

بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة المجادلة
مدنيّة ، وهي
اثنتان وعشرون آية.
مدنيتها
:
هذه السورة مدنية
على الصحيح ، وروي عن الكلبي أنه قال : نزلت كلها بالمدينة إلا قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا
هُوَ رابِعُهُمْ ..) فإنها نزلت بمكة. وعن عطاء : العشر الأول منها مدني ،
وباقيها مكي.
تسميتها :
سميت سورة
المجادلة ، لافتتاحها بقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ..) وهذه المرأة هي خولة امرأة أوس بن الصامت.
مناسبة السورة لما
قبلها :
تتضح صلة هذه
السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي :
١ ـ ذكر في مطلع
سورة الحديد صفات الله الجليلة ، ومنها الظاهر والباطن ، والعالم بما يلج في الأرض
وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو مع خلقه أينما كانوا ،
وذكر في مطلع هذه السورة ما يدل على ذلك وهو سماع قول المجادلة التي تشتكي إلى
الله ، ولهذا قالت عائشة رضياللهعنها حين نزلت : «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، إني في ناحية
البيت لا أعرف ما تقول» أي المجادلة.
__________________
٢ ـ ختمت السورة
السابقة ببيان فضل الله ، وافتتحت هذه السورة بما يشير إلى بعض الفضل.
٣ ـ ذكر في
المجادلة : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ..) الآية (٧) وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى في السورة السابقة
: (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤).
ما
اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة
كغالب السور المدنية بيان الأحكام التشريعية ، وقد تضمنت حكم الظهار وكفارته ، وحكم
التناجي ، وأدب المجالس ، وتقديم الصدقة في بدء الأمر قبل مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وحكم المنافقين وجزائهم وتكذيبهم ووصفهم بأنهم حزب
الشيطان ، وموادة أعداء الله وموالاتهم. وتميزت الآيات كلها في هذه السورة باشتمال
كل آية على لفظ الجلالة : (الله) لتربية المهابة منه في النفوس ، وعدم التجرؤ على
مخالفة أحكامها.
بدئت السورة ببيان
سماع الله صوت امرأة هي خولة بنت ثعلبة ، تجادل رسول الله صلىاللهعليهوسلم في شأن مصيرها من زوجها أوس بن الصامت الذي ظاهر منها
قائلا لها : «أنت علي كظهر أمي» وحكم الظهار في الجاهلية تحريم الزوجة تحريما
مؤبدا ، فبدّل الله ذلك الحكم ، وجعل حكم الظهار التحريم المؤقت الذي يزول بإخراج
كفارة الظهار المنصوص عليها في الآيات الأولى من هذه السورة : عتق رقبة ، فصيام
شهرين متتابعين ، فإطعام ستين مسكينا (الآيات : ١ ـ ٤) وأعقبت ذلك بالحكم بإذلال
وخزي الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وإحصاء أعمالهم وشهادته عليهم (الآيتان : ٥ ـ ٦).
ثم ذكرت أدب
التناجي في المجالس : وهو الكلام سرا بين اثنين فأكثر أمام الآخرين ، وحرّمته إذا
كان تناجيا بالإثم والعدوان ، كما كان يفعل اليهود
والمنافقون ،
وأخبرت بأن الله يعلم سر الحديث الدائر بين اثنين فأكثر ، وفضحت خبث اليهود ومكرهم
وخداعهم حينما كانوا يحيون رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتحية ظاهرها السلام ، وباطنها الأذى والسب ، قائلين :
السام عليك يا محمد ، أي الموت (الآيات : ٧ ـ ١٠).
وأردفت ذلك ببيان
أدب التفسح في المجالس ، وطلب مغادرتها ، وأشادت بالمؤمنين الذين يمتثلون أوامر
الله وأوامر رسوله ، وامتدحت العلماء منهم خاصة ، وأوجبت تقديم الصدقة عند مناجاة
النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم رفعت الحكم تخفيفا على المؤمنين وتيسير لقاء نبيهم ،
وجعلت محله الاشتغال بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله (الآيات : ١١
ـ ١٣).
ثم أبانت مخازي
المنافقين الذين يوالون اليهود ويحبونهم ، ويفشون أسرار المؤمنين لهم ، ويحلفون
الأيمان الكاذبة ، ويعادون الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم ، ويخالفون أمرهما ، فهم مخذولون مهزومون ، والمؤمنون أعزة
منصورون (الآيات : ١٤ ـ ٢١).
وختمت السورة
الكريمة بأمر المؤمنين بتجنب الخونة الذين يوالون أعداء الأمة ولو كانوا أقرب
الناس إليهم ، وينافقون ويتذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء ، لإضعاف كيان أمتهم وتفريق
جمعهم ، أما الأمة المتماسكة المتحابّة ، فهي أمة الإيمان الحق ، وأهل الجنة
خالدين فيها أبدا.
والتفريق بين
الموقفين : موقف الإيمان وموقف الكفر والنفاق يبين أن الحب ينبغي أن يكون لله ،
والبغض لله ، وأن اكتمال الإيمان يتطلب معاداة أعداء الله (الآية : ٢٢).
الظهار وكفارته
(قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ
مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ
اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ
يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))
الإعراب :
(قَدْ سَمِعَ) قال النحاة : إن قد الداخلة على الماضي لا بد فيها من معنى
التوقع ، فلا يقال : قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل أو يسأل عنه.
(الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ الَّذِينَ) : مبتدأ ، وخبره : (ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ) أو دليل خبره المحذوف أي الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون ،
لسن أمهاتهم ، و (ما) : نافية حجازية تعمل عمل ليس ، و (هُنَ) : اسمها ، و (أُمَّهاتِهِمْ) : خبرها المنصوب على لغة أهل الحجاز ، وتقرأ بالرفع على
لغة بني تميم. وتعدى فعل الظهار بمن لتضمنه معنى التبعيد.
(وَإِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً مُنْكَراً وَزُوراً) : منصوب على الوصف لمصدر محذوف ، وتقديره : وإنهم ليقولون
قولا منكرا وقولا زورا.
(ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا) الجار والمجرور في موضع نصب ، متعلق ب (يَعُودُونَ) وما : مصدرية ، أي يعودون لقولهم ، والمصدر في موضع
المفعول ، كقولك : هذا الثوب نسج اليمن ، أي منسوجة ، ومعناه : يعودون للإمساك
المقول فيه الظهار ولا يطلّق الزوج.
(وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ .. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الَّذِينَ) : مبتدأ ، وتحرير : مبتدأ ثان خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة
، والجملة خبر المبتدأ الأول.
البلاغة :
(قَدْ سَمِعَ) السماع هنا مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية.
(سَمِيعٌ بَصِيرٌ
غَفُورٌ خَبِيرٌ أَلِيمٌ) صيغ مبالغة.
(ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) إطناب بذكر الأمهات ، لزيادة التقرير والبيان.
المفردات اللغوية
:
(سَمِعَ اللهُ) أجاب وقبل ، كما في التسميع : «سمع الله لمن حمده» أي
أجابه. (الَّتِي تُجادِلُكَ
فِي زَوْجِها) تراجعك الكلام أيها النبي في أمرها وأمر زوجها الذي ظاهر
منها ، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية ، زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة ، وكان
قد ظاهر منها قائلا : أنت علي كظهر أمي ، فاستفتت النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال تأثرا بالعرف : حرمت عليه ، لأن الظهار كان عند
العرب موجبا حرمة مؤبدة ، فقالت : ما طلقني ، فقال : حرمت عليه ، فاغتمت لصغر
أولادها ، وشكت إلى الله تعالى ، فنزلت هذه الآيات الأربع. (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) تبث شكواها وغمها وهمها إلى الله ، متوقعة أن الله يسمع
مجادلتها وشكواها ، ويفرج عنها كربها. (وَاللهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما) تراجعكما الكلام ، بطريق تغليب الخطاب. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) للأقوال والأحوال ، وهذا يدل على إثبات صفتي السمع والبصر
لله تعالى.
(الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ) الذين يقولون لنسائهم مثلا : أنت علي كظهر أمي ، أي في
الحرمة ، وكالأم سائر المحارم ، وقد كان هذا أشد طلاق في الجاهلية. والظهار :
تشبيه المرأة أو عضو منها بأحد محارمه نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم ،
وقوله : (مِنْكُمْ) تهجين لعادتهم فيه ، فإنه كان من أيمان الجاهلية. (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ) أي ما أمهاتهم إلا اللاتي ولدن الأولاد ، فلا تشبه
بالمحارم في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن ، كالمرضعات وأزواج الرسول صلىاللهعليهوسلم. (وَإِنَّهُمْ) أي بالظهار. (لَيَقُولُونَ
مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) أي قولا منكرا أنكره الشرع ، والمنكر : كل ما استقبحه
الشرع والعقل والطبع. (وَزُوراً) كذبا وبهتانا ، فإن الزوجة لا تشبه بالأم.
(وَإِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عن المظاهر ويغفر له إذا تاب وأدى الكفارة ، كما أنه
سبحانه غفور لكل من أذنب وعصى مطلقا إذا تاب وأناب.
(ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا) أي عدلوا عن قصد التحريم ، وذلك عند الشافعي بإمساك
المظاهر منها في الزواج زمانا يمكنه مفارقتها فيه ، وعند أبي حنيفة : باستباحة
استمتاعها ولو بنظرة شهوة ، وعند مالك : بالعزم على الجماع ، وعند الحسن البصري
وأحمد : بالجماع. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليهم ، أو فالواجب إعتاق رقبة : عبد أو أمة ، والفاء
للسببية الدالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار. ويجب أن تكون الرقبة مؤمنة
عند الجمهور غير الحنفية قياسا على كفارة القتل الخطأ. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي من قبل استمتاع أحدهما بالآخر ، لعموم اللفظ ، وفيه
دليل على حرمة المتعة أو الزواج قبل التكفير.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة أو ثمنها. (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فالواجب صوم شهرين متواليين ، فإن أفطر بغير عذر لزمه
الاستئناف ، وإن أفطر بعذر ففيه خلاف ، وإن جامع المظاهر منها ليلا لم ينقطع
التتابع عند الشافعية ، خلافا لأبي حنيفة ومالك.
(فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ) أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط إلى النساء. (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكل مسكين عند الشافعية : مدّ من غالب قوت البلد ، وهو رطل
وثلث ، كالفطرة ، وعند الحنفية : نصف صاع من برّ أو صاع من تمر أو شعير ، وذلك من
قبل التّماس أو الاستمتاع ، وإنما لم يذكر التّماس مع الإطعام اكتفاء بذكره مع الخصلتين
الأخريين : العتق والصيام. (ذلِكَ) البيان أو التعليم للأحكام ، والتخفيف في الكفارة. (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي فرض ذلك لتصدقوا بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم في قبول شرائعه ، ورفض أعراف الجاهلية. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أحكام شريعته ، لا يجوز تعدّيها. (وَلِلْكافِرِينَ) أي الذين لا يقبلون تلك الأحكام. (عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب مؤلم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران ٣ / ٩٧].
سبب النزول :
نزول الآية (١)
وما بعدها :
(قَدْ سَمِعَ ..) : أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت : تبارك الذي وسع سمعه
كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتقول : يا رسول الله ، أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى
إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي ، ظاهر مني ، اللهم إني
أشكو إليك ، فما
برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات : (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) وهو أوس بن الصامت.
وأخرج الإمام أحمد
والبخاري في كتاب التوحيد تعليقا عن عائشة قالت : «الحمد لله الذي وسع سمعه
الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ، ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله
عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ..) الآية».
وجاء في السنن
كابن ماجه والبيهقي والمسانيد أن أوس بن الصامت قال لزوجته : خولة بنت ثعلبة بن مالك
في شيء راجعته فيه : «أنت علي كظهر أمي» وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته
ذلك ، حرمت عليه ، فندم من ساعته ، فدعاها فأبت وقالت : والذي نفس خولة بيده لا
تصل إلي ، وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، فأتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا تزوجني ، وأنا شابة
مرغوب في ، فلما خلا سني ، ونثرت بطني (كثر ولدي) ، جعلني عليه كأمه ، وتركني إلى
غير أحد ، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه ، فحدثني بها.
فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية : «ما أراك
إلا قد حرمت عليه». قالت : ما ذكر طلاقا ، وجادلت رسول الله صلىاللهعليهوسلم مرارا. ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك فاقتي وشدة حالي ،
وروي أنها قالت : إن لي صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا
، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء ، وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على
لسان نبيك. وما برحت حتى نزل القرآن فيها ، فقال صلىاللهعليهوسلم يا خولة أبشري ، قالت : خيرا ، فقرأ صلىاللهعليهوسلم عليها : (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ..)
الآيات.
وروى البخاري في
تاريخه أنها ـ أي المجادلة ـ استوقفت عمر يوما فوقف ، فأغلظت له القول ، فقال رجل
: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم ، فقال رضياللهعنه : وما يمنعني أن أستمع إليها ، وهي التي استمع الله لها ،
فأنزل فيها ما أنزل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ ..) الآيات.
التفسير والبيان :
(قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ، وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ، وَاللهُ
يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي قد قبل الله شكوى المرأة التي تراجعك الكلام أيها النبي
في شأن زوجها الذي ظاهر منها ، قائلا لها : «أنت علي كظهر أمي» أي في الحرمة ،
وتشتكي إلى الله ما أغمها وأحزنها ، والله يسمع ما تتراجعان به من الكلام ، إن
الله يسمع كل مسموع ، ويبصر كل مبصر على أتم وجه وأكمله ، ومن ذلك : محاورة هذه
المرأة معك.
والمجادلة هنا :
بمعنى التحاور ، وهي المراجعة في الكلام لتبين المخرج من الأزمة. والشكوى : أن
تخبر عن مكروه أصابك. والسمع : صفة يدرك بها الأصوات ، غير صفة العلم. والمرأة :
خولة بنت ثعلبة ، والزوج : أوس بن الصامت أحد الأنصار.
أخرج البخاري
والنسائي وغيرهما كما تقدم عن عائشة رضياللهعنها قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت خولة
بنت ثعلبة ، تشكو إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأنا في كسر البيت ، يخفى علي بعض كلامها ، فأنزل الله
تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي ..) الآيات.
وقوله : (قَدْ) معناه التوقع ، كما تقدم ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها ،
وينزل في ذلك ما يفرج عنها. وقوله : (سَمِعَ اللهُ) مجاز عن القبول والإجابة ، لعلاقة السببية.
ثم شنّع الله
تعالى على المظاهرين ووبخهم ، فقال :
(الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ، ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ، إِنْ
أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي الذين يشبّهون أزواجهم بأمهاتهم ، فيقول أحدهم لامرأته
: أنت علي كظهر أمي ونحوه ، أي إنك علي حرام كحرمة أمي ، ما نساؤهم بأمهاتهم ،
فذلك كذب منهم ، وفي هذا توبيخ لهم وتبكيت ، فليست أمهاتهم في الحقيقة إلا النساء
اللائي ولدنهم.
(وَإِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ، وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ
غَفُورٌ) أي وإن هؤلاء المظاهرين ليقولون بهذا قولا منكرا ، أي
فظيعا ينكره الشرع ويقبّحه ولا يجيزه ، كما لا يقره عقل ، (وَزُوراً) ، أي كذبا ، وإن الله كثير العفو والمغفرة ، إذ جعل
الكفارة عليهم مخلّصة لهم عن هذا المنكر ، كما أن الله غفور لمن أذنب وتاب ، وغفور
من غير توبة لمن يشاء ، كما قال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].
يتبين منه أن الله
وصف الظهار بأنه منكر وزور ، لتشبيه الزوجة بالأم ، فهو خبر زور كذب ، وإنشاء منكر
ينكره الشرع ولا يعرفه ، وهو يدل على أن الظهار محرّم ، وهو أيضا عند الشافعية
معصية كبيرة ، لأن فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه سبحانه
، ولأن المقدم على ذلك كاذب معاند للشرع.
والظهار كان طلاقا
في الجاهلية ، يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه.
وضابط المظاهر عند
الشافعية والحنابلة : كل من صح طلاقه صح ظهاره ، وهو البالغ العاقل ، سواء أكان
مسلما أم كافرا ، فعلى هذا ظهار الذمي عندهم صحيح ، لعموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ
نِسائِهِمْ) ولأن الذمي يصح طلاقه فيصح ظهاره ، وهو أهل للزجر بالكفارة
كالمسلم. وضابطه عند
الحنفية والمالكية
: كل زوج مسلم عاقل بالغ ، فلا يصح ظهار الذمي ولا يلزم ولا يترتب عليه حكم ،
لظاهر قوله تعالى : (مِنْكُمْ) وهو خطاب للمؤمنين ، فيدل على أن الظهار خاص بالمؤمنين ،
ولأن من لوازم الظهار الصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق ، وإيجاب
الصوم على الذمي ممتنع .
وقال الجمهور غير
أحمد : لا يصح ظهار المرأة من زوجها ، وهو أن تقول المرأة لزوجها : أنت علي كظهر
أمي. وقال الأوزاعي : هو يمين تكفر ، قال الرازي : وهذا خطأ ، لأن الرجل لا يلزمه
بذلك كفارة يمين ، وهو الأصل ، فكيف يلزم المرأة ذلك؟ ولأن الظهار يوجب تحريما
بالقول ، والمرأة لا تملك ذلك ، بدليل أنها لا تملك الطلاق.
وقال الإمام أحمد
في رواية راجحة عنه : يجب عليها كفارة الظهار ، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور
، وفي رواية كالأوزاعي : تجب كفارة اليمين ، وهذا أقيس على مذهبه.
وأما المظاهر منها
فهي عند الحنفية : كل امرأة يحرم على الرجل نكاحها على التأبيد ، بالنسب أو
بالرضاع أو بالمصاهرة كزوجة الأب ، أو أي عضو منها لا يحل له النظر إليه ، كالظهر
والبطن. وهذا مذهب الشافعية إلا أنهم استثنوا مرضعة المظاهر وزوجة الابن ، لأنهما
كانتا حلالا له في وقت ، فيحتمل إرادته.
ورأي المالكية :
أن المشبه به : هو من حرم وطؤه أصالة من آدمي ـ ذكر أو أنثى ، أو غيره كالبهيمة ،
ويصح الظهار بتشبيه الزوجة أو جزئها ، ولو حكما كالشعر والريق بالأم.
وكذا قال الحنابلة
: يصح التشبيه سواء كان بكل المشبه به ، أو بعضو منه كاليد والوجه والأذن ، فيشمل
كل محرّم من النساء على التأبيد بنسب أو رضاع أو
__________________
مصاهرة ، كالأمهات
والجدات والعمات والخالات والأخوات. كما يشمل كل محرم من النساء تحريما مؤقتا كأخت
المرأة أو عمتها ، وكل محرّم من الرجال أو البهائم أو الأموات ونحوهم.
ثم أبان الله
تعالى كفارة الظهار ، فقال :
(وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ، وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والذي يحدث منهم الظهار ، ثم يريدون نقضه والعودة لما
كانوا عليه من إرادة الجماع ، فعليهم تحرير رقبة ، أي أمة أو عبد مملوك ، من أجل
ما قالوا ، من قبل التماس ، وهو الجماع ، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفّر ، ذلكم
الحكم المذكور أو تشريع الكفارة تؤمرون به أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار ، والله
خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها ، فهو مجازيكم عليها.
واختلف العلماء في
تفسير العود : فقال الظاهرية وأبو العالية : العود تكرار لفظ الظهار وإعادته ، فلا
تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار ، وهو قول باطل. ورأى الحنفية والمالكية على
المشهور أن العود : هو العزم على الوطء أو الجماع. وذهب الشافعي إلى أن العود : أن
يمسك المظاهر منها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.
وقال أحمد بن حنبل
: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه ، فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة.
فالآراء ثلاثة أو
أربعة : تكرار لفظ الظهار ، والعزم على الوطء أو إرادة الوطء ، والوطء في الفرج ،
والإمساك زمنا يمكن طلاقها فيه. وأجاب الجمهور عن رأي الظاهرية بأنه يقتضي أن
الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة ، وقصة خولة تدفعه ، لأنه لم ينقل التكرار ،
ولا سأل عنه صلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فإعتاق رقبة كاملة ، أو فعليهم رقبة ، والرقبة هنا
مطلقة غير مقيدة بالإيمان ، فاقتضى ذلك إجزاء عتق رقبة مؤمنة أو كافرة ، وبهذا
الظاهر قال الحنفية والظاهرية ، لأنه لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحانه كما بيّنه
في كفارة القتل ، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله ، ويقيد ما قيده ، فيعمل بكل منهما
في موضعه ، ورأى الحنفية بناء على قواعدهم أن اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص ،
وهو نسخ ، والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن أو الخبر المتواتر أو المشهور ، ولا يحمل
المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة.
واشتراط الجمهور
الإيمان في كفارة غير القتل ، كما هو شرط في كفارة القتل الخطأ بنص القرآن ، ويحمل
المطلق على المقيد ، أي يحمل ما أطلق هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب : وهو عتق
الرقبة ، واعتضد في ذلك بما رواه مالك بسنده عن معاوية بن الحكم السّلمي في قصة
الجارية السوداء ، وأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أعتقها فإنها مؤمنة» .
وضمير (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) للمظاهر والمظاهر منها المعلومين من الكلام السابق ،
والتّماس : كناية عن الجماع ، فيحرم الجماع قبل التكفير ، ومقدمات الجماع كالتقبيل
ونحوها حرام أيضا عند الحنفية ، لأن طريق الحرام حرام ، وليست بحرام في الأظهر عند
الشافعية ، لأن تحريم الجماع لا صلة له بعقد الزواج ، فإن الحائض يحرم جماعها دون
دواعيه ، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه ، ولا تمكّن من ثمنها أو
قيمتها زائدا عن قدر كفايته ، أو لم يجد
__________________
رقبة يشتريها لعدم
وجود الرقيق في عصرنا ، فعليه قبل التماس (أي الجماع) صيام شهرين متتابعين
متواليين لا يفطر فيهما عملا بظاهر النص القرآني ، وإجماع العلماء على وجوب
التتابع ، فإن أفطر يوما أو أكثر لغير عذر ، أو جامعها ليلا أو نهارا عمدا ،
استأنف في رأي الجمهور. وقال الشافعي وأبو يوسف : لا يستأنف إذا وطئ ليلا ، لأنه
ليس محلا للصوم.
ولا ينقطع التتابع
لدى المالكية بالمرض ، وبالفطر سهوا ، وبالإكراه على الفطر ، وبظن غروب شمس أو
ببقاء ليل ، فأكل أو شرب ، وبحيض ونفاس.
وينقطع التتابع
عند الحنفية ، والشافعية في المذهب الجديد بالإفطار بعذر كمرض مسوغ للفطر ، ولا
ينقطع التتابع في الصوم بحيض أو نفاس أو جنون. ورأى الحنابلة أن المظاهر إن أفطر
في الشهرين بعذر ، بنى على ما مضى ، وإن أفطر بغير عذر ابتدأ من جديد.
واختلف العلماء في
بيان قدر الكفاية ، وفي وقت اعتبار اليسار والإعسار ، فذهب مالك ، والشافعي في
الأظهر إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء ، لأن الكفارة عبادة لها بدل من غير
جنسها كالوضوء والتيمم ، والقيام في الصلاة والقعود فيها ، فاعتبر وقت أدائها.
وذهب أحمد إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب ، تغليبا لشائبة العقوبة في الكفارة.
ومن المعلوم أن
الأشهر تعتبر بالأهلّة ، فلا فرق بين التام والناقص ، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر
، كمّل الشهرين بالهلال ، ولو كانا ناقصين ، ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر ، فقال
الشافعية : يحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه ، ويتم الأول من شهر آخر ثلاثين يوما
لتعذر الهلال فيه. وقال الحنفية : لا بد من ستين يوما.
(فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ ، فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين لكبر سن أو مرض مزمن
أو لمشقة شديدة لا تحتمل عادة ، فعليه أن يطعم ستين مسكينا ، لكل مسكين عند
الحنفية مدان ، أي نصف صاع من القمح ، وصاع من تمر أو شعير ، كالفطرة قدرا ومصرفا ، من قبل التّماسّ
أيضا ، سواء بالإباحة أو بالتمليك ، عملا بظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام ،
وحقيقة الإطعام هو التمكين ، وذلك يتأدى بالإباحة والتمليك.
ويجب عند المالكية
التمليك لكل مسكين مد وثلثان من القمح إن اقتاتوه ، فلا يجزئ غيره من شعير أو
ذرة أو غيرهما ، فإن اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعا لا كيلا ، ولا يجزئ الغداء
والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مدا وثلثين.
وأوجب الشافعية
والحنابلة التمليك أيضا ، وقدر ما يعطى كل مسكين : مدّ من قمح ، أو نصف صاع من تمر
أو شعير ، ودليلهم على التمليك القياس على الزكاة وصدقة الفطر.
وظاهر قوله تعالى
: (فَإِطْعامُ سِتِّينَ
مِسْكِيناً) أنه لا بد من استيفاء عدد الستين ، فلو أطعم واحدا ستين
يوما لم ينجزه عند الجمهور غير الحنفية إلا عن واحد ، لظاهر الآية ، وهو أنه أوجب
إطعام ستين مسكينا ، فوجب رعاية ظاهر الآية. ويجزئه ذلك عند الحنفية ، لأن المقصود
سد خلة المحتاج ، والحاجة تتجدد كل يوم ، فالدفع إليه مع مرور الأيام إطفاء للحاجة
المتكررة بتكرر الأيام. وهذا معارض لظاهر النص على ستين مسكينا ، وبتكرر الحاجة في
مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا ، فالتعليل بسد خلة المحتاج مبطل لمقتضى النص ،
فلا يجوز.
__________________
واتفق العلماء على
أن خصال كفارة الظهار مرتبة ، فالإعتاق أولا ، ثم الصيام ، ثم الإطعام ، للأحاديث
الآمرة بهذا على الترتيب ، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.
واتفق الفقهاء
أيضا على أن من وطئ قبل أن يكفّر عصى ربه وأثم ، لمخالفة أمره تعالى ، وتستقر
الكفارة في ذمته ، ويظل تحريم زوجته عليه باقيا حتى يكفر ، وذلك شامل جميع خصال
الكفارة : العتق والصوم والإطعام. فإن وطئ أثناء التكفير فاختلف الفقهاء :
فذهب المالكية إلى
أن الوطء في أثناء التكفير يحرم ويبطل ما تم ، ويبتدئ الكفارة أيا كانت خصلتها من
جديد.
ورأى الشافعية :
أن المظاهر إن جامع أثناء الصوم ليلا قبل أن يكفّر ، أثم ، لأنه جامع قبل التكفير
، ولا يبطل تتابع الصيام ، لأن جماعه لم يؤثر في الصوم المفروض ، فلم يقطع التتابع
، كالأكل بالليل. وكذا إن جامع أثناء الإطعام ، لا يبطل ما مضى.
وفصل الحنفية
والحنابلة فقالوا : إن وطئ المظاهر امرأته المظاهر منها في أثناء الصوم ، أفسد ما
مضى من صيامه ، واستأنف الصوم من جديد. أما إن وطئ أثناء الإطعام ، فلا تلزمه
إعادة ما مضى ، عملا بعدم تقييد الإطعام في النص القرآني بكونه قبل التّماس ،
وتقييده في تحرير الرقبة والصيام بكونهما قبل التّماسّ.
(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ذلك الحكم الذي بيناه من وجوب الكفارة بسبب الظهار ،
لتصدقوا بشرع الله تعالى وأمره ، وتصدقوا رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وتقفوا عند حدود الشرع ، ولا تتعدّوها ، ولا تعودوا إلى
الظهار الذي هو منكر من القول وزور ، وتلك الأحكام المذكورة
حدود الله أي
محارمه ، فالزموها ولا تتجاوزوا حدوده التي حدّها لكم ، فإنه قد بين لكم أن الظهار
معصية ، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة ، وللكافرين الذين يتعدونها ولا
يقفون عند حدود الله عذاب مؤلم على كفرهم وهو عذاب جهنم في الآخرة ، كما لهم عذاب
في الدنيا.
وأطلق الكافر على
متعدي الحدود تغليظا وزجرا ، كما قال تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران ٣ / ٩٧].
فقه الحياة أو
الأحكام :
يفهم من الآيات ما
يأتي :
١ ـ الشكوى إلى
الله من الهم والحزن والضيق أنجع طريق ، فقد أجاب الله شكوى خولة بنت ثعلبة وقبل
استغاثتها ، وحقق ما توقعته من ربها ، لثقتها بفضل الله وإحسانها. والإجابة
والقبول هو المقصود من قوله سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ).
والسماع في الأصل
إدراك المسموعات ، والسمع والبصر صفتان لله كالعلم والقدرة والحياة والإرادة ،
فهما من صفات الذات ، لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. والسميع : المدرك
للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن ، لأن الأصوات لا
تخفى عليه.
٢ ـ الظهار معصية
وحرام ومنكر شرعا من القول وزور (كذب) وليست النساء بأمهات ، فما أمهاتهم إلا
الوالدات. وأصل الظهار : أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فمن قال ذلك
فهو مظاهر بالإجماع ، كما أن من قال لها : أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك
من ذوات المحارم ، فهو مظاهر.
والظهار نوعان :
صريح وكناية ، فالصريح : أنت علي كظهر أمي ، وأنت عندي ، وأنت مني ، وأنت معي كظهر
أمي ، أو أنت علي حرام كظهر أمي ، وكذا : أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو
نحوه ، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي ، ففي ذلك كله
يكون مظاهرا.
والكناية : أن
يقول : أنت علي كأمي أو مثل أمي ، فإنه يعتبر فيه النية ، فإن أراد الظهار كان
ظهارا ، وإن لم يرد الظهار ، لم يكن مظاهرا عند أئمة المذاهب الأربعة ، لأنه أطلق
تشبيه امرأته بأمه ، فكان ظهارا.
والظهار لازم في
كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها ، على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه.
ويلزم عند مالك
الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها ، ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة ،
لقوله تعالى : (مِنْ نِسائِهِمْ) وهذه ليست من نسائه.
والذميّ لا يلزم
ظهاره عند أبي حنيفة ومالك ، لقوله تعالى : (مِنْكُمْ) يعني من المسلمين ، وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب.
ويلزم ظهاره عند الشافعي وأحمد ، لعموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ..).
ولا ظهار للمرأة
من الرجل في قول الجمهور ، لأن الله تعالى قال : (الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) ولم يقل : اللائي يظاهرن منكن من أزواجهم ، إنما الظهار
على الرجال. وقال الأوزاعي وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي
كظهر أمي فلانة ، فهي يمين تكفّرها. وقال أحمد : يجب عليها كفارة الظهار ، لأنها
أتت بالمنكر من القول والزور.
وظهار السكران
صحيح كطلاقه ، ويلزمه حكم الظهار والطلاق إذا عقل ، بالاتفاق ، ولا يصح ظهار
المكره عند الجمهور غير الحنفية. وكذا يلزم الغضبان حكم الظهار. ومن كان به لمم ،
أي إلمام بالنساء وشدة حرص وتوقان إليهن ، كأوس بن الصامت الذي ظاهر من زوجته خولة
بنت ثعلبة ، لزمه ظهاره. وليس معنى اللمم : الجنون والخبل كما قال الخطابي ، إذ لو
كان به ذلك ، ثم ظاهر في تلك الحالة ، لم يكن يلزمه شيء.
ولا يقرب المظاهر
امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بها بشيء حتى يكفّر في رأي الجمهور ، ورأى الشافعي أن
المباشرة ليلا لا تقطع الصوم ولا تحرم.
ومن وطئ قبل أن
يكفّر : عليه كفارة واحدة في رأي الجمهور ، وقال بعضهم (مجاهد وقتادة وعبد الرحمن
بن مهدي) : عليه كفارتان ، ودليل الجمهور : أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر
كفارة قبل العود ، وهنا فاتت صفة القبلية ، فيبقى أصل وجوب الكفارة ، وليس في
الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى.
وإذا كظاهر من
أربع نسوة في كلمة واحدة ، كقوله : أنتن علي كظهر أمي ، كان مظاهرا من كل واحدة
منهن ، ولم يجز له وطئ إحداهن ، وأجزأته كفارة واحدة في قول الجمهور ، وقال
الشافعي في الأظهر : تلزمه أربع كفارات.
وإن قال لأربع
نسوة : إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي ، فتزوج إحداهن ، لم يقربها حتى يكفّر ، ثم
قد سقط عنه اليمين في سائرهن.
وإن قال لامرأته :
أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة ، لزمه الطلاق والظهار معا ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج
آخر ، ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفّر. والمبتوتة عند المالكية لا يلحقها طلاق ولا
ظهار.
__________________
٣ ـ كفارة الظهار
واجبة على الترتيب : الإعتاق ، ثم الصيام شهرين متتابعين ، ثم إطعام ستين مسكينا ،
وذلك قبل التّماس ، أي الجماع ومقدماته عند الحنفية ، والجماع فقط عند الشافعية ،
فإن جامع قبل أن يكفر ، لم يجب عليه إلا كفارة واحدة في قول أكثر العلماء كما
تقدم.
٤ ـ العود لما قال
المظاهر في الظهار : معناه عند الحنفية والمالكية : العزم على الوطء أو إرادة
الوطء ، والوطء في الفرج عند الحنابلة ، وإمساك الزوجة بعد الظهار مع القدرة على
الطلاق في مذهب الشافعية.
والأظهر أنه لا
ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه
وبينها ، ويجبره على التكفير.
٥ ـ يجزئ عند
الحنفية إعتاق الرقبة الكافرة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها ، ولا يجزئ
إعتاق غير الرقبة المؤمنة عند بقية المذاهب ، ولا يجزئ عند الشافعي رحمهالله إعتاق المكاتب.
ومن لم يجد الرقبة
ولا ثمنها ، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكا
لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه
، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يصوم وعليه عتق ، ولو كان محتاجا
إلى ذلك. وقال مالك : إذا كان له دار وخادم ، لزمه العتق ، فإن عجز عن الرقبة ،
صام شهرين متتابعين.
٦ ـ تتابع الصيام
شرط ، وينقطع تتابع صوم الشهرين إن أفطر بغير عذر ، ويستأنف. فإن أفطر بعذر من سفر
أو مرض ، بنى وأكمل عند المالكية والحنابلة ، واستأنف أو ابتدأ الصيام من جديد عند
الحنفية والشافعية ، لفوات التتابع ، ولكن لا ينقطع عند هؤلاء بحيض أو نفاس أو
جنون.
وينقطع التتابع
بالوطء ليلا أو نهارا عند الجمهور ، لقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا) ولا يبطل التتابع عند الشافعية بالوطء ليلا ، لأنه ليس
محلا للصوم.
٧ ـ لا يجزئ عند
مالك والشافعي وأحمد أن يطعم أقل من ستين مسكينا ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن
أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد ، أجزأه.
٨ ـ إن كفارة
الظهار إيمان بالله سبحانه وتعالى ، لقوله : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي لتكونوا مطيعين لله سبحانه ، واقفين عند حدود الكفارة
لا تتعدّوها ، فسمى التكفير طاعة ، ومراعاة الحد إيمانا. وتلك حدود الله تعالى بين
معصيته وطاعته ، فمعصيته الظهار ، وطاعته الكفارة ، ولمن لم يصدق بأحكام الله
تعالى عذاب جهنم.
وهذا دليل على أن
العمل داخل في مسمى الإيمان ، لأن الله أمر بهذه الأعمال ، وبيّن أنه أمرهم بها
ليصيروا بعملها مؤمنين ، فدلت الآية على أن العمل من الإيمان. وأنكر بعضهم ذلك
وقال : إنه تعالى لم يقل : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا
بِاللهِ) بعمل هذه الأشياء ، ورد الرازي عليهم بأن المعنى : ذلك
لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام.
ودل قوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ أَلِيمٌ) على أنه لا بد لهم من الطاعة ، وأن العذاب لمن جحد هذا
وكذب به.
وعيد الذين يعادون الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ
رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))
الإعراب :
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً يَوْمَ) : ظرف زمان متعلق بما قبله ، وهو (مُهِينٌ) في قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ مُهِينٌ) أي لهم عذاب مهين في هذا اليوم ، أو بإضمار : اذكر.
(ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ ثَلاثَةٍ) : مجرور بالإضافة ، ويكون (نَجْوى) مصدرا ، أو مجرور على البدل ، بمعنى (متناجين) وتقديره :
ما يكون من متناجين ثلاثة.
البلاغة :
(وَلا أَدْنى مِنْ
ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) بينهما طباق ، لأن معنى (أَدْنى) أقل ، فصار الطباق بينها وبين أكثر.
المفردات اللغوية
:
(يُحَادُّونَ) يعادون ويخالفون ، وأصل المحادّة : الممانعة ، يقال للبواب
: حداد. (كُبِتُوا) خذلوا وأذلوا وأهينوا. (كَما كُبِتَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في مخالفتهم رسلهم ، وهم كفار الأمم الماضية.
(وَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات دالة على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم وما جاء به. (وَلِلْكافِرِينَ) بالآيات. (عَذابٌ مُهِينٌ) ذو إهانة ، وإذلال ، يذهب عزهم وتكبرهم.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً) يبعثهم كلهم ، لا يدع أحدا غير مبعوث ، أو مجتمعين. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) يخبرهم بأعمالهم أمام الناس ، تشهيرا لحالهم ، وتقريرا
لعذابهم وتوبيخا وتقريعا لهم. (أَحْصاهُ اللهُ) أحاط به عددا ، لم يغب عنه شيء. (وَنَسُوهُ) لكثرته ، أو تهاونهم به. (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا يغيب عنه شيء.
(أَلَمْ تَرَ) تعلم. (ما يَكُونُ) ما يوجد. (نَجْوى) تناجي ومسارّة ، أو أصحاب نجوى ، مأخوذ من النجوة : وهي ما
ارتفع من الأرض ، لأن المتسارّين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض. (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) أي محيط بهم بعلمه. (وَلا خَمْسَةٍ) ولا نجوى خمسة. (إِلَّا هُوَ
سادِسُهُمْ) تخصيص العددين إما لخصوص الواقعة ، فإن الآية نزلت في
تناجي المنافقين ، أو لأن التشاور لا بدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث
يتوسط بينهما. (وَلا أَدْنى مِنْ
ذلِكَ) ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين. (وَلا أَكْثَرَ) من هذا العدد. (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) يعلم ما يجري بينهم. (أَيْنَ ما كانُوا) علم الله شامل لكل شيء ، لا يتحدد بمكان. (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ) يخبرهم بأعمالهم ، فضحا لهم وتقريرا لجزائهم. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عالم بكل شيء على سواء.
المناسبة :
بعد بيان أحكام
الظهار في شريعة الإسلام ، وتوبيخ المتورطين في الظهار ، ومدح المؤمنين الواقفين
عند حدوده ، ذكر تعالى ما يلحق المخالفين لشرع الله والمعادين لأمر الله تعالى
ورسوله صلىاللهعليهوسلم من خزي وهوان في الدنيا ، وعذاب في غاية الذل والمهانة في
الآخرة ، وأيد ذلك بالوعيد الشديد لهم ، فأخبر أن الله مطلع عليهم وعلى أعمالهم ،
لا يخفى عليه شيء من أحوالهم في السر والعلن ، وسيخبرهم بذلك يوم الحساب ،
ويجازيهم على ما قدموا من عمل.
التفسير والبيان :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إن الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، ويخالفون شرع ربهم ويعاندونه ، أذلّوا وأخزوا وأهينوا
ولعنوا ، وينكل بهم في الدنيا ، كما أذل الذين من قبلهم من
كفار الأمم
المتقدمة ، بسبب معاداتهم شرع الله سبحانه ، وقد تحقق هذا الإنذار بإذلال المشركين
بالقتل والأسر والقهر يوم بدر والخندق. وفي ذلك تبشير بنصر المؤمنين على من عاداهم
، ووعيد لكل الحكام المسلمين الذين يهجرون شريعتهم الإلهية ، ويعملون بالقوانين
الوضعية ، ونظير الآية : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ..) الآية [النساء ٤ / ١١٥] وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) [الحشر ٥٩ / ٤].
(وَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ بَيِّناتٍ ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي وقد أنزلنا للناس آيات واضحات ، لا يخالفها إلا كل كافر
فاجر مكابر ، وللجاحدين بتلك الآيات ، المستكبرين عن اتباع شرع الله والانقياد له
، عذاب يهين صاحبه ، ويذله ، بسبب كفرهم وتكبرهم عن حكم الله ، وذلك العذاب : هو
الخزي والهوان في الدنيا ، ونار جهنم في الآخرة.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ،
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي اذكر ذلك اليوم تعظيما له ، وأخبر بأن لهم عذابا مهينا
يوم يحسرهم الله جميعا من الأولين والآخرين في يوم الحساب ، مجتمعين في حالة واحدة
، لا يبقى منهم أحد لا يبعث ، فيخبرهم الله بأعمالهم القبيحة التي عملوها في
الدنيا ، لإقامة الحجة وتكميلها عليهم ، كما يخبرهم بكل ما صنعوا من خير وشر ،
ضبطه الله وحفظه عليهم ، في صحائف كتبهم ، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا ، والله
مطلع وناظر لا يغيب عنه شيء ، ولا يخفى ولا ينسى شيئا.
وفي هذا أيضا وعيد
شديد لكل من قدم الأعمال المنكرة والأفعال القبيحة.
ثم أخبر الله
تعالى تأكيدا لما سبق بإحاطة علمه بخلقه واطلاعه على كل شيء ، فقال:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى
ثَلاثَةٍ
إِلَّا
هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ، أَيْنَ ما كانُوا) أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب أن علم الله واسع شامل
محيط بكل شيء في الأرض والسماء ، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما ، فما يوجد من
تناجي أشخاص ثلاثة أو خمسة إلا هو معهم بعلمه ، ومطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم
ونجواهم ، ولا يوجد من نجوى أقل من ذلك العدد أو أكثر منه مهما كان الرقم عشرات
ومئات أو ألوفا أو ملايين إلا وهو عليم بهم ، في أي زمان وفي أي مكان ، يعلم السر
والجهر ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه شيء من تناجيهم في السر والعلن ، لأن
علم الله تعالى محيط بكل شيء ، لا يحده زمان ولا يحجبه مكان ، يسمع كلامهم ، ويبصر
ويرى مكانهم حيثما كانوا ، وأينما كانوا ، ورسله أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به ،
مع علم الله به ، وسمعه له.
والسبب في ذكر
الثلاثة والخمسة وإهمال ذكر الاثنين والأربعة : هو إما تصوير الحالة الواقعية التي
نزلت الآية بسببها ، فإنها نزلت في قوم منافقين ، اجتمعوا على التناجي مغايظة
للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين. عن ابن عباس : أن ربيعة وحبيبا ابني عمرو
وصفوان بن أمية كانوا يوما ما يتحدثون ، فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول؟
فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا ، وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا ، فهو
يعلم كله ، فنزلت.
وإما أن طبيعة
المشاورة ، تتطلب وجود عدد وتر ، فيكون الاثنان أو الأربعة متنازعين ، والثالث أو
الخامس كالمتوسط الحكم بينهم ، فذكر سبحانه الثلاثة والخمسة تنبيها على الأفراد
والمجموعات الباقية.
ونظير الآية كثير
في القرآن ، نحو قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة ٩ / ٧٨]
وقوله سبحانه : (أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٨٠].
ولهذا أجمع
المفسرون على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ، ولا شك في إرادة ذلك.
ومع علم الله
وسمعه وبصره بكل شيء ، هو سبحانه وتعالى مطلع على جميع أمور خلقه ، كما قال : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ثم يخبر الله عباده المتناجين وغيرهم بجميع أعمالهم يوم
القيامة ، ليعلموا أن الله عالم بهم ، وليكون إعلامه لمن يتناجون بالسوء والمكر
توبيخا لهم وتكبيتا ، وإلزاما للحجة ، والله تعالى واسع العلم بكل الأشياء
والأعمال ، لا تخفى عليه خافية من الأمور ، ويجازيهم عليها.
قال الإمام أحمد :
افتتح الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم.
فقه الحياة أو
الأحكام :
يستنبط من الآيات
ما يأتي :
١ ـ إن كل من خالف
شرع الله أو عاداه ، أو تجاوز حدوده ، له الخزي والذل والهوان في الدنيا ، والعذاب
المهين في الآخرة. وهذا بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر ، ووعيد وإنذار
للكافرين بالعقاب الشديد.
٢ ـ يوم يبعث الله
الرجال والنساء من أول عمر الدنيا إلى آخرها ، من قبورهم في حالة واحدة ، يخبرهم
بما عملوا في الدنيا ، وقد أحصاه الله عليهم في صحائف أعمالهم ، بالرغم من نسيانهم
له ، ليكون أبلغ في الحجة عليهم ، والله مطّلع وناظر لا يخفى عليه شيء.
٣ ـ لا يخفى على
الله سر ولا علانية في السموات والأرض ، فكل ما يكون من تناجي أو سرار اثنين أو
ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أقل أو أكثر من ذلك العدد ، يعلم به الله ويسمع نجواهم
، كما دل عليه افتتاح الآية : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ..)
بالعلم ، ثم ختمها
بالعلم ، وسمع الله محيط بكل كلام ، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها
زوجها ، وعلمه شامل كل شيء ، لأن علمه علم قديم ، فهو عالم بجميع المعلومات.
٤ ـ أكد الله
تعالى المذكور في الآية السابقة بأنه سيخبر يوم القيامة خلقه بما عملوا من حسن
وسوء ، لأن الله عليم بجميع الأشياء ، والمراد به أنه يحاسب الناس على أعمالهم ،
ويجازيهم على قدر استحقاقهم. ودل قوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) على التحذير من المعاصي ، والترغيب في الطاعات.
٥ ـ المراد من
كونه تعالى رابعا للثلاثة ، وسادسا للخمسة وكونه معهم : كونه تعالى عالما بكلامهم
وضميرهم وسرهم وعلنهم ، وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم ، مع تنزيهه تعالى عن
المكان والمشاهدة.
عقاب المتناجين بالسوء وآداب المناجاة في القرآن
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا
يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ
وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا
النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ
شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))
الإعراب :
(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَها ، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) مبتدأ وخبر ، و (يَصْلَوْنَها) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (جَهَنَّمُ) وبئس المصير : حذف المقصود بالذم ، وتقديره : جهنم.
المفردات اللغوية
:
(أَلَمْ تَرَ) ألم تنظر. (الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوى) هم اليهود والمنافقون كانوا يتناجون فيما بينهم ، أي
يتحدثون سرا للتآمر على المؤمنين وإيقاع الريبة في قلوبهم ، فنهاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم عادوا لمثل فعلهم. (بِالْإِثْمِ) بما هو معصية وذنب. (وَالْعُدْوانِ) الاعتداء على غيرهم. (وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ) التواصي بمخالفة الرسول صلىاللهعليهوسلم. (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي إذا جاؤوك أيها النبي قالوا : السام عليك ، أي الموت ،
أو أنعم صباحا .. ، والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى
عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل ٢٧ / ٥٩]. و
(حَيَّوْكَ) خاطبوك بالتحية ، والتحيات لله : أي البقاء. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا
اللهُ بِما نَقُولُ) هلا يعذبنا بسبب ذلك ، أي بالتحية لو كان محمد نبيا. (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذاب جهنم كاف لهم. (يَصْلَوْنَها) يدخلونها ويقاسون حرّها. (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم.
(فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ ..) كما يفعله المنافقون. (وَتَناجَوْا
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) بما يتضمن خير المؤمنين واتقاء معصية الرسول صلىاللهعليهوسلم. (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيما تأتون وتذرون ، فإنه مجازيكم عليه ، و (تُحْشَرُونَ) تجمعون.
(إِنَّمَا النَّجْوى
مِنَ الشَّيْطانِ) النجوى بالإثم والعدوان من الشيطان ، فإنه المزين لها
والدافع إليها. (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا) ليوقعهم بتوهمه في الحزن. (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ
شَيْئاً) أي وليس الشيطان بضارّ المؤمنين. (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بمشيئته. (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فليفوضوا الأمر إليه ، ولا يبالوا بنجواهم.
سبب النزول :
نزول الآية (٨):
(أَلَمْ تَرَ ...) : أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال : كان بين
النبي صلىاللهعليهوسلم وبين اليهود موادعة ، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة ،
جلسوا
يتناجون بينهم حتى
يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله ، أو بما يكرهه ، فنهاهم النبي صلىاللهعليهوسلم عن النجوى ، فلم ينتهوا ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوى) الآية.
وأخرج أحمد
والبزار والطبراني بسند جيد عن عبد الله بن عمرو : أن اليهود كانوا يقولون لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم : سام عليكم ، ثم يقولون في أنفسهم : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما
نَقُولُ) ، فنزلت الآية : (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ).
وقال ابن عباس
ومجاهد : نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم ،
وينظرون إلى المؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما
نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو
مصيبة أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم
وأقرباؤهم ، فلما طال ذلك وكثر ، شكوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأمرهم أن يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك ،
وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
نزول قوله تعالى :
(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ
اللهُ) :
عن عائشة قالت :
جاء ناس من اليهود إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقلت : السام عليكم
وفعل الله بكم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : مه ، يا عائشة ، فإن الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا
التفحش ، فقلت : يا رسول الله ، ألست أدري ما يقولون؟ قال : ألست ترين أردّ عليهم
ما يقولون؟ أقول : وعليكم ، ونزلت هذه الآية في ذلك : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ
يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)
.
__________________
نزول الآية (١٠):
(إِنَّمَا النَّجْوى
مِنَ الشَّيْطانِ) : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : كان المنافقون يتناجون
بينهم ، وكان ذلك يغيظ المؤمنين ، ويكبر عليهم ، فأنزل الله : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) الآية.
المناسبة :
بعد بيان علم الله
بكل شيء ، ومنه السر والنجوى ، أبان الله تعالى حال أولئك الذين نهوا عن النجوى
وهم اليهود والمنافقون ، ثم عودتهم إلى المنهي عنه ، وتحيتهم بالسوء للنبي صلىاللهعليهوسلم ، قائلين له : السام عليك ، أي الموت ، وتهديد بدخول جهنم.
ثم ذكر تعالى آداب
المناجاة من الامتناع عن التناجي بالإثم والعدوان ، أي بالمعصية والقبيح والاعتداء
وكل ما يؤدي إلى ظلم الغير ، وضرورة التناجي بالبر والتقوى ، أي بالخير وما يتقى
به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي.
التفسير والبيان :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي ألم تنظر إلى الذين نهيتهم عن التناجي والمسارة بالسوء
، ثم عودتهم إلى ما نهيتهم عنه ، وهم اليهود والمنافقون كما ذكر في سبب النزول.
(وَيَتَناجَوْنَ
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي ويتسارّون أو يتحدثون فيما بينهم بما هو معصية وذنب
كالكذب ، واعتداء وظلم للآخرين وعدوان على المؤمنين ، وتواص بمخالفة النبي صلىاللهعليهوسلم.
(وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي وإذا أتى إليك اليهود حيّوك بتحية سوء لم يحيّك بها
الله إطلاقا ، فيقولون : السام عليك ، يريدون
بذلك السلام ظاهرا
، وهم يعنون الموت باطنا ، فيقول النبي صلىاللهعليهوسلم : وعليكم. روي في الصحيح لدى البخاري ومسلم عن عائشة : أن
ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : السام عليكم يا أبا القاسم ، فقال صلىاللهعليهوسلم : وعليكم ، وقالت عائشة : عليكم السام ولعنكم الله وغضب
عليكم ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش
، فقلت : ألا تسمعهم يقولون : السام؟ فقال عليه الصلاة والسلام : وأما سمعت ما
أقول : وعليكم ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى
عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل ٢٧ / ٥٩] و
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ) و (يا أَيُّهَا النَّبِيُ).
(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
: لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي يفعلون هذا ، ويقولون فيما بينهم : لو كان محمد نبيا
لعذبنا الله بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به ، فأجاب الله تعالى عن قولهم : بأن
جهنم تكفيهم ، كما قال سبحانه :
(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَها ، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي يكفيهم عذاب جهنم عن الموت الحاضر ، يدخلونها ، فبئس
المرجع والمآل ، وهو جهنم.
ثم ذكر الله تعالى
آداب المناجاة حتى لا يكون المؤمنون مثل اليهود والمنافقين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، إِذا
تَناجَيْتُمْ ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ) أي يا أيها المؤمنون الذين يقتضي إيمانكم امتثال أمر الله
، والابتعاد عن كل ما يتنافى مع الإيمان الصحيح ، إذا تحدثتم سرا فيما بينكم ، فلا
تفعلوا مثلما يفعل الجهلة من اليهود والمنافقين ، من التناجي بالمعصية والذنب.
والاعتداء على الآخرين وظلمهم ، ومخالفة النبي صلىاللهعليهوسلم قائد الأمة ومنقذها من الضلالة.
(وَتَناجَوْا
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وتحدثوا بالطاعة وترك المعصية ، وبالخير واتقاء الله
فيما تفعلون وتتركون ، فإنكم إليه
تجمعون يوم
القيامة والحساب ، فيخبركم بأعمالكم وأقوالكم ، ويحاسبكم عليها ، ويجازيكم بما
تستحقون ، قال صلىاللهعليهوسلم : «إذا كنتم ثلاثة ، فلا يتناجى رجلان دون الآخر ، حتى
تختلطوا بالناس ، فإن ذلك يحزنه» .
ثم ذكر الله تعالى
بواعث مناجاة الكفار بالسوء ، فقال :
(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ
لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) أي إنما التناجي أو المسارّة بالإثم والعدوان ومعصية
الرسول صلىاللهعليهوسلم من تزيين الشيطان وتسويله ووسوسته ليسوء المؤمنين ، ولأجل
أن يوقعهم في الحزن بإيهامهم أنهم في مكيدة يكادون بها ، وليس الشيطان أو التناجي
الذي يزينه الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا ، إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته.
(وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فلا يأبه المؤمنون بتناجيهم ، وليتوكلوا على الله ربهم
، بأن يكلوا أمرهم إليه ، ويفوضونه في جميع شؤونهم ، ويستعيذون بالله من الشيطان ،
ولا يبالون بما يزينه من النجوى.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ إن شأن اليهود
وديدنهم معاداة القيم والأنبياء ، والتآمر والمكايد ، فتراهم يتناجون سرا بالإثم
والعدوان ، أي بالكذب والظلم ، ويتواصون بمخالفة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ويخرجون عن الآداب الاجتماعية المعروفة ، فيحيون النبي صلىاللهعليهوسلم بقولهم : السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا ، وهم يعنون
الموت باطنا ، فيجيبهم النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله : «عليكم» أو «وعليكم» وكانوا يقولون : لو كان محمدا
__________________
نبيا لما أمهلنا
الله بسبّه والاستخفاف به ، وجهلوا أن الباري تعالى حليم ، لا يعاجل من سبّه ،
فكيف من سبّ نبيه؟!
وقد ثبت أن النبي صلىاللهعليهوسلم
قال : «لا أحد أصبر على الأذى من الله ، يدعون له الصاحبة والولد ، وهو يعافيهم
ويرزقهم».
واختلف العلماء في
رد السلام على أهل الذمة ، هل هو واجب كالرد على المسلمين ، فذهب ابن عباس والشعبي
وقتادة إلى الوجوب ، للأمر بذلك. وذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك ليس بواجب ، فإن
رددت فقل عليك. قال القرطبي : وما قاله مالك أولى اتباعا للسنة ، أخرج الترمذي عن
أنس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : عليك ما قلت».
٢ ـ أمر الله
المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم بالبر والتقوى ، أي بالطاعة والعفاف عما نهى الله
عنه ، ونهاهم عن التناجي أي التسارر بالمعصية والذنب ، والاعتداء على الآخرين
والظلم ، فإنهم مجموعون في الآخرة إلى الله الذي يجازيهم على ما قالوا وما عملوا.
٣ ـ إن الباعث على
نجوى السوء من تزيين الشيطان ، ليوقع المؤمنين في الهمّ والحزن ، وليوهمهم أن
المسلمين أصيبوا في السرايا ، أو أنهم متعرضون لمكايدة الأعداء ، والوقوع فريسة
الأقوياء ، ومحنة السوء ، مع العلم بأن الشيطان لا يضر أحدا بشيء إلا بمشيئة الله
وتدبيره ، وعلى المؤمنين أن يكلوا أمرهم إلى الله ربهم القاهر القادر ، ويفوضوا
جميع شؤونهم إلى عونه ، ويستعيذوا به من الشيطان ومن كل شر ، فهو الذي سلّط
الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ، ولو شاء لصرفه عنه.
٤ ـ من أدب
الإسلام ، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود المتقدم : «إذا كنتم ثلاثة ...» ألّا
يتناجى أو يتحدث سرا اثنان أمام ثالث ، حتى يجد الثالث
من يتحدث معه ،
كما فعل ابن عمر ، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل ، فجاء آخر يريد أن يناجيه ، فلم
يناجيه حتى دعا رابعا ، فقال له وللأول : تأخرا ، وناجى الرجل الطالب للمناجاة . ويستوي في ذلك كل الأعداد ، فلا يتناجى أربعة دون واحد
ولا عشرة ولا ألف مثلا ، لوجود ذلك المعنى في حقه ، بل وجوده في العدد الكثير أوقع
، فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة بالذكر ، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى
فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال ، وإليه ذهب الجمهور ، وسواء أكان
التناجي في مندوب أم مباح أم واجب ، فإن الإساءة تشمله .
أدب المجالسة في الإسلام
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))
البلاغة :
(يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) الجملة الأخيرة عطف خاص على عام تنويها بشرف العلماء ، مع
أنهم داخلون في المؤمنين.
المفردات اللغوية
:
(تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجالِسِ) توسعوا فيها ، وليفسح بعضكم عن بعض ، يقال : افسح عني ، أي
__________________
تنّح ، وقرئ : «في
المجلس» ، والمراد به الجنس. (يَفْسَحِ اللهُ
لَكُمْ) يوسع الله لكم في رحمته ، من المكان والصدر والرزق والجنة
وغيرها. (انْشُزُوا) انهضوا للتوسعة على القادمين ، أو ارتفعوا في المجلس ، أي
تنحوا من الموضع ، ويقال : امرأة ناشز ، أي منتحية عن زوجها. (فَانْشُزُوا) فانهضوا دون تباطؤ. (يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) يعلي منزلتهم بالنصر وحسن السمعة في الدنيا ، والإيواء في
غرف الجنان في الآخرة. (وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي ويرفع العلماء منهم خاصة درجات في الكرامة وعلوّ المنزلة
، لجمعهم بين العلم والعمل ، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به زيادة
رفعة ، جاء في الحديث : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر
الكواكب» . (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم مطلع على جميع أعمالكم ، وهو تهديد لمن لم يمتثل
الأمر.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير
الطبري عن قتادة قال : كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ، ضنّوا بمجلسهم عند رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ : تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) الآية.
وأخرج ابن أبي
حاتم عن مقاتل : أنها نزلت يوم الجمعة ، وقد جاء ناس من أهل بدر ، وفي المكان ضيق
، فلم يفسح لهم ، فقاموا على أرجلهم ، فأقام صلىاللهعليهوسلم نفرا بعدتهم وأجلسهم مكانهم ، فكره أولئك النفر ذلك ،
فنزلت.
المناسبة :
بعد أن نهى الله
تعالى المؤمنين عن التناجي سرا في المجتمعات ، والتناجي بالإثم والعدوان ، لكونه
سبب التباغض والتنافر ، أمرهم تعالى بما يكون سببا لزيادة المحبة والمودة من
التوسع في المجالس ، والانصراف عنها عند الطلب لمصلحة ما ، ثم أخبر عن رفع منازل
المؤمنين والعلماء درجات في الجنان وفي الدنيا أيضا.
__________________
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ ، فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، إذا طلب منكم التوسع في الأماكن والمجالس ، وعدم التضايق
فيها ، سواء مجالس النبي أو مواضع القتال ، فليفسح بعضكم لبعض ، وليوسع أحدكم
للآخر ، يوسع الله لكم في الجنة ، أي إن الجزاء من جنس العمل.
والآية عامة في كل
مجلس ، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب أو ذكر وعلم ، أو يوم
جمعة أو عيد ، وكل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه ، ولكن يوسع لأخيه. جاء في
الحديث الثابت عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ، ثم يجلس فيه ،
ولكن تفسحوا وتوسعوا» .
قال : الرازي : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) : هو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه ، من المكان
والرزق والصدر والقبر والجنة.
والآية دلت على أن
كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة ، وسع الله عليه خيرات الدنيا
والآخرة ، ولا ينبغي للشخص أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس ، بل المراد منه إيصال
الخير إلى المسلم ، وإدخال السرور في قلبه ، لذا قال صلىاللهعليهوسلم : «ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ،
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .
__________________
وهذا الأدب له
تأثيره الكبير في غرس المحبة والتقدير في القلوب. وهو يومئ إلى أن الصحابة كانوا
يتنافسون في القرب من مجلس الرسول صلىاللهعليهوسلم لسماع حديثه ، والانتفاع بهديه وأدبه وفضله.
وفي الحديث المروي
في السنن : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس ، يكون صدر
ذلك المجلس ، فكان الصحابة رضياللهعنهم يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق رضياللهعنه يجلسه عن يمينه ،
وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان علي ، لأنهما كانا ممن يكتب الوحي وكان
يأمرهما بذلك ، روى مسلم وأحمد وأهل السنن إلا الترمذي عن أبي مسعود أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى ، ثم الذين
يلونهم ، ثم الذين يلونهم» وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه
عليه.
ولهذا أمر أولئك
النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر ، إما لتقصير أولئك في حق البدريين ،
أو ليأخذ البدريون نصيبهم من العلم ، كما أخذ أولئك قبلهم ، أو تعليما بتقديم
الأفاضل إلى الأمام.
وقد اختلف الفقهاء
في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال :
فمنهم من رخص في
ذلك ، محتجا بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري : «قوموا إلى سيدكم» وهو سعد بن
معاذ حينما استقدمه النبي صلىاللهعليهوسلم حاكما في بني قريظة.
ومنهم من منع ذلك
محتجا بحديث أحمد وأبي داود والترمذي عن معاوية بن أبي سفيان : «من أحب أن يتمثّل
له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».
ومنهم من فصّل ،
فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دلت عليه قصة سعد
المتقدمة ، ليكون أنفذ لحكمه ، فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم ، وقد جاء في
السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته لذلك .
(وَإِذا قِيلَ :
انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا طلب من بعض الجالسين في المجلس أن ينهضوا من
أماكنهم ، ليجلس فيها أهل الفضل في الدين ، وأهل العلم بشرع الله ، فليقوموا.
وهذا يشمل أيضا ما
إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه : قوموا ، ينبغي أن يجاب.
وبعد أن نهى الله
تعالى المؤمنين عن بعض الأشياء ، ثم أمرهم ثانيا ببعض الأشياء ، وعدهم على الطاعات
، فقال :
(يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ، وَاللهُ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي يرفع الله منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة بتوفير
نصيبهم فيها ، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية في الكرامة في
الدنيا ، والثواب في الآخرة ، فمن جمع الإيمان والعلم ، رفعه الله بإيمانه درجات ،
ثم رفعه بعلمه درجات ، ومن جملة ذلك رفعه في المجالس ، والله خبير بمن يستحق ذلك
وبمن لا يستحقه ، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده ، ومجازيهم على أعمالهم جميعا
، خيرا أو شرا.
روى الإمام أحمد
ومسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة : أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب
بعسفان ، وكان عمر استعمله على مكة ، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي؟
قال : استخلفت عليهم ابن أبزى ، رجل من موالينا ، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى؟
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه قارئ لكتاب الله ، عالم بالفرائض ، قاض ، فقال عمر رضياللهعنه : أما إن نبيكم صلىاللهعليهوسلم قد قال : «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ، ويضع به آخرين».
