتفات للجهات المقتضية له. أما بعد فرض الوصول للواقع والالتفات إليه فلا معنى للتوقف عن العمل على ما يقتضيه. وحيث كان القطع بنفسه وصولا للواقع فلا بد من متابعته ، لتحقق موضوع العمل وشرطه.

ومع ذلك تكون متابعته مقتضى ذاته ولا تحتاج لجعل من الشارع ، بل يكون جعله لغوا ، لعدم استناد الأثر إليه ، كما لا تحتاج إلى حكم العقل زائدا على مقتضى الذات.

وهذا بخلاف غيره من الطرق ، فإنها لما لم تكن بنفسها وصولا للواقع ، ولا سببا للوصول له توقف وجوب متابعتها على أمر خارج عنها ، وهو حكم العقل بها زائدا على ذاتها ، أو الجعل الشرعي لها ، فيترتب العمل على جعلها ولا يكون لاغيا.

كما أنه لا مجال للردع عن متابعة القطع ، إذ عدم متابعته إن كان لعدم كون الواقع موردا للعمل ، فهو خارج عن محل الكلام ، إذ المفروض عدم تصرف الشارع في الحكم المعلوم برفعه أو نسخه. وإن كان لعدم كونه وصولا للواقع ، فلا معنى له ، إذ القطع عين الوصول للواقع ، وبه قوام ذاته. وإن كان لاعتبار أمر آخر في فعلية العمل بالواقع زائد على وصوله فهو خلاف المرتكزات الأولية النظرية غير المختصة بالإنسان ، بل كل ذي شعور لا يحتاج في ترتيب الأثر على الواقع إلى أكثر من وصوله.

ولو فرض منه عدم ترتيب الأثر عليه بوصوله فليس ذلك لكون الوصول بنظره غير كاف في فعلية العمل ، بل لقصور الواقع عن مقام العمل ، إما لعدم كونه مقتضيا له بنظره ، أو لكونه مزاحما بما يمنع عن تأثيره من شهوة أو غضب أو نحوهما.

ومن ثمّ تكون المخالفة مع العلم للواقع المعلوم ، لا للعلم نفسه ، بل لا


يلتفت للعلم في مقام العمل ، ويكون مغفولا عنه حينه.

وهذا بخلاف غيره من الحجج المجعولة ، فان المخالفة معها ..

تارة : تكون ناشئة من عدم الاعتناء بالواقع الذي قامت عليه.

واخرى : تكون ناشئة من عدم الاعتناء بالحجة نفسها وتجاهل دليل حجيتها دون أن يصل إلى الواقع الذي قامت عليه.

وقد ظهر بما ذكرنا أمور ينبغي الالتفات إليها ..

الأول : أن ما في بعض كلماتهم من أن القطع طريق إلى الواقع لا يخلو عن تسامح أو إشكال ، فإن الطريق ما يكون سببا للوصول للواقع ، وليس القطع كذلك ، بل هو بنفسه وصول له.

نعم ، سبب القطع قد يكون طريقا للواقع ، لابتنائه على بيانه والكشف عنه ، كالخبر المتواتر ، وقد لا يكون كذلك ، كما في الأسباب التكوينية الموجبة لحصول القطع بطريق الإلهام ونحوه.

الثاني : أن متابعة القطع ليست ناشئة من حكم العقل بها ، المبتني على التحسين والتقبيح ، إذ لا جهة تقتضي حسن متابعة القطع وقبح مخالفته ، بل هو ـ كما عرفت ـ مغفول عنه حين العمل.

كما لا تكون ناشئة من إلزام العقل به بملاك دفع الضرر ، إذ ذلك موقوف على الالتفات لمنشا الضرر حين العمل ، وقد عرفت الغافلة عن القطع في مقام العمل. بل هي ناشئة من كون القطع بذاته محققا لشرط الاختيار ، وهو الالتفات للجهات المقتضية للعمل ، كما سبق.

ومن ثمّ كانت نسبة الوجوب للمتابعة غير خالية عن المسامحة ، والمراد بذلك مجرد اللابدية التكوينية التابعة للذات.

نعم ، كون الواقع المعلوم موردا للعمل قد يكون بحكم العقل المبتني على التحسين والتقبيح العقليين ، كما في وجوب شكر المنعم وقبح الظلم ، وقد يكون


بملاك لزوم دفع الضرر ، الذي قد يكون معلوما ، كما في شرب ما يعلم كونه سما وقد يكون محتملا ، كما في موارد التكاليف الشرعية ، حيث أنه مخالفتها توجب استحقاق العقاب ، لا فعليته ، لإمكان العفو.

الثالث : أن موضوع الآثار العملية من حسن العمل أو قبحه هو الواقع المقطوع به ، لأنه موطن الأغراض والملاكات المقتضية للحسن والقبح ، ولذا لا يكون القطع مأخوذا في الكبريات العقلية ، بل موضوعها الواقع بنفسه وليس القطع إلا شرطا في فعلية العمل ، لكونه محققا لشرط تعلق الاختيار به ، فهو شرط في ترتيب العمل على الصغرى ، لا شرط في موضوع الكبرى.

نعم ، حيث كان العمل في الصغرى تابعا للاختيار ، وكان الاختيار منوطا خارجا بالالتفات للجهات المقتضية للعمل ـ كما ذكرنا ـ كان العمل تابعا للقطع بنفسه وإن لم يصب الواقع ، بل كان جهلا مركبا ، لتحقق شرط الاختيار به ، وبهذا يكون القطع دخيلا في الحسن والقبح الفاعليين المستتبعين لفعلية المدح والذم ، والمسببين عن العمل على طبق مقتضى الحسن والقبح الفعليين وعن مخالفته.

وكأن هذا هو مراد بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في المقام ، وإن كان تقرير كلامه قد يوهم خلاف ذلك ، وأن القطع هو تمام الموضوع للحسن والقبح الفعليين في الكبرى.

وهو كما ترى! لأن أخذه في الكبرى مستلزم لأخذه في الصغرى لينطبق موضوع الصغرى على موضوع الكبرى ، وقد عرفت أنه مغفول عنه في مقام العمل ، وليس الالتفات إلا للواقع المقطوع به ، وهو الذي يكون موضوع الملاك والغرض.

الرابع : أنه لا مجال لإطلاق الحجة على القطع بالإضافة إلى الأحكام الشرعية ، لا بالمعنى المنطقي ، ولا بالمعنى الأصولي.


أما الأول فلأن الحجة بالمعنى المنطقي هي الأوسط القياسي ، والقطع بالحكم لم يؤخذ في موضوع الكبريات الشرعية ، لاستحالة تقييد الحكم بالعلم به. وأما القطع بالموضوع ـ كالخمر ـ فهو غير مأخوذ في موضوع الكبريات الشرعية أيضا ، لأن الكلام في القطع الطريقي ، لا الموضوعي.

وأما الثاني فلأن الحجة بالمعنى الأصولي هي ما يوجب إثبات متعلقه في مقام العمل ، بحيث يصح الاعتماد عليه في الحكم به ، كما في الطرق والأمارات القائمة على الأحكام والموضوعات ، ولا يصدق ذلك على القطع ، لما عرفت من أنه عين وصول الواقع وانكشافه للنفس ، فهو مغن عن طلب الحجة رافع لموضوعها.

وبعبارة اخرى : الحجة في مقام العمل هي التي يكون العمل مبتنيا عليها ، بحيث يعتمد عليها في مقام إحراز موضوعه ، وذلك لا يجري في القطع ، لما عرفت من أنه لما كان عبارة عن الوصول للواقع ، كان النظر في مقام العمل للواقع لا غير ، ولم يكن القطع ملتفتا إليه حينه أصلا.

نعم ، قد يطلق على القطع الحجة بالمعنى العرفي ، الراجع إلى كون الشيء منجزا ومعذرا. ويأتي الكلام فيه في المقام الثاني.

الخامس : ان هذه المسألة خارجة عن المسائل الأصولية ، إذ المعيار في المسألة الأصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، لكونها إحدى مقدمات القياس المنتج له ، وقد عرفت أن القطع بنفسه وصول للحكم ، وليس هو مقدمة للوصول إليه واستنباطه ، فهو عبارة عن العلم بالنتيجة المغني عن تكلف القياس المنتج لها.

وأما متابعته فهي من آثاره اللاحقة له بذاته والتي لا دخل لها بالاستنباط بوجه ، بل هي كوجوب متابعة الحكم المستنبط ، الذي لا يكون مقدمة لاستنباطه.


تنبيه :

استدل غير واحد تبعا لشيخنا الأعظم قدّس سرّه على وجوب متابعة القطع واستحالة ردع الشارع عنها ، بأن ردع الشارع عن العمل به مستلزم للتناقض في الواقع أو في نظر القاطع ، لأن المكلف إذا حصل له القطع بحرمة الفقاع ـ مثلا ـ فنهي الشارع له عن العمل بقطعه وترخيصه في ارتكابه موجب للتناقض واقعا أو في نظره بين الحكم الذي قطع به والترخيص الشرعي المذكور.

وفيه .. أولا : أن بطلان التناقض لم يبلغ إلا مرتبة القطع ، فالاستدلال به موقوف على حجية القطع ، فكيف يكون دليلا على حجيته؟.

وبعبارة اخرى : الغرض من الاستدلال إيصال الواقع المستدل عليه للذهن وتصديقه به ، فإذا لم تكن متابعة الواقع الواصل ـ التي هي عبارة عن حجية القطع ـ بديهية غنية عن الاستدلال لم ينفع الاستدلال في مورد.

ولو أمكن ردع الشارع عن حجية العلم فكما يمكن ردعه عن حجية العلم بالحكم الشرعي كذلك يمكن ردعه عن حجية العلم بامتناع الردع المذكور الحاصل من الاستدلال بالتناقض. فتأمل جيدا.

وثانيا : أن الردع عن العمل بالقطع لا يرجع إلى الترخيص على خلاف الواقع المقطوع به ، بل مجرد الحكم بعدم حجيته ، وذلك لا يناقض الحكم الواقعي المقطوع به بوجه. نظير الحكم بعدم حجية الظن ، فإنه لا يكون راجعا إلى الترخيص على خلاف الحكم المظنون ، حتى يستلزم الظن بالتناقض ، الذي هو ممتنع كالعلم به.

نعم ، يستفاد الترخيص من الحجج أو الأصول الشرعية التي تجري مع عدم الحجة. وذلك مشترك بين العلم والظن وغيرهما.

ومن ثمّ أشكل الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية. والوجه الذي يندفع به الإشكال المذكور إنما لا يجري في صورة القطع لفرض حجيته ذاتا بنحو يمتنع التعبد بالحكم الظاهري معه ، فمع الفرض المذكور لا حاجة


للاستدلال على الحجية بلزوم التناقض ، وبدونه لا محذور في التناقض بين الحكم الواقعي والظاهري ، كما هو الحال في صورة الظن.

على أن ذلك إنما يمنع من الرجوع للأصول الشرعية ، لا العقلية ، فإنها لا تقتضي حكما شرعيا مناقضا أو مضادا للحكم الواقعي ، بل لا تتضمن إلا الوظيفة العقلية عند عدم الحجة.

وبالجملة : لزوم متابعة القطع أوضح من أن يستدل عليه بمثل ذلك.

المقام الثاني : في منجزية القطع ومعذريته.

ولا إشكال عندهم في ثبوتهما للقطع في الجملة. لكن لا يبعد كون موضوع المعذرية والمنجزية أمرا آخر يجتمع مع القطع تارة ، ومع عدمه اخرى ، ولا خصوصية للقطع فيهما.

بيان ذلك : أن الظاهر أن ملاك المعذرية بحسب المرتكزات العقلائية هي امتناع داعوية الحكم الواقعي ، فإن وجود الحكم الواقعي لا يصلح بنفسه منشأ للمسئولية ، بنحو يكون منجزا في حق المكلف ، ما لم يكن بنحو يصلح لأن يدعو المكلف إلى موافقته ، فإذا كان بنحو يمكن أن يكون داعيا للمكلف كان منجزا ، أما لو امتنعت داعويته فلا يكون صالحا للتنجز ، بل لا بد من الحكم بالمعذرية حينئذ.

إذا عرفت هذا ، فامتناع داعوية الحكم الواقعي بنحو لا بد معه من المعذرية بالإضافة إليه يكون ..

تارة : مع القطع بخلاف الحكم الواقعي لا عن تقصير.

واخرى : مع قيام الحجة على خلافه.

وثالثة : مع وجود الأصل المؤمن منه.

ورابعة : مع الغافلة المطلقة لا عن تقصير.

إذ في الصورة الاولى والرابعة تمتنع داعويته بسبب تعذر الالتفات إليه ، لما هو المعلوم من توقف داعوية الداعي على الالتفات إليه.


وفي الصورة الثانية والثالثة وإن كان احتمال التكليف والالتفات إليه متحققا ، إلا أن الاحتمال لا يكفي في الداعوية مع وجود المؤمّن والمرخّص في إهمال التكليف المحتمل ، كما لا يخفى.

كما أن إمكان داعوية الحكم الواقعي يكون ..

تارة : مع القطع به.

واخرى : مع قيام الحجة عليه.

وثالثة : مع قيام الأصل الملزم بمراعاة احتماله.

ورابعة : مع القطع بخلافه عن تقصير.

وخامسة : مع الغافلة المطلقة عنه عن تقصير.

إذ في الصور الثلاث الاول يكون الواقع بالغا مرتبة الداعوية الفعلية. وفي الصورتين الأخيرتين وإن لم يكن كذلك ، لفرض عدم احتمال التكليف الذي هو شرط في فعلية داعويته ، إلا أنه لما كان المفروض أن عدم احتمال التكليف ناشئ عن التقصير ، بحيث لو لاه لكان احتمال التكليف بنحو منجز متيسرا كان ذلك راجعا إلى إمكان داعوية التكليف ذاتا ، وتعذرها مستند إلى المكلف نفسه ومسبب عن تقصيره ، فلا يكون مانعا من منجزيته في حقه.

على أن الحكم وإن لم يلتفت إليه بعنوانه تفصيلا في الصورتين المذكورتين ، إلا أن فرض التقصير مستلزم للالتفات إليه إجمالا ، لأن التقصير إنما يكون مع الالتفات إلى وجود أحكام في الشريعة يجب الخروج عنها والفحص مقدمة لذلك ولو بنحو الالتفات ، ومثل هذا الالتفات الإجمالي للحكم كاف في صلوحه للداعوية وفي تنجزه. فلاحظ.

ومما ذكرنا يظهر أن المنجزية ملازمة للقطع كوجوب المتابعة ، إذ التنجيز إنما يفرض مع إصابة القطع للواقع ، ومعه يكون الواقع داعيا بالفعل لوصوله ، أما المعذرية فهي مختصة بما إذا لم يكن ناشئا عن تقصير ، كما أشار إلى ذلك المحقق الخراساني قدّس سرّه هنا. فتأمل جيدا.


الفصل الثاني

في التجري

وقع الكلام بينهم في استحقاق العقاب بمخالفة القطع مع خطئه بعد الفراغ عن الاستحقاق بها مع إصابته. وكلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه هنا مضطرب في تحديد محل النزاع ، إلا أن من تأخر عنه قد فصل الكلام في الجهات التي يمكن أن تقع موردا للنزاع في المقام.

والمستفاد منهم أن الكلام ..

تارة : في أن ما يقطع بكونه موردا للتكليف مورد له واقعا ، فإذا قطع بحرمة شيء كان حراما شرعا ، وإذا قطع بوجوب شيء كان واجبا كذلك ، ففعل الأول وترك الثاني يكونان معصية حقيقية ، فيستحق عليهما العقاب.

واخرى : في كون نفس التجري ـ وهو القصد للمعصية في ظرف الجري عليها بفعل ما يعتقد كونه معصية ـ محرما شرعا ، من دون أن يكون نفس الفعل المتجرى به محرما.

وثالثة : في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم التكليف المولوي ، بدعوى : أن منشأ استحقاق العقاب لا يختص عقلا بالمعصية الحقيقية.

ولأجل ذلك كان اللازم الكلام في الوجوه الثلاثة في مقامات ثلاثة ..


المقام الأول : في تحقيق حال عمل المكلف الذي يكون به التجري ، وأنه هل يكون محرما شرعا أو لا؟ وقد يوجه تحريمه بوجوه ..

الوجه الأول : أن الخطابات الاولية بالتكاليف الشرعية الواردة على العناوين الخاصة ـ كالخمر والصلاة وغيرهما ـ لا تختص بالمعنونات الواقعية ، بل لا بد من صرفها إلى ما يعتقد بانطباق العناوين عليه وإن كان خطأ ، فيكون مورد التجري مشمولا لإطلاق الأدلة المذكورة أو عمومها.

وقد يستفاد مما ذكره غير واحد توجيه ذلك بدعوى : أن التكليف لا بد أن يتعلق بما هو مقدور للمكلف ، بنحو يقتضي توجه الاختيار والإرادة نحوه ، فالمطلوب الأصلي للمولى توجه اختيار المكلف وإرادته نحو الفعل ، وحيث كان تمام الموضوع للإرادة والاختيار هو الصور الذهنية الحاصلة حين القطع ـ ولو مع الخطأ ـ لا المعنويات الواقعية ، لعدم السنخية بينها وبين الاختيار والإرادة اللذين موطنهما النفس ، فيمتنع تأثيرها فيهما ، لزم صرف التكليف بالعناوين الواقعية إلى التكليف بالاختيار المتعلق بالصور الذهنية الحاصلة مع القطع ، فمرجع التكليف بحرمة الخمر ـ مثلا ـ إلى التكليف باختيار ترك ما يقطع بكونه خمرا ، كما أن مرجع التكليف بوجوب الصلاة ـ مثلا ـ إلى التكليف باختيار فعل ما يقطع بكونه صلاة ، سواء كان القطع مصيبا أم مخطئا.

وفيه .. أولا : أنه مختص بما إذا كان الخطأ في الموضوع الثابت له الحكم ، كالخمر ، ولا يجري فيما لو كان الخطأ في أصل ثبوت الحكم ، كما لو قطع خطأ بحرمة عصير الزبيب مثلا ، إذ لا إطلاق في البين ، حتى يتوهم عمومه لحال الخطأ.

وثانيا : أنه مستلزم لرجوع جميع التكاليف التحريمية إلى تكاليف وجوبية باعمال الاختيار في ترك الحرام ، ولعدم تحقق الامتثال لو فرض موافقة التكليف غفلة من دون إعمال الإرادة والاختيار ـ نظير ما قيل من أن النهي


يقتضي الكف لا مجرد الترك ـ ولإجزاء ما يقطع خطأ بأنه من أفراد الواجب ـ كما نبه له بعض مشايخنا ـ ولترتيب بقية آثار العنوان الذي هو مورد التكليف ، كالحد والكفارة ونحوهما مما يساق في الأدلة مساق التكليف بالعنوان ، إذ لا مجال للتفكيك بين الآثار المذكورة والتكليف في الموضوع مع سوقها في الأدلة في مساق واحد ، فتأمل.

ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على ذلك.

على أنه لا يرجع إلى حرمة الفعل المتجرى به شرعا ، كما هو المدعى في تحرير محل الكلام ، بل إلى وجوب اختيار تركه شرعا كاختيار الترك في مورد الإصابة ، من دون أن يحرم نفس الفعل الخارجي في مورد الإصابة أو الخطأ.

وثالثا : أنه لا وجه لصرف التكليف بالعنوان إلى التكليف بالاختيار والارادة المتعلقين به ، فإن توقف التكليف على القدرة لا يقتضي إلا التكليف بالواقع في ظرف كونه مقدورا ، لا التكليف باختياره وإرادته.

نعم ، قد يقال : إن الغرض من التكليف إحداث الداعي في نفس المكلف ليختار ما كلف به ، فالمطلوب للامر هو الاختيار ، لانه الغرض من التكليف.

وفيه : أن كون الاختيار داعيا للتكليف وغرضا منه لا يقتضي كونه مطلوبا للامر ، بحيث يكون هو المكلف به ، بل هو نظير تخويف المكلف الذي قد يكون غرضا من الخطاب ، وليس المطلوب إلا العنوان الواقعي الذي جعل في الأدلة موردا للتكليف.

وبعبارة اخرى : حدوث الداعي في نفس المكلف واختياره لما كلف به مما قد يترتب تكوينا على التكليف ، لا أنه هو المكلف به.

على أن ما اشتهر من أن الغرض من التكليف إحداث الداعي لا أصل له ، كيف وقد يعلم المولى بعدم حدوث الداعي في نفس المكلف ، لكونه في مقام التمرد عليه ، وذلك لا يمنعه من تكليفه له ، الناشئ من إرادته التشريعية المتقومة


بجعل السبيل ، وإنما يكون إحداث الداعي غرضا فيما لو كانت الإرادة التشريعية ناشئة من الإرادة التكوينية للفعل المطلوب. فهو من لوازم الإرادة التكوينية ، لا التشريعية التي يتقوم بها التكليف.

والتحقيق : أن الغرض من التكليف هو احداث الداعي العقلي بمعنى داعوية العقل للفعل أو الترك لا حدوث الداعي الفعلي في نفس المكلف.

وبالجملة : لا مجال لتوهم كون موضوع التكليف هو الاختيار والإرادة مع منافاته لظهور الأدلة في كون المكلف به هو العناوين الحاكية عن المعنونات الواقعية التي هي موضوع الأغراض والآثار ، وبها تقوم الملاكات الموجبة للتكليف.

بل لو لا ذلك لما تعلق اختيار المكلف بالعناوين المذكورة ، لوضوح أن الداعي لتعلق الاختيار بها هو امتثال التكليف بها ، المستلزم لكونها بأنفسها موضوعا له ، ولو كان موضوعه الاختيار نفسه لكان اللازم تعلق الاختيار بالاختيار مقدمة لامتثال التكليف به ، ولا يكفي اختيار واحد متعلق بالعناوين المذكورة مع عدم التكليف بها ، وهو كما ترى!

ورابعا : أن كون المكلف به هو الاختيار والإرادة لا يستلزم عمومه لما إذا كانا واردين في مورد الخطأ ، فإن تبعيتهما للصور الذهنية ليس بمعنى كونها موضوعا لهما بحيث يتعلقان بها تعلق الغرض بموضوعه ، لوضوح أن الصور الذهنية ملحوظة عبرة للموجودات الخارجية المطابقة لها وحاكية عنها ، فالمتعلق هو الموجودات الخارجية ، بل بمعنى أنهما مسببان عن الصور الذهنية ، لما تقدم من توقف الاختيار على الالتفات للجهات المقتضية له ، وذلك لا ينافي اختصاص التكليف بالاختيار والإرادة بخصوص ما كان منها مصيبا للمعنونات الواقعية.

بيان ذلك : أن المراد بالاختيار ..


تارة : يكون محض القصد القائم بالنفس المقارن للفعل.

واخرى : يكون هو إعمال القدرة والإرادة في الفعل الخارجي ، فهو عبارة عن إضافة قائمة بين الفاعل وفعله منتزعة عن قيامه به عن التفات إليه.

أما الأول فهو حاصل بنحو واحد في صورتي الخطأ والإصابة ، فكما يكون شارب الخمر الحقيقي قاصدا لشرب الخمر ، كذلك يكون شارب ما يعتقد خطأ أنه خمر.

وأما الثاني فحيث كان أمرا إضافيا قائما بموضوعه الخارجي ، فصدقه تابع لتحقق موضوعه واقعا ، فمن شرب الماء المقطوع الخمرية لا يصدق أنه اختار شرب الخمر ، بل هو قد اختار شرب الماء الذي يعتقد أنه خمر.

وحينئذ نقول : الدليل المتقدم ـ لو تم ـ لا يقتضي صرف التكليف للأمر الأول ، بل للأمر الثاني ، لأنه المناسب لأخذ القدرة في التكليف حيث يكون الموضوع الأفعال الخارجية ، ولما هو المعلوم من قيام الملاكات بالأمور الخارجية ، وعليه لا يكون موضوع التكليف إلا الاختيار المتعلق بالمعنونات الواقعية غير الحاصل في مورد التجري.

نعم ، لو استفيد من الأدلة أن متعلق الاختيار هو الأمور الخارجية التي يقطع بثبوت العناوين لها ولو كان خطأ كان اللازم العموم لمورد التجري. لكنه خلاف ظاهر الأدلة ، لظهورها في أن المدار على الواقع.

وبالجملة : ظاهر الأدلة أن الموضوع هو المعنونات الواقعية ، سواء كانت بأنفسها موضوعا للتكليف ـ كما هو الحق ـ أم كانت موضوعا للاختيار الذي هو موضوع التكليف ـ كما يدعيه المستدل ـ وهو لا يقتضي عموم التكليف لمورد التجري.

فالإنصاف : أن الوجه المذكور في غاية السقوط ولو لا تعرض غير واحد من الأكابر له لما أطلنا الكلام فيه ، وإن كنا قد تابعناهم في كثير مما


ذكروه في رده.

الوجه الثاني : أن الأحكام الأولية وإن اختصت ـ تبعا لأدلتها ـ بالمعنونات الواقعية ، إلا أن القطع بحرمة شيء موجب لحدوث مفسدة فيه تقتضي حرمته بعنوان ثانوي ، كما أن القطع بوجوب شيء يوجب حدوث مصلحة فيه تقتضي وجوبه بعنوان ثانوي أيضا.

وفيه : أن حدوث ملاك ملاك مغاير للملاك الواقعي بسبب القطع بالحكم الشرعي إن كان يعم القطع المصيب للواقع لزم تعدد التكليف في مورد الإصابة ، ولا يظن من أحد الالتزام بذلك. بل يلزم التسلسل في الأحكام الشرعية ، إذ كل قطع محدث للحكم تبعا له وموجب للقطع به إلى ما لا نهاية.

وإن كان مختصا بالقطع غير المصيب للواقع فهو يشكل ..

أولا : بأنه وإن كان ممكنا ذاتا ، إلا أنه محتاج إلى دليل تعبدي خاص مفقود في المقام ، بل قام الدليل على عدمه ، لرجوعه للتصويب المنسوب للمعتزلة ، الذي قام الإجماع عندنا على بطلانه ، خصوصا في مورد خطأ القطع ، لا الطريق أو الأصل الشرعيين المستتبعين للحكم الظاهري ، ولا سيما في مورد الخطأ في الموضوع.

وثانيا : أن الحكم المذكور لا يقتضي استحقاق العقاب ، لعدم العلم به ، إذ المفروض حصول القطع له بثبوت حكم العنوان الأولي المفروض عدمه ، وعدم التفاته إلى خطأ قطعه ، ليعلم بثبوت الحكم الثانوي له.

ومنه يظهر أنه لا أثر لجعل الحكم المذكور وإن تم ملاكه ، لعدم صلوحه للداعوية بعد امتناع الاطلاع على موضوعه.

نعم ، لو كان التجري في مورد خطأ الامارة أو الأصل لكان لاستحقاق العقاب لأجل الحكم الثانوي الثابت فيه ـ بناء على التصويب ـ وجه ، لأن احتمال خطأ الأصل أو الأمارة موجب للعلم التفصيلي بثبوت التكليف في موردهما ، إما


الأولي الثابت مع إصابة الأصل أو الأمارة للواقع ، أو الثانوي الثابت مع خطئهما ، وهذا كاف في تنجز التكليف الثانوي لو فرض ثبوته ، بخلاف مورد القطع ، لأن القاطع لا يحتمل ثبوت الحكم الثانوي حتى يتنجز مع العلم المذكور.

ودعوى : أنه يكفي في استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي مع الجهل به الإقدام في مورده على مخالفة المولى ولو باعتقاد تكليف آخر خطأ ، فمن أقدم على شرب الخمر فشرب ماء مغصوبا استحق العقاب للمعصية وإن كان ما قصده لم يقع وما وقع منه لم يقصد.

مدفوعة : بأن استحقاق العقاب في مثل ذلك ـ لو تم ـ فهو بلحاظ الاقدام على مخالفة ما اعتقده خطأ ، وهو مبني على استحقاق المتجري للعقاب الذي هو محل الكلام في المقام ، لا بلحاظ مخالفة التكليف الواقعي المجهول ، ليكون معصية حقيقية ، ولذا لا تكون مرتبة العقاب تابعة له ارتكازا ، فمن رأى شبحا واعتقد أنه حيوان مملوك لمسلم ، فقتله ، وتبين أنه إنسان مؤمن ، لا يستحق عقاب قاتل المؤمن ، بل غاية ما يستحقه بتجرّيه عقاب المعتدي على المسلم بإتلاف ملكه.

وبالجملة : استحقاق العقاب في مثل ذلك ـ لو تم ـ فهو بملاك التجري ، لا بملاك المعصية الحقيقية.

نعم ، لو اشترك المقطوع به والمجهول في موضوع تكليف واحد استحق عقابه بملاك المعصية الحقيقية وإن اختلفا في بعض الخصوصيات الخارجة عن التكليف أو الموجبة لزيادته ، كما لو شرب خمرا باعتقاد أنه من خمر زيد ، فبان أنه من خمر عمرو ، أو شرب خمرا باعتقاد أنه ماء متنجس ، فإنه يستحق في الأول عقاب الخمر ، وفي الثاني عقاب شرب النجس ، بملاك المعصية الحقيقية ، لمصادفة ما اعتقده للواقع في الجهة المشتركة المقتضية للحرمة ، وإن خالفه في بعض الخصوصيات كخصوصية كونه من زيد أو خصوصية الخمرية.


أما في المقام فالمفروض أن ملاك الحرمة الأولية المقطوع بها مباين لملاك الحرمة الثانوية الثابتة بسبب خطأ القطع ، فما قصد لم يقع ، وما وقع لم يقصد ، والثاني لا عقاب عليه قطعا ، والأول يبتني على استحقاق العقاب على التجري وإن لم يكن معصية حقيقية.

ودعوى : أن القطع موجب للحرمة بعين ملاك الحرمة الواقعية ، لا بملاك آخر مترتب عليه ، ومرجع ذلك إلى أن المجعول حكم واحد ثابت في حالتي الاصابة والخطأ ، فيكفي الالتفات له في ترتب عقاب الواقع بملاك المعصية الحقيقية.

مدفوعة : بأن ذلك خروج عن محل الكلام لرجوعه إلى عدم خطأ القطع حينئذ. مع أنه محال في نفسه ، لتأخر القطع رتبة عن الحكم المقطوع ، فكيف يكون مأخوذا في موضوعه؟ ومن ثمّ امتنع التصويب المنسوب للأشاعرة.

نعم ، قد يتصور ذلك في القطع بالموضوع ، بأن لا يكون الحرام ـ مثلا ـ هو الخمر فقط ، بل مقطوع الخمرية أو ما يعمها.

لكنه راجع إلى كون القطع موضوعيا ، لا طريقيا ، وهو خروج عن محل الكلام ، ومخالف لظاهر أدلة الأحكام من أن الموضوع هو العناوين الواقعية لا غير.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه قال : «هذا مع أن الفعل المتجري به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا ، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي ، لا بعنوانه الطارئ الآلي ، بل لا يكون غالبا مما يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا».

وجه الإشكال : أنه إن فرض تعقل كون عنوان القطع بالوجوب أو الحرمة


مطلقا وإن كان مصيبا موجبا لحدوث التكليف الشرعي ، كفى في الالتفات إلى العنوان المذكور المصحح للعقاب الالتفات إليه بما هو آلة للواقع ، فإن القطع كاشف عن نفسه وعن غيره ، ولا ملزم باعتبار الالتفات الاستقلالي في تنجز الحكم واستحقاق العقاب عليه.

فالعمدة ما عرفت من امتناع ذلك من دون فرق بين كون القطع مأخوذا في موضع الحكم المنكشف به وكونه موجبا لحدوث حكم آخر.

وإن فرض تبدل الحكم الواقعي بسبب القطع المخطئ لا غير ، بحيث يكون القطع المذكور موجبا لحدوث حكم ثانوي رافع للحكم الواقعي. فهو وإن كان ممكنا ذاتا كما عرفت ، إلا أن العنوان المذكور مما يمتنع الالتفات إليه ، لا استقلالا ولا آلة ، بل يقطع بعدمه حين القطع ، لما هو المعلوم من امتناع احتمال خطأ القطع حين وجوده.

مع أن عدم الالتفات إلى العنوان لا ينافي كونه من جهات الحسن أو القبح عقلا بنحو يستلزم التكليف شرعا لقاعدة الملازمة ، لوضوح أن منشأ الحسن والقبح المذكورين الملاكات الواقعية التي عرفت إمكان تبدلها بسب القطع ، وليس الالتفات شرطا في تأثر الملاكات الواقعية للحسن والقبح المستلزمين للأحكام الشرعية بقاعدة الملازمة ، كما هو الحال في جميع الأحكام الواقعية المغفول عن موضوعاتها.

نعم ، الملاكات المذكورة كالأحكام التابعة لها لا تقتضي الحسن والقبح العقليين في حق المكلف المستتبعين للمدح والذم ، كما لا تقتضي استحقاق العقاب ولا الثواب إلا بالالتفات إليها ، كما سبق.

وبالجملة : الالتفات إلى موضوع التكليف شرط في استحقاق الثواب أو العقاب على الفعل ، لا في جعل الحكم له إلا بملاحظة ما سبق من أن تعذر الالتفات لموضوع الحكم دائما ـ كما في المقام ـ مانع من جعله ، لعدم صلوحه


للداعوية في مقام العمل ، ولا للعقاب والثواب ، وإن تم ملاكه. فلاحظ.

الوجه الثالث : أنه لا إشكال في أن القطع بالحرمة يوجب القبح الفاعلي في الفعل ، الذي هو بمعنى كشف الفعل عن سوء سريرة العبد مع المولى.

بل يأتي أنه يوجب القبح الفعلي ، حيث يوجب كون الفعل نفسه تمردا على المولى وخروجا عن مقتضى العبودية له ، وهو قبيح عقلا. وحينئذ فالقبح المذكور كاشف عن الحرمة الشرعية ، لقاعدة الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي.

ويندفع : بأن الحسن والقبح المستلزمين للحرمة شرعا هما الناشئان من المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام ، لا الناشئان من نفس الحكم الشرعي المتفرعان عليه ، بسبب صدق عنوان الطاعة والمعصية والانقياد والتجري ونحوها مما هو متأخر رتبة عن التكليف ، فانه لا معنى لاستلزامه الحكم الشرعي وكشفه عنه.

وبالجملة : الحسن والقبح المذكوران من سنخ حسن الطاعة وقبح المعصية لا يقتضيان التكليف شرعا ، بل يتفرعان عليه ، فلا بد في إثبات التكليف الشرعي من وجه آخر.

مع أن موضوع الحسن والقبح المذكورين إن اختص بما إذا كان القطع مخطئا لم ينفع جعل التكليف شرعا على طبقهما في تصحيح العقاب بعد عدم الالتفات للعنوان المذكور. بل يمتنع جعل التكليف مع امتناع الالتفات إليه ، لما تقدم من عدم الاثر له ، فيلغو جعله. وإن عم ما إذا كان القطع مصيبا لزم تعدد التكليف في مورد الإصابة ولا يظن من أحد الالتزام به. فتأمل جيدا.

الوجه الرابع : دعوى دلالة الأدلة الشرعية على حرمة الفعل المتجرّى به لمجرد الاعتقاد.

منها : موثقة سماعة ، قال : سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر ، فقال


أحدهما : هو ذا ، وقال الآخر : ما أرى شيئا ، قال : «فليأكل الذي لم يستبن [يتبين خ. ل] له الفجر ، وقد حرم على الذي زعم أنه راى الفجر ، إن الله عزّ وجل يقول : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)» (١) ، فقد ادعى شيخنا الأعظم قدّس سرّه ظهورها في ذلك. وكأنه لحكم الإمام عليه السّلام بحرمة الأكل على الذي تبين له ، ومقتضى إطلاقه ثبوت الحرمة حتى في ظرف الخطأ.

ومنها : الاجماع المدعى في موردين ..

الأول : من ظن ضيق الوقت ، حيث ادعي الاجماع على أنه إن أخر الصلاة عصى وإن انكشف سعة الوقت.

الثاني : من سلك طريقا مظنون الضرر ، حيث ادعي الاجماع أيضا على عصيانه ووجوب الاتمام عليه وإن انكشف عدم الضرر.

لكن الجميع ـ مع أنها مختصة بمواردها ـ غير صالحة للاستدلال.

أما الموثقة فلأن التبين في الآية الكريمة إن كان هو الموضوع الواقعي للحرمة كان القطع موضوعيا وخرج عن باب التجري. وإن كان موضوع الحرمة هو طلوع الفجر واقعا والتبين طريق إلى ذلك ، لإمكان الرجوع مع عدمه إلى استصحاب الليل ـ كما هو الظاهر ـ كان مراد الإمام عليه السّلام من الحرمة هي الحرمة في مقام العمل ظاهرا الراجعة إلى تنجز طلوع الفجر عليه وعدم جريان الأصل المرخص ، ليطابق الدليل ، وهو الآية الكريمة ، وذلك يقتضي اختصاص الحرمة الواقعية بحال الإصابة ، ولا تعم الخطا ، ولا دلالة للرواية حينئذ على كون الأكل محرما واقعيا ومعصية حقيقية بسبب الاعتقاد الخاطئ.

وأما الإجماع فيدفعه ..

أولا : أنه غير ثابت ، ولا سيما مع تصريح العلامة قدّس سرّه في محكي التذكرة

__________________

(١) الوسائل ج ٧ : ٨٥ ، باب : ٤٨ ، من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الامساك حديث : ١.


بعدم المعصية بتأخير الصلاة لو انكشف سعة الوقت ، وعن النهاية والبهائي التوقف في ذلك. بل عن الشهيد قدّس سرّه في محكي قواعده التنظر في تأثير التجري العقاب والذم ، فضلا عن التحريم الشرعي.

وثانيا : أنه لا يبعد حمله على إرادة أنه بحكم المعصية من حيث التمرد على المولى والعقاب ، لا أنه معصية حقيقية ، بمعنى كونه مخالفة لحكم شرعي واقعي ، لعدم ثبوت كون المعصية في مصطلحهم خصوص المخالفة للتكليف الواقعي. ولعل هذا المعنى عندهم كاف في وجوب الاتمام.

وثالثا : أنه قد يكون مبنيا على ذهابهم إلى كون ظن الضرر وضيق الوقت تمام الموضوع لحرمة السفر ووجوب المبادرة بالصلاة واقعا ، فيخرج عن باب التجري ، وذلك في نفسه وإن كان خلاف ظاهر الأدلة ، إلا أنه لعلهم استظهروا من الأدلة ما لم نستظهره منها. كيف ولازم الحمل على ما ذكر التصويب الذي أجمعوا على بطلانه.

هذا كله مع أن الحكم المذكور لما كان غير ملتفت إليه مع القطع ، لعدم احتمال خطأ القطع لم ينفع في تصحيح العقاب على ما تقدم الكلام فيه في الوجه الثاني. فراجع وتأمل جيدا.

المقام الثاني : في كون نفس التجري بما هو أمر نفسي محرما.

وربما يظهر من بعض كلماتهم امتناع تحريمه شرعا ، لكونه خارجا عن الاختيار ، لأنه عبارة عن القصد والعزم وهما من مبادي الاختيار ، فلو كانا اختياريين لزم التسلسل في الاختيار.

ويدفعه : أن التسلسل إنما يمنع من كون كل اختيار اختياريا ، ولا يقتضي كون كل اختيار خارجا عن الاختيار ، فلا مانع من كون الاختيار الأول المتعلق بنفس الفعل الخارجي ـ مثلا ـ اختياريا بنحو يصح التكليف به.

وبوجه آخر نقول : التسلسل إنما يقتضي عدم توقف الاختيار على


الاختيار ، بحيث لا يوجد بدونه ، ولا يمنع من دخوله تحته ، بنحو يمكن أن يستند إلى الاختيار تارة ، وألا يستند إليه اخرى ، وهذا كاف في دخوله تحت التكليف ، إذ لا يعتبر في التكليف إلا القدرة على المكلف به ، وإن كان قد يتحقق من دون إعمالها.

فالإنصاف : أن الاختيار وإن كان مما يغافل عنه كثيرا ، ولا يلتفت إلا إلى موضوعه وهو الفعل الخارجي ، إلا أنه يمكن توجه النفس له وسيطرتها عليه بسبب التأمل في ما يترتب عليه من الآثار ، فيمكن تعلق التكليف به ، كما قد يشهد به ما ورد من الحث على نية الخير والتحذير من نية الشر ، فإنه لو لم يكن واردا لبيان الحكم المولوي الوجوبي او الاستحبابي فلا أقل من وروده للإرشاد ، وذلك أيضا موقوف على كون النية اختيارية ، إذ لا معنى للحث على ما ليس اختياريا. فتأمل.

نعم ، قد يشكل الأمر : بأن المحرم إن كان هو مطلق العزم على المعصية ولو مع الإصابة لزم تعدد المعصية في صورة الإصابة ، ولا يظن بأحد الالتزام به. وإن كان خصوص العزم الخاطئ فهو بسبب امتناع الالتفات إليه حين وجوده يلغو تحريمه ، كما أنه لا يصحح العقاب ، كما عرفت في المقام الأول.

ومنه يظهر أن ما دل من النصوص على الحث على نية الخير والزجر عن نية الشر لو فرض عمومه لمثل العزم الحاصل حين الفعل لا بد أن يحمل على محض الإرشاد ، بلحاظ الحسن والقبح العقليين الثابتين لهما. بل حتى لو فرض دلالة الأدلة على الثواب والعقاب فهي لا تكشف عن الحكم الشرعي ، لعدم التلازم بينهما وبينه ، كما يأتي.

ويأتي التعرض للنصوص المذكورة إن شاء الله تعالى.

المقام الثالث : في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم التكليف المولوي وذلك راجع إلى أن موضوع الاستحقاق لا يختص بالمعصية الحقيقية ،


بل يعم التجري ، فتكون المسألة عقلية صرفة ، لأن المرجع في استحقاق العقاب هو العقل لا غير. بخلاف البحث في المقامين الأولين.

وعن السبزواري تقرير حكم العقل المذكور بأنه لا فرق بين المعصية الحقيقية والتجري ، إلا في إصابة الواقع وعدمه ، ومثل ذلك لا يكون فارقا في استحقاق العقاب ، لانه أمر خارج عن اختيار المكلف ، وليس من المكلف إلا الإقدام على ما يعتقد كونه معصية ، وهو اختياري له.

وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه : بأن العقاب على ما لا يرجع بالاخرة إلى الاختيار قبيح ، أما عدم العقاب لأمر خارج عن الاختيار فقبحه غير معلوم.

ولا يخفى أن الكلام ليس في نفس العقاب ، ليقع الكلام في قبحه وعدمه ، بل في استحقاقه.

فالأولى أن يقال : إن من يرى عدم استحقاق المتجري للعقاب يرى أن موضوع الاستحقاق خصوص المخالفة الواقعية التي هي اختيارية لمن يصيب قطعه الواقع ، وعدم الاستحقاق مع الخطأ لعدم الموضوع ، ولا مانع عند العقلاء من كونه غير اختياري ، نظير من لا يتحقق منه العصيان لحبس ونحوه مما يوجب عجزه عن المعصية ، وإن كان بحيث لو قدر لعصى ، مع أنه لا يستحق العقاب عندهم.

والإنصاف : أنه لا مجال للاستدلال في مثل هذه الأمور الارتكازية العقلية التي ليس لها وراء الارتكاز واقع محفوظ يمكن الاستدلال عليه. كما لا مجال لفرض كبريات مسلمة. لتنفع في الاستدلال ، لأن الكبريات لما كانت مأخوذة من العقل امتنع فرضها عليه ، فإنكار بعض صغرياتها أو التشكيك فيها قد يرجع إلى إنكار الكبرى بالنحو الشامل لتلك الصغريات أو التشكيك فيها ، فتسقط عن الاستدلال.


نعم ، قد تكون فائدة الاستدلال تنبيه الوجدان وحمله على استيضاح المرتكز الذي قد يغافل عنه أو يلتبس عليه لبعض الشبه التي قد تثار حول الموضوع ، فالعمدة هو الوجدان المترتب على الاستدلال ، لا الاستدلال نفسه.

وحينئذ فنقول : التأمل في المرتكزات العقلية قاض بأن الملاك في استحقاق العقاب التمرد على المولى وهتك حرمته ومجاهرته بذلك ، وكل ذلك حاصل مع المعصية الحقيقية والتجري بنحو واحد ، وخصوصية إصابة القطع الواقع في الأول غير دخيلة ارتكازا في موضوع استحقاق العقاب.

وبعبارة اخرى : مبنى ثبوت الحقوق العقلية والعرفية هو ثبوتها بنحو يقتضي عدم التعمد لمخالفتها ، فيعدّ المقدم على ذلك مخالفا لمقتضى الحق وإن كان مخطئا في اعتقاد ثبوته ، ولا يختص ذلك بحق المولوية ، بل يجري في غيره ، كحق الابوة والاخوة والصداقة والإحسان وغيرها ، فمن اعتقد أن صديقه مريض فتسامح في عيادته عدّ مخالفا لمقتضى حق الصداقة وحوسب حساب المخالف وإن كان مخطئا في اعتقاد مرضه.

ودعوى : أنه لا بد في استحقاق العقاب على الفعل من مبغوضيته للمولى وقبحه ، وأنه لا معنى للعقاب على ما لا يبغضه المولى ، فضلا عما يحبه ، كما لو صادف التجري موافقة تكليف واقعي غير مقصود.

مصادرة ، بل لما كان الاستحقاق في المعصية بحكم العقل فالملاك فيه ارتكازا ما ذكرنا ، الذي لا يفرق فيه بين الموارد المذكورة. على أنه سيأتي أن ذلك موجب لاتصاف الفعل المتجرى به بنحو من القبح هو الملاك في استحقاق العقاب.

وهذا بخلاف ما إذا كان المكلف في مقام التمرد من غير طريق التجري ، كما لو كان بحيث لو قدر لعصى ، فإنه لا يستلزم شيئا من ذلك ، لعدم ابتنائه على المجاهرة للمولى وهتك حرمته ، وإن كان هو قبيحا في نفسه.


على أنه لا يبعد عموم ملاك استحقاق العقاب لذلك أيضا ، ولو فرض عدم العقاب عليه فهو من باب الإسقاط ، للتفضل منه تعالى ، على ما سيأتي الكلام فيه في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى.

نعم ، لا يبعد اختصاص ذلك بالمولى الحقيقي الواجب الإطاعة عقلا ، الذي يكون الخضوع له من حقوقه والتمرد عليه ظلم له ، أما الموالي العرفيون أو السلاطين ونحوهم ممن يسطو بقوته فالظاهر أن العقلاء لا يرون لهم العقاب بمقتضى سلطنتهم إلا في ظرف المخالفة الحقيقية ، وأما مع الخطأ فلا موضوع له ، إذ نفس التمرد ليس مما يستهجن عقلا بالفرض حتى يستحق عليه العقاب ، وإنما السبيل للمكلّف مع مخالفة تكليفه ، فمع فرض عدم المخالفة لا موضوع للعقاب.

ومن ثمّ لا نلتزم بأن العقاب المستحق بالتجري على المولى الأعظم هو المجعول على المعصية الحقيقية الذي أوعد به ، لأن موضوع الجعل والوعيد مخالفة التكليف الواقعي لا ما يعم التجري ، فلا يستحق العبد بالتجري إلا العقاب في الجملة ، مع إيكال تقديره للمولى الأعظم المحيط بموازين العدل.

وبالجملة : استحقاق العقاب مع التجري إنما هو في ما إذا كان لزوم الطاعة وترك المعصية بحكم العقل المبني على التحسين والتقبيح من حيث كونهما من حقوق المولى اللازمة له ، وتركهما ظلم له ، ولا يفرق في ملاك ذلك بين المعصية الحقيقية والتجري ، بخلاف ما إذا كان بملاك دفع الضرر من حيث ترتب العقاب الموعود على المعصية ، لأن موضوع الوعيد هو المعصية الحقيقية ، لا ما يعم التجري.

وإذا عرفت هذا ، فلا يهم الكلام في أن القبح في التجري فاعلي فقط ، أو فعلي أيضا ، إذ عدم استحقاق العقاب مع القبح الفاعلي إنما هو لأجل المرتكزات العقلية المدعاة في المقام ، فلا معنى للخروج بها عما عرفت من


ارتكاز استحقاق العقاب مع التجري لو فرض عدم اشتماله على القبح الفعلي. بل الارتكاز المذكور راجع إلى عدم عموم عدم استحقاق العقاب مع القبح الفاعلي لمثل مورد التجري واختصاصه بغيره. وسيأتي الكلام في القبح الفاعلي في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى.

نعم ، لا يبعد البناء على ثبوت القبح الفعلي في مورد التجري ، وأن الفعل بنفسه يتصف بالقبح ، لكونه بنفسه ظلما للمولى ، لما فيه من هتك حرمته والخروج عن مقتضى العبودية له ، فالعنوان القبيح وهو ظلم المولى وهتك حرمته منطبق على الفعل بنفسه ، كما صرح به بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه وأطال الكلام فيه.

إن قلت : على هذا يلزم مزاحمة القبح المذكور للملاك الواقعي المقتضي للحكم الواقعي في الفعل المتجرى به ، فإن لم يكن الملاك الواقعي اقتضائيا لم يزاحم قبح الفعل من حيث التجري ، كما في مورد التجري بالمباح. وإن كان اقتضائيا كانا متزاحمين ، فيلزم تأثير الأقوى منهما أو سقوطهما عن التأثير بسبب التزاحم ، كما في مورد التجري بالواجب ، بل المستحب ، وهو مستلزم للتصويب في الجملة.

بل يلزم تأكد القبح لو صادف التجري قبيحا واقعيا من غير الجهة المتجرى بها ، كما لو أقدم على محرم فصادف محرما آخر غيره ، كما يلزم تأكد القبح في المعصية الحقيقية أيضا.

بخلاف ما لو كان قبح التجري فاعليا فقط ، فإن تعدد موضوع الحسن والقبح مانع من التزاحم والتأكد ، بل يبقى الحسن أو القبح الواقعيان قائمين بموضوعهما وهو الفعل ، والقبح الناشئ من التجري قائما بموضوعه ، وهو الفاعل.

قلت : الحسن والقبح الواقعيان التابعان للملاكات الواقعية لا يصلحان


لمزاحمة القبح الناشئ من التجري أو تأكيده ، لأن التأكيد أو التزاحم بين الجهات المقتضية للحسن والقبح أو نحوهما إنما يكونان بلحاظ اتحاد الآثار ذاتا أو تضادها ، كما هو الحال في جهات الحسن والقبح الواقعية ، فإن آثارها لما كانت هي الأحكام الشرعية ، وكانت الأحكام متضادة بسبب اختلاف نحو العمل المترتب عليها كان لا بد من التأكيد فيما لو اجتمعت جهتان تقتضيان حكما واحدا ، والتزاحم فيما لو اجتمعت جهتان تقتضيان حكمين متضادين.

أما مع عدم الاتحاد أو التضاد بين الآثار فلا مجال للتأكد ولا التزاحم ، بل تؤثر كل جهة أثرها استقلالا ، كما هو الحال في الحسن والقبح الواقعيين مع القبح الحاصل بالتجري ، فإن أثر الأوّلين هو الحكم الشرعي الواقعي المطابق لأحدهما ، وأثر الأخير هو استحقاق الذم والعقاب ، ولا اتحاد بين الأثرين المذكورين ، كما لا تضاد بينهما ، فلا وجه للتأكد ولا للتزاحم ، بل يؤثر كل منهما استقلالا.

فالتجري بفعل ما هو مباح واقعي وبفعل ما هو واجب واقعي وبفعل ما هو حرام واقعي من غير الجهة المتجرى بها بمرتبة واحدة من حيث القبح المقتضي لاستحقاق الذم والعقاب. كما لا يفرق في مرتبة الحسن أو القبح الواقعيين المقتضيين للحكم الشرعي بين أنحاء وقوع الفعل ، من حيث كونه بقصد الطاعة أو بقصد المعصية أو غفلة من دون قصد إحداهما.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما عن الفصول من استحقاق العقاب والذم مع التجري بترك ما يعتقد وجوبه أو فعل ما يعتقد تحريمه ، إلا أن يصادف الأول ترك حرام واقعي والثاني فعل واجب واقعي ، لمزاحمة الحسن الواقعي لقبح التجري. ومن ثمّ كان التجري على الحرام في المكروهات الواقعية أشد منه في مباحاتها ، وهو فيها أشد منه في مندوباتها ... إلى آخر ما ذكره مما يتضح حاله بما ذكرنا من أن عدم السنخية بين الآثار مانع من التزاحم والتأكد.


ومثله في الإشكال ما ذكره قدّس سرّه من أن التجري لو صادف المعصية الواقعية تداخل عقابهما.

لظهوره في أن مصادفة المعصية الواقعية بنفسها موجبة للعقاب مع قطع النظر عن القصد ، وقد عرفت بطلانه. مع أنه لو تمّ فلا وجه للتداخل ، إلا الضرورة على أن المعصية الواقعية ليس لها إلا عقاب واحد ، وهي تكشف عن وحدة منشأ العقاب ، وهو التجري بقصد المعصية لا غير. فتأمل جيدا.

وينبغي التنبيه على أمور ..

التنبيه الأول : في القبح الفاعلي

تردد في كلام غير واحد أن القبح الفاعلي بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب. وقد أشرنا قريبا إلى أنّ الكلية المذكورة لا تشمل التجري لو فرض عدم اشتماله على القبح الفعلي ، وإن كان الظاهر اشتماله عليه.

وينبغي التعرض لصور القبح الفاعلي ، فنقول : المكلف الذي تضعف نفسه عن تجنب المعصية لو ابتلي بها له حالات مترتبة من حيثية الحسن والقبح ..

الاولى : أن يتخيل من نفسه أو يحتمل بسبب عدم ابتلائه بالمعصية أنه يرتدع عنها لو ابتلي بها. فيتحقق منه العزم على ذلك.

الثانية : ألا يكون له عزم على تجنب المعصية بسب غفلته عنها.

الثالثة : أن يكون ملتفتا إليها راغبا في تركها إلا أنه لا عزم له عليه قبل الوقت لاعتقاده ضعف نفسه عن الوقوف أمام المغريات.

الرابعة : أن يلتفت إليها ولا يعزم على فعلها ولا على تركها تسامحا فيها.

الخامسة : أن يكون ملتفتا إليها وراغبا فيها ، إلا أنه بسبب تعذرها عليه لا يتحقق منه العزم عليها ، وإن كان في نفسه أنه لو قدر لفعل.


السادسة : أن يعزم على المعصية ، ولا يسعى نحوها لعدم حضور وقتها المناسب بنظره.

السابعة : أن يسعى لها بفعل بعض المقدمات وإن لم يصل إليها لمانع منها.

الثامنة : أن يباشر فعل ما يعتقد أنه معصية ، فيصيب المعصية الحقيقية ، أو يخطئ فيتحقق منه التجري فقط.

لا إشكال في عدم استحقاق العقاب ولا الذم في الصور الثلاث الاول ، ولذا لا ينبغي عدها موضوعا للقبح ، إذ القبح عبارة عما ينتزع من مقام الذم ويقتضي الردع ، ومجرد ضعف النفس واقعا عن الوقوف أمام المغريات لا يقتضي ذلك ، وإن كان هو منافيا لكمالها.

بل لما كان العزم على تجنب المعصية في الصورة الاولى مفروض التحقق يستحق به المدح عقلا كانت موضوعا للحسن.

بل لعلها موضوع التفضل بالثواب ، كما قد يشهد به حديث أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : «إن العبد المؤمن الفقير ليقول : يا رب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير ، فإذا علم الله عزّ وجل ذلك منه بصدق نية كتب له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله. إن الله واسع كريم» (١) ، فإن الظاهر من صدق النية ليس هو مطابقتها للواقع ، بل خلوصها وعدم كونها بدوية يقصد بها استجلاب الرزق لا غير. فلاحظ.

كما أنه لا ريب في كون الصور الخمس الباقية موضوعا للقبح ، وإن كان يختلف فيها شدة وضعفا حسب ترتبها ، لمنافاتها جميعا لما يحكم به العقل من لزوم الخضوع للمولى الأعظم والفناء فيه ، والانقياد لتكاليفه.

بل عرفت أن الصورة الثامنة موضوع لاستحقاق العقاب مطلقا ولو مع الخطأ.

__________________

(١) الوسائل ج ١ : ٣٥ باب ٦ : من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١.


كما أن الظاهر أن الصورة السابعة مشاركة في الملاك الموجب للاستحقاق ، من حيثية إبراز ما في النفس بالفعل الخارجي المبني على التمرد على المولى وانتهاك حرمته.

وأما الصور الرابعة والخامسة والسادسة ، فلا يبعد كونها موردا لاستحقاق العقاب ، كما هو مقتضى المرتكزات العقلائية ، لأنها نحو من الظلم المولى الأعظم والتقصير في حقه ، إذ ليس حقه الطاعة خارجا ، بل تمام الخضوع والفناء غير الحاصل في الصور المذكورة.

نعم ، ورد في كثير من النصوص عدم العقاب على نية السيئة ، وأنها لا تكتب على العبد ، بخلاف نية الحسنة ، فإنها تكتب له. (١) وهي صريحة في عدم العقاب في الصورة السادسة ، وتقتضي عدمه في الرابعة والخامسة بالأولوية.

بل ظاهرها عدم ترتب العقاب حتى في الصورة السابعة.

بل قد يدعى ظهورها في عدمه مع التجري أيضا ، إذ ليس فيه إلا النية والعزم على السيئة دون فعلها.

لكن الظاهر أن المراد من النية فيها العزم السابق على الفعل وعلى اختياره ، لا ما يساوق الاختيار المقارن للفعل الحاصل مع التجري ، كما قد يشهد به ما في خبر حمزة بن حمران عن أبي عبد الله عليه السّلام : «ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها ، فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها ..» (٢) ، فانه كالصريح في ان المراد من النية العزم الذي يمكن العدول عنه قبل اختيار الفعل ، ويكون العدول عنه حسنة تكتب للعبد ، لا ما يعم الاختيار المقارن للفعل.

اللهم إلا أن يقال : الأخبار المذكورة ظاهرة في أن المدار في العقاب على فعل السيئة نفسها ، وهو غير متحقق مع التجري.

__________________

(١) راجع النصوص المذكورة في الوسائل ج ١ : ٣٥ ، باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) الوسائل ج ١ : ٣٩ ، باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٢٠.


وفيه : أن الاعتماد على مثل هذا الظهور في مثل هذه الأمور غير ظاهر الوجه ، لانصراف ادلة الحجية في الظهورات وغيرها إلى الحجية في مقام العمل ، وترتب العقاب لا دخل له بعمل المكلف.

هذا ، مع ظهور غير واحد من النصوص في ثبوت العقاب بفعل مقدمات الحرام ، فتدل على ثبوته في التجري بالأولوية ، مثل ما ورد من أنه إذا تلاقى المسلمان بالسيف فالقاتل والمقتول في النار ، معللا دخول المقتول النار بأنه أراد قتل صاحبه ، وما ورد في عقاب غارس الخمر وعاصرها ومعتصرها (١) ، فإنه شامل لمن يعصرها لشرب نفسه ، مع وضوح كون العقاب حينئذ بملاك القصد إلى المعصية ، وكذا ما ورد في الماشي بالنميمة (٢) وغير ذلك ، فحمل نصوص عدم العقاب على خصوص العزم غير المستتبع للعمل الحاصل في الصورة السادسة ، وعدم شمولها للصورة السابعة والثامنة قريب جدا.

ثم إن عدم العقاب الذي تضمنته النصوص المتقدمة لا ينافي استحقاقه ، الذي هو محل الكلام ، لإمكان كونه من باب العفو والتفضل منه تعالى.

نعم ، قد ينافيه خبر مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السّلام : «لو كانت النيات من أهل الفسق يؤخذ بها أهلها إذا لاخذ كل من نوى الزناء بالزناء ، وكل من نوى السرقة بالسرقة ، وكل من نوى القتل بالقتل. ولكن الله عدل كريم ليس الجور من شأنه ، ولكنه يثيب على نيات الخير أهلها وإضمارهم عليها ، ولا يؤاخذ أهل الفسق حتى يفعلوا» (٣) ، لظهوره في أن مؤاخذة أهل الفسق بنياتهم جور ينافي عدله تعالى ، وجزاء أهل الخير على نياتهم تفضل يناسب كرمه عزّ اسمه.

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١٧ : ٣٠١ باب : ٣٤ من أبواب الاشربة المحرمة.

(٢) راجع الوسائل ج ٨ : ٦١٦ ، باب : ١٦٤ من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج. لكن لا يبعد ظهور النصوص المذكورة في حرمة نفس النميمة ، لا في ترتب العقاب على المشي إليها مع قطع النظر عن ترتبها ، إذ لا يبعد كون المراد بالماشي بالنميمة هو النمام لا غير. (منه)

(٣) الوسائل ج ١ : ٤٠ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٢١.


لكن لا مجال للخروج بذلك عما عرفت من حكم العقل ، فلا بد أن تحمل على منافاة العقاب لمرتبة خاصة من الكرم وإطلاق الجور على ذلك توسع بلحاظ سعة رحمته المناسبة لرفعة مقامه التي ليس من شأنه الخروج عنها فلا تنافي حكم العقل بالاستحقاق.

ولا سيما مع ما ورد من أن نية الكافر شر من عمله (١) ، معللا في بعض النصوص بأن الكافر ينوي ويأمل من الشر ما لا يدركه. وما ورد من تعليل خلود أهل النار فيها بأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا (٢). وما ورد من أنه يكتب للكافر في سقمه من العمل السيئ ما كان يكتب في صحته (٣) ، فإنه صريح في أن عدم فعل السيئة لتعذرها بسبب السقم ـ كما في الصورة الخامسة المتقدمة ـ لا يرفع عقابها في حق الكافر ، ولو كان ذلك جورا لم يفرق فيه بين المؤمن والكافر.

والإنصاف : أن نصوص المقام لا تخلو عن التنافي بظواهرها ، مع ضعف سند كثير منها ، فلا مجال للتعويل عليها ولا للجمع العرفي بينها في مثل المقام من الأمور العقلية غير المتعلقة بمقام العمل. فلا مجال للخروج بها عما ذكرنا ، والمتيقن منها عدم العقاب في الصورة الخامسة بنحو لا ينافي الاستحقاق ، ويثبت في ما قبلها بالأولوية ، كما ذكرنا.

هذا كله لو كانت نية المعصية مسببة عن الشهوة أو الغضب المزاحمين للحكم الشرعي في مقام تأثير الداعوية في نفس المكلف ، أما لو كانت مسببة عن الاستهوان بتكاليفه تعالى ، أو الرغبة في محاربته والخروج عن أمره فهي أهم من جريمة المعصية ، بل قد توجب الخروج عن الدين والخلود في العذاب

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١ : ٣٨ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٧.

(٢) الوسائل ج ١ : ٣٦ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج ١ : ٤٢ باب ٧ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٥.


المهين.

ولعله إليه يرجع ما تضمن أن نية الكافر شر من عمله. نسأله تعالى العصمة والسداد والتوفيق لما يحب ويرضى إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين.

التنبيه الثاني : في عدم اختصاص التجري بالقطع

لا يختص التجري بالقطع ، بل يجري في غيره من موارد تنجز التكليف المستند لقيام الطريق الشرعي عليه أو جريان الأصل المحرز أو غيره فيه.

ولا يخفى أنه بناء على جعلها من باب السببية لا تكون مخالفتها مع خطئها تجريا ، بل معصية حقيقية ، لا بالإضافة إلى الواقع ، بل بالإضافة إليها نفسها ، وإنما يتحقق التجري بناء على ما هو التحقيق من أنها مجعولة من باب الطريقية ، إذ الأحكام الطريقية لا تكون موضوعا للإطاعة والمعصية عقلا بأنفسها ، بل بلحاظ الواقع الذي قامت عليه ، فمع فرض خطئها وعدم كون مخالفتها موجبة لمخالفة الواقع لا يلزم إلا التجري بالإضافة إلى الواقع.

هذا ، وظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه تحقق التجري بمخالفة الطريق في صورة الخطأ سواء كان الإقدام برجاء تحقق المعصية ، أم لعدم المبالاة بذلك ، أم برجاء عدم تحققها. وظاهره كون التجري في الجميع بالإضافة إلى الواقع.

لكن ادعى بعض الأعاظم قدّس سرّه أن التجري في الصورة الثالثة بالاضافة إلى الطريق نفسه.

وفيه .. أولا : ما عرفت من أن الأحكام الطريقية لا تكون بأنفسها موضوعا للاطاعة والمعصية ، فكيف تكون موضوعا للتجري؟. نعم لو كان الإقدام للبناء على عدم الحجية تشريعا كان التشريع المذكور محرما قطعا.

وثانيا : ان مقتضى جعلها متابعتها ، فعدمها مخالفة حقيقية للدليل


المذكور ، فتكون معصية حقيقية لا تجريا. وأما رجاء عدم الإصابة فلا ينافي جعلها بوجه ، كما لا يخفى.

هذا ، وقد يدعى عدم تحقق التجري في الصورة المذكورة ـ كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ لا بالإضافة إلى الحكم بجعل الطريق ، لما عرفت ، ولا بالإضافة إلى الواقع ، لعدم ابتناء الإقدام على مخالفته وهتك حرمة المولى بالإضافة إليه ، بل ليس فيه إلا الخروج عن مقتضى قاعدة دفع الضرر المحتمل ، فلا يقتضي ترتب العقاب إلا في صورة الوقوع في الحرام لا غير.

لكن الإنصاف : أن مجرد رجاء عدم تحقق المعصية مع عدم المؤمّن لا ينافي تحقق ملاك التجري من تجاهل المولى وهتك حرمته ، فإن مقتضى لزوم احترامه والفناء فيه الاهتمام بطاعته مع الاحتمال المنجز. نعم الملاك المذكور بمرتبة ضعيفة تتفاوت شدة وضعفا تبعا لضعف الاحتمال وقوته.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه قد اعتبر في صدق التجري مع عدم العلم عدم كون الجهل عذرا شرعا عقلا. قال قدّس سرّه : «وإلا لم يتحقق احتمال المعصية وإن تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعي ، كما في موارد أصالة البراءة ، واستصحابها».

ولا إشكال في تمامية ما ذكره إذا كان الإقدام استنادا إلى العذر المذكور ، سواء كان برجاء عدم مخالفة التكليف الواقعي ، أم لعدم الاهتمام بذلك ، أم برجاء مخالفته ، كما لو شرب محتمل الخمرية برجاء أن يكون خمرا قد رخص الشارع ظاهرا في شربه ، إذ لا محذور في الرغبة في مخالفة الواقع بالنحو المرخص به شرعا ، وليس فيه تمرد على المولى ولا هتك لحرمته ، بل هو مبني على الاهتمام به والتقيد بما رسمه.

أما إذا لم يكن الإقدام مستندا إلى العذر ، إما للجهل بكونه عذرا ، أو لعدم الاهتمام بالتكليف الشرعي الواقعي وعدم المبالاة بمخالفته لا عن عذر ، فلا


يبعد عدم المعذرية حينئذ ، وتحقق المعصية الحقيقية أو التجري ، لأن معذرية العذر عرفا لا تكون بمجرد وجوده واقعا ، بل بالاعتماد عليه والاستناد إليه ، بل الصورة الثانية راجعة إلى الاستهوان بالدين التي عرفت أنها أشد من المعصية الحقيقية.

وكأن ما ذكرنا هو مراد بعض الأعاظم قدّس سرّه ، وإن كان قد يظهر من تقرير درسه للمرحوم الكاظمي لزوم كون الإقدام برجاء عدم إصابة الواقع ، الذي عرفت أنه لا ملزم به. فراجع.

التنبيه الثالث : في الانقياد

وهو عبارة عن الإقدام على الموافقة في مورد اعتقاد التكليف أو احتماله مع عدم ثبوت التكليف واقعا ، عكس التجري ، وهو قسمان ..

الأول : ما يكون مع المنجز للتكليف من قطع أو دليل أو أصل.

الثاني : ما يكون مع المؤمن المعذّر منه من دليل أو أصل يحتمل خطؤه.

أما الأول : فملاكه ملاك الطاعة الحقيقية ، فهو لازم إما بحكم العقل المبتني على التحسين والتقبيح ، كما في الانقياد للمولى الأعظم الذي يستحق الاطاعة ذاتا ، وإما بملاك دفع الضرر المقطوع أو المحتمل ، كما في الانقياد للأوامر المبنية على الوعيد بالعقاب ممن يقدر عليه ، شرعية كانت أو عرفية.

ولا إشكال في كونه منشأ للمدح ، من حيثية القيام بما ينبغي من الحق اللازم أو دفع الضرر ، وإن كان لا يبعد اختلاف سنخ المدح فيها ، وأما الثواب فالكلام فيه هنا هو الكلام فيه في الإطاعة الحقيقية.

والظاهر أن الإطاعة لا تكون منشأ لاستحقاق الثواب ولزومه للمطيع ، لأن فرض لزوم الفعل مانع عرفا من استحقاق الجزاء عليه ، لاختصاص استحقاق الجزاء بما إذا كان القيام بالعمل في مقابله ، لا للزومه في نفسه. من دون فرق بين


أن تكون الإطاعة واجبة ذاتا ، كما في إطاعة المولى الأعظم ، وغيرها ، كما في غيره ممن لا يطاع إلا لدفع الضرر.

وعدم استحقاق الامر للإطاعة في الصورة الثانية يمنعه من الإلزام والوعيد ، لا أنه يوجب عليه الثواب على العمل للمطيع بعد فرض جعل التكليف منه عليه. إلا أن يكون من باب التعويض والتدارك ، لفرض ظلمه له بتكليفه إياه من غير حق. وهو خارج عن محل الكلام.

نعم ، لا إشكال في أن الإطاعة والانقياد يكونان منشأ لأهلية القائم بهما للتفضل بالثواب المبني على الشكر والجزاء ، وليس ثوابه ابتداء تفضل ، كالابتداء به على من لم يعمل شيئا أو كان عاصيا ، فإن المحسن الكريم أهل للإحسان على غير المطيع ، بل على العاصي ، إلا أنهما لا يكونان أهلا لذلك بخلاف المطيع والمنقاد فإنهما أهل للجزاء بالإحسان بسبب عملهما.

هذا كله لو فرض عدم الوعد من المولى بالثواب على الإطاعة ، وإلا كان له نحو من الاستحقاق عليه بملاك الوفاء بالوعد ، لا بملاك الاستحقاق على العمل.

والظاهر أنه يختص بموضوعه فلو فرض أنه الاطاعة الحقيقية لم يشمل الانقياد ، لخروجه عن موضوع الوعد وان اعتقد المكلف دخوله فيه. نظير ما تقدم من عدم عقاب المتجري بمقتضى الوعيد.

وأما القسم الثاني : فلا إشكال في حسنه بملاك الاحتياط للواقع وإن لم يكن منجزا ، كما تشهد به المرتكزات العرفية ، والعقلية والشرعية.

ومن ثمّ جرت سيرة الفقهاء على الندب إليه والحث عليه في موارد الفتوى على خلافه.

والكلام في الثواب هنا هو الكلام فيه في القسم الأول ، فهو لا يكون منشأ لاستحقاق الثواب ، لا ذاتا ولا بملاك الوعد على الطاعة ، بل يكون منشأ لاهلية التفضل بالثواب والجزاء. وعليه تحمل نصوص التسامح في أدلة السنن ، كما انها


حيث كانت ظاهرة في الوعد عليه يكون هو منشأ للاستحقاق بملاك الوعد المذكور.

هذا ، والظاهر أنه ليس علة تامة للحسن ، بل هو مقتض له قابل للردع الشرعي بسبب انطباق بعض العناوين المرجوحة عليه.

وربما يظهر من الأدلة الشرعية الردع عنه في الجملة ، ولا يسع المقام تفصيل ذلك ، بل هو محتاج إلى فضل تتبع للأدلة ومزيد تأمل فيها. ويأتي الكلام فيه في مباحث البراءة إن شاء الله تعالى.


الفصل الثالث

في تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي

لا يخفى أن القطع بالإضافة إلى الحكم ..

تارة : لا يكون له دخل فيه إلا من حيث كونه طريقا له كاشفا عنه ، من دون أن يؤخذ في موضوعه ، بل يكون موضوع الحكم أمرا آخر تابعا لواقعه.

واخرى : يؤخذ في موضوع الحكم ، بحيث لا يترتب الحكم إلا تبعا للقطع وفي رتبة متأخرة عنه.

وقد اطلق على الأول القطع الطريقي ، وعلى الثاني القطع الموضوعي.

ولا إشكال في ذلك بين كل من تعرض له ، فاللازم صرف الكلام إلى ما يتفرع على هذا التقسيم مما وقع الكلام فيه بينهم.

ومن هنا ينبغي الكلام في أمور ثلاثة ..

الأمر الأول : أنه عرفت أن القطع عبارة عن وصول متعلقه للمكلف ، ورؤيته له ، فهو نحو من الإضافة القائمة بين القاطع والمقطوع به متأخر عنهما رتبة ، كسائر الإضافات القائمة بموضوعاتها المتفرعة عليها ، فيمتنع أن يكون دخيلا في تحقق متعلقه من حكم أو موضوع.

