بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الملك ، أو : تبارك

مكيّة ، وهي ثلاثون آية.

تسميتها :

سميت سورة الملك ؛ لافتتاحها بتقديس وتعظيم الله نفسه الذي بيده الملك ـ ملك السموات والأرض ، وله وحده مطلق السلطان ، والتصرف في الأكوان كيفما يشاء ، يحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع. وتسمى السورة أيضا «الواقية» و «المنجية» لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر وتشفع لصاحبها كما سأبيّن. وكان ابن عباس يسميها «المجادلة» لأنها تجادل عن قارئها في القبر.

مناسبتها لما قبلها :

وجه تعلق هذه السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ وجه عام : وهو أن هذه السورة تؤكد مضمون السورة السابقة في جملتها ، فالسورة المتقدمة تبيّن مدى قدرة الله وهيمنته وتأييده لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواجهة احتمال ظهور تآمر امرأتين ضعيفتين من نسائه عليه ، وهذه السورة توضح بصيغة عامة أن بيد الله ملك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه القدير على كل شيء.


٢ ـ وجه خاص : وهو أنه تعالى ذكر في أواخر «التحريم» مثالين فريدين متمثلين بامرأتي نوح ولوط للكافرين ، وبامرأة فرعون المؤمنة ، ومريم العذراء البتول للمؤمنين ، وهذه السورة تدل على إحاطة علم الله تعالى وتدبيره وإظهاره في خلقه ما يشاء من العجائب والغرائب ، فإن كفر امرأتي نوح ولوط لم يمنع اتصالهما بنبيين كريمين ، وإيمان امرأة فرعون ، لم يضر به اتصالها بفرعون الطاغية الجبار العنيد ، كما لم يزعزع إيمان مريم حملها غير المعهود بعيسى عليه‌السلام.

ما اشتملت عليه السورة :

سورة الملك كسائر السور المكية تعنى بأصول العقيدة الأساسية وهي إثبات وجود الله ، وعظمته ، وقدرته على كل شيء والاستدلال على وحدانيته ، والإخبار عن البعث والحشر والنشر.

بدئت بالحديث عن تمجيد الله سبحانه ، وإظهار عظمته ، وتفرده بالملك والسلطان ، وهيمنته على الأكوان ، وتصرفه في الوجود بالإحياء والإماتة (الآيات : ١ ـ ٢).

ثم أكدت الاستدلال على وجود الله عزوجل بخلقه السموات السبع ، وما زيّنها به من الكواكب والنجوم المضيئة ، وتسخيرها لرجم الشياطين ونحو ذلك من مظاهر قدرته وعلمه (الآيات : ٣ ـ ٥) مما يدل على أن نظام العالم نظام محكم لا خلل فيه ولا تغاير.

ومن مظاهر قدرته تعالى : إعداد عذاب جهنم للكافرين ، وتبشير المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير ، وذلك جمع بين الترهيب والترغيب على طريقة القرآن الكريم (الآيات : ٦ ـ ١٢).

ومن مظاهر علمه وقدرته ونعمه : علمه بالسر والعلن ، وخلقه الإنسان


ورزقه ، وتذليل الأرض للعيش الهني عليها وحفظها من الخسف ، وحفظ السماء من إنزال الحجارة المحرقة المدمرة للبشر ، كما دمرت الأمم السابقة المكذبة رسلها ، وإمساك الطير ونحوها من السقوط ، وتحدي الناس أن ينصرهم غير الله إن أراد عذابهم (الآيات : ١٣ ـ ٢٠).

وأردفت ذلك في الخاتمة بإثبات البعث ، وحصر علمه بالله تعالى ، وإنذار المكذبين بدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحذيرهم من إيقاع العذاب بهم ، وإعلان وجوب التوكل على الله ، والتهديد بتغوير الماء الجاري في الأنهار والينابيع دون أن يتمكن أحد بإجرائه والإتيان ببديل عنه (الآيات : ٢٥ ـ ٣٠).

والخلاصة : أن السورة إثبات لوجود الله تعالى ووحدانيته ببيان مظاهر علمه وقدرته ، وإنذار بأهوال القيامة ، وتذكير بنعم الله على عباده ، وربط الرزق بالسعي في الأرض ثم التوكل على الله تعالى.

فضل السورة :

وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة ، منها : ما أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها ، غفر له : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)».

ومنها : ما أخرجه الطبراني والحافظ الضياء المقدسي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)».

ومنها : ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس في تسمية سورة الملك بالواقية والمنجية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر».


بعض أدلة القدرة الإلهية

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))

الإعراب :

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً طِباقاً) صفة (سَبْعَ) و (طِباقاً) : إما جمع «طبق» كجمل وجمال ، أو جمع «طبقة» كرحبة ورحاب : ويصح أن تكون «طباقا» مصدرا أو حالا.

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ كَرَّتَيْنِ) : منصوب في موضع المصدر ، كأنه قال : فارجع البصر رجعتين ، ويراد بالتثنية هنا الكثرة ، لا حقيقة التثنية ، بدليل قوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) والبصر لا ينقلب خاسئا حسيرا بمجرد مرتين ، وإنما يصير كذلك بمرار جمة ، مثل قولهم : لبيك وسعديك ، أي إلبابا بعد إلباب ، وإسعادا بعد إسعاد ، يعني : كلما دعوتني أجبتك إجابة بعد إجابة ، من قولهم : ألب بالمكان : إذا أقام به.

البلاغة :

(بِيَدِهِ الْمُلْكُ) استعارة تمثيلية ، أو في لفظ «اليد» مجاز ، ويكون قوله (الْمُلْكُ) على الحقيقة.

(لِيَبْلُوَكُمْ) استعارة تمثيلية ، شبه معاملة الله لعباده بالابتلاء والاختبار.

(الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) بينهما طباق.

(الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) وضع الموصول للتفخيم والتعظيم ، أي له السلطان والتصرف المطلق.


(فَارْجِعِ الْبَصَرَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه والتذكير.

(قَدِيرٌ) ، (حَسِيرٌ) ، (السَّعِيرِ) سجع مرصع ، وكذا قوله : (الْغَفُورُ) ، (فُطُورٍ).

المفردات اللغوية :

(تَبارَكَ) تعاظم وتعالى بالذات عن كل ما سواه ، وكثير خيره وإنعامه ، من البركة : وهي النماء والزيادة الحسية أو المعنوية. (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) المالك المطلق وصاحب السلطان المتفرد ، و (بِيَدِهِ) نؤمن باليد كما جاء على مراد الله ، والظاهر من الآية هنا بيان قدرة الله وسلطانه ونفاذ تصرفه في ملكه. (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أوجده أو قدّره أزلا ، و (الْمَوْتَ) عدم الحياة المعروفة ، (وَالْحَياةَ) ما به الإحساس والحيوية. (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم في حقل الحياة ، أي ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم. (أَحْسَنُ عَمَلاً) أخلصه لله وأطوعه. (الْعَزِيزُ) القوي الغالب الذي لا يغلبه شيء ، ولا يعجزه عقاب المسيء. (الْغَفُورُ) الكثير المغفرة والستر لذنوب عباده إذا تابوا.

(طِباقاً) متطابقا بعضها فوق بعض ، بحيث يكون كالجزء منه ، وكالقبة على الأخرى. (تَفاوُتٍ) تباين وتناقض وعدم تناسب. (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أعدّه إلى السماء. (فُطُورٍ) شقوق وصدوع ، جمع فطر. (كَرَّتَيْنِ) مرة بعد مرة أو كرة بعد كرة ، والمراد بذلك التكرار والتكثير. (يَنْقَلِبْ) يرجع. (خاسِئاً) صاغرا ذليلا عن أن يرى شيئا من العيب أو الخلل في خلق السموات. (حَسِيرٌ) كليل منقطع ، لم يدرك المطلوب بعد كثرة المراجعة.

(السَّماءَ الدُّنْيا) أقرب السموات إلى الأرض. (بِمَصابِيحَ) بنجوم وكواكب مضيئة ، جمع مصباح. (رُجُوماً) راجمات أو مراجم يرجم ويرمى بانقضاض الشهب عليها ، جمع رجم. (لِلشَّياطِينِ) شياطين الجن والإنس. (وَأَعْتَدْنا) هيأنا. (عَذابَ السَّعِيرِ) عذاب النار المستعرة الموقدة.

التفسير والبيان :

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يمجد الله تعالى نفسه الكريمة للتعليم والإرشاد ، ويخبر أنه سبحانه المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء ، وأنه التام القدرة على كل الأشياء ، لا يعجزه شيء ، بل هو بتصرف في


ملكه كيف يريد ، من إعزاز وإذلال ، ورفع ووضع ، وإنعام وانتقام ، وإعطاء ومنع ، لا معقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل لحكمته وعدله وإطلاق سلطانه. وكلمة (تَبارَكَ) تعالى وتعاظم ، وهي تدل على غاية الكمال ومنتهى التعظيم والإجلال ، ولذا لا يجوز استعمالها في حق غير الله تعالى.

تدل الآية على أمور ثلاثة : أن الله تعالى وتعاظم عن كل ما سواه من المخلوقات ، وأنه المالك المتصرف في السموات والأرض في الدنيا والآخرة ، وهو صاحب القدرة التامة والسلطان المطلق على كل شيء.

ومن مظاهر قدرته وعلمه قوله سبحانه :

١ ـ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أي إنه تعالى موجد الموت والحياة ومقدرهما من الأزل ، وهو الذي جعلهم عقلاء ليدركوا معاني التكليف ويقوموا به ، وليعاملهم معاملة المختبر لأعمالهم ، فيجازيهم على ذلك ، وليعرّفهم أيهم أطوع وأخلص لله وخير عملا ، وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد ، الكثير المغفرة والستر لذنوب من تاب وأناب بعد ما عصاه وخالفه ، فهو سبحانه مع كونه عزيزا منيعا يغفر ويرحم ، ويعفو ويصفح ، كما في آية أخرى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر ١٥ / ٤٩ ـ ٥٠].

والآية دليل على أن الموت أمر وجودي ، لأنه مخلوق. والموت : انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له ، والحياة : تعلق الروح بالبدن واتصالها به ، وإيجاد الحياة معناه : خلق الروح في الكائنات الحية ، ومنها إيجاد الإنسان. والمقصد الأصلي من الابتلاء : هو ظهور كمال إحسان المحسنين.

روى ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ)


قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله أذلّ بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ، ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ، ثم دار بقاء».

وقدم الموت على الحياة في الآية ؛ لأنه أقوى داعيا إلى العمل.

٢ ـ (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي إنه تعالى الذي أوجد وأبدع السموات السبع ، المتطابقة بعضها فوق بعض ، كل سماء منفصلة عن الأخرى كما جاء في حديث الإسراء وغيره ، يجمع بينها نظام الجاذبية ، ما تشاهد أيها الناظر المتأمل في مخلوقات الرحمن من تناقض وتباين وعدم تناسب ، واردد طرفك في السماء ، وتأمل : هل تشاهد فيها من شقوق وصدوع؟! وهذا دليل على تعظيم خلقها ، وسلامتها من العيوب ، وكون خالقها ذا قدرة تامة وعلم دقيق شامل محكم متقن.

ونظير الآية : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد ١٣ / ٢].

والسماء : مادة لا يعلم حقيقتها إلا الله ، تبعد عن الأرض مسيرة خمس مائة عام بالقياسات القديمة ، وتتحدد الآن بالأميال حسبما تدل عليه برامج غزو الفضاء. وقيل : إنها مدارات الكواكب ، ويرى العلماء الفلكيون أنها فراغ يدور فيها الكوكب ، وإذا عرفنا أن الكواكب ذات أبعاد متفاوتة ومسافات مختلفة ، أدركنا تصور كرات السموات السبع. وتكوّن المجموعة الشمسية والمجموعات النجمية ما يعرف باسم «الكون». والمجموعة الشمسية (أو النظام الشمسي) تطلق في علم الفلك على الشمس والكواكب السيّارة وتوابعها ، وهي بترتيب بعدها عن الشمس : عطارد ، الزهرة ، الأرض ، المريخ ، المشتري ، أورانوس ، نبتون ، بلوتو. والمجموعات النجمية شموس نائية البعد تتغير ألوان بعضها لعدة أيام أحيانا.


(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً ، وَهُوَ حَسِيرٌ) أي ثم ردد البصر ودقق مرة بعد مرة مهما تكاثرت المرات ، يرجع إليك البصر صاغرا ذليلا عن رؤية شيء من الخلل أو العيب في خلق السماء ، وهو كليل عيي من كثرة التأمل ومعاودة النظر. ومعنى الآية بعبارة أخرى : إنك أيها الإنسان المخاطب لو كررت البصر مهما كررت ، لانقلب إليك أو رجع إليك البصر ذليلا عن أن يرى عيبا أو خللا.

والمراد بقوله : (كَرَّتَيْنِ) تكثير النظر لمعرفة الخلل.

٣ ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي ولقد زيّنا أقرب السموات إلى الناس بكواكب ثوابت وسيارات ، فصارت في أحسن خلق وأبهج شكل ، وسميت الكواكب مصابيح ؛ لأنها تضيء كإضاءة السراج ، وجعلنا تلك الكواكب بما ينقضّ منها من الشهب أو من دونها راجمات يرجم بها الشياطين ، وأعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب النار المستعرة الموقدة بسبب فسادهم وإفسادهم.

ورجم الشياطين يعدّ فائدة أخرى للكواكب ، غير كونها زينة للسماء الدنيا ، كما قال تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل ١٦ / ١٦].

قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة السماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر ، فمن تأول فيها غير ذلك ، فقد قال برأيه وتكلف ما لا علم له به.

ونظير الآية قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات ٣٧ / ٦ ـ ١٠].


فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ تعاظم الله بالذات عن كل ما سواه ، وهو مالك السموات والأرض في الدنيا والآخرة ، والقادر على كل شيء من إنعام وانتقام.

٢ ـ الله هو الذي أوجد الموت وأوجد الحياة ليعامل العباد معاملة المختبر ، ويقيم الدليل عليهم أيهم أطوع وأخلص لله ، وهو سبحانه القوي الغالب في انتقامه ممن عصاه ، الغفور لمن تاب.

قال ابن عمر : تلا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) حتى بلغ (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فقال : أورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله.

والابتلاء : هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي؟

٣ ـ الله هو الذي أوجد أيضا السموات السبع متطابقة بعضها فوق بعض ، ما ترى في خلقها من اعوجاج وصدوع ، ولا تناقض ولا تباين ، بل هي مستقيمة مستوية ، دالة على خالقها ، لا عيب ولا خلل فيها.

٤ ـ إذا كرر الإنسان النظر في السموات مرات كثيرة ، لا يرى فيها عيبا ؛ بل يتحيّر بالنظر إليها ، ويرجع إليه بصره خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك ، وقد بلغ الغاية في الإعياء.

٥ ـ زيّن الله السماء الدنيا وهي القربى أقرب السموات إلى الناس بكواكب مصابيح لإضاءتها ، وجعل منها شهبا تنقض على مردة الشياطين ، وأعد الله للشياطين أشد الحريق بسبب الكفر والضلال والإفساد.

والآيات كلها دليل على كونه تعالى كامل القدرة والعلم.


تعذيب الكفار العصاة

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

الإعراب :

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) المراد بذنوبهم ، ووحّد لوجهين :

أحدهما ـ أنه أضافه إلى جماعة ، والإضافة إلى الجميع تغني عن جمع المضاف ، كما أن الإضافة إلى التثنية تغني عن تثنية المضاف.

والثاني ـ أن (ذنب) مصدر ، والمصدر يصلح للواحد والجمع.

(فَسُحْقاً) منصوب على المصدر ، وجعل بدلا من الفعل ، أو منصوب بتقدير فعل ، تقديره : ألزمهم الله سحقا.

البلاغة :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ زيادة لهم في العذاب.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) مقابلة ، قابلة بقوله بعدئذ : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ).

(سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) استعارة مكنية ، شبه شدة استعارها وحسيسها بصوت الحمار.

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) استعارة مكنية ، شبه جهنم في شدة غليانها ولهبها ، بإنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه مبالغة في إيصال الضرر إليه ، وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو الغيظ الشديد.


(الْمَصِيرُ) ، (نَذِيرٌ) ، (كَبِيرٍ) ، (السَّعِيرِ) سجع مرصع لمراعاة رؤوس الآيات.

(ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه.

المفردات اللغوية :

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من شياطين الإنس والجن. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ساء المرجع هي. (أُلْقُوا فِيها) طرحوا فيها. (شَهِيقاً) صوتا منكرا شديدا كصوت الحمار ، والشهيق : تنفس يسبق الزفير ، وهو هنا كتنفس المتغيظ. (تَفُورُ) تغلي بهم كغلي المرجل. (تَمَيَّزُ) أي تتميز بمعنى تتقطع وتتفرق غضبا عليهم. (مِنَ الْغَيْظِ) غضبا على الكفار ، والغيظ : شدة الغضب ، وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم. (فَوْجٌ) جماعة أي من الكفار. (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) سؤال توبيخ ، والخزنة : الأعوان وهم مالك وأعوانه ، جمع خازن. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي رسول ينذركم عذاب الله ، ويخوفكم منه ، والاستفهام يراد به التوبيخ والتبكيت.

(إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم. (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) خطأ بعيد عن الصواب والحق. وهذا القول إما من الملائكة للكفار حين اعترفوا بالتكذيب ، أو من كلام الكفار للنذر من الرسل. (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) سماع تفهم. (أَوْ نَعْقِلُ) عقل تفكر. (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) في عدادهم ومن جملتهم. (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أقروا بذنوبهم حين لا ينفعهم الاعتراف ، والاعتراف : إقرار عن معرفة. (فَسُحْقاً) أي أسحقهم الله سحقا ، أي أبعدهم الله من رحمته.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى ما أعد للشياطين من عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا ، عمم الوعيد ، وأوضح أن هذا العذاب معدّ أيضا لكل كافر جاحد بربه ، ثم ذكر أوصاف النار وأهوالها الشديدة.

التفسير والبيان :

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وأعتدنا لكل الجاحدين بربهم ، المكذبين رسله من الجن والإنس عذاب نار جهنم ، وبئس المآل والمرجع وما يصيرون إليه ، وهو جهنم.


ثم ذكر صفات النار الأربع وهي :

١ ، ٢ ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً ، وَهِيَ تَفُورُ) أي إذا طرح الكفار في نار جهنم ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ، سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمير أول نهيقها ، أو كصوت المتغيظ من شدة الغضب ، وهي تغلي بهم غليان المرجل.

٣ ـ (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تكاد أو تقترب تتقطع ، وينفصل بعضها من بعض ، من شدة غضبها على الكفار ، وحنقها بهم.

٤ ـ (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي كلما طرح في جهنم جماعة من الكفار ، سألهم أعوانها وزبانيتها سؤال تقريع وتوبيخ : أما جاءكم في الدنيا رسول نذير ينذركم هذا اليوم ويخوفكم ويحذركم منه؟

فيجيبهم الكفار بقولهم من ناحيتين :

١ ـ (قالُوا : بَلى ، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي أجاب الكفار قائلين : بلى جاءنا رسول من عند الله ربنا ، فأنذرنا وخوّفنا ، لكنا كذبنا ذلك النذير ، وقلنا له : ما نزّل الله من شيء على لسانك ، ولم يوح إليك بشيء من أمور الغيب وأخبار الآخرة والشرائع التي أمرنا الله بها.

وما أنتم أيها الرسل إلا في ذهاب عن الحق ، وبعد عن الصواب. فهذا على الأظهر من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين.

ونظير الآية قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ، يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧١].


وهذا دليل على عدل الله في خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥].

٢ ـ (وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ، ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي إننا نلوم أنفسنا ونندم على ما فعلنا ، فلو كنا نسمع ما أنزل الله من الحق سماع من يعي ، وسماع هداية ، أو نعقل عقل من يميز وينظر وينتفع ، وعقل هداية ، ما كنا من أهل النار ، وما كنا عليه من الكفر بالله والضلال ، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل ، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم ، والإيمان بما أنزل الله تعالى ، والاستماع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقدم السمع على العقل والتفهم ؛ لأن المدعو إلى شيء يسمع كلام الداعية أولا ثم يتفكر فيه.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ، فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي فأقروا معترفين بما صدر عنهم من ذنب استحقوا به عذاب النار ، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء ، فبعدا لهم من الله ومن رحمته. وهذا بيان بالجريمة ثم العقاب.

أخرج الإمام أحمد عن أبي البحتري الطائي قال : أخبرني من سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» وفي حديث آخر : «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ للكافرين الجاحدين وجود الله ووحدانيته ، المكذبين رسله عذاب جهنم في الآخرة ، وبئس المرجع والمنقلب. وظاهر الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرّ لا يبقى في النار.


٢ ـ للنار أوصاف أربعة مرعبة رهيبة : هي سماع شهيق أي صوت منكر لها ، والفوران فهي تغلي بالكفار غليان المرجل ، والغضب فهي تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى ، وتعنيف الزبانية فكلما ألقي فيها جماعات منهم يسألهم خزنتها وهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال توبيخ وتقريع زيادة لهم في العذاب : ألم يأتكم رسول نذير في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا؟!

قال ابن عباس : الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها ؛ تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير ، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.

٣ ـ يعترف الكفار بأنه قد جاءهم رسول أنذرهم وخوفهم ، فكذبوه ، وقالوا : ما أنتم يا معشر الرسل إلا في بعد عن الحق والصواب.

٤ ـ وبعد أن اعترفوا بتكذيب الرسل ، اعترفوا أيضا بجهلهم ، وهم في النار ، وقالوا : لو كنا نسمع من الرسل النذر سماع تدبر ووعي ، وتعقل وفهم ما جاؤوا به ، ما كنا من أهل النار.

قال ابن عباس : لو كنا نسمع الهدى أو نعقله ، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكّر ، أو نعقل عقل من يميّز وينظر.

ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا.

عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لقد ندم الفاجر يوم القيامة ، قالوا ـ أي الفجار ـ : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) ، فقال الله تعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أي بتكذيبهم الرسل.

٥ ـ يقال للكفار حينئذ : سحقا لكم ، أي بعدا من رحمة الله ، سواء اعترفوا أو جحدوا ، فإن ذلك لا ينفعهم.


٦ ـ احتجوا بآية (وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ..) على أن الدين لا يتم إلا بالتعليم ؛ لأن السمع يقتضي إرشاد المرشد وهداية الهادي. واحتجوا بها أيضا على تفضيل السمع على البصر ؛ لأن الآية دلت على أن للسمع مدخلا في الخلاص من النار والفوز بالجنة ، فالسمع مناط الفوز ، والبصر ليس كذلك ، فوجب أن يكون السمع أفضل.

وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

الإعراب :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مَنْ) : في موضع رفع فاعل (يَعْلَمُ) والمفعول محذوف ، أي ألا يعلم الخالق خلقه.

البلاغة :

(وَأَسِرُّوا) و (اجْهَرُوا) بينهما طباق.

(كَبِيرٌ) ، (الْخَبِيرُ) سجع ، وكذا قوله : (الصُّدُورِ) و (النُّشُورُ).

المفردات اللغوية :

(يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد ، أو في حال غيبتهم عن أعين الناس ، فيطيعونه سرا وعلانية. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ثواب عظيم وهو الجنة ، يصغر دونه لذائذ الدنيا. (بِذاتِ الصُّدُورِ) بما في الضمائر أو النفوس.


(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ألا يعلم السر والجهر من أوجد الأشياء على وفق حكمته. (اللَّطِيفُ) العالم بدقائق الأمور وخفاياها التي لا يدركها العالمون. (الْخَبِيرُ) المطلع على ظواهر الأشياء وبواطنها. (ذَلُولاً) سهلة منقادة لينة يسهل لكم السير فيها والانتفاع بها. (مَناكِبِها) جوانبها وطرقها ، جمع منكب : وهو في الأصل مجتمع ما بين العضد والكتف. (النُّشُورُ) الخروج من القبور ، والحياة بعد الموت ، والرجوع إلى الله بعد البعث للجزاء.

سبب نزول الآية (١٣):

(وَأَسِرُّوا ..) : قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخبّره جبريل عليه‌السلام بما قالوا فيه ونالوا منه ، فيقول بعضهم لبعض : أسرّوا قولكم لئلا يسمع إله محمد.

المناسبة :

بعد وعيد الكفار بعذاب النار ، ذكر الله تعالى للمقابلة وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير ، ثم عاد إلى تهديد الكافرين والناس جميعا بأنه عليم بكل ما يصدر عنهم في السر والعلن ، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق والقادر الذي ذلّل الأرض للعالم ، وأذن لهم بالانتفاع بما فيها من خيرات وكنوز ظاهرة وباطنة كالزروع والثمار والمعادن.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إن الذين يخافون عذاب ربهم ولم يروه ، فيؤمنون به خوفا من عذابه ، ويخافون الله في السر والعلن ، فيخشون ربهم إذا كانوا غائبين عن الناس ، بالكف عن المعاصي والقيام بالطاعات ، حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى ، هؤلاء لهم مغفرة عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم ، وثواب جزيل ، وهو الجنة.

ثبت في الصحيحين : «سبعة يظلّهم الله تعالى في ظل عرشه ، يوم لا ظل


إلا ظله .. منهم : ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

ثم نبّه الله تعالى على أنه مطّلع على الضمائر والسرائر ، فقال :

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي سواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به ، فالله عليم به ، يعلم بما يخطر في القلوب وما تكنّه الضمائر ، لا يخفى عليه منه خافية ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالله عليم به ، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا ، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى. وقدّم السر على الجهر ؛ لأنه مقدم عليه عادة ، فما من أمر إلا وهو يبدأ أولا في النفس ثم يجهر به ، وللتحذير من التكتم والسر الذي قد يظن عدم العلم به. وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كالعلّة لما قبله.

والآية خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، وتشمل ما كانوا يسرون به من الكلام في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن عباس : كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيخبره جبريل ، فقال بعضهم لبعض : (أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ) لئلا يسمع إله محمد ، فأنزل الله هذه الآية.

ثم أقام الله تعالى الأدلة على سعة علمه ، فقال :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي ألا يعلم الخالق الذي خلق الإنسان وأوجده السرّ ومضمرات القلوب؟ فهو تعالى الذي خلق الإنسان بيده ، وأعلم شيء بالمصنوع صانعه ، وهو العليم بدقائق الأمور ، وما في القلوب ، والخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور ، لا تخفى عليه من ذلك خافية. والمراد : ألا يعلم السّر من خلق السّر.

وقيل : معناه : ألا يعلم الله مخلوقه؟ قال ابن كثير : والأول (أي ألا يعلم الخالق) أولى لقوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). والواقع أن كلا المعنيين محتمل ،


فيمكن جعل (مَنْ) اسما للخالق جل وعز ، ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، كما يمكن جعلها اسما للمخلوق ، ويكون المعنى : ألا يعلم الله من خلق.

ولا بد من أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه.

ثم أقام الله تعالى الدليل على قدرته ، ونبّه إلى تمام نعمته ، فقال :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي إن الله هو الذي سخّر لكم الأرض وذلّلها لكم ، وجعلها سهلة لينة قابلة للاستقرار عليها ، لا تميد ولا تضطرب ، بما جعل فيها من الجبال ، وفجّر فيها الينابيع ، وشقّ الطرق ، وهيّأ المنافع ، وأنبت فيها الزروع وأخرج الثمار ، فسيروا في جوانبها وأقطارها وأرجائها حيث شئتم بحثا عن المكاسب والتجارات والأرزاق ، ولا يغني السعي شيئا عن تيسير الله ، لذا قال تعالى : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض ، ومكّنكم من الانتفاع بها ، وأعطاكم القدرات على تحصيل خيراتها ، ثم اعلموا أنكم في النهاية صائرون إليه ، فإليه النشور ، أي البعث من قبوركم ، لا إلى غيره ، وإليه المرجع يوم القيامة ، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.

والآية دليل على قدرة الله ومزيد إنعامه على خلقه ، وعلى أن السعي واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل على الله ، وعلى أن الاتجار والتكسب مندوب إليه. أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله ،


المتأكلون ، إنما المتوكل رجل ألقى حبّه في بطن الأرض ، وتوكل على الله عزوجل.

ويكون المراد من الآيتين هذه وما قبلها تهديد الكافرين بأن الله عالم بسرهم وجهرهم ، وأنه هو المنعم المتفضل عليهم بما يسّر لهم من خيرات الأرض ، فاحذروا عقابه ، فكأنه تعالى قال : أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم ، فكونوا خائفين مني ، محترزين من عقابي ، فقد أسكنتكم في هذه الأرض التي ذلّلتها لكم ، وجعلتها سببا لنفعكم ورزقكم ، وإني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض ، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ إن خشية الله ، والخوف من عذابه وعقابه ، ومجاهدة الشيطان واجب كل إنسان ، وإن الذين يخافون الله ، ويخافون عذابه الغائب عنهم وهو عذاب يوم القيامة ، ويراقبون الله في سرهم وعلنهم ، لهم مغفرة لذنوبهم ، وثواب كبير وهو الجنة.

٢ ـ إن الله تعالى عالم على السواء بالجهر وبالسر ، وبما في الصدور من خطرات وخفايا وبما في القلوب من الخير والشر. وعليه يكون ما أخفاه المشركون من الكلام في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما جهروا به معلوما تمام العلم لله عزوجل. كذلك كل ما يكيد به الناس للإسلام وقرآنه ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهله في كل عصر ، دولا وأفرادا ، يعلم به الله ، ويعاقب أهل الكيد والمكر والشر والضلال عليه.

٣ ـ الدليل على كونه تعالى عالما بجميع الأشياء السرية والعلنية أنه هو الخالق للإنسان وأفعاله وأقواله ، ومن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه.


٤ ـ إن الأرض وما فيها من خيرات ومنافع وكنوز مسخرة للإنسان هي من نعمة الله وفضله ، وهي حقل التجارب ، ومرصد السلوك الإنساني ، والله الذي ذلّلها ويسّر لعباده الأرزاق فيها قادر أيضا على أن يخسفها بأهلها وسكانها ، ويكون المصير والمرجع إليه بعد البعث من القبور للحساب والجزاء ، فما على الناس إلا استعمال الأرض في الخير ، والبعد عن الشر والمنكرات والكفر والمعاصي.

أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

الإعراب :

(أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ أَنْ) : في موضع نصب على البدل من (مَنْ فِي السَّماءِ) وهو بدل اشتمال. وكذا قوله : (أَنْ يُرْسِلَ) بدل من (مَنْ).

(صافَّاتٍ) حال منصوب ؛ لأن المراد بالرؤية في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) رؤية العين ، لا رؤية القلب. وقوله : (وَيَقْبِضْنَ) عطف على (صافَّاتٍ) والجملة في موضع الحال ، وتقديره : قابضات ، وعطف هنا الفعل المضارع على اسم الفاعل ؛ لما بينهما من المشابهة.

البلاغة :

(صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) بينهما طباق ؛ لأن المعنى صافات وقابضات.

(نَذِيرِ) ، (نَكِيرِ) ، (بَصِيرٌ) سجع مرصّع مراعاة لرؤوس الآيات.


المفردات اللغوية :

(أَمْ أَمِنْتُمْ) بتحقيق الهمزتين ، أو بقلب الهمزة الأولى واوا ، أو بتسهيل الثانية مع الفصل ، أو بلا فصل ، أو مع إدخال ألف بينهما ، أو بإبدال الثانية ألفا ، والأمن : ضد الخوف. (مَنْ فِي السَّماءِ) هو الله ، على زعم العرب أنه تعالى في السماء. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) أن يغوّر بكم الأرض ، ويغيبكم فيها ، ومنه قوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) [القصص ٢٨ / ٨١]. (تَمُورُ) ترتجّ وتتحرك وتضطرب.

(حاصِباً) ريحا شديدة فيها حصباء ترميكم بها وتهلككم. (فَسَتَعْلَمُونَ) عند معاينة العذاب. (كَيْفَ نَذِيرِ) أي إنذاري بالعذاب أنه حق ، وتخويفي به. (مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم. (نَكِيرِ) إنكاري عليهم بإنزال العذاب ، وهو تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديد لقومه المشركين.

(أَوَلَمْ يَرَوْا) ينظروا. (فَوْقَهُمْ) في الهواء. (صافَّاتٍ) باسطات أجنحها في الجو عند طيرانها. (وَيَقْبِضْنَ) أي وقابضات يضمنها تارة أخرى. (ما يُمْسِكُهُنَ) عن الوقوع في حال البسط والقبض. (إِلَّا الرَّحْمنُ) بقدرته ، الشامل رحمته كل شيء. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبر العجائب. والمعنى : ألم يستدلوا بطيران الطير في الهواء على قدرتنا أن نعذبهم كما عذبنا الأمم المتقدمة؟

المناسبة :

بعد بيان الأدلة على علم الله وقدرته لترهيب الكافرين وتخويفهم ، أورد تعالى أدلة أخرى بقصد الوعيد والتهديد ، من إمكان الخسف العاجل بأهل الأرض ، أو إرسال الريح الحاصب التي تدمر كل شيء ، مع التذكير بإهلاك الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم نوح وفرعون وجنوده ، وإقدار الطير على الطيران في جو السماء.

التفسير والبيان :

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ، فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي هل تأمنون أن يخسف أو يغور ويقلع الله بكم الأرض ، كما خسف بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها ، فإذا هي تضطرب وتتحرك وتموج بكم؟


والمراد بهذا الاستفهام الوعيد والإخبار بأنه تعالى قادر على تعذيب من كفر بالله وأشرك معه إلها آخر. قال ابن عباس : أأمنتم من في السماء إن عصيتموه.

ونظير الآية قوله تعالى : (قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) [الأنعام ٦ / ٦٥].

ولكن من لطفه ورحمته تعالى بخلقه أنه يحلم ويصفح ، ويؤجل ولا يعجّل كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ، فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) [فاطر ٣٥ / ٤٥].

ثم أتبع الله تعالى ذلك بوعيد آخر :

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ، فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي بل هل أمنتم ربكم الله الذي هو في السماء كما تزعمون ، وهل أمنتم سلطانه وملكوته وقهره أن يرسل عليكم ريحا مصحوبة بحجارة من السماء ، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل في مكة ، وحينئذ تعلمون إذا عاينتم العذاب كيفية إنذاري وعقابي لمن خالف وكذب به ، ولكن لا ينفعكم هذا العلم؟!

ونظير الآية قوله تعالى : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٧٨].

ثم ذكّر الله تعالى بعذاب الأمم المتقدمة مؤكدا تخويف الكفار بالمثال والبرهان ، أما المثال فهو :

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إن الكفار الذين كانوا قبلهم ، والذين كذبوا الرسل ، شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم ، كعاد وثمود وكفار الأمم ، فحاق بهم سوء العذاب ، وانظروا كيف كان إنكاري عليهم بما أوقعته بهم من العذاب الشديد؟


وأما البرهان فقد ذكر تعالى عدة براهين على كمال قدرته ، مما يدل على كونه تعالى قادرا على إيقاع جميع أنواع العذاب بالكفار.

وهذا هو البرهان الأول :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي أولم ينظروا إلى الطير فوقهم في الجو أو الهواء ، وهن باسطات أجنحتها تارة ، وقابضات ضامات لها تارة أخرى ، ما يمسكهن في الهواء عند الطيران والقبض والبسط إلا الإله الرحمن القادر على كل شيء ، بما سخّر لهن من الهواء برحمته ولطفه ، إنه سبحانه عليم بصير بما يصلح كل شيء من مخلوقاته ، لا يخفى عليه شيء من دقائق الأمور وعظائمها.

ونظير الآية : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل ١٦ / ٧٩].

قالوا : وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ؛ لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها ، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ الله تعالى هو القادر على أن يخسف بالكافرين والظالمين الأرض ، عقوبة على كفرهم ، كما خسف بقارون وبداره الأرض ، فإذا الأرض تذهب وتجيء وتغور بهم وتبتلعهم.

وإنما خص الله تعالى السماء في قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء ، لا من يعظمونه في الأرض ، علما بأنه تعالى


إله في السماء وفي الأرض ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الزخرف ٤٣ / ٨٤].

وقد احتج المشبّهة على إثبات المكان لله تعالى بقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) وأجابهم الرازي بأن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين ؛ لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب ، فيكون أصغر من السماء ، والسماء أصغر من العرش بكثير ، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئا أصغر من العرش ، وذلك محال باتفاق أهل الإسلام ؛ لأن العرش أكبر المخلوقات في السماء والأرض. ولأنه تعالى قال: (قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ : لِلَّهِ) [الأنعام ٦ / ١٢] فوجب صرف الآية عن ظاهرها إلى التأويل. وللتأويل وجوه أولاها : تقدير الآية : أأمنتم من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته ، كما قال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام ٦ / ٣] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين (١).

٢ ـ إن الله تعالى هو الذي أنعم على عباده بتذليل الأرض ، وجعلها سهلة للاستقرار عليها ، وامتن عليهم ، فأباح لهم السير في نواحيها وأقطارها وآكامها وجبالها بحثا عن الرزق وللاتجار والتكسب ، وأذن لهم بالأكل مما أحله لهم ، ثم هم في النهاية مرجعهم إلى الله ، فإن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها ، والأرض ذلولا ، قادر على أن يبعثهم وينشرهم من قبورهم أحياء.

٣ ـ إن الله عزوجل هو القادر أيضا على تعذيب الكفار بإرسال حجارة من السماء ، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ، وحين وقوع العذاب يعلمون كيف إنذار الله بالعذاب أنه حق.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٧٠


٤ ـ أكد الله تعالى تخويفات الكفار بضرب المثل بمن كانوا قبلهم ، فإنهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم ، وكفار هذه الأمم المتقدمة ، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرّسّ وقوم فرعون.

٥ ـ من البراهين الدالة على قدرته تعالى : أنه كما ذلّل الأرض للإنسان ، ذلل الهواء للطيور ، وما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عزوجل ، وهو عليم بصير بكل شيء وبما يصلح كل شيء من مخلوقاته.

توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة الله

واختصاصه بعلم البعث

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

الإعراب :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أم : حرف عطف ، ومن : في موضع رفع بالابتداء ، و (هذَا) : مبتدأ ثان ، و (الَّذِي) : خبره. و (هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) : صلته. و (يَنْصُرُكُمْ) : جملة فعلية في موضع رفع صفة ل (جُنْدٌ). والجملة من المبتدأ الثاني


وخبره خبر عن المبتدأ الأول. وجواب الشرط في قوله : (إِنْ أَمْسَكَ) محذوف دل عليه ما قبله ، أي فمن يرزقكم؟

(أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا ..) خبر من محذوف دل عليه خبر (من) في الجملة السابقة وهو أهدى.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ قَلِيلاً) : نعت لمصدر محذوف ، و (ما) : زائدة ، و (تَشْكُرُونَ) : مستأنف أو حال مقدرة ، أي تشكرون شكرا قليلا.

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ هذَا) : في موضع رفع بالابتداء ، و (الْوَعْدُ) : صفة له ، أو بدل ، و (مَتى) : خبره ، وفيه ضمير يعود على (الْوَعْدُ).

البلاغة :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي) استفهام إنكار.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) استعارة تمثيلية ، مثّل المؤمن بمن يمشي سويا على صراط مستقيم ، ومثّل الكافر بمن يمشي مكبا على وجهه إلى طريق جهنم.

(غُرُورٍ) ، (نُفُورٍ) سجع مرصع لمراعاة رؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(أَمَّنْ هذَا) أي من هذا. (جُنْدٌ لَكُمْ) أعوان لكم. (يَنْصُرُكُمْ) يدفع العذاب عنكم.(مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أي غيره يدفع عنكم عذابه ، أي لا ناصر لكم. (إِنِ الْكافِرُونَ) أي ما الكافرون. (إِلَّا فِي غُرُورٍ) غرّهم الشيطان بأن العذاب لا ينزل بهم ، والمراد أنه لا معتمد لهم.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) من هذا الذي يرزقكم غير الله؟ (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) إن منع عنكم رزقه ، بإمساك المطر وسائر أسباب المعيشة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله تقديره فمن يرزقكم أي لا رازق لكم غيره. (لَجُّوا) تمادوا واستمروا. (فِي عُتُوٍّ) أي تكبر وعناد عن قبول الحق. (وَنُفُورٍ) إعراض وتباعد عن الحق.

(مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) واقعا على وجهه من حين لآخر. (سَوِيًّا) معتدلا منتصب القامة. (عَلى صِراطٍ) طريق. (مُسْتَقِيمٍ) قويم مستوي الأجزاء أو الجهة ، والمراد تمثيل المؤمن المتدين والمشرك الكافر.

(أَنْشَأَكُمْ) خلقكم. (وَالْأَفْئِدَةَ) القلوب والعقول لتتفكروا وتعتبروا.(قَلِيلاً


ما تَشْكُرُونَ) باستعمال الحواس فيما خلقت من أجله ، وما : مزيدة ، والجملة مستأنفة. (ذَرَأَكُمْ) خلقكم متكاثرين موزعين. (تُحْشَرُونَ) تجمعون للحساب والجزاء.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي الحشر أو إيقاع العذاب من الخسف والحاصب. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيه أيها النبي والمؤمنون به. (إِنَّمَا الْعِلْمُ) العلم بوقته وبمجيئه. (عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه غيره. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) رسول منذر بيّن الإنذار.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) رأوا الوعد الموعود به. (زُلْفَةً) أي ذا زلفة ، أي قريبا منهم. (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) اسودّت وعلتها الكآبة وساءتها رؤية العذاب. (وَقِيلَ) قال لهم الخزنة. (هذَا) العذاب. (تَدَّعُونَ) تطلبون وتستعجلون استهزاء واستنكارا. وهذه حكاية حال ستأتي ، عبر عنها بلفظ الماضي للدلالة على تحقق وقوعها.

المناسبة :

بعد أن أورد الله تعالى البرهان الأول على كمال قدرته وهو تمكين الطيور من الطيران ، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام ، وردّ على اعتقادهم شيئين أو أمرين : وهما القوة في الأعوان ، وجلب الخير من الأصنام ، ثم أورد تعالى برهانين آخرين على كمال قدرته : وهما خلق الناس وحواسهم ، وتكاثر الخلق واستمرارهم وتوزيعهم في الأرض ثم حشرهم إليه. ثم ذكر شيئين قالهما الكفار لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمره ربه بتخويفهم بعذاب الله وهما مطالبته بتعيين وقت العذاب ، ودعاؤهم عليه وعلى المؤمنين بالهلاك ، وهذا الأخير موضع الفقرة التالية.

فتكون البراهين الثلاثة على كمال قدرة الله هي الاستدلال أولا بأحوال الطيور من الحيوانات ، ثم الاستدلال بصفات الإنسان وهي السمع والبصر والعقل وحدوث ذاته ، ثم الاستدلال بضمان تكاثر الخلق وحفظ النوع الإنساني وتوزيعه في أنحاء الأرض والحشر يوم القيامة.

التفسير والبيان :

يرد الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره ، يبتغون عندهم النصر


والرزق ، فيقول منكرا عليهم ما اعتقدوه ، ومخبرا أنهم لن يحصلوه على ما أمّلوه :

١ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ ، إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي بل من هذا الجند أو العون الذي يعينكم ويمنعكم من عذاب الله إن أراد بكم سوءا؟! الواقع أنه ليس لكم من دون الله من ولي ولا واق ، ولا ناصر لكم غيره ، ولهذا فإن الكافرين هم في خداع وغرور عظيم من جهة الشيطان ، غرهم بأن العذاب لا ينزل بهم.

والتعبير بقوله : (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إشارة إلى أن بقاء الناس في الأرض مع كفرهم وظلمهم هو برحمة الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء.

والآية رد على الكفار الذين كانوا يمتنعون من الإيمان ، ويعتمدون في زعمهم واعتقادهم المخطئ على القوة من جهة الإخوة والأعوان ، مخبرا إياهم أنه لا ناصر لهم سوى الله سبحانه.

ثم رد الله تعالى على ادعائهم وجود رازق غير الله ، وأن الأصنام مصدر جميع الخيرات لهم ، ودفع كل الآفات عنهم ، فقال :

٢ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي بل من هذا الذي إذا منع الله عنكم رزقه ، رزقكم بعده بالأمطار وغيرها؟ والمعنى أنه لا أحد يعطي ويمنع ، ويرزق وينصر إلا الله عزوجل ، وحده لا شريك له ، وهم يعلمون ذلك ، ومع هذا يعبدون غيره ، لذا وصفهم تعالى بقوله : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي بل تمادوا واستمروا في عناد واستكبار عن الحق ، ونفور عنه ، وتابعوا طريقهم في طغيانهم وإفكهم وضلالهم ، ولم يعتبروا ولم يتفكروا.

فدلت الآيتان على أنه لا ناصر ينصر من عذاب الله ، ولا رازق يرزق غير الله إن حجب رزقه عن مخلوقاته.


ثم ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر أو الموحد والمشرك ، فقال :

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أرأيتم حال المؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكبّا على وجهه ، أي يمشي متعثرا في كل وقت ، منحنيا غير مستو ، لا يدري أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال.

أهذا أهدى أم ذلك المؤمن الذي مثله كمن يسير معتدلا ناظرا أمامه على طريق مستو ، لا اعوجاج به ولا انحراف فيه ، فهو في نفسه مستقيم ، وطريقه مستقيمة ، سواء في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا إذ يسير على منهج الله يكون على هدى وبصيرة ، وفي الآخرة يحشر على طريق مستقيم يؤدي به إلى الجنة. وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سويا على صراط مستقيم أهدى.

ثم ذكر الله تعالى البرهان الثاني الدال على كمال قدرته قائلا :

(قُلْ : هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين : إن الله ربكم هو الذي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، وأوجد لكم حاسة السمع لسماع المواعظ به ، وحاسة البصر لنظر بدائع خلق الله ، والقلوب والعقول للتأمل والتفكير في مخلوقات الله وإدراك حقائق الأشياء ، ولكن قلّما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره ، وترك زواجره ، وفيما خلقت لأجله من الخير ، وذلك هو الشكر الحقيقي لهذه الطاقات ، لا مجرد ترداد الشكر باللسان ، وملازمة العصيان ؛ لأن شكر نعمة الله تعالى : هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه ، فإذا لم تستعمل هذه القوى في طلب مرضاة الله ، فأنتم ما شكرتم نعمته مطلقا.


فقوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم هذه القوى العظيمة ، ولكنهم ضيّعوها في غير ما خلقت لأجله.

وإنما خصت هذه الجوارح بالذكر ؛ لأنها أداة العلم والفهم.

ثم ذكر الله تعالى البرهان الثالث على كمال قدرته ، فقال :

(قُلْ : هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وقل لهم أيضا : إن الله هو خلقكم وبثكم ووزعكم في أنحاء الأرض ، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم ، واختلاف ألوانكم وأشكالكم ، ثم إليه تجمعون بعد هذا التفرق والشتات ، فهو يجمعكم كما فرقكم ، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء.

وبعد أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخويف الكفار بعذاب الله ، ذكر مقالة الكفار ومطالبتهم بتعيين وقت البعث استهزاء واستنكارا ، فقال :

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي ويقول المشركون لمحمد والمؤمنين تهكما واستهزاء : متى يقع ما تعدنا به من القيامة والحشر والعذاب والنار في الآخرة ، والخسف والحاصب في الدنيا ، إن كنتم يا محمد والمؤمنون به صادقين فيما تدعونه؟ فأخبرونا به ، أو فبيّنوه لنا.

فأجابهم الله بقوله :

(قُلْ : إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قل لهم أيها النبي : إنما علم ذلك عند الله ، فلا يعلم وقت الساعة والعذاب على التعيين إلا الله عزوجل ، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة ، فاحذروه ، وإنما أنا منذر لكم ، أنذركم وأخوّفكم عاقبة كفركم ، فعليّ البلاغ وقد أديته لكم.

ثم وصف تعالى حال أولئك الكفار عند رؤية العذاب ، فقال :


(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَقِيلَ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي فلما رأوا العذاب الموعود به قريبا في الدنيا ، وقامت القيامة وشاهدها الكفار ، ورأوا أن الأمر كان قريبا ؛ لأن كل ما هو آت قريب وإن طال زمنه ، اسودّت وجوههم ، وعلتها الكآبة ، وغشيتها الذلة والمهانة ، وقالت لهم ملائكة العذاب الخزنة على وجه التقريع والتوبيخ : هذا الذي كنتم في الدنيا تطلبونه وتستعجلون به استهزاء ، في قولكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٢٢].

ونظير الآية : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الزمر ٣٩ / ٤٧ ـ ٤٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ لا ناصر ولا رازق للمؤمن والكافر في الحقيقة والواقع إلا الله عزوجل ، ولكن الكافرين في غرور من الشياطين تغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب ، وفي تماد واستمرار في طغيانهم وضلالهم ونفورهم عن الحق.

٢ ـ مثل الكافر في ضلاله وحيرته كالرجل المنكّس الرأس الذي لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله ، والذي لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه ، ومثل المؤمن في هدايته وتبصره كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المستقيم المهتدي له. ولا شك بأن الثاني أهدى من الأول.

٣ ـ هناك براهين ثلاثة على كمال قدرة الله تعالى : وهي تمكين الطيور من الطيران في الهواء ، وخلق الإنسان وتزويده بطاقات السمع والبصر والفؤاد أو العقل ، وخلق الناس موزعين مفرقين على ظهر الأرض ثم حشر الناس يوم القيامة ، لمجازاة كلّ بعمله ؛ لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة.


٤ ـ غالب الناس لا يشكرون نعم الله باستعمال حواسهم فيما خلقت لأجله ، ولا يوحدون الله تعالى.

٥ ـ طالب الكفار بعد تخويفهم بعذاب الله بتعيين الوقت الموعود به استهزاء وإنكارا.

٦ ـ الجواب عن تساؤلهم واستعجالهم : أن علم وقت قيام الساعة عند الله وحده ، فلا يعلمه غيره. وما مهمة الرسول إلا البلاغ المبين والإنذار والتخويف البيّن من العذاب.

دعاء كفار مكة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالهلاك

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

الإعراب :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ .. فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) إنما جاءت الفاء في قوله : (فَمَنْ يُجِيرُ) جوابا للجملة ؛ لأن معنى (أَرَأَيْتُمْ) انتبهوا ، وتقديره : انتبهوا فمن يجير ، كما تقول : اجلس فزيد جالس ، وليست جوابا للشرط. وجواب الشرط ما دل عليه (أَرَأَيْتُمْ). ويجوز أن تكون الفاء زائدة ، ويكون الاستفهام قائما مقام مفعول. (أَرَأَيْتُمْ) مثل : أرأيت زيدا ما صنع. وهكذا الكلام على الفاء في قوله تعالى : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ). ومنهم من قال : الفاء جواب الشرط.

(إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا ، وهو خبر (أَصْبَحَ). وقوله : (مَعِينٍ) إما فعيل من (معن) الماء : إذا كثر ، فتكون الميم أصلية ، أو يكون مفعولا من (العين) وأصله (معيون) فاستثقلت الضمة على الياء ، فحذفت ، فبقيت الياء ساكنة ، والواو ساكنة ، فحذفت الواو لسكونها وسكون ما قبلها ، وكسر ما قبل الياء مناسبة لها ؛ لأنه ليس في كلامهم ياء قبلها ضمة.


المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (أَهْلَكَنِيَ) أماتني. (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين. (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير آجالنا. (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي لا ينجيهم أحد من العذاب ، و (يُجِيرُ) ينجي أو يمنع. (غَوْراً) غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء ونحوها. (مَعِينٍ) جار كثير ، سهل التناول. والمراد : لا يأتي به إلا الله تعالى ، فكيف تنكرون أن يبعثكم؟!

ويستحب أن يقول القارئ عقب قوله (مَعِينٍ) : الله رب العالمين ، كما ورد في الحديث.

سبب النزول :

روي أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فنزلت الآية.

المناسبة :

هذا هو الأمر الثاني الذي حكاه الله عن الكفار بعد تخويفهم بعذاب الله ، فطالبوا أولا بتعيين وقت الحشر والبعث والعذاب ، ثم دعوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، كما قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور ٥٢ / ٣٠] وقال : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) [الفتح ٤٨ / ١٢].

التفسير والبيان :

أجاب الحق سبحانه وتعالى عن دعاء الكافرين بهلاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من وجهين:

الوجه الأول ـ (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا ، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله ، الجاحدين لنعمه : أخبروني عن أي فائدة أو منفعة لكم ، أو راحة فيما إذا أهلكني الله بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل ، أنا ومن معي من المؤمنين ، فلو فرض أنه وقع بنا


ذلك ، فلا ينجي الكافرين أحد من عذاب الله ، سواء أهلك الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه ، كما كان الكفار يتمنونه أو ينتظرونه ، أو أمهلهم.

والمراد بالآية تنبيه الكفار وحثهم على طلب النجاة والإنقاذ بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله بالإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث ، وإعلامهم بأنه لا ينفعهم وقوع ما يتمنون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من العذاب والنكال ، فسواء عذبهم الله أو رحمهم ، فلا مناص لهم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بهم.

الوجه الثاني ـ (قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ ، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لهم : إنه الله الرحمن الذي آمنا به وحده ، لا نشرك به شيئا ، وعليه توكلنا في جميع أمورنا ، لا على غيره. والتوكل : تفويض الأمور إليه عزوجل ، كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود ١١ / ١٢٣]. ولهذا قال تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ستدركون من هو في خطأ واضح منا ومنكم ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة. وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال. وإذا كان هذا حالهم فكيف يقبل الله دعاءهم على المؤمنين؟

ثم ذكر الله تعالى الدليل على وجوب التوكل عليه لا على غيره ، فقال مظهرا الرحمة في خلقه :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهم يا محمد: أخبروني إن صار ماؤكم الذي جعله الله لكم في العيون والآبار والأنهار لمنافعكم المتعددة غائرا ذاهبا في الأرض إلى أسفل بحيث لا ينال بالدلاء وغيرها ، فمن الذي يأتيكم بماء كثير جار لا ينقطع ، أي لا يأتيكم به أحد إلا الله تعالى ، وذلك بالأمطار والثلوج والأنهار ، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض لتحقيق حاجة الناس قلة وكثرة.


والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. فإذا كان لا بد وأن يقولوا : هو الله ، فيقال لهم حينئذ : فلم لا تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ والآية دليل على وجوب الاعتماد على الله تعالى في كل حاجة ، مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته ، وإشارة إلى أن الفتوح العقلي لا يتيسر إلا بإعانة الله تعالى.

ونظير الآية : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) [الواقعة ٥٦ / ٦٨ ـ ٦٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا فائدة ولا جدوى من دعاء الكفار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ؛ لأنه لا يستجاب دعاؤهم ، ولأنه إن مات المؤمنون أو رحموا فأخر الله تعالى آجالهم ، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ فلا حاجة بهم إلى توقع السوء وانتظاره بمن آمنوا ، ولا إلى استعجال قيام الساعة ، وما عليهم لتخليص نفوسهم من العذاب إلا إعلان الإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث.

٢ ـ يجب الاعتماد والتوكل على الله تعالى في كل حاجة ، بعد اتخاذ الأسباب والوسائل المقدورة للبشر ، وشأن المؤمنين أن يتكلوا على الله سبحانه ، أما الكفار فيتكلون على رجالهم وأموالهم.

٣ ـ إن الله تعالى هو القادر على إمداد خلقه بالأرزاق والأمطار والمياه النابعة ، ولا أحد غير الله عزوجل يقدر على ذلك ، والله برحمته وفضله ومنّه وكرمه يمدّ عباده بما يحتاجون ، وإن كفروا وجحدوا به.


يحكى أن بعض المتجبرين على الله قرئت الآية : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ..) عنده ، فقال : تأتينا به الفؤوس والمعاول ، فذهب ماء عينيه. وهذا من الإعجاز.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القلم

مكيّة ، وهي اثنتان وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة القلم لافتتاحها بما أقسم الله تعالى به وهو (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) وأقسم بالقلم تعظيما له ؛ لما له في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ؛ ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف ، كما قال صاحب الكشاف. والمراد بالقلم عند الأكثرين : الجنس ، أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض.

وقيل : سورة (ن).

مناسبتها لما قبلها :

هناك وجهان لتعلق السورة بما قبلها :

١ ـ ذكر الله تعالى في آخر سورة تبارك الملك تهديد المشركين بتغوير الماء ، وذكر في هذه السورة دليلا على ذلك وهو إذهاب ثمر البستان في ليلية بطائف طاف عليه ، وهو نار من السماء أحرقته ، وهم نائمون ، فلم يجدوا له أثرا.

٢ ـ ذكر الله تعالى في سورة الملك أدلة قدرته الباهرة وعلمه الواسع ، وأثبت البعث ، وهدد المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، وحثهم على الإيمان


بالله وحده لا شريك له وبالبعث وبالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم برّأ الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مطلع هذه السورة من أباطيل المشركين ونسبتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السحر أو الشعر أو الجنون ، وأثنى عليه بالخلق العظيم.

ما اشتملت عليه السورة :

عنيت هذه السورة المكية كسابقتها بأصول العقيدة الإسلامية الصحيحة وهي هنا إثبات النبوة والرسالة ، والبعث والآخرة ، وبيان مصير المسلمين والمجرمين في القيامة.

بدئت السورة بالقسم بالقلم تعظيما له لنفي تهم المشركين ومزاعمهم الباطلة ، ووصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخلق العظيم : (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) إلى قوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

وأردفت ذلك ببيان سوء أخلاق بعض الكفار وافترائهم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديدهم بما أعدّ الله لهم من العذاب الأليم : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) إلى قوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ).

ثم ضربت المثل لكفار مكة بأصحاب الجنة (البستان) بإحراقه وإتلافه ، بسبب كفرهم وجحودهم نعمة الله ، وعزمهم على منع حقوق الفقراء والمساكين : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ ..) إلى قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

وقارنت بين المؤمنين والمجرمين ، ووبخت المشركين على أحكامهم الفاسدة ، وفنّدت دعاويهم ، وأقامت الحجج عليهم ، وأبانت أحوالهم في الآخرة وموقفهم المخزي : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ..) إلى قوله : (وَهُمْ سالِمُونَ).

ثم هددت المشركين المكذبين بالقرآن : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ..).


وختمت السورة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذى المشركين ، وحذرته من التبرم والتضجر في تبليغ دعوته ، حتى لا يكون مثل يونس عليه‌السلام : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ..) وأعلنت حمايته من أذاهم ، ودحضت افتراءهم بأنه مجنون ، وردت عليهم بأن القرآن عظة وعبرة للعالمين ، فكيف يكون المنزل عليه مجنونا : (وَإِنْ يَكادُ ..) إلى آخر السورة.

فضلها :

هذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن بمكة ، فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ثم هذه ، ثم المزمل ، ثم المدثر.

كمال الدين والخلق عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

الإعراب :

(ن) في موضع نصب إما بتقدير : اقرأ نون ، أو بتقدير : أقسم بنون ، فحذف حرف القسم ، فاتصل الفعل به ، فنصبه ، وعلى هذا يكون : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) جواب القسم. وقال أبو حيان : (ن) من حروف المعجم ، نحو (ص) و (ق) ، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل ، والحكم على موضعها بالإعراب تخرص.

(بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي بأيكم الفتنة ، كما يقال : ماله معقول ، أي عقل ، وقيل : الباء في (بِأَيِّكُمُ) زائدة ، وتقديره : أيكم المفتون ، أي المجنون.


البلاغة :

(بِمَجْنُونٍ مَمْنُونٍ) جناس ناقص بينهما لاختلاف الحرف الثاني.

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) وعيد وتهديد ، وحذف المفعول للتهويل.

(وَما يَسْطُرُونَ بِمَجْنُونٍ مَمْنُونٍ الْمَفْتُونُ) إلخ سجع مرصع.

(ضَلَ) و (بِالْمُهْتَدِينَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(ن) إما اسم للسورة ، أو الغرض منه التحدي ، مثل : ق ، وص بأن يأتوا بمثل القرآن أو بعضه ، ما دام مكونا من حروف اللغة العربية التي بها ينطقون ويكتبون وينظمون الشعر ، ويدبّجون الخطب البليغة (وَالْقَلَمِ) أكثر المفسرين على أن المراد به جنس القلم الذي يكتب به ، أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض. (وَما يَسْطُرُونَ) يكتبون ، فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة.

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي ما أنت يا محمد في حالة جنون بسبب إنعام ربك عليك بالنبوة وغيرها ، وهذا رد لقول مشركي قريش : إنه مجنون (غَيْرَ مَمْنُونٍ) غير مقطوع (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) إذ تحتمل من قومك مالا يحتمله أمثالك (الْمَفْتُونُ) المجنون ، أو الفتون أي الجنون ، أي أبك أم بهم ، من فتن : إذا أصيب بفتنة ، أي محنة أو بلاء من ذهاب عقل أو مال أو موت ولد ، فابتلي بالجنون. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أعلم بمعنى عالم ، فالله عالم بهم ، وهم المجانين على الحقيقة. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الفائزين بكمال العقل.

سبب النزول :

نزول الآية (٢) (ما أَنْتَ ..) :

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : كانوا يقولون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه مجنون ، ثم شيطان ، فنزلت : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ).

نزول الآية (٤) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) :

سئلت عائشة رضي‌الله‌عنها عن خلقه ، فقالت : كان خلقه القرآن ألست تقرأ القرآن : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى عشر آيات [المؤمنون ٢٣ / ١ ـ ١٠].


التفسير والبيان :

(ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ن) : من الحروف المقطعة مثل : (ص) ، (ق) التي يبدأ بها في بعض السور للتنبيه والتحدي. ومعنى الآية : أقسم بالقلم الذي يكتب به ، وبما يكتبه الناس بالقلم من العلوم والمعارف ، إنك يا محمد ، لست بسبب النعمة أو بواسطة النعمة التي أنعم الله بها عليك وهي النبوة والإيمان والحصافة والخلق بالمجنون ، كما يزعمون. وهذا رد على افتراء وزعم أهل مكة أنه مجنون ، فهو استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا ، وأنه ذو منزلة عالية ومكانة رفيعة من إنعام الله عليه بحصافة العقل وسائر الأخلاق الفاضلة المؤهلة للنبوة. فقوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) هو المقسم عليه.

والقسم بالقلم وما يكتب به إشارة إلى عظم النعمة بهما ، وأنهما من أجلّ النعم على الإنسان بعد النطق والبيان ، فهما طريق التثقيف وانتشار العلوم والمعارف بين الجماعات والأمم والأفراد ، ودليل على ما تقدم الأمم والشعوب ونبوغها.

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «أول ما خلق الله القلم ، قال : اكتب ، قال : وماذا أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ، ثم خلق النون» أي الدواة.

وروى ابن عساكر عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم خلق النون وهو الدواة ، ثم قال : اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل ، فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ، ثم ختم على القلم ، فلم يتكلم إلى يوم القيامة».

وروى الطبراني مرفوعا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن


أول ما خلق الله القلم والحوت ، قال للقلم : اكتب ، قال : ما أكتب؟ قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ).

ثم ذكر تتمة المقسم عليه ، فقال تعالى :

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي وإن لك لثوابا عظيما على ما تحملت من مهام النبوة ، وقاسيت في إبلاغ الدعوة من أنواع الشدائد ، وذلك الثواب غير مقطوع وإنما هو مستمر ، أو لا يمنّ به عليك من جهة الناس.

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) أي وإنك لصاحب الخلق العظيم الذي أمرك الله به في القرآن ، لما تحملت من قومك ما لم يتحمله أمثالك ، ففيك الأدب الجمّ والحياء والجود والشجاعة والحلم والصفح وغير ذلك من محاسن الأخلاق. وقد امتثلت تأديب الله تعالى إياك في قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف ٧ / ١٩٩].