__________________
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآية إلى
ما يأتي :
١ ـ التوسع في كل مجلس
اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر مطلوب شرعا ، وأدب حسن ، سواء كان مجلس النبي في
عصره ، أو عالم بعده أو مجلس حرب أو ذكر أو شورى أو مجلس يوم الجمعة أو العيد أو
العلم ونحوه ، وليس ذلك واجبا وإنما هو مندوب شرعا ، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي
سبق إليه ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : «من سبق إلى ما لم يسبق إليه ، فهو أحق به»
ولكن يوسع لأخيه
ما لم يتأذّ بذلك ، فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر كما تقدم
عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ، ثم يجلس فيه» وعن
ابن عمر أيضا فيما رواه البخاري عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ، ويجلس فيه آخر ، ولكن
تفسحوا وتوسعوا» وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ، ثم يجلس مكانه.
٢ ـ إذا قعد واحد
من الناس في موضع من المسجد ، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه ، لما روى
مسلم عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ، ثم يخالف إلى
مقعده ، فيقعد فيه ، ولكن يقول : افسحوا». وإذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى
الجامع ، فيأخذ له مكانا يقعد فيه ، لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع.
ومثل ذلك إرسال بساط أو سجادة لتبسط له في موضع من المسجد.
والجالس يختص
بموضعه إلى أن يغادره نهائيا ، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضياللهعنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا قام أحدكم ـ أو من قام من مجلسه ـ ثم رجع إليه
، فهو أحق به».
__________________
٣ ـ إن للتوسع في
المجالس ثوابا ، لقوله تعالى : (يَفْسَحِ اللهُ
لَكُمْ) أي يوسع عليكم في الدنيا والآخرة.
٤ ـ إذا قيل :
انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير ، يجاب القائل ، وإذا دعي الشخص إلى القيام
عن مجلس النبي صلىاللهعليهوسلم ، وجب القيام ، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا
الانفراد في وظائف تخصه لا تتأتى ولا تكمل بدون الانفراد.
وإذا قال صاحب
مجلس لمن في مجلسه : (قوموا) ينبغي أن يجاب ، ويفعل ذلك لحاجة ، إذا لم يترتب عليه
مفسدة أعظم منها ، مما لا نزاع في جوازه.
٥ ـ يرفع الله
درجات المؤمنين والعلماء في الثواب في الآخرة ، وفي الكرامة في الدنيا ، فيرفع
المؤمن على من ليس بمؤمن ، والعالم على من ليس بعالم. قال ابن مسعود : مدح الله
العلماء في هذه الآية.
وتدل هذه الآية : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) أيضا على أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان ، لا
بالسبق إلى صدور المجالس ، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا.
وقد وردت أحاديث
كثيرة في فضل العلماء ، منها الحديث السابق عند أبي نعيم عن معاذ ـ وفيه ضعف ـ : «فضل
العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» ومنها حديث حسن رواه
ابن ماجه عن عثمان رضياللهعنه : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم
الشهداء» فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وعن ابن عباس : خيّر سليمان عليهالسلام بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم ، فأعطي المال
والملك معه.
الصدقة قبل مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ (١٣))
البلاغة :
(فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) استعارة ، استعار اليدين لما يكون قبل الشيء ، أي قبل
نجواكم ، وهي استعارة بالكناية ، حيث شبه النجوى بالإنسان ، وحذفه ورمز إليه بشيء
من لوازمه ، وهو اليدان. ويصح أن يكون في التركيب استعارة تمثيلية.
(أَأَشْفَقْتُمْ) استفهام معناه التقرير.
المفردات اللغوية
:
(ناجَيْتُمُ
الرَّسُولَ) أردتم مناجاته والتحدث معه. (فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي قدموا قبل المناجاة صدقة للفقراء ، قال البيضاوي : وفي
هذا الأمر تعظيم الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وانتفاع الفقراء ، والنهي عن الإفراط في السؤال ، والميز
بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ، واختلف في أنه للندب أو للوجوب ،
لكنه منسوخ بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ) وهو إن اتصل به تلاوة ، لم يتصل به نزولا.
(وَأَطْهَرُ) أي أزكى للنفوس وأبعد عن الريبة وحب المال ، وهو يشعر
بالندب ، لكن قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أدل على الوجوب ، أي إن لم تجدوا ما تتصدقون به ، يرخص لكم
في المناجاة بلا صدقة. والله غفور لمناجاتكم ، رحيم بكم ، فلا حرج عليكم في
المناجاة.
(أَأَشْفَقْتُمْ) خفتم ، والمعنى : أخفتم الفقر في تقديم الصدقة؟ وجمع صدقات
لجمع المخاطبين أو لكثرة التناجي. (فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا) الصدقة. (وَتابَ اللهُ
عَلَيْكُمْ) بأن رخص لكم ألا تفعلوه ، أو رجع بكم عنها ، وفيه إشعار
بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه. (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي
دوموا عليهما ولا
تفرطوا في أدائهما. (وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) في سائر الأوامر ، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك.
(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) ظاهرا وباطنا.
سبب نزول الآيتين (١٢
، ١٣):
أخرج ابن جرير عن
ابن عباس قال : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى شقّوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فأنزل : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فلما نزلت ، صبر كثير من الناس ، وكفّوا عن المسألة ،
فأنزل الله بعد ذلك : (أَأَشْفَقْتُمْ) الآية.
وأخرج الترمذي
وحسّنه ، وغيره عن علي قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي صلىاللهعليهوسلم : ما ترى ، دينار؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فنصف دينار؟
قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم؟ قلت : شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، فنزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية ، فبي خفف الله عن هذه الأمة.
وقال مقاتل بن
حيان : نزلت الآية في الأغنياء ، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلىاللهعليهوسلم ، فيكثرون مناجاته ، ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى
كره رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك من طول جلوسهم ومناجاتهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى
هذه الآية ، وأمر بالصدقة عند المناجاة ، فأما أهل العسرة ، فلم يجدوا شيئا ، وأما
أهل الميسرة فبخلوا ، واشتد ذلك على أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت الرخصة.
وقال علي بن أبي
طالب رضياللهعنه : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها قبلي ، ولا يعمل بها
أحد بعدي : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) كان لي دينار فبعته ، وكنت إذا ناجيت الرسول صلىاللهعليهوسلم تصدقت بدرهم حتى نفد ، فنسخت بالآية الأخرى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ)؟.
المناسبة :
بعد بيان أدب
الإسلام في المناجاة والمجالسة ، أمر الله تعالى المؤمنين بتقديم صدقة قبل مناجاة
النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأنهم كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم لسماع أحاديثه ، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة ، فكان ذلك
يشق على الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وقد يستثقله الحاضرون ، فأراد الله أن يحد من هذه
المناجاة ، ويخفف عن نبيه ، فأمر بتقديم الصدقة قبل المناجاة ، تعظيما للنبي صلىاللهعليهوسلم وإعظام مناجاته ، ولنفع الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل
المناجاة ، ولتمييز المنافقين الذين يحبون المال عن المؤمنين المخلصين. قال ابن
عباس : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى شقوا عليه ، وأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما نزلت
هذه الآية ، شحّ كثير من الناس ، فكفّوا عن المسألة.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي يا أيها الذين أقروا بوجود الله ووحدانيته وصدقوا رسوله
صلىاللهعليهوسلم ، إذا أردتم مناجاة النبي صلىاللهعليهوسلم أو مساررته في أمر من أموركم ، فقدموا قبل المناجاة صدقة ،
تصدقوا بها ، لتعظيم النبي صلىاللهعليهوسلم ، والتخفيف عنه ، ونفع الفقراء ، وتمييز المؤمن الحق
والمنافق.
ثم أبان الله
تعالى حكمة الصدقة ، فقال :
(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن تقديم الصدقة قبل النجوى خير لكم ، لما فيه من طاعة
الله وامتثال أمره ، والثواب الأخروي ، وأزكى لنفوسكم بتطهيرها من الشح والبخل وحب
المال ، ونفع الفقراء ، وتضامن الأمة ، وإعزاز شأنها ورفعة قدرها ، فإن لم يجد
أحدكم تلك
الصدقة ، فلا حرج
عليه في النجوى بدون صدقة ، وقد رخص الله لكم في المناجاة بلا تقديم صدقة ، لأن
المأمور بها هو القادر عليها الغني.
وظاهر الآية يدل
على أن تقديم الصدقة كان واجبا ، لأن الأمر للوجوب ، ويتأكد ذلك بقوله في آخر
الآية : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن ذلك لا يقال إلا لترك الوجوب.
وقال بعضهم : إن
الأمر هنا للندب والاستحباب ، بقرينة (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ) وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض ، ولأنه لو كان
ذلك واجبا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به ، وهو : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا). والجواب : أن الواجب يوصف أيضا بأنه خير وأطهر كالمندوب ،
وأنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة ، كونهما متصلتين في النزول ،
فتكون آية (أَأَشْفَقْتُمْ) ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر.
وأنكر أبو مسلم
الأصفهاني وقوع النسخ ، وقرر أن الأمر بتقديم الصدقة على النجوى لتمييز المؤمن
المخلص من المنافق ، فلما تحقق الغرض ، انتهى الحكم ، أي أن ذلك التكليف كان مقدرا
بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه بانتهاء تلك الغاية ، فلا يكون هذا نسخا. قال الرازي
: وهذا الكلام حسن ما به بأس ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ).
ثم رفع الله تعالى
الحكم السابق ، فقال :
(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟) أي أخفتم تقديم الصدقات ، لما فيه من إنفاق؟ قال مقاتل :
إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي : ما كان ذلك إلا ليلة واحدة.
(فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ
، وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي حين لم تفعلوا ما أمرتكم به من الصدقة قبل النجوى
لثقلها عليكم ، ورخص الله لكم في الترك ، والمناجاة من غير صدقة ، فثابروا واثبتوا
على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، والله خبير محيط بأعمالكم كلها ظاهرها وباطنها ،
فمجازيكم عليها. والإشفاق : الخوف من المكروه.
قال قتادة ومقاتل
بن حيان : سأل الناس رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أحفوه بالمسألة ، ففطمهم الله بهذه الآية ، فكان الرجل
منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلىاللهعليهوسلم ، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة ، فاشتد
ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك.
وليس في الآية
إشارة إلى وقوع تقصير من الصحابة في تقديم الصدقة ، فقد يكون عدم الفعل ، لأنهم لم
يناجوا. ولا يدل أيضا قوله : (تابَ اللهُ
عَلَيْكُمْ) على أنهم قصروا ، لأن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف
عنهم تخفيفا ، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيتان على
ما يأتي :
١ ـ أوجب الله
تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، تعظيما لنبيه وتخفيفا عنه من كثرة الأسئلة ، ثم خفف الله
عن الأمة ، ورفع التكليف.
والظاهر أن النسخ
إنما وقع بعد فعل الصدقة ، فقد تصدق علي بن أبي طالب رضياللهعنه ، كما تقدم ، ولم يوجد مقتض للمناجاة لدى بقية الصحابة
الذين تريثوا وفهموا علة التكليف.
وكان التكليف
مقصورا على الأغنياء ، لأنه تعالى جعل الصدقة بالمال خيرا
من إمساكها ،
وأطهر لقلوبهم من المعاصي والذنوب ، فإن لم يجد الواحد ما يتصدق به ، فإن الله
غفور له ، رحيم به.
٢ ـ علم الله
تعالى ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل ، مع كثرة المسائل ، لو دام
الوجوب ، فخفف الله عنهم ، وأمر بمتابعة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله
تعالى في فرائضه ، ورسوله صلىاللهعليهوسلم في سننه ، والله محيط بأعمال عباده ونياتهم.
حال المنافقين الذين يوالون غير المؤمنين
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا
مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ
لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ
جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))
الإعراب :
(ما هُمْ مِنْكُمْ
وَلا مِنْهُمْ) جملة حالية من فاعل (تَوَلَّوْا) أو استئنافية ، والمعنى واحد ، ويصح جعلها صفة لقوم.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً جَمِيعاً) منصوب على الحال من الهاء والميم في (يَبْعَثُهُمُ) وهو عامل الحال.
البلاغة :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استفهام يراد منه التعجيب. (يَعْلَمُونَ) و (يَعْمَلُونَ) جناس ناقص لتغير الرسم.
(أُولئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطانِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) و (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ
حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.
(أَلا الشَّيْطانُ
عَلَيْهِمُ) في الجملتين السابقتين ، تأكيدات متنوعة تفيد التقبيح في
الأولى ، والتحلية في الثانية.
(يَعْمَلُونَ) ، (خالِدُونَ) ، (الْكاذِبُونَ) ، (الْخاسِرُونَ) ، توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية
:
(أَلَمْ تَرَ) تنظر أو أخبرني ، وهو أسلوب يراد به التعجيب للمخاطب من
حال هؤلاء المنافقين. (الَّذِينَ تَوَلَّوْا) والوا وودّوا وأحبوا ، وهم المنافقون. (قَوْماً) هم اليهود. (غَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) سخط. (ما هُمْ مِنْكُمْ
وَلا مِنْهُمْ) لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهو ادعاء الإسلام وأنهم من المؤمنين. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون فيه أي في المحلوف عليه.
(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) نوعا من العذاب متفاقما. (إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) من المعاصي التي تمرنوا عليها وأصروا على فعلها. (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي التي حلفوا بها. (جُنَّةً) وقاية وسترا على أنفسهم من المؤاخذة. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صدوا بأيمانهم الناس عن دين الله بالتحريش والتثبيط. (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وعيد ثان بوصف أخر لعذابهم ، وهو أنه ذو إهانة.
(مِنَ اللهِ) من عذابه. (شَيْئاً) من الإغناء. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ) أي اذكر لهم ذلك اليوم. (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أنهم مؤمنون. (وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) من نفع حلفهم في الآخرة كالدنيا. (اسْتَحْوَذَ) استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم. (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أعوانه وأتباعه وأنصاره.
سبب النزول :
نزول الآية (١٤):
(أَلَمْ تَرَ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن السدي ومقاتل في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَوْماً) الآية ، قال : بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نبتل
المنافق ، كان يجالس النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حجرة من حجره ، إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب
جبّار ، وينظر بعيني شيطان ، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق ، فقال له رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك ، فقال
له النبي صلىاللهعليهوسلم : فعلت ، فانطلق ، فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبّوه ،
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (١٨):
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ ..) : أخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في ظل حجرة ، وقد كاد الظل يتقلص ، فقال : إنه سيأتيكم
إنسان ، فينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاءكم ، لا تكلموه ، فلم يلبثوا أن طلع
عليهم رجل أزرق أعور ، فدعاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال : ذرني
آتك بهم ، فانطلق ، فدعاهم ، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا ، فأنزل الله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً ،
فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) الآية.
المناسبة :
بعد أمر المؤمنين
بالصدقة قبل مناجاة النبي صلىاللهعليهوسلم تخفيفا عنه في طول مجالسته وكثرة التردد عليه ، ذكر الله
تعالى حال جماعة من المنافقين كانوا يتولون اليهود
ويودونهم ،
ويطلعونهم على أسرار المؤمنين ، وهم في الواقع لا مع الكفار ولا مع المؤمنين ، كما
قال تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذلِكَ ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ سَبِيلاً) [النساء ٤ / ١٤٣].
وقد أنذرهم الله
بالعذاب ، وأبان بواعث أفعالهم واستيلاء الشيطان على عقولهم ، فهم أتباع الشيطان
وأنصاره.
التفسير والبيان :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا
مِنْهُمْ) أي أخبرني عن حال هؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود
ومالئوهم في الباطن ، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين ، فموقفهم يستدعي التعجب ، لذا
سخط الله عليهم ، وهم في الواقع ، لا مع المؤمنين ولا مع اليهود ، أي ليسوا في
الحقيقة منكم أيها المؤمنون ، ولا من الذين يوالونهم ، وهم اليهود.
(وَيَحْلِفُونَ عَلَى
الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي واتخذوا الأيمان الكاذبة ستارا لهم ، فهم يحلفون أنهم
مسلمون ، أو ما نقلوا الأخبار إلى اليهود ، وهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه ، وأنه
كذب لا حقيقة له.
ثم أنذرهم تعالى
بالعذاب الشديد ، فقال :
(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
عَذاباً شَدِيداً ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هيأ الله لهم ، وأرصد لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم
على أعمالهم السيئة ، وهي موالاة الكافرين ونصحهم ، ومعاداة المؤمنين وغشّهم ،
وساء ما فعلوا من الأعمال القبيحة في الزمان الماضي ، مصرّين على سوء العمل.
(اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي أظهروا الإيمان ، وأبطنوا الكفر ، واتقوا بالأيمان
الكاذبة ، واتخذوها وقاية وسترا
لدمائهم ، فخدع
بهم بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة أمرهم ، وظنوا صدقهم ، فحصل بهذا صدّ عن سبيل
الله ، بأن منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط ، وتهوين أمر
المسلمين ، وتضعيف شوكتهم ، فلهم عذاب يلازمه الذل والهوان في نار جهنم بسبب
أيمانهم الكاذبة بالله تعالى ، وفي مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم
في الأيمان الكاذبة الحانثة.
ثم ذكر الله تعالى
مدى إفلاسهم يوم القيامة ، فقال :
(لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله ، شيئا من
الإفادة ، وأولئك
الموصوفون بهذه
الصفات هم أهل النار ، لا يفارقونها ، وماكثون فيها ، لا يخرجون منها ولا يموتون
فيها.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي اذكر لهم أيها النبي حين يبعثهم الله جميعا من قبورهم
أحياء ، ويحشرهم يوم القيامة عن آخرهم ، فلا يغادر منهم أحدا ، فيحلفون بالله عزوجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة ، كما كانوا يحلفون للناس
في الدنيا ، لأن من عاش على شيء مات عليه ، وبعث عليه ، ويظنون أن ذلك ينفعهم عند
الله ، كما كان ينفعهم عند الناس.
وهذا من شدة
شقاوتهم ، فإن الحقائق يوم القيامة قد انكشفت.
(وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي ويظنون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء
مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا ، كما كانوا يظنون ذلك في الدنيا ، ألا إنهم بهذا
التصور هم الكاذبون أشد الكذب فيما يحلفون عليه.
وحال هؤلاء كما
أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ
إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ، انْظُرْ كَيْفَ
كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٣ ـ
٢٤].
ثم ذكر الله تعالى
سبب ضلالهم ، فقال :
(اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ ، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ ، أُولئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطانِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم ، فتركوا
أوامره والعمل بطاعاته ، أولئك جنود الشيطان وأتباعه ورهطه ، إلا إن أعوان الشيطان
هم الخاسرون الهالكون ، لأنهم باعوا الجنة بالنار ، والهدى بالضلالة ، وكذبوا على
الله وعلى نبيه ، وحلفوا الأيمان الفاجرة ، فسوف يخسرون في الدنيا والآخرة ، وليس
العاقل من يقبل هذا ويرتضيه لنفسه.
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
ما يأتي :
١ ـ تحرم موادّة
الكافرين أعداء المؤمنين ، واطلاعهم على أسرار المسلمين ، ومؤازرتهم ونصحهم.
٢ ـ ليس المنافقون
من اليهود ولا من المسلمين ، بل هم مذبذبون بين ذلك ، وكانوا يحملون أخبار
المسلمين إليهم.
٣ ـ لهؤلاء
المنافقون عذاب شديد في جهنم ، وهو الدّرك الأسفل من النار ، وبئست الأعمال
أعمالهم.
٤ ـ اتخذ هؤلاء
المنافقون أيمانهم جنّة أو ساترا ووقاية لهم من القتل ، فلهم عذاب ذو إهانة في
الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.
٥ ـ لن تفيدهم
أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.
٦ ـ لهم عذاب مهين
يوم بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة.
٧ ـ إنهم يغالطون
باليمين مغالطة ظاهرة ، ظانين أن الأيمان الكاذبة تنفعهم في الآخرة كما تنفعهم في
الدنيا ، وهم يحسبون أنهم على شيء من النفع بإنكارهم وحلفهم ، وهم في الواقع
كاذبون ، والمراد : أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على
ذلك الوصف.
٨ ـ لقد غلب
الشيطان عليهم بوسوسته في الدنيا ، مما أدى بهم إلى ترك أوامر الله والعمل بطاعته
، وهم رهط الشيطان وطائفته ، وحزب الشيطان هم الخاسرون في بيعتهم ، لأنهم باعوا
الجنة بجهنم ، وباعوا الهدى بالضلالة.
جزاء المعادين لله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم والوعد بنصر المؤمنين
وتحريم موالاة الأعداء
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ
قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ
مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ
اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))
الإعراب :
(كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ .. كَتَبَ) : أجري مجرى القسم ، لذا أجيب بجواب القسم في قوله : (لَأَغْلِبَنَ). (وَرُسُلِي) : في موضع رفع بالعطف على الضمير في (لَأَغْلِبَنَ). وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستتر لتأكيده
بقوله : (أَنَا). وإذا أكد الضمير المنفصل أو المستتر ، جاز العطف عليه.
(فِي الْأَذَلِّينَ) هي أفعل التفضيل.
البلاغة :
(وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ) مجاز مرسل ، لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية.
المفردات اللغوية
:
(يُحَادُّونَ) يعادون ويخالفون ويشاقون ، فهم في حد ، والشرع والهدى في
حد. (فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة المغلوبين أذل خلق الله. (كَتَبَ اللهُ) قضى وحكم. (لَأَغْلِبَنَ) بالحجة والقوة. (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ يُوادُّونَ) يصادقون ، أي لا ينبغي أن تجدهم وادّين أعداء الله ،
والمراد : أنه لا ينبغي لهم أن يوادّوهم. (وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) ولو كان المحادّون أقرب الناس إليهم. (أُولئِكَ) أي الذين لم يوادّوهم. (كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أثبت الإيمان في قلوبهم ، وهو دليل على خروج العمل من
مفهوم الإيمان ، لأن أعمال الأعضاء لا تثبت في القلب.
(وَأَيَّدَهُمْ) قواهم. (بِرُوحٍ مِنْهُ) أي بنور من عند الله يقذفه في القلوب ، لتطمئن وتسكن. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته. (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه الذي وعدهم به. (أُولئِكَ حِزْبُ
اللهِ) جنده وأنصار دينه ، يتبعون أمره ويجتنبون نهيه. (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدارين.
سبب النزول :
نزول الآية (٢١):
(كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ ..) قال مقاتل : لما فتح الله مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما
حولها ، قالوا : نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي : أتظنون
الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم
لأكثر عددا وأشد
بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك؟ فنزلت : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
نزول الآية (٢٢):
(لا تَجِدُ قَوْماً) : أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية
والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال : نزلت هذه الآية في أبي
عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر : (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ) الآية.
وأخرجه الطبراني
والحاكم في المستدرك بلفظ : جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتصدى لأبي عبيدة يوم
بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر ، قصده أبو عبيدة ، فقتله ، فنزلت.
وأخرج ابن المنذر
عن ابن جريج قال : حدّثت أن أبا قحافة سبّ النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : فصكّه أبو بكر صكّة ، فسقط ، فذكر ذلك للنّبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : أفعلت يا أبا بكر؟ فقال : والله لو كان السيف
قريبا مني لضربته به : (لا تَجِدُ قَوْماً ..) الآية.
وقال الرازي : إن
الأكثرين اتفقوا على أن قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً ...) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النّبي صلىاللهعليهوسلم إليهم ، لما أراد فتح مكة.
المناسبة :
بعد بيان سوء حال
المنافقين في الآخرة وخسارتهم الكبرى ، أبان الله تعالى سبب خسارتهم وهو مشاقّة
الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ومخالفة أوامرهما ، ثم أخبر عن قضائه المبرم في نصر الرسل
وهزيمة أعدائهم ، ثم ذكر أن الإيمان لا يجتمع مع وداد أعداء الله وموالاتهم ، لأن
من أحبّ أحدا ، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه.
التفسير والبيان :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي إن الكفار المعاندين المخالفين أوامر الله ونواهيه ،
والذين يجانبون الحق ويعادون الإسلام ، فيجعلون أنفسهم في حد ، وشرع الله ورسوله
في حد آخر ، هم في جملة المغلوبين وفي جملة من هم أذلّ خلق الله تعالى ، لا ترى
أحدا أذلّ منهم ، سواء في الدنيا بالقتل والأسر والطرد من الديار ، كما حصل
للمشركين واليهود ، وفي الآخرة بالخزي والنكال والعذاب ، كما قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [آل عمران ٣ / ١٩٢].
وهذا إنذار بهزيمة أعداء الله ، والآية جملة استئنافية لتعليل خسرانهم.
(كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي حكم الله وقضى في سابق علمه الأزلي أن الله ورسله هم
الغالبون بالحجة والسيف ونحوهما ، إن الله قوي على نصر رسله ، غالب لأعدائه ، وهذا
ـ كما قال ابن كثير ـ قدر محكم ، وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا
والآخرة. وهذا بشارة بنصر المؤمنين على الكافرين ، وقد تحقق ذلك مرارا ، فنصر رسله
الكرام على أقوامهم ، كقوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم ممن مضى ، ونصر رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ومن آمن معه على المشركين في الجزيرة العربية ، وعلى دولتي
الروم والفرس.
ونظير الآية قوله
تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ،
وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٣].
ثم بيّن الله
تعالى شأن المؤمنين في أنهم لا يوادون أعداء الله ، فقال :
(لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ) أي لا ينبغي للمؤمنين بالله واليوم الآخر أن يحبوا
ويصادقوا ويوالوا من عادى الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم
وشاقهما ، ولو كان
المحادّون المعادون لله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم أقرب الناس إليهم ، كالآباء الذين يجب برّهم وطاعتهم ،
والأبناء فلذات الأكباد ، والإخوان الناصرين لهم ، والعشيرة أو القبيلة التي
ينتمون إليها ويتآزرون بها.
أخرج الترمذي
والحاكم والطبراني مرفوعا : «يقول الله تبارك وتعالى : وعزتي لا ينال رحمتي من لم
يوال أوليائي ، ويعاد أعدائي». وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا : «أوثق
الإيمان : الحب في الله ، والبغض في الله».
وأخرج الديلمي من
طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اللهم لا تجعل لفاجر ـ وفي رواية : ولا لفاسق ـ علي يدا
ولا نعمة ، فيودّه قلبي ، فإني وجدت فيما أوحيت إلي : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)».
ثم بيّن الله
تعالى سبب الامتناع من موادّة الأعداء وجزاء الممتنعين ، فقال :
(أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ) أي أولئك الذين لا يوادّون من حادّ الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم أثبت الله الإيمان الصحيح في قلوبهم ، وقواهم بنصر منه على
عدوهم في الدنيا ، وسمي نصره لهم روحا ، لأن به يحيا أمرهم ، ويدخلهم الجنان التي
تجري الأنهار من تحت قصورها وأشجارها ، ماكثين فيها على الأبد ، وقد قبل أعمالهم ،
وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة ، وفرحوا بما أعطاهم عاجلا وآجلا.
(أُولئِكَ حِزْبُ
اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي أولئك أنصار الله وجنده الذين يمتثلون أوامره ،
ويقاتلون أعداءه ، وينصرون أولياءه ، ألا إن هؤلاء الأنصار هم الفائزون بسعادة
الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي من الموضوعات الأربعة :
١ ـ إن الكفار
المعاندين الذين يشاقون الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، ويعادون شرع ربهم ، وسنة رسولهم ، من جملة الأذلّاء ،
فلا أذلّ منهم.
٢ ـ قضى الله وحكم
في اللوح المحفوظ أنه سيغلب أعداءه بالحجة والسيف ونحوهما ، فمن تهيأ للحرب غلب
بالحرب ، ومن استعد للحجة والبيان غلب بالحجة.
٣ ـ لا يجتمع
الإيمان الحق مع وداد أعداء الله ، لأن من أحب أحدا ، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه ،
حتى ولو كان الأعداء من الأقربين ، ومن أنعم الله عليه بنعمة الإيمان العظمى ، كيف
يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله؟!
٤ ـ وصف الله
تعالى هؤلاء المؤمنين المجتنبين مصادقة الأعداء بأن الله غرس الإيمان في قلوبهم ،
وأيدهم بنصر من عنده ، ثم بيّن جزاءهم الأخروي وهو دخول الجنان مع الخلود فيها ،
والحظوة برضوان الله وثوابه ، والفرح بما أمدهم الله به من النعم في الدنيا
والآخرة من نصر ورزق وخير ، ونور وإيمان وبرهان وهدى ، وجنان ، ثم وصفهم الله
بأنهم حزب الله الغالب ، وحزب الله هم المفلحون الفائزون ، وهذا المعنى الأخير
بيان لاختصاص هؤلاء بسعادة الدنيا والآخرة.
والخلاصة : ذكر
الله أربع نعم على من ترك موادة الأعداء وهي :
أولا ـ إثبات
الإيمان في قلوبهم.
ثانيا ـ تأييدهم
بروح من عند الله ، أي بنصرهم على عدوهم ، وبروح من الإيمان.
ثالثا ـ إدخالهم
جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها.
رابعا ـ ينعمون
بنعمة الرضوان ، ويفرحون بما أعطاهم الله تعالى.
وذكر الله تعالى
أيضا أربعة أمور توجب ترك المودة وهي :
أولا ـ إن الإيمان
ومودة الأعداء لا يجتمعان في القلب.
ثانيا ـ نفورهم من
موادة الأعداء ، ولو كانوا من الأقربين : (وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ ...)إلخ.
ثالثا ـ إنه تعالى
عدّد نعمه على المؤمنين ، وهي توجب ترك مودة أعداء الله : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمانَ) إلخ.
رابعا ـ وصفهم
بأنهم حزب الله الغالب : (أُولئِكَ حِزْبُ
اللهِ ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
مدنيّة ، وهي أربع
وعشرون آية.
تسميتها
:
سميت سورة الحشر ،
لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ ..) أي الحشر الأول وهو الجمع الأول الذي حشروا فيه وأخرجوا في
عهد النبوة من المدينة إلى بلاد الشام ، والحشر الثاني : إجلاؤهم وإخراجهم في عهد
عمر من خيبر إلى الشام.
وتسمى أيضا سورة
بني النضير ، لاشتمالها على قصة إجلاء يهود بني النضير ، في غزوة بني النضير ، وهم
اليهود الذين نقضوا العهد مع النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأجلاهم عن المدينة المنورة.
مناسبتها لما
قبلها :
تظهر مناسبة هذه
السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :
١ ـ ذكر في السورة
السابقة من حادّ الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، ومن قتل من الصحابة أقرباءه يوم بدر ، وفي أول هذه
السورة ذكر من شاقّ الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وما جرى بعد غزوة بني النضير من إجلاء اليهود ، وقد حدثت
الغزوة بعد بدر.
٢ ـ أخبر الله في
آخر السابقة عن نصر الرسل : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وأفاد في أول هذه إنجاز النصر على اليهود : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا
، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).
٣ ـ كشف الله في
السورة المتقدمة حال المنافقين واليهود وموادة بعضهم بعضا ، وذكر في هذه السورة ما
حلّ بيهود بني النضير.
ما
اشتملت عليه السورة :
سورة الحشر كسائر
السور المدنية عنيت بالأحكام التشريعية ، مثل إجلاء يهود بني النضير من المدينة ،
وأحكام الفيء والغنائم ، والأمر بالتقوى. كما أن فيها تحليلا لعلاقة المنافقين
باليهود ، وبيان عظمة القرآن ، وإيراد بعض أسماء الله الحسنى.
افتتحت السورة
بتنزيه الله نفسه عن كل نقص ، وتمجيده من جميع ما في الكون من إنسان وحيوان ونبات
وجماد ، وشهادتهم بوحدانيته وقدرته ، والنطق بعظمته.
وأردفت ذلك
بالإشادة بالنصر على أعداء الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم ، وإجلاء يهود بني النضير من المدينة المنورة ، وتهديم
قلاعهم وحصونهم.
ثم أبانت حكم
الفيء وهو الأراضي والدور والأموال الآيلة من العدو للمسلمين من غير قتال ، ببيان
مصارفه وتوزيعه على مختلف فئات المسلمين ، وحكمة ذلك التوزيع.
وفي ثنايا آيات
الفيء امتدح الله تعالى مواقف المهاجرين ، وأشاد بمآثر الأنصار ، وانتدب الذين
جاؤوا من بعدهم للثناء على من سبقهم والدعاء لهم بالمغفرة.
وقارن ذلك بعلاقة
المنافقين باليهود ، وتحالفهم على الباطل ، وكشف أخلاق الفريقين ، ومنها خذلان
المنافقين من يحالفونهم وقت الأزمة ، وجبن
اليهود وخوفهم من
مواجهة المؤمنين ، وتشبيه المنافقين بالشيطان الذي يغري الإنسان بالسوء والضلال ،
ثم يتخلى عنه في الوقت العصيب.
ثم أمر الله
المؤمنين بالتقوى ، والاستعداد ليوم القيامة وما فيه من أهوال جسام ، والاعتبار
بأحوال الماضين ، وتذكر الفرق العظيم بين أهل الجنة وأهل النار ، ومصير السعداء والأشقياء
في دار الخلود.
وختمت السورة
ببيان عظمة القرآن الكريم ، وعظمة من أنزله واتصافه بأوصاف الجلال ، وتسميته
بالأسماء الحسنى.
سبب
نزول السورة :
روى سعيد بن منصور
والبخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر؟ قال : أنزلت في
بني النضير ، وفي رواية : سورة بني النضير.
وقال ابن عباس
ومجاهد والزهري وغير واحد : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما قدم المدينة ، هادنهم وأعطاهم عهدا وذمّة على ألا
يقاتلهم ولا يقاتلوه ، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فأحلّ الله بهم بأسه ،
الذي لا مرد له ، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصدّ ، فأجلاهم النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون ،
وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من الله شيئا ، وجاءهم من الله
ما لم يكن ببالهم ، وسيّرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأجلاهم من المدينة ، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من
أالي الشام ، وهي أرض المحشر والمنشر ، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر ، وكان قد
أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم ، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات
التي يمكن أن تحمل معهم ، ولهذا قال تعالى : (يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي
الْأَبْصارِ) أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله تعالى ، وخالف رسوله صلىاللهعليهوسلم ،
وكذب كتابه ، كيف
يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم .
فضل
السورة :
أخرج الثعالبي عن
ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ سورة الحشر ، لم يبق شيء من الجنة والنار
والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوامّ والريح والسحاب والطير والدوابّ والشجر
والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلّوا عليه ، واستغفروا له ، فإن مات من يومه
أو ليلته ، مات شهيدا».
وأخرج الثعالبي
أيضا عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ آخر سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى
جَبَلٍ ...) ـ إلى آخرها ـ فمات من ليلته ، مات شهيدا» .
وأخرج أحمد
والترمذي عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم
من الشيطان الرجيم ، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكلّ الله به سبعين ألف ملك
يصلّون عليه حتى يمسي ، وإن مات في يومه ، مات شهيدا ، ومن قرأها حين يمسي ، فكذلك»
قال الترمذي : حديث حسن غريب.
__________________
إجلاء يهود بني النضير
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ
الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢)
وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ
اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))
الإعراب :
(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) في الجملة فعل الظن مكرر ، وإنما أتى ب (أَنْ) الخفيفة والثقيلة بعد الظن ، لأن الظن يتردد بين الشك
واليقين ، فتارة يحمل على الشك ، فيؤتى بالخفيفة ، وتارة يحمل على اليقين ، فيؤتى
بالثقيلة. و (حُصُونُهُمْ) : مرفوعة باسم الفاعل : (مانِعَتُهُمْ) لأن اسم الفاعل جرى خبرا ل (أَنْ) فوجب أن يرفع ما بعده.
البلاغة :
(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) بين (ما ظَنَنْتُمْ) و (ظَنُّوا) ما يسمى بطباق السلب.
المفردات اللغوية
:
(سَبَّحَ لِلَّهِ) نزهه وقدسه ، ولام (لِلَّهِ) مزيدة. (ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ) أتى ب (ما) تغليبا للأكثر. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي الغالب في ملكه. (الْحَكِيمُ) في صنعه ، يضع الأشياء في موضعها المناسب لها.
(الَّذِينَ كَفَرُوا) يهود بني النّضير ، وهم إحدى قبائل اليهود الثلاثة الكبرى
في المدينة بجوار بني قريظة وبني قينقاع. (مِنْ دِيارِهِمْ) مساكنهم في المدينة. (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي عند الحشر الأول أو أول حشرهم ، والحشر الأول : الجمع
والإخراج والجلاء من المدينة ونفيهم إلى بلاد الشام ، والحشر الآخر : إجلاء عمر
إياهم في خلافته من خيبر إلى الشام. (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا) ما ظننتم أيها المؤمنون خروجهم ، لشدة بأسهم ومنعتهم. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي وتأكدوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وعذابه ، والحصون
: القصور الشاهقة والقلاع المشيدة ، جمع حصن. (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي جاءهم عذابه وأمره. (مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا) من حيث لم يخطر لهم ببال ، لقوة وثوقهم بأنفسهم.
(وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قَذَفَ) : ألقى بقوة ، والمراد هنا : أثبت فيها الخوف الذي يرعبها
، أي يملؤها رعبا بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. (يُخْرِبُونَ) وقرئ : يخرّبون ، أي يهدمون ، والغاية من الهدم : نقل ما
استحسنوا منها من خشب وغيره. (فَاعْتَبِرُوا) فاتعظوا بحالهم ، أو فانظروا في حقائق الأشياء ما تدل عليه
من دلالة وعبرة. واستدل به على أن القياس حجة من حيث إنه أمر بالمجاوزة من حال إلى
حال ، وحملها عليها في حكم ، لما بينها من العلة المشتركة المقتضية التساوي في
الحكم.
(كَتَبَ) قضى. (الْجَلاءَ) الخروج الجماعي من الوطن مع الأهل والولد ، أما الإخراج
فيكون لواحد وجماعة ، ومع بقاء الأهل والولد. (لَعَذَّبَهُمْ فِي
الدُّنْيا) بالقتل والسبي ، كما فعل ببني قريظة. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ
النَّارِ) كلام مستأنف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا ، لم ينجوا
من عذاب الآخرة.
(ذلِكَ) المذكور الذي حاق بهم. (شَاقُّوا) خالفوا وعادوا ، حتى كأنهم في شق ، ومن عادوه في شق آخر. (لِينَةٍ) نخلة مطلقا أو النخلة الكريمة ، وجمعها أليان. (فَبِإِذْنِ اللهِ) فبأمره. (وَلِيُخْزِيَ
الْفاسِقِينَ) علة لمحذوف ، أي وفعلتم ، أو : وأذن لكم في القطع ليخزيهم
على فسقهم بما غاظهم من العدو. واستدل به على جواز هدم دبار الكفار وقطع أشجارهم
زيادة لغيظهم.
سبب النزول :
نزول الآية (١):
(سَبَّحَ لِلَّهِ) : أخرج البخاري عن ابن عباس قال : سورة الأنفال نزلت في
بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
وأخرج الحاكم
وصححه عن عائشة قالت : كانت غزوة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة
أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة ، فحاصرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى نزلوا على الجلاء ، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من
الأمتعة والأموال إلا الحلقة وهي السلاح ، فأنزل الله فيهم : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ).
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم ، لما قدم المدينة ، صالح بني النضير على ألا يكونوا له
ولا عليه ، فلما ظهر على المشركين يوم بدر ، قالوا : إنه النبي المبعوث ـ في
التورية بالنصرة ـ فلما هزم المسلمون يوم أحد ، ارتابوا ونكثوا ، وخرج كعب بن
الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة ، وحالفوا أبا سفيان ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم محمد بن مسلمة أخا كعب من الرضاعة ، فقتله غيلة ، ثم
صبّحهم بالكتائب ، وحاصرهم ، حتى صالحوه على الجلاء ، فجلا أكثرهم إلى الشام ،
ولحقت طائفة بخيبر والحيرة ، فأنزل الله : (سَبَّحَ لِلَّهِ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ويوضح ذلك ما قاله
المفسرون : نزلت هذه الآية في بني النضير ، وذلك أن النّبي صلىاللهعليهوسلم لما قدم المدينة ، صالحه بنو النضير على ألا يقاتلوه ولا
يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، وقبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك منهم ، فلما غزا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بدرا ، وظهر على المشركين ، قالت بنو النضير : والله ، إنه
النّبي الذي وجدنا نعته في التوراة ، لا تردّ له راية ، فلما غزا أحدا ، وهزم
المسلمون ، نقضوا العهد ، وأظهروا العداوة
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، فحاصرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم صالحهم على الجلاء من المدينة . وكان خروج النبي صلىاللهعليهوسلم إليهم في ربيع الأول السنة الرابعة من الهجرة.
نزول الآية (٥):
(ما قَطَعْتُمْ ...) : أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حرّق بني النضير ، وقطع وديّ البويرة ، فأنزل الله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها) الآية.
وأخرج ابن إسحاق
عن يزيد بن رومان قال : لما نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببني النضير ، تحصنوا منه في الحصون ، فأمر بقطع النخل
والتحريق فيها ، فنادوه يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيبه ، فما بال قطع
النخل وتحريقها ، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن قتادة ومجاهد مثله.
التفسير والبيان :
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن جميع ما في السموات والأرض من الأشياء ينزّه الله عن كل
نقص ، ويمجده ويقدسه ، ويصلي له ، ويوحده ، إما تصريحا باللسان ، وإما بالقلب ،
وإما بلسان الحال والمقال ، إذعانا لعظمته ، وانقيادا وخضوعا لجلاله ، وهو المنيع
الجناب القوي الغالب القاهر في ملكه ، الحكيم في صنعه وقدره وشرعه ، يضع الأشياء
في موضعها الصحيح ، وإن لم يدرك الإنسان في الحال حكمة الله وتدبيره.
ونظير الآية قوله
تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ ، وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].
__________________
ومن مظاهر قدرة
الله تعالى وحكمته ما قال سبحانه :
(هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ) أي إنه سبحانه هو الذي قضى بإخراج يهود بني النضير من
ديارهم في المدينة ، في الحشر الأول ، أي الجمع والإخراج والجلاء ، فكان جلاؤهم
أول حشر من المدينة ، وآخر حشر إجلاء عمر لهم من خيبر إلى الشام.
(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي ما توقعتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من
ديارهم ، لعزتهم ومنعتهم ، وكانوا أهل حصون مانعة ، وعقار ونخيل واسعة ، وأهل عدد
وعدة ، وفي هذا بيان عظمة النعمة ، وتوقعوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله ، وألا
يتعرضوا لسوء.
(فَأَتاهُمُ اللهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي جاءهم أمر الله وبأسه وعقابه من جهة لم تخطر لهم ببال ،
وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بقتالهم وإجلائهم ، وكانوا لا يظنون مثل هذا الحدث ، بل
كانوا يرون أنفسهم أعزّ وأقوى ، وألقى الله الخوف الذي يملأ الصدر ، قال صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر : «نصرت بالرعب مسيرة
شهر».
(يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي لما أيقنوا بالجلاء ، دمّروا منازلهم من الداخل لكيلا
يستفيد منها المسلمون ، ودمرها المؤمنون من الخارج ، قال الزهري وعروة بن الزبير :
لما صالحهم النبي صلىاللهعليهوسلم على أن لهم ما أقلّت الإبل ، كانوا يستحسنون الخشبة أو
العمود ، فيهدمون بيوتهم ، ويحملون ذلك على إبلهم ، ويخرب المؤمنون باقيها.
(فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) فاتعظوا أيها العقلاء بما حدث ، واعلموا أن الله يفعل مثل
ذلك بمن غدر وخالف أمر الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم.
(وَلَوْ لا أَنْ
كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ، وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) أي ولولا أن قضى الله عليهم بالخروج والجلاء من أوطانهم
على هذا النحو المهين ، لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا ، كما فعل ببني قريظة سنة
خمس للهجرة ، بعد غزوة الخندق ، وكما فعل مع المشركين يوم بدر في السنة الثانية ،
ومع يهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة عقب معركة بدر ، ولهم في القيامة عذاب
شديد في جهنم.
أما سبب إجلائهم
في التاريخ : فهو أن النّبي صلىاللهعليهوسلم خرج مع عشرة من أصحابه ، منهم أبو بكر وعمر وعلي ، إلى بني
النضير يسألهم المعونة في دية قتيلين قتلهما أحد المسلمين خطأ ، وهما من بني عامر
حلفائهم ، فقد كان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فوعدوا خيرا في الظاهر ،
وأضمروا الغدر والاغتيال ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم ، فتآمروا على قتله على يد
عمرو بن جحاش بن كعب اليهودي ، بإلقاء صخرة عليه من فوق السطح ، مكان جلوسه بجوار
الجدار.
فأطلعه الله تعالى
بالوحي على مؤامرتهم ، فقام ورجع إلى المدينة ، وأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وإجلائهم من المدينة ، وعاد
إليهم في شهر ربيع الأول سنة أربع للهجرة ، فحاصرهم ست ليال ، وقذف الله في قلوبهم
الرعب ، وسألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل
من أموالهم إلا السلاح ، فقبل. ثم خرج بعضهم إلى خيبر ، وبعضهم إلى الشام.
وفي أثناء الحصار
أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بقطع نخلهم وإحراقه ، حتى لا يبقى لهم تعلق بأموالهم ،
ونادوا يا محمد : قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيب من يصنعه ، فما بال قطع النخل
وتحريقها؟! فنزل قوله تعالى كما تقدم : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها ..) الآية.
وهنا أبان الله
تعالى سبب جلائهم قائلا :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ ، فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ) أي إنما فعل الله بهم ذلك وهو الطرد والإجلاء ، وتسليط
المؤمنين عليهم ، لأنهم خالفوا الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين ، من البشارة
بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
ومن يعادي الله
تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم بعدم الطاعة ، والميل مع الكفار ، ونقض العهد ، فإن الله
يعاقبه أشد العقاب ، ويعذبه في الدنيا والآخرة.
ثم عذر الله تعالى
المؤمنين فيما أقدموا عليه مما تقضي به الضرورة الحربية ، فقال : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ، وَلِيُخْزِيَ
الْفاسِقِينَ) أي إن ما قمتم به من قطع النخيل وإحراقه ، أو تركه قائما
دون قطع ، فهو بأمر الله ومشيئته ، وقد أذن بذلك ليعز المؤمنين ، وليذل الخارجين
عن الطاعة ، وهم اليهود ، ويغيظهم في القطع والترك ، فإنهم إذا رأوا المؤمنين
يفعلون في أموالهم ما شاؤوا ، ازدادوا غيظا وحنقا. واللينة : أنواع التمر سوى
العجوة.
والنخيل الذي قطع
وأحرق هو البويرة ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما حاصرهم ، أمر بقطع نخيلهم ، إهانة لهم ، وإرهابا
وإرعابا لقلوبهم. وقد تمّ قطع النخل بأمر الله ومشيئته ، ولإذلال اليهود الذين
كفروا بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم وكتبه.
فقه الحياة أو
الأحكام :
يستدل بالآيات على
ما يأتي :
١ ـ إن تسبيح الله
وتنزيهه عن كل ما لا يليق به هو شأن جميع المخلوقات في السموات والأرض ، نباتا
وحيوانا وجمادا ، وملكا وكوكبا ، إما بلسان الحال
أو بلسان المقال ،
اعترافا بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعظمته.
٢ ـ تعرض اليهود
في العصر الإسلامي الأول بأمر الله لحشرين في الدنيا ، والحشر : الجمع والإخراج
والجلاء ، والحشر الأول من المدينة إلى الشام ، والحشر الآخر : إجلاء عمر رضياللهعنه إياهم من خيبر إلى الشام ، بكفرهم ونقضهم العهد. ولهم حشر
في الآخرة كبقية الناس للحساب والجزاء.
٣ ـ كان إجلاء
اليهود من المدينة ومن خيبر أمرا غير متوقع من الناس ، لقوتهم ومنعتهم وتحصنهم في
حصونهم واجتماع كلمتهم ، فأتاهم أمر الله وعذابه من حيث لم يظنوا ، وألقى الله
الرعب والخوف في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، والذي قتله محمد بن مسلمة ،
وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش ، أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة ، وعبّاد بن بشر
بن وقش ، والحارث بن أوس بن معاذ ، وأبو عبس بن جبر.
وكانوا يخربون
بيوتهم لئلا يسكنها المسلمون بعدهم ، وأتم المؤمنون تخريبها ، لمحو آثارهم وتصفية
وجودهم من الجزيرة العربية.
وفي ذلك نصر لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم وتشريف له ، وإعزاز لمكانة المسلمين ، وإذلال لليهود الذين
عاثوا الفساد في الأرض.
٤ ـ إن في إجلاء
اليهود على هذا النحو عبرة وعظة ، يتعظ بها أولو الألباب وأصحاب العقول ، جاء في
الأمثال الصحيحة : «السعيد : من وعظ بغيره».
٥ ـ تمسك علماء
أصول الفقه بآية : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي
الْأَبْصارِ) على أن القياس حجة ، لأن الله تعالى أمر فيها بالاعتبار
وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس ، إذ فيه نقل
الحكم من الأصل إلى الفرع.
٦ ـ استدل العلماء
بالآية : (يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ ..) إلخ على جواز هدم ديار الكفار الأعداء ، وقطع أشجارهم ،
وإحراق زروعهم في أثناء الحرب ، للضرورة الحربية ، فلا بأس من الهدم والحرق
والتغريق والرمي بالمجانيق ، وقطع الأشجار ، مثمرة كانت أو غير مثمرة. ثبت في صحيح
مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قطع نخل بني النضير وحرّق. وهذا هو الرأي الصحيح ، ويرى
الشافعية أنه إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا ، وإن ييأسوا فعلوا.
٧ ـ قال الكيا
الطبري : ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن ، وإنما
كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ ، والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية
عليهم. وهذا محل نظر في تقديري.
٨ ـ كان قضاء الله
تعالى بجلاء يهود بني النضير من المدينة وخيبر رحمة بهم ، ولولا ذلك لعذبهم الله
في الدنيا بالقتل والسّبي ، كما فعل ببني قريظة. والجلاء : مفارقة الوطن ، والفرق
بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما لغة واحدا من وجهين كما ذكر القرطبي :
أحدهما ـ أن
الجلاء : ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني ـ أن
الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج يكون لواحد ولجماعة.
٩ ـ إن سبب ذلك
التخريب والجلاء هو مشاقة الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، أي معاداة الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم ، ومخالفة أمر الله ، ثم عمم الله الإنذار ، فقال بقصد
الزجر : (وَمَنْ يُشَاقِّ
اللهَ ، فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).
١٠ ـ كان خروج
النبي صلىاللهعليهوسلم إلى يهود بني النضير في ربيع الأوّل أوّل السنة الرابعة من
الهجرة ، وتحصنوا منه بالحصون ، وأمر بقطع النخل وإحراقها ، وحينئذ نزل تحريم
الخمر. ودسّ عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن معه من المنافقين
إلى بني النضير :
إنّا معكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فاغترّوا بذلك.
ولما لزم الأمر
واقتضت الحرب معاونتهم خذلوهم وأسلموهم ، وسألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يكفّ عن دمائهم ويجليهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من
أموالهم إلا السلاح ، فاحتملوا ذلك إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام.
١١ ـ قال الماوردي
في آية : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ ..) : إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب ، لأن بعض
الناس كان يقطع ، وبعضهم لا يقطع ، فصوّب الله الفريقين. والحق أن المصيب في
الاجتهاد واحد ، وغيره مخطئ لا إثم عليه ، كما أن الآية ليست من محل النزاع ، لأن
اجتهاد الصحابة في عهد النبي صلىاللهعليهوسلم لا تأثير له ، قال ابن العربي معلقا على قول الماوردي :
وهذا باطل ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وإنما يدل على اجتهاد النّبي صلىاللهعليهوسلم فيما لم ينزل عليه ، أخذا بعموم الأذيّة للكفار ، ودخولا
في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار ، وذلك قوله تعالى : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)
.
حكم الفيء
(وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ
وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ
__________________
الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ
فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ
كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا
وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا
غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))
الإعراب :
(يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الجملة حال.
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ .. الَّذِينَ) : في موضع جر ، لأنه معطوف على قوله : (لِلْفُقَراءِ). و (الْإِيمانَ) : منصوب بتقدير فعل ، وتقديره : وقبلوا الإيمان. و (يُحِبُّونَ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (الَّذِينَ). ويجوز أن يكون (يُحِبُّونَ) في موضع رفع ، على أن يجعل (الَّذِينَ) مبتدأ ، و (يُحِبُّونَ) خبره.
البلاغة :
(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ) و (ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) بينهما ما يسمى بالمقابلة.
(أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ) الضمير (دِيارِهِمْ) بين المبتدأ ، والخبر لإفادة الحصر.
(تَبَوَّؤُا الدَّارَ
وَالْإِيمانَ) استعارة ، شبّه الإيمان المستقر في نفوسهم بمنزل للإنسان
نزل فيه وتمكن منه.
المفردات اللغوية
:
(وَما أَفاءَ) رد وأعاد ، أي صيّره إليه ، والفيء شرعا : ما أخذ من أموال
الكفار من غير حرب ولا قتال ، أو بلا إيجاف خيل ولا ركاب أو صلحا كأموال بني
النضير ، أما الغنيمة : فهي
ما أخذ بحرب وقتال
، ورأى بعضهم أن الفيء : العقارات ، والغنيمة : المنقولات. (مِنْهُمْ) من بني النضير أو من الكفرة أو أهل الكتاب المذكورين في
أول السورة. (فَما أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ) أسرعتم أيها المسلمون ، من الوجيف : وهو سرعة السير. (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ مِنْ) زائدة ، والركاب : ما يركب من الإبل ، والمراد : أنكم لم
تبذلوا في تحصيله مشقة ، ولم تقاسوا فيه شدة. (وَلكِنَّ اللهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بإلقاء الرعب في قلوبهم. (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) الله القادر على ما يريد ، تارة بواسطة ، وتارة بغير واسطة
، بحرب أو بغير حرب.
(ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) بيان للأول ، أي من أهل البلدان المفتوحة بلا قتال ،
كالصفراء ووادي القرى وينبع. (فَلِلَّهِ) الأمر فيه لله يأمر فيه بما يشاء ، قيل : تكون قسمة
الغنائم أسداسا ، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد ، وقيل : يخمّس ،
وذكر الله للتعظيم ، ويصرف الآن سهم الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى الإمام أو إلى الجيش ، أو في مصالح المسلمين.
(وَلِذِي الْقُرْبى) صاحب قرابة النبي صلىاللهعليهوسلم من بني هاشم وبني المطلب. (وَالْيَتامى) أطفال المسلمين الذين فقدوا آباءهم ، وهم فقراء. (وَالْمَساكِينِ) ذوي الحاجة من المسلمين. (وَابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع في سفره من المسلمين. (كَيْ لا يَكُونَ) أي لئلا يكون الفيء ، أو المال ، وهو علة لقسمه على النحو
المذكور. (دُولَةً) بالضم : متداولا ، فالدولة : ما يتداول من المال ،
والدّولة بالفتح : ما ينتقل من الحال. (آتاكُمُ) أعطاكم. (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) ما منعكم عنه. (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة رسوله صلىاللهعليهوسلم. (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ) لمن خالف.
(لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ) بدل من قوله : (لِذِي الْقُرْبى) وما عطف عليه ، فإن الرسول صلىاللهعليهوسلم لا يسمى فقيرا ، والمهاجرون : هم الذين هاجروا في صدر
الإسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَرِضْواناً) الجملة حال مقيدة لصفة إخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم. (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ينصرون دينه بأنفسهم وأموالهم. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الذين صدقوا في إيمانهم وجهادهم.
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) أي والذين سكنوا المدينة ولزموها ، ولزموا الإيمان وألفوه
وتمكنوا فيه ، والمراد بالدار : دار الهجرة ، وهم الأنصار. (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل هجرة المهاجرين. (وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ) في أنفسهم. (حاجَةً) أي شيئا نفسيا كالحزازة والحسد والغيظ. (مِمَّا أُوتُوا) مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره دون الأنصار. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ، من الإيثار : وهو تقديم
مصلحة الغير على النفس في أعراض الدنيا. (خَصاصَةٌ) حاجة إلى ما يؤثرون به ، من خصاص البناء : فرجته. (وَمَنْ يُوقَ شُحَ
نَفْسِهِ) أي ومن يمنع ويحمى من بخل نفسه ، وهو حب المال وبغض
الإنفاق ، والشح : بخل مع حرص. (فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل.
(وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد المهاجرين والأنصار ، وهم المؤمنون بعد الفريقين
إلى يوم القيامة ، فلذلك قيل : إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. (غِلًّا) حقدا وحسدا لهم. (رَبَّنا إِنَّكَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) بالغ الرأفة والرحمة ، فحقيق بأن تجيب دعاءنا.
سبب النزول :
نزول الآية (٩):
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا ..) : أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم : أن الأنصار قالوا : يا
رسول الله ، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال : لا ، ولكن
تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة ، والأرض أرضكم ، قالوا : رضينا ، فأنزل الله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) الآية.
وأخرج البخاري
ومسلم عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهد (الجوع والفاقة)
فأرسل إلى نسائه ، فلم يجد عندهن شيئا ، فقال : ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمهالله ، فقام رجل من الأنصار ، فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب
إلى أهله ، فقال لامرأته : ضيف رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لا تدخريه شيئا ، قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية ،
قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالي فأطفئي السراج ، ونطوي بطوننا
الليلة ، ففعلت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : لقد عجب الله ، أو ضحك من فلان وفلانة ، فأنزل
الله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).
وأخرج مسدّد في
مسنده وابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي أن رجلا من المسلمين ، فذكر نحوه ، وفيه
: أن الرجل الذي أضاف : ثابت بن قيس بن شماس ، فنزلت فيه هذه الآية.
وأخرج الواحدي عن
عبد الله بن عمر قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم رأس شاة ، فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا ،
فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث واحد إلى آخر ، حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت
إلى أولئك ، فنزلت : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الآية.
المناسبة :
بعد بيان ما حل
ببني النضير في الدنيا من تخريب بيوتهم ، وتحريق نخيلهم وتقطيعها ، ثم إجلائهم إلى
الشام ، ثم الإخبار عن عذابهم في الآخرة ، ذكر الله تعالى حكم الأموال التي أخذت
منهم ، فهي فيء ، ثم ذكر تعالى حكم الفيء بصفة عامة ، لبيان الفرق بين الغنيمة
التي تؤخذ بقتال ، والفيء الذي يؤخذ صلحا بغير قتال.
وإنما أخذت أموال
بني النضير بغير قتال يذكر ، بالرغم من حصارهم ، لأنه لم يكن للمسلمين يومئذ كثير
خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ، وإنما كانوا على ميلين من المدينة
، فمشوا إليها مشيا ، ولم يركب إلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان راكب جمل ، فلما كانت المقاتلة قليلة ، ولم يكن خيل
ولا ركاب ، أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه قتال أصلا ، وخص رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتلك الأموال ، فقسمها بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار
منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف ، والحارث بن
الصّمة.
التفسير والبيان :
(وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي ما ردّه الله تعالى على رسوله صلىاللهعليهوسلم وصيّره إليه من أموال الكفار بني النضير ، فهو للرسول صلىاللهعليهوسلم ، لأنه لم يحصل فيه قتال ولا حرب ولا تجشم مشقة ، ولم
تركبوا لتحصيله
خيلا ولا إبلا ، وإنما كانت من المدينة على ميلين ، وافتتحت ديارهم صلحا ، وأخذت
أموالهم بعد جلائهم عنها ، ولذا لم تقسم بين الغانمين ، وإنما جعل الله أموال بني
النضير لرسوله صلىاللهعليهوسلم خاصة لهذا السبب ، يصرفه على مصالحه كيف يشاء.
أخرج أحمد
والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضياللهعنه قال : «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على
رسوله صلىاللهعليهوسلم ، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم خالصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته ـ أو قال : قوت
سنته ـ وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدّة في سبيل الله عزوجل». وإنما قال : (وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ) لأنه الطائع لربه فيما يأمره به ، وجدير بالمال أن يكون
للمطيعين.
(وَلكِنَّ اللهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ولكن الله بقدرته يسلط رسله على من يشاء من أعدائه ،
كما سلط محمدا صلىاللهعليهوسلم على بني النضير ، فأخذ أموالهم دون قتال ، والله قادر على
كل شيء ، يفعل ما يشاء بمن يشاء ، فإنه سبحانه هو الذي مكّن رسوله صلىاللهعليهوسلم من بني النضير.
ثم ذكر الله حكم
الفيء ، فصارت أموال الأعداء ثلاثة أنواع : الغنائم المنقولة المأخوذة قهرا التي
توزع أخماسا بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ..)
[الأنفال ٨ / ٤١]
والأموال المنقولة التي تؤخذ صلحا بلا إيجاف خيل ولا ركاب ، فهي للرسول صلىاللهعليهوسلم خاصة ، يصرفها كيف شاء بقوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ..) وأموال الفيء العقارية التي توزع على المصالح العامة بعد
الرسول صلىاللهعليهوسلم ، بقوله تعالى هنا :
__________________
(ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ، وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى ، وَالْمَساكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ) ففي هذه الآية بيان مصارف الفيء بعد الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وهو أن كل ما رده الله على رسوله صلىاللهعليهوسلم من كفار أهل القرى ، كقريظة والنضير وفدك وخيبر ، صلحا من
غير قتال ، ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، يحكم به الله بما يشاء ، ثم
يكون ملكا للرسول صلىاللهعليهوسلم في حياته ، ثم في مصالح المسلمين من بعده ، فينفق منه على
قرابة النبي صلىاللهعليهوسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب الممنوعون من أخذ الصدقة أو
الزكاة ، فجعل لهم حقا في الفيء.
كما ينفق منه على
اليتامى وهم الصغار الذين مات آباؤهم قبل البلوغ ، والمساكين الفقراء ذوي الحاجة
والبؤس ، وأبناء السبيل المنقطعين في أثناء السفر ، وهم الغرباء الذين نفدت نفقتهم
في سفرهم.
فيكون الفيء
مقسوما خمسة أقسام : سهم الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم ، هو للرسول صلىاللهعليهوسلم في حياته ، ثم يصرف على مصالح المسلمين بعد وفاته ، وسهم
ذوي القربى أقارب الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، وسهم اليتامى ، وسهم
المساكين ، وسهم ابن السبيل ، والأربعة أخماس الباقية لمصالح المسلمين العامة.
أما الغنيمة :
فيصرف خمسها لهؤلاء الخمسة المذكورين في هذه الآية وآية الغنائم : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ..) والأربعة أخماس الباقية للمقاتلين الذين حضروا المعركة.
وعلة هذا التقسيم
ما قال الله تعالى :
(كَيْ لا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي حكمنا بهذه القسمة بين هؤلاء المذكورين ، لئلا يكون
تداول الأموال محصورا بين الأغنياء ، ولا يصيب الفقراء منه شيء ، فيغلب الأغنياء
الفقراء ، ويقسمونه بينهم. وهذا مبدأ إغناء الجميع ، وتحقيق السيولة للكل.
(وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي ما أمركم به الرسول صلىاللهعليهوسلم فافعلوه ، وما منعكم عنه فاجتنبوه ، فإنه إنما يأمر بخير ،
وإنما ينهى عن شر ، فإذا أعطاكم الرسول صلىاللهعليهوسلم شيئا من الفيء مثلا ، فخذوه ، فهو حلال ، وإذا منعكم شيئا
منه ، فلا تقربوه ، فإنه يعمل بالوحي ولا ينطق عن الهوى. والآية توجب امتثال أوامر
الرسول صلىاللهعليهوسلم ونواهيه أيضا.
ثبت في الصحيحين
عن أبي هريرة : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم
عنه فاجتنبوه» وأخرج أحمد والشيخان صاحبا الصحيحين أيضا وأبو داود والترمذي عن ابن
مسعود قال : «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات ، والمتنمّصات ، والمتفلجات
للحسن ، المغيّرات لخلق الله عزوجل» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد في البيت ، يقال لها أم يعقوب
كانت تقرأ القرآن ، فجاءت إليه ، فقالت : بلغني أنك قلت كيت وكيت ، فقال : ما لي
لا ألعن من لعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو في كتاب الله تعالى ، فقالت : إني لأقرأ ما بين
لوحيه ، فما وجدته ، فقال : إن كنت قرأتيه ، فقد وجدتيه أما قرأت : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ،
وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى ، قال : فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهى عنه».