ومن هنا يتعين كون القطع بالإضافة إلى متعلقه طريقيا صرفا ، ولا يكون موضوعيا إلا بالإضافة إلى حكم آخر متأخر رتبة عنه وعن متعلقه ، على ما يأتي التعرض له ولأقسامه في الأمر الثاني.


وحيث امتنع تقييد الحكم بالقطع به ـ لما عرفت من امتناع أخذ القطع موضوعا لمتعلقه ـ لزم إطلاق الحكم في مرتبة جعله بالإضافة إلى حالتي حصول القطع به وعدمه ، فيعم كلا الحالين ، ولا يختص بأحدهما ، كما لا يختص ببعض أفراد أحدهما. ومن ثمّ كان التصويب المنسوب للأشاعرة محالا في نفسه.

بل يمتنع اختصاص الحكم بحال القطع به أو ببعض أفراد القطع به ولو بنتيجة التقييد ، بأن يكون المأخوذ في موضوع الحكم عنوانا آخر ملازما للقطع بالحكم أو لبعض أفراده ، لان لازم ذلك امتناع حصول القطع بالحكم ، ومرجعه إلى امتناع حصول موضوع الحكم ، الموجب للغوية جعله.

إذ القطع بالحكم ..

تارة : يكون مسببا عن بيانه للمكلّف بنحو القضية الخارجية.

واخرى : يكون مسببا عن بيانه له بنحو القضية الحقيقية.

والأول يتوقف على علم الحاكم بتحقق موضوع حكمه قبل بيانه للمكلف ، وهو ممتنع مع فرض ملازمة الموضوع لقطع المكلف بالحكم المتأخر عن بيانه له. وحصول القطع للمكلف من الثاني موقوف على سبق تحقق القطع له بحصول موضوع الحكم في الخارج ، وهو ممتنع مع فرض ملازمة الموضوع للعلم بالحكم.

أما ما ذكره شيخنا الاستاذ دامت بركاته (١) ـ تبعا لما حكاه عن استاذه العراقي قدّس سرّه ـ في تقريب نتيجة التقييد بالعلم : بأن الحاكم الملتفت للذات المقارنة للعلم بالحكم والذات المقارنة للجهل به له أن يجعل الحكم على خصوص الاولى ، لا على ما يعمها والثانية.

ففيه : أن العلم بالحكم موقوف على العلم بموضوعه ، فمع فرض أخذ

__________________

(١) الشيخ حسين الحلي. (منه).


خصوصية الذات في موضوعه لا مجال لتحصيل العلم به إلا مع فرض تحديد الذات المأخوذة في الموضوع ، وتحديدها من طريق العلم دوري ، ومن طريق العنوان الملازم له قد عرفت إشكاله ، إذ لا بد من سبق العلم بالموضوع زمانا على العلم بالحكم ، والمفروض ملازمة العنوان للعلم وعدم سبقه عليه.

وفرض التفات الامر للذات العالمة بالحكم في كلامه مبني على فرض جعل تمام موضوع الحكم هو العنوان الواقعي المجرد عن خصوصية الذات ـ كالاستطاعة ـ فيمكن للمكلف تحصيل العلم به ، أما مع فرض العدول عن الفرض المذكور وأخذ خصوصية الذات زائدا على العنوان الواقعي فيتعذر تحصيل العلم به للمكلف.

نعم ، لو كان مرجع ذلك إلى أن الحاكم لما كان يعلم بالذات التي من شأنها أن تعلم بالحكم على تقدير جعله على العنوان الواقعي فهو يجعل الحكم مختصا بالذات المذكورة بعنوان آخر يخصها يكون متمما للموضوع ـ كعنوان الذكي ـ فلا محذور فيه.

لكنه خروج عما نحن فيه ، لأن مرجعه إلى تخصيص الحكم بالذات التي من شأنها أن تعلم بالحكم على تقدير جعله ، لا بالذات العالمة بالحكم المجعول فعلا ، الذي هو محل الكلام.

وبالجملة : امتناع تقييد الحكم بالقطع به ليس لمجرد ترتب عنوان القيد على المقيد ، فيلزم من أخذه فيه لحاظ المتأخر قيدا في المتقدم نظير ما يذكر في قصد الامتثال في مبحث التعبدي والتوصلي ، حتى يمكن إبداله بالتقييد بما يلازم القيد المذكور من دون أخذ عنوانه المترتب على المقيد ، الذي هو عبارة عن نتيجة التقييد ، بل للترتب الخارجي الذاتي بينهما الموجب لامتناع نتيجة التقييد أيضا. فتأمل جيدا.

أما بعض الأعاظم قدّس سرّه فقد ذكر في المقام إمكان أخذ العلم في موضوع


الحكم الذي تعلق به بنتيجة التقييد ، وإن امتنع أخذه بنحو التقييد اللحاظي في مرتبة جعل الحكم ، بدعوى : أن امتناع التقييد اللحاظي مستلزم لامتناع الاطلاق اللحاظي أيضا ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وهو موجب لقصور الجعل الأول عن إثبات أحدهما ، فلا بد من جعل آخر يستفاد منه نتيجة أحدهما ، وهو ما اصطلح عليه ب (متمم الجعل).

وفيه : أنه إن كان الجعل الأول متعينا لأحد الأمرين من الإطلاق والتقييد ثبوتا ، لامتناع الاهمال في الحكم ثبوتا ـ كما يظهر من تقرير المرحوم الكاظمي هنا ـ فلا حاجة إلى جعل آخر ، بل لا يحتاج إلا إلى شرح حال الجعل الأول ورفع إجماله.

والتحقيق : أنه يكفي فيه إطلاقه المستفاد من مقدمات الحكمة ، على ما ذكرناه في مبحث المطلق والمقيد ، بل عرفت هنا امتناع اختصاص الحكم بحال العلم به لا بالتقييد ولا بنتيجة التقييد ، فيتعين العموم ، فلا منشأ لتوهم الإجمال حتى يحتاج للإطلاق من هذه الجهة.

وإن فرض إهمال الجعل الأول ثبوتا ـ كما يظهر منه في مبحث التعبدي والتوصلي والمطلق والمقيد ـ فيحتاج إلى جعل آخر يتمم ما يقتضيه الجعل الأول.

ففيه .. أولا : ما أشرنا إليه من امتناع الإهمال ثبوتا.

وثانيا : أن فرض الإهمال في الجعل الأول مانع من العلم بالحكم الذي تضمنه ، لتوقف العلم بالحكم على تحديد موضوعه والعلم به ، ومع فرض عدمها لا علم بالحكم ، فكيف يمكن التقييد به في الجعل الثاني؟!.

وثالثا : ما ذكره شيخنا الاستاذ دامت بركاته من أن الجعل الثاني وإن رفع محذور الإهمال في الجعل الأول ، إلا أن المحذور وارد فيه أيضا ، إذ يمتنع تقييده بصورة العلم به أيضا ، كما يمتنع إطلاقه تبعا لذلك. والتزام جعل ثالث متأخر عنه


رتبة رافع لإهماله موجب لتوجه المحذور في الجعل الثالث أيضا ، فيحتاج إلى جعل رابع .. وهكذا إلى ما لا نهاية.

وبالجملة : الالتزام بمتمم الجعل لا يرجع إلى محصل ظاهر ، لا في المقام ولا في غيره من الموارد التي التزم فيها قدّس سرّه ، كما ذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي أيضا.

ولا سيما مع ما نبه له شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) من القطع بعدم الجعل الثاني في الأحكام العرفية ، لوضوح عدم الالتفات فيها إلى جعل آخر لا من المولى ولا من المكلف ، مع أنها مشتركة مع الأحكام الشرعية في الإشكال. وهو شاهد بعدم توقف الأمر فيها على الالتزام بمتمم الجعل.

هذا كله لو اريد من أخذ العلم في موضوع الحكم هو العلم بالحكم الجزئي التابع لوجود الموضوع في الخارج ، أما لو اريد منه العلم بالحكم الكلي المستنبط من الأدلة ، فلا يتوجه المحذور المتقدم فيه ، للتباين بين ما يكون العلم طريقا له وما يكون مأخوذا في موضوعه.

نعم ، مرجع ذلك إلى أن موضوع الحكم لبا ليس هو العنوان المأخوذ في الكبرى الشرعية ـ كالاستطاعة ـ على إطلاقه ، وإلا لاستحال دخل العلم في الصغرى ، بل لا بد أن يكون الموضوع مقيدا بالعلم بالكبرى المذكورة ، وحيث كان العلم بالكبرى متأخرا عن نفس الكبرى رتبة امتنع التقييد به بعنوانه فيها ، بل لا بد حينئذ من فرض نتيجة التقييد ، وأن الحكم في الكبرى لم يجعل على العنوان الواقعي ـ كالمستطيع ـ على إطلاقه ، بل على خصوص الذات المقارنة للعلم بتشريع الحكم الذي تضمنته الكبرى المذكورة على اجماله ، ولا يلزم منه المحذور المتقدم ، وهو امتناع حصول العلم بالحكم ، لوضوح إمكان حصول العلم بالكبرى المذكورة لكل أحد ، فيعلم بالحكم تبعا لذلك. فتأمل جيدا.

ثم إنه يمكن اختصاص الاحكام الفعلية بخصوص العالم بوجهين


آخرين ..

الأول : أن تكون الأحكام التي تضمنتها الكبريات الشرعية اقتضائية لا فعلية ، ويكون العلم بها متمما لملاكها وشرطا لفعليتها ، فالعلم بالإضافة إلى الحكم الاقتضائي طريقي ، وبالاضافة إلى الحكم الفعلي موضوعي. وليس مأخوذا في نفس الحكم الذي هو طريق إليه كما هو محل الكلام.

الثاني : أن تكون الأحكام المذكورة فعلية ، إلا أن الجهل بها مطلقا أو مع وجود المعذّر من الحكم رافع لها ، لكونه سببا في حدوث ملاك مزاحم للملاك الواقعي مانع من تأثيره. وإلى هذا يرجع التصويب المحكي عن المعتزلة.

ولا إشكال في أن الوجهين المذكورين خلاف ظاهر الأدلة ، فلا بد فيها من دليل مخرج عنها. ويأتي في مبحث إمكان التعبد بغير العلم تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

بقي في المقام أمران :

الأول : أن اختصاص الحكم بحال الجهل به غير ممكن بنحو التقييد اللحاظي ، لاستلزامه أخذ المتأخر في المتقدم.

بل قد يدعى أنه لا مجال لذلك بنتيجة التقييد أيضا ، لاستلزامه لغوية جعل الحكم ، إذ الاثر المصحح له عرفا هو العمل المترتب على العلم ، فلو اختص بحال الجهل لم يكن صالحا لترتب العمل.

لكن هذا إنما يمنع من اختصاص الحكم بصورة عدم المنجز له ، ولا يمنع من اختصاصه بصورة الجهل بالحكم الذي يجتمع مع المنجز له ، فإن المعيار في العمل بالحكم على المنجّز له ولو لم يكن قطعا ، فيكون أثر جعل الحكم حينئذ ترتب العمل عليه بسبب غير العلم من المنجزات من الامارات والأصول.

غاية الأمر أن يكون العلم من سنخ الرافع للحكم ، لكونه سببا في حدوث


المزاحم له ، ولا محذور في ذلك. وما حكاه شيخنا الاستاذ عن بعض الأعاظم قدّس سرّه من امتناع كون القطع موجبا لتغير الملاك كي يتبعه الحكم. مما لم يتضح مأخذه لو تمت نسبته له.

الثاني : قال المرحوم الكاظمي في تقرير درس بعض الأعاظم قدّس سرّه : «وأما الأحكام العقلية فالعلم فيها دائما يكون موضوعا .. فإن حكم العقل بحسن شيء أو قبحه لا يكون إلا بعد العلم والالتفات الى الموضوع العقلي ، فلا يحكم العقل بقبح التصرف في مال الناس إلا بعد الالتفات إلى كونه مال الناس ..».

ولا يخفى ما في ظاهره من التدافع ، إذ بعد فرض كون الموضوع العقلي هو العنوان الواقعي ـ كالتصرف في مال الناس ـ كيف يكون العلم بالموضوع دخيلا فيه؟! فلا بد إما من الالتزام بأن الموضوع هو العلم بالعنوان ، لا العنوان الواقعي بنفسه ، أو بأن العلم بالعنوان طريقي محض لا موضوعي.

والذي ينبغي أن يقال : الحسن والقبح المنتزعان من الملاك المقتضي للعمل ، واللذان هما مفاد الكبريات العقلية موضوعهما العناوين الواقعية ، كالإحسان الى الناس ، والتصرف في أموالهم ، والحسن والقبح المترتبان على العمل الملازمان لاستحقاق المدح والذم والثواب والعقاب عليه موضوعهما العلم بالعناوين المذكورة ، لا العناوين بأنفسها.

والخلط بين المعنيين في غير محله ، نظير ما تقدم من الخلط بين قسمي القبح الفعلي عند الكلام في قبح التجري ، والذي عليه يبتني التفصيل المتقدم عن صاحب الفصول قدّس سرّه. فراجع.

الأمر الثاني : حيث عرفت امتناع أخذ القطع موضوعا في ما هو طريق إليه ، وأن القطع لا يكون موضوعيا إلا بالإضافة إلى حكم آخر غير ما قام عليه.

فاعلم : أن الأقسام الفرضية المتصورة للقطع الموضوعي كثيرة ،


والمناسب التعرض لما وقع الكلام فيه بينهم بلحاظ بعض الآثار المترتبة عليه فنقول :

القطع الموضوعي إما أن يتعلق بموضوع واقعي لا حكم له شرعا ، كقيام زيد ، أو بموضوع له حكم شرعي كالاستطاعة ، أو بنفس الحكم الشرعي ، كوجوب الحج.

لا إشكال في الأول.

وعلى الأخيرين فالحكم المترتب على القطع ..

تارة : يكون مماثلا لحكم المقطوع أو للحكم المقطوع به ، بان يتفقا نوعا ومتعلقا ، كما لو قال : إن علمت أنك مستطيع وجب عليك الحج ، أو : إن علمت أن الحج واجب عليك وجب عليك الحج ، مع فرض أن تمام موضوع وجوب الحج هو الاستطاعة ، وأن الوجوب الثابت بسبب العلم بها أو بوجوب الحج هو وجوب آخر غير ذلك الوجوب.

واخرى : يكون مضادا له ، كما لو قال : إن علمت أنك مستطيع حرم عليك الحج ، أو : إن علمت أن الحج واجب عليك حرم عليك الحج.

وثالثة : يكون مخالفا له بأن يتعدد متعلقهما ، كما لو قال : إن علمت انك مستطيع وجب عليك التصدق ، أو : إن علمت أن الحج واجب عليك وجب عليك التصدق.

لا إشكال في إمكان الأخير.

كما لا ينبغي الإشكال في امتناع الثاني ، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتضادين ولا يصححه اختلاف الحكمين رتبة ، لما ذكره غير واحد من أن الاختلاف الرتبي لا يصحح اجتماع الضدين. فإن ملاك التضاد بين الأحكام المانع من اجتماعها في متعلق واحد تنافيها في مقام العمل ، وهو لا يرتفع باختلاف الرتبة المذكور.


نعم ، لو فرض كون العلم رافعا للحكم الأولي بحيث يختص الحكم بحال الجهل به أو بموضوعه جرى فيه ما تقدم قريبا من الكلام في إمكان اختصاص العلم بحال الجهل.

وأما الأول فالظاهر أنه لا محذور فيه ، غايته أنه لا يجتمع الحكمان بحديهما في المتعلق الواحد ، بل يتعين البناء على ثبوت حكم واحد بمرتبة مؤكدة فيه ، لأن التكليف نحو إضافة ونسبة بين المكلّف والمكلّف والمكلّف به لا تقبل عرفا التعدد إلا مع تعدد بعض أطرافها.

ولو فرض اجتماع أكثر من جهة واحدة له كان المرتكز عرفا ثبوت تكليف واحد بمرتبة شديدة. وإن كان لا أثر ظاهرا للفرق بين التأكد والتعدد في المقام.

هذا ، وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن القطع الموضوعي ..

تارة : يكون مأخوذا بما هو صفة خاصة قائمة بالشخص.

واخرى : يكون مأخوذا بما هو طريق إلى الواقع المقطوع به.

وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه في بيان ضابط التقسيم المذكور أن القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، وجهة الحقيقية فيه قائمة بنفس القاطع من حيث قيام الصورة بذهنه ، وجهة الاضافة قائمة بذي الصورة ، وهي المتعلق ، فان اخذ موضوعا في الحكم بلحاظ الجهة الاولى كان من القسم الأول ، وإن اخذ بلحاظ الجهة الثانية كان من القسم الثاني.

وفيه : أن أخذه بلحاظ الجهة الاولى لا ينافي خصوصيته ، بأن يكون المأخوذ هو الكشف الخاص الحاصل في القطع ، لا مطلق الكشف ، فملاحظة كاشفيته لا تنافي كونه مأخوذا بما هو صفة خاصة ، كما صرح به المحقق الخراساني قدّس سرّه. قال : «يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه ، وأخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به».


وبعبارة اخرى : الغرض من التقسيم المذكور هو ما سيأتي من قيام الأمارات وبعض الأصول مقام القطع الموضوعي وعدمه ، وليس المعيار في الفرض المذكور ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من الضابط في التقسيم ، بل القطع إن اعتبر بنفسه وخصوصيته كان من القسم الأول ، من دون فرق بين أن يلحظ ما هو صفة خاصة قائمة بالقاطع ، وأن يلحظ بما هو كاشف خاص متعلق بالمقطوع به. وإن اعتبر بما أنه إحراز للمقطوع مستتبع للعمل عليه ومصحح للبناء عليه كان من القسم الثاني.

وقد يترتب على ذلك قيام غيره من الامارات والأصول المحرزة مقامه. لكن لا من جهة تنزيلها منزلته ، بل لأنها أفراد حقيقية للموضوع مثله ، لأن الموضوع في الحقيقة مطلق الإحراز لا خصوص الإحراز بالقطع ، وذكر القطع في الأدلة بما أنه أحد الأفراد لا لخصوصيته.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه في ضابط التقسيم ، ولعله يأتي زيادة توضيح لذلك في الأمر الثالث.

ثم إن المحقق الخراساني قدّس سرّه ذكر أن القطع بقسميه السابقين ..

تارة : يؤخذ تمام الموضوع للحكم ، فيترتب الحكم معه وإن كان خطأ.

واخرى : يكون جزء الموضوع وجزؤه الآخر هو الواقع الذي تعلق به ، فلا يترتب الحكم إلا مع إصابة القطع للواقع. فتكون الأقسام أربعة.

وقد استشكل بعض الأعاظم قدّس سرّه في إمكان أخذه تمام الموضوع مع أخذه على نحو الطريقية من جهة أن أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع بوجه ، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظه ، كما هو الشأن في كل طريق ، حيث يكون لحاظه طريقا لحاظا لذي الطريق في الحقيقة.

وفيه : أن أخذ الطريق في موضوع الحكم بما هو طريق إنما يقتضي لحاظ طريقيته للواقع وأخذها في الموضوع وهو يستلزم النظر للواقع تبعا لا على أن


يكون دخيلا في موضوع الحكم ، بل كما يمكن أن يكون دخيلا فيه يمكن أن يكون أجنبيا عنه.

ولو فرض كون الواقع هو الملحوظ الاستقلالي ـ والقطع آلة له فان فيه ـ خرج عن القطع الموضوعي وكان طريقيا محضا خارجا عن محل الكلام.

وبالجملة : أخذ القطع في الموضوع بما هو طريق وإن اقتضى ملاحظة الواقع لكونه طرف الإضافة إلا أنه لا يقتضي أخذه في الموضوع معه ، بل يمكن أن يكون تمام الموضوع هو الانكشاف الحاصل به ، كما ذكر ذلك شيخنا الاستاذ دامت بركاته ، فما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من الأقسام الأربعة ممكنة بأجمعها.

الأمر الثالث : حيث عرفت أن القطع ..

تارة : يكون طريقيا.

وأخرى : يكون موضوعيا.

فيقع الكلام هنا في قيام الطرق والأصول مقامه بقسميه.

وحيث كان الكلام في ذلك مبنيا على الكلام في مفاد أدلة الطرق والأصول كان المناسب التعرض هنا لذلك مقدمة لمحل الكلام ، وإن كان محله مباحث الحجج والأصول.

وكلماتهم في ذلك مختلفة جدا ، وما يمكن تحصيله منها على اختلافها وجوه ..

الأول : أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأصول تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع عند تحقق موضوعاتها ، فكما يكون الواقع موردا للعمل تكون هي موردا له ، كما هو الحال في سائر موارد التنزيل.

وفيه .. أولا : أنه لا ظهور للأدلة في ذلك بوجه ، فإن ظهورها في كون التعبد


بلحاظ العمل يقتضي كونها موردا للعمل كالواقع ، من دون دلالة على كونه بعناية التنزيل المذكور.

بل لسان التعبد بمضامين الطرق والأصول مباين للسان التنزيل ، لوضوح أن مفاد الطرق بيان الواقع ، فمفاد أدلة اعتبارها لزوم البناء على كون مضمونها هو الواقع ، لا تنزيل أمر آخر منزلته. ومفاد الأصول لزوم التعبد بالعناوين الموضوعية ـ كالتذكية ـ والحكمية ـ كالحلية والطهارة ـ ولزوم البناء عليها في مقام العمل ، لا تنزيل العناوين المتعبد بها منزلة العناوين الواقعية ، بل هو أمر آخر متأخر رتبة عن التعبد ، لكونه نحو نسبة بين الأمر المتعبد به والواقع ، فيحتاج إلى دليل آخر لا ينهض به دليل التعبد.

اللهم إلا أن يدعى أن التنزيل إنما هو بين موضوع الأصول والمحكوم بالحكم الواقعي ، لا بين مفاد الأصول والواقع ، فمرجع قوله عليه السّلام : «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر» ، إلى تنزيل مجهول الحال منزلة الطاهر في ثبوت أحكامه له ، والحكم عليه بالطهارة ادعاء بلحاظ الأحكام الثابتة للطاهر ، لا الحكم عليه بها حقيقة في مقام الظاهر ، ثم تنزيلها منزلة الطهارة الواقعية ، ليتجه الإشكال المتقدم.

نعم ، هو خلاف الظاهر ، لأن ظاهر الحكم بشيء هو الحكم به حقيقة لا ادعاء وتنزيلا.

ودعوى : تعذر الحمل على الحكم الحقيقي ، لتبعيته للواقع ، لا للجهل به ، فيتعين الحمل على الحكم الادعائي.

مدفوعة : بأن الحمل على الادعاء والتنزيل لا يرفع المحذور المذكور ، إذ التنزيل إنما يصح بلحاظ أحكام المنزل عليه ، وهي ـ كالعنوان المحكوم به ـ تابعة لموضوعاتها الواقعية أيضا ، فكما يصح الحكم بالعنوان ادعاء وتنزيلا بلحاظ أحكامه مع عدم ثبوتها واقعا ، كذلك يصح الحكم الحقيقي بالعنوان نفسه


مع عدم ثبوته واقعا.

ومنه يظهر أن الحمل المذكور لا يصلح لرفع محذور الاختلاف بين الحكم الواقعي والظاهري وإنما هو يبتني على ظهور الأدلة في ذلك ، وقد عرفت عدمه.

وثانيا : أن التنزيل المذكور ـ لو تم ـ إنما يتعقل في التعبد بموضوعات الأحكام التكليفية ـ كالطهارة والتذكية والرطوبة ـ فيدعى أن الحكم بها ليس حقيقيا ، بل هو ادّعائي بلحاظ أحكامها الشرعية ، بخلاف التعبد بنفس الأحكام التكليفية ـ كالحل والحرمة ـ لعدم كونها موضوعا لأحكام شرعية يصح بلحاظها التنزيل. وأحكامها العقلية ـ كوجوب الإطاعة ـ مختصة بها ، ولا تنالها يد الجعل الشرعي ، حتى يمكن التنزيل بلحاظها.

إلا أن يلتزم في ذلك بجعل المؤدى حقيقة ، وأن معنى تنزيله منزلة الواقع جعله كالواقع ، فيكون مؤدى دليل الاعتبار في الطرق والأصول الموضوعية جعل أحكام تلك الموضوعات ، وفي الطرق والأصول الحكمية جعل نفس تلك الأحكام.

وهو ـ كما ترى ـ لا يناسب اتحاد لسان دليل الاعتبار في المقامين ، بل رجوعهما إلى خطاب واحد جامع لهما في كثير من الطرق والأصول. مضافا إلى استلزامه جعل الحكم الظاهري في قبال الحكم الواقعي ، وهو لا يخلو عن إشكال يأتي الكلام فيه في محله.

ومن ثمّ يتعين حمل التنزيل المذكور ـ لو ورد ـ على الكناية عن حجية الطرق في إحراز الواقع وترتيب آثاره ، فيرجع إلى الوجه الرابع ، الذي يأتي الكلام فيه.

الثاني : أن مفاد أدلة الطرق هو تنزيلها منزلة العلم وإلغاء احتمال الخلاف معها ادعاء لأجل التنزيل المذكور ، فكما يلزم العمل مع العلم يلزم بقيامها.


وكذا الاستصحاب بدعوى : أن مفاد دليله تنزيل الشك في مورده منزلة اليقين ، فيترتب عليه آثار اليقين من لزوم العمل وغيره. وأما بقية الأصول فلا بد من توجيهها بوجه آخر ، ويأتي الكلام فيها بعد الفراغ من الوجه الرابع.

وفيه .. أولا : أنه لا مجال لاستفادة التنزيل المذكور ، لعدم تضمّن أدلة الاعتبار له صريحا كما أنها لم تتضمن توصيف الطرق بأنها علم حتى يحمل بقرينة مباينتها للعلم على التنزيل والادعاء. وغاية ما تدل عليه لزوم متابعتها عملا ، من دون دلالة على كون ذلك متفرعا على لزوم متابعة العلم وفي طوله وبعناية تنزيلها منزلته.

كيف وقد سيقت في بعض الأدلة في مقابل العلم دون إشعار بالتنزيل المذكور ، ففي رواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة».

ودعوى : أن مقتضى الجمع بينه وبين قوله عليه السّلام في صدرها : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» كون البينة أحد فردي العلم شرعا.

مدفوعة : بأن الجمع بينهما يقتضى حمل العلم في الصدر على مطلق الحجة والكاشف الذي يترتب عليه العمل ، لا تنزيل البينة منزلة العلم الوجداني الذي هو محل الكلام.

ودعوى : أن غالب الطرق حجة ببناء العقلاء الممضى شرعا ، وحيث كان مقتضى المرتكزات العقلائية تنزيلها منزلة العلم وإلغاء احتمال الخلاف معها تعين حمل أدلة الإمضاء الشرعية على ذلك.

مدفوعة : بأن المتيقن من بنائهم العمل بالطرق المذكورة والبناء على ترتب مضمونها وعدم الاعتناء عملا باحتمال خطئها ، وذلك وإن أوجب اشتراكها عندهم مع العلم في مقام العمل ، إلا أنه لا يقتضي كون العمل بها بعناية تنزيلها منزلته بإلغاء احتمال الخلاف ادعاء.


بل لا معنى لابتناء الارتكاز والسيرة المذكورين على التنزيل المذكور ، إذ التنزيل إنما يتجه في الأحكام المستفادة من الأدلة اللفظية ، حيث يكون الفرض منه تسرية الحكم الثابت بحسب ظاهر الدليل للعنوان إلى الفاقد له ، كما في : الطواف بالبيت صلاة.

أما الأدلة اللبية فيغني قيامها على ثبوت الحكم لفاقد العنوان عن عناية التنزيل منزلته. وأما الاستصحاب فلا ظهور لدليله في التنزيل المذكور أيضا ، بل لا يستفاد منه إلا وجوب البناء على مقتضى اليقين في حال الشك على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ومما ذكرنا هنا وفي الوجه الأول يظهر حال ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من ظهور أدلة الاعتبار في التنزيلين معا ، أعني تنزيل الطريق منزلة العلم وتنزيل المؤدى منزلة الواقع المعلوم.

ويأتي تمام الكلام في ما ذكره قدّس سرّه عند الكلام في قيام الطرق مقام القطع الموضوعي.

وثانيا : أن التنزيل منزلة العلم إنما يصح بلحاظ الآثار العملية الشرعية للعلم لو فرض أخذ العلم موضوعا في بعض الآثار ، لا بلحاظ الآثار التكوينية أو العقلية له ، لوضوح أن الاولى تابعة لأسبابها ، والثانية تابعة لموضوعاتها الواقعية ولا تقبل التصرف الشرعي بجعلها على موضوع آخر ، ولازم ذلك عدم قيامها مقام القطع الطريقي ، مع أن قيامها مقامه هو المتيقن من أدلة جعلها ، وهو كاشف عن عدم ابتناء جعل الطرق على تنزيلها منزلة العلم بعناية اشتراكها معه في الأحكام الشرعية الثابتة له ، بل لو فرض ظهور الأدلة في تنزيل الطرق منزلة القطع فلا بدّ ، إما من ..

دعوى : أنه راجع إلى تنزيل المؤدى منزلة الواقع بأن يلحظ القطع والطريق في مقام التنزيل بما هما آلة لمتعلقيهما وطريق لملاحظته من دون


لحاظ لهما باستقلالهما ـ كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ فيرجع هذا الوجه إلى الوجه الأول ، ويجري فيه ما سبق.

أو دعوى : أن التنزيل المذكور إنما هو بلحاظ آثار القطع العقلية والتكوينية من ترتب العمل ووجوب الإطاعة ونحوها ، لكن لا بجعلها ابتداء ، بل بتوسط جعل موضوعاتها وهي الأحكام الشرعية المطابقة للمؤديات ، فإن كان المؤدى حكما كان مرجع التنزيل إلى جعله ، وإن كان موضوعا كان مرجعه إلى جعل حكمه ، ويكون الحكم المجعول ظاهريا ، بناء على إمكان جعل الحكم الظاهري.

أو دعوى : أن التنزيل المذكور كناية عن التكليف شرعا بالعمل على طبقها على أن يكون التكليف المذكور طريقيا لحفظ الواقع المحتمل الذي قامت عليه ، نظير التكليف بالاحتياط في بعض الموارد.

أو دعوى : أنه كناية عن حجية الطرق على مؤدياتها ومحرزيته بها كالقطع ، وهو الظاهر كما أشرنا إليه في الوجه الأول ، ويأتي توضيحه في الوجه الرابع.

الثالث : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن مفاد أدلة الطرق والأصول جعلها علما تعبدا لكن من حيث كونه طريقا وكاشفا. وقد ذكر في توضيح ذلك : أن في القطع ثلاث جهات مترتبة ..

الأولى : أنه صفة حقيقية قائمة بالقاطع.

الثانية : جهة إضافة الصورة لذي الصورة ، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيته له وإراءته للواقع المنكشف به.

الثالثة : جهة البناء والجري العملي على وفقه ، ولعله لذا سمي اعتقادا ، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد.

ولا يشاركه في الجهة الاولى شيء ، بل تشاركه الطرق المجعولة في


الجهتين الاخريين ، حيث كان مفاد أدلة اعتبارها جعلها علما شرعا بتتميم كشفها وطريقيتها للواقع. ومن ثمّ اعتبر في الطرق أن تكون لها في حدّ ذاتها جهة كشف ، وليس من الشارع إلا تتميمه بإلغاء احتمال الخلاف شرعا ، ويترتب على ذلك الجري العملي عليها.

أما الأصول التنزيلية فهي تشاركه في الجهة الثالثة فقط ، فالمجعول فيها الجري والبناء العملي على الواقع ، الذي كان في العلم قهريا وفي الأصول تعبديا ، دون الكشف والطريقية ، إذ ليس للشك الذي هو الموضوع فيها جهة كشف أصلا.

وفيه .. أولا : أن التعبد والاعتبار إنما يتناول الحقائق الجعلية ، دون الحقائق المتأصلة ، كالعلم والانكشاف ونحوهما من الصفات الحقيقية التي لها ما بإزاء في الخارج ، فلا معنى لاعتبار الطرق علما وخلع صفته لها تشريعا. وكما لا يمكن اعتباره في غير مورده بما هو صفة خاصة لا يمكن اعتباره بما هو كاشف ، لأن الانكشاف من الأمور الحقيقية المقومة لذات العلم ، فكما لا يمكن سلخ العلم عنه تشريعا لا يمكن جعله لغيره كذلك.

وأشكل من ذلك ما رتبه قدّس سرّه عليه من لزوم كون الطرق لها في حدّ ذاتها جهة كشف تممها الشارع.

اذ مع فرض أن العلم والكشف مما يقبل الجعل والتشريع لا فرق في جعله بين ما فيه كشف ذاتي ناقص وغيره ، فكما يمكن تتميم الكشف في الأول يمكن إحداثه بتمامه في الثاني.

وثانيا : أنه لو سلم إمكان الجعل المذكور ، إلا أنه لا مجال لاستفادته من الأدلة ، لما ذكرناه في الوجه الثاني. بل الجعل المذكور محتاج إلى عناية خاصة لا إشعار في الأدلة بها.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم حملها على ذلك ، بقرينة ورودها


مورد الإمضاء لبناء العقلاء في العمل بالطرق المذكورة ، لابتناء عملهم بها على معاملتها معاملة القطع الوجداني.

ففيه : أن بناء العقلاء إنما هو على العمل بالطرق المذكورة وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف ، لا على البناء تشريعا على كونها علما والتعبد بذلك ، فإن ذلك كسائر الأحكام محتاج إلى عناية خاصة لا طريق لاستفادته من سيرة العقلاء ومرتكزاتهم.

وثالثا : أن الجهة الثالثة التي ذكرها للقطع من البناء والجري العملي وعقد القلب على الواقع المقطوع ليس من مقومات القطع ، بل مما يترتب عليه في الجملة ، فإن القاطع قد يعقد قلبه على ما يقطع به ، وقد يعقد قلبه على خلافه جحودا.

ولو سلم ملازمة القطع للاعتقاد فالأصول لا تقوم مقامه فيه ، لوضوح عدم كون المطلوب فيها الاعتقاد بثبوت مؤداها ، ولا جعله تشريعا ، بل مجرد البناء العملي ، وهو مباين للاعتقاد الحاصل بالقطع.

إلا أن يكون مراده من ذلك محض البناء العملي الذي لا إشكال في ثبوته في الطرق والأصول ، كما سيأتي.

الرابع : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في خصوص الطرق والأمارات من أن مفاد أدلة اعتبارها جعل حجيتها. قال قدّس سرّه : «والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ ، ولكون مخالفته وموافقته تجريا وانقيادا مع عدم إصابته ، كما هو شأن الحجة غير المجعولة».

ويظهر من بعض مشايخنا أنه فهم منه كون الحجية عبارة عن المنجزية والمعذرية ، فأورد عليه بأن المعذرية والمنجزية من الأحكام العقلية التابعة لموضوعها ، وهو البيان ، فلا مجال لجعلها في غير موضوعها ، لامتناع تخصيص


الحكم العقلي.

وفيه : أن ظاهر كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه المتقدم أن الحجة المجعولة عبارة عن معنى اعتباري مستلزم للمعذرية والمنجزية ، وليست عينهما ، فلا يلزمه تخصيص الحكم العقلي ، بل عموم موضوعه لصورة قيام الحجة وعدم اختصاصه بالعلم ، ولا محذور في ذلك.

نعم ، أورد عليه بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه بعدم مساعدة الاعتبار عليه ، إذ هو متفرع على اعتبار الواسطة في القطع بين كاشفيته ومعذريته ومنجزيته ، وأن ترتبهما عليه ليس بمجرد كاشفيته ، بل بتوسط الحجية المتفرعة عليها المجعولة في الطرق ، ولا يساعد على ذلك التدبر في المرتكزات العقلية ، إذ ليس المصحح للمعذرية والمنجزية في القطع بنظر العقل إلا كاشفيته.

ومن ثم يظهر منه قدّس سرّه أن مرجع جعل الحجية إلى تكاليف شرعية طريقية بالعمل على مقتضى الحجة لحفظ الواقع المحتمل ، نظير أوامر الاحتياط ، فتكون التكاليف المذكورة بسبب العلم بها موضوعا لوجوب الإطاعة عقلا كالتكاليف الواقعية.

ولعله إليه يرجع ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مسألة البقاء على تقليد الميت من أن الحجّية منتزعة من الحكم الظاهري الراجع إلى الأمر بالعمل على الواقع على تقدير المصادفة ـ نظير أوامر الاحتياط ـ وإلى الترخيص على تقدير المخالفة فإن ذلك هو منشأ صحة الاعتذار والاحتجاج.

لكن ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من عدم توسط الحجية في القطع بين كاشفيته ومنجزيّته ومعذّريّته وإن كان متينا جدا ، إلا أنه لا ينافي كون الحجية أمرا اعتباريا مجعولا في غير القطع من الطرق والأمارات ، وذلك لأن الانكشاف التام في القطع بنفسه مقتض للعمل على الواقع بلا حاجة للحجية ، إذ يكفي في العمل بالواقع وصوله ، كما سبق في الفصل الأول ، بخلاف الطرق


والأمارات ، فإن عدم وصول الواقع معها موجب لقصوره عن تأثير فعلية العمل ، فيحتاج فيه إلى جعل الحجية لها لتصلح للتعبد بالواقع وإحرازه شرعا.

ومن ثمّ سبق أنه لا مجال لوصف القطع بالحجية في مقام العمل ، لعدم الاعتماد عليه فيه ، بل النظر للواقع وحده ، بخلاف الطرق ، فإن ترتيب الأثر على الواقع يبتني عليها ، فهي في مقام العمل ملتفت إليها في طول الالتفات للواقع.

كما سبق أيضا أن عدم ترتب العمل عليها يرجع تارة إلى إهمالها ، واخرى إلى اهمال الواقع الذي قامت عليه ، بخلاف عدم العمل مع القطع ، فإنه مستلزم لاهمال الواقع المقطوع به لا غير.

وبالجملة : عدم توسط الحجية في القطع بين كاشفيته ومنجزيته ومعذريته لا ينافي كون الحجية من الأمور الاعتبارية المجعولة في الطرق التي لا كشف لها في نفسها ، فملاك العمل فيها مباين لملاك العمل بالقطع ، لا متحد معه راجع إليه ـ إما لكونها موضوعا لأحكام طريقية مقطوعا بها ، كما ذكره قدّس سرّه ، أو لكونها علما شرعا بالإضافة إلى الواقع ، كما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ فإنه تكلف لا تناسبه المرتكزات العقلائية.

وكأنه ناشئ من تخيل اختصاص المعذرية والمنجزية بالعلم ، لعموم قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، بحمل البيان في الاولى على ظاهره ، وهو العلم الذي هو صريح اليقين في الثانية ، مع الغافلة عن أن القاعدتين المذكورتين ليستا مأخوذتين من أدلة لفظية ، حتى يتجه الجمود على ظواهرها ، بل هما قاعدتان لبيتان ارتكازيتان وقع التعبير عنهما في كلماتهم بما تقدم تسامحا لوضوح المقصود ، فلا ينبغي الجمود على مفاد الألفاظ المذكورة ، بل يلزم النظر إلى مفاد القاعدتين ارتكازا ، وهو يقتضي ما ذكرنا من أن الموضوع فيها ما يعم قيام الحجة ، من دون حاجة إلى ارجاعه للعلم.


ومما ذكرنا يظهر أنه لا موجب للبناء على كون الحجية منتزعة من الحكم الطريقي ، وهو وجوب العمل بالحجة شرعا.

كيف ولازمه كون الحجية في الأحكام الإلزامية مباينة للحجية في الأحكام الترخيصية؟! لاختلاف منشأ انتزاعهما ، لان الاولى منتزعة من وجوب العمل بالحجة ، والثانية منتزعة من جوازه لا وجوبه.

مضافا الى أن المرتكز وجوب العمل بالحجة من الأحكام العقلية المتفرعة على الحجية ، والحجية من الأمور الاعتبارية القابلة للجعل ، كما يشهد به التوقيع الشريف : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (١) ، فانه ظاهر في تأصل الحجية بالجعل وترتب العمل عليها ، لا أنها منتزعة من وجوب العمل ، على ما هو التحقيق في سائر الأحكام الوضعية ، وإن فارقتها في أن ترتب العمل عليها عقلي ، وعلى سائر الأحكام الوضعية شرعي.

على أن مجرد الأمر بالعمل على طبق الطريق لا يستلزم حجيته ، بل إن كان تعبديا لمحض احتمال إصابة الواقع نظير الأمر بالاحتياط لم يستلزم الحجية ، وإن كان متفرعا على صلوح الطريق شرعا لإثبات مؤداه ، بحيث يعتمد عليه في البناء عليه ويكون العمل بالمؤدى بعد ثبوته به ، كما يعمل عليه مع انكشافه بالعلم الوجداني ، كان مستلزما للحجية. ومرجع ذلك إلى أن الحجية أمر اعتباري قابل للجعل يترتب عليه العمل عقلا ، كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه وليست منتزعة من وجوب العمل على طبق الطريق ، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

نعم ، وجوب العمل عقلا بالحجة طريقي في طول وجوب إطاعة التكاليف الشرعية ، لرجوعه إلى إحراز الصغرى بعد الفراغ عن الكبرى. كما أن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ١٠١ باب ١١ من أبواب صفات القاضي حديث ٩.


جعل الحجية شرعا طريقي لإحراز الأحكام الواقعية الشرعية ، فإن الشارع الأقدس ـ كسائر الحكّام ـ كما يكون له جعل الحكم ثبوتا يكون له أن يعبد به إثباتا في ظرف الجهل به بجعل الحجة الحاكية عنه ، بحيث يكون مفاد أدلة جعلها محرزيتها شرعا به ، فيجب العمل على مقتضى ذلك ، كما هو الحال مع العلم ، من دون أن يكون وراءها شيء إلا الواقع ، فان أصابته فهو ، وإن أخطأته فليس هناك إلا تخيل ثبوته ، كما في خطأ القطع.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل ، حيث ذكر أن مؤديات الحجج في صورة الخطأ أحكام صورية ، ناشئة من إطلاق حجيتها من دون إناطة بصورة الاصابة ، لامتناع التمييز معها.

وأما لو أريد ظاهره من استتباع الحجية لحكم صوري في صورة الخطأ ، فيشكل ..

أولا : بما عرفت من عدم استتباع الحجية لجعل حكم ظاهري حتى في صورة الاصابة ، بل هي لا تتضمن إلا التعبد بالواقع وإحرازه.

وثانيا : بأنه لو فرض استلزام جعل الحجية لجعل حكم على طبق الحجة ، فلا معنى لكون الحكم المذكور صوريا في صورة الخطأ مع كون الحجية حينئذ حقيقية ، والالتزام بأن الحجية حينئذ صورية مستلزم لعدم ترتب الأثر عليها مع احتمال الخطأ.

والحاصل : أن الحجية معنى اعتباري قابل للجعل يتضمن كون الشيء بنحو صالح لأن يعتمد عليه في إحراز الواقع والبناء عليه في مقام العمل ، ولازم ذلك عقلا منجزيته ومعذريته. ولعل هذا هو مراد بعض الأعاظم قدّس سرّه من المحرزية والوسطية في الإثبات ، وإن كان لا ينبغي التعبير بتتميم الكشف وبأن الحجة من أفراد العلم شرعا ، كما تقدم.

وكأنه قد التبس عليه عدم الاعتناء باحتمال الخلاف عملا اللازم من جعل


الحجة بالغائه ورفعه تعبدا وشرعا اللازم من تتميم الكشف.

ثم إنه حيث كان ما ذكرنا في معنى الحجية هو المرتكز عرفا في الطرق والأمارات لزم حمل أدلة اعتبارها على اختلاف ألسنتها على ذلك ، كما أشرنا إليه في الوجهين الأولين. فتأمل جيدا.

هذا كله في مفاد أدلة جعل الطرق ، وأما أدلة الأصول فهي قسمان :

الأول : ما يتضمن التعبد بالعنوان الحكمي كالحل والطهارة ، أو الموضوعي كعدم التذكية.

الثاني : ما لا يتضمن ذلك ، بل يقتضي العمل في ظرف الشك من دون توسط التعبد المذكور.

أما الأول فكالاستصحاب وأصالتي الحل والطهارة وغيرها.

وقد ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل أن مفاد أدلته أحكام حقيقية ، قال : «وأما الأصول التعبدية ـ كأصالة الإباحة ، والطهارة ، والاستصحاب في وجه ـ فهي أحكام شرعية فعليه حقيقية ، بداهة أن : كل شيء حلال إباحة فعلية وترخيص حقيقي في الاقتحام في الشبهة من الشارع ، كالترخيص في المباحات الواقعية ، والتفاوت بين الترخيصين بكون موضوع أحدهما الشيء بعنوانه الواقعي ، وموضوع الآخر بعنوان كونه مجهول الحكم لا يوجب التفاوت بينهما بالحقيقة والصورة ، كما لا يخفى».

وهذا هو الظاهر من كثير منهم ، ومن ثمّ توجه الإشكال في جمع الحكم المذكور مع الحكم الواقعي.

هذا ، ولكن ارتكاز التنافي بين جعل الحكم في ظرف الشك مع إطلاق موضوع الحكم الواقعي ـ المستفاد من الغاية التي تضمنتها الأدلة المذكورة ، لظهورها في أن العلم بالواقع طريق محض لا دخل له في الحكم الواقعي أصلا ـ مانع من ظهور الأدلة المذكورة في جعل الحكم في ظرف الشك ، بل هي ظاهرة


في التعبد بالحكم أو الموضوع عند الشك فيها ، الذي هو بمعنى البناء على تحققهما إثباتا ، فلا ينافي ثبوت الحكم الواقعي بوجه.

وبعبارة اخرى : ليس في المقام نوعان من الحكم : واقعي وظاهري ، بل الحاكم ..

تارة : يجعل الحكم على موضوعه ثبوتا ويعتبره في عالمه.

واخرى : يعبد به أو يعبد بموضوعه المستلزم للتعبد به عرفا ، بنحو يقتضي البناء على أحدهما إثباتا في مقام ترتيب الأثر عملا بعد الفراغ عن مقام الثبوت وفي رتبة متأخرة عنه ..

والأول هو مفاد الأدلة الاجتهادية على الأحكام الشرعية التي اطلق عليها في كلماتهم الأحكام الواقعية.

والثاني هو مفاد أدلة الأصول ، وليس مفادها الأول ، لما ذكرناه من القرينة. بل هو مقتضى مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية العرفية ، إذ الجهل لما كان يقتضي التحير في الحكم المجهول في مقام العمل احتيج معه إلى ما يرفع التحير المذكور ، فكان المناسب ورود أدلة الأصول لذلك بالتعبد بما هو المجهول بنحو يستتبع العمل به ، لا لجعل حكم آخر ، إذ الجهل بنفسه لا يقتضي الحاجة لذلك حتى تنصرف الأدلة له.

ومنه يظهر الفرق بين القضايا المذكورة التي موضوعها الجهل وسائر القضايا الحملية التي يكون موضوعها الذات ، فإن فرض الذات بنفسها لا يقتضي فرض التحير المحوج للتعبد في مقام الإحراز والبناء العملي ، بل لا معنى للتعبد في المقام المذكور إلا بعد الفراغ عن ثبوت شيء يحتاج إلى ذلك ، فيتعين حمل القضايا الحملية على جعل الحكم في مقام الثبوت.

وهذا بخلاف فرض الجهل في أدلة الأصول ، فإنه ملازم لفرض واقع مجهول يمكن التعبد به ، في مقام الإحراز العملي بل يحتاج إليه لرفع التحير


الحاصل من الجهل.

بل ما ذكرنا كالصريح من دليل الاستصحاب ، لعدم التعرض فيه لما يوهم جعل المستصحب أو أحكامه بوجه ، كيف ولازمه التفكيك بين الاستصحاب الموضوعي والحكمي ، بحمل الثاني على جعل المستصحب نفسه ، والأول على جعل أحكامه ولا مجال لذلك مع اتحاد دليلهما. بل ليس التعرض فيه إلا للزوم العمل على مقتضى اليقين بعد ارتفاعه ، وحيث أن اليقين لا يقتضي جعل المتيقن ، بل البناء والعمل على ثبوته كان مفاد الاستصحاب ذلك لا غير.

بل ما تضمن التعبد بالعنوان لما ورد بعضه في الحكم الشرعي القابل للجعل ـ كقاعدتي الطهارة والحل ـ وبعضه في الموضوع الخارجي غير القابل للجعل ـ كقاعدة الفراش ، كان حمله على الجعل مستلزما لتنزيل الأول فيه على جعل نفس العنوان الذي تضمنته القاعدة ، والثاني على جعل أحكامه ، وهو تفكيك لا يناسب تقارب لسان الدليلين بخلاف حمله على التعبد الذي ذكرناه ، حيث لا مانع من البناء عليه في القسمين بنحو واحد بلا محذور.

وبالجملة : التأمل في لسان أدلة الأصول بعد الرجوع للمرتكزات شاهد صدق بأن مفادها ليس هو جعل العناوين المحمولة ، بل التعبد بها في ظرف الشك فيها الراجع إلى لزوم البناء عليها في مقام العمل ، خصوصا في العناوين الموضوعية الصرفة التي لا تنالها يد الجعل الشرعي ، فإنه أولى من حمل الحكم بها على جعل أحكامها ، لأنه خروج عن الظاهر بلا وجه.

ومن القريب جدا أن يكون هذا هو مراد بعض الأعاظم قدّس سرّه مما تقدم منه في الأصول ، كما أشرنا إليه آنفا.

ومن جميع ذلك ظهر عدم الفرق بين مفاد أدلة الطرق والأمارات وأدلة الأصول ، بل هي تشترك في التعبد بالمشكوك.

غاية الأمر أن التعبد به في الثانية ابتداء ، وفي الاولى بتوسط قيام الحجة


عليه التي يتضمن لسان دليل جعلها الكشف عنه وبيانه بها.

ومن هنا كان اللازم العمل على الأدلة المذكورة ، لعدم منافاتها لأدلة الأحكام الواقعية بوجه حتى في مورد الخطأ ، لعدم اقتضائها جعل حكم في قبال الحكم المجعول فيها. بل التعبد بها في مقام العمل وإحرازها إثباتا ، مع الفراغ عن مقام الثبوت والجعل وفي رتبة متأخرة عنه ، فالخطأ فيها كالخطأ مع القطع لا ينافي الحكم الواقعي بوجه ، كما لا ينافي دليله.

وكأن هذا هو مراد بعض الأعاظم قدّس سرّه من الحكومة الظاهرية ، وإلا فالحكومة عندهم من حالات الدليلين المتعارضين ، ولا تعارض بين الأدلة في المقام لا واقعا ولا ظاهرا ، كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يظهر ارتفاع إشكال اجتماع الحكم الواقعي والظاهري من أصله. ويأتي تمام الكلام في ذلك في مبحث التعبد بغير العلم إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني فهو منحصر ظاهرا بأصالتي البراءة والاحتياط الشرعيين ، فإنهما وإن تضمنتا العمل ، إلا أن العمل المذكور ليس بتوسط البناء على ما يقتضيه ، لعدم تضمنهما التعبد بثبوت الحكم الترخيصي أو التكليفي ، بل لجعل العمل في حال الشك من حيث هو.

ولا إشكال في البراءة ، لأنها على مقتضى حكم العقل فمفاد أدلتها إما إمضاء لحكمه بقاعدة قبح العقاب من غير بيان ، أو بيان عدم جعل وجوب الاحتياط.

وإنما وقع الإشكال في الاحتياط ، لأن المرتكز عرفا كون العقاب معه في ظرف المخالفة على الواقع المفروض عدم بيانه ، فيكون العقاب منافيا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقد أطال الأعاظم (قدس الله أسرارهم) في توجيه ذلك.

ولعل الأولى أن يقال : التأمل في المرتكزات العقلية قاض بأنه كما يكون للحاكم جعل الحكم ثبوتا ، ويكون له التعبد به في ظرف الشك فيه ..


تارة : بتوسط نصب الحجة عليه.

واخرى : بدونه ، كما في الأصول التعبدية ، كذلك له التصدي لحفظ التكليف ببيان اهتمامه بحفظه بنحو يقتضي الاحتياط في ظرف الشك فيه أو الفحص عنه وتعلمه ، فوجوب الاحتياط كوجوب التعلم حكم عقلي طريقي راجع لتنجز التكليف عقلا بسبب بيان الشارع اهتمامه بحفظه ، الذي يكفي بنظر العقل في صحة العقاب عليه مع الجهل به.

ولا مجال مع ذلك لدعوى منافاته لعموم قاعدة قبح للعقاب بلا بيان ، لأن القاعدة المذكورة لما كانت عقلية ارتكازية ، ولم تؤخذ من أدلة لفظية ، فلا مجال للتمسك بعمومها في غير مورد الارتكاز ، وهي مختصة ارتكازا بما إذا لم يتصدّ الحاكم لحفظ حكمه وأوكل الأمر لحكم العقل ، أما إذا تصدى لحفظه وبيّن اهتمامه به فلا حكم للعقل بذلك ، بل يحسن العقاب عليه بنظر العقل عند المخالفة ، فبيان الشارع اهتمامه بالتكليف الواقعي بالنحو المذكور رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب وإن لم يكن رافعا للجهل.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا موجب لما تكلفه بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن وجوب الاحتياط نفسي وعلّته حفظ التكليف الواقعي في ظرف الجهل به ، وأنه إن خولف فإن كان التكليف الواقعي ثابتا استحق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي المعلوم ، لا على مخالفة الواقع المجهول ، وإن لم يكن التكليف الواقعي ثابتا فلا عقاب. لأن وجوب الاحتياط لما كانت علته حفظ الواقع ، فمع عدمه لا وجوب له واقعا ، لتبعية الحكم لعلته وجودا وعدما.

مضافا إلى الإشكال فيه ..

أولا : بظهور أدلة الاحتياط ـ لو تمت ـ في أن العقاب على الواقع في ظرف مخالفته ، كما يشهد به مثل قولهم عليهم السّلام : «من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».


وثانيا : بأنه إذا فرض كون علة وجوب الاحتياط حفظ الواقع ، بحيث يكون تابعا له وجودا وعدما كان جعله لاغيا ، للشك في ثبوته تبعا للشك في تحقق علته ، فلا يصلح لأن يترتب عليه العمل.

وأشكل منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن التكليف بالاحتياط يصلح لبيان التكليف الواقعي المجهول في ظرف وجوده.

لما هو المعلوم من عدم كون لسان وجوب الاحتياط لسان بيان للواقع لا في ظرف وجوده ولا في ظرف عدمه.

وقد أطال قدّس سرّه في ذلك ، كما أطال غيره فيه. وما جرّهم إلى ذلك إلا دفع محذور العقاب من غير بيان. والظاهر أن ما ذكرنا في دفعه هو الأقرب للمرتكزات العقلية والأنسب بالأدلة الشرعية في المقام. فلاحظ.

هذا تمام الكلام في مفاد أدلة الطرق والأصول ، وقد استقصينا الكلام فيه زائدا على محل الحاجة هنا لينتظم البحث حتى يتسنى الارجاع إليه في ما يأتي عند الكلام في إمكان التعبد بغير العلم. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

وإذ عرفت هذا ، يقع الكلام في قيام الطرق والأصول مقام القطع ، فنقول :

أما قيامها مقام القطع الطريقي من حيثية استتباعه للعمل على مقتضى الواقع فليس هو موردا للإشكال بينهم ، لاقتضاء جميع الوجوه المتقدمة لذلك ، بل هو المتيقن من أدلة الجهل والتعبد ، كما لا يخفى.

نعم ، الوجوه المتقدمة مختلفة ، فإن مفاد الوجه الأول والثالث أن ترتب العمل على الطرق والأصول في طول ترتبه على القطع ، ومفاد الوجه الرابع أن ترتبه عليها في قبال ترتبه على القطع ، لعدم اختصاص ملاك العمل به. أما الثاني فهو يختلف باختلاف المحامل الأربعة المتقدمة عند الكلام فيه. فراجع. إلا أن هذا لا أثر له في المطلوب.


وأما قيامها مقام القطع الموضوعي فهو المهم في المقام الذي اختلفت فيه كلمات الأعلام ، وفي قيامها مقامه مطلقا ، أو عدمه مطلقا ، أو التفصيل بين ما كان مأخوذا بما هو طريق للواقع ، وما كان مأخوذا بما هو صفة خاصة ، فتقوم مقام الأول دون الثاني ، وجوه أو أقوال.

صرح بالأخير شيخنا الأعظم قدّس سرّه. وقد استدل عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بما عرفت منه في أدلة جعل الطرق والأصول من أن مفادها جعل الطرق علما من حيث كونه طريقا وكاشفا ، لا من حيث كونه صفة خاصة ، فتلحقها أحكامه الثابتة له من الحيثية الاولى دون الثانية.

وفيه .. أولا : ما عرفت من الإشكال في المبني المذكور ثبوتا وإثباتا.

وثانيا : أنه لا يتم في الأصول لاعترافه بعدم قيامها مقام العلم في جهة كاشفيته وطريقيته ، بل في البناء العملي لا غير.

وثالثا : أن جعل الطريق علما شرعا إنما يقتضي ثبوت أحكام مطلق العلم له ، دون أحكام خصوص العلم الوجداني ، فإذا فرض ظهور أدلة أحكام العلم الموضوعي في خصوص الوجداني ـ كما اعترف به قدّس سرّه ـ لم تنهض أدلة اعتبار الطريق وجعله علما في قيامه مقامه في الأحكام المذكورة.

ودعوى : أن ذلك مقتضى الحكومة ، وأن أدلة أحكام العلم الموضوعي وإن كانت ظاهرة بدوا في خصوص العلم الوجداني ، إلا أن دليل جعل الطرق علما يكشف عن سعة موضوع تلك الأحكام وعمومه لمطلق العلم والمحرز وإن كان تعبديا ، كما هو الحال في سائر موارد الحكومة الموسعة للموضوع.

مدفوعة : بعدم كون المقام من موارد الحكومة المصطلحة لهم ، لاختصاص الحكومة بموارد التنزيل الادعائي المتقوم باشتراك المنزّل مع المنزّل عليه في الأحكام ، الكاشف عن كون موضوع تلك الأحكام هو الأعم منها ، وإن كان ظاهر أدلتها الأولية هو الاختصاص بالمنزل عليه ، كما في مثل :


المطلقة رجعيا زوجة ، والطواف بالبيت صلاة.

وليس المفروض في كلامه قدّس سرّه ظهور الأدلة في تنزيل الطرق منزلة العلم الوجداني والحكم عليها به ادعاء ، بل جعلها علما تعبدا ، فهي من أفراد العلم حقيقية بسبب التعبد.

وحينئذ فإذا فرض كون موضوع الأحكام مطلق العلم والإحراز لم تكن الأدلة المذكورة حاكمة ، بل تكون واردة عليها ، كما هو الحال في أحكام القطع الطريقي العقلية ، كالمنجزية واستحقاق العقاب وغيرهما. وإن فرض ظهور أدلتها في اختصاص موضوعها بالإحراز الوجداني ـ كما اعترف به قدّس سرّه في أحكام القطع الموضوعي ـ لم ينهض دليل التعبد بتسرية تلك الأحكام ، لعدم انحصار فائدته بذلك حتى يخرج به عن ظهور الأدلة ـ الذي اعترف به ـ إذ يكفي في فائدته تسرية أحكام مطلق العلم ، كأحكام القطع الطريقي. كما نبه إلى بعض ذلك شيخنا الاستاذ (دامت بركاته).

وقد يوجه ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه بدعوى : ظهور أدلة اعتبار الطرق والأمارات في تنزيلها منزلة العلم وأنها من أفراده ادعاء المقتضي لاشتراكها معه في أحكامه وإن لم تكن منه حقيقة ولا تعبدا ، كما تقدم في الوجه الثاني ، وهو. المصرح به في كلام بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

ويشكل .. أولا : بما عرفت من قصور الأدلة عن إثبات التنزيل المذكور.

وثانيا : بما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ وأشرنا إليه آنفا ـ من أن التنزيل المذكور إن كان بلحاظ الأحكام الشرعية لنفس العلم لم ينهض بقيام الطرق مقام القطع الطريقي الذي يكون منجزا لأحكام الواقع ، وإن كان بلحاظ الأحكام الشرعية لمتعلّق القطع لم ينهض بقيامها مقام القطع الموضوعي. ولا جامع بين الأمرين ، لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، إذ التنزيل بلحاظ أحكام نفس القطع مستلزم للحاظ القطع والطريق استقلالا في مقام التنزيل ،


والتنزيل بلحاظ أحكام المتعلق مستلزم للحاظها آلة وعبرة للمتعلق ، وهو ممتنع. وحيث كان قيام الطرق مقام القطع الطريقي متيقنا من أدلة الحجية تعين البناء على عدم قيامها مقام القطع الموضوعي.

وقد يدفع الإشكال من هذه الجهة بوجوه ..

الأول : ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الاشكال المذكور إنما يتجه لو كان التنزيل في مورد الطريقية المحضة متوجها إلى نفس الواقع المعلوم والمؤدى ، أما إذا كان متوجها إلى نفس العلم والطريق فيمكن عموم التنزيل بلحاظ كلا الأثرين ، حيث يكون التنزيل بين الطريق والعلم بلحاظ تمام الآثار العملية المترتبة على العلم إما بموافقة حكم نفسه أو بموافقة حكم متعلقه ، كما لو كان العلم حاصلا بالوجدان. وعدم كون الأثر شرعيا في العلم الطريقي غير ضائر بصحة إطلاق التنزيل ، لأن شرعيته في طرف المنزّل كافية في صحة التنزيل وإن لم يكن كذلك في طرف المنزّل عليه.

وفيه : أن عدم كون الأثر شرعيا في الطريقية المحضة كما يكون في طرف المنزّل عليه ـ وهو العلم ـ كذلك يكون في طرف المنزّل ـ وهو الطريق ـ لما هو المعلوم من أن المنجزية والمعذرية ولزوم الاطاعة وعدم المعصية المقتضية ، للعمل على الواقع في العلم الطريقي من مختصات العقل غير القابلة للجعل شرعا ، وإنما يكون للشارع جعل موضوعاتها ، وهي الأحكام التكليفية أو الحجية أو نحوهما. وقد سبق آنفا ـ عند الكلام في الوجه الثاني ـ أنه بناء على التنزيل المدعى لا بدّ في قيام الطرق مقام العلم الطريقي من أحد وجوه أربعة ترجع إلى جعل أحكام الواقع ظاهرا أو جعل أحكام طريقية لحفظ الواقع المحتمل ، أو جعل الحجية لإحرازه وتنجيزه ، وكل ذلك لا يناسب قيام الطرق مقام القطع الموضوعي في أحكامه الشرعية الواقعية ، كما يظهر بالتأمل في ما سبق.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل من أن دليل


الاعتبار وإن تضمن تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المقطوع به في أحكامه ، دون تنزيل نفس الأمارة منزلة القطع ، لما تقدم ، إلا أنه يستفاد منه تنزيل القطع بالمؤدّى منزلة القطع بالواقع في أحكامه ، للملازمة العرفية بين التنزيلين ، وإن لم تكن بينهما ملازمة عقلية.

وقد استشكل في ذلك في الكفاية بوجه لا يخلو عن إشكال ، ولا يسع المقام التعرض له ، لتشعبه وتعدد محتملاته.

ويكفي في الجواب عما ذكره في الحاشية ـ بعد ابتنائه على كون مفاد أدلة اعتبار الطرق تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وقد عرفت الإشكال فيه آنفا ـ أن ما ادعاه من الملازمة العرفية مما لم يتضح مأخذه ، بل هو ممنوع جدا بعد تعدد موضوع التنزيلين واختلاف الأحكام المترتبة عليهما.

إن قلت : يكفي في ترتب أحكام القطع بالواقع على القطع بالمؤدى إطلاق تنزيل المؤدى منزلة الواقع بلا حاجة إلى تنزيل آخر ، كي يحتاج إثباته إلى دعوى الملازمة العرفية ويتسنى منعها.

وتوضيح ذلك : أن إطلاق التنزيل يقتضي ترتب جميع الأحكام التي كان المنزّل عليه دخيلا في ترتبها ، سواء كان تمام الموضوع لها أم جزءه ، بأن أخذ المنزل عليه قيدا في عنوان موضوعها ، فكما يكون مقتضى تنزيل عمرو منزلة زيد مشاركته له في مثل الحرية والولاية مما يثبت لعنوان زيد بنفسه واستقلاله ، كذلك مقتضاه مشاركته في مثل وجوب إكرام ولده لو فرض ثبوت وجوب إكرام ولد زيد ، مع أن الوجوب لم يثبت لعنوان زيد بنفسه ، بل ثبت لعنوان إكرام ولد زيد ، وليس زيد إلا جزء لموضوع الحكم وقيدا في عنوانه ، لا تمام الموضوع.

ولذا كان بناء الأصحاب ـ تبعا للمرتكزات العرفية في فهم الكلام ـ على أن مقتضى إطلاق تنزيل المطلقة رجعيا منزلة الزوجة حرمة اختها ، ومقتضى تنزيل الفقاع منزلة الخمر ـ لو فرض كون الدليل واردا مورد التنزيل ـ ثبوت الحد


بشربه ، مع أن التحريم من أحكام اخت الزوجة ، والحد من أحكام شرب الخمر ، لا من أحكام الزوجة والخمر استقلالا بنحو يكونان تمام الموضوع لهما ، كالنجاسة والخمر.

نعم ، لو لم يكن المنزّل عليه دخيلا في موضوع الحكم ، وإنما اخذ في الدليل لمحض التعريف بالموضوع والإشارة إليه ، بأن لم يكن وجوب إكرام ولد زيد ـ مثلا ـ بما أنه ولد زيد ، بل لخصوصية فيه ولم يقصد بنسبته إليه في الدليل إلا محض الإشارة إليه ، كان تنزيل عمرو منزلة زيد قاصرا عن إثبات مثل ذلك ، لا بإطلاقه ولا بالملازمة العرفية ، فلا يجب إكرام ولد عمرو في المثال إلا بدليل آخر متضمن لتنزيله منزلة ولد زيد.

ومن الظاهر أن أخذ الواقع المعلوم بعنوانه في دليل الحكم الثابت للعلم الموضوعي ليس لمحض التعريف ، بل لكونه قيدا في موضوعه ، فإذا ورد : إن علمت المرأة بوفاة زوجها بدأت عدتها ، فوفاة الزوج قيد في موضوع الحكم لا محض معرف له. وحينئذ فإذا فرض ظهور اعتبار البينة في تنزيل مؤداها منزلة وفاة الزوج ـ الذي هو الواقع ـ كان مقتضى إطلاق التنزيل ثبوت الحكم المذكور ، فيحكم بأن العلم بمؤدّى البينة موجب لبدء عدتها. ولذا لا يظن من أحد التوقف في أن مقتضى إطلاق تنزيل الفقاع منزلة الخمر ثبوت أحكام العلم بالخمر للعلم بالفقاع كثبوت الحد ونحوه.

قلت : التنزيل المذكور لما كان ظاهريا لا واقعيا ، فمقتضاه ثبوت أحكام المنزل عليه للمنزل ظاهرا لا واقعا ، مع تبعية الحكم الواقعي للموضوع الواقعي ، وحيث كان ثبوت الأحكام ظاهرا مشروطا باحتمال تحقق موضوعاتها الواقعية ، فلا مجال له في المقام ، للعلم بعدم تحقق الموضوع الواقعي ، وهو القطع بالواقع. وأما ثبوت أحكام القطع بالواقع للقطع بالمؤدّى واقعا ، المستلزم لسعة موضوعها واقعا ، فلا ينهض به التنزيل الظاهري المذكور ، بل يتوقف على كون


التنزيل واقعيا ، كما في تنزيل الفقاع منزلة الخمر.

وبالجملة : إطلاق تنزيل المؤدى منزلة الواقع لا ينهض بإثبات أحكام القطع الموضوعي للقطع بالمؤدى لا ظاهرا ولا واقعا. أما الأول فللعلم بعدم تحقق الموضوع الواقعي. وأما الثاني فلعدم السنخية ، بل لا بد فيه من تنزيل آخر واقعي ، إما بين المؤدّى والواقع ، أو بين القطع بالمؤدّى والقطع بالواقع ، ولا مجال لاستفادته من التنزيل الظاهري المذكور ، إلا بدعوى الملازمة العرفية ، وهي ممنوعة جدا ، لعدم المنشأ لها ارتكازا. فتأمل جيدا.

الثالث : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من أن الإشكال المذكور إنما يتوجه لو كان الملحوظ في مقام التنزيل مفهوم الطريق فقط ، حيث يمتنع الجمع بين لحاظه استقلالا في نفسه ولحاظه آلة وطريقا للمؤدّى. أما لو كان الملحوظ هو الطريق والمؤدّى معا وتنزيلهما معا منزلة القطع والواقع فلا يلزم المحذور ، لرجوعه إلى تنزيلين مختلفي الموضوع والآثار ، قد لحظ موضوع كل منهما استقلالا بلحاظ أحكامه الخاصة به. والمستفاد من أدلة الحجية هو الثاني ، كما يشهد به مثل قول العسكري عليه السّلام : «العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك فعني يؤديان ، وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان» (١) وغيره مما يتضمن الطريق والمؤدى كثير.

مع أن ما لا يكون بهذا المضمون لا بد أن يكون محمولا عليه ، جريا على الارتكاز العقلائي في باب الحجج من كونها بمنزلة العلم عندهم في ترتيب آثاره عليها. كما أن مؤداها بمنزلة الواقع في ترتيب آثاره.

وفيه : أن ما ساقه من الأدلة على التنزيل بالوجه المذكور مما لم يتضح دلالته عليه ، فإن الحديث المتقدم وإن تضمّن الحكم على العمري وابنه (رضوان الله عليهما) بالوثاقة ، ثم الحكم بأن ما أدياه فعنه عليه السّلام يؤديان ، إلا أن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ٩٩ ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٤ ،


الأول قضية خبرية واقعية لا ترجع إلى تنزيل خبرهما منزلة العلم شرعا في قبال تنزيل ما يؤديانه منزلة الواقع ، بحيث يكون في المقام تنزيلان تعبديان مستقلان أولهما واقعي يرجع إلى سعة موضوع الحكم الوارد على العلم وشمولاه للطريق ، والثاني ظاهري في طول الواقع لبيان الوظيفة العملية حال الجهل به ـ بل سيقت للتمهيد للثاني ببيان موضوعه ، ولذا فرع الثاني على الأول بالفاء ثم علله بما يرجع إلى الأول. فليس في المقام إلا الحكم بأن ما أدياه فعنه يؤديان.

وهو حينئذ إما أن يحمل على الحقيقة ـ كما هو الظاهر ـ فيقتضى الملازمة الواقعية بين خبر العمريين (رضوان الله عليهما) والواقع ، نظير قوله صلى الله عليه وآله : «علي مع الحق والحق مع علي» ويدل على عصمتهما (رضوان الله عليهما) في الأداء عنه عليه السّلام. أو على الادّعاء الراجع إلى الحكم على ما يؤديانه بأنه أداء عنه عليه السّلام تنزيلا ، فلا يقتضي إلا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، كما تقدم في الوجه الأول. وحينئذ يتعين حمله على الكناية عن حجية خبرهما ، فيرجع إلى ما ذكرناه في الوجه الرابع ، وهو أجنبي عن تنزيل الطريق منزلة العلم في أحكامه الشرعية الخاصة به ، بنحو يقتضي ثبوتها له واقعا.

ومنه يظهر الحال في بقية أدلة الحجية النقلية ، فإنه ـ مضافا إلى عدم الإشعار فيها بالتنزيل بوجه ، كما أشرنا إليه آنفا ـ لا بد من حملها على حجية الطرق ، لأنه المرتكز عرفا ، كما تقدم في الوجه الرابع ، دون ما ذكره قدّس سرّه.

وأوضح من ذلك الأدلة اللبية ، لما أشرنا إليه في الوجه الثاني من أنه لا معنى للتنزيل فيها. فراجع وتأمل جيدا.

هذا حاصل ما تسنى لنا التعرض له من كلماتهم في المقام ، وقد جرينا فيه على ما يظهر منهم من أن جريان أحكام القطع الموضوعي مع قيام الطرق والأصول في طول جريانها مع القطع ، لكون الأحكام مختصة بالقطع ، فالتعدي منه إليها موقوف على كونها من أفراده التعبدية الجعلية ، أو الادعائية التنزيلية ،


وحيث عرفت عدم تمامية الأمرين معا يتعين البناء على عدم قيامها مقام القطع الموضوعي مطلقا ، كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في الكفاية ، خلافا لشيخنا الأعظم قدّس سرّه.

لكن التحقيق : أن ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من التفصيل في محله ، لأن فرض كون المأخوذ في الموضوع هو القطع بما هو طريق إلى الواقع راجع إلى أن الموضوع ليس هو القطع بنفسه ـ حتى يتوقف جريان أحكامه مع الطرق على تنزيلها منزلته أو جعلها من أفراده تعبدا ـ بل بما أنه أحد أفراد الطريق ، والموضوع الحقيقي هو مطلق الطريق كما تقدمت الاشارة إليه في تقسيم القطع الموضوعي ، وحينئذ فتكون الطرق الشرعية بمقتضى جعلها من أفراد الموضوع حقيقة بلا حاجة إلى عناية جعلها علما تعبدا أو ادعاء ، كي يتسنى إنكار ذلك.