روى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة : أنها سئلت عن خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن. أو كان خلقه القرآن ، أما تقرأ : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق» (١) ومكارم الأخلاق : هي صلاح الدنيا والدين والمعاد. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فيما رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» إذ قال : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف ٧ / ١٩٩] فلما قبلت ذلك منه ، قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

__________________

(١) هذه رواية ، وفي رواية أحمد والبخاري في الآدب والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة : «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق».


وثبت في الصحيحين عن أنس قال : «خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، فما قال لي : أفّ قط ، ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته؟».

وأخرج أحمد عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده خادما له قط ، ولا ضرب امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا خيّر بين شيئين قط ، إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما ، حتى يكون إثما ، فإذا كان إثما ، كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله ، فيكون هو ينتقم لله عزوجل».

وبعد وصفه بأنه على خلق عظيم أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بقوله :

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي ستعلم يا محمد ، وسيعلم الكفار المشركون مخالفوك ومكذبوك في الدنيا ويوم القيامة من المفتون المجنون الضالّ منكم ومنهم؟ وهذا ردّ على زعمهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مفتونا ضالّا. فالمراد بالمفتون : الذي فتن بالجنون. وهو أسلوب رفيع من الخطاب ، فيه البعد عن الإثارة ، ولفت النظر والعقل.

وهذا التهديد كقوله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر ٥٤ / ٢٦]. وقوله سبحانه : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ ٣٤ / ٢٤].

ثم أكّد الله تعالى الوعيد والوعد بقوله :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن الله ربّك يعلم من هو في الحقيقة الضالّ ، أنت أم من اتّهمك بالضلال ، ومن هو المهتدي من الفريقين منكم ومنهم ، هداية موصلة إلى السعادة العاجلة والآجلة؟


والمعنى : بل هم الضالون ، لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل ، واختيارهم ما فيه ضرهم ، وسيجازي الله كل فريق بما يستحق من العقاب والثواب.

والمراد بالضلال : ضلال الدين والعقيدة ، وبالاهتداء : الهداية إلى الدين. وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأمثالهما.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ القسم بالقلم وبالمكتوب إشارة إلى خطرهما ، وعظيم أثرهما ونفعهما في ميادين العلم والمعرفة والتقدم والحضارة.

٢ ـ المقسم عليه ثلاثة أمور : نفي الجنون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما زعم الكفار ، واستمرار الثواب الجزيل والعطاء العظيم له ، وكونه صاحب الخلق العظيم ، وهو خلق القرآن ، وهو أصح الأقوال كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عائشة.

ووجود هذه النعم الكثيرة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله عزوجل ، وظهورها في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل مكرمة ، ينافي حصول الجنون ، وكلام الأعداء نوع من الهذيان.

والخلق : ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بسهولة ، فإذا وصف بالعظم وهو كونه على النهج الأفضل ، لم يكن خلق أحسن منه.

روى الترمذي عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن» ، وروى أيضا عن أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء».


وروى أيضا عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال : «تقوى الله وحسن الخلق» ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال : «الفم والفرج».

٣ ـ هدد الله تعالى وأوعد الكفار بأنهم سيعلمون حين يتبين الحق والباطل في الدنيا والآخرة من هو الذي فتن بالجنون ، ومن الذي يتبين رجحان عقله ، وسلامة منهجه ، وصحة دينه واعتقاده؟

ويؤكد ذلك أن الله تعالى هو العالم بمن حاد عن دينه ، والذين هم على الهدى والصواب والحق ، فيجازي كلّا يوم القيامة بعمله.

الأخلاق الذميمة عند الكفار

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

الإعراب :

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ أَنْ كانَ) : مفعول لأجله ، تقديره : لأن كان ذا مال وبنين ، واللام تتعلق بفعل محذوف ، تقديره : أيكفر أن كان ذا مال. ولا يجوز أن تتعلق ب (تُتْلى) لأن (إِذا) مضافة إليه ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا فيما قبل المضاف ، كما لا يجوز أن تتعلق ب (قالَ) لأنه جواب الشرط ، وجواب الشرط لا يعمل فيما قبله.

(قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَساطِيرُ) : خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه أساطير الأولين.


البلاغة :

(حَلَّافٍ) ، (هَمَّازٍ) ، (مَشَّاءٍ) ، (مَنَّاعٍ) صيغة مبالغة على وزن فعّال ، وكذلك (أَثِيمٍ) ، (زَنِيمٍ) صيغة مبالغة على وزن فعيل.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) استعارة ، استعار خرطوم الفيل لأنف الإنسان ، للاستهانة والاستخفاف.

المفردات اللغوية :

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) تهييج للتصميم على مخالفتهم. (وَدُّوا لَوْ) تمنوا ، و (لَوْ) : مصدرية. (تُدْهِنُ) تلين لهم بأن تدع نهيهم عن الشرك ، أو توافقهم فيه أحيانا ، من الادّهان : وهو المداهنة واللين والمصانعة. (فَيُدْهِنُونَ) فيلينون لك بترك الطعن والموافقة ، والفاء للعطف على (تُدْهِنُ) أي تمنوا الملاينة ، ولكنهم أخروا ذلك حتى تلين ، أو للسببية ، أي ودّوا لو تدهن ، فهم يدهنون حينئذ. وفي بعض المصاحف : فيدهنوا على أنه جواب التمني المفهوم من (وَدُّوا). وعلى قراءة يدهنون يقدر قبله بعد الفاء : هم.

(حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحق والباطل. (مَهِينٍ) حقير الرأي. (هَمَّازٍ) عيّاب طعّان مغتاب. (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بين الناس بالنميمة والسعاية للإفساد بينهم. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) بخيل بالمال ، ويمنع الناس من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح. (مُعْتَدٍ) ظالم ، يتجاوز الحق إلى الباطل. (أَثِيمٍ) آثم ، أو كثير الإثم والذنب. (عُتُلٍ) غليظ جاف. (زَنِيمٍ) دعي في قريش ، أي يلحق بهم في النسب وليس منهم ، وهو الوليد بن المغيرة ، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة ، قال ابن عباس : لا نعلم أن الله وصف أحدا بما وصفه به من العيوب ، فألحق به عارا لا يفارقه أبدا. وقيل : هو الذي يعرف بالشر واللؤم.

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لأن كان ، والمعنى : أيكفر لأن كان ذا مال. (آياتُنا) القرآن. (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي هي خرافات وأباطيل الأقدمين. (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) سنجعل على أنفه سمة وعلامة يتميز بها ما عاش ، فخطم أنفه بالسيف يوم بدر ، أي أصيب أنف الوليد بجراحة يوم بدر ، فبقي أثرها. والوسم : وضع علامة على الشيء لتمييزه بها عن غيره.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي في قوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) قال : نزلت في الأخنس بن شريق ، وأخرج ابن المنذر عن الكلبي مثله وهو قول


الشعبي وابن إسحاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزلت في الأسود بن عبد يغوث ، أو عبد الرحمن بن الأسود.

والمشهور أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة ، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : نزلت على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) فلم نعرفه ، حتى نزل عليه بعد ذلك : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة (١).

المناسبة :

بعد بيان ما عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كمال الدين والخلق ، بيّن ما عليه الكفار من الأخلاق الذميمة ، والدعوة إلى التشدد معهم ومخالفتهم ، مع قلة عدد المؤمنين ، وكثرة الكفار.

التفسير والبيان :

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي داوم على مخالفة الكفار المكذبين لرسالتك ، وتشدد في ذلك. وهذا نهي صريح من الله سبحانه عن ملاينة المشركين رؤساء مكة ؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه ، فنهاه الله عن طاعتهم أو مجاملتهم في شيء من العقيدة بقصد ترغيبهم في الإسلام. والمراد من النهي : التحميس والتهييج والتشدد في مخالفتهم. قال المفسرون : إن المشركين أرادوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ، وهم يعبدون الله مدة ، وآلهتهم مدة ، فأنزل الله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ).

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي تمنوا لو تلين لهم ، فيلينون لك ، بأن تركن إلى آلهتهم ، وتقربها ، وتترك ما أنت عليه من الحق ، فيعترفون بعبادة إلهك.

__________________

(١) أي الجزء المسترخي من أذنها حين تشق ، ويبقى كالجزء المعلّق.


ونظير الآية : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ ، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) [الإسراء ١٧ / ٧٤ ـ ٧٥].

ثم خصص تعالى من جميع المكذبين الكفار من اتصف بالأوصاف المذمومة العشرة التالي ، غير الكفر ، فقال :

١ ـ ٢ : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) أي ولا تطع كل شخص كثير الحلف بالباطل حقير الرأي والفكر. ومثله قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٢٤]. وفيه إشارة إلى أن عزّة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية ، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سرّ الربوبية ، وأيضا الحلاف يكذب كثيرا ، والكذاب حقير عند الناس.

٣ ـ ٤ : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالشرّ في وجوههم ، يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. أما اللمّاز : فهو الذي يذكر الناس في مغيبهم.

روى الجماعة إلا ابن ماجه عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يدخل الجنة قتّات» أي نمام.

٥ ـ ٦ : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ، مُعْتَدٍ ، أَثِيمٍ) أي بخيل : يمنع الخير عن الناس من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح ، ظالم متجاوز الحق وحدود الله من أمر ونهي ، كثير الآثام والذنوب. كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين ، وكان يقول لهم ولمن قاربهم : لئن تبع دين محمد منكم أحد ، لا أنفعه بشيء أبدا. فمنعهم الإسلام ، وهو الخير الذي منعهم.

٧ ـ ٨ : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ ، زَنِيمٍ) أي هو بعد ما ذكر من معايبه غليظ جاف فظّ ، شديد الخلق ، فاحش الخلق ، دعي في قريش ملصق بالقوم وليس هو منهم ، مشهور بالشر والسوء.


أخرج الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود عن حارثة بن وهب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعّف (١) ، لو أقسم على الله لأبرّه ، ألا أنبئكم بأهل النار كل عتلّ جوّاظ (٢) مستكبر».

ثم ذكر الله تعالى بعض دوافع ومظاهر كبره وكفره ، فقال :

٩ ـ ١٠ : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي أيكفر بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله أنعم عليه بالأموال والبنين ، حيث جعل جزاء النعم الكفر والجحود؟ فذلك لا ينفعه عند ربّه. وهذا تقريع وتوبيخ على مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين بالكفر بآيات الله تعالى والإعراض عنها. وقال الزمخشري : متعلق بقوله : (وَلا تُطِعْ) ، يعني : ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال ، أي ليساره وحظه من الدنيا.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإنه إذا تليت عليه آيات القرآن ، زعم أنها كذب مأخوذ من قصص وأباطيل القدماء ، وليس هو من عند الله تعالى.

وهذا كقوله تعالى حكاية عن هذا الطاغية الجبار : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، كَلَّا ، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر ٧٤ / ١١ ـ ٢٥].

__________________

(١) روي بكسر العين وفتحها ، والمشهور الفتح ، ومعناه : يستضعفه الناس ويحتقرونه ، وبالكسر : المتواضع المتذلل.

(٢) الجوّاظ : الجمّاع المنّاع ، الذي يجمع المال ويمنعه.


ثم ذكر الله تعالى عقابه في الدنيا أو الآخرة ، فقال :

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنجعل له وسما بالسواد على أنفه ، فإنه قاتل يوم بدر ، فخطم بالسيف في القتال ، قال المبرد : الخرطوم هاهنا الأنف. وعبر به إذلالا له واستخفافا به وإهانة له ؛ لأن السمة على الوجه أو الأنف شين. وقال جماعة : (سَنَسِمُهُ) سمة أهل النار ، يعني نسود وجهه يوم القيامة ، وعبر عن الوجه بالخرطوم ، فيسود وجهه بالنار قبل دخولها ، فيكون له عليه أو على أنفه علامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ نهى الله تعالى نبيّه ـ والنهي يقتضي التحريم ـ ومثله المؤمنون ، عن ممايلة المشركين المكذبين لرسالته ، وكانوا يدعونه إلى أن يكفّ عنهم ليكفّوا عنه ، فبيّن الله تعالى أن مما يلتهم كفر.

٢ ـ تمنى الكفار ملاينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومصانعتهم ومجاملتهم في أديانهم ، فيلينون له في دينه ، فإنهم طلبوا أن يعبد آلهتهم مدة ، ويعبدوا إلهه مدة ، ولكن الله نهاه عن ذلك.

٣ ـ خصص الله من بين المكذبين النهي عمن اتصف بصفات عشر : هي الحلاف : الكثير الحلف ، المهين : الحقير الرأي والتمييز والتفكير ، الهمّاز : الذي يذكر الناس في وجوههم ، وهو غير اللماز : الذي يذمهم في مغيبهم ، النمام : الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم ، المناع للخير : للمال أن ينفق في وجوهه ، ويمنع الناس عن الإسلام ، المعتدي : أي الظالم ، المتجاوز الحد ، صاحب الباطل ، الأثيم : الكثير الإثم والذنوب ، العتلّ : الغليظ الجافي الشديد في كفره ،


الشديد الخصومة بالباطل ، الزنيم : الملصق بالقوم الدّعي ، وكان الوليد بن المغيرة المخزومي دعيّا في قريش ، ليس من أصلهم ، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده ، كما تقدم ، [الطاغية المفتري].

٤ ـ وبّخ الله الوليد على مقابلته الإحسان والنعمة بالإساءة ، فقد أنعم الله عليه بالمال والبنين ، فكفر واستكبر. ويكون تقدير الآية : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) : ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يقول : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

٥ ـ هدد الله الوليد بالوسم على أنفه في الدنيا ، وبالعلامة الظاهرة على أنفه في الآخرة. قال ابن عباس : (سَنَسِمُهُ) : سنخطمه بالسيف ، وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف ، فلم يزل مخطوما إلى أن مات. وقال قتادة : سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها ، وقد قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران ٣ / ١٠٦] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه ٢٠ / ١٠٢] ، وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية : (سَنَسِمُهُ ..) علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار. والراجح لدي أن هذا الوسم كان في الدارين.

وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه ؛ فألحقه به عارا ، لا يفارقه في الدنيا والآخرة ؛ كالوسم على الخرطوم (١).

قال ابن العربي بمناسبة قوله تعالى : (سَنَسِمُهُ) : كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس ، حتى إنه روي أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٣٧.


اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه (١) ، وهذا وضع باطل.

ومن الوسم الصحيح في الوجه : ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور علامة على قبح المعصية ، وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ، ممّن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته. وقد كان عزيزا بقول الحق ، وصار مهينا بالمعصية ، وأعظم الإهانة : إهانة الوجه ، وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لحياة الأبد ، والتحريم له على النار ؛ فإن الله قد حرّم على النّار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود حسبما ثبت في الصحيح (٢).

قصة أصحاب الجنة

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

__________________

(١) تحميم الوجه : تسخيمه بالفحم.

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٨٤٥.


الإعراب :

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) كالشيء المصروم ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، مثل عين كحيل ، وكف خضيب ، ولحية دهين ، أي عين مكحولة ، وكفّ مخضوبة ، ولحية مدهونة.

(أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) تفسير ل (فَتَنادَوْا) أو (أَنِ) مصدرية ، أي بأن. وكذا قوله : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا).

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ عَلى حَرْدٍ) : جار ومجرور ، في موضع نصب على الحال ، وتقديره : وغدوا حاردين قادرين.

البلاغة :

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ ...) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(بَلَوْناهُمْ) امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع وغيرهما من ألوان البلاء والآفات ، أي عاملناهم معاملة المختبر. (الْجَنَّةِ) البستان ، كان دون صنعاء بفرسخين ، وكان لرجل صالح ، ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وألقته الريح ، أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة ، فيجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ، ضاق علينا ، فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين.

(لَيَصْرِمُنَّها) يقطعون ثمرتها. (مُصْبِحِينَ) وقت الصباح كيلا يشعر بهم المساكين ، فلا يعطون منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها. (وَلا يَسْتَثْنُونَ) لا يقولون في يمينهم إن شاء الله ، وإنما سمّاه استثناء ؛ لأن معنى : لا أخرج إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله ، واحد ، والجملة مستأنفة ، أي وشأنهم ذلك. (فَطافَ عَلَيْها) على الجنة. (طائِفٌ) أي أصابها بلاء طارق أو نازل من عذاب ربّك ، وهو نار أحرقتها. (كَالصَّرِيمِ) كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء ، أو كالليل في السواد بعد أن احترقت ، أي سوداء.

(فَتَنادَوْا) نادى بعضهم بعضا. (أَنِ اغْدُوا) اخرجوا في الغدوة مبكّرين. (عَلى حَرْثِكُمْ) بستاتكم أو غلتكم. (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) مريدين قطع ثماره ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله. (يَتَخافَتُونَ) يتسارّون فيما بينهم ويتناجون حتى لا يسمعهم أحد. (اغْدُوا) ساروا غدوة إلى حرثهم. (عَلى حَرْدٍ) أي على منع للفقراء ، وقيل : الحرد : القصد والسرعة. (قادِرِينَ) على الصرم في ظنهم.


(فَلَمَّا رَأَوْها) رأوا الجنة سوداء محترقة. (لَضَالُّونَ) تائهون عنها ، أي ليست هذه. (مَحْرُومُونَ) ممنوعون ثمرتها بمنعنا الفقراء منها. (قالَ أَوْسَطُهُمْ) خيرهم وأرجحهم رأيا. (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) هلا تذكرون الله وتستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم. (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بمنع الفقراء حقهم.

(يَتَلاوَمُونَ) يلوم بعضهم بعضا على قصدهم وإصرارهم على منع المساكين. (يا وَيْلَنا) يا هلاكنا ، و (يا) : للتنبيه. (طاغِينَ) متجاوزين حدود الله. (أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة ، وقد روي أنهم بدّلوا خيرا منها. (إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) طالبون منه العفو والخير. (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل ذلك العذاب لهؤلاء أصحاب الجنة عذاب الدنيا. (الْعَذابُ) لمن خالف أمرنا من أهل مكة وغيرهم. (أَكْبَرُ) أعظم منه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو علموا عذابها لاحترزوا عما يؤدّيهم إلى العذاب.

سبب النزول :

نزول الآية (١٧):

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر : خذوهم أخذا ، فاربطوهم في الحبال ، ولا تقتلوا منهم أحدا ، فنزلت : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي في قدرة أهل مكة على المؤمنين ، كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى عن الوليد بن المغيرة أو غيره أنه لأجل كونه ذا مال وبنين ، جحد وكفر وعصى وتمرد ، بطريق الاستفهام على سبيل الإنكار ، بيّن في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان ، ليعرف هل يصرفه في طاعة الله ويشكر نعم الله ، فيزيده من النعمة ، أم يكفر بها فيقطعها عنه ، ويصب عليه أنواع البلاء والآفات؟ ومثله في هذا ومثل أهل


مكة كمثل أصحاب الجنة ذات الثمار ، كلّفوا أن يشكروا النعم ويعطوا الفقراء حقوقهم ، فلما جحدوا النعمة وحرموا المساكين ، حرمهم الله الثمار كلها.

روي أن واحدا من ثقيف ، وكان مسلما ، كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء ، وكان يجعل من ناتجها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء ، فلما مات ، ورثها منه بنوه ، ثم قالوا : عيالنا كثير ، والمال قليل ، ولا يمكننا أن نعطي المساكين ، مثلما كان يفعل أبونا ، فأحرق الله جنتهم.

التفسير والبيان :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ، وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي إنا اختبرنا كفار مكة وامتحناهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما اختبرنا أصحاب البستان المعروف خبرهم عند قريش ، حين حلفوا أنهم سيقطعون ثمر الجنة (البستان) عند الصباح ، حتى لا يعلم بهم الفقراء ، فيأخذون ما كانوا يأخذونه ، طمعا في اقتناء كامل الغلة والزرع ، ولم يقولوا : إن شاء الله ، فالأكثرون أنهم إنما لم يستثنوا فيما حلفوا به بمشيئة الله تعالى ؛ لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة. وقال آخرون : بل المراد أنهم يصرمون كل الزرع ، ولا يستثنون للمساكين نصيبهم أو القدر الذي كان أبوهم يدفعه إليهم.

والمقصود اختبار أهل مكة ، لمعرفة حالهم ، أيشكرون نعم الله عليهم ، فيؤمنون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسله الله إليهم مبشرا ونذيرا ، أم يكذبونه ويكفرون برسالته ، ويجحدون حق الله عليهم؟ فيجازوا بما يستحقونه ، كما جوزي أصحاب الجنة ، وهو ما أخبر عنه في قوله تعالى :

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي طاف على تلك الجنة من عند الله نار أحرقتها ، أي أصابتها آفة سماوية ، حتى


صارت سوداء كالليل الأسود المظلم. ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها ، أو لم يبق منها شيء.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والمعاصي ، إن العبد ليذنب الذنب ، فيحرم به رزقا قد كان هيئ له ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ ، وَهُمْ نائِمُونَ ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) قد حرموا خير جنتهم بذنبهم».

ولكنهم لم يدروا بما حدث ، وانطلقوا مصمّمين على ما أرادوا ، فقال تعالى :

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ ، أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي فنادى بعضهم بعضا وقت الصباح ، ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع : أن اخرجوا مبكرين في الصباح إلى الثمار والزرع ، إن كنتم قاصدين للصرام أي القطع. قال مجاهد : كان حرثهم عنبا.

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فبادروا مسرعين إلى حرثهم ، وهم يتسارون ويتناجون ويقول بعضهم لبعض : لا تمكّنوا اليوم فقيرا يدخل عليكم ، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم.

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وذهبوا في الغداة مبكرين ، زاعمين أنهم قادرون على الصرام ومنع المساكين وحرمانهم. فقوله : (عَلى حَرْدٍ) على قصد المنع ، وقيل : الحرد : القصد والجدّ والسرعة. وقوله : (قادِرِينَ) من باب عكس الكلام للتهكم. وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء ، فعورضوا بنقيض مقصودهم.

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا : إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما وصلوا إليها وشاهدوها وهي على الحالة المؤلمة من الاحتراق والسواد ، قال بعضهم لبعض : قد أخطأنا وتهنا طريق جنتنا ، وليست هذه.


ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم ، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا :

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي بل في الحقيقة والواقع حرمنا الله ثمر جنتنا ، بسبب عزمنا على منع المساكين وحرمانهم من خيرها ، فلا حظ لنا ولا نصيب ، ونحن نادمون على ما فعلنا ، كما أخبر تعالى فيما يأتي :

(قالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي قال أمثلهم وأعقلهم وأعدلهم وخيرهم رأيا وتدينا : هلا تسبّحون الله وتذكرونه وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم ، وتستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها.

ولما صدموا بالحقيقة المرة ذكروا الله واعترفوا بذنبهم قائلين :

(قالُوا : سُبْحانَ رَبِّنا ، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي قالوا : تنزيها لله عن أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا ، فإنا كنا ظالمين أنفسنا في حرماننا المساكين حقوقهم. ولكنهم أتوا بالطاعة حيث لا تنفع ، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع الندم.

ثم لام بعضهم بعضا كما قال تعالى :

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي ثم أخذ بعضهم يلوم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ أي القطاف ، ولم يجدوا سبيلا إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب ، والدعاء على أنفسهم بالهلاك ، فقال تعالى :

(قالُوا : يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي قالوا : يا هلاكنا أقبل ، فإنا كنا معتدين متجاوزين الحد ، حتى أصابنا ما أصابنا.


ثم دعوا ربهم أن يعوضهم عما حلّ بهم ، فقالوا :

(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ، إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي لعل الله ربّنا أن يعطينا بدلا خيرا من جنتنا ، فإنا راجون العفو والخير منه. قال مجاهد : إنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها.

ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة ، فقال :

(كَذلِكَ الْعَذابُ ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل الجنة من الحرمان ، وأهل مكة من القحط والقتل عذاب الدنيا ، وهو عذاب كل من خالف أمر الله ، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ، ومنع حق المسكين والفقير ، وإن عذاب الآخرة أشد وأعظم وأشق من عذاب الدنيا ، فلو كان المشركون يعلمون ذلك ، لعادوا إلى رشدهم ، وبادروا إلى الإيمان بدعوة النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقلعوا عن الغي والضلال ، ولكنهم لا يعلمون. وهذا دليل على غفلتهم وجهلهم وبعدهم عن الحق والصواب.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت قصة أصحاب الجنة على ما يأتي :

١ ـ الدنيا دار ابتلاء واختبار ، فقد ابتلى الله تعالى أصحاب الجنة (البستان) وابتلى أهل مكة ، بأن أعطاهم ربّهم أموالا ليشكروا ، لا ليبطروا ، فلما بطروا ، وعادى المشركون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ابتلاهم بالجوع والقحط ، كما ابتلى (اختبر) أهل الجنة المعروف خبرها عندهم ؛ لأنهم من أهل اليمن القريبة منهم ، على بعد ستة أميال من صنعاء.

٢ ـ قال بعض العلماء : على من حصد زرعا أو جدّ ثمرة أن يواسي منها من حضره ، وذلك معنى قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام ٦ / ١٤١]


وأنه غير الزكاة ، لذا نهي عن الحصاد في الليل ، لا خشية الحيّات وهوّام الأرض ؛ لأن عقوبة أصحاب الجنة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين ، كما ذكر الله تعالى.

٣ ـ دلّ قوله تعالى : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان ؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا ، فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ، نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج ٢٢ / ٢٥]. وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

٤ ـ إن الإنسان ضعيف القوة والتدبير والرأي ، فلقد أحكم أصحاب الجنة الخطّة ، وصمموا على صرام الزرع والثمر أو العنب في الصباح الباكر قبل أن ينتشر المساكين في البساتين ، وذهبوا جادين مسرعين ، متسارّين ، أي يخفون كلامهم ويسرّونه لئلا يعلم بهم أحد قائلين : لا يدخل علينا مسكين ، أي لا تمكنوه من الدخول ، وعزموا على حرمان المساكين ، مع كونهم قادرين على نفعهم ، وهم يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم ، ففوجئوا بتدمير الله وإحراقه الحرث وإتلافه الغلة والثمر.

٥ ـ ولما رأوا الجنة محترقة لا شيء فيها ، قد صارت كالليل الأسود وأضحت كالرماد ، شكوا فيها ، وقالوا : ضللنا الطريق إلى جنتنا ، ثم لما تيقنوا منها قالوا : بل نحن محرومون ، أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. وهذا دليل على أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

٦ ـ كان أوسطهم ، أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم قد أمرهم بالاستثناء وهو سبحان الله أي تنزيها لله عزوجل ، فقال لهم : هلّا تسبّحون الله ؛ أي تقولون :


سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم ، وتعلقون الأمر بمشيئة الله ، وتتوبون إليه من خبث نيّتكم ، فإن الله ينتقم من المجرمين ، ولكنهم لم يطيعوه.

ثم تذكروا قوله ، واعترفوا بالمعصية ، ونزّهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل ، وإنما هم الظالمون أنفسهم في منعهم المساكين.

٧ ـ لام بعضهم بعضا في تدبير الخطة ، كشأن كل جماعة تخيب في أمرها ، فقال أحدهم لغيره : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، وقال الآخر : أنت خوّفتنا بالفقر ، وقال الثالث : أنت الذي رغبتني في جمع المال.

٨ ـ أكد أصحاب الجنة اعترافهم بالمعصية ، فقالوا : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء ، وكان استثناؤهم تسبيحا كما قال مجاهد وغيره ، وهو في موضع : «إن شاء الله» لأن المعنى تنزيه الله عزوجل أن يكون شيء إلا بمشيئته. والخلاصة في رأي الأكثرين أن معنى قوله : (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) هلا تستثنون ، فتقولون : إن شاء الله.

٩ ـ أعلن أصحاب الجنة توبتهم وأخلصوا نيّتهم في رأي الأكثرين ، حين قالوا : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) فإنهم تعاقدوا وتعاهدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا ، فدعوا الله وتضرعوا ، فأبدلهم الله ، من ليلتهم تلك ، ما هو خير منها. والإبدال : رفع الشيء ووضع آخر مكانه. قال مجاهد : إن هذه كانت توبة منهم ، فأبدلوا خيرا منها.

١٠ ـ هدد الله المكلفين من أهل مكة وغيرهم بقوله : (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال ، والمعنى : مثلما فعلنا بهؤلاء أصحاب الجنة ، نفعل بمن تعدّى حدودنا في الدنيا. ثم خوّف تعالى الكفار بعذاب أشد وهو عذاب الآخرة في قوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).


وقال ابن عباس : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر ، وحلفوا ليقتلن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر ، وتضرب القينات على رؤوسهم ، فأخلف الله ظنهم ، وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة ، لما خرجوا عازمين على الصّرام ، فخابوا.

١١ ـ الأظهر كما قال القرطبي : أن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين كان واجبا عليهم. وقيل : يحتمل أنه كان تطوعا.

جزاء المتقين وإنكار التسوية بين المطيع والعاصي

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))

الإعراب :

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ما) : في موضع رفع مبتدأ ، و (لَكُمْ) : خبره ، و (كَيْفَ) : في موضع نصب على الحال ب (تَحْكُمُونَ).

(إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) : إنما كسرت (إِنَ) لمكان اللام في (لَما) ولولا دخول اللام في (لَما) لكانت مفتوحة ؛ لأنها مفعول (تَدْرُسُونَ) وهو كقولهم : علمت أن في الدار لزيدا.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ) مبتدأ وخبر ، و (بالِغَةٌ) : صفة ل (أَيْمانٌ). وقرئ : بالغة بالنصب على الحال من الضمير في (لَكُمْ).


(إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) كسرت (أَيْمانٌ) إما لمكان اللام كما كسرت فيما قبله ، أو لأن ما قبله قسم ، وهي تكسر في جواب القسم.

(يَوْمَ يُكْشَفُ .. يَوْمَ) : ظرف منصوب ، وعامله إما (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) أو فعل مقدر ، تقديره : واذكر يوم.

(خاشِعَةً ..) حال من ضمير (يُدْعَوْنَ) أو من ضمير (يَسْتَطِيعُونَ) و (أَبْصارُهُمْ) : مرفوع بفعله. و (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) : جملة فعلية إما منصوبة على الحال ، وإما مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.

البلاغة :

(الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) بينهما طباق.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)؟ والجمل التي بعدها : تقريع وتوبيخ.

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) تشبيه مقلوب ليكون أبلغ وأروع ؛ لأن الأصل : أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والثواب.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) كناية عن شدة الهول يوم القيامة.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ..) أي في الآخرة. (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أي في الدرجة والمنزلة في الجنان ، وهو إنكار التسوية في نتيجة الإسلام والاجرام ، أي بين أهل الطاعة وأهل المعصية ، وهو إنكار لقول الكفرة ، فإنهم كانوا يقولون : إن صح أنّا نبعث كما يزعم محمد ومن معه ، لم يفضلونا ، بل نكون أحسن حالا منهم ، كما نحن عليه في الدنيا.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الفاسد؟ وهو التفات فيه تعجب من حكمهم ، واستبعاد له ، وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي. (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) منزل من السماء. (تَدْرُسُونَ) تقرؤون ، و (أَمْ) أي بل ألكم. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي لما تختارونه وتشتهونه. (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) عهود مؤكدة بالأيمان. (بالِغَةٌ) متناهية في التوكيد موثّقة. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم. (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي تحكمون به لأنفسكم ، وهو جواب القسم ؛ «لأن معنى (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) : أم أقسمنا لكم.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي سلهم أيهم كفيل لهم بذلك الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من


أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين. (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي بل ألهم أي عندهم شركاء موافقون لهم في هذا القول يكفلون لهم به. (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) أي فإن كان لهم شركاء كفلاء فليأتوا بشركائهم الكافلين لهم به. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي اذكر لهم حين شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء ، أي يوم يشتد الأمر ، يقال : كشفت الحرب عن ساق : إذا اشتد الأمر فيهما. (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يطلب منهم السجود توبيخا على تركهم السجود. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه. (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة لا يرفعون أبصارهم. (تَرْهَقُهُمْ) تغشاهم وتلحقهم. (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ) في الدنيا. (وَهُمْ سالِمُونَ) أصحاء متمكنون لا شيء يمنعهم.

المناسبة :

بعد تخويف الكفار بعذاب الدنيا في قوله تعالى : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ذكر الله تعالى أحوال السعداء ، وأبان أن للمتقين جنات النعيم ، ثم ردّ على الكفار الذين يزعمون المساواة في الآخرة بينهم وبين المسلمين من غير كتاب إلهي ، ولا عهد ممنوح مؤكد بالأيمان ، ولا كفلاء في يوم شديد الأهوال ، عسير الحساب على الصلاة وغيرها.

التفسير والبيان :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) إن لكل من اتقى الله وأطاعه ، في الدار الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص الذي لا يزول ولا ينقضي ، ولا يكدره شيء.

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية ، قال كفار مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا ، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل ، فلا أقل من المساواة.

ثم أجاب الله تعالى عن هذا الكلام بقوله :

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)؟ أي كيف نساوي بين الفريقين في


الجزاء ، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم عاص لا يبالي بمعصيته؟ كلا فلا تسوية بين المطيع والعاصي.

ثم نفى الله تعالى وجود كل الأدلة العقلية أو النقلية التي تصلح لإثبات التسوية أو تحقيق الدعوى ، فقال :

١ ـ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟ أي كيف تظنون ذلك ، وتحكمون هذا الحكم الأعوج ، كأن أمر الجزاء مفوّض إليكم؟ إن أبسط مبادئ العقل وأصول الرأي يمنع مثل هذا الظن أو الحكم. وهذا نفي الدليل العقلي.

٢ ـ (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي بل ألكم أو بأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه ، يتضمن حكما مؤكدا كما تدعونه ، وتقرؤون فيه ، فتجدون المطيع كالعاصي؟! وهل في ذلك الكتاب أن لكم في الآخرة ما تختارون وتشتهون؟ وهذا نفي الدليل النقلي.

٣ ـ (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي بل ألكم أو معكم عهود عند الله موثقة مؤكدة ثابتة إلى يوم القيامة في أن يدخلكم الجنة ، ويحصل لكم ما تريدون وتشتهون ، وينفّذ لكم الحكم الذي تصدرونه؟ وهذا نفي الوعد الإلهي بما توقعوا وظنوا.

٤ ـ (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي قل لهم يا محمد موبخا لهم ومقرّعا : من هو المتضمن المتكفل بهذا ، أو أيهم بذلك كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟

٥ ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي بل ألهم شركاء لله بزعمهم من الأصنام والأنداد قادرون على أن يجعلوهم مثل المسلمين في الآخرة؟ فإن كان لهم شركاء ، فليأتوا بهم لمناصرتهم إن كانوا صادقين في دعواهم. وهذا نفي التقليد وإبطال جوهر الاعتقاد لدى المشركين.


والخلاصة : المراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم ، ولا نقلي ، وهو كتاب يدرسونه ، ولا عهد لهم به عند الله ، ولا كفيل لهم يتكفل بما يقولون ، ولا لهم مؤيد يوافقهم من العقلاء ، مما يدل على بطلان دعواهم.

ثم تحداهم الله تعالى بالإتيان بالشركاء يوم اشتداد الأمر ، فقال :

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي فليأتوا بشركائهم لإنقاذهم يوم يشتد الأمر ويعظم الخطب في القيامة ، وحين يدعى هؤلاء الشركاء وأنصارهم من الكفار والمنافقين إلى السجود توبيخا لهم على تركه في الدنيا ، فلا يتمكنون من السجود ؛ لأن ظهورهم تيبس وتصبح طبقا واحدا ، فلا تلين للسجود.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد ، فيعود ظهره طبقا واحدا». والمراد بقوله : (يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) شدة الأمر وعظم الخطب ؛ لأن الله تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحوادث ، فليس المراد بالساق الجارحة ، وإنما ذلك مؤول بما ذكر.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ ، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ، وَهُمْ سالِمُونَ) أي تكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة ، تغشاهم ذلة شديدة ، وحسرة وندامة ، وقد كانوا في الدنيا مدعوين إلى الصلاة والسجود لله تعالى ، فأبوا وتمردوا وامتنعوا ، مع أنهم كانوا سالمين أصحاء ، متمكنين من الفعل ، لا علل ولا موانع تمنعهم من أداء السجود. قال النخعي والشعبي : المراد بالسجود : الصلوات المفروضة.

والخلاصة : أنهم لا يدعون إلى السجود تعبدا وتكليفا ، ولكن توبيخا


وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا ، وبما أنهم تكبروا عن السجود في الدنيا مع صحتهم وسلامتهم ، عوقبوا بنقيض ما كانوا عليه ، بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب عزوجل ، فيسجد له المؤمنون ، ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا من المنافقين أن يسجد ، بل يعود ظهره طبقا واحدا ، كما ثبت في الحديث المتقدم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن للمتقين الملتزمين أوامر الله المجتنبين نواهيه في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص ، لا يشوبه ما ينغّصه كما يشوب جنات الدنيا.

٢ ـ لا تسوية في الجزاء الأخروي بين المسلمين والكفار ، أو بين الطائعين والعصاة ، وذلك بحكم الفضل والإحسان ، لا من قبيل الاستحقاق على الله شيئا.

٣ ـ استنكر الله تعالى حكم المشركين الأعوج في المساواة بينهم وبين المسلمين ، كأن أمر الجزاء مفوض إليهم ، حتى يحكموا بما شاؤوا أن لهم من الخير ما للمسلمين. واستنكر أيضا وجود كتاب سماوي يجدون فيه المطيع كالعاصي ، وأن لهم ما يختارون وما يشتهون.

ونفى أن يكون لهم عهود ومواثيق مؤكدة بالله تعالى ، يستوثقون بها في أن يدخلهم الجنة ، فليس الأمر كما يحكمون ويظنون.

٤ ـ أنكر الله تعالى عليهم كذلك أن يكون لهم كفيل بما زعموا ، قائم بالحجة والدعوى ، أو أن يكون لهم ناس شركاء ، أي شهداء يشهدون على ما زعموا ، إن كانوا صادقين في دعواهم.

٥ ـ من أنواع العذاب في الآخرة للكفار : أنهم يوم يشتد الأمر ، ويعظم


الخطب يوم القيامة ، يطالبون تقريعا وتوبيخا بأداء الصلاة والسجود ، فلا يتمكنون عقابا لهم بنقيض ما كانوا عليه في الدنيا ، وتكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة ، وتغشاهم الذلة والمهانة ، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ، ووجوههم أشد بياضا من الثلج ، وتسودّ وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار.

تخويف الكفار من قدرة الله تعالى وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

بالصبر والتذكير العالمي بالقرآن

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

الإعراب :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ .. مَنْ) : في موضع نصب ؛ لأنه معطوف على ياء المتكلم في (فَذَرْنِي).

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ) قال : (تَدارَكَهُ) بالتذكير ؛ لأن تأنيث النعمة غير حقيقي ، أو حملا على المعنى ؛ لأن النعمة بمعنى النعيم. وقرئ بالتأنيث تداركته نعمة بالتأنيث حملا على اللفظ (وَهُوَ مَذْمُومٌ) الجملة حال.


(وَإِنْ يَكادُ إِنْ) مخففة من الثقيلة بدليل اللام.

(لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) قرئ بضم الياء وفتحها ، وهما لغتان ، والضم أفضل.

المفردات اللغوية :

(فَذَرْنِي) دعني واتركني. (وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) اتركه إلي فإني أكفيكه ، والحديث : القرآن. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نأخذهم تدريجيا أو قليلا قليلا. والاستدراج : أن تنزل بالمرء درجة درجة إلى حيث تريد لتوريطه فيه ، والمراد هنا : سندنيهم من العذاب تدريجيا بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أنه استدراج ، وهو الإنعام عليهم ؛ لأنهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم وأطيل لهم المدة. (كَيْدِي) تدبيري. (مَتِينٌ) شديد لا يطاق ، ولا يدفع بشيء. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) بل أتسألهم على تبليغ الرسالة. (أَجْراً) أجرة على البلاغ. (مَغْرَمٍ) غرامة مالية يعطونكها. (مُثْقَلُونَ) محمّلون أثقالا ، فيعرضون عنك ، ولا يؤمنون بك.

(الْغَيْبُ) الشيء المغيب الذي استأثر الله بعلمه ، أو اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي يحكمون به ويستغنون به عن علمك ، ويكتبون منه ما يقولون. (لِحُكْمِ رَبِّكَ) قضاؤه فيهم وإمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) وهو يونس عليه‌السلام في الضجر والعجلة. (نادى) دعا ربه في بطن الحوت. (مَكْظُومٌ) مملوء غيظا وغما ، مأخوذ من كظم السقاء : إذا ملأه.

(تَدارَكَهُ) أدركه. (نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) رحمة من الله وهي التوفيق للتوبة وقبولها. (بِالْعَراءِ) الأرض الخالية عن الأشجار والزروع. (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ملوم مطرود عن الرحمة والكرامة. (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) اصطفاه ورد إليه الوحي والنبوة. (مِنَ الصَّالِحِينَ) من الأنبياء الكاملين في الصلاح. (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك ويسقطك من مكانك ، والمعنى : إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك ويرمونك. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) القرآن. (وَيَقُولُونَ) حسدا وعداوة. (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) بسبب القرآن الذي جاء به ، حيرة من أمره وتنفيرا عنه. (إِلَّا ذِكْرٌ) موعظة وتذكير. (لِلْعالَمِينَ) الجن والإنس ، فلا يحدث بسببه جنون. قال البيضاوي : لما جننوه لأجل القرآن ، بيّن أنه ذكر عام ، لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلا ، وأمتنهم رأيا.


المناسبة :

بعد تخويف الكفار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ، خوّفهم تعالى وهددهم بما في قدرته من القهر ، ففيه الكفاية بالجزاء لمن يكذب بالقرآن ، ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر ، ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السالم ، ثم أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حسد قومه ، وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبّره وشجعه ، ثم أعلم الناس قاطبة أن القرآن عظة للجن والإنس جميعا ، يتلقاه أهل العقول والأفهام ، وليس المجانين كما زعموا.

التفسير والبيان :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي دعني وإياهم ، وخلّ بيني وبينهم ، واترك أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن ، فأنا أكفيك أمرهم ، وأعلم كيف أجازيهم ، فلا تشغل قلبك بشأنهم ، فإنا سنأخذهم بالعذاب على غفلة ، ونسوقهم إليه درجة فدرجة ، حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج ؛ لأنهم يظنونه إنعاما ، ولا يفكرون في عاقبته ، وما سيلقون في نهايته. وهذا تهديد شديد ، وتسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهم لا يشعرون أن الإنعام استدراج ، بل يعتقدون أن ذلك من الله تعالى كرامة ، وهو في الأمر نفسه إهانة كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٥٥ ـ ٥٦] وقال سبحانه : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا ، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً ، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام ٦ / ٤٤].

وقال الله تعالى هنا :

(وَأُمْلِي لَهُمْ ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي أمهلهم وأؤخرهم ليزدادوا إثما ، ويتورطوا ، فإن تدبيري وكيدي لأهل الكفر قوي شديد ، فلا يفوتني شيء لكل


من خالف أمري ، وكذب رسلي ، واجترأ على معصيتي. وسمى الله الجزاء كيدا ـ والكيد احتيال ـ لكونه في صورته ، إذ نفعهم وهو يريد الضرر بهم ، لما علم من خبثهم وتماديهم في الكفر.

جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢].

ثم أخبر الله تعالى عن إزالة كل الموانع التي تمنعهم من قبول الإسلام والحق ، فقال :

ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتطلب منهم أجرة على الهداية والتعليم وتبليغ رسالتك ودعوتك إياهم إلى الإيمان بالله تعالى؟ فهم من الغرامة المالية التي يتحملونها مثقلون بأدائها ، لشحهم ببذل المال. والمراد : هل طلبت منهم أجرا ، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب؟ الحقيقة أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عزوجل بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجوا ثواب ذلك عند الله تعالى ، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وكفرا وعنادا. وفي هذا إثبات النبوة ؛ لأن النبي ينشد الخير لذاته ، لا لمنفعة مادية.

ـ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي بل أعندهم علم الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون ، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك ، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ، ويستغنون بذلك عن إجابتك وامتثال قولك.

والمراد أنه ليس لهم حجة نقلية يعتمدون عليها في الإعراض عن قبول رسالة الإسلام.

ولما بالغ الله تعالى في تزييف منهج الكفار ، وتفنيد شبهاتهم وإبطالها ،


وزجرهم عليها ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذاهم وعلى تبليغ رسالته ، فقال :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي فاصبر يا محمد على قضاء ربك وحكمه فيك وفي هؤلاء المشركين ، وعلى أذى قومك وتكذيبهم ، وامض في تبليغ دعوتك ، دون توقف أو تعثر بمعارضتهم وإيذائهم ، فإن العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة.

ولا تكن مثل يونس عليه‌السلام في الضجر والعجلة والغضب ، حين ذهب مغاضبا على قومه ، فكان من أمره ما كان ، من ركوبه البحر ، والتقام الحوت له ، وشروده في البحار ، وندمه على ما فعل ، فنادى ربه في الظلمات في بطن الحوت ، وهو مملوء غيظا وغما على قومه ، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان ، كما جاء في آية أخرى : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧ ـ ٨٨].

والمعنى : لا يوجد منك ما يوجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه ، كما قال تعالى :

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ ، وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لولا أن تداركته رحمة من الله ونعمة ، بتوفيقه للتوبة وقبولها منه ، فتاب الله عليه ، لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات ، وهو ملوم بالذنب الذي أذنبه ، مطرود من الرحمة والكرامة ، لذا قال تعالى :

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي فاصطفاه ربه واستخلصه واختاره للنبوة والوحي ، وجعله من الأنبياء المرسلين لقومه الكاملين في الصلاح ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون ، فآمنوا جميعا. ويلاحظ أن كلمة (لَوْ لا) دلت على أن المذمومية لم تحصل.


ثم حذر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عداوة المشركين ، قائلا :

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي إنهم ـ كما قال الزمخشري ـ من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء ، يكادون يزلون قدمك ، أو يهلكونك ، وكان هذا النظر يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، لشدة كراهيتهم ، وحسدا على ما أوتي من النبوة ، ويقولون : إنه مجنون ، حيرة في أمره ، وتنفيرا عنه ، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم. والمعنى : أنهم جننوه لأجل القرآن.

وقال بعضهم : المراد أنهم يكادون يصيبونك بالعين ، روي أن العين كانت في بني أسد ، فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام ، فلا يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله ، إلا عانة ، فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك ، فقال : لم أر كاليوم رجلا ، فعصمه الله.

قال الهروي : أراد ليعتانونك بعيونهم ، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه ، عداوة لك.

ورد ابن قتيبة على ذلك قائلا : ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم ، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء ، يكاد يسقطك.

ورأى ابن كثير أن المعنى : يحسدونك لبغضهم إياك ، لولا وقاية الله لك ، وحمايته إياك منهم ، وفي هذه الآية ـ على رأي البعض ـ دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عزوجل ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.

منها : ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد ، والعين حق» أي بإرادة الله.


ومنها : ما أخرجه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد تدخل الرجل العين في القبر ، وتدخل الجمل القدر» وإسناد رجاله كلهم ثقات.

ومنها : ما أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العين لتولع الرجل بإذن الله ، فيتصاعد حالقا ، ثم يتردى منه» وإسناده غريب.

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ويقولون عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه لمجنون ، أي لمجيئه بالقرآن ، وما القرآن إلا موعظة وتذكير للجن والإنس ، فلا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء. وفيه نسبة الجهل إلى من يقول هذا القول ، وكيف يجنن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف؟!.

قال الحسن البصري : دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ كفى بالله مجازيا ومنتقما ممن يكذب بالقرآن العظيم ، وإن الله سيأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون ، فعذّبوا يوم بدر. وهذا استدراج من الله تعالى ، والاستدراج : ترك المعاجلة. وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرّج.

٢ ـ إن الله يمهل ولا يهمل ، فهو سبحانه يمهل ويطيل المدة للظالمين والكفار ، ثم يعاقبهم ، فلا يفوته أحد ، وعذاب الله قوي شديد ، وتدبيره محكم لا يمكن التفلت منه.


٣ ـ ليس للكفار والمشركين علم بالغيب الذي غاب عنهم ، فيكون حكمهم لأنفسهم بما يريدون غلطا محضا ، وتقوّلا كاذبا.

٤ ـ الصبر على قضاء الله وحكمه مطلوب شرعا ، ولا ينبغي لمؤمن العجلة والتضجر والغضب ، كما عجل صاحب الحوت يونس بن متّى عليه‌السلام حين تضجر ثم تاب وندم ، ودعا في بطن الحوت وهو مملوء غما ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧].

فقبل الله بفضله ومنّه ورحمته ونعمته دعاءه ، واصطفاه ربه واختاره وجعله من الأنبياء الصالحين ، بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون هم أهل نينوى ، ولولا قبول توبته ، لنبذ في الأرض الخالية الفضاء مذموما ملوما. والذم واللوم بسبب ترك الأفضل ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. ولم يقع الذم بدليل كلمة (لَوْ لا).

٥ ـ اشتدت عداوة الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانوا إذا سمعوه يقرأ القرآن ، نظروا إليه نظرة شديدة ملؤها الحقد والعداوة والبغضاء ، حتى لتكاد نظراتهم تسقطه وتزلّ قدمه ، أو تهلكه.

وينسبونه أيضا إلى الجنون إذا رأوه يقرأ القرآن ، مع أن القرآن لا يتحمله إلا من كان أهلا له من العقلاء ، وهو شرف وتذكير وموعظة للعالمين ، شرفوا باتباعه والإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهل يعقل أن يكون هذا القرآن آتيا على يد مجنون؟ وكيف يجنن من جاء بمثله؟


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحاقة

مكيّة ، وهي اثنتان وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة الحاقة ؛ لافتتاحها بالاستفهام عنها ، تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها ، و (الْحَاقَّةُ) اسم من أسماء يوم القيامة ؛ لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ، ولهذا عظم الله أمرها بالسؤال عنها ، أو هي الساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجيء ، التي هي آتية لا ريب فيها.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ وقع في سورة (ن) ذكر يوم القيامة مجملا ، في قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [٤٢] وفي هذه السورة أوضح تعالى نبأ هذا اليوم وشأنه العظيم : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ).

٢ ـ هدد الله تعالى في السورة السابقة كل من كذب بالقرآن وتوعده بقوله : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ..) [٤٤] وفي هذه السورة ذكر أحوال الأمم التي كذبت الرسل وما عوقبوا به ، للعظة والزجر والعبرة للمعاصرين.


ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بأصول العقيدة ، وتحدثت عن أهوال القيامة ، وصدق الوحي ، وكون القرآن كلام الله ، وتبرئة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من افتراءات الكفار واتهامات الضالين.

بدئت بتفخيم شأن القيامة وتعظيم هولها ، وتكذيب الأقوام السابقة بها ، مثل ثمود ، وعاد ، وقوم لوط ، وفرعون وأتباعه ، وقوم نوح ، وإهلاكهم بسبب تكذيبهم بها وتكذيب رسلهم ، من أول السورة إلى قوله تعالى : (أُذُنٌ واعِيَةٌ).

ثم وصفت وقائع عذاب الآخرة جزاء على إنكاره في الدنيا في قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ ..) إلى (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ).

وأردفت ذلك ببيان حال السعداء والأشقياء يوم القيامة : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ .. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) إلى قوله : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ).

ثم أقسم رب العزة قسما بليغا على صدق الوحي والقرآن وأنه كلام الله المنزل على قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه ليس بقول شاعر ولا كاهن : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) إلى قوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وختمت السورة ببيان البرهان القاطع على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمانته في تبليغ الوحي ، وأن القرآن تذكرة وعظة وخبر حق لا مرية فيه ، ورحمة للمؤمنين وحسرة على الكافرين : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ..) إلخ السورة.


تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

الإعراب :

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ الْحَاقَّةُ) الأولى : مبتدأ ، و (مَا) استفهامية ، مبتدأ ثان ، و (الْحَاقَّةُ) الثانية : خبر المبتدأ الثاني ، والمبتدأ الثاني وخبره : خبر عن المبتدأ الأول. وقوله (مَا الْحَاقَّةُ) الأصل : الحاقة ما هي؟ أي أيّ شيء هي؟ فوضع الظاهر موضع المضمر للتفخيم والتعظيم ، فهو أهول لها. (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ مَا) استفهامية مبتدأ ، و (مَا) الثانية : مبتدأ ثان ، و (الْحَاقَّةُ) خبره ، والمبتدأ الثاني وخبره في موضع نصب ب (أَدْراكَ). و (أَدْراكَ) والجملة المتصلة به : في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ الأول. و (أَدْراكَ) يتعدى إلى مفعولين ، والمفعول الأول : الكاف ، والجملة بعده في موضع المفعول الثاني. ولم يعمل (أَدْراكَ) في (مَا) الثانية ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.

(بِالطَّاغِيَةِ) إما مصدر كالعاقبة والعافية ، وإما صفة لموصوف محذوف تقديره : بالصيحة الطاغية ، فحذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه.

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) استئناف أو صفة جيء به لنفي توهم كون الأمور طبيعية.

(سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) حذفت تاء التأنيث من (سَبْعَ) وأثبتت في (ثَمانِيَةَ)


لأن الليالي جمع مؤنث والأيام جمع مذكر ، و (حُسُوماً) : إما منصوب على الوصف لقوله : (أَيَّامٍ) أو منصوب على المصدر ، أي تباعا. و (صَرْعى) حال من (الْقَوْمَ) لأن (فَتَرَى) من رؤية البصر ، و (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) : في موضع نصب على الحال من ضمير (صَرْعى). وتقديره : مشبهين أعجاز نخل ، و (خاوِيَةٍ) : صفة لنخل ، وقال (خاوِيَةٍ) بالتأنيث ؛ لأن النخل يجوز فيه التأنيث والتذكير مثل (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ).

(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) يقرأ بالإدغام ، لقرب التاء من مخرج اللام.

البلاغة :

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) إطناب بتكرار الاسم للتهويل والتعظيم.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) ثم قال : (فَأَمَّا ثَمُودُ وَأَمَّا عادٌ) تفصيل بعد إجمال ، وفيه لف ونشر مرتب.

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) تشبيه مرسل مجمل ، فيه الأداة ، وحذف وجه الشبه.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) استعارة ، شبه ارتفاع الماء بطغيان الإنسان على الإنسان.

المفردات اللغوية :

(الْحَاقَّةُ) أي الساعة الثابتة المجيء ، الواجبة الوقوع ، وهي القيامة ، التي يحق ، أي يثبت ويجب حدوثها وما اشتملت عليه من البعث والحساب والجزاء الذي أنكره المنكرون. (مَا الْحَاقَّةُ) أي أي شيء هي؟ وضع الظاهر فيها موضع الضمير ، تفخيما لشأنها ، وتعظيما لهولها. (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) أي وأيّ أعلمك ما هي؟ أي إنك لا تعلم كنهها ، فإنها أعظم من أن يدري بها أحد ، والجملة زيادة تعظيم لشأنها.

(بِالْقارِعَةِ) القيامة التي تقرع القلوب بالإفزاع ، وتهز النفوس بأهوالها ، والمواد بالانفطار والانتثار ، وإنما وضعت موضع ضمير (الْحَاقَّةُ) زيادة في وصف شدتها.

(بِالطَّاغِيَةِ) الواقعة التي جاوزت الحد في الشدة والقوة ، وهي الصيحة أو الرجفة ، أي الصاعقة ، وسبب إهلاكهم : تكذيبهم بالقارعة ، وطغيانهم بالكفر والمعاصي. (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) شديدة الصوت والبرد ، من الصّرّة أي الصيحة ، أو من الصّر أي البرد الذي يضرب النبات والحرث. (عاتِيَةٍ) شديدة القوة والعصف. (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) سلّطها عليهم بقدرته. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) قال المحلي : أولها من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال ، وكانت في عجز الشتاء وهي أيام العجوز أو العجائز ، سميت عجوزا ؛ لأنها عجز للشتاء. (حُسُوماً) متتابعات ، أو من الحسم : وهو القطع والاستئصال.


(فَتَرَى الْقَوْمَ) إن كنت حاضرا في مهابها أو في الليالي والأيام. (صَرْعى) موتى مطروحين هالكين ، جمع صريع. (أَعْجازُ نَخْلٍ) أصول نخل. (خاوِيَةٍ) ساقطة فارغة. (مِنْ باقِيَةٍ) أي من نفس باقية. أو بقاء ، أو بقية أو باق ، والتاء للمبالغة.

(وَمَنْ قَبْلَهُ) من تقدّمه من الأمم الكافرة ، وقرئ : (وَمَنْ قَبْلَهُ) أي أتباعه وجنوده. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) المنقلبات وهي قرى قوم لوط ، والمراد : أهلها. (بِالْخاطِئَةِ) بالخطإ ، أو بالفعلة ذات الخطأ. (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) عصى كل أمة رسولها. (رابِيَةً) زائدة في الشدة ، زيادة أعمالهم في القبح ، من ربا الشيء : زاد.

(طَغَى الْماءُ) جاوز حده المعتاد ، وارتفع وعلا فوق كل شيء من الجبال وغيرها زمن الطوفان. (حَمَلْناكُمْ) أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. (الْجارِيَةِ) السفينة التي تجري في الماء ، وهي التي صنعها نوح عليه السلاح بإلهام الله وتعليمه ، ونجا بها هو ومن كان معه مؤمنا ، وغرق الآخرون. (لِنَجْعَلَها لَكُمْ) لنجعل الفعلة ، وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك وإغراق الكافرين. (تَذْكِرَةً) عظة. (وَتَعِيَها) وتحفظها. (أُذُنٌ واعِيَةٌ) حافظة لما تسمع ، أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه لتذكره وإشاعته والتفكر فيه والعمل بموجبه. وتنكير كلمة (أُذُنٌ) للدلالة على قلتها.

التفسير والبيان :

افتتح الله سورة الحاقة بما يدل على تعظيم شأنها ، وتفخيم أمرها ، وتهويل يومها فقال:

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ الْحَاقَّةُ) هي القيامة ، سميت بذلك ؛ لأن الأمور تحقّ فيها ، وتثبت وتقع من غير شك ولا ريب ، و (الْحَاقَّةُ) يوم الحق ؛ لأنها تظهر فيها الحقائق.

والمعنى : القيامة التي يتحقق فيها الوعد والوعيد ، والساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجيء ، أيّ شيء هي في حالها وصفاتها؟ فهي عظيمة الشأن ، شديدة الهول ، لا يدرك حقيقتها ولا يتصور أوصافها غير الله عزوجل. وأي شيء أعلمك بها أيها النبي الرسول؟ فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقين ، لعظم شأنها ، وشدة هولها.


قال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شيء في القرآن : (وَما أَدْراكَ) فقد أدراه إياه وعلمه ، وكل شيء قال : (وَما يُدْرِيكَ) فهو مما لم يعلمه.

وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : (وَما أَدْراكَ) فإنه أخبر به ، وكل شيء قال فيه : (وَما يُدْرِيكَ) فإنه لم يخبر به.

ثم ذكر الله تعالى نوع العقاب الذي أوقعه بالأمم السابقة التي كذبت بالقيامة تخويفا لأهل مكة وغيرهم ، فقال :

ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي كذبت قبيلة ثمود قوم صالح ، وقبيلة عاد قوم هود بالقيامة وهي القارعة التي تقرع الناس بأهوالها ، والمواد بالانفجار والانتثار. ثم فصل الله تعالى أنواع العقاب ونتائجه فقال :

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي فأما جماعة ثمود قوم صالح عليه‌السلام ، فأهلكوا هلاكا تاما بالطاغية : وهي الصيحة أو الصاعقة أو الرجفة التي جاوزت الحد في الشدّة ، كما قال تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود ١١ / ٦٧] أي الصاعقة ، وقال سبحانه : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف ٧ / ٧٨ ، ٩١] أي الزلزلة ، فالألفاظ مختلفة ، ولكن معانيها واحدة.

(وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) وأما قبيلة عاد قوم هود عليه‌السلام ، فأهلكوا هلاكا ساحقا بريح شديدة الصوت ، شديدة البرد ، قاسية شديدة الهبوب ، جاوزت الحد لشدة هولها ، وطول زمنها وشدة بردها ، عتت عليهم بغير رحمة ولا شفقة ، وسلطها الله وأرسلها عليهم طوال مدة مستمرة هي سبع ليال وثمانية أيام لا تنقطع ولا تهدأ ، وكانت تقتلهم بالحصباء ، متتابعات ، تحسمهم حسوما ، أي تفنيهم وتذهبهم.


وكانت عادة القرآن تقديم قصة عاد على ثمود ، إلا أنه قلب هاهنا ؛ لأن قصة ثمود بنيت على غاية الاختصار ، ومن عادتهم تقديم ما هو أخصر.

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟ أي فتشاهد إن كنت حاضرا أولئك القوم في ديارهم أو في تلك الأيام والليالي مصروعين بالأرض موتى ، كأنهم أصول نخل ساقطة أو بالية ، لم يبق منهم أحد ، فهل تحس منهم من أحد من بقاياهم؟ بل بادوا عن آخرهم ، ولم يجعل الله لهم خلفا ، كما جاء في قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف ٤٦ / ٢٥].

وثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور».

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) أي وأتى الطاغية فرعون ومن تقدمه من الأمم الكافرة وأهل المنقلبات قرى قوم لوط بالفعلة الخاطئة ، وهي الشرك والمعاصي.

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها ، فأهلكهم الله ودمّرهم ، وأخذهم أخذة أليمة شديدة زائدة على عقوبات سائر الكفار والأمم.

ونظير مطلع الآية قوله تعالى : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ، فَحَقَّ عِقابِ) [ص ٣٨ / ١٤] وقوله سبحانه : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ، فَحَقَّ وَعِيدِ) [ق ٥٠ / ١٤] ومن كذب برسول فقد كذّب الجميع ، كما قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٠٥] (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٢٣] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٤١] (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٦٠].


(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً ، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي إننا لما تجاوز الماء حده وارتفع بإذن الله ، وجاء الطوفان في زمن نوح عليه‌السلام ، حملنا آباءكم المؤمنين وأنتم في أصلابهم ، في السفينة التي تجري في الماء ، لينجوا من الغرق ، ولنجعل نجاة المؤمنين ، وإغراق الكافرين عبرة وعظة ، تستدلون بها على عظيم قدرة الله ، وبديع صنعه ، وشدة انتقامه ، ولتفهمها وتحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت. فقوله : (لِنَجْعَلَها .. وَتَعِيَها) عائد إلى الواقعة المعلومة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة.

روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن مكحول مرسلا قال : لما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربي أن يجعلها أذن علي» قال مكحول : فكان علي يقول : ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا قط ، فنسيته.

وأما خبر بريدة في أن الآية نزلت بسبب علي رضي‌الله‌عنه فهو غير صحيح.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يلي :

١ ـ تفخيم شأن القيامة ، وتعظيم أمرها ، والتخويف من أهوالها ، ولا شك أنها تفزع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق ، والأرض بالدكّ ، والنجوم بالطمس إلى غير ذلك.

٢ ـ وجوب الاتعاظ والاعتبار بمصير الأمم السابقة التي كذبت رسلها ، وقد ذكرت الآيات هنا ثلاث قصص : قصة عاد وثمود الذين كذبوا بالقارعة وهي القيامة التي تقرع الناس بأهوالها ، وقصة فرعون ومن تقدمه وقوم لوط ، وقصة نوح عليه‌السلام مع قومه.