(وَاتَّقُوا اللهَ ،
إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي خافوا الله بامتثال أوامره ، وترك زواجره ونواهيه ،
فإنه شديد العقاب لمن عصاه ، وخالف أمره وأباه ، وارتكب ما زجر عنه ونهاه. والآية
تتناول كل ما يجب فيه التقوى ، وتحث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
__________________
وبعد بيان مصارف
الفيء ، بيّن الله تعالى حال الفقراء المستحقين له ، فقال :
(لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي إن هؤلاء الأصناف الأربعة (وهم ذوو القربى ، واليتامى ،
والمساكين ، وابن السبيل) هم فقراء المهاجرين والأنصار والتابعين. وفقراء
المهاجرين : هم الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج منها ، وإلى ترك أموالهم وديارهم
فيها ، طلبا لمرضاة الله وفضله ورزقه في الدنيا ، وثوابه ورضوانه في الآخرة ،
ونصرة الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم بمجاهدة الكفار ، وإعلاء كلمة الله ودينه ، أي إن الخمس
يصرف للمذكور في الآية : (فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وتكون الأخماس الأربعة الباقية للفقراء المهاجرين ومن جاء
بعدهم .
(أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء المهاجرون هم الكاملون في الصدق ، الراسخون فيه ،
الذين صدّقوا قولهم بفعلهم ، وقرنوا إيمانهم بالعمل المخلص.
ثم مدح الله تعالى
الأنصار ، وأبان فضلهم وشرفهم ، وعدم حسدهم ، وإيثارهم المهاجرين مع الحاجة ،
ورضاهم بإعطاء الفيء لهم ، فقال :
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ
إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ،
وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي والذين سكنوا المدينة دار الهجرة ، وتمكّن الإيمان
بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم في قلوبهم ، قبل هجرة المهاجرين ، وهم الأنصار ، يحبون
المهاجرين ، ويواسونهم بأموالهم ، ولا يجدون في أنفسهم حسدا أو غيظا أو حزازة
للمهاجرين مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء ، بل طابت أنفسهم بذلك ، مع أنهم
كانوا في دور الأنصار ، وقدّموا المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا ، ولو
__________________
كان بهم حاجة
وفقر. ويلاحظ أن كل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته ، فهو حاجة.
والإيثار : هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ، والرغبة في الحظوظ
الدينية.
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من كفاه الله حرص نفسه وبخلها ، وحفظ من ذلك ، فأدى ما
أوجبه الشرع عليه في مال من زكاة أو حق ، فقد فاز ونجح ، وظفر بكل المنى والمطلوب.
أخرج الترمذي وأبو
يعلى وابن مردويه عن أنس بن مالك مرفوعا : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ، ودخان
نار جهنم في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا» وروي أيضا
عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يجتمع ...».
وأخرج أحمد ومسلم
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ،
واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا
محارمهم».
وأخرج أحمد وأبو
داود عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا
الفحش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، وإياكم والشح ، فإنه أهلك من كان
قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا».
والآية دليل على
اتصاف الأنصار بصفات خمس : هي استيطانهم دار الهجرة مسبقا وجعل الإيمان مستقرا
ووطنا لهم ، ومحبتهم إخوانهم المهاجرين ، وترفعهم عن الجشع والطمع والحسد والحزازة
، وإيثارهم المحتاجين على أنفسهم ، ولو كان بهم حاجة ، واتصافهم بالجود والبعد عن
الشح ، لذا وصفوا بأنهم المفلحون الظافرون بما أرادوا.
ثم وصف الله القسم
الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء ، وهم متابعون بإحسان ، فقال :
(وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا
، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي والذين أتوا في الزمان من بعد المهاجرين والأنصار ، وهم
التابعون لهم بإحسان ، كما في قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة ٩ / ١٠٠] يقولون أي قائلين : ربنا اغفر لنا ذنوبنا
، واغفر لإخواننا السلف الصالح من المهاجرين والأنصار ، وانزع من قلوبنا الغش
والبغض والحسد للمؤمنين قاطبة ، فإنك يا ربنا بالغ الرأفة كثير الرحمة ، فاقبل
دعاءنا.
والتابعون لهم
بإحسان : هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة ، الداعون لهم في السر
والعلانية.
والآية دليل على
تضامن وتكافل آخر الأمة وأولها وأجيالها ، وعلى وجوب محبة الصحابة رضياللهعنهم أجمعين ، وتقدير أخوتهم في الدين والسبق إلى الإيمان ،
والحث على الدعاء لهم بخير ، وعلى صفاء القلوب من أمراض الحقد والحسد لأي مؤمن.
قال الزهري : قال
عمر رضياللهعنه : (وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) : هذه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خاصة ، وقرى عرينة وكذا وكذا مما أفاء الله تعالى على
رسوله صلىاللهعليهوسلم من أهل القرى ، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل ، وللفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ،
والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم ،
والذين جاؤوا من
بعدهم ، فاستوعبت هذه الآية الناس ، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق .
وروى ابن جرير عن
مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) حتى بلغ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة ٩ / ٦٠]
ثم قال: هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
...) الآية [الأنفال ٨ / ٤١] ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) حتى بلغ (لِلْفُقَراءِ ... وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ
بَعْدِهِمْ) ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة ، وليس أحد إلا وله
فيها حق ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي ، وهو بسرو حمير ، نصيبه فيها لم يعرق
فيها جبينه .
قال الرازي :
واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين ، لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار ،
أو الذين جاؤوا من بعدهم ، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن
يذكر السابقين ، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة ، فمن لم يكن كذلك ، بل
ذكرهم بسوء ، كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية .
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
الأحكام التالية :
١ ـ كانت أموال
بني النضير ونحوها التي ردها الله تعالى على رسوله صلىاللهعليهوسلم من
__________________
غير قتال ولا حرب
ولا مشقة للنبي صلىاللهعليهوسلم خاصّة يضعها حيث شاء ، فقسمها النبي صلىاللهعليهوسلم بين المهاجرين لشدة حاجتهم. ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا
ثلاثة نفر محتاجين ، هم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن
الصمّة.
٢ ـ أموال الفيء :
هي ـ كمال قال ابن عباس ـ قريظة والنضير ، وهما بالمدينة ، وفدك وهي على ثلاثة
أيام من المدينة ، وخيبر ، وقرى عرينة ، وينبع ، جعلها الله تعالى ، لرسوله صلىاللهعليهوسلم.
٣ ـ الأموال التي
للدولة فيها حق التدخل ثلاثة أنواع : الصدقات والزكوات : وهي ما أخذ من المسلمين
على طريق التطهير لهم. والثاني ـ الغنائم : وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال
الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث ـ الفيء : وهو ما رجع للمسلمين من أموال
الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف (إسراع) خيل ولا ركاب ، كالصلح والجزية
والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم
، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ، ولا وارث له.
أما الزكاة (أو
الصدقة) فتصرف إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها وهم الأصناف الثمانية
المذكورون في قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ ...)
[براءة ٩ / ٦٠].
وأما الغنائم
الحربية : فكانت في صدر الإسلام للنبي صلىاللهعليهوسلم يصنع فيها ما شاء ، كما قال في سورة الأنفال : (قُلِ : الْأَنْفالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ) ثم نسخ بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية [الأنفال ٨ / ٤١] فيكون الخمس لمن ذكر الله تعالى ،
والأربعة أخماس الباقية للغانمين.
وأما الفيء وهو
العقار : فالأمر فبه عند المالكية للإمام ، يفعل ما يراه
مصلحة ، من قسمته
كالغنائم أو ترك قسمته وجعله لمصالح المسلمين العامة ، كما فعل عمر بن الخطاب في
سواد العراق ومصر وغيرهما ، واحتج على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم الذين
طالبوا بالقسمة بهذه الآية آية الفيء : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ ...) إلى قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ) وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك ، فأشاروا عليه بترك
القسمة وأن يقر أهلها (أهل أراضي العراق) ويضع عليها الخراج ، ففعل ذلك ، ووافقته
الجماعة عند احتجاجه بالآية . وتكون آية الحشر في رأي المالكية ناسخة في شأن العقارات
لآية الأنفال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ ...). وذكروا أنه يقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه ، ولا ينقل
عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا ، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم ، إلا أن ينزل
بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة ، فينقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا ، كما فعل
عمر رضياللهعنه عام الرمادة.
وقال الحنفية : تقسم الغنائم ـ أي
المنقولات ـ على النحو الذي ذكره الله في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...)
الخمس لمن ذكرت الآية ، والباقي للغانمين ، وأما حكم الفيء أي الأرض فهو أن يكون
لكافة المسلمين ، ولا يخمس ، بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين. لكن الغنيمة تقسم
على ثلاثة أسهم فقط : سهم اليتامى ،
وسهم المساكين ، وسهم أبناء السبيل. وأما ذكر الله تعالى ، في الخمس فهو لافتتاح
الكلام ، تبركا باسمه تعالى ، وسهم النبي صلىاللهعليهوسلم سقط بموته ، فالحنفية والمالكية يتركون الخيار للإمام في
قسمة العقار ، فهو مخير في قسمته أو جعله وقفا على مصالح المسلمين.
وتكون آية الحشر
الثانية : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ) بيانا لما أفاء الله على المسلمين من أموال سائر الكفار.
روى مالك أن عمر قال : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيبر.
__________________
وذهب الشافعية إلى
أن حكم الفيء والغنيمة واحد ، فيخمس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس
فيها بالنص القرآني : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) بجامع أن كلّا منهما مال الكفار استولى عليه المسلمون ،
وأما اختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره ، فلا تأثير له ، فعلى الإمام قسمة
العقار ، ومن طاب نفسا عن حقه ، فللإمام أن يجعله وقفا على المسلمين.
وتقسم الغنيمة في
رأي الشافعية والحنابلة على خمسة أسهم ، أولها ـ سهم المصالح (سهم الله تعالى
ورسوله صلىاللهعليهوسلم) أي يصرف لمصالح المسلمين العامة كالثغور وقضاة البلاد
وعلماء الشرع والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء ونحوهم وثانيها ـ سهم ذوي القربى وهم
بنو هاشم من أولاد فاطمة وغيرها ، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم.
٤ ـ علة قسمة
الفيء : إن تقسيم الفيء على النحو السابق كيلا يختص به الأغنياء ، كما كانوا
يستأثرون بالغنيمة ، وكانوا يغترون به ، وبذلك قضى الإسلام على الطبقية وتجمع
الثروة في يد فئة قليلة ، وحرمان الأكثرية من سيولة المال.
٥ ـ قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ ...) دليل واضح على وجوب امتثال جميع أوامر الرسول صلىاللهعليهوسلم ، واجتناب جميع نواهيه ، فإنه لا يأمر إلا بصلاح ، ولا
ينهى إلا عن فساد.
وقد استدل الصحابة
كابن مسعود وغيره بتحريم أشياء عملا بنهي النبي صلىاللهعليهوسلم عنها ، كتحريم الوشم والتنمص (نتف شعر الوجه) وتفليج
الأسنان ، وجواز قتل الزّنبور في الإحرام ، اقتداء فيه بعمر الذي أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بالاقتداء به في قوله : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر
وعمر» وأمر الله سبحانه بقبول قول النبي صلىاللهعليهوسلم. ويؤكده قوله صلىاللهعليهوسلم ـ فيما يرويه ابن ماجه عن أبي هريرة ـ : «ما أمرتكم به
فخذوه ، وما نهيتكم عنه فانتهوا».
وأمر الرسول صلىاللهعليهوسلم أمر الله تعالى ، قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ) [النساء ٤ / ٨٠] وعن أبي رافع رضياللهعنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه أمري مما
أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه»
٦ ـ دل قوله
سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ ،
إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) على وجوب اتقاء عذاب الله ، فإنه شديد على من عصاه ، وعلى
وجوب تقوى الله في أوامره ونواهيه ، فلا تضيّع ، فإن الله شديد العقاب لمن خالف ما
أمره به.
٧ ـ المقصود بأولئك
الأصناف الأربعة الذين يصرف لهم الفيء : (وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) هم هؤلاء الأصناف من الفقراء ، وهم المهاجرون ثم الأنصار ،
ثم التابعون لهم بإحسان.
٨ ـ وصف الله
تعالى المهاجرين بأوصاف ستة : أولها ـ أنهم فقراء ، وثانيها ـ أنهم مهاجرون ،
وثالثها ـ أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ورابعها ـ أنهم يبتغون فضلا من الله
ورضوانا ، والفضل : ثواب الجنة ، والرضوان قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة ٩ / ٧٢] ،
وخامسها ـ (وَيَنْصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) بأنفسهم وأموالهم ، وسادسها ـ (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في دينهم ، لهجر هم لذات الدنيا ، وتحملهم شدائدها.
وتمسك بعض العلماء
بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضياللهعنه ، فقال : هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا
يقولون لأبي بكر : يا خليفة رسول الله ، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة
إمامته.
٩ ـ أثنى الله على
الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء ، إذ أعطي
__________________
للمهاجرين دونهم ،
ووصفهم أيضا بأوصاف ستة : أولها ـ أنهم استوطنوا المدينة قبل وصول المهاجرين إليها
، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه ، وثانيها ـ محبتهم الخالصة للمهاجرين ، وثالثها ـ لا
يحملون في نفوسهم حقدا ولا حسدا ولا حزازة بسبب ما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره
، ورابعها ـ إيثارهم غيرهم ولو كان بهم حاجة ، وخامسها ـ وقاهم الله من مرض الشح ،
وسادسها ـ هم المفلحون الفائزون الظافرون بما أرادوا.
١٠ ـ استدل الإمام
مالك على تفضيل المدينة على غيرها من الآفاق بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) الآية. وقال : إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة ، وإن
غيرها من القرى افتتحت بالسيف.
١١ ـ الأولى أن
يقال : إن الآيات متعلقة ببعضها ، معطوف بعضها على بعض ، فتكون آية : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) معطوفة على قوله : (لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ) وآية : (وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ) أي التابعون ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن
أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوؤا الدار والإيمان ،
والذين جاؤوا من بعدهم ، فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل.
١٢ ـ آية : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) دليل على وجوب محبة الصحابة ، لأنه تعالى جعل لمن بعدهم
حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، وأن من سبّهم أو سب
واحدا منهم ، أو اعتقد فيه شرا ، فإنه لا حق له في الفيء.
١٣ ـ آيات الحشر
هذه في الفيء تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول ، وإبقاء العقار
والأرض حقا عاما للمسلمين جميعا أو وقفا دائما على
مصالحهم ، كما فعل
عمر رضياللهعنه في سواد العراق ومصر والشام وغيرها من البلاد المفتوحة
عنوة ، لأن الله تعالى أخبر عن الفيء ، وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار
والتابعين لهم بإحسان ، فقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ ...) عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. جاء
في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ،
وإنا إن شاء الله بكم حقون ، وددت أن رأيت إخواننا ، قالوا : يا رسول الله ، ألسنا
بإخوانك؟ فقال : بل أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ، وأنا فرطهم على
الحوض» أي متقدمهم حتى يردوا ، فبين صلىاللهعليهوسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم.
١٤ ـ دل قوله
تعالى : (يَقُولُونَ :
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) على أن المؤمنين المتأخرين مع مرور الأجيال مأمورون أن
يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال العوام بن حوشب : أدركت صدر
هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى تألف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم ،
فتجسّروا الناس عليهم.
أما من يلعن أو
يسب بعض الصحابة فهو فاسق ، بعيد عن أدب الإسلام وأخلاقه ، وروح الدين وصفائه ،
متنكر لأهل الفضل والسبق ، مبتدع ضال ، فإن القرآن الكريم أمر بالاستغفار للصحابة
، ونهى عن الحقد والحسد لجميع المؤمنين والمؤمنات. وإذا بلغ القدح ببعض الأصحاب أو
أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم ما يصادم نصا قرآنيا أو حديثا ثابتا مقطوعا به ، أدى ذلك
إلى الكفر ، والعياذ بالله تعالى.
تواطؤ المنافقين واليهود وجزاؤهم
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا
لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا
يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي
قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ
لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ
اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ
خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))
الإعراب :
(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ...) لم يجزم (يَخْرُجُونَ) و (يُنْصَرُونَ) لأنهما جوابا قسمين قبلهما ، وتقديره : والله لا يخرجون
معهم ولا ينصرونهم ، فلذلك لم ينجزما بحرف الشرط.
(كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَثَلِ) : جار ومجرور في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره :
مثلهم كمثل الذين من قبلهم. و (قَرِيباً) لا يبعد أن يتعلق بصلة (الَّذِينَ). وكذلك (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
...) تقديره : مثلهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر ، فحذف
المبتدأ.
(فَكانَ عاقِبَتَهُما
أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها عاقِبَتَهُما) : منصوب لأنه خبر كان ، و (أن) واسمها وخبرها في موضع رفع
، لأن الجملة اسم (كان). و (خالِدَيْنِ) حال من المضمر في الظرف في قوله : (فِي النَّارِ) وتقديره : كائنان في النار خالدين فيها ، وكرر (فِي) تأكيدا كقولهم : زيد في الدار قائم فيها. ويجوز رفع (خالِدَيْنِ) على خبر (أن).
البلاغة :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا ..) استفهام يراد به الإنكار والتعجيب.
(تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) بين (جَمِيعاً) و (شَتَّى) طباق.
(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ : اكْفُرْ) تشبيه تمثيلي ، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
المفردات اللغوية
:
(أَلَمْ تَرَ) تنظر. (نافَقُوا) أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر. (لِإِخْوانِهِمُ) المراد بذلك أخوة الكفر ، أو الصداقة والموالاة أي
أصدقائهم. (مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) هم بنو النضير وإخوانهم في الكفر. (لَئِنْ) اللام لام القسم في الحالات الأربع. (أُخْرِجْتُمْ) من المدينة. (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً) أي لا نطيع أحدا من الرسول والمؤمنين في قتالكم ، ولا نسمع
أمر أحد في خذلانكم. (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) حذف من (إِنْ) اللام الموطئة للقسم. (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) لنعاوننكم. (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك.
(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) ثبت في التاريخ أنهم كانوا على هذا النحو ، فإن ابن أبي
وأصحابه المنافقين راسلوا بني النضير بذلك ، ثم أخلفوهم. وفيه دليل على صحة النبوة
وإعجاز القرآن. (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) جاؤوا لنصرهم على الفرض والتقدير. (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) ليفرنّ هاربين منهزمين. واستغني بجواب القسم المقدر عن
جواب الشرط في المواضع الخمسة. (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) بعد أي اليهود ، بل نخذلهم ، ولا ينفعهم نصرة المنافقين.
(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي إن المنافقين يخافونكم خوفا أشد من خوفهم الله ، وقوله
: (رَهْبَةً) خوفا ، أي أشد مرهوبية ، وقوله : (فِي صُدُورِهِمْ) لتأكيد استقرار الخوف في نفوسهم ، فإنهم كانوا يضمرون
مخافتهم من المؤمنين. وقوله : (مِنَ اللهِ) لأنهم يظهرون النفاق مع أنه لا يخفى على الله تعالى ،
ولتأخير عذاب الله. (لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون عظمة الله تعالى حتى يخشوه حق خشيته.
(لا يُقاتِلُونَكُمْ) أي اليهود. (جَمِيعاً) مجتمعين. (مُحَصَّنَةٍ) بالدروب والخنادق
(جُدُرٍ) حيطان وأسوار ، جمع جدار ، وذلك لفرط رهبتهم. (بَأْسُهُمْ) حربهم ، فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا ، وليس ذلك
لضعفهم وجبنهم ، بل لقذف الله الرعب في قلوبهم. (تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً) تظنهم مجتمعين متفقين. (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة لافتراق عقائدهم ، واختلاف مقاصدهم ، جمع شتيت. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَعْقِلُونَ) ما فيه صلاحهم.
(كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) مثل اليهود لا سيما يهود بني النضير كالمشركين الذين قتلوا
وعذبوا في معركة بدر ، أو كالمهلكين من الأمم الماضية. (قَرِيباً) في زمان قريب. (ذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ) سوء عاقبة كفرهم في الدنيا من القتل وغيره. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب مؤلم في الآخرة. (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل
الشيطان. (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ
: اكْفُرْ) أي أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور. (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ، ولم ينفعه ذلك.
والمراد بالإنسان : الجنس ، فيشمل أبا جهل الذي قال له إبليس يوم بدر : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ
النَّاسِ ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) الآية [الأنفال ٨ / ٤٨]. (إِنِّي أَخافُ اللهَ
..) كذبا منه ورياء. (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي الغاوي والمغوي. (الظَّالِمِينَ) الكافرين.
سبب النزول :
نزول الآية (١١):
(أَلَمْ تَرَ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال : أسلم ناس من أهل
قريظة ، وكان فيهم منافقون ، وكانوا يقولون لأهل النضير : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ
مَعَكُمْ) ، فنزلت هذه الآية فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ).
وأخرج ابن إسحاق
وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس : أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي ورفاعة بن
زيد ، وعبد الله بن نبتل وقوم من منافقي أهل المدينة كانوا بعثوا إلى بني النضير
بما تضمنته الآيات.
المناسبة :
بعد بيان مصير
يهود بني النضير ، وحكم مصارف الفيء الذي يشمل أموال
هؤلاء اليهود ،
ذكر الله تعالى أحوال العلاقات المشبوهة بين المنافقين واليهود ، فقد كان
المنافقون في الظاهر من الأنصار ، ولكنهم كانوا يوالون اليهود في السر ، فصاروا
إخوانهم في الكفر ، وأصدقاءهم في معاداة المؤمنين. ومثل هذا الارتباط يتكرر في كل
زمان ، حيث نجد ضعاف الإيمان والنفوس وخونة الأمة الإسلامية يوالون أعداءهم ، كما
يعد بعض الناس غيرهم على المؤازرة في شيء ، ثم يتخلون عنهم وقت الأزمة.
التفسير والبيان :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ : لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً) أي ألم تنظر إلى هؤلاء القوم من المنافقين كعبد الله بن
أبي بن سلول وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد ووديعة بن مالك وسويد وداعس وأمثالهم
حين بعثوا إلى يهود بني النضير : أن اثبتوا وتحصنوا ، أو تمنّعوا ، فإننا لا
نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، ولا نطيع في شأنكم ،
ومن أحلكم أحدا ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم كمحمد وأتباعه ، وإن طال الزمان
، وإن قوتلتم لننصرنكم على عدوكم. فكذبهم الله بقوله :
(وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي لكاذبون فيما وعدوهم به من الخروج معهم ، والنصرة لهم ،
إما لنيتهم ألا يفوا بما وعدوا به ، وإما لأنهم لا يقع منهم ما قالوا.
وقوله في مطلع
الآية : (أَلَمْ تَرَ) أسلوب يراد به التعجيب من حال المخبر عنه ، وأن أمره في
غاية الغرابة. وقد تبين لليهود كذب المنافقين ، فلم ينصروهم وقت الحصار ، وقذف
الله الرعب في قلوب أولئك اليهود ، فطلبوا من
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم ، ففعل ، فكان الرجل منهم
يهدم بيته ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام.
ثم أكد الله تعالى
تكذيبهم مفندا على سبيل التفصيل مواقفهم الخادعة ، فقال :
(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ، وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي وتالله لئن أخرج يهود بني النضير من ديارهم ، لا يخرج
معهم المنافقون ، ولئن قاتلهم المؤمنون لا يقاتلون معهم ، ولئن آزروهم وقاتلوا
معهم لفرّوا هاربين منهزمين ، ثم لا يصير المنافقون واليهود منصورين بعد ذلك ، بل
يذلهم الله ويخذلهم ، ولا ينفعهم نفاقهم. ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال ٨ / ٢٣].
وكان الواقع
مطابقا لما أخبر به القرآن ، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود ، وهم
بنو النضير ومن معهم ، ولم ينصروا اليهود الذين قوتلوا ، وهم بنو قريظة وأهل خيبر
، ثم بشر الله تعالى بنصر المؤمنين على كلا الفريقين : المنافقين واليهود ، وتحقق
وعد الله ، وتطهرت جزيرة العرب من اليهود بفضل من الله وتوفيقه.
وسبب عدم نصرتهم
لليهود ما قال تعالى :
(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي إنكم أيها المسلمون أشد خوفا وخشية في صدور المنافقين
أو في صدور اليهود من رهبة الله ، فهم يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله ، وذلك
الخوف بسبب أنهم قوم لا يعلمون قدر عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته ، ولو كان لهم
فقه لعلموا أن الله سبحانه أحق بالرهبة منه دونكم.
ونظير الآية قوله
تعالى : (إِذا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء ٤ / ٧٧].
ثم ذكر تعالى
أسلوب اليهود والمنافقين في مقاتلة المؤمنين ، فقال :
(لا يُقاتِلُونَكُمْ
جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي إن اليهود والمنافقين من جبنهم وهلعهم لا يواجهون جيش
الإسلام بالمبارزة والمقابلة ، ولا يقاتلونهم مجتمعين ، بل يقاتلونهم إما وراء
الحصون والدروب والخنادق ، أو من خلف الأسوار والحيطان التي يستترون بها ، لجبنهم
ورهبتهم ، فيقاتلون للدفاع عنهم ضرورة ، وقد لمس العرب هذا الأسلوب في حروب اليهود
في فلسطين في عصرنا.
(بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ، ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي إن عداوتهم وجربهم فيما بينهم شديدة ، وقاسية ، تظنهم
متوحدين وهم متفرقون ، فاجتماعهم إنما هو في الظاهر ، مع اختلاف نواياهم وأهوائهم
وآرائهم وشهاداتهم في الواقع ، لما بينهم من أحقاد وعداوات ، ولأنهم قوم لا يعقلون
الحق وأمر الله ، ولا يدركون سر النجاح في الحياة وهو الوحدة ، ولو عقلوا لعرفوا
الحق واتبعوه ، فتوحدوا ولم يختلفوا.
وهذا دليل على أن
ضعفهم ناشئ من التفرقة والخلاف ، فجدير بالمسلمين الذين يقاتلونهم في هذا العصر أن
يكونوا متوحدين صفا واحدا كالبنيان المرصوص ، وأن يعتمدوا على أنفسهم دون التماس
حلول واهنة ضعيفة من شرق أو غرب.
ثم ذكر الله تعالى
أحوالا مشابهة لهم ، فقال :
(كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ ، قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن هؤلاء اليهود بني النضير أصابهم مثل ما أصاب كفار
قريش يوم بدر ، في السنة
الثانية من الهجرة
، ومثل من قبلهم من يهود بني قينقاع الذين أجلاهم النبي صلىاللهعليهوسلم من المدينة إلى أذرعات بالشام بعد سنة ونصف من الهجرة ،
وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، وذاقوا في زمان قريب سوء عاقبة
كفرهم في الدنيا ، ولهم عذاب مؤلم في الآخرة.
ثم ذكر الله تعالى
مثلا آخر للمنافقين ورابطتهم باليهود ، فقال :
(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ : اكْفُرْ ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ : إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ
، إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن مثل هؤلاء المنافقين في وعودهم اليهود بالمناصرة
والمؤازرة في القتال والخروج ، كمثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الشر ، وأغراه
بالكفر ، وزيّنه له ، وحمله عليه ، فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان ، تبرأ
الشيطان منه وتنصل يوم القيامة ، وقال على وجه التبري من الإنسان : إني أخاف عذاب
الله رب العالمين إذا ناصرتك.
وهذا مثل في غاية
السوء وشدة الوقع على النفوس ، لذا أبان الله تعالى بعده ما يوجبه من العقاب ،
فقال :
(فَكانَ عاقِبَتَهُما
أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فكان عاقبة الشيطان الآمر بالكفر ، والإنسان الذي كفر
واستجاب أنهما صائران إلى نار جهنم خالدين فيها على الدوام ، وذلك الجزاء وهو
الخلود في النار هو جزاء الكافرين جميعا ، ومنهم اليهود والمنافقون.
فقه الحياة أو
الأحكام :
تدل الآيات على ما
يأتي :
١ ـ إن هناك
مصادقة وموالاة ومعاونة في الظاهر بين المنافقين واليهود ، بسبب أخوة الكفر ،
ورابطة الاشتراك في العداوة والكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، فيقول
المنافقون ليهود
قريظة والنضير : نحن معكم في الإقامة والقتال والخروج ، ولا نطيع محمدا في قتالكم
، والله شاهد على أنهم كاذبون في قولهم وفعلهم.
وفي هذا دليل على
صحة نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم بإخبار الغيب ، لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا ، وقوتلوا فلم
ينصروهم.
٢ ـ كذب الله
المنافقين أولا على سبيل الإجمال ، ثم أتبعه بالتفصيل ، فأخبر بأن اليهود لو
أخرجوا من ديارهم ، لم يخرج المنافقون معهم ، وأنهم لو قاتلهم المؤمنون ما نصروهم
ولا عاونوهم ، ولئن نصر المنافقون اليهود لفروا هاربين منهزمين.
٣ ـ إن بني النضير
في خوفهم من المسلمين أشد خوفا وخشية من رهبة الله ، فهم يخافون منهم أكثر مما
يخافون من ربهم ، ذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.
٤ ـ لا يقدر
اليهود والمنافقون على مقاتلة المسلمين مجتمعين إلا في حصون محصنة بالخنادق
والدروب ، أو من خلف الأسوار والحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم ، وإلقاء
الله الرعب في قلوبهم ، وتفرقهم ، وتأييد الله ونصرته لعباده المؤمنين.
وسبب ذلك التفرق
والتشتت والكفر أنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله ، ويدركون به نظم الحياة ،
ويعرفون أن الوحدة أساس النجاح.
٥ ـ إن ما أصاب
يهود بني النضير من الطرد والجلاء عن المدينة والعذاب مشابه لما أصاب بني قينقاع
وكفار قريش يوم بدر ، من العقاب ، فقد كان بين النضير وقريظة سنتان ، وكانت وقعة
بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، ولهؤلاء الكفار في الآخرة عذاب مؤلم.
٦ ـ إن مثل
المنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم مثل الشيطان الذي سوّل
للإنسان الكفر ، فلما كفر تبرأ منه ، مدعيا أنه يخاف عذاب الله.
فكانت عاقبة
المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان ، حيث صارا إلى النار خالدين فيها
على الدوام.
الأمر بالتقوى والعمل للآخرة
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
(١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ
هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))
البلاغة :
(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ
ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) كناية في كلمة (لِغَدٍ) كنى بها عن القيامة لقربها.
(الْجَنَّةِ) و (النَّارِ) بينهما طباق.
المفردات اللغوية
:
(نَفْسٌ) تنكيرها للتقليل أي تقليل الأنفس النواظر ، كأنه قال :
فلتنظر نفس واحدة في ذلك. (ما قَدَّمَتْ) أي الذي قدمته من الأعمال الصالحة. (لِغَدٍ) هو يوم القيامة ، سمي به لقربه وتحقق وقوعه وتنكيره
للتعظيم وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه. (نَسُوا اللهَ) نسوا حق الله ، فتركوا طاعته. (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أنساهم أن يقدموا لها خيرا. (الْفاسِقُونَ) الكاملون في الفسق.
(لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يتساوى أصحاب النار الذين لم يعملوا ما ينقذهم منها
، فاستحقوا النار ، والذين استكملوا نفوسهم ، فاستأهلوا الجنة ، واحتج به الشافعية
على أن المسلم لا يقتل بالكافر. (هُمُ الْفائِزُونَ) بالنعيم المقيم.
المناسبة :
بعد بيان أحوال
المنافقين واليهود ، أمر الله تعالى بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب
المنهيات ، وأمر بالعمل في الدنيا للآخرة ، ورغب في الإعداد للجنة ، وحذر من عمل
أهل النار ، ووصف أهل الجنة المستحقين لها بالفائزين ، وأهل النار بالفاسقين.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ،
وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، افعلوا ما أمر الله به ، واتركوا ما زجر عنه ، واتقوا
عقابه ، ولتتأمل نفس أي شيء قدّمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة ، وحاسبوا
أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، واتقوا الله ـ وكرر الأمر بالتقوى للتأكيد والحث على ما
ينفع في الآخرة ـ فإن الله لا تخفى عليه من أعمالكم وأحوالكم خافية ، فهو مجازيكم
بأعمالكم صغيرها وكبيرها ، قليلها وكثيرها.
ثم نهى الله تعالى
عن التشبه بالذين أهملوا حقوق الله ، فقال :
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، أُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) أي واحذروا أن تكونوا كالذين تركوا أمر الله ، وأهملوا
حقوق الله الواجبة على العباد ، ولم يخافوا ربهم ، فجعلهم ناسين أنفسهم بسبب
نسيانهم لربهم ، فلم يعملوا الأعمال الصالحة التي تنفعهم في المعاد ، وتنجيهم من
العذاب ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وأولئك التاركون حقوق الله هم الخارجون
الكاملون في الخروج
عن طاعة الله ،
الهالكون يوم القيامة ، الخاسرون يوم معادهم.
وذلك كما قال
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المنافقون ٦٣ / ٩].
ثم قارن الله
تعالى بين المحسنين والمسيئين لبيان أنه لا استواء بين الفريقين ، فقال :
(لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي لا يستوي مستحقو النار ومستحقو الجنة في حكم الله تعالى
في الفضل والرتبة يوم القيامة ، أصحاب الجنة هم الظافرون بكل مطلوب ، الناجون من
كل مكروه.
ونظير الآية كثير
في القرآن ، مثل قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢١] وقوله سبحانه : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ، قَلِيلاً ما
تَتَذَكَّرُونَ) [غافر ٤٠ / ٥٨].
وقوله عزوجل : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨].
وهذا ترغيب في
العمل للجنة ، وترهيب من العمل للنار. ويلاحظ أن الآيات بدأت بالأمر بالتقوى ، ثم
نهت عن نسيان حقوق الله ، ثم وازنت بين الطائعين والعصاة ، وكل ذلك لتأكيد الأمر
بالتقوى وطاعة الله ، فبعد إرشاد المؤمنين إلى ما فيه مصلحتهم يوم القيامة : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
لِغَدٍ) وتهديد الكافرين بقوله : (كَالَّذِينَ نَسُوا
اللهَ ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أبان تعالى الفرق بين الفريقين.
فقه الحياة أو
الأحكام :
يستنبط من الآيات
ما يأتي :
١ ـ لزوم تقوى
الله في أوامره ونواهيه ، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
٢ ـ أعاد الله
تعالى الأمر بالتقوى مرة ثانية للتأكيد ، أو يحمل الأمر الأول على أداء الواجبات
والتوبة فيما مضى من الذنوب ، والثاني على ترك المعاصي في المستقبل.
وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يستشهد بهذه الآية في الحث في خطبه على عمل الخير والمعروف
، أخرج أحمد ومسلم عن المنذر بن جرير عن أبيه ، قال : كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم في صدر النهار ، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من
مضر ، فتغير وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا فأذن
وأقام الصلاة ، فصلى ثم خطب ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) إلى آخر الآية [النساء ٤ / ١] وقرأ الآية التي في الحشر : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
لِغَدٍ).
«تصدّق رجل من
ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع برّه ، من صاع تمره» ، حتى قال : «ولو بشق
تمرة». فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع
الناس ، حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتهلل وجهه كأنه مذهّبة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
__________________
«من سنّ في
الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم
شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن
ينقص من أوزارهم شيء».
٣ ـ نهى الله
تعالى عن التشبه بقوم تركوا أمر الله ـ والنهي يقتضي التحريم ـ حتى نسوا أنفسهم أن
يعملوا لها خيرا ، فكانوا هم الفاسقين ، أي الذين خرجوا عن طاعة الله تعالى.
روى أبو القاسم
الطبراني عن نعيم بن نمحة قال : كان في خطبة أبي بكر الصديق رضياللهعنه : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ، فمن استطاع
أن يقضي الأجل ، وهو في عمل الله عزوجل ، فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزوجل ، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم ، فنهاكم الله عزوجل أن تكونوا أمثالهم : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ ، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ).
أين من تعرفون من
إخوانكم؟ قدموا على ما قدّموا في أيام سلفهم ، وخلوا بالشّقوة والسعادة ، أين
الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن ، وحصّنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر
والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه ، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، واستضيئوا
بسنائه وبيانه.
إن الله تعالى
أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ، وَكانُوا لَنا
خاشِعِينَ) لا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير في مال لا
ينفق في سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله
لومة لائم .
٤ ـ هناك فرق واضح
في حكم الله تعالى في الفضل والرتبة بين المؤمنين أهل
__________________
الجنة ، وبين الكافرين
أهل النار ، فالأولون ناجون فائزون بالمطلوب ، والآخرون فاسقون هالكون معذبون.
٥ ـ احتج الشافعية
بآية : (لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ ...) على أن المسلم لا يقتل بالكافر الذمي ، وإلا استويا ، وأن
الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا.
مكانة القرآن وعظمة منزّله ذي الأسماء الحسنى
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ
اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ
الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ
الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))
الإعراب :
(لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً
مُتَصَدِّعاً) منصوبان على الحال من هاء (لَرَأَيْتَهُ) لأن (رأيت) من رؤية البصر.
(الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ
الْمُصَوِّرُ) من صوّر يصوّر ، لا من صار يصير فهو مصيّر ، وهو مرفوع على
أنه وصف بعد وصف ، أو خبر بعد خبر. وقرئ المصور وهو آدم عليهالسلام وأولاده ، والمعنى : الخالق الذي برأ المصوّر ، وقرئ (الْمُصَوِّرُ) بالجر على الإضافة ، كقولهم : الضارب الرجل ، بالجر حملا
على الصفة المشبهة باسم الفاعل ، كقولهم : الحسن الوجه.
البلاغة :
(لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً
مُتَصَدِّعاً) تمثيل وتخييل مثل آية : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ ..).
(الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.
المفردات اللغوية
:
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) أي وجعل فيه تمييز ووعي كالإنسان. (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً
خاشِعاً) منقادا خاضعا ، و (مُتَصَدِّعاً) متشققا. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وتلك الأمثال المذكورة يراد بها توبيخ الإنسان على عدم
تخشعه عند تلاوة القرآن ، لقساوة قلبه ، وقلة تدبّره.
(الْغَيْبِ) ما غاب عن الحس والمشاهدة من العوالم غير المرئية. (الشَّهادَةِ) عالم الماديات والمرئيات المشاهدة المحسوسة ، وقدم الغيب
على الشهادة ، لأن الغيب معدوم متقدم في الوجود ، والشهادة موجود متأخر. (الْقُدُّوسُ) الطاهر المنزه عما لا يليق به من النقص. (السَّلامُ) ذو السلامة من كل نقص وآفة. (الْمُؤْمِنُ) المصدّق رسله فيما بلّغوه عنه بالقول ، أو بخلق المعجزة
على أيديهم ، أو هو واهب الأمن لعباده. (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب على أعمال عباده ، الحافظ لكل شيء. (الْعَزِيزُ) القوي الغالب. (الْجَبَّارُ) الذي جبر خلقه على ما أراد. (الْمُتَكَبِّرُ) البليغ الكبرياء والعظمة ، الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة
أو نقصانا. (سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه الله عما يصفه به المشركون من الصاحبة والولد والشريك
، فلا يشاركه أحد من خلقه في شيء من ذلك.
(الْخالِقُ) المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته. (الْبارِئُ) المنشئ من العدم ، الموجد للأشياء بريئا من التفاوت. (الْمُصَوِّرُ) الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التسعة والتسعون الوارد بها الحديث ، والحسنى : مؤنث
الأحسن ، وقد وصفت بالحسنى ، لأنها دالة على محاسن المعاني التي تظهر في هذا
الوجود ، فإن جمال الكون البديع دليل على كمال صفات الموجد المبدع.
(يُسَبِّحُ لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ينزهه جميع المخلوقات ، لتنزهه عن النقائص كلها. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الجامع للكمالات كلها المتمثلة في كمال القدرة والعلم.
المناسبة :
بعد بيان أحوال
اليهود والمنافقين ، وأمر المؤمنين بالتقوى والاستعداد ليوم
القيامة ، عظّم
الله عزوجل أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان ، ونبّه إلى عظمة
منزّل القرآن ذي الأسماء الحسنى الذي انقادت السموات والأرض لحكمه وأمره ونهيه ،
وتنزه عن النقائص.
التفسير والبيان :
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لقد بلغ من شأن القرآن وعظمته وبلاغته واشتماله على
المواعظ التي تلين لها القلوب ، أنه لو أنزل على جبل من الجبال ، وجعل له عقل كما
جعل للبشر ، لرأيت الجبل ، مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة ، خاشعا خاضعا
متذللا منقادا ، متشققا من خوف الله ، حذرا من عقابه ، وخوفا من عدم أداء ما يجب
عليه من تعظيم كلام الله تعالى.
وهذا تعظيم لشأن
القرآن ، وتمثيل لعلو قدره وشدة تأثيره على النفوس ، لما فيه من المواعظ والزواجر
، ولما اشتمل عليه من الوعد الحق والوعيد الأكيد ، فإذا كان الجبل في غلظته
وقساوته ، لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع من خوف الله عزوجل ، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع
من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ، ولهذا قال تعالى :
(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وهذه الأمثال المذكورة نضربها لجميع الناس ، لعلهم
يتفكرون فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ ، وينزجروا بالزواجر ، وقد
قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ، أَوْ
كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الآية [الرعد ١٣ / ٣١] أي لكان هذا القرآن. وثبت في الحديث
المتواتر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما عمل له المنبر ، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب
جذع من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع ، وجاء النبي صلىاللهعليهوسلم ليخطب ، فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند
ذلك حنّ الجذع ،
وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكّت ، لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده.
والمراد بالآية
التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار ، وغلظ طباعهم ، وتوبيخ الإنسان على عدم
تخشعه عند تلاوة القرآن ، فإذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته ، لخشعت
وتصدعت من خشيته ، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟!!
ثم عظم الله تعالى
شأن القرآن بوجه آخر ، وهو التنبيه على أوصاف منزّله فقال :
(هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، هُوَ الرَّحْمنُ
الرَّحِيمُ) أي إن الله منزل القرآن ، هو الذي لا إله إلا هو ، فلا رب
غيره ، ولا إله للوجود سواه ، وكل ما يعبد من دونه فباطل ، وأنه عالم ما غاب عن
الإحساس وما حضر ، يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا ، فلا يخفى
عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، من جليل وحقير ، وصغير وكبير ، في الذرّ (النمل
الأسود) في الظلمات ، وأنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن
الدنيا والآخرة ورحيمهما ، قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف ٧ / ١٥٦]
وقال سبحانه : (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام ٦ / ٥٤].
ثم ذكر الله تعالى
أوصافا أخرى لنفسه ، فقال :
(هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
، الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أكد تعالى صفة الوحدانية مرة أخرى ، وكرر ذلك للتأكيد
والتقرير في مطلع هذه الآية كالتي قبلها ، فهو تعالى الإله الواحد الذي لا شريك له
، المالك لجميع الأشياء ، المتصرف فيها ، بلا ممانع
ولا مدافع ،
الظاهر من كل عيب ، المنزه عن كل نقص ، الذي سلم من كل نقص وعيب لكماله في ذاته
وصفاته وأفعاله ، وسلم الخلق من ظلمه ، والواهب الأمن والصدق لأنبيائه بالمعجزات ،
وأمن خلقه من أن يظلمهم ، فهو المصدق لرسله بإظهار المعجزات ، وللمؤمنين بما وعدهم
به من الثواب ، وهو الشاهد الرقيب على عباده بأعمالهم ، فهو بمعنى الرقيب عليهم ،
كقوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج ٨٥ / ٩].
وقوله : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ
عَلى ما يَفْعَلُونَ) [يونس ١٠ / ٤٦].
وقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد ١٣ / ٣٣].
وهو القاهر الغالب
غير المغلوب ، الذي قد عزّ كل شيء ، فقهره وغلب الأشياء ، ذو الجبروت أي العظمة ،
الذي تكبر عن كل نقص ، وتعظم عما لا يليق به ، والكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات
المخلوقين ذم ، قال صلىاللهعليهوسلم في الحديث القدسي الصحيح : «العظمة إزاري ، والكبرياء
ردائي ، فمن نازعني واحدا منهما عذّبته» .
(سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه الله عما يصفه به المشركون من إشراكهم بالله غيره
، كالصاحبة والولد والشريك.
ثم قال الله تعالى
:
(هُوَ اللهُ الْخالِقُ
الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو الله الخالق أي المقدّر للأشياء على مقتضى إرادته
ومشيئته ، البارئ ، أي المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها ،
__________________
فالخلق : التقدير
، والبرء : هو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود ، وليس كل من قدر شيئا
ورتّبه ، يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عزوجل ، وهو المصوّر ، أي الموجد للصور على هيئات مختلفة ، وصفات
أرادها ، كما قال : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار ٨٢ / ٨] وله الأسماء والصفات الحسنى التي لا
يماثله أحد فيها ، لعزته ، ومن عزته كان منزها عن النقائص ، أهلا للتسبيح ، ينطق
بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما في السموات والأرض ، ومن حكمته أنه أمر
المكلفين في السموات والأرض بأن يسبحوا له ليربحوا ، لا ليربح هو عليهم ، كما قال
تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].
وهو القوي الغالب
القاهر الذي لا يغالبه مغالب ، الشديد الانتقام من أعدائه ، الحكيم في تدبير خلقه
وشرعه وقدره ، وفي كل الأمور التي يقضي فيها ، فهو كامل القدرة ، كامل العلم.
وإنما قدم ذكر
الخالق على البارئ ، لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة ، وقدم البارئ على
المصور ، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات.
وتقدم بيان أسماء
الله الحسنى في الآية (١٨٠) من سورة الأعراف والآية (١١٠) من سورة الإسراء.
ويحسن ذكر الحديث
المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من
أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر» ورواه أيضا الترمذي وابن ماجه بالزيادة
التالية ، وأذكر هنا لفظ الترمذي :
«هو الله الذي لا
إله إلا هو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ،
العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفّار ،
القهّار ، الوهّاب
، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ،
المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ،
الغفور ، الشكور ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، المغيث ، الحسيب ، الجليل ، الكريم
، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحقّ
، الوكيل ، القويّ ، المتين ، الوليّ ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ،
المحيي ، المميت ، الحي ، القيّوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصّمد ، القادر ،
المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ،
المتعالي ، البرّ ، التوّاب ، المنتقم ، العفوّ ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال
والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغنيّ ، المعي ، المعطي ، المانع ، الضارّ ، النافع
، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور».
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
ما يأتي :
١ ـ حثّ الله
تعالى ، على تأمل مواعظ القرآن ، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبّر ، فإنه لو خوطب
بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها ، لانقادت لمواعظه ، ولرأيتها على صلابتها
ورزانتها خاشعة أي ذليلة ، متصدعة ، أي متشققة من خشية الله ، كما ذكر القرطبي.
٢ ـ إن هذا المثل
للناس للتفكر والتدبر ، فإنه لو نزل هذا القرآن على جبل كما تقدم ، لخشع لوعده
وتصدّع لوعيده.
٣ ـ الله تعالى
عالم السرّ والعلانية ، وما كان وما يكون ، ما لم يعلم العباد ولا عاينوه ، وما
علموا وشاهدوا ، وعالم بالآخرة والدنيا ، وهو الواسع الرحمة ، المنعم بجلائل النعم
ودقائقها.
٤ ـ الله تعالى
مالك الملك ، القدّوس (المنزّه عن كل نقص ، والطاهر من كل عيب) ، السلام (ذو
السلامة من النقائص) المؤمن (المصدّق لرسله بإظهار معجزاته على أيديهم ، ومصدّق
المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب) المهيمن (الرقيب
الحافظ لكل شيء) العزيز (الغالب القاهر) الجبار (العظيم) المتكبر (الذي تكبر
بربوبيته ، فلا شيء مثله) والكبرياء في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذمّ.
وهو المنزه
لجلالته وعظمته عما يشرك به المشركون ، والخالق (المقدّر) والبارئ (المنشئ المخترع)
والمصوّر (مركب الصور على هيئات مختلفة) وله الأسماء والصفات الحسنى ، وينزهه جميع
ما في السموات والأرض ، وهو العزيز الحكيم (كامل القدرة وكامل العلم).
عن أبي هريرة قال
: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن اسم الله الأعظم ، فقال : يا أبا هريرة ، عليك بآخر
سورة الحشر ، فأكثر قراءتها ، فأعدت عليه فأعاد علي ، فأعدت عليه فأعاد علي. وقال
جابر بن زيد : إن اسم الله الأعظم هو الله ، لمكان هذه الآية.
وعن أنس بن مالك :
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ سورة الحشر ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر».
وقال صلىاللهعليهوسلم : «ما أصاب عبدا همّ ولا حزن ، فدعا بهذا الدعاء (أي
بأسماء الله الحسنى) إلا أذهب الله همّه وحزنه ، وأبدله مكانه فرجا».
وأخرج الديلمي عن
ابن عباس مرفوعا : اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر. وفي رواية عبد
الرحمن النيسابوري عن البراء عن علي رضياللهعنهما أنه قال : يا براء ، إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم ،
فاقرأ من أول
سورة الحديد عشر
آيات ، وآخر الحشر ، ثم قل : يا من هو كذلك ، وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي
كذا وكذا ، فو الله لو دعوت علي لخسف بي.
وأخرج الديلمي عن
علي وابن مسعود مرفوعا أنه قال في قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا) إلى آخر السورة : هي رقية الصداع.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الممتحنة
مدنيّة ، وهي ثلاث
عشرة آية.
تسميتها
:
سميت سورة
الممتحنة (بكسر الحاء) أي المختبرة ، بإضافة الفعل إلى المرأة مجازا ، كما سميت
سورة (براءة) : المبعثرة والفاضحة ، لما كشفت عيوب المنافقين. ويقال : (الممتحنة)
بفتح الحاء وهو المشهور بإضافة الفعل حقيقة إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم
كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، قال الله تعالى : (فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) [١٠] الآية. وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، ولدت له
إبراهيم بن عبد الرحمن.
مناسبتها لما
قبلها :
تظهر مناسبة هذه
السورة لما قبلها وهي سورة الحشر من وجهين :
١ ـ ذكر في الحشر
موالاة المؤمنين بعضهم بعضا ، ثم موالاة الذين نافقوا للكفار من أهل الكتاب ،
وافتتحت هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكافر أولياء ، لئلا يشابهوا
المنافقين في ذلك ، وكرر النهي في السورة ، ثم ختمت به.
٢ ـ كانت سورة
الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب ، وهذه السورة للمعاهدين من المشركين ، لأنها
نزلت في صلح الحديبية ، فالسورتان تشتركان في بيان علاقات المسلمين مع غيرهم.
ما
اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة
كغالب السور المدنية في بيان الأحكام التشريعية ، وهي هنا أحكام المتعاهدين من
المشركين ، والذين لم يقاتلوا المسلمين ، والمؤمنات المهاجرات وامتحانهن.
ابتدأت السورة
بالنهي عن موالاة المشركين وأسباب ذلك وهي إيذاء المؤمنين وعداوتهم لله ولمن آمنوا
، وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك الديار والأوطان.
ثم ذكرت أن
القرابة أو الصداقة غير نافعة يوم القيامة ، وإنما النافع للإنسان هو الإيمان
والعمل الصالح : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ..).
وأعقبت ذلك بضرب
الأمثال بقصة إبراهيم ومن معه من المؤمنين ، وتبرؤهم من قومهم المشركين ، ليتخذ
المؤمن أبا الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن قدوة وأسوة طيبة : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ..) الآيات.
ثم وضعت أصول
العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب في حالتي السلم والحرب ، والمودة
والعداوة : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ ..
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ) الآيات.
وانتقل البيان عقب
ما ذكر إلى حكم العلاقات مع المشركين فيما يتعلق بالنساء المؤمنات ، وضرورة
امتحانهن عند الهجرة لدار الإسلام ، وعدم ردهن إلى الكفار في دار الكفر وإيتاء
أزواجهن مهورهن : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ..) الآيات.
واستتبع ذلك بيان
حكم مبايعة الرسول صلىاللهعليهوسلم لهن ، وشروط البيعة وبنودها ، وأصولها في الإسلام وداره.
وختمت السورة
بتأكيد النهي عن موالاة أعداء المؤمنين من المشركين
والكفار ، حرصا
على وحدة الأمة والملة : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً ...).
النهي عن موالاة الكفار
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ
وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (٣))
الإعراب :
(تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ تُلْقُونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو. (لا تَتَّخِذُوا) أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ملقين. وكذلك : (وَقَدْ كَفَرُوا ..) حال من واو (لا تَتَّخِذُوا).
(يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا ... جِهاداً فِي سَبِيلِي يُخْرِجُونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو (كَفَرُوا). و (أَنْ تُؤْمِنُوا) : في موضع نصب على المفعول لأجله. وإن في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) حرف شرط ، وجوابه فيما تقدم ، لدلالة الكلام عليه ، وهو (لا تَتَّخِذُوا) أي فلا تتخذوهم أولياء ، فهذا متعلق بقوله : (لا تَتَّخِذُوا) يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. و (جِهاداً) و (ابْتِغاءَ) منصوبان على المفعول لأجله ، أو على المصدر في موضع الحال
، وتقديره : مجاهدين في سبيلي ، ومبتغين لمرضاتي. و (تُسِرُّونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، تقديره : مسرّين إليهم
بالمودة ، أو بدل من قوله : (تُلْقُونَ) ، وباء (بِالْمَوَدَّةِ) زائدة أو ثابتة غير زائدة.
(يَوْمَ الْقِيامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ) ظرف ، وعامله : إما (تَنْفَعَكُمْ) أو (يَفْصِلُ). ويفصل بينكم المبني للمعلوم تقديره : يفصل الله بينكم ،
وقرئ مبنيا للمجهول. (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيكون (بَيْنَكُمْ) قائما مقام الفاعل ، إلا أنه بني على الفتح ، كقوله تعالى
: (لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ) [الأنعام ٦ / ٩٤]
أي وصلكم.
البلاغة :
(تُسِرُّونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ ..) عتاب وتوبيخ.
(أَخْفَيْتُمْ) و (أَعْلَنْتُمْ) بينهما طباق ، فالإخفاء يقابل الإعلان.
المفردات اللغوية
:
(عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ) عدو الله : من كفر به أو أشرك ، ولم يؤمن بما أنزل في كتبه
وعدو المؤمنين : من خانهم أو أضر بمصالحهم ، أو قاتلهم أو عاون على مقاتلتهم ، مثل
كفار مكة في الماضي والماديين الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله أو يؤمنون
بألوهية أحد من البشر بتأويلات باطلة في عصرنا. (أَوْلِياءَ) أصدقاء جمع ولي ، أي صديق توليه بالسر. (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) تفضون إليهم المودة ، والمراد هنا النصيحة بالمكاتبة
وإرسال أخبار الرسول صلىاللهعليهوسلم إليهم. (وَقَدْ كَفَرُوا بِما
جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي دين الإسلام والقرآن. (يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة بالتضييق عليكم. (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ
رَبِّكُمْ) أي لأجل أن آمنتم ، وفيه تغليب المخاطب في عهد التنزيل ،
والتفات من الخطاب إلى الغيبة ، للدلالة على ما يوجب الإيمان ، وهو تعليل لقوله : (يُخْرِجُونَ) أي يخرجونكم لإيمانكم بالله تعالى.
(إِنْ كُنْتُمْ
خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي خرجتم من أوطانكم للجهاد في سبيل الله وطلب مرضاته أي
رضائه. (وَأَنَا أَعْلَمُ
بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي أنا أعلم منكم ، والباء في قوله : (بِما أَخْفَيْتُمْ) مزيدة ، وما : موصولة أو مصدرية. (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) يفعل الاتخاذ. (ضَلَ) أخطأ طريق الهدى. (سَواءَ السَّبِيلِ) السواء في الأصل : الوسط ، والمراد هنا الطريق المستوي وهو
طريق الحق.
(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يظفروا بكم. (وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالقتل والضرب. (وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ) أي بما يسوؤكم بالسب والشتم. (وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ) تمنوا كفركم. (لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحامُكُمْ) لن تفيدكم قراباتكم. (وَلا أَوْلادُكُمْ) الذين توالون المشركين لأجلهم. (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) يفرق بينكم من شدة الهول ، فيفرّ بعضكم من بعض. ويفصل
بالبناء للفاعل بالتخفيف أو التشديد أي الله عزوجل ، وقرئ يفصل بالبناء للمجهول مع التشديد ، أو التخفيف ،
ونفصل ونفصّل.
سبب النزول :
نزول الآية (١):
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ..) : أخرج الشيخان وبقية الأئمة عن علي رضياللهعنه قال : بعثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود ، فقال : انطلقوا حتى
تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة ، معها كتاب ، فخذوه منها ، فأتوني به ، فخرجوا حتى أتينا
الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي من كتاب ،
فقلنا : لتخرجن الكتاب ، أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة
، يخبرهم ببعض أمر النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : ما هذا يا حاطب؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله
، إني كنت امرءا ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين
لهم قرابات ، يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من نسب فيهم
أن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا
بالكفر ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : صدق.
وفيه أنزلت هذه
السورة : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ، تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الآية.
وتفصيل القصة
والكتاب : «أن مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها : سارّة ، أتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة ، وهو متجهز لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة ، فعرضت
حاجتها ، فحث بني المطلب على الإحسان إليها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة ، وأعطاها
عشرة دنانير ، وكساها بردا ، واستحملها كتابا
__________________
إلى أهل مكة ، هذه
نسخته : «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة : اعلموا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريدكم ، فخذوا حذركم» فخرجت سارّة ، ونزل جبريل عليهالسلام بالخبر ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا رضياللهعنه وعمارا وعمرا وفرسانا أخر ، وقال :
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها
ظعينة ، معها كتاب ، فخذوه منها ، فإن أبت ، فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدته
وحلفت ، فهموا بالرجوع ، فقال علي رضياللهعنه
: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلىاللهعليهوسلم
، وسلّ سيفه ، وقال :
أخرجي الكتاب أو
تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لحاطب : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ، ما كفرت منذ
أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن كنت غريبا في قريش
، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة ، يحمون أهاليهم وأموالهم ، فخشيت على
أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه ، وأن كتابي
لا يغني عنهم شيئا ، فصدّقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق
هذا المنافق ، فقال : وما يدريك يا عمر ، لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر ، فقال
لهم : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم ،
وأنزلت السورة».
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ، لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ،
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم لا تتخذوا عدوي وعدوكم أنصارا وأصدقاء وأعوانا لكم ، توصلون إليهم أخبار النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، بسبب
__________________
المودة التي بينكم
وبينهم ، والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه.
ونظير الآية كثير
، مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة ٥ / ٥١].
وقوله سبحانه : (لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران ٣ / ٢٨].
والآية الأولى تتضمن تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا.
وسبب النهي هنا
أمران :
(وَقَدْ كَفَرُوا بِما
جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا
بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي إنهم كفروا بالله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم وما جاءكم من القرآن والهداية الإلهية ، وأخرجوا الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين من مكة من أجل إيمانهم بالله ، وإخلاص عبادتهم
لله تعالى ، كما جاء في آية أخرى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا اللهُ) [الحج ٢٢ / ٤٠]. (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج ٨٥ / ٩].
ثم حرّض الله
تعالى على الامتناع من الموالاة ، فقال :
أ ـ (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي
سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي لا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي ،
مبتغين رضواني عنكم ، ولا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم
حنقا عليكم ، وسخطا لدينكم.
ب ـ (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ،
وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي تسرون إليهم الأخبار وخطط النبي والمؤمنين بسبب المودة
، وتفعلون ذلك ، وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر ، والأعلم من كل أحد بما
تخفون وما تعلنون.
ج ـ (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي ومن يوال الأعداء
منكم ، فقد أخطأ
طريق الحق والصواب ، وحاد عن قصد السبيل التي توصل إلى الجنة والرضوان الإلهي.
ثم ذكر ثلاثة أمور
أخرى تمنع الموالاة وتدل على عداوة المشركين في مكة وغيرها ، فقال :
(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي إن يلقوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة ،
ويكونوا حربا عليكم ، ويمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل ، وألسنتهم بالسب والشتم
، ويتمنوا ارتدادكم وكفركم بربكم ورجوعكم إلى الكفر ، فهم يحرصون على ألا تنالوا
خيرا ، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة ، فكيف توالون مثل هؤلاء؟!!
وهذا كما سبق
تهييج على عداوتهم أيضا.
ثم ذكر الله تعالى
أن رابطة الدين والإيمان أوثق وأولى وأنفع من رابطة القرابة والولاء ، فقال :
(لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ،
وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي لن تفيدكم يوم القيامة أقاربكم وأولادكم ، حتى توالوا
الكفار لأجلهم ، كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة سبب النزول ، بل الذي ينفعكم هو
ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم وتوثيق عرى الإيمان وأخوة الدين.
ففي الآخرة يفرّق الله بينكم ، فيدخل أهل طاعته الجنة ، وأهل معصيته النار ، والله
مطلع على أعمالكم ، ومجازيكم عليها خيرا أو شرا.
والمقصود أن
القرابة لا تنفع عند الله تعالى ، إن أراد الله بكم سوءا ، ولن يصل نفعهم إليكم
إذا أرضيتموهم بما يسخط الله ، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم ، فقد خاب وخسر
وضلّ عمله ، ولا تنفعه عند الله قرابة من أحد ، ولو
كان قريبا إلى من
الأنبياء ، قال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ ، فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ، وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون ٢٣ /
١٠١] وقال سبحانه : (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٤ ـ ٣٧]
فالمودة لا تنفع في القيامة إذا لم تكن في الله لانفصال كل اتصال يومئذ ، ويجوز أن
يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم.
روى الإمام أحمد
ومسلم وأبو داود عن أنس : «أن رجلا قال : يا رسول الله؟ أين أبي؟ قال : في النار ،
فلما قفا ، دعاه ، فقال : إن أبي وأباك في النار».
فقه الحياة أو
الأحكام :
يستنبط من الآيات
ما يأتي :
١ ـ تحريم موالاة
الكفار ومناصرتهم ومعاونتهم بأي وجه من الوجوه ، والسورة أصل في النهي عن موالاة
الكفار ، ولو في الظاهر ، مع عدم الرضا في القلب بالاعتقاد الذي هم عليه.
٢ ـ من كثر تطلعه
على عورات المسلمين والتجسس عليهم ونقل أخبارهم للأعداء ، لم يكن بذلك كافرا إذا
كان فعله لغرض دنيوي ، وكان اعتقاده سليما ، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد
، ولم ينو الرّدّة عن الدّين.
٣ ـ اختلف العلماء
في قتل الجاسوس ، فقال مالك والأوزاعي في شأن المعاهد والذمي : يجوز قتله ، لأنه
يصير ناقضا للعهد. وقال الجمهور : لا ينتقض عهد المعاهد بذلك ، أما الذمي فرأى
الحنابلة : أنه ينتقض عهده بدلالة أهل الحرب المشركين على أسرارنا. وذهب الشافعية
: إلى أنه لا ينتقض عهد الذمي بالتجسس إلا إذا شرط عليه انتقاض عهده بذلك.
وأما الجاسوس
المسلم : فقال كبار المالكية : إنه يقتل. وقال الجمهور : لا يقتل ، بل يعزّره
الإمام بما يراه من ضرب وحبس ونحوهما.
ودليل الفريقين
قصة حاطب ، فإن الفريق الأول قالوا : أقر النبي صلىاللهعليهوسلم عمر رضياللهعنه على إرادة القتل لولا وجود المانع : وهو شهود بدر. وقال
الفريق الثاني : إن الرسول صلىاللهعليهوسلم لم يقتل حاطبا ، لأنه مسلم ، وروي عن علي رضياللهعنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم أتي بعين (جاسوس) للمشركين اسمه فرات بن حيّان ، فأمر به
أن يقتل ، فصاح : يا معشر الأنصار ، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
الله! فأمر به النبي صلىاللهعليهوسلم ، فخلّى سبيله ، ثم قال : «إن منكم من أكله إلى إيمانه ،
منهم فرات بن حيّان».