ومنه يظهر توجه الإشكال على المحقق الخراساني قدّس سرّه ، فإنه مع تفسيره القطع المأخوذ على وجه الطريقية بما ذكرنا منع من قيام الطرق مقامه ، مع أنه لا إشكال في كونها طرقا للمتعلق فتكون من أفراد الموضوع حقيقة بلا حاجة إلى عناية التنزيل أو التعبد بكونها علما كما ذكرنا.

نعم ، قد تتوجه الحاجة إلى ذلك بناء على ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه في تفسير القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية. فراجع.

إن قلت : أدلة الحجية إنما تقتضي التعبد بالمؤدى وإحرازه بلحاظ أثره ، للغوية التعبد بالشيء من دون لحاظ أثر عملي مترتب عليه ، والمفروض أن الأثر في المقام ليس مترتبا على المؤدى ، بل على نفس التعبد والإحراز ، فمع ترتب الأثر على المؤدى لا يصح التعبد به ، حتى يترتب أثر التعبد المذكور ويقوم مقام القطع الموضوعي.

قلت : يكفي في تصحيح اعتبار الحجية ورفع لغوية التعبد ترتب الأثر على نفس التعبد ، ولا يعتبر ترتب الأثر على نفس المؤدّى ، لأن الحجية ليست


عبارة عن وجوب المتابعة ، حتى تتوقف على فرض أثر للمؤدى تتحقق المتابعة بلحاظه ، بل هي ـ كما تقدم ـ معنى اعتباري يقتضي الاعتماد على الطريق في إثبات المؤدى والبناء عليه ، وهذا المعنى لا يتقوم بفرض الأثر للمؤدى.

نعم ، لا بد في تصحيح التعبد من فرض أثر يخرجه عن اللغوية ، ويكفي فيه الأثر المفروض في المقام المترتب على نفس التعبد والإحراز.

مع أن هذا ـ لو تم ـ إنما يمنع من قيام الطرق مقام القطع الموضوعي لو فرض عدم الأثر للمؤدى ، أما لو فرض ثبوت الأثر له أيضا فلا وجه للمنع. فلاحظ.

ثم إن مما ذكرنا يظهر أن أدلة اعتبار الطرق وحجيتها تكون واردة على دليل حكم القطع الموضوعي ورودا واقعيا ، نظير أدلة مملكية الحيازة مع أدلة أحكام الملك ، لا حاكمة عليه حكومة واقعية ، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه وغيره ، إذ الحكومة عندهم مختصة بباب التنزيل ، وقد عرفت أنه لا تنزيل في المقام ، وأن الطرق من أفراد الموضوع الحقيقية بسبب التعبد الشرعي.

ومن الغريب ما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الحكومة في المقام ظاهرية. فإن الحكومة الظاهرية إنما تجري في ما يقتضي إحراز الموضوع إثباتا مع تبعيته للواقع ثبوتا ، والإحراز بالطرق في المقام محقق للموضوع واقعا ، لا لاحرازه إثباتا ، فإن المحرز ظاهرا بالطرق هو المؤدّى ، والمفروض عدم كونه موضوع الحكم ، وإنما الموضوع هو الاحراز المحقق بها واقعا بضميمة دليل التعبد.

نعم ، قيامها مقام القطع الطريقي بملاك الحكومة الظاهرية ، لأن المحرز بها ظاهرا هو الواقع الذي هو موضوع الأحكام الشرعية أو العقلية من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ، مع تبعية الأحكام ثبوتا للموضوعات الواقعية ، لا


للإحراز ، فترتب الأحكام عليها لإحراز موضوعاتها ظاهرا ، لا لتحققها واقعا.

هذا كله في الطرق ، وأما الأصول فحيث عرفت أن التعبد فيها بالمؤدى مع الشك ابتداء ، لا بتوسط قيام الطريق والحجة عليه فقيامها مقام القطع الموضوعي موقوف على أن أخذ القطع في الموضوع من حيث كاشفيته وطريقيته التي لا يشاركه فيها إلا الطرق دون الأصول ، أو من حيث كونه سببا في البناء على متعلقه وإحرازه الذي يشاركه فيه الأصول أيضا ، وذلك موكول إلى ما يستفيده الفقيه من الأدلة.

وإن كان لا يبعد الثاني بل لعله الظاهر ـ مع عدم قرينة على التقييد ـ بناء على ما عرفت في الفصل الأول من أن العلم ليس طريقا للواقع ، بل هو عبارة عن نفس الوصول إليه وإحرازه الذي هو نتيجة الطريق ، فإن الأصول بسبب التعبد بها تشاركه في النتيجة المذكورة ، كالطرق والأمارات.

نعم ، هذا مختص بالأصول التعبدية ، كالاستصحاب وأصالة الحل والطهارة ، دون البراءة والاحتياط.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الوجه في عدم قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي المأخوذ بما هو صفة خاصة ، فإن دليل التعبد بها لا يقتضي مشاركتها له في الخصوصية المذكورة ، ولا تنزيلها منزلته في الأحكام.

نعم ، هو محتاج إلى دليل خاص يقتضي التنزيل المذكور ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه. وهو ـ لو تم ـ كان حاكما على دليل القطع الموضوعي المذكور ، بناء على ما عرفت في ضابط الحكومة عندهم.

فالإنصاف : أن ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في غاية المتانة ويسهل الاستدلال عليه بما تقدم ، من دون حاجة إلى ما ارتكبه من بعده من التكلفات والتعسفات التي عرفت الكلام فيها. وقد أطلنا الكلام في ذلك مجاراة لهم ، ولو لاها لكنّا في غنىّ عن هذا التطويل بما ذكرنا. فتأمل جيدا. والله سبحانه ولي


العصمة والسداد.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه تعرض بتبع ذلك لأقسام الظن ، فذكر أنه وإن لم يكن كالعلم الطريقي في حجيته الذاتية ، بل يفتقر إلى الجعل ، إلا أنه قد يؤخذ طريقا صرفا لمتعلّقه وحجة شرعا عليه ، وقد يؤخذ موضوعا في الحكم ، إما بما هو طريق لمتعلّقه ، أو بما هو صفة خاصة ، فيقوم مقامه سائر الطرق في الأولين دون الأخير.

وقد أطال بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في الاقسام المذكورة وأحكامها. ويتضح حال كثير مما ذكر بملاحظة ما ذكرنا في القطع وأقسامه. ولا مجال مع ذلك لتفصيل الكلام فيها ، ولا سيما مع عدم وضوح الأثر العملي لذلك ، فلاحظ. ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق.



الفصل الرابع

في عموم أحكام القطع لجميع أفراده وعدمه

الكلام هنا .. تارة : في القطع الموضوعي.

واخرى : في القطع الطريقي.

أما الأول فحيث كان أخذه في موضوع الحكم تابعا للحاكم فعمومه وخصوصه من حيثية الأشخاص والأسباب والحالات وغيرها تابع له كسائر الموضوعات المأخوذة في أحكامه.

ومن ثمّ قيل بإمكان تقييده بغير قطع القطاع. بل قيل : إن الإطلاق منصرف عنه لو فرض عدم المقيد له خارجا. وربما حمل عليه كلام كاشف الغطاء الآتي.

والذي ينبغي أن يقال ..

تارة : يراد من قطع القطاع من يكثر منه القطع على خلاف ما يتعارف لغيره ، لتهيؤ أسبابه المتعارفة له دون غيره ، لعلمه بالمقدمات الحسية أو الحدسية الموجبة له. ولا إشكال في إمكان تقييد إطلاق القطع بالإضافة إليه بدليل خاص.

أما انصراف الإطلاق عنه بنفسه بلا حاجة للتقييد فلا وجه له. ومجرد الخروج عن المتعارف في الكثرة لا يوجبه ، كالخروج عن المتعارف في القلة في حق بعض الأشخاص بسبب قلة تهيؤ المقدمات الموجبة له في حقهم.

نعم ، قد ينصرف الإطلاق عن خصوص بعض الأسباب لقرائن عامة أو خاصة ، كاختصاص حجية الخبر في الأمور الحسية بما إذا استند إلى الحس ، وما قيل من اختصاص حجية فتوى المجتهد بما إذا حصل له العلم من الطرق


الشرعية المتعارفة ، دون مثل الجفر والرمل ونحوهما مما يوجب العلم لممارسه.

وأخرى : يراد منه من يحصل له القطع من أسباب غير متعارفة لا ينبغي حصوله منها ، بحيث لو فرض حصولها لغيره لم توجب القطع له.

ولا يبعد انصراف إطلاق دليل أخذ القطع في الموضوع عن مثله بالإضافة إلى الأحكام المتعلقة بغير القاطع ، كحجية شهادته وفتواه ونفوذ حكمه ونحوها مما يتعلق بغيره ، لأن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي كون أخذ القطع من حيثية غلبة الوصول به للواقع المقطوع وكشفه نوعا عنه ، وذلك لا يحصل في القطع الحاصل من الأسباب المذكورة ، فهو نظير اعتبار الضبط في الشاهد والراوي.

وأما بالإضافة إلى الأحكام المتعلقة بالقاطع نفسه فلا مجال للانصراف المذكور ، لعدم كون ذلك مما يدركه القاطع في قطعه ، لأنه يرى أن قطعه من سبب ينبغي حصوله منه ، وأن عدم حصوله لغيره لقصور فيهم لا في السبب نفسه.

ومنه يظهر امتناع التقييد بذلك في دليل خارج ، لأن عنوان المقيّد إذا لم يتيسر تشخيصه يلغو التقييد به ، لعدم صلوحه لأن يترتب عليه العمل.

نعم ، للحاكم أن يحصل غرضه بالتقييد بوجه آخر راجع إليه ملازم له قابل لأن يدركه القاطع ، مثل التقييد بخصوص السبب الذي يحصل القاطع به لمتعارف الناس ، دون غيره من الأسباب ، وإن كان مما ينبغي حصول القطع به بنظر القاطع ، فإن العنوان المذكور مما يمكن للقاطع تشخيصه ، فلا يلغو التقييد به. فلاحظ.

وأما الثاني ـ وهو القطع الطريقي ـ فحيث كان العمل عليه تابعا لذاته لم يفرق فيه بين أفراده ، لعدم الفرق بينها في الخصوصية المقتضية للعمل عليه ، كما


يظهر بالتأمل في الوجه المتقدم في الفصل الأول. ولم ينقل الخلاف في ذلك إلا في موردين ..

الأول : ما عن كاشف الغطاء قدّس سرّه من عدم الاعتبار بقطع من خرج عن العادة في قطعه ، كما لا اعتبار بشك كثير الشك وظن كثير الظن.

قال في محكي كلامه في مباحث الصلاة : «وكثير الشك عرفا ـ يعرف بعرض الحال على عادة الناس ـ لا اعتبار بشكه. وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو ظنه ، فإنه يلغو اعتبارهما في حقه».

وظاهر كلامه إرادة القطع الطريقي ، لما هو المعلوم من أن القطع في باب الصلاة كالظن والشك لا يكون مأخوذا في موضوع الحكم الواقعي ، وإن افترق عنهما بأخذهما في موضوع الحكم الظاهري دونه ، إذ لا مجال للحكم الظاهري معه.

ولا مجال مع ذلك لاحتمال حمله على القطع الموضوعي ، وإن جعله شيخنا الأعظم قدّس سرّه وجها في تعقيب كلامه قدّس سرّه ، بل هو الذي قربه شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) ، لأن رفعة مقام كاشف الغطاء قدّس سرّه تمنع من حمل كلامه على القطع الطريقي. لكنه ـ كما عرفت ـ خروج عن ظاهر كلامه. والعصمة لاهلها.

وأما ما ذكره في الفصول في توجيه المنع عن العمل بقطع القطاع ولو كان طريقيا ، من إمكان منع الشارع عن التعويل على القطع ، وأن العقل قد يستقل في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعي ، لمنافاته لحكمة فعلية قطعية ، وقد لا يستقل بذلك ، لكن يستقل حينئذ بحجية القطع في الظاهر ما لم يثبت المنع الشرعي.

فهو مبني على ما ذكره في الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي من أن استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي واقعيا كان أو ظاهريا مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي عنده من تعويله عليه ، بتخيل أن حجية القطع من


الأحكام العقلية.

وضعفه يظهر مما سبق في الفصل الأول من أن ترتب العمل على القطع ليس بملاك حكم العقل بحجيته ، بل لخصوصيته الذاتية غير القابلة للتصرف الشرعي.

مع أن ما بنى عليه في الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي قد تقدم ضعفه في ذيل الفصل الأول من مباحث الملازمات العقلية. فراجع.

الثاني : ما حكي عن الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية النظرية على تفصيل في كلماتهم. وقد تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره لبعضها.

وقد ادعى المحقق الخراساني قدّس سرّه أن مرادهم بها إما المنع من حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية ، أو المنع من الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي.

لكن حمل بعض كلماتهم على ذلك وإن كان ممكنا إلا أنه قد يصعب حمل جميعها عليه ، بل قد يتعذر ، لظهورها أو صراحتها في ما تقدم من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية. وذلك بظاهره ممتنع ، لما سبق في وجه لزوم متابعة القطع.

نعم ، قد يستدل عليه بالأخبار الكثيرة التي أشار إلى بعضها شيخنا الأعظم قدّس سرّه مثل قولهم عليهم السّلام : «حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا» (١) وما ورد من النهي عن أن يدان لله تعالى بغير السماع منهم (٢) ، وما تضمن النهي عن النظر في الدين بالرأي (٣) ، وقولهم عليهم السّلام : «أما لو أن رجلا صام نهاره وقام ليله وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه فتكون

__________________

(١) تراجع هذه المضامين في الوسائل ج ١٨ : ٤١ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي.

(٢) تراجع هذه المضامين في الوسائل ج ١٨ : ٤١ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي.

(٣) راجع الوسائل ج ١٨ : ٢١ ، باب : ٦ من أبواب صفات القاضي.


أعماله بدلالته اليه ما كان له على الله ثواب ، ولا كان من أهل الإيمان» (١).

لكن التأمل في النصوص المذكورة قاض بأنها أجنبية عما نحن فيه ، بل هي واردة لبيان عدم حجية الرأي والقياس ووجوب التعبد بأقوالهم عليهم السّلام ، وعدم الاستغناء عنهم بذلك.

أو لبيان عدم إيصال الرأي والنظر للحكم الشرعي ، بل هو يزيد في التيه والضلال ، نظير ما تضمن أن السنة إذا قيست محق الدين ، فيكون التسليم به مانعا عن حصول القطع منه غالبا.

أو لبيان عدم جواز النظر في الدين ، لما قد يستتبعه من الضلال والخطأ ، فيكون الناظر مقصرا غير معذور حتى لو فرض حصول القطع له ، وهذا لا ينافي لزوم العمل على طبق القطع ، لما سبق من عدم التلازم بين لزوم العمل بالقطع ومعذريته في فرض الخطأ.

أو لبيان شرطية الولاية في قبول الأعمال ، وغير ذلك مما يظهر بالتأمل في النصوص المذكورة على اختلاف ألسنتها.

هذا ، وقد قرّب شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) حمل النصوص المذكورة على كون أخذ الحكم من الكتاب والسنة شرطا في صحة العمل عبادة كان أو معاملة ، لا شرطية الولاية له فقط ، فالحكم وإن كان ثابتا مع وصوله بالطرق العقلية ، إلا أنه يتعذر امتثاله إلا بعد النظر في أدلته من الكتاب والسنة ، نظير تعذر امتثال أمر الصلاة للجنب والكافر إلا بعد الغسل والإيمان.

نعم ، لا بد من كون الاشتراط المذكور بنتيجة التقييد لا بالتقييد اللحاظي ، فرارا عن محذور أخذ ما يتأتى من قبل الحكم في متعلقه ، نظير ما يذكر في مبحث التعبدي والتوصلي.

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١٨ : ٢٥ ، باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٣ وقريب منه في ج ١٨ : ٤٤ ، باب : ٧ حديث ١١.


وكأنه استند إلى مثل الخبر الأخير الظاهر في كون اعتبار الولاية لأجل اعتبار كون العمل بدلالة الولي عليه السّلام ، فالشرط في الحقيقة هو الدلالة المذكورة.

وفيه : أنه لا يبعد كون ذكر دلالة الولي عليه السّلام لبيان لزوم الخضوع له والتسليم لقوله ، بحيث لو دلّ على شيء لقبل منه ، كما هو لازم الولاية ، لا لبيان اعتبار كون كل عمل صادرا عن دلالته ، لما هو المعلوم من سيرة الأصحاب من الاكتفاء في العمل بما حصلوه من الكتاب والسنة ولو لم يكن بدلالة ولي العصر عليه السّلام ، وعدم توقف العمل في كل حكم على وصوله منه واستناده له.

كيف ولازم ذلك تعذر الاحتياط مع الشك في الحكم؟! لعدم كون العمل بدلالة ولي الله ، بل برجاء مشروعيته لا غير ، وهو ـ كما ترى ـ مخالف لسيرة العلماء والمتشرعة في الفتوى والعمل.

وكيف كان ، فلا إشعار في النصوص المتقدمة في عدم جواز العمل على طبق الحكم المقطوع به بعد فرض حصول القطع به الذي هو محل الكلام في المقام. كيف وهو من المستحيلات التي يمتنع الحكم بها من الشارع الأقدس.

نعم ، لو فرض تمامية دلالة النصوص المذكورة عليه كان لا بد من حملها على ما سبق في الأمر الأول من الفصل السابق من توجيه تقييد الحكم بالعلم به ببعض الوجوه ، إما بأن يكون العلم المأخوذ في الحكم هو العلم بالحكم الكلي ، الذي هو مؤدى الكبريات الشرعية ، أو يكون العلم شرطا في فعلية الحكم ، أو يكون الجهل مانعا منها ، فان الوجوه المذكورة يمكن فرضها هنا بأن تكون الكبريات الشرعية مشروطة بعدم انحصار طريق الوصول إليها بالطرق العقلية. أو يكون إمكان الوصول للأحكام بالطرق النقلية شرطا في فعليتها ، أو يكون تعذر الوصول إليها بها مانعا من فعليتها ورافعا لها.

ولا مجال لتوهم اشتراط فعلية الأحكام بفعلية العلم بها من الكتاب والسنة ـ لا بمجرد إمكانه ـ فإن لازم ذلك عدم وجوب الفحص عن الأحكام


في الكتاب والسنة ، لعدم فعليتها قبله ، فلا مجال للتكليف الطريقي بالفحص عنها ، كما لا مجال لحمل وجوب الفحص على أنه تكليف نفسي ، لأنه خلاف ظاهر أدلته ، كما حقق في محله.

وأما توجيه ذلك بما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه عند الكلام في تقييد الحكم بالعلم به من إمكان التقييد بمثل ذلك بمتمم الجعل ، فيدعي في المقام تقييد الحكم بعدم وصوله بالطرق العقلية ، فقد عرفت الإشكال فيه هناك. فراجع ، وتأمل.



الفصل الخامس

في العلم الاجمالي

والكلام فيه ..

تارة : في كفايته في مقام وصول التكليف وتنجيزه.

واخرى : في الاكتفاء به في مقام الامتثال والفراغ عن التكليف بعد فرض تنجيزه بعلم وغيره.

فيقع الكلام في مقامين ..

المقام الأول : في كفايته في تنجيز التكليف

ووصوله.

والكلام فيه ..

تارة : في التنجيز بنحو يمنع من المخالفة القطعية.

واخرى : بنحو يلزم بالموافقة القطعية ، وعلى كلا التقديرين فهل هو لكون العلم الإجمالي علة تامة فيه ، أو لكونه مقتضيا له بنحو يقبل الردع الشرعي عنه؟.

هذا ، والمراد بالردع هو الحكم شرعا بعدم منجزية العلم الإجمالي بنحو يمنع من المخالفة القطعية ، أو بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، فيلزمه جريان الأصول في تمام الأطراف أو بعضها لو فرض عموم أدلتها لها ، لعدم المانع. فجريان الأصول في الأطراف ليس هو عبارة عن الردع ، بل هو أمر مترتب عليه بعد فرض عموم أدلتها لها.

نعم ، قد يستفاد الردع لو فرض إمكانه من عموم أدلة الأصول بالملازمة


لو فرض توقف جريانها عليه ، كما قد يكون جريانها مبتنيا على أمر آخر غير الردع المذكور ، كجعل البدل الذي يمكن حتى مع فرض علية العلم الإجمالي التامة في المنجزية.

ومنه يظهر أن ما هو محل الكلام هنا من علّيّة العلم الإجمالي التامة في المنجزية واقتضائه لها ، وعدمهما لا دخل له بما يأتي الكلام فيه في مبحث الاشتغال من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي وعدمه.

فقد يذهب ذاهب إلى جريان الأصول في بعض الأطراف مع التزامه هنا بالعلية التامة ، لدعوى استفادة جعل البدل منها مثلا ، وقد يذهب آخر إلى عدم جريانها مع التزامه هنا بالاقتضاء وعدم العلية التامة ، لدعوى قصور أدلتها عن عموم الأطراف بنحو تكشف عن الردع عن منجزية العلم الإجمالي ، غاية الأمر أن محل الكلام هنا يكون من مباني الكلام هناك وينفع فيه في الجملة. فلاحظ.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه من كون القول بجريان الأصول في بعض الأطراف متفرعا على القول بالاقتضاء. وانه لا يجري مع البناء على عليّة العلم الإجمالي للموافقة القطعية.

ومثله ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه هنا من أن البحث في حرمة الموافقة القطعية مما يناسب مباحث العلم ، والبحث في وجوب الموافقة القطعية مما يناسب مباحث الشك ـ ومن ثمّ أوكله لمباحث الأصول العملية ، للإشكال فيه بأن وجوب الموافقة القطعية كحرمة المخالفة القطعية من شئون تنجز التكليف المترتب على العلم به ، فالمناسب التعرض له في مباحثه. وجريان الأصول في الأطراف وعدمه أمر آخر يتفرع على ذلك في الجملة ، كما أشرنا إليه ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا ، فلنرجع لما نحن بصدده من منجزية العلم الإجمالي بأحد


الوجوه المتقدمة وعدمها فنقول :

مما تقدم في وجه منجزية العلم ووجوب العمل عليه يظهر الوجه في منجزية العلم الإجمالي ووجوب العمل عليه ، لعدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في الجهة المتقدمة المقتضية للعمل من كونه عبارة عن الوصول للواقع والالتفات إليه الموجب للعمل بالوجه الذي يقتضيه الواقع المعلوم. وقد عرفت بذلك امتناع الردع الشرعي عن العمل على طبق العلم.

ولا يفترق العلم الإجمالي عن التفصيلي إلا بابتلائه بالجهل بالموضوع وتردده بين الأطراف ، ولا دخل لهذا في الوجه المتقدم المقتضي للعمل على طبق العلم.

نعم ، قد يكون الإجمال موجبا لقصور الواقع المعلوم عن مقام العمل لمزاحمة كلفة الاحتياط له ، فإن الجهة المذكورة قد تكون مزاحمة للملاك الواقعي المقتضي للعمل على طبق الواقع ، فتمنع عن تأثيره ، فعدم العمل على طبق العلم ليس لقصور في العلم ، بل في المعلوم.

ولا مجال لذلك في محل الكلام. إذ الجهة المذكورة إن كانت مزاحمة لملاك التكليف ، بحيث تمنع من تأثيره التكليف شرعا ـ كما في موارد الحرج ـ فهي خارجة عن محل الكلام ، إذ الكلام في العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي.

وإن كانت مزاحمة لنفس التكليف بنحو تمنع من حكم العقل بوجوب إطاعته ، فهو ممتنع في الأحكام الشرعية ، لأن ضرر العصيان لما كان شديدا فلا يزاحمه شيء ، بخلاف الأضرار الأخر ، فإنها قد تزاحم بكلفة الاحتياط.

وأما حديث الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وعدم لزوم الموافقة القطعية ـ إما لعدم اقتضاء العلم لها ، أو لردع الشارع ، عنها بعد فرض عدم عليته التامة لها ـ فهو لو أمكن في العلم الإجمالي أمكن في العلم التفصيلي لعدم الفرق بينهما


في الجهة المقتضية للعمل كما ذكرنا.

والظاهر منهم عدم إمكانه ، لحكم العقل بأن التكليف اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وإن كان لا يخلو عن إشكال ، ويأتي الكلام فيه في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث الشك في التكليف.

وكيف كان ، فبناء على امتناعه في العلم التفصيلي ينبغي منعه في العلم الإجمالي لعدم الفرق. نعم ، للشارع أن يعبدنا بالامتثال ظاهرا ، ببعض طرق الإحراز ، كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك. وهو خارج عما نحن فيه.

وكأن وجه توهم الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية توهم أن المعلوم لما كان هو أحد الأطراف فلا يتنجز ما زاد عليه ، ولا يجب الفراغ الا عنه ، فالامتثال بأحد الأطراف إطاعة قطعية للتكليف المنجز وإن كان إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي.

مع الغافلة عن أن المعلوم ليس هو مفهوم أحدها ـ كما في الواجب التخييري ـ حتى يكفي في إحراز الفراغ عنه الإتيان بواحد ، بل هو أحدها المعين واقعا بخصوصيته على ترديده ، فلا بد من إحراز الخصوصية الواقعية في إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم ، وهو موقوف على الاحتياط التام.

ومما ذكرنا ظهر أنه لو فرض ظهور الأدلة الشرعية في جواز ارتكاب بعض الأطراف أو تمامها فلا بد إما من تنزيلها على كون العلم الإجمالي مانعا من فعلية التكليف المعلوم ـ كما تقدم نظيره في العلم التفصيلي الموضوعي ـ أو على تصرف الشارع في مقام إحراز الامتثال بجعل البدل الظاهري ـ كما في موارد القرعة ـ أو نحو ذلك مما يأتي الكلام فيه في محله ومما لا يلزم منه محذور مخالفة العلم. كما يلزم ذلك أيضا فيما لو كان ظاهر الأدلة جواز مخالفة


العلم التفصيلي.

وعلى ذلك يتعين توجيه الفروع التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه التي قد يظهر منها جواز مخالفة العلم التفصيلي ، فضلا عن الإجمالي. ولا مجال لإطالة الكلام فيها. فراجع.

كما ظهر حال ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من إمكان ردع الشارع الأقدس عن منجزية العلم الإجمالي ، وأنه ليس علة تامة للتنجز ، بل هو مقتض له يمكن رفع اليد عنه لمانع عقلي ـ كما في الشبهة غير المحصورة ـ أو ترخيص شرعي.

إذ يتضح الإشكال فيه بما سبق.

وعدم التنجز في الشبهة غير المحصورة ليس لقصور في منجزية العلم ، بل لقصور في التكليف المعلوم بسبب خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أو عن قدرة المكلف ، على ما يأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى. والترخيص الشرعي لا بد من توجيهه ، كما عرفت ، ويأتي الكلام في ذلك في مباحث الأصول العملية إن شاء الله تعالى.

ثم إنه لا فرق في ما ذكرنا بين كون الإجمال لاشتباه الحكم مع تعيين المتعلق ـ كما لو علم بأن شيئا معينا إما واجب أو حرام ـ أو لاشتباه المتعلق مع تعيين الحكم ـ كما لو علم بوجوب القصر أو التمام ـ أو لاشتباههما معا ـ كما لو علمت المرأة المشتبهة الحيض إما بوجوب الصلاة أو حرمة المكث في المسجد عليها ـ إما من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية. ومن دون فرق بين رجوع الأطراف إلى خطاب واحد ورجوعه إلى خطابات متعددة ، كما لا فرق أيضا بين أسباب الاشتباه ، على ما تعرض له شيخنا الأعظم قدّس سرّه وأطال الكلام في بعض فروعه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.


ولنقتصر في المقام الأول على هذا المقدار ، مع إيكال بعض المباحث المتعلقة به إلى مباحث الأصول العملية ، تبعا لما سلكه الأكابر.

المقام الثاني : في الاكتفاء بالعلم الإجمالي في مقام الامتثال.

ولا إشكال ظاهرا في الاكتفاء به مع تعذر الامتثال التفصيلي ولو في العباديات ، وكذا الاكتفاء به ولو مع التمكن منه في التوصليات ومنها المحرّمات.

وإنما يقع الكلام في الاكتفاء به في العباديات مع التمكن من الامتثال التفصيلي بالفحص وتعيين المعلوم بالإجمال.

وهو ... تارة : يكون في الواجبات الاستقلالية التي لا يتحقق الامتثال الإجمالي فيها إلا بالتكرار ، كما في الجمع بين القصر والتمام وتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين.

واخرى : في الواجبات الضمنية من الأجزاء والشرائط ، كما لو علم بوجوب إحدى سورتين في الصلاة فجمع بينهما في صلاة واحدة.

وينبغي أيضا الكلام ـ تبعا لغير واحد ـ في الاحتياط مع احتمال التكليف من دون علم إجمالي ، كما لو احتمل وجوب صلاة العيد فأتى بها من دون فحص يستكشف به الحال مع التمكن منه.

فيقع الكلام في المواضع الثلاثة ..

الأول : الاحتياط مع الاحتمال غير المقرون بعلم إجمالي. وقد اضطرب كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذلك كثيرا في مباحث القطع والانسداد والبراءة والاشتغال ، وقد مال في بعض كلماته إلى عدم مشروعية الاحتياط. بل نسب إلى المشهور عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد والتقليد بالاحتياط. وهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه. والمستفاد منهم في وجهه أمور ..

الأول : أنه يعتبر في العبادة الإتيان بها بنيّة الوجه الخاص من الوجوب أو


الندب ، فقد نقل شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه نقل غير واحد اتفاق المتكلمين على وجوب إتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجهها ، وأن السيد الرضي قدّس سرّه نقل إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ، وأن أخاه السيد المرتضى أقرّه على ذلك.

قال قدّس سرّه في خاتمة البراءة والاشتغال بعد نقل ذلك : «بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيان من أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة ، فضلا عن كونهما منشأ للشك الملزم للاحتياط ، كما ذكرنا».

لكن لم يتضح الوجه في اعتبار قصد الوجه في العبادة ، إذ لو اريد به أنه معتبر عند العقلاء في الإطاعة فقد تحقق في محله عدم اعتبار أصل قصد التقرب فيها عندهم فضلا عن قصد الوجه ، ولذا كان الأصل في الأوامر التوصلية.

كيف ولو كان معتبرا في أصل الإطاعة لزم تعذرها بتعذر الفحص وعدم مشروعية الاحتياط لا مع العلم الإجمالي ولا مع الشك البدوي ، مع مفروغيتهم عن مشروعيته حينئذ. والفرق بين صورتي التعذر وعدمه تحكّم تأباه المرتكزات العقلائية جدا.

ولعل مراد المتكلمين من دخل قصد الوجه في الإطاعة دخله في الإطاعة المستلزمة للمدح والثواب ، لا في الإطاعة التي يقتضيها الأمر وتكون مسقطة له ، التي هي محل الكلام.

وإن كان التحقيق عدم اعتبار قصد الوجه في الإطاعة حتى بالمعنى المذكور ، بل يكفي فيها الإتيان بداعي موافقة ملاك المحبوبية ، الأعم من الإيجابية والندبية وإن كانت محتملة ، في مقابل الإتيان به بدواع أخر لا دخل لها بالمولى.


بل قد يظهر من بعض كلماتهم أن ذلك مرادهم من قصد الوجه ، قال في محكي التجريد : «ويستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح والإخلال به بشرط فعل الواجب لوجوبه والمندوب كذلك ..» ، وعن العلامة في شرحه : «واعلم أنه يشترط في استحقاق الفاعل المدح والثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه ، وكذا المندوب بفعله لندبه أو لوجه ندبه».

وإن أريد أنه معتبر شرعا في خصوص العبادات مع التمكن منه ، فهو محتاج إلى دليل مفقود ، بل إهمال الشارع له مع غفلة العقلاء والمتشرعة عنه موجب للقطع بعدم اعتباره ، بل قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث الانسداد : «إن معرفة الوجه مما يمكن للمتأمل في الأدلة وفي إطلاقات العبادة وفي سيرة المسلمين وسيرة النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام مع الناس الجزم بعدم اعتبارها حتى مع التمكن من المعرفة العملية. ولذا ذكر المحقق قدّس سرّه ـ كما في المدارك في باب الوضوء ـ : أن ما حققه المتكلمون من وجوب إيقاع الفعل لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعري».

وأما دعوى الإجماع المتقدمة عن الرضي قدّس سرّه فالظاهر أنها أجنبية عما نحن فيه ، وأن مراده قدّس سرّه الإجماع على بطلان عمل الجاهل المعتقد لخلاف الواقع إذا عمل على طبق اعتقاده ، خلافا لما عن المصوبة من صحة عمله وانقلاب الواقع في حقه.

فعن الذكرى والروض في مسألة اجتزاء المسافر بصلاته لو أتم جاهلا بوجوب القصر عليه : «ان الرضي سأل أخاه المرتضى رحمه الله فقال : الإجماع واقع على أن من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل باحكامها ، فلا تكون مجزية. فأجاب المرتضى عنه بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور ..» وأين هذا مما نحن


فيه ، وهو ما إذا كان عمل الجاهل مطابقا للواقع ، وقد جاء به برجاء إصابته.

وأما دعوى : أن حسن الأفعال وقبحها إنما يكون بالعناوين القصدية وربما يتوقف حسن العبادة على قصد خصوص بعض العناوين غير المعلومة لنا تفصيلا ، فلا بد من قصدها إجمالا بقصد الوجه الذي تكون عليه العبادة من الوجوب او الاستحباب ، لأن قصده قصد لها إجمالا من حيث أخذها في موضوعه.

فمندفعة : بأن إطلاق الأمر ظاهر في عدم دخل عنوان زائد على الذات في حسن الفعل المأمور به ، كما يكون إطلاق النهي ظاهرا في عدم دخله في قبح الفعل المنهي عنه. مع أن العناوين القصدية الدخيلة في الحسن عرفا ـ كالتعظيم الدخيل في حسن القيام ـ يكفي عند العرف قصدها بنحو الاحتمال لا الجزم.

ثم إن هذا الوجه ـ لو تم ـ لا ينهض بإثبات لزوم قصد خصوصية الوجوب أو الاستحباب ، بل يكفي فيه قصد الأمر على إجماله ، كما يكفي فيه قصد الأمر عنوانا وصفيا ، لا داعيا وغاية ، وهو خلاف ظاهر المحكي عن القائلين باعتبار قصد الوجه.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن مراتب الامتثال عند العقل أربعة مترتبة ، لا يجوز العدول إلى اللاحقة مع التمكن من السابقة ، وهي الامتثال التفصيلي بالعلم الوجداني أو الطرق والأصول المعتبرة ، ثم الامتثال الإجمالي ، ثم الظني ، ثم الاحتمالي.

ففي المقام إن كانت الشبهة موضوعية يحسن الاحتياط مطلقا ولو قبل الفحص ، لعدم وجوب الفحص فيها ، فلا تكون منجزة.

وإن كانت حكمية لم يحسن الاحتياط إلا بعد الفحص والعجز عن معرفة الحكم ، لتنجز التكليف فيها بمجرد الاحتمال بتمام ما يعتبر فيه ، وحيث كان


الامتثال التفصيلي معتبرا فيه مع التمكن منه كان هو المتعين ، ولم يحسن الانتقال منه إلى الامتثال الاحتمالي.

وفيه .. أولا : أنه لا أصل لما ذكره من الترتب بين الوجوه المذكورة ، لأن الترتب المذكور إن كان بحكم العقل لكونه من شئون الإطاعة اللازمة للتكليف لم يفرق فيه بين التوصليات والتعبديات ، مع أنه لا إشكال في التخيير بين الوجوه المذكورة في التوصليات مطلقا ولو مع التمكن من الفحص واستعلام الحال.

وإن كان بحكم الشارع لدخله في غرضه في خصوص العبادات كقصد التقرب ، كان محتاجا للدليل ، كأصل العبادية ، كما تقدم نظيره في قصد الوجه.

بل لازم ما ذكره أنه مع اليأس عن تحصيل العلم أو الحجة واحتمال التمكن من تقوية الاحتمال بجعله ظنا بواسطة الفحص أنه لا يشرع الاحتياط الا بعد الفحص المذكور ، ولا يظن منه قدّس سرّه الالتزام به.

نعم ، لا إشكال في عدم اكتفاء العقل بالإطاعة الظنية أو الاحتمالية مع إحراز الأمر أو تنجزه بحيث لا يعلم بالفراغ عنه ، بل لا بد من تحصيل الإطاعة العلمية واحراز الفراغ عن التكليف مع التمكن من ذلك ، لما هو المعلوم من أن التكليف اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وكأن هذا هو مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الإطاعة الظنية والاحتمالية عند تعرضه للمراتب الأربعة المذكورة في المقدمة الرابعة من مقدمات دليل الانسداد ، وهو لا ينافي صحة العمل مع الإطاعة الظنية أو الاحتمالية لو صادف الواقع ووقوع الامتثال والفراغ عن التكليف به.

كما أنه أجنبي عما نحن فيه ، حيث ينشأ الظن بالاطاعة أو احتمالها هنا من الظن بأصل التكليف أو احتماله ، بحيث يعلم بتحقق الإطاعة وحصول الفراغ


عن التكليف على تقدير ثبوته.

وبالجملة : إن كان المدعى عدم الاكتفاء ظاهرا بالاطاعة الاحتمالية وإن سقط بها التكليف واقعا لو كان المأتي به مطابقا له ـ كما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ فهو مسلم ، لكنه أجنبي عما نحن فيه ، حيث كان الشك هنا في أصل التكليف مع العلم بمطابقة المأتي به له لو فرض ثبوته.

وإن كان المدعى عدم الاكتفاء واقعا بموافقة الأمر المحتمل ، وأن التكليف لا يسقط إلا بموافقته في ظرف العلم به ـ كما هو صريح بعض الأعاظم قدّس سرّه ، وهو الذي ينفع في ما نحن فيه ـ فهو في غاية المنع.

وثانيا : أنه لو تم أخذ الإطاعة العملية في العباديات لم يفرق فيه بين الشبهة الموضوعية والحكمية. ومجرد عدم تنجز التكاليف في الشبهة الموضوعية إنما يقتضي عدم لزوم التعرض لامتثالها ، لا الاكتفاء في امتثالها بالوجه الاحتمالي وسقوط غرضها به ، بل هو كامتثالها بوجه غير عبادي لا يسقط الغرض ولا يتحقق به الامتثال ، فاللازم الالتزام بتخيير المكلف بين إهمالها والفحص عنها ثم امتثالها بوجه علمي تفصيلي.

الثالث : أنه لما كان المعتبر في العبادة الإتيان بها بداعي الأمر لزم إحراز الأمر حتى يمكن جعله داعيا ، ولا يمكن جعله داعيا بمجرد احتمال وجوده.

نعم ، لازم ذلك الاكتفاء بالأمر المردد بين الوجوب والاستحباب ، ولا يعتبر إحراز أحدهما بخصوصيته إلا بناء على اعتبار قصد الوجه الذي سبق الكلام فيه.

وفيه : أن المعتبر في العبادة على التحقيق ليس إلا الإتيان بها بوجه قربي ، ولا خصوصيّة لقصد الأمر إلا من حيث ملازمته لذلك ، وحيث كان الإتيان بها بداعي امتثال الأمر المحتمل من وجوه المقربية تعين الاجتزاء به ولا موجب


لإحراز الأمر.

كيف! ولازم ذلك انسداد باب الاحتياط حتى مع تعذر الفحص ، مع أنه لا ينبغي الإشكال في إمكانه بعد التأمل في مرتكزات العرف والمتشرعة والرجوع لسيرتهم ، وقد اعترف شيخنا الأعظم قدس سرّه باستقرار سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على إعادة العبادات لمجرد الخروج عن مخالفة النصوص غير المعتبرة والفتاوى النادرة.

والفرق بين صورتي القدرة على الفحص وتعذره تحكّم لا شاهد له ، بل تأباه المرتكزات جدا.

الرابع : أنه لو فرض قصور الوجوه المتقدمة عن إثبات لزوم الفحص مع القدرة عليه وعدم مشروعية الاحتياط بدونه فلا أقل من كونها موجبة للشك الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال بالتكليف ـ كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سرّه في ذيل كلامه المتقدم في الوجه الأول وصرح به في غير مقام ـ لأن هذا الشرط ليس على حدّ سائر الشروط المعتبرة في الواجب داخلا في حيّز الأمر وقيدا في المأمور به ليرجع مع الشك فيه لأصالة البراءة ، لامتناع أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه ، بل هو كقصد التقرب من الأمور المعتبرة في تحقق الإطاعة التي يسقط بها الأمر ويتحصل بها الغرض ، فمع احتمال دخله فيها يشك في تحققها وسقوط الأمر بدونه ، ومقتضى قاعدة الاشتغال بالتكليف لزوم إحراز الفراغ عنه بالإتيان بجميع ما يحتمل دخله في الإطاعة المسقطة له.

وفيه : أن الإطاعة من مختصات العقل التي لا تصرّف للشارع الأقدس فيها وهي عبارة عن الإتيان بما يطابق المأمور به بأي وجه اتفق ، كما في التوصليات ، وكل ما يعتبر زائدا على ذلك من قصد التقرب وغيره لا بد من رجوعه لبا إلى المأمور به ، ولا بد في إثباته من قيام الدليل عليه الكاشف عن


أخذه في المأمور به ولو بنحو نتيجة التقييد ، وبدونه يرجع لإطلاق الأمر.

ولو غض النظر عن ذلك أمكن التمسك بالإطلاقات المقامية بعد كون الأمور المذكورة مما لا يرى العرف دخلها في الإطاعة ، فعدم تنبيه الشارع الأقدس عليها كاشف عن عدم تصرفه في كيفية الإطاعة وإيكالها إلى طريقة العرف.

ولو غض النظر عن ذلك أيضا أمكن الرجوع لأصالة البراءة ، إما لما عرفت من رجوع الشك في ذلك إلى الشك في قيد المأمور به الداخل في حيز الأمر ، فيكون كسائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، أو لحكم العقل بعدم تنجز الغرض الواقعي من التكليف إلا بالمقدار الذي قامت عليه الحجة ، كما ذكر ذلك أيضا في مبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين. وتمام الكلام في مبحث التعبدي والتوصلي.

هذا تمام ما ذكر في المقام ، وقد عرفت عدم نهوض شيء مما ذكروه بالمنع عن الاحتياط في محل الكلام. فلا بد من البناء على جوازه ، كما هو المطابق لمرتكزات العرف والمتشرعة.

بل لعله المستفاد من نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الظاهرة في المفروغية عن مشروعية الاحتياط والحث عليه. فإن تقييدها بصورة تعذر الفحص بعيد جدا بعد ظهورها في الحث عليه بمجرد البلوغ. وأبعد منه تقييدها بالتوصليات ، لأن العبادات المعروفة هي المتيقن من مورد النصوص ، لكونها الفرد الشائع المألوف للمتشرعة من العمل الذي يترتب عليه الثواب.

بل إهمال الشارع للتنبيه على امتناع الاحتياط في محل الكلام ـ مع كونه مما يغافل عنه العرف بل المتشرعة ، لما عرفت من سيرتهم ومرتكزاتهم ـ قد يوجب القطع بمشروعية الاحتياط ، فلا يحتاج مع ذلك للرجوع للأدلة فضلا


عن الأصول ، كما اعترف به في الجملة شيخنا الأعظم قدّس سرّه في غير موضع من كلامه.

هذا كله في الواجبات الاستقلالية ، وأما الواجبات الضمنية فقد يقال بأنها أولى بجواز الاحتياط. ويأتي في الموضع الثالث الكلام في وجهه.

الموضع الثاني : الاحتياط بالتكرار في موارد العلم الإجمالي بالتكليف الاستقلالي

، وقد اضطرب فيه كلام شيخنا الاعظم قدّس سرّه ، بل مال هنا للمنع ، وحكى عن بعض الاتفاق عليه ، واصرّ عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه ، بل استظهر شيخنا الاعظم قدّس سرّه استمرار سيرة العلماء على عدم التكرار مع ثبوت الطريق الشرعي إلى الحكم ولو كان هو الظن المطلق ـ لو فرض تمامية مقدمات الانسداد ـ فضلا عما لو أمكن الوصول للحكم الشرعي بالعلم أو الظن الخاص.

وقد يستدل عليه ..

تارة : بما تقدم من دعوى اعتبار نية الوجه أو كون الإطاعة التفصيلية مقدمة على الاجمالية. وقد عرفت الجواب عن ذلك.

وأما ما تقدم أيضا من اعتبار الجزم بالأمر في التقرب المعتبر في العبادة ، فلا مجال للتمسك به في المقام ، للعلم بتحقق الأمر فيه وإن لم يعلم حين العمل بانطباقه على المأتي به. ولذا ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في كيفية النية مع التكرار عند تعذر الفحص أنه يجب أن ينوي بكل من الأطراف حصول الواجب به أو بصاحبه تقربا إلى الله تعالى. واعتبار العلم بتحقق الامتثال حين العمل وتمييز الواجب عن غيره حينه لا دليل عليه.

واخرى : بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في خصوص المقام من أن التكرار أجنبي عن سيرة العلماء والمتشرعة وأنه مستلزم للّعب بأمر المولى.

قال قدّس سرّه : «من أتى بصلوات غير محصورة لإحراز شروط صلاة واحدة ـ


بأن صلّى في موضع تردد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة ـ يعد في العرف والشرع لاعبا بأمر المولى. والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصل».

وفيه : أن مجانبة المتشرعة للتكرار لعلها ناشئة من صعوبته لا من ارتكاز عدم مشروعيته عندهم. ولذا قد يقدمون عليه مع صعوبة الفحص من دون استنكار ، فلا تكون سيرتهم دليلا على المنع.

وأما لزوم اللعب فان اريد به ما يساوق الاستهانة بالأمر ، فهو ممنوع جدا ، وإن اريد به ما يساوق عدم الغرض العقلائي المصحح للعمل ، فهو ليس محذورا.

على أنه لا يلزم فيما لو كان له غرض عقلائي مصحح للتكرار ، كصعوبة الفحص ، أو إصابة الواقع ، كما في غالب الشبهات الحكمية ، حيث إن الفحص فيها لا يوجب اليقين بالواقع غالبا ، وإن أمكن به معرفة مؤدى الحجة ، وكذا بعض الشبهات الموضوعية.

ومنه يظهر الفرق بين الصلاتين ومائة صلاة ، فإن صعوبة المائة لا تصحح الإقدام عليها عند العقلاء الا لغرض مهم ، وسهولة الصلاتين تصحح الإقدام عليهما لأدنى غرض.

وأما الإجماع فهو ـ مع عدم ثبوته بنحو معتدّ به ـ لم يتضح كونه إجماعا تعبديا لقرب استناده إلى بعض الوجوه المتقدمة التي عرفت وهنها. فلا مجال لرفع اليد به عن مقتضى الإطلاقات اللفظية أو المقامية والأصل على ما تقدم تفصيله في الموضع الأول.


لكن ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الأصل في المقام يقتضي الاحتياط لرجوعه إلى الدوران بين التعيين والتخيير ، للشك في التخيير بين الامتثال التفصيلي والإجمالي أو تعيين التفصيلي.

وفيه : أنه لا مجال للتخيير شرعا بين الامتثال التفصيلي والإجمالي ، لعدم تصرف الشارع في مقام الامتثال.

مضافا إلى القطع بأن بعض أطراف الامتثال الإجمالي خارج عن مطلوب المولى غير دخيل في غرضه ، فلا معنى لتخييره بينه وبين الامتثال التفصيلي ، بل التخيير بينهما على تقديره عقلي ، ومرجع الشك في المقام إلى الشك في أخذ خصوصية في الواجب زائدة على ذاته موقوفة على الامتثال التفصيلي وعدمه ، وفي مثله تجري البراءة عنده قدّس سرّه ، ولذا التزم بجريانها لدفع احتمال اعتبار قصد الوجه. فتأمل جيدا.

الموضع الثالث : الاحتياط بالتكرار في موارد العلم الإجمالي بالتكليف الضمني.

ولا ينبغي الإشكال فيه في الشروط ، لعدم قصد التقرب بها ، بل بالشروط في ظرف تحققها ، فالجمع بينها لا يمنع من قصد الوجه فيه ، ولا من تحقق الامتثال التفصيلي ولا غيرهما مما قيل باعتباره في المقام.

وأما الأجزاء فكذلك بناء على ما عرفت منّا في الواجبات الاستقلالية.

بل صرح بعض الأعاظم قدّس سرّه بجوازه فيها مع منعه منه في التكاليف الاستقلالية ، بدعوى : أنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك.

لكنه يشكل : بأن التفكيك بين الأجزاء وتمام العمل في اعتبار الاطاعة التفصيلية فيه دونها لا يرجع إلى محصل ، بعد اتحاده معها خارجا ، فما يعتبر في


تمام العمل من القصود يعتبر فيها بحسب المرتكزات العقلائية والمتشرعية. نعم يمكن ذلك ببيان خاص من الشارع ، ومن الظاهر عدمه.

هذا ، وذكر بعض مشايخنا أن المانع من التكرار لو كان هو اعتبار قصد الوجه لم يجر في الأجزاء ، لاختصاص دليله بالواجبات الاستقلالية ، لانحصاره بأمرين ..

الأول : الإجماع المنقول ، وهو لا يشمل الأجزاء ، لذهاب المشهور إلى جواز الاحتياط فيها.

الثاني : ما تقدم من أن حسن الأفعال أو قبحها إنما يكون بالعناوين القصدية التي لا يتسنى قصدها إلا بقصد الوجه ، وهو لا يجري في الأجزاء أيضا ، لأن قصد وجوب مجموع العمل والأمر المتعلق بالكل يكفي في قصد العنوان الحسن إجمالا ، فلا حاجة إلى قصد الوجه في كل جزء بنفسه ، وليس لكل جزء حسن مستقل ليقصد وجهه.

لكن عهدة ما ذكره ـ من قصور الإجماع المنقول ـ عليه ، ولا يسعني عاجلا تحقيقه.

وأما الوجه الآخر فالظاهر أنه يجري في الأجزاء ولا يختص بالكل ، لأن قصد العنوان الحسن المتعلق بالكل إنما يكون بقصده من كل جزء بنفسه لوضوح اتحاد الكل مع الأجزاء ، فلا معنى لقصد العنوان فيه دونها ، وحينئذ فلا بد من إحراز دخول كل جزء في ضمن الكل الذي هو موضوع الأمر حتى يقصد العنوان الحسن المأخوذ في الكل حين الإتيان به ، كما لعله ظاهر.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني ، وقد تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره هنا للكلام في تأخر الاحتياط مرتبة عن الظن الخاص والمطلق ، كما تعرض قدّس سرّه في مبحث الشبهة الوجوبية المحصورة لبعض الفروع المترتبة على عدم جواز


الاحتياط مع التمكن من الفحص ، ولا حاجة لإطالة الكلام في ذلك بعد ما عرفت.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في أحكام القطع وآثاره تبعا للأكابر في المقام.

ولا يخفى أن بعض ما تقدم لا يختص بالقطع ، بل يجري نظيره في الحجج المعتبرة بل الأصول ، كمبحث التجري ، والقطع الموضوعي ، والعلم الإجمالي وغير ذلك مما يظهر للمتأمل. والله سبحانه العالم العاصم ، وهو ولي التوفيق ، والحمد لله رب العالمين.

انتهى تسويده في ٢٢ شوال ، سنة ١٣٩٢ هجرية ، وانتهى تبييضه في ٣٠ شوال سنة ١٣٩٢ هجرية.


المقصد الأوّل

مباحث الحجج



المقصد الأول

في مباحث الحجج

وقد سبق أن البحث فيه يكون في تشخيص الحجج وتعيينها والظاهر أن محل الكلام هو ما ثبت له الحجية شرعا الراجعة إلى تعبد الشارع الأقدس بمضمون الحجة ، تبعا لاعتباره حجيتها ولا معنى للحجية العقلية ، لما هو المرتكز من عدم كون الجعل والاعتبار من وظيفة العقل ، نعم له الحكم بحسن العقاب أو قبحه ، الراجعين الى منجزية احتمال التكليف بنظره وعدمه ، من دون توسط اعتبار الحجية ، وأما القطع فقد عرفت الإشكال في إطلاق الحجة عليه ، وإن صح العقاب معه.

وأما ما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن الظن على الحكومة حجة عقلية وإن لم يكن حجة ذاتية ، كالقطع ، لتوقفه على مقدمات الانسداد.

فلا يبعد أن يرجع إلى ما ذكرنا من كونه بنظر العقل منجزا للأحكام في ظرف الانسداد. ويأتي الكلام في ذلك في أواخر دليل الانسداد.

وكيف كان ، فالمناسب التعرض تمهيدا للكلام في تشخيص موارد الحجج غير العلمية لأمرين ..

الأول : إمكان التعبد بغير العلم عقلا ، إذ لو كان ممتنعا ثبوتا لم يبق مجال للنظر في أدلته إثباتا.

الثاني : تنقيح مقتضى الأصل عند عدم الدليل على الحجية ، ليرجع إليه لو فرض قصور الأدلة عن إثبات الحجية لشيء أو نفيها عنه.


المقام الأول : في إمكان التعبد بغير العلم

المستفاد من كلماتهم أن الإمكان يطلق ويراد به ..

تارة : الإمكان الاحتمالي الذي هو بمعنى احتمال الوقوع ، في مقابل القطع بالعدم.

واخرى : الإمكان الذاتي المقابل لامتناع الشيء لذاته عقلا مع قطع النظر عما هو خارج عنها كاجتماع النقيضين.

وثالثة : الإمكان القياسي ، والمراد به هنا : المقابل لامتناع الشيء عقلا بلحاظ قيام الدليل على الامتناع عليه ، ولو بلحاظ لزوم محاذير منه خارجة عن ذاته أدركها العقل.

ورابعة : الإمكان الوقوعي ، المقابل لامتناعه مطلقا ولو بلحاظ ما هو خارج عن ذاته من المحاذير الواقعية حتى المغفول عنها ، فالممكن بهذا المعنى ما لا محذور فيه واقعا.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه ليس المراد بالإمكان هنا الإمكان الاحتمالي ، لأنه من الأمور الوجدانية غير القابلة للنزاع والبرهان. ولا الإمكان الذاتي ، لعدم وفائه بالغرض المشار إليه في المقام ، وهو فتح باب النظر في أدلة الوقوع ، إذ من الظاهر أنه لا يكفي في ذلك إمكان الشيء ذاتا ، بل لا بد من إمكان وقوعه ، لعدم لزوم محذور منه ، كما لا يخفى.

ومن ثمّ كان ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره إرادة الإمكان الوقوعي. وحينئذ يقع الكلام في الاستدلال عليه في المقام.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «واستدل المشهور على الإمكان بأنا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال. وفي هذا التقرير نظر ، إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقول بجميع الجهات المحسنة والمقبحة وعلمها بانتفائها ، وهو غير حاصل في ما نحن فيه. فالأولى أن يقرر هكذا : أنا لا نجد في


عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة. وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان».

والأولى أن يقال : إنه يكفي في ترتب الغرض الذي أشرنا إليه ـ وهو النظر في أدلة الجعل ـ ونحوه من اللوازم المذكورة للإمكان عدم قيام الدليل على امتناع الجعل ، فلا يجوز بنظر العقل إهمال الأدلة الدالة على ثبوت الشيء ، بمجرد احتمال امتناعه ولزوم محذور منه مغفول عنه ، بل هو من سنخ احتمال المزاحم لا يعتني به العقل ما لم يثبت بالدليل.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره شيخنا الاعظم قدّس سرّه من دعوى حكم العقلاء بالإمكان الوقوعي بمجرد عدم الدليل على الامتناع ، فإنه إذا كان يكفي بنظر العقل في ترتيب الآثار عدم الدليل على الامتناع لم يحتج إلى إحراز الإمكان ولم يتعلق به غرض للعقلاء حتى يمكن دعوى حكمهم به بالوجه المذكور.

والحاصل : أن الإمكان الوقوعي لا طريق لإثباته ، كما لا حاجة له ، بل يكفي عدم الدليل على الامتناع الذي هو عبارة عن الإمكان القياسي.

ومن ثمّ ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه أن النزاع في المقام إنما هو فيه لا في الإمكان الوقوعي.

وإن كان يشكل بأنه خلاف ظاهر كلامهم ، لأن الإمكان بالمعنى المذكور لا يحتاج إلى الاثبات ، بل يكفي فيه إبطال دليل المانع ، مع أن ظاهر ما نقله شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن المشهور أنهم بصدد إثباته ، وهو ظاهر في إرادة الإمكان الوقوعي ، الذي عرفت أن ما ذكره المشهور وشيخنا الأعظم قدّس سرّه لا ينهض بإثباته.

نعم ، ذكر في الكفاية أن أدلة وقوع التعبد بالطرق شرعا كافية في إثبات الإمكان الوقوعي ، لملازمة فعلية الشيء لإمكانه بالمعنى المذكور ، ومع قطع النظر عن أدلة وقوع التعبد لا أثر للنزاع في الإمكان حتى يحتاج إلى إثبات بطريق آخر.


وما ذكره قدّس سرّه متين جدا في مثل المقام مما انحصر دليل الإثبات بالادلة القطعية ، لما هو المعلوم من لزوم انتهاء أدلة التعبد بغير العلم إلى القطع ، فإن الأدلة المذكورة توجب القطع بالإمكان بالمعنى المذكور.

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من الإشكال فيه ..

تارة : بأن النزاع في الإمكان في رتبة سابقة على النزاع في الوقوع.

واخرى : بأن النزاع المذكور من قبيل النزاع في أمر عقلي ، فلا يصح الاستدلال عليه بدليل الوقوع ، الذي هو من سنخ الدليل السمعي.

وثالثة : بأن عدم الأثر للنزاع في الإمكان مع قطع النظر عن أدلة الوقوع لا يمنع من صحة النزاع ، ويكون النزاع حينئذ علميا محضا ، لا عمليا ، كما هو الحال في كثير من نزاعاتهم.

فهو كما ترى! لاندفاع الأول : بأن سبق النزاع في الإمكان رتبة لا ينافي الاستدلال عليه بدليل الوقوع.

والثاني : بأنه لا مانع من إثبات الأمر العقلي بالدليل السمعي إذا كان موجبا لليقين به ، بل هو أولى من الأدلة العقلية ، لرجوعه إلى مقدمات حسية بديهية لا مجال لردها بالبراهين العقلية التي قد يستدل بها على الامتناع ، بل تكون شبهة في مقابل البديهة ، ولعله لذا أمر قدّس سرّه في هذا الوجه بالتأمل.

نعم ، لو لم تكن أدلة الوقوع قطعية ، بل قابلة للرد أو التأويل كان النزاع في الإمكان مهما ، إذ معه لا حاجة للتأويل ، وبدونه يحتاج له. لكنه لا مجال له في المقام.

والثالث : بأن النزاعات العملية المحضة إنما تحسن مع توقع الأثر العملي منها ولو على بعض مباني المسألة ، لا مع عدم الأثر مطلقا كما في المقام.

والحاصل : أن ما ذكره في الكفاية متين جدا. لكنه راجع إلى عدم الاثر للنزاع في الإمكان ، بل يلزم النظر في أدلة الوقوع ابتداء.


وعليه ينبغي أن يكون الغرض الأصلي من الاستدلال على الامتناع نفي الوقوع ، وإبطال أدلته ، لا نفي الإمكان ، والغرض من إبطال دليل الامتناع رفع المنافي لأدلة الوقوع ، ليتسنى إثباته بها ، لا إثبات الإمكان. فلاحظ.

وكيف كان ، فقد نسب لابن قبة دعوى امتناع التعبد بخبر الواحد عقلا ، ودليله لو تم جار في مطلق الامارة غير العملية ، بل في مطلق التعبد بغير العلم ولو كان مفاد الأصل. إذ عمدة دليله ـ على ما قرره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وحكي عن القوانين ـ أنه يلزم منه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما وبالعكس.

هذا ، والمحتمل بدوا رجوع الوجه المذكور إلى أحد محاذير ثلاثة ..

الأول : أن تحليل الحرام وتحريم الحلال مستلزم لتفويت ملاكهما وتضييعه ، وهو قبيح ، بل هو مستلزم لنقض الغرض ، لفرض تعلق الغرض بمقتضى الحكم الواقعي ، فجعل الطريق الموصل لما يخالفه مانع من الجري عليه وموجب لنقض الغرض المذكور.

ومنه يظهر أن لزوم المحذور المذكور لا يتوقف على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، لامتناع نقض الغرض مطلقا.

الثاني : أنه مستلزم لاجتماع الحكمين المتضادين أو المتناقضين ، وهو محال.

الثالث : أنه مستلزم للتشريع القبيح ، لما يستلزمه التعبد المذكور من إدخال ما ليس من الدين في الدين ، ونسبته ما لم يصدر من الشارع الأقدس له.

هذا ، ولم أعثر على من حمله على الوجه الثالث أو احتمله فيه ، إلا أن ما سبق عنه لا يأباه.

وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ بل صرح به بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ من حمله على خصوص الأول ، فلا وجه له. بل لا يناسبه ما ذكره من لزوم تحريم


الحلال ، لما هو المعلوم من أن تحريم الحلال لا يستلزم تفويت ملاكه.

نعم ، بناء على ما يظهر من الفصول في تقريره للمحذور المذكور من ترتبه على العمل بالطريق ، يتم ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه لظهور أن المحذورين الأخيرين لا يتوقفان على العمل بالطرق ، بل يكفي في لزوم الثاني التعبد بها من الشارع ، وفي لزوم الثالث بناء المكلف على مؤداها والالتزام به ولو مع عدم العمل.

وكيف كان ، فالمحذور الثالث ظاهر الدفع ، إما لأن التعبد الشرعي رافع لقبح نسبة ما لم يصدر من الشارع له ومخرج له عن التشريع ، لاختصاص القبح الواقعي بما إذا كانت النسبة من غير حجة ، ولذا لو فرض استنادها للقطع المخالف للواقع فلا قبح واقعا.

أو لأن الالتزام بمؤدى الطريق والأصل لا يقتضي الالتزام بأنه الحكم الشرعي الثابت واقعا ، ليلزم نسبة ما لم يصدر من الشارع له ، بل الالتزام بأنه الحكم الذي قامت عليه الحجة الشرعية أو اقتضته الوظيفة العملية ، وهو مطابق للواقع. ويأتي في المقام الثاني عند الكلام في الأصل المعول عليه عند الشك في الحجية توضيح ذلك.

فالعمدة النظر في المحذورين الأولين ، حيث أطال الأصحاب الكلام في دفعهما.

ومن الظاهر أنهما مبنيان على ما هو الحق من التخطئة ، ولا موضوع لهما على التصويب ، لعدم بقاء الحكم الواقعي على خلاف الطرق الشرعية حتى يلزم من جعلها تفويت ملاكه ، أو جعل حكم آخر مضاد له ، ليلزم اجتماع الضدين.

من دون فرق بين التصويب المنسوب للاشاعرة الراجع إلى عدم جعل حكم واقعي غير مؤدى الطريق ، والتصويب المنسوب للمعتزلة ، المبني على جعل الأحكام الواقعية مع قطع النظر عن الطرق مع كون قيام الطرق المخالفة لها


رافعا لها ، لحدوث الملاك المزاحم لملاكاتها الرافع لها والموجب لجعل الحكم على طبق الطريق.

فما يظهر من غير واحد في دفع المحذور المذكور بما يناسب الوجه الثاني من التصويب في غير محله ، لأنه خروج عما هو مفروض الكلام ويظهر التسالم عليه بيننا من بطلان التصويب بكلا وجهيه.

وإذا عرفت هذا يقع الكلام في المحذورين معا ، فنقول :

أما الأول : فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره أنه لا يلزم مع فرض انسداد باب العلم بالاحكام الشرعية ، إذ معه يكون الموجب لفوات الملاكات ، وهو الانسداد لا جعل الطرق ، بل يكون جعلها سببا لتحصيل بعض ما يفوت من الملاكات بسبب الانسداد بعد فرض عدم وجوب الاحتياط ولو لتعذره.

هذا ، وقد زاد بعض الأعاظم قدّس سرّه : أن المحذور المذكور لا يلزم مع انفتاح باب العلم أيضا لو فرض اطلاع الشارع على كون الطرق المجعولة أقل خطأ من العلم الحاصل للمكلف أو مساوية له ، إذ المراد بانفتاح باب العلم انفتاح باب القطع ولو خطأ ، لا فعلية العلم المصيب دائما ، لعدم إمكان إحراز ذلك. وقد سبقه إلى ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلا أنه الحقه بفرض الانسداد وألحقه بعض الأعاظم قدّس سرّه بفرض الانفتاح.

وقد استشكل فيه بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه : بأن ضياع الملاك مع خطأ القطع قهري ، لعدم التفات القاطع إلى خطأ قطعه ، بخلاف التعبد بالطريق مع الخطأ ، فإنه تفويت اختياري مستند للشارع فيقبح منه.

وهو كما ترى! إذ لا معنى لفرض كون التفويت اختياريا مستندا للشارع مع فرض تحققه على كل حال حتى مع عدم نصبه للطريق. فما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في محله.

نعم ، ذكر قدّس سرّه أن الطرق المبحوث عنها من هذا القبيل ، لأنها ليست


اختراعية للشارع ، بل هي طرق عرفية عقلائية ، وهي عندهم كالعلم من حيث الإتقان والاستحكام والإصابة والخطأ ، فلا قبح في جعل الشارع لها بناء على ما تقدم.

وفيه .. أولا : أن الكلام لا يختص بالطرق العرفية ، بل يجري في غيرها مما ثبت جعله ـ كيد المسلم التي هي أمارة على التذكية ولو مع استحلاله للميتة ـ أو لم يثبت ، لما هو المعلوم من عدم الفرق بين الطرق العرفية وغيرها في الإمكان والامتناع.

وثانيا : أنه لا مجال لدعوى بناء العقلاء على كون الطرق المذكورة كالعلم في الاستحكام والإصابة ، كيف وظهور الخطأ فيها لا يحصى؟! ولا سيما مثل اليد ، وأصالتي الصحة والطهارة ، خصوصا مع عموم حجيتها لصورة إمكان الفحص ، الذي لا إشكال في كونه عندهم أوصل منها.

وثالثا : أن الكلام لا يختص بالطرق ، بل يجري في الأصول التي يجوز الرجوع لها مع التمكن من الفحص واستعلام الحال في الشبهات الموضوعية كأصالة الطهارة ، بل مع حكم العقل بلزوم الاحتياط وتحصيل العلم لولاها ، كما في موارد قاعدة الصحة والتجاوز ، فإن الرجوع حينئذ لها موجب لتفويت الملاك الواقعي كثيرا مع إمكان تحصيله بالفحص أو الاحتياط اللازم عقلا.

فالإنصاف أنه لا مجال لدفع المحذور المذكور بذلك ، بل لا بد من التماس طريق آخر.

وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره أنه يمكن الالتزام بتدارك الملاكات الفائتة بمصلحة متابعة الطرق ، فقيام الطرق لا يوجب تبدل الملاكات الواقعية الثابتة لأفعال المكلفين ليوجب تبدل أحكامها الواقعية ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني للتصويب ـ بل هو موجب لحدوث مصلحة في نفس سلوك الطرق ومتابعتها يكون بها تدارك ما فات من تلك الملاكات بسبب خطأ الطرق وعمل


المكلف عليها ، ولو لا التدارك لكان تفويت الملاكات الواقعية قبيحا كما ذكر في تقرير المحذور.

لكن لا يخفى أنه لا ملزم بالتدارك كما ذكره غير واحد ، إذ مع فرض كون مصلحة الطرق أهم من الملاكات الواقعية الفائتة لا قبح في تفويت الملاكات ولا يلزم معه تداركها ، ومع فرض عدم أهميتها يقبح تفويت الملاكات لأجلها ، ولا ينفع فيه التدارك بها.

ولا سيما مع كون عدم التدارك هو المناسب لمرتكزات المتشرعة ، لما هو المرتكز عندهم من أن الجهل بالواقع موجب لتفويته ، وأن ما فعله الظالمون مما سبب تضييع الأحكام كان سببا لخسارة الناس وحرمانهم من بركاتها ، وربما يستظهر ذلك من بعض الأخبار.

اللهم إلا أن يكون المراد بتدارك ما فات مجرد وجود المزاحم المصحح لتفويته. لكنه خلاف ظاهر كلماتهم خصوصا شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وكيف كان ، فهذا الوجه وإن دفع المحذور المذكور ، إلا أنه لا ينفع في ما نحن فيه ، إذ مرجعه إلى كون ملاك سلوك الطرق مزاحما للملاكات الواقعية ، لمنافاته لها عملا ، ومن الظاهر أنه مع تزاحم الملاكات يكون التأثير للأقوى منها ، ويسقط الأضعف عن تأثير الحكم الذي يقتضيه ، ولازم ذلك في المقام سقوط الأحكام الواقعية ، ولزوم سلوك الطرق ، وهو راجع إلى الوجه الثاني من التصويب ، لعدم توقف التصويب على كون قيام الطرق موجبا لتغير الملاك الواقعي الثابت للفعل بعنوانه الأولي ، بل يكفي تغير ملاكه بعنوان ثانوي طارئ عليه ، كعنوان سلوك الطرق ومتابعتها ، الذي هو من عناوين فعل المكلف الثانوية الطارئة عليه بسبب قيام الطرق ، كما لا يخفى.

نعم ، هذا الوجه لا يقتضي الإجزاء مع إمكان التدارك بمثل الإعادة والقضاء ، لعدم منافاته للفوت ، فإن وجود المصحح لتفويت الملاكات في


الوقت لا ينافي إمكان تداركها بعد ذلك ، نظير ترك الصلاة أو الصوم لمزاحم أهم ، ولا يبعد كون مبنى القائلين بالتصويب على الاجزاء ، لعدم تحقق الفوت بسبب تبدل الملاك ، وهو ـ لو تم ـ كاشف عن ابتناء التصويب عندهم على تبدل ملاك الفعل بنفسه ، لا من جهة المزاحم.

لكن هذا لا ينافي بطلان هذا الوجه وخروجه عن محل الكلام ، كالتصويب بالمعنى المذكور ، لرجوعه إلى عدم فعلية الأحكام الواقعية ولو من جهة المزاحمة ، وهو خلاف ما ادعاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من تواتر الأخبار باشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بها ، كما لا يخفى.

وبالجملة : حيث فرض فعلية الأحكام الواقعية تبعا لفعلية ملاكاتها تعين الالتزام بعدم طروء المزاحم لتلك الملاكات بسبب قيام الطرق ، وهو مصلحة السلوك المشار إليها.

وقد حاول المحقق الخراساني قدّس سرّه وغيره دفع محذور تفويت الملاكات الواقعية بوجه آخر لا يبتني على المصلحة السلوكية ، فقد ذكر أن المصحح لتفويت الملاكات الواقعية هو المصلحة الملزمة بنصب الطرق والتعبد بها ، نظير مصلحة التسهيل النوعي ، فنصب الطرق لا يقتضي المصلحة في سلوكها الذي هو من عناوين فعل المكلف الثانوية ، ليزاحم الملاكات الواقعية ويمنع من فعلية أحكامها ، بل هو نفسه مشتمل على المصلحة الملزمة المصححة لتفويت الملاكات الواقعية ، والرافعة لقبحها.

وعن بعض الأعاظم قدّس سرّه أنه لا بد حينئذ من تدارك ما فات من الملاكات الواقعية بسبب الجعل.

وهو غير ظاهر ، إذ لا موجب للتدارك مع فرض أهمية مصلحة الجعل ، لعدم قبح تفويت المهم لأجل الأهم عقلا ولو لم يتدارك ، كما هو ظاهر.

نعم ، قد يستشكل في ذلك أيضا ـ كما يستفاد من بعض الأعيان


المحققين قدّس سرّه : بأنه راجع إلى فرض التزاحم بين ملاكات الأحكام الواقعية وملاك نصب الطرق ، لامتناع استيفاء كلا الملاكين ، بل استيفاء الثاني مانع من استيفاء الأول ، فإن فرض أهمية الملاكات الواقعية تعلّق الفرض الفعلي للمولى بجعل الأحكام الواقعية على طبقها وامتنع نصب الطرق المخالفة لها ، لما فيه من تفويت تلك الملاكات ونقض الغرض الفعلي ، وإن فرض أهمية ملاك نصب الطرق لزم رفع اليد عن الملاكات الواقعية وسقوط أحكامها ، وهو خلاف فرض فعلية الأحكام الواقعية وتعلق الغرض بها.