أما ثمود فأهلكوا بالصيحة الطاغية ، أي المجاوزة للحدّ ، حد الصيحات من الهول ، وأما ثمود فأهلكوا بريح باردة تحرق ببردها كإحراق النار ، شديدة الهبوب ، غضبت لغضب الله عزوجل ، أرسلها وسلطها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية متتابعة ، لا تفتر ولا تنقطع ، فصار القوم في تلك الليالي والأيام موتى هالكين ، كأصول نخل بالية متآكلة الأجواف لا شيء فيها.

وأما فرعون وجنوده فأهلكوا بالإغراق في البحر ، وأما المؤتفكات أهل قرى لوط ، فدمروا بالريح التي ترميهم بالحصباء تدميرا شاملا بعقوبة زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار ، وهي الكفر والفواحش.

وأما قوم نوح فأغرقوا بالطوفان ، ونجّى الله نوحا ومن آمن معه بركوبهم في السفينة التي صنعها نوح بإلهام من الله تعالى ، ليجعل الله ذلك تذكرة وعظة لهذه الأمة ، وتحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله.

بعض أهوال القيامة

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

الإعراب :

(نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) نائب فاعل ، ووصف (نَفْخَةٌ) ب (واحِدَةٌ) وإن كانت النفخة لا تكون إلا واحدة ، على سبيل التأكيد ، كقوله تعالى : (وَقالَ اللهُ : لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)


[النحل ١٦ / ٥١] وإن كان الإلهان لا يكونان إلا اثنين للتأكيد. وجاء تذكير (نُفِخَ) لأن تأنيث النفخة غير حقيقي.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ..) يومئذ : ظرف منصوب متعلق ب (وَقَعَتِ) ، وكذلك (يَوْمَئِذٍ) الثانية يتعلق ب (واهِيَةٌ) وكذلك يومئذ في (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) يتعلق ب (تُعْرَضُونَ).

البلاغة :

(وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) بينهما جناس اشتقاق ، وكذلك مثله (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ).

المفردات اللغوية :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) هي النفخة الأولى التي عندها خراب العالم ، والصور : البوق. (حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) رفعت من أماكنها. (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) دقتا وضرب بعضها ببعض ، فصارت أرضا مستوية لا عوج فيها ، وكتلة واحدة. والدك والدق متقاربان في المعنى ، غير أن الدك أبلغ. (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي فحينئذ قامت القيامة ، والواقعة : النازلة. (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) تصدعت وتشققت وتبددت. (واهِيَةٌ) مختلة ضعيفة مسترخية لا تماسك بين أجزائها.

(وَالْمَلَكُ) الملائكة ، فالمراد به الجنس. (عَلى أَرْجائِها) جوانب السماء وأطرافها ، جمع رجا أي جانب. (فَوْقَهُمْ) فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء. (ثَمانِيَةٌ) ثمانية أملاك.

(تُعْرَضُونَ) للحساب. (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) لا تخفى سريرة من السرائر.

المناسبة :

بعد أن بالغ الله تعالى في تهويل القيامة ، وذكر القصص الثلاث لبيان مآل المكذبين بها ، تفخيما لشأنها ، وتنبيها على إمكانها ، شرع سبحانه في بيان تفاصيل أحوال القيامة وأهوالها ، وابتدأ بمقدماتها.

التفسير والبيان :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي يكون عندها خراب العالم. وهذا إخبار عن أهوال يوم القيامة.


(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي رفعت من أماكنها ، وأزيلت من مواقعها بالقدرة الإلهية ، فضرب بعضها ببعض ضربة واحدة ، حتى صارت كتلة واحدة ، ورجعت كثيبا مهيلا منثورا ، وتبددت وتغيرت عما هو معروف ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ..) [إبراهيم ١٤ / ٤٨]. والدك أبلغ من الدق.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) فحينئذ قامت القيامة ، ووقعت النازلة.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ ، فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي وتصدعت السماء ، فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية غير متماسكة الأجزاء بعد أن كانت قوية محكمة البناء.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها ، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي وتكون الملائكة على جوانب السماء وحافاتها على أهبة الاستعداد لتنفيذ ما يأمرهم به الله عزوجل ، ويحمل عرش ربك فوق رؤوس الملائكة الذين هم على الأرجاء ثمانية أملاك ، وقيل : ثمانية صفوف من الملائكة ، لا يعلم عددهم إلا الله عزوجل. والعرش : أعظم المخلوقات. وحمل العرش مجاز ؛ لأن حمل الإله محال ، فلا بد من التأويل ، وهو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفون ، وعلى سبيل الرمز ، كإيجاد البيت (الكعبة) وجعل الحفظة على العباد ، لا للسكنى في البيت ، ولا بسبب احتمال النسيان.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي في ذلك اليوم يعرض العباد على الله لحسابهم ، فلا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم وأقوالكم وأفعالكم وأموركم خافية كائنة ما كانت ، فهو يعلم السرّ وأخفى ، ويعلم بالظواهر والسرائر والضمائر ، وتعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا ، ليكتمل سرور المؤمنين ويعظم توبيخ المذنبين.

والعرض : عبارة عن المحاسبة والمساءلة ، شبه ذلك بعرض السلطان


العسكر ، لتعرف أحواله ، وقد صور الله تعالى تلك الصورة المهيبة ، لا لأنه يقعد على السرير.

وفي هذا تهديد شديد ، ووعيد وزجر أكيد ، وإخبار بخطورة الحساب العسير.

روى ابن أبي الدنيا عن ثابت بن الحجاج قال : قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزيّنوا للعرض الأكبر : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)».

وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطّيّر الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله» لكن الترمذي رواه عن أبي هريرة. ورواه ابن جرير أيضا عن عبد الله بن مسعود.

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل الآيات على ما يأتي :

١ ـ من مقدمات القيامة : نفخة إسرافيل في الصور (البوق). والمراد النفخة الأولى ، قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة ، فلم يبق أحد إلا مات.

٢ ـ من أهوال القيامة ومخاوفها : صيرورة الأرض والجبال كالجملة الواحدة متفتتة متكسرة إما بقدرة الله من غير واسطة ، وإما بالزلزلة التي تكون في


القيامة ، وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال ، أو بملك من الملائكة.

٣ ـ بعد النفخة الأولى في الصور وتفتت الأرض والجبال تقوم القيامة ، وتتصدع السماء وتتفطّر ، وتصبح ضعيفة واهية غير متماسكة الأجزاء ، إيذانا بزوالها وتبدلها وخرابها ، بعد ما كانت محكمة شديدة.

٤ ـ تكون الملائكة حين انشقاق السماء على أطرافها ، بعد أن كانت السماء مكانهم ، فإذا انشقت صاروا في أطرافها ، ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السّوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة.

٥ ـ يكون فوق أولئك الملائكة ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله يحملون العرش الذي أراده الله بقوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) [المؤمن ٤٠ / ٧] وقوله : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر ٣٩ / ٧٥]. ذكر الثعلبي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين ، فكانوا ثمانية». وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحمله اليوم أربعة ، وهم يوم القيامة ثمانية».

٦ ـ في يوم القيامة الرهيب يعرض العباد على الله للحساب والجزاء ، كما قال تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) [الكهف ١٨ / ٤٨] وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به ، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة ، فلا يخفى على الله من أمورهم شيء ، فالله عالم بكل شيء من الأعمال. وكل من الحمل والعرض لا يعني التجسيم والتشبيه بالمخلوقات ، وإنما للتصوير والرمز والتقريب إلى الأذهان.


حال الأبرار الناجين بعد الحساب

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

الإعراب :

(هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هاؤُمُ) : اسم فعل أمر بمعنى خذوا ، و (كِتابِيَهْ) : مفعول منصوب ل (اقْرَؤُا) وفيه دليل على إعمال الفعل الثاني ، ولو أعمل الأول لقال : «اقرؤوه» ففيه تنازع بين (هاؤُمُ) و (اقْرَؤُا).

(هَنِيئاً) حال ، أي متهنئين.

(كُلُوا) إنما جمع الخطاب في (كُلُوا) بعد قوله : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) لقوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) و (مَنْ) مضمّن معنى الجمع.

البلاغة :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) مقابلة مع ما بعده : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ..).

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، قُطُوفُها دانِيَةٌ ... الْخالِيَةِ) توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات ، ويسمى في علم البديع السجع المرصع.

المفردات اللغوية :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) تفصيل للعرض على الله. (فَيَقُولُ) تفاخرا. (هاؤُمُ) خذوا. (ظَنَنْتُ) تيقنت أو علمت. (مُلاقٍ) معاين. (راضِيَةٍ) ذات رضا ، يرضى بها أصحابها. (عالِيَةٍ) مرتفعة المكان والدرجات. (قُطُوفُها) ثمارها ، أي ما يجتني من الثمر ، جمع قطف : وهو ما يجتنى بسرعة ، والقطف بالفتح : المصدر. (دانِيَةٌ) قريبة ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع.


(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي يقال لهم : أكلا وشربا هنيئا ، أو هنئتم هنيئا ، أو متهنئين. (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية في الدنيا.

المناسبة :

بعد الإخبار بأن جميع العباد يعرضون على الله للحساب والجزاء دون أن يخفى عليه شيء من أمورهم ، أخذ في تفصيل عرض الكتب ، ومردودها على أصحابها ، مبتدئا بأهل اليمين ، ثم بأهل الشمال.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه بيمينه يوم القيامة وفرحه بذلك ، فقال :

(فَأَمَّا (١) مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَيَقُولُ : هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي فأما من أعطي كتابه الذي كتبته الحفظة عليه من أعماله بيمينه ، فيقول من شدة فرحه وابتهاجه لكل من لقيه : خذوا هذا الكتاب فاقرؤوا ما فيه ، لعلمه أنه صار من الناجين ، بعد أن كان خائفا مضطربا شأن أهل المحشر ، كما قال تعالى :

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي غلب على ظني أني ألاقي حسابي ، فيؤاخذني الله بسيئاتي ، ولكنه تعالى تفضل علي بالعفو ، ولم يؤاخذني بها.

والمعنى عند أكثر المفسرين : علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة ، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة ٢ / ٤٦]. قال الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك.

__________________

(١) أما : حرف تفصيل ، فصل بها ما وقع في يوم العرض.


قال الزمخشري : وإنما أجري الظن مجرى العلم (اليقين) لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام ، يقال : أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت.

ويؤيد المعنى الأول للآية ما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يدني الله العبد يوم القيامة ، فيقرّره بذنوبه كلها ، حتى إذا رأى أنه قد هلك ، قال الله تعالى : إني سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه ، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ، أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود ١١ / ١٨]».

ثم أبان الله تعالى مصير المؤمن التقي البار أو عاقبة أمره ، فقال :

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ، قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي فهو في عيشة مرضية خالية من المكدّرات ، غير مكروهة ، في جنة مرتفعة المكان ، رفيعة القدر ، عالية المنازل ، نعيمة الدور ، دائمة الحبور ، ثمارها قريبة التناول ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع.

روى الطبراني عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، أدخلوه جنة عالية ، قطوفها دانية». ورواه الضياء بلفظ : «يعطى المؤمن جوازا على الصراط : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان ، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية».

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي ويقال لهم : كلوا يا أيها المتقون الأبرار في الجنة من طيباتها وثمارها ، واشربوا من أشربتها أكلا وشربا


هنيئا ، أي لا تكدير فيه ولا تنغيص ، جزاء لما عملتم ، وبسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا.

وهذا تفضل من الله عليهم وامتنان وإنعام وإحسان ؛ لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اعملوا وسدّدوا وقاربوا ، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة ، فيقول المؤمن الناجي ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته لكل من يلقاه من جماعته : هلموا وخذوا واقرؤوا كتابي هذا ، إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي ويعذبني ، ولكنه تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. وقال ابن عباس وغيره عن قوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي أيقنت وعلمت أني ملاق حسابي في الآخرة ، ولم أنكر البعث ، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب ؛ لأنه تيقن أن الله يحاسبه ، فعمل للآخرة. ذكر الثعلبي عن ابن عباس قال : أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب ، وله شعاع كشعاع الشمس ، قيل له : فأين أبو بكر؟ فقال : هيهات هيهات!! زفّته الملائكة إلى الجنة.

٢ ـ يكون الناجي في عيش يرضاه لا مكروه فيه ، أو في عيشة مرضية ، في جنة عالية ، أي عظيمة في النفوس ، ثمارها قريبة التناول ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع.

جاء في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنهم يعيشون ، فلا يموتون أبدا ،


ويصحّون فلا يمرضون أبدا ، وينعمون فلا يرون بأسا أبدا ، ويشبّون فلا يهرمون أبدا».

٣ ـ يقال للناجين من قبل ربهم ، أو بواسطة الملائكة خزنة الجنة : كلوا واشربوا في الجنة أكلا وشربا هنيئا لا تكدير فيه ولا تنغيص ، بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة.

والآيات تعم جميع أهل السعادة ، كما أن الآيات التالية تعم جميع أهل الشقاوة.

حال الأشقياء يوم القيامة

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

الإعراب :

(يا لَيْتَنِي) يا : للتنبيه. (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ما) إما استفهامية على سبيل الإنكار في موضع نصب ؛ لأنها مفعول (أَغْنى). (مالِيَهْ) فاعله ، وتقديره : أي شيء أغنى عنّي ماليه؟ أو أن تكون (ما) نافية ، ويكون مفعول (أَغْنى) محذوفا ، وتقديره : ما أغنى ماليه شيئا ، فحذفه. والهاء في (مالِيَهْ) للسكت ، وإنما أدخلت صيانة للحركة عن الحذف ، وتثبت وقفا ووصلا اتباعا لمصحف الإمام والنقل المتواتر.


(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ حَمِيمٌ) اسم ليس ، وخبرها الجار والمجرور ، وهو (لَهُ). ولا يجوز أن يكون (الْيَوْمَ) هو الخبر ؛ لأن (حَمِيمٌ) جثة ، واليوم ظرف زمان ، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث ، وإنما تدل على وجود حدث بعدها.

البلاغة :

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) توافق الفواصل ، مراعاة لرؤوس الآيات ، ويسمى في علم البديع كما تقدم السجع المرصّع.

المفردات اللغوية :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ) يقول لما يرى من قبح العمل وسوء العاقبة. (يا لَيْتَها) يا ليت الموتة التي متها في الدنيا. (كانَتِ الْقاضِيَةَ) القاطعة لأمري وحياتي ، فلم أبعث بعدها. (مالِيَهْ) مالي من المال. (سُلْطانِيَهْ) حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا ، أو ملكي وسلطاني على الناس.

(خُذُوهُ) خطاب لخزنة جهنم. (فَغُلُّوهُ) شدّوه في الأغلال ، واجمعوا يديه إلى عنقه في الغلّ : وهو ما يكبل به الأسير أو المتهم من القيود والسلاسل. (الْجَحِيمَ) النار المحرقة. (صَلُّوهُ) أدخلوه وأوردوه إياها ، يصلى نارها ويحترق بها. (ذَرْعُها) طولها. (سَبْعُونَ ذِراعاً) المراد أنها سلسلة طويلة ، والمراد ذراع الملك. (فَاسْلُكُوهُ) أدخلوه فيها بعد إدخاله في النار ، بأن تلفّوها على جسده كيلا يتحرك فيها. وتقديم الجحيم والسلسلة للدلالة على التخصيص ، والاهتمام بذكر أنواع ما يعذب به ، وكلمة (ثُمَ) لتفاوت ما بينهما في الشدة.

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة ، وذكر صفة (الْعَظِيمِ) للإشعار بأنه هو المستحق للعظمة ، فيجب الإيمان به. (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) لا يحث على إطعامه ، فضلا عن أن يبذل من ماله. (حَمِيمٌ) قريب مشفق يحميه أو صديق ينتفع به. (غِسْلِينٍ) صديد أهل النار وما يسيل منهم من قيح أو دم. (الْخاطِؤُنَ) الآثمون ، أصحاب الخطايا ، من خطئ الرجل : إذا تعمد الذنب ، لا من الخطأ المضاد للصواب.

المناسبة :

بعد بيان حال السعداء في معايشهم وسكناهم في الجنة ، بيّن الله تعالى للموازنة والمقارنة والعبرة حال الأشقياء الكفار في الآخرة ، وتعرضهم لألوان


العذاب في نار جهنم ، مع بيان سبب ذلك : وهو عدم الإيمان بالله العظيم ، والإعراض عن مساعدة المساكين البائسين.

التفسير والبيان :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) أي وأما الشقي الذي يعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، فيقول حزنا وكربا ، وألما وندما لما رأى فيه من سيئاته وقبيح أعماله : يا ليتني لم أعط كتابي. وهذا دليل على وجود العذاب النفسي قبل العذاب الجسدي.

(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي ولم أعلم أيّ شيء حسابي الذي أحاسب به ؛ لأن كله وبال علي ، ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاطعة نهاية الحياة ، ولم أحي بعدها ، فهو يتمنى دوام الموت وعدم البعث ، لما شاهد من سوء عمله ، وما يصير إليه من العذاب. قال قتادة : تمني الموت ، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه. ونظير الآية : (وَيَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ ٧٨ / ٤٠].

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ما أفادني ما لي شيئا ، ولم يدفع عني شيئا من عذاب الله ، وفقدت حجتي ، وذهب منصبي وجاهي وملكي ، فلم يدفع عني العذاب ، بل خلص الأمر إلي وحدي ، فلا معين لي ولا مجير. قال أبو حيان : الراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا ؛ لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصا بالملوك ، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة (١). وحينئذ يقول الله عزوجل مبينا مصيره وعاقبة أمره :

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٢٥ وما بعدها.


(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي يأمر الله الزبانية قائلا : خذوه مكبّلا بالقيود والأغلال ، بجمع يده إلى عنقه في الغلّ ، ثم أدخلوه الجحيم ليصلى حرها ، ثم أدخلوه في سلسلة (حلق منتظمة) طولها سبعون ذراعا تلفّ على جسمه ، لئلا يتحرك.

ثم بيّن الله تعالى سبب وعيده الشديد وعذابه قائلا :

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي إنه كان كافرا جاحدا لا يصدق بالله صاحب العظمة والسلطان ، ولا يحث على إطعام الفقير والمسكين البائس ، فضلا عن عدم بذله المال للبائسين ، والمعنى أنه لا يؤدي حقوق الله من توحيده وعبادته وعدم الشرك به ، ولا يؤدي حقوق العباد من الإحسان والمعاونة على البر والتقوى. وفي ذكر الحض دون الفعل تشنيع ، يفيد أن تارك الحض كتارك الفعل. وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

والعذاب متعين لازم له ، كما قال تعالى :

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي ليس له يوم القيامة قريب ينفعه ، أو صديق يشفع له ، أو ينقذه من عذاب الله تعالى ، كما جاء في آية أخرى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ٤٠ / ١٨]. وقوله : (هاهُنا) إشارة إلى مكان عذابهم.

وطعامه ما وصف تعالى :

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي وليس له طعام إلا ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ودم وقيح ، لا يأكله إلا أصحاب الخطايا والذنوب. قال قتادة عن الغسلين : هو شر طعام أهل النار. والطعام : اسم بمعنى الإطعام ، كالعطاء اسم بمعنى الإعطاء.


فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إذا كان المؤمن يفاخر بكتابه ابتهاجا وفرحا ، فإن الكافر الشقي يتمنى الموت ، ويكره البعث والعودة إلى الحياة مرة أخرى. قال القفّال : تمنى الموت حين رأى من الخجل وسوء المنقلب ما هو أشدّ وأشنع من الموت.

٢ ـ ذكر الله تعالى سرور السعداء أولا ، ثم ذكر أحوالهم في العيش الطيب وفي الأكل والشرب ، ثم ذكر هنا غم الأشقياء وحزنهم ، ثم ذكر أحوالهم حينما يزج بهم في نار جهنم في الغلّ والقيد ، وتناول طعام الغسلين ، والتصلية (١) في الجحيم (وهي النار العظمى) وإدخاله في سلسلة طولها سبعون ذراعا بذراع الملك.

٣ ـ سبب الظفر بالجنة للمؤمنين السعداء الإيمان والأعمال الصالحة في الدنيا ، وسبب العذاب والوعيد الشديد للأشقياء : هو عدم الإيمان بالله العظيم وعدم بذل المال للمساكين.

٤ ـ دلت آية (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة. وهو المراد من قول جمهور الأصوليين : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. عن أبي الدرداء : أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع النصف الباقي!

٥ ـ ليس للشقي في الآخرة حميم ، أي قريب يدفع عنه العذاب ، ويحزن عليه ؛ لأنهم يتحامون ويفرّون منه ، كقوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج ٧٠ / ١٠] وقوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ٤٠ / ١٨].

__________________

(١) قال المبرّد : أصليته النار : إذا أوردته إياها ، وصلّيته أيضا ، كما يقال : أكرمته وكرّمته.


٦ ـ طعام أهل النار الخاطئين (المذنبين) : الغسلين : وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم ، قال قتادة : هو شر الطعام وأبشعه ، وفي آية أخرى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية ٨٨ / ٦] والضريع : شيء في النار كالشوك مرّ منتن.

تعظيم القرآن وإثبات نزوله بالوحي

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

الإعراب :

(قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) صفة للمفعول المطلق ل (تُؤْمِنُونَ) أي تصدقون تصديقا قليلا ، و (ما) مزيدة للتأكيد.

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تَنْزِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو تنزيل. (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ مِنْ أَحَدٍ) في موضع رفع ، لأنه اسم (فَما) لأن (مِنْ) زائدة لتأكيد النفي ، و (مِنْكُمْ) حال (مِنْ أَحَدٍ) ، و (حاجِزِينَ) خبر. (فَما). و (عَنْهُ) في موضع نصب لأنه يتعلق ب (حاجِزِينَ) التقدير : فما منكم أحد حاجزين عنه. وجمع (حاجِزِينَ) وإن كان وصفا ل (أَحَدٍ) لأنه في معنى الجمع ، فجمع حملا على المعنى ، فإنه عام والخطاب للناس ، ولأن أحدا في سياق النفي بمعنى الجمع ، مثل (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة ٢ / ٢٨٥]. ولم يبطل (مِنْكُمْ) عمل (فَما) لأن الفصل بالجار والمجرور والظرف لا يؤثر.


البلاغة :

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَما لا تُبْصِرُونَ) بينهما طباق السلب.

المفردات اللغوية :

(فَلا أُقْسِمُ) لا حاجة للقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم ، أو أن المراد بهذه الصيغة القسم ، أي فأقسم ، وهو مستأنف ، ولا : زائدة. (بِما تُبْصِرُونَ) من المشاهدات والمخلوقات. (وَما لا تُبْصِرُونَ) أي بما غاب عنكم ، فهذا قسم بالمشاهدات والمغيبات ، وذلك يتناول الخالق والمخلوقات بأسرها.

(إِنَّهُ) أي القرآن. (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي لقول جبرائيل أو محمد عليهما‌السلام ، رسول كريم على الله ، يبلغه عن الله تعالى ، فإن الرسول لا يقول عن نفسه ، والمراد به هنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الأكثرين. وأما المراد به في سورة التكوير فهو جبريل عليه‌السلام في قول الأكثرين. (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) كما يزعمون ؛ لأن الرسول ليس بشاعر. (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) كما يزعمون تارة أخرى ، والكاهن : من يدعي معرفة الغيب. (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي تصدقون تصديقا قليلا ، والقلة بمعناها الظاهر ، وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي ، أي لا تؤمنون البتة ، وقال أبو حيان : لا يراد ب (قَلِيلاً) هنا النفي المحض كما زعم الزمخشري ، فإن هذا لا يكون في حال النصب ، وإنما في حال الرفع (ما تَذَكَّرُونَ) تتذكرون ، وقرئ : يذكرون بالياء ، و (ما) مزيدة للتأكيد. والخلاصة : أنهم آمنوا بأشياء يسيرة ، وتذكّروها ، مما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخير والصلة والعفاف ، فلم تغن عنهم شيئا.

(تَنْزِيلٌ) بل هو تنزيل. (تَقَوَّلَ) أي النبي ، سمى الافتراء تقولا ؛ لأنه قول متكلّف ، والأقوال المفتراة أقاويل ، تحقيرا بها. (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لنلنا منه عقابا بالقوة والقدرة. (الْوَتِينَ) نياط القلب ، وهو عرق متصل بالقلب ، إذا انقطع مات صاحبه. (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ) أي لا أحد عن القتل أو عن النبي. (حاجِزِينَ) مانعين أو دافعين ، والمراد : لا مانع لنا عنه من حيث العقاب.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن القرآن لموعظة لأهل التقوى ؛ لأنهم المنتفعون به. (أَنَّ مِنْكُمْ) أيها الناس. (مُكَذِّبِينَ) بالقرآن ، ومنكم مصدّقين. (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) ، وإن القرآن لحسرة عليهم إذا رأوا ثواب المؤمنين المصدقين به ، وعقاب المكذبين به. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) وإن القرآن اليقين الحق الذي لا ريب فيه. (فَسَبِّحْ) نزّه الله بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه ، وشكرا على ما أوحى إليك. وباء (بِاسْمِ) زائدة.


سبب النزول :

نزول الآيات (٣٨ ـ ٤٠):

(فَلا أُقْسِمُ) : قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمدا ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال عقبة : كاهن ، فقال الله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ ..) أي أقسم.

المناسبة :

بعد الإخبار عن إمكان القيامة ووقوعها ، وبيان أحوال السعداء والأشقياء فيها ، ختم الكلام بتعظيم القرآن وإثبات كونه كلام الله تعالى المنزّل على قلب رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

التفسير والبيان :

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي أقسم لخلقي بما تشاهدون من المخلوقات الدالة على كمالي في أسمائي وصفاتي ، وبما غاب عنكم من المغيبات ، أو أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، وإنه لتلاوة رسول كريم ، وقول يبلّغه رسول كريم ، مؤدى عن الله بطريق الرسالة.

وإنما أضافه إلى الرسول على معنى التبليغ ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلّغ عن المرسل. وفي ذكر «الرسول» إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه ، وإنما هو قوله المؤدى عن الله بطريق الرسالة. وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته ، وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعا في أغراض الدنيا الخسيسة.

والأكثرون على أن الرسول الكريم هنا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه ذكر بعده أنه


ليس بقول شاعر ولا كاهن ، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالشعر والكهانة ، وإنما يصفون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه‌السلام ، لأن الأوصاف التي بعده تناسبه ، كما سيأتي.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ ، قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي ليس القرآن بقول شاعر ، كما تزعمون ؛ لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بشاعر ، ولأن آيات القرآن ليست من أصناف الشعر ، وأنتم تؤمنون إيمانا قليلا ، وتصدقون تصديقا يسيرا. والقلة على ظاهرها وهي إقرارهم إذا سئلوا : من خلقكم؟ قالوا : الله. ويحتمل أن يكون المتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي ؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ؛ إذ كانوا يصدّقون أن الخير والصلة والعفاف ونحوه الذي كان يأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو حق صواب.

وإنما قال عند نفي الشعر عنه : (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) وعند نفي الكهانة : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبيّن المحسوس.

أما من حيث اللفظ فظاهر ؛ لأن الشعر كلام موزون مقفّى ؛ وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا النادر غير المتعمد. وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدّق ولا يعاند.

وانتفاء الكهانة عنه يحتاج إلى تأمل ، فإن كلام الكهان أسجاع لا معاني لها ، وأوضاع تنبو عنها الطباع ، وأيضا في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم ، والكهان إخوان الشياطين ، فكيف رضوا بإظهار قبائحهم (١).

__________________

(١) غرائب القرآن للحسن القمي النيسابوري : ٢٩ / ٤٢.


(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي وليس القرآن بقول كاهن (وهو من يدعي الغيب في المستقبل) كما تزعمون ، فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين القرآن ، ولان القرآن ورد بسبب الشياطين ، فلا يعقل أن يكون بإلهامهم ، ولكنكم تتذكرون تذكرا قليلا ، ولذلك يلتبس الأمر عليكم ، فلا تتذكرون كيفية نظم القرآن ، واشتماله على شتم الشياطين ، فقلتم : إنه كهانة. ثم صرح تعالى بالمقصود ، فقال :

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي بل هو تنزيل من الله رب الإنس والجن ، نزل به جبريل الأمين على قلب رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول هذا الرسول بمعنى أنه مبلّغ له عن المرسل ، وهو الذي أظهره للخلق ، ودعا الناس إلى الإيمان به ، وجعله حجة لنبوته.

روى الإمام أحمد عن شريح بن عبيد قال : قال عمر بن الخطاب : «خرجت أتعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فقمت خلفه ، فاستفتح سورة الحاقة ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، قال : فقلت : كاهن ، قال : فقرأ : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) إلى آخر السورة ، قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موقع ، قال ابن كثير : فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

ثم أكد الله تعالى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستطيع أن يفتعل القرآن ، فقال :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي ولو افترى محمد أو جبريل شيئا من الأقوال الباطلة ، وجاء به من عند نفسه ونسبه إلى الله على سبيل الفرض ، لأخذناه بالقوة ، وعاجلناه بالعقوبة ، وانتقمنا منه ، أو لأخذنا بيمينه ، كما يؤخذ الشخص عند إرادة قتله. فاليمين : القوة ، كما قال الشمّاخ :


إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) أي ثم بترنا الوتين من قلبه ، وهو عرق متصل من القلب بالرأس ، إذا انقطع مات صاحبه. وهذا تصوير لإهلاكه بأفظع وأشنع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويمنعنا منه أو ينقذه منا ، فكيف يجرأ على تكلف الكذب على الله لأجلكم؟! وجمع : (حاجِزِينَ) على المعنى ؛ لأن قوله : (مِنْ أَحَدٍ) في معنى الجماعة ، يقع في النفي العام على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، مثل قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة ٢ / ٢٨٥] وقوله سبحانه : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٢]. والمراد لا أحد يمنعنا عن الرسول أو عن القتل.

ثم ذكر الله تعالى أوصافا ومنافع للقرآن ، فقال :

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن القرآن لعظة وتذكرة لأهل التقوى الذين يخشون عذاب الله بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢]. وخص المتقين بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون به. وناسب ذلك أنه تعالى أوعد المكذبين بقوله :

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) أي وإنا لنوقن أن بعضكم يكذب بالقرآن ، كفرا وعنادا ، ونحن نجازيهم على ذلك ، وبعضكم يصدّق به لاهتدائه إلى الحق. وفي هذا وعيد شديد للمكذبين.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وإن هذا القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب المؤمنين وفضل الله عليهم.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي وإن القرآن هو الخبر الصدق واليقين الحق الذي


لا شك فيه ولا ريب ؛ لكونه من عند الله ، وليس من تقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزه الله الذي أنزل هذا القرآن العظيم عما لا يليق به ، بالتسبيح وهو قول : سبحان الله ، وعن الرضا بالتقول عليه ، وشكرا لله على ما أوحى به إليك.

واسم الرب : كل لفظ يدل على الذات الأقدس ، أو على صفة من صفاته كالله والرحمن الرحيم ، وتنزيه الاسم الخاص تنزيه للذات ، فتكون الباء في (بِاسْمِ) زائدة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بالأشياء المخلوقة كلها ، ما يراه الناس وما لا يرونه على أن القرآن العظيم من قول الله عزوجل ، وليس قول الرسول في الحقيقة ، لكن نسب القول في الظاهر إلى الرسول ؛ لأنه تاليه ومبلّغه والعامل به ، كقولنا : هذا قول مالك.

٢ ـ ليس القرآن أيضا بقول شاعر ؛ لأنه مباين لصنوف الشعر كلها ، ولا بقول كاهن ؛ لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم ، فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين ، إلا أن المشركين المعاندين لا يقصدون الإيمان ، فلذلك أعرضوا عن التدبر ، ولو قصدوا الإيمان لعلموا كذب قولهم : إنه شاعر ؛ لمغايرة تركيب القرآن أنواع الشعر ، وهم أيضا لا يتذكرون كيفية نظم القرآن ، واشتماله على شتم الشياطين ، فقالوا : إنه نوع من أنواع الكهانة.

٣ ـ إنما القرآن الكريم تنزيل من رب العالمين.

٤ ـ لو فرض جدلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلّف وأتى بقول من عند نفسه ، لأخذه


الله بالقوة والقدرة ، وعاقبه بالإهلاك ، وتقطيع نياط القلب ، وحينئذ لا أحد من القوم على الإطلاق يحجز عنه العذاب ويمنعه عنه.

٥ ـ مهام القرآن : أنه تذكرة للمتقين الخائفين الذين يخشون الله ، وقد أوعد الله على التكذيب به ، وتكذيب القرآن سبب حسرة الكافرين في القيامة إذا رأوا ثواب المصدّقين به ، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين ؛ لأن القرآن العظيم حق يقين لا ريب فيه ، وحق لا بطلان فيه.

٦ ـ أمر الله نبيه بتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق به شكرا له على الإيحاء إليه ، أو على أن عصمه من الافتراء عليه.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المعارج

مكيّة ، وهي أربع وأربعون آية.

تسميتها :

سميت سورة المعارج ؛ لافتتاحها بقوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) أي تصعد إليه الملائكة وجبريل الأمين الذي خصه الله بنقل الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، وخصه بالذكر لشرفه وفضل منزلته ، وهو المسمّى بالروح في قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٣].

مناسبتها لما قبلها :

نزلت هذه السورة بعد (الْحَاقَّةُ) وهي كالتتمة لها في بيان أوصاف يوم القيامة والنار ، وأحوال المؤمنين والمجرمين في الآخرة.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة كبقية السور المكية تتحدث عن أصول العقيدة الصحيحة ، وفي قمّتها إثبات البعث والنشور ، والجزاء والحساب ، وأوصاف العذاب والنار.

شرعت السورة ببيان موقف أهل مكة من دعوة الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستهزائهم به ، وسؤال الكفار عن عذاب الله واستعجالهم به استهزاء وسخرية وعنادا متمثلا ذلك بالنضر بن الحارث بن كلدة حين طلب إيقاع العذاب ،


والعذاب واقع بهم : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ..) [الآيات : ١ ـ ٧].

ثم وصف يوم القيامة وأهواله ، والنار وعذابها ، وأحوال المجرمين في ذلك اليوم الرهي : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ..) [الآيات : ٨ ـ ١٨].

وناسب ذلك الحديث الاستطرادي عن طبيعة الإنسان وصفاته التي أوجبت له النار ، ومدارها الجزع عند الشدة ، والبطر عند النعمة ، والبخل والشح عند الحاجة والأزمة وعلاج الفقر : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ..) [الآيات : ١٩ ـ ٢١].

واستثنت من ذلك المؤمنين المصلين الذين يتحلّون بمكارم الأخلاق ، فيؤدون حقوق الله وحقوق العباد معا فيستحقون الخلود في الجنان : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ..) [الآيات : ٢٢ ـ ٣٥].

ثم نددت السورة بالكفار ، وهددتهم بالفناء والتبديل ، وأوعدتهم بما يلاقونه يوم القيامة ، ووصفت أحوالهم السيئة في الآخرة وقت البعث والنشور : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ..) [الآيات : ٣٦ ـ ٧٠].

تهديد المشركين بعذاب القيامة وتأكيد وقوعه

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥)


نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

الإعراب :

(سَأَلَ سائِلٌ) قرئ بالهمز على الأصل ، وقرئ بترك الهمزة بإبدال الهمزة ألفا على غير قياس.

(كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ خَمْسِينَ) : خبر كان ، و (أَلْفَ) : منصوب على التمييز ، وجملة كان مع اسمها وخبرها في موضع جر صفة (يَوْمَ).

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ، يُبَصَّرُونَهُمْ .. يَسْئَلُ) و (حَمِيمٌ) : فعل وفاعل ، و (حَمِيماً) : مفعول به ، وقرئ (يَسْئَلُ) بالضم : فعل مبني للمجهول ، تقديره : ولا يسأل حميم عن حميمه. و (يُبَصَّرُونَهُمْ) : أي يبصر الحميم حميمه ، وأراد بالحميم الجمع ، والضمير المرفوع في (يُبَصَّرُونَهُمْ) يعود على المؤمنين ، والهاء والميم تعود على الكافرين. والمعنى : يبصّر المؤمنون الكافرين يوم القيامة ، أي ينظرون إليهم في النار.

(إِنَّها لَظى ، نَزَّاعَةً لِلشَّوى لَظى) بالرفع : خبر «إن» ، و (نَزَّاعَةً) : خبر ثان ، أو (لَظى) : خبر «إن» ، و (نَزَّاعَةً) : بدل من (لَظى) ، أو أن هاء (إِنَّها) ضمير القصة ، و (لَظى) : مبتدأ ، و (نَزَّاعَةً) : خبره ، والجملة : خبر «إن». ويصح كون (لَظى) بالنصب بدلا من هاء (إِنَّها) ، و (نَزَّاعَةً) بالرفع خبر «إن». ونصب (نَزَّاعَةً) على الحال المؤكدة ، والعامل فيها معنى الجملة ، مثل (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة ٢ / ٩١] ، و (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ) : خبر ثالث ، أو مستأنف.

البلاغة :

(بَعِيداً) و (قَرِيباً) بينهما طباق.

(سَأَلَ سائِلٌ) جناس اشتقاق ، وكذا بين (الْمَعارِجِ) و (تَعْرُجُ).

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي جبريل : عطف خاص على عام تنبيها على شرفه وفضله.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) تشبيه مرسل مجمل ، لحذف وجه الشبه.


(لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ..) عموم بعد خصوص لبيان هول الموقف.

(إِنَّها لَظى ، نَزَّاعَةً لِلشَّوى ، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) إلخ سجع مرصع.

المفردات اللغوية :

(سَأَلَ سائِلٌ) دعا داع به ، بمعنى استدعاه ، ولذلك عدي بالباء ، أي يكون السؤال أحيانا بمعنى طلب الشيء واستدعائه ، ويعدّى حينئذ بالباء ، تقول : سألت بكذا ، أي طلبته. والأصل في السؤال أن يكون بمعنى الاستخبار عن الشيء ، ويعدّى حينئذ بعن أو بالباء ، تقول : سألت عنه وسألت به وبحاله. والسائل استهزاء وتعنتا : النضر بن الحارث ، فإنه قال : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣١] أو أبو جهل ، فإنه قال : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٧] أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعجل بعذابهم.

(لِلْكافِرينَ) صفة أخرى لعذاب ، أو صلة متعلقة ب (واقِعٍ). (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) مانع وواق ، أي إنه واقع لا محالة. (مِنَ اللهِ) متصل بواقع. (ذِي الْمَعارِجِ) ذي المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلام الطيب والعمل الصالح ، أو مراتب الملائكة أو السموات ، والظاهر : ذي السموات ، وقيل : ذي النعم والفضائل التي تكون درجات متفاضلة. (تَعْرُجُ) تصعد. (وَالرُّوحُ) جبريل عليه‌السلام. (إِلَيْهِ) إلى مهبط أمره من السماء. (فِي يَوْمٍ) متعلق بقوله : (تَعْرُجُ). (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) هذا لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها ، بطريق التمثيل والتخييل ، والمعنى : إنها بحيث لو قدر قطعها في زمان ، لكان في زمان يقدر بخمسين ألف سنة من سني الدنيا. وهذا في الآخرة بالنسبة للكافر ، لما يرى فيه من الشدائد ، وأما المؤمن فيكون عليه أخف من صلاة مكتوبة ، كما جاء في الحديث النبوي الآتي بيانه.

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أي لا استعجال ولا جزع فيه ، ولا اضطراب قلب ، والكلام متعلق ب (سَأَلَ) لأن السؤال كان استهزاء أو تعنتا ، وذلك مما يضجره ، والمعنى : قرب وقوع العذاب ، فاصبر ، فقد اقترب موعد الانتقام. (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) يرون العذاب أو يوم القيامة. (بَعِيداً) من الإمكان ، غير واقع. (وَنَراهُ قَرِيباً) قريبا من الوقوع. (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) ظرف لكلمة (قَرِيباً) أو متعلق بمحذوف تقديره : يقع. (كَالْمُهْلِ) هو مائع الزيت ، أو دردي الزيت (ما يكون في قعر الإناء) أو هو مائع الفلزات (المعادن) المذابة ، كذائب الفضة. (كَالْعِهْنِ) كالصوف المنفوش أو المندوف ، أو كالصوف المصبوغ ألوانا. (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قريب قريبه ، لاشتغال كل واحد بحاله ، فالحميم : القريب. (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي ينظر المؤمنون إلى الكافرين في النار. (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يتمنى الكافر أو المذنب. (لَوْ يَفْتَدِي) اى يفتدي. (وَصاحِبَتِهِ)


زوجته. (وَفَصِيلَتِهِ) عشيرته ، لفصله منها. (تُؤْوِيهِ) تضمه ويأوي إليها. وهو دليل على اشتغال كل مجرم بنفسه ، بحيث يتمنى أو يفتدي بأقرب الناس وأعلمهم بقلبه ، فضلا عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها. (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين أو الخلائق. (ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف على (يَفْتَدِي) أي ثم لو ينجيه الافتداء ، وثم للاستبعاد.

(كَلَّا) ردع للمجرم ، ورد لما يودّه ، فهي كلمة تفيد الزجر عما يطلب. (إِنَّها لَظى) أي إن النار هي النار الملتهبة أو جهنم ؛ لأنها تتلظى ، أي تتلهب على الكفار. «الشوى» أعضاء الإنسان ، أو جلدة الرأس ، تنتزعها ، ثم تعود إلى ما كانت عليه. (تَدْعُوا) تجذب وتحضر. (مَنْ أَدْبَرَ) عن الإيمان والحق. (وَتَوَلَّى) عن الطاعة. (وَجَمَعَ) المال. (فَأَوْعى) جعله في وعاء ، وكنزه حرصا وتأميلا ، ولم يؤدّ حق الله فيه.

سبب النزول :

نزول الآيتين (١ ، ٢):

أخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ) قال : هو النضر بن الحارث ، قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ). وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدي في قوله : (سَأَلَ سائِلٌ) قال : نزلت بمكة في النضر بن الحارث ، وقد قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ..) الآية. وكان عذابه يوم بدر. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : نزلت (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) فقال الناس : على من يقع العذاب؟ فأنزل الله : (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ).

التفسير والبيان :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي دعا داع وطالب بعذاب واقع بلا شك ، يقع في الآخرة كائن للكافرين نازل بهم لا يمنع ذلك العذاب الواقع أحد إذا أراده الله. والسؤال للاستهزاء والتعنت. والسائل : هو


النضر بن الحارث بن كلدة أو غيره حين قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي واقع من جهة الله سبحانه ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة قال ابن عباس : (ذِي الْمَعارِجِ) : أي ذي السموات وسماها معارج ؛ لأن الملائكة يعرجون فيها. وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم ؛ وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.

والمراد : أن العذاب الذي طالب به الكفار واستعجلوه واقع بلا شك.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي تصعد إلى الله عزوجل في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليهم‌السلام في مدة يوم يقدّر بخمسين ألف سنة من سنوات الدنيا لو أراد البشر الصعود إليها ولكن الملائكة الروحانيين تصعد إليها في زمن قليل. وليس المراد من الخمسين التحديد بعدد معين بل المقصود الكثرة المطلقة وأن صعود الملائكة في مكان بعيد المدى. وقوله : (إِلَيْهِ) إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العزّ والكرامة وقوله : (فِي يَوْمٍ) في رأي الأكثرين متعلق بقوله : (تَعْرُجُ) أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم بقصد وصف اليوم بالطول مطلقا.

والمراد باليوم في رأي آخر وهو قول ابن عباس والحسن البصري : هو يوم القيامة تهويلا وتخويفا للكفار والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. وسبب الربط بين سؤال العذاب وبين عروج الملائكة : المقارنة بين اليوم


في نظرهم وبين اليوم عند الله فهم يرون الدنيا طويلة الأمد وأما عند الله فالدنيا قصيرة إذا قيست باليوم عند الله.

والجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [٥] أن القيامة مواقف ومواطن فيها خمسون موطنا كل موطن ألف سنة.

وهذا إنما يكون في حق الكافر أما في حق المؤمن فلا ؛ لقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٤] واتفقوا على أن ذلك المقيل والمستقر هو الجنة ولما أخرجه الإمام أحمد وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنه ليخفّف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أي لا تأبه يا محمد بسؤالهم العذاب استهزاء وتعنّتا وتكذيبا بالوحي ولا تضجر واحلم على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به واستعجالهم العذاب استبعادا لوقوعه واصبر صبرا جميلا : لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله وهذا معنى الصبر الجميل.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) أي إنهم يرون وقوع العذاب بعيدا وقيام الساعة في اعتقاد الكفرة مستحيل الوقوع ويرون أيضا يوم القيامة الذي مقداره خمسون ألف سنة مستبعدا محالا ونحن نعلمه كائنا قريبا ممكنا غير متعذر ؛ لأن كل ما هو آت قريب.

ثم ذكر الله تعالى بعض أوصاف ومظاهر ذلك اليوم فقال :

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي إن يوم القيامة ذلك اليوم الذي تصير السماء فيه كعكر (درديّ)


الزيت أو المذاب من النحاس والرصاص والفضة أي تكون السماء واهية غير متماسكة الأجزاء مبددة وتكون الجبال كالصوف المنفوش إذا طيّرته الريح ؛ ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو حاله في ذلك اليوم وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره لما يرى من شدة الأهوال.

(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يبصر كل حميم حميمه ويراه ويعرّف عليه لا يخفى منهم أحد عن أحد دون أن يكلم بعضهم بعضا ويتمنى الكافر وكل مذنب ذنبا يستحق به النار أن يفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة الذي نزل به بأعز ما يجده من المال أو بأعز الناس وأكرمهم لديه من أولاده وإخوته وزوجته وقبيلته وعشيرته الأقربين الذين ينتمي إليهم في النسب أو يضمونه عند الشدائد ويأوي إليهم وينصرونه بل يود المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعا من الثقلين وغيرهما من الخلائق ولا يقبل منه الفداء ولا ينجيه الافتداء من عذاب جهنم ولو جاء بأهل الأرض.

ونظير الآية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [لقمان ٣١ / ٣٣] وقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر ٣٥ / ١٨] وقوله سبحانه : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠١] وقوله عزوجل : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٤ ـ ٣٧]. والخلاصة : أنه تعالى ذكر أربع صفات ليوم القيامة : تكون السماء فيه كالمهل وتكون الجبال فيه كالعهن ولا يسأل حميم حميما ويود المجرم الكافر الافتداء من عذاب ذلك اليوم بأعز الناس لديه وجميع من في الأرض.


ثم أكّد تعالى رفض قبول الفداء منه واستبعاده قائلا :

(كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي لا يقبل الفداء من المجرم ولو افتدى بأهل الأرض وبمال الدنيا جميعا إنها جهنم الشديدة الحر مأواه كما قال تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) [الليل ٩٢ / ١٤] والتي تنزع اللحم عن العظم حتى لا تترك فيه شيئا وتنزع جلدة الرأس وجلد أطراف اليدين والرجلين ولحم الساقين ثم يعود كما كان وتنادي جهنم كل من أدبر عن الحق والإيمان في الدنيا وتولى عنه وجمع المال فجعله في وعاء فلم ينفق منه شيئا في سبيل الخير ومنع حق الله فيه من الواجب عليه من النفقات وإخراج الزكاة. قال الحسن البصري : يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا.

وكلمة (كَلَّا) ردع للمجرم عن تلك الأمنية وبيان امتناع قبول الفداء منه وضمير (إِنَّها) للنار ولم يجر لها ذكر ؛ لأن العذاب دلّ عليها ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة أي إن القصة. والدعاء على حقيقته كما روي عن ابن عباس أو هو مجاز حيث شبه تهيؤ جهنم وظهورها للمكذبين بالدعاء والطلب لهم فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ طلب كفار مكة تعجيل العذاب الموعود به استهزاء وتعنّتا والعذاب من الله صاحب معارج السماء أو معارج الملائكة واقع حتما بالكفار في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد.

٢ ـ تصعد الملائكة وجبريل في المعارج التي جعلها الله لهم إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء ؛ لأنها محل برّه وكرامته فليس المراد من قوله (إِلَيْهِ) المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده وهو موضع العزّ والكرامة. وعروج


الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وهذا هو الرأي الأصح في تقديري وهو قول الأكثرين كما تقدم وقيل : المراد باليوم هو يوم القيامة الموصوف بأنه بمقدار خمسين ألف سنة تهويلا وتخويفا للكفار. قال ابن عباس : هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار.

قال القرطبي عن قول ابن عباس : وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله بدليل حديث أبي سعيد الخدري المتقدم وحديث أبي هريرة فيما رواه البخاري ومسلم والموطأ و (١) أبو داود والنسائي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من رجل لم يؤدّ زكاة ماله إلا جعل شجاعا (١) من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس» فهذا يدل على أنه يوم القيامة (٢).

وهذا كما تقدم بالنسبة للكافر وأما بالنسبة للمؤمن فيكون يوم الحساب في القيامة بمقدار ما بين الصلاتين كما ثبت في الحديث الصحيح.

٣ ـ أمر الله نبيّه بالصبر الجميل على أذى قومه الذين يرون العذاب بالنار بعيدا أي غير كائن وهو في تقدير الله قريب الحصول ؛ لأن ما هو آت فهو قريب. والصبر الجميل : هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله.

٤ ـ ذكرت الآيات أوصافا أربعة : هي صيرورة السماء كدرديّ الزيت وعكره أو كالمذاب من المعادن من الرصاص والنّحاس والفضة وجعل الجبال كالصوف المنفوش أو المصبوغ ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه مع أن الرجل يرى أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم ويتمنى الكافر أن يفتدي من عذاب جهنم بأعزّ من كان عليه

__________________

(١) الشجاع : الحية الذكر.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ٢٨٢ وما بعدها.


في الدنيا من أقاربه فلا يقدر ويودّ لو فدي بهم لافتدى ثم يخلّصه (ينجيه) ذلك الفداء.

٥ ـ كلا كما قال تعالى للزجر والردع ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء إن له جهنم تتلظى نيرانها وتنزع جلدة الرأس واللحم عن العظم في الأطراف والجسد وتطلب إليها كل من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان وجمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى فكان جموعا منوعا ؛ لأنه لم يؤدّ الزكاة والحقوق الواجبة فيه وتشاغل به عن دينه وزهى باقتنائه وتكبر.

الخصال العشر التي تعالج طبع الإنسان

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

الإعراب :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) العامل في (إِذا) الأولى : «هلوع» وفي (إِذا) الثانية : «منوع». و (هَلُوعاً) حال من ضمير


(خُلِقَ) وهذه الحال تسمى الحال المقدّرة ؛ لأن الهلع إنما يحدث بعد خلقه لا في حال خلقه. و (جَزُوعاً) و (مَنُوعاً) : خبر كان مقدرة وتقديره : يكون جزوعا ويكون منوعا.

البلاغة :

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) بينهما مقابلة.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الْإِنْسانَ) أريد بالإنسان الناس فلذلك استثني منه (إِلَّا الْمُصَلِّينَ).

(هَلُوعاً) سريع الحزن والجزع شديد الحرص قليل الصبر قال الزمخشري : الهلع : سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير. (الشَّرُّ) أي الضّر. (جَزُوعاً) كثير الجزع والمراد أنه يئوس قنوط والجزع : حزن يصرف الإنسان عن مهامّه. (الْخَيْرُ) السعة أو المال والغنى. (مَنُوعاً) كثير المنع يبالغ في الإمساك. وهذه الأوصاف الثلاثة (الهلع والجزع والمنع) طبائع جبل الإنسان عليها.

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ) أي المؤمنين استثناء من الموصوفين بالصفات المذكورة. (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) مواظبون لا يشغلهم عنها شاغل. (حَقٌّ مَعْلُومٌ) نصيب معين واجب كالزكاة والنذور. (لِلسَّائِلِ) الفقير الذي يستجدي. (وَالْمَحْرُومِ) الفقير المتعفف الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم. (يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) يصدقون بيوم الجزاء تصديقا قلبيا وعمليا فيجتهد في العبادة وينفق من ماله طمعا في المثوبة الأخروية. (مُشْفِقُونَ) خائفون على أنفسهم. (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) غير مأمون النزول وهي جملة اعتراضية تدلّ على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ في طاعته. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) محافظون عليها من الحرام. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الإماء الرقيقات حينما كان الرّق قائما موجودا.

(العادُونَ) المتجاوزون الحلال إلى الحرام أو الحدود المسموح بها شرعا. (لِأَماناتِهِمْ) ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا وقرئ : «لأمانتهم». (وَعَهْدِهِمْ) ما عاهدوا عليه والتزموا الوفاء به. (راعُونَ) حافظون. (بِشَهاداتِهِمْ) جمعت لاختلاف أنواعها وقرئ : «بشهادتهم». (قائِمُونَ) يؤدون الشهادة ولا يكتمونها. (يُحافِظُونَ) يؤدونها في أوقاتها مراعين شرائطها وفرائضها وسننها. وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بهم أولا وآخرا للدلالة على فضلها. (مُكْرَمُونَ) بثواب الله.


المناسبة :

بعد بيان أوصاف يوم القيامة الرهيبة ، نبّه الله تعالى إلى طبائع البشر واتصافهم بالهلع والجزع والمنع التي تجمع أصول الأخلاق الذميمة ، ثم استثنى المؤمنين الذين يعملون صالح الأعمال ، ويتصفون بصفات عشر لعلاج أمراض النفس البشرية ، وليكونوا قدوة للإنسانية ومثلا أعلى يحتذي به.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) أي إن الإنسان جبل على الضجر أو الهلع : وهو شدة الحرص ، وقلة الصبر ، فلا يصبر على بلاء ، ولا يشكر على نعماء ، وفسّر ذلك بأنه إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك من الضّر ، فهو كثير الجزع أو الحزن والشكوى ، وإذا أصابه الخير من الغنى والسعة أو المنصب والجاه أو القوة والصحة ونحو ذلك من النعم ، فهو كثير المنع والإمساك والبخل على غيره.

روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرّ ما في رجل : شحّ هالع ، وجبن خالع».

ثم استثنى الله تعالى من اتصف بالصفات العشر التالية ، وهي :

١ ـ ٢ : أداء الصلاة والمواظبة عليها : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي إن الناس يتصفون بصفات الذّم إلا الموفقين المهديين إلى الخير ، وهم الذين يؤدون صلاتهم ، ويحافظون على أوقاتها وواجباتها ، فلا يتركونها في شيء من الأوقات ، ولا يشغلهم عنها شاغل ، ولا يخلون بشيء من فرائضها وسننها ، ويتمثلون حقيقتها من الصلة بالله والسكون والخشوع ، فهؤلاء ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع ، وإنما بإيمانهم وكون دين الحق في نفوسهم على صفات محمودة وخلال مرضية.


وهذا دليل على وجوب المواظبة على العبادة ، كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي‌الله‌عنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» وفي لفظ «ما داوم عليه صاحبه» قالت : وكان رسول الله إذا عمل عملا داوم عليه ، أو أثبته. فيكون المراد بالآية الذين يداومون على الصلوات في أوقاتها ، وأما الاهتمام بشأنها فيحصل برعاية أمور سابقة على الصلاة كالوضوء ، وستر العورة ، وطلب القبلة وغيرها ، وتعلق القلب بها إذا دخل وقتها ، ورعاية أمور مقارنة للصلاة ، كالخشوع ، والاحتراز عن الرياء ، والإتيان بالنوافل والمكملات. ورعاية أمور لاحقة بالصلاة ، كالاحتراز عن اللغو وما يضادّ الطاعة ؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فارتكاب المعصية بعد الصلاة دليل على عدم قبول تلك الصلاة.

٣ ـ أداء الزكاة والواجبات المالية : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي والذين في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات والبائسين ، سواء سألوا الناس أو تعففوا ، وذلك يشمل الزكوات المفروضة وكل ما يلزم الإنسان نفسه به ، من نذر ، أو صدقة دائمة ، أو إغاثة مستمرة. وهذا دليل على وجوب العبادة المالية ذات الأهداف الاجتماعية ، بعد وجوب العبادات البدنية ذات المغزى الأخلاقي المربي للنفس ، والغاية الدينية السامية ، فيكون المراد بالحق : الزكاة المفروضة ، بدليل وصفه بأنه معلوم ، واقترانه بإدامة الصلاة. وقيل : هو ما سوى الزكاة ، وإنه على طريق الندب والاستحباب.

٤ ـ التصديق بيوم الجزاء : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي والذين يوقنون بيوم القيامة أو بالمعاد والحساب والجزاء ، لا يشكون فيه ولا يجحدونه ، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب. وهذا دليل على أن العمل له غاية تدفع إلى تصحيح الاعتقاد والقول والفعل.

٥ ـ الخوف من عذاب الله : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِنَ


عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي والذين هم خائفون وجلون من عذاب الله إذا تركوا الواجبات ، واقترفوا المحظورات ، فإن العذاب واقع حتما ، ولا ينبغي لأحد أن يأمنه ، وعلى كل واحد أن يخافه ، إلا بأمان من الله تعالى.

ونظير الآية : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال ٨ / ٢].

وقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٦٠].

وهذا دليل على أن الخوف من العقاب باعث على الطاعة وزاجر عن المعصية ، وأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله ، وإن بالغ في الطاعة.

٦ ـ العفة والبعد عن الفاحشة : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي والذين يكفون فروجهم عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه ، وهو الزوجة وملك اليمين الذي هو الإماء ، فلا لوم في الاستمتاع المشروع بهما ، أما من قصد غير ذلك فهم المتجاوزون الحدود ، المعتدون الذين يلحقون الضرر بأنفسهم وبأمتهم.

وهذا دليل على حرمة كل ما عدا الزواج ونحوه من الاستمتاع بالإماء ، حينما كان الرق قائما في العالم.

٧ ـ ٨ : أداء الأمانات والوفاء بالعهود : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي الذين يؤدون الأمانات التي يؤتمنون عليها إلى أهلها ، ويوفّون بالمعاهدات ، ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم ، فإذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا. وهذه صفات المؤمنين ، وضدها صفات المنافقين ، كما ورد في الحديث الصحيح : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ،


وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية : «إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر».

٩ ـ أداء الشهادة بحق : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي الذين يؤدون الشهادة عند القضاة بحق ، ويحافظون عليها دون زيادة ولا نقصان ، ودون مجاملة لقريب أو بعيد ، أو رفيع أو وضيع ، ولا يكتمونها ولا يغيرونها.

١٠ ـ الحفاظ على الصلاة الكاملة : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يحافظون على مواقيت الصلاة وأركانها وواجباتها ومستحباتها ، لا يخلّون بشيء منها ، ولا يشتغلون بشاغل عنها ، ولا يفعلون بعدها ما يتناقض أو يتعارض معها ، فيبطل ثوابها ويحبط أجرها ، فيدخلون في صلاتهم بحماس ورغبة ، ويفرغون قلوبهم من شواغل الدنيا ، ويفكرون فيما يقرءون أو يرددون من الأذكار ، وتحضر قلوبهم مع الله ، ويفهمون أي القرآن الكريم.

(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي أولئك الموصوفون بالصفات السابقة ، مستقرون في جنات الخلود ، مكرمون بأنواع الكرامات ، وألوان الملاذ والمسارّ ، كما جاء في الحديث الذي رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد : «في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ كل إنسان مخلوق بطبائع معينة أساسها الحرص والجزع ، ويجمعها صفة الهلع : وهو في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشة ، فلا يصبر على خير ولا شر ، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي ، فإذا مسّه الخير لم يشكر ، وإذا مسّه الضر لم يصبر.


٢ ـ إن شأن المؤمنين المصلين البعد عن الصفات الذميمة المبنية على الهلع ، فصلاتهم الصحيحة الكاملة تربي فيهم الأخلاق الكريمة ، وتمنعهم عن الأوصاف السيئة.

فتراهم يؤدون الصلاة المكتوبة على وجهها الصحيح ، وفي مواقيتها المطلوبة شرعا ، ويداومون عليها دون انقطاع ولا تضييع ، ويؤدون الزكاة المفروضة للفقراء والمساكين ، ويؤمنون بيوم الجزاء وهو يوم القيامة ، ويخافون من عذاب ربّهم ، فهو العذاب الشديد الذي لا يأمنه أحد ، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.

ويحافظون على فروجهم من الزنى أو الفاحشة ، ولا يستمتعون بالنساء إلا من طريقين فقط ، هما : الزواج والتسرّي بالإماء ، ومن قصد غير ذلك فهو من المعتدين المتجاوزين حدود الله تعالى.

ويرعون الأمانات ، ويوفون بالمواثيق والمعاهدات ، ويؤدون الشهادات عند الحكام بحق وصدق على من كانت عليه من قريب أو بعيد ، ولا يكتمونها ولا يغيرونها.

ويحافظون على كيفية الصلاة المقررة شرعا ، من وضوء وإتمام ركوع وسجود ، وسكون وخشوع ، دون اشتغال عنها بشيء من الشواغل ، لا قبل الدخول فيها ، ولا في أثنائها ، ولا بعد الفراغ منها بالاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي.

وجزاء هؤلاء المتصفين بالصفات المذكورة ، والذي وعد به الله عزوجل هو الظفر بالجنات ، والإكرام فيها بأنواع المكرمات.


أحوال الكفار المكذبين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا والآخرة

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

الإعراب :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) ما : في موضع رفع مبتدأ ، وخبره : (لِ الَّذِينَ) و (كَفَرُوا) : صلة «الذين» ، و (قِبَلَكَ) : ظرف مكان في موضع الحال من ضمير (كَفَرُوا) أو من المجرور : (لِ الَّذِينَ) أي كائنين قبلك. و (مُهْطِعِينَ) : حال بعد حال ، و (عِزِينَ) : حال من ضمير (مُهْطِعِينَ) أو (الذين). و (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) : من صلة (عِزِينَ). و (عِزِينَ) جمع عزة ، وأصلها عزوة أو عزهة مثل سنة ، ثم حذفت اللام ، وجمعت بالواو والنون عوضا عن المحذوف ، مثل سنون.

(إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ عَلى) : في موضع نصب ، متعلق ب (قادرون) و (نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) : تقديره نبدّلهم بخير منهم ، فحذف المفعول الأول ، وحرف الجر من الثاني.

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً يَوْمَ) : بدل من قوله : (يَوْمَهُمُ) في قوله تعالى : (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ) أي حتى يلاقوا يوم يخرجون. و (سِراعاً) : حال من واو (يَخْرُجُونَ).

وكذلك قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) حال من ضمير (يَخْرُجُونَ).

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) حال من واو (يُوفِضُونَ) وكذلك (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ).


(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) تقديره : ذلك اليوم الذي كانوا يوعدونه ، فحذف المفعول العائد إلى الاسم الموصول وهو (الَّذِي) تخفيفا ، مثل : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١] أي بعثه. و (ذلِكَ) : مبتدأ وما بعده الخبر.

البلاغة :

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ ..) استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ.

(كَلَّا ، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) كناية عن المني ، مع نزاهة التعبير ، وحسن التذكير.

(كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) تشبيه مرسل مجمل ، وفي التشبيه تهكم بهم ، وتعريض بسخف عقولهم ، وتجهيل لهم بعبادة غير الله.

المفردات اللغوية :

(قِبَلَكَ) حولك وناحيتك أو نحوك. (مُهْطِعِينَ) مسرعين مديمي النظر نحوك. (عِزِينَ) جماعات متفرقين حلقات ، جمع عزة ، وأصلها عزوة من العزو ، كأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى وتستقل برأي خاص ، وعزين من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضا من المحذوف ، مثل عضين. (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) إنكار لقولهم : لو صح ما يقوله محمد لنكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا. (كَلَّا) ردع لهم عن الطمع في الجنة.