٤ ـ ذكرت الآيات
خمسة أسباب لتحريم موالاة الكفار ، وهي الكفر بالله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم ، وإخراج الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين من ديارهم وأموالهم في مكة ، وعداوتهم ومجاربتهم
للمؤمنين ، وقتالهم إياهم وضربهم فعلا ، وسبهم وشتمهم ، وحرصهم على كفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم.
٥ ـ حذر الله
تعالى من مخالفة نهيه عن موالاة الأعداء بأمرين : أولهما ـ أنه سبحانه الأعلم بما
تخفي الصدور ، وما تظهر الألسن من الإقرار بالله وتوحيده. وثانيهما ـ أن من يوالي
الكفار ويسرّ إليهم ويكاتبهم من المسلمين ، فقد ضل سواء السبيل ، أي أخطأ قصد
الطريق.
٦ ـ قوله سبحانه :
(تُسِرُّونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي بالنصيحة في الكتاب إليهم ، هو معاتبة لحاطب ، وهو يدل
على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وصدق إيمانه ، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبّ لحبيبه.
٧ ـ الذي يفيد
الإنسان يوم القيامة هو الإيمان الصحيح والعمل الصالح ، أما الأهل والأولاد أو
أصحاب القرابات أو الأنساب ، فلا ينفعون شيئا يوم
القيامة ، إن عصي
الله عزوجل من أجل ذلك ، والله بصير بأعمال عباده ، ويجازيهم عليها إن
خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
والله سبحانه يفرق
أو يفصل بين الأقارب وغيرهم يوم القيامة ، فيدخل المؤمنين الجنة ، ويدخل الكافرين
النار.
التأسي بإبراهيم عليهالسلام والذين آمنوا معه
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
(٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))
الإعراب :
(إِذْ قالُوا
لِقَوْمِهِمْ) بدل بعض من كل في قوله : (تُلْقُونَ).
(بُرَآؤُا) جمع بريء ، نحو شريف وشرفاء ، وظريف وظرفاء ، وحذفت الهمزة
الأولى تخفيفا. وقرئ برآء بكسر الباء ، جمع بريء أيضا كشراف وظراف ، وقرئ أيضا
بفتح الباء على أنه مصدر دال على الجمع ، ولفظه يصلح للواحد والجمع.
(إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ) منصوب على الاستثناء من قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْراهِيمَ) أي كائنة في سنته وأقواله ، إلا قوله لأبيه : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ). (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
اللهَ) بدل اشتمال من الكاف والميم في (لَكُمْ) بإعادة الجار.
البلاغة :
(رَبَّنا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) تقديم ما حقه التأخير ، وهو الجار والمجرور على ما بعده
لإفادة الحصر.
(الْحَكِيمُ
الْحَمِيدُ قَدِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ) صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية
:
(أُسْوَةٌ) قدوة (فِي إِبْراهِيمَ) أي بإبراهيم قولا وفعلا. (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين. (بُرَآؤُا) أبرياء جمع بريء ، كظريف وظرفاء ، أي متبرئون مما تعملون ،
فلا نعتد بكم ولا بشأن آلهتكم. (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ) من الأصنام والكواكب وغيرها. (وَبَدا) ظهر. (الْعَداوَةُ) ضد الألفة والصداقة. (وَالْبَغْضاءُ) البغض والكراهة ضد المحبة. (إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) مستثنى من قوله : (أُسْوَةٌ) فليس لكم التأسي به في ذلك ، بأن تستغفروا للكفار. (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ) أي لا أملك من عذابه وثوابه شيئا ، وقوله : (مِنْ شَيْءٍ) كنى به عن أنه لا يملك له غير الاستغفار ، وكان استغفاره
له قبل أن يتبين له أنه عدو الله ، كما ذكر في سورة براءة. (تَوَكَّلْنا) فوضنا أمرنا إليك. (أَنَبْنا) رجعنا وتبنا. (الْمَصِيرُ) المرجع والمآب.
(فِتْنَةً) مفتونين معذبين بأن تسلطهم علينا ، فيفتنونا بعذاب لا
نتحمله. (وَاغْفِرْ لَنا) ما فرطنا من ذنب. (الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) القوي الغالب في ملكه ، الذي يحسن التدبير في صنعه. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) أيها المؤمنون أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو جواب قسم مقدر. (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قدوة طيبة. وكرر لمزيد الحث على التأسي بإبراهيم. (لِمَنْ كانَ) بدل من قوله. (لَكُمْ) قال البيضاوي : فإنه يدل على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك
التأسي بهم ، وإن تركه مؤذن بسوء العقيدة ، ولذلك عقبه بقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي ومن يعرض عن التأسي بإبراهيم ومن آمن معه ويعص النصيحة
، بأن يوالي الكفار ، فإن الله هو الغني عن خلقه ، المحمود على فعله ، الحامد لأهل
طاعته ، وهذا وعيد يوعد به الكفرة. (يَرْجُوا اللهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي يؤمل ثواب الله ، ويخاف العقاب ، ويخشى أهوال الآخرة.
(عادَيْتُمْ) من الأقارب المشركين وغيرهم من كفار مكة وغيرها ، وتبرأتم
منهم طاعة الله تعالى. (مَوَدَّةً) محبة وصلة ، بأن يهديهم للإيمان ، فيصيروا لكم أولياء
وأصدقاء وأنصارا ، وهذا
وعد من الله ،
أنجزه بالفعل ، لأنه أسلم أكثرهم وصاروا والمؤمنين عونا وسندا وأولياء. (وَاللهُ قَدِيرٌ) قادر على ذلك ، وقد فعله بعد فتح مكة. (وَاللهُ غَفُورٌ) لما فرط منكم في موالاتهم من نقل أخبار وغيره. (رَحِيمٌ) بكم إذ لم يعاجلكم
بالعقوبة.
سبب النزول :
نزول الآية (٧):
(عَسَى اللهُ) : قال المفسرون : يقول الله تعالى للمؤمنين : لقد كان لكم
في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء اقتداء بهم في معاداة ذوي قراباتهم من
المشركين ، فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله ،
وأظهروا لهم العداوة والبراءة ، وعلم الله تعالى شدة وجد المؤمنين بذلك ، فأنزل
الله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) ثم فعل ذلك بأن أسلم كثير منهم ، وصاروا لهم أولياء وإخوانا
، وخالطوهم وناكحوهم ، وتزوج رسول الله صلىاللهعليهوسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب. فلان لهم أبو سفيان وبلغه
ذلك ، فقال : ذاك الفحل لا يقدع أنفه ، أي لا يضرب أنفه ، وذلك إذا كان كريما.
المناسبة :
بعد النهي عن
موالاة الكفار والإنكار على من والاهم وتوثيق عرى الإخاء ورابطة الإيمان ، أمر
الله تعالى بالتأسي بإبراهيم ومن آمن معه في التبرؤ من الكفار ، وذكر أن وجوب
البغض في الله ، وإن كان أخا أو أبا أسوة بإبراهيم عليهالسلام وأصحابه ، حيث جاهروا قومهم بالعداوة ، وصرحوا بأن سبب
العداوة ليس إلا الكفر بالله ، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة ، والمناوأة
مصافاة ،
__________________
والمقت محبة. ثم
استثنى تعالى من التأسي بأقوال إبراهيم هذا القول الذي هو الاستغفار لأبيه عن
موعدة منه قبل أن يعلم أنه عدو الله.
التفسير والبيان :
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا
بِكُمْ) يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين أمرهم بمجانبة الكافرين
والتبري منهم ، بأنه قد كانت لكم قدوة طيبة حميدة تقتدون بها في إبراهيم خليل
الرحمن أبي الأنبياء والذين آمنوا معه من أتباعه حين قالوا لقومهم : إنا بريئون
منكم ، لكفركم بالله ، وبريئون من كل ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد ،
فقد جحدنا بما آمنتم به من الأوثان ، أو بدينكم ، أو بأفعالكم ، فإن تلك الأوثان
لا تنفع شيئا ، فهي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر.
والمقصود إفهام من
والى الكافرين وهو حاطب ، وكأنه تعالى يقول : أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم ،
فتتبرأ من أهلك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه؟!
(وَبَدا بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَحْدَهُ) أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم ، فقد ظهرت وشرعت
العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ، ما دمتم على كفركم ، فنحن أبدا نتبرأ
منكم ونبغضكم ، حتى تظهروا الإيمان بالله وحده ، وتوحدوا الله ، فتعبدوه وحده لا
شريك له ، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك ، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان
والأنداد ، فإذا فعلتم ذلك ، صارت تلك العداوة موالاة ، والبغضاء محبة.
ثم استثنى الله
تعالى شيئا لا يتأسى به بإبراهيم ، فقال :
(إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ
مِنْ شَيْءٍ) أي وقد كانت لكم أسوة حسنة في كل مقالات إبراهيم إلا قوله
لأبيه
الكافر : لأستغفرن
لك ، وما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به ، فلا تأسوا به في هذا القول ،
فتستغفروا للمشركين ، فإن استغفاره إنما كان عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبيّن له
أنه عدو لله ، تبرأ منه. والخلاصة : ليس لكم أسوة في الاستغفار للمشركين.
وقد كان بعض
المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ، ويستغفرون لهم ، ويقولون : إن
إبراهيم كان يستغفر لأبيه ، فأنزل الله عزوجل : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ، وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ،
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ ، تَبَرَّأَ مِنْهُ ، إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة ٩ / ١١٣ ـ
١١٤].
ثم أخبر الله
تعالى عن اعتصام إبراهيم والمؤمنين معه بالله حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم فقال
:
(رَبَّنا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي اعتمدنا عليك يا رب في جميع الأمور ، وفوضنا أمورنا
إليك ، ورجعنا إليك بالتوبة من كل ذنب ، وإليك المرجع والمآب والمعاد في الدار
الآخرة.
وهذا من دعاء
إبراهيم وأصحابه ، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها ، ومن تتمة دعاء قوله :
(رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا ، إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي يا ربنا لا تجعلنا مفتونين معذبين بأيدي الكفرة ، واستر
لنا ذنوبنا عن غيرك ، واعف عنها فيما بيننا وبينك ، فإنك أنت القوي الغالب القاهر
، الذي لا يغالب ، ولا يضام من لاذ بجنابك ، وذو الحكمة البالغة في أقوالك وأفعالك
، وشرعك وقدرك ، وتدبير خلقك ، وفعل ما فيه صلاحهم. قال
قتادة : لا تظهرهم
علينا ، فيفتنونا بذلك ، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. وقال مجاهد :
معناه : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كان هؤلاء على حق
ما أصابهم هذا.
ثم أكد الله تعالى
الحث على التأسي بإبراهيم والمؤمنين معه ، فقال :
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ،
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة ، وهذه
الأسوة إنما تكون لمن يطمع في الخير والثواب من الله في الدنيا والآخرة ، ويتأمل
النجاة في اليوم الآخر ، وهذا تهييج إلى الإيمان لكل مؤمن بالله وبالمعاد. ومن
يعرض عما أمر الله تعالى به ، ويوال أعداء الله ، ويوادهم ، فإنه لا يضر إلا نفسه
، فإن الله هو الغني عن خلقه ، الذي قد كمل في غناه ، المحمود من خلقه في جميع
أقواله وأفعاله ، لا إله غيره ، ولا رب سواه. والحميد : إما بمعنى الحامد أي يحمد
الخلق ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال ، أو بمعنى
المحمود ، أي الذي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم.
ونظير الآية قوله
تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٨].
ثم أخبر الله عن
أموره العجيبة في تحول الكافرين إلى مؤمنين ، فقال :
(عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ، وَاللهُ
قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ربما أسلم أعداؤكم ، وصاروا من أهل دينكم ، فتحولت
العداوة إلى مودة ، والبغضاء إلى محبة ، والفرقة والمخالفة إلى ألفة ، والله قادر
على كل شيء ، وغفور لمن أخطأ ، فوادّهم ، رحيم بهم فلم يعذبهم بعد التوبة ،
ويقبلهم ليدخلهم في مغفرته ورحمته. وكلمة (عَسَى) لرجاء حصول ما بعدها ، لكن إذا صدرت من الله ، كان ما
بعدها واجب الوقوع.
وقد أسلم أكثر
العرب بعد فتح مكة ، وحسن إسلامهم ، وانعقدت مودة قوية بينهم وبين من تقدمهم في
الإسلام ، وجاهدوا وقاموا بالأفعال المقرّبة إلى الله تعالى ، وتزوّج النبي صلىاللهعليهوسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وترك أبو سفيان بعد إسلامه يوم
الفتح ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم. أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : أوّل من قاتل أهل
الردة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب ، فيه نزلت هذه الآية : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ
...).
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ جعل الله إبراهيم
الخليل عليهالسلام أسوة حسنة وقدوة عالية للمؤمنين في التبرؤ من الكفار ،
فعلى من آمن بالله ورسوله الاقتداء به إلا في استغفاره لأبيه ، فلا يتأسون به في
الاستغفار للمشركين ، فإن استغفاره كان عن موعدة منه له.
٢ ـ صرح إبراهيم
ومن آمن معه بسبب البراءة من الكفار وهو كفرهم بالله وإيمانهم بالأوثان ، وستظل
العداوة والبغضاء قائمة في القلوب على الدوام بين المؤمنين وغيرهم ما دام هؤلاء
الكفار على كفرهم ، حتى يعلنوا إيمانهم بالله وحده لا شريك له ، فحينئذ تنقلب
المعاداة موالاة.
٣ ـ قوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ :
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) يدل على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر
الأنبياء ، لأن الله حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ،
وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر ٥٩ / ٧] وحين
أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليهالسلام ، استثنى بعض أفعاله.
٤ ـ علّم الله
المؤمنين أيضا أن يقولوا ما كان يدعو به إبراهيم عليهالسلام ومن معه : (رَبَّنا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا ، إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي تبرؤوا من الكفار وتوكلوا على الله ، وقولوا : اعتمدنا
عليك يا رب ، ورجعنا إليك تائبين ، ولك الرجوع في الآخرة ، ولا تظهر أو لا تسلط
عدونا علينا ، فيظنوا أنهم على حق ، فيفتتنوا بذلك ، واغفر لنا ما فرط من الذنوب ،
فإنك القوي الغالب الذي لا يغالب ، الحكيم في تدبير خلقه وتحقيق مصالحهم.
٥ ـ أكد الله
تعالى الحث على التأسي بإبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء ، مرة أخرى في
الآيات ، في التبرؤ من الكفار. ثم حذر من المخالفة ، وهدد المعرضين المستكبرين عن
حكم الله ، فذكر أن من يتول عن الإسلام وقبول هذه المواعظ ، فإنه لن يضر إلا نفسه
، والله غني عن خلقه ، لم يتعبدهم لحاجته إليهم ، محمود في نفسه وصفاته ومن خلقه.
٦ ـ كان نزول هذه
الآيات سببا في معاداة المسلمين أقرباءهم من المشركين ، ولما علم الله شدة وجد
المسلمين وحرجهم في ذلك ، نزل قوله تعالى كما بينا : (عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) أي بأن يسلم الكافر ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة ،
وخالطهم المسلمون ، كأبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم
بن حزام. وتزوج النبي صلىاللهعليهوسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان التي كانت متزوجة بعبد الله بن جحش
، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة ، إلا أن زوجها تنصر ، ومات على النصرانية ،
وبقيت هي على دينها ، فبعث النبي صلىاللهعليهوسلم إلى النجاشي ، فخطبها ، وأمهرها النجاشي من عنده أربع مائة
دينار. وفي الحديث : «أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض
بغيضك هونا ما ، عسى أن يكون
حبيبك يوما ما» .
فقوله تعالى : (عَسَى اللهُ ..) وعد من الله تعالى ، والله سبحانه قادر على تقليب القلوب ،
وتغيير الأحوال ، وتسهيل أسباب المودة ، والله غفور لعباده رحيم بهم إذا تابوا
وأسلموا ورجعوا إلى دينه وشرعه ومواعظه ، وهو سبحانه الذي ألّف بين القلوب بعد
العداوة والقساوة ، فأصبحت مجتمعة متفرقة ، كما قال تعالى ممتنا على الأنصار : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ،
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران ٣ / ١٠٣]
وكذا قال لهم النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألم أجدكم ضلّالا ، فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين
فألّفكم الله بي»؟ وقال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، لَوْ
أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَلكِنَّ
اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال ٨ / ٦٣].
علاقة المسلمين بغيرهم
(لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))
__________________
الإعراب :
(أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) : في موضع جر على البدل من (الَّذِينَ لَمْ
يُقاتِلُوكُمْ) بدل الاشتمال.
وكذلك قوله تعالى
: (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل الاشتمال أيضا. وقيل : هما منصوبان على المفعول لأجله.
(وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ) عدّاه ب (إلى) حملا على معنى «تحسنوا» فكأنه قال : تحسنوا
إليهم.
البلاغة :
(لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) و (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ ...) بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية
:
(لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ ..) من الكفار ، أي لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء : لأن قوله : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل من (الَّذِينَ) ، أي أن تفعلوا البر والخير لهم. (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) تقضوا إليهم بالقسط ، أي تحكموا بينهم بالعدل. (الْمُقْسِطِينَ) العادلين.
(وَظاهَرُوا) ساعدوا أو عاونوا ، كمشركي مكة ، فإن بعضهم سعوا في إخراج
المؤمنين من مكة ، وبعضهم أعانوا المخرجين. (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أن تتخذوهم أولياء أي أنصارا وأعوانا لكم. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) أي ومن يتخذهم أولياء ، فأولئك هم الظالمون أنفسهم ،
لوضعهم الولاية في غير موضعها.
سبب النزول :
نزول الآية (٨):
(لا يَنْهاكُمُ اللهُ
..) : أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضياللهعنهما قالت : «قدمت أمي ، وهي مشركة في عهد قريش ، إذ عاهدوا ،
فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقلت : يا رسول الله ، إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها؟
قال : نعم ، صلي أمّك» فأنزل الله فيها : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ).
وأخرج أحمد
والبزّار والحاكم وصححه وآخرون عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد
العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ـ صناب وأقط وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو
تدخلها بيتها ، حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخبرته ، فأمرها أن تقبل هداياها وتدخلها منزلها ،
فأنزل الله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الآية.
المناسبة :
بعد النهي عن
موالاة الكافرين ، والحث على القطيعة بالتأسي بإبراهيم ومن معه ، ثم تهوين الأمر
على المؤمنين بإخبارهم أن الله قادر على تغيير أوضاع المشركين من الكفر إلى
الإيمان ، رخّص الله تعالى في صلة الذين لم يقاتلوا المؤمنين من الكفار ، ولم
يخرجوهم من ديارهم ، ولم يعاونوا على إخراجهم.
التفسير والبيان :
(لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) أي لا يمنعكم الله من البرّ والإحسان وفعل الخير إلى
الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء والضعفة منهم ، كصلة الرحم ،
ونفع الجار ، والضيافة ، ولم يخرجوكم من دياركم ، ولا يمنعكم أيضا من أن تعدلوا
فيما بينكم وبينهم ، بأداء مالهم من الحق ، كالوفاء لهم بالوعد ، وأداء الأمانة ،
وإيفاء أثمان المشتريات كاملة غير منقوصة ، إن الله يحب العادلين ، ويرضى عنهم ،
ويمقت الظالمين ويعاقبهم.
والمقصود بالآية
أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك
القتال ، وعلى ألا يعينوا عليهم ، ولا ينهى عن
__________________
معاملتهم بالعدل ،
مثل خزاعة ، وغيرهم الذين عاهدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ترك القتال.
ثم حدد الله تعالى
موضع النهي في المعاملات ، فقال :
(إِنَّما يَنْهاكُمُ
اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي إنما ينهاكم الله عن موالاة هؤلاء الذين عادوكم ، وهم
صناديد الكفر من قريش وأشباههم ممن هم حرب على المسلمين ، وعاونوا الذين قاتلوكم
وأخرجوكم على ذلك ، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم ، ينهاكم الله عن
اتخاذهم أولياء وأنصارا لكم ، ويأمركم بمعاداتهم.
ثم أكد الوعيد على
موالاتهم ، فأبان أن من يتولهم ويناصرهم ، فأولئك الذين ظلموا أنفسهم ، لأنهم
تولوا من يستحق العداوة ، لكونه عدوا لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ولكتابه.
ونظير الآية قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ، بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، إِنَّ
اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة ٥ / ٥١].
فقه الحياة أو
الأحكام :
أبانت الآيتان أن
للكفار من المسلمين موقفين : إما المسالمة وإما المعاداة. وحددتا علاقة المسلمين
بغيرهم في تلك الحالتين.
١ ـ فيجوز برّهم
وفعل الخير لهم ، والحكم بينهم وبين غيرهم بالعدل إذا لم يقاتلوا في الدين أو
الدنيا ، ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم ، ولم يعينوا على إخراجهم ، فإن الله يحب
العادلين ويأمر بالعدل مع جميع الناس ، والعدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل.
وهؤلاء هم أهل
العهد الذين عاهدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ترك القتال ، والمظاهرة (المعاونة) في العداوة ، وهم
خزاعة ، كانوا عاهدوا الرسول صلىاللهعليهوسلم على ألا يقاتلوه ولا يخرجوه ، فأمر الرسول صلىاللهعليهوسلم بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم.
قال قتادة : كان
هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ ، نسختها آية : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥].
وقال أكثر أهل
التأويل : هي محكمة غير منسوخة ، بدليل إباحة صلة أسماء أمّها ، كما تقدم .
واستدل بهذه الآية
بعض العلماء على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر ، وأجيب بأن الإذن في
الشيء أو ترك النهي عنه ، لا يدل على وجوبه ، وإنما يدل على الإباحة فقط.
٢ ـ ولا يجوز
اتخاذ الأولياء والأنصار والأحباب من الذين قاتلوا المسلمين على الدين ، وأخرجوهم
من ديارهم ، وعاونوا على إخراجهم ، وهم مشركو أهل مكة ، ومن يفعل ذلك بأن يواليهم
، فأولئك هم الظلمة المستحقون للعقاب الشديد.
والخلاصة : لا
ينهى الله عن مبرة الفريق الأول ، وإنما ينهى عن تولي الفريق الثاني.
__________________
حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما
أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ
وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ
فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا
وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))
الإعراب :
(أَنْ تَنْكِحُوهُنَ
فَإِنْ) : في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر ، وتقديره : في أن
تنكحوهن. و (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) إما استئناف ، أو حال من الحكم ، على حذف الضمير ، أي
يحكمه الله ، أو على جعل «الحكم» حاكما على المبالغة.
البلاغة :
(اللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِهِنَ) جملة اعتراضية للإشارة إلى آن التعامل مع الناس يكون بحسب
الظاهر ، فللإنسان الظاهر ، والله يتولى السرائر.
(لا هُنَّ حِلٌّ
لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فيهما ما يسمى في علم البديع بالعكس والتبديل.
المفردات اللغوية
:
(مُهاجِراتٍ) من بلاد الكفار إلى ديار الإسلام. (فَامْتَحِنُوهُنَ) فاختبروهن للتأكد من مطابقة ألسنتهن لما في قلوبهن من
الإيمان. (اللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِهِنَ) الله هو العالم بالحقائق ، المطلع على ما في القلوب. (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) تأكدتم من إيمانهن ، وظننتم ظنا غالبا بالحلف وظهور
الأمارات ، فقد
كان صلىاللهعليهوسلم يحلّفهن على أنهن ما خرجن إلا رغبة في الإسلام ، لا بغضا
لأزواجهن الكفار ، ولا عشقا لرجال من المسلمين. وإنما سمّي الظن الغالب علما
إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به.
(فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ) تردوهن إلى أزواجهن الكفرة. (لا هُنَّ حِلٌّ
لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) التكرار للمطابقة والمبالغة. (وَآتُوهُمْ ما
أَنْفَقُوا) أعطوا الكفار ما دفعوا لأزواجهن من المهور. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَ) لا إثم ولا حرج عليكم في الزواج بهن ، فإن الإسلام حال
بينهن وبين أزواجهن الكفار. (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) مهورهن ، وقد شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانا بأن ما
أعطي لأزواجهن من تعويض لا يغني عن المهر الواجب للمرأة تكريما لها عند زواجها بأي
رجل. (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي ما تعتصم به الكافرات من عقد وسبب ، جمع عصمة ، والمراد
نهي المؤمنين عن نكاح المشركات ، سواء الباقيات على الشرك بعد إسلام الزوج ، أو
المرتدات اللاحقات بالمشركين ، فالمراد بالعصمة : عقد النكاح. و (الْكَوافِرِ) : جمع كافرة. وقرئ «ولا تمسّكوا» بالتشديد.
(وَسْئَلُوا) اطلبوا. (ما أَنْفَقْتُمْ) اطلبوا ما قدمتم من المهور لنسائكم اللاحقات بالكفار حال
الارتداد ، ممن تزوجن من الكفار. (وَلْيَسْئَلُوا ما
أَنْفَقُوا) وليطلبوا ما أنفقوا على المهاجرات من مهور أزواجهم ، فإنهم
يؤتونه. (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) أي جميع ما ذكر في الآية هو شرع الله. (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يقضي بينكم. (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) بالغ العلم ، يشرع
ما تقتضيه حكمته.
(وَإِنْ فاتَكُمْ) أي وإن سبقكم وانفلت منكم. (شَيْءٌ مِنْ
أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) أحد من أزواجكم. (إِلَى الْكُفَّارِ) مرتدات. (فَعاقَبْتُمْ) أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر ، والمراد أنكم
غنمتم مغانم القتال أو الحرب بسبب الغلبة والنصر لكم. (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي أعطوهم من الغنيمة مهور أزواجهم ، بدل الفائت عليهم من
جهة الكفار. (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي خافوا الله الذي آمنتم به ، فإن الإيمان به يقتضي
التقوى منه.
سبب النزول :
نزول الآية (١٠):
(إِذا جاءَكُمُ
الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) : أخرج الشيخان عن المسور ومروان بن الحكم : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية ،
جاءه نساء من
المؤمنات ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) إلى قوله : (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).
وأخرج الواحدي عن
ابن عباس قال : إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة ، رده إليهم ، ومن
أتى من أهل مكة من أصحابه فهو لهم ، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه ، فجاءت سبيعة بنت
الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلىاللهعليهوسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها وكان كافرا ، فقال : يا محمد ،
ردّ علي امرأتي ، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب
لم تجف بعد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقيل : جاءت أم
كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وقيل : نزلت في أميمة بنت بشر امرأة أبي حسان
الدحداحة. وقيل : نزلت في امرأة تسمى سعيدة كانت تحت صيفي بن الراهب ، وهو مشرك من
أهل مكة جاءت زمن الهدنة ، فقالوا : ردها علينا ، فنزلت.
وأخرج ابن منيع عن
ابن عباس قال : أسلم عمر بن الخطاب ، فتأخرت امرأته في المشركين ، فأنزل الله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).
نزول الآية (١١):
(وَإِنْ فاتَكُمْ ..) أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
أَزْواجِكُمْ) الآية ، نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت ، فتزوجها
رجل ثقفي ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.
__________________
المناسبة :
بعد بيان أحكام
العلاقات بين المسلمين وغيرهم في حال السلم ، أبان الله تعالى حكم ردّ النساء
المهاجرات من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام ، والتزوج بهن عقب صلح الحديبية ،
والزواج بالمشركات ، ورد مهور هؤلاء النساء إلى أزواجهن ، وتعويض الأزواج المسلمين
من الغنائم عن مهور زوجاتهن اللاتي ذهبن إلى بلاد الكفار ، والاعتصام في كل ذلك
بتقوى الله تعالى. قال القرطبي : لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين ،
اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد
أسباب الموالاة ، فبيّن أحكام مهاجرة النساء.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات من بين الكفار ،
فاختبروهن ، لتعلموا مدى رغبتهن في الإسلام ، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وقوله : (فَامْتَحِنُوهُنَ) أمر بمعنى الوجوب ، أو بمعنى الندب أو بمعنى الاستحباب.
وذلك أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم
من المسلمين ، فلما هاجر إليه النساء ، أبي الله أن يرددن إلى المشركين ، وأمر
بامتحانهن ، فكن يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ،
ولا لالتماس دنيا ، بل حبا لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ، ورغبة في دينه. فإذا حلفت على هذا النحو أعطى النبي صلىاللهعليهوسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ، ولم يردّها إليه.
(اللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِهِنَّ ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الْكُفَّارِ)
أي إن الامتحان
أمر في الظاهر فقط ، أما في الحقيقة والواقع ، فلا يعلم حقيقة حالهن إلا الله
سبحانه ، والله أمركم بالظواهر ، وهو يتولى السرائر ، فإن غلب على ظنكم أنهن
مؤمنات بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به ، فلا تردّوهن إلى أزواجهن
المشركين الكافرين. وإنما سمّي الظن علما من باب الظن الغالب ، وما يفضي إليه
الاجتهاد ، والقياس جار مجرى العلم.
قال ابن كثير :
فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطّلاع عليه يقينا.
ثم أردف الله
تعالى ذلك بأحكام أخرى تتعلق بهن ، فقال :
١ ـ (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ
يَحِلُّونَ لَهُنَ) أي ليست المؤمنات حلالا للكفار ، وإسلام المرأة يوجب
فرقتها من زوجها ، لا مجرد هجرتها ، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي
التي حرمت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج
المشرك المؤمنة ، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النّبي صلىاللهعليهوسلم زينب رضياللهعنها ، وقد كانت مسلمة ، وهو على دين قومه ، فلما وقع في
الأسارى يوم بدر ، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها ، كانت لأمها خديجة ،
فلما رآها رسول الله صلىاللهعليهوسلم رقّ لها رقة شديدة ، وقال للمسلمين : «إن رأيتم أن تطلقوا
لها أسيرها فافعلوا».
فأطلقه رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك ، وصدقه فيما وعده
، وبعثها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع زيد بن حارثة رضياللهعنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر سنة اثنتين ، إلى أن
أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان ، فردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث
لها صداقا ، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس : «إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ردّ ابنته زينب على
__________________
أبي العاص ، وكانت
هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صداقا» . ومنهم من يقول : بعد سنتين.
وأخرج عبد بن حميد
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ردّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد» قال
يزيد بن هارون : حديث ابن عباس أجود إسنادا ، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وأجاب
الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه ، لأن
الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ، ولم يسلم ، انفسخ نكاحها منه.
٢ ـ (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وادفعوا إلى أزواج المهاجرات من المشركين الذي غرموه
عليهن من المهور. وهذا يدل على أن عهد صلح الحديبية اقتصر على ردّ الرجال دون
النساء. قال الشافعي : وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها ، منع منها بلا عوض.
٣ ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي لا إثم ولا حرج عليكم أيها المؤمنون في الزواج
بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن ، وبشرط انقضاء العدة ، وتزويج الولي
وغير ذلك.
٤ ـ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي ويحرم عليكم أيها المؤمنون زواج المشركات والاستمرار
معهن في العصمة الزوجية ، فمن كانت له امرأة كافرة مشركة ، فليست له بامرأة ،
لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. وكان الكفار يزوجون المسلمين ، والمسلمون يتزوجون
المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا دال على تحريم صريح للمشركات ، وهو خاص
بهن ، دون الكوافر من أهل الكتاب.
__________________
وينفسخ الزواج
ببقاء الزوجة على الشرك ، ولا مانع من نكاح أختها أو نكاح امرأة خامسة ، ما دامت
في العدة.
ثبت في الصحيح كما
تقدم عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية ، جاءه نساء من
المؤمنات ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) ـ إلى قوله ـ (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين ، تزوج إحداهما معاوية بن
أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية.
٥ ـ (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ ،
وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وطالبوا بمهور نسائكم إذا ارتددن ، وليطالبوا بمهور
نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدة
إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين إذا جاءت
امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت : ردّوا مهرها على زوجها الكافر .
(ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين ، والمذكور في
صلح الحديبية واستثناء النساء منه هو حكم الله وشرعه يحكم به بين خلقه ، والحكم
متعلق بالمشركين بعد صلح الحديبية ، بخلاف المشركين الذين لا عهد لهم. والله بليغ
العلم لا تخفى عليه خافية ، بالغ العلم بما يصلح عباده ، بليغ الحكمة في أقواله
وأفعاله ، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة.
قال ابن العربي :
وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة ، أي رد المهور.
__________________
٦ ـ (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ، فَعاقَبْتُمْ ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ) أي إن سبقكم وانفلت منكم وذهبت امرأة من أزواجكم إلى
الكفار ، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الكفر ، ولو أهل كتاب ، فأصبتم غنيمة من
قريش أو غيرها بعد الانتصار في الحرب ، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا
من الفيء والغنيمة إذا لم يرد المشركون على زوجها مهرها ، واحذروا أن تتعرضوا لشيء
مما يوجب العقوبة عليكم ، وخافوا الله تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه.
قال ابن عباس
وآخرون : يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار ، أمر له رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قبل أن تخمّس ، أي قبل
قسمتها أخماسا . فقوله : (فَعاقَبْتُمْ) معناه فغنمتم ، أو ظفرتم. وقال الزهري : يعطى من مال
الفيء.
والخلاصة : على
الكفار رد مهر المرأة التي تعود إلى دار الكفر ، فإن أمكن ذلك فهو الأولى ، وإلا
فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار.
روي عن الزهري
ومسروق : أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا
صارت إليهم ، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة ، فأقر
المسلمون بحكم الله تعالى ، وأبي المشركون ، فنزلت : (وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي سبقكم وانفلت منكم.
وقال الحسن ومقاتل
: نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي ، ولم
ترتد امرأة من غير قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام.
__________________
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على
الأحكام التالية :
١ ـ وجوب امتحان
النسوة اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، ليعرف مدى صدق إيمانهن
وإخلاص إسلامهن. قال ابن عباس : كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض
زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقا لرجل منّا ، بل
حبّا لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم. فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك ، أعطى النبي
صلىاللهعليهوسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها ، فذلك قوله تعالى :
(فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ، لا هُنَّ
حِلٌّ لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ).
٢ ـ أكثر العلماء
على أن هذا ناسخ لما كان صلىاللهعليهوسلم عاهد قريشا في صلح الحديبية ، من أنه يرد إليهم من جاءه
منهم مسلما ، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. ويرى بعضهم
أن الآية نزلت بيانا لنص العقد ، وأنه ما تناول إلا الرجال ، غير أن هذا يكون من
تخصيص العام المتأخر. وذهب جماعة إلى أن التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق
الوحي ، بل كان اجتهادا منه صلىاللهعليهوسلم أثيب عليه بأجر واحد ، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على
هذا الاجتهاد. والتعميم الوارد في الصلح : «من جاء إلى محمد من قريش بدون إذن وليه
، رده عليه» .
ويرى الحنفية أن
هذا الحكم كله منسوخ في الرجال والنساء ، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن
يرد إليهم من جاءه مسلما ، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز ، واستدلوا بقوله صلىاللهعليهوسلم : «أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا
تراءى ناراهما» أي تتراءى ناراهما ، وهذا مجاز ، أي يلزم المسلم أن
__________________
يباعد منزله عن
منزل المشرك ، وينزل مع المسلمين في دارهم. فهذا ناسخ لردّ المسلمين إلى المشركين
، إذ كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب.
ومذهب مالك
والشافعي : أن هذا الحكم غير منسوخ ، وعقد الصلح على ذلك جائز. قال الشافعي : وليس
لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره ، لأنه يلي الأموال كلها.
٣ ـ إن هذا
الامتحان في الظاهر ، والله في الحقيقة أعلم بإيمانهن ، لأنه متولّي السرائر. فإذا
علم ، أي غلب على الظن إيمان المهاجرات ، لم يجز ردهن إلى بلاد الكفار ، لأن الله
لم يحل مؤمنة لكافر ، ولا نكاح مؤمن مشركة. وسبب الفرقة هو إسلام المرأة لا هجرتها
، لأن الله تعالى قال : (لا هُنَّ حِلٌّ
لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فبيّن أن العلة عدم الحلّ بالإسلام ، وليس باختلاف الدار.
وقال أبو حنيفة
ومالك : الذي فرّق بينهما هو اختلاف الدارين ، روي عن ابن عباس أن اختلاف الدارين
يقطع العصمة.
وعلى هذا إذا خرجت
الحربية مسلمة ، ولها زوج كافر في دار الحرب ، وقعت الفرقة بينهما ولا عدة عليها ،
وقال أبو يوسف ومحمد : تقع الفرقة وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له
إلا بعقد زواج جديد ، وهو رأي سفيان الثوري.
وقال مالك
والشافعي : إن أسلم الزوج في العدة أي قبل أن تحيض ثلاث حيض ، فهي امرأته ، ولا
تحصل الفرقة إلا إذا انقضت العدة ، فإذا انقضت العدة ، فلا تحل له إلا بعقد جديد.
٤ ـ يجب على
المسلمين أن يردوا على زوج المرأة التي أسلمت ما أنفق من المهر ، وذلك من الوفاء
بالعهد ، حتى لا يخسر الأمرين : الزوجة والمال.
٥ ـ لا غرم للمهر
إلا إذا طالب الزوج الكافر به ، فإن ماتت المرأة قبل حضور الزوج لم نغرم المهر ،
إذ لم يتحقق المنع ، أي منعها منه ، وإن كان المهر المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم
شيئا ، لأنه لا قيمة له.
وللشافعي في هذا
الحكم قولان : أحدهما ـ أن هذا منسوخ ، والثاني ـ يعطى الزوج المهر إن طالب به ،
وليس ذلك لأحد من الأولياء سوى الزوج.
٦ ـ إن المطالب
برد مثل ما أنفق إلى الأزواج هو الإمام ، من بيت المال. وهذا الحكم ـ كما قال
مقاتل ـ خاص برد صداق نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد له مع المسلمين ، فلا يرد
إليهم الصداق. وعلى هذا فلا مانع من العمل بهذا في المعاهدات التي تجري بين
المسلمين وغيرهم في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون في الماضي ، فإذا
عاهدناهم على رد ما أنفقوا على أزواجهم وجب الوفاء بالعهد.
٧ ـ يباح للمسلمين
الزواج بالمهاجرات المسلمات إذا انقضت عدتهن ، لما ثبت من تحريم نكاح المشركة
والمعتدّة ، فإن أسلمت قبل الدخول ، فلها التزوج في الحال ، إذ لا عدة عليها.
٨ ـ قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) دليل على تحريم التزوج بالمشركات عبدة الأوثان ، فهي خاصة
بالكوافر من غير أهل الكتاب ، أما الكتابيات (اليهوديات والنصرانيات) فيجوز الزواج
بهن ، لقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) الآية [المائدة ٥ / ٥].
فإذا أسلم وثني أو
مجوسي ولم تسلم امرأته فرّق بينهما وهو مذهب المالكية. ومنهم من قال : ينتظر بها
تمام العدة ، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال
الحنفية : إذا
أسلمت المرأة ، عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرّق بينهما.
وهذا الاختلاف
إنما هو في المدخول بها ، فإن كانت غير مدخول بها ، فلا خلاف في انقطاع العصمة
بينها وبين زوجها ، إذ لا عدة عليها. وهذا مذهب مالك أيضا في المرأة المرتدة
وزوجها مسلم ، لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ). ومذهب الشافعي وأحمد : أنه ينتظر بها تمام العدة.
فإن كان الزوجان
نصرانيين فأسلمت الزوجة : فمذهب مالك والشافعي وأحمد : الانتظار إلى تمام العدة ،
وكذا الوثني تسلم زوجته ، فإنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها. ومن العلماء من قال
: ينفسخ النكاح بينهما.
٩ ـ إذا ذهبت
مسلمة مرتدة إلى الكفار من أهل العهد ، يطالب الكفار بمهرها ، وإذا جاء أحد من
الكافرات مسلمة مهاجرة ، يرد إلى الكفار مهرها. وهذا الحكم كان مخصوصا بزمان النبي
صلىاللهعليهوسلم بعد صلح الحديبية.
١٠ ـ إذا لم يدفع
الكفار المعاهدون وغيرهم مهر امرأة ارتدت وذهبت إلى ديار الكفر ، وجب تعويض زوجها
من غنائم الحرب. وقال قتادة : هذا خاص في الكفار المعاهدين ، ثم نسخ هذا في سورة
براءة. وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضا.
١١ ـ حذر الله
تعالى من مخالفة الأحكام السابقة ، فقال في الآية الأولى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ذلكم الحكم الزموه ، وقال في الآية الثانية : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ) أي احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.
مبايعة النبي صلىاللهعليهوسلم المهاجرات (بيعة النساء)
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))
الإعراب :
(وَلا يَأْتِينَ
بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ يَفْتَرِينَهُ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (يَأْتِينَ) أو في موضع جر على الوصف ل (بِبُهْتانٍ).
(كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) : في موضع نصب ، لأنه يتعلق ب (يَئِسَ) وتقديره : يئسوا من بعث أصحاب القبور ، فحذف المضاف ، وأقيم
المضاف إليه مقامه.
البلاغة :
(وَلا يَأْتِينَ
بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) : كناية عن اللقيط.
(قَدْ يَئِسُوا مِنَ
الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) تشبيه مرسل مجمل. وفي الآية ما يسمى رد العجز على الصدر ،
فقد ختمت السورة بمثل ما بدئت به.
وقوله : (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) فيه وضع الظاهر موضع الضمير ، للدلالة على أن الكفر
أيأسهم.
المفردات اللغوية
:
(يُبايِعْنَكَ) البيعة : العقد والعهد على التزام الطاعة. (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) أي بوأد البنات. (بِبُهْتانٍ) أي بولد مفترى ملصق بالزوج كذبا. (يَفْتَرِينَهُ) الافتراء : الكذب ، والمراد يختلقن نسبة الولد إلى الزوج. (مَعْرُوفٍ) المعروف : كل ما ندب إليه الشرع من
المحسنات ، ونهى
عنه من المستقبحات. والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلىاللهعليهوسلم لا يأمر إلا به ، تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في
معصية الخالق. (فَبايِعْهُنَ) أي إذا بايعنك فبايعهن ، أي فالتزم لهن بضمان الثواب حال
الوفاء بهذه الأشياء. (وَاسْتَغْفِرْ
لَهُنَّ اللهَ) اطلب لهن المغفرة.
(قَوْماً غَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) عامة الكفار ، أو اليهود إذ روي أنها نزلت في بعض فقراء
المسلمين كانوا يواصلون اليهود ، ليصيبوا من ثمارهم. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ
الْآخِرَةِ) لكفرهم بها ، أو لعلهم بأنه لا حظ لهم فيها لمعاندة الرسول
صلىاللهعليهوسلم. (كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) من موتاهم أن يبعثوا ، أي يرجعوا أحياء.
سبب النزول :
نزول الآية (١٢):
نزلت يوم الفتح ،
فإنه صلىاللهعليهوسلم لما فرغ من بيعة الرجال ، أخذ في بيعة النساء. أخرج
البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضياللهعنها قالت : «إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) ـ إلى قوله ـ : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات ، قال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قد بايعتك» كلاما ، ولا ، والله ما مسّت يده يد امرأة
في المبايعة قط ، ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك».
وفي صحيح مسلم عن
عائشة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم قالت : «كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يمتحنّ بقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) إلى آخر الآية. قالت عائشة : فمن أقرّ بهذا من المؤمنات
فقد أقر بالمحنة ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : انطلقن فقد بايعتكن ، ولا والله ما مسّت يد رسول الله صلىاللهعليهوسلم يد امرأة قطّ ، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة :
والله ، ما أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كفّ امرأة قط ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن : قد بايعتكنّ
كلاما».
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب ، وكان يشترط عليهن.
وروى أحمد عن
أميمة بنت رقية التيمية قالت : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن : «ألا نشرك
بالله شيئا ـ حتى بلغ ـ ولا يعصينك في معروف» فقال : فيما استطعتنّ وأطقتنّ ، قلنا
الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، قلنا : يا رسول الله ، ألا تصافحنا؟ قال : إني
لا أصافح النساء ، وإنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة» . وزاد أحمد في رواية : «ولم يصافح منا امرأة».
نزول الآية (١٣):
أخرج ابن المنذر
عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن عمر ، وزيد بن الحارث يوادّان رجلا من يهود ،
فأنزل الله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) الآية.
المناسبة :
روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال ، أخذ في بيعة النساء
، وهو على الصفا ، وعمر أسفل منه يبايع النساء ، بأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويبلغهن عنه.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً ..) الآية : أي إذا جاءك المؤمنات بالله ورسوله يعاهدنك ويقصدن
مبايعتك على الإسلام والطاعة ، فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا من وثن
__________________
أو حجر أو ملك أو
بشر ، ولا يسرقن من أموال الناس شيئا ، ولا يزنين (والزنى : الاعتداء على الأعراض)
ولا يقتلن أولادهن : أي ولا يئدن البنات ، وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد
البنات ، ولا يلحقن بأزواجهن أولادا ليسوا لهم ، قال الفراء : كانت المرأة تلتقط
المولود ، فتقول لزوجها : هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء.
(وَلا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ) : وهو كل أمر وافق طاعة لله ، أي كل ما أمر به الشرع ، أو
نهى عنه ، كالنهي عن النّوح ، وتمزيق الثياب ، وجزّ الشعر ، وشق الجيب ، وخمش
الوجوه ، والدعاء بالويل ، والخلوة بالأجنبي غير المحرم ، فبايعهن ، واطلب من الله
المغفرة لهن بعد هذه المبايعة منك ، إن الله غفور لذنوب عباده ، رحيم بهم ، فلا
يعذبهم بما اقترفوه قبل الإسلام ، ويجزل لهم الثواب إذا وفّين بهذا العهد الذي حدث
في فتح مكة.
روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما قال : أبا يعكن على ألا تشركن بالله شيئا ، قالت هند
بنت عتبة ، وهي منتقبة ، خوفا من النبي صلىاللهعليهوسلم أن يعرفها ، لما صنعته بحمزة يوم أحد : والله ما عبدنا
الأصنام ، وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال ، تبايع الرجال على
الإسلام والجهاد فقط ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «ولا تسرقن» فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وإني
أصيب من ماله قوتنا؟ فقال أبو سفيان : هو لك حلال ، فضحك النبي صلىاللهعليهوسلم وعرفها ، وقال : «أنت هند؟» فقالت : عفا الله عما سلف.
فقال : «ولا تزنين»
فقالت هند : أو تزني الحرة؟ فقال : «ولا تقتلن أولادكن» أي لا تئدن البنات ولا
تسقطن الأجنة ، فقالت هند : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر ، فأنتم وهم أبصر
أو أعلم. فضحك عمر بن الخطاب رضياللهعنه حتى استلقى ، وكان ابنها البكر حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم
بدر ، وتبسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فقال : «ولا تأتين
ببهتان تفترينه» وهو أن تلصق بزوجها ما ليس منه ، فقالت هند : والله ، إن البهتان
لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : «ولا تعصينني في معروف»
فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا ، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
وتحريم الزنى عام
، قال صلىاللهعليهوسلم : «اليدان تزنيان ، والعينان تزنيان ، والرّجلان تزنيان ، والفرج
يصدق ذلك أو يكذّبه» .
وأكد النبي صلىاللهعليهوسلم تحريم النواح ، فقال : «ليس منا من لطم الخدود ، وشق
الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية» .
وعن عروة بن
الزبير عن عائشة قالت : «جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخذ عليها : ألا يشركن بالله شيئا ، ولا يسرقن ، ولا
يزنين ...» الآية ، قال : فوضعت يدها على رأسها حياء ، فأعجبه ما رأى منها ، فقالت
عائشة : أقرّي أيتها المرأة ، فو الله ما بايعنا إلا على هذا ، قالت : نعم ،
فبايعها بالآية».
ولم تقتصر بنود
بيعة النساء عليهن ، وإنما بويع بها الرجال أيضا.
روى البخاري عن
عبادة بن الصامت قال : كنا عند النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا
ولا تسرقوا» قرأ آية النساء ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا
، فعوقب ، فهو كفارة
__________________
له ، ومن أصاب من
ذلك شيئا ، فستره الله ، فهو إلى الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له منها».
وروى محمد بن
إسحاق وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال : «كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا
اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن يفرض الحرب ، على ألا نشرك
بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه
بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، وقال : فإن وفيتم فلكم الجنة».
ثم أكد تعالى
النهي عن موالاة الكفار كما بدأ السورة ، فقال :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، قَدْ
يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي يا أيها المؤمنون برسالة الإسلام لا تتخذوا اليهود
والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم ولعنهم واستحقوا الطرد والإبعاد من
رحمته ، أولياء وأنصارا وأصدقاء ، وقد يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عزوجل ، وأصبحوا لا يوقنون بالآخرة بسبب كفرهم وعنادهم ، بالرغم
من قيام الأدلة والبينات والمعجزات على الإيمان بالله واليوم الآخر ، كيأسهم من
بعث موتاهم ، لاعتقادهم عدم البعث.
قال ابن عباس :
يريد حاطب بن أبي بلتعة يقول : لا تتولوا اليهود والمشركين ، وذلك لأن جمعا من
فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم ، فنهوا عن ذلك
، ويئسوا من الآخرة. يعني أن اليهود كذبت محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وهم يعرفون أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه ، فهم يئسوا من
الآخرة ، كما يئس الكفار من أصحاب القبور ، أي كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون
بالبعث من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوة الرسول
صلىاللهعليهوسلم.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآية الأولى
على تحريم الشرك بالله ، والسرقة ، والزنى ، وقتل الأولاد ، أي وأد البنات الذي
كان في الجاهلية ، وإلحاق الأولاد اللقطاء بغير آبائهم ، وعصيان شرع الله فيما أمر
ونهى.
وقد صرح في الآية
بأركان النهي في الدين وهي ستة ، ولم يذكر أركان الأمر ، وهي ستة أيضا : الشهادة ،
والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجنابة ، لأن النهي دائم في
كل الأزمان وفي كل الأحوال ، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد وأهم وأخطر. ولم
تقتصر البيعة على هذه الأمور على النساء فقط ، وإنما بويع عليها وفد من الأنصار في
بيعة العقبة الأولى ، فأصبح الحكم عاما للرجال والنساء.
وأكدت الآية
الثانية تحريم موالاة الكفار وتزويدهم بأخبار المسلمين ، والإسرار إليهم ،
واتخاذهم أصدقاء وأخلاء ، لأنهم لا يؤتمنون على مصالح المسلمين ، بل يخونونهم
ويفيدون من ذلك في قتالهم ومعاداتهم ، ولأنهم قوم كفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بالبعث
والحساب ، ويئسوا من ثواب الآخرة ، كما يئس الكفار الأحياء من رجوع موتاهم أصحاب
القبور إلى الدنيا.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصف
مدنيّة ، وهي أربع
عشرة آية.
تسميتها :
سميت سورة الصف ،
لقوله تعالى في مطلعها : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [٤].
مناسبتها لما
قبلها :
تظهر مناسبة هذه
السورة لما قبلها من وجهين :
١ ـ نهت السورة
السابقة في مطلعها وأثنائها وختامها عن موالاة الكفار من دون المؤمنين ، وأمرت هذه
السورة بوحدة الأمة ووقوفها صفا واحدا تجاه الأعداء.
٢ ـ ذكرت السورة
المتقدمة أحكام العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم داخل الدولة الإسلامية
وخارجها ، وقت السلم ، وحرضت هذه السورة على الجهاد ورغبت فيه بسبب العدوان ،
وأنّبت التاركين للقتال وشبهتهم ببني إسرائيل الذين عصوا موسى عليهالسلام حين ندبهم للقتال ، ثم عصوا عيسى عليهالسلام حين أمرهم باتباعه بعد إتيانه بالبينات والمعجزات ، واتباع
النبي محمد صلىاللهعليهوسلم الذي بشر به.
ما
اشتملت عليه السورة :
إن محور السورة
وموضوعها هو القتال وجهاد الأعداء ، والتضحية في سبيل الله تعالى ، وبيان ثواب
المجاهدين العظيم ، وذلك من الأحكام التشريعية التي تعنى بها السور المدنية عادة.
وقد بدئت السورة
بتسبيح الله سبحانه وتنزيهه وتمجيده تنبيها لعظمة منزلها ، وبيان خطورة ما ترشد
إليه من وجوب الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية ، ووقوفها صفا واحدا في قتال
الأعداء ، لرفع منار الحق ، وإعلاء كلمة الله تعالى ، ثم لوم الذين يخالفون بعملهم
أقوالهم.
ثم حذرت من الفرقة
والعصيان والمخالفة شأن بني إسرائيل الذين عصوا أمر موسى وعيسى عليهماالسلام حينما أمرهم موسى بقتال الجبارين ، وأمرهم عيسى باتباعه
واتباع الرسول أحمد صلىاللهعليهوسلم الذي يأتي بعده وتلك بشارة به : (وَإِذْ قالَ مُوسى .. وَإِذْ قالَ
عِيسَى ..) الآية ، ثم ضربت المثل للمشركين بمن يريد إطفاء نور الله
بأفواههم : (يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا ..).
وأردفت ذلك
بالبشارة والإخبار بنصرة الإسلام ودعوته وتفوقه وغلبته على سائر الأديان ، فهو دين
الهدى والحق.
ثم رسمت طريق
الهدى ، وأوضحت منهاج السعادة الكبرى وسبيل النجاة من العذاب الأخروي بإعلان
الإيمان بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس ، وبيان ثمرة
الجهاد وهو النصر في الدنيا وثواب المجاهدين في الآخرة ، وأكدت ذلك بالأمر بنصرة
دين الله عزوجل ، كمناصرة الحواريين دين عيسى عليهالسلام : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ..) الآيات ، وبالدعوة إلى نصرة دين الله يتناسب ختام السورة
مع بدايتها.
فضلها :
أخرج الإمام أحمد
عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا ،
فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلينا رجلا رجلا ، فجمعنا ، فقرأ علينا هذه السورة ، يعني
سورة الصف كلها.
وأخرج الترمذي عن
عبد الله بن سلام أيضا قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل لعملناه ، فأنزل الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال عبد الله بن سلام ، فقرأها علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
الدعوة إلى القتال في سبيل الله صفا واحدا
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))
الإعراب :
(كَبُرَ مَقْتاً
مَقْتاً) : تمييز منصوب ، وفاعل (كَبُرَ) يفهم بالتفسير ، وتقديره : كبر المقت مقتا ، مثل (كَبُرَتْ كَلِمَةً) [الكهف ١٨ / ٥]. و
(أَنْ تَقُولُوا) مرفوع على الابتداء ، و (كَبُرَ مَقْتاً) : خبر مقدم ، وتقديره : قولكم ما لا تفعلون كبر مقتا ، أو
مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أن تقولوا ما لا تفعلون ، أو هو فاعل (كَبُرَ).
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ
صَفًّا) : منصوب على المصدر في موضع الحال ، و (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) : في موضع نصب على الحال من واو (يُقاتِلُونَ) أي يقاتلون مشبهين بنيانا مرصوصا.
البلاغة :
(لِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ) استفهام بأسلوب التوبيخ والإنكار ، وما في قوله (لِمَ) استفهامية حذفت ألفها تخفيفا.
(كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) بعد قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ) إطناب بتكرار اللفظ لبيان شدة قبح ما فعلوا. وقوله : (تَقُولُوا) و (تَفْعَلُونَ) بينهما طباق.
(كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ) تشبيه مرسل مفصّل ، حذف منه وجه الشبه ، أي في المتانة
والالتئام.
المفردات اللغوية
:
(سَبَّحَ لِلَّهِ) نزهه ومجده ودل عليه ، واللام مزيدة. (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جيء بقوله (ما) وليس (من) تغليبا للأكثر. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي الغالب القاهر في ملكه. (الْحَكِيمُ) في صنعه وتدبير أمور خلقه.
(لِمَ تَقُولُونَ لِمَ) مركبة من لام الجر وما الاستفهامية ، والأكثر حذف ألفها مع
حرف الجر تخفيفا لكثرة استعمالهما معا ودلالتهما على المستفهم عنه ، أي لأي شيء
تقولون : قد فعلنا ، مع أنكم لم تفعلوا ، والمقصود التأنيب والتوبيخ على المغالطة
والكذب في طلب الجهاد وغيره ، مع أنهم انهزموا يوم أحد. (كَبُرَ) عظم. (مَقْتاً) المقت : أشد البغض. (يُحِبُ) يرضى ويكرم وينصر. (صَفًّا) أي صافين. (مَرْصُوصٌ) متراص من غير فرجة أو متلاصق محكم ، والرص : اتصال أجزاء
البناء وإحكامه.
سبب نزول الآية (١
، ٢):
أخرج الترمذي كما
تقدم والحاكم وصححه والدارمي عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فتذاكرنا ، فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله
لعملناه ، فأنزل الله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فقرأها
علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى ختمها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه ، قال : كان
ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال
إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شك فيه ،
وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به ، وإقرار برسالة نبيه صلىاللهعليهوسلم ، فلما نزل الجهاد ، كره ذلك ناس من المؤمنين ، وشق عليهم
أمره ، فأنزل الله الآية .
ويؤيد ذلك قول عبد
الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله ، لعملناه ، فلما نزل الجهاد
كرهوه.
التفسير والبيان :
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي نزّه الله ومجده لعظمته وقدرته ووحدانيته وجميع صفات
كماله جميع ما في السموات وما في الأرض من العقلاء وغير العقلاء ، وهو القوي
الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، وفي تدبير
خلقه وتصريف أمورهم وإرشادهم.
وفيه الإرشاد إلى
مشروعية التسبيح في كل الأوقات ، ثم أرشد خلقه إلى فضائل الأخلاق والأعمال ، فقال
:
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، لأي شيء تقولون قولا
وتخالفونه عملا. وهذا إنكار على من يعد وعدا ، أو يقول قولا لا يفي به ، قال ابن
كثير : ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء
بالوعد مطلقا ، سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا ، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت
في الصحيحين أن
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدّث كذب ،
وإذا اؤتمن خان». وفي الحديث الآخر في الصحيح : «أربع من كنّ فيه ، كان منافقا
خالصا ، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها» فذكر منهن
إخلاف الوعد.
وذهب الإمام مالك رحمهالله تعالى إلى أنه إذا أدخل الواعد الموعود به في ورطة ، وجب
الوفاء به ، كما لو قال لغيره : تزوج ولك علي كل يوم كذا ، فتزوج وجب عليه أن
يعطيه ، ما دام كذلك ، لأنه تعلق به حق آدمي ، وهو مبني على المضايقة.
وذهب الجمهور إلى
أنه لا يجب ديانة مطلقا الوفاء بالوعد ، وإن كان يجب ديانة ومروءة ، وحملوا الآية
على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم ، فلما فرض نكل عنه بعضهم ، كقوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَآتُوا
الزَّكاةَ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا : رَبَّنا
لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ، لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ،
قُلْ : مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ، وَلا
تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ، وَلَوْ
كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء ٤ / ٧٧ ـ ٧٨]
وقال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ،
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد ٤٧ / ٢٠].
ثم ذمّهم سبحانه
على مخالفة القول العمل ، فقال :
(كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم جرما أن تقولوا قولا وتفعلون غيره ، فإن خلف الوعد
دليل على حب الذات (الأنانية) وإهدار لمصلحة وكرامة ووقت الآخرين ، وإخلال بالثقة
بين الأفراد والجماعات ،
وما أسوأ خلف
الوعد وأقبح بصاحبه ، لذا كان مبغوضا عند الله أشد البغض ومعاقبا عليه ، كما هو
مبغوض مستنكر مذموم عند الناس جميعا.
وفي مقابل ذم
التاركين للقتال الهاربين منه ، مدح الله تعالى الذين أقدموا على القتال ، فقال :
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي إن الله يرضى عن المقاتلين ، ويثيب ثوابا جزيلا الذين
يقاتلون في سبيل الله ، صافّين أنفسهم صفا واحدا ، وكتلة متراصة لا تتزحزح من
المواقع ، كأنهم بناء راسخ شامخ ملتزق بعضه ببعض دون فرج كقطعة واحدة.
وهذا تعليم من
الله للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم ، وحث على الجهاد بأسلوب آخر ، ودليل على
قوتهم وشدتهم في أمر الله ، دون تراخ فيهم ، وإشارة إلى إحكام أمر القتال ، وتنفيذ
مهمة الجهاد بدقة وإتقان ، وتضامن واجتماع حازم على وحدة الكلمة ، وإمضاء الأمر
بعزيمة لا تعرف اللين ، وهمة لا تردد فيها ، ولقاء للعدو بقلوب ثابتة راسخة لا
تخاف ولا تخشى الموت. وهكذا تبني الأمم القوية أمجادها ، وتثبت هيبتها وشخصيتها
الذاتية ، وتنتزع احترام الآخرين لها.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ إن تسبيح الله
وتنزيهه وتمجيده من جميع ما في السموات وما في الأرض دليل على الربوبية والوحدانية
والعظمة والقدرة والاتصاف بجميع صفات الكمال.
٢ ـ توجب آية : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ،
كَبُرَ مَقْتاً ...) على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها ، فإن من
التزم شيئا لزمه شرعا.
والملتزم قسمان :
أحدهما ـ النذر :
وهو نوعان : نذر تقرّب مبتدأ ، كقوله : لله علي صوم وصلاة وصدقة ، ونحوه من القرب
، فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر مباح معلق على شرط ، مثل إن قدم غائبي فعلي
صدقة ، أو إن كفاني الله شرّ كذا فعلي صدقة ، فقال أكثر العلماء : يلزمه الوفاء
به. ورأى بعضهم أنه لا يلزمه الوفاء به ، والآية حجة للأكثرين ، لأنها بمطلقها
تتناول ذمّ من قال ما لا يفعله ، على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. ويري
الشافعي أن نذر اللجاج والغضب لا يجب الوفاء به ، وهو ما لا يقصد به النذر والقربة
، مثل : إن كلمت فلانا فلله علي صوم أو نحوه.
والثاني ـ الوعد :
فإن كان متعلقا بسبب ، كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت شيئا أعطيتك كذا
، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا ، فقيل : يلزم ، عملا بسبب
نزول الآية المتقدم ، وقيل : لا يلزم ، قال ابن العربي والقرطبي : والصحيح عندي أن
الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر .
٣ ـ إن خلف الوعد
مذموم شرعا ، مستوجب للإثم والمؤاخذة ، أما في الماضي فيكون كذبا ، وأما في
المستقبل فيكون خلفا ، وكلاهما مذموم.
٤ ـ يرضى الله
سبحانه عن الذين يقاتلون في سبيله صفا واحدا ، وهذا يدل على وجوب الثبات في الجهاد
في سبيل الله ، ولزوم المكان كثبوت البناء.
ولا يجوز الخروج
عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو لأداء رسالة يرسلها الإمام أو القائد ، أو
لمنفعة تظهر في المقام ، كفرصة تنتهز ولا خلاف
__________________
فيها ، أو للخروج
للمبارزة إذا طلبها العدو ، كما كانت حروب النبي صلىاللهعليهوسلم يوم بدر وفي غزوة خيبر.
التذكير بقصة موسى وعيسى عليهماالسلام مع بني إسرائيل
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ
إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي
إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ
بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))
الإعراب :
(وَقَدْ تَعْلَمُونَ) في موضع الحال.
(يَأْتِي مِنْ بَعْدِي
اسْمُهُ أَحْمَدُ) جملة (يَأْتِي) : جملة فعلية في موضع جر ، لأنها صفة لرسول. و (اسْمُهُ أَحْمَدُ) جملة اسمية من المبتدأ والخبر في موضع جر ، لأنها صفة بعد
صفة.
(لِيُطْفِؤُا) منصوب بأن مقدرة ، واللام مزيدة.
البلاغة :
(يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) استعارة ، شبّه من أراد إبطال الدين بمن أراد إطفاء الشمس
بفمه ، واستعار نور الله لدينه وشرعه.
(الْفاسِقِينَ مُبِينٌ
الظَّالِمِينَ ..) إلخ سجع لطيف مقبول.