وبالجملة : تعلق الغرض والإرادة الفعليين على طبق الأحكام الواقعية ينافي نصب الطرق المؤدية إلى خلافها بعين التنافي بين إرادة الشيء وإرادة ما يمنع عنه ، كما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

ومن الغريب ما ذكره بعض مشايخنا من تنظير مصلحة التسهيل النوعية في المقام بحق الشفعة الذي ثبت للشريك ، لأنه ربما يتضرر من اشتراكه مع الشريك اللاحق ، وبطهارة الحديد ، وعدم وجوب السواك ، ونحو ذلك.

إذ فيه : أن تقديم الملاك النوعي في هذه الموارد موجب لعدم تأثير الملاك المزاحم بها في الحكم الفعلي ، وليس الحكم الفعلي إلا على طبقها ، بخلاف المقام حيث فرض فيه كون الحكم المخالف لمؤدى الأمارة فعليا ، لفعلية ملاكه.

ثم إن هذا الإشكال لو تم لا نفتح به أبواب من الإشكال لا مجال للالتزام بها ، فان تعلق الغرض والإرادة الفعليين بحفظ الملاك الواقعي الفعلي كما يمنع من إرادة ما ينافيه ـ وهو نصب الطرق المؤدية لخلافه ـ كذلك يقتضي جعل ما يكون سببا في حفظه ، كنصب الطرق المؤدية له المأمون منها الخطأ ، وإيجاب الاحتياط لو فرض تعذرها وانسداد باب العلم ، بل يلزم النهي عن سلوك الطرق المؤدية للقطع إذا كانت بنظر المولى معرضة للخطإ وموجبة لفوت الملاك الواقعي ولا يمكن الالتزام بشيء من ذلك ، لما هو المعلوم من كثرة فوت الواقع


بسبب خطأ القطع وعدم نصب الشارع لطرق مأمونة الخطأ ، وعدم وجوب الاحتياط شرعا في أكثر موارد الشك ، بل يجوز الرجوع لمقتضى البراءة ولو بحكم العقل ، فلا بد إما من دفع هذه الشبهة في هذه الموارد ، فتندفع في ما نحن فيه ، لأنه من سنخها ، أو إهمالها فيها ، لأنها من سنخ الشبهة في مقابل البديهة ، فتهمل في ما نحن فيه أيضا.

وقد تصدّى بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه لدفع الشبهة من أساسها بنحو ـ لو تم ـ ينفع على جميع مباني المسألة. إلا أنه لطوله وكثرة مقدماته لا يسعنا استقصاؤه ، وقد لخصه سيدنا الأعظم قدّس سرّه واقتصر منه على ما يناسب القول بجعل الطرق لمحض الطريقية ، وهو يبتني على أمرين.

الأول : أن منشأ تضاد الأحكام هو تنافي الإرادة والكراهة والرضا التي هي المعيار في كون الحكم حقيقيا ، وتنافيها ناشئ من تنافي مباديها وهي ترجح الوجود على العدم ، وترجح العدم على الوجود ، وتساويهما في نظر المولى ، لاستحالة اجتماع هذه الأمور في شيء واحد.

إلا أن يكون للشيء الواحد جهات من الوجود ، فيمكن اتصافه بكل من هذه الأمور بلحاظ كل جهة من جهاته ، فيكون وجوده أرجح من عدمه بلحاظ جهة وعدمه أرجح من وجوده بلحاظ جهة اخرى ، وعليه فالوجود الواحد إذا كان له مقدمات متعددة تتعدد جهاته بتعدد تلك المقدمات ، فكما يمكن أن يكون وجوده أرجح من عدمه من جميع الجهات الموجب لإيجاده بإيجاد جميع مقدماته ، كذلك يمكن أن يكون وجوده أرجح من عدمه بلحاظ بعض جهاته ، فيتعلق الغرض بإيجاده من تلك الجهة دون بقية الجهات ، وهو يقتضي إيجاد المقدمة المتعلقة بالجهة المرادة دون بقية المقدمات ، بل قد يكون عدمها أرجح من وجودها ، فتتعلق الكراهة بالفعل من جهتها ، كما تعلقت الإرادة به من الجهة الاولى ، ولا محذور حينئذ في اجتماع الضدين في الشيء الواحد


لتعدد الجهة.

كما أن الحال كذلك في المركب الذي تتعدد جهاته بتعدد أجزائه ، فقد يتعلق به الغرض من جميع الجهات ، فيوجد بتمام أجزائه ، وقد يتعلق به الغرض من بعض جهاته ، فلا يوجد إلا بعض أجزائه.

الثاني : أن الإرادة التشريعية التي هي المناط في الأحكام من سنخ الإرادة التكوينية ، بل هي مرتبة منها ، وليس الفرق بينهما إلا في كيفية التعلق بالمراد ، فإن لوجود الفعل من المكلف مقدمات ، بعضها يتعلق بالعبد ، وبعضها يتعلق بالمولى ، وهي جعل الحكم ، وتنجيزه على المكلف ـ بإيصاله أو بإيجاب الاحتياط فيه ـ وحدوث الداعي العقلي له إلى الإطاعة ، كالخوف من المولى ، او الرجاء له وغيرهما.

فإن تعلّقت إرادة المولى بالفعل من جميع الجهات لاقتضاء ملاكه لذلك كانت تلك الإرادة تكوينية ، وامتنع تخلفها عن المراد ـ مع قدرة المولى ـ والإرادة المذكورة تستتبع إرادات غيرية لتمام المقدمات الموصلة له ، فيجعل المولى الحكم وينجزه على المكلف ـ بإيصاله أو إيجاب الاحتياط عليه فيه ، ويهدده ويخوفه ، إلى أن يختار الامتثال ويحقق المراد.

وإن تعلقت به من جهة تشريع الحكم فقط لعدم اقتضاء ملاكه إلا ذلك كانت الإرادة تشريعية ، وهي لا تقتضي إلا تشريع الحكم وجعله ، ولا تقتضي تنجيزه ولا غير من المقدمات ، بل يتوقف ذلك على إرادة اخرى تقتضي الوجود من تلك الجهات ، وذلك تابع لغرض المولى التابع لمقدار الملاك الملحوظ له.

وبالجملة : الإرادة التشريعية مرتبة من الإرادة التكوينية تقتضي وجود فعل المكلف من حيث تشريع الحكم لا غير ، ولذا أمكن تخلف المراد عنها.

إذا عرفت هذا ، ظهر أن جعل الحكم لا ينافي جعل الطرق المخالفة له ،


كما لا يقتضي تيسير طريق الوصول له أو حفظه بإيجاب الاحتياط ونحوه ، لأن جعل الحكم تابع للإرادة التشريعية ، وهي إرادة فعل المكلف من حيث جعل الحكم ، وهو لا يستلزم إرادته من بقية الجهات ـ كتنجيزه وغيره ـ لما عرفت من إمكان التفكيك في الإرادة بين جهات الوجود ومقدماته ، فيترجح الوجود على العدم من بعضها ، ويترجح العدم على الوجود من بعضها الآخر. كما لا محذور في تفويت الملاك حينئذ في مرحلة تنجيز الحكم ، إذ لا اقتضاء في الملاك للتحصيل إلا من حيث جعل الحكم ، فلا يقبح تفويته من الجهات الأخر بجعل الطريق المنافي له.

نعم ، لو فرض تعلق الإرادة بفعل المكلف من جهة تنجيز التكليف به أيضا لاقتضاء ملاكه لذلك امتنع نصب الطريق المخالف له ، بل لا بد من تنجيزه ولو بجعل الاحتياط لئلا يلزم نقض الغرض وتفويت الملاك اللازم التحصيل.

لكن هذا خروج عن الفرض ، إذ الكلام في منافاة نصب الطريق لأصل الجعل ، واستلزامه تفويت الملاك الموجب له لا غير.

كما ظهر ـ أيضا ـ عدم لزوم محذور اجتماع الحكمين المتضادين لو كان مؤدّى الطريق مخالفا للأحكام الواقعية ، فإن التعبد بالطريق وإن كان حاكيا عن الترخيص في مخالفة الأحكام الواقعية ، إلا أن الترخيص قد تعلق بحيثية إيصال الحكم وتنجيزه ، فلا ينافي الحكم الواقعي الناشئ عن الإرادة التشريعية المتعلقة بحيثية جعل الحكم ، لاختلاف الجهة الرافع لمحذور اجتماع الحكمين المتضادين ، كما عرفت. وقد أطال قدّس سرّه ـ تبعا لشيخه المذكور قدّس سرّه ـ في توضيح ذلك وتنقيحه ، كما يظهر بمراجعة كلامهما.

لكن ما ذكره من إمكان التفكيك في إرادة الشيء بين جهات وجوده من حيثية الأجزاء والمقدمات مما تأباه المرتكزات العرفية جدا ـ كما ذكرناه عند الكلام في حقيقة الإرادة التشريعية ـ لان الإرادة الغيرية لما كانت في طول الإرادة


النفسية وكان الغرض الموجب لها هو الوصول للمراد النفسي فلا بد من الارتباطية بين الإرادات الغيرية المتعلقة بجميع المقدمات وامتنع التفكيك بينها ، فإرادة ذي المقدمة تستلزم إرادة جميع مقدماته ، ومع عدم إرادة بعضها وعدم السعي له المستلزم لعدم حصول المراد النفسي يمتنع تعلق الإرادة النفسية به ، فيمتنع معه إرادة بعض المقدمات غيريا.

وكذا الحال في المركب ذي الأجزاء ، ضرورة الارتباطية أيضا بين الإرادات الضمنية التي تنحل إليها الإرادة الاستقلالية المتعلقة بالمركب.

نعم ، قد يتعلق الغرض الاستقلالي بالمقدمة أو الجزء ، فيكون مرادا نفسيا أو استقلاليا. من دون أن تتعلق الإرادة بذي المقدمة ولا بالمركب ؛ وهو خارج عن محل الكلام ، حيث فرض فيه كون متعلق التكليف بنفسه مرادا للمولى وفرض توقف وجوده على المقدمات المذكورة في كلامه قدّس سرّه ، لا أن الإرادة قد تعلقت بجعل التكليف من دون أن تتعلق بالمكلف به.

وحينئذ يعود المحذور المتقدم ، إذ مع فرض فعلية الملاك على طبق الحكم الواقعي المستلزم لتعلق الغرض والإرادة بمتعلق الحكم لا بد من حفظ المولى لمراده بفعل تمام مقدماته ومنها تنجيز التكليف ، ولا يكتفي بجعل الحكم. كما يعود محذور لزوم اجتماع الضدين ، لأن تعدد الجهة لا يجدي مع الارتباطية بين الجهات في تعلق الإرادة والغرض ، كما لعله ظاهر.

هذا ، والظاهر اندفاع المحذور المذكور بناء على ما هو الظاهر في حقيقة الإرادة التشريعية التي هي الملاك في ثبوت الأحكام الشرعية ، فقد ذكرنا في محله أنها ليست من سنخ الإرادة التكوينية ، ولا ملازمة لها ، بل هي متقومة بالجعل والخطاب بداعي جعل السبيل على المكلف ، وهي ..

تارة : تصدر عن إرادة تكوينية للفعل ، وهي حينئذ غير قابلة للتخلف مع فرض قدرة المريد ، فلا بد له من تحقيق تمام ما له الدخل في وقوع المراد مما


يحمل المكلف على الامتثال ، من تنجيز الحكم على المكلف ، وإقداره على امتثاله ، واحداث الداعي في نفسه بالتخويف والتهديد والهداية وغير ذلك ، لئلا يلزم نقض الغرض.

واخرى : لا تصدر عن إرادة تكوينية ، بل لدواع أخر ، فلا يلزم تهيئة ما يتوقف عليه الامتثال مما تقدم ، بل يمكن حينئذ تهيئة ما يمنع عنه ، من نصب الطرق المؤدية لخلاف الواقع ، أو تعجيز المكلف عن الوصول إليه ومعرفته بنحو لا يتسنى الاحتياط كما في الدوران بين المحذورين أو إيجاد أسباب العصيان له ، كإثارة الدواعي الشهوية ، وتمكين الشيطان منه ، وحرمانه من فيض الهداية الربانية ، ولا يلزم من ذلك نقض الغرض بوجه.

نعم ، لا إشكال في أن التكاليف الشرعية تابعة للملاكات الفعلية ، إلا أن فعلية الملاكات لا تقتضي عقلا حفظها من جميع الجهات ، بل تقتضي حفظها في مقام التشريع بالوجه الذي لا يلزم منه محذور أهم ، فإذا فرض لزوم المحذور ـ كالحرج النوعي ـ لم يقبح عقلا تفويتها ـ بجعل الطرق المخالفة أو بعدم إيجاب الاحتياط أو بغيرهما ـ ولا ينافي ذلك فعليتها ، إذ ليس المراد بفعلية الملاك المستتبعة لفعلية الحكم إلا كونه بنحو يقتضي رجحان الفعل أو الترك ، بحيث يقتضي العمل لو تنجز في حق المكلف ، وجواز تفويته من قبل الشارع بجعل ما يمنع من تنجيزه ـ كالطرق المخالفة له ـ لمصلحة في جعله لا ينافي فعليته بهذا المعنى ، ولا يلزم منه التصويب.

وبعبارة اخرى : بطلان التصويب إنما يقتضي فعلية الأحكام ـ تبعا لملاكاتها ـ في حق المكلف ، بحيث يكون عمل المكلف واجدا للملاك المقتضي للحكم من دون مزاحم ، وهو لا يستلزم فعلية الملاك في حق المولى بنحو يلزمه استيفاؤه تشريعا حتى بإيصاله للمكلف ، بل يمكن عروض ما يقتضي تفويته وعدم تنجيزه من المزاحمات ، فلا يقبح منه حينئذ تفويته وإن كان


تاما مقتضيا للعمل من المكلف لو لا عدم التنجيز.

وهذا بخلاف ما إذا كان نصب الطريق موجبا لحدوث ملاك في نفس الفعل يقتضي متابعة الطريق ـ كما هو مبنى المصلحة السلوكية ـ فإن الملاك الواقعي يكون مزاحما قاصرا عن تأثير الحكم الفعلي مع قطع النظر عن عدم تنجيزه ، ومن ثمّ كان نحوا من التصويب ، كما سبق.

هذا ، مضافا إلى أن امتناع الجمع بين الغرضين واستيفائهما معا في الخارج إنما يمنع من فعليتهما ، معا في حق الشخص الواحد ، ويستلزم سقوط أحدهما أو كليهما عن الفعلية فيما إذا كانا معا راجعين إلى مقام الثبوت أو إلى مقام الاثبات ، كما إذا تعذر الجمع بين حفظ المال وحفظ الصحة ، أو بين حفظ كرامة الشاهد المقتضي لقبول شهادته والاهتمام بالواقع المشهود به المقتضي لعدم الاكتفاء فيه بغير العلم ، أما اذا كان أحدهما راجعا إلى مقام الثبوت والآخر راجعا إلى مقام الإثبات فلا مانع من فعليتهما معا بنحو ينبغي العمل عليهما معا ، كما لو لم يزاحم بالآخر ، من دون أن يكون تفويت الملاك الراجع إلى مقام الثبوت لأجل الملاك الراجع إلى مقام الاثبات منافيا لفعليته بنحو ينبغي حصوله.

مثلا : اذا اقتضى علاج المرض استعمال الدواء على رأس كل ساعة ، ولم يمكن احراز ذلك كاملا إلا بشراء المنبّه ، وكان شراؤه مجحفا بالمريض ، فقد يكون العلاج المذكور من الأهمية بنحو يلزم بتحمّل الاجحاف المالي ، وقد لا يكون كذلك ، إما لعدم أهمية المرض ، أو لعدم استلزام الاخلال بالموعد في بعض الوقائع بسبب عدم المنبّه تعذّر العلاج رأسا ، بل عدم كمال العلاج وبلوغه المرتبة التامة ، وحينئذ لا يقدم المريض على شراء المنبه دفعا للضرر المجحف به وان استلزم الإخلال بالموعد في بعض الوقائع ، من دون أن يخرج الحفاظ عن الموعد فيها عن الفعلية ، ولذا لو حصل صدفة بلا علم بالوقت كان وافيا بالغرض الفعلي ، كما لو حصل عن علم بالوقت. وهذا بخلاف ما لو كان الحفاظ


على الموعد في بعض الوقائع مستلزما لمحاذير ثبوتية ، كالتعرض للبرد المضر بالبدن من جهة اخرى غير المرض المعالج ، أو الضرر المالي المجحف في نفس العلاج ، كغلاء الدواء ، ونحوهما مما يمنع من فعلية الغرض فيه ثبوتا ، بحيث لو وقع لم يكن مطابقا للغرض الفعلي على نحو غيرها من الوقائع غير المزاحمة من تلك الجهة.

وبما ذكرنا ظهر أن ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من كون المصلحة المقتضية لنصب الطرق في نفس التعبد بالطرق وجعلها من قبل الشارع ، لا في متابعة المكلف للطرق ـ كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ واف بدفع محذور تفويت الملاكات الواقعية.

ولا يتوجه عليه محذور نقض الغرض ، لتوقفه على كون التكاليف الفعلية ناشئة عن الإرادة التكوينية.

كما لا يتوجه عليه محذور عدم فعلية الملاكات ولا الأحكام التابعة لها ، لما عرفت من أن وجود ما يمنع من تنجيز المولى للحكم لا ينافي فعليته في حق المكلف ، بمعنى كون ملاكه مقتضيا للفعل ـ لو فرض تنجّزه ـ غير مزاحم بما يمنع من تأثيره.

هذا ما تيسر لنا في دفع محذور لزوم تفويت الملاكات الواقعية ونقض الغرض من جعل الطرق غير العلمية. والله سبحانه ولي التوفيق.

وأما المحذور الثاني : ـ وهو محذور اجتماع الحكمين المتضادين ـ فقد يدعى عدم اختصاصه بصورة المخالفة ، بل يجري نظيره في صورة الموافقة ، حيث يلزم حينئذ اجتماع المثلين.

وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن ذلك ليس محذورا ، إذ يمكن حينئذ الالتزام بالتأكد بين الحكمين ، فيكون في المورد حكم واحد بمرتبة شديدة.

وفيه .. أولا : أن الحكم الواقعي إن كان منجزا في صورة إصابة الطريق له


بحيث يكون منشأ لاستحقاق العقاب والثواب لزم تأكد العقاب والثواب وشدتهما ، بحيث يكون العقاب والثواب على الحكم الذي أصابه الطريق أشد من العقاب والثواب على الحكم الذي يصيبه المكلف بالقطع ، حيث لا يكون القطع مستتبعا لحكم يؤكد الحكم الواقعي ، بخلاف الطريق. وإن لم يكن منجزا صالحا لان يعاقب ويثاب عليه ـ لفرض عدم العلم به ـ لزم كون العقاب على الحكم الظاهري لا الواقعي ، وكلا الأمرين لا يمكن الالتزام به.

وثانيا : أن الحكم الظاهري إذا كان من سنخ الحكم الواقعي بحيث يؤكده في صورة الموافقة يلزم في صورة المخالفة جريان أحكام اجتماع الحكمين بعنوانين في مورد واحد ، فيقدم الالزامي على غيره ، والاقتضائي على غيره ، ويتزاحمان لو كانا اقتضائيين إلزاميين أو غير إلزاميين ، فيسقطان لو كانا متساويين ملاكا ، ويقدم الأقوى منهما مع عدم التساوي. ومن الظاهر عدم الالتزام بذلك.

فالتحقيق : أن الحكم الظاهري مباين سنخا للحكم الواقعي ، فلا يتأكد أحدهما بالآخر مع تماثلهما ، ولا يتزاحمان مع تضادهما ، فلا بد من النظر في حالهما وفي كيفية الجمع بينهما مع التماثل والتضاد.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه ربما يدفع المحذور المذكور بوجوه ..

الأول : ما تقدم من سيدنا الأعظم وشيخه (قدس سرهما) من اختلاف الجهة ، فإنه رافع لمحذور اجتماع الضدين والمثلين. وقد سبق الإشكال في الوجه المذكور.

الثاني : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في أول مباحث الشك ، ومباحث التعادل والتراجيح من أن الحكم الظاهري متأخر رتبة عن الحكم الواقعي ، لأن موضوعه الشك فيه.

وهو وإن ذكر ذلك في مفاد الأصول ، إلا أنه قد يتوجه نظيره في مفاد


الطريق ، فإن قيام الطريق على الحكم الواقعي لما كان متأخرا عنه رتبة تأخّر الكاشف عن المنكشف كان الحكم الظاهري المترتب عليه متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين.

وحينئذ فقد يدعى أن اختلاف الرتبة رافع لمحذور اجتماع المثلين والضدين ، كما يرفع محذور اجتماع النقيضين ، حيث يجوز اجتماعهما في زمان واحد وموضوع واحد مع اختلاف الرتبة ، فالمعلول في زمان وجود العلة معدوم في مرتبة وجود العلة وموجود في المرتبة الثانية.

وقد أجاب عنه سيدنا الأعظم قدّس سرّه بمنع كفاية اختلاف الرتبة في جواز اجتماع المتضادين ، إذ لا يجوز بالضرورة أن يكوم مقطوع المحبوبية بما هو كذلك مبغوضا ، مع أن المبغوضية متأخرة عن المحبوبية بمرتبتين ، كتأخر الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي.

أقول : اعترف قدّس سرّه في تقرير هذا الوجه بكفاية اختلاف الرتبة في جواز اجتماع النقيضين ، كما ذكرنا ، ومن الظاهر أنه ليس أهون من اجتماع الضدين ، وكما يمكن تصوير اجتماع النقيضين مع اختلاف الرتبة بما تقدم يمكن تصوير اجتماع الضدين فيما لو طرأ على أحد الضدين علة ضده الآخر الرافعة له ، فإن الضدين موجودان في زمان وجود العلة وإن اختلفا بالرتبة ، حيث يكون الأول موجودا في مرتبة حدوث العلة الرافعة له ، والثاني موجودا في المرتبة الثانية.

ولعل الأولى في الجواب أن يقال : ان الاجتماع الحقيقي بين النقيضين أو الضدين في زمان واحد محال ، ولا يصححه اختلاف الرتبة ، ولا اجتماع حقيقي في ما تقدم ، بل ليس إلّا صحة نسبة كل منهما إلى العلة نحو نسبة توهم الاجتماع بينهما ، وبسبب تفرع المعلول على العلة وتأخره عنها رتبة ولحاظا ، ولا يعقل فرض ان واحد يتحقق فيه كلا الضدين والنقيضين ، ولذا كان الاجتماع المزعوم بنحو لا يقبل الاستمرار والاستقرار ، بل من حين نهاية أحدهما يبدأ الآخر. وهذا


لا يشبه ما نحن فيه ، حيث يكون كل من الحكم الواقعي والظاهري مجتمعا مع الآخر بنحو الاستمرار والاستقرار ، لتحقق موضوع كل منهما في ظرف تحقق موضوع الآخر.

وما هو النظير لما تقدم من تصحيح الاجتماع مع اختلاف الرتبة نصب الطرق بناء على الوجه الثاني من التصويب ، حيث يكون الحكم الواقعي موجودا في مرتبة قيام الطريق معدوما في المرتبة الثانية التي يتحقق فيها الحكم الثانوي المضاد له الذي هو مؤدى الطريق.

ولو كان اختلاف الرتبة بسبب أخذ أحد الحكمين في موضوع الآخر مصححا لاجتماعهما بالوجه الذي هو محل الكلام لصح أخذ العلم بأحد الحكمين في موضوع الآخر ، فيكون العلم بوجوب شيء ـ مثلا ـ موجبا لحرمته مع بقائه على الوجوب ، ومن الظاهر أن العلم متأخر رتبة عن الحكم المعلوم كالشك المأخوذ في المقام.

وبالجملة : اختلاف الحكمين المتضادين رتبة بسبب أخذ أحدهما في موضوع الآخر لا يصحح اجتماعهما بالنحو الذي هو محل الكلام ، حيث يكون كل منهما مستمرا باستمرار موضوعه ، مقتضيا للعمل المطابق له ، مجتمعا مع الآخر في ذلك.

وكأن ما ذكرنا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه ، حيث أورد على الوجه المتقدم بأن الحكم الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الحكم الواقعي ، إلا أنه يجتمع معه في بعض مراتبه ، فيلزم اجتماع المتنافيين في المرتبة المذكورة.

وإلا فهو بظاهره بيّن الوهن ، إذ مع فرض الترتب بين الحكمين لأخذ أحدهما في موضوع الآخر لا معنى لاجتماعهما في بعض المراتب ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه. فتأمل جيدا.

الثالث : ما عن بعض الأساطين من أن الحكم الواقعي شأني أو إنشائي ـ على اختلاف عباراته ـ والحكم الظاهري فعلي


. وربما يظهر ذلك من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، وحكي أيضا عن المحقق الخراساني قدّس سرّه.

ولا يخفى أنه إن كان المراد بالحكم الإنشائي أو الشأني الحكم الذي لم يتم ملاكه ولا موضوعه فلا يصلح لأن يترتب عليه العمل ، نظير الحكم الاقتضائي ، في مقابل الحكم الفعلي الذي تم ملاكه بالنحو المذكور ، فهو راجع إلى التصويب الباطل.

وإن كان المراد به ما لم يبلغ مرتبة الامتثال بسبب الجهل به ، ويكون المراد بالفعلي ما كان بالغا المرتبة المذكورة ، فهو مسلم ، إلا أنه لا ينفع في جواز اجتماع الحكمين ، ضرورة امتناع اجتماع الحكمين الواقعيين المتضادين وان لم يكونا معا فعليين بالمعنى المذكور ، فضلا عما لو كان أحدهما فعليا ، كما في المقام ، ولذا كان الدليل على الحكم دليلا على نفي ضده وإن لم يتنجز ، كما هو ظاهر.

الرابع : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في بعض أقسام الحكم الظاهري من أن الحكم الواقعي وإن كان فعليا بنحو لو علم به المكلف لتنجز عليه ، إلا أن فعليته لا تستتبع البعث والزجر في نفس المولى ، لوجود المانع ، وهو المصلحة الملزمة بالترخيص الجدي الظاهري.

وفيه : أن عدم بلوغ الحكم مرتبة البعث والزجر راجع إلى عدم كونه فعليا ، بحيث يكون العلم به منجزا له ، فإن الحكم الفعلي هو الواصل إلى المرتبة المذكورة ، ولا يكون العلم به دخيلا في موضوعه وملاكه ثبوتا ، بل يكون منجزا له مع كونه على ما هو عليه قبل التنجز تام الملاك والموضوع ، وحيث إن الحكم الفعلي بعد تنجزه واصل إلى مرتبة البعث والزجر فهو قبل التنجز كذلك.

نعم ، قد يكون وصول الحكم دخيلا في فعليته متمما لملاكه وموضوعه وموجبا لوصوله الى مرتبة البعث والزجر ، نظير ما تقدم من أخذ العلم في موضوع الحكم المعلوم ، فهو قبله غير واصل إلى مرتبة الفعلية ولا إلى مرتبة


البعث والزجر ، إلا أن العلم به حينئذ لا يكون منجزا له ، بل يكون المنجز له العلم بفعليته المترتبة على العلم به ، والالتزام بذلك في المقام راجع للتصويب. كما أشار لذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

الخامس : ما ذكره هو في بعض أقسام الحكم الظاهري أيضا ، من أنه وإن لزم اجتماع الحكمين إلا أنهما ليسا بضدين ولا مثلين ، لأن منشأ تضاد الأحكام تضاد مبادئها ، وهي الإرادة والكراهة في نفس المولى بسبب المصلحة أو المفسدة الموجودتين في المتعلق ، وليس الحكم الظاهري ناشئا عن إرادة أو كراهة في نفس المولى مضادتين لمنشا الحكم الواقعي ليمنع اجتماعهما ، بل هو حكم طريقي ناشئ عن مصلحة في جعله وإنشائه لا يترتب عليه الا التنجز أو صحة الاعتذار ، فلا يضاد الحكم الواقعي ولا يماثله.

وقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدّس سرّه : بأن الحكم الذي لا يكون حاكيا عن إرادة أو كراهة أو ترخيص نفسي لا يكون موضوع أثر في نظر العقل ، فكيف يترتب عليه تنجز الواقع أو العذر في مخالفته.

ويندفع : بأن عدم ترتب الأثر بنظر العقل موقوف على كون الإنشاء صوريا لا بداعي البعث والزجر ، وهو غير مدعى في المقام ، بل المدعى عدم صدور الحكم عن إرادة أو كراهة أو رضا بنفس المتعلق ، وهو فعل المكلف ، واعتبار ذلك في ترتب الأثر بنظر العقل أول الكلام.

نعم ، يشكل ما ذكره المحقق المذكور ..

أولا : بأن توقف الأحكام الواقعية على مصالح في متعلقاتها ليس مسلما ، بل يمكن أن تكون ناشئة عن مصالح في جعلها ، ولو فرض امتناع ذلك في أحكام الشارع فليس هو لكون المصالح والمفاسد في المتعلقات مقومة للأحكام الواقعية ، بحيث لا يمكن جعل الحكم بدونها ، بل لدعوى أنه مناف للحكمة فيقبح من الشارع ، وإلا فلا إشكال في إمكان جعل الحكم بدون ذلك ،


إما لإنكار التحسين والتقبيح العقليين ـ كما عن الأشاعرة ـ أو لكون المولى ممن يمكن في حقه الخروج عن ذلك كالموالي العرفيين ، وحينئذ تكون الأحكام المذكورة كالأحكام الظاهرية على ما ذكره قدّس سرّه ، فتكون مضادة لها ، كتضاد الأحكام الظاهرية المختلفة فيما بينها ، ولا ينهض الوجه المذكور بدفع المحذور حينئذ.

وثانيا : بما أشرنا إليه آنفا من عدم كون الأحكام الواقعية ناشئة عن الإرادة والكراهة المسببتين عن المصلحة والمفسدة في المتعلق ، ليكون منشأ تضادها تضاد مبادئها ، بل هي ناشئة عن الخطاب بداعي جعل السبيل ، أو بداعي رفع الحرج ، وحيث كانت متقومة بنحو اقتضائها للفعل كانت متضادة في أنفسها ، لأن لكل منها نحو اقتضاء للفعل من قبل المولى لا يناسب اقتضاء الآخر له ، ولذا كان تضاد الأحكام ارتكازيا ، حتى بناء على عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، ومن الظاهر مشاركة الأحكام الواقعية للظاهرية في ذلك ، فإذا كان الحكم الظاهري مخالفا للواقعي كان مقتضاهما من حيث العمل مختلفا ، ولزم التضاد بينهما كالحكمين الواقعيين.

السادس : ما ذكره بعض مشايخنا مبنيا على بعض ما تقدم في الوجه السابق ، وحاصله : أن حقيقة الأحكام التكليفية جعل متعلقاتها في ذمة المكلف واعتبارها عليه كالدين في ذمة المديون ، وعليه فهي اعتبارات صرفة خفيفة المئونة لا تضاد بينها في أنفسها ، وإنما يكون تضادها عرضيا باعتبار تضاد مباديها ـ من الشوق والكراهة والمصلحة والمفسدة ـ وتضاد آثارها في مقام الامتثال ، لتعذر جمع المكلف بينها فيه.

وهذا إنما يقتضي التضاد فيما لو كان الحكمان المختلفان معا واقعيين أو ظاهريين ، دون ما لو كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا ، لعدم التنافي بين مباديهما ولا بين آثارهما ، أما المبادئ فلعدم كون الحكم الظاهري ناشئا عن


المصلحة أو المفسدة والشوق أو الكراهة للمتعلق كالواقعي ، بل هو ناشئ عن مصلحة في جعله ـ كما سبق من المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ وهي تقتضي الشوق إلى الجعل لا إلى المتعلق ، فلا ينافي الحكم الواقعي من هذه الجهة. وأما من حيث الآثار فلامتناع وصولهما معا للمكلف ، ليتعذر امتثالهما ، لوضوح أنه مع وصول الحكم الواقعي لا موضوع للحكم الظاهري ومع عدمه لا يجب امتثاله عقلا ، ليتعذر الجمع بينه وبين الحكم الواقعي في الامتثال.

وفيه .. أولا : أن ما ذكره في حقيقة الأحكام التكليفية من أنها من سنخ الوضع والاعتبار كالدين مخالف للمرتكزات العرفية ، للتباين ارتكازا بين مفاد الوضع والتكليف ، فالأول من سنخ الجعل والتكوين الاعتباري ، والثاني من سنخ البعث والتحريك اعتبارا ، فهو ناظر لحركة المكلف متقوم بها ، ولذا امتنع اعتباره وجعله عرفا مع تعذر الفعل ، بخلاف الوضع كالدين ، ولذا ذكرنا أنه متقوم بالخطاب والتحريك بداعي جعل السبيل إلزاما أو اقتضاء ، كما أن الاباحة مبتنية على النظر لفعل المكلف ورفع الحرج فيه.

وثانيا : أن ما ذكره في منشأ تضاد الأحكام الواقعية من حيث المبدأ مما لا مجال له بعد ما سبق في دفع محذور تفويت الملاكات الواقعية من عدم تبعية الأحكام للإرادة والشوق والكراهة ، وما عرفت في دفع الوجه الخامس المتقدم من عدم لزوم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات.

كما أن ما ذكره في منشأ التضاد بينها من التنافي بينها في الآثار لعدم إمكان الجمع بينها في الامتثال انما يقتضي امتناع الجمع بينها لاستلزامه التكليف بالمحال ، لا التضاد بينها بنحو يكون الجمع بينها تكليفا محالا.

مع أنه مختص بالأحكام المتنافية في مقام العمل ، دون مثل الوجوب مع الاستحباب ، والإباحة مع غيرها من الأحكام ، إذ لا يتعذر على المكلف الجمع بينها في مقام الامتثال.


وقد عرفت في رد الوجه الخامس أن الأحكام لما كانت أمورا اعتبارية جعلية ، وكان قوامها نحو اقتضائها للفعل من قبل المولى الجاعل لها كان اختلافها في نحو اقتضائه موجبا للتضاد بينها ذاتا بحسب المرتكزات العرفية التي هي المدار في اعتبار الاحكام الشرعية ، وذلك جار في الحكم الواقعي والظاهري المخالف له ، لما هو المعلوم من أن الحكم الظاهري له نحو من الاقتضاء للفعل كالحكم الواقعي ، فيعود المحذور.

ومجرد عدم محركية الحكم الواقعي ، وعدم فعلية تأثيره بسبب الجهل به ، وعدم تنجزه لا يرفع التضاد المذكور ، لأن منشأ التضاد ليس هو الحركة الفعلية المسببة عن الحكم ، بل نحو اقتضاء الحكم للحركة ، الذي يمتنع اختلافه مع وحدة الحاكم.

ولذا لا ريب في التضاد بين الحكمين الواقعيين لو كان أحدهما مقارنا للجهل بالآخر من دون أن يؤخذ في موضوعه الجهل به ، كما لو فرض جهل المكلف بفسق زيد ، وحكم المولى بوجوب إكرامه ، وحرمة إكرام كل فاسق ، فيكون إكرامه واجبا وحراما في وقت واحد. بل لا إشكال في أن الحكم بوجوب إكرام زيد يكون ملازما إما لعدم كونه فاسقا ، أو لتخصيص عموم حرمة إكرام الفساق.

وبالجملة : الوجه المذكور لا ينهض بدفع الشبهة. بل لا بد من التأمل في وجه آخر يكون به التخلص عنها.

فنقول بعد التوكل على الله تعالى والاستعانة به :

لا موقع للشبهة في موارد الطرق بناء على ما عرفت في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي من أن مفاد أدلة جعلها ليس جعل مؤداها ، بل جعل حجيتها ، لأن الحجية من الأحكام الوضعية القابلة للجعل ، فإن حجية الطريق لا تماثل الحكم الواقعي الثابت في مورده ولا تضاده ، لاختلافهما سنخا.


وكذا الحال في الأصول الإحرازية ، كالاستصحاب وأصالتي الحل والطهارة ، فإنها لا تقتضي إلا التعبد بمؤداها ولزوم البناء عليه إثباتا في مقام العمل ، لا جعله ثبوتا ، ليستلزم جعل الحكم الظاهري ويقع الكلام في مضادته للحكم الواقعي أو مماثلته له.

نعم ، لا مجال لذلك في الأصول غير الإحرازية المنحصرة ظاهرا بالبراءة والاحتياط ، لوضوح انهما لا يتضمنان البناء في مقام العمل على ثبوت التكليف أو عدمه ، بل محض حكم العمل في ظرف الشك به.

وحينئذ فقد يتوجه المحذور فيهما ..

بدعوى : أن مرجع إيجاب الاحتياط وجعل البراءة إلى جعل حكم فعلي لفعل المكلف في ظرف الجهل بالحكم الواقعي يضاد الحكم الواقعي أو يماثله ، كسائر الأحكام الثانوية بالإضافة إلى الأحكام الأولية.

لكنه يندفع : بأن الحكم المذكور لا يضاد الحكم الواقعي ولا يماثله ، لأنه في طوله ، لا من حيث كون موضوعه مترتبا عليه ـ كما تقدم في الوجه الثاني ـ بل لأنه وارد لبيان الوظيفة العملية إزاء الحكم الواقعي ، فهو ليس حكما لفعل المكلف المشكوك الحكم في قبال حكمه الواقعي ومع قطع النظر عنه ، ليكون حكما واقعيا مثله مماثلا أو مضادا له ، بل هو حكم لنفس الحكم الواقعي متفرع عليه راجع إلى جعل الوظيفة فيه ، فلا سنخية بين الحكمين حتى تكون بينهما مماثلة أو مضادة.

نظير حكم العقل بالبراءة والاحتياط ، أو بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية بالإضافة إلى الحكم الواقعي. غايته أن حكم الشارع إن كان مخالفا لحكم العقل كان رادعا عنه ، واردا عليه ، رافعا لموضوعه ، وإن كان موافقا له كان إمضاء له وبيانا لعدم جعل ما يرفع موضوعه ، كما تقدم توضيح ذلك في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي ، كما تقدم هناك أيضا بعض


الجهات المتعلقة بالمقام. فراجع.

ولأجل ما ذكرنا من اختلاف السنخية والطولية بين الحكمين كان عدم التضاد والتماثل بين الأحكام الواقعية والظاهرية أمرا ارتكازيا جليا عند العقلاء ، مع وضوح ثبوت التماثل والتضاد عندهم بين الأحكام الواقعية بنفسها ، وبين الأحكام الظاهرية كذلك.

ثم إنه لو فرض غض النظر عما ذكرناه في الطرق والأصول الإحرازية ، وقلنا باستلزامها لجعل الأحكام الظاهرية في مواردها فلا بد من الالتزام بأن الأحكام المذكورة من سنخ الحكم بالبراءة والاحتياط الشرعيين في طول الأحكام الواقعية لبيان الوظيفة العملية فيها ، لا أنها أحكام مجعولة في عرضها ومع قطع النظر عنها ، وإلّا أشكل محذور التماثل والتضاد منها. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

الأمر الثاني : في الأصل أو القاعدة التي يرجع إليها عند الشك في الحجية.

لا إشكال ـ في الجملة ـ في أن الاصل عدم الحجية في ما شك في حجيته. إلا ان الظاهر اختلاف الكلام باختلاف آثار الحجية المترتبة عليها.

وتوضيح ذلك : أنهم ذكروا أن للحجية أثرين ..

الأول : ما يرجع لمقام العمل بمؤدى الحجة ، وهو المعذرية والمنجزية بالاضافة إلى التكليف الواقعي ، المستتبعان للعمل عليه.

الثاني : جواز نسبة مؤدى الحجة للمولى والتعبد به على أنه من الدين.

أما الأول فهو الأثر المهم في المقام ، لمناسبته لوظيفة الأصولي.

ولا ريب في كونه من الآثار العقلية المحضة. كما لا ريب في أنه مع الشك في الحجية لا يرى العقل ترتب الأثر المذكور ، فما هو المعذر والمنجز فعلا هو ما ثبت حجيته والتعبد به من قبل المولى.


لكن الظاهر أن اعتبار وصول الحجية في ترتب الأثر المذكور ليس لكون الوصول دخيلا في مقتضي الأثر عليه ، وهو لزوم الاطاعة ، فان تمام المقتضي والموضوع ثبوتا بنظر العقل هو الجعل الواقعي ، نظير اعتبار وصول التكليف في ترتب الأثر عليه ، وهو لزوم الاطاعة ، فان تمام المقتضي والموضوع للاطاعة بنظر العقل هو التكليف الواقعي بنفسه ، وليس وصوله إلا شرطا في ذلك ، لا أنه تمام المقتضي أو متمم له.

ويترتب على ذلك أنه لا يلغو قيام الطرق ولا جريان الأصول في الحجية إثباتا ونفيا ، لترتب العمل على مؤدى الطرق والأصول بعد كون تمام المقتضي للعمل هو الحجية.

ولا مجال معه للإشكال في استصحاب عدم الحجية بعدم ترتب الأثر عليه ، لأنه يكفي في عدم المعذرية والمنجزية المستتبعين للعمل الشك في الحجية الحاصل بالوجدان ، ولا يحتاج فيه لاحراز عدمها بالاستصحاب وغيره.

لاندفاعه : بأن عدم المعذرية والمنجزية وإن كان يترتب بمجرد الشك ، إلا أن ترتبه بملاك عدم حصول شرط المعذرية والمنجزية ، بخلاف ترتبه مع إحراز عدم الحجية ، فإنه بملاك عدم المقتضي لهما ، ومثل هذا الاختلاف كاف في الأثر المصحح لجريان استصحاب عدم الحجية.

ومن ثمّ جرى استصحاب عدم التكليف ، مع أن الشك في التكليف كاف في البراءة عنه وعدم وجوب العمل عليه عقلا.

وأما ما ذكره المحق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل من أن الحجية وعدمها لما كانا مما تناله يد الجعل الشرعي ، وتكون موردا لتصرف الشارع لم يتوقف جريان الاستصحاب فيهما على ترتب الأثر الشرعي ، وإنما يحتاج إلى ذلك في استصحاب الموضوعات الخارجية التي لا تنالها يد الجعل.

فهو لا يكفي في دفع الإشكال ، فإن استصحاب الأمور التي تنالها يد


الجعل وإن لم يحتج إلى أثر شرعي ، إلا أنه لا بد له من أثر عملي وإن كان عقليا ، كوجوب الإطاعة للتكليف ولزوم العمل بالحجة تبعا لمنجزيتها.

ومن ثمّ لا يصح استصحاب التكليف لو لم يكن موردا للعمل ، لأن الاستصحاب كسائر التعبدات الشرعية يلغو مع عدم ترتب العمل عليه.

فالأولى في الجواب ما ذكرنا.

بقي في المقام شيء ، وهو أنه ربما يتمسك لعدم حجية ما شك في حجيته بإطلاق ما دل على عدم الاعتماد على غير العلم ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(١) ، وما دل على عدم الاعتماد على الظن وأنه لا يغني عن الحق شيئا ونحو ذلك.

وعن بعض الأعاظم قدّس سرّه الإشكال فيه : بأن أدلة حجية الطرق حاكمة على الأدلة المانعة ، فإن دليل حجية خبر الثقة يخرجه عن موضوع دليل المنع ويجعله علما تعبدا ، فالشك في حجية شيء ملازم للشك في كونه علما ، فلا يجوز التمسك فيه بعموم عدم جواز التمسك بغير العلم ، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام ، الذي لا يجوز بلا كلام.

وأجاب عنه بعض مشايخنا : بأنه لا أثر للحجية ما لم تصل ، فالحكومة إنما هي بعد الوصول ، وخبر الثقة إنما يكون علما تعبديا بعد إحراز حجيته.

لكنه كما ترى! فإن الحجية وإن لم يترتب عليها العمل عقلا إلا بوصولها ، إلا أن ملاك الحكومة المدعى وهو كون الحجة علما شرعا تابع لوجودها الواقعي ، لأنه متقوم بالجعل الشرعي ، كسائر الأمور الجعلية ، كالملكية والحرية والولاية وغيرها.

فالأولى في الجواب عما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الحكومة عندهم

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.


تخصيص بلسان رفع الموضوع تنزيلا ، فالشك فيها شك في التخصيص الذي يندفع بعموم العام بلا كلام.

ولا يتم ما ذكره قدّس سرّه إلا على القول بالورود الذي هو رفع حقيقي لموضوع العام بسبب التعبد الشرعي.

وهو محل إشكال ، بل منع ، كما يظهر بمراجعة ما تقدم في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي من الكلام في مفاد أدلة جعل الطرق.

نعم ، يشكل أصل الاستدلال بعدم وضوح الدليل على العموم المذكور ، فإن الآية المتقدمة لم يتضح ورودها لبيان عدم الاعتماد في مقام العمل على غير العلم ، بل لعل المراد بها بيان حرمة التعبد والتدين والفتوى من غير علم تكليفا ، كما يناسبه ذيلها ـ بناء على سوقه مساق التعليل ، وليس استئنافا ـ ويشهد له ما في خبر علي بن جعفر : «ليس لك أن تتكلم بما شئت ، لأن الله عزّ وجل يقول : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)» (١). وحينئذ فالاستدلال بها مبني على ملازمة الحجية لجواز الفتوى والتعبد بمؤدى الحجة ، بحيث يستدل بدليل تحريمهما على عدم الحجية ، وهو محل إشكال كما يأتي عند الكلام في الأثر الثاني للحجية.

على أنها لو دلت على ذلك فهي ككثير من الأخبار المتضمنة أنه لا عمل إلا بعلم ، وأن من عمل على غير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه ، منصرفة إلى خصوص من لا يعلم لا بالواقع ولا بالحجة ، ولو لأنه مقتضى الجمع بينه وبين ما دل على حجية كثير مما لا يفيد العلم ، فإن الجمع بذلك أولى من الجمع بتخصيص العموم المذكور ، لأنه آب عن التخصيص عرفا ، لانصرافه إلى بيان معنى ارتكازي ، فهو نظير ما ورد من أن العامل على غير بصيرة كسائر على غير

__________________

(١) يراجع الخبر المذكور وبقية أخبار المقام في الوسائل ج ١٨ : ٩ ، الباب : ٤ من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.


الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا. وحينئذ فلا يدل إلا على عدم صحة الاعتماد على ما لم يعلم حجيته ، فيطابق مفاد الأصل العقلي المتقدم ويكون إرشادا له ، ولا يكون دليلا على عدم جعل الحجية واقعا لكل ما لا يفيد العلم ، ليمكن الاستدلال بعمومه مع الشك في الحجية.

وأما ما دل على عدم الاعتماد على الظن ، فهو وإن كان ظاهرا في عدم حجيته في مقام العمل ، إلا أنه إنما يدل على عدم حجية الظن من حيث هو ظن ، ولا ينافي حجية بعض ما يوجب الظن نوعا بخصوصيته ، كخبر الثقة وغيره.

مع أنه ظاهر في الإشارة إلى أمر ارتكازي عقلائي ، لا تأسيسي للشارع تعبدي ، ولذا ورد مورد الذم والتبكيت والاحتجاج على الكفار ، ولا يحسن الاحتجاج عليهم بالقضايا التعبدية الصرفة. وحينئذ فهو مختص بالظنون غير المعتمدة عند العقلاء ، ولا يشمل ما يحسن الاعتماد عليه عندهم ، كخبر الثقة ، وقول أهل الخبرة وغيرهما.

نعم ، قد يستدل بإطلاق أدلة الأصول ، فان مقتضى جعل الغاية فيها هو العلم عدم ترتب العمل على غير العلم ، بل لزوم العمل معه بمقتضى الأصل ، وهو ملازم لعدم حجيته في مقام العمل.

لكن الظاهر أنه يكفي في العمل بالأصل عدم إحراز حجية ما خالفه ، ولا يعتبر إحراز عدم حجيته ، ليكون إطلاق دليل الأصل دالا على عدم حجية غير العلم. وهو مبني على كيفية الجمع بين الطرق والأصول ، وله مقام آخر.

وأما الثاني : وهو جواز نسبة مؤدى الحجة للمولى والتدين به ، فهو ليس من الآثار المهمة في المقام ، لعدم دخله بمقام العمل بالحجة. بل هو حكم فرعي خارج عن محل الكلام.

نعم ، قد يدعى أن الحجية ملازمة لجواز نسبة مؤدى الحجة للمولى ، فيمكن الاستدلال على عدم الحجية في مشكوكها بما يدل على عدم جواز


النسبة والتدين اعتمادا على مشكوك الحجية ، فينفع ذلك في محل الكلام وإن كان أجنبيا عنه.

وربما قيل : أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه قد جرى على ذلك ، حيث استدل على الأصل في المقام بما دل على حرمة التعبد مع عدم العلم من جهة التشريع.

بل هو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بدعوى : أن معنى جعل الطريق حجة هو كونه وسطا لإثبات متعلقة وإحراز مؤداه ، فيكون حاله حال العلم ، فكما لا يمكن المنع عن التعبد بمتعلق العلم لا يمكن المنع عن التعبد بمؤدى الحجة.

وقد ردّ بذلك على ما نسبه للمحقق الخراساني قدّس سرّه من عدم الملازمة بين الحجية وجواز النسبة والتدين ، وأنه يمكن عدم جواز التعبد بمؤدى الحجة ، كما في الظن الانسدادي على الحكومة.

واستشكل بعض الأعاظم قدّس سرّه وغيره في التنظير : بأن الظن الانسدادي على الحكومة ليس حجة مثبتا لمتعلقه ، إذ ليس شأن العقل تشريع الحجية ، بل ليس منه الا الحكم بالاكتفاء بالإطاعة الظنية بعد فرض تنجز الأحكام بالعلم الإجمالي السابق على الظن.

أقول : إن اريد بالاستدلال المذكور إثبات عدم الاكتفاء بمشكوك الحجية في مقام العمل ، لعدم جواز التعبد بمضمونه ، فقد عرفت آنفا أنه مقطوع به من العقل فلا يحتاج إلى الاستدلال. بل لا معنى لفرض الملازمة المذكورة ، بل هما حكمان لا دخل لأحدهما بالآخر وإن تقارنا في مورد واحد.

وإن اريد بالاستدلال المذكور إثبات عدم حجية مشكوك الحجية واقعا ، لأن ملازمة الحجية لجواز التعبد تقتضي العلم بعدمها عند عدمه ، كما قد يظهر من كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه.

فهو لا يخلو عن إشكال ، لأن ملازمة الحجية لجواز التدين والتعبد ـ لو تمت ـ مشروطة بوصول الحجية ، إذ لا إشكال في حرمة التدين واقعا تبعا لما لا


يعلم حجيته وإن كان حجة واقعا ، فالملازمة لو تمّت انما هي بين العلم بالحجية وجواز التعبد ، فعدم جوازه مستلزم لعدم العلم بالحجية ، لا لعدمها واقعا ، ليصح الاستدلال به عليه.

نعم ، لو ورد من الشارع الأقدس النهي عن التعبد في خصوص طريق بعنوانه ـ كاجتهاد الرأي ـ كان ظاهرا في عدم حجيته واقعا بناء على الملازمة المذكورة ، لأن ظاهر أخذ عنوان الطريق في موضوع الحكم كونه موضوعا للنهي من حيث عدم حجيته الذي هو من الأمور الواقعية التي يرجع فيها للشارع ويكون من شأنه بيانها ، لا من حيث كونه مشكوك الحجية ، إذ ليس من وظيفة الشارع إبقاء الشك في الحجية ، بل من شأنه رفع الشك المذكور ببيان الحكم الواقعي ، كما هو الحال في جميع موارد الشك في الأحكام الواقعية.

بل لعله مقتضى الإطلاق ، إذ لو كان ملاك حرمة التعبد به الشك في حجيته لجاز التعبد به مع ارتفاع الشك بقيام الدليل على الحجية ، وهو خلاف الاطلاق. فلاحظ.

أما شيخنا الأعظم قدّس سرّه فالظاهر أنه في مقام الاستدلال على أصالة حرمة التعبد بغير العلم بالأدلة المذكورة ، وليس في مقام الاستدلال على عدم الحجية بأدلة حرمة التعبد ، ليبتني على الملازمة المذكورة. نعم كلامه خارج عما هو المهم في المقام ، لما سبق.

وأما المحقق الخراساني قدّس سرّه فلا يظهر منه في حاشية الرسائل التفكيك بين الحجية وجواز التعبد ، بل التفكيك بين العمل بالظن والتعبد به ، وأن العمل به إنما هو بمعنى الاستناد إليه وإن لم يبتن على التعبد ، كما في العمل به في العرفيات أو في الشرعيات في حال الانسداد بناء على الحكومة ، خلافا لما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الملازمة بين العمل بالظن والتعبد به ، وأن الموافقة له من دون تعبد لا يصدق عليها العمل به.


وأما في الكفاية فهو وإن صرح بعدم ملازمة الحجية لجواز التعبد ، إلا أن مراده من الحجية مطلق لزوم المتابعة ولو عقلا ، لا خصوص الحجية الشرعية ليتوجه عليه ما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه من ملازمة جعل الحجية لجواز التعبد.

وبعبارة اخرى : لا يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه التفكيك بين الحجية الشرعية وجواز النسبة الذي هو محل كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه ، بل صرح في الحاشية بتبعية جواز التعبد للحجية الشرعية ، وأن الأصل الجاري فيها سببي بالإضافة إلى الأصل الجاري فيه. فراجع وتأمل جيدا.

بقي في المقام أمور متعلقة بالأثر المذكور للحجية ..

الأول : عرفت من بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ وقد يظهر من غيره ـ دعوى الملازمة بين الحجية وجواز التعبد بمؤدى الحجة والتدين به ونسبته للمولى. وظاهره جواز التعبد به على أنه الحكم الواقعي ، كما في صورة العلم به.

وهو لا يخلو عن إشكال ، لانصراف دليل الحجية إلى خصوص مقام العمل بالحجة ، لأنه الغرض المهم منها ، لا إلى جواز نسبة المؤدّى مع فرض عدم العلم به.

ورجوع حجية الطريق إلى كونه وسطا في إثبات مؤدّاه ـ لو تم ـ فلا يراد إلا إثباته من حيث العمل ، فالحجة كالعلم من حيث وجوب العمل بالمؤدى عقلا ، لا بلحاظ جميع الآثار التي منها جواز النسبة شرعا. ولا سيما مع كون غالب الطرق عقلائية ، وظاهر أدلتها إمضاء طريقة العقلاء في العمل بها ، لوضوح عدم بناء العقلاء على ترتيب غير العمل عليها.

فلا مخرج عما دل على عدم جواز النسبة والتعبد والفتوى بما لا يعلم. على ما سيأتي التعرض له.

ولو فرض القول بجواز النسبة والتعبد اعتمادا على الحجة فلا بد له من دليل آخر غير دليل الحجية ، كما قد يدعى ورود النصوص به ، وإن كان هو


خلاف الظاهر. وللكلام مقام آخر.

نعم ، لا إشكال في جواز التعبد والتدين به على أنه الحكم الظاهري الذي أذن الشارع بالعمل عليه ، فإنه معلوم بالوجدان بسبب العلم بحجية الطريق ، فالقول به قول عن علم. وربما يكون هذا هو مراد كثير ممن ذكر أن جواز التعبد من لوازم الحجية.

وعلى ما ذكرنا يتضح الوجه في عدم جواز التعبد استنادا إلى مشكوك الحجية ، وحرمة الفتوى اعتمادا عليه فإن التعبد به على أنه الحكم الواقعي أو الظاهري تعبد بما لم يعلم ، الذي تظافرت الأدلة بحرمته.

فمن الكتاب قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، بناء على ما سبق ، وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٢).

ومن السنة ما تضمّن عدّ القاضي بما لا يعلم في عداد القضاة الذين في النار ، وما تضمّن النهي عن التدين والفتوى بغير علم ، والتوعيد عليه وغير ذلك من النصوص الكثيرة ، المعتضدة بالمرتكزات القطعية الشرعية والعقلائية على استنكار ذلك.

بل استنكار مطلق القول بغير علم وإن لم يكن في الشرعيات المبنية على التدين ، فاستنكاره عندهم بملاك استنكار الكذب.

وقد يشهد به ما تضمن أن الكذب المفترع أن يحدثك شخص بحديث عن آخر ، فتحدث به عمن حدثك عنه ، وما تضمن النهي عن الظن ، لانه أكذب الكذب وغير ذلك مما ذكره في الوسائل في أوائل كتاب القضاء.

نعم ، يزيد الكذب في الشرعيات باستلزامه الكذب على الله وخلفائه

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

(٢) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.


الذي هو أشد تحريما من سائر أفراد الكذب.

كما أن التدين يحرم بحيثية اخرى ارتكازا ، من حيث كونه تصرفا في ما هو من وظيفة الشارع وتحكما عليه.

وبالجملة : وضوح حرمة الفتوى والتعبد والتدين بغير العلم يغني عن تجشم الاستدلال عليها وإطالة الكلام فيها.

هذا ، ولو فرض جواز التعبد بالحجة على أنه الواقع ـ خلافا لما سبق منا ـ فلا بد من القطع بالحجية ، ولا يجدي احتمالها ، بدعوى : أنه معه لا يعلم بالحرمة ، لاحتمال وجود المسوغ ، وهو الحجة الواقعية التي فرض كونها كالعلم.

وذلك لعموم ما تقدم من المرتكزات الشرعية والعقلائية ، فكما لا يجدي عندهم ثبوت الشيء واقعا في جواز البناء عليه والتعبد والفتوى به ، بل لا بد فيها من العلم ، كذلك لا يجدي قيام الحجة عليه واقعا ما لم يعلم بذلك.

بل هذا هو المنصرف من الأدلة النقلية المتقدمة ، فإنه لو فرض كون قيام الحجة بمنزلة العلم فلا بد من تنزيل الأدلة المتقدمة ولو بقرينة المرتكزات المذكورة على بيان لزوم انتهاء التعبد والتدين والفتوى إلى العلم ولو بالحجية ، لا أن ثبوت الحجية واقعا كالعلم مسوغ لها.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن التشريع المحرم بالأدلة اللفظية واللبية كما يعم التعبد بما لم يعلم ثبوته مما هو ثابت واقعا ، كذلك يعمّ ما لم يعلم قيام الحجة عليه ، وإن قامت عليه واقعا ، بل قيام الحجة على الشيء كوجوده واقعا لا يجدي ما لم يعلم.

الثاني : الظاهر أن تمام الموضوع الواقعي والمقتضي للحرمة هو عدم العلم بجعل الواقع المتعبد به أو بجعل الحجة عليه. كما أن تمام الموضوع للجواز هو العلم بذلك ، وليس لجعل الحكم الواقعي المتعبد به أو لجعل الحجة عليه أو عدمهما دخل في ذلك.


ولا مجال لدعوى : أن تمام الموضوع الواقعي لجواز التعبد هو الجعل الواقعي للحكم المتعبد به أو للحجة عليه ، إلا أن ترتيب الأثر ظاهرا مشروط بالعلم به ووصوله ، لوجوب الاحتياط فيه مع الشك ، أو لأصالة عدمه ، بحيث لو كان الأمر المتعبد به مجعولا في الواقع أو كانت الحجة عليه مجعولة ولم يعلم بهما جاز التعبد واقعا وإن حرم ظاهرا.

لاندفاعها : بظهور أدلة التحريم المتقدمة في الحرمة الواقعية ، وأن العقاب بملاك المعصية لا بملاك التجري ، وهو المطابق للمرتكزات العقلائية والمتشرعية ، الصالحة لتفسير الادلة لو فرض إجمالها.

كما أن الظاهر أن العلم تمام المقتضي للحكم ، لا أنه شرط فيه مع كون المقتضي هو الجعل الواقعي ، نظير ما تقدم في الأثر الأول للحجية. لأن المرتكز عند العقلاء والمتشرعة كون تمام منشأ القبح هو عدم الاعتماد في التعبد والفتوى على ما ينبغي الاعتماد عليه ، وهو الظاهر من الأدلة النقلية أيضا.

ومنه يظهر أنه لا مجال لاستصحاب عدم الحكم أو عدم قيام الحجة عليه بلحاظ حرمة التعبد به. لأنه يكفي في الحرمة الشك وعدم العلم الذي هو سابق رتبة على الاستصحاب ، وليس من آثار الأمر المستصحب حتى يحرز بالاستصحاب.

كما أنه لو فرض عدم الأثر العملي لاستصحاب نفس الحكم فلا مجال لاستصحابه بلحاظ جواز التعبد بثبوته ، لأن جواز التعبد ليس من آثار الحكم حتى يحرز باستصحابه ، بل من آثار ثبوته ، وثبوته ظاهرا بالاستصحاب مشروط بالأثر العملي الرافع للغويته ، فمع عدمه لا يجري استصحابه ، ولا يثبت ظاهرا حتى يتعبد به.

ومما ذكرنا يظهر الفرق بين أثري الحجية في تصحيح الاستصحاب ، فالاثر الأول مصحح له دون الثاني.


الثالث : ذهب المحقق الخراساني قدّس سرّه إلى أن التشريع ليس محرما شرعا ، بل هو قبيح عقلا ، نظير قبح المعصية والتجري ، لما فيه من هتك لحرمة المولى ، فالعقل يحكم باستحقاق العقاب معه من دون توسط حكم شرعي. وظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ حيث استدل عليه بالأدلة الشرعية ـ خلافه ، وقواه بعض الأعاظم قدّس سرّه ، لأن الأحكام العقلية التي لا تستتبع الخطابات المولوية هي الواقعة في سلسلة معلولات التكاليف ، كقبح المعصية والتجري وحسن الطاعة ، دون غيرها مما يكون ناشئا عن إدراك المصالح والمفاسد ، فإنه يستكشف بها الحكم الشرعي ، بناء على قاعدة الملازمة ، فالمقام نظير الكذب القبيح عقلا المحرم شرعا.

وما ذكره قدّس سرّه متين جدا.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من كون التشريع بنفسه هتكا للمولى ، فهو بنفسه ـ لو تم ـ لا يمنع من التكليف المولوي ، نظير حرمة سبّ المولى ومعاداة أوليائه ، وموالاة أعدائه ، ولذا يمكن عقلا إباحة المولى له لبعض المزاحمات ، وليس كقبح المعصية. فتأمل جيدا.

الرابع : الظاهر بعد التأمل في المرتكزات والرجوع للأدلة المتقدمة أن المحرم هو نفس التعبد والتدين بما هو أمر قلبي ، كما صرح به المحقق الخراساني قدّس سرّه ، لا العمل المترتب عليه ، بل هو باق على حكمه الواقعي من دون أن يطرأ عليه ما يوجب تبدل حكمه. خلافا لما استظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ونسب لبعض الأعاظم قدّس سرّه.

نعم ، لو اضيف إلى التعبد والتدين بالحكم إسناده للمولى قولا والفتوى به كان محرما أيضا بملاك حرمة الكذب على المولى.

وكذا لو اضيف إليه القضاء به ، فإنه يحرم بمقتضى ما دل على حرمة القضاء من غير علم.


لكنه أجنبي عن حرمة نفس العمل المأتي به بقصد التشريع.

فلا وجه لما نسب لبعض الأعاظم قدّس سرّه من الاستدلال على حرمة العمل بظاهر قوله عليه السّلام في تعداد القضاة الذين في النار : «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم».

نعم ، لا يبعد كون التشريع مانعا من التقرب بالفعل ، نظير الاتيان بالواجب مع اعتقاد ترتب الحرام عليه ، فلا يصح لو كان عبادة في الواقع. فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في الحجية. فنشرع في ما هو المقصود بالكلام وهو تشخيص موارد الحجج.

وتفصيل ذلك في ضمن فصول ..


الفصل الأوّل

حجيّة الظّواهر



الفصل الأول

في حجية الظواهر

حيث كان الكلام هو أهم الطرق البيانية التي جرى العقلاء على التفاهم بها ، وكان ذلك مما فضّل الله تعالى به الإنسان وميزه به عن البهائم ، وكان للعقلاء وأهل اللسان طرق خاصة في أداء المقاصد بالكلام وتحصيلها به ، فالظاهر من الشارع الأقدس جريه على الطرق المذكورة والمتابعة لها وعدم الخروج عنها ، وإلا كان عليه التنبيه على ذلك ، والردع عن الطرق المذكورة ، لأن متابعتها هي مقتضى الطبيعة الأولية كسائر السير العقلائية العامة ، فتحتاج مخالفتها إلى البيان والردع ، وحيث لم يظهر منه الردع عن الطرق المذكورة ، بل الجري عليها في كثير من الموارد كان ذلك قرينة قطعية على إمضائه للطرق العقلائية ، وإلا كان مخلا بغرضه ومغررا باتباعه ، وهو قبيح منه ممتنع في حقه.

وبالجملة : لا ريب في عدم خروج الشارع عن الطرق العقلائية في مقام التفاهم بالكلام ، وهذا راجع إلى حجية الطرق المذكورة شرعا إمضاء لسيرة العقلاء.

من دون فرق بين كلامه وكلام غيره ، فكما يجوز أخذ مقاصده من كلامه بالطرق المذكورة كذلك يجوز أخذ مقاصد غيره بها في حكمه ، كما في موارد الوصايا والأقارير والشهادات وغيرها.

وحينئذ فاللازم النظر في الطرق العقلائية وتحديدها.

فنقول : ليس مبنى العقلاء في مقام التفاهم على الاقتصار على النصوص


الكلامية غير القابلة للاحتمال والتأويل ، بل مبناهم على الاعتماد على الظهورات والركون اليها في بيان المقاصد الجدية ، بل هي الأكثر شيوعا ، لأنها أيسر وأسهل ، ولعدم تيسر ضبط النصوص في قواعد عامة يتفق عليها الكل ، لعدم الضابط للاحتمالات القريبة فضلا عن البعيدة ، فلو اقتصر على النصوص لتوقف التفاهم واختلت موازينه ، كما لا يخفى.

ولا فرق في الظهورات بين أن تكون عامة مستندة للوضع ، أو لقرائن عامة يرجع إليها عند عدم الصارف ، وأن تكون خاصة مستندة لقرائن خاصة اكتنفت الكلام.

نعم لا بد من تشخيص مقتضى الظهور الكلامي أولا. والظاهر أنه لا ضابط لمعرفة الظهورات الخاصة ، وأما الظهورات العامة فعمدتها الوضع ، وقد ذكر له الأصوليون علامات ، كالتبادر ونحوه ، كما وقع الكلام منهم في تشخيص بعض الظهورات لأهميتها ، كظهور المشتق وصيغة الأمر والمفاهيم وغيرها.

وليس هناك طريق ظني لها وقع الكلام في حجيته غير قول أهل اللغة الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.

ثم إن الفرق بين النص والظاهر بعد اشتراكهما في الكشف عن مراد المتكلم الجدي ، هو القطع بالمراد من النص واحتمال خلافه في الظاهر ، لاحتمال أحد أمور ..

الأول : خروج المتكلم عن الطريق العقلائي المذكور واختراعه طريقا آخر.

الثاني : عدم صدور الكلام لبيان المراد الجدي ، بل لغرض آخر عقلائي كالخوف والتقية وغيرهما أو غير عقلائي.

الثالث : غفلة المتكلم عن مقتضى الظهور أو عن إقامة القرينة الخاصة الموجبة لتبدله ، لو فرض إمكان ذلك في حقه ، كما في غير الشارع.


الرابع : ضياع قرائن احتفت بالكلام أوجب تبدل ظهوره.

نعم ، لا إشكال في عدم اعتناء العقلاء بالاحتمالات المذكورة بأجمعها ، وأن الظهور هو المتبع ، فيدفع الأول بأصالة جري العاقل على مقتضى الطريق المألوف للعقلاء ، ومن ثمّ سبق أن الخروج عنه يحتاج إلى دليل رادع ، والثاني بأصالة الجهة المعول عليها عند العقلاء. ويدفع الثالث أصالة عدم الخطأ والغافلة المعول عليها في غير المقام أيضا. والرابع أصالة عدم القرينة. ولو لا ذلك لاختل نظام التفاهم.

هذا ، والظاهر أصالة الظهور الراجعة إلى كون مقتضى الظهور هو المراد الجدي للمتكلم تبتني على الأصول المذكورة بأجمعها ، وترجع إليها فهي إجمال لمؤدياتها ، وليست أصلا برأسه في قبالها.

وأما الأصول الوجودية الأخر ـ كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق ونحوها مما يذكر في كلماتهم ـ فهي راجعة إلى أصالة الظهور ومن صغرياتها ، فلا يعول عليها لو فرض انعقاد الظهور على خلافها.

كما أن الأصول العدمية الأخر ـ كأصالة عدم المخصص والمقيد ونحوها ـ إن اريد بها نفي اتصال الأمور المذكورة بالكلام بنحو تقتضي تبدل ظهوره فهي راجعة إلى أصالة عدم القرينة ومن صغرياتها. وإن أريد بها نفي الأمور المذكورة خارج الكلام بنحو يرفع بها اليد عن مقتضى ظهوره بعد فرض انعقاده ـ كما هو غير بعيد ـ كانت من صغريات أصالة عدم المعارض المعول عليها عند العقلاء أيضا.

والظاهر أن ما ذكرنا أولى مما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من رجوع أصالة الحقيقة وأخواتها إلى أصالة عدم القرينة ، ومما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من إنكار أصالة عدم القرينة ، والاعتراف بأصالة الظهور ، بدعوى : أن بناء العقلاء على إرادة الظهور ليس بتوسط بنائهم على عدم احتفاف الكلام بالقرينة. ومما


ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن أصالة الظهور في قبال أصالة عدم القرينة ، ومترتبة عليها موضوعا ، لأن أصالة عدم القرينة تنقح ظهور الكلام ، وأصالة الظهور تقتضي إرادة مقتضاه بعد الفراغ عن ثبوته ، على تفصيل في كلامه.

وكذا ما تردد في كلمات بعضهم من جعل أصالة عدم الظهور في قبال أصالة الجهة. فإن جميع ذلك خلاف الظاهر ، والظاهر ما ذكرنا. فلاحظ.

ثم إن ما ذكرنا من حجية الظواهر من المسلمات في الجملة ، نعم وقع الكلام بينهم في بعض الموارد إما لدعوى عدم بناء العقلاء عليها ، أو لدعوى ردع الشارع عن مقتضى سيرتهم فيها. واستقصاء الكلام فيها في ضمن مباحث ..


المبحث الأول

في حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالافهام

فعن المحقق القمي قدّس سرّه اختصاص الحجية بمن قصد بالإفهام. وربما يحمل عليه كلام صاحب المعالم قدّس سرّه في الدليل الرابع على حجية الخبر.

وحاصل ما يستدل به لذلك : أن أصالة الظهور مبنية على أصالة عدم الغافلة المعول عليها عند العقلاء في جميع أمورهم ، فكلما احتمل إرادة المتكلم لخلاف ظاهر كلامه إما لغافلته عن إقامة القرينة ، أو لغافلة السامع عن القرائن المكتنفة بالكلام ، فلا يعتنى بالاحتمال المذكور ، لأصالة عدم الغافلة منهما.

أما لو لم يبتن احتمال إرادة خلاف الظاهر على احتمال الغافلة منهما فلا دليل على حجية الظهور في معرفة مراد المتكلم. وحينئذ فحيث لم يكن وظيفة المتكلم تفهيم كل أحد ، بل تفهيم خصوص من يقصد افهامه ، وله تعمد إخفاء المراد عن غيره ، فلا مجال لحجية الكلام في حق من لم يقصد بالإفهام ، لاحتمال اختصاص من قصد بالإفهام بقرينة لم يطلع عليها غيره ، ولا يكون عدم اطلاعه عليها ناشئا عن غفلته ، ولا عن غفلة المتكلم ، ليدفع الاحتمال المذكور بالأصل ، بل لعدم حدوث الداعي للمتكلم في اطلاعه على القرينة ، ولا دافع للاحتمال المذكور.

وفيه : ـ كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره ـ أن بناء العقلاء وأهل اللسان على العمل بالظواهر لا تبتنى على خصوص أصالة عدم الغافلة ، بل الأصل عندهم عدم الصارف عن ظاهر الكلام مطلقا بعد الفحص عنه في مظانه ، من


دون فرق بين المشافه وغيره ، فاذا وقع كتاب موجه من شخص إلى آخر بيد ثالث ، فإنه لا يتأمل في استخراج مراد المرسل منه ، بحيث لو كان مضمون الكتاب متعلقا بعمله لم يكن له التساهل والتسامح معتذرا بعدم حجية ظهور الكتاب في حقه ، لعدم كونه مقصودا بالتفهيم به.

وعلى هذا جرت سيرة العلماء في الأحكام الكلية ، حيث يأخذونها من ظواهر الأخبار ، مع كون المقصود بالإفهام بها خصوص المخاطبين بها ـ على تفصيل يأتي ـ وكذا في الأحكام الجزئية ، كما في باب الوصايا والأقارير والعقود وغيرها ، كما لا يخفى. فما ذكره قدّس سرّه من التفصيل غير ظاهر.

بقي في المقام شيء ، وهو أن المحقق القمي قدّس سرّه جعل ثمرة التفصيل المتقدم عدم حجية الأخبار ، لأن المقصود بالافهام بها خصوص المخاطبين. وكذا الكتاب بناء على عدم كوننا مقصودين بالافهام به ، أما بناء على كونه من باب تصنيف المصنفين يقصد به تفهيم كل من يطلع عليه فيكون حجة علينا وإن لم نكن مخاطبين به.