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي خلقناهم وغيرهم من نطف مهينة ، فمن لم يستكمل نفسه بالإيمان والطاعة ولم يتخلق بأخلاق الملائكة ، لم يتأهل لدخول الجنة. (فَلا أُقْسِمُ) أي أقسم ، ولا : زائدة. (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أي للشمس والقمر وسائر الكواكب. (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم ، أو نأتي بدلهم. (بِمَسْبُوقِينَ) بعاجزين أو بمغلوبين. (فَذَرْهُمْ) اتركهم. (يَخُوضُوا) يتحدثوا في باطلهم. (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم. (حَتَّى يُلاقُوا) يلقوا. (الَّذِي يُوعَدُونَ) فيه العذاب.

(الْأَجْداثِ) القبور ، جمع جدث. (سِراعاً) مسرعين إلى المحشر ، جمع سريع.(نُصُبٍ) والنّصب جمع أنصاب ، والنصب : كل شيء منصوب كالعلم أو الراية ، والمراد هنا : ما ينصب للعبادة ، وقرئ : نصب بالسكون. (يُوفِضُونَ) يسرعون. (خاشِعَةً) ذليلة كسيرة. (تَرْهَقُهُمْ) تغشاهم. (ذلِكَ الْيَوْمُ) أي يوم القيامة.


سبب النزول :

نزول الآية (٣٨):

(أَيَطْمَعُ) : قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمعون كلامه ، ولا ينتفعون به ، بل يكذبون به ويستهزئون ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة ، لندخلنها قبلهم ، وليكوننّ لنا فيها أكثر مما لهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (١).

المناسبة :

بعد أن وعد الله تعالى المتصفين بصفات عشر بالجنات والإكرام ، ذكر أحوال الكفار في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيسرعون إلى الكفر ، لذا توعدهم الله بالإبادة والهلاك ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم حتى يوم البعث ، وأما في الآخرة فيخرجون من قبورهم مسرعين إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان ، وتكون أبصارهم ذليلة ، وتغشاهم المذلة بسبب تكذيبهم بيوم القيامة.

التفسير والبيان :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي ما بال هؤلاء الكفار حواليك أيها النبي مسرعين إلى الكفر والتكذيب والاستهزاء بك ، وتراهم عن يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن شماله جماعات متفرقة ، شاردين فرقا فرقا ، وشيعا شيعا ، فارين منه ، متفرقين عنه ، كما قال تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدّثر ٧٤ / ٤٩ ـ ٥١].

وقيل : مهطعين : مادّي أعناقهم ، مديمي النظر إليك.

ثم تهكم الله تعالى بتمنياتهم الجنة وأيأسهم من دخول الجنات ، فقال :

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٥٠


(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)؟ أي أيطمع هؤلاء المشركون ، وحالتهم هذه من الكفر والتكذيب والفرار من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفرتهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم؟! كلا ، بل مأواهم جهنم ، كما قال تعالى :

(كَلَّا ، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي كلا ، لا أمل في دخولهم الجنة ، فإنا خلقناهم من المني الضعيف ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات ٧٧ / ٢٠]. وهذا تقرير لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا حدوثه واستبعدوا وجوده ، بدليل الخلق الأول أو البداءة التي يعترفون بها ، فتكون الإعادة في تقدير البشر أهون منها ، أما بالنسبة لله عزوجل فالبدء والإعادة سواء. وبما أنهم خلقوا من الشيء الضعيف ، فهم ضعاف لا ينبغي منهم هذا التكبر.

أخرج أحمد وابن ماجه وابن سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ..) إلى قوله : (كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ثم بزق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كفّه ، ووضع عليها أصبعه ، وقال : «يقول الله : ابن آدم ، أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سوّيتك وعدّلتك ، مشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي أتى أوان الصدقة».

ثم أنذرهم الله تعالى بالهلاك إن داموا على الكفر ، وهددهم بإيجاد آخرين مكانهم لكي يؤمنوا ، فقال :

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي فأقسم بمشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها كل يوم من أيام السنة ، على أن نخلق أمثل منهم ، وأطوع لله ممن عصره ، ونهلك


هؤلاء ، ولن يعجزنا شيء ، وما نحن بمغلوبين إن أردنا ذلك ، بل نفعل ما أردنا ، لكن اقتضت مشيئتنا وحكمتنا تأخير عقابهم.

وهذا دليل على كمال قدرته تعالى على الإيجاد والإعدام مؤكدا بالقسم ، وأنه لا يعجزه شيء من الممكنات. وهو تهكم بهم وتنبيه على تناقض كلامهم ، حيث إنهم ينكرون البعث ، ثم يطمعون في دخول الجنة ، وهم يعترفون بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم مما يعلمون ، ثم لا يؤمنون بأنه قادر على خلقهم مرة ثانية.

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم حتى يوم البعث زيادة في التهديد ، فقال:

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي اتركهم يا محمد يتحدثون في باطلهم ، ويلعبوا في دنياهم ، ويعاندوا في تكذيبهم وكفرهم وإنكارهم يوم البعث ، حتى يلقوا يوم القيامة وما فيه من أهوال ، ويذوقوا وباله ، ويجازوا بما عملوا.

ومن أحوالهم في هذا اليوم :

ـ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) أي اذكر يوم يقومون من القبور بدعوة الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ، مسرعين ، متسابقين ، كأنهم في إسراعهم إلى الموقف ، كما كانوا في الدنيا يهرولون أو يسرعون إلى شيء منصوب ، علم أو راية ، والمراد بالنصب هنا : كل ما ينصب فيعبد من دون الله سبحانه. وقوله : (يُوفِضُونَ) : يسرعون ويتسابقون إليه.

ـ (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وتكون أبصارهم ذليلة كسيرة ، وتغشاهم المذلة الشديدة ، لهول العذاب الذي


يواجههم ، وفي مقابلة استكبارهم عن الطاعة في الدنيا ، ذلك اليوم المشتمل على الأهوال العظام هو اليوم الذي أوعدهم الله به ، وأنذرهم بملاقاته ، وكانوا يكذبون به ، وليتهم آمنوا به ، فنجوا من العذاب.

وعبر عن ذلك اليوم بلفظ الماضي ؛ لأن ما وعد الله به يكون آتيا لا محالة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أنكر الله تعالى على الكفار حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسارعتهم إلى الكفر والتكذيب برسالته والاستهزاء به ، فما بالهم يسرعون إليه ويجلسون حواليه ، ولا يعملون بأوامره ، وتراهم عن يمينه وشماله حلقا حلقا ، وجماعات متفرقين.

٢ ـ ثم أنكر عليهم تناقضهم وتعارض أقوالهم ومواقفهم ، فهم يكذّبون برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستهزئون بأصحابه ، وينكرون البعث ، ثم يقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم ، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه!! فرد الله عليهم بقوله : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) أي إنهم منكرون للبعث ، فكيف يطمعون في دخول الجنة؟

٣ ـ أيأسهم الله تعالى من دخول الجنة ، فأخبر بأنهم لا يدخلونها ، لاستكبارهم ، فهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ؛ كما خلق سائر جنسهم ، فلا يليق بهم هذا التكبر ، وليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما تستوجب الجنة بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى.

روي أن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف (١) خزّ ، وجبّة خزّ ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها

__________________

(١) المطرف : واحد المطارف : وهي أردية من خز مربعة لها أعلام.


الله؟ فقال له : أتعرفني؟ قال : نعم ، أولك نطفة مذرة (١) ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة ، فمضى المهلب وترك مشيته.

٤ ـ أقسم الله لإثبات البعث والرد على المشركين المنكرين له بمشارق الشمس ومغاربها على أنه قادر على إهلاكهم والذهاب بهم ، والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال ، لا يفوته شيء ، ولا يعجزه أمر يريده. ولم يقع التبديل ، وإنما هدد تعالى القوم بذلك ليؤمنوا.

٥ ـ أوعد الله تعالى المشركين وهددهم بعذاب القيامة ، آمرا نبيه عليه‌السلام أن يتركهم يخوضوا في باطلهم ، ويلعبوا في دنياهم ، على جهة الوعيد ، وأن يشتغل بما أمر به ، ولا يهمه شركهم ، فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا.

٦ ـ وصف الله حال المشركين يوم البعث بأنهم حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي يخرجون مسرعين من القبور ، كأنهم كما كانوا في الدنيا يسرعون ويتسابقون إلى النّصب : أي ما نصب فعبد من دون الله.

ووصفهم أيضا بأن أبصارهم تكون ذليلة خاضعة ، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله ، وتغشاهم مذلة وهوان.

٧ ـ إن هذا اليوم وهو يوم القيامة الذي يكون فيه الكفار على تلك الأوصاف هو اليوم الذي كانوا يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب ، ووعد الله آت لا محالة.

__________________

(١) مذرة : الفساد.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة نوح عليه‌السلام

مكيّة ، وهي ثمان وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة نوح باسم نبي الله عليه‌السلام وقصته مع قومه من بداية دعوته إلى الطوفان ، كما جاء في مطلع السورة : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ..).

مناسبتها لما قبلها :

هناك وجهان لاتصال هذه السورة بما قبلها :

١ ـ تشابه مطلع السورتين في ذكر العذاب الذي وعد به الكفار : قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة المعارج ، وقوم نوح عليه‌السلام في هذه السورة.

٢ ـ لما قال تعالى في أواخر المعارج : (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) [٤١] عقبه بقصة نوح المشتملة على إغراق قومه إلا من آمن ، وتبديلهم بمن هم خير منهم ، فوقعت موقع الاستدلال وإثبات خبر القدرة على التبديل ، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستدلال على ما ختم به (تَبارَكَ).

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة كغيرها من السور المكية التي عنيت بغرس أصول العقيدة ،


وتبيان عناصر الإيمان ، من عبادة الله وطاعته ، وإبطال عبادة الأصنام والأوثان ، والاستدلال على وجود الله ووحدانيته وقدرته.

افتتحت السورة ببيان إرسال الله تعالى نوحا إلى قومه ، وقيامه بإنذارهم ومطالبتهم بالإقلاع عن ذنوبهم ، ليغفر الله لهم ، وليمدهم بالأموال والبنين ، وليجعل لهم جنات ، يفجر فيها الأنهار ، ولكنهم أبوا دعوته ، وأمعنوا في الضلال والعصيان : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً ..) [الآيات ١ ـ ١٤].

ثم أمرهم تعالى للاستدلال على وجوده ووحدانيته وقدرته والإقبال على طاعته وتعرف نعمه بالنظر في خلق السموات والأرض ، والتأمل في خلق الإنسان ، وفيما أنعم به على الناس من تذليل الأرض وتسخيرها للنفع ، وإيداع لكنوز والمعادن فيها ، والتنقل في نواحيها ، وسلوك السبل الواسعة فيها : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ..) [الآيات ١٥ ـ ٢٠].

وختمت السورة ببيان كفر قومه وإصرارهم على عبادة الأصنام ، وعقابهم في الدنيا والآخرة ، ودعاء نوح عليه‌السلام على قومه بالهلاك والدمار بعد جهاد طويل في الدعوة دام تسع مائة وخمسين سنة ، دون أن يقلعوا عن الشرك ، ولم ينتفعوا بالإنذار والتذكير : (قالَ نُوحٌ : رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ..) [الآيات ٢١ ـ ٢٨].


إرسال نوح عليه‌السلام إلى قومه

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

الإعراب :

(أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَنْ) : إما مفسرة بمعنى (أي) لتضمن الإرسال معنى القول ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وإما في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، أي بأن أنذر.

المفردات اللغوية :

(أَنْ أَنْذِرْ) أي بأن أنذر ، أو بإنذار. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ) إن لم يؤمنوا. (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم ، في الدنيا بالطوفان ، وفي الآخرة بنار جهنم. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) بيّن الإنذار. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بأن اعبدوا الله. (مِنْ ذُنُوبِكُمْ مِنْ) زائدة ، فإن الإيمان يغفر به ما قبله ، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد. (وَيُؤَخِّرْكُمْ) بلا عذاب. (أَجَلٍ مُسَمًّى) أجل مقدر بوقت معلوم لا يتجاوزه ، وهو أقصى ما قدر لكم ، وهو أجل الموت. (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) إن الأجل الذي قدّره. (إِذا جاءَ) على الوجه المقدر به أجلا. (لا يُؤَخَّرُ) فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ، ولآمنتم. وفيه دلالة على أنهم لانهماكهم في حب الحياة العاجلة ، كأنهم شاكون في الموت.

التفسير والبيان :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إنا بعثنا نوحا أول رسول أرسله الله إلى قومه ، وقلنا له : أنذر قومك بأس الله قبل أن يأتيهم عذاب شديد الألم ، وهو عذاب النار ، أو الإغراق بالطوفان ، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم.


(قالَ : يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) قال نوح لقومه : إني منذر من عقاب الله ومخوّف لكم ، بيّن الإنذار ، واضح الاعلام ، أبيّن لكم ما فيه نجاتكم ، ومضمون الإنذار :

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاتَّقُوهُ ، وَأَطِيعُونِ) أي آمركم أن تعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأن تؤدوا حقوقه ، وتمتثلوا أوامره ، وتجتنبوا ما يوقعكم في عذابه ؛ وتطيعوني فيما آمركم به ، فإني رسول إليكم من عند الله تبارك وتعالى.

والتقوى : امتثال الأوامر ، واجتناب المحارم والمآثم.

والتكليف بهذه الأمور الثلاثة له ثمرتان :

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يستر لكم بعض ذنوبكم ، ويسامحكم فيما فرط منكم من الزلّات ، ويمد في أعماركم ويؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدّره الله لكم ، إن آمنتم وأطعتم ، وهذا وعد على العبادة والطاعة بشيئين : أحدهما ـ دفع مضار الآخرة : وهو غفران الذنوب ، والثاني ـ تحقيق منافع الدنيا ، وهو تأخير الأجل إلى أقصى الإمكان.

وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم ، يزاد بها في العمر حقيقة ، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو يعلى عن أنس : «صلة الرحم تزيد في العمر». قال الزمخشري : قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم ، أهلكهم على رأس تسع مائة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى ، أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه ، لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف (١).

__________________

(١). ٣ / ٢٧٠


(إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ما قدّره لكم إذا جاء ، وأنتم باقون على الكفر ، لا يؤخر بل يقع لا محالة فبادروا إلى الإيمان والطاعة ، لو كنتم تعلمون ، لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر عن وقته. والمعنى : أن الأجل حتمي لا يؤجل ، ولكن له تعلق وارتباط بشيء آخر ، ففي حال الإيمان والطاعة يكون الأجل الأطول ، ثم لا بد من الموت ، وفي حال الكفر والمعصية يكون الأجل الأقصر ، ثم يكون الموت.

والعاقل هو الذي يبادر إلى الطاعة قبل حلول النقمة ، فإنه إذا أمر تعالى بالعقاب لا يرد ولا يمانع. وأضاف تعالى الأجل إليه سبحانه ؛ لأنه الذي أثبته.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أرسل الله تعالى رسوله نوحا عليه‌السلام إلى قومه ، لينذرهم ويخوفهم إن أصروا على الكفر العذاب المؤلم وهو عذاب النار في الآخرة ، وما نزل عليهم من الطوفان في الدنيا. روى قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول رسول أرسل نوح ، وأرسل إلى جميع أهل الأرض». فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا.

٢ ـ امتثل نوح عليه‌السلام أمر ربه ، فبلغ قومه رسالته قائلا : يا قوم إني لكم نذير واضح الإنذار ، فمن عصى الله دخل النار ، وآمركم أن توحدوا الله وتعبدوه حق العبادة الخالصة له ، وأن تخافوه ، وأن تطيعوه فيما آمركم به ، فإني رسول الله إليكم. والأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح. والأمر بالتقوى يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات ، والطاعة تشمل إطاعة جميع المأمورات والمنهيات.


فإن التزمتم العبادة والخوف من الله والطاعة لأوامره ، غفر لكم بعض الذنوب ، وهو ما لا يليق بحقوق المخلوقين ، وينسئ في أعماركم. والمعنى : أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا ، بارك في أعمارهم ، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب.

٣ ـ إذا جاء الموت المحتم وقوعه لا يؤخر ، بعذاب كان أو بغير عذاب. ولو كنتم أيها الناس تعلمون ، لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخّر. وهذا زجر لهم عن حب الدنيا ، والإعراض عن أحكام الدين أوامره ونواهيه.

مناجاة نوح ربه وشكواه إليه

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))


الإعراب :

(جِهاراً) منصوب على المصدر ب (دَعَوْتُهُمْ) لأن الجهار أحد نوعي الدعاء ، فنصب به ، مثل قعدت القرفصاء ، أو صفة لمصدر دعا أي دعاء جهارا ، أو حال ، أي مجاهرا.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً يُرْسِلِ) : مجزوم لأنه جواب الأمر ، بتقدير إن ، أي إن تستغفروا ربكم يرسل السماء عليكم مدرارا. و (مِدْراراً) : حال من السماء ، ولم تؤنث مدرار لأن مفعال في المؤنث يكون بغير تاء ، مثل : امرأة معطار ومذكار ومئناث ؛ لأنها في معنى النسب ، كقولهم : امرأة طالق وحائض وطامث ، أي ذات طلاق وحيض وطمث. (أَطْواراً) في موضع الحال.

(طِباقاً) إما صفة ل (سَبْعَ) أو منصوب على المصدر. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ) أي في إحداهن.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً نَباتاً) : منصوب على المصدر ، والعامل فيه إما مقدر ، تقديره : والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا ، أو يكون مصدر (أَنْبَتَكُمْ) على حذف الزائد.

البلاغة :

(لَيْلاً) و (نَهاراً) بينهما طباق ، وكذا بين (جِهاراً) و (إِسْراراً) وبين (أَعْلَنْتُ) و (أَسْرَرْتُ) وبين (يُعِيدُكُمْ) و (يُخْرِجُكُمْ).

(جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) مجاز مرسل ، إذ المراد رؤوس أصابعهم ، من إطلاق الكل وإرادة الجزء.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) استعارة تبعية في (أَنْبَتَكُمْ) شبه إنشاءهم وخلقهم أطوارا بالنبات الذي ينمو تدريجيا.

(وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) ذكر المصدر للتأكيد ، وهو ما يسمى بالإطناب. وبين (يُعِيدُكُمْ) و (يُخْرِجُكُمْ) طباق.

(مِدْراراً) ، (أَنْهاراً) ، (وَقاراً) ، (أَطْواراً) إلخ سجع مرصع مراعاة لرؤوس الآيات.

المفردات اللغوية :

(دَعَوْتُ قَوْمِي) أي إلى الإيمان. (لَيْلاً وَنَهاراً) أي دائما متصلا. (إِلَّا فِراراً) هربا عن الإيمان والطاعة وتفلتا منهما. (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان والطاعة. (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ


فِي آذانِهِمْ) سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي. والتعبير بصيغة الدعوة أو الطلب للمبالغة. (وَأَصَرُّوا) وأكبوا على الكفر والمعاصي. (وَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان واتباعي. (اسْتِكْباراً) عظيما.

(جِهاراً) بأعلى صوتي. (أَعْلَنْتُ لَهُمْ) صوتي. (وَأَسْرَرْتُ) الكلام ، أي دعوتهم مرة بعد أخرى ، وكرة بعد أولى ، على أي وجه أمكنني. وكلمة (ثُمَ) لتفاوت الوجوه والتفنن في الأسلوب والدعوة. (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا المغفرة من الكفر أو الشرك ، بالتوبة من ذلك. (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) للتائبين. (يُرْسِلِ السَّماءَ) أي المطر ، وكان قد حبس الله عنهم المطر أربعين سنة ، وأعقم أرحام نسائهم ، فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه ، ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. (مِدْراراً) غزيرا متتابعا كثير الدور.

(جَنَّاتٍ) بساتين. (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ) لا تخافون أو لا تأملون. (وَقاراً) عظمة وإجلالا وتوقيرا ، والمعنى على قوله : «لا تأملون» : مالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء المشتمل على أدنى الظن مبالغة. (أَطْواراً) جمع طور أي أحوالا وهيئات وعلى مراحل وأدوار في النمو والخلقة ، كأنه قال : ما لكم لا تؤمنون بالله ، والحال هذه ، وهي حال موجبة للإيمان به؟! خلقكم أولا من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم خلق العظام واللحم ، ثم أنشأكم خلقا آخر ، من طفولة ، فشباب ، فكهولة.

(أَلَمْ تَرَوْا) تنظروا. (طِباقاً) متطابقة ، بعضها فوق بعض. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ) أي في السموات ، وهو في السماء الدنيا. (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي كالسراج وهو المصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض. (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أي خلقكم وأنشأكم من الأرض إنشاء ، إذ خلق أباكم آدم منها ، فاستعير الإنبات للإنشاء ؛ لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) مقبورين. (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) بالبعث والحشر ، وأكده بالمصدر ، كما أكّد به قوله : (أَنْبَتَكُمْ) للدلالة على أن الإعادة محققة كالبدء ، وأنها تكون لا محالة.

(بِساطاً) ممهدة منبسطة كالبساط ، تتقلبون عليها. (فِجاجاً) واسعة ، جمع فج.

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى عن إرسال نوح عليه‌السلام إلى قومه ، وامتثاله أمر ربه ، ذكر مناجاته لربه وشكواه إليه ، أنه دعاهم وأنذرهم ، فعصوه وتمردوا عليه ، بالرغم من تغيير أساليب الدعوة ، والوعد بإنزال الأمطار ، والإمداد بالأموال والبنين ، وتخصيص الجنات والأنهار ، وبالرغم من إقامة الأدلة على عظمة الله


وقدرته ، من خلق الإنسان على أطوار ، وخلق السموات السبع الطباق ، وتزيينها بالشمس والقمر ، وجعل الأرض ممهدة كالبساط.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى أنواع الشكوى من نوح عليه‌السلام على قومه ، فقال :

ـ (قالَ : رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي قال نوح مشتكيا إلى ربه عزوجل ما لقي من قومه وما صبر عليهم في مدة طويلة هي ألف سنة إلا خمسين عاما : إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان ، دعاء دائما متصلا في الليل والنهار ، من غير تقصير ، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك ، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا عما دعوتهم إليه ، وبعدا عنه ، أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق ، فرّوا منه ، وحادوا عنه. ثم ذكر أنهم عاملوه بأشياء :

ـ (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا ، وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي وكلما دعوتهم إلى سبب المغفرة ، وهو الإيمان بك ، والطاعة لك ، سدّوا آذانهم برؤوس أصابعهم ، لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه ، وغطوا بثيابهم وجوههم لئلا يروني ، ولئلا يسمعوا كلامي ، واستمروا على الكفر والشرك العظيم ، واستكبروا عن قبول الحق استكبارا شديدا ، أي استنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له.

ـ (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي إنني نوّعت أساليب الدعوة ، فدعوتهم إلى الإيمان والطاعة جهرة بين الناس ، أي مجاهرا لهم بها ، ثم جمعت في الدعوة بين الإعلان بها والإسرار. والمراد بالآيات أنه كان لدعوته ثلاث مراتب :

بدأ بالمناصحة في السر ليلا ونهارا ، ففروا منه.


ثم ثنّى بالمجاهرة ؛ لأن النصح بين الملأ تقريع وتغليظ ، فلم يؤثر.

ثم جمع بين الأمرين : الإسرار والإعلان ، كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع. ومعنى (ثُمَ) الدلالة على تباعد الأحوال ، وتفاوت درجة الأسلوب ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.

وهذا مشابه لمراحل الدعوة التي قام بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة وجزيرة العرب ، فكان موقف كفار قريش مماثلا لموقف قوم نوح : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت ٤١ / ٢٦].

ثم فسر الدعوة وأبان مضمونها بقوله :

(فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) أي فقلت لهؤلاء القوم : سلوا ربكم غفران ذنوبكم السابقة بإخلاص النية ، وتوبوا إلى الله من الكفر والمعاصي ، إن ربكم الذي خلقكم وربّاكم كثير المغفرة للمذنبين.

وفيه دلالة على أن الاستغفار يوجب زيادة البركة والنماء ، لأن الفقر والقحط والآلام والمخاوف بشؤم المعاصي ، فإذا تابوا واستغفروا ، زال الشؤم والبلاء ، وعاد الخير والنماء.

ثم وعدهم على التوبة من الكفر والمعاصي بخمسة أشياء ، فقال :

١ ـ (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) أي إن استغفرتم ربكم يرسل المطر عليكم متتابعا ، كثير الدرور والغزارة ، فيكثر الخير والخصب والغلال والثمار ، ويعم الرخاء والاطمئنان والسعادة والاستقرار ، ويمددكم بالأموال الكثيرة ويعطكم الخيرات الوفيرة ، ويكثر لكم الذرية والأولاد بسبب الأمن والرفاه والشعور بالاستقرار


والسعادة ، ويجعل لكم البساتين النضرة الخضراء العامرة بالأشجار والثمار والفواكه ، ويجعل لكم أنهارا جارية بالماء العذب ، التي يكثر بها الزرع والثمر والغلة.

وهذا دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق ، لذا كان مأمورا به في صلاة الاستسقاء ، كما أن الآية تدل على أن الإيمان بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة ، الخصب والغنى في الدنيا.

وبعد الدعوة بالترغيب ، وبخهم ولجأ إلى الدعوة بالترهيب قائلا :

٢ ـ (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي مالكم لا تخافون عظمة الله ، فتوحدوه وتطيعوه ، في حين أنه هو الذي خلقكم على أطوار مختلفة ، بدءا من النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة ، ثم العظام فاللحم ، ثم تمام الخلق وإنشاؤكم خلقا آخر ، تمرون في دور الطفولة ، ثم الشباب ، ثم الكهولة ، ثم الشيخوخة ، فكيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟

لكن لم يجز الرازي تفسير الرجاء بالخوف ؛ لأن الرجاء في اللغة ضد الخوف ، ورجح تفسير الزمخشري وهو مالكم لا تأملون لله توقيرا أي تعظيما ، والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم. و (لِلَّهِ) بيان للموقر.

وهذا دليل على وجود الله سبحانه ووحدانيته ، معتمد على النظر في النفس الإنسانية ، ثم أتبعه بدليل آخر من العالم العلوي ، فقال :

٣ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي ألم تنظروا فوقكم كيف خلق السموات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض ، وجعل القمر في السموات ، وهو في السماء الدنيا منهن ، منوّرا لوجه الأرض ، لا حرارة فيه ، وجعل الشمس كالمصباح المضيء الذي يزيل ظلمة الليل ، وينشر الحرارة والضياء.


وقدر للقمر منازل وبروجا تدل على مضي الشهور وتدل الشمس على مرور السنين كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس ١٠ / ٥].

ثم ذكر الله تعالى دليلا من العالم الأرض السفلي ، فقال :

٤ ـ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) أي والله أوجد أباكم آدم من التراب ، وجعله ينمو ويكبر كالنبات ، وجعل نموكم معتمدا على الغذاء من نتاج الأرض ، وتحولها إلى نبات أو حيوان ، ثم يعيدكم في الأرض ، تموتون ، وتتحلل أجزاؤكم ، حتى تعود ترابا مندمجا في الأرض ، ثم يخرجكم أحياء منها بالبعث يوم القيامة ، إخراجا دفعة واحدة ، لا إنباتا بالتدريج كالمرة الأولى. قال الزمخشري : أستعير الإنبات للإنشاء ليكون أدل على الحدوث.

٥ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي ومن نعمه تعالى على الإنسان أنه جعل لكم الأرض ممهدة كالبساط ، وثبّتها بالجبال ، وجعلكم تتقلبون في أنحائها بحثا عن الرزق ، وأوجد لكم طرقا واسعة بين الجبال وفي الوديان والسهول.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ استمر نوح عليه‌السلام في دعوة قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له طوال ألف سنة إلا خمسين عاما ، لم يفتر ولم يكلّ ولم يملّ ليلا ونهارا ، سرا وجهرا ، امتثالا لأمر الله وابتغاء لطاعته. ولكنهم بالرغم من هذه المدة الطويلة لم تزدهم دعوته للاقتراب من الحق إلا تباعدا عن الإيمان.


٢ ـ ذكر الرازي أن آية : (دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ..) من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره.

٣ ـ صور الله تعالى نفور قوم نوح من دعوته إلى العبادة والتقوى والطاعة ، لأجل أن يغفر الله لهم بصورة مادية محسوسة ، وهي أنه كلما دعاهم إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بالله والطاعة له ، سدّوا منافذ أسماعهم ، لئلا يسمعوا دعاءه وطلبه ، وغطّوا بثيابهم وجوههم لئلا يروه ، واستكبروا عن قبول الحق استكبارا عظيما. وهذا دليل على وجود الحجاب الكثيف والغطرسة النفسية عن سماع دعوة الحق ، وتلك مبالغة تتفق مع أوضاعهم ، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم مع ذلك ، صار المانع من السماع أقوى.

٤ ـ سلك نوح عليه‌السلام في دعوة قومه إلى التوحيد وطاعة الله تعالى مراتب ثلاثة : فبدأ بالمناصحة سرا ، ثم ثنى بالمجاهرة ، ثم جمع بين الإعلان والإسرار ، وتلك سياسة ناجحة ، وأسلوب ناجع استنفد فيه كل جهوده ، إذا توافر التجاوب مع الدعوة ، والتفاعل مع كلام الداعية.

٥ ـ إن الاشتغال بطاعة الله سبب يوجب زيادة البركة والنماء ، وانفتاح أبواب الخيرات ، وإدرار الأمطار ، وزيادة الغلال ، ووفرة الثمار ، وقد وعدهم الله على الطاعة بخمسة أشياء : إنزال المطر ، والإمداد بالأموال ، والبنين ، وجعل الجنات (البساتين) ، وجعل الأنهار.

عن الحسن البصري رحمه‌الله : أن رجلا شكا إليه الجدب ، فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له بعض القوم : أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فتلا له الآية : (فَقُلْتُ : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ..) ،


ويلاحظ أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة ، لذا أطمعهم نوح بالخيرات في هذه الآية ، وقال تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها : نَصْرٌ مِنَ اللهِ ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف ٦١ / ١٣].

٦ ـ آية الاستغفار هذه دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي : خرج عمر يستسقي ، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فأمطروا ، فقالوا : ما رأيناك استسقيت؟ فقال : لقد طلبت بمجاديح (١) السماء التي يستنزل بها المطر ؛ ثم قرأ : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً).

٧ ـ رغّبهم نوح بالعباد والطاعة ، فقال : ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة؟ أي فلا عذر لكم في ترك الخوف من الله ، وقد جعل لكم في أنفسكم آية دالة على توحيده. ثم هددهم ووبخهم بالعذاب إن أعروضا عن دعوته ، ثم استدل على وجود الله ووجوب طاعته بما يأتي.

٨ ـ أقام نوح عليه السالم الدليل على وجود الله وتوحيده وقدرته وعظمته بالنظر في النفس البشرية ، والعالم العلوي من السموات والشموس والأقمار ، والعالم السفلي من التذكير بكنوز الأرض وخيراتها من معادن ونباتات وحيوانات.

فالله سبحانه هو الذي خلق الإنسان في الأصل من التراب ، ثم جعل سبب بقاء نوع الإنسان بالتزاوج والتوالد ، والعناية بالإنسان في أطوار حياته.

__________________

(١) المجاديح : جمع مجدح : وهو نجم من النجوم ، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه ، لا قولا بالأنواء. وجاء بلفظ الجمع ليشمل جميع الأنواء التي يزعمون أن من شأنها المطر.


والله هو الذي خلق السموات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض ، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب ، وجعل القمر نورا منيرا في سماء الدنيا ، والشمس مصباحا مضيئا لأهل الأرض ، للتمكن من العمل والتصرف من أجل المعايش.

وكما خلق آدم من أديم الأرض كلها ، وتناسلت ذريته من بعده ، يعيد الله الناس إلى الأرض موتى بالدفن في القبور ، ثم يخرجهم منها بالنشور للبعث يوم القيامة. والعودة إلى دلائل الأنفس هنا كالتفسير لقوله : (خَلَقَكُمْ أَطْواراً).

والله سبحانه جعل لعباده الأرض مبسوطة لسلوك الطرق الواسعة الميسرة فيها.

وقد بدأ هنا بدلائل الأنفس ؛ لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه وقد يبدأ بدلائل الآفاق ؛ لأنها أبهر وأعظم.

والخلاصة : أورد الله تعالى على لسان نوح عليه‌السلام أربعة أدلة على التوحيد : الأول ـ (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) والثاني ـ خلق السموات والشمس والقمر والثالث ـ الإنبات من الأرض والرابع ـ جعل الأرض منبسطة ذات طرق واسعة.

أنواع من قبائح قوم نوح وأقوالهم وأفعالهم

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا


إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

الإعراب :

(مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ .. وَلَدُهُ) مفرد وقرئ : (وَلَدُهُ) بضم الواو وسكون اللام إما جمع «ولد» أو لغة في «ولد» كنحل ونحل وحزن وسقم وسقم.

(وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ) ممنوعان من الصرف للتعريف ووزن الفعل.

(لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ديار : فيعال من (دار يدور) وأصله : (ديوار) فاجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء وجعلتا ياء مشددة ولا يجوز أن يكون (فعّالا) لأنه لو كان (فعّالا) لوجب أن يقال (دوّار) فلما قيل (ديّار) دل على أنه (فيعال) لا (فعّال).

البلاغة :

(وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً ..) إلخ فيها ذكر الخاص بعد العام. وعكسه ذكر العام بعد الخاص في قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وكلاهما من باب الإطناب.

المفردات اللغوية :

(عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به. (وَاتَّبَعُوا) أي مجموع القوم الأدنياء. (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ) وهم الرؤساء أو القادة المنعم عليهم بذلك. (خَساراً) خسرانا في الآخرة. (وَمَكَرُوا) أي الرؤساء ، عطف على (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ) والضمير لمن وجمعه للمعنى (كُبَّاراً) كبيرا في الغاية ، عظيما جدا ؛ لأنهم كذبوا نوحا وآذوه ومن اتبعه.

(وَقالُوا) للأدنياء السفلة. (لا تَذَرُنَ) لا تتركن. (وَدًّا) صنم لكلب. (وَلا سُواعاً) صنم لهذيل. (وَلا يَغُوثَ) صنم لغطيف بالجرف عند سبأ ، أو لمذحج. (وَيَعُوقَ) لهمدان. (وَنَسْراً) صنم لحمير آل ذي الكلاع. (وَقَدْ أَضَلُّوا) الضمير للرؤساء بأن أمروهم بعبادتهم ، أو للأصنام. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) عطف على (قَدْ أَضَلُّوا) أو على (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي).


(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي من أجل ذنوبهم وآثامهم. (أُغْرِقُوا) أي بالطوفان. (فَأُدْخِلُوا ناراً). وهو عذاب الآخرة أو عذاب القبر. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي لم يجدوا غير الله أنصارا يمنعون عنهم العذاب ، وهو تعريض لهم باتخاذهم آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم. (دَيَّاراً) نازل دار ، أي أحدا ، وهو مما يستعمل في النفي العام. (إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) من يفجر ويكفر ، كان هذا الدعاء بعد الإيحاء إليه. (وَلِوالِدَيَ) وكانا مؤمنين. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) منزلي أو مسجدي أو سفينتي إذا كان مؤمنا. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى يوم القيامة. (تَباراً) هلاكا.

المناسبة :

بعد بيان أنواع الدلائل التي استدل بها نوح عليه‌السلام على توحيد الإله ، أعلن نوح عصيان قومه ، وحكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم ، ومحورها العكوف على عبادة الأصنام والأوثان. ثم ذكر ما يستحقونه من دخول النار في الآخرة ، والهلاك في الدنيا بعد دعاء نوح عليهم بذلك ، ودعائه بالمغفرة السابغة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات.

التفسير والبيان :

(قالَ نُوحٌ : رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي دعا نوح عليه‌السلام ربه قائلا : يا رب ، إن قومي استمروا على عصياني ، ولم يجيبوا دعوتي ، واتبع الجمهور الرؤساء والكبراء وأهل الثراء ، الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا ، وعقوبة في الآخرة ، فخسروا الدنيا والآخرة.

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي مكروا مكرا عظيما كبيرا ، وهو صد الناس عن دعوة نوح إلى الدين الحق وتوحيد الإله ، وإغراؤهم السفلة على إيذاء نوح وقتله.

(وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ


وَنَسْراً) أي وقال الرؤساء للأتباع للإغراء بمخالفة نوح وعصيان أوامره وأقواله : لا تتركوا عبادة آلهتكم ، وتعبدوا رب نوح ، ولا تتركوا بالذات عبادة هذه الأصنام التي انتقلت عبادتها إلى العرب وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر.

فكان ودّ لكلب ، وسواع لهذيل ، ويغوث لغطفان ، ويعوق لهمدان ، ونسر لحمير آل ذي الكلاع. وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه‌السلام ، فلما هلكوا أوحى (١) الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا ، وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلما ماتوا وجاء آخرون ، وسوس إليهم إبليس قائلا : إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم.

وكان عند العرب أصنام أخرى : أهمها اللات لثقيف بالطائف ، والعزّى لسليم وغطفان وجشم ، ومناة لخزاعة بقديد ، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة ، وهبل أكبر الأصنام عندهم ، فوضع فوق الكعبة.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) أي وقد أضل كبراؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الناس ، وقيل : أضلت الأصنام كثيرا من الناس ، فإنه استمرت عبادتها في القرون بين العرب والعجم إلى عهد النبوة ، كما قال إبراهيم الخليل في دعائه : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم ١٤ / ٣٥ ـ ٣٦].

وناسب ذلك أن يدعو عليهم نوح عليه‌السلام لإضلالهم وضلالهم وكفرهم وعنادهم ، فقال : ولا تزد الكافرين إلا حيرة وبعدا عن الصواب ، فلا يهتدوا إلى الحق والرشد ، وذلك كما دعا موسى عليه‌السلام على فرعون وقومه في قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٨٨].

__________________

(١) الوحي : الاعلام في خفاء لأي شيء ، من الأرض والإنسان والحيوان.


ثم أبان الله تعالى جزاءهم وسبب الجزاء وهو إضلال الناس فقال :

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي من أجل كثرة سيئاتهم وآثامهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم ، أغرقوا بالطوفان ، ثم أدخلوا نار الآخرة ، فلم يكن أحد يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم.

(وَقالَ نُوحٌ : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي لما أيس نوح من إيمانهم ، دعا عليهم بعد أن أوحي إليه ذلك ، فقال : رب لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا يسكن الديار.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين تخلقهم بعدهم عن طريق الحق ، ولا يلدوا إلا كل فاجر في الأعمال بترك طاعتك ، كثير الكفران في القلب لنعمتك ، لخبرته بهم ، ومكثه معهم ألف سنة إلا خمسين عاما.

ثم دعا نوح عليه‌السلام لأهل الإيمان ، وأعاد الدعاء مرة أخرى على الكفار ، قائلا :

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي رب استر علي ذنوبي واستر على والدي المؤمنين برسالتي ، واغفر لكل من دخل منزلي وهو مؤمن ، ولكل المصدقين بوجودك ووحدانيتك ولكل المصدقات بذلك من الأمم والأجيال القادمة ، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بالكفر إلا هلاكا وخسرانا ودمارا.

وقد شمل دعاؤه هذا كل مؤمن وكل ظالم إلى يوم القيامة.

روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تصحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقى».


ويستحب مثل دعاء نوح اقتداء به لجميع المؤمنين والمؤمنات من الأحياء والأموات.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا تجوز الشكوى إلا إلى الله عزوجل ، ولذا شكى نوح قومه إلى ربه ، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان ، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، داعيا لهم ، وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس : رجا نوح عليه‌السلام الأبناء بعد الآباء ؛ فيأتي بهم الولد بعد الولد ، حتى بلغوا سبعة قرون ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا.

٢ ـ يقلد الناس في العادة قادتهم وكبراءهم ، وقد اتبع قوم نوح رؤساءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة ؛ ومكروا مكرا عظيما بصرف الناس الأتباع عن الدين والإيمان ، وبإغراء السفلة على قتل نوح عليه‌السلام.

٣ ـ أصرّ قوم نوح على الكفر والعناد والتمرد وعبادة الأصنام ، وتواصوا بعبادة الأوثان وترك عبادة الله ، ولا سيما عبادة ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وهي أصنام وصور ، كان قوم نوح يعبدونها ، ثم عبدتها العرب.

٤ ـ أكد نوح عليه‌السلام في شكواه أنه أضل كبراء قومه كثيرا من أتباعهم ، لذا دعا عليهم بقوله : ولا تزد الظالمين الكافرين إلا عذابا (١) وخسرانا وضلالا عن

__________________

(١) كما جاء في قوله تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر ٥٤ / ٤٧] والضلال هنا : العذاب.


طريق أهل الجنة ، أو ضلال مكرهم. وإنما دعا نوح عليهم بالضلال غضبا عليهم حين عرف بالقرائن المفيدة للجزم أنهم لا يكادون يؤمنون.

٥ ـ إن خطايا وذنوب قوم نوح هي السبب في الإغراق بالطوفان ودخول نار جهنم بعد إغراقهم ، فلم يجدوا حينئذ أحدا يمنعهم من عذاب الله.

٦ ـ استدل بعض أهل السنة وهو القشيري بآية (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) على إثبات عذاب القبر ؛ لأن إدخال النار حصل عقيب الإغراق ، فلا يحمل على عذاب الآخرة ، وإلا بطلت دلالة الفاء على التعقيب ، ولأنه قال : (فَأُدْخِلُوا) على سبيل الإخبار عن الماضي ، وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك.

ورد الرازي بأن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل ؛ لأن المعنى صاروا مستحقين دخول النار ، وأما التعبير بقوله : (فَأُدْخِلُوا) فهو عن المستقبل بلفظ الماضي ، لتأكد وقوعه وصحة وجوده (١).

٧ ـ قوله تعالى : (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى ؛ لأن الآية تعريض بالمشركين الذين واظبوا على عبادة الأصنام ، لتكون دافعة للآفات عنهم ، جالبة للمنافع إليهم ، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، وما دفعت عنهم شيئا من عذاب الله.

٨ ـ دعا نوح على الكفار بالدمار والهلاك بعد أن يئس من اتباعهم إياه ، وبعد أن أوحى الله إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود ١١ / ٣٦] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته. وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وزلزلهم».

قال ابن العربي : دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ١٤٥


تحزب على المؤمنين وألّب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة ، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ؛ لأن مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما ؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم ، والله أعلم (١).

٩ ـ دعا نوح أيضا لنفسه ولوالديه ، وكانا مؤمنين ، ولكل من دخل منزله مؤمنا ، أو دخل مسجده ومصلاه مصليا مصدقا بالله تعالى ، ولجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات عامّة إلى يوم القيامة.

ثم دعا أيضا على الكافرين في مقابلة أهل الإيمان بقوله : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي لا تزد الكافرين إلا هلاكا ، وهذا عام في كل كافر ومشرك.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٨٤٨ وما بعدها.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الجن

مكيّة ، وهي ثمان وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة الجن ؛ لتعلقها بأحوالهم فإنهم لما سمعوا القرآن ، آمنوا به ، ثم أبانوا علاقتهم بالإنس ، ومحاولتهم استراق السمع ، ورميهم بالشهب المحرقة ، وغير ذلك من حديث الجن العجيب الذين منهم المؤمن ومنهم الكافر ، والجن عالم لا نراه ولا طريق لمعرفة شيء عنه إلا بالوحي الإلهي. ويلاحظ أن تسميات السور تبعث على النظر والتفكير.

مناسبتها لما قبلها :

ترتبط بالسورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ قال الله سبحانه في سورة نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [١٠ ـ ١١] وقال تعالى في هذه السورة لكفار مكة : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [١٦].

٢ ـ ذكر في السورتين شيء يتعلق بالسماء ، كما ذكر فيهما عذاب العصاة ، فقال تعالى في سورة نوح : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [١٥] وقال عزوجل هنا : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها ...) [٨] وقال في السورة المتقدمة : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ..) [٢٥] وقال هنا : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [٢٣].


ما اشتملت عليه السورة :

هناك موضوعان بارزان في السورة هما : الإخبار عن حقائق تتعلق بالجن ، وتوجيهات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغه الدعوة إلى الناس.

افتتحت السورة بالإخبار عن إيمان فريق من الجن بالقرآن العظيم حين سمعوا تلاوته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاته في منى بعد عودته من الطائف قبيل الإسراء والمعراج : (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ..) [الآيات : ١ ـ ٢] فهو كما قالوا كتاب يهدي إلى الرشد.

ثم أبانت تمجيدهم الله عزوجل وإفرادهم له بالعبادة وتنزيههم له عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وتسفيههم من جعل لله ولدا وعلاقة الجن بالإنس : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ..) [الآيات : ٣ ـ ٧].

وأعقبت ذلك بالإخبار عن محاولات الجن استراق السمع من السماء ، للتعرف على خبر العالم العلوي ، ومنعهم منه لإحاطة السماء بالحرس الملائكي ، وإحراقهم بالشهب النارية بعد بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعجبهم من هذا الحديث السماوي ، وتساؤلهم : هل يراد به تعذيب أهل الأرض : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ ..) [الآيات : ٨ ـ ١٠].

وصرح الجن بعدئذ بانقسامهم إلى فريقين : مؤمنين وكفار ، مع تبشير المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وعزمها ، وإنذار الكافرين المعرضين عن هدي الله وكتابه بالعذاب الشديد : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ..) [الآيات : ١١ ـ ١٨].

ووصفوا تجمعهم حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمعوه يتلو القرآن : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ ..) [الآية : ١٩].


واشتمل القسم الثاني من السورة على توجيهات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمره بتبليغ دعوته إلى الناس وإخلاص العمل لله وكونه لا يشرك بربه أحدا ، وإعلامه بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وأنه لا ينجيه أحد من الله إن عصاه ، وأنه لا يدري بوقت العذاب : (قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ..) [الآيات : ٢٠ ـ ٢٥].

وختمت السورة ببيان استئثار الله واختصاصه بمعرفة علم الغيب ، وإحاطته بجميع ما لدى الخلائق وإحصاء أعدادهم : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ..) [٢٦ ـ ٢٨].

إيمان الجن بالقرآن وبالله تعالى

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

الإعراب :

(أَنَّهُ اسْتَمَعَ) في موضع رفع ، نائب فاعل ل (أُوحِيَ) وعطف عليها جميع ما ذكر بعدها وهو اثنا عشر موضعا من لفظ «أنّ» فهو عطف على الموحى به ، ويصح الكسر في الجميع عطفا على المقول.

(كَذِباً) منصوب على المصدر ؛ لأنه نوع من القول ، أو صفة لمحذوف أي قولا مكذوبا فيه.


(أَنْ لَنْ تَقُولَ أَنْ) مخففة من الثقيلة ، أي أنه. وكذا (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ) مخففة من الثقيلة. (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) سدّ مسدّ مفعولي (ظَنُّوا).

البلاغة :

(قُرْآناً عَجَباً) وصف بالمصدر للمبالغة ، أي عجيبا في إيجازه وإعجازه.

(فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) بينهما طباق السلب ؛ لأن الإيمان ضدّ الشرك ونفي له.

(الْإِنْسُ) و (الْجِنُ) بينهما طباق.

(أَحَداً) ، (وَلَداً) ، (رَصَداً) ، (رَشَداً) ، (قِدَداً) ، (صَعَداً) ، (عَدَداً) إلخ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات ، وهو ما يسمى في علم البديع بالسجع المرصع.

المفردات اللغوية :

(قُلْ) أيها النبي للناس. (أُوحِيَ إِلَيَ) أخبرني الله تعالى بالوحي. (أَنَّهُ) الهاء ضمير الشأن. (اسْتَمَعَ) لقراءتي القرآن. (نَفَرٌ) النفر : ما بين الثلاثة إلى العشرة. (الْجِنِ) أجسام عاقلة خفية مخلوقة من النار ، والمقصود بهم هنا جن نصيبين ، وذلك في صلاة الصبح ببطن نخل : موضع بين مكة والطائف ، وهم المذكورون في قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) الآية [الأحقاف ٤٦ / ٢٩]. (فَقالُوا) لقومهم لما رجعوا إليهم. (قُرْآناً) كتابا. (عَجَباً) بديعا في حسن نظمه ودقة معناه ، يتعجب منه من فصاحته وغزارة معانيه ، مباين لكلام الناس. و (عَجَباً) : مصدر وصف به القرآن للمبالغة.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) الإيمان والحق والصواب. (فَآمَنَّا بِهِ) بالقرآن. (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) لما نطق به من الأدلة القاطعة الدالة على التوحيد. (وَأَنَّهُ) الهاء ضمير الشأن. (تَعالى جَدُّ رَبِّنا) تنزه جلاله وعظمته عما نسب إليه من الصاحبة والولد ، والمعنى : وصف بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. والجدّ : العظمة. وقرئ : جدّا بالتمييز ، وجدّ بالكسر ، أي صدق ربوبيته ، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد. (صاحِبَةً) زوجة. ويحتمل أن يكون المراد من الجدّ : الملك والسلطان أو الغنى ، جاء في الحديث : «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيدة : لا ينفع ذا الغنى منك غناه. (سَفِيهُنا) السفيه : الجاهل ومن عنده خفة وطيش تنشأ عن حمق وجهل. (شَطَطاً) غلوّا في الكذب وتجاوزا حدّ العدل والحق بنسبة الصاحبة والولد إليه. (كَذِباً) بوصفه بذلك ، حتى تبينا كذبهم فيما قالوا. (يَعُوذُونَ) يستعيذون أو يطلبون النجاة والعون. (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) كان الرجل


إذا أمسى بأرض قفر قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. (فَزادُوهُمْ) زادوا الجنّ باستعاذتهم بهم. (رَهَقاً) طغيانا وكبرا وعتوا ، وأصل الرهق : الإثم وارتكاب المعاصي. (وَأَنَّهُمْ) أي الإنس. (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن. (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) بعد موته.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(قُلْ : أُوحِيَ ...) : أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجن ولا رآهم ، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعوا إلى قومهم ، فقالوا : ما هذا إلا لشيء قد حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا هذا الذي حدث ، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تهامة ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بنخلة ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

فهنالك رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، فأنزل الله على نبيّه : (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَ) وإنما أوحي إليه قول الجن.

نزول الآية (٦):

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ ..) : أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في العظمة عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل ، جاء ذئب ، فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي ، فقال : عامر الوادي ، جارك ، فنادى مناد ، لا نراه يا سرحان ، فأتى الحمل


يشتد حتى دخل في الغنم ، وأنزل الله على رسوله بمكة : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) الآية.

وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رعيت على أهلي ، وكفيت مهنتهم ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجنا هرابا ، فأتينا على فلاة من الأرض ، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا : إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة ، فقلنا ذاك ، فقيل لنا : إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، من أقرّ بها ، أمن على دمه وماله ، فرجعنا فدخلنا في الإسلام ، قال أبو رجاء : إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ ، فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

التفسير والبيان :

حكى الله عن الجن ستة أشياء وهي :

١ ـ (قُلْ : أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ، فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) أي قل يا محمد مخبرا أمتك وقومك بأن الجن استمعوا القرآن ، فآمنوا به وصدّقوه وانقادوا له ، فقد أوحى الله إلي على لسان جبريل عليه‌السلام أنه استمع عدد من الجن إلى قراءتي للقرآن ، وهي سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فقالوا لقومهم لما رجعوا إليهم : سمعنا كلاما مقروءا مثيرا للعجب في فصاحته وبلاغته ، ومواعظه وبركاته. والإيحاء : إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء ، كالإلهام وإنزال الملك ، ويكون ذلك في سرعة.

والجنّ عالم مستتر عنا ، لا نعرف عنه إلا ما أخبر به الوحي ، فهم مخلوقون من النار : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر ١٥ / ٢٧] ، ولم


يرسل الله إليهم رسلا منهم ، بل الرسل جميعا من البشر ، وهم كالبشر منهم المؤمن المثاب ، ومنهم الكافر المعاقب.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ..) الآية [الأحقاف ٤٦ / ٢٩].

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ، فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي إن هذا القرآن يرشد إلى الحق والصواب ومعرفة الله تعالى ، فصدقنا به أنه من عند الله ، ولن نشرك مع الله إلها آخر من خلقه ، ولا نتخذ إلها آخر ، وهذا إعلان منهم للإيمان أمام قومهم حين رجعوا إليهم ، كما جاء في تتمة آية الأحقاف السابقة : (قالُوا : أَنْصِتُوا ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ).

وفي الآية دلالة أن أعظم ما في دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : توحيد الله تعالى ، وخلع الشرك وأهله. وقد آمنت الجن أن القرآن كلام الله ، بسماعه مرة واحدة ، ولم ينتفع كفار قريش ، لا سيما رؤساؤهم ، بسماعه مرات ، مع كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم يتلوه عليهم بلسانهم.

٢ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) وأنه ارتفع عظمة ربّنا وجلاله ، أو فعله وأمره وقدرته ، وأنه تعاظم عن اتّخاذ الصاحبة والولد ، كما يقول الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد. والمعنى أنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله ، نزهوا الرّب جلّ جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتّخاذ الصاحبة والولد. وبذلك أثبتوا وحدانية الله وامتناع وجود شريك له ثم أثبتوا له القوة والعظمة ، ونزهوه عن الحاجة والضعف باتخاذ الصاحبة والولد ، شأن العباد الذين يتعاونون على أمور الحياة بالزوجة للسّكن والألفة ، وبالولد للمؤازرة والتكاثر والأنس.

٣ ـ (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي وإن مشركي الجن


وجهالهم كانوا قبل إسلامهم يقولون قولا متجاوزا الحدّ ، بعيدا عن الصواب ، غاليا في الكفر ، فهم يكذبون على الله بدعوى الصاحبة والولد وغير ذلك. والشطط : مجاوزة الحد في الظلم والكفر وغيره من الباطل والزور.

٤ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي وأنا حسبنا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله ، حينما قالوا بأن له شريكا وصاحبة وولدا ، فصدقناهم في ذلك ، فلما سمعنا القرآن علمنا بطلان قولهم وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق ، وعرفنا أنهم كانوا كاذبين.

وهذا ـ كما ذكر الرازي ـ إقرار منهم بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد ، وأنهم إنما تخلصوا منها بالاستدلال والاحتجاج.

٥ ـ (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي كنا نرى أن لهم فضلا علينا ، فكان بعض الإنس يستعيذ في القفار ببعض الجن ، فزادوا رجال الجن طغيانا وسفها وغيّا وضلالا وإثما. وذلك أنه كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال : أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح. وقد أدى هذا إلى اجتراء الجن على الإنس وظلمهم.

ونظير الآية : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ : رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ..) [الأنعام ٦ / ١٢٨].

٦ ـ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن أنه لا بعث ولا جزاء ، أو أنه لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا يدعو إلى التوحيد والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر.


فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي :

١ ـ الإخبار عن قصص الجن له فوائد كثيرة أهمها بيان أنهم مكلفون بالتكاليف الشرعية كالإنس ، وأن المؤمن منهم يدعو الكافر إلى الإيمان ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى العالمين : الإنس والجن وإلى الملائكة تشريفا ، وأن يكون إيمانهم بالقرآن باعثا كفار قريش وغيرهم إلى الإيمان به ، وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.

لكن ظاهر القرآن يدل على أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ؛ لقوله تعالى : (اسْتَمَعَ). وفي صحيح البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجنّ وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ .. إلخ ما ذكر في سبب النزول المتقدم. ففي هذا الحديث دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير الجن ، ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجنّ كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر ، بسبب الشياطين لما رموا بالشهب ، وكان المرميون بالشهب من الجنّ أيضا ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث : «وأرسلت عليهم الشّهب».

ومذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ، ويدعوهم إلى الإسلام ، وأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى الجن قال القرطبي : وهو أثبت ؛ روى عامر الشعبي قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ؟ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود ، فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشّعاب ، فقلت استطير (١) أو اغتيل ، قال : فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فلما أصبح إذا هو يجيء

__________________

(١) استطير فلان : ذعر.


من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فقال :

«أتاني داعي الجن ، فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن» فانطلق بنا ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد وكانوا من جنّ الجزيرة ؛ فقال : «لكم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكلّ بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا تستنجوا بهما ، فإنها طعام إخوانكم الجن».

قال ابن العربي : وابن مسعود أعرف من ابن عباس ؛ لأنه شاهده ، وابن عباس سمعه ، وليس الخبر كالمعاينة (١).

وأصل الجن كما قال الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا ، فهو ولي الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.

٢ ـ حكى الله عن الجن أشياء :

أولا ـ أنهم لما سمعوا القرآن العجيب في فصاحة كلامه وبليغ مواعظه الهادي إلى مراشد الأمور ، قالوا : اهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله ، ولن نشرك بربّنا أحدا ، أي ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به.

ثانيا ـ أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك ، نزّهوا ربهم عن الصاحبة والولد ، لذا قالوا : عظم الله سبحانه عن أن يكون له صاحبة أو ولد.

ثالثا ـ استنكروا ما كان يقول إبليس والجن قبل إسلامهم من الكذب والغلو في الكفر ومجاوزة الحدّ في الظلم.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٨٥٢


رابعا ـ حسبوا أن لن يكذب الإنس والجن على الله ، فلذلك صدقناهم فيما سلف في أن لله صاحبة وولدا ، فلما سمعنا القرآن تبيّنا به الحقّ.

خامسا ـ كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال : أعوذ بسيد هذا الوادي ، أو بعزيز هذا المكان من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح ، فزاد الإنس الجنّ طغيانا وعتوا بهذا التعوذ ، حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن. وقيل : ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن ، وقيل : زاد الجنّ الإنس رهقا أي خطيئة وإثما.

ويقال بدلا من هذه الاستعاذة : ما جاء في حديث أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس ، وقال : غريب جدا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا أصاب أحد منكم وحشة أو نزل بأرض مجنّة (١) ، فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها برّ ولا فاجر من شرّ ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ومن فتن النهار ، ومن طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير.

سادسا ـ ظن الإنس كما ظن الجن أن لن يبعث الله الخلق ، أو ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة ، وكل هذا توكيد للحجة على قريش ، فإذا آمن هؤلاء الجن بمحمد ، فأنتم أحق بذلك. وعلى هذا يكون الكلام كلام الجن ، وهو الظاهر.

ويحتمل أن يكون الكلام من قول الله تعالى للإنس ، والمعنى : وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش.

وعلى كلا التقديرين : دلت الآية على أن الجن كما كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ، فيهم من ينكر البعث.

__________________

(١) أرض مجنة : أي ذات مجنة.


حكاية أشياء أخرى عن الجن

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

الإعراب :

(فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً فَوَجَدْناها) : فعل وفاعل ومفعول ، وإما أن تجعل «وجد» متعدية إلى مفعولين ، بمعنى علمناها ، وإلها : المفعول الأول ، وجملة (مُلِئَتْ) المفعول الثاني ، وإما أن تجعل متعدية إلى مفعول واحد ، بمعنى أصبناها ، وتجعل (مُلِئَتْ) في موضع الحال ، بتقدير «قد» ، و (حَرَساً) : تمييز منصوب.

(أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ أَنْ) : مخففة من الثقيلة : أنه.

(وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً هَرَباً) منصوب على المصدر في موضع الحال ، تقديره : ولن نعجزه هاربين.

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) بالعطف على هاء (آمَنَّا بِهِ) على تقدير حذف حرف الجر ، لكثرة حذفه مع «أنّ» علما بأن العطف على الضمير المجرور لا يجوز. وبكسر إنا بالعطف على قوله :


(فَقالُوا) وما بعده في تقدير الابتداء والاستئناف ، قال ابن بحر : كل ما في هذه السورة من «إن» المكسورة المثقلة ، فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة ، فهي وحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أَنْ) : مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، أي وأنهم.

(يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً عَذاباً) منصوب بتقدير حذف حرف الجر ، تقديره : يسلكه في عذاب ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به ، فنصبه. و (صَعَداً) : مصدر وصف به العذاب.

البلاغة :

(نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) بينهما جناس الاشتقاق.

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) تأدب مع الله بنسبة الخير إلى الله ، دون الشر ، وبين لفظ «الشر» و «الرشد» طباق في المعنى.

(كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) استعارة ، استعار الطرق للمذاهب المختلفة.

(الْمُسْلِمُونَ) و (الْقاسِطُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(لَمَسْنَا السَّماءَ) طلبنا بلوغها واستماع أخبارها. (حَرَساً) حرّاسا من الملائكة ، وهو اسم. جمع كالخدم ، مفرده حارس. (شَدِيداً) قويا. (وَشُهُباً) نجوما محرقة ، جمع شهاب : وهو الشعلة من نار ساطعة. (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي نحاول الاستماع والترصد. (رَصَداً) أي أرصد وهيئ له ليرمي به. (أَشَرٌّ أُرِيدَ) بعد استراق السمع. (بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بحراسة السماء. (رَشَداً) خيرا وصلاحا.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) المؤمنون الأبرار بعد استماع القرآن. (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي ومنا قوم دون ذلك ، أي غير صالحين ، فحذف الموصوف. (كُنَّا طَرائِقَ) ذوي طرائق ، أي مذاهب. (قِدَداً) متفرقة مختلفة ، مسلمين وكافرين ، جمع قدة ، من قدّ : إذا قطع. (ظَنَنَّا) علمنا. (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ ، فِي الْأَرْضِ ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) لا نفوته ولا نفلت منه كائنين في الأرض ، أينما كنا فيها ، أو هاربين منها في السماء ، إن طلبنا. (الْهُدى) القرآن. (فَلا يَخافُ) أي فهو لا يخاف. (بَخْساً) نقصا من حسناته. (وَلا رَهَقاً) ظلما بالزيادة في سيئاته.

(الْقاسِطُونَ) الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. (تَحَرَّوْا رَشَداً) قصدوا وتوخوا طريق الحق والهداية ليبلغهم إلى دار الثواب. (حَطَباً) وقودا للنار. (عَلَى الطَّرِيقَةِ)


هي طريق الإسلام. (ماءً غَدَقاً) كثيرا. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم فيه كيف يشكرونه. (ذِكْرِ رَبِّهِ) تذكيره وهو الوحي أو القرآن ، أو مواعظه. (يَسْلُكْهُ) ندخله. (عَذاباً صَعَداً) شاقا يعلو المعذّب ويغلبه.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) : أخرج الخرائطي عن مقاتل في قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) قال : نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين.

التفسير والبيان :

يتابع الحق عزوجل حكاية أشياء أخرى وهي سبعة أنواع بالإضافة إلى الأنواع الستة المتقدمة ، فيصير المجموع ثلاثة عشر نوعا ، والأنواع السبعة هي :

٧ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ ، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) أي لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل عليه القرآن ، طلبنا خبر السماء كما جرت به عادتنا فوجدناها ـ ملئت حرّاسا أقوياء من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع ، ووجدنا أيضا نيرانا من الكواكب تحرق وتمنع من أراد استراق السمع كما كنا نفعل ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك ٦٧ / ٥]. فالشهب : انقضاض الكواكب المحرقة للجن عن استراق السمع.

أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : كان للشياطين مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زاد فيكون باطلا ، فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم : ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده ، فوجدوا


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما يصلي بين جبلين بمكة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا هو الحدث الذي حدث في الأرض.

والخلاصة : أن الشياطين منعت بعد بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من استراق السمع لئلا يسترقوا شيئا من القرآن ، فيلقوه على ألسنة الكهنة ، فيلتبس الأمر ويختلط ، ولا يدرى من الصادق.

٨ ـ (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي أننا كنا نقعد في السماء مقاعد لاستراق السمع ، وسماع أخبار السماء من الملائكة لإلقائها إلى الكهنة ، فحرسها الله سبحانه عند بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشهب المحرقة ، فمن يروم أن يسترق السمع اليوم ، يجد له شهابا مرصدا له ، لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يمحقه ويهلكه.