المفردات اللغوية
:
(وَإِذْ قالَ مُوسى) أي واذكر حين قال ، وهو كلام مستأنف مقرر لما قبله من ذم
التاركين للقتال والمخالفين أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم. (يا قَوْمِ لِمَ
تُؤْذُونَنِي) بالعصيان ومخالفة أمري إذ تركتم القتال ، ومن الأذى أيضا
الرمي بالأدرة ، أي بانتفاخ الخصية ، وهو كذب وافتراء. (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ
اللهِ إِلَيْكُمْ) بما جئتكم من المعجزات ، وفائدة (قَدْ) تأكيد العلم ، لا تقليله ، كأنه قال : وتعلمون علما يقينيا
لا شبهة لكم فيه ، وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم ، إذ عكسوا القضية ، وصنعوا مكان
تعظيم رسول الله صلىاللهعليهوسلم إيذاءه. (زاغُوا) مالوا عن الحق والهدى الذي جاء به موسى بإيذائه.
(أَزاغَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ) أمالها عن الهدى وصرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) لا يوفق إلى معرفة الحق أو إلى الجنة القوم الكافرين الخارجين
عن الطاعة. (وَإِذْ قالَ عِيسَى) أي واذكر. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) لم يقل : يا قوم ، لأنه لم يكن له فيهم قرابة. (لِما بَيْنَ يَدَيَ) لما تقدمني أو قبلي من الكتب كالتوراة والزبور. (أَحْمَدُ) من أسماء النبي صلىاللهعليهوسلم ، أي أحمد الناس لربه. (فَلَمَّا جاءَهُمْ) جاء أحمد الناس الكفار. (بِالْبَيِّناتِ) الأدلة والعلامات والمعجزات. (قالُوا : هذا سِحْرٌ
مُبِينٌ) أي قالوا : هذا المجيء به سحر بيّن. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) الكافرين ، أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم.
(يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا) أي يريدون أن يطفئوا ، واللام مزيدة لما فيها من معنى
الإرادة تأكيدا. (نُورَ اللهِ) شرعه ودينه أو كتابه والحق الذي جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم. (بِأَفْواهِهِمْ) بأقوالهم : إنه سحر وشعر وكهانة. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) مظهر دينه وناشره في الآفاق. (وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ) ذلك الانتشار الشامل لدعوة الإسلام إرغاما لهم.
(بِالْهُدى) بالقرآن أو المعجزة. (وَدِينِ الْحَقِ) الملة الحنيفية. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) ليعليه على جميع الأديان. (وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ) لما فيه من الدعوة إلى التوحيد المحض ، وإبطال الشرك.
سبب النزول :
نزول الآية (٨):
(يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا ..) : حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس : أن النبي صلىاللهعليهوسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما ، فقال كعب بن الأشرف : يا
معشر اليهود ، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتمّ
أمره ،
فحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، واتصل الوحي بعدها .
المناسبة :
بعد الحث على
الجهاد وتأنيب المتخلفين عنه ، التاركين للقتال ، ذكّر الله المؤمنين بقصة موسى عليهالسلام مع قومه حين دعاهم إلى قتال الجبارين بقوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ ...) [المائدة ٥ / ٢١]
فخالفوه وعصوا أمره ، كيلا يفعلوا بنبيهم مثلما فعل به بنو إسرائيل. ثم ذكّرهم
أيضا بقصة عيسى عليهالسلام مع بني إسرائيل أيضا حين جاءهم بالبينات والمعجزات وبشرهم
بمجيء رسول من بعده اسمه أحمد ، فعصوه ولم يمتثلوا أمره. وقرنت القصتان هنا لأن
كلّا من موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل ، ولأن المخالفين هم أنفسهم.
ثم شنع على هؤلاء
العصاة الذين لم يستجيبوا لدعوة النبي إلى الإسلام ، وإنما افتروا على الله الكذب
بوصف المعجزات بأنها سحر ، ثم ذكر غرضهم من الافتراء وهو محاولة إبطال دين الله
وإطفاء نوره وشرعه ، والحال أن الله متم نوره ، ومظهر دينه على الأديان كلها.
التفسير والبيان :
يحذر الله سبحانه
أمة محمد صلىاللهعليهوسلم من مخالفة أمر نبيهم بأن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى
وعيسى معهما ، فيقول :
ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا
قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) أي واذكر يا محمد لقومك خبر موسى بن عمران عليهالسلام حين قال لقومه بني إسرائيل : يا قوم لم تلحقون الأذى بي
بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم ، أو لم تؤذونني بالشتم
والانتقاص ، وأنتم تعلمون يقينا
__________________
صدقي فيما جئتكم
به من الرسالة ، والرسول يحترم ويعظّم ، وقد شاهدتم معجزاتي التي توجب الاعتراف
برسالتي.
وهذا تعليم للمؤمنين
ونهي لهم من إيذاء نبيهم كما أوذي موسى عليهالسلام ، كما جاء في آية أخرى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ، فَبَرَّأَهُ اللهُ
مِمَّا قالُوا ، وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب ٣٣ / ٦٩]
وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ،
ولهذا قال : «رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
(فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي وإنهم لما تركوا الحق ولم يتبعوا نبيهم وآذوه ، أمال
الله قلوبهم عن الهدى ، وصرفها عن الحق ، وأسكنها الشك والحيرة ، جزاء بما ارتكبوا
، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ، كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ،
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام ٦ / ١١٠].
والله لا يوفق
للحق ولا يرشد للهداية القوم الكافرين الذين كفروا بأنبيائهم ، وعصوا رسلهم ،
وهؤلاء من جملتهم.
ـ (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : يا
بَنِي إِسْرائِيلَ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي واذكر يا محمد أيضا لقومك خبر عيسى إذ قال : يا بني
إسرائيل ، إني رسول الله إليكم بالإنجيل ، لم آتكم بشيء يخالف التوراة ، وإنما
أؤيدها وأكملها ، فكيف تعصونني وتنفرون عني وتخالفونني؟!
(وَمُبَشِّراً
بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) أي إن التوراة قد بشرت بي ، وأنا مصداق ما أخبرت عنه ،
وأنا مبشر بمن بعدي ، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد : وهو الذي يحمد
بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره.
وهو خاتم الأنبياء
والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة ، كما أن عيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل.
أورد البخاري
ومسلم عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي
الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ـ أي بعدي ـ ،
وأنا العاقب» أي الآخر الآتي بعد الأنبياء. وروى مسلّم وأبو داود الطيالسي عن أبي
موسى قال : سمى لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم نفسه أسماء ، منها ما حفظنا ، فقال : «أنا محمد ، وأنا
أحمد ، والحاشر ، والمقفي ، ونبي الرحمة والتوبة والملحمة».
وعن كعب الأحبار :
أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله ، هل بعدنا من أمة؟ قال : نعم ، أمة محمد
، حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من
الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل.
وجاء في الفصل
العشرين من السّفر الخامس من التوراة : «أقبل الله من سينا ، وتجلّى من ساعير ،
وظهر من جبال فاران ، معه الربوات الأطهار عن يمينه». وسينا مهبط الوحي على موسى ،
وساعير مهبط الوحي على عيسى ، وفاران جبال مكة مهبط الوحي على محمد.
وجاء في إنجيل
يوحنا في الفصل الخامس عشر : قال يسوع المسيح : إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله
أبي ، يعلمكم كل شيء ، والفارقليط : لفظ يدل على الحمد ، وهو إشارة إلى أحمد ومحمد
اسمي النبي صلىاللهعليهوسلم.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِالْبَيِّناتِ قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي حين جاء أحمد المبشّر به في الكتب المتقدمة بالأدلة
والمعجزات القاطعة ، قال الكفرة والمخالفون : هذا
الذي جئت به سحر
واضح لا شك فيه. وقيل : المراد لما جاءهم عيسى بالمعجزات ، قالوا : هذا الذي جاءنا
به سحر واضح ظاهر.
ثم ذكر الله تعالى
حكم المعارضين المخالفين الذين دعوا إلى الإسلام وتوحيد الله ، فقال :
ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ ، وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ ، وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ، ويجعل له
أندادا وشركاء ، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص ، والله لا يرشد للحق والصواب
الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم ، وهؤلاء منهم.
ـ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ
بِأَفْواهِهِمْ ، وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي إن هؤلاء الكفار يحاولون جاهدين إبطال دعوة الإسلام ،
ومنع هدايته ، ومقاومة دعوته بأفواههم الكاذبة ، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن
يطفئ شعاع الشمس بفيه ، وكما أن هذا مستحيل ، كذلك إبطال دعوة الإسلام مستحيل ،
ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ مُتِمُّ
نُورِهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي والله مظهر دين الإسلام في الآفاق ، ويعليه على غيره من
الأديان ، ومؤيد رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم ، ولو كره الكافرون ذلك.
ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي إن الله عزوجل هو الذي أرسل رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بالهدى الكامل ، ودين الحق الأبلج الواضح ، المتمثل
بالقرآن والسنة النبوية ، ليجعله متفوقا منتصرا على جميع الأديان ، عاليا عليها ،
غالبا بالمنطق والواقع لها ، ولو كره المشركون ذلك ، فإنه كائن لا محالة.
وإنما قال أولا : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وهم اليهود والنصارى والمشركون ، ثم قال : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه ، فكان اللائق به
الكفر : وهو الستر
والتغطية ، ثم ذكر الرسول والإرسال ودين الحق ، وكان الاعتراض عليه أولا من
المشركين ، ولأن أكثر الحاسدين للرسول صلىاللهعليهوسلم من قريش ، وهم المشركون. ولما كان النور أعم من الدين
والرسول صلىاللهعليهوسلم ، ناسبه ذكر الكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام ، ولفظ
الكافر أعم من لفظ المشرك ، والرسول والدين أخص من النور ، فناسبه ذكر المشركين
الذين هم أخص من الكافرين .
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ إن مخالفة
أوامر الأنبياء والرسل موجبة لعقاب المخالفين ، وقد أمر الله نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم أن يذكر لقومه العرب أنه لما أمر المؤمنون بالجهاد ،
فتثاقل بعضهم وتبرموا منه ، كان حالهم كحال بني إسرائيل لما أمرهم موسى وعيسى
بالتوحيد والجهاد في سبيل الله ، خالفوا ، فحل العقاب بمن خالف.
٢ ـ يريد الله
الخير لعباده ، ولا يضل أحدا بغير موجب ، فلا يضل المهتدين ، وإنما يضل الظالمين
والفاسقين ، ولما زاغ بنو إسرائيل (مالوا عن الحق) أزاغ الله قلوبهم ، أي أمالها عن
الهدى وعن الطاعة والإيمان والثواب.
٣ ـ نزل الإنجيل
على عيسى عليهالسلام متمما للتوراة التي نزلت على موسى عليهالسلام ، فلم يأتهم عيسى بشيء يخالف التوراة ، فينفروا عنه ، وقد
بشرت التوراة بعيسى ، وبشر عيسى بالنبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهذا أمر منطقي ، لأن رسالات الأنبياء صلوات الله عليهم
كلهم يكمل بعضها بعضا ، فهي من مصدر واحد ، وذات غاية واحدة تنحصر في الدعوة إلى
توحيد الله وعبادته والإيمان بالرسل والملائكة والكتب الإلهية واليوم الآخر.
__________________
٤ ـ سمى الله
نبينا صلىاللهعليهوسلم باسمه قبل أن يسمّي به نفسه ، ومعنى (أحمد) أنه أحمد
الحامدين لربه ، والأنبياء عليهمالسلام كلهم حامدون لله ، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. ومحمد : هو
الذي حمد مرة بعد مرة ، واسمه صادق عليه ، فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ،
ونفع به من العلم والحكمة ، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة ، ثم إنه لم يكن محمدا
حتى كان أحمد ، حمد ربه فشرفه بالنوبة ، فلذلك تقدم اسم (أحمد) على (محمد) في
بشارة عيسى عليهالسلام : (اسْمُهُ أَحْمَدُ). وذكره موسى عليهالسلام حين قال له ربه : تلك أمة أحمد ، فقال : اللهم اجعلني من
أمة محمد.
٥ ـ كل من عيسى
ومحمد عليهماالسلام لما جاء بالبينات أي المعجزات والأدلة على النبوة ، قال
المعارضون : هذا سحر مبين.
٦ ـ إن الكفر
بعيسى ومحمد عليهماالسلام بعد المعجزات التي ظهرت لهما ، أمر يدعو إلى العجب ،
والكافرون برسالات الأنبياء ، المنكرون لوجود الله ، أو المشركون به أحدا من خلقه
هم أظلم الناس على الإطلاق.
٧ ـ كل محاولات
الكفرة لإبطال دين الله تعالى ومقاومة دعوة الإسلام بالإنكار والتكذيب خائبة خاسرة
، ومثلهم في إرادة إبطال الحق مثل من أراد إطفاء نور الشمس بفيه ، فوجده مستحيلا
ممتنعا.
٨ ـ الله متم نوره
بقدرته وتدبيره ، ومعلن دينه بإظهاره في الآفاق ، ولو كره الكافرون جميعا ذلك.
٩ ـ أرسل الله
تعالى رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بالحق والرشاد ، ليعليه على جميع الأديان بالحجج ، ولو كره
المشركون قاطبة ذلك. وقال أبو هريرة : «ليظهره على الدين كله» بخروج عيسى. وحينئذ
لا يبقى كافر إلا أسلم. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لينزلن ابن مريم حكما عادلا ،
فليكسرنّ الصليب ،
وليقتلنّ الخنزير ، وليضعنّ الجزية ، ولتتركنّ القلاص ، فلا يسعى عليها ، ولتذهبنّ الشحناء والتباغض والتحاسد ،
وليدعون إلى المال ، فلا يقبله أحد».
التجارة الرابحة
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ
الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ
فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))
الإعراب :
(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) خبر معناه الأمر ، أي آمنوا ، بدليل قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) بجزم (يَغْفِرْ) على الجواب ، وتقديره : آمنوا ، إن تؤمنوا يغفر لكم ،
ولولا أنه في معنى الأمر ، لما كان للجزم وجه.
(وَأُخْرى
تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ .. أُخْرى) : إما في موضع جر عطفا على قوله : (تِجارَةٍ) وتقديره : وعلى تجارة أخرى ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة
مقامه. وإما في موضع رفع على الابتداء ، أي ولكم خلة أخرى. والوجه الأول أوجه. و (تُحِبُّونَها) : جملة فعلية في موضع جر أو رفع ، لأنها وصف بعد وصف. و (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي نصر من الله.
__________________
(فَأَصْبَحُوا
ظاهِرِينَ ظاهِرِينَ) : خبر (أصبح) المنصوب.
البلاغة :
(هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلى تِجارَةٍ)؟ استفهام للترغيب والتشويق.
(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ
وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) بينهما طباق.
المفردات اللغوية
:
(تِجارَةٍ) التجارة هنا : العمل الصالح ، وهي في الأصل : تداول البيع
والشراء لأجل الكسب. (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ ..) أي تدومون على الإيمان ، وهو كلام مستأنف مبين لنوع
التجارة وهو الجمع بين الإيمان والجهاد ، والمراد به الأمر ، أي آمنوا ، وإنما جيء
بلفظ الخبر إيذانا بأن ذلك مما لا يترك. (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ) أي ما ذكر من الإيمان والجهاد. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم ، إذ الجاهل لا يعتد بفعله.
(يَغْفِرْ) جواب للأمر المراد من الخبر : (تُؤْمِنُونَ) أو جواب الشرط المقدر أي إن تفعلوه يغفر. (طَيِّبَةً) طاهرة خالصة. (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بساتين إقامة دائمة. (ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) إشارة إلى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة.
(وَأُخْرى) أي ولكم نعمة أخرى أو يؤتكم نعمة أخرى. (تُحِبُّونَها) فيه تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) نصر عاجل ، وهو فتح مكة. (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والفتح ، وهو معطوف على محذوف وهو : قل : يا أيها
الذين آمنوا ، أو على (تُؤْمِنُونَ) الذي هو في معنى الأمر ، أي آمنوا وجاهدوا وبشرهم يا رسول
الله بما وعدتهم عليهما عاجلا وآجلا.
(كُونُوا أَنْصارَ
اللهِ) أي بعض أنصار الله أي الناصرين لدينه ، أي قل لهم كما قال
عيسى. (لِلْحَوارِيِّينَ) أصفياء عيسى وخواصه ، وهم أول من آمن به ، وكانوا اثني عشر
رجلا ، والحواري : صفي الرجل وخليله ، من الحور : البياض الخالص. (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من جندي متوجها إلى نصرة الله. (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ) آمنت جماعة بعيسى عليهالسلام ، وقالوا : إنه عبد الله رفع إلى السماء. (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) بعيسى ، لقولهم : إنه ابن الله رفعه إليه ، فاقتتلت
الطائفتان. (فَأَيَّدْنَا) قوّينا وساعدنا ، أي بالحجة أو بالحرب ، وذلك بعد رفع
عيسى. (الَّذِينَ آمَنُوا) من الطائفتين. (عَلى عَدُوِّهِمْ) الطائفة الكافرة. (ظاهِرِينَ) غالبين بالحجة والبينة.
سبب النزول :
نزول الآية (١٠):
(هَلْ أَدُلُّكُمْ ..) : أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : قالوا : لو كنا نعلم أي
الأعمال أحب إلى الله وأفضل؟ فنزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ ..) الآية ، فكرهوا الجهاد ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).
وأخرج ابن أبي
حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن ابن عباس ، وابن جرير عن الضحاك قال : أنزلت : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) في الرجل يقول في القتال ما لم يفعله من الضرب والطعن
والقتل.
نزول الآية (١١):
(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ ...) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال المسلمون : لو علمنا ما هذه التجارة ، لأعطينا فيها
الأموال والأهلين ، فنزلت : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ).
المناسبة :
بعد حث المؤمنين
على الجهاد في سبيل الله ، وتحذيرهم من المخالفة ، حتى لا يكونوا أمثال بني
إسرائيل الذين خالفوا موسى وعيسى ، ذكر الله تعالى أن التجارة الرابحة التي لا
تبور هي في الإيمان بالله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. ثم حث على مناصرة دين
الله تعالى وشرعه ورسوله صلىاللهعليهوسلم كما ناصر الحواريون عيسى عليهالسلام.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، ألا أرشدكم إلى تجارة نافعة رابحة ، تحققون بها النجاح
والنجاة من العذاب الشديد المؤلم يوم القيامة؟
وهذا أسلوب فيه
ترغيب وتشويق ، وقد جعل العمل الصالح لنيل الثواب العظيم بمنزلة التجارة ، لأنهم
يربحون فيه كما يربحون فيها ، وذلك بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار ، ونوع التجارة
كما بيّنت الآيتان التاليتان ، ومعناهما أن الإيمان والجهاد ثمنهما من الله الجنة
، وذلك بيع رابح ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة ٩ / ١١١].
ثم بين نوع
التجارة بقوله :
(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي هي أن تدوموا على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وتخلصوا العمل لله ، وتجاهدوا من أجل إعلاء كلمة الله
ونشر دينه بالأنفس والأموال. وقدم تعالى الأموال ، لأنها التي يبدأ بها في
الإنفاق.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ذلك المذكور من الإيمان والجهاد خير لكم وأفضل من
أموالكم وأنفسكم ، ومن تجارة الدنيا والاهتمام بها وحدها ، إن كنتم من أهل العلم
والوعي للمستقبل ، فإن المهم هو النتائج والغايات ، ولا يدرك تلك الغاية النبيلة
أهل الجهل.
والجهاد نوعان :
جهاد النفس : وهو منعها عن الشهوات ، وترك الطمع والشفقة على الخلق ورحمتهم ،
وجهاد العدو : وهو مقاومة الأعداء ورد عدوانهم من أجل نشر دين الله تعالى.
ثم ذكر ثمرة
الإيمان والجهاد ، فقال :
(يَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَمَساكِنَ
طَيِّبَةً ، فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم ، غفرت لكم ذنوبكم ،
وأدخلتكم الجنات التي تجري من تحت قصورها الأنهار ، والمساكن الطيبات للنفوس ،
والدرجات العاليات في جنات الإقامة الدائمة التي لا تنتهي بموت ولا خروج منها ،
وذلك المذكور من المغفرة وإدخال الجنات هو الفوز الساحق الذي لا فوز بعده. وهذه هي
الفائدة الأخروية.
ثم ذكر الله تعالى
الفائدة الدنيوية بقوله :
(وَأُخْرى
تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي ولكم خصلة أو نعمة أخرى تعجبكم هي نصر مبين من الله لكم
، وفتح عاجل للبلاد كمكة وغيرها من فارس والروم ، أي إذا قاتلتم في سبيل الله ،
ونصرتم دينه ، تكفل الله بنصركم ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٧] وقال
سبحانه : (وَلَيَنْصُرَنَّ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج ٢٢ / ٤٠].
(وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين بالنصر العاجل في الدنيا ،
وبالجنة في الآخرة.
ثم أمرهم الله
تعالى بنصرة دينه ورسوله صلىاللهعليهوسلم في كل وقت ، فقال :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ
أَنْصارُ اللهِ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، دوموا على ما أنتم عليه من نصرة دين الله وتأييد شرعه
ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، في جميع الأحوال بالأقوال والأفعال ، والأنفس والأموال ،
واستجيبوا لله
تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ، كما استجاب الحواريون (أصفياء المسيح وخلصاؤه) لعيسى حين
قال لهم : من الذي ينصرني ويعينني في الدعوة إلى الله عزوجل ، ومن منكم يتولى نصري وإعانتي فيما يقرب إلى الله ، أو من
أنصاري متجها إلى نصرة الله؟
قال الحواريون :
وهم أنصار المسيح وخلّص أصحابه ، وأول من آمن به ، وكانوا اثني عشر رجلا : نحن
أنصار دين الله ، ومؤيدوك ومؤازروك فيما أرسلت به ، فبعثهم دعاة إلى دينه في بلاد
الشام في الإسرائيليين واليونانيين.
وهكذا كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ينادي في أيام الحج : «من رجل يؤويني حتى أبلّغ رسالة ربي
، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ رسالة ربي؟» حتى قيّض الله الأوس والخزرج من أهل المدينة
، فبايعوه على نشر دينه في بلدهم.
(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ
مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أي لما بلّغ عيسى رسالة ربه إلى قومه ، وآزره الحواريون ،
اهتدت طائفة من بني إسرائيل إلى الإيمان الحق وآمنوا بعيسى على حقيقته أنه عبد
الله ورسوله ، وضلّت طائفة أخرى ، وكفرت بعيسى ، وجحدوا نبوته ، واتهموه وأمه
بالفاحشة ، وتغالت جماعة أخرى من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة ،
فوصفوه بأنه ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة : الأب والابن وروح القدس. وصارت
النصارى فرقا وأحزابا كثيرة.
(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ ، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي فنصرنا المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى ،
وقوّينا المحقّين منهم بالحجة والروح من عندنا على المبطلين ، فأصبحوا عالين
غالبين عليهم ، كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) [غافر ٤٠ / ٥١].
وأخرج عبد الرزاق
وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) قال : قد كان ذلك بحمد الله ، جاءه سبعون رجلا ، فبايعوه
عند العقبة ، وآووه ونصروه ، حتى أظهر الله دينه.
وأخرج ابن إسحاق
وابن سعد : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة : «أخرجوا إليّ اثني عشر منكم
يكونون كفلاء على قومهم ، كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم». ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم للنقباء : «إنكم كفلاء على قومكم ، ككفالة الحواريين لعيسى
ابن مريم ، وأنا كفيل قومي ، قالوا : نعم».
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
ما يلي :
١ ـ أرشد الله إلى
التجارة الرابحة المنجّية المخلّصة من العذاب المؤلم في الآخرة ، وهي الإيمان
بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، والجهاد في سبيله بالأموال والأنفس. قال مقاتل في آية : (هَلْ أَدُلُّكُمْ ..) : نزلت في عثمان بن مظعون ، وذلك أنه قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : لو أذنت لي فطلّقت خولة ، وترهّبت واختصيت وحرّمت اللحم
، ولا أنام بليل أبدا ، ولا أفطر بنهار أبدا! فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن من سنتي النكاح ، ولا رهبانية في الإسلام ، إنما
رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله ، وخصاء أمتي الصوم ، ولا تحرّموا طيبات ما أحل
الله لكم ، ومن سنتي أن أنام وأقوم وأفطر وأصوم ، فمن رغب عن سنتي ، فليس مني» فقال
عثمان : والله لوددت يا نبي الله ، أي التجارات أحب إلى الله ، فأتّجر فيها ،
فنزلت.
وهذا مع ما ذكر
سابقا من حالات تعدد أسباب النزول.
٢ ـ الإيمان
والجهاد خير من الأموال والأنفس في الواقع وعند تأمل الإنسان مستقبله ، وتعمقه في
الفكر ، لذا قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم
تعلمون أنه خير
لكم ، كان خيرا لكم ، لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيرا.
٣ ـ إن جدوى
الإيمان والجهاد في سبيل الله في الآخرة مغفرة الذنوب ودخول الجنات ، والتمتع
بالمساكن الطيبة الطاهرة في جنات إقامة دائمة ، وتلك هي السعادة الدائمة الشاملة.
٤ ـ وللإيمان
والجهاد فائدة أو مزية أخرى في الدنيا وهي الظفر والنصر على الأعداء ، وفتح بلاد
الأعداء كمكة وفارس والروم في الماضي ، وبشارة المؤمنين برضا الله عنهم.
٥ ـ أمر الله
تعالى بإدامة النصرة لدين الله تعالى والثبات عليه ، كنصرة الحواريين (أصفياء)
عيسى عليهالسلام حين قال لهم : من ينصر دين الله ويؤازرني؟ فناصروه وآزروه.
٦ ـ اختلف بنو
إسرائيل والنصارى في شأن عيسى بعد رفعه إلى السماء ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من
كفر به ، وصاروا ثلاث فرق : فرقة قالوا : كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن
الله فرفعه إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه ، وهم المسلمون ،
واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس. ثم أيد الله الذين آمنوا بعيسى على أنه عبد
الله ورسوله على الذين كفروا بعيسى ، فأصبحوا غالبين.
ثم تأيدت الفئة
الغالبة ببعثه النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، فظهرت على الكافرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجمعة
مدنيّة ، وهي إحدى
عشرة آية.
تسميتها :
سميت سورة الجمعة
لاشتمالها على الأمر بإجابة النداء لصلاة الجمعة ، في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ...).
مناسبتها
لما قبلها :
يتضح وجه اتصال
هذه السورة بما قبلها من نواح أربع هي :
١ ـ ذكر تعالى في
السورة التي قبلها حال موسى مع قومه ، وإيذاءهم له ، مؤنبا لهم ، وذكر في هذه
السورة حال الرسول صلىاللهعليهوسلم وفضل أمته ، تشريفا لهم ، ليظهر الفرق بين الأمتين وفضل
الأمة الاسلامية.
٢ ـ بشّر عيسى عليهالسلام في السورة المتقدمة بمحمد أو أحمد صلىاللهعليهوسلم ، ثم ذكر في هذه السورة أنه هو الذي بشّر به عيسى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِنْهُمْ).
٣ ـ ختم الله
تعالى سورة الصف السابقة بالأمر بالجهاد وسماه (تِجارَةً) وختم هذه السورة بالأمر بالجمعة ، وأخبر أنه خير من
التجارة الدنيوية.
٤ ـ في السورة
المتقدمة أمر الله المؤمنين بأن يكونوا صفا واحدا في القتال ،
فناسب تعقيب سورة
القتال بسورة صلاة الجمعة التي تستلزم الصف ، لأن الجماعة شرط فيها دون سائر
الصلوات .
ما
اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة
كالسور المدنية بيان أحكام التشريع ، والهدف منها هنا بيان أحكام صلاة الجمعة
المفروضة بدلا عن الظهر في يوم الجمعة.
بدأت السورة
كسابقتها بتنزيه الله وتمجيده ووصفه بصفات الكمال. ثم أشادت بأوصاف النبي صلىاللهعليهوسلم خاتم النبيين ورحمة الله المهداة وهي عروبته وتلاوته آيات
القرآن على قومه وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة ، سواء في زمنه أم للأجيال
المتلاحقة ، وبيان كون ذلك فضلا من الله ونعمة ورحمة.
ثم نعت على اليهود
لتركهم العمل بأحكام التوراة ، وتشبيههم بالحمار الذي يحمل على ظهره الكتب النافعة
، ولكنه لا يفهم منها شيئا ، ولا يناله إلا التعب ، وذلك الشقاء بعينه.
ثم ذكرت طلب
مباهلة اليهود إن كانوا أولياء الله بتمني الموت.
وختمت السورة
بالحث على أداء صلاة الجمعة وإيجاب السعي لها بمجرد النداء الذي ينادى لها بالأذان
والإمام على المنبر ، وأباحت السعي وكسب الرزق عقب انتهاء الصلاة ، وعاتبت
المؤمنين الذين تركوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو يخطب على المنبر ، ومسارعتهم لرؤية قافلة التجارة.
فضلها
:
روى مسلم في صحيحة
عن ابن عباس وأبي هريرة رضياللهعنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين.
__________________
خصائص النبي صلىاللهعليهوسلم بالنسبة للعرب والناس كافة
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
(١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا
يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))
الإعراب :
(رَسُولاً مِنْهُمْ
مِنْهُمْ) : في موضع نصب لأنه صفة ل «رسول» وكذلك قوله تعالى : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) وكذلك ما بعده من المعطوف عليه. (وَإِنْ كانُوا إِنْ) مخففة من الثقيلة ، واللام تدل عليها ، واسمها محذوف ، أي
وإنهم.
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
وَآخَرِينَ) يجوز فيه النصب والجر ، أما النصب فهو إما بالعطف على
الهاء والميم في (يُعَلِّمُهُمُ) أو بحمل معنى (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ) على معنى «يعرفهم آياته». وأما الجر : فهو بالعطف على قوله
تعالى : (فِي الْأُمِّيِّينَ) وتقديره : بعث في الأميين رسولا منهم وفي آخرين. و (من) في
(مِنْهُمْ) للتبيين.
المفردات اللغوية
:
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ) ينزهه ويمجده ، واللام زائدة (ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ) ذكر (ما) دون. «من» تغليبا للأكثر. (الْقُدُّوسِ) المنزّه عما لا يليق به المتصف بصفات الكمال. (الْعَزِيزِ) القوي القاهر الغالب الذي لا يغالب. (الْحَكِيمِ) في صنعه وتدبير خلقه ، يضع الأمور في موضعها الصحيح. وقد
قرئت الصفات الأربع بالرفع على المدح.
(الْأُمِّيِّينَ) العرب جمع أمي : وهو من لا يقرأ ولا يكتب ، وصف العرب بذلك
، لأن أكثرهم لا يقرءون ولا يكتبون. والأمي : نسبة للأم التي ولدته. (رَسُولاً مِنْهُمْ) من جملتهم ، فهو أمي مثلهم. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ) يتلو على العرب آيات القرآن ، مع كونه أميّا مثلهم. (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الشرك ومن خبائث العقائد والأعمال. (الْحِكْمَةَ) الشريعة أي معالم
الدين وأحكام
القرآن. (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي من قبل مجيئه لفي خطأ بيّن واضح ، وهو الشرك وخبائث
الجاهلية. وهذا بيان لشدة حاجتهم إلى نبي يرشدهم.
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي وغيرهم الآتين بعدهم ، جمع آخر بمعنى : غير ، وهم الذين
جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم القيامة. (لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ) لم يلحقوا بهم في السابقة والفضل. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) القوي في ملكه وتمكينه من النبوة ، الحكيم في صنعه
واختياره. والاقتصار على الصحابة دليل على فضلهم على من عداهم من جميع الإنس والجن
إلى يوم القيامة.
(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) ذلك الفضل المتميز لهذا النبي عن أقرانه فضله. (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) تفضلا وعطية للنبي صلىاللهعليهوسلم وصحبه. (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي يتضاءل دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
التفسير والبيان :
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي ينزه الله ويمجده جميع المخلوقات ناطقها وجامدها ،
إقرارا بوجوده ووحدانيته وقدرته ، كما قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء ١٧ / ٤٤]
فهو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بأمره وحكمته ، المنزّه عن النقائص وعن كل
ما يخطر بالبال ، الموصوف بصفات الكمال والقوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه غالب ،
بليغ العزة والحكمة ، المتقن في تدبير شؤون خلقه ، الحكيم في كل شيء.
وبعد تنزيه الله
نفسه وصف رسوله صلىاللهعليهوسلم بما تميز به من خصائص ، فقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِنْهُمْ ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنه سبحانه هو الذي أرسل في العرب الأميين ، إذ كان
أكثرهم لا يحسن القراءة والكتابة ، رسولا من جنسهم فهو أمي مثلهم ، كما قال ـ فيما
يرويه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر ـ : «إنا أمّة لا نكتب ولا
نحسب» وقال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٨].
ومع كونه أميا لا
يقرأ ولا يكتب ولا تعلم من أحد ، كان يتلو على أمته
آيات القرآن التي
ترشدهم لخير الدنيا والآخرة ، ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب وأخلاق الجاهلية ،
ويعلمهم القرآن والسنة والشرائع والأحكام وحكمتها ، وإن كانوا في جاهليتهم في ضلال
وخطأ واضح في العقيدة والتشريع والنظام ، إذ كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم
الخليل عليهالسلام ، فبدّلوه وغيّروه ، واستبدلوا بالتوحيد شركا ووثنية ،
وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله ، وكذلك أهل الكتاب قد بدّلوا كتبهم وحرّفوها ،
وغيّروها وأوّلوها.
فأرسل الله تعالى
رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بشرع كامل شامل لجميع الخلق ، لا إلى العرب وحدهم ، فيه
بيان جميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، والدعوة إلى ما يقرّبهم إلى
الجنة ورضا الله عنهم ، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى عليهم.
وتخصيص العرب
الأميين بالذكر ، لأنه صلىاللهعليهوسلم مبعوث إليهم خاصة وإلى الناس عامة ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ٢١ /
١٠٧] وقوله سبحانه : (قُلْ : يا أَيُّهَا
النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨].
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وبعث الله رسولا من العرب لأجيال آخرين من المؤمنين ،
سواء كانوا من العرب أو من غيرهم ، كالفرس والروم ، وهم من جاء بعد الصحابة من
المسلمين إلى يوم القيامة ، لم يلحقوا بهم في ذلك الوقت ، وسيلحقون بهم من بعد ،
والله هو القوي الغالب القاهر ذو العزّة والسلطان ، القادر على التمكين لأمة
الإسلام في الأرض ، وهو ذو الحكمة البالغة في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله وتدبير
خلقه.
روى الإمام أبو
عبد الله البخاري رحمهالله تعالى عن أبي هريرة رضياللهعنه قال : «كنا جلوسا عند النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأنزلت عليه سورة الجمعة ، فتلاها ،
فلما بلغ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ) قالوا : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا ،
وفينا سليمان الفارسي ، فوضع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يده على سلمان الفارسي ، ثم قال : لو كان الإيمان عند
الثريا لناله رجال من هؤلاء» . ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية ، وعلى عموم
بعثته صلىاللهعليهوسلم إلى جميع الناس ، لأنه فسر قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) بفارس ، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم
يدعوهم إلى الله عزوجل وإلى اتباع ما جاء به.
وروى ابن أبي حاتم
عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون
الجنة بغير حساب» ثم قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ)
يعني من يأتي من
أمة محمد صلىاللهعليهوسلم.
ثم أبان الله
تعالى أن الإسلام وبعثة محمد فضل منه ورحمة ، فقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي ذلك الإسلام والوحي وإعطاء النبوة العظيمة لمحمد صلىاللهعليهوسلم فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده ، والله صاحب الفضل
العظيم الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه ، وهو ذو المن العظيم على جميع خلقه في
الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة في الدنيا ، وفي الآخرة بمضاعفة الجزاء على الأعمال.
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات
الكريمات إلى ما يأتي :
١ ـ ينزه الله
ويمجده ويقرّ بوجوده ووحدانيته وقدرته جميع الكائنات في السموات والأرض.
__________________
٢ ـ الغاية من
بعثة الرسول صلىاللهعليهوسلم النبي الأمي ثلاثة أمور : هي تلاوة آيات القرآن التي فيها
الهدى والرشاد ، وجعل أمته أزكياء القلوب بالإيمان ، مطهرين من دنس الكفر والذنوب
ومفاسد الجاهلية ، وتعليم القرآن والسنة وما فيهما من شرائع وأحكام وحكم وأسرار.
٣ ـ كانت أمة
العرب قبل بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم في ضياع وشتات وذهاب عن الحق.
٤ ـ وجه الامتنان
بجعل النبي صلىاللهعليهوسلم نبيا أميا ثلاثة أسباب كما قال الماوردي : أحدها ـ موافقته
ما تقدمت به بشارة الأنبياء ، الثاني ـ مماثلة حاله لأحوال أمته ، فيكون أقرب إلى
موافقتهم ، الثالث ـ انتفاء سوء الظن عنه في تبليغه وتعليمه ما أوحي إليه من
القرآن والأسرار.
٥ ـ رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم غير خاصة بالعرب ، وإنما هي عامة للناس جميعا في زمنه ،
وفي الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ).
٦ ـ إن الإسلام
والوحي وبعثة النبي صلىاللهعليهوسلم فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. ولله الفضل الدائم على
الناس في غير ذلك كالمال الذي ينفق في الطاعة والصحة والمعونة المستمرة ، روى
البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : ذهب أهل الدّثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم ، فقال : وما ذاك؟ قالوا :
يصلّون كما نصلّي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ، ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أفلا أعلّمكم شيئا تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من
بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، قالوا : بلى يا رسول
الله ، قال : تسبّحون
__________________
وتكبّرون وتحمّدون
دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا
مثله. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)
.
حال اليهود مع التوراة وتمني الموت
(مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ
زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))
الإعراب :
(كَمَثَلِ الْحِمارِ
يَحْمِلُ أَسْفاراً) الكاف في (كَمَثَلِ) في موضع رفع ، لأنها في موضع خبر المبتدأ ، وهو (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا). و (يَحْمِلُ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، وتقديره : كمثل الحمار
حاملا أسفارا.
(بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ الَّذِينَ) إما في موضع رفع بتقدير مضاف محذوف ، تقديره بئس مثل القوم
مثل الذين كذبوا ، فحذف (مَثَلُ) المضاف المرفوع وأقيم المضاف إليه مقامه ، وإما في موضع جر
على أن يكون (الَّذِينَ) وصفا للقوم الذين كذبوا بآيات الله ، ويكون المقصود بالذم
محذوفا ، وتقديره : مثلهم أو هذا المثل.
__________________
(فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ مُلاقِيكُمْ) خبر (إِنْ) المرفوع ، ودخول الفاء : إما لأنها زائدة ، أو أنها غير
زائدة ، لتضمن (الَّذِي) معنى الشرط بسبب وقوعها وصفا ، فدخلت في خبر الفاء كما
تدخل في الشرط.
البلاغة :
(مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً) تشبيه تمثيلي ، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد ، أي مثلهم
في عدم الانتفاع بالتوراة ، كمثل الحمار الذي يحمل الكتب. وليس له إلا التعب.
(فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) بينهما طباق السلب.
(عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.
المفردات اللغوية
:
(حُمِّلُوا
التَّوْراةَ) كلفوا العمل بها ، من الحمالة : وهي الكفالة. (لَمْ يَحْمِلُوها) أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها ، فلم يؤمنوا بما
جاء فيها من نعته صلىاللهعليهوسلم. (أَسْفاراً) كتبا علمية عظيمة ، سميت أسفارا ، لأنها تسفر عن معناها
إذا قرئت. (بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) الذين كذبوا بآيات الله الدالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم. (الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) الكافرين.
(هادُوا) تهودوا. (أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أي أحبّاء له ، إذا كانوا يقولون : نحن أبناء الله
وأحباؤه. (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ) تمنوا من الله أن يميتكم. (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) تعلق هذا الشرط والشرط الأول وهو (إِنْ زَعَمْتُمْ) بقوله : (فَتَمَنَّوُا) على أن الشرط الأول قيد في الثاني ، أي إن صدقتم في زعمكم
أنكم أولياء الله ، والولي يؤثر الآخرة ، ومبدؤها الموت ، فتمنوه.
(بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) بسبب ما اقترفوا من الكفر والمعاصي ، ومن ذلك كفرهم بالنبي
صلىاللهعليهوسلم. (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ) الكافرين. (فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ) لا حق بكم لا تفوتونه. (عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) السر والعلانية. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يجازيكم عليه.
المناسبة :
بعد أن أثبت الله
تعالى التوحيد والنوبة ، وأخبر أنه بعث الرسول العربي الأمي إلى الأميين العرب ،
فقال اليهود : إنه صلىاللهعليهوسلم بعث إلى العرب خاصة ، ولم يبعث لنا بمفهوم الآية ، رد الله
عليهم بأنهم لم يعملوا بالتوراة ، وأنهم لو عملوا
بمقتضاها وما
تضمنته من البشارة بهذا الرسول ، لانتفعوا بها وآمنوا به ، ولم يقولوا هذا القول
أو يوردوا هذه الشبهة ، ومثلهم في عدم الانتفاع بتوراتهم وترك العمل بها مثل
الحمار الذي يحمل الكتب ، ولم يصبه إلا العناء والتعب.
ثم رد الله عليهم
قولا آخر وشبهة أخرى حين قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ٥ / ١٨] ، بأنه لو كان قولهم حقا وهم على ثقة ،
لتمنوا على الله أن يميتهم ، وينقلهم سريعا إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه ،
مع أنهم في الحقيقة لا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدّموا من الكفر وتحريف الآيات.
التفسير والبيان :
(مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً) أي إن شبه اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة ، بعد أن
كلّفوا القيام بها والعمل بما فيها ، فلم يعملوا بموجبها ، ولا أطاعوا ما أمروا به
فيها ، كشبه الحمار الذي يحمل الكتب الكبيرة على ظهره ، وهو لا يدري الفرق بين
الكتاب والزبل ، لأنه لا فهم له ، واليهود وإن كان لهم عقول وأفهام ، فإنهم لم
ينتفعوا بها فيما ينفعهم وفي إدراك الحقائق ، لأنهم حفظوا اللفظ ولم يتفهموه ، ولا
عملوا بمقتضاه بل أوّلوه وحرفوه وبدّلوه ، فهم أسوأ حالا من الحمير ، لأن الحمار
لا فهم له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ، لذا وصفهم تعالى بقوله : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ
أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٧٩].
وقال تعالى هنا مبينا قبح هذا المثل :
(بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) أي ما أقبح ما يمثل به للمكذبين ، وما أشنع هذا التشبيه ،
وهو تشبيه اليهود بحق بالحمار ، فلا تكونوا أيها المسلمون مثلهم ، والله لا يوفق
للحق والخير القوم الكافرين على العموم ، ومنهم اليهود بصفة أولى.
واختير الحمار في
هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة ، والذل والحقارة. وقد
فدم هذا تحذيرا
للذين تركوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على المنبر قائما يخطب وذهبوا إلى التجارة ، وشبيه به كل
من أعرض عن الخطبة ، وهو يسمعها كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من تكلّم يوم الجمعة ، والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار
يحمل أسفارا ، والذي يقول له : أنصت ، ليس له جمعة».
ثم ذم الله تعالى
اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة ذمّا آخر مناسبا للذم الأول ، لأن شأن من لم يعمل
بالكتاب أن يحب الحياة ، فقال :
(قُلْ : يا أَيُّهَا
الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل أيها الرسول : أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم
أولياء الله وأحباؤه من دون الناس ، وأنكم على هدى ، وأن محمدا صلىاللهعليهوسلم وأصحابه على ضلالة ، فاطلبوا الموت لتصيروا إلى الكرامة في
زعمكم ، وادعوا بالموت على الضال من الفئتين ، إن كنتم صادقين في هذا الزعم ، فإن
من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه الدار.
وقد ذكرت هذه
المباهلة (الملاعنة) وتحدي اليهود في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ ،
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة ٢ / ٩٤]. كما ذكرت مباهلة النصارى في قوله سبحانه
: (فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، فَقُلْ : تَعالَوْا نَدْعُ
أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ، وَأَنْفُسَنا
وَأَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى
الْكاذِبِينَ) [آل عمران ٣ / ٦١].
ومباهلة المشركين في قوله عزوجل : (قُلْ : مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم ١٩ / ٧٥].
أخرج الإمام أحمد
والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لعنه الله : إن رأيت
محمدا عند الكعبة ، لآتينه حتى أطأ على عنقه ،
قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا
الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلىاللهعليهوسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ، ولا مالا».
ثم كشف الله حقيقة
أمر اليهود الماديين الذين يحبون الحياة ويكرهون الموت ، وأنهم لن يتمنوه أبدا
لسوء أفعالهم ، فقال :
(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ
أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي لن يتمنى اليهود الموت أبدا على الإطلاق ، بسبب ما
عملوا من الكفر والمعاصي ، والتحريف والتبديل ، والله بالغ العلم ، واسع الاطلاع
على أحوال الكافرين ، فيجازيهم بما عملوا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. ويلاحظ أنه
قال هنا : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ
أَبَداً) بدون لفظ التأكيد ، وفي سورة البقرة قال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة ٢ / ٩٥]
بلفظ التأكيد ونفي المستقبل.
(قُلْ : إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي قل أيها النبي لهؤلاء اليهود : إن الموت الذي تهربون
منه ، وتأبون المباهلة فيه حبا في الحياة ، هو آت إليكم حتما من الجهة التي تفرون
منها ، ثم ترجعون بعد موتكم إلى الله عالم الغيب في السموات والأرض ، وعالم الحس
المشاهد فيهما ، فيخبركم بما أنتم عاملون من الأعمال القبيحة ، ويجازيكم عليها بما
أنتم له أهل. وهذا أيضا تهديد ووعيد ، ومبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار
من الموت.
ونظير الآية قوله
تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء ٤ / ٧٨].
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
ما يأتي ، مبيّنة ذم اليهود من ناحيتين :
١ ـ إن مثل اليهود
الذين تركوا العمل بالتوراة ، ولم يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم بالرغم من إخبار التوراة عنه ، كمثل الحمار الذي يحمل
الكتب الكبيرة ، ولا ينتفع بها ، وما أقبح هذا المثل الذي شبّهوا به ، والله لا
يوفق للحق كل من كان ظالما لنفسه ، كافرا بنعمة ربه.
٢ ـ إن كان اليهود
صادقين في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأصفياؤه ، فليطلبوا الموت ليصيروا إلى
ما يصير إليه أولياء الله ، لأن للأولياء عند الله الكرامة والحظوة.
٣ ـ لكن هؤلاء
اليهود لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ما أسلفوا من تكذيب محمد صلىاللهعليهوسلم ، فلو تمنوه لماتوا ، جاء في حديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال ـ لما نزلت هذه الآية : «والذي نفس محمد بيده ، لو
تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات». وفي هذا إخبار عن الغيب ، ومعجزة
للنبي صلىاللهعليهوسلم.
٤ ـ غير أنه تعالى
أخبر أن الموت الذي يفر منه هؤلاء اليهود بسبب ما قدمت أيديهم من تحريف الآيات
وغيره آت حتما لا محالة ، ولا ينفعهم الفرار ، ثم يرجعون إلى الله ربهم العالم بكل
شيء من أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم ، فيخبرهم بما فعلوا ، ويجازيهم بما عملوا.
فرضية صلاة الجمعة وإباحة العمل بعدها
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ
وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))
الإعراب :
(إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ) بمعنى (في) : في يوم الجمعة ، ويقرأ (الْجُمُعَةِ) بضم الميم وسكونها وفتحها ، بالضم على الأصل ، والسكون على
التخفيف ، والفتح على نسبة الفعل إليها ، كأنها تجمع الناس.
(وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) كنى عن أحدهما دون الآخر ، للعلم بأنه داخل في حكمه ،
كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة ٩ / ٣٤] وقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) [البقرة ٢ / ٤٥].
البلاغة :
(وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً) ثم قال : (قُلْ : ما عِنْدَ
اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) تفنن في العبارة ، فقدّم التجارة أولا ، لأنها المقصود
الأصلي ، ثم قدّم اللهو ، لأن الخسارة فيما لا نفع فيه أعظم ، فقدم المهم في كل
موضع.
(وَذَرُوا الْبَيْعَ) مجاز مرسل ، أطلق البيع ، وقصد جميع أنواع التعامل
والانشغال من بيع وشراء وإجارة وشركة وغيرها.
المفردات اللغوية
:
(نُودِيَ لِلصَّلاةِ) أذّن لها الأذان الثاني الذي كان يفعل أمام النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو جالس على المنبر قبل الخطبة. (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيان ل (إِذا) وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه
للصلاة ، وكانت
العرب تسميه (العروبة) أي الرحمة ، وأول من سماه جمعة كعب بن لؤي لاجتماع الناس
فيه إليه ، وأول جمعة جمعها رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قباء ، حينما قدم المدينة ، وصلى الجمعة في دار بني سالم
بن عوف. وأول من أقام الجمعة بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من
المدينة. قال ابن حجر : فرضت الجمعة بمكة ، ولم نقم بها لفقد العدد ، أو لأن
شعارها الإظهار ، وكان صلىاللهعليهوسلم بها مستخفيا .
(فَاسْعَوْا) فامشوا ، وعبّر بالسعي إشارة إلى أنه يطلب من المسلم
القيام للجمعة بهمّة ونشاط ، وجد وعزيمة ، لأن لفظ السعي يفيد الجد والعزم. (إِلى ذِكْرِ اللهِ) للصلاة. (وَذَرُوا الْبَيْعَ) اتركوا عقد البيع وسائر وجوه المعاملات. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي السعي إلى ذكر الله خير لكم من المعاملة ، فإن نفع
الآخرة خير وأبقى. (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) الخير والشر الحقيقيين ، فإن علمتم أنه خير فافعلوه.
(قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أدّيت وفرغ منها. (فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ) أي فتفرقوا ، وهو أمر بعد حظر ، فيفيد الإباحة لا الوجوب ،
واحتج به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. (وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللهِ) اطلبوا الرزق. (وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيراً) اذكروه في مجامعكم ومجالسكم ذكرا كثيرا. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون بخير الدارين.
(وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً) التجارة تشمل كل أنواع الكسب ، واللهو : الطبول والمزامير
ونحوها. (انْفَضُّوا إِلَيْها) انصرفوا إلى التجارة ، وإلى اللهو. (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على المنبر وأنت تخطب. (قُلْ : ما عِنْدَ
اللهِ) من الثواب. (خَيْرٌ) للذين آمنوا من اللهو ومن التجارة ، لأن ثواب الله محقّق
مخلّد ، بخلاف ما يتوهم من نفع اللهو والتجارة. (وَاللهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) فتوكلوا عليه واطلبوا الرزق منه ، فكل ما ييسر الله
للإنسان من رزق عائلته هو من رزق الله تعالى.
سبب النزول :
نزول الآية (١١):
(وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً ..) : أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي عن جابر
قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير قد
__________________
قدمت ، فخرجوا
إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً
انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).
وأخرج ابن جرير عن
جابر أيضا قال : كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكبر والمزامير ، ويتركون
النبي صلىاللهعليهوسلم قائما على المنبر ، وينفضّون إليها. وأخرج ابن المنذر عن
جابر أن الآية نزلت في الأمرين معا : قصة النكاح ، وقدوم العير معا من طريق واحد.
قال المفسرون :
أصاب أهل المدينة أصحاب الضرار جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بن خليفة الكلبي في
تجارة من الشام ، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومه ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يخطب يوم الجمعة ، فخرج إليه الناس ، فلم يبق في المسجد
إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : والذي نفس محمد بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق أحد منكم ،
لسال بكم الوادي نارا .
المناسبة :
بعد أن بيّن الله
تعالى أن اليهود يفرون من الموت حبا في الدنيا وطيباتها ، أراد تعالى أن يربي
المؤمنين ويوجههم للعمل في الدنيا ولما ينفع أيضا في الآخرة ، وهو حضور الجمعة ،
لأن الدنيا ومتاعها فانية ، والآخرة وما فيها باقية ، قال تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى ٨٧ / ١٧]. ثم ندّد تعالى بترك النبي صلىاللهعليهوسلم وهو على المنبر يخطب ، منصرفين للهو أو للتجارة ، فمنهم من
انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته ، ومنهم من انفض إلى التجارة مع الحاجة إليها
والانتفاع بها.
ثم أباح تعالى
السعي في العمل ومكاسب الدنيا عقب انتهاء صلاة الجمعة ، قال تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص ٢٨ / ٧٧].
__________________
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ ، وَذَرُوا الْبَيْعَ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي يا أيها المؤمنون بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، إذا أذّن لصلاة الجمعة الأذان الثاني بعد أن يجلس الخطيب
على المنبر ، لأنه الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أما الأذان الأول فقد زاده عثمان رضياللهعنه بمحضر الصحابة لما اتسعت المدينة ، وذلك على الزّوراء (أعلى
دار كانت بالمدينة قرب المسجد) وسمي أذانا ثالثا إضافة إلى الإقامة ، كما قال صلىاللهعليهوسلم فيما رواه الجماعة عن عبد الله بن مغفّل : «بين كل أذانين
صلاة لمن شاء» يعني الأذان والإقامة.
إذا أذن للجمعة ،
فبادروا إلى السعي أو المضي إلى ذكر الله وهو الخطبة وصلاة الجمعة في المساجد
الجامعة ، بعد الإعداد لذلك والتهيؤ للصلاة بالغسل والوضوء والطيب واللباس الجديد
أو النظيف الأبيض ونحوها ، واتركوا البيع وسائر أوجه المعاملات من إجارة وشركة
ونحوهما ، وذلكم السعي إلى ذكر الله وترك البيع خير من فعل البيع وترك السعي ، لما
في الامتثال من الأجر والجزاء ، إن كنتم من أهل الدراية والعلم الصحيح بما ينفع ،
فإنه لا يخفى عليكم أن ذلك خير لكم. ولفظ (من) إما بمعنى (في) أو تبعيضية. وخص
البيع بالذكر ، لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش ، وفيه
إشارة إلى ترك جميع أنواع التجارة.
وتخصيص الجمعة
بفريضتها تشريع للمسلمين في مقابل السبت عند اليهود. وليس المراد بالسعي في الآية
المشي السريع ، وإنما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها
سَعْيَها ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...) [الإسراء ١٧ / ١٩].
فأما المشي السريع إلى الصلاة ، فقد نهي عنه ، لما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما
عن أبي هريرة رضياللهعنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا سمعتم الإقامة ، فامشوا إلى
الصلاة ، وعليكم
السكينة والوقار ، ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا».
وأخرج الشيخان
أيضا عن أبي قتادة قال : بينما نحن نصلي مع النبي صلىاللهعليهوسلم إذ سمع جلبة رجال ، فلما صلى قال : ما شأنكم؟ قالوا : استعجلنا إلى الصلاة ،
قال : فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة ، فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا
، وما فاتكم فأتموا».
وأخرج الترمذي عن
أبي هريرة رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أقيمت الصلاة ، فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها
تمشون ، وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا».
ثم أباح الله
تعالى العمل والسعي للدنيا بعد الصلاة ، فقال :
(فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ ، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ،
وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إذا أديتم الصلاة وفرغتم منها ، فيؤذن ويباح لكم
الانتشار والتفرق في الأرض للتجارة والتصرف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم ،
والابتغاء ، أي الطلب من فضل الله أي من رزقه الذي يتفضل به على عباده من الأرباح
في المعاملات والمكاسب ، ولا تنسوا في أثناء عملكم وبيعكم وشرائكم أن تذكروا الله
ذكرا كثيرا بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي ، وبالاذكار
التي تقربكم إليه ، كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك ، كي تفوزوا
بخير الدارين وتظفروا به.
وفي هذا دلالة على
أن عمل المؤمن للدنيا ينبغي أن يكون مصحوبا بذكر الله تعالى ومراقبته ، حتى لا
يطغى عليه حبها ، وآن في مراقبة الله تعالى تحقيق الفوز والنجاح في الدنيا
والآخرة.
__________________
كان عراك بن مالك رضياللهعنه إذا صلى الجمعة ، انصرف ، فوقف على باب المسجد ، فقال :
اللهم إني أجبت دعوتك ، وصلّيت فريضتك وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك ،
وأنت خير الرازقين .
وجاء في الحديث : «من
دخل سوقا من الأسواق ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله
الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة»
.
ثم عاتب الله
تعالى على ما وقع من المؤمنين من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى اللهو أو
التجارة القادمة إلى المدينة ، فقال :
(وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ، وَتَرَكُوكَ قائِماً ، قُلْ : ما
عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ ، وَاللهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) أي وإذا رأى هؤلاء المصلّون المؤمنون وهم في الجامع
يستمعون إلى الخطبة إبلا محملة بتجارة قادمة من بلد آخر ، أو رأوا لهوا كقرع
الطبول وزمر المزامير احتفالا بزواج أو غيره ، تفرقوا خارجين إلى ذلك ، وتركوك
أيها النبي قائما على المنبر وأنت تخطب ، قل أيها الرسول لهم مخطّئا ما عملوا : ما
عند الله من الجزاء والثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة
اللذين ذهبتم إليهما ، وتركتم البقاء في المسجد وسماع خطبة النبي صلىاللهعليهوسلم لأجلها ، والله هو خير الرازقين ، فمنه اطلبوا الرزق ،
وإليه توسلوا بعمل الطاعة ، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه ، والله
يرزق من توكل عليه ، وطلب الرزق في وقته ، وهو كفيل برزق العباد ، ولن يحرم أحد
رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وكلمة (إِذا) مستعملة في الماضي. ولما كان العطف بأو بين قوله : (تِجارَةً أَوْ لَهْواً) صح مجيء الضمير في (إِلَيْها) مفردا. وقوله : (وَاللهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.
__________________
وقد عرفنا أن سبب
نزول هذه الآية أنه كان بالمدينة فاقة وحاجة ، فأقبل دحية الكلبي بتجارة إلى الشام
، والنبي صلىاللهعليهوسلم يخطب يوم الجمعة ، فانفتل الناس إليها ، حتى لم يبق إلا
اثنا عشر رجلا في المسجد ، وسبع نسوة. وترك بعضهم الخطبة إلى سماع اللهو ، فكان
الترديد في قوله : (تِجارَةً أَوْ
لَهْواً) للدلالة على أن منهم من انفض بمجرد سماع الطبل ورؤيته ،
ومنهم من انفض إلى التجارة للحاجة إليها والانتفاع بها.
فقه الحياة أو
الأحكام :
يؤخذ من الآيات
الأحكام التالية :
١ ـ صلاة الجمعة
فرض والسعي إليها فرض أيضا ، لأنه لا يمكن أداؤها جماعة في المسجد إلا به. والخطاب
في قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) خاص بالمكلفين بالإجماع ، فلا يطالب بالجمعة المرضى
والزّمنى والمسافرين والعبيد والنساء ، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد
عند أبي حنيفة ، لما أخرجه الدار قطني عن جابر : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فعليه الجمعة يوم
الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك ، فمن استغنى بلهو أو تجارة
استغنى الله عنه ، والله غني حميد».
وقال علماء
المالكية وغيرهم : ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر ، لا يمكنه
منه الإتيان إليها ، مثل المرض الحابس ، أو خوف الزيادة في المرض ، أو خوف جور
السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن
لم ينقطع.
٢ ـ يختص وجوب
الجمعة على القريب الذي يسمع النداء ، أما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا
يدخل تحت الخطاب في قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ).
٣ ـ دل قوله تعالى
: (إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء ، والنداء لا يكون إلا
بدخول الوقت ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن مالك بن
الحويرث : «إذا حضرت الصلاة ، فأذّنا ، ثم أقيما وليؤمّكما أكبركما». وروى البخاري
عن أنس بن مالك أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس.
وروي عن أبي الصّديق
وأحمد بن حنبل أنها تصلّى قبل الزوال ، وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع : «كنا
نصلّي مع النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم ننصرف ، وليس للحيطان ظل» بحديث ابن عمر وسهل : «ما
كنا نقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة».
ومذهب الجمهور من
الخلف والسلف ما رواه البخاري فيما تقدم ، وما رواه وكيع عن يعلى بن إياس عن أبيه
قال : «كنا نجمّع مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا زالت الشمس ، ثم نرجع نتتبع الفيء». وقياسا على صلاة
الظهر.
وحديث ابن عمر
وسهل دليل على أنهم كانوا يبكّرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها ،
فلا يتناولون الغداء إلا بعد انقضاء الصلاة ، وقد جاء في البخاري ومسلم ما يفيد
استحباب التبكير إلى الجمعة ، وذلك ما روياه عن أبي هريرة رضياللهعنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجمعة ، ثم راح في الساعة
الأولى ، فكأنما قرّب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة ، ومن راح
في الساعة الثالثة ، فكأنما قرّب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة ، فكأنما
قرّب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت
الملائكة يستمعون الذّكر».
والتبكير محمول
عند أغلب العلماء على ساعات النهار الزمانية ، لحديث ابن عمر المتقدم : «ما كانوا
يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها».
__________________
ورأى مالك أن
التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. قال ابن العربي : والقول الأول أصح.
٤ ـ الجمعة فرض
عيني على كل مسلم ، وهو رأي جماهير الأمة والأئمة ، لقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) وثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله
على قلوبهم ، ثم ليكوننّ من الغافلين». وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها
على الأعيان. وفي سنن ابن ماجه عن أبي الجعد الضّمري الصحابي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها ، طبع الله على
قلبه». وثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم».
٥ ـ أوجب الله
السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع
الصلوات ، لقوله عزوجل : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..) [المائدة ٥ / ٦] وقال النبي صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة : «لا
يقبل الله صلاة بغير طهور».
أما غسل الجمعة
فهو سنة أو مستحب لا فرض ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» وفيهما أيضا عن أبي
سعيد الخدري رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم». وفي صحيح مسلم عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «حقّ لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل
رأسه وجسده» وفيه أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ، ثم راح إلى الجمعة ،
فاستمع وأنصت ، غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة ، وزيادة ثلاثة أيام ، ومن
مسّ الحصى فقد
لغا» . وهذا نص في عدم فرضية الغسل. وروى النسائي وأبو داود في
سننهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل
أفضل».
ويستحب أيضا لمن
آتى الجمعة أن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويتسوك ويتنظف ويتطهر ، لحديث أبي سعيد
المتقدم :
«غسل يوم الجمعة
واجب على كل محتلم ، والسواك ، وأن يمس من طيب أهله» وروى أحمد عن أبي أيوب
الأنصاري :
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب أهله إن كان عنده
، ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج حتى يأتي المسجد ، فيركع إن بدا ولم يؤذ أحدا ، ثم
أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى».
٦ ـ لا تسقط
الجمعة لكونها في يوم عيد ، خلافا لأحمد بن حنبل ، فإنه قال : إذا اجتمع عيد وجمعة
، سقط فرض الجمعة ، لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عليها ، ولما روي أن عثمان
أذن في يوم عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة. لكن قول الواحد من الصحابة ليس بحجة
إذا خولف فيه ، ولم يجمع معه عليه ، والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر
الأيام. وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه : أنه إذا اجتمع العيد
والجمعة في يوم واحد ، يقرأ بالأعلى والغاشية أيضا في الصلاتين.
٧ ـ اختلف العلماء
في أول جمعة صليت في الإسلام ، فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين قال
: جمّع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلىاللهعليهوسلم ،
__________________
وقبل أن تنزل
الجمعة ، قالت الأنصار : لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك
، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه ، فنذكر الله تعالى ، ونشكره ، فقالوا : يوم
السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، وكانوا يسمون الجمعة
بذلك ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة ، فصلى بهم يومئذ ركعتين ، وذكرهم ، فسموه (الجمعة)
حين اجتمعوا إليه. فذبح لهم شاة ، فتغذوا وتعشوا منها ، وذلك لعامتهم ، فأنزل الله
تعالى ، في ذلك بعد : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) الآية .
وقيل : إن أول من
جمع بالناس مصعب بن عمير ، وجمع بين الروايتين بأن جمع أسعد
كان بغير أمر
الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وجمع مصعب كان بأمره.