أما ما ذكره في الكتاب فقد أنكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه مدعيا أن لازم التفصيل المذكور عدم حجية ظواهره مطلقا وإن كان من باب تصنيف المصنفين.

وكأن وجهه : أن احتمال إرادة خلاف الظاهر منه لا يستند إلى احتمال غفلة المتكلم أو السامع عن القرينة ، بل إلى احتمال ضياع قرائن كانت موجودة حين الخطاب به ، ولا دافع للاحتمال المذكور إلا أصالة عدم القرينة ، التى تقدم من المحقق القمي قدّس سرّه إنكارها في غير مورد احتمال الغافلة.

وفيه : أن احتمال ضياع القرينة لا يعتنى به بعد فرض كون المتكلم في مقام تفهيم كل أحد بكلامه ، إذ يلزمه حينئذ عدم الاعتماد إلا على القرائن التي من شأنها الوصول لكل أحد ، فلو فرض ضياع القرينة كان فهم خلاف المراد


ناشئا منه من دون تقصير من المكلف.

ودعوى : أنه لا يقبح الاعتماد على القرائن التي من شأنها الوصول إلى جميع من قصد إفهامه وإن اختفت بسبب المكلفين أنفسهم ، إذ لا يجب على الشارع إلا حفظ الواقع بالطرق المتعارفة.

لو تمت لا تنافي حجية الظهور بمقتضى فرض تعهد المتكلم به في حق كل من قصد إفهامه ، لرجوعه إلى ظهور حال المتكلم في عدم الاعتماد على القرائن المختفية ، فاختفاؤها خلاف فرض ظاهر تعهده وإن لم يقبح منه التعهد المذكور ، وهذا بخلاف اختفاء القرينة في حق من لم يقصد به بالإفهام ، فإنه لا ينافي ظهور حال المتكلم ولا تعهده.

وبالجملة : احتمال اختفاء القرائن مع فرض قصد المتكلم تفهيم كل أحد كاحتمال تعمد المتكلم بيان خلاف الواقع لمصلحة ملزمة لا ينافي حجية الظهور ، وأما ما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه من انحصار أصالة عدم القرينة باحتمال الغافلة ، فهو على الظاهر لبيان سقوط الظهور مع احتمال اختفاء القرينة من دون تعهد من المتكلم ، لا لبيان سقوطه مطلقا حتى مع تعهده. فلاحظ.

وأما ما ذكره في الأخبار فهو غير ظاهر في أكثر الأخبار ، وهي التي يرويها المخاطبون بها ، لأن نقلها مبني على بيان المضمون لأجل العمل به والرجوع إليه ، لا لمجرد نقل اللفظ ، فيكون الناقل متعهدا بالمضمون ، فيلزمه التعرض لجميع ما هو الدخيل فيه من قرينة حالية أو مقالية.

ولذا كان الظاهر أن اختلاف النسخ بالزيادة والنقصان إذا كان موجبا لاختلاف المضمون لحقه حكم التعارض ، لأن ظاهر من لا يروي الزيادة عدم وجودها ، فيعارض ناقلها.

وعليه فاحتمال عدم وصول القرينة الحاصلة للمخاطب المقصود بالإفهام ناشئ من احتمال غفلة المخاطب عنها في مقام تلقي المضمون من


المعصوم عليه السّلام أو غفلته عنها في مقام حكايته ، أو تعمد إخفائها ، ويندفع الأولان بأصالة عدم الغافلة ، والثالث بفرض حجية نقله ، لكونه ثقة في نفسه.

نعم ، قد يتم في الأخبار التي يرويها غير المخاطبين بها ، كما لو قال الراوي : سمعته يقول لرجل ، أو : سأله رجل ، أو نحو ذلك.

وما ذكره شيخنا الاستاذ من كون المقصود بها إفهام جميع السامعين لها ، لا خصوص السائل ، لأن الأئمة عليهم السّلام كانوا يعلمون أن غرض الجالسين في مجالسهم الاستفادة من سؤال السائلين والتفقه به.

وإن لم يكن بعيدا ، إلا أنه غير ظاهر بنحو يعتد به في إثبات المطلوب ، فلا يبعد ترتب الثمرة في مثل ذلك ، كما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه.

لكن الأخبار المذكورة تشهد بعدم الفرق في الحجية بين من قصد بالافهام وغيره ، لما أشرنا إليه من أن النقل ليس لمحض حكاية اللفظ ، بل لبيان المضمون من أجل الرجوع إليه والعمل به ، وهو شاهد بأن عموم الحجية من الارتكازيات العامة التي جرى عليها الرواة ونقلة الحديث والعلماء في مقام الاستدلال ، وإليه يرجع ما تقدم من الاستدلال بسيرة العلماء في أخذ الأحكام الكلية من الأخبار.

ثم إنه قد يستشكل في الرجوع للروايات ..

تارة : من جهة التقطيع الذي طرأ عليها ، حيث يحتمل معه ضياع القرينة.

واخرى : من حيث النقل بالمعنى ، حيث أن الناقل قد يخطئ في فهم المراد أو في أدائه بغير لفظه.

ويندفع الأول بما أشرنا إليه من أصالة عدم الغافلة ، فانه حيث كان اثبات الروايات في الكتب بعد تقطيعها لأجل الرجوع إليها والأخذ بمضامينها كان اللازم على مثبتها ملاحظة القرائن الدخيلة في فهم المراد ، واحتمال غفلته مدفوع بالأصل.


ويندفع الثاني : ـ مضافا إلى ظهور كلام الراوي في أنه حاك باللفظ ـ بأن ظاهر النصوص المجوزة له حجيته ، لما هو المعلوم من أن الغرض من النقل هو الرجوع للحديث والعمل به ، فالحكم بجوازه ظاهر في حجيته. ولا يبعد بناء العقلاء على ذلك أيضا ، لأصالة عدم الغافلة والخطأ من الناقل في فهم المعنى وأدائه.

ويكفي في الإعراض عن هذه التشكيكات النظر في سيرة الرواة والعلماء قديما وحديثا ، فإن اهتمامهم بتدوين الأحاديث واستدلالهم بها يوجب القطع بالمفروغية عن حجية ظهورها عند الكل ، كما هو ظاهر جدا.


المبحث الثاني

هل يعتبر في حجية الظواهر إفادتها الظن

أو عدم الظن بخلافها أو لا؟

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن ، أو إذا حصل الظن الغير المعتبر على خلافها. لكن الإنصاف أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان في كل مكان».

وربما يدعى قصور سيرة العقلاء عن ذلك ، لما نبّه له بعض مشايخنا من أن المشاهد من طريقة العقلاء عدم التعويل في الأمور المهمة على الظهور ما لم يحصل لهم الظن أو الاطمئنان بالمراد منه ولو بالاستزادة في القرائن الموضحة له.

لكنه مندفع بما نبه له أيضا من اختصاصه بما إذا كان المطلوب تحصيل الواقع ، دون ما لو كان المطلوب الخروج عن عهدة التكليف ومسئوليته ، فإنهم يكتفون حينئذ بالظهور لصلوحه ـ بنظرهم ـ للتنجيز والتعذير وإن لم يوصل للواقع.

وبعبارة اخرى : عدم اعتمادهم على الظواهر في الفرض ليس لعدم حجيتها ، بل لعدم اكتفائهم بالحجة مع احتمال خطئها ، لتعلّق غرضهم بالواقع.

ولعل منشأه أن إناطة الحجية بالظن وجودا أو عدما يوجب عدم انضباط موارد الحجة حتى يتكل عليها المتكلم ، لاختلاف الظن الشخصي بحسب


الأحوال والأشخاص كثيرا ، وذلك يوجب اضطراب باب التفاهم ، ويتوقف معه الالزام والاحتجاج بالكلام ، بخلاف ما لو كان تابعا للظهور ، فان ضبطه سهل حينئذ ، لتبعيته للمرتكزات العامة المشتركة غالبا بين الكل ، فيتسنى الاعتماد عليه في مقام التفاهم والالزام به في مقام الاحتجاج والتعذير والتنجيز.

نعم ، لا يبعد توقف العقلاء عن الاعتماد على الظهور مع وجود أمارات عرفية توجب الوثوق بوجود قرائن ترفع بها اليد عن أصالة عدم القرينة أو أصالة الجهة ونحوهما مما كان العمل بالظهور مبنيا عليه ، وإن لم يقطع بوجود القرائن المذكورة ولم تكن الامارات معتبرة.

ولعله على ذلك تبتني سيرة الفقهاء في مختلف العصور على طرح الروايات المتروكة والمهجورة بين الأصحاب ، فان هجرها قرينة عرفية توجب الاطمئنان بعثورهم على خلل في ظهورها أو جهتها ، وإن لم يقطع بذلك.

وإنما لا يكفى الظن أو الوثوق بعدم إرادة الظهور إذا لم يستند إلى أمارة تقتضي وجود القرينة بالنحو المذكور ، بل استند إلى جهات خارجية لا دخل لها بالظهور.

ولعله لذا لا يعتنى بشهرة الفتوى على خلاف ظهور الرواية إذا لم يظهر منهم الهجر لها أو لظهورها ، بل كان لأجل الاعتماد على دليل بنوا على معارضته لها ، أو لعدم اطلاعهم على الرواية ، أو لخطئهم في فهمها ، أو لنحو ذلك مما لا يوجب الوثوق باطلاعهم على ما يوجب الخلل في ظهورها أو جهتها. فتأمل جيدا.


المبحث الثالث

في حجية ظواهر الكتاب الكريم

فقد حكي عن جماعة من الأخباريين المنع عن العمل بظواهر الكتاب ما لم يرد تفسيرها عن الأئمة عليهم السّلام ، وهو ظاهر الوسائل.

وقد استدل له بوجوه كثيرة بعضها ظاهر الوهن ، وما ينبغي الكلام فيه وجوه ..

الأول : ـ وهو عمدتها ـ النصوص الكثير التي تعرض لكثير منها في الوسائل ، وأنهاها في الباب الثالث عشر من أبواب صفات القاضي إلى ثمانين ، ثم قال : «وتقدم ما يدل على ذلك ، ويأتي ما يدل عليه ، والأحاديث في ذلك كثيرة جدا ... وانما اقتصرت على ما ذكرت لتجاوزه حد التواتر».

وهي على طوائف ..

الاولى : ما تضمّن عدم حجية القرآن إلا بعد الرجوع للأئمة عليهم السّلام كصحيح منصور بن حازم : «وقلت لأبي عبد الله عليه السّلام : .. وقلت للناس : أليس تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وآله كان الحجة من الله على خلقه؟ قالوا : بلى .. فقلت : فحين مضى رسول الله صلّى الله عليه وآله من كان الحجة لله على خلقه؟ قالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ ، والقدري ، والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقا .. فاشهد أن عليا عليه السّلام كان قيّم القرآن .. فقال : رحمك الله» (١) ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ١٢٩ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث ١.


ورواية عبيدة السلماني ، سمعت عليا عليه السّلام يقول : «يا أيها الناس اتقوا الله ولا تفتوا بما لا تعلمون ، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال قولا آل منه إلى غيره ، وقد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه». فقام عبيدة وعلقمة والأسود واناس معهم فقالوا : يا أمير المؤمنين فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف؟ فقال : «يسأل عن ذلك علماء آل محمد صلّى الله عليه وآله» (١).

الثانية : ما تضمّن اختصاص الأئمة عليهم السّلام بالعلم بالتأويل وأنهم الراسخون في العلم ، وما تضمّن تفسير قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بهم عليهم السّلام ، وأن علم الكتاب عندهم ، وإليهم ميراثه خاصة ، وعهد بيانه إليهم ، وهم المستنبطون ، ووجوب الرجوع لهم في تفسير القرآن ، وأن المتمسّك بالقرآن هو الذي يأخذه منهم ومن سفرائهم إلى شيعتهم ، لا عن آراء المجادلين وقياس الفاسقين.

الثالثة : ما تضمّن النهي عن تفسير القرآن مطلقا ، أو عن تفسيره بالرأي ، أو من غير علم ، وعن القول والمراء والجدال فيه ، وأخذه من غير الائمة عليهم السّلام ، وأن الرجل ينتزع الآية فيخرّ فيها أبعد ما بين السماء والأرض ، وأنه ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر ، ونحو ذلك.

الرابعة : ما تضمن أن للقرآن ظهرا وبطنا ، وأن فيه ناسخا ومنسوخا ، وأنه ليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ، ومن تفسيره ونحو ذلك.

لكن النصوص المذكورة على كثرتها لا شاهد فيها بالمدعى.

أما الطائفة الاولى فالعمدة فيها صحيح منصور ، وهو ظاهر في إرادة لزوم نصب الإمام ، ليكون حجة على الناس في رفع الاختلاف وبيان الحق ، وأن القرآن لا يكفي في ذلك ، وهو لا ينافي حجية ظاهر الكتاب في مقام العمل كظاهر كلام الإمام عليه السّلام الذي لا يرفع الاختلاف أيضا. فالمراد فيه بالحجة الحجة

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ١٢٩ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٢٧.


الرافعة للاختلاف ، لا الحجة التي يرجع إليها في مقام العمل.

وإن شئت قلت : ظاهر كلام الراوي الإشارة إلى الواقع الخارجي الذي كان عليه الناس ، حيث تمسك كل فئة من القرآن بما يناسب رغباتهم وآراءهم ليجادلوا به مع تجاهلهم لغيره ، غفلة أو تغافلا عن اشتماله على المجمل والمتشابه والظهورات المتنافية ، وعن عدم وفاء ظواهره ببيان تمام الواقع ، لوجود غيره من الأدلة من سنة النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام ، وأن ذلك سبب للتفرق والانقسام في الامة ، ولا يمكن تجنبه إلا بنصب مرجع يحكم فيه ويبين ما خفي منه ، ولا ظهور له في الردع عن العمل بظاهر القرآن على أنه حجة كسائر الحجج بعد الفحص عما ينافيها.

وأما رواية عبيدة فهي وإن كان لها نحو تعلق بالمطلوب ، لورودها في الفتوى ، إلا أنها مع ضعف سندها ـ لا يبعد حملها على بيان عدم جواز الاستغناء بالكتاب الكريم وسنة النبي صلّى الله عليه وآله من دون رجوع للأئمة عليهم السّلام تنبيها على مقام أهل البيت عليهم السّلام الذي كان مجهولا حينئذ ، كما يشهد به صدرها الظاهر في التنبيه على عروض النسخ أو الكذب أو نحوهما مما يمنع من الاكتفاء بسنة النبي صلّى الله عليه وآله ، فإنه مسوق لبيان عدم جواز العمل بما روي منها على ما هو عليه والاستغناء به عن أهل البيت عليهم السّلام ، ولا ينافي حجيتها بعد استكمال الفحص ، وحينئذ فيراد بالرجوع في ما اخذ من الكتاب لعلماء آل محمد صلّى الله عليه وآله قبول ما يرد عنهم فيه ، وعدم الاستغناء عنهم به ، كما هو طريقة العامة ، فلا ينافي حجيته بعد الفحص وعدم العثور على ما ينافيه منهم عليهم السّلام.

وأما الطائفة الثانية فهي ـ على كثرتها ـ أجنبية عما نحن فيه ، إذ لا تدل إلا على لزوم قبول ما يرد من الأئمة عليهم السّلام في تفسير القرآن وتأويله وعدم الاستغناء عنهم به وفي تأويله ، كما عليه العامة ، لا عدم حجية ظاهره إذا لم يرد منهم ما ينافيه.


وليس معنى لزوم أخذه منهم عليهم السّلام دون غيرهم إلا أخذ ما احتاج إلى التأويل والتفسير ، لا أخذ ما هو ظاهر بنفسه ، إذ الظاهر يصل بنفسه عرفا بلا حاجة لأن يؤخذ من أحد كما أن إرثه ليس إلا بإرث ما اختص بالنبي صلّى الله عليه وآله من علمه وخفي على الناس ، ولا يشمل مثل الظواهر التي تظهر لعموم الناس.

ومنه يظهر حال الطائفة الثالثة ، فإن الأمور المذكورة فيها لا تنافي حجية ظواهر القرآن ، لعدم ابتناء العمل بها على التفسير والتأويل ، ولا على القول فيه بغير علم ، وليس هو من انتزاع الآية ، ولا من ضرب بعض القرآن ببعض ، لظهورهما في ابتناء أخذ المعنى على التكلف والعناية أو التحكم.

ومثلها في ذلك الطائفة الرابعة ، فإن وجود الظهر والبطن والناسخ والمنسوخ وغيرها في القرآن لا ينافي حجية ظاهره بالطرق المقررة في سائر الظواهر ، نعم يمنع من الأخذ بالظهور البدوي من دون نظر في القرائن الأخر التي يكون بالنظر إليها من المتشابه.

وليس معنى بعده عن عقول الرجال تعذر حصول شيء منه لهم ، بل بمعنى تعذر الوصول على تمام ما يقصد به ، كما هو ظاهر ما في مرسلة شبيب بن أنس عن الصادق عليه السلام ، قال : «يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين انزل عليهم ... وما ورثك الله من كتابه حرفا» (١). بل هو صريح ما في رواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام : «ثم إن الله قسم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه الا من صفا ذهنه ، ولطف حسّه ، وصح تمييزه ، ممن شرح الله صدره للاسلام ، وقسما لا يعلمه إلا الله وملائكته والراسخون في العلم» (٢).

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ٢٩ ، باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٧.

(٢) الوسائل ج ١٨ : ٤٣ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٤٤.


كيف ولا إشكال ـ ولو بضميمة بعض الروايات ـ في أن بعض ظواهره مرادة ، وهي مما تصل له العقول.

وبالجملة : التأمل في الروايات المذكورة المتقدمة وغيرها على كثرتها شاهد بورودها للردع عن الاستغناء بالقرآن عن الأئمة عليهم السّلام ، أو في مقام النهي عن تأويل مجملاته وصرف ظواهرها بالاجتهاد والاستحسانات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، أو عن الأخذ بمشتبهاته من دون تأمل في القرائن الأخر ، أو نحو ذلك مما هو أجنبي عن محل الكلام.

على أنه لو فرض عدم ظهور جميع النصوص المذكورة في ما ذكرنا تعين حملها عليه أو على نحوه مما لا ينافي المطلوب لأجل النصوص الكثيرة الظاهرة في جواز الرجوع لظواهر الكتاب والعمل بها ، كحديث الثقلين ونحوه مما دل على حجية الكتاب والسنة ، وأحاديث عرض الأخبار على الكتاب وأحاديث الترجيح بينها بموافقته.

وما في الوسائل من أن العمل حينئذ بالكتاب والسنة لا بالكتاب وحده. كما ترى! فإن مفاد النصوص المدعى دلالتها على المنع ليس هو المنع تعبدا عن العمل به إلا بضميمة السنة ، بل المنع ، لعدم إمكان الاطلاع على معناه إلا بشرحه فيها ، وحينئذ فإذا فرض تعارض النصوص الشارحة كيف يكون مرجحا لها مع فرض إجماله وتعذر الاطلاع على معناه؟! بل كيف يمكن مع ذلك طرح الأخبار به لو خالفها ، أو كونه قرينة عليها لو وافقها؟! كما تضمنته نصوص العرض ، وكيف يكون المتبوع تابعا والحاكم محكوما؟!

ومثل النصوص المتقدمة النصوص الكثيرة الواردة في الموارد الخاصة المتفرقة التي يظهر منها المفروغية عن جواز الرجوع للقرآن والاحتجاج بظاهره ، وقد تعرض لبعضها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، ولا مجال لاستقصائها.

وعلى هذا جرت سيرة الأصحاب قديما وحديثا ، فقد عرفوا بالرجوع


للكتاب والاستدلال به متسالمين على حجيته ، حتى اشتهر بينهم عدّه أول الأدلة الأربعة ، وتقديمه على سائر الأدلة الظنية ، مع أن النصوص المتقدمة نصب أعينهم قد تضمنتها كتبهم ، وحفظتها صدورهم ، ووعتها قلوبهم ، وما ذلك إلا لعدم صلوحها بنظرهم للردع عن حجيته ، ولا للمنع عن العمل به.

وبهذا يظهر حال بقية الوجوه التي استدل بها للاخباريين ، فقد استدل لهم بوجوه كثيرة لا مجال للتعويل عليها بعد ما عرفت من إجماع الأصحاب وتسالمهم على حجية ظواهر الكتاب.

مع أنها في أنفسها غير صالحة للاستدلال.

منها : ما عن السيد الصدر ـ على اضطراب كلامه ـ من أن الظواهر من المتشابه الذي ورد النهي عن العمل به في الكتاب والسنة ، وأن المحكم خصوص النصوص القطعية الدلالة. ولو فرض الشك في شمول المتشابه للظواهر كفى في منع العمل بها.

وفيه : أن المتشابه هو المحتاج للتأويل ـ كما تضمنته الآية الكريمة ـ إما لإجماله في نفسه ، أو لمصادمته لظهور مثله ، أو لدليل قطعي مانع من البناء عليه ، ولا يشمل الظواهر التي لا معارض لها والتي يبني العقلاء على العمل بها.

ومن ثمّ كان ظاهر الآية الكريمة المفروغية عن حرمة العمل بالمتشابه ، لا النهي عنه تأسيسا ردعا عن طريقة العقلاء في العمل بالظواهر.

ولو فرض إجمال المراد بالمتشابه لزم الاقتصار فيه على المتيقن ، فلا ينهض لإثبات الردع عن الظواهر ، ويلزم العمل بها ، لأنه مقتضى الأصل الذي اعترف به في كل ظاهر.

ومنها : أن ما دل من الروايات على وقوع التحريف في القرآن مانع من العمل به ، لاحتمال ضياع القرائن الموجبة لتبدل ظهوره. ولا مجال للرجوع لأصالة عدم القرينة في الظواهر التي وصلت إلينا ، لعدم بناء العقلاء عليها في مثل


ذلك ، خلافا لما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام من عدم سقوط الظواهر التي بأيدينا إلا مع العلم الإجمالي المنجز بوجود الخلل فيها.

وفيه : أنه يصعب جدا البناء على التحريف مع ما هو المعلوم من اهتمام المسلمين بحفظ القرآن في الصدور والزبر ، ومدارسته من الصدر الأول ، بنحو لا يتهيأ لأحد تضييعه بالتحريف ، كما أطال الكلام فيه السيد المرتضى قدّس سرّه وغيره ، فلو فرض صحة النصوص الدالة عليه ، وتعذر حملها على معنى آخر لزم التوقف وردها إلى أهلها عليهم السّلام فانهم أعلم بما اريد بها.

على أن ما تقدم من النصوص الكثيرة الصريحة في جواز العمل بظواهر القرآن شاهد بعدم كون التحريف ـ لو فرض وقوعه ـ مانعا من ذلك ، إما لعدم وقوعه في آيات الأحكام ، أو لكونه في كلام مستقل لا دخل له بالظهورات الواصلة ، أو لغير ذلك ، كما نبه له غير واحد.

ومنها : أن العلم الإجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز وغيرها في ظواهر الكتاب مانع من الرجوع اليها.

وفيه : أن العلم المذكور إنما يمنع عن العمل بالظواهر قبل الفحص عما ينافيها ، لا مطلقا ، لانحلاله بالعلم بوجود المقدار الكافي بالفحص ، كما هو الحال في ظواهر الأخبار أيضا ، على ما يذكر في مسألة وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام ، وفي شرائط الرجوع الأصول العملية وغيرها.

وهناك بعض الوجوه الأخر راجعة إلى ما تقدم ، أو بيّنة الوهن ، فلا ينبغي أن تسطر وتذكر بعد ما عرفت ، والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.


الفصل الثاني

حجيّة قول اللغويين



الفصل الثاني

في حجية قول اللغويين

لا إشكال في أن الظهور الذي تقدم اعتباره هو الظهور الخاص الحاصل من مجموع الكلام ، الذي قد يكون على طبق الظهور النوعي للمفردات ، وهو ظهورها في معانيها الموضوعة لها ، وقد يكون على خلافها بسبب القرائن النوعية أو الشخصية المحيطة بالكلام الموجبة للخروج عن مقتضى الوضع.

نعم ، مع عدم القرينة المخرجة عن مقتضى الوضع لا إشكال في ظهور الكلام في المعنى الموضوع له ، فيكون هو المتبع.

ومن ثمّ ذكرنا أن أصالة الظهور من صغريات أصالة الحقيقة راجعة إليها. ولذا كان تشخيص ظهور المفردات النوعي التابع لوضعها مهمّا في المقام

ولا كلام مع القطع بذلك للتبادر أو اتفاق اللغويين أو غيرهما ، وإنما الكلام في جواز الرجوع للغويين في ذلك وحجية قولهم فيه مع عدم حصول القطع منه ، فقد ذهب إليه جماعة. وقد استدل عليه بوجوه ..

الأول : إجماع العلماء عملا على الرجوع لهم والاستشهاد بكلامهم لمعرفة المراد بالكلام من غير نكير من أحد.

ويشكل : بقرب كون رجوعهم لهم لتحصيل الاطمئنان من قولهم أو القطع بالمعنى ، إما لاتفاقهم ، أو لقرائن خارجية تقتضي ذلك ، أو للاستعانة بهم في معرفة موارد الاستعمال إلى غير ذلك مما يمنع من الجزم بابتناء رجوعهم لهم على البناء على حجية قولهم ، فضلا عن الاتفاق عليها بنحو يكشف عن


ثبوتها شرعا.

الثاني : أنه مقتضى سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، حيث لا إشكال بينهم في الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومنه المقام.

وفيه ..أولا : أنه لم يتضح خبرة اللغويين بتعيين المعاني الموضوع لها ، فإنه وإن كان ظاهرهم التصدي لذلك لا لتعيين موارد الاستعمال ، إلا أن النظر في كتبهم يمنع من الثقة بخبرتهم ، لكثرة المعاني التي يذكرونها للفظ الواحد بنحو يطمئن بعدم وضعه لجميعها استقلالا ، وأن مستندهم في ذكرها محض الاستعمال فيها مع الغافلة عن أن خصوصيات كثير منها ناشئة من خصوصيات الاستعمال ، ولم تؤخذ في المعنى وضعا.

وثانيا : أنه لا وثوق بتقيدهم في ثبوت الاستعمالات التي يستنبط منها المعنى بالوجه المعتبر من علم أو علمي ، بل من القريب جدا تسامحهم في ذلك كثيرا ، فلا مجال للتعويل عليهم بملاك الرجوع إلى أهل الخبرة.

نعم ، قد يستأنس بما ذكروه بنحو يكون من مقدمات تشخيص الظهور واستنباطه بنظر الباحث واجتهاده.

وثالثا : أن من المعلوم تسامحهم في تحديد المعنى ومبناهم على الإشارة إليه إجمالا من دون ضبط له بالنحو الجامع المانع. ومن ثم اشتهر أن تعاريفهم لفظية لا حقيقية ، ومعه لا مجال للرجوع لهم لمعرفة المعنى تفصيلا ، وأما معرفته إجمالا فلا أثر لحجية قولهم فيها ، لتيسر القطع به غالبا ولو بعد الرجوع لهم.

ورابعا : أن جواز الرجوع إلى أهل الخبرة يختص بمن لا يتيسر له الاجتهاد في موضوع خبرتهم ، والظاهر تيسر الاجتهاد للفقيه في تشخيص الظهور الذي هو المهم في المقام ، لقلة موارد الاحتياج لذلك في الأحكام الشرعية ، وتيسر مقدمات الاستنباط ولو بعد الرجوع لهم ، بنحو لا يعلم بانهم أوصل منه نوعا. فلاحظ.


أما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من اختصاص بناء العقلاء في الرجوع إلى أهل الخبرة بما إذا حصل الوثوق بقولهم ، وهو لا يحصل من قول اللغويين.

فإن أراد به اعتبار حصول الوثوق الشخصي فهو غير ظاهر من سيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة.

وإن أراد به أن قول اللغويين ليس من شأنه أن يوجب الوثوق نوعا بنحو يصح التعويل عليه عند العقلاء. فلعله راجع إلى ما ذكرنا.

ثم إن سيدنا الأعظم قدّس سرّه قد استشكل في الاستدلال المذكور : بأن الرجوع إلى أهل الخبرة إنما هو في الامور الحدسية المبنية على الاجتهاد وإعمال النظر ، وليس منها تعيين معنى اللفظ ، حيث يكون الاستناد فيه على المقدمات القريبة من الحس ، فهو نظير نقل الخبر بالمعنى ، لا يدخل في باب قول أهل الخبرة بالمعنى المذكور ، بل في باب خبر الثقة ، فينبغي الاستدلال عليه بعموم قبول خبر الثقة في الأحكام ، لأن خبر اللغوي وإن كان عن الموضوع ، لا عن الحكم ـ كالمفتي ـ إلا أن المراد بقبول خبر الثقة في الأحكام كل خبر ينتهي إلى الخبر عن الحكم الكلي ولو بالالتزام ، ومنه المقام ، فلا يعتبر فيه العدالة والعدد ، بخلاف الخبر عن الموضوع الصرف الذي لا يقتضي إلا الحكم الجزئي.

أقول : تعيين المعنى إنما يبتني على الحدس القريب من الحس إذا كان مبتنيا على التبادر ـ كما في النقل بالمعنى ومعرفة أهل اللغة بلغتهم ـ أو كان مبنيا على استفاضة النقل من أهل اللسان وتسالمهم. أما لو كان مبنيا على استنباط المعنى من الاستعمالات بعد التأمل فيها ، وتمييز حقائقها من مجازاتها ، وتعيين الخصوصيات الاستعمالية من الخصوصيات الوضعية ونحو ذلك ، كما هو الحال في المفاهيم ذات الحدود الخفية ، فهو مبني على الحدس والاجتهاد الملحق لصاحبه بأهل الخبرة ، كما اعترف به قدّس سرّه.

وحجية قول أهل اللغة في الأول لا أهمية لها غالبا ، لغلبة تيسر معرفة


المعنى للباحث نفسه في مثل ذلك ولو بضميمة ذكرهم له ، ولا سيما مع كون الوجه المذكور لا يقتضي غالبا تعيين المعنى بوجه تفصيلي ، بل إجمالي ، وإنما المهم حجية قولهم في الثاني لو فرض خبرتهم ، لصعوبة تمييزه على الباحث نفسه ، كما لا يخفى.

هذا ، مع أن التأمل في ما سبق منا وفي غيره يمنع من الوثوق باللغويين بنحو يدرج خبرهم في خبر الثقة. فتأمل جيدا.

الثالث : أنه لو لم يرجع لقول اللغويين لزم انسداد باب العلم باللغة ، إذ الغالب انحصار معرفة أصل المعنى إجمالا أو خصوصياته تفصيلا بالرجوع لهم ، ومع انسداد باب العلم يتعين التنزل للظن الحاصل من قولهم.

وفيه .. أولا : أنه لا أثر لانسداد باب العلم باللغة إلا من حيث إفضائه إلى انسداد باب العلم في غالب الأحكام الشرعية ، وهو لا يلزم في المقام ، لقلة الأحكام المتعلقة بالمفاهيم المجملة التي لا يتسنى للفقيه تشخيص ظهور الأدلة المتعرضة لها بنفسه ولو بمعونة الرجوع لهم ، فلا يلزم من الرجوع للأصول فيها مخالفة قطعية ، فضلا عن الخروج عن الدين ، كما لا يلزم من الاحتياط فيها الحرج ، فضلا عن اختلال النظام ، كي يتعين معه الرجوع للظن حكومة أو كشفا.

وثانيا : أنه لو تم اقتضى الاكتفاء بكل ظن ، لا بخصوص ما يحصل بقول اللغوي ، إلا أن يكون هو المتيقن مع فرض إهمال نتيجة دليل الانسداد. وهو غير ظاهر.

وثالثا : أن ما عرفت من الإشكال في خبرة اللغويين والثقة بهم يمنع من حصول الظن بقولهم.


تنبيه :

ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أنه بعد الفراغ عن عدم حجية قول اللغويين فلو حصل الوثوق بالمعنى من قولهم أوجب ظهور اللفظ فيه ، ولا يكون الوثوق بالمراد مستندا لأمر خارجي غير معتبر ، بل يدخل المورد في كبرى حجية الظهور بالخصوص ، لأن الوثوق بالمعنى لو حصل قبل إلقاء الكلام لأوجب ظهور اللفظ فيه قطعا ، فكذا بعده ، لعدم معقولية الفرق.

وفيه : أن الوثوق بالمعنى ـ سواء حصل من قول اللغويين أم من غيره ـ لا يوجب إلا الوثوق بالظهور ، سواء حصل قبل إلقاء الكلام أم بعده.

وحينئذ فحيث كان موضوع الحجية هو الظهور الواقعي فلا بد من إحرازه بعلم أو علمي ، ولا يكفي مجرد الوثوق إذا لم يستند إلى حجة ، كما هو المفروض. إلا أن يراد به العلم العادي ، فيكون حجة بنفسه. فلاحظ.



الفصل الثّالث

حجّيّة الإجماع المنقول



الفصل الثالث

في حجية الإجماع المنقول

لا يخفى أن الكلام في هذه المسألة متفرع على القول بحجية خبر الواحد ، حيث قد يدعى أن حجية خبر الواحد تستلزم حجية نقل الإجماع بخبر الواحد ، لأنه من أفراده ، فكان المناسب التعرض لها بعد الكلام في ذلك ، إلا أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث حررها هنا وتبعه جماعة ممن تأخر عنه تابعناهم في ذلك.

هذا ، وينبغي تقديم امور تنفع في تحرير الكلام ..

الأمر الأول : اشتهر ذكر الإجماع في أدلة الاحكام في كلمات أهل الاستدلال ، وقد صرّح أصحابنا بأن الإجماع ليس حجة بنفسه ، بل الملاك في حجيته موافقة المجمعين للإمام عليه السّلام فالحجة قوله ، لا أقوالهم ، إذ لا مرجع للامة بعد النبي صلّى الله عليه وآله إلا الكتاب الكريم والعترة الطاهرة ، ولا عبرة بأقوال الامة اذا خالفتهما.

نعم ، قد يستكشف قوله عليه السّلام من أقوالهم ، فلا أثر لاقوالهم إلا من حيث الكشف عن الحجة.

الأمر الثاني : بعد ما عرفت من أن حجية الإجماع منوطة باتفاق الإمام عليه السّلام من المجمعين فإحراز رأيه عليه السلام يكون بأحد وجوه ..

الاول : العلم برأيه عليه السّلام بطريق الحس أو بطريق ملحق بالحس ، كالتواتر.

الثاني : إحرازه حدسا بقاعدة اللطف ، التي حكي عن الشيخ قدّس سرّه البناء


عليها ، بل امتناع الاستدلال بالإجماع لولاها وهي راجعة إلى امتناع اتفاق الامة في عصر على خلاف رأي الإمام عليه السّلام ، بل يجب عليه عليه السّلام إزاحة العلة بالظهور ، أو إظهار من يبين الحق في المسألة ، فمتى تم اتفاقهم كشف عن موافقتهم له عليه السّلام. وإن كان التحقيق عدم تمامية القاعدة.

الثالث : إحرازه حدسا بمقدمات نظرية يختلف الناس فيها ، كحسن الظن بالمجمعين ، بنحو يمتنع عادة اتفاقهم على الخطأ مطلقا ، أو في خصوص الواقعة ، لكونها موردا للابتلاء ، المانع من اختفاء حكمها عليهم ، أو نحو ذلك.

الأمر الثالث : لما كان ملاك حجية الإجماع موافقة الإمام عليه السّلام للمجمعين فربما يظهر من كلام بعضهم أن الإجماع في الاصطلاح هو الاتفاق المشتمل على قول الإمام عليه السّلام بحيث يكون ظاهر ناقل الإجماع مع عدم القرينة الصارفة هو نقل قول الإمام عليه السّلام في ضمن أقوال المجمعين.

لكنه خلاف الظاهر ، بل ظاهرهم إرادة إجماع العلماء أنفسهم ، فليس المنقول إلا قولهم ، كما يشهد به مقابلة الإجماع في كثير من الموارد بالخلاف ، واستثناء بعض الأشخاص من الإجماع وغير ذلك مما يظهر منه عدم إرادة المعنى المذكور.

بل هو كالصريح في مثل قولهم : أجمع علماؤنا ، أو أصحابنا ، أو فقهاؤنا ، أو فقهاء أهل البيت عليهم السّلام.

نعم ، قد يحتمل إرادة دخول الإمام عليه السّلام في المجمعين من مثل قولهم : أجمعت الامة ، أو المسلمون ، أو أهل الحق ، أو الطائفة ، أو نحو ذلك.

وبالجملة : دعوى ظهور كلام ناقل الإجماع في نقل قول الإمام عليه السّلام مع المجمعين في غير محلها ، بل ظاهره غالبا إرادة نقل أقوال العلماء وحدهم ، وإن كان مستلزما لقول الإمام عليه السّلام بنظر الناقل.

ولا سيما إذا نقل الإجماع في مقام الاحتجاج ، لظهوره في خصوصية


اتفاق الجميع في الاحتجاج ، وإن كان من حيث استلزامه للحجة ، لا في كون الاحتجاج بقول البعض ـ وهو الإمام عليه السّلام ـ ولا أثر للباقين.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر أن الإجماع اصطلاحا مختص باتفاق أهل العصر الواحد ، واستشهد بكلمات بعضهم.

وهو وإن ناسب طريقة القائلين بقاعدة اللطف ، إلا أنه لم يتضح بوجه معتد به بنحو يصلح لتحديد مصطلحهم بذلك لتحمل كلماتهم عليه عند الاطلاق.

ولا سيما مع ظهور كثير من كلماتهم في الفقه في إرادة إجماع جميع العلماء ، كما يشهد به مقابلة الإجماع بالخلاف ، بنحو يظهر منه إرادة الخلاف ولو بين أهل العصور المختلفة ، فلا مخرج عن مقتضى الإطلاق الظاهر في إرادة علماء جميع العصور.

نعم ، الاطلاع بطريق حسي على فتاوى جميع علماء العصر الواحد فضلا عن فتاوى علماء جميع العصور لا يتسنى عادة لأحد ، خصوصا المتأخرين ، مع تباعد الأمكنة ، وعدم ضبط فتاوى كثير من العلماء ، إما لكونهم مغمورين لا ظهور لهم ، أو لضياع فتاواهم ، بل ربما لا يكون لبعضهم فتوى في المسألة ، لعدم نظره في أدلتها.

فلا بد من توجيه كلام مدعي الإجماع ، إما بحمله على إرادة خصوص أهل الفتاوى الظاهرة أو أهل الكتب المشهورة أو نحو ذلك ، وإما بحمله على إرادة الكل مع كون الاطلاع عليهم بطريق الحدس ، لاستبعاد مخالفتهم للمشهورين ، أو لابتناء الفتوى على أصل أو قاعدة إجماعية بنظر مدعي الإجماع ، كما تعرض لذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه وأطال الكلام فيه.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه حكي عن جماعة أن ما دل على حجية خبر الواحد في الأحكام يقتضي حجية الإجماع المنقول لأنه من أفراده ، لرجوع


دعوى الإجماع إلى حكاية قول الإمام عليه السّلام أو رأيه ، بل ربما قيل : إنه من الخبر العالي السند ، لأن مدعى الإجماع يحكي عنه عليه السّلام بلا واسطة.

والذي ينبغي أن يقال : إن حجية نقل الإجماع بملاك حجية خبر الواحد مبني على أحد أمرين :

الأول : أن يكون مرجع كلام ناقل الإجماع إلى نقل قول الإمام عليه السّلام في ضمن أقوال المجمعين.

الثاني : أن يكون ما ينقله من الأقوال ملازما عقلا أو عادة لقول الإمام عليه السّلام ، فيكون خبره حجة فيه ، بناء على ما هو الظاهر من حجية الخبر في لازم مؤداه وإن لم يقصد المخبر الإخبار عنه.

أما الأول فهو بعيد عن ظاهر كلام أكثر نقلة الإجماع ، كما سبق.

مع أنه لا مجال لحجيته مع عدم كون ناقل الإجماع من أصحاب الأئمة عليهم السّلام ، لعدم اطلاعه على آرائهم من السؤال ونحوه من الطرق الحسية.

كما يبعد اطلاعهم عليها من طريق ملحق بالحس ، كالتواتر الموجب للعلم لكل أحد ، وإلا لكان ذكره في مقام الاستدلال أولى من ذكر الإجماع ، لأنه أصرح في بيان الحجة.

مع أنه يكفي في عدم قبول نقل الإجماع الشك في ذلك بعد عدم ظهور كلام الناقل فيه ، إذ لو سلم ظهوره في نقل قول الإمام عليه السّلام فلا ظهور له في اعتماده على الحدس الملحق بالحس ، لاحتمال اعتماده على خبر من لا يوجب خبره العلم لغيره ، فيكون بمنزلة رواية مرسلة ليس بحجة.

على أن الظاهر بل المقطوع به ابتناء النقل ـ لو تم ظهور كلام الناقل فيه ـ على الحدس ، لقاعدة اللطف أو غيرها مما تقدم ، ومثل ذلك خارج عن عموم أدلة حجية خبر الثقة في الأحكام ، لاختصاصها بالإخبار عن حسّ أو حدس قريب منه ، وقبول الخبر عن حدس إنما هو من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ،


الذي لا يصح من المجتهد ، بل يجب عليه إعمال اجتهاده بنفسه.

ومما ذكرنا يظهر حال ما عن بعض من حجية الإجماع المنقول من القدماء ، بدعوى احتمال كون مستندهم في ذلك هو السماع من المعصوم ولو بالواسطة ، لقرب عصرهم من عصر الحضور.

إذ لو فرض حصول الاحتمال المذكور فلا مجال للتعويل عليه بعد ما عرفت.

وأما الثاني فلا مجال لإحرازه بعد ما عرفت من أن كلام ناقل الإجماع وإن كان ظاهرا بدوا في إرادة النقل عن جميع العلماء في جميع الأعصار ، وهو لو تم ملازم لقول الإمام عليه السلام عادة ، إلا أنه بعد العلم بامتناع الاطلاع على أقوالهم بطرق حسية لا بد من حمله على إرادة النقل عن بعضهم أو عن جميعهم اعتمادا على الحدس ، ومثل ذلك لا يستلزم عادة قول الإمام عليه السّلام حتى ينفع في المقام.

ثم إن بعض الأعاظم قدّس سرّه ذكر أن إجماع الأصحاب يكشف عن دليل معتبر عندهم خفي علينا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه ، وإلا احتمل استنادهم إليها ، لا إلى دليل آخر وراءها ، وحينئذ فلو فرض كون ناقل الإجماع مثل الشهيد والمحقق والعلامة قدّس سرّه تعين اعتبار حكايتهم ، لانهم يحكون نفس الفتاوى بلسان الإجماع الكاشفة عن الدليل المعتبر مع عدم وجود أصل أو قاعدة في البين ، بخلاف ما لو كان الحاكي من المتقدمين عليهم ، لان الغالب ابتناء حكايتهم الإجماع على الأصل أو القاعدة بنظرهم ، لا على حكاية نفس الفتاوى.

أقول : الاتفاق منهم على الفتوى لا يستلزم وجود دليل معتبر واقعا ، إذ كما أمكن خطؤهم في الاستناد إلى الأصل أو القاعدة أو الدليل الموجود في المسألة ، يمكن خطؤهم في الأدلة التي اعتمدوها وخفيت علينا.


نعم ، هو يكشف عن وجود دليل معتبر عندهم ، كما تكشف فتوى العدل الواحد عن وجود دليل معتبر عنده ، وذلك بنفسه لا يكفي في الحجية ، كما لا يخفى.

مع أن الفرق في الحاكي بين مثل المحقق ومن تقدمه ـ لو تم ـ لا ينفع بعد ما عرفت من امتناع اطلاع الحاكي على فتاوى الكل حسّا ، بل لا بد من توجيه حكايته بما تقدم المانع من الاعتماد عليه.

فالانصاف أنه لا مجال لحجية الإجماع المنقول بنفسه.

نعم ، قد تشهد القرائن في بعض المقامات بمطابقته للحكم الواقعي ، أو للدليل المعتبر ، وهو يختلف باختلاف ناقلي الإجماع ، والمسائل المنقول فيها ، والمجتهدين الذين يرجعون للنقل. كما قد يحصل العلم بالحكم من ذهاب المشهور ، أو تسالم جماعة قليلة عليه أو غير ذلك مما لا ضابط له ، ليرجع إليه.


الفصل الرّابع

حجّيّة الشّهرة الفتوائيّة



الفصل الرابع

في حجية الشهرة الفتوائية

ذكروا أن الشهرة ..

تارة : تكون في الرواية ، وهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة ومعروفيتها عندهم وتسالمهم عليها ، في قبال الحديث النادر الذي ينفرد به البعض.

واخرى : تكون في العمل بالرواية أو في الاعراض عنها في مقام الاستدلال.

وثالثة : تكون في الفتوى مع قطع النظر عن الحكم.

والاولى من المرجحات في باب تعارض الروايات.

والثانية هي التي قيل : انها تجبر الحديث الضعيف وتوهن الحديث الصحيح. وقد أشرنا في آخر مبحث حجية الظواهر إلى وجه الثاني. ولعله يأتي في مبحث حجية خبر الواحد الكلام في وجه الأول.

وأما الثالثة فهي محل الكلام في المقام.

وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنها تحصل بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين ، سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف ، أم لم يعرف الخلاف والوفاق من غيرهم.

وقد حكي عن بعضهم حجيتها ، وقد استدل عليها ..

تارة : بما دل على حجية الخبر بضميمة الأولوية ، لأن الظن الحاصل منها


أقوى من الظن الحاصل منه.

واخرى : بما تضمن الترجيح بين الروايات المتعارضة بالشهرة ، كما في المقبولة والمرفوعة.

وثالثة : بأنها مقتضى التعليل في آية النبأ بقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) ، بتقريب : أن المراد من الجهالة السفاهة ، فتدل بمقتضى التعليل الموجب لتخصيص الحكم بمورده على جواز الاعتماد على ما لا يكون الاعتماد عليه سفاهة ، ومنه الشهرة المذكورة.

والكل كما ترى!

إذ يندفع الأول : بأن المدعى إن كان هو الأولوية الظنية فهي ـ مع عدم تماميتها كما يأتي ـ أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسك بها في حجيتها ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وإن كان هو الاولوية القطعية فهي ممنوعة ..

تارة : لعدم ثبوت كون إفادة الظن هي الملاك في حجية الخبر ، كيف ولا إشكال في عدم حجية كثير مما يفيد الظن غيره؟!

واخرى : لعدم اطراد أقوائية الظن الحاصل من الشهرة من الظن الحاصل من الخبر.

ويندفع الثاني ..

تارة : بما عرفت من أن المرجح هو الشهرة في الرواية الموجبة لعدم الريب فيها ، لا الشهرة في الفتوى التي هي محل الكلام هنا.

وما قيل من عموم الشهرة المذكورة في الأدلة لهما ، يظهر وهنه بأدنى تأمل فيها ، كما تعرض له غير واحد بما لا ينبغي الإطالة فيه.

واخرى : بأن الترجيح بالشهرة لا يستلزم حجيتها في نفسها في غير مورد

__________________

(١) الحجرات : ٦.


التعارض ، إذ لا تلازم بين مرجحية الشيء وحجيته.

ودعوى : أن اطلاق قوله عليه السّلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» كما يقتضي ترجيح المشهور من الخبرين يقتضي ترجيح المشهور من الفتويين.

مدفوعة : بظهوره في ترجيح المشهور من الدليلين بعد الفراغ عن دليليتهما ذاتا ، لا في كون الشهرة مرجحة في مورد التعارض لما لا يكون دليلا بذاته كالفتويين ، بحيث تكون الشهرة هي الملاك في الدليلية.

مع أنه إطلاق فيه يشمل غير الخبرين بعد اختصاص السؤال بهما.

ويندفع الثالث : ـ بعد تسليم أن المراد بالجهالة السفاهة ، على ما يأتي الكلام فيه في مبحث خبر الواحد ـ

تارة : بأن تخصيص الحكم بمورد التعليل إنما يكون بالإضافة إلى موضوعه لا في غيره ، فإذا قيل : لا تأكل الرمان لأنه حامض ، دل على اختصاص النهي بالحامض في خصوص الرمان ، لا مطلقا ، فلا ينافي النهي عن غير الحامض من الرمان ، ففي المقام يدل التعليل على اختصاص النهي بخبر الفاسق الذي يكون الاعتماد عليه سفهيا ، دون خبر الفاسق الثقة الذي لا يكون الاعتماد عليه سفهيا ، ولا يقتضي حجية غير الخبر مما لا يكون الاعتماد عليه سفهيا.

واخرى : بعدم وضوح كون الاعتماد على الشهرة غير سفهي ، لعدم وضوح اعتماد العقلاء عليها مع قطع النظر عن دليلها. بل هو من سنخ التقليد الذي لا ينبغي عندهم للمجتهد القادر على استنباط الحكم بنفسه.



الفصل الخامس

حجّيّة خبر الواحد



الفصل الخامس

في حجية خبر الواحد

تمهيد :

استنباط الحكم الفرعي من قول المعصوم عليه السّلام يتوقف على امور ..

الأول : صدوره.

الثاني : ظهوره في المعنى.

الثالث : إرادة المتكلم لظاهر الكلام.

ولا إشكال مع العلم بهذه الامور أو ببعضها.

وأما مع الشك فالمتكفل بالأخير هو أصالة الظهور ، التي تقدم الكلام فيها في الفصل الأول ، وتقدم ابتناؤها على أصالة الجهة وعدم الغافلة وغيرهما ، وليست هي أصلا مستقلا في قبال أصالة الجهة.

وأما الأمر الثاني فقد تقدم في الفصل الثاني أنه لم يذكر طريق غير علمي له عدا قول اللغويين ، كما تقدم المنع من حجيته.

وأما الأمر الأول فالمتكفل له هذه المسأله ، لأن من أهم الطرق غير العلمية على صدور الكلام من المعصوم عليه السّلام هو خبر الواحد. بل هو الطريق الوحيد الذي وقع الكلام في حجيته بالخصوص.

كما أنه ينفع في غير الكلام من أفراد السنة ـ أعني الفعل والتقرير ـ بل ينفع في غير السنة مما يقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية الكلية كالقرائن الخارجية التي تنهض ببيان المراد من الكتاب والسنة ، كما لا يخفى.


ومنه يظهر في عدّ هذه المسألة من المسائل الاصولية ، فإنها واجدة لملاك المسألة الاصولية وهو تحريرها لاستنباط الأحكام الفرعية.

ومعه لا حاجة إلى تجشم دعوى أن البحث فيها عن عوارض موضوع علم الأصول ، وهو السنة أو الأدلة ، كما أطال فيه غير واحد.

ولا سيما مع عدم وضوح لزوم فرض الموضوع لعلم الأصول ولا لغيره من العلوم ، وإن صرح به جماعة ، بل هو المعروف ، كما تعرضنا لذلك في محله. فراجع.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن الخبر ..

تارة : يوجب العلم بمؤدّاه ، إما لتواتره أو لاحتفافه بالقرائن القطعية.

واخرى : لا يوجبه.

ولا إشكال في وجوب العمل بالأول من جهة العلم الحاصل منه لا لخصوصيته ، فهو خارج عن محل الكلام. ومحل الكلام هو الثاني ، وهو المراد بخبر الواحد في المقام ، لا خصوص خبر المخبر الواحد ، كما هو ظاهر العنوان.

وقد وقع الكلام في حجية خبر الواحد ـ بالمعنى المذكور ـ بالخصوص على أقوال كثيرة ، فبين مانع مطلقا ، وقائل بحجية جميع ما في الكتب الأربعة ـ مطلقا ، أو بعد استثناء ما خالف المشهور ـ أو مطلق خبر العدل ، أو الثقة ، أو الخبر المعمول به بين الأصحاب ، أو المظنون بصدوره ، أو غير ذلك.

وربما ينسب إلى بعض الاخباريين ـ ولعله ظاهر الوسائل ـ أن الأخبار المدونة في الكتب المعروفة قطعية الصدور ، فهي خارجة عن محل الكلام. وحيث كان القطع من الامور الوجدانية غير المنضبطة فلا مجال للاستدلال على هذا القول ولا على بطلانه.

وقد أطال في غير واحدة في فوائد خاتمة الوسائل في سرد القرائن الموجبة لذلك.


والإنصاف أنها على أهميتها لا توجب العلم التفصيلي بصدور كل خبر من الأخبار المذكورة ، ولا سيما مع بعد زماننا عن زمان الصدور والتدوين واضطراب كثير من الأخبار ، فإن ذلك يفتح باب الشك ، ولا طريق لسده.

نعم ، التأمل في القرائن المذكورة وغيرها يوجب العلم الإجمالي بصدور أكثر الأخبار ، بحيث لو فرض عدم صدور بعضها فهو قليل جدا ؛ وهذا لا يغني عن النظر في أدلة الحجية إثباتا أو منعا. فراجع وتأمل جيدا.

ثم إن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات ..

الأول : في حجج النافين مطلقا.

الثاني : في حجج المثبتين في الجملة.

الثالث : في تحديد ما هو الحجة حسبما يستفاد من أدلة الحجية بعد الفراغ عن دلالتها في الجملة.

وهو من أهم مباحث المسألة ، وإنما لم نلحقه بالمقام الثاني خوفا من اضطراب الكلام ، لكثرة الأدلة المستدل بها ، مع الاشكال في أصل دلالتها على الحجية ، وفي تحديد مدلولها بعد الفراغ عن ذلك ، فيصعب الكلام في كلا الأمرين في مقام واحد ، والظاهر أن فصلهما معين على تيسير بيان المقصود ، وسهولة تفهمه. ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق ، وعليه نتوكل في الكلام في هذه المسألة المهمة ، إنه ولي الامور ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

المقام الأول : في حجج النافين ..

فقد حكي القول بعدم حجية خبر الواحد مطلقا عن جماعة من الأعيان ، كالسيدين والقاضي والطبرسي وابن إدريس ، بل ربما نسب إلى المفيد والشيخ (قدس سرهما) ، وحيث كان عدم الحجية هو المطابق للأصل ، فهو لا يحتاج إلى الاستدلال ، إلا أنه قد ينفع الاستدلال من حيث انه لو تم كان مانعا من أدلة المثبتين أو معارضا لها لو كانت تامة فى أنفسها.


وكيف كان ، فقد استدل لعدم حجيته بالأدلة الأربعة ..

الأول : الكتاب المجيد ، حيث تضمن كثير من الآيات الشريفة عموم النهي عن القول بغير علم ، والعمل بالظن ، ومع الجهل ، ومنها عموم التعليل في آية النبأ ، كما استدل به الطبرسي قدّس سرّه في مجمع البيان.

والجواب عن ذلك ما تقدم في تقرير أصالة عدم الحجية من عدم نهوض العمومات المذكورة ببيان عدم الحجية واقعا في جميع ما لا يفيد العلم بنحو يعمّ خبر الواحد. على أنها لو تمت فهي عمومات قابلة للتخصيص بما يأتي إن شاء الله تعالى من أدلة حجية خبر الواحد.

ودعوى : إبائها عن التخصيص ، مساوقة لدعوى : دلالتها على أمر ارتكازي عرفي ، لا أمر تعبدي محض من قبل الشارع ، وهو مناسب لحملها على الإرشاد لما يحكم به العقل من لزوم انتهاء العمل للعلم ولو بالحجية ، فلا تنافي حجية بعض الامور غير العلمية ، لتنفع في ما نحن فيه ، كما تقدم هناك أيضا. وأما عموم عدم حجية غير العلم واقعا فهو أمر تعبدي صرف غير آب عن التخصيص ، فلا مانع من تخصيصه بأدلة الحجية الآتية.

نعم ، هذا في غير سيرة العقلاء من أدلة الحجية ، وأما السيرة فالظاهر عدم نهوضها بتخصيص الآيات ـ لو فرض دلالتها على عدم الحجية ـ بل ربما يدعى أنه لو تمت دلالة الآيات كانت رادعة عنها على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى عند الاستدلال بالسيرة على حجية الخبر.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن الظاهر من الآيات المذكورة أو المتيقن من إطلاقها هو النهي عن اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية لا ما يعم الأحكام الفرعية.

فهو لو تم في بعض الآيات لا يتم في جميعها ، فإن ظاهر بعضها سوق العموم المذكور مساق التعليل أو الكبرى العامة ، كقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ


عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) وغيره.

بل لو فرض اختصاص بعضها باصول الدين كان ظهورها في بيان أمر ارتكازي عرفي شاهدا بعدم الخصوصية لمواردها وعمومها للفروع.

هذا ، ويأتي إن شاء الله تعالى في الاستدلال بآية النبأ على حجية خبر الواحد الكلام في عموم التعليل فيها مع الغض عما ذكرناه هنا. فلاحظ.

الثاني : السنة الشريفة ، وهي طائفتان :

الاولى : ما تضمن النهي عن العمل مع عدم العلم. ويظهر الكلام فيها مما تقدم في الاستدلال بالكتاب.

الثانية : ما ورد من النصوص الكثيرة المتواترة معنى أو إجمالا في خصوص الأخبار ، وذكر جملة منها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، مثل ما تضمن وجوب رد ما لم يعلم أنه قولهم عليهم السّلام ، او لم يكن عليه شاهد او شاهدان من الكتاب ، أو لم يكن موافقا للقرآن ، إليهم عليهم السّلام ، وما تضمن بطلان ما لا يصدقه الكتاب ، وأن ما يوافق الكتاب فهو زخرف ، وما تضمن النهي عن قبول الأحاديث المخالفة للكتاب أو السنة ، أو عن قبول الأحاديث غير الموافقة للكتاب أو السنة ، معللا في بعضها بدس الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمة عليهم السّلام ونحو ذلك من الأخبار المقتضية لعدم حجية الأخبار التي بأيدينا ، لعدم العلم بصدورها ، ومخالفتها للكتاب أو السنة المعلومة ولو بالعموم والخصوص. ولا أقل من عدم موافقتها لهما وعدم اعتضادها بشاهد منها. وما فرض اعتضاده بذلك لا أثر لحجيته ، للاستغناء بالكتاب والسنة المعلومة عنه.

والذي ينبغي أن يقال : النصوص المذكورة على أقسام.

الأول : ما ورد في المتعارضين ، كمكاتبة داود بن فرقد إلى الهادي عليه السّلام : «نسألك عن العلم المنقول عن آبائك واجدادك سلام الله عليهم أجمعين قد

__________________

(١) النجم : ٢٨.


اختلفوا علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ فكتب عليه السّلام بخطه : ما علمتم أنه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموه فردوه إلينا» ونحوها ما عن مستطرفات السرائر ، وغير ذلك من النصوص ، وقد تعرض في الوسائل لجملة منها في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي.

ومن الظاهر خروج هذه النصوص عن محل الكلام ، بل هي على الحجية أدل ، لظهورها في المفروغية عن حجية الخبر لو لا المعارضة.

وأما دعوى : أن أدلة حجية الخبر تكون حاكمة على مثل الروايتين الاوليين ، لأنها تقتضي كون خبر الثقة علما تنزيلا.

فهو كما ترى! لوضوح كون خبر الثقة متيقنا من مورد الخبرين المذكورين ، إذ لا يحتمل السؤال عن خصوص أخبار غير الثقات ، ولا سيما مع التعارض الظاهر في المفروغية عن الحجية في الجملة لو لا التعارض ، فلو كان خبر الثقة حجة لكان الأولى جعله معيارا في التفصيل ، لا إهماله وجعل العلم معيارا فيه الذي هو من الحجج الذاتية غير المحتاجة إلى البيان ، فعدم التنبيه عليه والاقتصار على ذكر العلم كالصريح في إرادة العلم الحقيقي ، وأما الإشكال فيهما بانهما من أخبار الآحاد ، فيلزم من حجيتها عدمها ، فيظهر حاله مما يأتي في الطائفة الثالثة ، فلاحظ.

الثاني : ما تضمن التبري من الخبر المخالف للكتاب أو الذي لا يوافقه ، وانه زخرف أو باطل ، وهو نصوص كثيرة ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، مثل قوله صلّى الله عليه وآله : «ما جاءكم عني ما لا يوافق القرآن فلم أقله» (١) ، وقريب منه مصحح هشام بن الحكم (٢) ، وخبر أيوب بن الحر : «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ص ٨.

(٢) الوسائل ج ١٨ : ٧٩ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.


زخرف» (١) ونحوه خبر أيوب بن راشد (٢) وغيرها.

وهذه النصوص على كثرتها لا تنفع أيضا في ما نحن فيه ، لأن المراد بالمخالفة فيها المخالفة بالتباين ، لأن لسانها آب عن التخصيص ، ومن المعلوم صدور الأخبار الكثيرة عنهم على خلاف ظاهر القرآن.

كما أنه لا بد من حمل عدم الموافقة للقرآن على ذلك أيضا ، لا مجرد عدم الموافقة ولو لعدم وجود الحكم في القرآن ـ كما هو ظاهرها بدوا ـ كيف ولا ريب في عدم وفاء ظاهر القرآن بجميع الأحكام ، وأن بقيتها مأخوذة من النبي صلّى الله عليه وآله وآله عليهم السّلام ، ولذا كان كمال الدين بولايتهم. وقد استفاضت النصوص بوجود اخبار منهم عليهم السّلام بمضامين لا يمكن تحصيلها من الكتاب الكريم.

ودعوى : أنه لا مجال لحمل النصوص المذكورة على المخالفة بالتباين ، إذ لا يصدر من الكذاب عليهم ما يباين الكتاب والسنة المعلومة ، لعدم ترتب غرضه ، إذ لا يصدقه أحد في ذلك.

مدفوعة : بأن عدم مخالفتهم عليهم السّلام للقرآن إنما يتضح لأهل الحق وذوي البصائر ، دون غيرهم من جهال الناس وذوي المقالات الباطلة ، من أعدائهم الذين يجوزون صدور الباطل منهم عليهم السّلام ، أو المفوضة والمغالين ونحوهم ممن يرى أن لهم عليهم السّلام الحق في تشريع الأحكام المخالفة للكتاب ، وهذا كاف في غرض الكذابين الذين همهم تشويه سمعتهم عليهم السلام أو إضلال الناس بالروايات المكذوبة.

ولا سيما مع دس الروايات المذكورة في كتب أصحاب الأئمة عليهم السّلام الذين يصدقون عليهم ، كما صرّحت به روايتا هشام بن الحكم الآتيتان وغيرهما.

بل لا ينبغي الريب في وجود أخبار كثيرة ليست من سنخ أحاديثهم عليهم السّلام

__________________

(١) الكافي ج ١ : ص ٦٩. تفسير العياشي ص : ٩.

(٢) الكافي ج ١ : ص ٦٩. الوسائل ج ١٨ : ٧٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث ١٢.


ولا تناسب طريق أهل الحق ، ولا تشابه القرآن كما استفاضت به النصوص ، ومن ثم نشأت الفرق الضالة من الغلاة وغيرهم ممن ينتسب للأئمة عليهم السّلام ويدعي الأخذ منهم والقبول عنهم.

نعم ، يشكل الحمل المذكور فى خبر كليب الأسدي ، سمعت أبا عبد الله عليهما السّلام يقول : «ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل» ، فإنه ظاهر في عدم صدور ما لا يصدقه الكتاب من الأخبار ، فلا بد من حمله على ما يأتي في الطائفة الثالثة ، أو الالتزام بإجماله وردّه لهم عليه السّلام.

الثالث : ما تضمن النهي عن قبول الخبر الذي يخالف الكتاب ، أو لا يوافقه أو ليس عليه شاهد أو شاهدان منه ، وانه يجب رده اليهم ، ولا يعمل به ، من دون تعرض لتكذيبه. وهو أخبار كثيرة ، كرواية بن أبي يعفور سألت أبا عبد الله عليهما السّلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومن لا نثق به؟ قال : «اذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله او من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وإلا فالذي جاءكم أولى به» (١) ، ومرسل عبد الله بن بكير عن أبي جعفر عليه السّلام : «إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا ، وإلّا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم» (٢) ، ورواية محمد بن مسلم قال أبو عبد الله عليه السّلام : «يا محمد ما جاءك في رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به ، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به» (٣) ورواية جابر عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال : «انظروا أمرنا وما جاءكم عنا فان وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به ، وان لم تجدوه موافقا فردوه ، وان اشتبه الأمر عليكم

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ٧٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١١.

(٢) الوسائل ج ١٨ : ٧٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي : حديث ٨.

(٣) تفسير العياشي : ج ١ ، ص ٨.


فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» (١) ، وخبر سدير ، قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السّلام : «لا تصدق علينا إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله» (٢) وما رواه الكشي بسنده الصحيح عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن : «ان بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر ، فقال له : يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا ، فما الذي يحملك على رد الأحاديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله عليه السّلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإن المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا صلّى الله عليه وآله ، فإنا إذا حدثنا قلنا : قال الله عزّ وجل ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله.

قال يونس : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه السّلام ، ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليه السّلام متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا عليه السّلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله عليه السّلام ، وقال لي : إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليه السّلام ، لعن الله أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث ، إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه السّلام فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فانا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إما [انا. ظ] عن الله وعن رسوله نحدث ، ولا نقول : قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا ، إن كلام اخرنا مثل كلام أولنا ، وكلام أولنا مصداق لكلام اخرنا ، وإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه ، وقولوا : أنت أعلم وما جئت به ، فان مع كل قول منا

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ٨٦ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٧.

(٢) تفسير العياشي : ج ١ ، ص : ٩.


حقيقة ، وعليه نور ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك قول الشيطان» (١) ، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «والأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنة متواترة جدا».

وهذه الروايات هي المهمة في المقام ، لأنها مع كثرتها وتشابه ، مضامينها ظاهرة في أن عدم حجية الاخبار ليس لبطلانها ـ كي يختص بالأخبار المخالفة للقرآن بالتباين ، كما تقدم في الطائفة الثانية ـ بل لاحتمال كذبها من جهة احتمال الدس ، وهو موجود في أغلب الأخبار التي بأيدينا ، فظاهر هذه النصوص توقف العمل بها على اعتضادها بالقرائن القطعية من الكتاب والسنة المعلومة وعدم كفاية رواية الثقات لها.

ولا مجال لدعوى تخصيصها بأخبار غير الثقات ، جمعا بينها وبين ما دل على حجية خبر الثقة.

لأن أخبار الثقات متيقنة من مواردها ، إذ عدم حجية خبر غير الثقة لا يحتاج إلى هذا النحو من التأكيد والبيان ، بل البيان المذكور ظاهر في الردع عن الأخبار التي هي مورد الابتلاء ومن شأنها أن يعمل بها التي منها أخبار الثقات ، بل خبر محمد بن مسلم صريح في العموم لخبر الثقة ، وقريب منه خبر ابن أبي يعفور ، فإن إهمال الإمام عليه السّلام الترجيح بالثقة مع تعرض السائل لها كالصريح في عدم كفاية الثقة في الحجية ، وكذا رواية الكشي ، لظهورها في عدم جواز الاعتماد على ما في كتب أصحاب الأئمة عليهم السّلام ، ولا مجال لحملهم بأجمعهم على غير الثقات.

بل هذه الأخبار تصلح لتخصيص عموم حجية خبر الثقة أو العدل لو تم ، لاختصاصها بخصوص الأخبار المروية عن أهل البيت عليهم السّلام ، كما تصلح للردع عن سيرة العقلاء على حجية خبر الثقة فيها.

__________________

(١) رجال الكشي : ص ١٩٥.


بل بملاحظة التعليل في خبري الكشي المتقدم والآتي تكون الأخبار المذكورة حاكمة أو واردة على العمومات المذكورة والسيرة ، لأنها تكشف عن ابتلاء الأخبار المروية عن الأئمة عليهم السّلام بما يمنع من الاعتماد عليها عند العقلاء ، ويرفع الثقة بصدورها ، وهو دسّ الأكاذيب فيها.

ومما ذكرنا يظهر لزوم قبول هذه الأخبار وإن كانت من أخبار الآحاد ـ إذا كانت واجدة لشرائط الحجية المستفادة من عمومات الحجية أو من سيرة العقلاء ـ فضلا عما لو كانت متواترة ، لوجود مقتضي الحجية فيها ، وعدم المانع منها ، لقصورها عن إثبات عدم حجية أنفسها ، بل هي مختصة ببيان عدم الحجية في غيرها من الأخبار ، لا من جهة امتناع شمول القضية لنفسها ، فإنه لا أصل له ، بل من جهة امتناع وجود المانع عن الحجية في جميع الأخبار حتى هذه الأخبار نفسها ، إذ بعد انحصار بيان وجود المانع عن الحجية بها لا بد إما من وجود المانع المذكور فيها دون بقية الأخبار ، أو في بقية الأخبار دونها ، وحيث يتعذر حملها على بيان الأول ، لاستلزامه استعمال الكلام في نفسه ، بل ما في ما هو متأخر عنه ومن شئونه ، واستلزامه لغوية صدورها ، تعين الثاني ، فتبقى هذه الأخبار داخلة في عموم الحجية وباقية على مقتضى السيرة ، وتكون حجة على تخصيص عموم الحجية والخروج عن مقتضى السيرة في بقية الأخبار ، ومسقطة لها عن الحجية. نظير ما لو ورد ظهور كلامي رادع عن حجية الظهور.

نعم ، من يرى قصور الخبر عن الحجية ذاتا لا من جهة المانع ليس له الاحتجاج بهذه الأخبار إلا مع تواترها. وهو غير مهم.

وكيف كان ، فالأخبار المذكورة وافية ببيان عدم حجية أخبار الثقات إما لتواترها أو لما ذكرنا.

اللهم إلا أن يقال : ما رواه الكشي قدّس سرّه وإن اشتمل على عدم جواز تصديق الروايات التي لا شاهد عليها من الكتاب ، إلا أن الظاهر سوقه مساق التبري منها


وبيان عدم صدورها منهم عليهم السّلام ، وأنها لا تشبه أقوالهم ومن قول الشيطان ، وهو يناسب حملها على روايات الغلو ونحوها ، كما يشهد به ما رواه الكشي عن هشام بن الحكم أيضا ، أنه سمع أبا عبد الله عليه السّلام يقول : «كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ، وأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي ، فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ، ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يثبتوها في الشيعة ، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم» (١).

وما ذكرناه في صحيح محمد بن عيسى جار في خبر سدير أيضا ، لظهوره في أن عدم التصديق ليس لمحض عدم الحجية ، بل لكذب الرواية التي لا شاهد عليها من الكتاب وبراءتهم عليهم السّلام منها.

ولعل ما ذكرنا في الصحيح المذكور من وروده لأجل الحذر من روايات الغلو ونحوها مما لا يتناسب مع مقامهم عليهم السّلام ، يكون قرينة على بقية روايات المقام ، فالمنظور فيها ذلك ، دون روايات الأحكام التي بأيدينا والتي لا تتضمن أحكاما بعيدة عن تعاليمهم عليهم السّلام ، ولا منافية للقرآن. والمخالفة بالعموم والخصوص ونحوه لا تعد مخالفة عرفا ، بل هي من سنخ التفسير والشرح الذي هو من شأنهم عليهم السّلام.

ولا سيما مع ما قد يقال من ضعف سند الروايات وعدم وضوح تواترها إلا في خصوص صورة المخالفة. فتأمل.

على أنه لا مجال للتعويل عليها في ذلك بعد التأمل في سيرة الأصحاب قديما وحديثا وتسالمهم على الرجوع للروايات والعمل عليها ، فإن الروايات المذكورة نصب أعينهم مشهورة عندهم معروفة لديهم ، فعدم امتناعهم لأجلها

__________________

(١) رجال الكشي : ص ١٩٦.


من العمل بالأخبار المروية عندهم شاهد باطلاعهم على ما يمنع من العمل بها فيها ، إما لانصرافها إلى ما ذكرنا ونحوه ، أو لتهذيب الأخبار عن الأخبار المكذوبة بعد عرضها على الأئمة عليهم السّلام ، أو بقرائن أخر ، بنحو يعلم بارتفاع ما يقتضي التوقف عنها ويلزم بطلب الشاهد عليها ونحو ذلك.

والمظنون اختصاص الأخبار المذكورة بأوقات خاصة كثر فيها الكذب والتخليط والدس المانع من الاعتماد على كتب الثقات ، وقد زال ذلك بعرض الكتب على الأئمة عليهم السّلام وبتنبه الأصحاب لذلك بنحو أوجب شدة احتياطهم في تحمل الروايات وفي روايتها وعدم اكتفائهم بإثباتها في الكتب وغير ذلك مما يشهد به سيرتهم على قبول أخبار الثقات ، كما أشرنا إليه ويأتي الكلام فيه عند التعرض لأدلة المثبتين إن شاء الله تعالى.

هذا ، مضافا إلى النصوص الكثيرة التي يأتي التعرض لها هناك ، الظاهرة في المفروغية عن قبول أخبار الثقات عن أهل البيت عليهم السّلام ، إذ لا مجال معها للتعويل على الأخبار المذكورة هنا بوجه ، بل يكشف عن الخلل فيها ببعض الوجوه التي ذكرناها أو غيرها.