٩ ـ (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أي وأننا لا نعلم بسبب هذه الحراسة للسماء ، أشرّ أو عذاب أراده الله أن ينزله على أهل الأرض ، أم أراد بهم ربهم خيرا وصلاحا ، بإرسال نبي مصلح. وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل والخير أضافوه إلى الله عزوجل. وقد ورد في الصحيح : «والشر ليس إليك».

١٠ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي أخبر تعالى عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم ، لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنا قبل استماع القرآن : منّا المؤمنون الأبرار الموصوفون بالصلاح ، ومنّا قوم دون ذلك ، أي غير صالحين أو كافرين ، كنا جماعات متفرقة ، وأصنافا مختلفة ، وأهواء متباينة. والمراد أنهم كانوا أقساما ، فمنهم المؤمن ومنهم الفاسق ومنهم الكافر ، كما هي حال الإنس. قال سعيد بن المسيب : كانوا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا.


١١ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي وأننا علمنا أن قدرة الله حاكمة علينا ، وأنا لا نفلت من قدرة الله ولا نفوته إن طلبنا وأراد بنا أمرا ، سواء كنا كائنين في الأرض أو هاربين منه إلى السماء ، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا.

١٢ ـ (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ ، فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أي وأننا لما سمعنا القرآن ، صدقنا أنه من عند الله ، ولم نكذب به ، كما كذبت به كفرة الإنس ، فمن يصدق بربه وبما أنزله على رسله ، فلا يخاف نقصانا من حسناته ، ولا عدوانا وظلما وطغيانا بالزيادة في سيئاته.

١٣ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي وأن بعضنا مؤمنون مطيعون لربّهم يعملون الصالحات ، وبعضنا جائرون ظالمون حادوا عن طريق الحق والخير ومنهج الإيمان الواجب ، فمن آمن بالله وأسلم وجهه لله بطاعة شريعته ، فأولئك قصدوا وتوخوا الطريق الموصل للسعادة ، وطلبوا لأنفسهم النجاة من العذاب ، وهذا ثواب المؤمنين.

ويلاحظ أن القاسط : الجائر عن الحق الناكب عنه ؛ لأنه عادل عن الحق ، بخلاف المقسط وهو العادل ؛ لأنه عادل إلى الحق ، والقاسطون : الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، من قسط أي جار ، والمقسط : القائم بالعدل ، من أقسط ، أي عدل.

ثم ذم الجن الكافرين بقولهم :

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أي وأما الجائرون الحائدون عن منهج الإسلام فكانوا وقودا للنار توقد أو تسعر بهم ، كما توقد بكفرة الإنس.

وبعد بيان النوع الأول من الموحى به إلى رسوله ، ذكر تعالى النوع الثاني الموحى به إليه ، فقال :


(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي وأوحي إلي أنه لو استقام الجن والإنس على طريقة الإسلام لأسقيناهم ماء كثيرا ، ولآتيناهم خيرا كثيرا واسعا ، لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر ، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم ، فإن أطاعوا ربّهم أثبناهم ، وإن عصوه عاقبناهم في الآخرة ، وسلبناهم النعمة ، أو أمهلناهم ثم أهلكناهم ، كما أبانت الآية التالية :

(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي ومن يعرض عن القرآن أو عن الموعظة ، فلا يأتمر بالأوامر ولا ينتهي عن النواهي ، يدخله عذابا شاقا صعبا لا راحة فيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تغير الحال بعد البعثة النبوية عن الجن ، فإنهم كعادتهم طلبوا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها ، فوجدوها ملئت حفظة ، أي ملائكة ، ورموا بالشهب : وهي الكواكب المحرقة لهم ، منعا من استراق السمع.

قال الرازي : والأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث ، إلا أنها زيدت بعد المبعث ، وجعلت أكمل وأقوى ، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن ؛ لأنه قال : (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ) وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة ، وكذلك قوله : (نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ) أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها (١).

٢ ـ لم يفهم الجن القصد من تشديد الحراسة على أخبار السماء ، فهل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا ، أو يرسل إليهم رسولا؟ وهل المقصود من المنع من الاستراق هو إرادة الشر بأهل الأرض ، أم الصلاح والخير؟!

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ١٥٨


٣ ـ أخبر الجن عن حقيقتهم قبل البعثة النبوية ، فقال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا كنا قبل استماع القرآن من الصالحون ومنا الكافرون ، فكنا فرقا شتى ، وأديانا مختلفة ، وأهواء متباينة. والمعنى : لم يكن كل الجن كفارا ، بل كانوا مختلفين : منهم كفار ، ومنهم مؤمنون صلحاء ، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. قال سعيد بن المسيب : كنا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا.

٤ ـ علم الجن وأيقنوا أنهم لن يعجزوا الله ولن يفوتوه أو يفلتوا منه ، سواء أكانوا في الأرض أينما وجدوا فيها ، أم صاروا هاربين منها إلى السماء.

٥ ـ بادر الجن عند سماع القرآن إلى الإيمان بالله تعالى ، والتصديق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رسالته. وهذا دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن البصري : بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإنس والجنّ ، ولم يبعث الله تعالى قطّ رسولا من الجنّ ، ولا من أهل البادية ، ولا من النساء ، وذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف ١٢ / ١٠٩]. وفي الصحيح : «بعثت إلى الأحمر والأسود» (١) أي الإنس والجن.

وجزاء الإيمان : أنه لا يخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يزاد في سيئاته.

٦ ـ كذلك كان الجن بعد استماع القرآن مختلفين ، فمنهم من أسلم ، ومنهم من كفر ، فمن أسلم ، فقد طلبوا لأنفسهم النجاة ، وقصدوا طريق الحق وتوخّوه ، ومن جار عن طريق الحق والإيمان ، فإنهم في علم الله تعالى وقود جهنم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٦


أنواع أخرى من الموحى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان أصول رسالته

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

الإعراب :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أَنَ) : إما في موضع رفع عطفا على قوله تعالى : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) أو في موضع جرّ ، بتقدير حذف حرف الجر ، وإعماله بعد الحذف ، أي فلا تدعوا مع الله أحدا ؛ لأن المساجد لله ، أو في موضع نصب ، بتقدير حذف حرف الجر ، فلما حذف اتصل الفعل به ، فنصبه.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ أَنَ) : إما بالفتح عطفا على «أن» المفتوحة ب (أُوحِيَ) أو بالكسر عطفا على «إن» المكسورة بعد «قالوا» والضمير للشأن.

(إِلَّا بَلاغاً) إما منصوب على المصدر ، ويكون الاستثناء متصلا ، وتقديره : إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملتحدا ، إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا. وإما منصوب ؛ لأنه استثناء منقطع. أي لن يجيرني أحد ، لكن إن بلغت ، رحمني بذلك. (خالِدِينَ) حال من ضمير (مِنَ) في قوله (اللهِ) رعاية للمعنى.

(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً مِنَ) : إما استفهامية في موضع رفع مبتدأ ، و (أَضْعَفُ) : خبره ، و (ناصِراً) : تمييز منصوب ، وإما بمعنى الذي ، في موضع نصب على أنها مفعول (فَسَيَعْلَمُونَ) و (أَضْعَفُ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : من هو أضعف.


البلاغة :

(ضَرًّا) و (رَشَداً) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) مواضع الصلاة مختصة بالله. (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فلا تعبدوا فيها غيره ، بأن تشركوا كما يفعل اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم. (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتفاق الجميع. (يَدْعُوهُ) يعبده ببطن نخلة. (كادُوا) كاد الجن المستمعون لقراءته. (لِبَداً) جماعات ، جمع لبدة : والمراد أنهم صاروا متزاحمين حرصا على سماع القرآن. يقال : تلبد القوم : إذا تجمعوا ، ومنه قولهم : لبدة الأسد للشعر المتراكم حول عنقه.

(قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أعبد ربي إلها واحدا من غير إشراك ، فلا داعي للإنكار أو التعجب. (ضَرًّا وَلا رَشَداً) غيا وضررا ، ولا نفعا وخيرا. (لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ) لن ينفعني ويدفع عني من عذابه شيء إن عصيته. (مِنْ دُونِهِ) من غيره. (مُلْتَحَداً) ملتجأ أو ملجأ ألتجئ إليه. (إِلَّا بَلاغاً) تبليغا لرسالاته ، وهو استثناء من مفعول (أَمْلِكُ) أي لا أملك لكم إلا البلاغ إليكم أي التبليغ والرسالات ، وما بين المستثنى منه والاستثناء اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة ، أو مستثنى من قوله (مُلْتَحَداً) أي إن لم أبلغ بلاغا لا أجد ملجأ (مِنَ اللهِ) أي عن الله. (وَرِسالاتِهِ) معطوف على (بَلاغاً).

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في توحيد الله ، فلم يؤمن ؛ لأن الكلام فيه. (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي يدخلونها مقدار خلودهم فيها ، وجمع كلمة (خالِدِينَ) رعاية لمعنى الجمع في (مَنْ يَعْصِ). وقوله (اللهِ) مراعاة للفظ (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) أي ما يوعدون به من العقاب في الدنيا كوقعة بدر أو في الآخرة بعذاب النار و (حَتَّى) ابتدائية فيها معنى الغاية لشيء مقدر قبلها ، أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا ، أو أنها متعلقة بقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره. (فَسَيَعْلَمُونَ) عند حلول العذاب بهم يوم بدر أو يوم القيامة (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) من أضعف أعوانا وأقل أعدادا ، هو أم هم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٨):

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قالت


الجن : يا رسول الله ، ائذن لنا ، فنشهد معك الصلوات في مسجدك ، فأنزل الله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً). وروي ذلك أيضا عن الأعمش.

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : قالت الجن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف لنا أن نأتي المسجد ، ونحن ناؤون عنك أي بعيدون عنك أو كيف نشهد الصلاة ، ونحن ناؤون عنك ، فنزلت : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) الآية.

نزول الآية (٢٠):

(قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) : سبب نزولها كما ذكر الشوكاني : أن كفار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا فنحن نجيرك.

نزول الآية (٢٢):

(قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي ..) : أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذكر أن جنيا من الجن من أشرافهم ذا تبع قال : إنما يريد محمد أن يجيره الله ، وأنا أجيره ، فأنزل الله : (قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) الآية.

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى عن النوع الثالث في هذه السورة من جملة الموحى به ، فقال :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) أي وأوحي إلي أن المساجد مختصة بالله ، فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا ، ولا تشركوا به فيها شيئا.

قال قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم. أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوحدوه وحده. وقوله (لِلَّهِ) إضافة تشريف


وتكريم فإن نسبت المساجد لغير الله ، فتنسب إليه تعريفا ، فيقال : مسجد فلان.

وهذا دليل على أن الله تعالى أمر عباده أن يوحدوه في أماكن عبادته ، ولا يدعى معه أحد ، ولا يشرك به.

وقال الحسن البصري : أراد بالمساجد البقاع كلها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا كأنه تعالى قال : الأرض كلها مخلوقة لله تعالى ، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. وقال أيضا : من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول : لا إله إلا الله ؛ لأن قوله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه.

ثم ذكر الله تعالى النوع الرابع من جملة الموحى فقال :

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي وأنه لما قام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الله ويعبده ، كاد الجن يكونون عليه جماعات متراكمين من الازدحام عليه ، لسماع القرآن منه ، وتعجبا مما رأوا من عبادته ؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله ، فالضمير في (كادُوا) للجن ، وقيل : الضمير للمشركين.

وقال جماعة (١) : لما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لا إله إلا الله ، ويدعو الناس إلى ربهم ، كادت الإنس من العرب الكفار والجن يتزاحمون عليه متراكمين جماعات ليطفئوا نور الله ، ويبطلوا هذا الأمر ، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره ويظهره على من ناوأه ، فالضمير في (كادُوا) للإنس والجن. وهذا اختيار ابن جرير وقول قتادة. والأظهر كما ذكر ابن كثير ، لقوله تعالى بعده :

__________________

(١) هم ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد والحسن البصري وقتادة.


(قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قل يا محمد لهؤلاء الذين تجمعوا عليك لإبطال دينك : إنما أدعو ربي ، وأعبده وحده لا شريك له ، وأستجير به ، وأتوكل عليه ، ولا أشرك في العبادة معه أحدا.

ثم فوض أمر هدايتهم إلى الله ، فقال تعالى :

(قُلْ : إِنِّي ، لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضررا ، ولا أجلب لكم نفعا في الدنيا أو الدين ، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ، ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم ، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عزوجل. وفي هذا بيان وجوب التوكل على الله تعالى ، والمضي في التبليغ دون مبالاة لتظاهرهم عليه ، وتهديده لهم إن لم يؤمنوا به.

وأكد الله تعالى ذلك المعنى وهو عجز نبيه عن هدايتهم بإعلان عجزه عن شؤونه وقضاياه ، فقال :

(قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) أي قل يا محمد لهؤلاء القوم : لا يدفع عني أحد عذاب الله إن أنزله بي ، ولا نصير ولا ملجأ لي من غير الله أحد ، ولا يجيرني من الله ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي ، فأبلّغ عن الله ، وأعمل برسالاته ، أمرا ونهيا ، فإن فعلت ذلك نجوت ، وإلا هلكت ، وهذا كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [٥ / ٦٧].

ويصح كون الاستثناء : (إِلَّا بَلاغاً ..) من قوله تعالى : (قُلْ : إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي لا أملك لكم إلا البلاغ إليكم.

ثم ذكر جزاء العاصين الذين لا يمتثلون موجب التبليغ عن الله ،


فقال تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي أنا أبلّغكم رسالة الله ، فمن يعص بعد ذلك ، فله جزاء خطير ، وهو نار جهنم ، ماكثين فيها أبدا على الدوام ، لا محيد لهم عنها ، ولا خروج لهم منها. وقوله : (أَبَداً) دليل على أن العصيان هنا هو الشرك.

ثم هدد الله تعالى المشركين الذين كانوا أقصر نظرا من الجن في عدم الإيمان ، بالهزيمة والمذلة ، فقال : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي ما يزالون على كفرهم ، حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة ، فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرا ، أي جندا ينتصر به ، وأقل عددا ، أهم ، أم المؤمنون الموحدون لله تعالى؟ أي بل المشركون لا ناصر لهم إطلاقا ، وهم أقل عددا من جنود الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن المساجد أو مواضع الصلاة وذكر الله ، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين يجب أن تتميز بإخلاص العبادة فيها لله ، وبالتوحيد ، لذا وبخ الله المشركين بقوله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام ، والتوبيخ يشمل كل من أشرك مع الله غيره.

قال مجاهد : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله ، فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أن يخلصوا لله سبحانه الدعوة ، إذا دخلوا المساجد كلها.

وروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى ، وقال : («وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) اللهم أنا عبدك وزائرك ،


وعلى كل مزور حق ، وأنت خير مزور ، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار». فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى ؛ وقال : «اللهم صبّ علي الخير صبّا ، ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ، ولا تجعل معيشتي كدّا ، واجعل لي في الأرض جدّا» أي غنى.

٢ ـ لما قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا إلى الله تعالى ، وعابدا ناسكا ، كاد الجن يركب بعضهم بعضا ازدحاما ، حرصا على سماع القرآن. وكاد المشركون من العرب يركبون بعضهم بعضا تظاهرا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى عداوته ، واجتمعوا وتظاهروا على إطفاء النور الذي جاء به.

٣ ـ قصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصول دعوته على ثلاثة أمور :

الأول ـ عبادة الله وحده دون إشراك أحد معه.

الثاني ـ تفويض أمر الهداية إلى الله تعالى ، وإعلان كونه عاجزا عن دفع ضرر عن قومه ، أو جلب خير لهم ، فلا يملك الكفر والإيمان ، ومرد ذلك كله إلى الله تعالى.

الثالث ـ كونه لا مجير له من عذاب الله إن استحقه ، ولا ملجأ يلجأ إليه ولا نصير له إن عصى ربه.

٤ ـ إن طريق الأمان والنجاة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو تبليغ وحي الله ، وما أرسل به إلى الناس.

٥ ـ إن جزاء العاصين لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوحيد والعبادة هو نار جهنم خالدين فيها أبدا على الدوام. والعصيان : هو الشرك ، لقوله تعالى : (أَبَداً).


٦ ـ إذا شاهد المشركون ما أوعدهم الله من عذاب الدنيا ، وهو في الماضي القتل ببدر ، أو عذاب الآخرة وهو نار جهنم ، فسيعلمون حينئذ من أهل الجند الأضعف نصرة وأقل عددا ، أهم أم المؤمنون؟

علم تعيين الساعة مختص بالله عالم الغيب

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

الإعراب :

(أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ قَرِيبٌ) مبتدأ ، و (ما) فاعل (قَرِيبٌ) بمعنى الذي ، وقد سدت مسد خبر المبتدأ ، كقولهم : أقائم أخوك ، وأ ذاهب الزيدان ، وعائد (ما) محذوف ، تقديره : أقريب ما توعدونه ، ولكن حذف الهاء. ويجوز أن تكون (ما) مصدرية ، فلا عائد لها.

(إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مَنِ) : إما في موضع رفع بالابتداء ، وخبره (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ) وإما في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.

(أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أَنْ) : مخففة من الثقيلة ، أي أنه.

(وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً عَدَداً) : منصوب على التمييز ، وليس بمصدر ؛ لأنه لو كان مصدرا ، لكان مدغما : (عدّا). وأجاز القرطبي نصبه على المصدر ، أي أحصى وعدّ كل شيء عددا ، أو نصبه على الحال ، أي أحصى كل شيء في حال العدد.

المفردات اللغوية :

(إِنْ أَدْرِي) أي ما أدري. (ما تُوعَدُونَ) من العذاب. (أَمَداً) غاية وأجلا لا يعلمه


إلا هو ، والأمد : الزمن البعيد. (عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن العباد. (فَلا يُظْهِرُ) لا يطلع. (عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) على الغيب المخصوص به علمه. (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي إن الرسول يطلعه الله على بعض الغيب معجزة له. (يَسْلُكُ) يجعل ويقيم. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من بين يدي المرتضى الرسول. (رَصَداً) حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع بقية الوحي. وأما كرامات الأولياء في المغيبات فتكون تلقيا من الملائكة.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص ، أو ليعلم محمد النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة معه الوحي بلا تحريف وتغيير ، و (أَبْلَغُوا) على المعنى الأول : هم الرسول ، وعلى الثاني هم الملائكة وروعي بجمع الضمير معنى من (١). (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أبلغوا رسالات الله كما هي من غير تغيير. (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أحاط علما بما عند الرسل ، وهو عطف على مقدر ، أي فعلم ذلك. (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي أحصى عدد كل شيء.

سبب النزول :

قال مقاتل : إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى : (قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) إلى آخر الآيات.

التفسير والبيان :

(قُلْ : إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي قل أيها الرسول : لست أعلم قرب العذاب الذي يعدكم الله به ، فما أدري أقريب وقت الساعة أم بعيد ، وهل جعل الله له غاية ومدة؟ فلا يعرف متى يوم القيامة إلا الله وحده. ومضمون الآية أمر من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للناس : إنه لا علم له بوقت الساعة ، أي تفويض علم تعيين الساعة إلى الله ؛ لأنه عالم الغيب.

__________________

(١) أي إن قوله تعالى : مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مع قوله : أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا كقوله : فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ من الحمل على اللفظ تارة ، وعلى المعنى أخرى.


ويؤكده ما جاء في حديث مسلم عن عمر حينما سأل جبريل عليه‌السلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : فأخبرني عن الساعة؟ قال : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل».

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي إن الله وحده هو العالم بالمغيبات ، فلا يطلع على الغيب (وهو ما غاب عن العباد) أحدا منهم ، إلا من ارتضى من الرسل ، فإنه يطلعهم على بعض المغيبات ، ليكون معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم. وهذا يشمل الرسول الملكي والبشري ، كقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة ٢ / ٢٥٥]. ومن أمثلة إخبار الرسل عن المغيبات قول عيسى عليه‌السلام : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران ٣ / ٤٩].

ثم إن الله تعالى يجعل بين يدي الرسول ومن خلفه حرسا وحفظة من الملائكة ، يحرسونه من تعرّض الشياطين لما أظهره الله عليه من الغيب ، لضبط الوحي ، ويمنعون الشياطين من استراق الغيب ، لإلقائه إلى الكهنة. وفي الكلام إضمار وتقدير : إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي ، ثم يجعل بين يديه ومن خلفه حرسا من الملائكة أي الرصد. والرصد : الحفظة يحفظون كل رسول من تعرض الجنّ والشياطين.

والآية دليل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر ؛ لأن أصحابها يدّعون علم الغيب من غير دليل ، وهي دليل أيضا على أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه ، أما علم الكهنة والمنجمين فهو ظن وتخمين ، فلا يدخل في علم الغيب. وأما علم الأولياء وظهور الكرامات على أيديهم فهو إلهامي متلقى من الملائكة ، لا يرقى إلى درجة علوم الأنبياء.

وتأول الرازي الآية بأنه لا أدري وقت وقوع القيامة ، والله عالم الغيب ،


فلا يطلع أحدا على وقت وقوع القيامة ، فهو من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد ، ثم قال الرازي : لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية ألا يطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل ، للأدلة الآتية :

أحدها ـ أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل زمان ظهوره ، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم ، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب.

والثاني ـ أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير ، وأن المعبّر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل ، ويكون صادقا فيه.

والثالث ـ أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان ، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل ، فذكرت أشياء ، ثم وقعت على وفق كلامها.

والرابع ـ أنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وليس هذا مختصا بالأولياء ، بل قد يوجد في السحرة أيضا من يكون صادقا في أخباره ، وإن كان يكذب في أكثر الأخبار ، وقد تطابق الأحكام النجومية الواقع وتوافق الأمور. وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه ، مما يجر إلى الطعن في القرآن الكريم ، وذلك باطل ، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا (١).

وفي رأيي أن علم الغيب الشامل مقصور على الله عزوجل ، حتى إن الملائكة كما في سورة البقرة في بدء الخلق ، والجن كما في سورة سبأ ، والإنس كما في أواخر

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ١٦٩


سورة لقمان جردوا من علم الغيب واعترفوا بعدم علمهم بالغيب ، وأما هذه الوقائع التي أوردها الرازي فقد تقع بالإلهام سواء للصالح أو غير الصالح.

ثم ذكر الله تعالى علة حفظه الرسل ، فقال :

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي إنه تعالى يحفظ رسله بالملائكة ، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف في الواقع القائم أن هؤلاء الرسل قد بلغوا الرسالات الإلهية كما هي دون زيادة ولا نقصان. ويصح أن يكون المعنى : ليعلم نبي الله أن جبريل ومن معه من الملائكة قد بلّغت عن الله الوحي تماما من غير تغيير ولا تبديل ، وأن الملائكة حفظوا الوحي حتى أوصلوه تاما إلى الرسل من البشر.

ويكون المراد بالمعنى الأول أن الله يحفظ رسله بملائكته ، ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويكون ذلك كقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة ٢ / ١٤٣] وكقوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ١١] إلى أمثال ذلك من العلم ، بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة ، فيكون القصد بما جاء في القرآن من تعليل لعلم الله ، إنما هو علم ظهور لا علم بداء ، فإنه تعالى عالم بالأشياء أزلا ، وإنما يظهر علمه لعباده (١). لذا أكد تعالى هذا المعنى بقوله :

(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي إنه تعالى أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة ، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته ، وبما لديهم من الأحوال ، فهو عالم بكل شيء كان أو سيكون ، وعالم بكل الأحكام والشرائع ، ثم عمم العلم بقوله : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي ضبط كل شيء معدودا محصورا ، دون مشاركة أحد من الملائكة وسائط العلم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٣٣


فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لا يعلم الغيب أحد سوى الله تعالى ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأطلعهم الله على ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم ممن ارتضاه من رسول. أما المنجم ونحوه ممن يضرب بالحصى ، وينظر في الكتب ، ويزجر بالطير ، فهو كافر بالله ، مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.

لكن قد يصادف الواقع إخبار هؤلاء المنجمين ونحوهم عن بعض الوقائع في المستقبل ، اعتمادا على بعض الدلالات والقرائن والحسابات ، ولكن هذا لا يصلح قاعدة عامة ، ولا مبدأ مطردا لا يخطئ ؛ فإن العلم بالغيب المختص بالله هو العلم الشامل الصادق في كل الأحيان. كما أن الله تعالى يظهر أحيانا بعض الكرامات بالإلهام على يد بعض أوليائه المخلصين ، فيخبرون عن وقوع بعض الوقائع في المستقبل. وهذا ثابت بالأمثلة الكثيرة قديما وحديثا ، وأيده العلم الحديث ، ولكن لا يصح اعتبار ذلك صنعة أو حرفة أو حكما في الأمور ؛ لأن مرجع ذلك كله إلى الله تعالى ومشيئته ومراده ، لا إلى خبرة ثابتة أو إلى تصرف الإنسان حسبما يريد.

٢ ـ يحفظ الله رسله ووحيه من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة ، قال الضحاك : ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك ، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا : هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا : هذا رسول ربّك.

٣ ـ لقد أخبر الله تعالى نبيه محمدا بحفظه الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا


على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق ، أو ليعلم أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.

وقال الزجاج : أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته ؛ كقوله تعالى : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [التوبة ٩ / ١٦] أي ليعلم الله ذلك علم مشاهدة ، كما علمه غيبا.

٤ ـ أحاط علم الله سبحانه بما عند الرسل وما عند الملائكة ، وأحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه ، فلم يخف عليه منه شيء ، فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المزمل

مكيّة ، وهي عشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة المزمّل أي المتلفف بثيابه ؛ لأنها تتحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء الوحي ، ولأنها بدئت بأمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك التزمل : وهو التغطي في الليل ، وينهض إلى تبليغ رسالة ربه عزوجل.

مناسبتها لما قبلها :

يظهر تعلق السورة بما قبلها من وجهين :

١ ـ ختمت سورة الجن ببيان تبليغ الرسل رسالات ربهم ، وافتتحت هذه السورة بأمر خاتمهم بالتبليغ والإنذار ، وهجر الراحة في الليالي.

٢ ـ أخبر الله تعالى في السورة المتقدمة عن ردود فعل دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين قومه والجن في قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) وقوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) ثم أمره الله تعالى في مطلع هذه السورة بالدعوة في قوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً).

ما اشتملت عليه السورة :

تتناول السورة الإرشادات الإلهية الموجهة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسيرته أثناء تبليغ دعوته ، وتهديد المشركين المعرضين عن قبول تلك الدعوة.


وقد ابتدأت بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيام الليل إلا قليلا منه ، وبترتيل القرآن لتقوية روحه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [١ ـ ٤] فكان ذلك بيانا لمقدار ما يقوم به في تهجده الذي أمره الله به بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء ١٧ / ٧٩].

ثم أخبرت عن ثقل الوحي وتبعة رسالته العظمى التي كلّف بها ، وأمره بذكر ربه ليلا ونهارا ، وإعلان توحيده ، واتخاذه وكيلا في كل أموره : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [الآيات ٥ ـ ٩].

وأردفت ذلك بالأمر بالصبر على أذى المشركين ، من القول فيه بأنه ساحر أو شاعر ، أو في ربه بأن له صاحبة وولدا ، وبالهجر الجميل إلى أن ينتصر عليهم وبتهديدهم بسوء العاقبة : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ..) [الآيات ١٠ ـ ١٩].

وختمت السورة بإعلان تخفيف القيام لصلاة الليل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مقدار الثلث وجعله الحد الأدنى رحمة به وبأمته ليتمكن هو وأصحابه من الراحة والتفرغ في النهار لشؤون الدعوة والتبليغ ، والاكتفاء بتلاوة ما تيسر من القرآن ، وأداء الصلاة المفروضة ، وإيتاء الزكاة ، ومداومة الاستغفار : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ..) [الآية ٢٠].

إرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء الدعوة

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)


وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))

الإعراب :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أصله (المتزمل) إلا أنه أبدلت التاء زايا ، وأدغمت الزاي في الزاي ، وذلك أولى من إبدالها تاء ؛ لأن الزاي فيها زيادة صوت ، وهي من حروف الصفير ، وهي أبدا يدغمون الأنقص في الأزيد.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ ..) الليل في رأي الكوفيين مفعول به ، وفي رأي البصريين : ظرف لفعل القيام ، ولو استغرقه الحدث ، أي إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصح الاستثناء بقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) فإن الاستثناء معيار العموم ، و (نِصْفَهُ) : بدل من الليل ، أو ظرف آخر ، و (قَلِيلاً) : استثناء منه ، وقد قدّم المستثنى على المستثنى منه ، وهو قليل ، وتقديره : قم الليل نصفه إلا قليلا.

(أَشَدُّ وَطْئاً) تمييز منصوب.

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً تَبْتِيلاً) : منصوب على المصدر من غير فعله ؛ لأن (تَبْتِيلاً) تفعيل إنما تجيء في مصدر فعّل ، مثل رتّل ترتيلا ، وقتّل تقتيلا ، وهنا جاء ل (تفعّل) وقياسه أن يجيء على وزن التفعل وهو التبتل ، إلا أنهم قد يجرون المصدر على غير فعله ، لمناسبة بينهما.

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَبُ) : يقرأ بالجر على البدل من (رَبِّكَ) وبالرفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره : هو رب المشرق.

البلاغة :

(انْقُصْ .. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) بينهما طباق ، وكذا بين (النَّهارِ) و (اللَّيْلَ) وبين (الْمَشْرِقِ) و (الْمَغْرِبِ).

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) فيهما تأكيد الفعل بالمصدر.


المفردات اللغوية :

(الْمُزَّمِّلُ) المتزمل : المتلفف بثيابه. (قُمِ اللَّيْلَ) أي قم إلى الصلاة ، أو داوم عليها. (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) أي انقص من النصف قليلا إلى الثلث ، والمراد به التخيير بين قيام النصف والناقص منه والزائد عليه. (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) إلى الثلثين ، و (أَوْ) للتخيير. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) اقرأه على تؤده وتثبت في تلاوته ، مع تبيين الحروف بحيث يتمكن السامع من عدّها.

(قَوْلاً ثَقِيلاً) قرآنا شاقا شديدا أو مهيبا ، لما فيه من التكاليف الشاقة ، لكن مشقة معتادة مألوفة ، لا مشقة زائدة غير معتادة. (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) ما ينشأ فيه ويحدث ويتجدد ، وهو القيام إلى الصلاة بعد النوم. (أَشَدُّ وَطْئاً) أي مواطأة وموافقة ، يوافق السمع فيها القلب على تفهم القرآن. (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أبين وأسد مقالا ، أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات. (سَبْحاً طَوِيلاً) تقلبا في مهامك واشتغالا بها ، فعليك بالتهجد ؛ لأن مناجاة الحق تستدعي فراغا ، ولا تفرغ في أثناء النهار لتلاوة القرآن والعبادة. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي دم على ذكره ليلا ونهارا ، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم. (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي انقطع إلى الله بالعبادة ، وجرّد نفسك عما سواه. (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) فوض كل أمورك إليه. (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) اصبر على أذى كفار مكة. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) بأن بجانبهم وتداريهم ولا تعاتبهم وفوض أمرهم إلى الله ، فالهجر الجميل : هو ما لا عتاب معه.

سبب النزول :

نزول الآية (١ ـ ٢):

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) : أخرج الحاكم عن عائشة قالت : لما أنزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) قاموا سنة حتى ورمت أقدامهم ، فأنزلت : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ). وأخرج ابن جرير مثله عن ابن عباس غيره.

وقال ابن عباس : كان هذا في ابتداء الوحي إليه ، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه ، أخذته الرّعدة ، فأتى أهله ، فقال : «زمّلوني زمّلوني».


وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني ، فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي ، فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت (فزعت) منه رعبا ، فرجعت فقلت : دثّروني دثّروني». وفي رواية : «فجئت أهلي ، فقلت : زمّلوني زمّلوني» ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وقال جمهور العلماء : وعلى إثرها نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ).

وعلى هذا يكون سبب النزول هو ما عراه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرعب والفزع عند رؤية الملك ، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها.

وقيل : إن تزمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لأسفه وحزنه ، لمّا بلغه ما كان من المشركين وما دبروه من القول السيء يدفعون به دعوته ، فقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : اجتمعت قريش في دار الندوة ، فقالوا : سمّوا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه ، فقالوا : كاهن ، قالوا : ليس بكاهن ، قالوا : مجنون ، قالوا : ليس بمجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : ليس بساحر ، قالوا : يفرق بين الحبيب وحبيبه ، فتفرق المشركون على ذلك ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها ، فأتاه جبريل عليه‌السلام ، فقال : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ، (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

التفسير والبيان :

خاطب الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات التالية حينما كان يتزمل بثيابه أول ما جاءه جبريل بالوحي خوفا منه ، فإنه لما سمع صوت الملك ، ونظر إليه أخذته الرعدة ، فأتى أهله ، وقال : «زمنوني ، دثّروني» ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة وأنس بجبريل.


(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي يا أيها النبي المتزمل المتلفف بثيابه انقض لصلاة الليل وهي صلاة التهجد بمقدار نصف الليل ، بزيادة قليلة أو نقصان قليل ، لا حرج عليك في ذلك. وهذا تخيير بين الثلث والنصف والثلثين. والليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وفيه دليل على أن أكثر المقادير الواجبة كان الثلثين.

أخرج أحمد ومسلم عن سعد بن هشام قال : «قلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : ألست تقرأ هذه السورة : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)؟ قلت : بلى. قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه حولا ، حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خلقتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضه».

وبعد الأمر بقيام الليل أمره تعالى بترتيل القرآن قائلا :

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي اقرأ القرآن على تمهل ، مع تبيين الحروف ، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وقوله : (تَرْتِيلاً) تأكيد في الإيجاب ، وأنه لا بد للقارىء منه ، ليستحضر المعاني. والترتيل : هو أن يبين جميع الحروف ، ويوفي حقها من الإشباع. وكذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يقرأ ، قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كان يقرأ السورة ، فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : كانت مدا ، ثم قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم.

ووردت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة ، منها ما رواه الحاكم وغيره عن البراء : «زيّنوا القرآن بأصواتكم»


وحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وحديث البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى «لقد أعطيت هذا مزمارا من مزامير آل داود» يعني أبا موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرا.

وروى البغوي عن ابن مسعود قال : لا تنثروه نثر الرمل ، ولا تهذّوه (لا تسرعوا به) هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. وروى العسكري في كتابه المواعظ عن علي كرم الله وجهه مثل هذه العبارة. وسئلت عائشة عن قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها (١).

ثم نبّه الله تعالى إلى عظمة القرآن وما جاء فيه من تكاليف لتأكيد الأمر بالترتيل ، فقال :

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أي إننا سنوحي إليك القرآن وسننزله عليك ، وفيه التكاليف الشاقة على البشر ، والأوامر والنواهي الصعبة على النفس ، من الفرائض والحدود ، والحلال والحرام ، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقال الحسين بن الفضل : ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، ونفس مزيّنة بالتوحيد. وقد يراد أنه ثقيل في الوحي ، ففي الموطأ والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : كيف يأتيك الوحي؟ فقال : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» ، قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصّد عرقا.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٣٤


ثم أبان الله تعالى علة الأمر بقيام الليل (التهجد) فقال :

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي إن قيام الليل ، وهو الذي يقال له : ناشئة إذا كان بعد نوم ، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان ، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر ، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها ، وأسدّ مقالا وأثبت قراءة ، لحضور القلب فيها وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب ؛ لأن الأصوات فيها هادئة ، والدنيا ساكنة ، أما النهار فهو وقت الانشغال بالأعمال ، كما قال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي إن لك في وقت النهار تقلبا وتصرفا في حوائجك ومصالح الحياة ، فلا تتفرغ فيه للعبادة ، فصل بالليل.

ولكن لا ينبغي الانشغال عن ذكر الله بأي حال نهارا أو ليلا ، فقال تعالى :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي أكثر من ذكر الله ، وداوم عليه إن استطعت ليلا ونهارا ، وأخلص العبادة لربك ، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته ، والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية ، كما قال تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الانشراح ٩٤ / ٧ ـ ٨] أي إذا فرغت من أشغالك فأتعب نفسك في طاعة ربك وعبادته ، لتكون فارغ البال ، واجعل رغبتك إلى الله وحده.

ثم أبان الله تعالى سبب الأمر بالعبادة ، والباعث على التبتل ، فقال :

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي إن ربك الذي تذكره ، وتتفرغ لعبادته هو الجدير بالعبادة ، فهو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو ، وكما أفردته بالعبادة ، فأفرده بالتوكل ، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور ، كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)


هود ١١ / ١٢٣ وقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة ١ / ٥]. وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إشارة إلى كماله تعالى في ذاته ، والكمال محبوب لذاته. وفيه دليل على أن من لم يفوض كل الأمور إلى ربه لم يكن راضيا بألوهيته ، ولا معترفا بربوبيته. وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين.

ثم أمره ربه بالصبر على الأذى فقال :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أي اصبر أيها الرسول على أذى قومك وما ينالك من السب والاستهزاء ، ولا تجزع من ذلك ، ولا تتعرض لهم ولا تعاتبهم ودارهم ، كما جاء في آيات أخرى منها : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) [النجم ٥٣ / ٢٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ فرضية التهجد :

يدل ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وأمره بقيام الليل ، ووصفه بالتزمل أن التهجد كان فريضة عليه ، وأن فرضيته كانت خاصة به. وهذا رأي أكثر العلماء ؛ لأن الندب والحضّ لا يقع على بعض الليل دون بعض ؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وهو الذي يدل عليه قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء ١٧ / ٧٩] فإن قوله : (نافِلَةً لَكَ) بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس معنى النافلة في هذه الآية : التطوع ، فإنه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام ، بل معناه أنه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.


وقيل : كان التهجد فرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته ، ثم نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.

وقيل : إن التهجد كان نافلة ، لا مفروضا ، لقوله تعالى : (نافِلَةً لَكَ) ولأن حمل الأمر : (قُمِ اللَّيْلَ) على الندب أولى ؛ لأنه متيقن ، فإن أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب ، وتارة تفيد الندب ، فلا بد من دليل آخر على الوجوب كالتوعد على الترك ونحوه ، وليس هذا متوفرا هنا. ويرد عليه بأن المختار في علم الأصول في الأوامر حملها على الوجوب أو الإلزام إلا بقرينة تصرفه عن ذلك إلى الندب أو الإباحة. ولأنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخيره بين النصف أو أقل منه أو أكثر ، ومثل هذا لا يكون في الواجبات. ويرد عليه بأنه قد يكون الواجب مخيرا بين أمور ثلاثة كالكفارة.

والراجح هو أن التهجد نسخ عن الأمة وحدها ، وبقي وجوبه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدليل آية الإسراء : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ). وربما كان العمل بحديث سعد بن هشام بن عامر السابق صحيحا : وهو نسخ الوجوب مطلقا وصيرورة التهجد (أو قيام الليل) تطوعا ، تخفيفا وتيسيرا ، والناسخ هو الصلوات الخمس ، وأما آخر سورة المزمل الذي نزل بعد أولها بنحو عام كما في بعض الآثار ، فقد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها ، دون نسخ أصل وجوب التهجد. والمقدار المذكور في أول السورة : هو نصف الليل أو أنقص منه قليلا إلى الثلث ، أو الزيادة عليه إلى الثلثين.

٢ ـ وجوب ترتيل القرآن :

لا خلاف في أنه يقرأ القرآن بترتيل على مهل ، وتبيين حروف ، وتحسين مخارج ، وإظهار مقاطع ، مع تدبر المعاني. والترتيل : التنضيد والتنسيق وحسن النظام.


والخلاف في التغني به وتلحينه فقال بكراهته جماعة منهم الإمامان مالك وأحمد ، وأجازه جماعة آخرون منهم الإمامان أبو حنيفة والشافعي ، ولكل فريق أدلة (١).

استدل المجيزون بما يأتي.

أولا ـ ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «زيّنوا القرآن بأصواتكم».

ثانيا ـ ما أخرجه مسلم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن».

ثالثا ـ ما رواه البخاري عن عبد الله بن مغفّل قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته ، فرجّع في قراءته.

رابعا ـ ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استمع لقراءة أبي موسى الأشعري ، فلما أخبره بذلك قال : لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمعه : «إن هذا أعطي مزمارا من مزامير داود».

خامسا ـ ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما أذن الله لشيء كإذنه ـ استماعه (٢) ـ لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن».

سادسا ـ إن الترنم بالقرآن من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء ، وهو أوقع في النفس وأبلغ في التأثير.

واحتج المانعون بما يأتي :

أولا ـ ما رواه الترمذي في نوادر الأصول عن حذيفة بن اليمان عن

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي السايس : ٤ / ١٩٣ وما بعدها.

(٢) أذن له : استمع ، وباب طرب.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق ، فإنه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم ، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فهذا نعي على الترجيع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح.

ثانيا ـ ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر أشراط الساعة ، وذكر أشياء ، منها : أن يتخذ القرآن مزامير ، وقال : «يقدّمون أحدهم ، ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنيهم غناء».

ثالثا ـ أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذن يطرب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأذان سهل سمح ، فإن كان أذانك سهلا سمحا ، وإلا فلا تؤذن» فقد كره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرب المؤذن في أذانه ، مما يدل على كراهة التطريب في القراءة بالأولى.

رابعا ـ أنكر أنس بن مالك على زياد النميري حينما قرأ ورفع صوته وطرب ، وقال : يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون.

خامسا ـ إن التغني والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه ؛ لأنه يقتضي مد ما ليس بممدود ، وهمز ما ليس بمهموز ، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة ، وهو لا يجوز. كما أن التلحين يلهي النفس بنغمات الصوت ، ويصرفها عن تدبر معاني القرآن.

والحق التوسط في الأمر ، فإذا كان التلحين والتطريب يغير من ألفاظ القرآن ، ويخل بطرق الأداء ، أو كان تكلّفا وتصنعا يشبه توقيعات الموسيقى ، فهو ممنوع وحرام. أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا يؤدي إلى اتعاظ القارئ ، وكمال تأثره بمعاني القرآن ، فلا دليل على المنع ، بل الأدلة تجيزه.


٣ ـ ثقل القرآن والوحي :

القرآن ثقيل شديد بما اشتمل عليه من تكاليف شاقة على النفس ، وفرائض وحدود صعبة على الإنسان. والوحي أيضا ذو تأثير كبير على القلب والنفس ، كما جاء في خبر عائشة رضي‌الله‌عنها المتقدم ، وأخرج أحمد وابن جرير وغيرهما عن عائشة أيضا : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحي إليه ، وهو على ناقته ، وضعت جرانها ـ يعني صدرها ـ على الأرض ، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه» أي الوحي.

٤ ـ ناشئة الليل :

إن أوقات الليل وساعاته أو العبادة الناشئة في الليل ، أو النفس الناشئة في الليل الناقضة من مضاجعها للعبادة أشد وطأ ، أي أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب واللسان ، وأكثر مصادفة للخشوع والإخلاص وأسدّ مقالا وأثبت قراءة ، بسبب سكون الليل ، وراحة النفس من الضوضاء والعناء ، والبعد عن الرياء والمباهاة ، أو حبّ اطلاع الآخرين على الطاعة والعبادة ، وشدة الاستقامة والاستمرار على الصواب ؛ لأن الأصوات هادئة ، والدنيا ساكنة ، فلا يضطرب على المصلّي ما يقرؤه.

٥ ـ مشاغل النهار :

الإنسان مشغول عادة بحاجاته ومصالحه المعيشية في النهار ، فلا يتفرغ عادة للعبادة ، وإنما الفراغ موجود في الليل.

٦ ـ ذكر الله والتبتل :

المؤمن مأمور بالاستكثار من ذكر الله وأسمائه الحسنى ، وبالمداومة على التسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن ، دون أن يشغله شاغل في الليل والنهار ، وهو مطالب أيضا بأن يجعل همه كله في إرضاء ربه ، وتجريد نفسه عن التعلق بغيره ، والاستغراق في مراقبته في جميع أعماله. ويكون أشرف الأعمال عند قيام الليل : ذكر اسم الرب ، والتبتل إليه ، وهو الانقطاع إلى الله بالكلية.


وليس المراد الانقطاع عن أعمال النهار ، والعكوف على الذكر والعبادة ، فهذا يتنافى مع قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) بل المراد التنبيه إلى أنه ينبغي ألا يشغله السّبح في أعمال النهار عن ذكر الله تعالى.

والتبتل : الانقطاع إلى عبادة الله عزوجل ، أي انقطاع الإنسان بعبادته إلى ربه ، دون أن يشرك به غيره ، وليس المعنى الانقطاع عن مشاغل الحياة لكسب المعيشة من طرق عزيزة كريمة ، لا يكون فيها الإنسان عالة على غيره. فقد ورد في الحديث النهي عن التبتل بمعنى الانقطاع عن الناس والجماعات. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة ٥ / ٨٧] وهذا يدل على كراهة من تبتّل ، وانقطع عن الناس ، وسلك سبيل الرهبانية.

والخلاصة : التبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة ؛ كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البيّنة ٩٨ / ٥]. والتبتل المنهي عنه : هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع.

٧ ـ إفراد الله بالتوكل عليه : كما أن المؤمن مطالب بإفراد الله بالعبادة ، مطالب أيضا بإفراده بالتوكل عليه ، فمن علم أن الله رب المشارق والمغارب ، انقطع بعمله وأمله إليه ، وفوّض جميع أموره إليه ، فهو القائم بأمور العباد ، الكفيل بما وعد.

٨ ـ الصبر على الأذى في سبيل الدعوة : أمر الله نبيه بأن يصبر من أجل دعوته على الأذى والسب والاستهزاء من سفهاء قومه الذين كذبوه ، وبألا يتعرض لهم ، ولا يعاتبهم ويداريهم. قال قتادة وغيره : وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم ، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك. وأرى أن هذا من منهج الدعوة الدائم وسياستها الثابتة التي يحتاج إليها الدعاة في


كل عصر. قال أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه أقوام ، ونضحك إليهم ، وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.

تهديد الكفار وتوعدهم

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨))

الإعراب :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ .. يَوْمَ) : منصوب على الظرف ، والعامل فيه ما في (لَدَيْنا) من معنى الاستقرار ، كما تقول : إن خلفك زيدا غدا ، والعامل في (غدا) الاستقرار الذي دل عليه (خلفك).

(كَثِيباً مَهِيلاً مَهِيلاً) : أصله (مهيولا) على وزن مفعول ، من (هلت) فاستثقلت الضمة على الياء ، فنقلت إلى الهاء قبلها ، فبقيت الياء ساكنة والواو ساكنة ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وكسرت الهاء لتصحيح الياء.

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يَوْماً) : مفعول (تَتَّقُونَ) وليس منصوبا على الظرف ، و (يَجْعَلُ) : جملة فعلية في موضع نصب ؛ لأنه صفة (يَوْماً).

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) إنما قال (مُنْفَطِرٌ) من غير تاء لثلاثة أوجه : إما بمعنى النسب ، أي ذات انفطار ، أو بجعل السماء في معنى السقف ، كما في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء ٢١ / ٣٢] ، أو لأن السماء يجوز فيها التذكير والتأنيث ، فيقال : (مُنْفَطِرٌ) على التذكير ، وهو قول الفراء.


البلاغة :

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً ، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ، وَعَذاباً أَلِيماً ..) إلخ : سجع مرصع.

(أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) جناس اشتقاق.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) التفات من الغيبة إلى الخطاب للتقريع والتوبيخ على عدم الإيمان ، والأصل أن يقال : إنا أرسلنا إليهم.

(فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) تأكيد الفعل بالمصدر.

المفردات اللغوية :

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) اتركني وإياهم ، فإني قدير على مجازاتهم. (النَّعْمَةِ) بفتح النون : التنعم والترفه ، وبكسر النون : الإنعام أو اسم الشيء المنعم به. (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) اتركهم زمانا قليلا برفق وتأنّ ، أو أمهلهم إمهالا. (أَنْكالاً) قيودا ثقيلة ، جمع نكل بكسر النون وفتحها : وهو القيد الثقيل. (وَجَحِيماً) نار محرقة شديدة الإيقاد. (ذا غُصَّةٍ) يغص به فلا يستساغ في الحلق ، كالضريع والزقّوم والغسلين والشوك من نار ، فلا يخرج ولا ينزل. (وَعَذاباً أَلِيماً) مؤلما لا يعرف كنهه إلا الله ، زيادة على ما ذكر.

(تَرْجُفُ) تضطرب وتتزلزل. (كَثِيباً) رملا متجمعا بتأثير الريح. (مَهِيلاً) رخوا ليّنا تغوص الأقدام فيه. (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) أرسلنا إليكم يا أهل مكة. (رَسُولاً) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (شاهِداً عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم يوم القيامة بالعصيان أو الإجابة للدعوة. (وَبِيلاً) ثقيلا شديدا ، ومنه طعام وبيل : لا يستمرأ لثقله ، ووابل : وهو المطر العظيم. (تَتَّقُونَ) تقون أنفسكم. (إِنْ كَفَرْتُمْ) بقيتم على الكفر في الدنيا. (يَوْماً) عذاب يوم أي بأي حصن تتحصنون من عذاب يوم القيامة. (شِيباً) جمع أشيب ، وجعلهم شيبا لشدة هوله ، يقال لليوم الشديد : يوم يشيب الأطفال ، وهو مجاز ، أصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع بالشّيب. (مُنْفَطِرٌ) منشق متصدع. (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي إن وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم كائن لا محالة.

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(وَذَرْنِي) : روي أنها نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.


المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، هدد المشركين وأوعدهم على الإعراض عن قبول تلك الدعوة ، وخوفهم عذاب يوم القيامة وكيفيته وأهواله ، وعذاب الدنيا ومخاطره ، ثم عاد إلى وصف عذاب الآخرة وتخويفهم به لشدته التي بلغت حدا تشيب الولدان ، وتتشقق السموات منه.

التفسير والبيان :

هدد الله تعالى كفار مكة وأمثالهم وتوعدهم ، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء ، فقال :

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي دعني وأولئك المكذبين المترفين أصحاب الأموال ، فإني أكفيك أمرهم ، وأنتقم لك منهم ، فلا تهتم بكونهم أرباب الغنى والسعة والترفّه في الدنيا ، وتمهل عليهم رويدا وزمنا قليلا ، أو تمهلا قليلا إلى انقضاء آجالهم ، كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤]. وقد أهلك زعماؤهم في موقعة بدر ، قالت عائشة : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.

ثم ذكر الله تعالى أنواعا أربعة من عذابهم ، فقال :

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً ، وَجَحِيماً ، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ، وَعَذاباً أَلِيماً) أي إن عندنا القيود والأغلال لهؤلاء المكذبين بآياتنا وبرسولنا ، ونارا مؤججة مضطرمة ، وطعاما لا يستساغ ، ينشب في الحلق ، فلا يدخل ولا يخرج كالزقوم والضريع ، ونوعا آخر من العذاب المؤلم الشديد ، لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. وتنكير قوله (عَذاباً) يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل.

وبعد وصف العذاب ، أخبر تعالى عن زمانه متى يكون فقال :


(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) أي إن ذلك العذاب الذي يعذب به الكفار هو في يوم تضطرب في الأرض والجبال وتتزلزل بمن عليها ، والرجفة : الزلزلة الشديدة ، وتصير الجبال كالكثيب المهيل ، أي الرمل المجتمع السائل الذي يسيح فيه الإنسان والحيوان ، بعد ما كانت حجارة صماء ، ثم تنسف نسفا ، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب. والرجفة : الزلزلة والزعزعة الشديدة ، والمهيل : هو الذي إذا وطئته القدم زلّ ما تحتها ، وإذا وصلت أسفله انهال.

وبعد تخويف أهل مكة وأمثالهم بأهوال القيامة ، هددهم وخوفهم تعالى بأهوال الدنيا التي تعرضت لها الأمم المكذبة المتقدمة ، فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي يخاطب الله تعالى كفار قريش ، والمراد سائر الناس ، فيقول لهم : إنا أرسلنا إليكم رسولا هو محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم وبما يصدر عنكم من إجابة وامتناع ، وطاعة وعصيان ، كما أرسلنا موسى عليه‌السلام إلى الطاغية فرعون يدعوه إلى الحق والإيمان ، فعصى فرعون الرسول المرسل إليه ، وكذّبه ولم يؤمن بما جاء به ، فأخذناه أخذا شديدا ثقيلا غليظا ، أي عاقبناه عقوبة شديدة وأهلكناه ومن معه بالغرق في البحر ، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم الذي هو أشرف وأعظم من موسى بن عمران عليه‌السلام. وإنما عرّف كلمة الرسول ثانيا ؛ لأنه ينصرف إلى المعهود السابق في الذكر.

ثم عاد الله تعالى إلى تخويفهم بعذاب الآخرة ذاكرا هو له من وجهين ، فقال :

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ،


كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي كيف تقون أنفسكم وتنعمون بالأمان والاطمئنان إن بقيتم على الكفر ، من عذاب يوم يجعل الأطفال شيبا بيض الشعور ، لشدة هوله ، وهذا كناية عن شدة الخوف ، وتصير السماء متشققة به متصدعة ؛ لشدته وعظيم هوله ، وكان وعد الله بمجيء ذلك اليوم كائنا واقعا لا محالة ولا محيد عنه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ هدد الله صناديد قريش وأمثالهم من المستهزئين والمترفين الطغاة والمكذبين بآيات الله والكفر برسالة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوعدهم بأشد العذاب في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فعوقب رؤساء مكة في موقعة بدر ، وأما في الآخرة فنار جهنم تنتظرهم.

٢ ـ إن أنواع العذاب الشديد في الآخرة هي الأنكال أي القيود ، والنار المؤججة ، والطعام الذي لا يستساغ ، فلا هو نازل ولا هو خارج ، وهو الغسلين والزّقوم والضريع وهو شوك كالعوسج.

٣ ـ زمان هذا العذاب هو يوم القيامة ، الذي تضطرب وتحرك فيه الأرض والجبال بمن عليها ، وتصبح الجبال فيه رملا مجتمعا سائلا متناثرا غير متماسك.

٤ ـ التشابه في الجريمة والعقاب : اشترك أهل مكة في تكذيب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستخفاف به ، مع فرعون وقومه الذين كذبوا موسى عليه‌السلام ، قال مقاتل : ذكر ـ أي الله ـ موسى وفرعون ؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخفوا به ؛ لأنه ولد فيهم ، كما أن فرعون ازدرى موسى ؛ لأنه ربّاه ونشأ فيما بينهم ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء ٢٦ / ١٨] فكان التشابه في الأحوال سببا لذكر قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم.


لذا عوقب فرعون وأتباعه بالعقاب الثقيل الشديد وهو الغرق في البحر ، وعوقب كفار مكة بالهلاك يوم بدر. ويكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهدا على قومه يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم.

٥ ـ وبخ الله تعالى الكفار وقرعهم على كفرهم بطريق التساؤل بقوله : كيف تتقون عذاب يوم يجعل الولدان شيبا إن كفرتم ، وتتفطر فيه السماء؟ وهذا وصف لهول يوم القيامة بأمرين : الأول ـ يجعل الولدان شيبا ، وهذا مثل في الشدة. والثاني ـ تتصدع فيه السماء. وكلاهما وصف لليوم بالشدة الشديدة ، فهو يوم يشيّب نواصي الأطفال ، والسماء على عظمتها وقوتها تتفطر فيه ، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟

٦ ـ إن وعد الله تعالى بالقيامة والحساب والجزاء كائن لا شك فيه ولا خلف.

٧ ـ دلت آية : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً ..) على أن القياس حجة ؛ لأنه استقر عند العقلاء وعند المشركين في مكة وغيرهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنا ، يجب اشتراكهما في الحكم ، وإلا لما أورد هذا الكلام على هذه الصورة.

تذكير وإرشاد بأنواع الهداية

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ


عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

الإعراب :

(وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) طائفة مرفوع عطفا على الضمير المرفوع في (تَقُومُ). وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستكن في (تَقُومُ) لوجود الفصل ، والفصل يقوم مقام التوكيد في تجويز العطف.

(وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالجر عطفا على (ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) وبالنصب عطفا على (أَدْنى).

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِنَ) مخففة من الثقيلة ، والسين عوض عن التشديد ، وقد يقع التعويض بسوف وقد وحرف النفي ، كما يعوض بالسين جبرا لما دخل الحرف من النقص.

(تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً .. خَيْراً) مفعول ثان ل (تَجِدُوهُ) والهاء : هي المفعول الأول ، وهو ضمير فصل على قول البصريين ، ولا موضع له من الإعراب : ويسميه الكوفيون عمادا ، وله موضع من الإعراب.

البلاغة :

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) استعارة ، حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة.

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) مجاز مرسل ، أراد به الصلاة ، من إطلاق الجزء وهو القراءة على الكل وهو الصلاة.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) عام بعد خاص ، عمم بعد ذكر الصلاة والزكاة والإنفاق ، ليشمل جميع أعمال الخير والصلاح.

(وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) استعارة تبعية ، شبه التصدق على المحتاجين بإقراض الله تعالى ؛ لأنه هو الذي يعطي الثواب المقابل.

(هُوَ خَيْراً) قال ذلك للتأكيد والمبالغة.


المفردات اللغوية :

(إِنَّ هذِهِ) الآيات الموعدة أو المخوفة. (تَذْكِرَةٌ) عظة. (فَمَنْ شاءَ) أن يتعظ. (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) طريقا يتقرب به إلى الجنة ، بالتزام الإيمان والطاعة أو التقوى والاحتراز عن المعصية. (أَدْنى) أقل منه. (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يعلم مقادير ساعاتهما. (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تستطيعوا تقدير الأوقات وضبط الساعات لتقوموا قيام الليل ، فيحصل قيام الكل وهو أمر شاق عليكم. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بالتيسير والتخفيف والترخيص في ترك القيام. (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلّوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، عبر عن الصلاة بالقراءة. (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) يسافرون للتجارة.

(يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) يطلبون من فضله ورزقه بالتجارة وغيرها. (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يجاهدون ، وكل من الفئات الثلاث يشق عليهم قيام الليل ، فخفف عنهم بقيام ما تيسر منه ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة. (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة. (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أنفقوا في سبيل الخيرات فيما عدا المفروض من المال ، عن طيب نفس. (هُوَ خَيْراً) أفضل مما أنفقتم. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) في جميع أحوالكم ومجالسكم ، فإن الإنسان لا يخلو من تفريط.

المناسبة :

بعد بيان أحوال المؤمنين السعداء وترغيبهم ، وأحوال الأشقياء وتهديدهم بأنواع العذاب في الآخرة ، ختمت السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد ، فمن أراد الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية ، فليفعل ، ثم خفف عن المؤمنين مقدار قيام الليل لما يطرأ لهم من أعذار المرض ، أو السفر للتجارة ونحوها ، أو الجهاد في سبيل الله تعالى.

التفسير والبيان :

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي إن ما تقدم في هذه السورة من الآيات المخوفة موعظة لأولي الألباب ، فمن أراد اتعظ بها واتخذ الطاعة طريقا توصله إلى رضوان الله في الجنة. وبعد نزول أوائل السورة استعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقيام الليل ، وترك الرقاد ، ثم خفف الله عنهم قائلا :


(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ، وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي إن الله يعلم أنك أيها الرسول تقوم ممتثلا أمر ربك أقلّ من ثلثي الليل أحيانا ، أو تقوم نصفه أو ثلثه ، وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك ، والله سيجازيكم على ذلك أحسن الجزاء.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي يعلم الله مقادير الليل والنهار حقيقة ، ويعلم القدر الذي تقومونه من الليل ، ولكن الله علم أنكم لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به ، ولن تتمكنوا ضبط مقادير الليل والنهار ولا إحصاء الساعات ، أو علم الله أنكم لن تطيقوا قيام الليل أو الفرض الذي أوجبه عليكم ، فعاد عليكم بالعفو والترخيص في ترك القيام إذ عجزتم ، ورجع بكم من العسر إلى اليسر. وأصل التوبة : الرجوع.

قال مقاتل : لما نزلت (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) شقّ ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتفخت أقدامهم ، وامتقعت ألوانهم ، فرحمهم‌الله وخفف عنهم ، فقال تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) (١). والمراد بقوله : (لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تطيقوه : لصعوبة الأمر ، لا أنهم لا يقدرون عليه.

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي صلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، فالمراد بالقراءة الصلاة ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، كما تقدم بيانه.

وهذه الآية نسخت قيام الليل ، ويؤكده الحديث الصحيح عند مسلم والنسائي والترمذي واللفظ له عن أنس بن مالك الذي فيه قال السائل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل عليّ غيرها؟ يعني الصلوات الخمس ، فقال : «لا ، إلا أن تطوّع» فهو يدل على عدم وجوب غير تلك الصلوات المفروضة ، فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته عن الأمة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٥٣


ثم ذكر الله تعالى أسباب التخفيف وأعذاره أو حكمته قائلا :

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي علم الله عزوجل بطروء أعذار ثلاثة هي المرض والسفر والجهاد ، فقد يكون منكم مرضى لا يطيقون قيام الليل ، وآخرون يسافرون في الأرض للتجارة والربح ، يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم ، فلا يطيقون قيام الليل ، وقوم آخرون هم المجاهدون في سبيل الله لا يطيقون قيام الليل ، فوجود هذه الأعذار المقتضية للترخيص سبب لرفع فرضية التهجد عن جميع الأمة.

ثم ذكر الحكم الدائم بعد الترخيص ، فقال تعالى :

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي فصلوا ما تيسر واقرؤوا ما تيسر من القرآن ، وقد أعيد الأمر هنا لتأكيد الرخصة وتقريرها ، وأدوا الصلاة المفروضة قائمة بفروضها وأركانها وشرائطها واحتضار الخشوع فيها دون غفلة عنها ، وآتوا الزكاة الواجبة في الأموال ، وأنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقا حسنا على الأهل وفي الجهاد وعلى المحتاجين ، كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة ٢ / ٢٤٥].

ثم أكّد الطلب على الصدقة ورغّب فيها ، فقال :

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي وجميع ما تقدموه من الخير المذكور وغير المذكور ، فثوابه حاصل لكم ، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا ، ومما تؤخرونه إلى عند الموت ، أو توصون به ليخرج من التركة بعد موتكم.


أخرج البخاري والنسائي وأبو يعلى الموصلي عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا : يا رسول الله : ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال : اعلموا ما تقولون ، قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ، قال : إنما مال أحدكم ما قدّم ، ومال وارثه ما أخّر».

ثم ختم السورة بالأمر بالاستغفار فقال :

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أكثروا من الاستغفار لذنوبكم وفي أموركم كلها ، فإنكم لا تخلون من ذنوب اقترفتموها ، وإن الله كثير المغفرة لمن استغفره ، كثير الرحمة لمن استرحمه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ كل ما جاء في سورة المزمل وفي آياتها عظة للمتعظ ، فمن أراد أن يؤمن ويتخذ إيمانه وطاعته طريقا إلى رضا ربه ورحمته ، فليرغب وليفعل ، فذلك ممكن له ؛ لأنه تعالى أظهر له الحجج والدلائل.

٢ ـ قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته بما أمروا به من قيام الليل في أول السورة : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) ثم نسخت فرضية القيام بهذا المقدار الثقيل بآخر السورة في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ..). وكان النسخ بإيجاب الصلوات الخمس.

٣ ـ خفف الله عن الأمة وعاد عليهم بالعفو. وهذا يدل ـ كما قال القرطبي ـ على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به. والأولى أن يقال : تاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. قال أبو نصر القشيري : والمشهور أن نسخ قيام الليل كان


في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : نسخ التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب ، كقوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة ٢ / ١٩٦] فالهدي لا بد منه ، كذلك لم يكن بدّ من صلاة الليل ، ولكن فوّض قدره إلى اختيار المصلي. وهذا مذهب الحسن. ومذهب الشافعي : النسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلا.