والصحيح أن أول
جمعة كانت هي صلاة النبي صلىاللهعليهوسلم بعد قدومه إلى المدينة بأربعة أيام ، حيث أدركه وقتها في
بني سالم بن عوف ، فصلّاها في بطن واد لهم ، حيث خطب صلىاللهعليهوسلم ، وصلى بالناس.
أخرج ابن ماجه عن
جابر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطب ، فقال : «إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا ،
في يومي هذا ، في شهري هذا ، في عامي هذا ، إلى يوم القيامة ، فمن تركها استخفافا
بها ، أو جحودا بها ، فلا جمع الله شمله ، ولا بارك في أمره ، ألا ولا صلاة له ،
ولا زكاة له ، ولا حج له ، ولا صوم له ، ولا برّ له حتى يتوب ، فمن تاب تاب الله
عليه». قال الألوسي : فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة ، بل ظاهر الخبر
أنها بعد الهجرة بكثير ، إذ ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام فيه : «لا حج له» أن
الحج كان مفروضا إذ ذاك ، والأصح أنه فرض في السنة السادسة ، فإما أن يقدح في صحة
الحديث ، وإما أن يقال : مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة ، أي بهذا القيد .
__________________
٨ ـ الصحيح أن
السعي إلى ذكر الله واجب ، وذكر الله يشمل الصلاة والخطبة والمواعظ ، ورأى الحنفية
أنه لا يشترط في الخطبة اشتمالها على ما يسمى خطبة عرفا ، لأنه ورد الذكر في الآية
مطلقا غير محدود ، ومن غير تفصيل بين كون الذكر طويلا أو قصيرا ، فكان الشرط هو
الذكر مطلقا ، وما ورد من الآثار مشتملا على بيان كيفية الخطبة يدل على السنية أو
الوجوب ، ولا يصلح دليلا على أنه لا يجوز الصلاة إلا بالخطبة.
ورأى العلماء
الآخرون أن الخطبة واجبة ، لأنها تحرّم البيع ، ولولا وجوبها ما حرّمته ، لأن المستحب
لا يحرّم المباح. واشترط الشافعية أن يأتي الخطيب بخطبتين بشروط خاصة ، بآثار وردت
في ذلك.
وأجمع العلماء على
اشتراط العدد في صلاة الجمعة ، لأنها ما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع.
واختلفوا في أقل عدد تنعقد به الجمعة ، على أقوال كثيرة ، بلغت ثلاثة عشر قولا.
منها : أن يكون العدد في رأي أبي حنيفة ومحمد ثلاثة رجال سوى الإمام ، ولو كانوا
مسافرين أو مرضى ، لأن أقل الجمع الصحيح إنما هو الثلاث ، والجماعة شرط مستقل في
الجمعة ، لقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ) والجمعة مشتقة من الجماعة ، ولا بدّ لهم من خطيب.
واشترط المالكية
حضور اثني عشر رجلا للصلاة والخطبة ، على أن يكون العدد من أهل البلد ، وأن يبقوا
مع الإمام من أول الخطبة حتى السلام ، لأنه لم يبق مع النبي صلىاللهعليهوسلم من الصحابة الذين خرجوا للهو أو للتجارة إلا اثنا عشر
رجلا.
وقال الشافعية والحنابلة
: تقام الجمعة بحضور أربعين فأكثر بالإمام من أهل القرية المكلفين الأحرار الذكور
المستوطنين ، لا مسافرين ، لكن يجوز كون الإمام مسافرا إن زاد العدد عن الأربعين ،
لما روى البيهقي عن ابن مسعود أنه
صلىاللهعليهوسلم جمّع بالمدينة ، وكانوا أربعين رجلا. ولم يثبت أنه صلىاللهعليهوسلم صلى بأقل من أربعين ، فلا تجوز بأقل منه.
٩ ـ منع الله
تعالى البيع عند صلاة الجمعة ، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها ، والمراد
من البيع المعاملة مطلقا ، فيشمل النهي كل ما يشغل عن الصلاة من شركة وإجارة وزواج
ونحوها ، فهو مجاز عن ذلك كله ، وخص البيع ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق.
أما من لا يجب عليه حضور الجمعة ، فلا ينهى عن البيع والشراء ونحوهما. والأمر في
قوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) للوجوب عند أكثر العلماء ، فيكون الاشتغال بهذه الأشياء
محرما عند الجمهور ، وذلك من حين صعود الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة ،
وهو مكروه تحريما عند الحنفية.
والبيع صحيح منعقد
لا يفسخ عند الحنفية والشافعية ، لأنه لم يحرم لعينه أي ليس النهي متوجها نحو خصوص
البيع ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو متوجه نحو ترك الجمعة ، فكان
كالصلاة في الأرض المغصوبة ، والوضوء بماء مغصوب. وهو فاسد لا يصح عند الحنابلة ،
والصحيح المشهور عند المالكية : أنه يفسخ ، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه
أحمد ومسلم عن عائشة : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» فكل أمر يشغل عن
الجمعة من العقود كلها هو حرام شرعا ، مفسوخ ردعا.
١٠ ـ السعي إلى
ذكر الله ، وترك الأعمال من أجله خير للمؤمنين وأنفع من المنافع الدنيوية ، فإن
كانوا من أهل العلم ، عرفوا أن امتثال أوامر الله في الذهاب إلى الجمعة ،
والانتفاع بالمواعظ ، خير لهم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيبصرهم الإمام
بما فيه الخير والنجاة من الأذى ، وأما في الآخرة فإنهم يفوزون برضا الله عنهم ،
حيث امتثلوا أوامره.
١١ ـ يباح عقب
الفراغ من الصلاة الانتشار في الأرض للتجارة والتصرف في الحوائج ، والابتغاء من
رزق الله وفضله ، لقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) [المائدة ٥ / ٢]. وهذا
أمر بعد الحظر ، فهو للإباحة ، فلا يطلب من الإنسان الخروج من المسجد بعد الصلاة
لا وجوبا ولا ندبا.
١٢ ـ نبّه الله
تعالى بقوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيراً) على ذكر الله بالطاعة واللسان ، وبالشكر على ما أنعم به
على الإنسان من التوفيق لأداء الفرائض ، وفي وقت الاشتغال بالأعمال وعدم الاكتفاء
بالذكر الذي حصل في صلاة الجمعة ، ليتحقق الفوز بخير الدارين. قال سعيد بن المسيب
: الذكر طاعة الله تعالى ، فمن أطاع الله فقد ذكره ، ومن لم يطعه فليس بذاكر ، وإن
كان كثير التسبيح.
١٣ ـ انفض الناس
أثناء خطبة النبي صلىاللهعليهوسلم للتجارة أصالة ، وللهو والفرح بمجيء التجارة تبعا ، فعاد
الضمير للتجارة في قوله : (إِلَيْها).
١٤ ـ استدل
العلماء بقوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على مشروعية القيام أثناء الخطبة ، وهو أمر متفق عليه ،
ثبت في السنة أن النبي صلىاللهعليهوسلم ما خطب إلا قائما ، وكذلك الخلفاء من بعده ، واستمر الأمر
هكذا إلى زمن بني أمية حيث وجد منهم من استهان بأمر الخطبة ، فخطب جالسا ، وأول من
خطب جالسا معاوية رضياللهعنه ، حينما كان عاجزا عن القيام.
والقيام في الخطبة
سنة عند الحنفية ، فلو خطب الإمام قاعدا ، جاز ، لحصول المقصود ، إلا أنه يكره
لمخالفته الموروث ، وهو واجب غير شرط عند المالكية ، فإن جلس أتم خطبته وصحت ،
وشرط لا تصح إلا به عند الشافعية والحنابلة ، اتباعا للسنة. وهذه أحكام في الخطبة
مأخوذة من السنة :
__________________
أ ـ تصح الجمعة
بغير إذن الإمام وحضوره ، لأن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما ، فصلى ابن
مسعود بالناس من غير إذنه ، وروي أن عليا صلّى الجمعة يوم حوصر عثمان ، ولم ينقل
أنه استأذنه ، وروي أيضا أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة ، صلى
أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان.
واشترط أبو حنيفة
وجود الإمام أو خليفته أو إذنه ، لأن كل تجمع يتطلب الإذن بالحضور ، ولأنه لا يحصل
معنى الاجتماع إلا بالإذن ، ولأن الجمعة من شعائر الإسلام وخصائص الدين ، فلزم
إقامتها بطريق الاشتهار.
ب ـ واشترط
المالكية لأداء الجمعة أن تكون في المسجد المسقّف ، لقوله تعالى : (طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [الحج ٢٢ / ٢٦].
وقوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النور ٢٤ / ٣٦]. وحقيقة البيت عرفا أن يكون ذا حيطان
وسقف. وكذلك اشترط الحنفية أن تكون في مصلى المصر. ولم يشترط الشافعية والحنابلة
إقامة الجمعة في مسجد ، واتفق الكل على أن تكون في بلد.
ج ـ يرى جمهور
العلماء أن الخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها ، لقوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) وهذا ذم ، والواجب : هو الذي يذم تاركه شرعا ، ثم إن النبي
صلىاللهعليهوسلم لم يصلها إلا بخطبة. وقال سعيد بن جبير : هي بمنزلة
الركعتين من صلاة الظهر ، فإذا تركها وصلى الجمعة ، فقد ترك الركعتين من صلاة
الظهر.
وقال الحسن البصري
وابن الماجشون : إنها سنة مستحبة ، وليست بفرض.
د ـ يخطب الخطيب
متوكئا على قوس أو عصا ، روى ابن ماجه في سننه عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا خطب في الحرب ، خطب على قوس ، وإذا خطب في الجمعة
، خطب على عصا.
ه ـ يرى جمهور
العلماء أن الخطيب يسلّم إذا صعد المنبر على الناس ، لما روى ابن ماجه عن جابر بن
عبد الله : أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا صعد المنبر سلّم. وليس السلام سنة عند مالك.
و ـ الطهارة من
الحدثين في الخطبة شرط عند الشافعي في الجديد ، وليست شرطا عند الجمهور ، فإن خطب
الإمام على غير طهارة أساء عند مالك ، وصحت الخطبة ، ولا إعادة عليه إذا صلّى
طاهرا.
ز ـ ذهب أكثر
الفقهاء إلى أن أقل ما يجزئ في الخطبة : أن يحمد الله تعالى ، ويصلي على نبيه صلىاللهعليهوسلم ، ويوصي بتقوى الله ، ويقرأ آية من القرآن ، ويجب في
الثانية أربع كالأولى ، إلا أن الواجب هو الدعاء بدلا من قراءة الآية في الأولى.
وذهب أبو حنيفة
إلى أنه لو اقتصر الإمام على التحميد أو التسبيح أو التكبير ، أجزأه ، روي عن
عثمان رضياللهعنه أنه صعد المنبر ، فقال : الحمد لله ، وأرتجّ عليه ، فقال :
إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا ، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم
إلى إمام قوّال ، وستأتيكم الخطب ، ثم نزل فصلى ، وكان ذلك بحضرة الصحابة ، فلم
ينكر عليه أحد.
ح ـ ما يذكر في
الخطبة : روى مسلم في صحيحة عن أخت عمرة بنت عبد الرحمن قالت : ما أخذت (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا من في رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الجمعة ، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. وروى
أيضا عن يعلى بن أميّة أنه سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ على المنبر : (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ..)
[الزخرف ٤٣ / ٧٧].
وفي مراسيل أبي
داود عن الزّهري قال : كان صدر خطبة النبي صلىاللهعليهوسلم : «الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ به من
شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله
إلا الله ، وأن محمدا
عبده ورسوله ،
أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن
يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ، ويتّبع رضوانه
ويجتنب سخطه ، فإنما نحن به وله».
وعن الزهري قال :
بلغنا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه كان يقول إذا خطب : «كل ما هو آت قريب ، ولا بعد لما
هو آت. لا يعجل الله لعجلة أحد ، ولا يخفّ لأمر الناس. ما شاء الله ، لا ما شاء
الناس. يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا ، ما شاء الله كان ولو كره الناس. ولا
مبعد لما قرّب الله ، ولا مقرّب لما بعّد الله. لا يكون شيء إلا بإذن الله جلّ وعز».
وقال جابر : كان
النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الجمعة يخطب ، فيقول بعد أن يحمد الله ويصلّي على
أنبيائه : «أيها الناس ، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم نهاية
فانتهوا إلى نهايتكم. إن العبد المؤمن بين مخافتين : بين أجل قد مضى لا يدري ما
الله قاض فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه. فليأخذ العبد من نفسه
لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل الممات. والذي
نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم».
ط ـ يجب وجوب سنة
السكوت للخطبة على من سمعها ، والسنة أن يسكت الجميع ، من سمع ومن لم يسمع ، وهما
إن شاء الله في الأجر سواء ، ومن تكلم حينئذ لغا ، ولا تفسد صلاته بذلك. عن أبي
هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا قلت لصاحبك : أنصت يوم الجمعة ، والإمام يخطب ،
فقد لغوت» .
__________________
ي ـ يستقبل الإمام
الناس إذا صعد المنبر ، اتباعا لفعل النبي صلىاللهعليهوسلم ، كما جاء في سنن أبي داود مرسلا وسنن ابن ماجه متصلا ،
وعند أبي نعيم الحافظ.
ك ـ يرى الجمهور
أن من دخل المسجد والإمام يخطب ركع ركعتين ، لما أخرج مسلم في صحيحة عن جابر عن
النبي صلىاللهعليهوسلم : «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة ، والإمام يخطب ، فليركع
ركعتين ، وليتجوّز فيهما». ولا يركع في رأي مالك وابن شهاب الزهري ، لأن خروج
الإمام يقطع الصلاة ، وكلامه يقطع الكلام.
ل ـ يكره النوم
والإمام يخطب ، عن سرمة بن جندب أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا نعس أحدكم فليتحوّل إلى مقعد صاحبه ، وليتحول
صاحبه إلى مقعده» .
م ـ فضل الجمعة : روى
الأئمة عن أبي هريرة رضياللهعنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر يوم الجمعة ، فقال : «وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم ،
وهو يصلي ، يسأل الله عزوجل شيئا إلا أعطاه إياه» وأشار بيده يقلّلها . وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة».
١٥ ـ ما عند الله
من ثواب الصلاة خير من لذة اللهو وفائدة التجارة ، وكذلك ما عند الله من الرزق
المقسوم للإنسان خير مما يصاب باللهو والتجارة ، والله خير من رزق وأعطى ، فهو
الذي يقدر الأقوات وييسرها ، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء ، فما يصح لإنسان إهمال
عبادة الله من أجل شيء ، فإن ما يكون له سوف يأتيه ، ولو على ضعفه ، وما لغيره لن
يناله بقوّته ، ولن يفيد منه إلا الإسراع إليه ، والجري وراءه. وعلى الإنسان طلب
الرزق من ربه ، والاستعانة بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة.
__________________
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المنافقون
مدنيّة ، وهي إحدى
عشرة آية.
تسميتها
:
سميت سورة (المنافقون)
لافتتاحها بذلك ، وتحدثها عن أوصاف المنافقين ، ومواقفهم المعادية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وللمؤمنين.
مناسبتها لما
قبلها :
تبدو صلة هذه
السورة بما قبلها بعقد مقارنة وإجراء تقابل بين المؤمنين والمنافقون ، ففي سورة
الجمعة ذكر المؤمنون ، وفي هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون ، لذا أخرج الطبراني في
الأوسط عن أبي هريرة : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ في الجمعة سورة الجمعة ، يحرّض بها المؤمنين ،
وسورة المنافقين يقرّع بها المنافقين.
كما أن سورة
الجمعة مشتملة على ذكر من كان يكذب ببعثة الرسول صلىاللهعليهوسلم قلبا ولسانا وهم اليهود ، وتذكر هذه السورة من كان يكذبه
قلبا دون اللسان ويصدقه لسانا دون القلب ، وهم المنافقون.
ما اشتملت عليه
السورة :
موضوع هذه السورة
كسائر السور المدنية هو الحديث عن التشريعات والأحكام وما تمخض عنه مجتمع المدينة
بعد الهجرة من بروز ظاهرة النفاق.
وابتدأت السورة
بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان ، وحلف الأيمان
الفاجرة الكاذبة ، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى المؤمنين ، وصدهم الناس عن دين الله.
ثم ذكرت موقفهم
المخزي والمستعلي وهو ادعاؤهم العزة وزعمهم بأنهم بعد العودة من غزوة بني المصطلق
سيخرجون الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين من المدينة.
وختمت السورة بحثّ
المؤمنين على التضامن والطاعة وعبادة الله ، وإنفاق الأموال في سبيل الله لمواجهة
الأعداء في الداخل والخارج ، قبل انقضاء الأجل أو فوات الأوان ، فإن الأجل لا
يتأخر لحظة.
أقبح أوصاف المنافقين في ميزان الشرع
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))
الإعراب :
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ) عامل (إِذا) هو (جاءَكَ) وإنما جاز أن يعمل فيها وإن كان مضافا إليه ، لأن (إِذا) فيها معنى الشرط ، والشرط يعمل فيه ما بعده ، لا ما قبله.
(قالُوا : نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ..) الآية ، إنما كسرت (إن) في الآية في المواضع الثلاثة ،
لمكان لام التأكيد في الخبر ، لأنها في تقدير التقدم ، فعلّقت الفعل عن العمل.
(خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) يقرأ بضم الشين وسكونها ، فمن قرأ بالضم فعلى الأصل ، ومن
قرأ بالسكون فعلى التخفيف ، كأسد وأسد.
(ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ ما) : إما موصولة في موضع رفع فاعل (ساءَ). و (يَعْمَلُونَ) جملة فعلية صلتها ، والعائد محذوف تقديره : يعملونه ، فحذف
الهاء تخفيفا. وإما مصدرية في موضع رفع أيضا ب (ساءَ) ولا عائد لها ، وقيل : (ما) نكرة موصوفة في موضع نصب ، و (كانُوا يَعْمَلُونَ) صفتها ، والعائد إلى الموصوف من الصفة محذوف ، كما هو
محذوف من الصلة.
البلاغة :
(وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) تأكيد بالقسم وإنّ واللام ، زيادة في التقرير ، وتأكيد
علمهم بهذا الخبر.
(وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) جملة اعتراضية بنى الشرط وجوابه ، لدفع توهم أن التكذيب
لقولهم في حد ذاته.
(اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) استعارة ، استعار لفظ (جُنَّةً) وهي كالترس ، للتظاهر بالإسلام الذي يعصم الدم والمال.
(آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا) بينهما طباق.
(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ) تشبيه مرسل مجمل.
(قاتَلَهُمُ اللهُ) جملة دعائية عليهم باللعنة والهلاك.
المفردات اللغوية
:
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ) إذا حضروا مجلسك ، والمنافق : من يظهر الإسلام ويبطن
الكفر. (قالُوا) بألسنتهم خلافا لما في قلوبهم. (نَشْهَدُ) الشهادة : إخبار عن علم من الشهود.
(وَاللهُ
يَشْهَدُ) يعلم. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
لَكاذِبُونَ) لأنهم لم يعتقدوا بالرسالة أصلا ، فهم كاذبون فيما أضمروه
خلافا لما قالوه.
(جُنَّةً) وقاية وسترا من القتل والسبي وأخذ الأموال. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صدوا بالأيمان عن الجهاد في سبيل الله. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من نفاق وصدّ. (ذلِكَ) أي سوء أعمالهم. (آمَنُوا) باللسان. (ثُمَّ كَفَرُوا) بالقلب ، بمعنى أنهم استمروا على كفرهم به. (فَطُبِعَ) ختم ، حتى تمرنوا على الكفر واستحكموا فيه. (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حقيقة الإيمان ولا يعرفون صحته.
(تُعْجِبُكَ
أَجْسامُهُمْ) لضخامتها وجمالها. (تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ) لفصاحتهم وذلاقتهم وحلاوة كلامهم. (خُشُبٌ) جمع خشباء : وهي الخشبة المنخور جوفها. (مُسَنَّدَةٌ) منصوبة مسندة إلى الجدار. (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) يظنون أن كل صوت واقع بهم لجبنهم وهلعهم. (هُمُ الْعَدُوُّ) الضمير للكل ، والعدو يطلق على الجمع والمفرد. (قاتَلَهُمُ اللهُ) لعنهم وطردهم من رحمته ، وأهلكهم. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق والإيمان بعد قيام البرهان.
التفسير والبيان :
يخبر الله تعالى
عن المنافقين أنهم ينطقون بالإسلام إذا جاؤوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهم في الحقيقة على الضد من ذلك ، فيقول :
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي إذا قدم المنافقون إليك يا رسول الله مثل عبد الله بن
أبي وصحبه ، وحضروا مجلسك ، أظهروا لك الإسلام ، وقالوا : نشهد إنك لرسول الله
شهادة تتطابق فيها القلوب مع الألسنة ، والله يعلم أن الأمر كما قالوا ، وأنك رسول
الله إلى الناس كافة ، والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم : نشهد ، وفيما أخبروا
عنه وهو الشهادة بالرسالة التي هي حق ، لأنهم لم يكونوا يعتقدون صدق وصحة ما
يقولون ، ولا تطابق بين ما عليه قلوبهم مع ما أعلنته ألسنتهم ، ولهذا كذبهم
بالنسبة إلى اعتقادهم ، وأن شهادتهم لم تكن شهادة في الحقيقة ، فهم كاذبون في
تسمية شهادة.
وقولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) فيه تأكيد شهادتهم ، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم ،
مع صدق اعتقادهم ، ومعنى (نَشْهَدُ) نعلم ونحلف. وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) جملة اعتراضية مخبرة أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهي تصديق من الله عزوجل لما تضمنه كلامهم من الشهادة لمحمد صلىاللهعليهوسلم بالرسالة ، لئلا يتوهم كون التكذيب الآتي بعدئذ موجها إلى
ذلك. وقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) يراد به تكذيب دعواهم أن شهادتهم للنبي صلىاللهعليهوسلم هي من صميم القلب.
ثم أخبر الله
تعالى عن استخدام الأيمان لإثباتهم ما يقولون ، وإقناع الناس بصدقهم ، فقال :
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ
جُنَّةً ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنهم جعلوا أيمانهم الكاذبة التي حلفوها وقاية وسترا
لصون دمائهم من القتل ، وأنفسهم من الأسر ، وأموالهم من الأخذ ، حتى لا تطبق عليهم
أحكام الكفار من القتل والأسر واغتنام المال ، فاغترّ بهم من لا يعرف حقيقة أمرهم
، فاعتقدوا بأنهم مسلمون ، فاقتدوا بهم فيما يفعلون ، مما ألحق ضررا بكثير من
الناس ، إذ منعوهم من الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك
والقدح في النبوة ، إنه لقبيح ما كانوا يفعلون من النفاق والصدّ عن سبيل الله
تعالى.
والآية دليل على
ارتكابهم جرمين كبيرين : الحلف بالأيمان الكاذبة ، والصد عن الدخول في الإسلام
والجهاد في سبيل الله ، مما استوجب وصف أفعالهم بالقبح.
ثم أخبر الله
تعالى عن أسباب موقفهم هذا ، فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ، ثُمَّ كَفَرُوا ، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك المذكور من الكذب والصدّ وقبح الأعمال بسبب أنهم
آمنوا نفاقا ، ثم كفروا
في الحقيقة
والباطن ، فختم على قلوبهم بسبب كفرهم ، فلا يدخلها إيمان ، ولا تهتدي إلى حق ،
ولا ينفذ إليها خير ، فأصبحوا لا يفهمون ما فيه رشدهم وصلاحهم ، ولا يعون ولا
يدركون الأدلة الدالة على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم والرسالة.
ثم أبان الله
تعالى مدى الاغترار بمظاهرهم وصورهم الجسدية ، فقال :
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي وإذا نظرت إليهم تروقك هيئاتهم ومناظرهم ، لما فيها من
النضارة والرونق وجمال الصورة واعتدال الخلقة ، وإن تكلموا حسن السماع لكلامهم ،
وظن أن قولهم حق وصدق ، لفصاحتهم وحلاوة منطقهم وذلاقة ألسنتهم ، كأنهم أخشاب
جوفاء منخورة مستندة إلى الحيطان ، فهم مجرد كتل بشرية لا تفهم ولا تعلم ، وقد كان
عبد الله بن أبي رأس المنافقين فصيحا جسيما جميلا ، ولكنه وصحبه لا وعي ولا إدراك
لديهم ، لخلوهم عن الفهم النافع ، والعلم الذي ينتفع به صاحبه ، فهم صور بلا معان.
فقوله : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) يعني عبد الله بن أبي ، ومغيث بن قيس ، وجدّ بن قيس ، كانت
لهم أجسام ومنظر ، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها ، وكان عبد الله بن أبي جسيما
صبيحا فصيحا.
(يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ) أي وهم مع جمال مناظرهم وجسامة أجسادهم في غاية الضعف
والخور والجبن ، يظنون كل صوت كلما وقع أمر ، أو كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم ،
نازلة بهم ، لفرط جبنهم ، ورعب قلوبهم ، وفراغهم النفسي ، وإحساسهم بالهزيمة من
الداخل ، فهم الأعداء الألداء ، فاحذر مؤامراتهم ، ولا تطلعهم على شيء من أسرارك ،
لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ، لعنهم الله وطردهم من رحمته وأهلكهم ، كيف يصرفون
عن الحق ، ويميلون عنه إلى الكفر ، ويتركون الهدى إلى الضلال.
ونظير الآية قوله
تعالى : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ
، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ، تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ
، سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ، أُولئِكَ لَمْ
يُؤْمِنُوا ، فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ١٩].
روى الإمام أحمد
عن أبي هريرة رضياللهعنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ،
وطعامهم نهبة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هجرا ، ولا يأتون الصلاة
إلا دبرا ، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون ، خشب بالليل ، صخب بالنهار».
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ إن الإيمان
تصديق القلب ، والكلام الحقيقي كلام القلب ، ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب ،
فالمنافقون كاذبون ، لأنهم يقولون غير ما يعتقدون. وهذا مستنبط من الآية الأولى
المتضمنة أن المنافقين يشهدون أن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، اعترافا بالإيمان ، ونفيا للنفاق عن أنفسهم ، وهم في هذا
لم يضيفوا شيئا جديدا للحقيقة ، فالله يعلم أن محمدا رسول الله كما قالوا بألسنتهم
، ولكنه يشهد أنهم في ضمائرهم كاذبون ، وإن أظهروا الشهادة بالإسلام وبتصديق النبي
صلىاللهعليهوسلم ، وحلفوا بألسنتهم.
٢ ـ لا يبالي
المنافقون بالحلف كذبا ، ويصدون عن الدخول في الإسلام ، فقد اتخذوا بقيادة عبد
الله بن أبي أيمانهم وقاية وسترا من الناس ، يتقون بها تطبيق أحكام الكفرة عليهم
من القتل والسبي واغتنام الأموال ، فاغتر الناس بهم وظنوا أنهم مسلمون ، فقلّدوهم
، فأدى صنعهم هذا إلى صد الناس ، من اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ،
ومنعهم من الجهاد بسبب تخلفهم واقتداء
غيرهم بهم ، فبئست
أعمالا أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله.
ولكن الله تعالى
بيّن أن حالهم لا يخفى عليه ، ولكن حكمه أن من أظهر الإيمان ، أجري عليه في الظاهر
حكم الإيمان.
٣ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ...) إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر ، لأنه أقر باللسان
، ثم كفر بالقلب ، والمعول عليه هو ما في القلوب. وكان من لوازم
اعتصامهم بالكفر
أن ختم الله على قلوبهم بالكفر ، فأصبحوا لا يدركون معالم الإيمان وأدلته ، ولا
مفهوم الخير وطرقه ، فهم على الكفر الثابت الدائم.
٤ ـ إن الحكم على
الناس لا يكون بالأشكال والهيئات والمناظر ، وإنما يكون بالحقائق المدركة ،
والأفعال الواقعة ، والأقوال الصادقة. وقد كان المنافقون حسان الهيئة ، فصيحي
اللسان ، ولكنهم أشباح بلا أرواح ، وصور بلا معان. قال ابن عباس : كان عبد الله بن
أبي وسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي صلىاللهعليهوسلم مقالته ، وصفه
الله بتمام الصورة وحسن الإبانة.
أخرج مسلم وابن
ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن
إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
٥ ـ يؤدي النفاق
عادة إلى القلق والتردد ، والضعف والهزيمة ، والجبن والجزع والهلع ، لذا كان
المنافقون جبناء ، يحسبون كل واقعة ، كأنها نازلة بهم لجبنهم ، وكأن كل أمر وقع أو
خوف نازل بهم وحدهم. قال مقاتل : إذا نادى مناد في العسكر ، وانفلتت دابة ، أو
نشدت ضالة مثلا ، ظنوا أنهم يرادون بذلك ، لما في قلوبهم من الرعب ، ولأنهم على
وجل من أن يهتك الله أستارهم ، ويكشف أسرارهم ، يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.
٦ ـ المنافقون
أعداء المؤمنين ، الكاملون في العداوة لله تعالى وللرسول صلىاللهعليهوسلم ، فينبغي الحذر من أقوالهم والميل لكلامهم ، والحرص من
تآمرهم وتخذيلهم بعض ضعفة المؤمنين ، واطلاعهم على أسرار الأمة ، حتى لا تتسرب إلى
الأعداء.
٧ ـ لهذه الأوصاف
الذميمة كلها ختمت الآيات بكلمة الذم والتوبيخ وهي (قاتَلَهُمُ اللهُ
أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي لعنهم وطردهم من رحمته ، فكيف يصرفون عن الحق إلى
الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال ، وكيف تضل عقولهم عن الإيمان مع وضوح الدلائل؟!
أدلة إثبات كذب المنافقين ونفاقهم
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ
يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ
عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ
رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا
يَعْلَمُونَ (٨))
الإعراب :
(تَعالَوْا
يَسْتَغْفِرْ) هنا فعلان ، أعمل الثاني منهما وهو (يَسْتَغْفِرْ) ولا ضمير فيه ، لأن (رَسُولُ اللهِ) مرفوع به ، والفعل لا يرفع فاعلين. ولو أعمل الأول وهو (تَعالَوْا) لقيل : تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم ، وكان في (يَسْتَغْفِرْ) ضمير يعود إلى (رَسُولُ اللهِ) هو الفاعل. (أَسْتَغْفَرْتَ) استغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل.
(لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) هذا هو المشهور ، وقرئ (لَيُخْرِجَنَ) بفتح الياء ، وهو فعل لازم مضارع (خرج) إلا أنه نصب (الْأَذَلَ) على الحال ، وهو شاذ ، لأن الحال لا يكون فيها الألف
واللام ، مثل : «مررت به المسكين» منصوب على الحال ، وقولهم : ادخلوا الأول
فالأول.
البلاغة :
(سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) بينهما طباق السلب.
(مُسْتَكْبِرُونَ) ، (الْفاسِقِينَ) ، (لا يَفْقَهُونَ) ، (لا يَعْلَمُونَ ...) إلخ ، توافق
الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية
:
(تَعالَوْا
يَسْتَغْفِرْ) أي احضروا معتذرين يطلب لكم الرسول المغفرة. (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) عطفوها وأمالوها إعراضا واستكبارا عن ذلك واستهزاء. (يَصُدُّونَ) يعرضون عن الاستغفار وعن القائل. (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتذار. (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ
لَهُمْ) لرسوخهم في الكفر. (الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعة الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم.
(هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ) لأصحابهم من الأنصار. (لا تُنْفِقُوا عَلى
مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من المهاجرين. (حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرقوا عنه. (وَلِلَّهِ خَزائِنُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خزائن الأرزاق فيهما ، فبيده الأرزاق ، وهو الرزاق
للمهاجرين وغيرهم. (لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون ذلك لجهلهم بالله ، فهم لا يدركون عظمة الله
وقدرته وسعته.
(لَئِنْ رَجَعْنا) من غزوة بني المصطلق. (الْأَعَزُّ) أي المنافقون. (الْأَذَلَ) أي المؤمنين في زعمهم. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) الغلبة والنصرة والقوة. (لا يَعْلَمُونَ) ذلك من فرط جهلهم وغرورهم.
سبب النزول :
نزول الآية (٥):
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
..) : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قيل لعبد الله بن أبي : لو
أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم ، فاستغفر لك ، فجعل يلوي رأسه ، فنزلت فيه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا
يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) الآية. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثله.
وأخرج البخاري
ومسلم ، والترمذي بمعناه في بيان سبب نزول هذه الآية : أن النبي صلىاللهعليهوسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له (المريسيع) من ناحية (قديد)
إلى الساحل ، فازدحم أجير لعمر يقال له (جهجاه) مع حليف لعبد الله بن أبي يقال له (سنان)
على ماء (بالمشلّل) فصرخ جهجاه بالمهاجرين ، وصرخ سنان بالأنصار ، فلطم جهجاه
سنانا ، فقال عبد الله بن أبي : أو قد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال
الأول : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها
الأذل ـ يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم ـ ثم قال لقومه : كفّوا طعامكم عن هذا الرجل ، ولا تنفقوا
على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه ، فقال زيد بن أرقم ـ وهو من رهط عبد الله ـ :
أنت والله الذليل المنتقص في قومك ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم في عز من الرحمن ، ومودّة من المسلمين ، والله لا أحبك بعد
كلامك هذا أبدا ، فقال عبد الله : اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله ، فأقسم بالله ما فعل ولا قال ، فعذره النبي صلىاللهعليهوسلم. قال زيد : فوجدت في نفسي ولامني الناس ، فنزلت سورة
المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله : قد نزلت فيك آيات شديدة
، فاذهب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليستغفر لك ، فألوى برأسه ، فنزلت الآيات.
نزول الآية (٦):
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
..) : أخرج ابن جرير عن عروة قال : لما نزلت : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ، فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة ٩ / ٨٠] قال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «لأزيدن على السبعين» ، فأنزل الله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ..) الآية. وأخرج عن مجاهد وقتادة مثله. وأخرج عن ابن عباس قال
: لما نزلت آية براءة قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «وأنا أسمع ، إني قد رخص لي فيهم ، فو الله لأستغفرن
أكثر من سبعين مرة ، لعل الله أن يغفر لهم» فنزلت.
نزول الآية (٧ ، ٨):
أخرج البخاري كما
تقدم وأحمد وغيرهما عن زيد بن أرقم قال : سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ
اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت
ذلك لعمّي ، فذكر ذلك عمي للنبي صلىاللهعليهوسلم ، فدعاني النبي صلىاللهعليهوسلم ، فحدثته ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فكذّبني
، وصدّقه ، فأصابني شيء لم يصبني مثله ، فجلست في البيت ، فقال عمي : ما أردت إلى
أن كذبك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومقتك ، فأنزل الله : (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ) فبعث إليّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقرأها ، ثم قال : «إن الله قد صدّقك» .
وروى الترمذي أيضا
عن زيد بن أرقم : أن أعرابيا نازع أنصاريا في بعض الغزوات على ماء ، فضرب الأعرابي
رأسه بخشبة فشجّه ، فشكا إلى ابن أبيّ ، فقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله
حتى ينفضوا ، وإذا رجعنا إلى المدينة ، فليخرج الأعز الأذل. عنى بالأعز نفسه ،
وبالأذل رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
المناسبة :
بعد بيان قبائح
خصال المنافقين وهي الكذب والأيمان الكاذبة ، والصد عن سبيل الله ، والجبن ، وجمال
الأجسام وضعف العقول ، وعداوة الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم ، ذكر تعالى أدلة تثبت كذبهم ونفاقهم من الواقع المشاهد ،
كإعراضهم عن الاعتذار ، وتصميمهم بعد وقعة بني المصطلق (قبيلة يهود) على طرد
المؤمنين من المدينة.
__________________
التفسير والبيان :
ذكر الله تعالى
أدلة كذب المنافقين وأسباب غضب الله عليهم ، فقال :
١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا
يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ، لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ ، وَرَأَيْتَهُمْ
يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي وإذا قيل للمنافقين بقيادة عبد الله بن أبي : أقبلوا
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يطلب لكم المغفرة من الله ، أعرضوا استكبارا واستهزاء بذلك
ورغبة عن الاستغفار ، ورأيتهم يعرضون عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهم مستكبرون عن الإتيان إليه وطلب الاستغفار منه ، فهم
أكبر من ذلك في زعمهم. والمشهور في السيرة أن ذلك كان في غزوة المريسيع ، وهي غزوة
بني المصطلق ، وليس في غزوة تبوك كما ذكر بعضهم ، لأن عبد الله بن أبي لم يكن ممن
خرج في غزوة تبوك ، بل رجل بطائفة من الجيش.
قال الكلبي : لما
نزل القرآن على الرسول صلىاللهعليهوسلم بصفة المنافقين ، مشى إليه عشائرهم من المؤمنين ، وقالوا
لهم : افتضحتم بالنفاق ، وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتوبوا إليه من النفاق ، واسألوه أن يستغفر لكم ، فأبوا
ذلك ، وزهدوا في الاستغفار ، فنزلت .
وقال ابن عباس :
لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس ، مقته المسلمون ، وعنّفوه ،
وأسمعوه المكروه ، فقال له بنو أبيه : لو أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى يستغفر لك ويرضى عنك ، فقال : لا أذهب إليه ، ولا أريد
أن يستغفر لي ، وجعل يلوي رأسه ، فنزلت.
وعند الأكثرين من
المفسرين : إنما دعي إلى الاستغفار ، لأنه قال : (لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) وقال : (لا تُنْفِقُوا عَلى
مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ)
__________________
فقيل له : يستغفر
لك رسول الله ، فقال : ماذا قلت ، فذلك قوله تعالى : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ).
ثم أبان الله
تعالى أن الاستغفار لهم لا ينفعهم ، فقال :
(سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ
لَهُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي جازاهم الله على استكبارهم وإعراضهم ، فأوضح أن
الاستغفار لا ينفعهم لإصرارهم على النفاق ، واستمرارهم على الكفر ، فسواء حدث
الاستغفار لهم أو لم يحدث لا يجديهم نفعا ، ولن يغفر الله لهم ، ما داموا على
النفاق ، إن الله لا يوفق الخارجين عن الطاعة ، المنهمكين في معاصي الله ، ومنهم
المنافقون بالأولى.
قال قتادة كما
تقدم : نزلت هذه الآية بعد قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وذلك لأنها لما نزلت ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خيرني ربي ، فلأزيدنهم على السبعين» فأنزل الله تعالى :
(لَنْ يَغْفِرَ اللهُ
لَهُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).
٢ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لا
تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي إن هؤلاء المنافقين يقولون للأنصار : لا تطعموا أصحاب
محمد المهاجرين ، حتى يجوعوا ويتفرقوا عنه.
فرد الله عليهم
بقوله :
(وَلِلَّهِ خَزائِنُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أي إن الله هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين ، وبيده مفاتيح
أرزاق العباد ، يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ولكن المنافقين يجهلون أن خزائن
الأرزاق بيد الله ، فظنوا أن الله لا يوسّع على المؤمنين.
٣ ـ (يَقُولُونَ : لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) أي يقول هؤلاء المنافقون ، والقائل عبد الله بن أبي زعيم
المنافقين : لئن عدنا من هذه الغزوة ، أي غزوة بني المصطلق إلى المدينة ، ليخرجن
الأعز ـ عنى بالأعز نفسه ومن معه ـ منها الأذل ، أراد بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن معه ، فنحن الأعزاء الأقوياء ، وهم الأذلاء الضعفاء.
وقد رجع ابن أبي إلى المدينة ، فلم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات ، فاستغفر له
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وألبسه قميصه ، فنزلت هذه الآية.
فرد الله عليهم
قولهم ، فقال :
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي إن لله وحده القوة والغلبة ، ولمن منحها من رسله وصالحي
عباده المؤمنين ، لا لغيرهم ، ولكن المنافقين لا يدرون ذلك ، لفرط جهلهم ، وعدم
إيمانهم ، وشدة حيرتهم وقلقهم ، فالله هو الذي ينصر من يشاء من عباده ، كما قال : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي) [المجادلة ٥٨ / ٢١].
والعزة والمنعة والقوة لله ، خلافا لما توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع.
والعزة غير الكبر ، فالعزة : الشعور بالسمو مع معرفة الإنسان حقيقة نفسه ، والكبر
: غمط الناس حقوقهم وجهل الإنسان بنفسه.
روي أن عبد الله
بن عبد الله بن أبي بن سلول قال لأبيه : والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى
تقول : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو الأعز وأنا الأذلّ ، فقاله .
وإنما قال في
الآية الأولى : (لا يَفْقَهُونَ) وهنا (لا يَعْلَمُونَ) ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم ، وبالثاني كثرة حماقتهم
وجهلهم.
__________________
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
ما يأتي :
١ ـ السبب الأول
في غضب الله على المنافقين : إباؤهم الاعتذار من أقوالهم وأفعالهم ، وإعراضهم عن
الرسول صلىاللهعليهوسلم متكبرين عن الإيمان.
٢ ـ كل من
الاستغفار للمنافقين وعدم الاستغفار سواء ، فلا ينفعهم استغفار الرسول صلىاللهعليهوسلم شيئا ، لأن الله لا يغفر لهم ، وإن الله لا يهدي من سبق في
علمه أنه يموت فاسقا كافرا.
٣ ـ السبب الثاني
: قول ابن أبي وصحبه للأنصار : لا تنفقوا على من عند محمد صلىاللهعليهوسلم من أصحابه المهاجرين حتى يتفرقوا عنه.
٤ ـ رد الله على
ذلك ببيان أن خزائن السموات والأرض ومفاتيح الرزق لله عزوجل ، ينفق كيف يشاء ، غير أن المنافقين لا يفهمون أنه تعالى
إذا أراد أمرا يسره.
٥ ـ السبب الثالث
: قول ابن أبي أيضا : لئن عدنا إلى المدينة من غزوة بني المصطلق ليخرجن الأعز ـ يعني
نفسه ـ منها الأذل ـ يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم وصحبه ـ لتوهمه أن العزة بكثرة الأموال والأتباع ، فرد
الله عليه بأن العزة والقوة لله وحده ولمن أفاضها عليهم من رسله وعباده الصالحين.
عن بعض الصالحين وكان في هيئة رثة : ألست على الإسلام ، وهو العز الذي لا ذل معه ،
والغنى الذي لا فقر بعده. وعن الحسن بن علي رضياللهعنهما : أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها ، فقال :
ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا الآية : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ..).
تحذير المؤمنين من أخلاق المنافقين وأمرهم بالإنفاق في سبيل
الخير
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ
ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))
الإعراب :
(وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ) ، (أَكُنْ) : مجزوم بالعطف على موضع (فَأَصَّدَّقَ) لأن موضعه الجزم على جواب التمني. وقرئ وأكون بالنصب عطفا
على لفظ (فَأَصَّدَّقَ) وهو منصوب بتقدير (أن).
البلاغة :
(الْخاسِرُونَ) ، (الصَّالِحِينَ) ، (تَعْمَلُونَ) توافق الفواصل مثلما سبق ، مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية
:
(لا تُلْهِكُمْ) لا تشغلكم عن الصلاة وسائر العبادات المذكّرة بالمعبود ،
والمراد النهي عن اللهو بالأموال والأولاد ، وتوجيه النهي إليها للمبالغة. (ذِكْرِ اللهِ) الصلوات الخمس والعبادات الأخرى. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) وهو اللهو أو الشغل بها. (فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) في تجارتهم ، لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ) أي أنفقوا بعض أموالكم لادخار ثوابها للآخرة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ) أي قبل أن يرى دلائله. (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي
لَوْ لا) بمعنى هلا ، وهي كلمة تفيد تمني حصول ما بعدها ، و (أَخَّرْتَنِي) أمهلتني. (أَجَلٍ قَرِيبٍ) أمد غير بعيد. (فَأَصَّدَّقَ) أي
فأتصدق بالزكاة
وغيرها. (وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ) بتدارك الأعمال الصالحة كالحج وغيره. (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ) لن يمهلها. (إِذا جاءَ أَجَلُها) آخر عمرها. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) أي مطلع على كل أعمالكم ، فمجازيكم عليها.
لمناسبة :
بعد بيان خصال
المنافقين وذمهم وتوبيخهم عليها ، حذر الله المؤمنين من أخلاق المنافقين ، ثم
أمرهم أن ينفقوا بعض أموالهم في مجالات الخير ، ولا يؤخروا ذلك حتى يداهمهم الموت
، فيندموا ويطلبوا إطالة العمر حتى يتداركوا ما فاتهم من خير.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ، لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ) أي يا أيها المؤمنون المصدقون بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم لا تشغلكم الأموال وتدبيرها والأولاد والعناية بشؤونها عن
القيام بذكر الله تعالى من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل وأداء فرائض
الإسلام وحقوق الله تعالى.
ثم حذر من المخالفة
وتوعد اللاهين بالدنيا ، فقال :
(وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يلتهي بالدنيا ومتاعها وزخارفها وزينتها ، وينصرف
عن الدين وطاعة ربه وذكره ، فإنه من الخاسرين ، الكاملين في الخسران ، الذين
يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، لأنه باع خالدا باقيا بفان زائل.
ثم حث المؤمنين
على الإنفاق في طاعته ، فقال :
(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، فَيَقُولَ : رَبِّ
، لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأنفقوا بعض
ما رزقناكم في
سبيل الخير ، شكرا على النعمة ، ورحمة بالفقراء ، ورعاية لمصلحة الأمة العامة ، من
قبل مجيء أسباب الموت ومشاهدة علاماته ، فيقول الواحد منكم : هلا أمهلتني وأخّرت
موتي إلى مدة أخرى قصيرة ، فأتصدق بمالي ، وأكن من الصالحين المستقيمين.
وهذا يدل على أن
كل مفرط يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ، ولو شيئا يسيرا ليستدرك ما فاته ،
ولكن فات الأوان.
أخرج الترمذي وابن
جرير عن ابن عباس رضياللهعنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من كان له مال يبلّغه حج بيت الله ، أو تجب عليه فيه
الزكاة ، فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت» ، فقال له رجل : يا ابن عباس : اتق
الله ، فإنما يسأل الرجعة الكافر!! فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآنا : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، فَيَقُولَ : رَبِّ ، لَوْ لا
أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ..) الآية.
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي لن يؤخر الله أي نفس إذا حضر أجلها ، وانقضى عمرها ،
والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فهو مجازيكم عليها ، بالإحسان إحسانا ،
وبالإساءة سخطا وعذابا ، وبعدا عن الرحمة والرضوان.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ وجوب الاشتغال
بطاعة الله تعالى ، كقراءة القرآن ، وإدامة الذكر ، وأداء الصلوات الخمس ، وإيتاء
الزكاة ، وإتمام الحج ، والقيام بجميع الفرائض.
٢ ـ عدم الاشتغال
بتدبير الأموال والاهتمام بشؤون الأولاد عن أداء حقوق
الله ، كما فعل
المنافقون ، إذ قالوا بسبب الشح بأموالهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ومن يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه ، فأولئك هم
الخاسرون.
٣ ـ قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ ..) يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلا ،
وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها ، يجب أداؤها فورا.
والآية في العموم
حث على الإنفاق الواجب خاصة ، دون النفل ، لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون
النفل ، وذلك إما مطلقا ، وإما في طريق الجهاد ، قبل فوات الأوان ومجيء أمارات
الموت حين لا تقبل التوبة ، ولا ينفع العمل ، فيسأل الإنسان التأخير في الأجل
لتدارك ما فات. وتشمل الآية على العموم الحج عند الجمهور القائلين بأنه على الفور.
ولا تشمله عند الشافعية القائلين بأنه على التراخي.
٤ ـ قال ابن عباس
في آية : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي
..) : هذه الآية أشدّ على أهل التوحيد ، لأنه لا يتمنى الرجوع
في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. واستثنى العلماء الشهيد
، فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل ، لما يرى من الكرامة.
٥ ـ الله تعالى
خبير بما يعمل العباد من خير وشر ، لا تخفى عليه خافية ، ويجازي كل امرئ بما عمل
خيرا أو شرا.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابن
مدنيّة ، وهي
ثماني عشرة آية.
تسميتها :
سميت التغابن
تذكيرا بيوم القيامة الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإيمان ، وهو
المذكور في قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ ، ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) (٩).
مناسبتها لما
قبلها :
تتضح مناسبة هذه
السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :
١ ـ في السورة
السابقة ذكر الله أوصاف المنافقين ، وحذر المؤمنين من أخلاق المنافقين ، وهنا حذر
تعالى من صفات الكافرين : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ..) وقسم الناس في الجملة قسمين : مؤمن وكافر ، وبشر المؤمن
بالجنة ، وهدد الكافر بالنار.
٢ ـ نهى الله
تعالى في السورة المتقدمة عن الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وفي هذه السورة ذكر أن الأموال والأولاد فتنة : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ) وهذا كالتعليل لما سبق.
٣ ـ أمر الله في
آخر سورة (المنافقون) السالفة بالإنفاق في سبيل الله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ ..) كذلك أمر بالإنفاق في أواخر هذه السورة :
(وَأَنْفِقُوا خَيْراً
لِأَنْفُسِكُمْ ..) كما أن سورة التغابن تدل على أنه يغبن الناس في يوم
القيامة بعضهم بعضا بترك الإيمان والعمل الصالح والإنفاق في سبيل الله.
ويلاحظ الترتيب
بين السور الست التالية ، فإنها اشتملت على أصناف الأمم ، فسورة الحشر : في ذكر
المعاهدين من أهل الكتاب ، فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا ،
وسورة الممتحنة : في ذكر المعاهدين من المشركين ، وسورة الصف : ذكر فيها أهل
الكتاب : اليهود والنصارى ، والمؤمنون ، وكذلك سورة الجمعة : ذكر فيها اليهود وأهل
الإيمان ، وسورة (المنافقون) : في أهل النفاق ، وسورة التغابن : ذكر فيها المشركون
والكفار بنحو عام. وبه يتبين أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر (وهي الحشر
والصف والجمعة والتغابن) جاء لحكمة دقيقة هي الكلام الشامل عن هذه الأمم.
ما
اشتملت عليه السورة :
سورة التغابن من
السور المدنية التي عنيت خلافا للمعتاد بأمور متعلقة بالعقائد.
ابتدأت ببيان بعض
صفات الله الحسنى المتصلة بجلال الله وقدرته وعلمه وخلقه الإنسان الذي يؤول أمره
إلى أحد قسمين : مؤمن وكافر.
ثم أنذرت الكفار
بما حل بالأمم الماضية التي كذبت الرسل بسبب بشريتهم ، وإنكارهم البعث ، والرد
عليهم بقسم الله بوقوعه وأنه حق ، وبجزائه على الأعمال.
ودعت بعدئذ إلى
الإيمان بالله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم والقرآن النور الذي أنزله على نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهددت بما يلقاه الناس يوم القيامة يوم يغبن فيه الكافر
بتركه الإيمان ، ويغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان ، ويدخل المؤمنون الذين
يعملون الصالحات
الجنان ، ويدخل الكافرون النيران ، وفي ذلك أمر بالطاعة وتحذير من المعصية.
ثم أبانت أن كل ما
يحدث في الكون بإرادة الله ومشيئته ، وأكدت الأمر بطاعة الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم والتوكل على الله وحده ، فإن أعرضوا فلا يضير رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقاءهم على الكفر.
ثم حذرت من عداوة
بعض الأزواج والأولاد الذين يمنعون الإنسان أحيانا عن الجهاد ، وأوصت بالعفو
والصفح عن المسيء ، وأخبرت بأن الأموال والأولاد فتنة واختبار.
وختمت السورة
بالأمر بالتقوى والإنفاق في سبيل الله لإعلاء دينه ، وحذرت من الشح والبخل ،
وأبانت مضاعفة الثواب للمحسنين المنفقين من أجل إعلاء كلمة الله تعالى.
مظاهر قدرة الله تعالى
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ
مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))
البلاغة :
(فَمِنْكُمْ كافِرٌ
وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بينهما طباق ، وكذا بين قوله : (يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ).
(لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ) تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر والاختصاص من حيث
الحقيقة ، أي له وحده الملك والحمد.
(وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بينهما جناس ناقص ، لاختلاف الحركات والشكل.
(يَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) بينهما طباق.
المفردات اللغوية
:
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ينزهه ويمجّده ويدل عليه جميع المخلوقات في السموات والأرض
، بدلالتها على كماله واستغنائه ، واللام زائدة ، وعبر ب (ما) دون (من) تغليبا للأكثر. (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أن قدرته في إيجاد جميع المخلوقات على سواء.
(فَمِنْكُمْ كافِرٌ
وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) قال الشوكاني : خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، وخلق
المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، والكافر يكفر ويختار الكفر ، والمؤمن يؤمن ويختار
الإيمان ، والكل بإذن الله ، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مبصر أعمالكم عالم بها ، فيعاملكم بما يناسب أعمالكم. (بِالْحَقِ) بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وهو أن جعل الأرض مقر
المكلفين ليعلموا فيجازيهم وسخر السموات لهم. (وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي جعل أشكالكم الآدمية بأحسن صورة ، أي أتقنها وأحكمها ،
وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات كما قال تعالى : (فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ) [التين ٩٥ / ٤]
فالتصوير : تخطيط وتشكيل وتمييز وتخصيص. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) إليه المرجع فأحسنوا السرائر والظواهر. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) عليم بحديث النفس وخطرات القلب ، والسر ، فلا يخفى عليه
شيء كليا أو جزئيا ، وعلمه بجميع الأشياء على سواء. قال البيضاوي : وتقديم تقرير
القدرة : (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) على العلم : (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولا وبالذات ، وعلى علمه
بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.
التفسير والبيان :
هذه السورة هي آخر
المسبحات ، قال تعالى :
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ
عَلى
كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ينزه الله عن كل نقص وعيب ، ويمجده ، ويدل عليه جميع
مخلوقاته التي في سماواته وأرضه ، فهو بارئها ومالكها ، له الملك وحده دون غيره ،
لأنه الخالق المصور المتصرف في جميع الكائنات ، وله الحمد والشكر وحده ، لأنه
المستحق لذاك ، وهو المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره ، فالملك والحمد يختصان به ،
ليس لغيره منهما شيء ، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه وراجع إليه ، وهو قادر
على كل شيء ، لا يعجزه شيء في السموات والأرض ، فمهما أراد كان ، وما لم يشأ لم
يكن.
والتسبيح إما
باللسان والنطق كما يفعل الإنسان ، وإما بنطق وحال لا نفقهه ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].
ثم ذكر الله تعالى
بعض آثار قدرته ، فقال :
١ ـ خلق الإنسان :
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ) أي إن الله هو الذي أوجدكم على هذه الصفة ، وآل أمركم أن
يكون بعضكم كافرا باختياره وكسبه على خلاف مقتضى فطرت ، وبعضكم مؤمنا مختارا
للإيمان على وفق الفطرة السوية القائمة على التوحيد والإيمان بالله ، والله العالم
البصير قبل الخلق بما يؤول إليه أمر كل واحد منكم ، الشهيد على أعمال عباده ،
وسيجزيهم بها أتم الجزاء.
ونظير الآية قوله
تعالى : (وَجَعَلْنا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ، وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد ٥٧ / ٢٦].
أخرج أبو يعلى
والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه ،
فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
٢ ـ خلق العالم
كله بالحكمة البالغة : (خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ، وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي أوجد السموات والأرض بالعدل والحكمة البالغة المحققة
لنفع العالم في الدين والدنيا ، وخلقكم أيها البشر في أكمل صورة ، وأحسن تقويم ،
وأجمل شكل ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار ٨٢ / ٦
ـ ٨] وقال سبحانه : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً ، وَالسَّماءَ بِناءً ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [غافر ٤٠ / ٦٤]
وقال عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين ٩٥ / ٤].
وإليه في عالم
الآخرة المرجع والمآب ، فيجازي كل نفس بما كسبت.
٣ ـ العلم الشامل
: (يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ ، وَاللهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي يعلم الله جميع ما في السموات والأرض ، فلا تخفى عليه
من ذلك خافية ، ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه ، والله محيط علمه بما يضمره كل إنسان
في نفسه من الأسرار والمعتقدات.
ويلاحظ أنه تعالى
عطف الخاص على العام في قوله : (وَيَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ثم عطف ما هو أخص من الخاص وهو حديث النفس الذي لا يعبر
عنه الإنسان بكلام أو إشارة أو بيان ما.
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
ما يأتي :
١ ـ ينزه الله
ويمجده جميع مخلوقاته في السموات والأرض لدلالتها على كماله واستغنائه ، وهو تنزيه
وتسبيح دائم متجدد شامل كل جزء من أجزاء العالم. وهذا بخلاف قوله تعالى في موضع
آخر : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) [الحشر ٥٩ / ١]
وقوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد ٥٧ / ١]
فهما للدلالة على التسبيح في الجملة على سبيل المبالغة.
٢ ـ الله تعالى هو
خالق الإنسان وبارئه ، ويعلم حال كل واحد في علمه الأزلي قبل وجوده من إيمان وكفر
، أخرج البخاري والترمذي من حديث ابن مسعود : وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى
ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار
، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو
باع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها» قال العلماء : والمعنى
تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على
عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك الكفر.
٣ ـ خلق الله
العالم كله سماءه وأرضه بالعدل والحكمة البالغة ، وحقا يقينا لا ريب فيه ، وخلق
الإنسان في أحسن شكل وصورة وتقويم ، وإليه في الحياة الآخرة المرجع ، فيجازي كلّا
بعمله.
٤ ـ الله سبحانه
عالم الغيب والشهادة ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ويعلم السرائر
والظواهر ، ويعلم ما في الضمائر والقلوب.
إنكار المشركين الألوهية والنبوة والبعث
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ
غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى
وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ (٧))
الإعراب :
(أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا
بَشَرٌ) مبتدأ ، وإنما قال : (يَهْدُونَنا) الذي هو الخبر لأنه كنى به عن (بَشَرٌ) ، و (بَشَرٌ) يصلح للجمع كما يصلح للواحد ، والمراد به هنا الجمع ، مثل
قوله تعالى : (ما أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا) [يس ٣٦ / ١٥]. ولو
أراد الواحد لقال : «يهدينا» كما في آية : (فَقالُوا : أَبَشَراً
مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر ٥٤ / ٢٤].
(زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا زَعَمَ) : فعل يتعدى إلى مفعولين ، وجملة : (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) سدت مسد المفعولين ، لما فيها من ذكر الحديث والمحدث عنه ،
كقوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ
أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت ٢٩ / ٢].
و (أَنْ) : مخففة من (أنّ) واسمها محذوف ، أي أنهم.
المفردات اللغوية
:
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها الكفار ، والاستفهام للتعجيب من أمرهم. (نَبَأُ) خبر مهم. (الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَبْلُ) كقوم نوح وهود وصالح عليهمالسلام. (فَذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ) عقوبة وضرر كفرهم في الدنيا أو عاقبته ، وأصل الوبال :
الثقل ، ومنه طعام وبيل ، أي ثقيل على المعدة ، والوابل : المطر الثقيل ، ثم أطلق
على الضرر الذي يصيب الإنسان ، لأنه يثقل عليه ، و (أَمْرِهِمْ) كفرهم ، إشارة إلى أنه أمر عظيم خطير. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي لهم في الآخرة عذاب مؤلم.
(ذلِكَ) أي المذكور من الوبال وعذاب الدنيا. (بِأَنَّهُ) أي بسبب أنه ، والهاء : ضمير الشأن ، أي بسبب أن الشأن. (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات والحجج الظاهرات على الإيمان. (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) المراد به جنس البشر ، أنكروا وتعجبوا أن يكون الرسول بشرا
، والبشر : يطلق على الواحد والجمع. (فَكَفَرُوا) بالرسل. (وَتَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان والتدبر في البينات. (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أظهر غناه عن كل شيء ، ومنه طاعتهم وإيمانهم إذ أهلكهم. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن خلقه وعن عبادتهم وغيرها. (حَمِيدٌ) محمود في أفعاله ويحمده كل مخلوق. (بَلى) أي تبعثون وهي كلمة جواب تقع بعد النفي للإثبات. (وَرَبِّي) قسم ، أكد به الجواب. (لَتُبْعَثُنَ) لتخرجن من قبوركم أحياء وتحاسبن وتجزون بأعمالكم. (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) لتخبرن بأعمالكم بالمحاسبة والجزاء. (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لقدرته التامة وقبول المادة ما أراد.
المناسبة :
بعد بيان أدلة
وجود الله تعالى وقدرته وآثاره في الكون ، حذر مشركي مكة من الكفر وإنكار الألوهية
: (الَّذِينَ كَفَرُوا) وإنكار النبوة : (أَبَشَرٌ
يَهْدُونَنا) وإنكار البعث : (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) وأبان عقوبتهم في الدنيا وما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة
، وأثبت أن البعث حق كائن لا ريب فيه ، وأن كل إنسان سيجازى بما فعل يوم القيامة.
التفسير والبيان :
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ، وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ألم يبلغكم يا كفار مكة خبر كفار الأمم الماضية ، كقوم
نوح وعاد وثمود ، وما حل بهم من العذاب والنكال بسبب مخالفة الرسل والتكذيب بالحق
، فقد دعتهم رسلهم إلى توحيد الله وعبادته وترك الأوثان التي اتخذوها أربابا من
دون الله ، فأصابهم عاقبة كفرهم وتكذيبهم ورديء أفعالهم من عذاب الدنيا ، ولهم في
الآخرة عذاب مؤلم جدا وهو عذاب النار. وهذا تعجيب من حالهم الغريبة.
ثم بيّن الله
تعالى أسباب عقابهم الدنيوي والأخروي ، فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَقالُوا : أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟
فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ، وَاسْتَغْنَى اللهُ ، وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي ذلك العذاب في الدارين بسبب أنه كانت تجيئهم الرسل
المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة ، والأدلة والبراهين الواضحة ، فقال كل قوم
لرسولهم : كيف يتصور أن يهدينا البشر ، أو من كان من جنس البشر؟ أي إنهم استبعدوا
أن تكون الرسالة في البشر ، وأن يكون هداهم على يدي البشر مثلهم ، فكفروا بالرسل
وما جاؤوا به ، وأعرضوا عنهم وعن الحق وعن العمل به ، ولم يتدبروا فيما جاؤوا به ،
واستغنى الله عن إيمانهم وعبادتهم ، إذ أهلكهم ، والله غير محتاج إلى العالم ولا
إلى عبادتهم له ، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال أو الحال.
ثم أخبر الله
تعالى عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون ، فقال:
(زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي ادعى المشركين أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ، كما قال
في آية أخرى : (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٨٢].
وفي هذا تقريع لكفار مكة ، لأن الزعم ادعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه. جاء في
الحديث : «زعموا : مطية الكذب».
فرد الله عليهم
بقوله :
(قُلْ : بَلى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ، وَذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ) أي قل أيها الرسول لهم وأخبرهم بأنكم والله ستبعثون
وتخرجون من قبوركم أحياء ، ولتخبرنّ بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها ، صغيرها
وكبيرها ، إقامة للحجة عليكم ، ثم تجزون به ، وذلك البعث والجزاء هيّن سهل على
الله تعالى ، لا يصرفه صارف. وقوله : (بَلى) إثبات لما بعد (أَنْ) وهو البعث.
وهذه هي الآية
الثالثة التي أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقسم بربه عزوجل على وقوع المعاد ووجوده ، الأولى منها قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ
: إِي وَرَبِّي ، إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [يونس ١٠ / ٥٣]
والثانية منها قوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ ٣٤ / ٣]
والثالثة هذه الآية.
ونظير الآية : (قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ ، قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٨ ـ ٧٩].
فقه
الحياة أو الأحكام :
يستنبط من الآيات
ما يأتي :
١ ـ حذر الله
المشركين في مكة وغيرها من تماديهم في الكفر بأن يعاقبوا مثل عقوبات كفار الأمم
الخالية كقوم نوح وهود وصالح التي عوقبوا بها في الدنيا ، وتنتظرهم في الآخرة.
٢ ـ إن أسباب
تعذيب الكفار في الماضي : هي كفرهم بالله وجحودهم بآياته ، وتكذيب رسلهم الذين
أرسلوا إليهم بالمعجزات والدلائل الواضحة ، وإنكارهم البعث والحساب والجزاء.