هذا ما تيسر لنا من الكلام في هذه الأخبار ، ونسأله تعالى التسديد في ذلك ، إنه ولي الامور ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الثالث : الإجماع ، فقد ادعى السيد المرتضى قدّس سرّه إجماع أصحابنا على عدم العمل بأخبار الآحاد ، بل جعله كالقياس في كون ترك العمل به ضروريا من مذهبهم ، يعرفه الموافق والمخالف منهم ، لما هو المعلوم منهم من أنهم لا يعملون بما لا يوجب العلم.

والجواب عنه منع الإجماع المذكور ، بل لعل الإجماع على خلاف ذلك ، كما يأتي في أدلة المثبتين.

وما ذكره السيد المرتضى قدّس سرّه لا يبعد حمله على أخبار المخالفين ونحوها


من الأخبار الضعيفة ، كما يشهد به ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في العدة ، ويقتضيه التدبر في سيرة أصحابنا (رضوان الله عليهم) في العمل بأخبار الثقات.

وهو قدّس سرّه وإن ادعى أن أخبارهم التي يعملون بها محتفة بالقرائن القطعية وإن كانت مودعة في الكتب بطريق الآحاد ، إلا أنه لا يبعد أيضا أن يكون مراده ما يعم الوثوق بصدور الخبر ، لما هو المعلوم من صعوبة الالتزام بحصول القطع بجميع الأخبار لجميع العاملين بها ، كما ذكره الشيخ قدّس سرّه أيضا. ولعله يأتي في استدلال المثبتين بالإجماع ما ينفع في ذلك.

على أنه من الإجماع المنقول الذي تقدم عدم الاعتماد عليه ما لم يوجب العلم بالواقع أو بالدليل المعتبر ، وهو لا يوجب ذلك ، بل ولا الظن بهما لو فرض عدم العلم بخلافه.

هذا ، وأما الإشكال فيه : بأن العمل بالإجماع المنقول في المقام تعويل على خبر الواحد الذي هو محل الكلام ، بل المفروض في كلامه المنع منه. فيظهر حاله بما تقدم في الطائفة الثالثة من الأخبار. فتأمل.

الرابع : العقل ، فقد تقدم عند الكلام في إمكان التعبد بغير العلم عن ابن قبة المنع من حجيته عقلا ، لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال. كما تقدم تفصيل الكلام في المحذور المذكور ودفعه بما لا مزيد عليه.

المقام الثاني : في حجج المثبتين

المعروف من مذهب الأصحاب العمل بخبر الواحد في الجملة ، وصرح به غير واحد منهم. وقد استدل على حجيته وجواز العمل به بالأدلة الأربعة أيضا وهي ..

الأول : الكتاب الكريم ، وقد استدل منه بآيات ..

الاولى : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ


تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١). والكلام فيها يقع في موضعين ..

الأول : تحقق مقتضى الدلالة على حجية الخبر في الجملة فيها.

الثاني : في وجود المانع من ذلك على تقدير تمامية المقتضي.

أما الأوّل : فحاصل الكلام في كيفية الاستدلال بها : أن وجوب التبين كناية عن عدم حجية الخبر ، ومقتضى جعل موضوع عدم الحجية هو خبر الفاسق حجية خبر غير الفاسق.

إما لان في خبر الفاسق جهتين ذاتية ، وهي كونه خبر واحد ، وعرضية ، وهي كونه خبر فاسق ، فذكر الجهة الثانية وإهمال الأولى ظاهر في عدم صلوح الاولى لاقتضاء الحكم ، وإلا لكانت الأولى بالذكر ، إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلية أولى من التعليل بالعرضي ، فلا بد أن يكون المقتضي لعدم الحجية هو الجهة الثانية ، ولا سيما مع مناسبتها للحكم عرفا ، فإنه ظاهر في دخلها فيه.

وإما لأجل استفادة إناطته بالفسق من الشرط الدال على التعليق ، والظاهر في المفهوم على التحقيق.

لكن الظاهر عدم تمامية الاستدلال بكلا وجهيه.

أما الأول : فلأنه راجع إلى الاستدلال بمفهوم الوصف ، والتحقيق عدم ثبوته على ما فصل في محله. ومجرد المناسبة بين الوصف والحكم عرفا لا يوجب ظهوره فيه ، بنحو يمكن الاحتجاج به ، بل غاية ما تقتضيه الإشعار به. على أنها لا توجبه في المقام بناء على ما يأتي من عدم سوق الآية لمحض بيان عدم الحجية ، بل للاستنكار والتبكيت زائدا عليه ، فلعل ذكر الفسق لأنه اكد في ذلك ، لا لإناطة عدم الحجية به.

ثم إن بعض مشايخنا حكى عن بعضهم الإشكال في الوجه المذكور ..

__________________

(١) الحجرات : ٦.


تارة : بأن كون خبر الفاسق خبر واحد جهة عرضية أيضا ككونه خبر فاسق ، وذكر أحد العرضيين في موضوع الحكم لا ينفي علّية الآخر له ، فلا يتم الوجه المذكور.

واخرى : بأنه يمتنع ثبوت الحكم بعدم الحجية للطبيعة المهملة ، بل لا بد من ثبوته للطبيعة المقيدة إما بالفسق بالإطلاق ، وحينئذ فذكر أحد القيدين في موضوع الحكم لا يدل على عدم دخل الآخر فيه.

وثالثة : بعدم تمامية المفهوم في المقام ، إذا لا إشكال في عدم حجية كثير من أخبار غير الفساق ، كالأطفال وغيرهم. وهذا الأخير لو تمّ جرى في الوجه الثاني ، كما لا يخفى.

ومن الظاهر اندفاع الوجوه المذكورة ، كما ذكره بعض مشايخنا أيضا.

أما الأول : فلأنه ليس المراد بخبر الواحد الذي قيل انه جهة ذاتية هو خبر الشخص الواحد ، كما تقدم ، بل الخبر الذي لا يفيد العلم ، ومن الظاهر أن عدم إفادة الخبر العلم هو مقتضى الأصل الأولي فيه ، ولا يراد بالجهة الذاتية هنا إلا ذلك ، في قبال الجهة العرضية التي يراد بها ما يستند إلى ما هو خارج عن الذات ، ككون الخبر خبر فاسق.

وإن شئت قلت : المراد باجتماع الجهة الذاتية والعرضية هو اجتماع جهتين إحداهما اعم من الاخرى مطلقا ، أو متساويين مع كون إحداهما ثابتة للشيء بلحاظ جهات زائدة على وجوده ، في قبال ما لو كان بين الجهتين عموم من وجه ومن الظاهر أن جهة كون الخبر خبرا واحدا التي هي بمعنى عدم كونه موجبا للعلم أعم مطلقا من كونه خبر فاسق ، وهي ثابتة للخبر في نفسه مع قطع النظر عما هو زائد على وجوده ، فهي جهة ذاتية بالإضافة إلى كون الخبر خبر فاسق. فلاحظ.

وأما الثاني : فلأن المدعى أن التقييد بالفسق ظاهر في دخله في الحكم


وفي عدم ثبوته للطبيعة من حيث هي بنحو يقتضي سريانه لتمام أفرادها الذي يكفي فيه عدم تقييدها ، لا في عدم ثبوته للطبيعة المقيدة بالاطلاق ليرد عليه أن التقييد بأحد أمرين لا يقتضي نفي دخل الآخر.

وأما الثالث : فلان الخروج عن مقتضى المفهوم في بعض الموارد لا ينافي ثبوته بنحو يرجع إليه مع عدم الدليل على خلافه ، كما هو الحال في أكثر الظهورات الكلامية ، كالعموم والاطلاق وغيرها.

فالعمدة في إبطال الوجه المذكور ما عرفت.

وأما الوجه الثاني فلأن الظاهر كون الشرطية في المقام مسوقة لتحقيق الموضوع ، فلا يكون لها مفهوم.

والعمدة في ذلك : ان وجوب التبين في الجزاء لما كان كناية عن عدم حجية الخبر فمن الظاهر أن المراد به عدم حجية خصوص خبر الفاسق الذي هو موضوع قضية الشرط ، ومن الظاهر أن قضية الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع المذكور ، لا لبيان أمر خارج عنه ، إذ مجيء الفاسق بالنبإ عبارة عن وجوده ، وبدونه لا خبر للفاسق حتى يصح الحكم بحجيته أو عدمها.

نعم ، لو كان الموضوع مطلق النبأ ، ومجيء الفاسق به الذي تضمنته جملة الشرط من الامور الخارجة عنه الزائدة عليه لم تكن جملة الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع وكان لها مفهوم ، كما لو كان الخطاب هكذا : النبأ إن جاء به الفاسق فتبينوا عنه. لكنه لا يناسب التركيب الكلامي في الآية الشريفة ، وإن كان قد يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه تقريبه.

وكذا ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الموضوع هو النبأ والشرط هو كون الجائي به فاسقا ، وأن مرجع القضية إلى قولنا : النبأ إن كان الجائي به فاسقا وجب التبيّن عنه.

بل الظاهر من القضية أن الموضوع في جملة الجزاء هو خصوص خبر


الفاسق الذي سيقت جملة الشرط لتحقيقه ، وبارتفاعه لا يبقى موضوع للحكم الذي سيقت جملة الجزاء له ، فلا مفهوم للقضية.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض مشايخنا من أن ما يؤخذ في الشرط إن كان مما يتوقف عليه الجزاء عقلا لا يثبت المفهوم بانتفائه ، وإن لم يتوقف عليه الجزاء عقلا بل شرعا يثبت المفهوم بانتفائه.

ومن ثمّ لو قيل : ان ركب الأمير وكان ركوبه يوم الجمعة فخذ بركابه ، كان أصل الركوب مسوقا لتحقيق الموضوع ، فلا مفهوم بانتقائه ، بخلاف خصوصية يوم الجمعة ، فإنه يثبت المفهوم بانتفائها ، ومن الظاهر أن وجوب التبين عن النبأ يتوقف عقلا على ثبوت النبأ ، دون خصوصية الفسق ، فيتعين ثبوت المفهوم بانتفائه.

وجه الاندفاع : أن الذي لا يتوقف على خصوصية الفسق عقلا هو التبين عن مطلق النبأ ، أما التبين عن خصوص نبأ الفاسق الذي هو مفاد الجزاء ـ كما سبق ـ فهو كما يتوقف على ثبوت أصل النبأ يتوقف على خصوصية الفسق.

وأما التنظير بالمثال المتقدم فهو في غير محله ، لأن القضية المذكورة ذات شرطين مستقلين يتقوم الموضوع بأحدهما دون الآخر ، بخلاف الآية الكريمة ، لأن الشرط فيها أمر واحد يتقوم به الموضوع ، وإن كان مقيدا. فهو نظير قولنا : إن ركب الأمير يوم الجمعة فخذ بركابه ، الذي لا مفهوم له على الظاهر ، لأن المقوم لأخذ الركاب في القضية هو الركوب في يوم الجمعة الذي تعرضت له جملة الشرط ، لا مطلق الركوب وخصوصية الجمعة زائدة على ذلك.

نعم ، قد يستفاد من الخارج أن المقصود الإناطة بيوم الجمعة بعد الفراغ عن أصل الركوب. لكنه خارج عن محل الكلام.

وبالجملة : التأمل في الآية الشريفة في المقام شاهد بعدم المفهوم لها ، لكون جملة الشرط فيها مسوقة لتحقيق موضوع الحكم في الجزاء. وحملها


على المفهوم تكلف لا شاهد له.

نعم ، ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ بعد الاعتراف بما ذكرنا ـ تقريبا آخر لدلالة الآية على المفهوم ، قال مقرر درسه : «هذا ، ولكن الإنصاف انه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به من مورد النزول ، فإن موردها ... إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق ، فقد اجتمع في إخباره عنوانان : كونه من الخبر الواحد ، وكون المخبر فاسقا ، والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبرى كلية ، لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن الأخبار التي لا يجب التبين عنها ، وقد علق وجوب التبين فيها على كون المخبر فاسقا ، فيكون الشرط لوجوب التبين هو كون المخبر فاسقا ، لا كون الخبر واحدا ، إذ لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه ، لأنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق ، فعدم التعرض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق. ولا يتوهم أن ذلك يرجع إلى تنقيح المناط ، أو إلى دلالة الإيماء ، فإن ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط ...».

وفيه : أنه لم يتضح الوجه في رجوع ما ذكره لمفهوم الشرط ، كما لم يتضح دخل مورد النزول بما ذكره ، لوضوح أن المفهوم تابع لتركيب القضية ، وقد اعترف بأنه لا يقتضي المفهوم ، ومورد النزول داخل في القضية سواء كان لها مفهوم أم لم يكن.

وغاية ما يمكن به تقريب ما ذكره : ما أشار اليه من دعوى ورود الآية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن غيرها ، إذ لو تم ذلك رجع إلى حمل الآية على التحديد والحصر ، ولا إشكال في أن تحديد الخبر الذي يجب التبين عنه بخبر الفاسق يقتضي حجية غيره وعدم وجوب التبين عنه ، من دون فرق بين الجملة الشرطية وغيرها.

لكن الشأن في استفادة ذلك من الآية بنفسها أو من مورد نزولها ، إذ


المتيقن منها بيان وجوب التبين عن خبر الفاسق الذي هو مورد النزول ، أما ورودها لتمييز ما يجب التبين عنه عن غيره فلا دلالة لها عليه ، لا بنفسها ، ولا بضميمة موردها. فما ذكره لا يرجع إلى محصل ظاهر.

ثم إنه ربما يستدل بالآية الشريفة ..

تارة : من جهة التبين المأمور به ، إذ ليس المراد به التبين العلمي ، بل العرفي ، وهو حاصل بنفس خبر العادل ، فيكون حجة بنفسه.

واخرى : من جهة التعليل في الآية الشريفة بخوف الندم ، وخبر العادل لا يخاف من الندم في العمل به ، لأن الندم إنما يحسن إطلاقه على ارتكاب ما لا يحسن فعله ، وليس منه العمل بخبر العادل الذي يؤمن عليه الكذب ، وإن فرض خطؤه واقعا.

وثالثة : من جهة ظهور الآية الشريفة ـ بقرينة المورد ـ في الردع عن سيرة العقلاء على العمل بالخبر ، فتخصيص الردع بخبر الفاسق ظاهر في عدم الردع عن السيرة في غيره. ولعله إليه يرجع ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه.

ويشكل الأول : بان ظاهر التبين هو العلمي لا العرفي ، اللهم إلا أن يحمل عليه بقرينة التعليل بالندم الذي يكفي في رفعه التبين العرفي.

والثاني : ـ مع ابتنائه على ورود الذيل للتعليل الذي هو محل الكلام الآتي ـ بأن التعليل إنما يقتضي ارتفاع الحكم بارتفاعه في موضوع الحكم المعلل ، لا مطلقا ، فإذا قيل : لا تأكل الرمان لانه حامض ، اقتضى جواز أكل ما لا يكون حامضا من الرمان ، لا كل ما ليس بحامض ، كما تقدم نظيره في أواخر مبحث حجية الشهرة. وحينئذ فهو إنما يدل على جواز العمل بخبر الفاسق الذي لا يورث الندم ، لا جواز العمل بكل ما لا يوجب الندم ومنه خبر العادل. اللهم إلا أن يتمسك فيه بالاولوية.

والثالث : بأنه لم يتضح من مورد الآية قيام سيرة من العقلاء على العمل


بالخبر وورود الآية للردع عنها ، بل هو لا يناسب التعليل بالندم ، المختص بما لا يحسن فعله عند العقلاء ، بل الآية واردة للتبكيت والإنكار على فعل ما لا يقره العقلاء ، ولا نظر فيها إلى مورد السيرة بوجه.

هذا ، مع أن هذه الوجوه ـ لو تمت ـ لا تصلح لتقريب دلالة الآية على حجية خبر العادل ، إذ لا تعرض في الآية لتعيين ما يحصل به التبين ، ولا تعيين ما يرتفع به الندم ، ولا تعيين مورد عمل العقلاء بالخبر.

وغاية ما تقتضيه هو بناء العقلاء على حصول التبين بخبر العادل ، وحسن العمل به ، وقيام السيرة عليه فالاستدلال يكون ببناء العقلاء لا بالآية ، وهو خارج عن محل الكلام ، وموكول إلى الاستدلال بالسيرة. فلاحظ.

وأما الموضع الثاني : فحاصل الكلام فيه : أنه قد اورد على الاستدلال بالآية الشريفة بعد فرض كونها ذات مفهوم بإيرادات تعرض لها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، بعضها يختص بها ، وبعضها يعم جميع عمومات حجية الخبر.

أما القسم الأول فهو عدة وجوه ..

الوجه الأول : وهو أهمها ـ ما ذكره في العدة وحكي عن الذريعة والغنية والمعارج وغيرها ، وأشار إليه في مجمع البيان ومحكي التبيان ، وأصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه مدعيا أنه لا دافع له. وحاصله : أنه لا بد من رفع اليد عن المفهوم بعموم التعليل في ذيلها ، حيث أن مقتضاه النهي عن الإقدام مع الجهل لاحتمال الوقوع في أمر محذور ، ولا مانع من رفع اليد عن المفهوم بقرينة مانعة منه.

وقد يدفع ذلك بوجوه ..

الأول : ما ذكره بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله في تقريب معنى الآية من منع سوق الذيل للتعليل ، لما فيه من لزوم تقدير مفعول لقوله : (فَتَبَيَّنُوا) ، ولزوم تقدير ما يدل على التعليل في الذيل ، بأن يكون تقدير الآية هكذا : إن


جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا صدقه لئلا تصيبوا قوما ... أو نحو ذلك ، وهو خلاف الأصل ، فالأولى جعل الذيل بنفسه مفعولا لقوله : (فَتَبَيَّنُوا) قال : «فيكون معناه : فتثبتوا واحذروا إصابة قوم بجهالة». وحينئذ لا يكون للذيل عموم ينهض برفع اليد عن المفهوم.

وفيه : أنه لا مجال لكون الذيل مفعولا للتبين بعد تقييد الذيل بالجهالة التي هي من الامور الوجدانية غير القابلة للجهل ، والتبين إنما يكون عن الامور الواقعية القابلة للجهل ، فلا يتم ما ذكره إلا بتقدير تعلق الذيل بفعل يناسبه كالحذر ، إما بتقدير فعل الحذر ـ كما ذكره في كلامه ـ أو بتصيده من التبين بجعل التبين متضمنا معناه ، وكلاهما خلاف الأصل ، كالتقدير مع الحمل على التعليل.

بل لعل الثاني أولى ، لاشتهار حذف عامل «أن» خصوصا في مقام التعليل ، كما في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ)(١) ، وقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)(٢) ، وقوله تعالى : (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)(٣) ، وغيرها.

ولا سيما مع كون التعليل أبلغ في بيان المطلوب وادعى للارتداع.

ولا أقل من الإجمال الموجب لعدم ظهور الآية الشريفة في المفهوم لو فرض مانعية التعليل منه.

الثاني : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن المفهوم أخص مطلقا من

__________________

(١) الاعراف : ١٧٢.

(٢) الزمر : ٥٥ و ٥٦.

(٣) الاعراف : ٢٠.


عموم التعليل ، لاختصاصه بخبر العادل غير العلمي ، لخروج الخبر العلمي عن المفهوم والمنطوق معا ، لقصور أدلة نفي الحجية وإثباتها عنه. بل لو فرض عموم المفهوم للخبر كان أعم من وجه من التعليل ، فيقدم المفهوم في مورد الاجتماع ، وهو خبر العادل غير العلمي ، إذ لو قدم التعليل واختص المفهوم بالخبر العلمي كان لغوا ، لأن ارتفاع حكم المنطوق معه عقلي لا شرعي ، فهو نظير السالبة بانتفاء الموضوع لا تصلح لبيان قضية شرعية ، كما هو شأن المفهوم.

وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه : بأن التعارض إنما هو بين ظهور التعليل في العموم وظهور الشرطية في المفهوم ، وحيث كان الأول أقوى كان مانعا من الثاني مع اتصال الكلام ، فلا مفهوم حتى يصلح لمعارضة عموم التعليل وينهض بتخصيصه.

وما ذكره قدّس سرّه موقوف على عموم التعليل لمورد المفهوم ، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثالث : ما ذكره غير واحد من حكومة المفهوم على التعليل ، لأنه يقتضي كون خبر العادل علما تعبدا أو تنزيلا ، فيخرج عن موضوع التعليل ، فلا معارضة بين التعليل والمفهوم حتى يرفع اليد بالأول عن الثاني.

وهو مبني على كون مفاد جعل الطرق جعلها علما تعبدا أو تنزيلا ، وقد تقدم إنكار ذلك في الفصل الثالث من الكلام في القطع.

هذا ، مع أن التنزيل المذكور لو تم موقوف على انعقاد الظهور في المفهوم المقتضي للحجية ، وعموم التعليل مانع من انعقاده ، لأنه يقتضي وجوب التبين وعدم حجية خبر العادل.

وبعبارة اخرى : خروج خبر العادل عن عموم التعليل إثباتا في رتبة متأخرة عن انعقاد الظهور في المفهوم ، وعموم التعليل مانع عن انعقاده. وأما مجرد صلوح القضية في نفسها للدلالة على المفهوم فهو لا ينفع ما لم ينعقد


ظهورها فيه ، لعدم القرينة المانعة ، وعموم التعليل قرينة مانعة.

فما ذكر إنما يتم لو كان دليل المفهوم منفصلا عن التعليل ، لا في مثل الآية الشريفة ، كما أشار إليه شيخنا الاستاذ دامت بركاته.

ولعل ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في المقام ناظر إلى ذلك. فراجع.

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه في وجه منع الحكومة المذكورة من أنه لما كان الأصل في التعليل أن يكون ارتكازيا تعين حمله على الجهل الحقيقي ، لأنه المطابق للارتكاز ، فلا يصلح المفهوم لإخراج مورده عنه.

فهو كما ترى! لمنع عموم وجوب التبين ارتكازا لجميع موارد الجهل الحقيقي كما سيأتي ، بل لا إشكال في اختصاصه بغير موارد قيام الحجج ـ المفروض كونها علما تنزيلا ـ قطعا ، لمنافاة وجوب التبين للحجية عرفا.

وأما خصوصية مورد الآية من حيث أهمية القتل والاعتداء على الناس بغير حق فهي لا تمنع ارتكازا من جعل الحجج والاكتفاء بها عن الواقع في مقام العمل.

ولذا لا إشكال ظاهرا في أن عموم التعليل في المقام كسائر عمومات عدم حجية غير العلم ونسبته إلى أدلة جعل الحجج كنسبتها إليها في لزوم تقديم أدلة الحجج بالحكومة أو نحوها ، وعدم توهم أن النسبة بينه وبينها لما كانت هي العموم من وجه لزم التوقف في مورد الاجتماع ، بل تقديم عمومه ، لابائه عن التخصيص بعد كونه ارتكازيا. فتأمل.

وكيف كان ، يكفي في منع الحكومة ما ذكرنا. ولذا لم يتضح لنا بعد الرجوع لكلماتهم والتأمل ما يدفع به إشكال منع عموم التعليل من ظهور القضية لو فرض صلوحها له ذاتا ، وقد عرفت من شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه لا دافع للإشكال المذكور.


نعم ، الإشكال المذكور موقوف على عموم التعليل لمورد المفهوم ، وهو لا يخلو عن إشكال ، بل منع ، فإن حمله على مطلق العمل مع عدم العلم بالواقع لا يناسب مقام التعليل الذي ينبغي فيه أن يكون ارتكازيا صالحا لبيان وجه الحكم وتقريبه إلى ذهن السامع ليذعن به ويقتنع بمضمونه ، كما لا يناسب خصوصية الفسق التي هي من الخصوصيات الارتكازية في التوقف عن الخبر.

بل المناسب للأمرين الحمل على خصوص الجهل الذي لا يرى العقلاء الاقدام معه ، لعدم وجود ما يصلح لأن يعتمد عليه ويطمئن اليه ، كما لو لم يكن هناك إلا خبر الفاسق ، فتقديم عموم التعليل على المفهوم ، إنما هو بالإضافة إلى ما يشبه خبر الفاسق في ذلك ، كخبر العدل غير الضابط ، دون خبر العدل الضابط الذي يصح الركون إليه والاعتماد عليه عند العقلاء ، بل التعليل يقصر عنه.

كما يقصر عن خبر الفاسق الثقة المأمون عليه الكذب وإن كان داخلا في المنطوق ، ولعل وجه ذكر الفاسق غلبة كونه من القسم الأول ، مع التنبيه والتأكيد على فسق المخبر في مورد النزول.

ونظير ما ذكرنا ما لو قيل : لا تستعمل الدواء الذي تصفه لك النساء لأنك لا تأمن ضرره ، فإنه لا يتوهم عموم التعليل فيه لما يصنعه الطبيب الحاذق غير المعصوم من الخطأ ، وإنما يعم ما يصفه غير الأطباء من الرجال ، كما يقصر عما تصفه النساء الطبيبات الحاذقات ، وليس وجه ذكر النساء إلا غلبة تصدي غير الطبيبات منهن لوصف الدواء ، أو الابتلاء بهن في مورد الخطاب.

ويشهد بما ذكرنا ـ مضافا إلى ذلك ـ التعقيب بالندم ، الظاهر في المفروغية عن ترتب الندم على خبر الفاسق ، لا الحكم به تأسيسا ، ومن الظاهر أن الندم لا يكون بنظر العقلاء بمجرد فوت الواقع ، بل مع التقصير فيه المستلزم لتفريع النفس وتأنيبها ، ولا تقصير في العمل بخبر العادل المذكور.

ومنه يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في تقريب الإشكال : من أن


مقتضى عموم التعليل وجوب التبين في كل خبر لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبر عادلا.

إذ فيه : أن العادل الذي لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل بخبره هو خصوص غير الضابط ، وهو خارج عن محل الكلام ، وأما غيره فالندم مأمون معه وإن لم يؤمن معه فوت الواقع.

ثم إنه لأجل ما ذكرنا من قصور التعليل عن مورد المفهوم كان عموم التعليل آبيا عن التخصيص عرفا ، ولو حمل على مطلق عدم العلم بالواقع لم يكن آبيا عنه ، لتعارف الطرق غير العلمية عند العقلاء.

هذا كله بناء على حمل الجهالة على ما يقابل العلم ، وأما بناء على حملها على ما يناسب الطيش والحمق والسفه ، ويقابل التعقل والحكمة والاتزان فالأمر أظهر.

ولعل المعنى الثاني هو الأشهر في الاستعمال في الكتاب والسنة وغيرهما ، فقد استعمل الجهل ومشتقاته في ما يزيد على عشرين موضعا من الكتاب الكريم كلها في المعنى المذكور أو قابلة للحمل عليه ، واشتهر استعماله في ذلك في السنة الشريفة ، كما يظهر بملاحظة كتاب العقل والجهل من الكافي وغيره ، وكذا الحال في استعمالات أهل اللغة.

بل ذكر بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله أن تتبع الاستعمالات في اصول اللغة يشهد بأن تحديد الجهل بخصوص ما يقابل العلم اصطلاح جديد للمسلمين في عهد نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية ، حيث استدعى تحديد معاني كثير من الألفاظ وكسبها اطارا يناسب الأفكار الفلسفية ، وإلّا فالجهل في أصل اللغة يراد به المعنى الأول الذي قد يلتقى مع المعنى الجديد.

وما ذكره وإن لم يتضح بنحو يقتضي الجزم إلا انه قريب جدا بالنظر للاستعمالات.


ويناسبه أن الجهل عرفا من أوصاف الندم المستتبعة للّوم ، بخلاف محض عدم العلم ، فإنه وإن كان نقصا ، إلا أنه من سنخ العذر الرافع للوم.

وكيف كان ، فالمعنى المذكور هو الأقرب في الآية الشريفة ، ولا سيما بملاحظة كونها إشارة إلى أمر ارتكازي عرفي ، كما لعله ظاهر. وحينئذ فقصور التعليل فيها عن مورد المفهوم ظاهر جدا.

نعم ، قد يقال : إن حمل التعليل على خصوص ما لا يقدم العقلاء على العمل به ـ إما لحمل الجهالة على ما يقابل الحكمة ، أو لحملها على ما يقابل العلم بعد تخصيصها بذلك ـ لا يناسب مورد الآية ، حيث وردت للردع عن محاولة النبي صلّى الله عليه وآله أو الصحابة العمل بخبر الفاسق. إذ لا مجال لتوهم إقدامهم على ما لا ينبغي الإقدام عليه عند العقلاء بنحو مناف للحكمة ومناسب للسفه والحمق ، بل لا بد من الالتزام بورود الآية الشريفة لردعهم في مورد سيرة العقلاء على العمل بالخبر.

لكنه مندفع بما أشرنا إليه من عدم ظهور الآية في الردع تعبدا أو تأسيسا من قبل الشارع ، بل في التنبيه إلى طريقة العقلاء وارتكازياتهم في لزوم التثبت في خبر الفاسق ، الكاشف عن كون مورد الردع مما لا يقدم عليه العقلاء.

ولم يظهر منها الردع للنبي صلّى الله عليه وآله أو لأهل التعقل من المؤمنين ، بل سياقها كالصريح في مجانبة النبي صلّى الله عليه وآله ومن أطاعه من المؤمنين للعمل بخبر الفاسق في مورد النزول ، وأن الردع مختص بغيرهم من جهال الناس الذين ينعقون مع كل ناعق ، ويؤخذون بالتهريج والارجاف الذي يقوم به المنافقون ونحوهم ممن لا يتقيد بتعاليم النبي صلّى الله عليه وآله ، ولا يتبع سبيل المؤمنين ، وقد ابتلي بهم النبي صلّى الله عليه وآله في حياته والمؤمنون بعد وفاته.

فانظر قوله تعالى بعد الآية المذكورة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي


قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(١) فانه كالصريح في انقسام المسلمين على أنفسهم طائفة مع النبي صلّى الله عليه وآله في التوقف عن خبر الفاسق قد حبب إليهم الإيمان وكره اليهم الفسوق والعصيان ، وطائفة أرادوا العمل به وحملوا النبي صلّى الله عليه وآله على ذلك وأصروا عليه ، ولكنه صلّى الله عليه وآله أبى عليهم ، فنزلت الآية تأييدا له وقمعا للفتنة ، كما نبه لذلك شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) وسبقه إليه بعض المفسرين كالزمخشري في الكشاف وغيره على ما حكي.

فالآية الشريفة وردت للتعب على هؤلاء الجهال أرادوا الخروج عن الطريق العقلائي في الاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه واستنكار موقفهم وتبكيتهم ، فليست هي رادعة عن سيرة العقلاء في العمل بالخبر ، بل داعية لمقتضى سيرتهم في التوقف عن خبر غير المأمون واستنكار الخروج عنها بمحاولة العمل به ، كما أشرنا إليه آنفا عند الكلام في وجوه الاستدلال بالآية الشريفة على حجية الخبر.

كما وردت أكثر آيات سورة الحجرات لتأديب المسلمين وتهذيبهم مما يشينهم من أخلاق وأفعال ، كرفع أصواتهم فوق صوت النبي صلّى الله عليه وآله ، وعدم توقيره ، وسخرية بعضهم من بعض ، واغتيابهم لهم وغير ذلك مما لا يقره العقلاء ، ولا يناسب الحكمة والتعقل.

وبالجملة : التأمل في لسان الآية الكريمة وسياقها وبقية آيات السورة شاهد بما ذكرنا وإن أغفله كثير من المفسرين.

وبه يتم ما ذكرنا من قصور التعليل عن شمول مورد المفهوم ، فلا ينهض برفع اليد عنه لو تم في نفسه ، ولا موقع للإشكال المذكور من أصله.

ثم إنه بما ذكرنا يتضح انه لا مجال للاستدلال بالآية على عدم حجية خبر الفاسق مطلقا وإن كان ثقة في نفسه مأمونا عليه الكذب ، للزوم الخروج عن

__________________

(١) الحجرات : ٧.


إطلاق الفاسق فيها بالتعليل بعد حمله على ما عرفت. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ورود الآية للإرشاد إلى عدم جواز مقايسة خبر الفاسق بغيره وإن حصل منه الاطمئنان. لان الاطمئنان الحاصل منه يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته بالمعصية وإن كان متحرزا عن الكذب.

فهو غير ظاهر ، إذ لو اريد به زوال الاطمئنان من خبره حقيقة بسبب الالتفات إلى فسقه ، فهو غير مطرد لان ملكة التحرز عن الكذب لا تختص بالعادل قطعا ، بل هو خلاف المفروض من تحرزه عن الكذب.

وإن اريد به أن الاطمئنان من خبره وإن لم يذهب بالالتفات إلى فسقه إلا أن الشارع قد ردع عن خبره مطلقا ، لعدم اكتفائه بالاطمئنان الحاصل منه ، فلا مجال له بعد ما تقدم من ظهور التعليل في كونه ارتكازيا لا تعبديا ، وظهور الآية في الحث على مقتضى طريقة العقلاء لا الردع عنها ، فلا مجال للخروج بالآية عما دل على حجية خبر الثقة لو تم. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

الوجه الثاني : مما اورد على الاستدلال بالآية : أن المفهوم غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية ، إذ لا إشكال في عدم الاكتفاء فيها بخبر الواحد ، بل لا بد فيه من التعدد ، فلا بد من طرح المفهوم ، لعدم جواز إخراج المورد.

وقد أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره : بأن المورد داخل في المنطوق ، وهو عدم حجية خبر الفاسق ، لا في المفهوم ، وهو حجية خبر العادل ، وغاية ما يلزم هو تقييد المفهوم في الموضوعات الخارجية بالتعدد ، ولا يلزم منه خروج المورد. وإليه يرجع ما قيل من أن ارتكاب التقييد في المفهوم مقدم على إلغائه بالكلية.

والذي ينبغي أن يقال : إرجاع الشرطية إلى المنطوق والمفهوم ليس


لانحلالها إليهما حقيقة ، بنحو تكون هناك قضيتان يمكن طروء التقييد عليهما أو على إحداهما ، بل لدلالتها على معنى يستلزمهما ، وهو إناطة الجزاء بالشرط المستلزمة لوجوده عند وجوده وانشائه عند انتفائه.

وحينئذ فإذا فرض كون الشرطية ذات مفهوم كان مفادها إناطة عدم حجية الخبر بالفسق المستلزمة لثبوت الحجية مع العدالة مطلقا ، وحيث لا مجال لذلك في الموضوعات لاعتبار التعدد فيها بلا إشكال فلا بد إما من تخصيص موضوع الشرطية وهو النبأ بغير الموضوعات ، أو إلغاء ظهور الشرطية في الإناطة ، وحملها على محض بيان ترتب الجزاء على الشرط ، وحيث يمتنع الأول ، لاستلزامه خروج المورد عن الشرطية ، تعين الثاني المستلزم لعدم كون القضية ذات مفهوم وتوجه الإشكال.

وأما احتمال إبقاء الشرطية على عمومها والمحافظة على ظهورها في الإناطة المستلزمة للمفهوم مع تقييدها في خصوص الموضوعات بالتعدد.

فلا مجال له ، إذ التقييد المذكور لا يناسب الإناطة التامة ، ولا مجال للتفكيك في الإناطة لبساطتها ، كما أوضحناه في مسألة تعدد الشرط مع وحدة الجزاء من مبحث مفهوم الشرط. فراجع.

ولعله لذا ذكر في الفصول أن ذلك تكلف مستبشع. نعم ، قد يلتجئ لذلك مع قوة ظهور الشرطية في الإناطة ، بحيث لا يمكن رفع اليد عنه بوجه ، ولا مجال لاطالة الكلام فيه. فتأمل جيدا.

هذا ، وأما ما ذكره شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) من أن الارتداد ليس موردا للآية فحسب ، بل هي مختصة به وبما يشبهه مما يوجب القتل ، بقرينة التعليل المتضمن لإصابة قوم ، التي يراد بها قتلهم ، الذي هو من أحكام الارتداد ونحوه.

فربما يندفع : بأن خصوص التعليل لخصوصية المورد لا ينافي عموم


الحكم المعلل ، عملا بإطلاق النبأ ، كما أشار إلى ذلك في الفصول.

الوجه الثالث : ما عن بعض من أن التبين في الآية الشريفة إن اريد به خصوص العلم الوجداني كان الأمر به إرشاديا ، لأن وجوب العمل به عقلي ، والمفهوم لا يستفاد من الأمر الإرشادي.

وإن اريد به مجرد الوثوق وقع التدافع بين المنطوق والمفهوم ، لأن مقتضى المفهوم حجية خبر العادل مطلقا وإن لم يحصل الوثوق به لإعراض الاصحاب ونحوه ، ومقتضى المنطوق حجية خبر الفاسق الذي يحصل الوثوق به ولو من عمل الأصحاب به ، ولا قائل بذلك بين الأصحاب.

إذ هم بين من يعتبر العدالة أو الثقة في المخبر ، ولا يعبأ بحصول الوثوق بالخبر نفسه ، ومن يعتبر حصول الوثوق بالخبر نفسه ، ولا يكتفي بعدالة المخبر أوثقته ، فلا يعمل بالخبر المهجور وان كان صحيحا ، فالجمع بين الأمرين إحداث قول ثالث.

وفيه .. أولا : ما أشار إليه بعض مشايخنا من أنه لا مانع من حمل التبين على العلمي ، إذ الشرطية في الآية لا تتضمن وجوب العمل بالعلم الذي هو أمر عقلي ، بل وجوب تحصيله وعدم العمل بالخبر بدونه ، ليس هو مما يحكم به العقل ، بل هو حكم شرعي راجع إلى عدم حجية الخبر بدونه ، فلا مانع من استفادة المفهوم منه.

على أنه لا مانع من استفادة المفهوم لو تضمّنت الشرطية وجوب العمل بالعلم الذي هو أمر عقلي ، إذ ليس مفادها مجرد ذلك ، بل إناطة وجوب العمل بالعلم وتخصيصه به ، وهو مستلزم لعدم حجية غيره الذي هو أمر شرعي. ولذا لو قيل : الخبر إن أفاد العلم فاعمل به ، كان مفهومه عدم حجية الخبر غير العلمي شرعا.

وثانيا : أنه لا مانع من القول الثالث المذكور لو اقتضته الأدلة بعد عدم


رجوع كلام الأصحاب إلى القول بعدم الفصل ، بل إلى مجرد عدم القول به.

على أنه لا يبعد بناء الأصحاب عليه ، ولعل عدم عملهم بالخبر الصحيح المهجور ليس لعدم حجية سنده ، بل لكشف الهجر عن خلل في دلالته أو جهته ، كما أشرنا إليه عند الكلام في حجية الظواهر.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أنه لا مانع من تقييد المفهوم بما إذا لم يكن الخبر مهجورا عند الأصحاب ، فيظهر الكلام فيه مما سبق في الوجه الثاني من تعذر تسليط القيد على المفهوم وحده.

الوجه الرابع : أنه لا مجال للعمل بالمفهوم في الأحكام ، لوجوب الفحص عن المعارض في خبر العادل بلا إشكال ، الذي هو نحو من التبين ، فينافي المفهوم.

ويندفع بما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن وجوب الفحص عن المعارض ليس من سنخ التبين الذي تعرضت له الآية ، إذا التبين فيها كناية عن عدم حجية الخبر ذاتا ، والفحص عن المعارض مبني على حجيته ذاتا لو لا المعارض ، ولذا لو فحص عن المعارض ولم يعثر عليه عمل بالحجة ، أما لو تبين عن غير الحجة ـ كخبر الفاسق ـ ولم يعثر على شيء فلا يعمل به.

الوجه الخامس : أن المراد من الفاسق لا يخلو عن إجمال ، لأن إطلاقه في مقابل العادل بالمعنى المعتبر عندهم في حجية الخبر وتحديده بالمعنى المذكور اصطلاح متأخر ، والشائع في الاستعمالات خصوصا في الكتاب الشريف إطلاقه في مقابل المؤمن ، فيعم الكافر والمنافق ، وهو المناسب لمورد الآية ، بل في بعض الروايات النهي عن إطلاق الفاسق على المؤمن العاصي ، وأنه فاسق العمل ، وحينئذ فلا مجال لحمل القضية على المفهوم إلا بتقييده بالعادل الذي لا مجال له ، إما لما سبق في الوجه الثاني من امتناع تقييد المفهوم ، أو لأن التقييد المذكور لما كان مستلزما لإخراج كثير من الأفراد أو أكثرها كان إلغاء


المفهوم أهون منه وأقرب عرفا.

هذا تمام الكلام في وجوه الإيراد على الاستدلال بالمفهوم. وهناك بعض الوجوه الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها ، قد تعرض لها ولدفعها صاحب الفصول وشيخنا الأعظم قدّس سرّه. فراجع.

وقد عرفت أن العمدة فيها هو الوجه الثاني والخامس ، مضافا إلى الإشكال في أصل صلوح القضية بحسب تركيبها الكلامي لافادة المفهوم. فلاحظ وتأمل جيدا.

هذا كله في القسم الأول مما اورد على الاستدلال بالآية الشريفة.

وأما القسم الثاني ـ وهو ما لا يختص بها ، بل يجري في جميع عمومات الخبر ـ فلا ينبغي التعرض له هنا ، بل في ذيل الكلام في أدلة المثبتين ، إلا أنه متابعة شيخنا الأعظم قدّس سرّه تقتضي التعرض له هنا. وهو عدة وجوه ..

الأول : ان عموم دليل حجية الخبر معارض بعمومات عدم حجية غير العلم ، والمرجع بعد التساقط أصالة عدم الحجية.

وقد أجاب عن ذلك غير واحد : بأن دليل حجية الخبر أخص مطلقا من عمومات عدم حجية غير العلم ، لاختصاصه بالخبر الذي لا يفيد العلم ، للغوية جعل الحجية للخبر العلمي بعد حجية العلم ذاتا ، فيلزم تخصيصها به.

إن قلت : قصور دليل الحجية عن شمول الخبر العلمي لا يوجب كونه أخص مطلقا من العمومات المذكورة ، لاختصاصها بصورة التمكن من العلم ، بناء على اقتضاء مقدمات الانسداد حجية الظن بنحو الكشف الراجع إلى حجيته شرعا ، فتكون النسبة هي العموم من وجه.

قلت : لازم ذلك هو البناء على حجية الخبر بالخصوص في حال الانسداد ، لعدم المعارض له حينئذ ، هو كاف في المقام كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.


مع أن تخصيص عمومات عدم حجية غير العلم بدليل الانسداد مع عمومها لحال الانسداد ذاتا لا يقتضي كونها أعم من وجه من أدلة حجية الخبر ، إلا بناء على انقلاب النسبة الذي لا نقول به ، لعدم المرجح لبعض المخصصات على بعض حتى تلاحظ النسبة بينه وبين العام قبل ملاحظة نسبة غيره ، بل حيث كانت نسبة المخصصات جميعا للعام واحدة كان لا بد من تخصيصه بها جميعا.

وأما ما ذكره شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) من أن دليل الانسداد لما كان عقليا كان مقدما على غيره ، لأنه بمنزلة المخصص المتصل ، المانع من انعقاد ظهور العام في العموم ، وكان موجبا لاختصاصه من أول الأمر بصورة التمكن من العلم ، فيكون أخص من وجه من عموم دليل حجية الخبر.

ففيه : أن ذلك إنما يتم في الدليل العقلي الجلي الذي هو من سنخ القرينة المتصلة ، دون مثل دليل الانسداد المبني على مقدمات نظرية محتاجة إلى التأمل.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لدعوى كون عمومات عدم حجية غير العلم أخص من وجه ، بلحاظ تخصيصها بمثل البينة ونحوها مما يجري في الشبهات الموضوعية. فإنه مبني على انقلاب النسبة أيضا.

نعم ، قد يقال : لا وجه لاختصاص أدلة الحجية بالخبر غير المفيد للعلم وعدم شمولها للخبر المفيد له ، فإن ذلك إنما يتم فيما لو استفيدت الحجية مما دل على جعلها بعنوانها شرعا ، أو مما دل على وجوب العمل بالطريق تأسيسا من قبل الشارع الأقدس ، أما لو استفيد منها وجوب العمل بالطريق من دون ظهور له في التأسيس ، بل بنحو قابل للتنزيل على كونه جريا على ما يحكم به العقل او يبني عليه العقلاء ، فلا وجه لقصور دليله عن صورة العلم ، بل لا مانع من اختصاصه بها. غاية الأمر أن ذلك يرجع إلى عدم كون الدليل مسوقا لبيان الحجية الشرعية ولا ضير فيه.


وإن شئت قلت : الدليل المذكور إن شمل صورة غير العلم كشف عن جعل الحجية شرعا فيها ، وإن اختص بصورة العلم ـ ولو بقرينة عمومات عدم حجية غير العلم ـ كشف عن عدم جعلها ، بل كون الأمر بالعمل حينئذ إرشادا لحكم العقل به ، والظاهر أن أدلة حجية الخبر ومنها آية النبأ من القسم الثاني ، ولذا ورد في بعض النصوص الاستدلال بآية النفر على وجوب النفر لمعرفة الإمام ، مع أنه يعتبر في معرفته العلم.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أنه لا مجال لذلك في آية النبأ ، لأن المفهوم فيها لما كان تابعا للمنطوق كان مختصا بالخبر الذي لا يفيد العلم تبعا له.

فيدفعه : أن ذلك موقوف على سوق الآية للمفهوم ، وظهورها فيه وإن كان مفروضا في محل الكلام ، إلا أنها حيث كانت منافية لعموم ما دل على عدم حجية غير العلم ، فكما يمكن الجمع بينها وبينه بتخصيصه بها ، كذلك يمكن الجمع برفع اليد عن ظهورها في المفهوم بحمل ذكر الفاسق فيها على كونه لمحض غلبة عدم حصول العلم من خبره ، لمناسبته لذلك ، لا لخصوصيته في الحكم بعدم الحجية ، وهو لا ينافي المفروض في محل الكلام.

اللهم إلا أن يدعى أن الوجه الأول هو الأقرب عرفا. لكنه لا يخلو عن تأمل وإشكال ، فإنه وإن كان البناء على تخصيص العموم بالمفهوم في سائر الموارد ، إلا أنه يشكل في خصوص المقام ، بقرب حمل ذكر الفاسق على غلبة كون خبره غير موجب للعلم ، وهو مما يوجب ضعف الظهور في المفهوم بنحو يشكل رفع اليد به عن العموم.

هذا ، وقد أجاب غير واحد عن الإشكال المذكور بحكومة عمومات حجية الخبر على عمومات عدم حجية غير العلم ، لأنها تقتضي كونه علما تعبدا أو تنزيلا ، فيخرج عن العمومات المذكورة ، وقد أشرنا إلى منع ذلك قريبا ،


وتقدم تفصيله عند الكلام في مفاد أدلة جعل الطرق والأصول في الفصل الثالث من مباحث القطع. فراجع.

نعم ، الإشكال المذكور مبني على ثبوت عموم يقتضي عدم حجية غير العلم ، وقد تقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية المنع من ذلك. فراجع.

الوجه الثاني : أنه لو بني على العمل بعموم حجية الخبر لزم حجية نقل الإجماع من السيد المرتضى قدّس سرّه على عدم حجية خبر الواحد ، لأنه حاك لقول الإمام عليه السّلام في جملة المجمعين.

وفيه .. أولا : أن أدلة الحجية تقصر عن شمول نقل الإجماع ، لما تقدم في الفصل الثالث من عدم حجية الإجماع المنقول.

وثانيا : أن نقل السيد قدّس سرّه الاجماع المذكور معارض بنقل الشيخ قدّس سرّه الإجماع على الحجية ، ولا وجه لترجيح الأول ، بل قد يلزم ترجيح الثاني ، لقرائن يأتي التعرض لها.

هذا ، وقد أجاب غير واحد عن الوجه المذكور أيضا بأنه يمتنع شمول أدلة الحجية لخبر السيد قدّس سرّه ، لأنه يلزم من حجيته عدمها ، لأنه أيضا خبر واحد غير علمي.

ودعوى : امتناع دخوله في الإجماع المنقول به لامتناع شمول القضية لنفسها.

مدفوعة .. أولا : بان امتناع شمولها لنفسها لفظا لا ينافي شمولها ملاكا ، لما هو المعلوم من عدم خصوصية خبر السيد قدّس سرّه من بين غيره من أخبار الآحاد بأمر يقتضي حجيّته.

وثانيا : بأنه لا يمتنع شمول القضية لنفسها إذا كانت حقيقية راجعة إلى ثبوت الحكم في فرض وجود الموضوع ، فإن انطباقها على نفسها حينئذ قهري.

نعم ، لو كانت قضية خارجية واردة على خصوص الأفراد المتحققة من


الموضوع امتنع شمولها لنفسها ، للزوم فرض الموضوع في رتبة سابقة على الحكم. لكن من الظاهر أن القضية المدعى عليها الإجماع في كلام السيد قدّس سرّه حقيقية لا خارجية فلا مانع من شمولها لنفسها.

هذا ، والذي ينبغي أن يقال : إن كان مرجع الإجماع المدعى من السيد قدّس سرّه إلى عدم حجية الخبر من جهة المانع وهو ردع الأئمة عليهم السّلام لمفاسد حادثة مانعة من القبول مع ثبوت مقتضي الحجية بعموم أدلتها أو بسيرة العقلاء أو نحوهما اتجه دخول نقل الإجماع المذكور في أدلة الحجية ، ومانعيته من حجية غيره من الأخبار ، لثبوت مقتضي الحجية فيه وعدم ثبوت الردع عنه ، لامتناع شمولاه لنفسه مع انحصار بيان المانع عن الحجية به ، إذ يستحيل ثبوت ملاك عدم الحجية حينئذ فيه ، فلا بد من قصور الحكم الذي تضمنه عن شمولاه تبعا لقصور ملاكه ، كما تقدم نظيره مفصلا في الطائفة الثالثة من الأخبار التي استدل بها على عدم حجية الخبر.

وإن كان مرجعه إلى عدم الحجية لعدم المقتضي في الخبر لها ، بنحو يرجع إلى عدم حجية الخبر ذاتا ، امتنع دخوله في أدلة الحجية لمنافاته لها ، فيمتنع شمولها له ، بل تكون مكذبة له مانعة من وجود مقتضي الحجية فيه ، لاستحالة حجية المتكاذبين معا ، وحيث كانت الأدلة حجة فرضا امتنع حجيته وكانت مانعة منها. مع أنه يعلم بعدم جواز التعويل عليه إما لكذبه أو لعدم حجيته ، إذ لو كان صادقا كان غير حجة ، لانه كسائر أخبار الآحاد ، فيشمله الحكم الذي تضمنه بعد فرض كونه واردا لبيان قضية حقيقية لا خارجية ، كما تقدم ، وإلا كان كاذبا ، وذلك يسقطه عن الحجية ، كما لو علم إجمالا بفسق الشاهد أو خطئه وكذب خبره.

ومنه يظهر أنه لا وقع لما تقدم من الجواب منهم بأنه يلزم من حجيته عدمها ، إذ في الفرض الأول لا يلزم من حجيته عدمها ، وفي الفرض الثاني لا


مجال لدخوله في أدلة الحجية ذاتا ، كي يحتاج في خروجه إلى المانع المذكور.

ثم إنه قد ذكر غير واحد وجوها أخر في الجواب ، لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما عرفت فراجع ، وتأمل جيدا.

الوجه الثالث : دعوى قصور الإطلاقات عن إثبات حجية الخبر بالواسطة ، الذي هو مورد الابتلاء في عصورنا ، واختصاصها بالخبر من غير واسطة ، الذي ليس بأيدينا شيء منه.

وقد يوجه ذلك بوجوه ..

الأول : انصراف إطلاقات الحجية عن الخبر بالواسطة.

وفيه : أنه لا منشأ للانصراف إلا دعوى : أن منصرف الإطلاقات إهمال احتمال الخلاف في الخبر ، الناشئ من احتمال تعمد المخبر للكذب أو احتمال خطئه ، لاندفاع الأول بفرض عدالته أو وثاقته ، والثاني بأصالة عدم الخطأ أو الغافلة.

وهذا لا يجري في الأخبار بالواسطة ، لعدم انحصار احتمال مخالفة الواقع فيه بذلك ، بل ينشأ أيضا من احتمال كذب الوسائط أو خطئهم ، ولا دافع للاحتمال المذكور.

ومن الظاهر أن الدعوى المذكورة إنما تقتضي التوقف عن الخبر بالواسطة مع عدم العلم بالوسائط ـ كما في المراسيل ـ أو مع ضعفها ، أما مع العلم بها ، وتحقق شرط الحجية فيها ـ كما هو محل الكلام ـ فلا وجه للانصراف بعد اندفاع احتمال الكذب والخطأ فيها بعين ما يندفع به احتمالهما في الخبر بلا واسطة ، فعمومات الحجية تقتضي حجية كل خبر من أخبار الوسائط ، كما لا يخفى.

الثاني : أن إطلاقات الحجية مختصة بما إذا ترتب أثر شرعي على التعبد بمؤدى الحجة ، ولا أثر إلا لخبر الحاكي عن الإمام مباشرة ، لترتب الحكم


الشرعي عليه ، أما من قبله من رجال السند فلا يثبت بخبر كل منهم إلا إخبار من بعده من دون أن يترتب عليه حكم شرعي.

وفيه : أنه يكفي في ترتب الأثر المصحح للحجية في خبر كل منهم دخله في ترتب الحكم الشرعي ، بأن يترتب عليه الحكم ولو ضمنا ، بضميمة حجية بقية أخبارهم ، لكفاية ذلك في رفع اللغوية ، ولا يعتبر ترتب الأثر الشرعي على كل خبر استقلالا ، وإلا امتنعت حجية خبر الحاكي عن الإمام مباشرة أيضا ، إذ ليس أثره المباشر إلا التعبد بصدور كلام الإمام وليس هو حكما شرعيا ، ولا يترتب عليه الحكم الشرعي إلا بضميمة التعبد بظهوره.

الثالث : أنه لا ريب في تقدم الموضوع على حكمه رتبة ، لأنه كالمعروض له ، ففي مرتبة ورود الحكم لا بد من كون الموضوع متحققا ، ويمتنع ترتب الموضوع على حكمه وتفرعه عليه ، وحيث كان موضوع الحجية في العمومات هو الخبر فلا بد من فرضه في رتبة سابقة عليها ، ومن الظاهر أن خبر من عدا الأول من رجال السند غير معلوم وجدانا ، بل تعبد بضميمة الحكم بحجية خبر من قبله المستفادة من العمومات ، مع أنه موضوع للحجية أيضا ، فيلزم كون الخبر الذي هو موضوع الحجية متفرعا عليها. نعم لا يجري هذا في خبر أول رجال السند ، لأنه معلوم وجدانا ، لا تعبدا.

وفيه : أن خبر كل من الوسائط لا يتفرع التعبد به على حجيته بنفسه ، بل على حجية خبر الحاكي عنه ، ولا محذور في ذلك ، لتعدد الحكم بالحجية تبعا لتعدد الأخبار التي هي موضوع لها. واتحاد الأحكام المذكورة دليلا لا يوجب اتحادها ذاتا ، لانحلال العام إلى أحكام بعدد أفراد موضوعه.

ومنه يظهر أنه لا مجال لتوجيه الإشكال باستلزام شمول العمومات للاخبار بالواسطة لكون الحجية أثرا لنفسها ، إذا لا أثر لحجية خبر الأول إلا إثبات خبر الثاني ثم حجيته لإثبات خبر الثالث ثم حجيته ، وهكذا حتى نصل إلى خبر الحاكي عن الإمام ، مع وضوح التباين بين الأثر والمؤثر ، بل ترتبهما.


لاندفاعه : بأن أثر الحجية في كل خبر ليس هو حجيته نفسها ، بل حجية الخبر المحكي به ، فالأثر مباين للمؤثر ومترتب عليه.

وأما دعوى : أن الأحكام المذكورة بالحجية المتعددة بتعدد موضوعاتها لما كانت مترتبة في أنفسها امتنع إرادتها من الدليل الواحد وهو عموم الحجية ، لاستحالة لحاظ الامور المترتبة بلحاظ واحد.

فمندفعة : بأن الملحوظ في العام الوارد بنحو القضية الحقيقية ليس هو الأفراد بخصوصياتها المتباينة ، بل هو العنوان بحدوده المفهومية بنحو ينطبق على أفراده المحققة والمقدرة ، وانطباقه حينئذ على أفراده المترتبة قهري ولا محذور فيه. ومن ثمّ تقدم في الوجه الثاني شمول القضية لنفسها مع عدم محذور خارجي.

بل لو كان العام بنحو القضية الخارجية المختصة بالأفراد المتحققة لم يمتنع شمولاه للأفراد المترتبة في أنفسها ثبوتا ، كالعلة والمعلول ، لعدم لحاظ ترتبها في مقام الحكاية عنها بالعام ، بل الملحوظ مجرد فرديتها له ، وهي متساوية من الحيثية المذكورة.

نعم ، لو كان بعضها ثبوتا متأخرا رتبة عن صدور العام أو إعماله امتنع شمول العام له ، لعدم كونه من الأفراد المتحققة في مرتبة صدور العام وحكايته عن أفراده.

إلا أن الأخبار بالواسطة ليست كذلك ، لوضوح أن أخبار الوسائط وإن لم تكن جميعها محرزة وجدانا ، بل لا يحرز كل منها إلا تعبدا بسبب إعمال عموم الحجية في الخبر الذي قبله الحاكي عنه ، إلا أنها ليست مترتبة ثبوتا على إعمال العام ، بل مترتبة عليه إثباتا ، فهي بأجمعها من الأفراد المحققة في مرتبة صدور العام ومشمولة له واقعا ، وإن كان إحراز فردية كل منها متأخرا رتبة عن إعمال العام في الخبر الحاكي له ، ولا محذور فيه.


نعم ، قد يقال : إذا كان الدليل متعرضا لموضوع حكم دليل آخر ومنقحا له يكون حاكما على ذلك الدليل ومتقدما عليه رتبة ، وحيث يمتنع اتحاد الحاكم والمحكوم ، لاستلزامه تقدم الدليل على نفسه ونظره لها ، يمتنع دخول الحكم بالحجية في جميع أخبار الوسائط تحت دليل واحد ، لأنه حيث كان كل منها منقحا لموضوع الآخر كان دليله حاكما على دليله ، فيلزم اتحاد الحاكم والمحكوم.

لكنه مندفع : بأن الترتب والتحاكم في مثل المقام إنما يكون بين نفس الحكمين ، لترتب موضوع أحدهما على الآخر إثباتا ، ونسبته إلى الدليلين بالعرض ، وقد عرفت أنه لا مانع من شمول العام للأحكام المترتبة ثبوتا فضلا عن المترتبة إثباتا ، وإنما يكون التحاكم بين الدليلين حقيقة فيما لو كان أحدهما ناظرا للآخر وشارحا له بما هو دليل ، وفي مثله يمتنع اتحاد الدليل الحاكم والمحكوم. وتمام الكلام في مبحث التعارض.

ثم إن هذه الوجوه الثلاثة من الإشكال مختصة بعمومات حجية الخبر القابلة للتخصيص ، ولا تجري في الأدلة اللبية من الإجماع والسيرة ونحوهما ، إذ هي ـ لو تمت ـ قطعية لا تبقي مجالا للوجوه المذكورة ، وإلا لم تصلح للدليلية ، فلا موضوع للإشكال عليها بما تقدم ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في آية النبأ ، وقد أطلنا الكلام فيها تبعا لما ذكره مشايخنا في المقام. ومن الله سبحانه نستمد العون ، وبه الاعتصام.

الآية الثانية : التي استدل بها على حجية خبر الواحد قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١).

ولعل الأولى في تقريب الاستدلال بها أن يقال : هي ظاهرة في وجوب

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.


الحذر تبعا لظهورها في وجوب الإنذار ، لأنها ظاهرة في كونه غاية له ، بمقتضى كلمة (لعل) المسوقة مساق التعليل ، والعلة اذا كانت مما يترتب على المطلوب كانت غاية له مطلوبة مثله.

وحينئذ فوجوب الحذر راجع إلى حجية قول المنذر بالأحكام الإلزامية القابلة للحذر. ويتم في غيرها بعدم الفصل ، بل بفهم عدم الخصوصية ، بعد ظهورها في كون الحذر من الامور المترتبة طبعا على الانذار ، لا أنها في مقام تشريعه بعده تعبدا تأسيسا من الشارع ، وذلك إنما يكون بلحاظ السيرة العقلائية المرتكز مضمونها في الأذهان ، فيكون ظاهر الآية الشريفة امضاءها والجري عليها ، ومن الظاهر عدم خصوصية الأحكام الإلزامية في السيرة المذكورة.

وبذلك يندفع توهم أن الحذر كما يكون بقبول الخبر وحجيته كذلك يكون بالعمل عليه احتياطا ، لتنجز الواقع المحتمل به ، فغاية ما تدل عليه الآية الشريفة منجزية الخبر للتكليف المحتمل ، وهو أعم من حجيّته عليه ، وحيث لا موضوع لذلك في الخبر الذي لا يتضمن تكليفا كان خارجا عن مدلولها.

وجه الاندفاع : أن ذلك لا يناسب ظهور الآية في إمضاء أمر ارتكازي ، كما تقدم ، لأن الأمر الارتكازي الذي جرت عليه سيرة العقلاء هو حجية الخبر وقبوله ، لا وجوب الاحتياط معه ، بل هو ـ لو تم ـ يحتاج إلى جعل شرعي تأسيسي لا يناسب مساق الآية الشريفة.

مضافا إلى المفروغية ظاهرا عن الملازمة بين وجوب الحذر عقيب الخبر وحجيته ، وذلك كاف في المطلوب لو فرض قصور الآية بمدلولها اللفظي عن إفادته.

وبما ذكرنا من ظهور الآية في إمضاء سيرة العقلاء يظهر وجه اختصاصها بالخبر الموثوق به على ما يأتي تفصيله ، لعدم بناء العقلاء على حجية كل خبر ، فلا حاجة معه إلى طلب الدليل على التخصيص.


هذا ، وقد يستشكل في الاستدلال المذكور بوجوه ..

الأول : ما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه من عدم إطلاق في الآية يقتضي وجوب الحذر عند الإنذار ، لأنها مسوقة لبيان وجوب النفر ، لا لبيان كون غاية الإنذار الحذر ، ولعل وجوبه مشروط بالعلم.

وفيه : أن سوق الآية لبيان وجوب النفر لا ينافي سوقها لبيان ترتب الإنذار على الحذر وكونه غاية له ، كما هو مقتضى تركيبها الكلامي.

نعم ، قد يمنع كون الإطلاق مقتضى تركيبها الكلامي بظهور (لعل) في عدم ملازمة ما بعدها لما قبلها وإمكان تخلفه عنه ، فلعل المراد لزوم الحذر في الجملة ولو على تقدير حصول العلم من الإنذار ، بأن تعدد المنذرون أو قامت القرينة على صدقهم. نظير قولك : انصح زيدا لعله يقبل ، وأخبره لعله يصدقك. ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في منع الاطلاق.

لكنه مندفع : بأن (لعل) إنما تقتضي عدم الملازمة بين الحذر نفسه والإنذار ، وهو لا ينافي مطلوبية الحذر عقيب الإنذار بمقتضى كونه غاية له ، الظاهر في مطلوبيته بمجرده ، نظير قولك : أحسن لزيد لعله ينفعك ، وادفع له عشرة دراهم لعله يتعفف عن الناس ، فإنه ظاهر في كون الإحسان ودفع الدراهم كافيين في حسن النفع والاستغناء من زيد بلا حاجة إلى أمر آخر ، واحتمال دخله مدفوع بالإطلاق.

ولا بد أن يكون عدم ملازمة الغاية لذيها المستفاد من (لعل) لأمر آخر كقصور المكلف ، لعدم علمه بكون الشيء غاية للواجب واجبا بتبعه ، كما لعله الحال في مثل : أخبره لعله يصدقك ، أو تقصيره لتجاهله لذلك عصيانا ، كما هو الظاهر في المقام ، لأن الأمر بالنفر والتفقه والإنذار والحذر عام لا يجهله أحد ، خصوصا مع ظهور الآية في كون ذلك مقتضى طبيعة الإنذار ، نظرا للسيرة العقلائية المشار إليها آنفا.


الثاني : أن الحذر لم يجعل غاية لمطلق الإنذار وإن كان من واحد ، لينفع في ما نحن فيه ، بل لإنذار الطائفة ، وإخبارهم يوجب غالبا العلم مع فرض كونهم ثقات ، خصوصا في عصر صدور الآية ، بلحاظ قرب الناس من صاحب الشريعة ، الموجب غالبا لانكشاف حال الخبر ، لتيسر القرائن.

فلا تكون الآية واردة جريا على سيرة العقلاء في الاعتماد على الخبر ، بل لبيان لزوم الاستعانة بالغير في تحصيل العلم لمن لا يتيسر له تحصيله بنفسه. ويشهد به ما ورد من الاستشهاد بها على لزوم النفر لمعرفة الإمام مع أنه لا بد فيه من العلم.

وأجاب عن ذلك بعض مشايخنا بأن ظاهر مقابلة الجمع بالجمع إرادة الاستغراق والتفريق ، فالمعنى أن كل واحد من الطائفة ينذر بعضا من قومه ، لا أن مجموع الطائفة ينذرون مجموع القوم ، وهو الذي يقتضيه طبع الحال ، إذ الغالب عدم اجتماع الطائفة المتفقهة في ناد واحد ، بل يذهب كل إلى خاصته فينذرهم بما تفقه فيه.

وفيه : أن ظهور مقابلة الجمع بالجمع في التفريق مختص بما اذا اخذ فيه عنوان لا يصدق على الجمع ، كما في مثل : أكرموا جيرانكم ، وأدبوا اولادكم ، لوضوح أن علاقة الجوار والبنوة لا تقوم بالمجموع من حيث المجموع بل بكل جار وجاره وأب وابنه بنحو التفريق ، دون مثل المقام مما كان نسبة القوم لأفراد الطائفة نسبة واحدة ، فإن حمله على التفريق ـ وإن كان ممكنا ـ يحتاج إلى دليل.

بل الظاهر أنه لا مجال للبناء عليه في المقام ، ولذا لا يظن من أحد دعوى أنه لو قصر بعض المتفقهين فلم ينذر لم يجب على الباقين استيعاب الباقين بالإنذار بل لهم الاكتفاء بإنذار بعضهم ، كما هو مقتضى التفريق المدعى.

وأما كون ذلك مقتضى طبع الحال فهو لا يخلو عن غموض ، لإمكان أن تكون سيرتهم في تلك العصور على الاجتماع في نوادي رؤسائهم ونحوها مما


يضم جماعتهم ، كما هو الظاهر من سيرة أهل القرى والاحياء المبنية على البساطة والبعد عن الحضارة الحديثة والمدنية المعقدة التي باعدت بين الناس وأشغلت كلا بنفسه.

نعم ، ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن التكليف بالتفقه والانذار والحذر استغراقي انحلالي لا مجموعي ارتباطي ، فيجب على كل أحد القيام بها وإن عصى غيره.

فإن تم كان قرينة في المقام على حجية الخبر من المنذرين بنحو صرف الوجود الشامل للواحد ، لأن الحذر إذا كان غاية لوجوب الإنذار بنحو الانحلال دل على كفاية الانذار من شخص واحد في وجوب الحذر الملازم لحجيته.

وما ذكره مقطوع به في الحذر ، وهو الظاهر في التفقه والإنذار ، كما هو الحال في كل الخطابات الشرعية الموجهة للجمع.

ومن ثم استفيد من الآية الشريفة وجوب الاجتهاد وتبليغ الأحكام كفاية على كل أحد ولو لم يقم به غيره.

وعلى هذا فظهور الآية في عموم الحجية تبعا لمقتضى سيرة العقلاء مستحكم. فتأمل جيدا.

وأما الاستشهاد في الأخبار بالآية الشريفة لوجوب النفر لمعرفة الامام فهو بلحاظ ظهورها في جواز الاستعانة بالغير في الفحص وعدم وجوب مباشرة كل أحد له ، لا لظهورها في اعتبار المعرفة العلمية ، بل اعتبارها في معرفة الإمام مستفاد من دليل خاص غير الآية.

الثالث : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن التفقه الواجب إنما هو معرفة الأحكام الشرعية ، والإنذار الواجب إنما يكون بها ، والحذر لا يجب إلا عقيبه ، لا عقيب كل إنذار ، فإذا لم يحرز المكلف المنذر أن الإنذار بالأحكام الشرعية لاحتمال خطأ المنذر أو تعمده الكذب لا يحرز تحقق موضوع وجوب الحذر ، ولا يحرز تحقق موضوعه إلا بالعلم بموافقة الإنذار للواقع ، فهو نظير : أخبر زيدا


بأوامري لعله يمتثلها.

وفيه : أنه لا إشكال في أن الحذر إنما هو من الأحكام الواقعية الشرعية ، وهو لا ينافي ظهور الآية في كون الإنذار طريقا شرعيا لمعرفتها وحجة عليها ، وليس المراد بالإنذار بالأحكام الشرعية الذي هو حجة الإخبار عنها ، وهو أمر وجداني لا يتوقف على صدقه ، ولو توقف وجوب الحذر على العلم بصدقه لغى جعل حجيته.

وأما المثال الذي ذكره فهو يفترق عن المقام بأن تكليف الامر للرسول بالتبليغ غير معلوم للمكلف ، فلا طريق له إلى إحراز حجية تبليغه ، فلا بد من تنزيله على صورة حصول العلم بالواقع منه ، بخلاف المقام ، فإن التكليف بالنفر والتفقه والإنذار والحذر عام لا يجهله أحد ، كما أشرنا إليه قريبا ، فيصلح لأن يكون بيانا على حجية الإنذار.

الرابع : ما ذكره هو أيضا على تفصيل لا مجال لاستقصائه ، وسبقه إليه في الفصول.

والأولى تقريبه : بأن التفقه والإنذار من وظيفة المفتي لا الراوي ، لأن التفقه في الدين عبارة عن معرفة أحكامه ، وهو لا يكون بمجرد تحمل الرواية وحفظها ، بل باستحصال الحكم منها ، لتمامية دلالتها وعدم المعارض لها ، كما أن الإنذار عبارة عن الإخبار مع التخويف ، وهو لا يكون بمجرد الإخبار بكلام الإمام ، بل بالإخبار بالتكليف المستلزم للعقاب.

نعم ، يظهر من رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام صدق التفقه والانذار بمجرد تحمل الرواية وروايتها ، لقوله عليه السّلام : «إنما امروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزّ وجل ... مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة عليهم السّلام إلى كل صقع وناحية ، كما قال الله عزّ وجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...)(١).

لكن الاعتماد عليها في الخروج عن ظاهر الآية راجع إلى الاستدلال

__________________

(١) الوسائل ج ٧ ، ٨ ، باب : ١ من أبواب وجوب الحج ، شرائطه ، حديث : ١٥.


بالسنة لا بالكتاب ، كما نبه له في الجملة شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الإنذار وإن كان هو الاخبار المشتمل على التخويف ، إلا أنه لا يعتبر تصريح المخبر بالتخويف ، بل يكفي تضمن الخبر له واشتماله عليه وإن سيق لغيره ، ولذا يصدق على الفتوى مع عدم تصريح المفتي بالتخويف ، ولا فرق بين الفتوى والرواية في أن كلا منهما يشتمل على التخويف ضمنا ، فإن الأخبار بالوجوب يتضمن الأخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب.

ففيه : أن اشتمال الخبر على التخويف ضمنا وإن كان كافيا في صدق الإنذار ، إلا أنه لا بد من قصد المخبر له ، لابتناء خبره على الملازمة بين الخبر به والعقاب ، بحيث يرجع الاخبار به للإخبار بالعقاب ، وذلك مختص بالمفتي ، ولا يجري في الراوي الناقل لألفاظ الحديث من دون تعهد بمضمونه ، وأما الراوي المتعهد بالمضمون فهو إن كان منذرا أيضا ، إلا أن ظاهر الآية حجية خبره من حيث إنذاره لا مطلقا ، وهو راجع إلى قبول قوله في ترتب العقاب الذي يختص بالعامي الذي يجب عليه تقليده ، وأما قبول المجتهد لإخباره عن كلام الإمام مجردا عما تضمنه من التخويف فلا دلالة للآية عليه بوجه.

ومنه يظهر اندفاع ما في الفصول من أنه إذا ثبت من الآية حجية رواية الراوي المذكور لصدق الإنذار عليها ثبت حجية رواية غيره بعدم القول بالفصل.

إذ فيه : أن حجية روايته في حق المجتهد لم تثبت من الآية حتى يتعدى لغيرها بعدم الفصل ، وحجيتها في حق العامي راجعة إلى حجية فتواه ، ومن الظاهر ثبوت الفصل بينها وبين حجية رواياته في حق المجتهد ، فضلا عن روايات غيره.

اللهم إلا أن يدعى دلالتها على حجية الرواية بتنقيح المناط أو بالأولوية العرفية ، لأن الرواية لما كانت من مقدمات الفتوى فحجية الفتوى مع ابتنائها


عليها وعلى الحدس تقتضي حجيتها بالفحوى.