٤ ـ أمر الله بقراءة ما تيسر من القرآن ، والمراد من هذه القراءة : الصلاة ؛ لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة ، فأطلق اسم الجزء على الكل ، أي فصلوا ما تيسر لكم ، والصلاة تسمى قرآنا ، كقوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء ١٧ / ٧٨] قال ابن العربي : وهو الأصح ؛ لأنه عن الصلاة أخبر ، وإليها يرجع القول.

وقيل : المراد القراءة نفسها ، أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خفف عنكم. قال السدّي : مائة آية ، وقال الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن. وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد بن المسيب : خمسون آية. قال القرطبي : قول كعب أصح ؛ لما أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» أي أعطي من الأجر قنطارا.

وصحح القرطبي القول الثاني حملا للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الآخر مجاز ، فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.

٥ ـ أبان الله تعالى حكمة هذا النسخ ، وذكر علة تخفيف قيام الليل ؛ فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليه قيام الليل ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، وكذلك المجاهد ، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء.

٦ ـ سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال


الحلال للنفقة على نفسه وعياله ، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. روى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد ، فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

٧ ـ إذا كان المراد من آية (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) هو القراءة في الصلاة عملا بظاهر اللفظ ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ في الصلاة.

فقال مالك والشافعي وأحمد : فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها ، ولا الاقتصار على بعضها ؛ لما رواه السبعة عن عبادة بن الصامت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وظاهر النفي انعدام الصلاة الشرعية لعدم قراءة الفاتحة فيها. ورويت أحاديث كثيرة في معنى ذلك.

وقال أبو حنيفة : الفرض مطلق قراءة ، وهو آية واحدة طويلة من القرآن ، أو ثلاث آيات قصار ؛ لأنها أقل سورة. ودليله ما ثبت في الصحيحين من حديث المسيء صلاته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «اقرأ ما تيسر معك من القرآن» فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها وعلمه إياها إن كان يجهلها ، وما روى أبو داود عن أبي هريرة من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة إلا بقرآن ، ولو بفاتحة الكتاب» فإنه ظاهر في عدم تعين الفاتحة.

٨ ـ أوجب الله تعالى إقامة الصلاة المفروضة وهي الخمس لوقتها ، وإيتاء الزكاة الواجبة في الأموال. والمراد من الصلاة : ما كان مفروضا في النهار أول الأمر «ركعتين بالغداة ، وركعتين بالعشي» والمراد بالزكاة : زكاة المال المفروضة التي فرضت في السنة الخامسة من البعثة على الراجح.


٩ ـ حث الله تعالى على القرض الحسن : وهو ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وذلك إشارة أيضا إلى صدقة التطوع.

١٠ ـ أي عمل يقدمه العبد في الدنيا يبتغي به منفعته في الآخرة ، سواء أكان متعلقا بالمال أم بغيره ، فإنه يلقى به عند ربه جزاء أحسن منه وأكثر نفعا ؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. وهذا حث على الإنفاق مطلقا.

١١ ـ طلب الله تعالى من عباده مداومة الاستغفار مما عسى أن يقع في الأعمال من الخلل أو التقصير ، ووعد سبحانه بالرحمة والمغفرة لمن يلجأ إلى جنابه الكريم ، إذ أخبر بأنه عظيم المغفرة واسع الرحمة. وهذا تحريض على الاستغفار في جميع الأحوال ، وإن كانت طاعات ، لما عسى أن يقع فيها من تفريط.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المدثر

مكيّة ، وهي ست وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة المدّثر لافتتاحها بهذا الوصف الذي وصف به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصل المدثر المتدثر : وهو الذي يتدثر بثيابه لينام أو ليستدفئ. والدثار : اسم لما يتدثر به.

مناسبتها لما قبلها :

صلة السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي :

١ ـ تتفق السورتان في الافتتاح بنداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة. وقد نزلت المدثر عقب المزمّل.

٣ ـ بدئت السورة السابقة بالأمر بقيام الليل (التهجد) وهو إعداد لنفسه ليكون داعية ، وبدئت هذه السورة بالأمر بإنذار غيره ، وهو إفادة لسواه في دعوته.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت السورة إرشادات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء دعوته ، وتهديدات لزعيم من زعماء الشرك ، وأوصاف جهنم.


بدأت السورة بتكليف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقيام بالدعوة إلى ربه ، وإنذار الكفار ، والصبر على أذى الفجار : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ..) [الآيات : ١ ـ ٧].

ثم وصفت يوم القيامة الرهيب الشديد ، لما فيه من الأهوال : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ..) [الآيات : ٨ ـ ١٠].

ثم انطلقت تهدد إنسانا في أقوى وأشد صور التهديد ، وهو الوليد بن المغيرة الذي أقر بأن القرآن كلام الله تعالى ، ثم من أجل الزعامة والرياسة ، زعم أنه سحر ، فاستحق النار : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ..) [الآيات : ١١ ـ ٢٦].

وناسب ذلك تعداد أوصاف النار ، وعدد خزنتها وحكمة ذلك ، وبروزها للناس : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ..) [الآيات : ٢٧ ـ ٣١].

وزاد الأمر تهويلا قسم الله بالقمر والليل والصبح على أن جهنم إحدى الدواهي العظام : (كَلَّا وَالْقَمَرِ ..) [الآيات : ٣٢ ـ ٣٧].

وأوضحت السورة مسئولية كل نفس بما كسبت وتعلقها بأوزارها ، وبشارة المؤمنين بالنجاة ، والكفار بالعذاب ، وتصوير ما يجري من حوار بين الفريقين : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ..) [الآيات : ٣٨ ـ ٤٨].

وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن العظة والتذكر والإيمان : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ..) [الآيات : ٤٩ ـ ٥٦].

فضلها :

ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وخالفه الجمهور ، فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [القلم ٩٦ / ١].


سبب نزولها :

أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري ، هبطت ، فنوديت ، فنظرت عن يميني ، فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فرأيت شيئا ، فأتيت خديجة ، فقلت : دثّروني ، وصبّوا عليّ ماء باردا ، قال : فدثّروني وصبوا علي ماء باردا ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)». ورواه مسلم بلفظ آخر يدل على أن أول ما نزل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [القلم ٩٦ / ١ ـ ٥].

ووجه الجمع بين الرأيين : أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد والشيخان عن جابر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثم فتر الوحي عن فترة ، فبينا أنا أمشي ، سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت ـ فزعت ـ منه فرقا ـ أي خوفا ـ ، حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي ، فقلت لهم : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوني ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ثم حمي الوحي وتتابع».

وأخرج الطبراني (١) عن ابن عباس قال : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : ليس بساحر ، وقال بعضهم : كاهن ، وقال بعضهم : ليس

__________________

(١) بسند ضعيف.


بكاهن ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : ليس بشاعر ، وقال بعضهم : بل سحر يؤثر ، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحزن وقنّع رأسه وتدثر ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ).

إرشادات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء الدعوة

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

الإعراب :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أصله المتدثر ، فأدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما. ولم تدغم الدال في التاء ؛ لأن التاء مهموسة ، والدال مجهورة ، والمجهور أقوى من المهموس ، فكان إدغام الأضعف في الأقوى أولى من العكس.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ تَسْتَكْثِرُ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، أي ولا تمنن مستكثرا.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فِي النَّاقُورِ) إما في موضع الرفع ؛ لأنه قام مقام النائب للفاعل ، وإما في موضع النصب ؛ لأن المصدر قام مقام الفاعل ، فاتصل الفعل به بعد تمام الجملة ، فوقع فضلة ، فكان في موضع نصب.

(فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ فَذلِكَ) مبتدأ ، و (يَوْمَئِذٍ) بدل منه ، و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) خبر المبتدأ ، ولا يجوز أن يتعلق. (يَوْمَئِذٍ) بقوله (عَسِيرٌ) لأن ما تعمل فيه الصفة لا يجوز تقدمه على الموصوف. والعامل في (فَإِذا) في قوله : (فَإِذا نُقِرَ ..) ما دلت عليه الجملة ، أي اشتد الأمر.


البلاغة :

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) تقديم المفعول به لإفادة الاختصاص.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) جناس اشتقاق.

(عَسِيرٌ) و (يَسِيرٍ) بينهما طباق ، وجناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(الْمُدَّثِّرُ) المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه ، وأصله : المتدثر ، وأجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو لابس الدثار : وهو الثوب الظاهر الذي يلبس فوق لباس داخلي يلاصق الجسد (قُمْ) من مضجعك ، أو قيام عزم وجدّ (فَأَنْذِرْ) خوّف أهل مكة وغيرهم النار إن لم تؤمنوا. (فَكَبِّرْ) عظّم. (فَطَهِّرْ) أي طهر ثيابك من النجاسات ، فإن التطهير واجب في الصلاة ، محبوب في غيرها ، وذلك بغسلها ، أو بحفظها عن النجاسة ، أو طهر نفسك من الأفعال والأخلاق الذميمة.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اترك الأسباب والمآثم المؤدية إلى العذاب ، وداوم على هجرها ، والرجز : بضم الراء وكسرها : العذاب ، قال تعالى : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) [الأعراف ٧ / ١٣٤]. (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي لا تعط شيئا فتطلب أكثر منه ، أو لا تمنن على الله بعبادتك مستكثرا إياها ، أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه. (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) نفخ في الصور وهو القرن النفخة الثانية. (فَذلِكَ) أي وقت النقر. (يَوْمٌ عَسِيرٌ) شديد على الكفار. (غَيْرُ يَسِيرٍ) غير سهل عليهم.

سبب النزول :

تقدم ، وملخصه : أخرج الشيخان عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري ، نزلت ، فاستنبطت الوادي ، فنوديت ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، فرجعت ، فقلت : دثروني. فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ)».

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ) أي يا أيها النبي الذي قد تدثر بثيابه ، أي


تغطى بها رعبا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة ، انهض ، فخوّف أهل مكة ، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي عظم الله وصفه بالكبرياء ، في عبادتك وكلامك وجميع أحوالك ، فإنه أكبر من أن يكون له شريك ، وطهّر ثيابك واحفظها عن النجاسات. وقال قتادة : أي طهرها من المعاصي والذنوب ، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله : إنه لدنس الثياب ، وإذا وفّى وأصلح : إنه لمطهر الثياب. وكلا المعنيين صحيح ، فإن الطهارة الحسية أو النظافة تلازم عادة الطهارة المعنوية ، أي التجرد والتباعد من المعاصي ، والعكس صحيح ، فإن وجود الأوساخ ملازم لكثرة الذنوب.

والآية دليل على تعظيم الله مما يقول عبدة الأوثان ، وعلى النظافة وتحسين الأخلاق واجتناب المعاصي.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اترك الأصنام والأوثان ، فلا تعبدها ، فإنها سبب العذاب ، واهجر جميع الأسباب والمعاصي المؤدية إلى العذاب في الدنيا والآخرة ، فالآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي.

والنهي عن جميع ذلك لا يعني تلبسه بشيء منها وإنما يبدأ به لكونه قدوة ، وللمداومة على الهجران ، فهو كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب ٣٣ / ١] وقوله سبحانه : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف ٧ / ١٤٢] فمثل هذا الخطاب للنبي يراد به الأمر بالدوام والمتابعة ، واستمرار تجنب الفساد.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي لا تمنن على أصحابك وغيرهم بتبليغ الوحي ، مستكثرا ذلك عليهم ، أو إذا أعطيت أحدا عطية ، فأعطها لوجه الله ، ولا تمنّ


بعطيتك على الناس ، أو لا تضعف أن تستكثر من الخير ، فإن (تَمْنُنْ) في كلام العرب تضعف.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزوجل ، فإنك حمّلت أمرا عظيما ، ستحاربك العرب عليه والعجم ، فاصبر عليه لله. واصبر أيضا على طاعة الله وعبادته. وبعد إرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، أبان الله تعالى وعيد الأشقياء ، فقال :

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي اصبر على أذاهم ، فأمامهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم ، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية للبعث من القبور ، فوقت النقر يومئذ يوم شديد جدا على الكفار ، غير سهل عليهم.

أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة والإمام أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف أنعم ، وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر ، فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ملاطفة في الخطاب ولين في الكلام من الله ؛ إذ ناداه ربه بحاله وعبّر عنه بصفته.

٢ ـ أمر الله نبيه بتخويف أهل مكة وغيرهم من الناس قاطبة ، وبتحذيرهم العذاب إن لم يسلموا.


٣ ـ ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنذار إلا لحكمة بالغة ، ومهمات عظيمة ، لا يجوز له الإخلال بها.

أولها ـ تعظيم الله ووصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد ، كما يقول عبدة الأوثان.

ثانيها ـ تطهير الثياب من النجاسة المادية أو الحكمية ، وتطهير النفس من المعاصي المؤدية إلى العذاب ، وتجميلها بمحاسن الأخلاق.

ثالثها ـ هجر الأوثان والمآثم التي هي سبب العذاب ، ويراد بذلك الأمر بالمداومة على ذلك الهجران.

رابعها ـ عدم الامتنان على الله بالأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعل ، وإنما الواجب الصبر على ذلك لوجه الله تعالى ، متقربا إليه ، غير ممتنّ به عليه ، وعدم الامتنان على الناس بتعليم أمور الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام ، وبالنبوة لأخذ أجر يستكثر به ماله. وقال أكثر المفسرين : المعنى : ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه ، حتى تكون عطاياه لأجل الله عزوجل ، لا لأجل طلب الدنيا. وهذا سمة أهل الجود والكرم.

خامسها ـ الصبر على أداء الفرائض والعبادات وإيذاء الناس بسبب تبليغ الدين. والخلاصة : أن الله تعالى وضع أساسين لنجاح دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد استكمال العقل وتحرره من الشرك ، واستكمال النفس بالخلق الكامل ، وهما : الجود والصبر.

٤ ـ هدد الله الكفار الأشقياء بأهوال يوم القيامة ، فإنه إذا نفخ إسرافيل في الصور ـ وهو كهيئة البوق ـ النفخة الثانية ، كان ذلك اليوم يوما شديدا على كل من كفر بالله وبأنبيائه ، غير سهل ولا هيّن عليهم ، فإنهم دائما يواجهون صعابا أشد ، بخلاف المؤمنين الذين يتجهون دائما إلى ما هو الأخف ، حتى يدخلوا الجنة


برحمة الله تعالى. وقد فهم ابن عباس من قوله تعالى : (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) كون ذلك اليوم يسيرا على المؤمن ، وهذا حجة لمن قال بدليل الخطاب أنه حجّة.

تهديد زعماء الشرك

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

الإعراب :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَحِيداً) حال من هاء. (خَلَقْتُ) المحذوفة ، وتقديره: خلقته وحيدا.

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ لَوَّاحَةٌ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هي لواحة.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ) مبتدأ ، مبني على الفتح ، لتضمنه معنى الحرف ، وهو واو العطف ، وأصله : تسعة وعشر ، ولما حذفت الواو ؛ تضمنا معنى الحرف ، فوجب أن يبنيا ، وبنيا على الفتح ؛ لأنه أخف الحركات. و (عَلَيْها) خبره.

البلاغة :

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) إطناب بتكرار الجملة لزيادة التوبيخ. (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) الاستفهام للتهويل والتفخيم.


المفردات اللغوية :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) دعني واتركني وحدي وإياه ، فإني أكفيكه. (مَمْدُوداً) مبسوطا كثيرا ، فقد كان للوليد الزرع والضرع والتجارة. (شُهُوداً) حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم ولقائهم ، لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش ، استغناء بنعمته ، ويشهدون المحافل وتسمع شهادتهم. قيل : كان له عشرة بنين أو أكثر ، كلهم رجال ، فأسلم منهم ثلاثة : خالد وعمار وهشام. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) بسطت له الرياسة والجاه العريض ، حتى لقب : ريحانة قريش ، والوحيد ، أي باستحقاق الرياسة والتقدّم.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) يطمع في الزيادة على ما أوتيه. (كَلَّا) كلمة ردع وزجر ، أي لا أزيده على ذلك. (عَنِيداً) معاندا لها ومكابرا. (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) سأكلفه وأحمله عذابا شاقا صعبا لا يطاق ، وهو مثل لما يلقى من الشدائد. (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) تعليل للوعيد ، أي تأمل في القرآن ، وهيأ الأمر في نفسه. (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تعجب من تقديره استهزاء به ، أي لعنه الله كيف توصل إلى ما تريد قريش. (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تكرير للمبالغة ، و (ثُمَ) للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى. (ثُمَّ نَظَرَ) في وجوه قومه أو فيما يقدح به فيه.

(ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ عَبَسَ) قطّب جبهته بين الحاجبين ، (وَبَسَرَ) كلح وجهه وتغير ، فهو أشد من العبوس. (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الإيمان. (وَاسْتَكْبَرَ) تكبر عن اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقالَ) الفاء للدلالة على سرعة الحكم من غير تفكر. (إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن. (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي يروى ويتعلم. (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) كالتأكيد للجملة الأولى ، أي (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ).

(سَأُصْلِيهِ) أدخله. (سَقَرُ) جهنم. (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) تعظيم لشأنها. (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى على شيء يلقى فيها ، ولا تدعه حتى تهلكه. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة لعظمها وهولها ، أو مسوّدة لأعالي الجلد ، والبشر على هذا جمع بشرة : وهي ظاهر الجلد.

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(ذَرْنِي ..) أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه ، فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا


لك مالا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا ، لتتعرض لما قبله ، قال : لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له ، وأنك كاره له ، فقال : وماذا أقول؟ فوالله ، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، وو الله إن لقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكر فيه ، فقال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يأثره عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً).

نزول الآية (٣٠):

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) : أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء : أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خزنة جهنم ، فجاء ، فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل عليه ساعتئذ : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ).

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى عن كون يوم القيامة عسيرا غير يسير على الكافرين ، هدد الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشرك ، وسلّى نبيه بقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ، وهو كقوله في المزمّل ، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ ..) [١١] ثم عدد تعالى نعمه على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة ، وكفره بها ، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر يؤثر.

التفسير والبيان :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي دعني أنا والذي خلقته حال كونه وحيدا


في بطن أمه ، لا مال له ولا ولد ، أو دعني وحدي معه ، فإني أكفيك في الانتقام منه.

وأجمع المفسرون على أن المراد به هنا الوليد بن المغيرة.

وهذا توعد وتهديد لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا ، فكفر بأنعم الله ، وبدلها كفرا ، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها ، وجعلها من قول البشر. ثم عدد الله تعالى تلك النعم ، فقال :

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي وجعلت له مالا واسعا كثيرا ، وقد كان الوليد مشهورا بكثرة المال ، من الزروع والمواشي والتجارات في مكة وما بينها وبين الطائف. وجعلت له أيضا بنين حضورا معه بمكة ، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في البلاد لطلب الرزق ، لكثرة مال أبيهم. قيل : كان له عشرة بنين أو ثلاثة عشر ولدا كلهم من الرجال فكان يسمى ريحانة قريش ، والوحيد ، لأنه وحيد متميز في قومه بالرياسة والجاه.

وكذلك بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش ، ومكّنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك.

ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك ، مما يدعو إلى التعجب. وقوله : (ثُمَ) هنا معناه التعجب ، كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام ٦ / ١] فمعنى (ثُمَ) هنا للإنكار والتعجب.

وهذا إنكار عليه لشدة حرصه على الدنيا ، فرد الله تعالى عليه بقوله : (كَلَّا ، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي لا أزيده ، فإنه كان لآيات القرآن معاندا لها ، كافرا بما أنزلناه منها على رسولنا ، بعد العلم بصدقها.


وهذا دليل على أنه كان كافرا كفر عناد ، فهو في أعماق نفسه يقرّ بكون آي القرآن من عند الله ، ولكنه ينكر ذلك بلسانه إرضاء لقومه ، لذا استحق العقاب الآتي :

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه وأحمّله مشقة من العذاب ، لا راحة فيه ، كمن يتكلف صعود أعالي الجبال الشاهقة الوعرة. والإرهاق : أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل الذي لا يطيقه.

وقيل : الصعود : جبل في النار ، روى ابن أبي حاتم والبزار وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال : «هو جبل في النار ، من نار ، يكلف أن يصعده ، فإذا وضع يده ذابت ، وإذا رفعها عادت ، فإذا وضع رجله ذابت ، وإذا رفعها عادت». ورواه الترمذي بلفظ : «الصعود : جبل من نار يتصعّد فيه سبعين خريفا ، ثم يهوي كذلك فيه أبدا». وقال فيه : حديث غريب. ثم حكى تعالى أحواله وكيفية اتخاذ قراره وكيفية عناده ، فقال :

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي إنه فكر في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي القرآن العظيم ، وهيّأ الكلام في نفسه ما يقول ، وتروى ماذا يصف به القرآن حين سئل عنه ، ففكر ماذا يختلق من المقال ، فلعن وعذّب على أيّ حال قدّر ما قدر من الكلام ، وأكد ذلك قائلا : ثم لعن وعذب ، وأتى ب (ثُمَ) للدلالة على أن الدعاء عليه في المرة الثانية أبلغ وآكد من الأولى.

وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه ، واستحقاقه مضاعفة العذاب. ثم وصفه بأحوال ظاهرة للناس فقال :

(ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي ثم أعاد النظر والتروي والتأمل في الطعن


بالقرآن ، ثم قطّب وجهه لما لم يجد مطعنا يطعن به القرآن ، وكلح وجهه وتغير وأظهر الكراهة ، ثم أعرض عن الإيمان ، وانصرف عن الحق ، وتكبر عن الانقياد للقرآن ، فقال : ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى ، نقله محمّد عن غيره ممن قبله ، وحكاه ورواه عنهم ، فليس بكلام الله ، بل هو كلام البشر أو الإنس.

وهذا دليل على أنه كان مناقضا فيما اختلقه لقناعته الذاتية ، فقد كان بقلبه مصدقا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه أنكره عنادا.

روى العوفي عن ابن عباس قال : دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة ، فسأله عن القرآن ، فلما أخبره ، خرج على قريش ، فقال : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة ، فوالله ما هو بشعر ، ولا بسحر ، ولا بهذي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله ، فلما سمع بذلك النفر من قريش ، ائتمروا ، وقالوا : والله لئن صبأ الوليد ، لتصبو قريش ، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام ، قال : أنا والله أكفيكم شأنه ، فانطلق ، حتى دخل عليه بيته ، فقال للوليد : ألم تر إلى قومك ، قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال : ألست أكثرهم مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل : يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه فقال الوليد : أقد تحدّث به عشيرتي!! فلا ، والله لا أقرب ابن أبي قحافة ، ولا عمر ، ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله إلا سحر يؤثر ، فأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ـ إلى قوله ـ (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ).

ومما يدل على أن كفره كفر عناد : ما ذكر سابقا أن الوليد مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقرأ : حم السجدة ، فرجع وقال لبني مخزوم : والله لقد سمعت آنفا من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى.


وقال قتادة : زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال الرجل ، فإذا هو ليس بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه يعلو وما يعلى عليه ، وما أشك أنه سحر ، فأنزل الله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) الآية.

ولا ريب أن من عرف هذا القدر ، ثم زعم أن القرآن سحر ، فإنه يكون معاندا ، وكان منكرا للتوحيد والنبوة والبعث.

ثم ذكر الله تعالى ما يستحقه من عقاب على موقفه هذا ، فقال : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي سأدخله النار ، وسأغمره فيها من جميع جهاته ، وسقر : من أسماء النار ، ثم هوّل أمرها وفخّم شأنها بقوله : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) المعنى : أيّ شيء أعلمك ما سقر؟ لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا ، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا ، فلا تتركهم ، بل تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبدا ، كما قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ، بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء ٤ / ٥٦].

وتلوح جهنم للناس حتى يرونها عيانا ، كما قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٩١]. أو تلفح الجلد لفحة ، فتدعه أسود من الليل ، وعلى النار زبانية وخزنة أشداء ، عظيمو الخلق ، غليظو الخلق ، عددهم من الملائكة تسعة عشر ، والمميز في رأي الأكثرين : شخصا ، وقيل : صنفا.

والبشر : إما الإنس من أهل النار ، وهو رأي الأكثرين ، أو جمع بشرة : وهي جلدة الإنسان الظاهرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يحتاج نجاح الدعوة إلى الله إلى عناصر بشرية إيجابية ، وحماية إلهية ، أما


العناصر الإيجابية فهي ما تحدثت عنه فاتحة السورة من تطهير النفس والعقل من الشرك والوثنية ، والاتصاف بأمثل الصفات الخلقية ، والاستعانة بالجود والصبر.

وجاء هنا دور الوقاية والحفظ الإلهي ، فالله سبحانه وقى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى المشركين ، وسلاه وهدد أعظم زعماء الشرك وهو الوليد بن المغيرة ليكون عبرة لغيره.

فقد كان الوليد موقنا بقلبه ، مقتنعا بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه كذب بلسانه إرضاء لهوى نفسه في حب الزعامة والرياسة والجاه ، وإيثارا للانضمام إلى صف أهل الشرك في مكة.

فبالرغم من أن الحق سبحانه أمده بالمال والبنين ، وجعله متقلبا في أعطاف الرفاه والنعيم ، ثم طمع في زيادة المال والولد ، فإنه قابل النعمة بالجحود ، والشكر بالكفران ، فكذب بالقرآن ، ولم يؤمن بأنه كلام الله تعالى ، ووصفه بأنه سحر مروي من كلام البشر المتناقل ، وعاند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به.

فحجب الله عنه زيادة النعمة ؛ لأنها لا تكون مع الكفر بالمنعم بها ، وتوعده وهدده بدخوله نار جهنم ، ذاكرا أسباب ذلك ، وهي كيفية عناده ، فإنه فكر في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، وهيأ الكلام في نفسه ، ونظر بأي شيء يرد الحق ويدفعه ، وقطّب بين عينيه في وجوه المؤمنين ، وكلح وجهه وتغير لونه ، وولّى معرضا عن الحق والإيمان ، وتعظم عن أن يؤمن ، فقال : ما هذا الذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا سحر يأثره ويحكيه عن غيره ، وما هذا إلا كلام المخلوقين ، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر.

فلعن كيف فكر ، وعذب على ما قدّر ، ثم لعن لعنا بعد لعن ، واستحق الإدخال في جهنم التي وصفها الله وبالغ في وصفها بقوله ، وما أعلمك أي شيء هي؟ فهي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته ، ثم تعاود إحراقهم إلى


الأبد ، تلوح للبشر عيانا ، وتلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل ، ولا يستطيع أحد الفرار منها ، فإن عليها خزنة تسعة عشر من الملائكة ، يلقون فيها أهلها وهم مالك وثمانية عشر ملكا آخرون بأعيانهم. قال الثعلبي : ولا ينكر هذا ، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق ، كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. والأكثرون على أن المراد تسعة عشر شخصا من الملائكة ، وقيل : صنفا.

قال القرطبي : والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء ، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها ؛ كما قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» (١).

الحكمة في اختيار عدد خزنة جهنم التسعة عشر

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٨٠


الإعراب :

(إِلَّا فِتْنَةً) مفعول ثان لجعلنا.

(ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً مَثَلاً) : حال.

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ) منصوب من خمسة أوجه :

١ ـ أن يكون منصوبا على المصدر ، أي إنذارا للبشر ، فيكون نذير بمعنى إنذار ، كنكير بمعنى إنكار.

٢ ـ أن يكون منصوبا على الحال من (لَإِحْدَى الْكُبَرِ) وذكّر ؛ لأنها بمعنى العذاب ، أو لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث.

٣ ـ أن يكون منصوبا على الحال من ضمير (قُمْ) في أول السورة ، وتقديره : قم نذيرا للبشر.

٤ ـ أن يكون منصوبا بتقدير فعل ، أي صيرها الله نذيرا ، أي ذات إنذار ، على النسب.

٥ ـ أن يكون منصوبا بتقدير : أعني ، أي أعني نذيرا للبشر.

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ إِذْ) : ظرف زمان ماض ، (أَدْبَرَ) : انقضى ، يراد به التعبير عن إدبار الليل فيما مضى ، وقرئ «إذا» ظرف زمان مستقبل دبر : تولى. قال الفراء : دبر وأدبر بمعنى واحد ، كقبل وأقبل.

البلاغة :

(يُضِلُ وَيَهْدِي) بينهما طباق ، وكذا بين (يَتَقَدَّمَ) و (يَتَأَخَّرَ).

(كَلَّا وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) سجع مرصع.

المفردات اللغوية :

(إِلَّا مَلائِكَةً) أي فلا يمكن مقاومتهم ولا يطاقون كما يتوهمون. (عِدَّتَهُمْ) عددهم المذكور. (فِتْنَةً) سبب ضلال واستبعاد. (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بأن يقولوا : لم كانوا تسعة عشر. (لِيَسْتَيْقِنَ) ليستبين. (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى ، أي ليتبينوا صدق القرآن وصدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما رأوا أن عددهم تسعة عشر موافق لما في كتابهم. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) يزداد المؤمنون من أهل الكتاب وغيرهم تصديقا لموافقة ما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما في كتابهم.

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) من غيرهم في عدد الملائكة. (مَرَضٌ)


شك أو نفاق ، وهم منافقو المدينة. (وَالْكافِرُونَ) بمكة. (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي ماذا أراد الله بهذا العدد حديثا. (كَذلِكَ يُضِلُّ ..) أي مثل ذلك المذكور من إضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه ، يضل الكافرين ، ويهدي المؤمنين. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي ما يعلم الملائكة في قوتهم وأعوانهم ، وكذلك جموع خلقه على ما هم عليه. (وَما هِيَ) أي سقر. (ذِكْرى) تذكرة وموعظة للناس.

(كَلَّا) ردع لمن أنكرها ، أي حقا. (أَدْبَرَ) مضى وولّى. (أَسْفَرَ) ظهر وأضاء. (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أي إن سقر وصفتها لإحدى الدواهي أو البلايا العظام. (أَنْ يَتَقَدَّمَ) إلى الخير أو الجنة بالإيمان. (أَوْ يَتَأَخَّرَ) إلى الشر أو النار بالكفر.

سبب النزول :

نزول الآية (٣١):

(وَما جَعَلْنا ..) : قال ابن إسحاق وقتادة : قال أبو جهل يوما : يا معشر قريش ، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر ، وأنتم أكثر الناس عددا ، أفيعجز مائة رجل منكم عن رجل منهم ، فأنزل الله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) الآية.

وقال السّدّي : لما نزلت (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد بن كلدة الجمحي ـ وكان شديد البطش (١) ـ : يا معشر قريش لا يهولنّكم التسعة عشر ، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة ، وبمنكبي الأيسر التسعة ، فأنزل الله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً).

وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم

__________________

(١) كان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة ، لينزعوه من تحت قدميه ، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه. قال السهيلي : وهو الذي دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مصارعته ، وقال : إن صرعتني آمنت بك ، فصرعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا ، فلم يؤمن. وصارع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب.


اثنين ، فنزل قوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي لم يجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.

التفسير والبيان :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي لم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا ، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم ، ومن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟ وهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأعظمهم بطشا ، وأقومهم بحق الله والغضب له تعالى.

وهذا رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة ، فقال أبو جهل كما تقدم : يا معشر قريش ، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي شديدي الخلق ، لا يقاومون ولا يغالبون.

ثم أبان الله تعالى حكمة اختيار عدد الخزنة ، فقال :

(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر ، اختبارا منا للناس ، وسبب محنة وإضلال للكافرين ، حتى قالوا ما قالوا ، ليتضاعف عذابهم ، ويكثر غضب الله عليهم. فقوله : (فِتْنَةً) معناه سبب فتنة ، أي جعلنا تلك العدة وهي تسعة عشر سببا لفتنة الكفار ، وفتنتهم : هو كونهم أظهروا مقاومتهم والطمع في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء ، فإنهم مكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي إنه تعالى جعل عدة الزبانية تسعة عشر ليتيقن ويعلم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أن هذا الرسول حق ، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية المنزلة على الأنبياء


قبله ، فإن فيها أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر ، ولكي يزداد إيمان المؤمنين وتصديقهم حين يرون موافقة أهل الكتاب لهم ، ويشهدون صدق إخبار نبيهم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم أكد الله تعالى ذلك بنفي الشبهة والشك ، فقال :

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحة وحقيقة هذا العدد ، وفي دين الله. والمراد بذلك في الواقع التعريض بالمتشككين المنافقين.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ : ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي وليقول المنافقون الذي في قلوبهم شك وريب في صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكافرون من أهل مكة وغيرهم : أي شيء أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟ وما الحكمة في ذكر هذا هنا؟ ومرادهم إنكار أصل هذا الكلام ، وأنه ليس من عند الله (١).

ثم ذكر الله تعالى سنته في الإضلال والهداية لمن كان من أهلهما ، فقال :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل من يريد بخذلانه عن إصابة الحق ، لسوء استعداده ، وتوجيه نفسه لمواقع الضلال والسوء ، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد ، بتوفيقه إلى الصواب ، فمثل إضلال أبي جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم ، يضل الله عن الهداية والإيمان أي يخزي ويعمي من أراد إضلاله ، ويهدي أي يرشد من أراد هدايته ، كإرشاد أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وليس معنى الإضلال والهداية أنه تعالى يجبر كل فريق على الضلالة والهدى ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٧٧


فذلك مناف للعدل الإلهي ، ولحكمة التشريع الذي جاء بالتكليف ، وإنما لإرادة المكلف واختياره دور أساسي في الاستجابة للتكليف ، ولاستحقاق المؤاخذة والثواب ، ولا يقع شيء قهرا عن الله ، وإنما بمراده ، فإن خالف العبد عصى المأمور به ، والمحبوب لربه ، ولم يخرج عن مشيئة الله ، فالله قهر الأشياء كلها ، ولكنه أرخى الزمام في أشياء لاختيار الإنسان.

ثم أكد تعالى أن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها ، فقال :

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي إن خزنة النار ، وإن كانوا تسعة عشر ، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.

وهذا رد على المشركين الذين استقلوا ذلك العدد ، ملخصه : هبوا أن هؤلاء تسعة عشر ، إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله ، فلا يعلم جنود الله إلا هو لفرط كثرتهم ، ولا يعسر عليه تتميم الخزنة إلى عشرين وأزيد ، ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها.

(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي وما سقر وصفتها ، وما ذكر عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للناس ، ليعلموا كمال قدرة الله ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.

ثم وجّه الله تعالى تحذيرا لمن أنكر جهنم ، فقال :

(كَلَّا ، وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس ، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة ، وأقسم بالقمر المتلألئ ، وبالليل إذا مضى وولى ذاهبا ، وبالصبح إذا ظهر وتبين وأضاء ، إن سقر (جهنم) لإحدى الدواهي العظام والبلايا الكبار ؛ لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله على العصيان.


ثم عيّن الله تعالى المنذرين ، فقال :

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي إن جهنم إنذار لمن أراد أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو الجنة بالإيمان ، أو يتأخر عن ذلك إلى الشر والمعصية أو النار بالكفر. ونظير الآية قوله سبحانه : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) [الحجر ١٥ / ٢٤] أي المبادرين إلى الخير ، والمتأخرين عنه إلى الشر.

قال ابن عباس : هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوزي بثواب لا ينقطع ، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عوقب عقابا لا ينقطع(١).

وقال الحسن البصري : هذا وعيد وتهديد ، وإن خرج مخرج الخبر ، كقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف ١٨ / ٢٩] (٢).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن خزنة جهنم وزبانيتها التسعة عشر هم من الملائكة الذين لا يغالبون لا من الرجال الذين يمكن مقاومتهم بالتجمع عليهم.

٢ ـ إن إيراد عدد التسعة عشر من الملائكة صار سببا لفتنة الكفار ، أي اختبارهم ، قال الزمخشري : ما جعل افتتانهم بالعدة سببا ، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا ، وذلك أن المراد بقوله : (ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ، لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر ، فوضع فتنة للذين كفروا موضع

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ٨٦

(٢) المرجع والمكان السابق.


تسعة عشر ؛ لأن حال هذه العدّة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ ، ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدتهم عدة ، من شأنها أن يفتتن بها ، لأجل استيقان المؤمنين ، وحيرة الكافرين (١).

٣ ـ إن ذكر هذا العدد أدى إلى زيادة يقين الذين أعطوا التوراة والإنجيل بصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم ، وأدى أيضا إلى زيادة إيمان المؤمنين بذلك ؛ لأنهم كلما صدّقوا بما في كتاب الله آمنوا ، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم ، وإلى نفي الشك من الذين أعطوا الكتاب والمصدّقين من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر ، وأدى أيضا إلى أن الذين في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة الذين سيظهرون بعد الهجرة ، والكافرين من اليهود والنصارى قالوا : ماذا أراد الله بعدد خزنة جهنم مثلا غريبا؟ والقصد من هذا التساؤل الصادر منهم استبعاد أن يكون هذا من عند الله وإنكار كونه من الله ، والمعنى : أيّ شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟

٤ ـ قوله عزوجل : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) دليل على أن الإيمان يزيد وينقص ، أي يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وهو رأي الأكثرين. وأما الذين يقولون بأن حقيقة الإيمان لا تقبل الزيادة والنقصان فيحملون الآية على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه. وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم ، فمن باب التوكيد ، كأنه قيل : حصل لهم يقين جازم ، بحيث لا يحصل بعده شك وريب ، فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدّمة من مقدمات الدليل ، فيعود له الشك. وفيه أيضا تعريض

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٨٨


بحال من عداهم ، كأنه قيل : وليخالف حالهم حال المرتابين من أهل الزيغ والكفران.

٥ ـ قوله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لا يراد به خلافا لظاهره أن الإضلال والهداية أمران مبتدآن من الله عزوجل ، ولا أنه تعالى يجبر فريقا على الضلالة ، وفريقا على الهدى ، وإنما المراد به تقرير سنة من سنن الله سبحانه في عباده وهي ربط الأسباب التي خلقها بالمسببات ، فمن ضل فإنما يضل بنفسه واختياره ، ومن اهتدى فإنما يهتدي بنفسه وإرادته واختياره ، ثم يزيد الله الضالين ضلالا ، فيبعدهم عن معالم الهداية ، لسوء اختيارهم واستعدادهم وعنادهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا بتوفيقهم إلى سبل الهداية والرشاد ، لحسن اختيارهم. ولا يقع شيء في الكون قهرا عن الله تعالى ، وإنما بإرادته ومشيئته ، وإن كان مخالفا لمأموره ومحبوبه.

٦ ـ قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) إشارة إلى أن ما عليه عدد الخزنة لا يعلم حكمته ولا حكمة ما عليه كل جند من العدد إلى الأبد إلا الله سبحانه. وهو جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر!

أخرج الترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطّت (١) السماء ، وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا».

٧ ـ ردع الله تعالى بقوله : (كَلَّا) كل من ينكر وجود جهنم وصفتها ، وأنها إحدى البلايا العظام والدواهي الكبار ، وأنها إنذار دائم للبشر.

٨ ـ أقسم الله تعالى بالقمر والليل والصبح تشريفا لها ، وتنبيها على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته وقوام الوجود بإيجادها ، والمقسم عليه : أن

__________________

(١) أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد ثقلها ، حتى أطت ؛ ظهر لها صوت وحنين ، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة ، وإن لم يكن ثمّ أطيط ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها.


سقر (جهنم) إحدى الدواهي ، وأنها نذير للبشر أو ذات إنذار ، على معنى النّسب ، قال الحسن البصري : والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها.

٩ ـ النار نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الخير والطاعة ، أو يتأخر إلى الشر والمعصية.

الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرمين

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

الإعراب :

(فِي جَنَّاتٍ) حال من أصحاب اليمين.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) ما : في موضع رفع مبتدأ ، و (لَهُمْ) : خبره ، و (مُعْرِضِينَ) : حال من ضمير (لَهُمْ) والعامل : ما في (لَهُمْ) من معنى الفعل. و (عَنِ التَّذْكِرَةِ) ، و (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) : في موضع الحال بعد حال ، أي مشابهين حمرا مستنفرة ، أي نافرة.


البلاغة :

(يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) إيجاز بحذف بعض الجمل ، أي قائلين لهم : ما سلككم في سقر؟ لفهم المخاطبين.

(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) خاص بعد عام وهو الخوض بالباطل مع الخائفين ، لتعظيم هذا الذنب.

(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) إلخ ، سجع مرصّع.

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) تشبيه تمثيلي ؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.

المفردات اللغوية :

(رَهِينَةٌ) مرتهنة عند الله بعملها ، إما خلّصها وإما أوبقها ، وليست رهينة تأنيث رهين ، لتأنيث النفس ؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل (رهين) لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هو اسم بمعنى الرهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهين ، والمعنى : كل نفس رهن بكسبها عند الله ، غير مفكوك ، ولا يرتهن الله تعالى أحدا من أهل الجنة.

(أَصْحابَ الْيَمِينِ) هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ، فلا يرتهنون بذنوبهم ، وقد فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم. (جَنَّاتٍ) بساتين لا تدرك حقيقتها. (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا : أو يسألون غيرهم عن حالهم. (ما سَلَكَكُمْ) أدخلكم. (سَقَرَ) جهنم. (نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) نخالط أهل الباطل في باطلهم. (بِيَوْمِ الدِّينِ) يوم البعث والجزاء. (الْيَقِينُ) الموت. (الشَّافِعِينَ) من الملائكة والأنبياء والصالحين. (مُعْرِضِينَ) عن التذكير ، والمعنى : أي شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ.

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) مثل الحمير الوحشية التي هربت من الأسد أشد الهرب ، شبههم في إعراضهم ونفورهم عن استماع الذكر بحمر. (صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي قراطيس منشورة مبسوطة ، تنشر وتقرأ ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كلامنا بكتاب من السماء فيه من الله إلى فلان : أن اتبع محمدا.

(كَلَّا) ردع لهم عن اقتراحهم الآيات. (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) فلذلك أعرضوا عن التذكرة ، لا لامتناع إيتاء الصحف. (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) ردع لهم عن إعراضهم ، فإن القرآن تذكرة كافية. (فَمَنْ شاءَ) أن يذكره. (ذَكَرَهُ) قرأه ، فاتعظ به. (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) حقيق بأن يتقى عقابه. (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) حقيق بأن يغفر لمن اتقاه.


سبب النزول :

نزول الآية (٥٢):

(بَلْ يُرِيدُ ..) : أخرج ابن المنذر عن السّدّي قال : قالوا : لئن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا ، فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار ، فنزلت : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً).

وفي رواية : أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد ، لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء ، عنوانه ، من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، ونؤمر فيه باتباعك (١).

المناسبة :

بعد أن توعد الله الكفار والعصاة ، وهددهم بأن النار إحدى الدواهي والبلايا العظام ، وأنذرهم بأن النجاة مربوطة بالعمل الصالح ، أكد المعنى المتقدم بأنه ليس لكل امرئ إلا جزاء عمله ، وأخبر أن أصحاب اليمين ناجون ، وأن المجرمين معذبون ، ووصف الحوار الدائر بين الفريقين لمعرفة سبب دخول الفريق الثاني نار جهنم.

التفسير والبيان :

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مأخوذة بعملها ، مرتهنة به ، معتقلة بما قدمته من عمل يوم القيامة ، فإن كان خيرا خلّصها وأعتقها ، وإن كان شرّا أوبقها.

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) أي باستثناء المؤمنين الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم ، بل يطلق سراحهم بما أحسنوا من أعمالهم.

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ٣٠ / ٢١٢ ، البحر المحيط : ٨ / ٣٨١


(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي وهم في جنات يتنعمون ، ويسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين ، في النيران ، قائلين لهم : ما الذي أدخلكم في جهنم؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل.

فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة :

(قالُوا : لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي لم نكن في الدنيا نؤدي الصلاة المفروضة ، فلم نعبد ربنا مع المؤمنين الذين يصلون ، ولم نحسن إلى خلقه من جنسنا ، فلم نطعم الفقير المحتاج ما يجب إعطاؤه ، وكنا نخالط أهل الباطل في باطلهم ، كلما غوى غاو غوينا معه ، أو نتكلم فيما لا نعلم ، أو نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قولهم : كاذب ، مجنون ، ساحر ، شاعر ، وكنا بعد ذلك كله مكذبين بالقيامة ، حتى أتانا الموت ومقدماته ، فاليقين : الموت ، كما في قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر ١٥ / ٩٩].

فهذه أسباب أربعة لازمتنا طوال حياتنا الدنيوية : ترك الصلاة ، والزكاة ، والخوض في باطل الكلام ، وإنكار يوم البعث والحساب والجزاء. وفي ترك الأمرين الأوليين دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي فمن كان متصفا بمثل هذه الصفات ، فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه ، والمعنى : لا شفاعة لهم من أحد من الملائكة والأنبياء والصالحين ؛ لأن مصيرهم إلى النار حتما.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي ما الذي حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن المشتمل على التذكرة الكبرى ، والموعظة العظمى؟ أو فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك في مكة معرضون عما تدعوهم إليه ، وتذكّرهم به؟ كأنهم في نفورهم عن الحق وإعراضهم عنه من


حمر الوحش إذا فرت من رماة يرمونها ، أو من أسد يريد افتراسها.

فالقسورة : إما جماعة الرماة الذين يتصيدونها ، أو الأسد ، وهو رأي جمهور اللغويين ، سمي بذلك لأنه يقهر السباع ، قال ابن عباس : الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت ، كذلك هؤلاء المشركون ، إذا رأوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هربوا منه ، كما يهرب الحمار من الأسد. وهذا التشبيه في غاية التقبيح والتهجين لحالهم ، وإعلامهم بأنهم قوم بله.

والآية دليل على أن إعراضهم عن الحق والإيمان بغير سبب ظاهر مقنع ، ولا استعداد للتفاهم والاقتناع ، ففي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة ، ونداء عليهم بالبلادة والغباوة ، وعدم التأثر من مواعظ القرآن ، بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجبا لنفرتهم (١).

ثم أتى بصورة من عنادهم ، فقال تعالى :

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب ، كما أنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم قد بلغوا من العناد حدا تجاوزوا به أقدارهم ، كما جاء في آية أخرى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤]. وقال تعالى أيضا واصفا مطلبهم : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء ١٧ / ٩٣].

قال المفسرون : إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله : أنك رسول الله. وكل هذا ونحوه مما حكة وتعنت ومكابرة ، فهم لن يؤمنوا ، كما قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي

__________________

(١) غرائب القرآن للنيسابوري : ٢٨ / ١٠٠


قِرْطاسٍ ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام ٦/٧].

ثم أبان الله تعالى سبب تعنتهم ، فقال :

(كَلَّا ، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي زجر لهم وردع على اقتراحهم إنزال تلك الصحف المفتوحة المبسوطة ، فلا يؤتونها ، وهم في الحقيقة منكرون البعث والحساب ؛ لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات.

وكفاهم القرآن ، كما قال تعالى :

(كَلَّا ، إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي حقا إن القرآن تذكرة ، ويكفيهم القرآن ، فإنه خير تذكرة وموعظة ، فمن أراد أن يذكره ويتعظ به ولا يهمله ، اتعظ ، فهو موعظة بليغة ، وتذكر شاف.

ثم بيّن السبب الأصلي في عدم التذكرة ، وذكر ما ينبئ عن كمال الهيبة ، وهو صفة القهر الذي بسببه يجب أن يتقى ، وصفة اللطف الذي به يجب أن يرجى :

(وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي لا يقع شيء في هذا الكون قهرا عن الله ، فما يذكرون القرآن ويتعظون به إلا بمشيئة الله ، الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته ، والحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب ، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة ، فيغفر ذنوبهم.

روى أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر هذه الآية ، فقال : «يقول لكم ربكم جلّت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتّقى ، فلا يجعل معي إله غيري ، ومن اتّقى أن يجعل معي إلها غيري ، فأنا أغفر له» أو «كان أهلا أن أغفر له».


وفسر الزمخشري قوله تعالى : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) بقوله : يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ، ويلجئهم إليه ؛ لأنه مطبوع على قلوبهم ، معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا (١). وهذه طريقته على مبدأ المعتزلة في مثل هذه الآيات ، وهو أن الله ترك الإيمان والكفر لاختيار العبد الذي هو مناط الثواب والعقاب ، ولكن مشيئة الله قادرة على جعل العبد مؤمنا بالقهر والإلجاء أو الإكراه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كل نفس مرتهنة يوم القيامة بكسبها ، مأخوذة بعملها ، إما خلّصها وإما أوبقها ، إلا أهل اليمين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. قال الحسن البصري وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ، ليسوا بمرتهنين ؛ لأنهم أدّوا ما كان عليهم.

٢ ـ يكون أهل اليمين يوم القيامة في جنات (بساتين) يسألون عن المشركين : ما الذي أدخلكم في سقر؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل (٢).

فيذكر أهل النار أربعة أسباب هي : ترك الصلاة ، وترك الصدقة ، ومخالطة أهل الباطل في باطلهم ، كإيذاء أهل الحق ، وكل ما لا يعني المسلم ، والتكذيب بيوم القيامة ، يوم الجزاء والحكم ، إلى أن أتانا الموت. قال العلماء : يجب أن يحمل هذان الأمران الأوليان على الصلاة والصدقة الواجبتين ، وإلا لم يجز العذاب على تركهما. وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٩١

(٢) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢١١


الشريعة ، كما يعذبون بأصولها ، كالتكذيب بيوم الدين ، وإنما أخر ؛ لأنه أعظم الذنوب ، أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل ، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد ٩٠ / ١٧] (١).

٣ ـ وبخ الله تعالى أهل مكة وأمثالهم بسبب إعراضهم وتوليهم عما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التذكرة والعظة بالقرآن الكريم. قال مقاتل : الإعراض عن القرآن من وجهين :

أحدهما ـ الجحود والإنكار.

والثاني ـ ترك العمل بما فيه.

٤ ـ شبه الله سبحانه المعرضين بتشبيه مهين مستقبح ، وهو تشبيههم بالحمر الوحشية إذا نفرت وهربت من الأسد. قال ابن عباس : المراد الحمر الوحشية ، شبههم تعالى بالحمر مذمّة وتهجينا لهم (٢). وقال أيضا كما تقدم : الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد وهربت ، كذلك هؤلاء المشركون إذا رأوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هربوا منه ، كما يهرب الحمار من الأسد. والقسورة : هي الأسد بلسان الحبشة (٣).

٥ ـ طلب المشركون (أبو جهل وجماعة من قريش) أن يعطوا كتبا مفتوحة لكل واحد منهم ، مكتوب فيها : إني قد أرسلت إليكم محمدا. وقال ابن عباس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقا ، فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار (٤).

__________________

(١) غرائب القرآن للنيسابوري : ٢٨ / ٩٩

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٣٨٠

(٣) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢١٢

(٤) تفسير القرطبي : ١٩ / ٩٠


٦ ـ لم يجب الله تعالى مطلبهم لتعنتهم ومما حكتهم وإنما زجرهم عن اقتراح الآيات ، وأبان صفة القرآن والسبب الأصلي في عدم التذكرة ، بقوله : (كَلَّا) أي ليس يكون ذلك ، ولا أعطيهم ما يتمنون ؛ لأنهم لا يخافون الآخرة ؛ اغترارا بالدنيا ، وحقا إن القرآن تذكرة ، فمن شاء اتعظ به ؛ ولكن ما يتعظون ولا يقدرون على الاتعاظ والتذكرة إلا بمشيئة الله ذلك لهم ، والله الجدير بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه ، فيؤمنوا ويطيعوا ، والحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القيامة

مكيّة ، وهي أربعون آية :

تسميتها :

سميت سورة القيامة ؛ لافتتاحها بالقسم الإلهي بها ، لتعظيمها ، وإثبات حدوثها والرد على منكريها.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق هذه السورة بما قبلها بسبب اشتمالها على حديث الآخرة ، ففي السورة المتقدمة قال تعالى مبينا السبب الأصلي في عدم التذكرة وهو إنكار البعث : (كَلَّا ، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) [٥٣] ثم ذكر في هذه السورة دليل إثبات البعث ، ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ، ثم ذكر ما قبل ذلك من مقدمة وهي خروج الروح من البدن ، ثم ما قبل ذلك من مبدأ الخلق ، فذكرت الأحوال الثلاثة في هذه السورة على عكس ما هي في الواقع(١).

ما اشتملت عليه السورة :

عنيت هذه السورة كغيرها من السور المكية بأحد أصول الدين والإيمان وهو إثبات البعث والجزاء ، وما سبقه من مقدمات الموت وبدء الخلق.

__________________

(١) تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي : ص ٩٠


افتتحت السورة بالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة جميعا معا ، لإثبات البعث والمعاد ، والرد على من أنكر بعث الأجساد : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ..) [الآيات ١ ـ ٦].

ثم ذكر تعالى بعض علامات ذلك اليوم ، وأخبر عن حتميته ووقوعه ، فهو حق لا ريب فيه : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ..) [الآيات ٧ ـ ١٥].

ثم نهى الله تعالى نبيه عن محاولة حفظ آيات القرآن أثناء الوحي ، وطمأنه بأنه سبحانه متكفل بتثبيته في قلبه وحفظه ووعيه وبيانه بنحو شامل تام : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ..) [الآيات ١٦ ـ ١٩].

وأردف ذلك بالتنديد بمحبة الدنيا وإيثارها على الآخرة ، وبالإخبار عن انقسام الناس في الآخرة قسمين : أهل السعادة وأهل الشقاوة ، فالأولون تتلألأ وجوههم بأنوار الإيمان ، ويتمتعون بالنظر إلى ربهم دون حصر وتحديد وبلا كيفية ، والآخرون تكون وجوههم سوداء مظلمة عابسة ، تنتظر نزول داهية عظمي بها : (كَلَّا ، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ..) [الآيات ٢٠ ـ ٢٥].

ثم ذكرت شدائد الاحتضار والموت وأهواله وكروبه ومضايقاته : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ..) [الآيات ٢٦ ـ ٣٥].

وختمت السورة بإيراد الدليل الحسي الواقعي على إثبات الحشر والمعاد وهو بدء الخلق ، والإعادة أهون من البداءة : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ..) [الآيات ٣٦ ـ ٤٠].


إثبات البعث والمعاد وعلائمه

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

الإعراب :

(لا أُقْسِمُ .. لا) : إما زائدة ، أو ليست زائدة ، بل هي ردّ لكلام مقدم في سورة أخرى ، وقرئ : لأقسم وقد جاء حذف النون مع وجود اللام ، والأكثر في كلامهم ثبوت النون مع اللام.

(بَلى قادِرِينَ) حال ، وعامله محذوف لدلالة الكلام عليه ، وتقديره : بلى نجمعها قادرين.

(لِيَفْجُرَ) اللام زائدة ، والفعل منصوب بأن مضمرة مقدرة.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ .. أَيَّانَ) : مبني على الفتح ، لتضمنه معنى حرف الاستفهام ؛ لأنه بمعنى (متى) الذي بني لتضمنه حرف الاستفهام ، وبني بالفتحة ؛ لأنها أخف الحركات.

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) إنما قال (جُمِعَ) بالتذكير إما لأن تأنيث الشمس غير حقيقي ، فيجوز حينئذ تذكير الفعل الذي أسند إليها ، وإما لأنه جمع بين المذكر والمؤنث ، فغلّب جانب المذكر على جانب المؤنث ، كقولهم : قام أخواك هند وزيد.

(كَلَّا ، لا وَزَرَ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ كَلَّا) : حذف خبرها ، أي لا وزر هناك ، أي لا ملجأ ، و (الْمُسْتَقَرُّ) : مبتدأ ، و (إِلى رَبِّكَ) : خبره.


(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أنث (بَصِيرَةٌ) إما لأن الهاء فيه للمبالغة ، كعلّامة ونسّابة وراوية ، أو لحمل الإنسان على النفس ، فلذلك أنث (بَصِيرَةٌ) أو لحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، أي عين بصيرة.

البلاغة :

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) استفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) الاستفهام بغرض استبعاد الأمر وإنكاره.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) توافق الفواصل المسمى بالسجع المرصّع.

(قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(لا أُقْسِمُ) أي أقسم ، ولا : زائدة في الموضعين ، وتزيد العرب كلمة (لا) للتأكيد ، وذلك أن المقسم عليه إذا كان منتفيا ، جاز الإتيان ب (لا) قبل القسم ، لتأكيد النفي ، والمقسم عليه هنا : هو إثبات المعاد ، والرد على الجهلة المعاندين القائلين بعدم بعث الأجساد. ويرى قوم أن (لا) ردّ لكلام سابق متقدم وجواب له ، فالعرب لما أنكروا البعث ، قيل لهم : ليس الأمر كما زعمتم ، وأقسم أن البعث حق لا ريب فيه. وقرئ لأقسم بغير ألف بعد اللام ، وجواب القسم محذوف ، أي لتبعثن ، دل عليه ما بعده : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ). (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) هي التي تلوم نفسها ، وإن اجتهدت في الطاعة والإحسان ، والمراد بهذا القسم تعظيم يوم القيامة ، والتنويه بالنفس الطامحة إلى الدرجة الأرقى. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) المراد به الجنس ، وإسناد الفعل إليهم ؛ لأن بعضهم يحسب ، أو المراد من كان سبب النزول ، وهو عدي بن أبي ربيعة ، سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمر القيامة ، فأخبره به ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك ، أو يجمع الله هذه العظام؟ (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) للبعث والإحياء بعد تفرقها.

(بَلى) نجمعها. (قادِرِينَ) مع جمعها. (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أصابعه ، أي نعيد عظامها كما كانت ، ونضم بعضها إلى بعض كما هي ، مع صغرها ولطافتها ، فكيف بكبار العظام؟ (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ليدوم على فجوره في مستقبل الزمان. (أَيَّانَ) متى ، وهو سؤال استهزاء وتكذيب. (بَرِقَ الْبَصَرُ) دهش وتحير لما رأى ما كان يكذبه ، وقرئ برق بفتح الراء. (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أظلم وذهب ضوءه. (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ذهب ضوءهما في يوم القيامة ، ولا يتنافى ذلك مع الخسوف ، فإنه مستعار للمحاق.


(الْمَفَرُّ) الفرار. (كَلَّا) ردع عن طلب الفرار. (لا وَزَرَ) لا ملجأ يتحصن به. (الْمُسْتَقَرُّ) أي استقرار أمر الخلائق ، فيحاسبون ويجازون. (يُنَبَّؤُا) يخبر. (بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بما قدم من عمله وبما أخر منه ، فلم يعلمه ، أي أول عمله وآخره. (بَصِيرَةٌ) حجة شاهدة ناطقة بعمله فلا بد من جزائه. (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به وهو جمع معذرة على غير قياس ، كالمناكير جمع منكر ، فقياسه معاذر ، وذلك أولى.

سبب النزول :

نزول الآية (٣ ـ ٤):

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ..) : روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ، ولم أومن به ، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها؟! فنزلت.

وقيل : نزلت في أبي جهل كان يقول : أيزعم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها ، فيعيدها خلقا جديدا (١)؟!

التفسير والبيان :

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أي أقسم بيوم القيامة ، وأقسم بالنفس اللوّامة وهي التي تلوم صاحبها على تقصيره ، لتبعثن ، وقد حذف جواب القسم ، لدلالة ما بعده عليه ، وهو قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ). وهي نفس المؤمن ، تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم على الشر لم تعمله ، وعلى الخير لماذا لم تستكثر منه.

والقسم بشيء لتعظيمه وتفخيمه ، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، وفي الإقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه ، فإن

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، تفسير القرطبي : ١٩ / ٦٣


الإقسام بالمعدوم لا يعقل معناه ، وفي ضم النفس اللوّامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة : هو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدّها (١). والصحيح أنه أقسم بهما جميعا معا ، كما قال قتادة رحمه‌الله (٢) ، أي أنه سبحانه سيجمع العظام ، ثم يحيي كل إنسان ، ليحاسبه ويجزيه.

قال الحسن البصري : إن المؤمن ، والله ما نراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ، ما أردت بأكلتي ، ما أردت بحديث نفسي ، وإن الفاجر يمضي قدما وقدما ما يعاتب نفسه. وقال أيضا : ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه ، يوم القيامة.

وقال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال : يقسم ربك بما شاء ممن خلقه.

وقال الفرّاء : ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها ؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا ، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.

والخلاصة : أن الأشبه بظاهر التنزيل كما قال ابن كثير : أن النفس اللوّامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي أيظن أي إنسان أننا لن نقدر على جمع عظامه ، بعد أن صارت رفاتا ، فنعيدها خلقا جديدا ، وذلك حسبان باطل ، فإنا نجمعها ، وبلى سنجمعها قادرين عند البعث على إعادة تسوية أكثر العظام تفرقا ، وأدقها أجزاء ، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها. وقوله : (قادِرِينَ) تأكيد القدرة ؛ لأنه

__________________

(١) غرائب القرآن : ٢٨ / ١٠٥

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٤٧


يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبّه عليها بقوله : (أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت ، كان على ضم العظام الكبار أقدر. وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر ؛ لأنه آخر ما يتم به خلقه ، فذكره يدل على تمام الأصبع ، وتمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها.

وقيل : معنى التسوية : جعلها شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ، بحيث لا يقدر على البطش. والمراد أنه قادر على ردّ العظام والمفاصل إلى هيئتها الأولى ، وعلى ضد ذلك.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) هذا إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر ، وهو أن الإنسان يريد في الحقيقة أن يدوم على فجوره في مستقبل أيامه ، فيقدّم الذنب ، ويؤخر التوبة. قال سعيد بن جبير : يقدّم الذنب ، ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله.

والخلاصة : أن إنكار البعث يتولد من شبهتين : الأولى ـ بأن يستبعد الإنسان اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها ، والثانية ـ من التهوّر ، بأن ينكر المعاد بالهوى واسترسال الطبع والميل إلى الفجور.

فأجاب تعالى عن الشبهة الأولى بقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ ..) وأنكر على صاحب الشبهة الثانية بقوله : بل يريد أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب ، لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة ، كما قال تعالى :

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي يسأل سؤال استبعاد لوقوعه واستهزاء وتعنتا : متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن بالبعث ارتكب أعظم الآثام ، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل.


ونظير الآية قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك ٦٧ / ٢٥] وقوله سبحانه : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٨ ـ ٢٩].

ثم ذكر الله تعالى ثلاث علامات للقيامة ، فقال :

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ : أَيْنَ الْمَفَرُّ؟) أي فإذا دهش البصر وتحير من شدة هول البعث ويوم القيامة ، وذهب ضوء القمر كله دون أن يعود كما يعود بعد الخسوف في الدنيا ، وذهب وتبدد ضوء الشمس والقمر جميعا ، فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار ، أي أن معالم الكون كلها تتغير ، وحينئذ يقول ابن آدم إذا عاين هذه الأهوال يوم القيامة : هل من ملجأ أو موئل ، وأين المفر من الله سبحانه ومن حسابه وعذابه؟!

والمراد بالإنسان : الجنس ، وهو ابن آدم ، فيشمل المؤمن والكافر لهول ما يشاهد منها. وقيل : المراد الكافر خاصة دون المؤمن ، لثقة المؤمن ببشرى ربه.

فيجيب الله تعالى سلفا في الدنيا بقوله :

(كَلَّا لا وَزَرَ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه ، فلا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله يعصمكم يومئذ ، وإنما إلى الله ربك المرجع والمصير ، في الجنة أو في النار ، كما في قوله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم ٥٣ / ٤٢] فهناك استقرار العباد على الدوام. ولا بد من تقدير مضاف في قوله : (إِلى رَبِّكَ) أي إلى حكم ربك ، أو إلى جنته أو ناره.