وكان كفرهم برسلهم
أنهم أنكروا أن يكون الرسول من البشر ، واستصغروه ، ولم يعلموا أن الله يبعث من
يشاء إلى عباده ، كما لم يعلموا أن الله تعالى مستغن بسلطانه عن طاعة عباده.
٣ ـ أمر الله نبيه
بأن يقسم بربه للمشركين على أن البعث حق كائن ، لا محالة ، فلا بد من أن يخرجوا من
قبورهم أحياء ، وعلى أنهم سيخبرون بما عملوا ، وأن البعث والجزاء يسير على الله ،
إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
المطالبة بالإيمان والتحذير من أهوال القيامة
(فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))
الإعراب :
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ يَوْمَ) ظرف متعلق بقوله : (لَتُبْعَثُنَ) أو (لَتُنَبَّؤُنَ) وتقديره : لتبعثن أو لتنبؤون يوم يجمعكم ليوم الجمع. و (يَجْمَعُكُمْ) بالرفع وهي القراءة المشهورة ، وقرئ يجمعكم بسكون العين
لكثرة توالي الحركات ، كما قرئ : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ) بسكون الميم [الإنسان ٧٦ / ٩].
البلاغة :
(وَالنُّورِ الَّذِي
أَنْزَلْنا) استعارة ، أطلق النور على القرآن بطريق الاستعارة ، فإن
القرآن ينير الظلمات ويبدد الشبهات.
(وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ..) و (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا ...) مقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين.
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ) بينهما جناس اشتقاق.
(يَوْمُ التَّغابُنِ) استعارة ، فقد أطلق التغابن على ما يكون يوم القيامة من
مبادلة الخير بالشر ، وهو يشبه المبادلة والمعاوضة والتجارة.
المفردات اللغوية
:
(وَرَسُولِهِ) محمد صلىاللهعليهوسلم. (وَالنُّورِ الَّذِي
أَنْزَلْنا) أي القرآن ، فإنه بإعجازه ظاهر بنفسه ، مبين شارح لما
تضمنه من عقيدة وتشريع وأحكام. (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) مجاز عليه.
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) أي اذكر يوم جمعكم وحشركم. (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) هو يوم القيامة الذي تجمع فيه الخلائق كلها من ملائكة وإنس
وجن ، لأجل ما فيه من الحساب والجزاء ، سمي يوم القيامة بيوم الجمع ، لأن الله
يجمع فيه جميع المخلوقات في صعيد واحد. (يَوْمُ التَّغابُنِ) يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان ، وغبن المؤمن بتقصيره
في الإحسان ، مستعار من تغابن التجار بأن يبيع البائع بأقل من القيمة ، أو يشتري
المشتري بأكثر من الثمن. وتغابن الآخرة ، هو التغابن في الحقيقة ، لا في أمور
الدنيا ، لعظم أمور الآخرة ودوامها ، وفسر بعض المعاصرين يوم التغابن بأنه يوم
الذهول. وفيه تهكم بالأشقياء ، جاء في الحديث الذي رواه أحمد بسنده عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار ، لو أساء
، ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة ، لو أحسن ، ليزداد
حسرة». (وَيَعْمَلْ صالِحاً) أي ويعمل عملا صالحا. (ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) أي مجموع الأمرين من تكفير السيئات ودخول الجنات مع الخلود
الأبدي ، لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع. (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) القرآن ، الذي تدل آياته على البعث.
ويلاحظ أن الآيتين
معا : (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا ..) بيان للتغابن وتفصيل له ، كما ذكر البيضاوي.
المناسبة :
بعد بيان أدلة
التوحيد والألوهية والنبوة ، والرد على منكري البعث ، وإيضاح ما نزل من العقوبة
بالأمم الماضية ، لكفرهم بالله وتكذيب الرسل ، طالب الله تعالى بالإيمان بالله
تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم وبآي القرآن وبالبعث ، علما بأن الاعتراف بالبعث من لوازم
الإيمان ، ثم حذر من الحساب والجزاء في الآخرة ، وأبان مظاهر التغابن فيه ، وفصله
تفصيلا تاما.
التفسير والبيان :
(فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي إذا كان أمر البعث هيّنا يسيرا على الله لا يصرفه صارف
، فصدّقوا بالله ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وكتابه المنير الهادي إلى السعادة ، والمنقذ من ظلمة
الضلالة ، فهو نور يهتدى به إذا أشكلت الأمور ، والله عالم بكل شيء ، لا يخفى عليه
شيء من أقوالكم وأفعالكم ، فهو مجازيكم على ذلك خيرا أو شرا. وفي هذا وعيد على كل
ما يؤتى من المعاصي ، أو يترك من الفرائض والواجبات. ووصف القرآن بأنه نور ، لأنه
يهتدى به في الشبهات ، كما يهتدى بالنور في الظلمات.
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أي واذكروا يوم القيامة الذي يجمع الله فيه أهل المحشر من
الأولين والآخرين في صعيد واحد للجزاء ، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله ، وبين كل
نبي وأمته ، كما قال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود ١١ / ١٠٣].
وقال سبحانه : (قُلْ : إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ ، إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة ٥٦ / ٤٩
ـ ٥٠].
ذلك اليوم وهو يوم
القيامة يوم التغابن الذي يظهر فيه غبن الكافر بتركه
الإيمان ، وغبن
المؤمن بتقصيره في الإحسان ، فكل من الفريقين تظهر له الخسارة الفادحة ، فكأن أهل
النار استبدلوا بالخير الشر ، وبالجيد الرديء وبالنعيم العذاب ، وأهل الجنة على
العكس مما ذكر ، ومع ذلك يشعرون بالنقص والخسارة ، إذا لم يقدموا عملا صالحا أكثر
مما قدموا ، فالمغبون : من غبن أهله ومنازله في الجنة ، جاء في الحديث الصحيح
المتقدم الذي رواه أحمد : «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء
ليزدادا شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة ليزداد حسرة». وأصل
التغابن : مأخوذ من الغبن : وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته ، في عقود
المعاوضات ، وبما أنه لا معاوضة في الآخرة ، فيكون إطلاق التغابن على العمل المقدم
في الدنيا وجزائه في الآخرة ، من قبيل الاستعارة ، للدلالة على النقص على البائع.
والخلاصة : أن يوم
القيامة يوم التغابن الجائز ، فيه يغبن بعض أهل المحشر بعضا ، فيغبن فيه أهل الحق
أهل الباطل ، وأهل الجنة يغبنون أهل النار.
ثم فصل الله تعالى
التغابن وبيّنه ، فقال :
١ ـ (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ
صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ومن يصدق بالله تصديقا صحيحا ويصدق بما جاءت به الرسل
من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك ، ويعمل العمل الصالح بأداء الفرائض
والطاعات ، واجتناب المنهيات ، يمح الله سيئاته وذنوبه ، ويدخله الجنات التي تجري
من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، ماكثين فيها على الدوام ، وذلك التكفير للسيئات
وإدخال الجنات هو الظفر الذي لا يساويه ظفر ، ولا ظفر قبله ولا بعده ، لإحراز أفضل
الثمرات والنتائج. وإنما قال : (خالِدِينَ فِيها) بلفظ الجمع بعد قوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ) بلفظ الواحد ، لأن ذلك بحسب اللفظ ، وهذا بحسب المعنى.
٢ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ، خالِدِينَ فِيها ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي والذين جحدوا وحدانية الله تعالى وقدرته ، وكذبوا
بآياته المنزلة على عبده محمد صلىاللهعليهوسلم ، ومنها الآيات الدالة على البعث ، أولئك أصحاب النار ،
خالدين فيها على الدوام ، وبئس المرجع مرجعهم ، وبئست النار مثوى لهم.
والآيتان دليل على
حال السعداء وحال الأشقياء ، لبيان ما تقدم من التغابن. وقد عبر الله تعالى عن أهل
الإيمان بقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ) بلفظ المستقبل ، وفي الكفر بقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بلفظ الماضي ، لأن تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين
كفروا وكذبوا بآياتنا ، يدخله جنات ، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ بعد الإخبار
بقيام الساعة ، أمر الله عباده بالإيمان به وبرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وبالقرآن المنزل عليه ، لئلا ينزل بهم من العقوبة ما نزل
بالأمم الخالية لكفرهم بالله وتكذيب الرسل ، وأكد تعالى الأمر بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم بما تسرون وما تعلنون ، فراقبوه وخافوه في الحالين
معا.
٢ ـ ثم أكد الله
تعالى هذا الأمر بالتحذير من مخاوف القيامة وأهوالها ، ومن شدة الحساب والجزاء ،
فذكر أنه سيجمع يوم القيامة جميع أهل السموات وأهل الأرض ، فهو يوم الجمع والحشر ،
ويوم التغابن ، لأن الكافرين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، واشتروا الضلالة
بالهدى ، فما ربحت تجارتهم ، وأما المؤمنون فقد دلهم ربهم على التجارة الرابحة وهي
الإيمان والجهاد ، فباعوا أنفسهم بالجنة ، فخسرت صفقة الكفار ، وربحت صفقة
المؤمنين. فيكون المعنى : ذلك يوم
التغابن الجائز
مطلقا. قال مقاتل بن حيان : لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ، ويذهب
بأولئك إلى النار.
٣ ـ قال ابن
العربي : استدل علماؤنا بقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ
التَّغابُنِ) على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية ، لأن الله
تعالى خصص التغابن بيوم القيامة ، فقال : (ذلِكَ يَوْمُ
التَّغابُنِ) وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع
على غبن في مبيع فإنه مردود ، إذا زاد على الثلث. وهو الغبن الفاحش ، وهو من
الخداع المحرّم شرعا في كل ملة.
أما الغبن اليسير
: فلا يمكن الاحتراز منه لأحد ، فلا ينقض به البيع ، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع
أبدا ، لأنه لا يخلو منه ، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه ، فوجب الرد به.
والفرق بين القليل
والكثير : هو الثلث ، وقدّر علماؤنا الثلث بهذا الحد ، إذ رأوه في الوصية وغيرها .
٤ ـ إن جزاء
المؤمنين : دخول الجنات التي تجري من تحت قصورها الأنهار ، مع الخلود الأبدي فيها
، وهو الفوز الساحق الذي لا فوز بعده ، لاشتماله على النجاة من المخاطر والأهوال.
٥ ـ إن جزاء
الكافرين بالله وبالقرآن : دخول النيران ، مع الخلود فيها على الدوام ، وبئس
المصير نار جهنم.
وهذا الجزاء
المقرر للفريقين هو تفسير التغابن المذكور آنفا.
__________________
كل شيء بقضاء وقدر
(ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))
البلاغة :
(ما أَصابَ مُصِيبَةٍ) بينهما جناس الاشتقاق.
(وَأَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إطناب بتكرر الفعل : (أَطِيعُوا) زيادة في التأكيد.
المفردات اللغوية
:
(مُصِيبَةٍ) كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر. (بِإِذْنِ اللهِ) بتقديره وإرادته ومشيئته. (يَهْدِ قَلْبَهُ) يشرح صدره للخير والطاعة ، والثبات على الإيمان ، والصبر
على المصيبة والرضا بها. (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) حتى بالقلوب وأحوالها.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم. (الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التبليغ البين الواضح. (فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) ليفوضوا أمرهم إلى الله ، لإيمانهم بأن كل شيء منه.
المناسبة :
بعد بيان كون
الناس قسمين : مؤمن وكافر ، ثم الأمر بالإيمان والعمل الصالح ، والنهي عن الكفر
والتنفير فيه ، أبان الله تعالى أن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، فهو بقضاء
الله وقدره على وفق السنن الكونية المدبرة والمرتبة بإرادة الله ، ثم أمر تعالى
بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وبالتوكل على الله وحده.
التفسير والبيان :
(ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، فهو بقضاء الله
وقدره. قيل : إن سبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا ،
لصانهم الله عن المصائب في الدنيا.
فما على الإنسان
إلا السعي والعمل لجلب الخير ودفع الضر عن نفسه ، ثم التوكل على الله بعدئذ ، فإن
تحقيق النتائج يكون بقضاء الله وقدره. ونظير الآية قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ، إِنَّ
ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحديد ٥٧ / ٢٢].
(وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ومن يصدق بالله ، ويعلم أن ما أصابه من مصيبة هو بقضاء
الله وقدره ، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله ، يهد قلبه ويشرح صدره عند المصيبة ،
والله واسع العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو عليم بالقلوب وأحوالها.
قال ابن عباس : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ) يعني يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ،
وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وفي الحديث المتفق
عليه : «عجبا للمؤمن ، لا يقضي الله قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر ، فكان
خيرا له ، وإن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».
ثم أمر الله
بطاعته : (وَأَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي واشتغلوا بطاعة الله فيما شرع وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم فيما بلّغ ، وافعلوا ما به أمر ، واتركوا ما عنه نهى وزجر
، فإن أعرضتم عن الطاعة ونكلتم عن العمل ، فإثمكم على أنفسكم ، وليس على الرسول صلىاللهعليهوسلم من بأس ، إذ
وظيفته التبليغ
البيّن الواضح ، وعليكم ما حمّلتم من السمع والطاعة. قال الزهري : من الله الرسالة
، وعلى الرسول البلاغة ، وعلينا التسليم. ثم أمر تعالى بالتوكل عليه :
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن الله هو الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله
غيره ولا رب سواه ، وهو المستحق للعبودية دون غيره ، فوحدوا الله وأخلصوا العمل
لديه ، ولا تشركوا به شيئا ، وفوضوا أموركم إليه ، واعتمدوا عليه ، لا على غيره ،
كما قال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل ٧٣ / ٩].
وهذا إرشاد للعباد
في وجوب الاعتماد على الله ، والتوكل عليه ، وطلب العون الدائم منه.
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
المبادئ التالية في العقيدة والتشريع :
١ ـ وجوب الرضا
بالقضاء والقدر ، فإن كل ما يحدث في الكون ، وكل ما يصيب الإنسان من مصيبة في نفس
أو مال أو قول أو فعل ، هو بعلم الله وقضائه.
٢ ـ من يصدّق
ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله ، يهد قلبه للصبر والرضا والثبات على
الإيمان ، فهو إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإذا ظلم غفر ، والله بكل شيء عليم ،
لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلّم لأمره ، ولا كراهة من كرهه.
وليست المصائب في
الدنيا دليلا على عدم الرضا ، وليس النجاح فيها دليلا على الرضا.
٣ ـ على المؤمنين
تهوين المصائب على أنفسهم ، والاشتغال بطاعة الله تعالى ، والعمل بكتابه ، وإطاعة
الرسول صلىاللهعليهوسلم في العمل بسنته ، فإن تولوا عن الطاعة ، فليس على الرسول صلىاللهعليهوسلم إلا التبليغ.
٤ ـ على الناس
قاطبة توحيد الله وعبادته وحده ، فلا إله إلا هو ، ولا معبود سواه ، ولا خالق غيره
، وعليهم التوكل على الله ، وحسن الظن بالله ، والاعتماد عليه بعد تعاطي الأسباب ،
والقيام بما يقتضيه الواجب من السعي والعمل في الحياة.
التحذير من فتنة الأزواج والأولاد والأموال والأمر بالتقوى
والإنفاق
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))
الإعراب :
(وَأَنْفِقُوا خَيْراً
لِأَنْفُسِكُمْ خَيْراً) إما منصوب ب (أَنْفِقُوا) ويراد به هنا المال ، أو منصوب بفعل مقدر دل عليه. (أَنْفِقُوا) أي وآتوا خيرا ، أو وصف لمصدر محذوف ، أي وأنفقوا إنفاقا
خيرا ، أو خبر كان مقدرة ، أي وأنفقوا وكان الإنفاق خيرا ..
البلاغة :
(عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.
(إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) استعارة تمثيلية ، شبه الإنفاق في سبيل الله والتصدق على
الفقراء بمن يقرض الله قرضا واجب الوفاء بطريق التمثيل ، سماه قرضا من حيث التزام
الله بثوابه. (وَاللهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ) صيغة مبالغة على وزن فعول وفعيل.
(رَحِيمٌ عَظِيمٌ
حَلِيمٌ الْحَكِيمُ) سجع مرصع لتوافق الفواصل.
المفردات اللغوية
:
(إِنَّ مِنْ
أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يشغلكم عن طاعة الله والتخلف عن الخير ، كالجهاد. (وَإِنْ تَعْفُوا) عنهم في التثبيط عن الخير وعن ذنوبهم ، بترك المعاقبة. (وَتَصْفَحُوا) بالإعراض وترك اللوم. (وَتَغْفِرُوا) بالتجاوز عما فعلوا والتمهيد للمعذرة. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعاملكم بمثل ما عملتم.
(فِتْنَةٌ) اختبار لكم بمعرفة مدى شغلها لكم عن أمور الآخرة. (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد
والسعي لهم. (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. (وَاسْمَعُوا) مواعظه. (وَأَطِيعُوا) أوامره. (وَأَنْفِقُوا) في وجوه الخير والطاعة لوجهه الكريم. (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي افعلوا ما هو خير ، وهو خبر «يكن» مقدرة ، جوابا للأمر.
(وَمَنْ يُوقَ) يحفظ نفسه. (شُحَ) الشح : البخل مع الحرص. (الْمُفْلِحُونَ) الفائزون. (إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ) بصرف المال فيما أمر. (قَرْضاً حَسَناً) هو التصدق من الحلال ، مقرونا بالإخلاص وطيب النفس. (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) يزيد الثواب من عشرة أضعاف إلى سبع مائة ضعف وأكثر ، وقرئ
: يضعفه بالتشديد. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ببركة الإنفاق. (وَاللهُ شَكُورٌ) ـ يعطي على الطاعة الجزيل بالقليل. (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة على المعصية.
(عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن الأنظار ويشمل السر. (وَالشَّهادَةِ) ما يشاهد بالحس ، ويشمل العلانية ، فلا يخفى عليه شيء. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تام القدرة والعلم فهو القوي في ملكه ، الحكيم المتقن في
صنعه وتدبيره.
سبب النزول :
نزول الآية (١٤):
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) : أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال : نزلت
هذه الآية : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) في قوم من أهل مكة ، أسلموا ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن
يدعوهم ، فأتوا المدينة ، فلما قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، رأوا الناس قد فقهوا ، فهمّوا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله
: (إِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) الآية.
وأخرج ابن جرير عن
عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْواجِكُمْ ..) نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد ، فكان إذا
أراد الغزو بكوا إليه ، ووقفوا ، فقالوا : إلى من تدعنا؟ فيرقّ ويقيم ، فنزلت هذه
الآية ، وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.
وفي رواية عن ابن
عباس قال : كان الرجل يريد الهجرة ، فتحبسه امرأته ، فيقول : أما والله لئن جمع
الله بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ ، فجمع الله بينهم في دار الهجرة
، فأنزل الله هذه الآية :
سبب نزول الآية (١٦):
(فَاتَّقُوا اللهَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم ، وتقرحت
جباههم ، فأنزل الله تخفيفا على المسلمين : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ).
المناسبة :
بعد الأمر بطاعة
الله تعالى وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، حذر تعالى من الأزواج
والأولاد الذين
يثبطون عن الطاعة ، شأن أكثر ميل الناس عن الطاعات ، ثم أبان أن الأموال والأولاد
فتنة ، فينبغي الحذر ، ثم أمر تعالى بالتقوى والإنفاق في سبيل الله ، مبينا مضاعفة
الثواب للمنفقين ومغفرته لهم.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ،
فَاحْذَرُوهُمْ) أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، إن بعض أزواجكم وأولادكم أعداء لكم ، عداوة أخروية ،
يشغلونكم عن الخير والأعمال الصالحة التي تنفع في الآخرة ، فكونوا منهم على حذر ،
واحذروا أن تؤثروا حبهم وشفقكم عليهم على طاعة الله تعالى.
وقد عرفنا سبب
النزول : أن رجالا من مكة أسلموا ، وأرادوا أن يهاجروا ، فلم يدعهم أزواجهم ولا
أولادهم ، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم ، فلا يطيعوهم. وجاء في الحديث أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، قال : «يأتي زمان على أمتي ، يكون فيه هلاك الرجل على يد
زوجه وولده ، يعيّرانه بالفقر ، فيركب مراكب السوء ، فيهلك» .
ثم أمر الله تعالى
العفو والصفح عنهم ، فقال :
(وَإِنْ تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم التي ارتكبوها بترك
المعاقبة ، وتصفحوا بترك اللوم والتثريب عليها ، وتستروا الأخطاء تمهيدا لمعذرتهم
فيها ، فالله غفور لذنوب عباده ، رحيم بهم ، يعامل الناس بأحسن مما عملوا.
ثم زاد الله تعالى
الأمر بيانا ، فقال :
__________________
(إِنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي الأموال والأولاد بلاء واختبار ومحنة ، وربما يحملونكم
على كسب الحرام ، ومنع حق الله ، وارتكاب المعاصي والآثام ، والله عنده الثواب
الجليل لمن آثر طاعة الله تعالى ، وترك معصيته في محبة ماله وولده.
أخرج أحمد
والترمذي والحاكم والطبراني عن كعب بن عياض قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن لكل أمة
فتنة ، وإن فتنة أمتي المال».
وأخرج أحمد وأبو
بكر البزار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الولد ثمرة القلوب ، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة».
وأخرج الطبراني عن
أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزا لك ، وإن قتلك
دخلت الجنة ، ولكن الذي لعله عدو لك : ولدك الذي خرج من صلبك ، ثم أعدى عدو لك
مالك الذي ملكت يمينك».
ثم أمر الله
بالتقوى والطاعة والنفقة ، فقال :
(فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي فالزموا أوامر الله واجتنبوا نواهيه قدر جهدكم وطاقتكم
، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم
عنه فاجتنبوه». واسمعوا ما تؤمرون به وأطيعوا أوامر الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير
، ولا تبخلوا بها ، فإن الإنفاق في مصالح الأمة والدين خير وسعادة لأنفسكم من
الأموال والأولاد ، وهو خير لكم في الدنيا والآخرة ، وإن لا تفعلوا يكن شرا لكم في
الدنيا والآخرة.
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من وقاه الله وحفظه من داء الشح والبخل ، فأنفق في سبيل
الله ووجوه الخير ، فأولئك هم الظافرون بما يرجون ، الفائزون بما يطلبون.
ثم أكد الله تعالى
الحث على الإنفاق قائلا :
(إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ) أي إن تصرفوا بعض أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية وطيب
نفس ، يضاعف الله لكم الثواب ، فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، إلى
أضعاف كثيرة ، ويغفر لكم أيضا ذنوبكم ، والله يجزي على القليل الكثير ، يصفح ويغفر
ويستر الذنوب والزلات والخطايا ، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة. وفي الآية إيماء إلى
أن الشقي من لا يقدم لنفسه شيئا يستقرضه منه رازقه ، مع شدة حاجته إليه بعد مماته.
ونظير الآية : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ..) [البقرة ٢ / ٢٤٥].
وأخرج الحاكم
وصححه وابن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله : استقرضت عبدي ، فأبى أن يقرضني ، ويشتمني
عبدي ، وهو لا يدري ، يقول : وا دهراه ، وأنا الدهر ، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية
: (إِنْ تُقْرِضُوا ..).
ثم رغب الله تعالى
في النفقة ترغيبا زائدا ، فقال :
(عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن الله سبحانه بالغ العلم بما غاب عنكم وما حضر ،
الغالب القاهر ، ذو الحكمة الباهرة ، يضع الأمور في مواضعها الصحيحة.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ حذر الله
تعالى كل إنسان من ضرر الأزواج والأولاد وأنذر من عداوتهم ، إما ضررا دينيا أخرويا
، وإما ضررا بدنيا متعلقا بالدنيا وضرر الدين : عدم الطاعة لأوامر الله تعالى
والرسول صلىاللهعليهوسلم ، وترك الهجرة التي كانت مفروضة في العهد الإسلامي الأول ،
وترك الإنفاق في سبيل الله أي الجهاد. وضرر الدنيا كارتكاب معصية إرضاء لهم ، مثل
السرقة للإنفاق ، أو هجر الضرّة مثلا أو قطيعة جار أو صديق أو قريب.
وهذه العداوة لا
تكون عادة إلا بسبب الكفر والنهي عن الإيمان ، ولا تكون بين المؤمنين ، فأزواجهم
وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدوا لهم. وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا
أزواجهم وآباءهم عن الهجرة في الماضي نزل قوله تعالى كما تقدم : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). قال ابن عباس رضياللهعنهما : لا تطيعوهم في معصية الله تعالى. وفتنة ، أي بلاء وشغل
عن الآخرة. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. لكن خصوص
السبب لا يمنع عموم الحكم.
٢ ـ ليس الأزواج
والأولاد أعداء بالذات ، وإنما أعداء بأفعالهم ، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو
كان عدوا. جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان ، فقال له
: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه فآمن ، ثم قعد له على طريق الهجرة ، فقال له
: أتهاجر وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر ، ثم قعد له على طريق الجهاد ، فقال له :
أتجاهد فتقتل نفسك ، فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ فخالفه فجاهد فقتل ، فحق على الله أن
يدخله الجنة».
وقعود الشيطان إما
بالوسوسة وإما بحمله على ما يريد الزوج والولد والصاحب ، قال تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ،
فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [فصلت ٤١ / ٢٥].
٣ ـ إن العفو
والصفح ومغفرة الزلات والخطايا أفضل من الانتقام والعقاب ، وإن الله غفور للسيئات
رحيم بالعباد ، فلا يعجل بالعقوبة ، ويجازيكم خيرا حال العفو والصفح.
٤ ـ إن الأموال
والأولاد فتنة ، أي بلاء واختبار يحمل على كسب الحرام ومنع حق الله تعالى ، فلا
طاعة لهم في معصية الله ، ورد في الحديث : «يؤتى برجل يوم القيامة ، فيقال : أكل
عياله حسناته» .
٥ ـ عند الله
الأجر العظيم وهو الجنة ، فهي الغاية ، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين ، وهذا
تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. جاء في الصحيحين ـ واللفظ للبخاري ـ عن أبي
سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون :
لبّيك ربّنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا
ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا : يا ربّ ، وأيّ
شيء أفضل من ذلك ، فيقول : أحلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
٦ ـ تكون تقوى
الله أي التزام أوامره واجتناب نواهيه بقدر الطاقة ، للآية هنا : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقوله في آية أخرى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦].
ورأى جماعة مثل
قتادة أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ
__________________
آمَنُوا
اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران ٣ / ١٠٢].
ورأى آخرون : ألا تعارض بين الآيتين ، لأن قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون ، لأنه فوق الطاقة
والاستطاعة.
ورأى كثير من
المفسرين مثل مجاهد أن المراد بآية : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) : أن يطاع سبحانه فلا يعصى. ولا خلاف بين المفسرين أن هذه
الآية نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط
أولادهم إياهم عن ذلك ، كما تقدم.
٧ ـ أمر الله
بالسمع والطاعة ، أي سماع ما يوعظ به المؤمنون ، وإطاعة ما أمر الله به ،
والانتهاء عما نهى عنه.
٨ ـ أمر الله أيضا
بالإنفاق من الأموال في حق الله كالزكاة والصدقة النفل والنفقة في الجهاد ، ونفقة
الرجل لنفسه وعياله ، فالآية عامة. ثبت في الصحيح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال له رجل : عندي دينار؟ قال : أنفقه على نفسك ، قال
: عندي آخر ، قال : أنفقه على عيالك ، قال : عندي آخر؟ قال : أنفقه على ولدك ، قال
: عندي آخر؟ قال : تصدق به» فبدأ بالنفس والأهل والولد ، وجعل الصدقة بعد ذلك ،
وهو الأصل في الشرع.
والإنفاق في
الحقيقة خير للنفس ، لما فيه من ثواب جزيل عند الله ، لذا قال سبحانه : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
٩ ـ أكد الله
تعالى الحث على الإنفاق في سبيل الله ، فقال : (إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) وقال : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ،
وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) فالله تعالى رتب على القرض الحسن المنفق بإخلاص وطيب نفس
تضعيف ثواب القرض وغفران الذنوب ، وأبان أنه شكور يحب المتقرّبين إلى حضرته ، يجزي
بالكثير على القليل ، وأنه حليم لا يعجل بالعقوبة. والقرض الحسن : التصدق من
الحلال بإخلاص
وطيب نفس ، كما تقدم.
١٠ ـ زاد الله
تعالى الحث على الإنفاق تأكيدا ، فقال : (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن الله مطلع على كل ما غاب وحضر ، وهو الغالب القاهر ،
المحكم الصنع والتدبير ، خالق الأشياء ، واهب الأرزاق ، وهذا دليل على كمال علم
الله سبحانه وكمال قدرته.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطلاق
مدنية ، وهي اثنتا
عشرة آية.
تسميتها
:
سميت سورة الطلاق
، لبيان أحكام الطلاق والعدة فيها ، وافتتاحها بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ..).
مناسبتها لما قبلها
:
تتعلق هذه السورة
بما قبلها من وجهين :
١ ـ أنه قال في
أواخر التغابن : (إِنَّ مِنْ
أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) ولما كانت عداوة الأزواج قد تفضي إلى الطلاق ، وعداوة
الأولاد قد تؤدي إلى القسوة وترك الإنفاق عليهم ، عقب ذلك بسورة فيها أحكام الطلاق
والإنفاق على الأولاد وعلى المطلقات.
٢ ـ أشار الله
تعالى في آخر التغابن إلى كمال علمه بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ) وأشار في آخر هذه السورة إلى كمال علمه بمصالح النساء
وبالأحكام الخاصة بطلاقهن ، فكأنه بيّن ذلك العلم الكلي بهذه الجزئيات.
ما اشتملت عليه
السورة :
موضوع هذه السورة
المدنية بيان الأحكام التشريعية التي تنظم حال الأسرة أثناء قيامها وبعد انفصال
الزوجين.
شرعت السورة في
الكلام على أحكام الطلاق السّنّي الذي يستقبل به العدة ، وأحكام العدة وإحصاء
وقتها مع تقوى الله ورقابته في إعلان انقضائها. وأمرت الأزواج بعدئذ بالإمساك
بالمعروف أو المفارقة بالإحسان. وأشادت في مجال العلاقات الزوجية وغيرها بتقوى
الله والتوكل عليه.
ثم أبانت حكم عدة
المرأة اليائس من المحيض التي انقطع دمها لكبر أو مرض ، وعدة الصغيرة التي لم تحض
، ومدتهما واحدة وهي ثلاثة أشهر. وأردفت ذلك ببيان عدة المرأة الحامل وهي وضع
الحمل.
واقتضى البيان
توضيح حكم النفقة والسكنى أثناء العدة ، وحكم إعطاء الأجر على الرضاع ، وتقدير
النفقة يسارا وإعسارا ، وتخلل ذلك الأمر بالتقوى منعا من الظلم وتجاوز الحدود.
وختمت السورة
بالتحذير من مخالفة الأحكام وتعدي حدود الله ، وهددت بالعقوبة المماثلة لعقوبات
الأمم الباغية التي تخطت أوامر الله ، وكررت الأمر بالتقوى ، وذكّرت بمهمة الرسول صلىاللهعليهوسلم وهي تلاوة آيات الله لإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور
، وأوضحت جزاء الإيمان والعمل الصالح ، ثم أوردت البرهان القاطع على قدرة الله
الشاملة وعلمه الواسع بخلق السموات السبع والأرضين السبع ، وتنزل وحي الله وأمره
وقضائه بين السموات والأرض.
أحكام الطلاق والعدة وثمرة التقوى والتوكل
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا
يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
(٣))
الإعراب :
(إِنَّ اللهَ بالِغُ
أَمْرِهِ بالِغُ) بغير تنوين : حذف التنوين للتخفيف ، وجر ما بعده بالإضافة
، وقرئ بالتنوين على الأصل ، لأن اسم الفاعل هنا بمعنى الاستقبال ، ونصب (أَمْرِهِ) به.
البلاغة :
(وَتِلْكَ حُدُودُ
اللهِ ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) إظهار في موضع الإضمار للترهيب (لا تَدْرِي ..) الأصل لا يدري ففيه التفات لمزيد الاهتمام ، من الغائب إلى
الخطاب.
(فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَ) بينهما طباق.
المفردات اللغوية
:
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُ) خص النبي صلىاللهعليهوسلم بالنداء ، وعمّ الخطاب بالحكم ، فالمراد به أمته ، لأنه
إمام أمته ، فنداؤه كندائهم. (إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ) أي إذا أردتم الطلاق ، مثل قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل ١٦ / ٩٨]
أي فإذا أردت قراءته. (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) أي مستقبلات عدتهن أي وقتها ، وهو الطلاق في طهر لإجماع
فيه. (وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ) اضبطوها واحفظوها وأكملوها ثلاثة قروء.
(وَاتَّقُوا اللهَ
رَبَّكُمْ) أطيعوه في أمره ونهيه ، واحذروا تطويل العدة والإضرار بهن.
(لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَ) أي من مساكنهن وقت الفراق حتى تنقضي عدتهن. (وَلا يَخْرُجْنَ) لا يباح لهن الخروج من المساكن أثناء العدة حتى تنقضي. (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي بسبب ارتكاب فاحشة (وهي الزنى) واضحة توجب الحد ، أو
بالتطاول على الزوج أو أسرته ، أو بالخروج قبل انقضاء العدة ، فتخرج لإقامة الحد
عليها ، أو للتخلص من بذاءتها ، أو لبيان كون خروجها فاحشة.
(وَتِلْكَ) المذكورات. (حُدُودُ اللهِ) أي أحكامه وشرائعه. (ظَلَمَ نَفْسَهُ) أضرّ بها إذ عرضها للعقاب. (لا تَدْرِي) النفس أو أيها النبي أو المطلّق. (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ
أَمْراً) يحدث بعد الطلاق أمرا جديدا ، وهو الندم على الطلاق
والرغبة في المطلّقة برجعة أو استئناف عقد.
(فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) قاربن انقضاء عدتهن. (فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ) أي راجعوهن بحسن عشرة. (أَوْ فارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ) اتركوهن مع إيفاء الحق واتقاء الضرار بالمراجعة ، كأن
يراجعها ثم يطلقها تطويلا لعدتها. (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ) يندب الإشهاد على المراجعة أو الفرقة بعدا عن الرّيبة
وقطعا للنزاع ، مثل قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ) [البقرة ٢ / ٢٨٢].
(وَأَقِيمُوا
الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أدّوا أيها الشهود عند الحاجة الشهادة خالصة لوجه الله بلا
تحريف ، لا للمشهود له أو عليه. (ذلِكُمْ) جميع ما في الآية ، أو المراد الحث على الشهادة والإقامة (الأداء).
(يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) خصص المؤمن ، لأنه المنتفع بالوعظ ، والمراد تذكيره.
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) طريقا للخروج من كرب الدنيا والآخرة ، جملة اعتراضية مؤكدة
لما سبق ، بوعد المحافظين على حدود الله وأحكامه. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ) أي يفوض أموره لله. (فَهُوَ حَسْبُهُ) كافيه. (إِنَّ اللهَ بالِغُ
أَمْرِهِ) منفذ حكمه ومراده وقضاءه في خلقه ، يفعل ما يشاء ، ويبلغ
ما يريد. (قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ) من رخاء وشدة. (قَدْراً) تقديرا أو مقدارا أو أجلا وميقاتا.
سبب النزول :
نزول الآية (١):
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ ..) : أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن أنس قال :
طلّق رسول الله صلىاللهعليهوسلم حفصة ، فأتت أهلها ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)
فقيل له ، راجعها
فإنها صوّامة قوّامة ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
وأخرج البخاري
ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدار قطي عن ابن عمر : «أنه طلّق امرأته ،
وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فتغيظ منه ، ثم قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم
تحيض ، فتطهر ، فإن بدا له أن يطلّقها فليطلّقها طاهرا قبل أن يمسّها ، فتلك العدة
التي أمر بها الله عزوجل». وفي لفظ مسلم : «فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها
النساء». وفي لفظ الدار قطني : «ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى
حيضتها التي طلقها فيها ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن
يمسّها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله».
سبب نزول الآية (٢):
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
..) : أخرج الحاكم عن جابر قال : نزلت هذه الآية : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً) في رجل من أشجع كان فقيرا ، خفيف ذات اليد ، كثير العيال ،
فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فسأله ، فقال له : اتق الله ، واصبر ، فلم يلبث إلا
يسيرا حتى جاء ابن له بغنم ، وكان العدو أصابوه ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره خبرها ، فقال : كلها ، فنزلت. قال الذهبي : حديث
منكر ، له شاهد.
وأخرج ابن مردويه
والخطيب عن ابن عباس قال : «جاء عوف بن مالك الأشجعي ، فقال : يا رسول الله ، إن
ابني أسره العدو ، وجزعت أمه ، فما تأمرني؟ قال : آمرك وإياها أن تستكثروا من : لا
حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة : نعم ما أمرك ، فجعلا يكثران منها ، فتغفل
عنه العدو ، فاستاق غنمهم ، فجاء بها إلى أبيه ، فنزلت : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً)».
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ، فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) : أي يا أيها الرسول والمؤمنون به إذا أردتم تطليق النساء
وعزمتم عليه ، فطلقوهن مستقبلات لعدتهن أو قبل وقت عدتهن. والمراد الأمر بالطلاق
في طهر لم يقع فيه جماع ، والنهي عن إيقاعه في الحيض ، كما وردت السنة الصريحة
بذلك في حديث ابن عمر المتقدم.
وإنما كان النداء
خاصا بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، والخطاب بالحكم عاما له ولأمته ، تكريما له صلىاللهعليهوسلم ، وإظهارا لجلالة منصبه ، كما يقال لرئيس القوم ، أو قائد
الجند : يا فلان ، افعلوا كذا وكذا ، إظهارا لمقامه فيهم ، وكونه القائد المسؤول
عن التوجيه.
والآية دليل على
حرمة الطلاق في الحيض ، وذكر الفقهاء أن الطلاق أنواع ثلاثة : طلاق سني ، وطلاق بدعي ، وطلاق ليس بسني ولا بدعي ، أما الطلاق السني : فهو
الطلاق في طهر لإجماع فيه ، أو أثناء حمل قد استبان. وأما
__________________
الطلاق البدعي :
فهو الطلاق أثناء الحيض ، أو في طهر قد تم فيه الوقاع ، خشية الحمل ، وهو حرام
لإلحاقه الضرر بالزوجة ، بتطويل المدة التي تنتظرها لانتهاء العدة ، لأن بقية
الحيض لا تحسب من العدة عند القائلين بأن الأقراء الأطهار ، وكذلك الطهر الذي بعد الحيضة
التي طلقت فيها عند القائلين بأن الأقراء الحيضات ، ولا بد من حيضات ثلاث كاملة.
وألحق الفقهاء
بذلك في الحرمة الطلاق في النفاس.
ونصت السنة على
صورة الطلاق البدعي المحرم في طهر جامعها فيه ، إذ ربما تحمل ، ويندم الرجل على
الطلاق.
لكن الخلع في
الحيض بعوض من المرأة ليس محرما عند كثير من الفقهاء ، لأن بذلها المال يشعر
بحاجتها إلى الخلاص ، وبرضاها بتطويل المدة ، والله تعالى قال : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة ٢ / ٢٢٩]
وأذن النبي صلىاللهعليهوسلم لثابت بن قيس في الخلع على مال ، دون سؤال عن حال زوجته.
وأما الطلاق الذي
ليس بسني ولا بدعي : فهو طلاق الصغيرة والآيسة من الحيض وغير المدخول بها.
والأفضل بالاتفاق
كون الطلقة مرة واحدة ، ويكره عند مالك الثلاث متفرقة أو مجموعة ، وعند الحنفية :
يكره الزيادة على الواحدة في طهر واحد ، ويباح عند الشافعي الثلاث.
واستدل الشافعي
بقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) على أن الأقراء : الأطهار ، لأن اللام لام الوقت ، أي
فطلقوهن وقت عدتهن ، ويؤيده حديث ابن عمر المتقدم الذي بين فيه النبي صلىاللهعليهوسلم أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي
بعد الحيضة ، ولو كان القرء هو الحيض ، كان قد طلقها قبل العدة ، لا في العدة ،
وكان ذلك تطويلا عليها.
وتأول الحنفية
والحنابلة قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) أن المعنى لاستقبال عدتهن ، لا في عدتهن ، إذ من المحال أن
يكون الطلاق وهو سبب العدة واقعا في العدة ، والذي يستقبل إنما هو الحيض لا الطهر.
لكن المعروف أن
اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت ، فيكون المعنى :
فطلقوهن للوقت الذي يشرعن فيه في العدة على الاتصال بالطلاق.
ثم أمر الله تعالى
بضبط العدة وإحصاء وقتها ، فقال :
(وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ) أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها ، لتكون عدة كاملة
، وهي ثلاثة قروء تامة ، والخطاب للأزواج. وضبط العدة واجب لإجزاء أحكامها فيها من
تحديد حق الرجعة للزوج والإشهاد عليها ، ونفقة الزوجة وسكناها ، وعدم خروجها من
بيتها قبل انقضائها.
(وَاتَّقُوا اللهَ
رَبَّكُمْ) فلا تعصوه فيما أمركم ، ولا تضارّوهن بتطويل العدة على
المرأة ، فتمتنع من الأزواج.
(لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) أي لا تخرجوا المطلقات من بيوتهن في مدة العدة ، فلكل
امرأة معتدة حق السكنى على الزوج ، ما دامت معتدة منه ، فليس للرجل أن يخرجها ،
ولا يجوز لها أيضا الخروج ، فليس للمعتدات الزوجات الخروج من تلك البيوت ما دمن في
العدة إلا لأمر ضروري ، رعاية لحق الزوج ، فإذا خرجت المعتدة لغير ضرورة ليلا أو
نهارا ، كان الخروج حراما.
وفيه دليل على
وجوب السكنى للزوجات المطلقات أو المعتدات ما دمن في العدة ، وأضاف البيوت إليهن ،
وهي لأزواجهن لتأكيد النهي عن الإخراج والخروج ، ببيان كمال استحقاقهن للسكنى ،
كأنها ملك لهن.
والصحيح عند
الحنفية أن للشرع في ملازمة المعتدة بيت الزوجية حقا في ذلك ، لا يملك الزوج
إسقاطه ، فيكون قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَ) دالا على حرمة إخراجهن بمنطوقه ، وعلى حرمة الإذن لهن في
الخروج بإشارته ، لأن الإذن في المحرم محرم.
ورأى الشافعية أن
ملازمة المعتدة بيت الزوجية خالص حق الزوجين ، فلو اتفقا على الانتقال جاز ، لأن
الحق لهما وحدهما. وهذا هو المطبق فعلا اليوم حال الطلاق ، فلا نرى مطلقة تبقى في
بيت الفراق.
(إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا تخرجوهن من بيوتهن إلا إذا ارتكبن فاحشة الزنى ، أو
إذا نشزن أو صدر منهن بذاءة في اللسان واستطالة على الساكن معهن في ذلك البيت من
أهل الرجل ، وآذتهم المرأة في الكلام والفعال ، فحينئذ يحل إخراجهن في المساكن
لبذاءتهن وسوء خلقهن.
(وَتِلْكَ حُدُودُ
اللهِ ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي وهذه الأحكام السابقة التي بينها الله لعباده هي حدود
الله التي حدها لهم ، لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها ، ومن يتجاوز هذه الحدود
المذكورة فقد أوقع نفسه في الظلم وأضرّ بها وأوردها مورد الهلاك.
ثم ذكر الله تعالى
علة تحريم تعدي حدود الله ، فقال :
(لا تَدْرِي لَعَلَّ
اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لا تدري أيها المطلّق ، فإنما أبقينا المطلقة في منزل
الزوج في مدة العدة ، لعل الزوج يندم على طلاقها ، ولعلها إذا بقيت في بيتها أن
يؤلف الله بين قلوبهما ، فيتراجعا ، بأن يراجعها الزوج ، فيكون ذلك أيسر وأسهل ،
فالمقصود بالآية الرجعة.
وهذا واقع غالب ،
فإن غالب الطلاق يحدث نتيجة ثورة غضب جامحة ، أو مكايدة ظاهرية ، ثم تزول عوامل
القلق ، وتهدأ الأعصاب ، ويعود الرجل إلى
عقله ووعيه ، ويحس
بقسوة خلو البيت من المرأة أو التفكير بالزواج بامرأة أخرى ، ويتذكر محاسن امرأته
، ويغض النظر عن مساوئها ، كما قال صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة : «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن
سخط منها خلقا رضي خلقا» وقد تكون المرأة حاملا. والحديث مؤيد للآية : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً ، وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء ٤ / ١٩].
ثم بيّن الله
تعالى الحكم عند الاقتراب من نهاية العدة ، فقال :
(فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي إذا شارفن على انقضاء العدة ، وقاربن ذلك ، أي قاربت
العدة على الانتهاء ، ولكنها لم تنته تماما ، فلكم أيها الأزواج اختيار أحد أمرين
: إما الإمساك بالمعروف ، وهو الرجعة إلى عصمة الزوج والاستمرار في الزوجية ، مع
الإحسان إليها في الصحبة ، وإما المفارقة بالمعروف ، أي تركهن إلى انقضاء عدتهن مع
إيفاء حقهن واتقاء الضرار بهن ، من غير توبيخ ولا تعنيف ولا مشاتمة ، بل تطلق
المرأة على وجه جميل وسبيل حسن. أما الإمساك للمضارة أو التسريح مع الأذى ومنع
الحق ، فإن ذلك لا يحل لأحد.
ثم أمر الله تعالى
بالإشهاد على الرجعة أو الفراق ، فقال :
(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ ، وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي وأشهدوا على الرجعة إن راجعتم ، أو المفارقة إن فارقتم
، قطعا للنزاع ، وحسما لمادة الخصومة أو الإنكار ، وأدوا الشهادة أيها الشهود
وأتوا بها خالصة لوجه الله ، وتقربا إليه لإظهار الحق ، دون تحيز أو مجاملة لأحد
الخصمين ، المشهود له أو عليه.
وهذه الشهادة على
الرجعة والفرقة مندوبة ، والأمر للندب والاستحباب عند أئمة المذاهب الأربعة في
الجديد عند الشافعي ، كما في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ) [البقرة ٢ / ٢٨٢] ودليل صرف الأمر عن الوجوب الإجماع على
عدم
الوجوب عند الطلاق
، فكذلك عند الإمساك.
وقوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) دليل على وجوب أداء الشهادة عند القضاة على الحقوق كلها ،
لأن الشهادة هنا اسم للجنس. وإنما حث تعالى على أداء الشهادة لإظهار الحق ، وترك
التكاسل والتهرب من بعض المتاعب أو المشاق في الذهاب إلى المحاكم وانتظار القضاة ،
خشية تعطيل العمل أو الوقت بالنسبة للشاهد.
(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ
مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ذلكم المذكور الذي أمرناكم به من الإشهاد على الرجعة
والفرقة وإقامة الشهادة خالصة لله ، وإيقاع الطلاق على وجه السنة ، وإحصاء العدة ،
والكف عن الإخراج والخروج ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر ويخاف عقاب
الله في الدار الآخرة. وخص المؤمن ، لأنه المنتفع بذلك دون غيره.
ثم أكد الله تعالى
بجملة معترضة وجوب احترام هذه الأحكام والتزام حدود الله بقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي ومن يتق الله فيما أمره به ، وترك ما نهاه عنه ، ووقف
عند حدوده التي حدها لعباده ، يجعل له من أمره مخرجا أو مخلصا مما وقع فيه ،
ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ، ولا يكون في حسابه.
وهذا دليل على أن
التقوى سبيل النجاة من المآزق والهموم والغموم الدنيوية والأخروية وعند الموت ،
وهي أيضا سبب للرزق الطيب الحلال الواسع غير المتوقع.
روى الإمام أحمد
عن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتلو عليّ هذه الآية : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) حتى فرغ من الآية ، ثم قال : «يا أبا ذر ، لو أن الناس
كلهم أخذوا بها كفتهم».
وروى ابن أبي حاتم
عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إن أجمع آية في القرآن : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ) وإن أكبر آية في القرآن فرجا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً).
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ ، قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي ومن يثق بالله فيما نابه وفوض إليه أمره بعد اتخاذ
الأسباب ومنها السعي لكسب الرزق ، كفاه ما أهمه ، في جميع أموره ، لأن الله هو
القادر على كل شيء ، الغني عن كل شيء ، إن الله يبلغ ما يريده ، ولا يفوته مراد ،
ولا يعجزه مطلوب ، قد جعل للأشياء قدرا قبل وجودها ، وقدّر لها أوقاتها ، فجعل
سبحانه للشدة أجلا تنتهي إليه ، وللرخاء أجلا ينتهي إليه. وإذا كان الرزق وغيره من
الأشياء لا يكون إلا بتقدير الله تعالى ، ولا يقع إلا على وفق علمه ، فليس للعاقل
إلا التسليم للقدر كما قال تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد ١٣ / ٨]. وهذا دليل على وجوب التوكل على الله
وتفويض الأمر إليه ، مع بيان السبب والحكمة.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على
الأحكام التالية :
١ ـ الطلاق جائز
مشروع في الإسلام ، على أن تلتزم فيه ضوابط الشرع وآدابه ، فهو وإن كان جائزا
مباحا وبيد الرجل ، فيجب الامتناع عنه إلا عند الضرورة أو الحاجة وأن يكون متفرقا
وألا يزيد عن طلقة واحدة ، وفي حال الرضى ، لما روى أبو داود عن محارب بن دثار أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق». وروى
الثعلبي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ، وروى أبو داود
والترمذي عن ثوبان أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس ، حرّم
الله عليها رائحة الجنة».
٢ ـ أن يستقبل
بالطلاق العدة ، لقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) ولما روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصارية
أنها طلّقت على عهد النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولم يكن للمطلقة عدّة ، فأنزل الله سبحانه حين طلّقت
أسماء بالعدة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق.
٣ ـ من طلّق في
طهر لم يجامعها فيه ، نفذ طلاقه وأصاب السّنة ، وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ
السنة ، عملا بحديث ابن عمر المتقدم ، وبقول ابن مسعود فيما رواه الدار قطني :
طلاق السنة : أن يطلقها في كل طهر تطليقة ، فإذا كان آخر ذلك ، فتلك العدة التي
أمر الله تعالى بها.
قال علماء
المالكية : طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض ،
طاهرا ، لم يمسّها في ذلك الطهر ، ولا تقدّمه طلاق في حيض. ولا تبعه طلاق في طهر
يتلوه ، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم.
وقال أبو حنيفة :
طلاق السنة : أن يطلّقها في كل طهر طلقة. وقال الشافعي : طلاق السنة أن يطلقها في
كل طهر خاصة ، ولو طلقها ثلاثا في طهر ، لم يكن بدعة ، لظاهر الآية : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وهذا عام في كل طلاق كان ، واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما
راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ، ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر ،
لأن النبي صلىاللهعليهوسلم علّمه الوقت ، لا
العدد. قال ابن العربي : وهذه غفلة عن الحديث الصحيح ، فإنه قال : «مره فليراجعها»
وهذا يدفع الثلاث.
وفي الحديث أنه
قال : أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال : حرمت عليك ، وبانت منك بمعصية. وقال تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) [البقرة ٢ / ٢٢٩]
أي مرة بعد مرة.
والطلاق المخالف
للسنة يقع ، وهو إثم ، لما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم : أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يديه ، فقال له : «أو
تلعبون بكتاب الله ، وأنا بين أظهركم». والظاهر عند الشافعية كراهة تطليق المدخول
بها واحدة بائنة.
٤ ـ قال الجرجاني
: اللام في قوله تعالى : (لِعِدَّتِهِنَ) بمعنى (في) ، كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ) [الحشر ٥٩ / ٢] أي
في أول الحشر ، فقوله : (لِعِدَّتِهِنَ) أي في الزمان الذي يصلح لعدّتهن ، والإجماع على أن الطلاق
في الحيض ممنوع ، وفي الطهر مأذون فيه. وهذا دليل على أن القرء هو الطهر.
٥ ـ قوله تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) هذا في المدخول بها المعتدة بالأقراء ، لقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ، ولأن غير المدخول بها لا عدة عليها ، للآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ..) [الأحزاب ٣٣ / ٤٩]
وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة ، ويكون بعدها كأحد الخطّاب ،
ولا تحلّ له في الثلاث إلا بعد زوج.
٦ ـ قوله تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) معناه احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق ، حتى إذا انتهت
الثلاثة قروء في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة ٢ / ٢٢٨]
حلّت للأزواج. وهذا يدل على أن العدة هي الأطهار ، وليست بالحيض ، وهو مذهب
المالكية والشافعية ، ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقراءة ابن مسعود : فطلقوهن لقبل عدتهن وقبل الشيء :
بعضه لغة وحقيقة ، بخلاف استقباله ، فإنه يكون غيره.
٧ ـ الصحيح أن
المخاطب بقوله : (وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ) الأزواج ، لأن الضمائر كلها من (طَلَّقْتُمُ) و (أَحْصُوا) و (لا تُخْرِجُوهُنَ) على نظام واحد
يرجع إلى الأزواج.
ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج ، وكذلك الحاكم يحتاج إلى الإحصاء للعدة
للفتوى بها والحكم بموجبها.
٨ ـ ليس للزوج
إخراج المعتدة من مسكن الزواج ما دامت في العدة ، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق
الزوج إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدّة. والرجعية والمبتوتة (المطلقة
ثلاثا) في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل ، منعا لاختلاط الأنساب.
وآراء العلماء في
خروج المعتدة هي :
قال مالك وأحمد :
إن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها ، وإنما تلزم منزلها بالليل ، سواء كانت رجعية
أو بائنة ، لما أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله قال : «طلّقت خالتي ، فأرادت أن
تجدّ نخلها ، فزجرها رجل أن تخرج ، فأتت النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : بلى فجدّي نخلك ، عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفا».
وذهب الشافعي إلى
أنه لا يجوز للمعتدة مطلقا ، رجعية أو مبتوتة أو متوفى عنها زوجها ، الخروج من
موضع العدة ليلا ولا نهارا إلا لعذر ، عملا بالآية : (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ).
ورأي أبو حنيفة
أنه لا يجوز للمطلقة الخروج ليلا ونهارا ، سواء كانت رجعية أو مبتوتة ، للآية
السابقة ، ويجوز للمتوفى عنها زوجها الخروج نهارا في حوائجها ، لاحتياجها إلى
اكتساب النفقة ، ولا تخرج ليلا ، لعدم الحاجة.
٩ ـ لا تخرج
المعتدة من بيتها في العدة إلا لفاحشة مبينة ، كإقامة الحد عليها بسبب الزنى ، أو
بذاءة لسانها واستطالتها على أهل الزوج ، ونشوزها. قال ابن
__________________
عباس وغيره :
الفاحشة : كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل. وأجاز الشافعي كما تقدم
التراضي على إسقاط الزوجة حقها في السكنى أثناء العدة.
١٠ ـ هذه الأحكام
المبينة هي أحكام الله على العباد ، فيمنع التجاوز عنها ، ومن تجاوزها فقد ظلم
نفسه ، وأوردها مورد الهلاك ، إذ قد يستجد أمر في شأن المطلقة ، فيندم الرجل ،
ويرغب في الرجعة ، قال جميع المفسرين في قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول :
التحريض على طلاق المطلقة الواحدة ، والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلّق ثلاثا ،
أضرّ بنفسه عند الندم على الفراق ، والرغبة في الارتجاع ، فلا يجد عند الرجعة
سبيلا.
١١ ـ إذا قاربت
المعتدة انقضاء العدة فعلى الرجل إما الإمساك بمعروف ، أي المراجعة بالمعروف من
غير قصد المضارّة في الرجعة ، تطويلا لعدتها ، أو المفارقة بالمعروف ، أي الترك
حتى تنقضي عدتها ، فتملك نفسها. وقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) دليل على أن القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادّعت
ذلك.
١٢ ـ الإشهاد على
الطلاق وعلى الرجعة مندوب إليه في المذاهب الأربعة ، منعا للتجاحد ، وعدم الاتهام
في الإمساك ، وعدم التذرع بثبوت الزوجية للإرث بعد الموت. والرجعة عند الحنفية
تحصل بالقول مثل : راجعتك ، وبالفعل كالقبلة والمباشرة والملامسة بشهوة والنظر إلى
الفرج. وعند الشافعي : تكون الرجعة بالكلام. وتحصل الرجعة عند المالكية بالقول أو
الفعل أو النية ، وتحصل الرجعة عند الحنابلة والأوزاعي بالقول الصريح وبالوطء ،
سواء نوى به الرجعة أم لم ينو به الرجعة ، ولا تحصل الرجعة بالتقبيل أو اللمس
بشهوة ، أو النظر إلى الفرج أو الخلوة بالمرأة والحديث معها ، لأن المذكور كله ليس
في معنى الوطء ، وهو الذي يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة.
١٣ ـ من ادعى بعد
انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة ، فإن صدقته
جاز ، وإن أنكرت
حلفت ، فإن أقام بيّنة أنه ارتجعها في العدة ، ولم تعلم بذلك ، لم يضره جهلها بذلك
، وكانت زوجته. وإن تزوجت ولم يدخل بها الزوج الثاني ، ثم أقام الأول بيّنة على
رجعتها ، فلمالك في ذلك روايتان : إحداهما ـ أن الأوّل أحق بها ، والأخرى ـ أن
الثاني أحق بها. فإن دخل بها الثاني فلا سبيل للأول إليها.
١٤ ـ الإشهاد يكون
بالرجال المسلمين دون الإناث ، إذ لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. ويجب أن تكون
الشهادة تقربا إلى الله في إقامتها وأدائها على وجهها إذا مسّت الحاجة إليها من
غير تبديل ولا تغيير.
١٥ ـ إن المؤمن هو
الذي يرضى بهذه الأحكام وينتفع بهذه المواعظ ، أما غير المؤمن بالله واليوم الآخر
، فلا ينتفع بها.
١٦ ـ كل من يتقي
الله في تطبيق أحكام الشريعة في الطلاق والعدة والإشهاد ونحوها ، يجعل الله له
مخرجا من كل شدة وضيق ، ويرزقه الثواب الحسن ويبارك له فيما آتاه. روى أحمد
والنسائي وابن ماجه عن ثوبان : «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد
القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر».
١٧ ـ كل من يتوكل
على الله وفوض الأمر إليه ، كفاه ما أهمه في الدنيا والآخرة ، لأن الله بالغ أمره
فيما أراد ، وقاض أمره في كل الناس ، سواء من توكل عليه ومن لم يتوكل عليه ، وجعل
لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. ولا يعني التوكل إهمال اتخاذ الأسباب
أو الحفظ والصون ، لقوله صلىاللهعليهوسلم فيما رواه الترمذي عن أنس ، وهو ضعيف : «اعقلها وتوكل».
وقال تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ ،
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة ٦٢ / ١٠]. وقال سبحانه : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ) [الملك ٦٧ / ١٥].
قال الربيع بن
خيثم : إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن
أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ) [التغابن ٦٤ / ١١].
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق ٦٥ / ٣]. (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً
يُضاعِفْهُ لَكُمْ) [التغابن ٦٤ / ١٧]. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران ٣ / ١٠١].
(وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي ، فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة ٢ / ١٨٦].
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أحب أن يكون أقوى الناس ، فليتوكل على الله» .
عدة اليائسة والصغيرة
(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
(٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))
الإعراب :
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) فيه محذوف تقديره : واللائي يئسن من المحيض فعدتهن فعدتهن
ثلاثة أشهر ، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر. حذف خبر الثاني لدلالة خبر الأول
عليه ، مثل : زيد أبوه منطلق وعمرو ، أي وعمرو وأبوه منطلق. و (أُولاتُ الْأَحْمالِ) مبتدأ ، وواحد (أُولاتُ) : ذات ، و (أَجَلُهُنَ) مبتدأ ثان ، و (أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَ) خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.
ويجوز أن يكون (أَجَلُهُنَ) بدلا من (أُولاتُ) بدل الاشتمال ، و (أَنْ يَضَعْنَ) الخبر.
__________________
البلاغة :
(وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ) إيجاز الحذف ، حذف منه الخبر ، أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا.
المفردات اللغوية
:
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ) أصابهن اليأس من الحيض لكبرهن. (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شككتم في عدتهن أي جهلتم. (وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ) أي الصغيرات ، فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا. وكلاهما في غير
المتوفى عنهن أزواجهن ، أما هن فعدتهن كما في آية أخرى [البقرة ٢ / ٢٣٤] أربعة
أشهر وعشر.
(وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) أي أجل انقضاء عدتهن ، مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن. (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وضع الحمل ، وهو حكم يعم المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن. (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) يسهل عليه أمره ويوفقه للخير ، وييسر أموره في الدنيا
والآخرة. (ذلِكَ) المذكور من الأحكام ، ومنها حكم العدة. (أَمْرُ اللهِ) حكمه. (يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئاتِهِ) فإن الحسنات يذهبن السيئات. (وَيُعْظِمْ لَهُ
أَجْراً) بمضاعفة الثواب.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير
وإسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال : لما نزلت الآية التي في
سورة البقرة في عدد من عدد النساء ، قالوا : قد بقي عدد من النساء لم يذكرن :
الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض ، وأولات الأحمال ، فأنزلت : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) الآية.
وأخرج مقاتل في
تفسيره : أنه لما ذكر قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال خلّاد بن النعمان : يا رسول الله ، فما عدّة التي لم
تحض ، وعدة التي انقطع حيضها ، وعدة الحبلى؟ فنزلت : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) يعني قعدن عن المحيض. وقيل : إن معاذ بن جبل سأل عن عدّة
الكبيرة التي يئست ، فنزلت الآية.
المناسبة :
بعد أن أمر الله
تعالى بتطليق النساء لعدتهن وبيّن أمر الطلاق والرجعة في
التي تحيض ، بيّن
هنا مقدار العدة للآيسة والصغيرة اللتين لا تريان الدم ، وأنها ثلاثة أشهر ، وعدة
الحامل وكونها بوضع الحمل ، تتميما لما ذكر الله تعالى في سورة البقرة من عدة ذوات
الأقراء ، والمتوفى عنها زوجها.
التفسير والبيان :
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي إن عدة النساء الآيسات وهن اللاتي قد انقطع حيضهن
لكبرهن ببلوغهن سن الخامسة والخمسين أو الستين هي ثلاثة أشهر ، عوضا عن الثلاثة
قروء في حق من تحيض كما دلت على ذلك آية البقرة [٢٢٨] إن شككتم وجهلتم كيف عدتهن ،
وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض عدتهن ثلاثة أشهر كعدة الآيسة.
(وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي وعدة النساء الحوامل أي انتهاء عدتهن يتم بوضع الحمل ،
ولو كان بعد الطلاق أو الموت بساعة في قول جمهور العلماء ، بدليل ما روى أحمد
وأصحاب الكتب الستة عن المسور بن مخرمة أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي عنها
زوجها : سعد بن خولة ، وهي حامل ، فلم تمكث إلا ليالي ، حتى وضعت ، فلما تعلّت ـ شفيت ـ من نفاسها خطبت ،
فاستأذنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في النكاح ، فأذن لها أن تنكح ، فنكحت.
وفي لفظ : أنه دخل
عليها أبو السنابل ، فقال : ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح ، إنك والله ما
أنت بناكح ، حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك ، جمعت
علي ثيابي ، حين أمسيت ، فأتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ،
وأمرني بالتزوج إن بدا لي.
__________________
وأخرج أبو داود
والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود أنه قال : من شاء لاعنته أن الآية التي في النساء
القصرى : (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ) الآية ، نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة [٢٣٤] بكذا
وكذا شهرا.
وقال علي وابن
عباس رضياللهعنهما : تعتد الحامل المتوفى عنها زوجها بأبعد الأجلين من وضع
الحمل ، والأشهر أي أربعة أشهر وعشر ، عملا بهذه الآية والتي في سورة البقرة.
وهذا في الواقع
جمع بين المدتين ، وليس جمعا بين النصين ولا إعمالا لعموم كل منهما في مقتضاه ،
فإننا إذا حكمنا بعدم انتهاء العدة على من وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشر ، كان
ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى : (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). وكذلك إذا حكمنا بعدم انتهاء العدة على من مضى عليها أربعة
أشهر وعشر ، ولم تضع حملها ، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى
: (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي ومن يخف الله ويرهب عقابه ، فيأتمر بما أمر الله به ،
وينته عما نهى عنه ، يسهّل عليه أمره كله في الدنيا والآخرة. وهذا تنويه بفضيلة
التقوى في الدنيا والآخرة.