وفيه : أن ذلك إنما يتم لو كانت الفتوى حجة في حق المجتهد كالرواية ، أما حيث كانت حجة في حق العامي الذي ينحصر معرفته بالوظيفة الفعلية بها فحجيتها في حقه لا تستلزم حجية الرواية في حق المجتهد لا عقلا ولا عرفا. فتأمل جيدا.

فالانصاف أنه لا دافع للإشكال المذكور ، ومن ثمّ كان الاستدلال بالآية الشريفة على حجية الفتوى أولى من الاستدلال بها في المقام.

الآية الثالثة : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(١).

بتقريب : أن حرمة الكتمان ووجوب البيان ظاهر في وجوب القبول ، وإلا لغى. ومن ثم استدل في المسالك على حجية خبر المرأة عما في رحمها بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(٢)

وفيه : أن وجوب الإظهار لا يلغو مع عدم حجيته ، لإمكان كون فائدته مجرد اثارة الاحتمال الملزم بالفحص ، أو الاحتياط ، بل قد يوجب العلم أو يكون بعض السبب له ، وذلك فائدة مهمة.

نعم ، قد تدعى الملازمة العرفية بين وجوب الإنذار ووجوب القبول وإن لم يكن بينهما ملازمة واقعية ، لكنها ـ لو تمت ـ مختصة بما إذا كان الغالب انحصار طريق معرفة الشيء بالإبلاغ المأمور به ، ولم يكن الغالب فيه افادة العلم ، ولعل منه مورد كلام المسالك ، دون المقام ، لعدم انحصار المعرفة باخبار الآحاد ، خصوصا في عصر صدور الآية.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٩.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٨.


مع أن الآية مختصة بالإخبار عما أنزله الله تعالى ، وهو وظيفة المجتهد دون الراوي ، لأنه إنما يحكى كلام الإمام ، وهو وإن كان ملازما لما أنزله الله تعالى ، إلا أنه غير محكي له ، كما تقدم نظيره في الآية السابقة. فلاحظ.

الآية الرابعة : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ، فانه ظاهر في أن وظيفة الجاهل السؤال من العالم والقبول عنه ، فيكون دالا على إمضاء سيرة العقلاء على قبول خبر الثقة ، لورودها في مقام الاحتجاج على الكفار ، وإبطال زعمهم في امتناع بعث البشر ، فإن مقام الاحتجاج لا يناسب اللجوء للقضايا التعبدية المحضة ، بل ينبغي الاستعانة فيه بالقضايا الارتكازية العامة التي لا يتسنى للخصم إنكارها.

ومنه يظهر الوجه في اختصاصها بما إذا كان المخبر ثقة ، كما تقدم في آية النفر نظيره.

كما يظهر اندفاع ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وسبقه إليه في الفصول من أن ظاهر الآية بقرينة السياق إرادة علماء أهل الكتاب ، كما عن بعض المفسرين.

إذ فيه : أن ورود القضية مورد الإمضاء لسيرة العقلاء الارتكازية موجب لإلغاء خصوصية موردها عرفا لو فرض عدم العموم فيها لفظا.

ومثله في الإشكال ما ذكره قدّس سرّه من أنه ليس المراد بأهل العلم مطلق من علم ولو بسماع رواية من الإمام ، وإلا لدلّ على حجية قول كل عالم بشيء ولو بطريق الحس ، مع أنه يصح سلب هذا العنوان عنه ، بل المتبادر من وجوب سؤال أهل العلم هو سؤالهم عما يعدون عالمين به ، فينحصر مدلوله في التقليد دون الرواية.

فإنه يندفع : بأن الظاهر صدق العنوان على الرواة لا خصوص المجتهدين عملا بإطلاق العلم الشامل للعلم الحسي ، وهو المناسب لمورد الآية ، لوضوح

__________________

(١) سورة النمل : ٤٣.


أن السؤال فيها ليس عن أمر حدسي نظري ، بل عن أمر حسي ثابت بطرق حسية أو ملحقة بالحس ، لوضوحها. فتأمل.

وأما ما ذكره من صحة سلب العنوان عمن علم بشيء بطريق الحس. فهو مبني على تعارف إطلاق العنوان على خصوص العلم بطريق الحدس ، بل خصوص العلم بالأحكام الشرعية ، من دون اختصاص له بذلك لغة ، ولا موجب لذلك في الآية الشريفة ، خصوصا مع ظهورها في إمضاء السيرة الارتكازية المشار إليها.

نعم ، يشكل الاستدلال لوجهين ، أشار إليهما شيخنا الأعظم قدّس سرّه ..

الأول : أنه لا ظهور لها في كون السؤال لأجل العمل ، لتدل على حجية الجواب عرفا. بل لعل الظاهر منها كون السؤال لأجل تحصيل العلم ، لأن ظاهرها الإنكار على من امتنع عن الإذعان بجواز بعث الرسل من البشر ، فيكون الأمر بالسؤال لتحصيل الإذعان المذكور ، لا لأجل العمل بالجواب وإن لم يوجبه ، وهو لا ينافي كون القضية ارتكازية ، إذ الارتكاز كما يقتضي العمل بخبر الثقة وإن لم يحصل منه العلم ، كذلك يقتضي السعي لتحصيل العلم في مورد الحاجة إليه بالسؤال من الغير والاستعانة به وعدم الاقتصار على ما يدركه الإنسان بنفسه مستغنيا عن غيره. ولا أقل من إجمال الآية من هذه الجهة فلا مجال للاستدلال بها.

الثاني : أنه لا بد من رفع اليد عن ظهور الآية البدوي في إرادة مطلق العلماء من أهل الذكر بالنصوص الكثيرة الظاهرة ، بل الصريحة في اختصاص أهل الذكر بالأئمة عليهم السّلام وعدم شمولها لغيرهم بالنحو الذي ينفع في ما نحن فيه ، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر قدّس سرّه قال : ان من عندنا يزعمون أن قول الله عزّ وجل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) انهم اليهود والنصارى ، قال : «إذا يدعوكم إلى دينهم» قال : قال بيده إلى صدره : «نحن أهل الذكر ونحن


المسئولون» وغيره (١) ، وقد تضمن بعضها أن النبي صلّى الله عليه وآله هو الذكر والأئمة عليهم السّلام أهله ، فلا بد من رفع اليد عن ظهور الآية بذلك.

ودعوى : أن ذلك من التفسير بالباطن فلا يمنع من حجية الظهور.

مدفوعة : بان التفسير بالباطن إنما لا ينافي حجية الظهور إذا لم يرد مورد الردع عنه ، كما تضمنته النصوص المذكورة ، مع أن كون التفسير المذكور من التفسير بالباطن لا يناسب مساق النصوص المذكورة.

ومثلها ما ذكره بعض مشايخنا من أن ذلك من باب تطبيق الكلي على مصداقه فلا تنافي عمومه لغيره ، وقد ورد عنهم عليهم السلام أنه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن ، وأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر.

لاندفاعه : بأنه لا يظهر من النصوص المذكورة محض تطبيق أهل الذكر عليهم عليهم السّلام ، ولا نزولها فيهم عليهم السّلام ، بل اختصاصها بهم عليهم السّلام ، كما ذكرنا ، فتكون كسائر الآيات المختصة بهم عليهم السّلام كآيات الولاية والمودة والتطهير ، التي لا يلزم موتها ، لأنهم عليهم السّلام باقون ما بقي القرآن مرجعا للناس وحجة عليهم.

الآية الخامسة : قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢).

وتقريب الاستدلال بها : أن بعض المنافقين المؤذين لرسول الله صلّى الله عليه وآله لما طعن في النبي صلّى الله عليه وآله بأنه أذن يقبل كل ما يسمع ، ويصدق كل أحد فلا يخشى منه وصول الخبر ، لانا ننكره فيصدقنا ، رد عليهم تعالى بأن تصديقه لكم ليس حقيقيا ، بل صوري ، وهو خير لكم إذ لولاه لأوقع بكم عقابه ، وليس إيمانه

__________________

(١) يراجع في النصوص المذكورة اصول الكافي ج ١ : ص ٢١١ ، والوسائل ج ١٨ ، باب : ٧ من أبواب صفات القاضي

(٢) سورة التوبة : ٦١.


الحقيقي إلا بالله وللمؤمنين ، فهم الذين يصدقهم تصديقا حقيقيا دونكم. فيدل ذلك على رجحان تصديق المؤمنين ، وصحة الاعتماد على خبرهم ، وحجيته.

وأما حمل التصديق للمؤمنين فيها على التصديق الصوري وإظهار القبول من دون تصديق حقيقي ، تأكيدا لما تضمنه قوله تعالى : (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) الذي لا يراد به التصديق الحقيقي ، لأن المخاطب به هم المنافقون الذين يعلم عدم تصديق النبي صلّى الله عليه وآله لهم ـ كما أطال الكلام فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ فهو بعيد عن ظاهر الآية جدا ، لظهور سياقها في مدح المؤمنين بتصديقه صلّى الله عليه وآله لهم ، وهو يناسب إرادة المؤمنين الحقيقيين ، لا ما يعم المنافقين ، بل إطلاق عنوان المؤمن على ما يعم المنافق في مثل هذه الآية الواردة لذم المنافقين بعيد جدا غير مناسب لذيلها المفصل بين المؤمنين والمؤذين لرسول الله صلّى الله عليه وآله في الرحمة والعذاب.

ومثله في الإشكال دعوى : أن اختلاف تعدية فعل الايمان لله تعالى والمؤمنين ، حيث عدي له تعالى بالباء ولهم باللام قرينة على إرادة التصديق الصوري من الإيمان للمؤمنين ، الراجع إلى قبول عذر المعتذر ورفع العقاب عنه المستلزم لامانه ، لما قيل من أن اختلاف التعدية للفرق بين إيمان التصديق. وإيمان الامان.

لاندفاعها : بعدم تبادر ذلك في اللام ، بل الظاهر منها إرادة التصديق الحقيقي ، كما في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)(١) ، وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(٢) ، وقوله تعالى : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(٣).

__________________

(١) سورة يوسف : ١٧.

(٢) سورة الاسراء : ٩٠.

(٣) سورة الشعراء : ١١١.


واختلاف التعدية ظاهر في أن المراد بالإيمان به تعالى ليس هو تصديقه كالمؤمنين ، بل التصديق بوجوده كالإيمان بالاخرة ، وإن كان ذلك خلاف ظاهر صحيح حريز الآتي ، لكن الصحيح لا ينافي ما ذكرنا في تصديق المؤمنين ، الذي هو محل الكلام.

وبالجملة : ما ذكرناه في معنى تصديق المؤمنين هو الظاهر المناسب لسياق الآية ، وحكي عن بعض المفسرين.

ويشهد به صحيح حريز المتضمن استبضاع اسماعيل بن الصادق عليه السّلام رجلا من قريش بلغه أنه يشرب الخمر ، فأكل الرجل المال ، فدعا اسماعيل في الطواف بالأجر والخلف ، فقال له الصادق عليه السّلام : «يا بني فلا والله مالك على الله هذا ، ولا لك أن يأجرك ، ولا يخلف عليك ، وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته. فقال اسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر ، إنما سمعت الناس يقولون ، فقال : يا بني إن الله عزّ وجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدق الله ويصدق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم. ولا تأتمن شارب الخمر ، إن الله عزّ وجل يقول في كتابه (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) فأي سفيه أسفه من شارب الخمر ...» (١) وقريب منه مرسلة العياشي (٢).

وحملهما على التصديق الصوري بعيد عن الظاهر جدا ، ولا سيما مع تطبيق الإمام عليه السّلام شارب الخمر على الرجل المذكور ، بل لا مجال له في رواية عمر بن يزيد ، قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : أرأيت من لم يقرّ بأنكم في ليلة القدر كما ذكرت ولم يجحده؟ قال : «اما إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر. وأما من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتى يسمع ، ثم قال أبو

__________________

(١) الوسائل ، باب : ٦ من أبواب الوديعة ح ١.

(٢) تفسير العياشي حديث ٨٣ من تفسير سورة براءة : ج ٢ ص ٩٥.


عبد الله عليه السّلام : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين» (١).

ومما ذكرنا يظهر مواقع الإشكال في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام فراجع.

ثم إنه لو تم ما ذكرنا فلا إطلاق للآية الشريفة يقتضي عموم تصديق المؤمنين ، لعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهة ، بل في مقام أنه صلّى الله عليه وآله لا يصدق غير المؤمنين ومدح المؤمنين ، بذلك ، وهو لا ينافي اعتبار بعض الامور في تصديقهم.

نعم ، قد يستفاد ورودها للعموم بضميمة الاستدلال بها في الروايتين المتقدمتين ، خصوصا الاولى ، لتعقيب الاستدلال فيها ببيان الكبرى المذكورة لكنه خروج عن الاستدلال بالكتاب إلى الاستدلال بالسنة.

هذا تمام ما عثرنا عليه من الآيات التي استدل بها في المقام. وقد عرفت عدم نهوض ما عدا الأخيرة منها بالمطلوب.

الثاني : من الادلة التي استدل بها في المقام : السنة ، وهي على طوائف ..

الطائفة الاولى : ما ورد في الخبرين المتعارضين ، وهي عدة أخبار ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، وموثقة سماعة ، ومرسلات الكليني ، وخبري المعلى بن خنيس والميثمي ، وصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، وخبر الحسين السرى ، وروايات الحسن بن الجهم ، ورواية محمد بن عبد الله ، ومكاتبة محمد بن علي بن عيسى ، ومرسلتي الحارث بن المغيرة وسماعة بن مهران ، ومرسلة الاحتجاج (٢) ، ومرفوعة زرارة المروية عن عوالي اللئالي ، ويبلغ مجموعها ثماني عشرة رواية.

__________________

(١) الوسائل ج ١ باب : ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث ١٩.

(٢) راجع في الأخبار المذكورة الوسائل ج ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ١ ، ٥ ، ٦ ، ٩ ، ١٩ ، ٨ ، ٢١ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٤٠ ، ٤٨ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٣.


وهي وإن اختلفت من حيث الحكم بالتخيير والترجيح والتوقف ، إلا أن ظاهرها المفروغية عن قبول الرواية لو لا التعارض.

ويبعد حملها على خصوص ما يقطع بصدوره ، لندرة التعارض معه ، بل لو فرض القطع بدوا بصدور الرواية إلا أن الالتفات إلى وجود المعارض لها يزيل القطع غالبا ، خصوصا مع التنبيه في بعضها على كون الراويين ثقتين ، فإنه كالصريح في أن المقتضي للعمل هو الوثوق بالراوي. مع أن اشتمال بعضها على المرجحات السندية ـ كالأوثقية ـ مانع من حملها على صورة العلم ، إذ لا موضوع لها معه.

الطائفة الثانية : ما تضمن الإرجاع للشيعة أو للعلماء والرواة ، وكتبهم ، كالتوقيع الشريف عن الحجة عجل الله فرجه : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» وكتاب الكاظم عليه السّلام لعلي بن سويد : «وأما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ...» وفي كتاب الهادي عليه السّلام لأحمد بن حاتم بن ماهويه وأخيه : «فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى» (١).

ودعوى : اختصاصها بالفتوى ، في غير محلها ، فإن الرجوع للرواة في الأول لو لم يختص بأخذ الروايات منهم فلا أقل من عمومه لها ، فتأمل.

كما أن معالم الدين في الثاني تشمل الروايات أو تختص بها ، كما أن الظاهر شمول الثالث لها بإطلاقه.

وأوضح منها في ذلك ما تضمن جواز الرجوع للكتب ، كموثق عبيد بن زرارة ، قال لي أبو عبد الله عليه السّلام : «احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها» ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٩ و ٤٢ و ٤٥.


وخبر المفضل بن عمر ، قال لي أبو عبد الله عليه السّلام : «اكتب وبث علمك في إخوانك ، فإن مت فأورث كتبك بنيك ، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم» (١) ، فإنهما كالصريحين في النظر إلى زمان الغيبة ونحوه مما تنقطع فيه طرق العلم وينحصر الامر في الكتب.

وحملها على إرادة الرجوع إليها في خصوص ما يورث العلم بعيد جدا عن الواقع الخارجي ، ضرورة قلة المتواترات في الكتب ، وانقطاع القرائن القطعية المحتفة بأخبار الآحاد بتقادم الزمان. بل في غالب موارد تواتر الروايات او احتفافها بالقرائن القطعية لها يحتاج إلى الكتب للاتفاق على الحكم. فهما ظاهران في المفروغية عن قبول خبر الواحد المودع في الكتب.

ومثلهما في ذلك رواية محمد بن الحسن بن أبي خالد أو حسنته ، قلت لأبي جعفر الثاني عليه السّلام : جعلت فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السّلام وكانت التقية شديدة ، فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم ، فلما ماتوا صارت تلك الكتب إلينا ، فقال : «حدثوا بها ، فانها حق» (٢) فإنه لو لا المفروغية عن حجية ما يرويه المشايخ في مقام العمل لم يحتج إلى الاستئذان من الإمام عليه السّلام في رواية الكتب المذكورة ، إذ روايتها لمجرد إثبات الرواية وحفظها ، لتكون بعض السبب الموجب للعلم لا يحتاج إلى الاستئذان المذكور ، كما لا يخفى.

بل لا يبعد أن يكون قوله عليه السّلام : «فإنها حق» أنها كتبهم فلا تحتاج رواية ما عنهم إلى حديثهم بها ، لا ان ما تضمنته حق واقعا ، ليكون شهادة الإمام بحقيقة الكتب المذكورة قرينة قطعية على صحتها ، فتخرج عن محل الكلام.

ومثلها في ذلك ما عن الحسين بن روح (رضوان الله عليه) ، حيث سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني فقال : «أقول فيها ما قاله العسكري عليه السّلام في كتب بني

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث ١٧ ، ١٨.

(٢) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث ٢٧.


فضال ، حيث قالوا له : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء. قال : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» (١) ، فإن الظاهر أن الأمر بالاخذ بروايات المذكورين ليس شهادة بصحتها ، بل لبيان عدم مانعية مخالفتهم للحق في أصول الدين عن قبول رواياتهم مع وثاقتهم في أنفسهم ، فإن ذلك هو المناسب للسؤال ، وهو الجهة المشتركة عرفا بين كتب بني فضال والشلمغاني المصححة لتعدي الحسين بن روح (رضوان الله عليه) عن مورد كلام الإمام عليه السّلام ، بخلاف العلم بإصابتها للواقع ، فإنه من الجهات الخفية التي لا خصوصية فيها لكتب بني فضال.

نعم ، لا مجال للاستدلال بما تضمن من الروايات الكثيرة الإرجاع لكتاب يوم وليلة تصنيف يونس بن عبد الرحمن وتصحيحه ، وتصحيح كتاب سليم بن قيس ، والحلبي ، والفضل بن شاذان ، وظريف ، وكتاب الفرائض عن أمير المؤمنين عليه السّلام وغيرها (٢) ، لأن التصحيح شهادة من الإمام ، وقرينة قطعية مخرجة للكتاب عن محل الكلام.

واما الاستدلال بعمل الشيعة بالكتب المذكورة فهو ـ مع انه ليس استدلالا بالسنة ، بل بسيرة المتشرعة الذي يأتي الكلام فيه ـ في غير محله ، إذ قد يكون العمل بها مبنيا على تصحيحها منهم عليهم السّلام الذي هو قرينة قطعية.

ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال بإقرار بعض الروايات للعمل المذكور ، لإمكان ابتناء العمل على التصحيح قبله.

ومثله في ذلك ما تضمن الإرجاع لآحاد الرواة والفقهاء ، كزرارة ، ومحمد بن مسلم ، وأبان بن تغلب ، وزكريا بن آدم ، ويونس بن عبد الرحمن ، والعمري

__________________

(١) روى في الوسائل ج ١٨ : ٧٢ ، كلام الإمام (ع) ، وذكر تمام الرواية شيخنا الأعظم (قدّس سرّه) في الرسائل.

(٢) تراجع النصوص المتضمنة لذلك في الوسائل ج ١٨ ، باب ٨ من أبواب صفات القاضي.


وابنه (١) ، لاحتمال خصوصيتهم عندهم عليهم السّلام واطلاعهم على عدم خطئهم أو ندرته بنحو يمتازون به عن غيرهم من الرواة ، وإن كانوا مثلهم بنظر الناس في الوثاقة. ومجرد التعبير عنهم بأنهم ثقاة ، أو السؤال من الأئمة عليهم السّلام عن وثاقتهم لاجل العمل بروايتهم ، لا يشهد بعموم حجيّة خبر الثقة ، لأن الثقة من الامور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص ، فرب رجل ثقة عند شخص غير ثقة عند آخر ، والروايات المذكورة إنما تدل على حجية خبر من هو ثقة عند الأئمة عليهم السّلام لا من هو ثقة عند المكلف الذي هو محل الكلام.

ولذا كانت الشهادات المذكورة رافعة للأشخاص المشهود لهم إلى مراتب عالية تقارب العصمة في التبليغ ، وليست كشهادة سائر الناس بالوثاقة.

ومن هنا يظهر عدم صحة الاستشهاد بما في التوقيع الشريف : «فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ونحملهم إياه إليهم» (٢) ، فإنه وارد في ثقاتهم عليهم السّلام كسفرائهم وخواصهم ، لا مطلق من يثق به الإنسان.

ومثله في ذلك ما عن تفسير العسكري عليه السّلام في بيان التمسك بالقرآن : «هو الذي يأخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا» (٣) ، لعدم وضوح كون المراد بالسفراء مطلق ثقاة الرواة من الشيعة ، بل لعلهم خصوص المنصوبين من قبلهم عليهم السّلام.

نعم ، لو ورد ما يدل على جواز الأخذ من الثقة كان ظاهرا في إيكال تشخيصه إلى المكلف نفسه كما هو الحال في بعض نصوص الطائفة الاولى.

الطائفة الثالثة : ما يدل بنفسه على المفروغية عن حجية خبر الواحد في

__________________

(١) تراجع النصوص المتضمنة لذلك باب ١١ من أبواب صفات القاضي من الوسائل.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج ١٨ باب : ٥ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٨.


الجملة ، مثل خبر العلل المتقدم عند الكلام في آية النفر ، وصحيح حريز ، ومرسلة العياشي ، ورواية عمر بن يزيد المتقدمة عند الكلام في آية الإيذاء ، وما عن روضة الواعظين للفتال عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم : «من تعلم بابا من العلم (عمل به أو لم يعمل) عمن يثق به كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة» (١) وخبر جميل عن أبي عبد الله عليه السّلام ، سمعته يقول : «المؤمنون خدم بعضهم لبعض ، قلت : وكيف يكونون خدم بعضهم لبعض؟ فقال : يفيد بعضهم بعضا الحديث» وخبر يزيد بن عبد الملك عنه عليه السّلام : «قال : تزاوروا ، فان في زيارتكم احياء لقلوبكم وذكرا لاحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فان أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم» وفي حديث خطبة رسول الله صلّى الله عليه وآله في مسجد الخيف المروية في الصحيح أو الموثق وغيرهما : «فقال : نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ، وحفظها ، وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ، ومرفوعة الكناسي عن أبي عبد الله عليه السّلام ، في قول الله عزّ وجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : «هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، ليس عندهم ما يتحملون به الينا ، فيسمعون كلامنا ، ويقتبسون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم ، وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتى يدخلوا علينا فيسمعون حديثنا فينقلوه إليهم ، فيعيه هؤلاء ويضيعه هؤلاء ، فاولئك الذين يجعل الله لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون» ، وخبر عبد السلام الهروي عن الرضا عليه السلام ، قال : «رحم الله من أحيا أمرنا. قلت : كيف يحيي أمركم؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا» وما روي بطرق متعددة عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال : «رحم الله خلفائي ـ ثلاث مرات ـ فقيل له : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الذين

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٤ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٢٢.


يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي ، فيعلمونها الناس من بعدي» (١) ، بناء على عدم اختصاصه بالأئمة عليهم السّلام ، ورواية معاوية بن عمار أو حسنته عن أبي عبد الله عليه السّلام وفيها : «الرواية لحديثنا يشدّ به [يسدده في خ. ل] في قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد» وما ورد في تفسير قوله صلّى الله عليه وآله : «اختلاف امتي رحمة» من قول الصادق عليه السّلام : «إنما أراد قول الله عزّ وجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ ...) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم» وخبر حمزة بن حمران ، سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : «من استأكل بعلمه افتقر. قلت : إن في شيعتك قوما يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم ، فلا يعدمون منهم البر والصلة والإكرام ، فقال : ليس أولئك بمستأكلين ...» ، وما عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث أنه قال للحسن البصري : «نحن القرى التي بارك الله فيها ... فقال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) ، والقرى الظاهرة الرسل ، والنقلة عنا إلى شيعتنا ، و [فقهاء] شيعتنا إلى شيعتنا ...» (٢).

فإن النصوص المذكورة وإن لم يصرح في أكثرها بحجية الرواية إلا أن ما تضمنته من الاستفادة بالحديث بسبب النقل وإفادته به تبليغه للفقيه وتعليمه للناس ، وتعلمهم له ، وشد قلوب الشيعة به ونحو ذلك ظاهر في المفروغية عن حجيته بسبب النقل وصلوحه للعمل ، إذ بدون ذلك لا تتحقق الاستفادة بالحديث ولا ينفع تبليغه للفقيه ولا يصدق تعليم الناس ولا علمهم به ، وإنما يكونون عالمين بنقله من دون علم به.

__________________

(١) تراجع النصوص المذكورة من خب جميل الى هنا في الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٣٧ و ٣٨ و ٤٣ ، ٤٤ و ٤٥ ، و ٥٢ ، و ٥٣.

(٢) تراجع النصوص المذكورة من رواية معاوية بن عمار الى هنا في الوسائل ج ١٨ ، باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢ و ١٠ و ١٢ ، و ٤٧.


نعم ، لا إطلاق لأكثرها في ذلك ، إلا أن حملها على خصوص صورة التواتر ونحوه مما يفيد العلم بعيد جدا. بل هو لا يناسب ذكر الوثوق في رواية الفتال ، وما في خطبة النبي صلّى الله عليه وآله في مسجد الخيف من ظهوره في كون المبلغ للفقيه واحدا ، فإنه ظاهر في إعمال الفقيه فقهه في ما بلغ به ليترتب عليه العمل.

ومثلها ما عن تفسير العسكري عليه السّلام الوارد في التقليد (١) ، فإنه وإن كان واردا في التقليد ، إلا أن التأمل في فقراته قد يشهد بعمومه للرواية. وكذا ما عن مجالس المفيد : «لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها» ، وقريب منه ما عن المحاسن (٢) ، بناء على أن المراد بالصادق الثقة ، لا الصادق الواقعي المعلوم الصدق ، وأن استحباب الأخذ بلحاظ ترتب الفائدة وهي العمل.

وأوضح من ذلك ما عن العدة عن الصادق عليه السّلام : «قال إذ نزلت بكم حادثة لا تعلمون حكمها في ما ورد عنا ، فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه السّلام فاعملوا به» (٣).

الطائفة الرابعة : ما يستفاد من مجموعها حجية الخبر وإن كان في دلالة كل واحد على ذلك نظر ، مثل المستفيض أو المتواتر المتضمّن انه : «من حفظ أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (٤) ، فإنه وإن أمكن حمله على الحفظ لأجل تكثير طرق الرواية حتى يحصل العلم بها لا لحجية خبر الواحد ، إلا أنه بعيد جدا ، لاحتياج التواتر إلى شروط خاصة يصعب المحافظة عليها فلو توقف الانتفاع بالرواية على حصول العلم بها قلّت فائدة الحفظ ، وهو خلاف ظاهر الروايات ، خصوصا مثل ما في بعض طرق الحديث من قوله صلّى الله عليه وآله : «من

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٠ أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠.

(٢) تراجع الاحاديث .. في الوسائل ج ١٨ ، باب من أبواب صفات القاضي حديث : ٦٧ و ٦٨ و ٦٩ ، ٧٠.

(٣) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٧.

(٤) ذكره في الوسائل في طرق مختلفة متقاربة في المتون باب : ٨ من أبواب صفات القاضي.


حفظ من امتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (١) وفي آخر : «من حفظ من امتي أربعين حديثا مما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (٢) ، لظهورهما في أن تحمل الرواية وبيانها كاف في حصول الانتفاع وسدّ الحاجة ، ومن ثمّ لا يبعد اختصاصها بما إذا كان المتحمل للرواية محافظا على شروط الحجية والانتفاع من الثقة والعدالة وغيرهما. ولذا لا يبعد كون هذين الحديثين من الطائفة السابقة لا من هذه الطائفة.

ومن هذه الطائفة ما تضمّن الأمر بكتابة الحديث وروايته ومذاكرته ومدارسته ومنه قولهم عليهم السّلام : «اعرفوا منازل الرجال منا بقدر روايتهم عنا» وما ورد من الترخيص في النقل بالمعنى والتحذير من الكذابين ونحو ذلك (٣) مما يشعر بحجية الخبر وإن لم يفد العلم ، وإلا قلّت الفائدة في ذلك ، كما نبه لذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وبالجملة : هذه الطائفة لو لم تصلح للاستدلال فهي صالحة للتأييد ، ويكون الاستدلال بالطوائف الثلاث الاول ، واستيعابها يورث القطع بحجية الخبر في الجملة ، لتواترها إجمالا. والله سبحانه ولي العصمة والسداد.

الثالث : من الادلة التي يستدل بها على حجية الخبر : الإجماع ، ويراد به ..

تارة : الإجماع القولي ، الراجع إلى تصريح العلماء بحجية خبر الواحد.

واخرى : الإجماع العملي ، الراجع إلى الاتفاق في مقام العمل على الرجوع إليه في معرفة الحكم وترتيب الاثر عليه.

أما الأول فلا مجال للاستدلال به ، لعدم ثبوته تحصيلا ولا نقلا ، حيث لم

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥٤ ، ٧٢.

(٢) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٨ من صفات القاضي حديث ٦٠.

(٣) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل ج ١٨ ، في اوائل ابواب كتاب القضاء.


ينقل التصريح بالقول المذكور إلا عن الشيخ قدّس سرّه وبعض من تأخر عنه ممن تعرض للمسائل الأصولية وألف فيها. وهم قليلون لا يكشف اتفاقهم عن الحكم الشرعي ، وأما الباقون فما كانوا يهتمون بتحرير المسائل الأصولية ، بل صرح بعض من حررها بعدم الحجية كالمرتضى قدّس سرّه ، بل بامتناعها كابن قبة ، فلا مجال للاستدلال بالوجه المذكور.

والعمدة الوجه الثاني ، وهو الإجماع العملي.

وتقريبه بأحد وجوه ..

الأول : إجماع العلماء على العمل به في مقام الفتوى واستنباط الحكم الشرعي.

الثاني : إجماع المسلمين بما هم مسلمون متدينون على العمل به والرجوع إليه في معرفة الحكم ، وهو المعبّر عنه في كلامهم بسيرة المتشرعة.

الثالث : إجماع العقلاء بما هم عقلاء على العمل به.

والفرق بين الوجوه الثلاثة : أن الوجه الثالث لا ينهض بالاستدلال إلا بضميمة الإمضاء ، أو عدم الردع من قبل الشارع الأقدس على ما يأتي الكلام فيه.

أما الوجهان الأولان فهما ينهضان للاستدلال بأنفسهما ، لكشفهما عن رضا الشارع الاقدس ، لامتناع حصولهما عادة مع عدم رضاه بالحكم ، حيث يمتنع جهل المسلمين بأجمعهم بمراده ، وخصوصا العلماء منهم ، لامتناع خفاء مراده عليهم مع بذلهم الجهد في معرفة الأحكام عن المعصومين عليهم السّلام ومخالطة كثير منهم لهم عليهم السّلام وأخذهم عنهم خصوصا في مثل هذه المسألة المهمة التي يكثر الابتلاء بها ، وبها نظم الفقه وعليها أساس الاستنباط.

كما أنه لا مجال لرفع اليد عن الوجهين المذكورين بظهور بعض الادلة في الردع لأنهما قطعيان يكشفان عن خلل في الدليل الرادع مانع من الاعتماد عليه.


ومن ثمّ أشرنا في ذيل الأخبار التي استدل بها على عدم حجية الخبر الى عدم نهوضها في مقابل الإجماع والتسالم على الحجية بين الأصحاب.

أما الوجه الثالث فليس هو إلا مقتضيا للحجية فيتعين رفع اليد عنه بظهور الادلة الرادعة ، لأن الظهور حجة فعلية صالحة للردع ، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

أما الوجه الأول : فيمكن تحصيله بتتبع طريقة العلماء في مقام الاستدلال من زماننا إلى زمان الشيخين بل ما قبلهما من أرباب الفتاوى ، سواء كانوا في مقام تحرير الفتاوى مجردة ، أم في مقام بيانها بطريق إيداع الرواية ـ كما هو حال مثل الصدوق قدّس سرّه في الفقيه ـ فإنا نجدهم متسالمين على الاستدلال باخبار الآحاد ، والفتوى في فروع ليس فيها إلا خبر واحد لا يوجب العلم ، لا يتناكرون ذلك ، ولا يتوقفون فيه.

ويقطع بأنهم في ذلك قد جروا على سنن من كان قبلهم من معاصري الأئمة عليهم السّلام وأصحابهم. لامتناع الابتداع في مثل ذلك ، لتعذر اتفاقهم عليه دفعة واحدة في عصر واحد عادة. وانفراد بعضهم في بعض العصور ـ ثم شيوع طريقته بين المتأخرين عنه ـ مثار الانكار والتشنيع من معاصريه وأتباعهم ، ولو كان لوصل ، لأهميته وتوفر الدواعي لنقله ، كما هو ظاهر.

وأما احتمال استناد عمل القدماء للقرائن القطعية المحتفة بالأخبار لحجيتها في أنفسها ، وقد اشتبه ذلك على المتأخرين عنهم فظنوا اتفاقهم على حجيتها ، فعملوا بها لذلك بعد ضياع القرائن عليهم.

فلا مجال له ، لأن تحري القرائن القطعية في جميع الفروع الفقهية محتاج إلى عناية خاصة لو كان بناء القدماء عليها لما خفي على المتأخرين مع تقارب العصور واتصال بعضهم ببعض وأخذ كل عمن قبله.

والإنصاف : أن التأمل في ذلك يوجب وضوح الحال بنحو يغني عن


تجشم الاستدلال عليه وتكلف البحث والنظر.

هذا ، وقد صرح بالإجماع بالوجه المذكور الشيخ قدّس سرّه في العدة ، حيث قال في مقام الاستدلال على مختاره : «والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة ، فاني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه : من أين قلت هذا؟ فإن أحالهم على كتاب معروف ، أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. هذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلّى الله عليه وآله ومن بعده من الأئمة ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته ، فلو لا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه ، لأن إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو» (١). ثم أطال في تعقيب ذلك إلى أن قال :

«فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجردها ، بل عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها لأجلها عملوا بها ، ولو تجردت لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يمكن الاعتماد على عملهم بها.

قيل له : القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء مخصوصة نذكرها في ما بعد من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ، لأنها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ، لانه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرائن ، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ، ودليله ومعناه ، ولا في السنة المتواترة ، لعدم ذلك في أكثر الأحكام ، بل لوجودها [وجودها خ. ل] في مسائل معدودة ، ولا في الإجماع ، لوجود الاختلاف في ذلك ، فعلم أن ادعاء

__________________

(١) العدة ج ١ ص ٤٢.


القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة.

ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معولا على ما يعلم ضرورة خلافه ، مدافعا لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه. ومن قال عند ذلك : اني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ، لأنه يكون معولا على ما يعلم من الشرع خلافه» (١).

وقد وافقه في نقل إجماع الاصحاب غير واحد ، منهم السيد رضي الدين ابن طاوس قدّس سرّه ففي محكي كلامه الذي رد به على السيد قدّس سرّه : «ولا يكاد تعجبي ينقضي كيف اشتبه عليه أن الشيعة (لا) يعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعية ، ومن اطلع على التواريخ والأخبار ، وشاهد عمل ذوي الاعتبار ، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر ذلك محمد بن الحسن الطوسي في كتاب العدة وغيره من المشغولين بتصفح أخبار الشيعة وغيرهم من المصنفين».

ومنهم العلامة قدّس سرّه ، ففي محكي النهاية : «ان الأخباريين منهم لم يعولوا في اصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد ، والأصوليون منهم ، كابي جعفر الطوسي عمل بها ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم».

ومنهم المجلسي ، حيث ادعى ـ كما عن بعض رسائله ـ تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد.

بل قد يظهر من السيد المرتضى قدّس سرّه الاعتراف بعمل الأصحاب بخبر الواحد ، إلا أنه لا يعول عليه ، لأنه من الأمور المشتبهة ، فعن محكي كلامه في الموصليات أنه قال : «إن قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة عولوا في كتبهم في

__________________

(١) العدة : ج ١ ص ٥١.


الأحكام الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها العمدة والحجة في الأحكام؟! حتى رووا عن أئمتهم عليهم السّلام في ما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامة ، وهذا يناقض ما قدمتموه.

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهودة المقطوع عليها إلى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل ، وقد علم كل موافق ومخالف أن الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدي إلى العلم ، وكذلك نقول في أخبار الآحاد».

ويؤيد ذلك ما عن ابن إدريس في مقام تقريب الإجماع على المضايقة أنه قال : «إن ابني بابويه والاشعريين ـ كسعد بن عبد الله وسعيد بن سعد ومحمد بن علي بن محبوب ـ والقميين أجمع ـ كعلي بن إبراهيم ومحمد بن الحسن بن الوليد ـ عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة ، لأنهم ذكروا أنه لا يحل رد الخبر الموثوق بروايته».

فإن اتفاق من ذكر مع معاصرتهم للأئمة عليهم السّلام ، وجلالتهم ، ورفعة مقامهم مؤيد للاتفاق المدعى في كلام من عرفت. بل عن المجلسي قدّس سرّه : ان عمل أصحاب الأئمة عليهم السّلام بالخبر غير العلمي متواتر بالمعنى.

ويشهد بصحة الإجماع المذكور أمور ..

منها : تصدي الأصحاب قديما وحديثا للجرح والتعديل ، وتمييز من تقبل روايته ممن لا تقبل ، وتعبيرهم عن بعض الرواة بأنه مسكون لروايته ، أو أنه مقبول الرواية أو صحيح الحديث ، أو لا يعمل بما ينفرد به ، وتصريحهم بتصحيح ما يصح عن جماعة ، وقبول مراسيل بعض الرواة ، لأنه لا يرسل إلا عن ثقة ، إلى غير ذلك مما يشهد بالمفروغية عن قبول الخبر غير العلمي في الجملة بينهم. وقد نبه لذلك الشيخ قدّس سرّه في العدة ، فقال : «إنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء ، وفرقوا بين من


يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذموا المذموم ، وقالوا : فلان متّهم في حديثه ، وفلان كذاب ، وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي وغير ذلك من الطعون التي ذكروها ، وصنفوا في ذلك الكتب ، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم ، حتى أن واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعفه بروايته ... فلو لا أن العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز لما كان بينه وبين غيره فرق ، وكان يكون خبره مطرحا مثل خبر غيره ، فلا يكون فائدة لشروعهم في ما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق ، وترجيح الأخبار بعضها على بعض. وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترناه» (١).

ومنها : تصريح جمع من قدماء الأصحاب ومتأخريهم بما يظهر منه المفروغية والتسالم على العمل بخبر الواحد في الجملة ، فعن الصدوق قدّس سرّه في الفقيه في ذيل أخبار سهو النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال : «فلو جاز ردّ هذه الأخبار الواقعة في هذا الباب لجاز رد جميع الأخبار ، وفيه إبطال الدين والشريعة».

وعن المحقق في المعتبر أنه قال في مسألة خبر الواحد : «أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر .. واقتصر بعضهم من هذا الافراط فقال : كل سليم السند يعمل به ، وما علم أن الكاذب قد يصدق ، ولم يتنبه على أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ ما من مصنّف إلا وهو يعمل بالخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل ...».

وعن الشهيد في الذكرى والمفيد الثاني ولد الشيخ الطوسي : أن الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند إعواز النصوص تنزيلا لفتاواه منزلة رواياته. قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «ولو لا عمل

__________________

(١) العدة : ج ١ ص ٥٣.


الأصحاب برواياته غير العلمية لم يكن وجه للعمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته» ، إلى غير ذلك مما يجده الباحث المتتبع مما يشهد بوضوح الحكم بين الأصحاب وتسالمهم عليه ومفروغيتهم عنه ، وقد أطال في ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

ومن جميع ذلك يظهر وهو الإجماع الذي ادعاه السيد المرتضى قدّس سرّه على المنع من العمل بخبر الواحد ، فلا بد إما من تنزيله على أخبار المخالفين ، كما قد يناسبه ذكره لذلك في تعقيب حديث عدم توريث الأنبياء صلّى الله عليه وآله ، ويكون قد تجنن بالإجماع الذي ادعاه دفعا للخصوم ، حيث لا يمكنه الطعن في رواياتهم بفسق راويها ، كما يظهر ذلك من الشيخ قدّس سرّه في العدة ، حيث قال : «فإن قيل : أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أن الخبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحة ذلك؟ ... قيل له : الذين أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنما كلموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يروون هم خلافها. وذلك صحيح على ما قدمنا. ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه ...» (١).

أو يكون مراده بالعلم ما يعم الوثوق ، بناء على ما حكي عنه من تفسير العلم بأنه ما يوجب سكون النفس ، أو غير ذلك مما يمكن به توجيه كلامه ، وإن كان على خلاف ظاهره ، وإلا فمن البعيد جدا خفاء عمل الأصحاب بالخبر عليه ، مع وضوحه واشتهاره بينهم.

وكيف كان ، فلا مجال للالتفات إلى ما ذكره بعد ما عرفت.

وما ذكرناه في تقرير الإجماع العملي يغني عن تقريره ببعض الوجوه الأخر ، كدعوى الإجماع حتى من السيد وأتباعه على العمل بأخبار الآحاد في

__________________

(١) العدة ج : ١ ص ٤٨.


مثل زماننا الذي ينسد فيه باب العلم ، لتصريحه بانفتاح باب العلم. أو على العمل بالاخبار التي بأيدينا المودعة في اصولنا ، لدعواه احتفافها بالقرائن القطعية ، مع الإشكال في ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه ، وإن تعرض لبعضه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وأما الوجه الثاني : ـ وهو سيرة المتشرعة على العمل بالخبر غير العلمي ـ فهو مما لا يظن بأحد انكاره ، إذ لو لا ذلك لاختل نظامهم في امور معاشهم ومعادهم ، لعدم تيسر العلم في جميع ما يبتلون به ، وتحري طرقه وأسبابه يوجب توقفهم عن العمل في كثير من الموارد ، بل أكثرها ، وهو مخل بنظامهم. ولا مجال لاحتمال سلوكهم طريقا آخر في الشرعيات ، فإن ذلك لو كان لظهر وبان.

بل لا ينبغي الريب في أن عملهم بالخبر المذكور مستند إلى ارتكازياتهم الأولية من دون حاجة منهم إلى بيان خاص من الشارع ، وإلا لظهر ، لكثرة الحاجة إلى السؤال عن ذلك لو لا الارتكازيات المذكورة. فسيرتهم متفرعة على سيرة العقلاء ومن مظاهرها ، وإن كانت أولى بالاستدلال ، لعدم الحاجة معها إلى الإمضاء أو عدم الردع ، وعدم الاعتناء بظهور بعض الأدلة في الردع ، كما تقدم عند الكلام في أقسام الإجماع العملي.

وأما الوجه الثالث ـ وهو سيرة العقلاء ـ فتوضيح الكلام فيه : أن سيرة عامة الناس وتعارفهم على العمل بطريق ..

تارة : تكون مستندة إلى أمر خارج عنهم طارئ عليهم ، كحاجتهم إليه في خصوص زمان أو مكان ، أو حملهم عليه من جهة خاصة ، كسلطان قاهر أو عالم ناصح.

واخرى : يكون ناشئا من مرتكزاتهم التي أودعها الله عزّ وجل فيهم ، وغرائزهم التي فطرهم تعالى عليها.


أما الوجه الأول فلا مقتضي فيه للكشف عن الحجية الشرعية في مورده ، إذ لا وجه لحمل الشارع على الجهة الخارجية المذكورة ، كما لا وجه لحمل غيره من الموالي على ذلك بنحو يستكشف حكمهم.

بل لا بد معه من إحراز الإمضاء من المولى ، ويكون الإمضاء تمام المقتضي للحجية من قبله ، لا أن السيرة تكون تامة الاقتضاء بحيث تحتاج إلى الردع الذي هو من سنخ المانع والرافع ، فلا يكفي في البناء عليها عدم الردع فضلا عن عدم ثبوته.

نعم ، لو فرض استحكام السيرة بنحو يغافل عن إرادة خلافها والتفات المولى إلى ذلك ، وتيسر الردع عليه كان عدم صدور الردع منه ظاهرا في إمضائه لها ، الذي عرفت أنه تمام المقتضي لمتابعتها.

وأما الوجه الثاني فالظاهر أنه هو المراد بسيرة العقلاء في كلامهم ، إذ الظاهر من نسبتها لهم جريهم عليها بما هم عقلاء لا بجهة اخرى.

والظاهر أن السيرة بالوجه المذكور بنفسها مقتضية للعمل على طبقها ، بنحو يكون الأصل بنظر العقل متابعة الشارع وسائر الموالي لها وجريهم عليها ما لم يثبت ردعهم عنها ، لأن الارتكازيات التابعة للادراك والفطرة مما يحسن الاحتجاج به عقلا ما لم يثبت الردع عنه من المولى ، فمورد السيرة يشترك مع العلم في ثبوت مقتضي الحجية فيه بذاته وإن فارقه بأنه صالح للردع عنه ، بخلاف العلم فإنه علّة تامة للحجية لا تقبل الردع.

وعلى هذا لا يحتاج العمل بذلك إلى إثبات الإمضاء ، كما تجشمه غير واحد ، بل ولا إلى عدم الردع واقعا ، بل يكفي عدم ثبوت الردع ، لحكم العقل بلزوم متابعة المقتضي في مثل ذلك ما لم يثبت الردع عنه حتى لو احتمل كون عدم الردع لعدم تيسره للمولى ، كما يشهد به التأمل في المرتكزات العقلائية القطعية.


ومن ثمّ لا يظن من أحد التشكيك في الإلزام والالتزام بظاهر كلام المولى لو احتمل كون عدم ردعه عن العمل بالظهور لعدم تيسر الردع له.

ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من عدم ثبوت هذا الوجه وإن كان من أحسن الوجوه في الاستدلال بالسيرة.

إذ يكفي في ثبوته ما عرفت من المرتكزات القطعية الراجعة إلى حكم العقل القطعي بالتعذير والتنجيز على طبق السيرة المذكورة.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه من قوله في الكفاية : «ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو في صورة المخالفة عن الواقع يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع على اتباعه في الشّرعيات».

كما ظهر أن الحجية حينئذ لا يصح نسبتها للشارع الأقدس أو غيره من الموالي ، لعدم استنادها إليه ، بل هو ملزم عقلا بها.

نعم ، لو لم يردع مع تمكنه من الردع تكون الحجية مستندة إليه لاستناد بقائها إليه.

إذا عرفت هذا ، فلا ينبغي الإشكال في بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد في الجملة وسيرتهم على ذلك. كما لا إشكال في أنها من القسم الثاني المستند لارتكازياتهم على صلوحه للاعتماد والعمل ، وذلك كاف في حجيته مع عدم ثبوت الردع عنه ، كما ذكرنا.

بل ذكر غير واحد أن عدم ثبوت الردع كاشف عن الإمضاء ، فإن السيرة المذكورة بمرأى من الشارع الأقدس ومسمع ، فلو لم يكن راضيا عنها لردع عنها ، كما ردع عن القياس ، ولو ردع عنها لوصل الردع ، كما وصلنا الردع عن القياس ، لتوفر الدواعي على نقله. بل لا ينبغي الإشكال في ظهور أكثر الادلة


المتقدمة في الامضاء ، وإن كان هذا رجوعا عن الاستدلال بالسيرة إلى الاستدلال بها كما لا يخفى.

نعم ، قد يدعى صلوح العمومات الناهية عن العمل بغير العلم للردع عن السيرة المذكورة. وقد تصدى غير واحد للمنع عن ذلك لوجوه ذكروها في المقام ..

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن مرجع حرمة العمل بما عد العلم أمران ..

الأول : أن التعبد. بغير العلم مستلزم للتشريع المحرم بالأدلة الاربعة.

الثاني : أن فيه طرحا للأصول اللفظية والعملية المعتبرة شرعا.

وكلا الوجهين غير جار في العمل بالخبر بعد استقرار سيرة العقلاء على العمل به ، لانتفاء التشريع مع بنائهم على العمل به ، ولذا يعولون عليه في أوامرهم العرفية مع قبح التشريع فيها عندهم ، كالأحكام الشرعية.

وأما الأصول فهي لا تجري مع الخبر. أما اللفظية منها فلعدم بناء العقلاء على اعتبارها مع وجود الخبر في مقابلها.

وكذا العملية العقلية ـ وهي البراءة والاحتياط والتخيير ـ لأن نسبة حكم العقل بالعمل بها إلى الأحكام العرفية والشرعية سواء ، وحيث كان الخبر بعد فرض بناء العقلاء على العمل به مانعا من حكم العقل بمقتضاها في الأحكام العرفية كان مانعا منه في الأحكام الشرعية.

وأما الاستصحاب فإن اخذ من العقل فلا إشكال في أنه لا يفيد الظن في المقام ، وإن اخذ من الأخبار فهي آحاد لا تقتضي الا الوثوق.

وفيه : أن عدم صدق التشريع مع الخبر في الأحكام العرفية إنما هو لبنائهم على حجيته وعدم الرادع في أحكامهم عنه ، فلا وجه لقياس الأحكام الشرعية بها مع فرض عموم دليل حرمة العمل بغير العلم للخبر ، وصلوحه للردع


الشرعي عن حجيته ، الموجب لكون التعبد به في الأحكام الشرعية تعبدا بغير الحجة وتشريعا محرما.

ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره في الأصول اللفظية والعملية العقلية ، فان عدم جريانها مع الخبر في الأحكام العرفية لكونه حجة عند العرف رافعا لموضوعها ، وهو لا ينافي جريانها معه في الأحكام الشرعية لو فرض ردع الشارع عنه بالعمومات المذكورة.

على أن اختصاص الأصول الشرعية بالاستصحاب لا وجه له ، بل البراءة والاحتياط قد يكونان شرعيين مستندين إلى أدلة قطعية غير أخبار الآحاد ، فلا مانع من رادعيتها عن حجية الخبر. كما أن المراد بابتناء الاستصحاب العقلي على افادة الظن ـ لو سلم ـ إنما هو بمعنى كونه مفيدا للظن نوعا ، فلا يرتفع موضوعه مع الخبر ، كما لا يرتفع مع غيره من الامارات التي لم تثبت حجيتها أو ثبت الردع عنها.

نعم ، الأصول اللفظية الثابتة ببناء العقلاء لا تنهض بالمنع عن العمل بالخبر الثابت ببناء العقلاء أيضا ، لأن نسبة أدلة حرمة العمل ـ بما عدا العلم ـ إلى الأصول المذكورة والخبر واحدة ، فإن صلحت للردع كانت رادعة عنهما معا ، فيكون رفع اليد عن الأصول بالخبر رفعا لليد عن غير الحجة بغير الحجة ، وإلا لم تصلح للردع عنهما معا ، فيكون رفع اليد عن الأصول بالخبر رفعا لليد عن الحجة بالحجة.

اللهم إلا أن يفرض القطع بعدم الردع عن الأصول المذكورة تخصيصا لعمومات الادلة المذكورة ، فتصلح الأصول المذكورة للمنع من العمل بالخبر بعد فرض حجيتها وصلوح العمومات للردع عنه.

وبالجملة : لا وجه لقياس العمل بالخبر في الأحكام الشرعية بالعمل به في الأحكام العرفية ، بعد فرض عدم الردع عنه من قبل الموالي العرفيين الموجب


لحجيته في أحكامهم ، وفرض كون مقتضى عموم أدلة حرمة العمل بغير العلم الردع عنه الموجب لعدم حجيته شرعا ، فيكون التعبد به في الأحكام الشرعية تشريعا محرما ، ومخالفا للأصول الجارية فيها المفروض اعتبارها.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من استحالة الردع عن السيرة بالعمومات المذكورة ، للزوم الدور منه ، لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيصها بالسيرة ، وهو يتوقف على الردع بها عنها ، إذ مع عدم الردع بها عنها تكون حجة صالحة للتخصيص.

وفيه : أن صلوح العمومات للردع عن السيرة فعلي ناشئ من فعلية ظهورها المفروض الحجية ، وصلوح السيرة لتخصيص العمومات موقوف على حجيتها الموقوفة على عدم الردع عنها بالعمومات ، ولا مجال للتوقف عن المقتضي التنجيزي بالمقتضي التعليقي ، بل يجب البناء على المقتضي التنجيزي ورفع اليد به عن المقتضي التعليقي ، لعدم فعلية تأثيره في مرتبة المقتضي التنجيزي ، ففي مرتبة ظهور العمومات المفروضة الحجية تكون رادعة عن السيرة مانعة من حجيتها ومن صلوحها للتخصيص.

الثالث : ما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه وصرح به بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن عمل العقلاء بالخبر لما كان مبنيا على بنائهم على أن حاله حال العلم وعلى تتميم كاشفيته وإلغاء احتمال الخلاف معه كان خارجا عن موضوع العمومات ، فلا تصلح للردع عنه. وكأن ما ذكره بعض مشايخنا من حكومة السيرة على العمومات المذكورة راجع إلى ذلك.

وفيه : أنه لو سلم ابتناء حجية الخبر على تتميم كاشفيته فلا يكفي في خروجه عن العمومات تتميم كشفه بنظر العقلاء ، بل لا بد من تتميم كشفه عند الشارع ، ولا مجال لإحراز ذلك مع ظهور العمومات في الردع عنه.

هذا ، ولو فرض ثبوت الإمضاء للسيرة من قبل الشارع كان الخبر خارجا


عن موضوع العمومات ، إلا أن ذلك لا يستند إلى السيرة ، بل إلى دليل الامضاء الحاكم على العمومات أو المخصص لها ، وهو خروج عن محل الكلام.

نعم ، قد يكون استحكام السيرة على العمل بالخبر وبناء العقلاء على صلوحه له بما هم عقلاء موجبا للغافلة عن شمول العمومات له ، فلا يترتب على العمومات الارتداع عنه ولا يتأدى بها الغرض ، ويحتاج ذلك إلى ردع خاص رافع للعلة ، بل ردع كثير يناسب استحكام العمل بالخبر وعمومه أكثر من الردع عن القياس الذي عمل به طائفة خاصة من الناس ، فعدم ورود ذلك من الشارع واقتصاره على العمومات المذكورة كاشف عن عدم تصديه بها للردع عن السيرة ، كما اشير إليه في كلام بعض أفاضل العصر.

لكن هذا ـ لو تم ـ لا يحتاج إلى فرض ابتناء عملهم على تتميم الكشف.

هذا كله مع قطع النظر عما عرفت من الأدلة الكثيرة ومنها سيرة العقلاء والمتشرعة على إمضاء السيرة المذكورة الكاشف عن تخصيص العمومات على تقدير تماميتها.

مع أنه تقدم منا في تحقيق مقتضى الأصل عند الشك في الحجية المناقشة في ثبوت العمومات المذكورة. فلا ينبغي الإشكال في الرجوع للسيرة في المقام وصحة الاستدلال بها.

بل هي من أهم الأدلة ، لنهوضها بتحديد ما هو الحجة ، بخلاف بقية الأدلة ، فإنه لا إطلاق لها ينهض بذلك غالبا.

الرابع : من الادلة التي يستدل بها على حجية الخبر : دليل العقل وهو من وجوه ..

بعضها يختص باثبات حجية خبر الواحد ، وبعضها يقتضي حجية الظن مطلقا أو في الجملة ، ليدخل فيه الخبر ، أو يختص به بضميمة مقدمة خارجية ، وهو كونه متيقن الحجية من بين الظنون على تفصيل يذكر في محله. ونحن


نقتصر هنا على القسم الأول ، ونخص القسم الثاني بفصل مستقل ، لعدم كون المقصود به خصوص الخبر وإن أفاد حجيته.

فاعلم أنه قد قرب دليل العقل في المقام بوجوه عمدتها : أن التأمل في طريقة أصحابنا (رضي الله عنهم) في حفظ الأخبار وشدة احتياطهم في جمعها يوجب العلم بصدور بعضها ، بل أكثرها ، كما أوضحه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، بل هو أظهر من أن يحتاج إلى توضيح.

كما أنه لا ريب في اشتمال الصادر على أحكام إلزامية ، ولا يحتمل كون الصادر خصوص ما يتضمن الأحكام غير الإلزامية كي لا يكون أثر للعلم الإجمالي المذكور في التنجيز ، وحينئذ فالعلم الإجمالي المذكور يقتضي العمل بجميع الأخبار المتضمنة للأحكام الإلزامية.

إلا أن يفرض امتناع الجمع بينها عملا ، كما في الدوران بين المحذورين ، فيتعين حينئذ التخيير أو ترجيح المظنون الصدور أو المطابقة للواقع ، على الكلام في ذلك في مبحث الدوران بين محذورين.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لزوم العمل بكل خبر والترجيح بالظن عند التعارض مطلقا وإن كان التعارض بين الخبر المتضمن لحكم إلزامي والخبر المتضمن لحكم ترخيصي.

فلا وجه له ، لعدم اقتضاء العلم الإجمالي المذكور لزوم العمل بالخبر المتضمن للحكم الترخيصي بنحو يتوقف لأجله عن العمل بالخبر المتضمن للحكم الإلزامي ، لإمكان الجمع بينهما عملا ، فيتعين عملا بالعلم الإجمالي المذكور.

نعم ، لو فرض لزوم العسر من العمل بجميع الأخبار المتضمنة لأحكام إلزامية لكثرتها فقد يتجه الاقتصار على خصوص مظنون الصدور أو المطابقة للواقع منها ، لما ياتي في دليل الانسداد. إلا أن الفرض المذكور غير ظاهر ، لعدم


وضوح كثرة الأخبار بالنحو المذكور.

ثم إنه قد يستشكل في الدليل المذكور بوجوه :

الأول : أن وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنما هو من حيث وجوب العمل بالتكاليف الواقعية الحاصلة في مواردها ، وحينئذ فالتكاليف المعلومة بالإجمال لا تختص بموارد الأخبار ، بل تسع جميع موارد الطرق الظنية غير المعتبرة في أنفسها ، كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية وغيرها ، بل جميع الشبهات الحكمية وإن لم تكن موردا للطرق الظنية ، وهو يستلزم الاحتياط فيها إلا أن يستلزم العسر أو اختلال النظام ، على ما يأتي الكلام فيه في دليل الانسداد ، ولا خصوصية في ذلك لموارد الطرق ، فضلا عن خصوص موارد الأخبار.

نعم ، قد يدعى انحلال العلم الإجمالي الكبير المذكور بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في خصوص موارد الطرق ، لأنه أخص منه موردا وداخل في ضمنه ، فلا تتنجز إلا موارد الطرق من دون فرق بين الأخبار وغيرها.

وهو مبني على ما هو الظاهر من عدم العلم بوجود أحكام أخر في غير موارد الطرق ، وإلا لزم وجوب الاحتياط فيها حتى مع فرض حجية الطرق ، ومن المعلوم عدم الالتزام بذلك ، بل لا ريب في عدم وجوب الاحتياط في غير موارد الأخبار لو فرض حجيتها وحدها بالخصوص ، لوفائها بالمقدار المعلوم بالإجمال حينئذ وإن كانت أقل من الطرق.

إن قلت : لا ريب في عدم انحلال العلم الإجمالي بالظن بالتكليف في بعض أطرافه إذا لم يكن حجة صالحا لتمييز المعلوم بالإجمال ، فإذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين لم ينفع الظن بكون النجس أحدهما في جواز ارتكاب الآخر.

قلت : هذا إنما يكون لو لم يتنجز مورد الظن بعلم إجمالي ، كما في المقام ،


حيث فرض العلم الإجمالي بإصابة بعض الطرق للتكاليف الواقعية ، إذ مع تنجز أطرافه به ينحل العلم الإجمالي الكبير لا محالة.

نعم ، لو فرض في المقام احتمال خطأ جميع الطرق الظنية ، وانحصار التكاليف في الشبهات الخالية عنها اتجه عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير ، ويكون حينئذ نظير مثال الإنائين المتقدم. لكن لا يظن بأحد دعوى ذلك.

إن قلت : على هذا يتجه انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف في ضمن جميع الطرق بالعلم الإجمالي بوجودها في ضمن خصوص موارد الأخبار ، لما تقدم من وفاء الأخبار بالمعلوم بالإجمال ، فلا يجب الاحتياط في الموارد التي تنفرد بها بقية الطرق عن الأخبار ، ولا يتم أصل الإشكال.

قلت : وفاء الأخبار بالمعلوم بالإجمال إنما يوجب الانحلال لو كانت موارد الأخبار أخص مطلقا من موارد بقية الطرق لتنجز موارد الأخبار بالعلم الإجمالي الحاصل فيها على كل حال ، فيمنع من تنجز بقية الاطراف بالعلم الإجمالي الشامل لها ، أما حيث كان بين موارد الأخبار وموارد بقية الطرق عموم من وجه فلا مجال للانحلال ، إذ وفاء موارد الأخبار بالمعلوم بالإجمال لكون بعضها ، بل كثير منها ، موردا لبقية الطرق ، لا لخصوصية للأخبار في العلم الإجمالي المذكور ، ولذا لا يبعد وفاء موارد بقية الطرق ـ التي منها موارد الاشتراك بينها وبين الأخبار ـ بالمعلوم بالإجمال ، فلو كان ذلك كافيا في انحلال العلم الإجمالي لزم الاحتياط في خصوص موارد بقية الطرق ، دون الموارد التي تنفرد بها الاخبار.

نعم ، لو كان مورد اجتماع الأخبار مع بقية الطرق وافيا بالمعلوم بالإجمال كان اللازم تنجزه وحده وانحلال العلم الإجمالي به. فيلزم عدم وجوب متابعة بقية الطرق في مورد انفرادها عن الأخبار ، ولا الأخبار في مورد انفرادها عن بقية الطرق. إلا أن وفاءه بالمعلوم بالإجمال غير ظاهر.


وبالجملة : بعد فرض عدم حجية الأخبار بالخصوص وكون النسبة بينها وبين بقية الطرق العموم من وجه يتعين عدم خصوصيتها من بين أطراف العلم الإجمالي بنحو تقتضي انحلاله ولزوم العمل بجميعها.

نظير ما لو كان هناك عشر أوان ، سبع منها خزف ، وسبع بيض ، تجتمع البيض والخزف في أربع منها ، وعلم إجمالا بنجاسة ست من العشر ، فإن كلا من البيض والخزف وإن كانت وافية بالمعلوم بالإجمال ، إلا أنها لا تقتضي انحلال العلم الإجمالي ، لعدم المرجح لأحد الصنفين في التنجز.

نعم ، لو قامت البينة على نجاسة الخزف كان تنجزها بالبينة موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، لترجحها بسبب البينة في التنجز على بقية الأواني وإن احتمل خطأ البينة.

ومنه يظهر الوجه في انحلال العلم الإجمالي بالأخبار لو فرض ثبوت حجيتها بالخصوص ، لأن حجيتها كافية في ترجيحها على بقية الطرق ، وتنجيز مواردها ، وحل العلم الإجمالي بها وإن احتمل خطؤها.

نعم ؛ قد يقال : الأخبار وإن لم تفرض حجيتها بالخصوص إلا أن العلم الإجمالي بصدور بعضها يقتضي خصوصيتها في التنجز ، إذ ليست هي كبقية.

الطرق ، لأن صدور الخبر مقتض للعمل به وإن لم يعلم بمطابقة ظهوره للواقع ، لاحتمال احتفافه بالقرينة ، أو صدوره تقية أو نحوهما ، بخلاف بقية الطرق ، فإنها لا تقتضي العمل بأنفسها ، بل من جهة العلم بإصابتها للواقع.

وحينئذ فالعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار المتضمنة للتكاليف الإلزامية موجب لخصوصية موارد الأخبار في التنجز ، لرجوعه الى العلم بقيام الحجة على التكاليف الواقعية في ضمن موارد الأخبار ، الموجب لتنجزها مع قطع النظر عن العلم الإجمالي بوجود تكاليف في جميع موارد الشبهات الحكمية ، أو في خصوص موارد الطرق غير المعتبرة ، فيصلح لحل العلم


الإجمالي المذكور ، ولا يتنجز حينئذ إلا موارد الأخبار.

وأما المنع من الانحلال من جهة أن الأخبار وان كانت وافية بالمعلوم بالإجمال ، إلّا أن التكاليف المعلومة في ضمنها لما كانت أقل من التكاليف المعلومة في ضمن مطلق الطرق لم تصلح لحل العلم الإجمالي بالأكثر ، فالمقام نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة ست من عشر أوان فيها سبع خزف علم بنجاسة أربع منها ، فإن الخزف وإن كانت وافية بالمعلوم بالإجمال ، إلا أن المحرمات المعلومة فيها لما لم تكن بقدر المحرمات المعلومة في ضمن تمام العشر لم تصلح لحل العلم الإجمالي القائم بتمام العشر.

ففيه .. أولا : أن التكاليف المعلومة في ضمن الأخبار ليست أقل من التكاليف المعلومة في ضمن جميع الطرق ، إذ لا طرق لإحراز وجود تكاليف في موارد بقية الطرق لا تدل عليها الأخبار.

وثانيا : أن ذلك لو سلم لا يكون مانعا من الانحلال ، لأن التكاليف المعلومة في ضمن الأخبار وإن كانت قليلة ، إلا أنها لما كانت منجزة لجميع موارد الأخبار لزم الاحتياط في الأخبار مع قطع النظر عن العلم الإجمالي القائم بجميع الطرق ، فلا يكون للعلم الإجمالي القائم بجميع الطرق أثر بالإضافة إلى الأخبار ، فلا يؤثر في بقية أطرافه ، لأنه يعتبر في منجزية العلم الإجمالي كونه منجزا لتمام أطرافه ، فلو كان بعضها منجزا في نفسه امتنع الرجوع فيه للأصول الترخيصية فلا يمنع العلم الإجمالي من الرجوع لها في بقية الأطراف لعدم معارضتها بمثلها في الأطراف الأخر المنجزة في نفسها.

وبالجملة : الظاهر أن ما ذكر من انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف في ضمن جميع الشبهات الحكمية ، أو في ضمن خصوص موارد الطرق غير العلمية بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في ضمن خصوص الأخبار متجه في نفسه ، ولازمه وجوب الاحتياط في خصوص الأخبار ، وجواز الرجوع في بقية


الشبهات للأصول الترخيصية. فلاحظ.

الوجه الثاني : مما يستشكل به في الدليل العقلي المذكور : أنه لا ينهض بإثبات حجية الأخبار ليرفع به اليد عن العمومات والإطلاقات وغيرها من الظواهر الواردة في الكتاب المجيد والسنة المتواترة ، وعن الأصول العقلية والشرعية.

ويندفع بأن الاخبار حينئذ وان لم تنهض بالخروج عن الظهورات والحكومة على الأصول بعد فرض حجيتها ، إلا أن العلم الإجمالي بصدور الأخبار المتضمنة للاخبار الإلزامية يكون مانعا عن حجية الظهورات والأصول المذكورة ، لأن العمل بها معه يكون مؤديا إلى المخالفة الإجمالية للتكاليف المنجزة في ضمن الأخبار ، وذلك موجب لسقوط الظهور والأصل عن الحجية.

الوجه الثالث : أن الوجه المذكور لما كان مختصا بالأخبار المتضمنة للاحكام الالزامية فلا مجال للعمل بالأخبار المتضمنة للأحكام الترخيصية ، والخروج بها عن الظواهر المشتملة على التكاليف وعن الأصول الإلزامية ، بل يلزم حينئذ الاحتياط بالعمل على طبق الظواهر والأصول المذكورة ، لأنه وإن علم بالخروج عنها إجمالا ، إلا أنه لا يكفي في إهمالها بعد العلم إجمالا بعدم الخروج عنها في كثير من الموارد ، بل يجب الاحتياط في جميع الموارد التي لم يعلم بالخروج عنها فيها تفصيلا.

وهذا بالإضافة إلى لزوم الاحتياط في جميع الأخبار الإلزامية قد يستوجب الحرج الملزم بالرجوع للظن على التفصيل الآتي في دليل الانسداد.

على أن الوجه المذكور إنما يقتضي العمل بالخبر احتياطا ، لا لحجيته في نفسه الذي هو محل الكلام ، والذي تقتضيه بقية الأدلة المتقدمة من الكتاب والسنة والإجماع ، فلا ينبغي التعويل عليه معها ، لأنها في رتبة متقدمة عليه ، إذ هي تقتضي تشخيص ما هو الحجة من الأخبار وحل العلم الإجمالي المذكور


بنحو يسقط عن اقتضاء الاحتياط.

ومنه يظهر الإشكال في بقية الوجوه لتقرير الدليل العقلي في المقام مما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره ، وأطالوا الكلام فيها ، ولا يسعنا استقصاء ذلك مع ما عرفت.

هذا ما وسعنا ذكره من حجج المثبتين ، وقد عرفت أن عمدتها الأخبار والإجماع. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

المقام الثالث : في تحديد ما هو الحجة من أقسام خبر الواحد بعد الفراغ عن حجيته في الجملة حسبما استفيد مما تقدم في المقام الثاني.

اعلم أنه اشتهر بين المتأخرين تقسيم أخبار الآحاد إلى أقسام أربعة ..

الأول : الصحيح ، وهو ما كان رواته عدولا إماميين.

الثاني : الموثق ، وهو ما كان في رواته غير إمامي ثقة.

الثالث : الحسن ، وهو ما كان في رواته ممدوح بالخير والصلاح ولم ينص على عدالته ، والظاهر لزوم كون المدح بنحو يوجب الوثوق به والأمن من كذبه.

الرابع : الضعيف ، ويدخل فيه ما كان بعض رواته مجروحا ، أو مجهول الحال ، إما مع معرفة اسمه ، أو بدونه ، كما في المرفوع والمرسل.

هذا ، وقد عرفت أن عمدة الأدلة التي يستفاد منها حجية الخبر هي الأخبار والإجماع العملي ، بوجوهه الثلاثة الراجعة إلى إجماع العلماء والمتشرعة والعقلاء.

أما الأخبار فحيث لم تكن متواترة لفظا ولا معنى ، بل إجمالا ، كان اللازم الاقتصار فيها على المتيقن المستفاد من جميعها ، ولا يتضح إمكان استفادة حجية قسم منها متفق عليه ، لعدم تعرضها غالبا لبيان حجية الخبر ، وإنما استفيد منها حجيته في الجملة لظهورها في المفروغية عن حجيته ، فاللازم الاقتصار


على المتيقن من الكل ، وقد قيل : إنه الخبر الصحيح.

ولكن قد يستفاد من ذلك حجية خبر الثقة وإن لم يكن عدلا ، بدعوى : أنه حيث كان في الأخبار الصحيحة ما يدل على حجية خبر الثقة مطلقا ، لزم البناء على حجيته وإن لم يتواتر ما دل على حجيته ، كما ذكر ذلك بعض مشايخنا ، ونسبه للمحقق الخراساني قدّس سرّه.

وفيه : أنه لم يتضح وجود خبر صحيح يدل على حجية خبر الثقة مطلقا ، فان ما سيأتي من الأخبار ليس فيها ما هو الصحيح اصطلاحا. ولا سيما مع أن المتيقن ليس كل صحيح ، بل خصوص من علم أو قامت البينة على تزكية جميع رجال سنده ، فإن قبول خبر العدل الواحد في التزكية لا يمكن استفادته من الأخبار ، لاختصاصها بالروايات ، وإنما يستفاد من السيرة التي لسنا بصدد الاستدلال بها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للاستدلال بصحيح حريز المتقدم في آية النفر ، المتضمّن لقوله عليه السّلام : «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم» ، بدعوى : دخوله في المتيقن من النصوص ، لأنه صحيح ، ودلالته على حجية خبر كل مؤمن وإن لم يكن عادلا ، غاية الأمر تخصيصه بخبر الثقة ، أو بمطلق ما يوثق بصدوره من الأخبار ولو لقرائن خارجية ، فيتعدى منه لخبر غير المؤمن الثقة ، أو الموثوق بصدوره ، لعدم القول بالفصل بين خبر المؤمن غير العادل وخبر غيره.

إذ فيه : أن الصحيح المذكور غير داخل في المتيقن ، إذ لم يوثق حريز إلا الشيخ قدّس سرّه في الفهرست ، بل قد يدعى أن الثابت به كونه ثقة لا عادلا. وتمام الكلام في محله.