ثم ربط الله تعالى نوع المصير بالعمل في الدنيا ، فقال :


(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يخبر الإنسان في يوم القيامة أثناء العرض والحساب بجميع أعماله التي قدمها من خير أو شر ، قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ٤٩].

ثم بيّن أن الإنسان عالم بأعماله ، فقال :

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي بل إن الإنسان شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ، فهو حجة بيّنة على أعماله ، ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء ١٧ / ١٤] والآية إضراب عن الإخبار بأعمال الإنسان إلى مرتبة أوضح وأعرف.

وقال ابن عباس وغيره : إن المراد سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه.

والمعاذير في رأي الواحدي والزمخشري : اسم جمع للمعذرة ، كالمناكير للمنكر ، ولو كان جمعا لقيل : معاذر ، بغير ياء. والمراد بقوله : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) : ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه ، وقيل : ولو جادل عنها ، فهو بصير عليها ، وقيل : معاذيره : حجته ، وهذا قول مجاهد ، قال ابن كثير : والصحيح قول مجاهد وأصحابه ، كقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣] وكقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة ٥٨ / ١٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ أقسم الله سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه ، كما أنه أقسم أيضا بنفس


المؤمن الطامحة دائما إلى زيادة الخير والطاعة ، والإقلال من الشر والمعصية تنويها بشأنها وإخلاصها. والمناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة : أن المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفس اللوامة ، من السعادة والشقاوة. والقسم بهذه الأشياء عند المحققين قسم بربها وخالقها في الحقيقة ، فكأنه قيل : أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة.

٢ ـ المقسم عليه هو وقوع البعث حتما لا شك فيه ، قال الزجاج : أقسم الله بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ، ليجمعن العظام للبعث. وأكد الله تعالى قسمه بأنه القادر على أن يعيد السّلاميات على صغرها ، ويؤلف بينها حتى تستوي (١).

٣ ـ إن شأن الكافر المكذب بما أمامه من البعث والحساب أن يرتكب أعظم الآثام ، ويقتحم المعاصي دون حسبان للنتائج والمخاطر ، ودون تقدير ، لعواقب الأمور والتبعة (المسؤولية) الناجمة عنها.

٤ ـ تتبدل معالم الكون يوم القيامة ، وتظهر علامات دالة عليه ، منها حيرة البصر ودهشته من الأهوال ، وذهاب ضوء القمر دون عودة ، وذهاب ضوء الشمس والقمر معا ، أي جمع الله ، بينهما في ذهاب ضوئهما ، فلا ضوء للشمس ، كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.

٥ ـ إذا ظهرت علائم القيامة حار الإنسان ، وقال : أين المهرب؟ أين المفر؟ ويحتمل ذلك وجهين : أحدهما ـ أين المفر من الله استحياء منه؟ والثاني ـ أين المفر من جهنم حذرا منها؟

٦ ـ لا مفر من الله ، ولا ملجأ من النار ، ولا حصن من العذاب ، وإنما

__________________

(١) قال تعالى في آخر السورة : فَخَلَقَ فَسَوَّى أي أوجد منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة ، فسواه شخصا مستقلا.


المرجع والمصير والمنتهى إلى حكم الله ، وصيرورة كل إنسان إما إلى الجنة وإما إلى النار.

٧ ـ يخبر ابن آدم يوم القيامة عند وزن الأعمال ، برّا كان أو فاجرا ، بما أسلف من عمل سيئ أو صالح أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده ، أو بأول عمله وآخره ، أو بما قدم من المعصية ، وأخّر من الطاعة. إن هذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال ، لا عند الموت ؛ لما أخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما علّمه ونشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورّثه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته».

وأخرجه أبو نعيم الحافظ عن أنس بن مالك بلفظ : «سبع يجري أجرهنّ للعبد بعد موته وهو في قبره : من علّم علما ، أو أجرى نهرا ، أو حفر بئرا ، أو غرس نخلا ، أو بنى مسجدا ، أو ورّث مصحفا ، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته».

وفي الصحيح عند مسلم : «من سنّ في الإسلام سنة حسنة ، كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

٨ ـ الإنسان خير شاهد على نفسه ، فهو حجة بيّنة على أعماله ، حتى ولو أنكر واعتذر ، فقال : لم أفعل شيئا ، فإن عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فلو اعتذر وجادل عن نفسه ، فعليه شاهد يكذّب عذره.


٩ ـ استنبط القاضي ابن العربي من قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ..) ست مسائل وهي بإيجاز (١) :

الأولى ـ فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه ؛ لأنها بشهادة منه عليه ، قال الله سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور ٢٤ / ٢٤].

الثانية ـ لا يصح الإقرار إلا من مكلف (بالغ عاقل) لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه ؛ لأن الحجر يسقط قوله إذا كان لحق نفسه ، فإن كان لحق غيره كالمريض ، كان منه ساقط ، ومنه جائز ، كما هو مقرر في الفقه.

الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) معناه : ولو اعتذر لم يقبل منه ، وقد اختلف العلماء في جواز الرجوع عن الإقرار في الحدود الخالصة لله تعالى : فقال أئمة المذاهب الأربعة على المشهور عند المالكية : يقبل رجوعه بعد الإقرار ، ويسقط الحد ، وهو الصحيح عملا بما رواه الأئمة ، منهم البخاري ومسلم : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ المقرّ بالزنى مرارا أربعا ، كل مرة يعرض عنه ، ولما شهد على نفسه أربع مرات ، دعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أبك جنون؟ قال : لا ، قال : أحصنت؟ قال : نعم. وقال لأصحابه ـ فيما رواه أبو داود وغيره ـ حينما هرب ـ أي ماعز ـ فاتبعوه : «هلا تركتموه ، لعله أن يتوب ، فيتوب الله عليه».

وروي عن مالك أنه قال : لا يعذر المقر إلا إذا رجع لشبهة ، عملا بحديث : «لا عذر لمن أقرّ» (٢).

الرابعة ـ قال ثعلب : معنى قوله تعالى : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أنه إذا اعتذر يوم القيامة وأنكر الشرك ، لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ويختم على فمه ،

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٨٧٨ ـ ١٨٨٢

(٢) بداية المجتهد : ٢ / ٤٣٠ ، الدردير والدسوقي : ٤ / ٣١٨


فتشهد عليه جوارحه ، ويقال له : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء ١٧ / ١٤].

الخامسة ـ الآية في الحر المالك لأمر نفسه. أما العبد : فإن أقر بموجب عقوبة من القتل فما دونه ، نفذ عليه. وقال محمد بن الحسن : لا يقبل ذلك منه ؛ لأن بدنه مستغرق لحق السيد ، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه ، ودليل الرأي الأول قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت : «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإن من يبد لنا صفحته ، نقم عليه الحدّ».

السادسة ـ قيل : إن معنى قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أي عليه من يبصر أعماله ، ويحصيها ، وهم الكرام الكاتبون. والراجح ما ذكر من المعنى المتقدم.

حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حفظ القرآن وحال الناس في الآخرة

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

الإعراب :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال ابن الأنباري رحمه‌الله تعالى : في هذه الآية دليل على إثبات الرؤية ؛ لأن النظر إذا قرن بالوجه ، وعدّي بحرف الجر ، دل على أنه بمعنى النظر بالبصر ، فيقال : نظرت الرجل : إذا انتظرته ، ونظرت إليه : إذا أبصرته.

وكلمة (وُجُوهٌ) مبتدأ ، وابتدأ بالنكرة ؛ لأنها تخصصت بقوله (يَوْمَئِذٍ) و (ناضِرَةٌ) خبر (وُجُوهٌ).


البلاغة :

(بَنانَهُ بَيانَهُ) جناس ناقص ؛ لاختلاف بعض الحروف.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ .. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ .. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ..) مقابلة بين نضارة وجوه المؤمنين ، وكلاحة وجوه المجرمين.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) مجاز مرسل في رأي الزمخشري ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، فقال : الوجه عبارة عن الجملة ، قال البيضاوي : وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر ، وإن المستعمل بمعناه لا يعدّى بإلى لذا قال النيسابوري في غرائب القرآن : ٢٨ / ١١٠ : الأولى أن يراد بالوجوه : العيون ، فيكون من إطلاق الكل على الجزء ، لا عكسه.

المفردات اللغوية :

(لا تُحَرِّكْ بِهِ) لا تحرك يا محمد بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه ، أي قبل أن يتم وحيه. (لِتَعْجَلَ بِهِ) لتأخذه على عجل ، مخافة أن يتفلت أو يضيع منك. (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك. (وَقُرْآنَهُ) وإثبات قراءته في لسانك. (فَإِذا قَرَأْناهُ) بلسان جبريل عليك. (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) استمع قراءته ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمع ثم يقرؤه ، ويكرر قراءته حتى يرسخ في ذهنه. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) تفسير ما أشكل فيه من المعاني ، وبيان ما فيه من الحلال والحرام. وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

(كَلَّا) ردع للإنسان عن الاغترار بالدنيا العاجلة. (الْعاجِلَةَ) دار الدنيا وما فيها. (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) تتركون العمل والاستعداد لها ، وهو إشعار بأن بني آدم مطبوعون على الاستعجال. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة. (ناضِرَةٌ) حسنة مضيئة ، متهللة بشرا بما تراه من النعيم. (ناظِرَةٌ) رائية عيانا تنظر إلى ربها بلا حجاب. وقال مجاهد : تنتظر الثواب من ربها. (باسِرَةٌ) شديدة العبوس ، كالحة متغيرة مسودّة. (تَظُنُ) توقن وتتوقع. (فاقِرَةٌ) داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ..) : أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أنزل الوحي ، يحرّك به لسانه ، يريد أن يحفظه ، فأنزل الله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الآية.


المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أن منكر القيامة والبعث معرض عن آيات الله تعالى ومعجزاته ، وأنه قاصر شهواته على الفجور ، غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلّم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها ، رجاء قبوله إياها ، ليظهر بذلك تباين حال من يرغب في تحصيل آيات الله ، ومن يرغب عنها ، فتلك الآيات تضمنت حال الإعراض عن آيات الله ، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها ، وبضدها تتميز الأشياء (١).

ثم ذكر تعالى سبب إنكار البعث وهو حب الإنسان الدنيا العاجلة ، وترك الآخرة ، ووبخ أهله ، ثم أوضح تعالى انقسام الناس في الآخرة إلى فريقين : فريق المؤمنين المستمتعين بالنعيم وبرؤية الله عزوجل ، وفريق المشركين الذين يترقبون نزول الدواهي العظام من العذاب بهم.

التفسير والبيان :

علّم الله عزوجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيفية تلقي الوحي من الملك جبريل ، فقال : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرصا منه على القرآن الموحى به إليه ، يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك في قراءته ، ويحرك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه ، قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي ، حرصا على أن يحفظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية.

أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي ، لتأخذه على عجل ، مخافة أن يتفلت منك كما قال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ، وَقُلْ : رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه ٢٠ / ١١٤].

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٣٨٨


إن علينا جمعه في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء ، وعلينا إثبات قراءته في لسانك على الوجه القويم.

فإذا أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل ، فاستمع له وأنصت ، ثم اقرأه كما أقرأك ، وكرره حتى يرسخ في ذهنك.

ثم إننا بعد حفظه وتلاوته نفسر لك ما فيه من الحلال والحرام ، ونبين ونوضح لك ما أشكل منه ، ونلهمك معناه كما أردنا وشرعنا.

وهكذا اشتملت الآيات الأربع على أحوال ثلاث : هي جمعه في صدره ، وحفظه ، في الآية الأولى والثانية ، وتلاوته وتيسير أدائه كما أنزل ، في الآية الثالثة ، وتفسيره وبيانه وإيضاح معناه في الآية الرابعة.

ثم انتقل البيان إلى حال الإنسان السابق المنكر البعث ، فوبخه وقرعه على إنكاره البعث ، فقال تعالى مبينا سبب الإنكار :

(كَلَّا ، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي أردعكم عما تقولون أيها المشركون من إنكار البعث ، فإنه يحملكم على التكذيب بيوم القيامة ، ومخالفة ما أنزله الله عزوجل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم ، محبتكم واهتمامكم بدار الدنيا العاجلة ، وتشاغلكم عن الآخرة وترككم العمل لها. ولفظ (كَلَّا) عند سائر المفسرين : معناه حقا ، أي حقا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ، والمعنى أنهم يحبون الدنيا ويعملون لها ، ويتركون الآخرة ويعرضون عنها.

وقال الزمخشري : كلا : ردع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عادة العجلة ، وإنكار لها عليه ، وحث على الأناة والتؤدة ، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) كأنه قال : بل أنتم يا بني آدم ؛ لأنكم خلقتم من عجل ، وطبعتم عليه ،


تعجلون في كل شيء ، ومن ثم تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة (١).

ثم أبان الله تعالى حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة ، فقال :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي وجوه المؤمنين في الجنة حسنة بهية مشرقة مسرورة ، ترى ربها عيانا ، ووجوه الفجار في النار عابسة كالحة كئيبة ، توقن أن سينزل بها داهية عظيمة تكسر فقار الظهر. قال الأزهري عن مجاهد الذي فسر النظر بالانتظار : قد أخطأ مجاهد ؛ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى انتظر ، فإن قول القائل : نظرت إلى فلان ، ليس إلا رؤية عين ، فإذا أرادوا الانتظار ، قالوا : نظرته ، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا.

قال الزمخشري في قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : تنظر إلى ربها خاصة ، لا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، فإنه يدل على معنى الاختصاص ، ثم رجح أن الآية تفيد معنى التوقع والرجاء (٢).

وهذا منه بسبب كونه من المعتزلة الذين يقولون : لا يدل ظاهر الآية على رؤية الله تعالى ؛ لأن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس اسما للرؤية ، بل لمقدمة الرؤية ، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي ، التماسا لرؤيته ، فيكون نظر العين مقدمة للرؤية ، وتأولوا قوله تعالى : (ناظِرَةٌ) بمعنى أن أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله.

وأجاب الرازي بأننا نسلم أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة .. إلخ لكنا نقول : لما تعذر حمله على حقيقته ، وجب حمله على مسببه وهو الرؤية ، إطلاقا لاسم السبب على المسبب ، وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار ؛ لأن

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤

(٢) المرجع السابق : ص ٢٩٤


تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ، ولا تعلق بينه وبين الانتظار ، فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار.

ثم أجاب عن قولهم : النظر جاء بمعنى الانتظار بأن هذا كثير في القرآن ، ولكنه لم يقرن البتة بحرف (إلى) كقوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد ٥٧ / ١٣] وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف ٧ / ٥٣] وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) [البقرة ٢ / ٢١٠]. وإذا فرضنا أن النظر المعدّى بحرف (إلى) جاء في اللغة بمعنى الانتظار ، لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه ؛ لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع ، كانت حاصلة في الدنيا ، فلا بد وأن يحصل في الآخرة شيء أزيد منه ، حتى يحسن ذكره ، في معرض الترغيب في الآخرة (١). وقال النيسابوري : وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى الرؤية فهو المطلوب ، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي ، فهذا في حقه تعالى محال ؛ لأنه منزه عن الجهة والمكان ، فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية ، وهذا مجاز مشهور (٢).

وأيدت الأحاديث المتواترة ما فهمه الجمهور من دلالة الآية على رؤية الله تعالى ، فقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها كما قال ابن كثير ، ثم أورد الأحاديث وقال : وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام ، وهداة الأنام (٣).

وكذلك قال الشوكاني في تفسيره العظيم (فتح القدير) بعد أن فسر آية (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بقوله : أي إلى خالقها ، ومالك أمرها ، ناظرة ، أي تنظر

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ٣٠ / ٢٢٦ ـ ٢٢٩

(٢) غرائب القرآن : ٢٨ / ١١١

(٣) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٥٠


إليه : هكذا تواترت الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة ، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.

روى البخاري في صحيحة : «إنكم سترون ربكم عيانا» ، وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : «أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال : هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ، ليس دونهما سحاب؟ قالوا : لا ، قال : إنكم ترون ربكم كذلك».

وفي الصحيحين أيضا عن جرير قال : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القمر ليلة البدر ، فقال : «إنكم ترون ربكم ، كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها ، فافعلوا».

وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من ذهب ، آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه ، في جنة عدن».

وأخرج مسلم عن صهيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال : يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم فيقولون : ألم تبيّض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة ، وتنجّنا من النار! قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم ، وهي الزيادة» ثم تلا هذه الآية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية [يونس ١٠ / ٢٦].

وقال الألوسي : والذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب : ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى


وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام ، ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين ، لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين (١).

ونظير الآية قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس ٨٠ / ٣٨ ـ ٤٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تكفل الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أمور لحفظ القرآن إلى الأبد : وهي جمعه في صدره عليه الصلاة والسلام ، وتلاوته ، وتفسيره لبيان ما فيه من الحدود والحلال والحرام ، والوعد والوعيد ، والمشكلات.

٢ ـ إن التعجل مذموم مطلقا ، ولو في أمور الدين.

٣ ـ إن سبب إنكار المشركين البعث والحساب والجزاء هو إيثار الدار الدنيا والحياة العاجلة فيها ، وترك الاستعداد للآخرة والعمل لها ، فعلى المؤمن أن يفر من غير الله إلى الله ، ولا يستعين في كل أموره إلا به ، على نقيض الكافر الذي كان يفر من الله إلى غيره حين قال : (أين المفر؟).

٤ ـ ثبوت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الآخرة ، وحرمان الفجار منها ، كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم تلا هذه الآية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). وقد تقدم في

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٩ / ١٤٤


حديث مسلم عن صهيب أن رؤية الله عزوجل هي الزيادة في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦].

٥ ـ تكون وجوه الكفار الفجار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة ، مستيقنة أنه سيحل بها عذاب شديد ، وداهية عظيمة.

تفريط الكافر في الدنيا وإثبات البعث

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

الإعراب :

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) أي لم يصدق ولم يصل ، كقوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد ٩٠ / ١١] أي لم يقتحم.

(يَتَمَطَّى) أصله يتمطط ، أي يتبختر ، من المطيطاء (اسم مشية بني مخزوم في الجاهلية ومنهم أبو جهل) فأبدل من الطاء الآخرة ياء ، مثل تظنيت وأصله : تظننت ، وأمليت وأصله : أمللت ، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَوْلى) مبتدأ ، و (لَكَ) خبره ، وحذف خبر (أَوْلى) الثاني ، اجتزاء بخبر الأول عنها وأولى : ممنوع من الصرف للتعريف ووزن الفعل ؛ لأنه على وزن أفعل.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَنْ يُتْرَكَ) سد مسد مفعولي. (يَحْسَبُ) و (سُدىً) حال من ضمير (يُتْرَكَ). (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْأُنْثى الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) منصوبان على البدل من (الزَّوْجَيْنِ).


(عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) لا يجوز إدغام إحدى الياءين في الأخرى ؛ لأن الحركة في الثانية حركة إعراب.

البلاغة :

(بَلَغَتِ التَّراقِيَ) كناية عن الإشفاء على الموت.

(صَدَّقَ) و (كَذَّبَ) بينهما طباق.

(السَّاقُ) و (الْمَساقُ) بينهما جناس ناقص. وقوله : (الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) كناية عن الشدة.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) استفهام إنكاري بقصد التوبيخ والتقريع.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) التفات من الغيبة إلى المخاطب ، تقبيحا له وتهجينا.

المفردات اللغوية :

(التَّراقِيَ) جمع ترقوة ، وهي العظام الممتدة من الحلق إلى العاتق من اليمين والشمال ، والمراد بلوغ الروح أعالي الصدر. (وَقِيلَ) قال من حوله. (مَنْ راقٍ) من يرقيه وينجيه ليشفى ، كما يرقى المريض ، والمراد : هل من طبيب يشفي حينئذ. (الْفِراقُ) فراق الدنيا ، أي وظن المحتضر أن الذي نزل به فراق الدنيا وأحبائها

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت إحدى ساقيه بالأخرى عند الموت ، فلا يقدر تحريكها. (الْمَساقُ) السوق إلى الله تعالى وحكمه ، والمعنى : إذا بلغت الروح الحلقوم ، تساق إلى حكم ربها. (فَلا صَدَّقَ) الإنسان. (وَلا صَلَّى) أي لم يصدق بما يجب تصديقه ، أو لم يصدّق ماله ، بأن لم يؤد زكاته ، ولم يؤد صلاته المفروضة. (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة. (يَتَمَطَّى) يتبختر في مشيته إعجابا وافتخارا.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي ويل لك ، من الولي ، فهو دعاء وأصله : أولاك الله ما تكرهه أو أولى لك الهلاك ، واللام مزيدة كما في (رَدِفَ لَكُمْ) أو للتبيين. وقوله : (فَأَوْلى) أي فهو أولى بك من غيرك. (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) تأكيد ، أي أنت أولى بتكرر ذلك عليك مرة بعد أخرى ، وتكون الجملة الأولى دعاء عليه بقرب المكروه ، والثانية دعاء عليه بأن يكون أقرب إلى المكروه من غيره.

(أَيَحْسَبُ) يظن. (سُدىً) مهملا لا يكلف بالشرائع ولا يجازى ولا يحاسب ، وهو


يتضمن تكرار إنكاره للحشر ؛ لأن جزاء التكليف قد لا يكون إلا في الآخرة ، وهذا دليل على إثبات البعث ؛ لأنه لا بد من الجزاء على الأعمال ، حتى لا يتساوى الطائع مع العاصي.

(نُطْفَةً) ماء قليلا ، وتجمع على نطف ونطاف. (يُمْنى) يصب في الرحم ، وقرئ : «تمنى». (ثُمَّ كانَ) المني. (عَلَقَةً) قطعة دم جامد. (فَخَلَقَ) أي أوجد الله تعالى منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة. (فَسَوَّى) أي فسوّاه شخصا مستقلا ، بأن قدّره وعدّله وعدل أعضاءه. (فَجَعَلَ مِنْهُ) من المني الذي صار علقة (قطعة دم) ثم مضغة (قطعة لحم). (الزَّوْجَيْنِ) الصنفين أو النوعين من البشر. (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) بأن يرزق النوعان تارة ، أو ينفرد أحدهما عن الآخر تارة ، وهو استدلال آخر بالإبداء على الإعادة والبعث. (أَلَيْسَ ذلِكَ) الفعال لهذه الأشياء. (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٤ ، ٣٥):

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ..) : أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت: (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر ٧٤ / ٣٠] قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر ، وأنتم الدّهم (العدد) والشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ، فأوحى الله تعالى إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي أبا جهل ، فيقول له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى).

وأخرج النسائي عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أشيء قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل نفسه ، أم أمره الله به؟ قال : بل قاله من قبل نفسه ، ثم أنزله الله.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى تعظيم أحوال الآخرة وهي القيامة العظمى ، ووصف ما فيها من أهوال ، وما عليه حال السعداء وحال الأشقياء ، بيّن أن الدنيا لا بد


لها من نهاية ووصول إلى تجرع مرارة الموت وهو القيامة الصغرى ؛ لأن الموت أول منزلة من منازل الآخرة ، فإذا لم يؤمن الكافر بأمر القيامة ، لا يمكنه أن يتخلص من الموت ، وتجرع آلامه ، وتحمل آفاته.

ثم استدل الله تعالى لإثبات البعث بأمرين :

الأول ـ أن العدل يقضي بأنه لا بد من الجزاء على الأعمال ، حتى لا يتساوى الطائع والعاصي ، وذلك لا يكون إلا في الآخرة.

الثاني ـ أنه تعالى كما قدر على بدء الخلق ، فهو قادر على الإعادة والبعث ، بل إن الإعادة أهون في تقدير البشر.

التفسير والبيان :

(كَلَّا ، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ، وَقِيلَ : مَنْ راقٍ ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ كَلَّا) إذا كانت رادعة ، فالمعنى : لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به ، بل صار ذلك عندك عيانا ، وإذا كانت بمعنى حقا ، فالمراد : حقا إذا انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك ، والتراقي : جمع ترقوة ، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق. والضمير في (بَلَغَتِ) للنفس لدلالة قرينة الحال أو المقال ، كما في قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [الواقعة ٥٦ / ٨٣].

والظاهر المعنى الأول ، قال الزجاج : (كَلَّا) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، كأنه قيل : لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة ، وعرفتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة ، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي به تنتهي العاجلة ، وتنتقلون إلى الآجلة دار الخلود.

وعلى هذا يكون المعنى العام : ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة ،


وتنبهوا إذا بلغت الروح أو النفس أعالي الصدر ، كناية عن الاحتضار وأهواله والموت ؛ وقال من حضر المحتضر : هل من يرقيه ويشفيه ، وهل من طبيب شاف؟ ولكن لن يغنوا عنه من قضاء الله شيئا ؛ وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.

وعبر عن اليقين بالظن ؛ لأن الروح ما دامت في البدن ، يطمع صاحبها في الحياة ، فلا يحصل له يقين الموت ، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة ، كما ذكر الرازي.

والآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه ، باق بعد موت البدن ؛ لأنه تعالى سمى الموت فراقا ، وهو يدل على أن الروح باقية ؛ فإن الفرق والوصال صفة ، والصفة تستدعي وجود الموصوف (١).

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت ساقه على ساقه عند نزول الموت به ، فلا يقدر على تحريكها ، فماتت رجلاه ، ويبست ساقاه ولم تحملاه ، وقد كان جوّالا عليهما ، واجتمع عليه أمران : الناس يجهّزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه.

ويصح أن يكون ذلك كناية عن الشدة ، كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم ٦٨ / ٤٢] والمراد : اتصلت شدة فراق الدنيا ، وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك ، بشدة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي تساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها ، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربك ، فتصير إما إلى جنة وإما إلى نار.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٣١


فقوله : (إِلى رَبِّكَ) أي إلى حكمه خاصة. و (الْمَساقُ) السوق ، فحكمه هو المسوق إليه. وقيل : السوق إلى الله لا إلى غيره ، فهو السائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار.

ثم أوضح الله تعالى كيفية عمل هذا المحتضر فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه وبالدنيا ، فقال :

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي لم يصدق بالرسالة النبوية ولا بالقرآن ، ولا صلى لربه الصلاة المطلوبة منه فرضا ، بل كذب بالرسول وبما جاء به ، وتولى عن الطاعة والإيمان ، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله جذلان أشرا بطرا ، يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك ، كسلانا لا همة له ولا عمل ، كما قال تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ ، انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين ٨٣ / ٣١].

لقد جمع بين ترك العقيدة أو أصول الدين في أنه ما صدق بالدين ، ولكن كذب به ، وبين إهمال فروع الدين في أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض ، وبين الإساءة لطبيعة الدنيا وسلوكها في أنه ذهب إلى أهله يتمطى ، ويتبختر ، ويختال في مشيته.

والآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة ، كما يستحقهما بترك الإيمان.

ثم هدد الله تعالى هذا الكافر وتوعده ودعا عليه بقوله :

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي وليك الويل ، ويتكرر عليك هذا الدعاء ، والمعنى : ويل لك وأهلكك الله ، وليتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى ، فأنت الجدير بهذا.

وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به ، المتبختر في مشيه ، يقصد


به أنه يحق لك أن تمشي هكذا ، وقد كفرت بخالقك وبارئك ، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد ، وهو كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ٤٤ / ٤٩] وقوله سبحانه : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً ، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات ٧٧ / ٤٦] وقوله عزوجل : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) [الزمر ٣٩ / ١٥] وقوله عز من قائل : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠].

قال قتادة والكلبي ومقاتل : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد أبي جهل ، ثم قال : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) توعده ، فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي ، ثم انسلّ ذاهبا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام. ولما كان يوم بدر أشرف على القوم فقال : لا يعبد الله بعد هذا اليوم ، فقتل إذ ذاك شرّ قتلة.

ثم أقام الله تعالى دليلين على صحة البعث لتأكيد ما جاء في أول السورة : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) :

الأول ـ (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي أيظن أن يترك الإنسان في الدنيا مهملا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يكلف ، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة ، فلا بد من الجزاء حتى لا يتساوى المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي ، واقتضت الحكمة الإلهية تأجيل الجزاء إلى عالم الآخرة ، وترك تعجيله ، ليتسنى وجود الفرصة المواتية الكافية في أثناء العمر والحياة للإيمان والصلاح ، كما قال تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه ٢٠ / ١٥]. وقال سبحانه : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨].


ونظير الآية : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١١٥].

الثاني ـ (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي أما كان ذلك الإنسان قطرة أو نطفة ضعيفة من مني يراق في الرحم ، ثم صار بعد ذلك علقة ، أي قطعة دم ، ثم مضغة أي قطعة لحم ، ثم شكّل ونفخ فيه الروح ، فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء ، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث ، كما كانت عليه في الدنيا؟ بلى ، فإن الإعادة أهون من الابتداء.

وقوله : (فَخَلَقَ) أي فقدّر بأن جعلها مضغة مخلّقة ، وقوله (فَسَوَّى) أي فعدّل أركانه وكمل نشأته ونفخ فيه الروح ، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان : الرجل والمرأة.

وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة ، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر ، والأمران سواء عليه.

روى ابن أبي حاتم وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : «سبحانك اللهم وبلى».

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه ، والحاكم وصححه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ منكم : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) [التين ٩٥ / ١] وانتهى إلى آخرها : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) [التين ٩٥ / ٨] فليقل : بلى ، وأنا على ذلكم من الشاهدين ، ومن قرأ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة ٧٥ / ١] فانتهى إلى قوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة ٧٥ / ٤٠] فليقل : بلى ، ومن قرأ المرسلات ، فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) [المرسلات ٧٧ / ٥٠] فليقل : آمنا بالله».


فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ ذكّر الله تعالى الناس قاطبة بشدة الحال وصعوبة الأمر عند نزول الموت ، فعند الاحتضار يجتمع على الإنسان أمران : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه ، ويجتمع عليه أيضا شيئان محزنان : فراق الدنيا والأهل والولد حين معاينة الملائكة ، واتصال شدة الدنيا بشدة أول الآخرة ، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه‌الله ، أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع على الآخرة.

٢ ـ يكون الشّوق في يوم القيامة إلى الخالق ، ويكون المرجع والمآب إلى حكم الله ، إما إلى الجنة وإما إلى النار.

٣ ـ يكون الكافر أولى وأجدر بالعذاب والهلاك لفساد العقيدة والعمل والخلق ، فلم يصدّق بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بالقرآن ولم يصلّ الصلاة المفروضة التي أمره الله بها ، وتجرد عن إنسانيته بالتكبر والتبختر ، افتخارا بالمال والولد ، واعتزازا بالقوة الجسدية أو الجاه ، لذا جاء التهديد بعد التهديد ، والوعيد بعد الوعيد في قوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فهو وعيد أربعة لأربعة ، أي وعيد بأربعة أنواع من العذاب لأربعة أنواع من الأمور : ترك الإيمان والصلاة وتكذيب الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، والتبختر.

٤ ـ أعاد الله تعالى في آخر السورة ما ذكر في أولها بقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) وقد ذكر هذا لإثبات الحشر والبعث والقيامة بدليلين :

الأول ـ لا بد في الحياة من التكليف لتنظيم الحياة وتهذيب الأنفس ودرء


المفاسد ، والتكليف لا يحسن ، ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة.

الثاني ـ الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة ، فمن قدر على بدء الخلق وإيجاد الإنسان ، فهو أقدر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الإنسان ، أو : الدّهر

مدنيّة وهي إحدى وثلاثون آية.

تسميتها :

سميت سورة الإنسان لافتتاحها بالتنويه بخلق الإنسان وإيجاده ، بعد أن لم يكن شيئا موجودا ، ثم صار خليفة في الأرض ، وخلق له جميع ما في الأرض من خيرات ومعادن وكنوز.

مناسبتها لما قبلها :

تتعلق السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ ذكر الله تعالى في آخر السورة السابقة مبدأ خلق الإنسان من نطفة ، ثم جعل منه الصنفين : الرجل والمرأة ، ثم ذكر في مطلع هذه السورة خلق آدم أبي البشر ، وجعله سميعا بصيرا ، ثم هدايته السبيل ، وما ترتب عليه من انقسام البشر إلى نوعين : شاكر وكفور.

٢ ـ أجمل في السورة المتقدمة وصف حال الجنة والنار ، ثم فصل أوصافهما في هذه السورة ، وأطنب في وصف الجنة.

٣ ـ ذكر سبحانه في السورة السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار في يوم القيامة ، وذكر في هذه السورة ما يلقاه الأبرار من النعيم.


ما اشتملت عليه السورة :

بالرغم من كون هذه السورة مدنية في قول الجمهور ، فإنها عنيت بالحديث عن أحوال الآخرة ، ولا سيما تنعم الأبرار في دار الخلد والنعيم ، أما من قال بأنها مكية فرأيه متفق مع موضوعها.

وقد افتتحت بالكلام عن مبدأ خلق الإنسان ، وتزويده بطاقات السمع والبصر ، وهدايته السبيل ، ثم انقسامه إلى فئتين : شاكر وكفور ، والإخبار عن جزاء الشاكرين والجاحدين ووصف الجنة والنار : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ...) [الآيات : ١ ـ ٦].

ثم أشادت بأعمال الشاكرين من الوفاء بالنذر ، وإطعام الطعام لوجه الله ، والخوف من عذاب الله : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ..) [الآيات : ٧ ـ ١١].

وأردفت ذلك بوصف ما لهم عند ربهم من الجنان والثواب والفضل والإكرام : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [الآيات : ١٢ ـ ٢٢].

ثم أبانت مصدر تنزيل القرآن ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر الجميل ، وذكر الله ، وقيام الليل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ..) [الآيات : ٢٣ ـ ٢٦].

ونوّهت بشيء تضمنته السورة السابقة وهو حب الدنيا العاجلة وترك الآخرة ، وتهديدهم بتبديل أمثالهم إن داموا على الكفر والعناد وإمعان الأذى : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ..) [الآيات : ٢٧ ـ ٢٨].

وختمت السورة الكريمة بإعلان أن القرآن تذكرة وعظة لجميع البشر وندبهم إلى الإيمان والعمل بما جاء فيه : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ..) [الآيات : ٢٩ ـ ٣١].


خلق الله الإنسان وهدايته السبيل

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣))

الإعراب :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ هَلْ) إما بمعنى قد أي أقد ؛ لأن الأصل أهل ثم حذفت الهمزة ، أو يكون الاستفهام بمعنى التقرير ، وهو تقرير موجه لمن أنكر البعث ، يراد به انتزاع إقراره بهذه الحقيقة الأبدية فيقال له : من أحدث الإنسان بعد العدم؟ ونظرا لبداهة الجواب كان لا بد من (نعم) وإذا أقر بأن الخالق هو الله فكيف يمتنع عليه إعادة هذا الإنسان الذي خلقه أول مرة؟ فإن من قدر على إحداث شيء بعد أن لم يكن كان على إعادته أولى.

(لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) الجملة حال من الإنسان. (نَبْتَلِيهِ) في موقع الحال.

(إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) منصوبان على الحال من هاء : (هَدَيْناهُ).

البلاغة :

(شاكِراً) و (كَفُوراً) بينهما طباق. وكفور صيغة مبالغة وعبر به وليس بالكافر مراعاة للفواصل وإشعارا بأن الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا وإنما المؤاخذة بالتوغل بالكفر.

(مَذْكُوراً بَصِيراً كَفُوراً مَنْثُوراً طَهُوراً مَشْكُوراً ..) إلخ سجع مرصع وهو من مراعاة الفواصل.

المفردات اللغوية :

(هَلْ) استفهام تقرير وتقريب فهو بمعنى «قد». (الْإِنْسانَ) آدم عليه‌السلام أو جنس الإنسان وهو الراجح لقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ حِينٌ) جزء محدود من الزمان قدره بعضهم بأربعين سنة (الدَّهْرِ) الزمان الممتد غير المحدود. (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) كان


شيئا منسيا لا يذكر معدوما لا يعرف. (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي جنس الإنسان. (نُطْفَةٍ) قليل من الماء. (أَمْشاجٍ) أخلاط جمع مشج ومشيج أي من اختلاط ماء الرجل وماء المرأة وامتزاجهما. (نَبْتَلِيهِ) نختبره بالتكليف أي مريدين اختباره عند التكليف والتأهل. (فَجَعَلْناهُ) بسبب ذلك. (سَمِيعاً بَصِيراً) ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات فهو كالمسبب من الابتلاء ولذلك عطف بالفاء على (نَبْتَلِيهِ).

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) بيّنا له طريق الخير والهدى بإقامة الأدلة وإنزال الآيات وبعث الرسل.

التفسير والبيان :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي قد أتى على الإنسان (جنس الإنسان) زمن كان فيه منسيا غير موجود فلم يكن آدم وبنوه شيئا معروفا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة المتقدمين عليه وهم الملائكة والجن. وهذا إخبار بكون الإنسان في بدء الخلق معدوما غير مخلوق والآية كالتقدمة والتوطئة للتي تعقبها وكالتأكيد لخاتمة السورة المتقدمة. وهي حقيقة لا ينكرها أحد ويؤكدها علماء طبقات الأرض الذين قالوا : لم يوجد الإنسان على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال.

قال الفرّاء وثعلب : المعنى أنه كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. والمراد بالإنسان هنا جنس بني آدم لقوله تعالى بعدئذ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ).

ثم أخبر الله تعالى عن بدء تكاثر نوع الإنسان بعد خلق آدم عليه‌السلام فقال : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي إننا نحن الخالق الإله أوجدنا أو خلقنا ابن آدم من مني أو ماء قليل مختلط ممتزج بين ماءي الرجل والمرأة من يدين بهذا الخلق ابتلاءه أي اختباره بالخير


والشر وبالتكاليف الشرعية بعد بلوغ سن التكليف وأهلية الخطاب التشريعي وزوّدناه بطاقات الفهم والوعي والإدراك وهي السمع والبصر ليتمكن من حمل رسالة التكليف واجتياز الامتحان واستماع الآيات والتأمل في دلائل الكون والتفكر في براهين الوجود الدالة على الخالق الواحد الأحد.

فبالسمع والبصر والفؤاد وسائر الحواس يتمكن هذا الإنسان من الطاعة والمعصية. ولما جعله تعالى بهذا التركيب وامتن عليه بهاتين الصفتين (السمع والبصر) وهما آلة التمييز والفهم وأشرف الحواس التي تدرك بها أعظم المدركات أخبر تعالى أنه هداه السبيل أي أرشده إلى الطريق وعرفه مآله طريق النجاة ومآل طريق الهلاك وبيّن له طريق الهدى وطريق الضلال فقال :

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي بيّنا وأوضحنا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر وبصّرناه بعواقب الأمور وعرّفناه منافع الأشياء ومضارّها التي يهتدي إليها بطبعه السليم وكمال عقله فآل أمره إلى أن ينقسم نوع الإنسان إلى قسمين : شاكر لأنعم الله مؤمن به مهتد بهديه. وكافر جاحد للنعمة معرض عن الطاعة صادّ عن الهدي الإلهي.

ونظير الآية : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠] أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد وهذا قول الجمهور ولم نجبره أو نكرهه على شيء من الإيمان أو الكفر وإنما اختار الإنسان لنفسه ما شاء كما قال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت ٤١ / ١٧].

وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها».


فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لم يكن الإنسان قبل خلقه بأمر ربه شيئا معروفا وظل على هذا النحو حينما من الزمان غير معروف.

٢ ـ أوجد الله أصل الإنسان من تراب ثم نفخ فيه من روحه ثم حدث التناسل والتكاثر من شيء ضعيف مهين وهو التقاء نطفتي الرجل والمرأة.

٣ ـ كان القصد من خلق الإنسان هو الابتلاء والاختبار لذا أمده الله تعالى بمفاتيح المعرفة والهداية والعلم وأعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز.

٤ ـ أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركّب الإنسان وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بيّن له سبيل الهدى والضلال بقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ).

٥ ـ الآية المتقدمة دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل وهذا صحيح ؛ لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف وهي الحواس الظاهرة والباطنة.

٦ ـ المراد من هداية السبيل : خلق الدلائل وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب.

٧ ـ أيا كان نوع الإنسان ومنهجه شاكرا أو كفورا فقد بيّن الله ما يحتاج إليه من الخير والطاعة.

٨ ـ ليس المراد بالشاكر : من يشتغل بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم


يتحقق الحصر المفهوم من كلمة (إِمَّا) بل المراد من الشاكر : الذي يكون مقرا معترفا بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور : الذي لا يقرّ بوجوب الشكر عليه إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه وحينئذ يتحقق الحصر : وهو أن المكلف : إما أن يكون شاكرا وإما أن يكون كفورا. وبهذا يرد على الخوارج الذين احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر لأن الشاكر هو المطيع والكفور هو الكافر (١).

جزاء الكفار والأبرار يوم القيامة

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))

الإعراب :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً سَلاسِلَ) : قرئ بتنوين لمجاورته (أَغْلالاً) وقرئ من غير تنوين ؛ لأنه ممنوع من الصرف.

وكذا أيضا (قَوارِيرَا) [الآية ١٥] قرئ منونا وغير منون.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عَيْناً) منصوب من ستة أوجه : على أنه بدل من قوله :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٣٩


(كافُوراً) أو على التمييز أو لقيامه مقام مفعول محذوف ل (يَشْرَبُونَ) تقديره : يشربون من كأس ماء عين أو على البدل من (كَأْسٍ) على الموضع أو على الحال من ضمير (مِزاجُها) وفيه خلاف أو منصوب بتقدير أعني. و (يَشْرَبُ بِها) الباء إما بمعنى «من» أي يشرب منها أو زائدة أي يشرب ماءها ؛ لأن العين لا تشرب وإنما يشرب ماؤها.

البلاغة :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) لف ونشر مشوّش فإنه تعالى قال : (شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ثم أعاد بالذكر على الثاني دون الأول.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ) جناس اشتقاق.

(يَوْماً عَبُوساً) مجاز عقلي إسناد العبوس إلى اليوم من إسناد الشيء إلى زمانه مثل: نهاره صائم.

(فَوَقاهُمُ) و (لَقَّاهُمْ) جناس غير تام.

المفردات اللغوية :

(أَعْتَدْنا) هيأنا. (سَلاسِلَ) قيودا توضع في الأرجل يسحبون بها إلى النار. (وَأَغْلالاً) أطواقا وقيودا توضع في الأيدي وتجمع إلى أعناقهم جمع غلّ : وهو القيد. (وَسَعِيراً) نارا مسعّرة بها يحرقون ويعذبون.

(الْأَبْرارَ) أهل الطاعة والإخلاص جمع برّ والبررة جمع بارّ كما جاء في الصحاح. (كَأْسٍ) قدح أو إناء زجاجة فيها خمر والمراد : من خمر تسمية للحالّ باسم المحل و (مِنْ) : للتبعيض. (مِزاجُها) ما تمزج به. (كافُوراً) طيب معروف له رائحة جميلة.

(يَشْرَبُ بِها) أي منها. (عِبادُ اللهِ) أولياؤه. (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) يقودونها ويجرونها حيث شاؤوا إجراء سهلا ويخرجونها من الأرض والمراد أنها تحت تصرفهم وأمرهم. (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ بِالنَّذْرِ) : التزام قربة لله تعالى والمراد يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات. (شَرُّهُ) شدائده. (مُسْتَطِيراً) فاشيا منتشرا في البلاد. (عَلى حُبِّهِ) محبة الطعام أو الإطعام. (مِسْكِيناً) محتاجا لفقره. (وَيَتِيماً) من لا أب له. (وَأَسِيراً) من أسر من الكفار في حرب إسلامية ويشمل أيضا الأسير المؤمن والمملوك والمسجون. (لِوَجْهِ اللهِ) ابتغاء لرضوانه وطلب ثوابه لا لتوهم المنّ وتوقع المكافأة المنقصة للأجر. (شُكُوراً) شكرا.

(يَوْماً) عذاب يوم. (عَبُوساً) تعبس فيه الوجوه أي كريه المنظر لشدته.


(قَمْطَرِيراً) شديد العبوس والهول مظلما. (فَوَقاهُمُ) دفع عنهم بسبب خوفهم وتحفظهم منه. (وَلَقَّاهُمْ) أعطاهم. (نَضْرَةً) حسنا وبهاء. (وَسُرُوراً) حبورا. (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرّمات وإيثار الأموال. (جَنَّةً) بستانا يأكلون منه. (وَحَرِيراً) يلبسونه.

سبب النزول :

نزول الآية (٨):

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ ..) : أخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله : (وَأَسِيراً) قال : لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأسر أهل الإسلام ولكنها نزلت في أسارى أهل الشرك كانوا يأسرونهم في العذاب فنزلت فيهم فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرهم بالإصلاح إليهم.

وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أهل التفسير : نزلت في علي وفاطمة رضي‌الله‌عنهما وجارية لهما اسمها فضة لكن القصة لم تصح.

قال القرطبي : والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا ؛ فهي عامة(١).

المناسبة :

بعد بيان أن الله هدى الناس إلى طريق الخير وطريق الشرّ ثم انقسامهم بعدئذ فريقين : شاكرا وكافرا ذكر تعالى على جهة الوعيد أنه أعد للكافرين قيودا ونارا وللمؤمنين الطائعين جنة فيها ألوان النعيم من المأكل والمشرب والملبس لتتم المقابلة أو المقارنة بين الجزاءين مع بيان العلة أو السبب لكل جزاء.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٠


التفسير والبيان :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) أي إننا هيأنا وأعددنا لكل من كفر بالله وبنعمه وخالف أمره سلاسل في أرجلهم يقادرون بها إلى الجحيم قيودا تشد بها أيديهم إلى أعناقهم ونارا تستعر وتتوقد لنعذبهم ونحرقهم بها. والسلاسل : القيود في جهنم كل سلسلة سبعون ذراعا كما جاء في سورة الحاقة. والأغلال : ما تغل به الأيدي إلى الأعناق.

ونظير الآية : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر ٤٠ / ٧١ ـ ٧٢].

فهذا إخبار عما أرصده الله عزوجل للكافرين الأشقياء من خلقه ثم أتبعه بما أعد للمؤمنين الطائعين فقال :

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي إن المؤمنين أهل الطاعة والإخلاص الذين يؤدون حق الله بالتزام فرائضه واجتناب معاصيه يشربون من خمر ممزوجة بكافور بارد أبيض طيب الرائحة ليكمل ريح الخمر وطعمها ويطيب وممزوجة أيضا بماء عين يشرب منها عباد الله الصالحون يجرونها إلى حيث أرادوا من منازلهم وقصورهم وينتفعون بها كما يشاءون ويشقّونها شقّا كما يشقّ النهر ويتفجر الينبوع. وقيل : الكافور : اسم عين في الجنة يقال له عين الكافور.

وقوله : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) معناه يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم. والتفجير : الإنباع.

ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أسباب لهذا التكريم وثواب الأبرار فقال :

١ ـ ٢ ـ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي يوفون


بما أوجبوه على أنفسهم من نذور تقربا إلى الله تعالى ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها. والنذر في الشرع : ما أوجبه المكلف على نفسه لله تعالى من صلاة أو صوم أو ذبح أو غيرها مما لم يكن عليه واجبا بالشرع. قال الرازي : اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين : التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ). ويخافون عذاب يوم هو يوم القيامة كانت شدائده وأهواله فاشية منتشرة في كل جهة وعامة على الناس إلا من رحم الله.

وإنما سميت الأهوال شرّا ؛ لكونها مضرة بمن تنزل عليه ولكونها صعبة عليه كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شرورا.

والآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر ؛ لأنه تعالى عقبه بقوله : (يَخافُونَ يَوْماً) وهذا يقتضي أن الخوف من عذاب الله هو سبب الوفاء بالنذر.

٣ ـ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له المحتاج الفقير العاجز عن الكسب واليتيم الحزين الذي فقد أباه وعائله والأسير المقيد المحبوس أو المملوك سواء من أهل الإيمان أو من المشركين. وخصّ الطعام بالذكر لكونه إنقاذا للحياة وإصلاحا للإنسان وإحسانا لا ينسى.

وفي قوله (عَلى حُبِّهِ) تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله.

ونظير الآية قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد ٩٠ / ١١ ـ ١٦] وقوله سبحانه : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة ٢ / ١٧٧] وقوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران ٣ / ٩٢].


وبما أن تمام الطاعة لا يكون إلا بالإخلاص وقرن النية بالعمل ذكر النية بعد تلك الأعمال فقال :

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي إنما قصدنا من هذا الإطعام هو ابتغاء رضوان الله وحده ورجاء ثوابه دون منّ عليكم ولا ثناء من الناس ولا توقع مكافأة تنقص الأجر ولا طلب مجازاة منكم ولا إرادة شكر منكم لنا بل هو خالص لوجه الله تعالى.

وهذا أي طلب رضا الله عنهم هو الهدف الأول ثم أعقبه بالهدف الثاني وهو خوف يوم القيامة وأهوالها فقال سبحانه :

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي إننا مع طلب رضوان الله نخاف من أهوال يوم تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته صعب شديد. ووصف اليوم بالعبوس مجاز وصف بصفة أهله أو تشبيها في ضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء.

ويلاحظ أنه سبحانه وصفهم بالخوف من أهوال القيامة في موضعين : في قوله المتقدم: (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) وقوله هنا : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

ثم أوضح الله تعالى أنه حقق للأبرار الهدفين وذكر ما سيجزيهم على أعمالهم وإخلاصهم فذكر الثاني أولا ثم الأول فقال : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي فدفع الله عنهم شرّ ذلك اليوم العبوس وآمنهم مما خافوا منه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه وأعطاهم بدل العبوس في الكفار نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب لطلبهم رضا الله. والنضرة : البياض والنقاء في وجوههم من أثر النعمة.


ونظير الآية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس ٨٠ / ٣٨ ـ ٣٩].

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) أي وكافأهم بسبب صبرهم على التكاليف جنة يدخلونها وحريرا يلبسونه ، أي أعطاهم منزلا رحبا ، وعيشا رغدا ، ولباسا حسنا ، كما قال تعالى : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج ٢٢ / ٢٣]. والتعبير بقوله : (فَوَقاهُمُ) و (لَقَّاهُمْ) بصيغة الماضي ، لتأكيد تحقق الوعد.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن انقسام الناس باختيارهم إلى فريقين : شاكر وكافر ، اقتضى تنوع الجزاء بعد التكليف والتمكين من المأمورات ، فمن كفر فله العقاب من السلاسل في الأرجل ، والأغلال في الأيدي ، والنار المستعرة التي تحرق الجسد ؛ ومن وحّد وشكر ، فله الثواب الجزيل والجنة بما فيها من ألوان النعيم.

والآية دليل على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة ؛ لأن قوله تعالى : (أَعْتَدْنا) إخبار عن الماضي.

ويلاحظ أن الاختصار في ذكر العقاب ، مع الإطناب في شرح الثواب ، يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى (١).

٢ ـ وصف الله تعالى نعيم أهل الجنة بما يبهر ، فذكر أن الأبرار : أهل التوحيد والصدق يشربون في الجنة الخمر غير المسكرة ، الممزوجة بالكافور ، المختومة بالمسك ، المختلطة بعين ماء عذبة في الجنة ، يشربون منها ، وتكون تحت تصرفهم وأمرهم يجرونها كما يشاءون ، ويشقّقونها شقّا ، كما يفجر النهر في الدنيا.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٥٦ وما بعدها.


وتلك العين هي السلسبيل كما جاء في حديث ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن الحسن البصري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع عيون في الجنة : عينان تجريان من تحت العرش ، إحداهما التي ذكر الله : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) والأخرى الزنجبيل ، والأخريان نضّاختان من فوق العرش : إحداهما التي ذكر الله عينا فيها ، تسمى سلسبيلا ، والأخرى التسنيم». وقال : فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم ، يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم ، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مزاج.

٣ ـ إن علة أو سبب هذا النعيم للأبرار أمور ثلاثة : وفاؤهم بالنذور وأداؤهم ما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيرها من الواجبات ؛ وخوفهم من يوم القيامة ذي الشدائد والأهوال الفاشية المنتشرة في كل مكان ؛ وإطعامهم الطعام على قلّته وحبهم له وشغفهم به ذا مسكنة وفقر وحاجة ، ويتيما من يتامى المسلمين ، والأسير المؤمن أو الكافر الذي يؤسر فيحبس.

وقد أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأسارى قائلا : «استوصوا بالأسارى خيرا» (١). ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى ، غير أنه من صدقة التطوع ، فأما المفروضة فلا. وتقدم لدينا أن الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر.

وأجاز عامة العلماء الإحسان إلى الكفار في بلاد الإسلام من التطوعات لا من الواجبات. وإطعام الأسير واجب أولا على الإمام (الدولة) فإن لم يفعله وجب على المسلمين.

٤ ـ إطعام هؤلاء بقصدين أو غرضين : رضا الله عنهم ، وخوف يوم القيامة.

__________________

(١) أخرجه الطبراني عن أبي عزيز ، وهو حديث حسن.


٥ ـ أعطى الله الأبرار ما يحقق الغرضين ، فوقاهم ودفع عنهم شرور ومحاذير ومخاطر يوم القيامة وآمنهم من خوفهم ، وأعطاهم وآتاهم حين لقوه نضرة أي حسنا ، وسرورا ، أي حبورا ، فتحقق لهم الغرضان : الحفظ من هول القيامة ، وطلب رضا الله تعالى.

قال الرازي : اعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب.

٦ ـ كذلك جزاهم الله بصبرهم على طاعة الله وعلى معصية الله ومحارمه جنان الخلد يدخلونها ، والحرير يلبسونه. روى ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الصبر ، فقال : «الصبر أربعة : أولها ـ الصبر عند الصدمة الأولى ، والصبر على أداء الفرائض ، والصبر على اجتناب محارم الله ، والصبر على المصائب» (١).

هذا مع العلم بأن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.

مساكن أهل الجنة وأشربتهم وخدمهم وألبستهم

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٦


الإعراب :

(مُتَّكِئِينَ فِيها ..) حال من الهاء والميم في (جَزاهُمْ). وكذلك (لا يَرَوْنَ) في موضع نصب على الحال من ذلك الضمير ، أو من ضمير (مُتَّكِئِينَ).

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) منصوب بالعطف على قوله : (جَنَّةً) في آية : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً) و (ظِلالُها) : فاعل (دانِيَةً).

(عَيْناً فِيها ..) بدل من (زَنْجَبِيلاً).

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ .. ثَمَ) : في موضع نصب إما لأنه ظرف مكان ، ويكون مفعول (رَأَيْتَ) محذوفا ، وإما لأنه مفعول (رَأَيْتَ). و (ثَمَ) : مبني على الفتح لتضمنه لام التعريف ؛ لأنه معرفة ، أو لتضمنه معنى الإشارة ، والأصل في الإشارة أن يكون بالحرف ، فكأنه تضمن معنى الحرف.

(عالِيَهُمْ ثِيابُ .. عالِيَهُمْ) بفتح الياء منصوب لكونه ظرفا بمعنى فوقهم ، أو على الحال من الهاء والميم في (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) أي يعلوهم في هذه الحالة. وقرئ بالسكون فيكون مبتدأ ، و (ثِيابُ) : خبره ، وعالي : لفظه لفظ الواحد ، والمراد به الجمع ، كالسامر في قوله تعالى : (سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٦٧]. ويصح كونه صفة (وِلْدانٌ). و (ثِيابُ سُندُسٍ) : مرفوع ب (عالِيَهُمْ) سواء كان حالا أو وصفا. و (خُضْرٌ) إما بالجر صفة ل (سُندُسٍ) وإما بالرفع صفة ل (ثِيابُ). وكذلك (إِسْتَبْرَقٌ) بالجر عطفا على (سُندُسٍ) ، أو بالرفع عطفا على (ثِيابُ). و (إِسْتَبْرَقٌ) في أصله : اسم أعجمي : وهو غليظ الديباج ، وأصله (إِسْتَبْرَقٌ) فأبدلوا من الهاء قافا. وهو منصرف لأنه يحسن فيه دخول الألف واللام ، وليس اسم علم كإبراهيم ، ومن لم يصرفه فقد وهم.

البلاغة :

(شَمْساً) و (زَمْهَرِيراً) بينهما طباق.

(إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) تشبيه رائع ، أي كاللؤلؤ المنثور.

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) إيجاز بالحذف ، أي يقال لهم : إن هذا.

(وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) مجاز عن قبول الطاعة والثواب الكثير.

(زَمْهَرِيراً) ، (قَوارِيرَا) ، (تَقْدِيراً) ، (مَنْثُوراً) ، (كَبِيراً) ، (طَهُوراً)، (مَشْكُوراً) سجع مرصع ، أي مراعاة الفواصل.


المفردات اللغوية :

(مُتَّكِئِينَ) جالسين بتمكن وراحة ، والغالب أن يكون الجلوس على جانب واحد ، بالاعتماد على وسادة. (الْأَرائِكِ) السرر في الحجال ، جمع أريكة : وهي السرير المجلل بالأستار أو الحجلة أو الكلّة (الناموسية). (لا يَرَوْنَ) لا يجدون. (شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي لا حرّا ولا بردا ، والزمهرير : البرد الشديد. (وَدانِيَةً) قريبة. (ظِلالُها) ظلال أشجارها. (وَذُلِّلَتْ) سخرت وسهّلت ثمارها ، وصارت في متناول الأيدي. (قُطُوفُها) ثمارها ، جمع قطف ، والمراد : أدنيت ثمارها ، فينالها القائم والقاعد والمضطجع.

(بِآنِيَةٍ) صحاف أو أواني الطعام ، جمع إناء. (وَأَكْوابٍ) آنية الشراب ، جمع كوب : وهو قدح أو كوز مستدير الفتحة ، لا عروة فيه. (قَوارِيرَا) أوعية زجاجية ، جمع قارورة : وهي الزجاجة المعروفة. (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قدرها السقاة الطوافون على قدر ريّ الشارب ، من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك ألذ الشراب. (كَأْساً) أي خمرا ، والكأس في الأصل : القدح الذي تكون فيه الخمر. (مِزاجُها) ما تمزج به. (زَنْجَبِيلاً) ماء يشبه الزنجبيل في الطعم ، وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به ، والزنجبيل : نبات ذو عرق يوضع في أخلاط البهارات ، له رائحة طيبة وله لذع في اللسان ، ينبت في بلاد الشام والهند والصين.

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) سميت بذلك لسلاسة انحدارها في الحلق ، وسهولة مساغها. والسلسبيل : الشراب اللذيذ. (مُخَلَّدُونَ) دائمو البهاء والحسن ، لا يشيبون. (حَسِبْتَهُمْ) ظننتم لحسنهم. (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) كاللؤلؤ المنتثر في الصفاء والبياض. (ثَمَ) هناك. (نَعِيماً) لا يوصف. (وَمُلْكاً كَبِيراً) واسعا لا غاية له. (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) يعلوهم ثياب الحرير الخضر ، والسندس : ما رقّ من الحرير ، وهو الظهائر. (وَإِسْتَبْرَقٌ) ما غلظ من الديباج ، وهو البطائن. (وَحُلُّوا) ألبسوا حلية. (أَساوِرَ) جمع سوار. (مِنْ فِضَّةٍ) وفي موضع آخر : (مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف ٤٣ / ٧١] ، للدلالة على أنهم يحلّون من النوعين معا ، ومفرّقا. (شَراباً طَهُوراً) نقيا من الشوائب ، والطهور : صيغة مبالغة في طهارته ونظافته ، خلافا لخمر الدنيا. (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي يقال لهم : إن ما أعدّ لكم من الثواب جزاء أعمالكم الصالحة. (مَشْكُوراً) مجازي عليه ، غير مضيّع.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٠):

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ ..) : أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : دخل عمر بن


الخطاب على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو راقد على حصير من جريد ، وقد أثّر في جنبه ، فبكى عمر فقال : ما يبكيك؟ قال : ذكرت كسرى وملكه ، وهرمز ، وصاحب الحبشة وملكه ، وأنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حصير من جريد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما ترضى أن لهم الدنيا ، ولنا الآخرة ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً).

المناسبة :

بعد بيان طعام أهل الجنة ولباسهم ، ذكر الله تعالى أوصاف مساكنهم وكيفية جلوسهم فيها وأشربتهم وأوانيهم وخدمهم واعتدال هوائهم ، ثم أشار إلى تجملهم بمحاسن الثياب والحلي ، وذكر في النهاية أن هذه النعم جزاء عملهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أوضاع أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم ، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم ، فقال تعالى :

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ ، لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي جزاهم الله جنة ، متكئين فيها على الأسرة المظللة بالحجال أو الكلل ، لا يرون فيها حرّ الشمس ، ولا برد الزمهرير ، بل إن هواءها معتدل ، جاء في الحديث : «هواء الجنة سجسج ، لا حرّ ولا قرّ» والسجسج : الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس (١).

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أي وإن ظلال الأشجار قربة منهم ، مظللة عليهم ، زيادة في نعيمهم ، وإن كان لا شمس هناك ، وسخرت وأدنيت ثمارها لمتناوليها تسخيرا ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. فقوله : (وَدانِيَةً) أي وجزاهم جنة أخرى

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٣٨


دانية عليهم ظلالها.

ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح عليه في الدنيا ، وهو الضوء النوراني ، فإنه لا شمس هناك ، فمعنى دنوّ الظلال : أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس ، لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة ، وقد أكّد هذا المعنى بقوله : (وَذُلِّلَتْ ..) أي لا تمتنع على قطّافها كيف شاؤوا (١).

ثم أخبر الله تعالى عن شرابهم وأوانيهم التي فيها يشربون ، فقال :

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام ، وهي من فضة ، وبأكواب الشراب : وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم ، وهي أيضا من فضة ، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير وهي الزجاج ، حتى يرى داخلها ، من خارجها ، وجاءت في الشكل والحجم كما يريدون لا تزيد ولا تنقص.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة».

وجاء في آية أخرى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) [الزخرف ٤٣ / ٧١]. وهذا يدل على أنهم تارة يسقون بأكواب الفضة ، وتارة بأكواب الذهب. والصحاف : هي القصاع. والفرق بين الآنية والأكواب : أن الأكواب كما تقدم هي الكيزان التي لا عرى لها ، والآنية هي ما له عرى ، كالقدح.

ثم وصف الله تعالى مشروبهم نفسه قائلا :

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) أي ويسقى الأبرار أيضا في هذه الأكواب في الجنة خمرا ممزوجة بالزنجبيل ، فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور

__________________

(١) غرائب القرآن : ٢٩ / ١٢٤


كما تقدم وهو بارد ، وتارة بالزنجبيل وهو حار ، ليعتدل. أما المقرّبون فإنهم يشربون من كلّ منهما صرفا.

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي ويسقون من عين في الجنة تسمى السلسبيل ، سميت بذلك لسلاسة مائها ، وسهولة جريها وانحدارها وإساغتها في حلوقهم. قال ابن الأعرابي عن السلسبيل : لم أسمعه إلا في القرآن.

وقال ابن عباس : وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة ، فليس منه في الدنيا إلا الاسم.

والفائدة في تسمية العين بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته ، ولكن ليس فيها اللذع الذي هو مناف للسلاسة.

ثم وصف خدمهم بقوله :

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي ويطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة ، يبقون فيها على حالة واحدة من الشباب والطراوة والنضارة ، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون ، إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج غيرهم وصباحة وجوههم ، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ، ظننتهم كاللؤلؤ المنثور ، قال ابن كثير : ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.

شبههم بالمنثور ؛ لأنهم سراع في الخدمة ، بخلاف الحور العين ، فإنه شبّههن باللؤلؤ المكنون ؛ لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة.