على أن الاستدلال المذكور ـ مع ابتنائه على رجوع عدم الفصل في المقام إلى الإجماع على عدمه ـ مبني على عموم المؤمن في الحديث لغير العادل ، وهو لا يخلو عن إشكال فإن كثيرا من النصوص ظاهرة في كون العمل من شروط


الإيمان أو متمماته. وهو المناسب للاستشهاد في الحديث بالآية الكريمة الواردة في مقام مدح المؤمنين في قبال المنافقين ، بل هو المناسب لمورد الحديث ، وهو الاخبار عن الموضوع الخارجي ـ وهو شرب الخمر ـ الذي يعتبر فيه العدالة بلا إشكال.

بل قد يدعى كون ذلك مانعا من إطلاق الحديث بنحو يقتضي عدم اعتبار التعدد ، ولا سيما مع التعبير فيه بالشهادة. فلاحظ.

هذا ، وقد يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه دعوى تواتر ما دل على حجية الخبر الموثوق به صدورا أو مضمونا وإن لم يكن راويه ثقة ، فضلا عما لو لم يكن عادلا ، حيث يستفاد حجيته مما دل على الترجيح بشهرة الرواية ووثاقة الراوي وعدالته ، والترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فإنهما يوجبان الوثوق بالمضمون. وما دل على الإرجاع لآحاد الرواة بنحو يظهر منه كون منشئه الوثوق بخبرهم. وما دل على جواز الرجوع لكتب بني فضال.

وفيه : أن الترجيح بما يوجب الوثوق الشخصي من شهرة الرواية ونحوها أو غيره لا ينافي اعتبار قيود تعبدية في أصل الحجية كالعدالة.

وما دل على الترجيح بوثاقة الراوي أو عدالته لا يقتضي الاكتفاء بالوثوق بالخبر ولو لم يكن الراوي ثقة ، أو عادلا.

وموافقة الكتاب لا توجب الوثوق بمضمون الخبر ، لكثرة تخصيص الكتاب المانع من الوثوق الشخصي بعمومه.

ومخالفة العامة من القريب أن تكون من المرجحات الجهتية الخارجة عما نحن فيه.

وما دل على الإرجاع لآحاد الرواة قد تقدم عند التعرض لأخبار المسألة الإشكال في الاستدلال به للمقام.

وما دل على جواز الرجوع لكتب (بني فضال) إنما يدل على الاكتفاء


بالوثوق في الراوي وإن لم يكن عادلا ، ولا يدل على الاكتفاء بالوثوق بالخبر مع عدم الوثوق بالراوي. مع أنه خبر واحد.

وأما استفادة ذلك من بقية الأخبار فهو غير ظاهر. فإن حملها على ذلك وإن كان قريبا جدا ، بلحاظ كونه ارتكازيا يناسب عمل الأصحاب ، إلا أنه لا مجال لاستفادته من النصوص ودعوى ظهورها فيه ، ولا سيما مع عدم صدور أكثرها لبيان الحجية ، بل لبيان أمر آخر يستفاد منه المفروغية عن الحجية في الجملة. خصوصا مع لزوم كون المضمون متواترا ولو إجمالا ليمكن البناء عليه في هذه المسألة.

نعم ، لا يبعد دعوى أن النظر في النصوص يوجب العلم بحجية خبر الثقة ، لدلالة نصوص كثيرة عليه ، مثل ما ورد في كتب (بني فضال) ، وخبر الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السّلام ، قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق. قال : «فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» ، وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السّلام ، «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم ، فترد إليه» (١) ، وما في رواية عمر بن يزيد المتقدمة في آية الإيذاء من قوله عليه السّلام : «إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر ..» ، وما تقدم في الاستدلال بالسنة عن روضة الواعظين من قوله صلّى الله عليه وآله : «من تعلم بابا من العلم عمن يثق به ..». وما ورد في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ..) حيث يظهر منه جواز الاعتماد على خبر المضيع للحديث الذي هو غير عادل غالبا ، وما عن الكاظم عليه السّلام في كتابه لعلي بن سويد : «لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا ، فانك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ..» فإن تعليل عدم القبول من غير الشيعة بخيانتهم ظاهر في كون منشئه

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٠ ، ٤١.


عدم الوثوق به ، فيدل على أن المدار على الوثوق. وقريب منه ما عن تفسير العسكري عليه السّلام الوارد في التقليد ، بناء على عمومه للرواية ، كما تقدم عند التعرض للنصوص ، وعلى أن ظاهر التعليل فيه كون اعتبار ما اعتبر فيه من الشروط لأجل ملازمتها للوثوق ، لا تعبدا. مضافا إلى ما تقدم بطرق متعددة من قولهم عليهم السّلام : «لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها» ، بناء على أن المراد بالصادق من له ملكة الصدق الذي هو الثقة ، لا من هو صادق بالفعل في الخبر الشخصي ، لندرة الاطلاع على ذلك في غير المعصوم. فتأمل.

فإن النصوص المذكورة ظاهرة في حجية خبر الثقة وإن لم يكن عادلا ، بل ظاهر كثير منها المفروغية عن ذلك ، مع اعتضادها ببعض المطلقات ، وبما تقدم من أن هذا حيث كان ارتكازيا كان حمل بقية النصوص عليه قريبا جدا ، وإن لم يمكن دعوى دلالتها عليه ، لعدم ورودها في مقام البيان. والتأمل في جميع ذلك يوجب القطع بحجية خبر الثقة.

بل قد يدعى أن أخذ الوثوق في الراوي إنما هو لأجل حصول الوثوق بروايته ، لمناسبته للارتكاز العقلائي ، فلو فرض حصول الوثوق برواية من ليس ثقة في نفسه دخل في الأدلة المذكورة.

وهو لا يخلو عن إشكال ، لأن الظاهر كون الوثوق بالراوي موجبا لحجية روايته وإن لم يحصل الوثوق بها ما لم تقم القرائن الموجبة لاستبعاد صدقها.

بل قد يقال : إن المتيقن من النصوص المتقدمة حجية رواية الثقة لا كل خبر له ، وحينئذ فلا يجتزأ في توثيق الراوي بخبر الواحد ، بل لا بد من العلم به أو قيام البينة. وهو موجب لسقوط كثير من الروايات.

اللهم إلا أن يتعدى عن مورد النصوص الى مطلق خبر الثقة لفهم عدم الخصوصية ، ولا سيما مع كون خصوصية خبر الثقة ارتكازية يصعب التفكيك فيها بين الموارد. فلاحظ.


هذا كله في مقتضى الأخبار ، وأما الإجماع فقد عرفت أن الاستدلال منه بالاجماع العملى ، من العلماء والمتشرعة والعقلاء.

ولا ينبغي الريب في عموم إجماع قدماء الأصحاب العملي لخبر الثقة وإن لم يكن إماميا عدلا ، وكذا خبر الضعيف المحتف بالقرائن الموجبة للوثوق بصدوره ، مثل أخذه من الأصول المعتمدة عند الأصحاب ، واعتماد قدمائهم عليه في مقام الفتوى ، وغير ذلك مما يذكر في محله.

وقد صرح الشيخ قدّس سرّه في العدة بذلك في غير موضع من كلامه ، قال قدّس سرّه في حال ما يرويه المخالف الثقة : «أما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة عليهم السّلام نظر في ما يرويه ، فإن كان هناك من طرق الوثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره .. وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ، ولا يفرق لهم قول فيه وجب أيضا العمل به ، لما روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال : «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها في ما روي عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه السّلام فاعملوا به» ، ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث ، وغياث بن كلوب ، ونوح بن دراج ، والسكوني ، وغيرهم من العامة ، عن أئمتنا عليهم السّلام في ما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه».

ثم ذكر نظير ذلك في فرق الشيعة غير الاثنى عشرية ، وقال : «فلأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية ، مثل عبد الله بن بكير وغيره ، وأخبار الواقفة ، مثل سماعة بن مهران ، وعلي بن حمزة ، وعثمان بن عيسى ، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال ، وبنو سماعة ، والطاهريون وغيرهم في ما لم يكن عندهم فيه خلافه».

ثم ذكر الغلاة وأن أخبارهم ترد في حال تخليطهم ، ثم قال : «وكذلك القول في ما يرويه المتهمون والمضعفون. وإن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على


صحتها وجب العمل به .. فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحررا فيها فإن ذلك لا يوجب رد خبره ، وكذا كون العمل به ، لأن العدالة في الرواية حاصلة فيه ، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره ، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم».

ثم استطرد في ذكر اختلاف الأخبار إلى أن قال : «وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر في حال المرسل ، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوت [ميزت خ. ل] الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، وغيرهم من الثقاة الذي عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به ، وبين ما أسنده غيرهم. ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم. فأما إذا لم يكن كذلك ، ويكون ممن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة فإنه يقدم خبر غيره عليه ، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به. فاما إذا انفردت المراسيل فجواز العمل بها على الشرط [الوجه خ. ل] ذكرناه (كذا). ودليلنا على ذلك الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد ، فإن الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل ، فما يطعن في واحد منهما يطعن في الآخر ، وما أجاز أحدهما أجاز الآخر ، فلا فرق بينهما على حال ..» (١).

وقال في مقدمة الفهرست : «فإذا ذكرت كل واحد من المصنفين وأصحاب الأصول فلا بد من أن أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح ، وهل يعول على روايته أولا؟ وابين عن اعتقاده وهل هو موافق للحق أو هو مخالف له ، لأن كثيرا من مصنفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة وإن كانت كتبهم

__________________

(١) العدة ج : ١ ص ٥٦ ، ٥٧ ، ٥٨.


معتمدة» ، وهو صريح في الاعتماد على كتب ذوي المذاهب الفاسدة ، ولا وجه لاعتمادهم عليها إلا ثقتهم في أنفسهم أو احتفافها بما يوجب الوثوق بها ، وإلا فمن البعيد جدا احتفافها بما يوجب العلم بثبوت جميع ما فيها. كيف وقد صرح نفسه في ما تقدم نقله عنه في العدة بعدم تيسر القرائن القطعية؟!.

وقد أطال في خاتمة الوسائل في ذكر القرائن التي تشهد بصحة الأخبار الموجودة في الكتب ، والظاهر أنه يريد ما يوجب الوثوق بها ، لا العلم التفصيلي بصحة كل خبر فيها ، وعلى كل حال فما ذكره شاهد بتسالم الأصحاب على العمل بأخبار الثقات غير العدول ، بل أخبار الضعاف مع احتفافها بقرائن توجب الوثوق بصدورها.

وأدنى سبر لكتب الأصحاب بما فيها الكتب الأربعة شاهد بذلك ، لاشتمالها على كثير من الأخبار غير الصحيحة بالاصطلاح المتقدم ، مع العلم بان إثباتهم لها لركونهم إليها واستدلالهم بها ، لا لمحض التدوين والحفظ ، كما يشهد به تصاريحهم والنظر في طريقتهم في الاستنباط ، مع ما هو المعلوم عندهم من حال رواتها ، فانهم أخبر منا بهم ، فما أكثر من جرحوه أو ضعفوه في كتب الرجال وأودعوا رواياته في كتب الاستدلال من غير غمز فيها.

ولم يعرف الغمز في أسانيد الروايات المذكورة في كتب الأصحاب المشهورة إلا من ابن إدريس والمحقق ومن تأخر عنهما عند اشتمال الرواية على بعض الأحكام المستبعدة في نظرهم ، مع عدم طعنهم في نظائرها من حيثية السند ، بل يعملون بها متسالمين على قبولها ، مما يشهد بأن طعنهم ناشئ عن الاستبعاد المذكور الذي قد يجر للتشبث بما لا يصح التشبث به ، لعدم إمكان الالتزام بلوازمه.

كيف ومن المعلوم أن تقسيم الأخبار إلى الأقسام الأربعة المتقدمة قد حدث متأخرا؟! فقد قيل : إن أول من اصطلح ذلك السيد جمال الدين أحمد بن


طاوس ، وتبعه تلميذه العلامة (قدس سرهما) ، ولم تكن طريقة من تقدم على ذلك ، ولا التعويل عليه أو التقيد به ، بل كان الصحيح عندهم ـ كما عن البهائي في مشرق الشمسين ـ ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه.

وأي إجماع أقوى من مثل هذا الإجماع الذي جرى عليه قدماء الأصحاب في مقام العمل بعد الغيبة مدة تزيد على ثلاثة قرون ، وشاع بين المتأخرين جريهم على ذلك حتى اشتهر تعبيرهم بانجبار الرواية بعمل الأصحاب وقبولهم لها.

ويعلم من حال من اطلعنا عليه متابعتهم في ذلك لمن قبلهم من أصحاب الأئمة عليهم السّلام ، وجريهم على طريقتهم ، لامتناع الابتداع في مثل ذلك من الأمور المهمة التي يكثر الابتلاء بها ، لعدم خفاء طريقة الطائفة فيها ، خصوصا بعد ما تقدم من الشيخ قدّس سرّه.

بل الظاهر أن ابتناء طريقة الأصحاب في أوائل الغيبة على التشدد في الرواية والاحتياط لها أكثر مما كان عليه الأصحاب قبل ذلك في عصور الأئمة عليهم السّلام لتنبههم إلى بعض الجهات الموجبة للتشكيك في الروايات ، وقد اهتموا بتنقيحها ، لشعورهم بمسيس الحاجة لها بسبب انقطاعهم عن المعصومين عليهم السّلام ، وعدم تيسر الرجوع لهم في كشف تلك الشبه عنها ، كما يشهد به ما ينقل عنهم من استثناء بعض الروايات من الكتب ، وتوقفهم عن الرواية عن الضعفاء ، وغمزهم في بعض الرواة بما لا ينافي وثاقته ، مثل كونه يروي عن الضعفاء ، ويعتمد المراسيل ، ولا يبالي عمن أخذ .. إلى غير ذلك.

والانصاف : أن التأمل في جميع ذلك يورث القطع بتسالم الأصحاب على العمل بأخبار الثقات ، وأخبار غيرهم إذا احتفت بما يوجب الوثوق بها والركون إليها ، وعمدة ذلك عمل الأصحاب بالرواية وتدوينهم لها في اصولهم التي هي المرجع في أخذ الأحكام ، وعدم طعنهم في سندها. والتوقف في ذلك من سنخ


الوساوس التي لا ينبغي الركون اليها والاعتماد عليها. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

وأما سيرة المتشرعة فهي لا تخلو عن غموض ، فان دعوى استنكارهم أخذ معالم الدين من غير العادل وإن لم تكن بعيدة ، إلا أنه لا يبعد كون منشئها عدم الوثوق به بنحو يغافل عن فرض الوثوق بخبره لتحرزه عن الكذب أو لقرائن خارجية ، فلا مجال لجعل سيرتهم من أدلة المنع في المقام ، فضلا عن أن تنهض بمعارضة سيرة العلماء المشار إليها.

هذا ، وأما سيرة العقلاء ، فهي عمدة أدلة الباب في تحديد ما هو الحجة من أقسام الخبر ، لأنها تابعة للمرتكزات الوجدانية ، ولسيرتهم الخارجية الظاهرة ، ولا ريب في عدم أخذ العدالة في موضوعها ، بل يكفي فيه الوثوق بالمخبر. بل الظاهر أنها أعم من ذلك أيضا ، فهم يعملون بخبر غير الثقة في نفسه إذا احتف بما يوجب الوثوق بصدوره من القرائن الخارجية ، فإن القرائن المذكورة وإن لم تكن حجة في نفسها ، إلّا أنها توجب حجية الخبر ودخوله في موضوع السيرة ، بحيث لا يكون العمل به تفريطا عند العقلاء.

ومن ثمّ أشرنا في آية النبأ إلى أن التبين الرافع للندم عرفا ليس خصوص ما يوجب العلم. والظاهر أن سيرة الاصحاب التي تقدمت الإشارة إليها مبنية على سيرة العقلاء المذكورة ومتفرعة عليها ، فهي كاشفة عن إمضائها شرعا ، لا انها مبنية على محض التعبد في قبالها.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن ما هو الحجة من أقسام الخبر أربعة الأول : الخبر الصحيح.

الثاني : الموثق.

الثالث : الحسن.

الرابع : الضعيف المحفوف بالقرائن الموجبة للوثوق بصدوره ، مثل


تسالم الأصحاب على العمل به ، وعدم طعنهم فيه من جهة السند ، وتدوينهم له في اصولهم المعدّة لأخذ الأحكام ، خصوصا مع تعدد طرقهم إليه وغير ذلك.

وأن حجية القسم الأول هي المتيقن من الأدلة. وأن الأخبار قد تنهض بإثبات الثاني والثالث أيضا. وأما سيرة الأصحاب والعقلاء فهما ينهضان بإثبات حجية الأقسام الأربعة كلها.

ومن هنا فقد يستدل على حجية القسم الرابع بمنطوق آية النبأ ، بدعوى : أن المراد من التبين فيها ليس خصوص التبين الموجب للعلم ، بل ما يعم الموجب للوثوق ، بقرينة التعليل بالندم المختص بما اذا كان العمل مخالفا للطريق العقلائي ، دون المقام ، لما عرفت من اكتفاء العرف في مقام العمل بخبر غير الثقة بوجود القرائن الموجبة للوثوق بصدقه ولو في خصوص ذلك الخبر.

بل قد يتمسك لأجل ذلك بالآية لإثبات حجية بقية الأقسام ، كما ذكرناه عند الكلام في وجوه الاستدلال بالآية.

لكنه يشكل : بأن الإطلاق المذكور لا مجال له في خصوص مورد الآية الشريفة ، وهو الشبهة الموضوعية ، خصوصا ما يوجب القتل ، كالارتداد.

والالتزام بكون التقييد فيه مستفادا من أدلة خارجية ولا يمنع من التمسك بالاطلاق في سائر الموارد ـ كما في المقام ـ بعيد جدا عن المرتكزات العرفية في مقام فهم الكلام.

فلا يبعد سوق التعليل لمحض التبكيت والتأنيب للمخاطبين ، لأن خروجهم عن الطريق العقلائي ادعى للاستنكار وأوقع فيه ، لا لبيان المعيار في الحجية ، ليمكن التمسك بإطلاقه ، لإثبات الاكتفاء بالتبين غير العلمي تبعا لسيرة العقلاء.

وقد تقدم عند الكلام في مفاد التعليل في الآية ما ينفع في المقام. فتأمل جيدا.


بقي في المقام أمران ..

الأول : أنه لا يبعد اختصاص بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة بما إذا لم تقم قرائن تشهد بكذبه ، وعدم صدوره بحيث توجب الريب فيه عرفا ، وقد تقدم نظير ذلك في مبحث حجية الظواهر.

وربما يبنى على ذلك ما اشتهر من وهن خبر الثقة بإعراض الأصحاب عنه ، حتى قيل : إنه كلما ازداد السند قوة زاد وهنا بإعراضهم.

لكن الظاهر أن إعراض الأصحاب لا يوجب الوهن في السند بحيث يرتفع الوثوق معه بصدور الخبر ، بل هو موجب لارتفاع الوثوق بظهوره ، كما تقدم في مبحث حجية الظواهر.

وإلا فمن الصعب جدا التشكيك ، في صدور الروايات التي يرويها أعاظم الأصحاب بأسانيد عالية ، خصوصا مع إيداعها في الأصول المعدّة لأخذ الأحكام ونحوهما مما يعلم من حال مؤلفيها تحري خصوص ما يوثق بصدوره.

الثاني : أنه حيث كان من عمدة أدلة المقام هو سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة فمن الظاهر أنه لا يفرق في السيرة المذكورة بين الروايات وغيرها ، وذلك يقتضي عموم حجية خبر الثقة ما لم يثبت الردع عنه في خصوص مقام.

وعليه يبتني الاكتفاء في توثيق رجال السند بتزكية الواحد إذا كان ثقة أو قامت القرائن على صدقه. ولا يعتبر فيه العدالة ، فضلا عن التعدد.

هذا تمام ما تيسر من الكلام في حجية خبر الواحد. نسأله تعالى أن يكون وافيا بالمقصود ، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل. والحمد لله رب العالمين.


الفصل السّادس

حجّيّة مطلق الظّنّ



الفصل السادس

في حجية مطلق الظن

والظاهر أن الكلام هنا مختص بحال انسداد باب العلم في المسألة وانحصار الأمر بغيره ، لأن الوجوه الآتية في الاستدلال لا تقتضي لزوم الاكتفاء بالظن وعدم وجوب تحصيل العلم لو امكن.

ومنه يظهر أنه لا مجال لمنع الوجوه الآتية وإبطالها بما تظافرت الأدلة به من عموم حرمة العمل بالظن وعدم حجيته في نفسه ، وخصوص ما ورد في بعض الظنون كالقياس ، بدعوى : أنها تكشف إجمالا عن خلل في الوجوه العقلية التي اقيمت على الحجية لو فرض عدم تيسر الجواب عنها تفصيلا.

إذ يمكن حمل الأدلة المذكورة على خصوص صورة تيسر العلم بحكم المسألة ، فلا تنافي الوجوه المستدل بها في المقام لتكشف عن بطلانها.

اللهمّ إلا أن يدعى امتناع حمل الأدلة المذكورة على خصوص صورة انفتاح باب العلم بحكم المسألة ، خصوصا ما ورد في الظن الممنوع عنه بالخصوص كالقياس. وغاية ما يمكن حملها على صورة انفتاح باب العلم أو العلمي بمعظم المسائل ، وإن فرض انسداده في خصوص المسألة ، وحينئذ فالأدلة المذكورة تلائم دليل الانسداد ، دون الوجهين الأولين ، لوضوح أنه يكفي فيهما انسداد باب العلم بحكم المسألة وإن لم ينسد في المعظم ، فتكون الأدلة المذكورة كاشفة عن خلل فيهما إجمالا ، فيكونان كالشبهة في مقابل البديهة.

وكيف كان ، فقد استدل على حجية مطلق الظن بوجوه ...


الأول : أن في مخالفة الظن بالحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة الضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.

وفيه : ـ مع أن لازمه وجوب مراعاة مطلق احتمال التكليف وإن لم يكن ظنا ، بل وإن كان على خلافه حجة ، بناء على ما هو التحقيق من لزوم دفع الضرر المحتمل وإن لم يكن مظنونا. ووجوب مراعاة الظن حتى بالموضوع ، لا خصوص الظن بالحكم الكلي ، ولا قائل بهما ـ أن المراد بالضرر إن كان هو العقاب فهو ليس من لوازم التكليف الواقعية ، ليلزم من الظن بالتكليف الظن به ، بل هو من لوازم تنجز التكليف ـ بحجة أو بإيجاب الاحتياط فيه ـ فيتوقف ظن العقاب على تنجز التكليف بالظن في مرتبة سابقة ، ولا يكون بنفسه موجبا لتنجزه به ومقتضيا لحجيته.

وإن كان هو الأضرار الواقعية الملازمة للتكليف ، لما عليه العدلية من تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد الملزمة ، فيلزم من مخالفتها الوقوع في المفاسد وتفويت المصالح المذكورة ، وهو نحو من الضرر.

ففيه : ـ مع ابتنائه على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، لا للمصالح في الأحكام أنفسها ـ أن وجوب دفع الضرر المظنون والمحتمل عقلا حكم طريقي ، لتجنب الضرر الواقعي ، فلا يلزم من مخالفته إلا الوقوع في الضرر الواقعي على تقدير إصابة الظن أو الاحتمال ، وليس الواجب إلا دفع الضرر الواقعي.

وحينئذ نقول : وجوب دفع الضرر الواقعي عقلا ليس كوجوب الإطاعة يرجع إلى حكم العقل باستحقاق العقاب بالإقدام عليه ولا كوجوب العدل ، وحرمة الظلم يبتني على التحسين والتقبيح العقليين ، ليكون مستلزما لوجوبه شرعا ، بناء على الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي ، كي يكون الظن بالضرر مستلزما للظن بالعقاب.


بل هو راجع إلى أن حب الإنسان لنفسه يقتضي دفع الضرر عنها ، كما قد يهتم بدفع الضرر عن غيره لاهتمامه به وحبه له. ومن ثمّ قيل : إن دفع الضرر من الامور الفطرية ، لا الواجبات العقلية. وليس وراء الضرر المترتب أمر آخر من عقاب ونحوه يلزم بدفعه.

وما قيل : من استحقاق الذم بارتكاب الضرر الكاشف عن وجوب دفعه عقلا من باب التحسين والتقبيح ، نظير استحقاق الذم بالظلم.

غير ظاهر ، بل الظاهر أنه لا يستتبع إلا اللوم اللازم للتفريط المنافي للحكمة الملزمة بحفظ ما يتعلق الغرض بحفظه.

وعلى هذا يكون مرجع الدليل المذكور إلى أن مخالفة الظن بالتكاليف في معرض الوقوع في المفاسد ، وتفويت المصالح الموجبة للتكليف ، وليس وراء ذلك أمر آخر.

وهو مسلم بناء على التخطئة ، لكنه لا يصلح للإلزام بمتابعة الظن ، لأن المصالح والمفاسد المذكورة قد لا تكفي في الداعوية ، إما لعدم كونها من سنخ الأضرار الشخصية الراجعة إلى المكلف نفسه ، بل من الأضرار العامة التي لا يهتم بدفعها من لا يهتم بالصالح العام. أو لأن الانسان قد يقدم على بعض الأضرار ، لعدم كونه حكيما ، أو لابتلائه ببعض المزاحمات ولو كانت هي صعوبة الاحتياط.

ولا سيما مع إمكان تدارك الأضرار المذكورة من قبل الشارع الأقدس ، فإنه وإن لم يقم الدليل على ذلك ـ خلافا لمن ادعى امتناع جعل الطرق غير العلمية والأصول بدونه ـ إلا أن احتماله كاف في ضعف احتمال الضرر وصلوحه لأن يزاحم.

وهذا بخلاف ما لو كان الوقوع في الضرر مظنة العقاب ، فإن العقاب لأهميته صالح للداعوية العقلية مطلقا وإن ضعف احتماله ، ولا يزاحم بشيء


أبدا.

وأما وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل شرعا المستتبع للعقاب بدونه فهو مختص ببعض الأضرار ، كتلف النفس والطرف ، ولا يعم كل ضرر ، خصوصا الأضرار النوعية ، فلو فرض ملازمة الظن بالتكليف للظن بالأضرار المذكورة تعين وجوب مراعاة الظن المذكور ، بل يجب في مثله مراعاة مطلق الاحتمال وإن لم يكن ظنا ، من دون فرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية. إلا أن هذا فرض نادر خارج عن محل الكلام ، ولا ينفع في جعل مقتضى القاعدة العلم بالظن.

هذا ، مع أن الوجه المذكور ـ لو تم ـ إنما يقتضي لزوم العمل بظن التكليف ، لا الظن بعدمه ، ولا الظن بالأحكام الوضعية ، إلا من حيث استتباعهما للظن بالتكليف. فلو ظن بملكية قدر الاستطاعة ـ مثلا ـ لم يقتض الوجه المذكور إلا وجوب الحج ، دون جواز التصرف فيه ، بل مقتضى أصالة عدم تملكه حرمة التصرف ، وهذا قد يوجب الحرج.

الثاني : أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح.

وفيه : ـ مع أن مقتضاه الرجوع للظن حتى في الشبهة الموضوعية ، بل امتناع نصب الحجة على خلافه ـ أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح إنما يقتضي العمل بالظن إذا تعلق الغرض بتحصيل الواقع.

فإن كان المراد بالوجه المذكور استكشاف حكم الشارع بحجية الظن فهو موقوف على كون ظن المكلف هو الأقرب والأرجح بنظر الشارع ، وعلى تعلق غرضه بحفظ التكاليف الواقعية وتحصيلها.

ولا طريق لإثبات الأول ، لإمكان علمه بكثرة خطأ المكلف في ظنه ، كما يشهد به في الجملة ما ورد في القياس من أن ما يفسده أكثر مما يصلحه.


كما أنه تقدم في مبحث جواز نصب الطرق غير العلمية إنكار الثاني ، وأنه قد لا يتعلق غرض الشارع بتحصيل التكاليف الواقعية لاجل بعض المزاحمات المانعة منه.

وإن كان المراد به إلزام المكلف بالعمل به تحصيلا للتكاليف الواقعية وإن لم يكن حجة شرعا ، فهو موقوف على تعلق غرضه بتحصيل الواقع ، ولا وجه له بعد جعل الأصول المؤمنة له مع فرض عدم الحجة.

نعم ، لو فرض تنجز الواقع عليه على كل حال ـ كما لو قصر في الفحص في موارد الدوران بين محذورين ، أو اضطر بسوء الاختيار إلى ارتكاب أحد أطراف الشبهة التحريمية المحصورة ـ لزمه عقلا متابعة الظن بالتكاليف ، لما ذكر من قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

ومنه يظهر أن الوجه المذكور لا ينهض بجواز متابعة الظن بعدم التكليف ، إذ لا غرض في متابعة عدم التكليف ، لا للشارع ولا للمكلف ، بل يتجه الرجوع فيه للأصول أو الأدلة ، وقد يلزم من ذلك الحرج ، كما تقدم في الوجه الأول.

هذا ، مع أن الاجتزاء بالراجح في فرض تعلق الغرض بتحصيل الواقع موقوف على تعذر العلم بتحصيل الواقع ولو بالاحتياط كما تقدم في المثالين السابقين ، وهو مبني على ما يأتي في دليل الانسداد.

ومن ثمّ قيل إن هذا الوجه مقدمة من مقدمات الدليل المذكور. فلاحظ.

الثالث : هو الدليل المعروف بدليل الانسداد ، وهو مركب من مقدمات اختلف الاعيان في تعدادها ، والظاهر أن عمدتها ثلاث ..

الاولى : انسداد باب العلم والعلمي بالحكم الشرعي.

الثانية : عدم إمكان الرجوع للأصول الشرعية والعقلية المقررة للجاهل بالأحكام من البراءة والاحتياط وغيرهما وعدم ثبوت غيرها من الشارع الأقدس.


الثالثة : قبح ترجيح المرجوح على الراجح. فإنه مع فرض تمامية المقدمات المذكورة ليس هناك إلا العمل بالظن.

والظاهر أنه لا حاجة إلى إضافة مقدمة اخرى للمقدمات المذكورة ، وهي عدم جواز إهمال الأحكام المذكورة ، كما صنعه غير واحد كشيخنا الأعظم قدّس سرّه ومن تأخر عنه.

إذ الإهمال إن كان على خلاف القاعدة فلا وجه لتوهم جوازه حتى يحتاج إلى فرض عدم جوازه في مقدمات الدليل. وإن كان على طبق القاعدة فهو عبارة ، اخرى عن امتناع الرجوع للبراءة المفروض في المقدمة الثانية.

اللهم إلا أن يراد بإهمال الأحكام هو إهمالها تبعا لسقوطها واقعا بسبب الجهل بها ، فيكون أمرا آخر غير ما يأتي في المقدمة الثانية.

لكنه بعيد عن ظاهر بعض كلماتهم. ويأتي الكلام فيه تبعا للكلام في الاحتياط إن شاء الله تعالى.

ومثله ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أخذ مقدمة خامسة ، وهي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف شرعية ، إذ لا يحتاج إلى العلم المذكور لو فرض تمامية المقدمات الثلاث.

نعم ، قد يكون العلم المذكور دخيلا في إثبات المقدمة الثانية ، لا أنه يؤخذ في قبالها ، كما نبه لذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

وكيف كان ، فيقع الكلام في المقدمات الثلاث ، فنقول :

أما المقدمة الاولى : فقد جعلت في كلامهم عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي في معظم المسائل.

والظاهر أنه مع فرض تمامية المقدمتين الاخريين يكفي انسداد باب العلم ولو في مسألة واحدة ، كما في موارد التقصير في الفحص وتعذر الاحتياط ، إلا أن تمامية المقدمة الثانية في محل الكلام ـ وهو ما لم يكن المكلف مقصرا ـ


موقوفة على فرض الانسداد في المعظم ، حيث يلزم من الاحتياط والبراءة المحاذير الآتية.

فخصوصية الانسداد في المعظم ليست دخيلة في أصل الدليل ، بل في تمامية مقدماته في محل الكلام.

وكيف كان ، فانسداد باب العلم بالمعظم وإن كان ظاهرا ، إلا أن انسداد باب العلمي مبني على عدم حجية قسم يفي بالمعظم من أخبار الآحاد التي بين أيدينا ، لعدم ثبوت التعبد بسندها أو بدلالتها ، بناء على ما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه من عدم حجية الظواهر في حق غير المقصودين بالإفهام.

لكن الظاهر حجية المقدار الوافي من الأخبار الذي لا محذور من الرجوع للأصول في مورد عدمه. لما تقدم في الفصل الأول من حجية ظواهر الأخبار ، وفي الفصل السابق من ثبوت التعبد شرعا بصدورها مع الوثوق بها ، أو برواتها. فالمقدمة المذكورة غير تامة.

وأما المقدمة الثانية : فالظاهر تماميتها في الجملة ، إذ لا إشكال في عدم الرجوع للبراءة لو فرض انسداد باب العلم في معظم المسائل ـ كما هو مفاد المقدمة الاولى في كلامهم ـ للعلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في موارد الانسداد فيلزم من الرجوع للبراءة المخالفة الإجمالية الكثيرة.

بل لو فرض عدم مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للبراءة فهو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما واحدا أو أحكاما قليلة يمكن تسامح الشارع فيها ، دون المقام ، حيث كان المعلوم بالإجمال أحكاما كثيرة ، بل معظم الأحكام فلو بني فيها على مقتضى البراءة لزم إهمال تلك الأحكام بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به. وهو الذي عبر عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بمحذور الخروج عن الدين.

كما أنه لو فرض كون تعذر الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي


موجبا لسقوط التكاليف الواقعية عن الفعلية ، بنحو يجوز المخالفة في جميعها ، ولا يجب التبعيض في الاحتياط فلا مجال لذلك في المقام أيضا ، لأجل المحذور المذكور.

فلا بد من الالتزام ببقاء الأحكام الواقعية ولزوم حفظها في مقام الامتثال في الجملة. وقد عرفت احتمال رجوع عدم جواز الإهمال الذي جعل مقدمة مستقلة في كلماتهم إلى هذا المعنى.

وأما الاحتياط فهو وإن كان مقتضى القاعدة في العلم الإجمالي ، إلا أنهم ذكروا امتناعه في المقام لامور ..

الأول : الإجماع القطعي الارتكازي على عدم كون الاحتياط هو المرجع على تقدير انسداد باب العلم. قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وصدق هذه الدعوى مما يجده المنصف من نفسه بعد ملاحظة قلة المعلومات».

ولا يخفى أنه بعد الاعتراف بكون المسألة من المستحدثات ، لبناء الأصحاب سابقا على انفتاح باب العلم ، فالإجماع المذكور لا أثر له في استكشاف الحكم الشرعي ، بل استكشاف الإجماع بالوجه المذكور ناشئ عن دعوى وضوح الحكم ارتكازا ، بنحو لو بنى الأصحاب على الانسداد لبنوا عليه.

فلا وجه لإرجاع الوجه المذكور للاجماع إلا المحافظة على عدم الخروج في الاستدلال عن الأدلة الأربعة.

وكيف كان ، ففي تمامية الدعوى المذكورة مع قطع النظر عن الوجوه الأخر إشكال ، بل منع ، فلا مجال للخروج بها عن القواعد المقتضية للاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

ودعوى القطع بعدم رضا الشارع بابتناء الامتثال في معظم الفقه على الاحتياط ، وانه لا بد من سلوك طريق الجزم بالامتثال غير ظاهرة.

الثاني : لزوم اختلال النظام من الاحتياط ، لكثرة موارد الجهل وابتناء


العمل في كثير من المسائل التي هي مورد الجهل على مسائل أخر هي مورد للجهل أيضا ، وهو موجب لتعدد جهات الاحتياط في العمل الواحد ، والمحافظة على الاحتياط في جميع ذلك وتحقيق ما ينبغي سلوكه عند تزاحم جهات الاحتياط خصوصا في حق العامي المحتاج إلى تعلم المسائل وضبطها مستلزم لاختلال النظام واضطراب أمر المعاش والمعاد ، بنحو يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به.

بل قيل بقبحه عقلا ، لأدائه إلى ترك جملة من الواجبات في كثير من الموارد. وإن كان لا يخلو عن إشكال ، لرجوعه إلى دعوى تعذر الاحتياط.

مع أن قبح ترك الواجبات مختص بصورة القدرة عليها وتنجزها ، ولا يشمل ما لو تعذر الاتيان بها لمزاحمتها للاحتياط في تكاليف أخر.

نعم ، قد يدعى أهمية حفظ النظام العام من جميع الملاكات الواقعية للأحكام المقتضية لحفظها بالاحتياط ، الكاشف عن عدم وصول النوبة للاحتياط لو استلزم اختلال النظام.

وهو غير بعيد ، وإن كان لا حاجة إليه بعد العلم بعدم ابتناء الشريعة السهلة على ما يخل بالنظام بنحو يقطع بعدم لزوم الاحتياط معه.

الثالث : أنه يلزم من الاحتياط العسر والحرج المرفوعان في الشريعة.

والاستدلال بذلك يبتني على مفاد قاعدة نفي الحرج. فالذي ذهب إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن مفادها نفي الأحكام المستلزمة للحرج ، من باب نفي المسبب بلسان نفي السبب.

والذي ذكره المحق الخراساني قدّس سرّه أن مفادها نفي الأحكام الواردة على الموضوع الحرجي ، من باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، نظير : لا شك لكثير الشك.

والظاهر هو الوجه الأول ، لأن الثاني إنما يتجه في ما إذا سلط النفي على


نفس الموضوع الذي يراد رفع حكمه ، كالشك في المثال المتقدم. وليس الحرج بعنوانه موضوعا للأحكام الأولية ، التي يراد رفعها ، بل الموضوع له هو الأفعال بعناوينها الخاصة كالوضوء والكذب ، ولم يسلط النفي عليها ، بل على الحرج ، فلا وجه له إلا كون الأحكام المذكورة سببا للحرج ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، وهو الظاهر من مثل قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

مع أن لازمه عدم صلوح القاعدة لرفع الأحكام التحريمية ، إذ لا تكون موضوعاتها حرجية ، بل الحرجي تركها.

نعم ، لو سلط النفي على نفس الأفعال اتجه ما ذكره قدّس سرّه كما لو قيل : لا كذب مع الحرج. كما لعله ظاهر.

وكيف كان ، فعلى ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه قد يتجه الاستدلال بقاعدة نفي الحرج لنفي وجوب الاحتياط لو كان حرجيا ، لأن الحكم الواقعي وإن لم يكن حرجيا بنفسه ، إلا أنه بسبب اشتباه متعلقه وتردده بين المحتملات يكون حرجيا ، إذ هو حينئذ يقتضي الجمع بينها ، فيستلزم الحرج.

أما بناء على ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه فلا مجال للاستدلال المذكور ، إذ لا مجال لتطبيق القاعدة على نفس الاحتياط الذي هو حرجي ، لعدم كون وجوبه شرعيا قابلا للرفع الشرعي ، ولا على متعلق الحكم الواقعي كالصلاة للقبلة الواقعية ، لفرض عدم كونه حرجيا ، وإنما يلزم الحرج من الجمع بين المحتملات.

ومن ثمّ منع المحقق الخراساني قدّس سرّه من الاستدلال بالوجه المذكور.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم الفرق بين المبنيين في أمثال المقام مما كانت أطراف الشبهة من التدريجات ، فإن المحتملات الاولى لا تكون حرجية ، فيجب مراعاتها حتى على ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، والمحتملات الأخيرة هي التي تكون حرجية ، فلا يجب مراعاتها حتى على ما ذكره المحقق


الخراساني ، إما لعدم التكليف بها واقعا أو لكونها حرجية.

ففيه : ـ مع ابتناء ذلك على لزوم تبعيض الاحتياط عند تعذر الاحتياط التام ، ولا يقول به المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ أن الحرج لا ينشأ من الجمع بين المحتملات فقط ، بل ينشأ أيضا من صعوبة ضبط موارد الاحتياط وتحديد مقداره عند تعدد جهات الشك ، ولا سيما مع عدم انضباط الأحكام التي يبتلى بها المكلف ، فبناء على ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه يتعين سقوط الاحتياط من أول الأمر ، وعلى ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه يتجه الاحتياط حتى تصل النوبة إلى المحتملات الحرجية.

هذا ، مع أن إيكال الأمر إلى لزوم الحرج الشخصي من نفس المحتملات لا يكفي في رفع الحرج ، لعدم الضابط لذلك مع ما أشرنا إليه من عدم انضباط الأحكام التي يبتلى بها المكلف ، بل لا يرتفع الحرج إلا بتشريع طريق مضبوط لا يلزم منه الحرج ، أو برفع الأحكام كلية. فتأمل. فالظاهر اختلاف المبنيين فيما هو محل الكلام.

ثم إنه حيث عرفت أن الظاهر هو ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه فالذي ينبغي أن يقال : إنه بناء على أن تعذر الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي ، أو لزوم الحرج منه موجب لسقوط الاحتياط كلية ، لأن الاضطرار أو الحجر مانع من فعلية التكليف المعلوم بالإجمال الذي هو منشأ الاحتياط ، فلا مجال للتمسك بقاعدة نفي الحرج في المقام ، لما أشرنا إليه من أنه لا مجال لإهمال التكاليف في المسائل التي انسد فيها باب العلم ، فإن ذلك مستلزم لفعليتها وقصور قاعدة نفي الحرج عن رفعها تخصيصا.

ودعوى : أن إعمال القاعدة ليس بلحاظ رفع الأحكام المذكورة المستلزم لإهمالها ، بل بلحاظ استكشاف وجوب تحصيلها بطريق آخر غير الاحتياط لا يلزم منه الحرج.


مدفوعة : بعدم نهوض القاعدة بتشريع الأحكام التي يرتفع بها الحرج ، بل هي مختصة برفع الأحكام الحرجية ، والمفروض امتناعه في المقام ، الموجب لتخصيص القاعدة فيه.

نعم ، لو فرض العلم في المقام بعدم رضا الشارع الأقدس بلزوم الحرج في المقام كشف ذلك عن تشريع طريق آخر غير الاحتياط.

إلا أنه ليس راجعا إلى قاعدة نفي الحرج القابلة للتخصيص ، بل إلى العلم الذي هو حجة ذاتية نظير العلم بعدم رضا الشارع باختلال النظام.

أما بناء على أن تعذر الاحتياط التام أو لزوم الحرج منه لا ينافي فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، بل يتنزل للتبعيض في الاحتياط ، فيمكن الاستدلال بالقاعدة ، لعدم منافاتها لما تقدم من عدم جواز الإهمال.

هذا ، والظاهر أنه لا مجال للبناء على تبعيض الاحتياط ، خصوصا فيما إذا لم يكن منشأ سقوط الاحتياط التام هو التعذر ، بل التعبد الشرعي من جهة الحرج ونحوه. وتمام الكلام في مباحث الشبهة المحصورة.

ومن هنا لا مجال لما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لزوم الاحتياط في موارد الظن بالتكليف ، بل في موارد الشك أيضا ، لاندفاع العسر بترك الاحتياط في موارد الظن بعدم التكليف ، وكذا اختلال النظام.

نعم ، قد يدعى لزوم العمل بالظن بالتكليف للعلم الإجمالي بإصابة بعض الظنون للواقع ، فينحل به العلم الإجمالي الكبير الذي أطرافه جميع الشبهات ، لوفاء أطراف الأول بالمعلوم في الثاني ، فإنه لا مجال لدعوى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في غير موارد الظن ، وحينئذ فالعمل بالظن ليس من باب التبعيض في الاحتياط ، بل من باب الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي الذي اختصت المنجزية به بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير به.

لكن ذلك ـ لو تم ـ لا يختص بالظن ، بل يجري في جميع موارد الطرق


غير العلمية ، وإن لم تفد الظن الشخصي. وقد سبق في الوجه العقلي لحجية الخبر انحلال العلم المذكور بالعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار ، ومقتضى ذلك اختصاص الاحتياط بها ، دون بقية موارد الطرق غير العلمية.

نعم ، هذا موقوف على عدم لزوم محذور اختلال النظام أو الحرج من الاحتياط فيها. وهو في غاية الإشكال ، بل المنع ، كما أشرنا إليه هناك.

ومن ثمّ لا مجال لإبطال هذه المقدمة من هذه الجهة.

غاية الأمر أنه يتعين لأجل ذلك البناء على اختصاص دليل الانسداد بموارد الأخبار ، بحيث لو فرض تماميته بحيث يقتضي الرجوع للظن بالتكليف لكان مختصا بموارد الأخبار ، فيرجع فيها إلى الظن بصدور الخبر أو بثبوت التكليف في مورده ، مع الرجوع في غيرها إلى الأدلة الأخر ، كظهور الكتاب ، أو السنة القطعية ، أو الأصول ، وإن ظن بخلافها.

وليس هذا من باب تقديم الأصل على الدليل ، بل من باب ارتفاع موضوع دليلية الدليل بالأصل ، وإنما يتعين تقديم الدليل على الأصل فيما لو كان عموم دليليته شاملا لمورد الأصل ، بخلاف المقام.

هذا كله في الاحتياط اللازم من العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الشريعة ، أو من العلم باهتمام الشارع بالأحكام بنحو لا يرضى بإهمالها لمحذور الخروج عن الدين ، الناشئ من انسداد باب العلم في معظم المسائل ، أما الاحتياط اللازم من العلم الإجمالي بثبوت التكليف في خصوص مورد لانسداد العلم فيه ، كما في الدوران بين القصر والتمام ، فسقوطه مبني على كثرة موارد العلم الإجمالي المذكور بنحو يلزم من الاحتياط فيها المحاذير المتقدمة ، وهو محتاج إلى تأمل واستقصاء لا يسعه المقام.

وكيف كان ، فهو لا يخل بهذه المقدمة ، لعدم وفائه بمعظم المسائل. هذا كله في الاحتياط.


وأما الاستصحاب فلا مجال للرجوع إليه لو كان نافيا للتكليف ، للعلم الإجمالي بمخالفته للواقع في كثير من الموارد ، لكثرة موارد الاستصحاب المذكور ، حيث انه يجري في أكثر موارد الرجوع للبراءة ، فيمتنع الرجوع إليه ، إما لقصور دليله عن شمول صورة العلم الإجمالي ، أو لسقوطه بالمعارضة ، أو للزوم المخالفة للتكليف المعلوم بالإجمال ، على ما ذكر في مبحث الاستصحاب.

وكذا لو كان مثبتا للتكليف لو فرض كثرة موارده بسبب انسداد باب العلم بنحو يعلم إجمالا بمخالفته في بعضها للواقع بناء على أن العلم الإجمالي مانع من الرجوع للاستصحاب مطلقا.

أما لو فرض عدم العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاستصحابات المثبتة للتكليف للواقع لقلتها ، أو عدم مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للاستصحاب المثبت فالمتجه الرجوع اليه.

وليست كثرة موارده بنحو يفي بمعظم المسائل ليمنع من تمامية هذه المقدمة ، كما أنها ليست بنحو يلزم من الرجوع إليه محذور اختلال النظام أو العسر والحرج بنحو يكشف عن تخصيص دليله ، وليس هو كالاستصحاب النافي للتكليف.

ومنه يظهر أنه لو فرض تمامية دليل الانسداد واقتضاؤه حجية الظن فلا مجال لرفع اليد به عن الاستصحاب المذكور ، بل هو متأخر عنه رتبة. وليس هذا من باب رفع اليد بالأصل عن الدليل ، بل من باب ارتفاع موضوع الدليل بالأصل ، كما تقدم نظيره في الاحتياط.

وأما أصالة التخيير فالعقل إنما يحكم بها في الدوران بين محذورين كالوجوب والحرمة ، أما مع تعذر الاحتياط لجهة اخرى فلم يتعرضوا للرجوع إليها. ويأتي في المقدمة الثالثة تمام الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في الأصول المعروفة التي يرجع إليها في الشبهات


الحكمية.

ومن الظاهر أنه لم يثبت من قبل الشارع الأقدس طريق أو أصل آخر متبع في خصوص حال الانسداد. فلا بد من الرجوع للعقل في تشخيص مما ينبغي العمل عليه لو فرض عدم الرجوع للأصول المتقدمة.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه تعرض في هذه المقدمة لامتناع الرجوع للتقليد ، للإجماع ، وقصور أدلة مشروعية التقليد عنه ، لاختصاصها بالجاهل العاجز عن الفحص ، دون المجتهد الذي استكمل الفحص وخطّأ المفتي في دعواه الانفتاح.

فإن كان مراده منع كونه من الطرق المجعولة بالخصوص كالخبر ، فما ذكره في وجهه وإن كان متينا ، إلا أن امتناعه ينبغي أن يكون مفروضا في المقدمة السابقة المتضمنة لانسداد باب العلم والعلمي.

وإن كان مراده منع الرجوع إليه في فرض الانسداد وتعذر الرجوع للطرق المعروفة ، فدليله لا ينهض بذلك إذ هو كأدلة المنع من الرجوع للظن لا ينافي الرجوع إليه في فرض الانسداد.

فالأولى أن يقال : إنه لم يثبت من الشارع جعله في حال الانسداد ، كما أشرنا إليه. وهو كاف في هذه المقدمة. هذا تمام الكلام في المقدمة الثانية.

وأما المقدمة الثالثة : فتشكل بما تقدم في الوجه الثاني من الوجوه العقلية لحجية مطلق الظن من أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح مختص بما إذا تعلق الفرض بإصابة الواقع ، وهو غير ظاهر في المقام ، فإن غرض الشارع بمقتضى عدم جواز الإهمال وإن كان هو امتثال الحكم الواقعي ، إلا أنه في مقابل الإهمال المطلق ، لا الاهتمام به على كل حال بنحو يقتضي تحصيله مهما أمكن وبأقرب الطرق.

مع أنه إنما يقتضي تعيين الظن إذا كان ظن المكلف أرجح وأقرب بنظر الشارع ، وهو ممنوع ، كما تقدم أيضا.


وأما المكلف فلا غرض له بإصابة الواقع إلا من حيث تنجزه بالعلم الإجمالي أو بالعلم باهتمام الشارع بالتكاليف الواقعية بنحو لا يجوز إهمالها ، ومن الظاهر أن ذلك لا يقتضي تنجزه مطلقا بعد فرض تعذر الاحتياط التام أو عدم وجوبه ، بل هو راجع إلى تنجزه في الجملة ، وذلك لا يكفي في التمسك بقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح لإثبات لزوم الرجوع للظن.

بل لا بد فيه من تنجزه مطلقا بحيث يكون فوته سببا للعقاب على كل حال ، إذ يحكم العقل حينئذ بلزوم اختيار أبعد الطرق عن الخطر ، كما في مورد التقصير في الفحص على ما تقدم ، فالظاهر أن القاعدة أجنبية عما نحن فيه.

والذي ينبغي أن يقال : الكلام ..

تارة : يكون على القول بأن سقوط الاحتياط التام اللازم بمقتضى العلم الإجمالي لا يقتضي سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية والرجوع إلى طريق آخر ، بل يقتضي التنزل للتبعيض في الاحتياط بالمقدار الذي لا يلزم منه محذور من حرج أو غيره.

واخرى : يكون على القول بأن سقوط الاحتياط التام يقتضي سقوطه كلية لمانعيته من فعلية التكليف الواقعي ، الموجب لعدم صلوح العلم الإجمالي لتنجيزه.

أما على الأول فظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره المفروغية عن أن المدار في التبعيض على ما هو الأبعد احتمالا فالأبعد ، فيترك الاحتياط فيما إذا عدم التكليف فيه مظنونا بالظن القوي ، فإن لم يف بدفع الحرج ترك فيما إذا عدم التكليف فيه مظنونا بالظن الضعيف ، فإن لم يف بدفع الحرج أيضا ترك فيما إذا التكليف فيه مشكوكا ، وهكذا. لكنه غير ظاهر.

وما قيل : من أنه لا يجوز التنزل للامتثال الاحتمالي إلا بعد تعذر الامتثال الظني ، كما لا يجوز ، التنزل للامتثال الظني إلا بعد تعذر الامتثال العلمي.


إنما يتم مع فرض تنجز التكليف الواقعي مطلقا ، كما في موارد التقصير في الفحص ، كما تقدم ، لا في مثل المقام مما تقدم عدم تنجزه فيه إلا في الجملة. وإلا كان اللازم الترجيح بالظن في مثل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، ولم يذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، بل صرح بعض الأعاظم قدّس سرّه بعدمه.

وبالجملة : لزوم مراعاة الأقرب احتمالا بناء على تبعيض الاحتياط مما لا يتضح منشؤه بعد فرض عدم ثبوت حجية الظن في نفسه وعدم تنجز التكليف الواقعي مطلقا وعلى كل حال.

وأما على الثاني فالمعروف منهم تقريب لزوم الرجوع للظن بأحد وجهين :

الأول : الحكومة ، بدعوى : أنه مع تعذر العلم التفصيلي وعدم منجزية العلم الإجمالي وفرض اهتمام الشارع بالأحكام بنحو لا يجوز إهمالها يحكم العقل بلزوم الرجوع إلى الظن في تشخيص الأحكام الشرعية.

الثاني : الكشف ، بدعوى أن العقل يستكشف بذلك حجية الظن شرعا بنحو يكون هو المنجز للأحكام الواقعية كسائر الحجج الشرعية ، وكلا الوجهين لا يخلو عن إشكال.

أما الأول : فلأنه إن كان المدعى أن المنجز للأحكام هو اهتمام الشارع بها المفروض في المقام ، بنحو يكون حكم العقل بالرجوع للظن واردا في مقام الإطاعة بعد الفراغ عن مقام التنجيز.

ففيه : أن الاهتمام بالاحكام إن كان هو المنجز لها كان كالعلم الإجمالي مقتضيا للامتثال العلمي ، نظير الأمر بالاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص ، فيكون الاكتفاء بمتابعة الظن مبنيا على تبعيض الاحتياط ، وهو راجع إلى ما قيل من أن تعذر الامتثال العلمي يقتضي التنزل إلى الامتثال الظني.

ولكنه يشكل .. تارة : من حيث أصله ، لعدم وضوح تنجز الحكم بالعلم


الإجمالي أو غيره مع عدم لزوم الاحتياط التام فيه ، كما أشرنا إليه آنفا.

واخرى : من حيث عدم الوجه في جعل المعيار فيه قوة الاحتمال ، كما تقدم في الوجه الأول.

وثالثة : من حيث أن مراعاة قوة الاحتمال تقتضي عدم الاكتفاء بمتابعة الظن بالتكليف ، بل لا بد من مراعاة الاحتياط في موارد الشك في التكليف لو فرض عدم لزوم العسر منه ، نظير ما تقدم على الوجه الأول ، فإن الظن بالامتثال موقوف على ذلك ، ولا يكون بالاقتصار في ترك الاحتياط على الموهومات ، كما نبه له في الجملة بعض الأعاظم قدّس سرّه.

ودعوى : أن اهتمام الشارع بالتكاليف المنجز لها ليس بنحو يقتضي امتثالها القطعي ، ليكون الاقتصار فيها على بعض المحتملات مبنيا على تبعيض الاحتياط ، فيجري ما تقدم. بل بنحو يقتضي امتثالها في خصوص موارد الظن ، فالاقتصار على الظن لانه هو الواجب ابتداء ، لا تنزلا بعد تعذر العلم.

مدفوعة : بأن تحديد مقدار الامتثال تابع للعقل لا للشارع ، وليس للشارع إلا جعل الأحكام وتنجيزها بنصب الحجة عليها أو إيجاب الاحتياط فيها ، مع إيكال كيفية الامتثال للعقل ، وهو يحكم بلزوم الامتثال القطعي. والتنزل لغيره مبني على تبعيض الاحتياط كما ذكرنا.

مع أنه لو فرض كون تحديد الامتثال بيد الشارع بحيث يكون له التنجيز بنحو خاص ، فكما يمكن تنزله للظن يمكن تنزله للشك ، ولا معين للأول. ومجرد أقربيته بنظر المكلف لا يقتضي تعينه ، لما تقدم عند الكلام في قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وإن كان المدعى أن المنجز للأحكام ليس هو اهتمام الشارع بها ، بل العقل بعد اطلاعه على الاهتمام المذكور يحكم بحجية الظن ومنجزيته للأحكام لأقربيته ، ومن ثم يكون الظن حجة عقلية ومرجعا في تنجيز التكليف وإثباته


عقلا ، وليس مرجعا في مقام الامتثال.

ففيه : أنه لا غرض للعقل في حفظ التكاليف ومنجزيته لها ، بل هو من أغراض الشارع الأقدس ، وإنما يهتم العقل بحفظها في مقام الامتثال بعد الفراغ عن فعليتها وتنجزها دفعا لخطر العقاب.

وأما ما قيل من امتناع حكم العقل بالحجية ، بل هو من الوظائف المختصة بالشارع الأقدس.

فهو غير ظاهر ، إذ لا يراد بحكم العقل بحجية الظن إلا إدراكه جهة في الظن تقتضي منجزيته للتكليف بنحو يحسن العقاب بمخالفته ويقبح مع موافقته فإن الادراك والتحسين والتقبيح من وظائف العقل بلا إشكال.

نعم ، لو اريد بحجيته هو اعتبار الحجية عقلا للظن والتعبد بمؤداه كما هو مفاد الحجية الشرعية كان منعه في محله ، كما تقدم في أول مباحث الحجج ، لكنه لا يحتاج إليه في المقام ، بل يكفي تنجيز الظن للتكليف عقلا ، الذي يشبه وجوب الاحتياط عقلا معه ، فلاحظ.

وأما الثاني فلأن غاية ما يقال في وجهه : أن الشارع بعد فرض اهتمامه بالأحكام ، وعدم تنجزها بمنجز عقلي أو شرعي ، لا بد من حفظه لها في مقام الإثبات والتنجيز بنصب الحجة الواصلة عليها ، ليتحصل غرضه في حفظ الأحكام الواقعية في الجملة ، وحيث لم يصل غير الظن كانت أقربية الظن صالحة للاتكال عليه في مقام بيان حجيته شرعا ، فإنه الطريق الذي يجري عليه العقلاء عند تعذر العلم والاهتمام بإصابة الواقع.

ومنه يظهر أنه لا مجال للتوقف عن حجيته لاحتمال نصب الشارع غيره في حال الانسداد ، كالتقليد ، والقرعة وغيرهما ، فإن عدم وصول طريق آخر مانع من اعتماد الشارع عليه في أداء الغرض المذكور ، والمتعين لذلك هو الظن للجهة المذكورة فيه.


وفيه : أن الأقربية في الظن لا تصلح للاتكال عليه في بيان حجيته ، لأن الأقربية إنما تقتضي العمل حيث يتعلق الغرض بتحصيل الواقع على كل حال ، كما تقدم ، وهو لا يقتضي الحجية المبتنية على الإلزام والالتزام ، والتعذير والتنجيز.

وبعبارة اخرى : الرجوع إلى شيء عند تعذر العلم ..

تارة : يكون من حيث الاهتمام بتحصيل الواقع على كل حال المقتضي لسلوك أقرب الطرق إليه.

واخرى : يكون لصلوحه بنظر العقل أو العقلاء للاحتجاج والتعذير والتنجيز وترتب المدح والذم.

والمناسب للحجية هو الثاني ، فهو الذي يمكن الاتكال على حاله في بيان حجيته ، لأن للجهة المذكورة نحوا من الاقتضاء صالحا للاتكال عليه في مقام البيان. بل الظاهر أنه لا يحتاج معه الى مقدمات الانسداد ، لأن الأصل الجري على المقتضي المذكور الثابت بحكم العقل أو ببناء العقلاء ، ومن ثم سبق في الفصل الأول والخامس الاعتماد في الحجية على السيرة بمجرد عدم ثبوت الردع.

نعم ، لو فرض اختصاص الاقتضاء المذكور في الطريق بصورة تمامية المقدمات اتجه تقييد الحجية الشرعية به أيضا.

هذا ، والظاهر أن الأقربية في الظن إنما تقتضي العمل به على الوجه الأول ، لا الثاني ، فلا مجال لاستكشاف حجيته من مجرد اهتمام الشارع بحفظ التكاليف وسكوته عن جعل غيره.

اللهم إلا أن يدعى بناء العقلاء عند الانسداد وعدم طرق اخرى هي من سنخ الحجج بنظرهم على العمل بالظن بما هو حجة صالح للاعتماد عليه في مقام التعذير والتنجيز ، لكنه ممنوع.


والظاهر أن تسالم من تعرض لدليل الانسداد على الرجوع للظن عند تمامية المقدمات بأحد الوجوه المتقدمة مبني على إغفال الفرق بين الوجهين اللذين أشرنا اليهما واختلاطهما عليهم. ومثله الاحتجاج له بقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

ثم إنه ربما يقرب الكشف بوجه آخر لا يرجع إلى حجية الظن وإحراز الواقع به شرعا ، بل إلى إيجاب الاحتياط في مورد الظن شرعا ، فإنه كما يمكن إيجابه في مطلق الاحتمال ، كما في الشبهة التحريمية عند الأخباريين ، يمكن جعله في خصوص مورد الظن ، وهو يكفي في حفظ الأحكام المفروض اهتمام الشارع بها في الجملة.

ومنه يظهر أنه لا مجال لإحراز الحجية بالوجه المتقدم ـ مع قطع النظر عما أوردنا عليه سابقا ـ لإمكان الاستغناء عنها في حفظ الأحكام بإيجاب الاحتياط ، فلا مجال لترتيب آثار الحجية على الظن حينئذ ، كاستصحاب مؤداه مثلا ، كما لا مجال له على الحكومة أو تبعيض الاحتياط.

إلّا أن يدعى القطع بعدم ابتناء الامتثال في معظم الاحكام على الاحتياط ، لمجانبته لطريقة الشارع ، وانه لا بد من الامتثال بطريق شرعي جزمي ، فيتعين استكشاف حجية الظن بالوجه المتقدم لو تم في نفسه ، وبطلان بقية الوجوه المذكورة في المقام.

لكنه غير ظاهر ، كما أشرنا إليه في الوجه الأول من وجوه الاستدلال على امتناع الرجوع للاحتياط. فلا ينهض الوجه المذكور بإثبات حجية الظن ، والمتيقن هو وجوب الاحتياط شرعا مع الظن.

نعم ، يشكل هذا التقريب بعدم الدليل عليه ، إذ لا معيّن للظن في تشخيص مورد الاحتياط إلا قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح التي عرفت الإشكال في التمسك بها في المقام.


وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن مقدمات الانسداد لا تقتضي العمل بالظن في مثل المقام مما لم تتنجز فيه التكاليف على كل حال ، بل تقتضي الرجوع اليه مع تنجز التكليف على كل حال وتعلق غرض المكلف بتحصيل الواقع ، كما في موارد التقصير في الفحص.

بل لا يبعد في مثل ذلك عدم اعتماد العقلاء على ما هو من سنخ الحجج بنظرهم لو فرض عدم إفادته الظن أو مخالفته له ، كما لا يعتمدون عليها مع التمكن من العلم بحصول الغرض ، وإنما يرجعون إليها مع التمكن من العلم أو بدونه في مقام التعذير والتنجيز المختص بباب التكاليف ، لأن قيام ما هو الحجة موجب لعدم تنجز التكليف لو فرض مخالفته للحجة ، فلا يتعلق الغرض بإصابته على كل حال ، ليرجع إلى الظن. فتأمل جيدا.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه قد أطال في تنبيهات المسألة بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما عرفت من عدم تمامية أصل الدليل ، فإنه تطويل من غير طائل.

ولنكتف بهذا المقدار ، وبه ينتهي الكلام في مباحث الحجج ، والحمد لله تعالى على أن وفقنا لذلك ، وله الشكر كثيرا.

وكان الفراغ منه ضحى الخميس ، الرابع من شهر جمادى الثانية ، سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وتسعين ، لهجرة سيد المرسلين صلّى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا ، في النجف الأشرف ، ببركة الحرم المشرف ، على مشرّفه أفضل الصلوات وأزكى التحيات. بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه ، نجل العلامة حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

ونسأله تعالى صلاح الحال ، وخير المال إنه أرحم الراحمين.

وقد انتهى تبييضه بيمنى مؤلفه الفقير ليلة الأربعاء ، العاشر من الشهر المذكور ، من السنة المذكورة. ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق.


الفهرس



القسم الثاني : الأصول المبتنية على العمل........................................... ٧

تمهيد : في حالات الملتفت للحكم الشرعي........................................ ١٠

منهج البحث.................................................................. ١٥

مقدمة : في أحكام القطع وأقسامه................................................ ١٧

الفصل الأول : في حجية القطع.................................................. ١٧

المقام الأول : في وجوب متابعة القطع في العمل..................................... ١٧

امتناع ردع الشارع عن متابعة القطع............................................... ١٨

القطع وصول للواقع لا طريق إليه................................................. ١٩

متابعة القطع من لوازمه الذاتية.................................................... ١٩

عدم اتصاف القطع بالحجيّة..................................................... ٢٠

كبرى لزوم متابعة القطع ليست مسألة اصولية..................................... ٢١

الاستدلال على حجيّة القطع بلزوم التناقض من الردع عنه........................... ٢٢

المقام الثاني : في منجزيّة القطع.................................................... ٢٣

الفصل الثاني : في التجرّي....................................................... ٢٥

الكلام في حرمة الفعل المتجرّى به................................................. ٢٦

الكلام في حرمة القصد للمعصية................................................. ٣٦

الكلام في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم الحرمة شرعا........................... ٣٨

الكلام في ثبوت القبح الفاعلي بالتجرّي........................................... ٤١

التنبيه الأول : في القبح الفاعلي.................................................. ٤٣

نصوص العفو عن نيّة السيّئة..................................................... ٤٥

التنبيه الثاني : في عدم اختصاص التجرّي بالقطع.................................... ٤٨

التنبيه الثالث : في الانقياد....................................................... ٥٠


الفصل الثالث : في تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي............................. ٥٣

امتناع تقييد الحكم بالعلم به..................................................... ٥٣

وجوب اختصاص الحكم بالعلم به................................................ ٥٥

اختصاص الحكم بحال الجهل به.................................................. ٥٨

أخذ القطع في الأحكام العقلية................................................... ٥٩

أقسام القطع الموضوعي.......................................................... ٥٩

الكلام في قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي................................ ٦٣

الوجوه المذكورة في مفاد أدلة الطرق والأصول........................................ ٦٣

الأول : تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.................................................. ٦٣

الثاني : تنزيل الطرق منزلة العلم................................................... ٦٨

الثالث : تتميم الكشف في الطرق................................................ ٦٨

الرابع : جعل الحجيّة............................................................ ٧٠

حقيقة الحجيّة.................................................................. ٧٣

مفاد الأصول التعبّدية وغيرها..................................................... ٧٥

مفاد الاحتياط................................................................. ٧٨

قيام الطرق والأصول مقام القطع الطريقي.......................................... ٨٠

قيام الطرق مقام القطع الموضوعي................................................. ٨١

قيام الأصول مقام القطع الموضوعي................................................ ٩٠

تقسيم الظن كالقطع............................................................ ٩١

الفصل الرابع : في عموم أحكام القطع لجميع أفراده وعدمه........................... ٩٣

الكلام في قطع القطّاع.......................................................... ٩٣

الكلام في القطع الحاصل من المقدمات العقليّة...................................... ٩٦

الفصل الخامس : في العلم الإجمالي.............................................. ١٠١

الكلام في كفاية العلم الإجمالي في تنجيز التكليف................................. ١٠١


الكلام في كفاية الامتثال الإجمالي............................................... ١٠٦

الاحتياط في العبادة مع إمكان الفحص.......................................... ١٠٦

الموضع الأول : الاحتياط مع الاحتمال البدوي.................................... ١٠٦

نيّة الوجه والتمييز............................................................. ١٠٦

مراتب الامتثال............................................................... ١٠٩

الكلام في اعتبار إحراز الأمر في التقرّب.......................................... ١١١

مقتضى الأصل............................................................... ١١٢

الموضع الثاني : الاحتياط بالتكرار مع العلم الإجمالي................................ ١١٤

الموضع الثالث : الاحتياط من دون تكرار مع العلم الإجمالي........................ ١١٦

المقصد الأوّل : في مباحث الحجج.............................................. ١١٩

محل الكلام هو الحجج الشرعية................................................. ١٢١

تمهيد وفيه أمران :

الأول : إمكان التعبد بغير العلم................................................ ١٢١

محاذير التعبد بغير العلم........................................................ ١٢٥

محذور تفويت الملاكات الواقعيّة................................................. ١٢٧

المصلحة السلوكيّة............................................................. ١٢٨

المصلحة في نفس التعبّد بالطريق................................................. ١٣٠

كلام المحقق العراقي في حل الشبهة.............................................. ١٣٢

المختار في دفع محذور تفويت الملاكات........................................... ١٣٥

محذور اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين.................................... ١٣٨

دفع المحذور المذكور باختلاف الرتبة.............................................. ١٣٩

دفع المحذور بنفي التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري............................. ١٤٣

المختار في دفع محذور اجتماع الحكمين........................................... ١٤٦

الثاني : مقتضى الأصل عند الشك في الحجيّة..................................... ١٤٨


الكلام في عموم عدم حجيّة غير العلم........................................... ١٥٠

الكلام في التديّن بمؤدى الحجة ونسبته للمولى..................................... ١٥٢

الفصل الأول : في حجيّة الظواهر............................................... ١٦١

حجيّة الظواهر في حقّ من لم يقصد بالإفهام...................................... ١٦٧

ثمرة النزاع.................................................................... ١٦٨

عدم توقف حجيّة الظواهر على الظن بالمؤدّى.................................... ١٧٢

حجيّة ظواهر الكتاب......................................................... ١٧٤

الفصل الثاني : في حجيّة قول اللغويين........................................... ١٨١

الفصل الثالث : في حجيّة الإجماع المنقول........................................ ١٨٩

ملاك حجيّة الإجماع........................................................... ١٩١

طرق إحراز قول الإمام من الإجماع.............................................. ١٩١

الإجماع في الاصطلاح......................................................... ١٩٢

تحرير محل النزاع في الإجماع المنقول............................................... ١٩٣

استلزام الإجماع للدليل المعتبر.................................................... ١٩٥

الفصل الرابع : في حجيّة الشهرة الفتوائيّة......................................... ١٩٧

أدلّة الحجيّة والجواب عنها...................................................... ١٩٩

الفصل الخامس : في حجيّة خبر الواحد.......................................... ٢٠٣

تحرير محلّ النزاع............................................................... ٢٠٦

الكلام في مقامات

المقام الأوّل : حجج النافين.................................................... ٢٠٧

المقام الثاني : حجج المثبتين..................................................... ٢١٨

آية النبأ ، وتقريب دلالتها..................................................... ٢١٨

الكلام في مفهوم الشرطيّة...................................................... ٢٢١

في الاشكال على الاستدلال بآية النبأ من جهة التعليل............................. ٢٢٥


الاشكال بلزوم خروج المورد..................................................... ٢٣٣

الكلام في التدافع بين المفهوم والمنطوق........................................... ٢٣٥

الكلام في حجيّة المفهوم في الأحكام............................................. ٢٣٦

تحقيق المراد بالفاسق........................................................... ٢٣٦

الكلام في معارضة عموم الحجيّة بعموم عدم حجيّة غير العلم....................... ٢٣٧

الكلام في شمول عموم الحجيّة للإجماع المدّعى على عدم الحجيّة..................... ٢٤٠

الكلام في إشكال الأخبار بالواسطة............................................. ٢٤٢

آية النّفر..................................................................... ٢٤٥

آية الكتمان.................................................................. ٢٥٢

آية الذّكر.................................................................... ٢٥٣

آية الإيذاء................................................................... ٢٥٥

الاستدلال بالسنّة ، وبيان طوائف الأخبار الدالة.................................. ٢٥٨

الاستدلال بالإجماع........................................................... ٢٦٦

كلام الناقلين للإجماع......................................................... ٢٦٩

قرائن ثبوت الإجماع........................................................... ٢٧١

دعوى السيد المرتضى الإجماع على عدم الحجيّة................................... ٢٧٣

الاستدلال بسيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء ، والكلام حول ذلك...................... ٢٧٤

دليل العقل................................................................... ٢٨٠

المقام الثالث : تعيين ما هو الحجة من أقسام الخبر................................. ٢٨٧

الكلام في مؤدى الأخبار....................................................... ٢٨٧

الكلام في مورد الإجماع........................................................ ٢٩٢

الكلام في مورد سيرتي المتشرعة والعقلاء.......................................... ٢٩٦

الفصل السادس : في حجيّة مطلق الظن......................................... ٢٩٩

قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون............................................... ٣٠٢


قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح........................................... ٣٠٤

دليل الانسداد ، ومقدماته..................................................... ٣٠٥

الكلام في الاحتياط........................................................... ٣٠٨

الكلام في مقتضى قاعدة نفي الحرج............................................. ٣٠٩

الكلام في الاستصحاب....................................................... ٣١٤

الكلام في المقدمة الثالثة........................................................ ٣١٥

الكلام في تبعيض الاحتياط.................................................... ٣١٦

الكلام في الكشف والحكومة................................................... ٣١٧

الفهرس

المحكم في أصول الفقه - ٣

المؤلف:
الصفحات: 330