ثم أجمل نعيمهم ؛ لأنه أعلى وأعظم مما سبق ، ولأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد ، ما دام في الدنيا ، فخاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كل راء قائلا :

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ ، رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي وإذا نظرت نظرا بعيدا


في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور ، رأيت نعيما لا يوصف ، وسلطانا وملكا عظيما لا يقدر قدره. جاء في الحديث عن ابن عمر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ، ينظر إلى أقصاه ، كما ينظر إلى أدناه» (١).

ثم وصف ملابسهم وحليهم بقوله :

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ، وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي لباسهم الذي يعلوهم هو الحرير الرفيع الرقيق الأخضر ، والديباج الغليظ ، وحلوا بأساور من فضة ، وفي آية أخرى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [الكهف ١٨ / ٣١ ، فاطر ٣٥ / ٣٣] أي تارة تكون حليهم الفضة ، وتارة الذهب.

ثم ذكر الله تعالى شرابا آخر لهم غير الممزوج بالكافور أو بالزنجبيل ، فقال :

(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي وسقاهم ربّهم بشراب غير ما سبق يطهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة ، كما روي عن علي رضي‌الله‌عنه. والطهور مبالغة طاهر ، والمراد أنها ليست بنجسة ، ولا مستقذرة طبعا ، ولا تؤول إلى النجاسة ، ولكنها ترشح عرقا من أبدانهم ، له ريح كريح المسك.

قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي : يؤتون بالطعام ، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون ، فتضمر بطونهم من ذلك ، ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك.

ثم ذكر الله تعالى علة هذا الفضل والنعيم ، فقال :

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي ويقال لهؤلاء الأبرار الممتعين بالجنان ، تكريما لهم وإحسانا إليهم : إن هذا المذكور من أنواع النعم ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٤٥٧


كان لكم جزاء بأعمالكم ، أي ثوابا لها ، وجزاكم الله تعالى على القليل بالكثير ، ويقبل طاعتكم ، فشكر الله سبحانه لعمل عبده : هو قبوله لطاعته.

ونظير الآية قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٢٤] ، وقوله سبحانه : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف ٧ / ٤٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ يكون الأبرار أهل الجنة في غاية النعيم والراحة ، فهم متكئون على الأرائك أي السرر في الحجال ، ولا يرون في الجنة شدة حرّ كحر الشمس ، ولا بردا مفرطا ، وظلال الأشجار في الجنة قريبة منهم ، فهي مظلّة عليهم ، زيادة في نعيمهم ، وإن كان لا شمس ولا قمر ، كما أن أمشاطهم الذهب والفضة ، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثمّ.

وتسخر لهم الثمار تسخيرا ، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك ، كما قال قتادة.

ويدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة أو من ذهب ، وبقوارير في صفاء الزجاج وبياض الفضة ، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة ، وقد قدّر أقدارها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم.

ويسقون في الجنة خمرا في آنية ، ممزوجة بالزنجبيل تطييبا لرائحتها وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته ؛ لأنه يحذو اللسان ، ويهضم المأكول ، فرغّبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.

ويشربون أيضا في الجنة من عين تسمى السلسبيل : وهو الشراب اللذيذ.


ويطوف عليهم بالآنية للخدمة ولدان يبقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ويكونون على سن واحدة على مرّ الأزمنة ، فإذ شاهدتهم ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم لؤلؤا مفرقا في ساحات المجلس ، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. والمراد دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها ، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة.

وهناك في الجنة إذا رأيت ببصرك ، رأيت نعيما لا يوصف ، وملكا عظيما لا يقدر قدره.

وثيابهم الحرير الأخضر الرقيق والديباج الغليظ ، ويحلون في الجنة بحلي وأساور من ذهب أو فضة ، حسبما يروق لهم ، وإن كانوا رجالا.

ويشربون من شراب آخر غير ما ذكر موصوف بغاية الطهر والنقاء ، إما لإذهاب آثار الطعام وجعله يتفصد من الجسد عرقا ، أو للترفع عن اللذات الحسية والتخلص من مفاسد الأخلاق الرديئة ، كالحسد والحقد والبغض وغير ذلك.

٢ ـ يقال لهؤلاء الأبرار في الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها ، تكريما لهم وإحسانا إليهم : إنما هذا المذكور من النعم ثواب عملكم ، وكان عملكم مشكورا من قبل الله ، وشكره للعبد : قبول طاعته ، وثناؤه عليه ، وإثابته إياه.


أحوال الطائعين والمتمردين المشركين في الدنيا

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

الإعراب :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ .. نَحْنُ) : في موضع نصب صفة لاسم «إن» للتأكيد ، ولا يجوز أن يكون (نَحْنُ) ضمير فصل هنا لا محل له من الإعراب ؛ لأن من شرط الفصل أن يقع بين معرفتين أو في حكمهما ، ولم يوجد هنا. و (نَزَّلْنا) : جملة فعلية في موضع رفع خبر «إن».

(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أَوْ) : هنا للإباحة ، أي لا تطع هذا النوع. والنهي في هذا كالأمر. ولو قال : لا تطع آثما ، لا تطع كفورا ، لانقلب المعنى ؛ لأنه حينئذ لا تحرم طاعتهما كليهما.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ وَالظَّالِمِينَ) : منصوب بتقدير فعل ، تقديره : ويعذب الظالمين ، وجاز إضماره ؛ لأن (أَعَدَّ لَهُمْ) دلّ عليه.

البلاغة :

(بُكْرَةً وَأَصِيلاً) بينهما طباق.

(يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ، وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) مقابلة ، حيث قابل بين المحبة والترك ، وبين العاجلة والباقية.


المفردات اللغوية :

(إِنَّا نَحْنُ) نحن تأكيد لاسم إن (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) أي نزلناه مفرّقا مفصّلا منجّما لحكمة اقتضته ، ولم ننزله جملة واحدة. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) داوم على حكم ربّك عليك بتبليغ رسالته. (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي الكفار. (آثِماً أَوْ كَفُوراً) الآثم : الفاجر المجاهر بالمعاصي ، والكفور : شديد التعصب للكفر المغالي فيه وهو المشرك المجاهر بكفره. قال المفسرون : وهما حينئذ عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ، قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج. ثم صار المراد كل آثم وكافر ، لا تطع أيا كان فيما دعاك إليه من إثم أو كفر ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) داوم على ذكره. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أول النهار وآخره ، فيشمل صلوات الفجر ، والظهر ، والعصر. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي في بعض الليل صلّ لله ، ويشمل صلاتي المغرب والعشاء ، وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص لله. (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) أي وتهجد له طائفة طويلة من الليل ، وهي صلاة التطوع.

(الْعاجِلَةَ) الدنيا. (وَراءَهُمْ) أمامهم. (يَوْماً ثَقِيلاً) شديدا ، أي يوم القيامة ، مستعار من الثقل المتعب للحامل ، وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه. (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أحكمنا وقوينا أعضاءهم ومفاصلهم وكذلك ربطها بالأعصاب والعروق ، وفي اللغة: الأسر : شدة الخلق والخلق. (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي وإذا أردنا أهلكناهم ، وبدّلنا أمثالهم في الخلقة وشدة الأعضاء.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) إن هذه السورة أو الآيات القريبة موعظة وعبرة للناس. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) طريقا يتقرب إليه بالطاعة. (وَما تَشاؤُنَ) اتّخاذ السبيل بالطاعة. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا وقت مشيئة الله. (عَلِيماً) بخلقه وبما يستأهل كل أحد. (حَكِيماً) في فعله ، لا يشاء إلا ما تقتضيه حكمته. (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي يدخل من يريد وهم المؤمنون في جنته ، بعد الهداية والتوفيق للطاعة. (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ) أي عذّب أو كافا الظالمين وهم الكافرون. (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٤):

أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل


قال : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه ، فأنزل الله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).

المناسبة :

بعد بيان أحوال الكفار والمؤمنين في الآخرة ، ثبّت الله تعالى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرح صدره ، بسبب ما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله ، ثم أمره بالصبر على أذى قومه ، ثم ذكر أحوال هذين الفريقين في الدنيا ، مقدّما بيان أحوال الطائعين وهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته على أحوال الكفار العصاة.

التفسير والبيان :

امتن الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزله عليه من القرآن العظيم مفرّقا منجّما ، فقال :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) أي إنا نحن الإله الحق أنزلنا عليك أيها الرسول القرآن مفرّقا منجّما في الإنزال في مدى ثلاث وعشرين سنة ، ولم ننزله جملة واحدة ، ليسهل حفظه ووعيه والعمل به ، وليتثبت المؤمنون في معالجة الحوادث ، ولم تأت به من عندك كما يدّعيه المشركون.

والمراد من ذلك تثبيت قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواجهة افتراءات المشركين الذين نسبوا إليه الكهانة والسحر ، وإعلام الناس قاطبة أن ما جاء به وحي من الله تعالى ، لا من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد بيان هذه المقدمة ، جاء الأمر بالصبر والنهي عن طاعة الكفار ، فقال سبحانه : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي كما أكرمتك بما أنزلت عليك من القرآن ، فاصبر على قضاء الله وقدره في تأخير


نصرك على المشركين ، إلى أجل اقتضته حكمته ، وفي القيام بتبليغ رسالته ووحيه الذي أوحاه إليك ، فلكل أجل كتاب ، وسيتولاك ربك بحسن تدبيره ، ولا تطع أحدا من الكافرين والمنافقين ، المغالين في الكفر ، أو مرتكبي الإثم والفجور والمعاصي إن أرادوا صدّك عما أنزل إليك ، بل بلّغ ما أنزل إليك من ربّك ، وتوكل على الله ، فإن الله يعصمك من الناس. والآثم كما تقدم : هو مرتكب المعاصي ، والكفور : هو جاحد النعمة ، المغالي في الكفر ، فكل كفور آثم ، وليس كل آثم كفورا.

ومن أمثلة الآثم : عتبة بن ربيعة ؛ لأنه كان متعاطيا لأنواع الفسوق ، يروى أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر ، حتى أزوّجك ولدي ، فإني من أجمل قريش ولدا.

ومن أمثلة الكفور : الوليد بن المغيرة ؛ لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر ، روي أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا أعطيك من المال حتى ترضى ، فإني من أكثرهم مالا ، فقرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول (حم) السجدة إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [الآية ١٣] فانصرفا عنه ، وقال أحدهما : ظننت أن الكعبة ستقع.

وبالرغم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يطيع أحدا منهم ، إلا أنه وجه النهي له ؛ لأنه القدوة ، وإشارة إلى أن الناس محتاجون دائما إلى مواصلة التنبيه والإرشاد ، لوجود نزعة الشر والفساد في نفوسهم ، فلو أن أحدا استغنى عن توفيق الله وإرشاده ، لكان أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجب على كل مسلم أن يرغب إلى الله تعالى ويتضرع إليه في أن يصونه عن اتباع الأهواء والشهوات.

ثم عقّب النهي بالأمر ، فقال سبحانه :


(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ ، وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) أي داوم على ذكر الله في جميع الأوقات بالقلب واللسان ، وصلّ لربّك أول النهار وآخره ، فأول النهار : صلاة الصبح ، وآخره : صلاة العصر. وكذلك صلّ لربّك في الليل ، وذلك يشمل صلاتي المغرب والعشاء ، وتهجد له طائفة من الليل ، كما قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء ١٧ / ٧٩] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل ٧٣ / ١ ـ ٤].

وعلى هذا تكون كلمات الآية جامعة الصلوات الخمس ، والتهجد. وبعد بيان حال الطائعين ، أبان الله تعالى أحوال الكفار والمتمردين ، وأنكر عليهم وعلى أشباههم حبّ الدنيا والإقبال عليها ، وترك الآخرة وراء ظهورهم ، فقال :

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) أي إن هؤلاء كفار مكة وأمثالهم يحبون الدار العاجلة ، وهي دار الدنيا ، ويقبلون على لذاتها وشهواتها ، ويتركون وراءهم ظهريا يوم القيامة ذا الشدائد والأهوال ، فلا يستعدون له ، ولا يعبؤون به. وسمي يوما ثقيلا : لما فيه من الشدائد والأهوال. والآية تتضمن توبيخ المتمردين واستحقارهم.

وهذا هو الخط الفاصل بين المؤمنين والكافرين ، فالمؤمنون يعملون للدنيا والآخرة ، والكفار يعملون للدنيا وحدها ، وهي النظرة المادية والسلوك المادي النفع ، مما يدل على أن الداعي لهم إلى الكفر هو حبّ العاجل.

ثم أوضح الله تعالى كمال قدرته ، وأقام الدليل بالبداءة في الخلق على الرجعة والبعث ، فقال : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ ، وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي كيف يتغافل هؤلاء الكفار عن ربّهم وعن الآخرة ، ونحن الذين


خلقناهم ، وأحكمنا أعضاءهم ومفاصلهم وربطها بالعروق والأعصاب ، ولو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم.

ونظير الآية قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ، وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) [النساء ٤ / ١٣٣] ، وقوله سبحانه : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم ١٤ / ١٩].

وبعد بيان أحوال السعداء وأحوال الأشقياء في الدنيا ، أرشد إلى فائدة القرآن فقال :

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي إن هذه السورة بما فيها من مواعظ ، وترغيب وترهيب ، ووعد ووعيد ، تذكرة للمتأملين ، وتبصرة للمستبصرين ، وعظة للعقلاء ، فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة ، اتّخذ طريقا للتقرب إلى ربّه بالإيمان والطاعة ، واجتناب المعصية ، ومن شاء اهتدى بالقرآن.

ثم أوضح الله تعالى أن مشيئة العبد في إطار مشيئة الله ، ولكن دون قهر ولا جبر ، فقال :

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي وما تشاؤون أن تتخذوا إلى الله سبيلا إلى النجاة ، إلا بمشيئة الله ، ولا يقدر أحد أن يهدي نفسه ، ولا يدخل في الإيمان ، ولا يجر لنفسه نفعا إلا بتوفيق الله ، فالأمر إليه سبحانه ، ليس إلى عباده ، والخير والشر بيده ، فمشيئة العبد وحدها لا تأتي بخير ولا تدفع شرا ، إلا إن أذن الله بذلك ، ولكن يثاب الإنسان على اختياره الخير ، ويعاقب على اختياره الشر ، وإن الله تعالى عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ، ويقيّض له أسبابها ، وعليم بمن يستحق الغواية ، فيصرفه عن الهدى ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، فيضع الأشياء في محالّها.


والخلاصة : أن جميع ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله ولكن دون إجبار.

ثم ختم السورة بخاتمة عجيبة تدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله ، فقال :

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي يدخل في جنته من يشاء من عباده أن يدخلها فيها ، فضلا من الله وإحسانا ، ويعذب الظالمين الكافرين الذين ظلموا أنفسهم ، فقد أعدّ لهم في الآخرة عذابا موجعا مؤلما ، هو عذاب جهنم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات الكريمات على ما يأتي :

١ ـ إن القرآن الكريم كلام الله ووحيه الذي أنزله على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مدى ثلاث وعشرين سنة ، مفرّقا منجّما بحسب الحوادث والمسائل ، فهو ليس مفترى به من عنده ، ولا جاء به من تلقاء نفسه كما يدّعيه المشركون.

وبما أن السورة تضمنت الوعد والوعيد ، فالناس بحاجة ماسة إلى هذا الكتاب الذي ليس بسحر ولا كهانة ولا شعر ، وأنه حق من عند الله. قال ابن عباس : أنزل القرآن متفرّقا ، آية بعد آية ، ولم ينزل جملة واحدة ، فلذلك قال : (نَزَّلْنا).

٢ ـ ما دام هذا القرآن حقا من عند الله ، ودستورا منقذا لحياة البشرية من التردي والضياع والضلال ، وجب الصبر على أذى القوم في تبليغه للناس ، والصبر على ما حكم به من الطاعات ، ومخالفة أهل الإثم والكفر ، وعدم إطاعتهم في شيء من ضلالهم.

وهذا أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونهي له ولكل واحد من أمته.


٣ ـ إن العبد بأشد الحاجة للارتباط بالله والاستعانة به والاتكال عليه ، لذا كانت الصلاة صلة بين العبد وربّه ، وتقوية على الإيمان وصلابة الاعتقاد ، وتربية المهابة لله في النفس ، وتهذيب السلوك. ولأجل هذا أمر الله بذكره ليل نهار ، وبالصلاة أول النهار وآخره ، وذلك يشمل الصلوات الخمس المفروضة ، وزيد عليها التطوع في الليل.

٤ ـ وبخ الله تعالى الكفار وقرّعهم على محبتهم الدنيا وحدها ، وتركهم العمل للآخرة ، فلا يؤمنون بيوم القيامة ، ولا يستعدون لمواجهة موقف الحساب العسير الشديد في ذلك اليوم.

٥ ـ مما يدل على كمال قدرة الله تعالى : أنه هو الذي خلق الناس ، وأحكم تركيب أجسادهم ، وتشديد مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب ، وأنه قادر على إهلاك الناس والمجيء بأطوع لله منهم.

٦ ـ إن هذه السورة وأمثالها من القرآن موعظة وعبرة ، فمن أراد الخير لنفسه اتخذ طريقا موصلا إلى طاعة ربّه وطلب مرضاته. لكن الطاعة والاستقامة واتّخاذ سبيل الله لا تقع قهرا عن الله في ملكه ، وإنما بمشيئة الله ، فالأمر إليه سبحانه ، ليس لعباده ، ولا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم إلا أن تتقدم مشيئة الله ، وكل ذلك دون قهر ولا إجبار ولا إكراه من الله على اختيار شيء معين ، إنما الاختيار للإنسان ، والله عليم بأعمال عباده ، حكيم في أمره ونهيه لهم.

٧ ـ كذلك دخول الجنة برحمة الله ، ودخول النار بمشيئة الله ، فهو الذي يرحم عباده المؤمنين ، ويعذب الظالمين الكافرين عذابا مؤلما في نار جهنم ، وبئس المصير.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المرسلات

مكيّة ، وهي خمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة المرسلات تسمية لها باسم مطلعها الذي أقسم الله به وهو (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أي أقسم برياح العذاب التي تهب متتابعة كعرف الفرس ، أو شعر الفرس.

مناسبتها لما قبلها :

وجه اتصالها بما قبلها من وجهين :

١ ـ أنه تعالى وعد المؤمنين الأبرار ، وأوعد الظالمين الفجار في آخر السورة المتقدمة بقوله : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ثم أقسم في مطلع هذه السورة على تحقيق ما وعد به هنالك المؤمنين ، وأوعد به الظالمين ، ثم ذكر وقته وأشراطه بقوله : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ).

٢ ـ ذكر تعالى في سورة الإنسان نزرا من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها ، والأمر في هذه السورة على العكس : إطناب في وصف الكفار ، وإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين (١).

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٤٠٨


ما اشتملت عليه السورة :

محور هذه السورة المكية الكلام عن البعث وأحوال الآخرة ، فهي كسائر السور المكية متعلقة بأمور العقيدة ، فذكر فيها القسم على وقوع البعث ، ثم بيان مقدماته ، ثم إيراد بعض دلائل القدرة والوحدانية ، وتلاها وصف بعض الأمور الغيبية وأحوال الكفار والمؤمنين في عالم الآخرة ولوم الكفار على بعض أعمالهم.

افتتحت بالقسم بالرياح والملائكة على وقوع يوم القيامة (أو يوم الفصل) وحدوث العذاب للكفار : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ..) [الآيات ١ ـ ٧] وبيان علامات ذلك العذاب ووقته : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ..) [الآيات ٨ ـ ١٥].

ثم أوردت بعض دلائل القدرة الإلهية على البعث وإحياء الناس بعد الموت ، وهو إهلاك بعض الأمم المتقدمة وخلق الناس ، وجعل الأرض كفاتا (جامعة ضامة لمن عليها) والجبال الشامخات للتثبيت. وتضمن ذلك وعيد الكافرين بعقوبة مماثلة ، وتوبيخ المكذبين على إنكار نعم الله عليهم في الأنفس ومخلوقات الأرض : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ..) [الآيات ١٥ ـ ٢٨].

ثم حددت مصير المجرمين ، ووصفت عذاب الكافرين وصفا تشيب له الولدان : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [الآيات ٢٩ ـ ٤٠].

ثم وصفت نعيم المؤمنين المتقين ، وألوان التكريم والإحسان والإفضال في جنان الخلد : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) [الآيات ٤١ ـ ٤٥].

وختمت السورة بتقريع الكفار وتوبيخهم على بعض أعمالهم ، وأبانت سبب امتناعهم عن عبادة الله ، وهو طغيانهم وإجرامهم : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [الآيات ٤٦ ـ ٥٠].


فضلها :

أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : بينما نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار بمنى ، إذ نزلت عليه (وَالْمُرْسَلاتِ) فإنه ليتلوها ، وإني لأتلقاها من فيه ، وإن فاه لرطب بها ، إذ وثبت علينا حية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتلوها» فابتدرناها ، فذهبت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وقيت شرّكم ، كما وقيتم شرّها».

وأخرج أحمد عن ابن عباس عن أمه : أنها سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا.

وفي رواية مالك والشيخين في الصحيحين عن ابن عباس : أن أم الفضل سمعته يقرأ (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) فقالت : يا بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في المغرب.

وقوع يوم القيامة حتما ووقته وعلاماته

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥))

الإعراب :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) إن جعلت (وَالْمُرْسَلاتِ) بمعنى الرياح ، كان (عُرْفاً) منصوبا


على الحال ، وإن جعلت بمعنى الملائكة كان (عُرْفاً) منصوبا بتقدير حذف حرف جر ، أي والمرسلات بعرف ، أي بمعروف ، والمعنى الأول أظهر.

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) عصفا ونشرا : منصوبان على المصدر المؤكد.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً) : منصوبان من ثلاثة أوجه : إما على المفعول لأجله ، أي للإعذار والإنذار ، أو على البدل من (ذِكْراً) أي فالملقيات عذرا أو نذرا ، أو بالمصدر نفسه وهو (ذكر) وتقديره : أن ذكّر عذرا أو نذرا.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ النُّجُومُ) : مرفوع بفعل دل عليه (طُمِسَتْ) وتقديره : إذا طمست النجوم طمست ، وجواب إذا مقدر ، تقديره : وقع الفصل ، أو الجواب : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ ..).

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أصل (أُقِّتَتْ) وقتت ، إلا أنه لما انضمت الواو ضما لازما ، قلبت همزة ، كقولهم في وجوه : أجوه.

البلاغة :

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) تأكيد بذكر المصدر لزيادة البيان ، وتقوية الكلام.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) بينهما طباق.

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) وضع الظاهر في الجملة الأخيرة موضع الضمير ، وجيء بصيغة الاستفهام ، لزيادة تهويل الأمر وتعظيمه والتعجيب من هوله.

المفردات اللغوية :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) الأظهر أنها الرياح المتتابعة كعرف الفرس : وهو الشعر المتتابع النابت على الرقبة ، وقيل : إنها الملائكة المرسلة للمعروف والإحسان. (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) الرياح الشديدة. (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) الأظهر أنها أيضا الرياح التي تنشر المطر ، أو تنشر السحاب في آفاق السماء ، كما يشاء الرب عزوجل ، وقيل : إنها الملائكة الموكلون بالسحب يسوقونها حيث يشاء الله تعالى لنشر المطر وإحياء الأرض.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي الملائكة التي تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل ، لتفرّق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، وتلقي بالعلم والحكمة إلى الأنبياء ، للإعذار والإنذار ، الإعذار من الله للعباد لئلا يبقى لهم حجة عند الله ، والإنذار من الله تعالى للناس بالنقمة والعذاب إذا لم يؤمنوا.


(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب القسم ، أي إن الذي توعدون به يا كفار مكة وأشباهكم من مجيء القيامة والبعث والعذاب كائن لا محالة. (طُمِسَتْ) محقت وذهب نورها. (فُرِجَتْ) شقت وصدعت. (أُقِّتَتْ) جمعت لوقت ، وعين لها وقت تحضر فيه للشهادة على الأمم بالتبليغ ، قال الزمخشري : والوجه أن يكون معنى (وقتت) بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟) أي يقال : لأي يوم أخّرت وأمهلت للشهادة على الأمم بالتبليغ ، وهذا القول تعظيم لليوم ، وتعجيب من هوله. (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيان ليوم التأجيل ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق بأعمالهم : إما إلى الجنة ، وإما إلى النار. (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) تهويل لشأنه ، والمعنى : ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بذلك ، وهذا وعيد لهم ، والويل : العذاب والخزي. وويل في الأصل : مصدر منصوب بإضمار فعل ، عدل به إلى الرفع ، للدلالة على ثبات الهلاك للمدعو عليه ، و (يَوْمَئِذٍ) ظرفه ، أو صفته.

التفسير والبيان :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي أقسم بالرياح المتتابعة كعرف الفرس إذا ذهبت شيئا فشيئا ، وبالرياح التي ترسل عاصفة لما أمرت به من نعمة ونقمة ، وبالرياح التي تنشر السحاب وتفرقه في آفاق السماء كما يشاء الرب عزوجل. وهذا هو الأظهر كما قال ابن كثير وابن جزي صاحب التسهيل لعلوم التنزيل ، وقال القرطبي : جمهور المفسرين على أن المرسلات : الرياح.

وقيل : المقصود بالمرسلات : الملائكة المرسلة بوحي الله وأمره ونهيه بالإحسان والمعروف ، والعاصفات : الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها ، والناشرات : الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها أو ينشرون أجنحتهم في الجوّ عند النزول بالوحي. وقيل : المراد بهؤلاء وما يأتي : طوائف الأنبياء أرسلوا بالوحي المحقق لكل خير ، الذي أخذ أمرهم في العصوف والاشتداد إلى أن بلغ غايته ، وانتشرت دعوتهم ، ففرقوا بين المؤمن والكافر ، والمقر والجاحد ، وألقوا الذكر والتوحيد إلى الناس كافة ، أو إلى طائفة معينين.


(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً) ثم أقسم بالملائكة الذين ينزلون بأمر الله على الرسل بما يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والغي ، والحلال والحرام ، وتلقي الوحي إلى الأنبياء ، إعذارا من الله إلى خلقه ، وإنذارا من عذابه إن خالفوا أمره. وقيل : المراد بالفارقات والملقيات : الرياح أيضا.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام ، أي إن ما وعدتم به من مجيء الساعة والنفخ في الصور ، وبعث الأجساد ، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، ومجازاة كل عامل بعمله خيرا أو شرا ، إن هذا كله لواقع وكائن لا محالة.

ثم بيّن الله سبحانه وقت وقوعه وأشراطه ، فقال :

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي فإذا محي نور النجوم وذهب ضوءها ، وفتحت السماء وشقت وصدعت ووهت أطرافها ، وقلعت الجبال من مكانها ، وذهب بها ، وطارت في الجو هباء ، فلا يبقى لها عين ولا أثر ، واستوى مكانها بالأرض.

ونظير الآية في النجوم : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير ٨١ / ٢] وقوله : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ٢]. وفي السماء : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق ٨٤ / ١] وقوله : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ ٧٨ / ١٩] وقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان ٢٥ / ٢٥]. وفي الجبال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ، فَقُلْ : يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه ٢٠ / ١٠٥].

ووجه الجمع بين الرياح في الثلاثة الأول ، وبين الملائكة في الرابع والخامس هو اللطافة وسرعة الحركة.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أي وإذا الرسل جمعت وجعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين


الأمم ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة ٥ / ١٠٩] ويقال لتعجيب العباد من هول ذلك اليوم : لأي يوم عظيم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل : وهي تعذيب من كذبهم ، وتعظيم من صدّقهم ، وظهور ما كانوا قد أوعدوا به الأمم ، وخوفوهم من العرض والحساب ونشر الدواوين ، ووضع الموازين. والمراد بذلك تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه ، وهو يوم القيامة.

ثم أجاب الله تعالى بأنهم أجّلوا ليوم الفصل بين الخلائق ، يفصل فيه بين الناس بأعمالهم ، فيفرّقون إلى الجنة والنار.

ثم عظم تعالى ذلك اليوم ثانيا ، فقال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أيّ وما أعلمك بيوم الفصل ، وأيّ شيء شدته ومهابته؟ يعني أنه أمر هائل لا يعرف وصفه ، ولا يقدر قدره.

ثم عقبه الله تعالى بتهويل ثالث ، فقال :

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل لهم من عذاب الله غدا ، في ذلك اليوم المصحوب بالأهوال لمن كذب الله ورسله وكتبه ، والويل تهديد بالهلاك ، ولا يصح أنه واد في جهنم ، كما قال ابن كثير.

وقد كرر هذا التهويل في السورة في تسعة مواضع أخر ، لمزيد التأكيد والتقرير ، كما مرّ في سورة الرحمن : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بالرياح وبالملائكة جامعا بينهم بسبب اللطافة وسرعة الحركة ، على أن يوم القيامة والبعث حق كائن لا محالة تحقيقا لما أوعد الله به الظالمين في السورة السابقة.


والمقصود بالقسم : التنبيه على جلالة المقسم به ، ومعروف مدى تأثير الرياح ، سواء لإنزال المطر أو لإصابة العذاب ، كما أن شرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه : هي شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى ، ولتنوع طوائفهم ، فمنهم الموكل بإنزال الوحي على الأنبياء ، ومنهم المرسل ليلا أو نهارا لرصد أعمال بني آدم وكتابتها ، والعمل يشمل القول من اللسان والفعل الصادر من الجوارح (الأعضاء) ومنهم الموكل بقبض الأرواح ، ومنهم الذين ينزلون من البيت المعمور إلى الكعبة (١).

٢ ـ ثم ذكر الله تعالى متى يقع يوم القيامة وعلاماته (أو أشراطه) وهو يوم ذهاب ضوء النجوم ومحي نورها ، كطمس الكتاب ، وتشقق السماء (أو انفطارها) وزوال معالمها ، ونسف الجبال والذهاب بها دون بقاء أثر لها حتى تسوى بالأرض ، وجمع الرسل ليوم القيامة في الميقات المخصص لهم للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم. والخلاصة : هذه مقدمات البعث.

٣ ـ عيّن الله تعالى ميعاد جمع الرسل : وهو يوم الفصل الذي أجّلوا إليه ، فيفصل الله تعالى فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار.

٤ ـ عظم الله تعالى ذلك اليوم وأشاع عنه التهويل ثلاث مرات : في قوله (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ) وقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟) وقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي العذاب والخزي لمن كذّب بالله وبرسله وبكتبه وبيوم الفصل ، فهو وعيد شديد.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٦٥


تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨))

الإعراب :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) : إنما لم يجزم فعل نتبع بالعطف على (نُهْلِكِ) لأنه في نية الاستئناف ، وتقديره : ثم نحن نتبعهم.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً .. وَأَمْواتاً كِفاتاً) و (أَمْواتاً) إما منصوبان على الحال ، أي نجمعهم في هاتين الحالين ، أو أن يكونا بدلا من (الْأَرْضَ) على معنى أن تكون (كِفاتاً) إحياء نبت ، و (أَمْواتاً) لا تنبت ، وتقديره : ألم نجعل الأرض ذات نبات وغير ذات نبات.

البلاغة :

(الْأَوَّلِينَ) و (الْآخِرِينَ) بينهما طباق ، وكذا بين (أَحْياءً) و (أَمْواتاً).

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) استفهام تقريري ، ومثله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ).

(مَهِينٍ مَكِينٍ) جناس ناقص غير تام.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) كقوم نوح وعاد وثمود ، وقرئ «نهلك» من هلكه بمعنى أهلكه. (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي ثم نحن نتبعهم نظراءهم ككفار مكة ، وقرئ بجزم الفعل ، عطفا على (نُهْلِكِ) فيكون المراد من (الْآخِرِينَ) المتأخرين من المهلكين ، كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم‌السلام. (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين أي بكل من أجرم. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بآيات الله وأنبيائه ، والتكرار للتأكيد ، أو أن الويل الأول لعذاب الآخرة ، وهذا للإهلاك في الدنيا.


(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) من نطفة مذرة ذليلة ، أو من ماء ضعيف ، وهو المني. (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي مستقر حريز حصين ، وهو الرحم. (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى زمان معلوم أو إلى مقدار معلوم من الوقت ، وهو وقت الولادة ، قدره الله تعالى. (فَقَدَرْنا) على تصويره وخلقه. (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) نحن. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بقدرتنا على ذلك ، أو على الإعادة. (كِفاتاً) ضامة جامعة ، من كفت الشيء : إذا ضمه وجمعه. (أَحْياءً وَأَمْواتاً) الأحياء : ما ينبت ، والأموات : ما لا ينبت.

(رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا مرتفعة. (فُراتاً) عذبا.

المناسبة :

بعد تحذير الكفار وإنذارهم بأهوال يوم القيامة ، أعقبه بتخويفهم وتحذيرهم عن الكفر ، بالإهلاك كإهلاك الأمم المتقدمة ، ثم هددهم بإنكار إحسانه إليهم ، مبينا أمثلة ومظاهر لقدرة الله عزوجل ، كخلق الإنسان وحواسه ، والأرض وتثبيتها بالجبال الشامخات ، وتزويدها بينابيع المياه العذبة ، وذلك كله يستدعي شكر نعم الله في النفس والآفاق.

التفسير والبيان :

هدد الله تعالى الكفار بقوله :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ)؟ أي ألم نهلك الكفار المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به من الأمم الماضية ، من لدن آدم عليه‌السلام كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم إلى زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالعذاب في الدنيا ، ثم نتبعهم بأمثالهم وأشباههم ، وهم كفار مكة حين كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن.

وفي هذا وعيد شديد لكل من كفر بالله وتخويف وتحذير من الكفر.

ثم أخبر تعالى بأن تلك سنة الله لا تبديل فيها ، مع بيان حكمة الإهلاك ، فقال :


(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن سنتنا في جميع الكفار واحدة ، فمثل ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله ، الذين أجرموا في حق أنفسهم ، نفعل بكل مشرك ، إما في الدنيا أو في الآخرة.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي الخزي والعذاب يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.

ثم وبخهم بتعداد النعم والامتنان عليهم ، وبيان آثار القدرة الإلهية عليهم ، ومحتجا بالبداءة على الإعادة فقال :

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ)؟ أي ألا ترون وتدركون أننا نحن خلقناه من ماء ضعيف حقير ، وهو المني ، وضعفه واضح بالنسبة إلى قدرة الباري عزوجل ، وجعلناه وجمعناه في مستقر أو مكان حريز حصين ، وهو الرحم ، ثم أبقاه الله إلى مدة معينة هي مدة الحمل من ستة أشهر إلى تسعة أشهر.

ونحن قدّرنا أعضاءه وصفاته ، وجعلنا كل حال على الصفة التي أردنا ، فنعم المقدّر الله ، أو فنعم المقدّرون له نحن. أو على قراءة التخفيف (فقدرنا) أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا ، فنعم أصحاب القدرة نحن ، حيث خلقناكم في أحسن تقويم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي خزي وعذاب في ذلك اليوم الهائل ، يوم القيامة لمن كذب بقدرتنا على ذلك وبهذه المنن والنعم.

وهذا توبيخ وتخويف من وجهين :

أحدهما ـ أن النعمة كلما كانت أعظم ، كان كفرانها أفحش.

والثاني ـ أن القادر على الإبداء (الخلق الأول) قادر على الإعادة ، فالمنكر


لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ.

ثم عدّ عليهم نعم الآفاق الثلاث بعد ذكر الأنفس فقال :

١ ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ، أَحْياءً وَأَمْواتاً) أي ألم نجعل الأرض ضامّة للأحياء على ظهرها في منازلهم ، والأموات في بطنها ، تضمهم وتجمعهم؟ قال الشعبي : بطنها لأمواتكم ، وظهرها لأحيائكم. والكفات : اسم ما يكفت أي يضم ويجمع ، ويجوز أن يكون اسما لما يكفت به ، مبنيا للمفعول ، كالشداد لصمام يشد به رأس القارورة.

٢ ، ٣ ـ (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ، وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي وأوجدنا في الأرض جبالا ثوابت عاليات ، لئلا تميد وتضطرب بكم ، وأسقيناكم من ينابيعها أو من السحاب ماء عذبا زلالا ، وهذا كله أعجب من البعث.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب شديد في الآخرة لمن كذب أو كفر بهذه النعم ، وويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها ، ثم استمر على تكذيبه وكفره.

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكر الله تعالى عشرة أنواع من تخويف الكفار وتحذيرهم عن الكفر ، أذكر منها هنا أربعة وهي :

النوع الأول من التخويف ـ أنه أقسم في الآيات السابقة على أن اليوم الذي يوعدون به ، وهو يوم الفصل ، واقع.

النوع الثاني ـ أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم ، وأخبر أنه يفعل مثل ذلك في الأقوام المتأخرين ، فلا بد وأن يهلكهم أيضا ، لتماثلهم مع المتقدمين في علة الإهلاك ، وهي التكذيب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وذكر تعالى


أن هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين ، فعمم الحكم جميع المجرمين.

ثم أكد تعالى التخويف بقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) والمراد أن مآلهم في الدنيا الهلاك ، وفي الآخرة العذاب الشديد ، كما قال تعالى : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الحج ٢٢ / ١١]. وهؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا ، فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة.

والنوع الثالث من تخويف الكفار ـ التذكير بعظيم إنعامه عليهم ، والتحذير من مغبة كفران النعمة وإنكار إحسانه إليهم ، وهو خلقه الإنسان من النطفة الضعيفة الحقيرة ، ثم إيداعها في مكان حريز وهو الرّحم إلى أن يتم تصويره ويحين وقت ولادته ، وذلك لا يمكن من غير قادر عليّ ، فنعم القادر والمقدّر وهو الله تعالى.

ووجه التخويف من جانبين كما تقدم :

الأول ـ أنه كلما كانت نعمة الله عليهم أكثر ، كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش ، وكان العقاب أعظم ، لذا قال عقيب هذا الإنعام : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

الثاني ـ أنه تعالى ذكّرهم كونه قادرا على الابتداء ، ومن المقرر الظاهر عقلا عند البشر أن القادر على الابتداء ، قادر على الإعادة ، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة ، قال في حقهم : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١).

والنوع الرابع من تخويف الكفار ـ أنه تعالى بعد أن ذكّرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس ، ذكّرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق ، وذكر ثلاثة أشياء : هي الأرض التي هي كفات الأحياء والأموات ، والجبال الرواسي الشامخات ، أي

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ٣٠ / ٢٧٢


الثواب على ظهر الأرض فلا تزول ، العاليات ، والماء الفرات الذي هو الغاية في العذوبة.

وأعقب التذكير بهذه النعم في الآفاق في آخر الآية : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لأن النعم كما تقدم كلما كانت أكثر ، كانت الجناية أقبح ، فكان استحقاق الذم عاجلا ، والعقاب آجلا أشدّ ، كما قال الرازي.

هذا وقد استنبط العلماء من آية (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) حكمين (١) :

الأول ـ إذا كانت الأرض ضامّة تضم الأحياء على ظهورها ، والأموات في بطنها فهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه ، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه.

والثاني ـ روي عن ربيعة في النبّاش (سارق أكفان الموتى) قال : تقطع يده ، فقيل له : لم قلت ذلك؟ قال : إن الله عزوجل يقول : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ، أَحْياءً وَأَمْواتاً) فالأرض حرز. وكانوا يسمّون بقيع الغرقد في المدينة كفتة ؛ لأنه مقبرة تضم الموتى ، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم ، والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض ، ثم اضطجاعهم عليها ، انضمام منهم إليها.

وكذلك استدل الشافعية بالآية على قطع النباش : بأن الله تعالى جعل الأرض كفاتا للأموات ، فكان بطنها حرزا لهم ، فالنباش سارق من الحرز. هذا .. وأما بقية أنواع تخويف الكفار وتهديدهم ، فمحلها الآيات الآتية.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٦١


أنواع ثلاثة أخرى من وجوه تخويف الكفار

كيفية عذابهم في الآخرة

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠))

الإعراب :

(كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) وقرئ : «جمالات» : جمع جمالة ، وجمالة جمع جمل ، كحجر وحجارة ، وذكر وذكارة ، فعلى هذا (جمالات) جمع الجمع.

(لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فَيَعْتَذِرُونَ) عطف على (يَنْطِقُونَ) كأنه قال : لا ينطقون ولا يعتذرون ، كقراءة من قرأ : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر ٣٥ / ٣٦] بالياء والنون ، كأنه قال : لا يقضى عليهم ولا يموتون. فلو حملت الآية على ظاهرها لتناقض المعنى ؛ لأنه يصير التقدير : هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون ، فيكون ذلك متناقضا ؛ لأن الاعتذار نطق. أو معطوف على يؤذن ، ليدل على نفي الإذن ، أي لا إذن فلا اعتذار.

البلاغة :

(تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) تشبيه مرسل مجمل لحذف وجه الشبه ، و (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) تشبيه مرسل مفصل ، وفي التشبيه بالقصر وهو الحصن ، تشبيه من جهتين : من جهة العظم ، ومن جهة الارتفاع. وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس تشبيه من ثلاث جهات : من جهة العظم ، والارتفاع ، والصفرة.

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ، لا ظَلِيلٍ ..) أسلوب التهكم ، سمى العذاب ظلّا تهكما وسخرية بهم.


(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) سجع مرصع ، وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير.

المفردات اللغوية :

(انْطَلِقُوا) وفي قراءة «انطلقوا» إخبارا عن امتثالهم للأمر اضطرارا. (إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) ظل دخان جهنم ، إذا ارتفع افترق ثلاث فرق ، لعظمه ، والشعب : الفروع. (لا ظَلِيلٍ) لا وقاية فيه من حرّ ذلك اليوم ، وهو تهكم بهم ، وردّ لما أوهم لفظ الظلل. (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) لا يفيدهم من حرّ اللهب شيئا ، واللهب : شعلة النار. (إِنَّها) أي النار. (بِشَرَرٍ) ما تطاير من النار ، جمع شرارة. (كَالْقَصْرِ) كالبناء الكبير المشيد في عظمه وارتفاعه.

(جِمالَتٌ) جمع جمل ، وقرئ : جمالات : جمع الجمع. (صُفْرٌ) في الهيئة واللون ، وقيل : سود ، فإن سود الإبل يضرب إلى الصفر ، والأول تشبيه في العظم والارتفاع ، الثاني في العظم والارتفاع واللون ، والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة. (هذا) أي يوم القيامة ، وقرئ : يوما ، أي هذا المذكور واقع يومئذ. (لا يَنْطِقُونَ) فيه بشيء يستحق الذكر ، فإن النطق بما لا ينفع كلا نطق. (الْفَصْلِ) بين المحق والمبطل. (جَمَعْناكُمْ) أيها المكذبون من هذه الأمة. (وَالْأَوَّلِينَ) من المكذبين قبلكم ، فتحاسبون وتعذبون جميعا. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي إن كان لكم حيلة في دفع العذاب عنكم ، فافعلوها واحتالوا علي. وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا ، وإظهار لعجزهم. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) عذاب يوم القيامة لمن كذب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ، إذ لا حيلة لهم في التخلص من العذاب.

المناسبة :

بعد أن هدد الله تعالى الكفار بعذاب يوم الفصل والقيامة ، أبان كيفية عذابهم في الآخرة ، بزجهم في النيران ، وافتضاحهم على رؤوس الأشهاد ، حيث لا عذر لهم ولا حجة في قبائحهم ، وتعذيبهم بالتقريع والتخجيل ، وتلك أنواع ثلاثة أخرى من أنواع تخويف الكفار وتهديدهم.

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى عما يقال يوم القيامة للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة


والنار ، فقال مبينا النوع الخامس من أنواع التهديد :

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقال للكفار من قبل خزنة جهنم : اركضوا أو سيروا واذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب الأخروي في الدنيا.

ثم وصف الله تعالى هذا العذاب بأربع صفات ، بقوله :

١ ـ (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) هذا تهكم بهم ، معناه : سيروا إلى ظل من دخان جهنم متشعب إلى شعب ثلاث أو فرق ، فإن لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان ، صار له ثلاث شعب من شدته وقوته. والمراد أنهم يتنقلون من عذاب إلى آخر ، وأن العذاب محيط بهم من كل جانب ، كما قال تعالى : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) [الكهف ١٨ / ٢٩] وسرادق النار : هو الدخان فتكون تسمية النار بالظل مجازا من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب ، كقوله سبحانه : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر ٣٩ / ١٦] وقوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ٥٥].

٢ ، ٣ ـ (لا ظَلِيلٍ ، وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) وهذا أيضا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين ، فذلك الظل لا يمنع حرّ الشمس ، وليس فيه برد ظلال الدنيا ، ولا يفيد في رد حرّ جهنم عنكم شيئا ؛ لأن هذا الظل في جهنم ، فلا يظلهم من حرها ، ولا يسترهم من لهيبها ، كما جاء في آية أخرى : (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة ٥٦ / ٤٢ ـ ٤٤].

واللهب : ما يعلو على النار إذا اضطرمت ، من أحمر وأصفر وأخضر.

٤ ـ (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق ، كل شرارة من شررها التي ترمي بها كالقصر (البناء العظيم) في العظم والارتفاع ، وكالإبل الصفر في اللون والكثرة والتتابع وسرعة


الحركة. وقال الفرّاء : الصفر سود الإبل ؛ لأنها مشربة بصفرة ، لذلك سمت العرب سود الإبل صفرا. والأكثرون على أن المراد بهذه الصفرة سواد يعلوه صفرة. والشرر جمع شرارة : وهو ما تطاير من النار في كل جهة.

والمقصود بالتشبيه الأول بيان أن تلك النار عظيمة جدا ، والمقصود بالتشبيه الثاني شدة اشتعالها ، والتهكم بهم ، كأنه قيل : كنتم تتوقعون من وثنيتكم كرامة ونعمة وجمالا ، إلا أن تلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال ، لذا أعقبه بقوله :

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب وخزي في يوم القيامة الهائل للمكذبين لرسل الله وآياته ، الذين لا مفر لهم من ذلك العذاب.

ثم وصف تعالى ماذا يكون للكفار في ذلك اليوم من ألوان العذاب الأدبية ، وهو النوع السادس من أنواع التخويف ، فقال :

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي هذا اليوم لا يتكلمون فيه ، لهول ما يرون ، وللحيرة والدهشة التي تعتريهم ، ولا يأذن الله لهم ، فيكون لهم اعتذار ، بل قد قامت عليهم الحجة ، لذا قال تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا ، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [التوبة ٩ / ٦٦] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التحريم ٦٦ / ٧].

والمراد بهذا النوع بيان أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من المفاسد والقبائح والمنكرات ، وأنه لا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم. وبيان هذا النوع للدلالة على شدة أهوال القيامة.

وإنما لم يؤذن لهم في الاعتذار ؛ لأنه تعالى قدّم الإنذار في الدنيا ، بدليل قوله في مطلع السورة : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً). ولهذا قال في آخر هذا الإخبار :


(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب يوم القيامة للمكذبين بما أنذرتهم به الرسل من العذاب في الدنيا ، إن استمروا على الكفر ، وخالفوا أوامر الرسل.

ثم أخبر الله تعالى عن النوع السابع من أنواع تهديد الكفار ، فقال :

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ، جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) أي ويقول الخالق لهم : هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق ، ويتميز فيه الحق من الباطل ، جمعناكم بقدرتنا يا معشر كفار قريش وأمثالكم المتأخرين على مرّ الدهور فيه مع الكفار الأولين ، وهم كفار الأمم الماضية في صعيد واحد ، ولجزاء واحد.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي إن قدرتم أيها الكفار بحيلة ما على أن تتخلصوا من العذاب ، فافعلوا ، فإنكم لا تقدرون على ذلك. وهذا نهاية في التقريع والتحقير والتخجيل والتعجيز والتوبيخ وهو من جنس العذاب الروحاني ، لذا قال عقيبه :

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب يوم القيامة لكل من كذب بالبعث ، لأنه ظهر لهم عجزهم وفقد كل أمل لهم بالنجاة من العقاب.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه ثلاثة أنواع أخرى من تخويف الكفار إضافة للأنواع الأربعة المتقدمة :

النوع الخامس ـ بيان كيفية عذابهم في الآخرة : يقال للكفار تبكيتا وتهكما وتقريعا من خزنة جهنم : سيروا إلى ما كذبتم به من العذاب وهو النار ، فقد شاهدتموها عيانا.

وعذاب النار له أوصاف أربعة : يتشعب ظله أو دخانه إلى ثلاث شعب ، كما هو شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب ، وليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس ، ولا يدفع من لهب جهنم شيئا ، وترمي النار بشرارات ، كل شرارة كالقصر :


البناء العالي ، في العظم والارتفاع ، مما يدل على أن تلك النار عظيمة جدا ، وهي أيضا كالجمالات الصّفر : وهي الإبل السود ، والعرب تسمي السّود من الإبل صفرا مما يدل على أن تلك النار شديدة الاشتعال كثيفة ، متتابعة ، سريعة الالتهاب.

وذكر القرطبي أن في هذه الآية دليلا على جواز ادّخار الحطب والفحم ، وإن لم يكن من القوت ، فإنه من مصالح المرء ، مما يقتضي أن يكتسبه في غير وقت حاجته ؛ ليكون أرخص ، وحالة وجوده أمكن ، كما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدّخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله ، وكل شيء محمول عليه (١).

النوع السادس ـ بطلان الحجة ، وفقد العذر ، والعجز : أبان تعالى أنه ليس للكفار يوم القيامة عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من القبائح ، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم ، فاجتمع عليهم عذاب التخجيل والعذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها.

النوع السابع ـ التعذيب بالتقريع والتخجيل : يقال للكفار يوم القيامة : هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق ، فيتبين المحقّ من المبطل ، والذي جمع فيه في صعيد واحد أوائل الكفار وأواخرهم ، سواء الذين كذبوا الرسل المتقدمين قبل نبينا ، أو كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تحداهم الله تعالى بأن يجدوا لأنفسهم ملجأ أو وقاية من العذاب على المعاصي التي اقترفوها في الدنيا ، ولكنهم يعجزون عن ذلك وعن الدفع عن أنفسهم.

ويكون الفصل فيما بين العباد بعضهم مع بعض من حقوق وظلامات ، فهذا يدعي على آخر أنه ظلمه ، أو قتله ، وآخر يدعي أنه اغتصب منه شيئا أو سرق ماله ، وهكذا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٩ / ١٦٥


أما ما يتعلق بحقوق الله تعالى فلا حاجة فيه للفصل ، وإنما يلقى العبد الثواب الذي يستحقه على عمله الصالح ، والعقاب الذي يجازى به على عمله السيء ، إلا أنه فيما يتعلق بجانب العبد ، فإنه تقرر عليه أعماله التي عملها ، حتى يعترف (١).

الأنواع الباقية من تهديد الكفار وتعذيبهم

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

الإعراب :

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) في موضع الحال من ضمير (الْمُتَّقِينَ) ، المقدر في الظرف الآتي بعده ، أي هم مستقرون في ظلال ، مقولا لهم ذلك. و (هَنِيئاً) حال أي متهنئين.

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) حال من المكذبين ، أي الويل ثابت لهم ، في حال ما يقال لهم : كلوا وتمتعوا.

البلاغة :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) مقابلة ، قابل الجملة الأخيرة بقوله بعدئذ : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً ، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) مجاز مرسل ، أطلق الركوع ، وأراد به الصلاة ، فهو من قبيل إطلاق البعض وإرادة الكل.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣٠ / ٢٨١


(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) سجع مرصع ، وهو توافق الفواصل في الحرف الأخير.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) أي إن المؤمنين المتقين من الشرك ، الذين هم في مقابلة المكذبين ، هم في ظلال وارفة تحت أشجار متكاثفة في الجنة ؛ إذ لا شمس يظل من حرها ، وعيون ـ أي أنهار ـ نابعة بالماء ، ويتمتعون بفواكه مما يشتهون ، فهم مستقرون في أنواع الترفّه. وفيه دلالة على أن نعم الجنة بحسب الرغبة والميل ، بخلاف الدنيا تكون بحسب ما يجد الناس في الأغلب. والفرق بين الظل والفيء : أن الظل أعم من الفيء ، فيقال : ظل الليل وظل الجنة وظل الجدار ، أما الفيء : فهو ما زالت عنه الشمس.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي متهنئين ، أي يقال لهم ذلك. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الطاعة. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا المتقين نجزي المحسنين. (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً ، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي يقال للكفار في الدنيا تهديدا لهم : كلوا ما شئتم في الدنيا ، وتمتعوا بنعيمها مدة قليلة من الزمان يعقبها الموت ، ثم تنالون عقابكم وننتقم منكم على كفركم وتكذيبكم لرسلنا ، فإنكم مشركون بالله ، لا تستحقون الإنعام والتكريم. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.

(ارْكَعُوا) صلوا. (لا يَرْكَعُونَ) لا يصلون ، واستدل به على أن الأمر للإيجاب ، وأن الكفار مخاطبون بالفروع. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي بأي كلام يصدقون إذا لم يصدقوا بهذا القرآن؟ فهو معجز في ذاته ، مشتمل على الحجج الواضحة والمعاني الكريمة ، ولا يمكن إيمانهم بعدئذ بغيره من كتب الله ، بعد تكذيبهم به.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٨):

(ارْكَعُوا ..) : أخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : ارْكَعُوا ، لا يَرْكَعُونَ) قال : نزلت في ثقيف ، امتنعوا من الصلاة ، فنزل ذلك فيهم. وقال مقاتل : قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلموا» وأمرهم بالصلاة ، فقالوا : لا ننحني فإنها مسبّة علينا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود».


المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار ، قابل ذلك للعظة والعبرة بأحوال المؤمنين في الآخرة ، وبيّن ما لهم من أنواع السعادة والكرامة ، فتتضاعف حسرة الكافر ، وتتزايد غمومه وهمومه ، وهذا من جنس العذاب الروحاني.

ثم وبّخ الله تعالى الكفار وهددهم بزوال نعم الدنيا في وقت قصير ، وتعرضهم للآفات العظيمة في الآخرة ، ثم ذكرهم بتقصيرهم في طاعة الله ، وإهمالهم فريضة الصلاة ، وتركهم الإيمان بالقرآن الذي لا جدوى من الإيمان بغيره من الكتب السماوية الأخرى التي بادت وتبدلت ونسخت.

والخلاصة : تضمنت هذه الآيات ثلاثة أنواع أخرى من تخويف الكفار وتعذيبهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات ، وترك المحرمات ، وعن أحوالهم يوم القيامة ، فيقول :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي يكون المتقون في الآخرة في جنات وظلال وارفة تحت الأشجار والقصور ، وتحيط بهم العيون الجارية والأنهار المتدفقة ، بخلاف ما يكون فيه الكفار الأشقياء من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن ، والنار المستعرة بهم.

ونظير الآية : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ ، عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) [يس ٣٦ / ٥٦].

(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ولديهم أنواع من الفواكه والثمار ، مما تطلبه


أنفسهم ، وتستدعيه شهواتهم ، فمهما طلبوا وجدوا.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويقال لهم في الآخرة بدليل قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) على سبيل الإحسان إليهم والتكريم : كلوا أيها المتقون من طيبات الجنة وفواكهها ، واشربوا متهنئين بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة. وهذا أمر إكرام ، لا أمر تكليف ، وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني بالنسبة إلى الكافرين حين يرون الذين اتقوا الشرك في النعيم المقيم.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل ، ومثل ذلك الجزاء العظيم لهؤلاء المتقين نجزي المحسنين في أعمالهم ، فلا نضيع لهم أجرا ، كما قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف ١٨ / ٣٠].

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب وخزي يوم القيامة للمكذبين بالله ورسله وبما أخبر الله من تكريم هؤلاء المتقين في الآخرة ، حيث صاروا في شقاء عظيم ، وصار المؤمنون في نعيم مقيم. وهذا هو النوع الثامن من أنواع تهديد الكفار.

ثم خاطب الله تعالى المكذبين بيوم الدين ، وأمرهم على سبيل التهديد والوعيد ، فقال:

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً ، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي يقال لهم في الدنيا (١) : كلوا من مآكل الحياة ولذائذها ، وتمتعوا بخيراتها زمانا قليلا ، ومدة قصيرة تزول بانتهاء العمر ، ثم تساقون إلى نار جهنم ، فإنكم مشركون بالله. وهذا إن خوطبوا به في الآخرة توبيخ وتذكير بحالهم السمجة ، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم ، وعلل ذلك بكونهم مجرمين إيعادا لكل مجرم.

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٤٠٨


(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب لأولئك المشركين المكذبين بأوامر الله تعالى ونواهيه ، وبما أخبرهم به أنه فاعل بهم ، كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤].

وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار ، ثم ذكر بعده النوع العاشر ، فقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون ، فهم مستكبرون عن طاعة الله تعالى. وهذا ذم على ترك الخشوع والتواضع لله بقبول وحيه وأمره وتكليفه.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأوامر الله سبحانه ونواهيه.

ثم ختم السورة بالتعجب من الكفار ، فقال :

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن وما فيه من الدلائل على وجود الله تعالى وتوحيده وصدق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبأي كلام بعده يصدقون؟ فالقرآن فيه كل ما يرشد إلى الخير وسعادة الدارين.

روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة كان إذا قرأ : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) فقرأ : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟ قال : فليقل : آمنت بالله وبما أنزل.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت هذه الآيات الأنواع الثلاثة الأخيرة من أنواع تخويف الكفار العشرة وتعذيبهم:

النوع الثامن ـ مضاعفة حسرة الكفار ، وتزايد غمومهم وهمومهم ، وهو من جنس العذاب الروحاني ، فإنهم إذا وجدوا ما أعد الله للمتقين المؤمنين من أنواع السعادة والكرامة ، تحسروا واغتموا ، وكانت حالهم في غاية الذل والهوان والخزي.


لقد أخبر الله تعالى عما يصير إليه المتقون غدا من الاستمتاع والاستقرار بظلال الأشجار وظلال القصور ، في مواجهة الشعب الثلاث لظل النار ، والتمتع بالفواكه التي يطلبونها ويتمنونها ، ويقال لهم غدا : كلوا واشربوا متهنئين ، بدل ما يقال للمشركين : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ). وهذا هو الثواب الذي يثيب الله به الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعمالهم في الدنيا

والنوع التاسع ـ وعيد الكفار وتهديدهم إذ يقال لهم في الدنيا : كلوا وتمتعوا زمنا قليلا ، فإنكم مجرمون مشركون بالله ، ومجازون بسوء أعمالكم ، فقد عرضتم أنفسكم للعذاب لأجل حب الدنيا ، والرغبة في طيباتها وشهواتها القليلة الفانية بالنسبة لتلك الآفات العظيمة التي تلقونها يوم القيامة.

والنوع العاشر ـ توبيخهم وتقريعهم على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب الشديد ، وعدم انقيادهم لطاعة الله ، وعدم أداء فريضة الصلاة ، فإذا أمروا بها لم يؤدوها.

وقد كرر تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بعد كل نوع لتأكيد التخويف والوعيد.

ثم ختم الله السورة بعظة بليغة موجزة وهي أنه إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدال قطعا على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبأي شيء يصدقون؟!!

انتهى هذا الجزء ولله الحمد


فهرس

الجزء التاسع والعشرين

 الموضوع

 الصفحة

تفسير سورة الملك................................................................ ٥

تسميتها ومناسبتها لما قبلها........................................................ ٥

ما اشتملت عليه السورة........................................................... ٦

فضل السورة..................................................................... ٧

بعض أدلة القدرة الإلهية........................................................... ٨

تعذيب الكفار العصاة.......................................................... ١٤

وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى..................................... ١٩

أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة..................................... ٢٤

توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة الله واختصاصه بعلم البعث............ ٢٩

دعاء كفار مكة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالهلاك.................................... ٣٦

تفسير سورة القلم............................................................... ٤١

تسميتها ومناسبتها لما قبلها....................................................... ٤١

ما اشتملت عليه السورة......................................................... ٤٢

كمال الدين والخلق عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم......................................... ٤٢

الأخلاق الذميمة عند الكفار.................................................... ٤٩

قصة أصحاب الجنة............................................................. ٥٦

جزاء المتقين وإنكار التسوية بين المطيع والعاصي..................................... ٦٥


تخويف الكفار من قدرة الله تعالى وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر والتذكير..................... ٧١

العالمي بالقرآن............................................................... ٧١

تفسير سورة الحاقة.............................................................. ٧٩

تسميتها ومناسبتها لما قبلها....................................................... ٧٩

ما اشتملت عليه السورة......................................................... ٨٠

تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به............................................. ٨١

بعض أهوال القيامة............................................................. ٨٧

حال الأبرار الناجين بعد الحساب................................................. ٩٢

حال الأشقياء يوم القيامة........................................................ ٩٦

تعظيم القرآن وإثبات نزوله بالوحي.............................................. ١٠١

تفسير سورة المعارج............................................................ ١٠٩

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ١٠٩

تهديد المشركين بعذاب القيامة وتأكيد وقوعه...................................... ١١٠

الخصال العشر التي تعالج طبع الإنسان........................................... ١١٩

أحوال الكفار المكذبين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا والآخرة............................. ١٢٦

تفسير سورة نوح عليه‌السلام......................................................... ١٣٣

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ١٣٣

إرسال نوح عليه‌السلام إلى قومه...................................................... ١٣٥

مناجاة نوح ربه وشكواه إليه.................................................... ١٣٨

أنواع من قبائح قوم نوح وأقوالهم وأفعالهم......................................... ١٤٧

تفسير سورة الجن.............................................................. ١٥٥

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١٥٥

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ١٥٦


إيمان الجن بالقرآن وبالله تعالى................................................... ١٥٧

حكاية أشياء أخرى عن الجن................................................... ١٦٦

أنواع أخرى من الموحى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان أصول رسالته........................ ١٧٣

تفسير سورة المزمل............................................................. ١٨٧

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ١٨٧

إرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء الدعوة................................................. ١٨٩

تهديد الكفار وتوعدهم........................................................ ٢٠١

تذكير وإرشاد بأنواع الهداية..................................................... ٢٠٦

تفسير سورة المدثر............................................................. ٢١٥

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ٢١٥

فضلها....................................................................... ٢١٦

سبب نزولها.................................................................. ٢١٧

إرشادات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدء الدعوة.............................................. ٢١٨

تهديد زعماء الشرك........................................................... ٢٢٣

الحكمة في اختيار عدد خزنة جهنم التسعة عشر.................................. ٢٣١

الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرمين.......................................... ٢٤٠

تفسير سورة القيامة............................................................ ٢٤٩

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ٢٤٩

إثبات البعث والمعاد وعلائمه................................................... ٢٥١

حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حفظ القرآن وحال الناس في الآخرة.......................... ٢٦١

تفريط الكافر في الدنيا وإثبات البعث............................................ ٢٦٩

تفسير سورة الإنسان.......................................................... ٢٧٩

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ٢٧٩


ما اشتملت عليه السورة........................................................ ٢٨٠

خلق الله الإنسان وهدايته السبيل................................................ ٢٨١

جزاء الكفار والأبرار يوم القيامة................................................. ٢٨٥

مساكن أهل الجنة وأشربتهم وخدمهم وألبستهم................................... ٢٩٣

أحوال الطائعين والمتمردين المشركين في الدنيا...................................... ٣٠٢

تفسير سورة المرسلات......................................................... ٣١٠

تسميات ومناسبتها لما قبلها.................................................... ٣١٠

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ٣١١

فضلها....................................................................... ٣١٢

وقوع يوم القيامة حتما ووقته وعلاماته........................................... ٣١٢

تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر.............................................. ٣١٨

أنواع ثلاثة أخرى من وجوه تخويف الكفار كيفية عذابهم في الآخرة.................. ٣٢٤

الأنواع الباقية من تهديد الكفار وتعذيبهم......................................... ٣٣٠

التفسير المنير - ٢٩

المؤلف:
الصفحات: 339