(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ
أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ،
وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي جميع الأحكام المتقدمة في الطلاق والعدة والسكنى هو أمر
الله الذي أمر به عباده ، وأنزله إليهم في قرآنه ، ومن يخف الله ، بأداء فرائضه ،
واجتناب معاصيه ، يمح عنه ذنوبه من صحائف أعماله ، ولا يؤاخذه بها ، كما وعد بذلك
في قوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ١١ / ١١٤]
ويضاعف له جزاء
حسناته ، ويجزل له
المثوبة على عمله. وقد كرر الأمر بالتقوى للتأكيد عليها ، وكونها عماد النجاة
والسعادة الدنيوية والأخروية.
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ عدة المرأة
اليائس التي انقطع دمها بسبب الكبر وتقدم السن ، وعدة الفتاة الصغيرة التي لم تر
الدم هي ثلاثة أشهر ، تقابل القروء الثلاثة عند من ترى الدم. وسن اليأس في تقدير
الحنابلة : خمسون سنة ، وفي تقدير الحنفية : خمس وخمسون ، وعند الشافعية : اثنان
وستون سنة ، وعند المالكية : سبعون سنة.
ولو تأخر الحيض
لغير مرض ولا رضاع ، فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها ، تسعة أشهر ثم ثلاثة. وكذلك
المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ، ولا تخرج من العدة إلا
بارتفاع الريبة ، وتكون عدتها عند المالكية والحنابلة سنة بعد انقطاع الحيض ، بأن
تمكث تسعة أشهر ، وهي مدة الحمل غالبا ، ثم تعتد بثلاثة أشهر ، فيكمل لها سنة ، ثم
تحل. وحكمها عند الحنفية والشافعية أنها تبقى أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن من لا تحيض
، ثم تعتد بثلاثة أشهر.
ومن تأخر حيضها
لمرض ، فكذلك تعتد عند مالك تسعة أشهر ثم ثلاثة. وأما من انقطع حيضها بسبب الرضاع
فإن عدتها عند المالكية تنقضي بمضي سنة بعد انتهاء زمن الرضاع وهو سنتان ، فإن رأت
الحيض ولو في آخر يوم من السنة ، انتظرت الحيضة الثالثة.
وأما التي جهل
حيضها بالاستحاضة أو ممتدة الدم فعدتها عند المالكية سنة كاملة ، تمكث تسعة أشهر
استبراء لزوال الريبة ، لأنها مدة الحمل غالبا ، وثلاثة أشهر عدة ، وتحل للأزواج.
والمفتي به عند
الحنفية : أنها تنقضي عدتها بسبعة أشهر ، بأن يقدر طهرها بشهرين ، فتكون أطهارها
ستة أشهر ، وتقدر ثلاث حيضات بشهر احتياطا.
وذهب الشافعية
والحنابلة إلى أن عدة المستحاضة الناسية لوقت الحيض ، والمبتدأة كالآيسة : ثلاثة
أشهر ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم أمر حمنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة ،
فجعل لها حيضة من كل شهر.
٢ ـ عدة الحامل
تنتهي بوضع الحمل ، سواء كانت مطلّقة أو متوفى عنها زوجها. وتحل عند المالكية إذا
وضعت علقة أو مضغة. وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تحلّ إلا بما يكون ولدا.
٣ ـ من يتّق الله
في اجتناب معاصيه ، يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعات ، وقال الضحاك : من
يتق الله في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. ثم كرر الله تعالى الحث
على التقوى ، فذكر أن من يعمل بطاعة الله يكفّر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة ،
ومن الجمعة إلى الجمعة ، ويعظم أجره في الآخرة.
٤ ـ إن المذكور من
الأحكام المتقدمة أمر الله أنزله للناس وبيّنه لهم.
السكنى والنفقة للمعتدة وأجر الرضاع
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها
سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))
الإعراب :
(أَسْكِنُوهُنَ) جواب عن سؤال تقديره : كيف نتقي الله فيهن؟
(مِنْ وُجْدِكُمْ) عطف بيان لقوله : (مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ) أو بدل مما قبله ، بإعادة الجار ، وتقدير مضاف ، أي أمكنة
سعتكم ، لا ما دونها.
المفردات اللغوية
:
(أَسْكِنُوهُنَ) أسكنوا المطلقات المعتدات. (مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ) أي بعض مساكنكم وفي مستوى سكناكم. (مِنْ وُجْدِكُمْ) مما تجدونه ويكون في وسعكم وطاقتكم. (وَلا تُضآرُّوهُنَ) أي في النفقة والسكنى. (لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَ) لتضايقوهن في المساكن ، فتلجئوهن إلى الخروج ، ولا في
النفقة فيفتدين منكم. (حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَ) فحينئذ يخرجن من العدة. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ) أولادكم منهن بعد انتهاء رابطة الزواج. (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على الإرضاع. (وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي ليأمر بعضكم بعضا بجميل وروح كريمة في الإرضاع والأجر ،
رعاية لمصلحة الأم والولد وحال الأب ، فلا بخل من الأب ، ولا معاسرة أو مضايقة
وإرهاق لجانب الأب. (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) تضايقتم في الإرضاع ، وضيق بعضكم على بعض في الأجر وأصابكم
إعسار واختلاف ، فامتنع الأب من الأجرة ، والأم من الرضاع. (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) سترضع للأب امرأة أخرى ، ولا تكره الأم على الرضاع ، وفيه
معاتبة للأم على المعاسرة.
(لِيُنْفِقْ) على المطلقات والمرضعات. (ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ) لينفق الموسر بقدر يسره ووسعه. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) ضيق عليه أو قتر عليه في الرزق ، وهو المعسر ، فلينفق بقدر
وسعه. (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آتاهُ اللهُ) مما أعطاه الله على قدره. (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا ما آتاها) لا يكلف الله نفسا إلا بقدر ما أعطاها من الرزق قليلا أو
كثيرا ، وفيه تطييب لقلب المعسر ، فوعده باليسر ، فقال : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي يبدل بالعسر يسرا ، عاجلا أو آجلا.
المناسبة :
بعد بيان عدة
الآيسة والصغيرة والحامل الحبلى ، ذكر الله تعالى ما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى
بقدر الطاقة ، سواء كانت مطلقة أو حاملا ، ثم ذكر ما يجب للمطلقة من أجرة على رضاع
ولدها إذا هي أرضعته ، فالأم أولى بالإرضاع إذا رضيت بأجر المثل ، فإن أبت أرضعت
المولود امرأة أخرى.
التفسير والبيان :
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ، وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) أي أسكنوا المطلقات في مسكن مشابه لما تسكنون فيه بقدر
أحوالكم ، وقدر سعتكم وطاقتكم ، ولو كان ذلك في حجرة من غرف الدار التي تسكنون
فيها ، ولا تلحقوا بهن ضررا في النفقة والسكنى ، فتلجئوهن إلى الخروج من المسكن ،
أو التنازل عن النفقة ، فالوجد : الغنى والمقدرة. وهذا بيان ما يجب للمطلقات من
السكنى في المستوى الملائم لحال الرجل ، لأن السكنى نوع من النفقة الواجبة على
الزوج ، فإذا طلق الرجل زوجته ، وجب عليه أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها ، دون
مضارّة في السكنى أو النفقة.
(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي إن كانت المرأة المطلقة حاملا ، وجب الإنفاق عليها حتى
تضع حملها. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة. وقد ذهب
الحنفية إلى تعميم هذا الحكم ، فقالوا : تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة ، ولو
مبتوتة ، وإن لم تكن ذات حمل ، لقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) وترك النفقة من أكبر الأضرار ، لما روي عن عمر رضياللهعنه أنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في المبتوتة : «لها النفقة والسكنى» لأن ذلك جزاء
الاحتباس ، وتستوي فيه الحامل وغيرها. لكن قال الإمام أحمد : لا يصح ذلك عن عمر.
ورأى مالك
والشافعي : أن للمطلقة ثلاثا السكنى ، ولا نفقة لها إلا إذا كانت حاملا ، لأن آية (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) هي في البائن الحامل ، بدليل أن الرجعية تجب نفقتها ، سواء
كانت حاملا أو حائلا (غير حامل) لذا قالوا : الآية دليل على اختصاص النفقة بالحامل
من المعتدات ، والأحاديث تؤيده.
ومذهب أحمد وإسحاق
وأبي ثور : ألا نفقة للمطلقة ثلاثا ولا سكنى ، لما
رواه مسلم وأحمد
من حديث فاطمة بنت قيس الذي طلّقها زوجها ثلاثا ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا نفقة لك ولا سكنى». وذكر الدار قطني عن الأسود بن
يزيد قال : قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس : لا نجيز في المسلمين قول امرأة.
وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. لكن قال الدار قطني : السنة بيد فاطمة
قطعا.
ثم أمر الله تعالى
بدفع الأجرة على الرضاع ، فقال :
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ، وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي فإن أرضعت الأمهات المطلقات أولادكم بعد ذلك ، فأعطوهن
أجور إرضاعهن إذا رضين بأجر المثل ، وائتمروا وتآمروا وتشاوروا أيها الأزواج
والزوجات الذين وقع بينهم الفراق بالطلاق بما هو جميل معروف ، وحسن غير منكر ، في
شأن الولد بما يضمن أوضاعه الصحية والمعاشية ، من غير إضرار ولا مضارة ، كما قال
تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) [البقرة ٢ / ٢٣٣]
وقال سبحانه : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة ٢ / ٢٣٣]. والآية دليل على أن أجرة الرضاع للأولاد
على الأزواج ، وحق الحضانة على الزوجات.
(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي وإن تضايقتم واختلفتم في شأن الإرضاع ، فأبى الزوج أن
يعطي الأم الأجر الذي تريده ، وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر ، فيستأجر
الأب مرضعة أخرى ترضع ولده. وفي هذا عتاب للأم على التشدد في الطلب ، وعدم التسامح
مع الأب. وذلك إذا قبل الولد ثدي امرأة أخرى ، وإلا وجب الإرضاع على الأم.
ثم أبان الله
تعالى مقدار النفقة ، فقال :
(لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آتاهُ اللهُ) أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب طاقته أو قدرته ،
ومن كان فقيرا
مقترا أو مضيّقا
عليه في الرزق ، فلينفق مما أعطاه الله من الرزق بقدر سعته ، ليس عليه إلا ذلك ،
كما قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦].
وقال هنا :
(لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من الرزق ، فلا يكلف
الفقير بأن ينفق على الزوجة والقريب الرحم ما ليس في وسعه ، كنفقة الغني.
ثم وعد الله تعالى
بالعطاء والفضل ، فقال :
(سَيَجْعَلُ اللهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي سيجعل الله بعد ضيق وشدة سعة وغنى ، وهذا وعد منه تعالى
، ووعده حق لا يخلفه ، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب ، كما قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الانشراح ٩٤ / ٥
ـ ٦].
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على
الأحكام التالية :
١ ـ السكنى بقدر
الطاقة وفي المستوى اللائق بحال الزوج واجبة لكل مطلقة. وقد أجمع العلماء على أن
للمرأة الرجعية (التي يحق مراجعتها بعد طلقة واحدة رجعية أو طلقتي) السكنى والنفقة
، أما السكنى : فللآية : (أَسْكِنُوهُنَ) وآية (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) وأما النفقة ولو لم تكن حاملا فلأن الرجعية كالزوجة في
بقاء حق الاحتباس وسلطة الزوج عليها ، فيكون الإجماع مخصصا لمفهوم قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ).
واتفق العلماء
أيضا على أن للبائن (التي طلقت طلاقا بائنا) الحامل السكنى والنفقة ، لقوله تعالى
: (أَسْكِنُوهُنَ) وقوله سبحانه : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ).
وأما البائن غير
الحامل أو المطلقة ثلاثا ، فاختلف العلماء في سكناها ونفقتها على أقوال ثلاثة تقدم
ذكرها ، وموجزها كما يلي :
أحدها ـ وجوب
السكنى والنفقة لها : وهو مذهب عمر وابن سعود وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين ،
ومذهب الحنفية والثوري ، لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة ، ولأن النفقة جزاء الاحتباس
لحق الزوج ، سواء كانت حاملا أو حائلا. والمقصود بآية (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَ) دفع توهم ألا نفقة لها لطول مدة الحمل. وقد قال عمر رضياللهعنه : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلىاللهعليهوسلم لقول امرأة ، لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت
قيس حين طلقها زوجها البتة : «لم يجعل لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم سكنى ولا نفقة».
والثاني ـ ألا
نفقة للمبتوتة ولا سكنى : وهو رأي ابن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت
قيس وبعض التابعين ، وإسحاق وداود وأحمد ، لحديث مسلم وغيره المتقدم عن فاطمة بنت
قيس حينما طلقها عمرو بن حفص البتة ، فلم يفرض لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم نفقة ولا سكنى.
والثالث ـ للمطلقة
البائن بينونة كبري السكنى دون النفقة : وهو مذهب مالك والشافعي ، أما السكنى
فلقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) وأما عدم النفقة فلمفهوم قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فإن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة ، فلما
ذكر النفقة قيدها بالحمل ، فدل مفهوم : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ) على أن المطلقة البائن غير الحامل لا نفقة لها.
وردّ الجصاص على
حديث فاطمة بنت قيس بقوله : وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه ، ومن شرط
قبول أخبار الآحاد تعريها من نكير السلف ، أنكره عمر بن الخطاب على فاطمة بنت قيس
، فقال : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة ، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ،
لها السكنى والنفقة ، قال الله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ)
.
ثم جمع بين هذا
الحديث ـ على فرض صحته ـ وبين الآية ، فقال : وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على
مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة ، وذلك لأنه قد روي أنها استطالت بلسانها
على أحمائها ، فأمرها بالانتقال ، فلما كان سبب النقلة من جهتها ، كانت بمنزلة
الناشزة ، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا ، فكانت العلة الموجبة لإسقاط النفقة هي
الموجبة لإسقاط السكنى .
٢ ـ تحريم مضارة
المرأة المطلقة في المسكن والنفقة ، كما تحرم الرجعة والطلاق بقصد الضرار ، وهو أن
يطلقها ، فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.
٣ ـ لا خلاف بين
العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا ، أو أقل منهن حتى تضع
حملها.
أما الحامل
المتوفى عنها زوجها : فقال جماعة من الصحابة كعلي وابن عمر وابن مسعود والتابعين
كالنخعي والشعبي وحماد : ينفق عليها من جميع المال أي من التركة حتى تضع. وقال ابن
عباس وابن الزبير ومالك والشافعي وأبو حنيفة : لا ينفق عليها إلا من نصيبها ، روى
الدار قطني بإسناد صحيح
__________________
عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ليس للحامل المتوفى عنها زوجها نفقة».
٤ ـ إذا أرضعت
المطلقات أولاد الزوج ، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. ويجوز عند مالك
والشافعي للرجل أن يستأجر امرأته للرضاع ، كما يستأجر أجنبية. ولا يجوز عند أبي
حنيفة الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبنّ أي يصبحن بائنات.
فإذا رضيت الأم أن
ترضع ولدها بأجر المثل ، فهي أحق به ، لوفور شفقتها ، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من
كل أحد ، وليس للأب أن يسترضع غيرها في هذه الحالة. وتستحق الأجرة بالفراغ من
العمل ، لا بالعقد ، لأن الله أوجبها بعد الرضاع بقوله : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ، فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ).
٥ ـ دلّ قوله
تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ ..) أيضا على أن نفقة الولد الصغير على أبيه ، لأنه إذا لزمه
أجرة الرضاع ، فكفايته ألزم. لذا أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له ، وألحق به بالغ
عاجز عن نفقة نفسه ، لخبر هند بنت عتبة فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي
وابن ماجه عن عائشة : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
٦ ـ على الأزواج
والزوجات الائتمار بينهم أو قبول بعضهم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل في
الإرضاع والأجر وغيرهما. والجميل من الأم المطلقة إرضاع الولد من غير أجرة.
والجميل من الأب توفير الأجرة للأم للإرضاع.
٧ ـ إن حدث
التعاسر أو تضييق بعض الأزواج على بعض في أجرة الرضاع ، فأبى الزوج أن يدفع للأم
أجرة المثل ، أو أبت الأم الرضاع أو تغالت في الأجرة ، فليس للزوج إكراهها ،
وليستأجر مرضعة أخرى غير أمه.
ودلت الآية (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ ..) أيضا على أنه إذا طلبت الأم أكثر من أجر
المثل ، فللأب أن
يسترضع غيرها ممن يرضى بأجر المثل ، إذا قبل الصبي ثدي المرأة الأخرى ، ولم يحصل
له ضرر بلبنها ، وإلا أجبرت الأم على إرضاعه بأجرة المثل.
فإن اختلفا في
الأجرة : فإن دعت الأم إلى أجر مثلها ، وامتنع الأب إلا تبرعا ، فالأم أولى بأجر
المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل ، وامتنعت الأمّ لتطلب
شططا ، فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها ، أخذت جبرا برضاع ولدها.
٨ ـ على الزوج
الإنفاق على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه وطاقته ، فإن كان غنيا موسرا
أنفق نفقة الأغنياء ، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء.
وتقدر النفقة بحسب
حالة المنفق وحاجة المنفق عليه بالاجتهاد على وفق العرف والعادة ، في رأي
المالكية. وقال الإمام الشافعي : النفقة مقدّرة محدّدة ، ولا اجتهاد لحاكم أو لمفت
فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده يسرا وعسرا ، ولا يعتبر بحالها وكفايتها ، فإن
كان الزوج موسرا لزمه مدّان ، وإن كان متوسطا فمدّ ونصف ، وإن كان معسرا فمدّ ،
لقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) الآية ، وقوله سبحانه : (عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة ٢ / ٢٣٦]
، فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها ، ولأن مراعاة كفايتها لا سبيل إلى
علمه للحاكم ولا لغيره ، فتقع الخصوصة ، لأن الزوج يدّعي أنها تطلب فوق كفايتها ،
وهي تزعم أن ما تطلبه قدر كفايتها ، فجعلت مقدرة قطعا للخصومة.
وأدلة المالكية
على تقدير النفقة بحسب حال الزوجين معا عرفا وعادة قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة ٢ / ٢٣٣]
، وقوله صلىاللهعليهوسلم في الصحيحين لهند امرأة أبي سفيان : «خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف» وفي صحيح مسلم أنه صلىاللهعليهوسلم قال في خطبة الوداع : «واتقوا الله في
النساء ، فإنكم
أخذتموهن بسنة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف» ففي الحديثين إحالة على الكفاية ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام للأم في
حديث هند : لا اعتبار بكفايتك ، وأن الواجب لك شيء مقدر.
٩ ـ آية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد ، دون الأمّ ، خلافا
لمحمد بن الموّاز يقول : إنها على الأبوين على قدر الميراث. وفي البخاري عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «تقول لك المرأة : أنفق علي وإلا فطلّقني ، ويقول لك
العبد : أنفق علي واستعملني ، ويقول لك ولدك : أنفق عليّ ، إلى من تكلني».
١٠ ـ قوله تعالى :
(لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا ما آتاها) دليل على أنه لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني ، وعلى أنه
لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة ، لأنه تضمن عدم التكليف بالإنفاق في حال
العجز ، فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجل النفقة ، لأن فيه إيجاب التفريق لشيء
لم يجب عليه.
وكذلك قوله تعالى
: (سَيَجْعَلُ اللهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) يدل على أنه لا يفرق بين الزوجين من أجل عجزه عن النفقة ،
لأن العسر يرجى له اليسر ، وسيجعل الله بعد الضيق غنى ، وبعد الشدّة سعة ، كما قال
تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ ، فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة ٢ / ٢٨٠]. وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد.
والقول بالفسخ
للإعسار بالنفقة مذهب مالك وأظهر قولي الشافعي ورواية أخرى عن أحمد ، بدليل خبر
الدار قطني والبيهقي في الرجل لا يجد شيئا ينفق على امرأته : يفرّق بينهما. ولأنه
شرع الفسخ بالعنّة لإزالة الضرر ، والضرر الذي يلحق المرأة بعدم النفقة أشد من
ضررها بالعنة ، فكان الفسخ بالعجز عن النفقة أولى من الفسخ بالعنة.
ودلت الآية : (لا يُكَلِّفُ اللهُ ..) أيضا على أنه ينبغي للإنسان مراعاة حال نفسه في النفقة
والصدقة ، جاء في الحديث : «إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا ، إذا هو سبحانه وسّع
عليه وسّع ، وإذا هو عزوجل قتّر عليه قتّر» .
وعيد المخالفين ووعد الطائعين والتذكير بقدرة الله
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً
وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ
أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا
أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
(١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ
الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))
الإعراب :
(الَّذِينَ آمَنُوا) نعت للمنادى أو بيان له.
(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً ، رَسُولاً رَسُولاً) : منصوب بأحد خمسة أوجه : إما منصوب ب (ذِكْراً) على أنه مصدر ، أي : أن اذكر رسولا ، كانتصاب (يَتِيماً) في قوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً) [البلد ٩٠ / ١٤ ـ ١٥]
أي أن أطعم يتيما ، أو منصوب بفعل مقدر ، أي وأرسل رسولا ، أو بتقدير : أعني ، أو
أن يكون بدلا من (ذِكْراً) ويكون (رَسُولاً) بمعنى رسالة ، وهو بدل الشيء من الشيء نفسه ، أو منصوب على
الإغراء ، بتقدير : اتبعوا رسولا.
__________________
(مُبَيِّناتٍ) حال من اسم الله أو صفة رسولا. (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) مبتدأ وخبر.
(وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ مِثْلَهُنَ) : إما منصوب بتقدير فعل أي : من الأرض خلق مثلهن ، وليس
منصوبا بفعل (خَلَقَ) المتقدم لئلا يقع الفصل بين واو العطف والمعطوف بالجار
والمجرور. أو مرفوع بالظرف أو على الابتداء ، أو الخبر مع خلاف فيه. (لِتَعْلَمُوا) اللام إما تتعلق ب (يَتَنَزَّلُ) أو تتعلق ب (خَلَقَ).
البلاغة :
(فَحاسَبْناها حِساباً
شَدِيداً ، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) تكرار الوعيد للترهيب.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ) مجاز مرسل ، أي أهل قرية ، من إطلاق المحل وإرادة الحالّ.
(لِيُخْرِجَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) استعارة ، استعار الظلمات للكفر والضلال ، والنور للهدى
والإيمان.
(قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً وَيُعْظِمْ لَهُ
أَجْراً سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) هذه الآيات فيما سبق من السورة سجع بديع غير متكلف.
المفردات اللغوية
:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ) أي وكثير من أهل قرية ، (وَكَأَيِّنْ) : كاف الجرّ دخلت على «أي» بمعنى «كم». (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) عصت وأعرضت أو تجبرت وتكبرت ، المراد عتى أهلها. (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) بالاستقصاء والمناقشة ، والحساب في الآخرة ، وعبر عنها
بالماضي وإن لم تجئ لتحقق وقوعها. (عَذاباً نُكْراً) عذابا منكرا عظيما وهو عذاب النار.
(فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها) عاقبة عتوها وكفرها ومعاصيها. (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً٠) أي خسارة وهلاكا ، وهي خسارة لا ربح فيها أصلا. (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) تكرار الوعيد للتوكيد. (أُولِي الْأَلْبابِ) أصحاب العقول. (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي قرآنا. (رَسُولاً) أي وأرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الذين آمنوا بعد إنزال الذكر ومجيء الرسول صلىاللهعليهوسلم. (مِنَ الظُّلُماتِ
إِلَى النُّورِ) من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهدى.
(قَدْ أَحْسَنَ اللهُ
لَهُ رِزْقاً) هو رزق الجنة التي لا ينقطع نعيمها ، وفيه تعجب وتعظيم لما
رزقوا من الثواب. (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض ، يعني سبع
أرضين. (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن ، وينفذ حكمه فيهن. (لِتَعْلَمُوا) متعلق بمضمر يعم كلّا من الخلق والتنزيل فإن كلّا منهما
يدل على كمال قدرته وعلمه ، فهو علة للأمرين.
المناسبة :
بعد بيان أحكام
الطلاق والعدة وما يجب للمعتدة من نفقة وسكنى ، والنهي عن تجاوز حدود الله ، أنذر
الله تعالى وتوعد كل من خالف أمره وكذب رسله عليهمالسلام ، بعقاب مماثل لعقاب الأمم الخالية التي كفرت وكذبت رسلها
، ثم أردف ذلك بالتذكير بعظيم قدرته وإحاطة علمه ، للحث على التزام الأوامر والعمل
بالشريعة والأحكام ، فكانت الآيات تحذيرا من مخالفة الأمر بعد بيان الأحكام.
التفسير والبيان :
توعد الله تعالى
كل من خالف أمره وكذّب رسله ، وسلك غير ما شرعه ، وأخبر عما حلّ بالأمم السالفة
بسبب ذلك ، فقال :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ ، فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً
وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي وكثير من أهل القرى عصوا أمر الله ورسله ، وأعرضوا
وتكبروا وتمردوا عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله ، حاسبها الله بأعمالها التي
عملتها في الدنيا ، وعذب أهلها عذابا عظيما منكرا في الآخرة ، وفي الدنيا بالجوع
والقحط والسيف والخسف.
وعبّر بقوله : (فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها) بالماضي عن المستقبل في الآخرة للدلالة على التحقق والوقوع
لوعيد الله ، مثل : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل ١٦ / ١] ،
وقوله : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) [الزمر ٣٩ / ٦٨] ،
وقوله : (وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف ٧ / ٤٤] ، ونحو ذلك.
ثم أخبر عن سبب
العذاب ، فقال :
(فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها ، وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي لقيت شدة أمرها وعقوبة كفرها ، وكان مصيرها الخسران
والهلاك والنكال في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، فخسروا أنفسهم وأموالهم وأهلهم.
ثم أكّد الوعيد
بقوله :
(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) أي هيأ الله لهم عذابا شديد الوقع والألم لكفرهم وعتوهم
وتمردهم ، وهو عذاب النار.
ثم ذكر الله تعالى
العبرة من الإنذار والوعيد وهي حث المؤمنين على التقوى ، فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي فخافوا عقاب الله يا أصحاب العقول الراجحة ، والأفهام
المستقيمة ، فلا تكونوا مثلهم ، فيصيبكم مثلما أصابهم.
ثم أوضح لهم ما
يذكّرهم بنحو دائم ، فقال :
(الَّذِينَ آمَنُوا
قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ، رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ
اللهِ مُبَيِّناتٍ ، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي فاتقوا الله يا أولي العقول من هذه الأمة الذين صدقوا
بالله ورسله ، وأسلموا الله ، واتبعوا رسولهم محمدا صلىاللهعليهوسلم ، قد أنزل الله إليكم ذكرا دائما وهو القرآن العظيم ،
وأرسل إليكم رسولا بهذا القرآن ، فهو الترجمان الصادق ، وهو الذي يبلّغكم وحي الله
، ويقرأ عليكم كلام الله وآياته في حال كونها بيّنة واضحة جلية ، يبيّن فيها للناس
ما يحتاجون إليه من الأحكام ، ليخرج الله بالآيات والرسول الذين آمنوا بالله ورسله
، وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية ، ومن ظلمات الكفر إلى نور
الإيمان.
ثم أكرمهم ورغّبهم
ببيان جزاء الإيمان والعمل الصالح ، فقال :
(وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ، يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أي ومن يصدق بالله ، ويعمل العمل الصالح ، فيجمع بين
التصديق والعمل بما فرضه الله عليه ، يدخله جنات ، أي بساتين تجري من تحت قصورها
وأشجارها الأنهار ، ماكثين فيها أبدا على الدوام ، وقد وسّع الله له رزقه في
الجنة.
ثم نبّه عباده إلى
عظيم قدرته وإحاطة علمه ، فقال :
١ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي إن الله هو الذي أبدع السموات السبع ، والأرضين السبع ،
أي سبعا مثل السموات السبع ، يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه ووحيه من السموات السبع
إلى الأرضين السبع ، قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [الملك ٦٧ / ٣].
وثبت في الصحيحين
: «من ظلم قيد شبر من الأرض ، طوّقه من سبع أرضين» وفي صحيح البخاري : «خسف به إلى
سبع أرضين» وفي البخاري وغيره أيضا : «اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن ، وربّ
الأرضين وما أقللن».
وروى ابن مسعود أن
النّبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي ،
إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».
وقال قتادة : في
كل أرض من أرضه ، وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه.
٢ ـ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي فعل ذلك ، فخلق السموات والأرض وأنزل قضاءه وأمره فيهما
، لأجل أن تعلموا كمال قدرته ، وإحاطة علمه بجميع الأشياء ، فلا يخرج عن علمه شيء
منها كائنا ما كان
، فاحذروا المخالفة ، واعتبروا بمصير الأمم السابقة ، فإن الله عالم بأعمالكم كلها
، وسيجازيكم عليها.
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات إلى
ما يأتي :
١ ـ حذر الله
سبحانه من مخالفة أوامره ، من طريق بيان عتو قوم وحلول العذاب بهم ، فكثير من أهل
القرى الظالمة التي عصت أمر الله ورسله ، جازاهم بالعذاب في الدنيا بالجوع والقحط
والسيف والخسف وسائر المصائب ، وسيحاسبهم في الآخرة حسابا شديدا ، ويعذبهم عذابا
منكرا عظيما.
فذاقوا عاقبة
كفرهم ، وكان عاقبة أمرهم الهلاك والخسران في الدنيا بما ذكر ، وفي الآخرة بجهنم.
وقد بيّن الله
تعالى نوع الخسر وهو أنه عذاب جهنم في الآخرة.
٢ ـ أمر الله
بالتقوى عن الكفر به وبرسوله ، وجعل الأمر خطابا لأهل العقول الراجحة ، وللمؤمنين
الذين آمنوا بالله ورسله ، والذين أنزل عليهم القرآن ، وأرسل لهم الرسول محمدا صلىاللهعليهوسلم الذي يتلو عليهم الآيات البينات الواضحات التي تبين ما
يحتاج إليه الناس من الأحكام والشرائع.
والتقوى : الخوف
من الله والعمل بطاعته ، والانتهاء عن معاصيه. والغاية السامية من التقوى والإيمان
والعمل الصالح هي الخروج من الكفر والضلالة إلى الهدى والنور.
٣ ـ الدليل على
كمال قدرة الله تعالى ، وأنه يقدر على البعث والحساب هو خلق السموات والأرض ،
والدليل على إحاطة علم الله تعالى بكل شيء : علمه بجميع أحوال أهل السماء وأهل
الأرض ، وتدبير الكون ، وتنزيل الأمر فيهم ،
وإنفاذ القضاء
والحكم والوحي في شؤونهم ، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته ، وهو القادر على مجازاة
جميع مخلوقاته ، ولا يعلم أجرام السماء ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها في
المخلوقات إلا علام الغيوب.
ولا خلاف في أن
السموات سبع ، بعضها فوق بعض ، كما دلّ حديث الإسراء وغيره ، واختلفوا في الأرض ،
فقال الجمهور : إنها سبع أرضين طباقا ، بعضها فوق بعض ، ولعل ذلك طبقات الأرض ،
لقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) أي سبعا من الأرضين ، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير
فتوق أو فرجة ، وللأحاديث الصحيحة المتقدمة مثل الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن
عائشة وسعيد بن زيد : «من ظلم قيد شبر من الأرض ، طوّقه من سبع أرضين». وقيل :
إنها أرض واحدة ، وأن المماثلة ليست في العدد ، وأن المماثلة في العدد ، وإنما هي
في الخلق والإبداع والإحكام. والرأي الأول أصح وأظهر ، كما قال القرطبي وغيره من
كبار المفسرين القدامى والمعاصرين ، لأن الأخبار دالّة عليه في الترمذي والنسائي
وغيرهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التحريم
مدنيّة ، وهي
اثنتا عشرة آية.
تسميتها
:
سميت سورة «التحريم»
، لتحريم النبي صلىاللهعليهوسلم شيئا على نفسه ، وافتتاح السورة بعتابه على سبيل التلطف في
قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ..).
مناسبتها لما
قبلها :
تظهر مناسبة هذه
السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة :
١ ـ افتتاح
السورتين كلتيهما بخطاب النّبي صلىاللهعليهوسلم : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُ).
٢ ـ اشتراك
السورتين في الأحكام المخصوصة بالنساء ، فالأولى سورة الطلاق في بيان أحكام الطلاق
والعدة وحقوق المعتدة وحسن المعاشرة ، وهذه السورة في موقف بعض نساء النّبي صلىاللهعليهوسلم وكيفية معاملة النّبي صلىاللهعليهوسلم لهنّ بالحسنى واللين والنصح.
٣ ـ إن سورة
الطلاق المتقدمة في تحريم ما أحل الله بالطلاق ، وإنهاء خصومة بعض نساء الأمة ،
وهذه السورة في تحريم ما أحل الله من نوع آخر بالإيلاء ، وإنهاء خصومة نساء النّبي
صلىاللهعليهوسلم ، وإفرادها بأحكامهن تعظيما لهن ، لذا ختمت بذكر زوجته في
الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران.
ما
اشتملت عليه السورة :
هذه السورة
المدنية تتضمن بعض أحكام التشريع الخاصة بأمهات المؤمنين لتكون نموذجا يحتذي لجميع
الأمة.
ابتدأت السورة
بعتاب لطيف للنّبي صلىاللهعليهوسلم على تحريمه على نفسه شيئا مباحا وهو العسل كما ثبت في
الصحيح إرضاء لبعض أزواجه : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
..) الآية.
ثم وجّهت العتاب
لبعض أزواج النبي لإفشائهن السرّ حين أسرّ النبي صلىاللهعليهوسلم إلى زوجته حفصة ، فأخبرت به عائشة ، مما أغضب النّبي صلىاللهعليهوسلم ، وهمّ بتطليق أزواجه ، وهدّدهن الله بإبداله أزواجا خيرا
منهن : (وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ ...)
(عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ ..).
وناسب هذا التذكير
باتقاء أهل بيت الإيمان النار والترهيب من الجزاء ، وبالتوبة النصوح ، وبجهاد
الكفار والمنافقين من غير انشغال بأحوال البيت والأسرة من أزواج وأولاد.
وختمت السورة بضرب
مثلين عظيمين : أحدهما للكافرين ، والثاني للمؤمنين ، والأول مثل الزوجة الكافرة :
امرأة نوح وامرأة لوط عليهماالسلام ، عند الرجل المؤمن الصالح ، والثاني مثل الزوجة المؤمنة :
امرأة فرعون ، عند الرجل الكافر الفاجر ، ومثل المرأة الحرة التقية البتول في غير
عصمة أحد ، تنبيها للناس على وجوب اعتماد الإنسان على نفسه ، وأنه لا يغني في
الآخرة أحد عن أحد ، ولا ينفع حسب ولا نسب إذا ساء العمل.
بعض أحوال نساء النبي صلىاللهعليهوسلم
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ
وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ
إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ
عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ
مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا
إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ
هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ
ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً
مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ
وَأَبْكاراً (٥))
الإعراب :
(تَبْتَغِي مَرْضاتَ
أَزْواجِكَ تَبْتَغِي) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (تُحَرِّمُ).
(فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) جمع القلوب ، ولم يقل «قلبا كما» بالتثنية ، لأن كل ما ليس
في البدن منه إلا عضو واحد ، فإن تثنيته بلفظ جمعه ، والقلب ليس في البدن منه إلا
عضو واحد. ولو قال : قلبا كما أو قلبكما ، لكان جائزا.
(هُوَ مَوْلاهُ هُوَ) : ضمير فصل.
(وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) إنما قال (ظَهِيرٌ) بالإفراد ، دون الجمع «ظهراء» لأن ما كان على وزن فعيل
يستوي فيه الواحد والجمع ، مثل قوله تعالى : (خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف ١٢ / ٨٠]. وقد
يستغنى بذكر الواحد عن الجمع ، مثل قوله تعالى : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ
طِفْلاً) [غافر ٤٠ / ٦٧].
(أَنْ يُبْدِلَهُ
أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) الجملة جواب الشرط ، و (أَنْ يُبْدِلَهُ) : خبر (عَسى).
البلاغة :
(تُحَرِّمُ ما أَحَلَ) بينهما طباق ، وكذا بين (عَرَّفَ وَأَعْرَضَ) وبين (ثَيِّباتٍ
وَأَبْكاراً).
(إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ) التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في العتاب.
(غَفُورٌ رَحِيمٌ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ظَهِيرٌ) صيغ مبالغة.
(وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ) عام بعد خاص ، ذكر الملائكة بعد جبريل أحدهم اعتناء بشأن
الرسول صلىاللهعليهوسلم ومناصرته.
المفردات اللغوية
:
(لِمَ تُحَرِّمُ ما
أَحَلَّ اللهُ لَكَ) لم تمنع نفسك من الحلال وهو العسل. (تَبْتَغِي) تطلب بالتحريم. (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) رضاهن. (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) غفر لك هذا
التحريم ، فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله ، رحيم بك حيث لم يؤاخذك به ، وعاتبك
حفاظا على عصمتك.
(فَرَضَ اللهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) شرع لكم تحليل الأيمان بالكفارة المذكورة في سورة المائدة [الآية
٨٩]. قال مقاتل : أعتق النبي صلىاللهعليهوسلم رقبة ، وقال الحسن : لم يكفّر ، لأنه صلىاللهعليهوسلم مغفور له. واحتج به من رأى التحريم يمينا ، مع احتمال أنه صلىاللهعليهوسلم أتى بلفظ اليمين ، كما قيل (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم. (الْحَكِيمُ) المتقن في أفعاله وأحكامه.
(وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُ) أي واذكر إذ أسرّ إلى حفصة على المشهور (حَدِيثاً) هو تحريم العسل الذي كان يتناوله عند زينب بنت جحش ،
وأيلولة الخلافة من بعده لأبي بكر وعمر رضياللهعنهما. (نَبَّأَتْ بِهِ) أخبرت حفصة عائشة بالحديث ، ظنا منها ألا حرج في ذلك. (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أطلعه على المنبّأ
به وعلى إفشائه. (عَرَّفَ بَعْضَهُ
وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) عرف حفصة بعض ما فعلت وترك بعضه. (الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) العالم بكل شيء ، (الْخَبِيرُ) بما في السماء والأرض ، لا تخفى عليه خافية.
(إِنْ تَتُوبا) أي حفصة وعائشة ، وجواب الشرط محذوف تقديره : تقبلا. (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) مالت القلوب عما يجب للنّبي صلىاللهعليهوسلم عليهما من التوقير والتعظيم ، بحب ما يحبه ، وكراهية ما
يكرهه. (وَإِنْ تَظاهَرا
عَلَيْهِ) تتظاهرا وتتعاونا على النّبي بما يسوؤه ويؤذيه أو يكرهه.
(مَوْلاهُ) وليه وناصره. (وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) مثل أبي بكر وعمر ، هم ناصروه أيضا ، والمراد بالصالح :
الجنس. (وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) ظهراء أعوان له وأنصار مساعدون ، بعد نصر الله والمذكورين.
(عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) هذا على التغليب أو تعميم الخطاب ، أي عسى إن طلق النبي
أزواجه أن يبدله (بالتشديد والتخفيف) أزواجا خيرا منهن. (مُسْلِماتٍ) مقرّات بالإسلام منقادات. (مُؤْمِناتٍ) مصدقات مخلصات. (قانِتاتٍ) طائعات. (تائِباتٍ) عن الذنوب. (عابِداتٍ) متعبدات لله متذللات لأمر الرسول صلىاللهعليهوسلم. (سائِحاتٍ) صائمات ، سمي الصائم سائحا ، لأنه يسيح في النهار بلا زاد
، أو مهاجرات. (ثَيِّباتٍ
وَأَبْكاراً) مشتملات على الصنفين. ويلاحظ أنه بدأ في وصفهن بالإسلام
وهو الانقياد ، ثم بالإيمان وهو التصديق ، ثم بالقنوت وهو الطواعية ، ثم بالتوبة
وهي الإقلاع عن الذنب ، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله ، ثم بالسياحة وهي
كناية عن الصوم. وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة ، لذا عطف
أحدهما على الآخر ، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى. وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلىاللهعليهوسلم من تزوجها بكرا ، وفيهن الثّيّاب.
سبب النزول :
نزول الآية (١ ، ٢):
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) : ذكر العلماء روايات في سبب نزول الآيتين ، الصحيح منها
كما ذكر ابن كثير وغيره أنهما نزلتا في تحريم العسل ، كما قال البخاري عند هذه
الآية.
أخرج البخاري
ومسلم في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحب الحلواء والعسل ، وكان إذا انصرف عن العصر دخل على
نسائه ، يمكث عند زينب بنت جحش ، فيشرب عندها عسلا ، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا
دخل النبي صلىاللهعليهوسلم عليها ، فلتقل له : إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ، فقال : لا ، بل شربت عسلا عند زينب بنت
جحش ، ولن أعود إليه ، وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا».
__________________
وأخرج الطبراني بسند
صحيح عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يشرب عند سودة العسل ، فدخل على عائشة ، فقالت : إني أجد
منك ريحا ، ثم دخل على حفصة ، فقالت مثل ذلك ، فقال : أراه من شراب شربته عند سودة
، والله لا أشربه ، فنزلت : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ).
وتذكر الروايات في
للسيرة أن النّبي صلىاللهعليهوسلم حرم العسل أمام حفصة فأخبرت عائشة بذلك ، مع أن النبي صلىاللهعليهوسلم استكتمها الخبر ، كما استكمتها ما أسرّها به من الحديث
الذي يسرّها ويسرّ عائشة ، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي.
قال ابن العربي :
إنما الصحيح أن التحريم كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة
وحفصة فيه ، وجرى ما جرى ، فحلف ألا يشربه ، وأسرّ ذلك ، ونزلت الآية في الجميع.
وقال : أما ما روي أن الآية نزلت في الموهوبة (الواهبة نفسها للنبي) فهو ضعيف
السند والمعنى ، أما السند فرواته غير عدول ، وأما المعنى فما يصح أن يقال : إن
ردّ النبي صلىاللهعليهوسلم للهبة كان تحريما ، بل هو رفض لها ، وللموهوب له شرعا ألا
يقبل الهبة. وأما ما روي من أنه حرم على نفسه مارية القبطية ، كما ذكر الدار قطني
عن عمر ، فهو وإن قرب من حيث المعنى ، لكنه لم يدون في صحيح ولا نقله عدل .
نزول الآية (٥):
(عَسى رَبُّهُ ...) : أخرج البخاري عن أنس قال : قال عمر : اجتمع نساء النّبي صلىاللهعليهوسلم في الغيرة عليه ، فقلت : عسى ربّه إن طلقكنّ أن يبدله
أزواجا خيرا منكن ، فنزلت هذه الآية.
__________________
وأخرج أيضا عن أنس
عن عمر قال : بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأذاهنّ إياه ، فاستقريتهنّ امرأة امرأة أعظها ، وأنهاها
عن أذى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأقول : إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ ، حتى أتيت على
زينب ، فقالت : يا ابن الخطاب ، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ،
فأمسكت ، فأنزل الله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) الآية.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يا أيها الرسول النبي ، لماذا تمنع نفسك من بعض ما أباح
الله لك ، قاصدا إرضاء أزواجك ، والله غفور لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك ،
وما تقدم من الزلّة ، رحيم بك ، فلا يعاقبك على ذنب تبت منه ، ولم يؤاخذك به.
وهذا عتاب بطريق
التلطف ، مثل قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة ١٠ / ٤٣] ، وسمي الامتناع عن الحلال ذنبا ، وهو
مباح لغيره ، تعظيما لقدره الشريف ، وإشارة إلى أن ترك الأولى بالنسبة إليه كالذنب
، وإن لم يكن ذنبا في الواقع. والمراد بالتحريم : الامتناع من تناول العسل أو
الاستمتاع ببعض الزوجات ، وليس المراد اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله ، لأن
تحريم الحلال كفر. قال القرطبي : والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن
له صغيرة ولا كبيرة.
وتحريم الحلال
يراه أبو حنيفة يمينا في كل شيء ، حسبما ينوي ، فإذا حرّم طعاما فقد حلف على أكله
، وإذا حرّم ملبسا أو شرابا أو شيئا مباحا ، فهو بمنزلة اليمين ، وإذا حرم امرأة
فقد حلف يمين الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى
الظهار فظهار ،
وإن نوى الطلاق فطلاق بائن ، وإن نوى عددا معينا في الطلاق كاثنتين أو ثلاث فعلى
ما نوى.
ولا يراه الشافعي
يمينا ، ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي. فإن حلف
ألا يأكل شيئا فخالف ، حنث ويبرّ بالكفارة.
(قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ، وَاللهُ مَوْلاكُمْ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ) أي شرع الله لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المقررة في
سورة المائدة [الآية ٨٩] وهي : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ،
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ
إِذا حَلَفْتُمْ).
وبيّن لكم ذلك ،
وليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله ، فالتحليل والتحريم إلى الله سبحانه ، فإن فعل
الإنسان شيئا من ذلك لا ينعقد ولا يلزم صاحبه ، والله متولي أموركم وناصركم على
الأعداء ، وهو العليم بما فيه صلاحكم وفلاحكم ، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير
أموركم.
وسبب إيراد آية
التحليل هذه أن التحريم الذي كان من النبي صلىاللهعليهوسلم كان في الظاهر مقترنا بيمين ، لظاهر الآية : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمانِكُمْ) فهو دليل على أن هناك يمينا تحتاج إلى التحلة ، وأيد ذلك
بعض الروايات ، فتكون هذه الآية مناسبة لما قبلها باعتبار كون تحريم المرأة أو
العسل يمينا ، وهو يمين إيلاء من المرأة.
وهل كفّر النبي صلىاللهعليهوسلم عن يمينه هذه؟ اختلف العلماء في ذلك ، فقال الحسن البصري :
إنه لم يكفّر ، لأنه كان مغفورا له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وإنما هو تعليم
للمؤمنين. وفي هذا نظر ، لأن الأحكام الشرعية عامة ، ولم يقم دليل على
التخصيص ، لذا قال
مقاتل : إنه ـ أي النبي ـ أعتق رقبة في تحريم مارية ، ونقل عن الإمام مالك في
المدونة أنه أعطى الكفارة.
أما تحريم الرجل
لزوجته كأن يقول لها : أنت علي حرام أو الحلال علي حرام دون استثناء شيء ، ففيه
كما ذكر ابن العربي خمسة عشر قولا ، منها ما ذكرناه سابقا أن أبا حنيفة يقول : إن نوى الطلاق
أو الظهار كان ما نوى ، وإلا كانت يمينا ، وكان الرجل موليا من امرأته.
وذهب الشافعي
ومالك إلى أن ذلك ليس بيمين ، لكن إن حرم الزوجة ونوى بالتحريم الطلاق ، يقع
الطلاق الرجعي.
وذهب مالك إلى أنه
طلاق بائن يقع به ثلاث تطليقات.
وقال أبو بكر
الصديق وعائشة والأوزاعي : إنه يمين تكفر.
ثم ذكر الدليل على
إحاطة علم الله بكل شيء ، فقال :
(وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً ، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي واذكر حين أسرّ النّبي صلىاللهعليهوسلم لزوجته حفصة حديثا هو تحريم العسل أو مارية ، أو أن أباها
وأبا عائشة يكونان خليفتيه على أمته من بعده ، فلما أخبرت به غيرها ، وأطلع الله
نبيه على ما وقع منها من إخبار غيرها ، عرّف حفصة بعض ما أخبرت به ، وأعرض عن
تعريف بعض ذلك.
(فَلَمَّا نَبَّأَها
بِهِ قالَتْ : مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ : نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي فحينما أخبرها بما أفشت من الحديث ، قالت : من أخبرك به؟
قال : أخبرني به الله الذي لا تخفى عليه خافية ، فهو العليم بالسر ، الخبير بكل
شيء في السماء والأرض.
__________________
ثم وجّه الله
تعالى زوجتي النبي صلىاللهعليهوسلم : حفصة وعائشة إلى التوبة وعاتبهما قائلا :
(إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي إن تتوبا إلى الله ، فتكتما السر ، وتحبّا ما أحبه رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وتكرها ما كرهه ، قبلت توبتكما من الذنب وكان خيرا لكما
، فقد عدلت قلوبكما ومالت عن الحق والخير ، وهو حق تعظيم الرسول صلىاللهعليهوسلم وصون سره وتكريمه.
والخطاب لحفصة
وعائشة ، لما أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه قال : لم أزل حريصا على أن أسأل
عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم اللتين قال الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق ، عدل عمر
وعدلت معه بالإداوة فتبرّز ، ثم أتاني ، فسكبت على يديه ، فتوضأ ، فقلت : يا أمير
المؤمنين : من المرأتان من أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم اللتان قال الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)؟ فقال عمر : وا عجبا لك يا ابن عباس ، هما عائشة وحفصة.
(وَإِنْ تَظاهَرا
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي وإن تتعاضدا وتتعاونا على ما يسوؤه ويؤذيه بسبب الغيرة
والرغبة في إفشاء سره ، فإن الله يتولى نصره ، وكذلك جبريل وصالح المؤمنين كأبي
بكر وعمر ، والملائكة بعد نصر الله له ونصر جبريل والمؤمنين الصالحين أعوان له
وحراس وحفظة. وقوله : (بَعْدَ ذلِكَ) تعظيم للملائكة ومظاهرتهم.
ولم نر مثل هذا
العون والعصمة والتأييد الرباني لأحد من الأنبياء والرسل وسائر البشر ، للمبالغة
في تعظيم شأن النبي صلىاللهعليهوسلم ، والتخلص من مكر النساء ، وتبديد أوهام المشركين
والمنافقين من محاولات الكيد والأذى وإلحاق الضرر.
ثم أنذرهما الله
وحذرهما مع بقية الأزواج ، فقال تعالى :
(عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ
، قانِتاتٍ تائِباتٍ ، عابِداتٍ ، سائِحاتٍ ، ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي لله القدرة البالغة ، فإنه قادر إن وقع من النبي الطلاق
أن يبدله أزواجا خيرا وأفضل منكن ، قائمات بفروض الإسلام ، كاملات الإيمان
والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله ، مطيعات لله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، تائبات من الذنوب ، مواظبات على عبادة الله متذللات له ،
صائمات ، بعضهن ثيّبات ، وبعضهن أبكارا. والثيب : هي المرأة التي قد تزوجت ، ثم
طلقها زوجها أو مات عنها. والبكر : هي العذراء. قال الكلبي : أراد بالثيب مثل آسية
امرأة فرعون ، وبالبكر مثل مريم بنت عمران. وهذا مأخوذ من أحاديث ضعيفة ، ومبني
على أن الوعد بالتبديل في الآخرة فقط.
ويلاحظ أن جميع
هذه الصفات يمكن اجتماعها في موصوف واحد ، ما عدا الوصفين الأخيرين ، لذا عطفا
بالواو ، للدلالة على التغاير أو التباين في الوصفين ، والعطف يقتضي المغايرة.
والآية تتضمن غاية
التهديد والوعيد على محاولات إيذاء النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإنه لا شيء أشد وأقسى على المرأة من الطلاق ، والعزم
على التزوج بزوجة أخرى ، فذلك قاصم للظهر ، مؤرّق للبال ، محطم دائم للشعور الذاتي
بالسعادة في الحياة. وفي الآية أيضا وعد من الله لنبيه صلىاللهعليهوسلم أن يزوجه بما يريد ، قيل : في الدنيا ، وقيل : في الآخرة ،
والأولى الجمع بين الحالتين.
__________________
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ عاتب الله
تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم على الامتناع من تناول ما أحل الله ، فلا ينبغي لأحد تحريم
المباح : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة ٥ / ٧٨].
قال الشعبي : كان مع الحرام يمين ، فعوتب في الحرام ، وإنما يكفر اليمين فذلك قوله
تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ). وهذا العتاب دليل قاطع بأن القرآن من عند الله ، إذ لا
يعقل ولا يؤلف أن يعاتب الإنسان نفسه ، أو يخبر عن نزاع خاص في بيته يظل خبرا
متلوا دائما.
٢ ـ إن مجرد
الامتاع من تناول الشيء المأكول أو المشروب من غير حلف ليس يمينا ، ولا يحرّم قول
الرجل : «هذا علي حرام» إلا الزوجة ، فيكون إيلاء منها. وهذا رأي الجمهور. وقال
أبو حنيفة : إن تحريم المأكول والمشروب والملبوس والشيء المباح يكون يمينا توجب
الكفارة. وإذا حرم امرأة ، فقد حلف يمين الإيلاء منها ، كما تقدم.
والحقيقة : ليس في
الموضوع نص يعتمد عليه ، فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال : لا حكم ، فلا يلزم بها
شيء ، ومن قال : إنها يمين ، قال : سماها الله يمينا. ومن قال : تجب فيها كفارة
وليست بيمين ، اعتمد على أحد أمرين : أحدهما ـ أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة
فيها ، وإن لم تكن يمينا ، والثاني ـ أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوجبت الكفارة
على المعنى.
ومن قال : إنها
طلقة رجعية ، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرّمة الوطء. ومن قال :
إنها ثلاث ، حمل اللفظ على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. ومن قال : إنه ظهار ،
فلأنه أقل درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع
النكاح. ومن قال :
إنه طلقة بائنة ، فاعتمد على أن الطلاق الرجعي لا يحرّم المطلّقة ، وأن الطلاق
البائن يحرّمها .
٣ ـ تحليل اليمين
كفارتها ، والظاهر أن النبي صلىاللهعليهوسلم حلف ، مع الامتناع عن تناول العسل ، وأنه في الأصح كفّر عن
يمينه. والكفارات تجبر الخلل الحاصل.
وإن حرم الرجل
أمته أو زوجته ، فكفارة يمين ، لما أحج مسلم في صحيحة عن ابن عباس قال : «إذا حرّم
الرجل عليه امرأته ، فهي يمين يكفّرها» وقال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب ٣٣ / ٢١].
٤ ـ للنساء بسبب
الغيرة الفطرية الشديدة التأثير مواقف غريبة وعجيبة من بعضهن بعضا.
٥ ـ يصعب على
النساء كتمان السر ، فقد أسر النبي صلىاللهعليهوسلم لزوجته حفصة تحريم العسل أو مارية على نفسه ، أو أمر
الخلافة من بعده لأبي بكر وعمر ، واستكتمها السر ، فأباحت به لعائشة.
٦ ـ يغفل الإنسان
غالبا عن أن الله عالم خبير به وبأحواله ، فيتصرف تصرفات الغافل غير الواعي ولا
المدرك لما يفعل ، ولا يحسب الحساب اللازم لمن يراه ويحاسبه على أعماله. وهذا ما
كان من حفصة التي فاجأها النبي صلىاللهعليهوسلم بما فعلت ، وأعلمها بأن الله أخبره بذلك.
٧ ـ القرآن تهذيب
وتربية وتعليم ، لذا حث الله سبحانه حفصة وعائشة على التوبة على ما كان منهما من
الميل إلى مخالفة محبة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتعظيم شأنه وإعلاء قدره وصون سره. فقد زاغت ومالت
قلوبهما عن الحق ، وهو أنهما أحبّتا ما كره النبي صلىاللهعليهوسلم من اجتناب جاريته ، واجتناب العسل ، وكان صلىاللهعليهوسلم يحب العسل والنساء ، محبة فيها اعتدال وإعزاز وإكرام
للنساء.
__________________
٨ ـ هدد الله حفصة
وعائشة بأنهما إن تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلىاللهعليهوسلم بالمعصية والإيذاء ، فهناك حملة صون وحفظ وعصمة وحراسة له
من الله والملائكة وجبريل والمؤمنين الصالحين ، كأبي بكر وعمر أبوي عائشة وحفصة.
٩ ـ وهددهما
بتهديد آخر أشد ألما ووقعا على النفس ، وهو إن طلقهما وطلّق زوجاته ، أبدله الله
زوجات خيرا وأفضل منهن في الدنيا والآخرة. وهذا وعد من الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم ، وإخبار عن القدرة الإلهية وتخويف لهم ، مع علمه تعالى
بأنه لا يطلقهن.
وأوصاف النساء
اللاتي يبدله الله بدلا عن زوجاته الحاليات في غاية الكمال ، وهي كونهن مسلمات
لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلىاللهعليهوسلم ، مصدقات بما أمرن به ونهين عنه ، مطيعات ، تائبات من
ذنوبهن ، كثيرات العبادة لله تعالى ، صائمات أو مهاجرات ، ثيّبات وأبكارا ، أي
منهن ثيّب ، ومنهن بكر.
١٠ ـ حينما أفشت
حفصة السر لعائشة ، آلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يدخل على نسائه شهرا ، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ،
فأنزل الله عزوجل : (لِمَ تُحَرِّمُ ما
أَحَلَّ اللهُ لَكَ) الآية ، وهذا ما رواه الدار قطني عن ابن عباس عن عمر أن
النبي صلىاللهعليهوسلم حرّم على نفسه مارية.
وروى مسلم في
صحيحة قصة طويلة مفادها : لما اعتزل نبي الله صلىاللهعليهوسلم نساءه ، وقال الناس في المسجد : طلّق رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءه ، وذلك قبل الأمر بالحجاب ، دخل عمر على كل من عائشة
وحفصة يعاتبهما على إيذائهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
ثم دخل على رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو مضطجع على حصير ، فجلس ، وإذا الحصير قد أثّر في
جنبه ، فقال عمر : فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ،
فإذا أنا بقبضة من
شعير نحو الصاع ، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة ، وإذا أفيق معلّق ، قال : فابتدرت عيناي ، قال : ما يبكيك يا ابن
الخطاب؟ قلت : يا نبي الله ، وما لي لا أبكي ، وهذا الحصير قد أثّر في جنبك ، وهذه
خزانتك لا أرى فيها الا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار ، وأنت رسول
الله وصفوته ، وهذه خزانتك! فقال : يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ،
ولهم الدنيا؟! قلت : بلى.
الوقاية من النار والتوبة النصوح وجهاد الكفار
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا
تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ
أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا
أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))
__________________
الإعراب :
(قُوا أَنْفُسَكُمْ
قُوا) : فعل أمر من (وقى ، يقي) وأصله (أوقيوا) بوزن أفعلوا ،
فحذفت الواو ، كما حذفت من (يقي) لوقوعها بين ياء وكسرة.
(لا يَعْصُونَ اللهَ ،
ما أَمَرَهُمْ ما أَمَرَهُمْ) : بدل من لفظ الجلالة ، أي لا يعصون أمر الله.
(تَوْبَةً نَصُوحاً) إنما قال : (نَصُوحاً) ولم يقل (نصوحة) على النسب ، كما قالوا : امرأة صبور وشكور
، على النسب. وقرئ نصوحا بضم النون ، وهو مصدر كالذهوب والجلوس والفسوق.
البلاغة :
(قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) مجاز مرسل ، من قبيل ذكر المسبّب وإرادة السبب ، أي لازموا
على الطاعة ، لتقوا أنفسكم وأهليكم من عذاب الله.
المفردات اللغوية
:
(قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) اجعلوا لأنفسكم وقاية من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات
، واحملوا أهليكم على ذلك بالنصح والتأديب. (وَقُودُهَا) ما توقد به النار. (النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) بجعلهما نارا تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب ، والمراد
بالناس : الكفار ، وبالحجارة : الأصنام التي تعبد ، لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٨].
(عَلَيْها مَلائِكَةٌ) خزنة وعدتهم تسعة عشر ، كما في سورة المدثر (الآية ٣٠). (غِلاظٌ) غلاظ الخلق والطباع. (شِدادٌ) أقوياء البدن على الأفعال الشديدة. (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) لا يعصون أمر الله في الماضي. (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) في المستقبل ، وهو تأكيد لما سبق. قال الجلال المحلي :
والآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد ، وللمنافقين المؤمنين بألسنتهم دون قلوبهم.
(لا تَعْتَذِرُوا
الْيَوْمَ) يقال لهم ذلك عند دخولهم النار ، أي لأنه لا ينفعكم
الاعتذار ، أو لأنه لا عذر لكم. (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم.
(تَوْبَةً نَصُوحاً) صادقة ، بالغة في النصح ، وهي الندم على ما فات ، والعزم
على عدم العود إلى مثله في المستقبل.ئسئل علي رضياللهعنه عن التوبة ، فقال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من
الذنوب الندامة ، والفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم
على ألا تعود ، وأن تربي نفسك في طاعة الله كما ربّيتها في المعصية.
(عَسى رَبُّكُمْ) عسى من الله تدل على وجوب الوقوع ، وذكر بصيغة الإطماع
جريا على عادة الملوك ، وإشعارا بأنه تفضل ، وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف
ورجاء. (وَيُدْخِلَكُمْ
جَنَّاتٍ) بساتين. (يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَ) يوم ظرف متعلق ب (يُدْخِلَكُمْ) و (لا يُخْزِي) : لا يفضح. (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أمامهم ، أي يسعى بهم نور الإيمان على الصراط. (يَقُولُونَ) كلام مستأنف جديد. (رَبَّنا أَتْمِمْ
لَنا نُورَنا) إلى الجنة ، أما المنافقون فيطفأ نورهم. (وَاغْفِرْ لَنا) واسترنا يا ربنا.
(جاهِدِ الْكُفَّارَ) بمختلف أنواع الأسلحة كالسيف وغيره. (وَالْمُنافِقِينَ) أي وجاهدهم باللسان والحجة ، فالجهاد يكون تارة بالسيف ،
وتارة بالحجة والبرهان. (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) اشتد عليهم بالانتهار والمقت والقتل بحق. (وَمَأْواهُمْ) مكان الإيواء والإقامة.
المناسبة :
بعد أن أمر الله
نساء النبي صلىاللهعليهوسلم بالتوبة عما حدث من الزلات ، وحذرهم من مخالفته ووعظهم
وأدبهم وهددهم بالطلاق ، أمر المؤمنين بطائفة من المواعظ والنصائح ، وأولها وقاية
أنفسهم وأهليهم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات ، ثم أخبر الكفار بما يقال لهم
يوم دخولهم النار : لا عذر لكم ، ثم أمر المؤمنين بالتوبة الخالصة النصوح من
الخطايا والذنوب ، وتوج جميع ذلك بالأمر بجهاد الكفار المعتدين ، والمنافقين المتسترين
، والمجاهدة قد تكون بالقتال ، وقد تكون بالحجة والبرهان ، ثم يكون جزاء الفريقين
النار.
التفسير والبيان :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ، وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) أي يا أيها الذين صدّقوا بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، أدبوا أنفسكم وعلموها ، واتخذوا لها وقاية من النار ،
وحافظوا عليها بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه ، وعلّموا أهليكم وأمروهم بطاعة
الله وانهوهم عن معاصيه ، وانصحوهم وأدبوهم حتى لا تصيروا معهم إلى النار العظيمة
الرهيبة التي تتوقد بالناس وبالحجارة ، كما يتوقد غيرها بالحطب. قال قتادة :
تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله ، وأن تقوم
عليهم بأمر الله
وتأمرهم به ، وتساعدهم عليه ، فإذا رأيت معصية ، قذعتهم عنها ، وزجرتهم عنها.
ونظير الآية قوله
تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه ٢٠ / ١٣٢]
وقوله سبحانه مخاطبا نبيه : (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٤].
وروى جماعة من أهل الحديث (أحمد وأبو داود والحاكم) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ،
وفرّقوا بينهم في المضاجع». وقال صلىاللهعليهوسلم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عمرو بن سعيد بن العاصي : «ما
نحل والد ولده أفضل من أدب حسن».
وروى أحمد وأبو
داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده (أي سمرة بن
جندب) قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، فإذا بلغ عشر
سنين ، فاضربوه عليها». وقال الضحاك ومقاتل : حق على المسلم أن يعلّم أهله من
قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم ، وما نهاهم الله عنه. وقال ابن جرير :
فعلينا أن نعلّم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب.
والمراد بالناس
الكفار ، وبالحجارة : الأصنام التي تعبد من دون الله ، لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٨]
، والأهل : هم الزوجة والأولاد والخدم.
والآية دليل على
أن المعلّم يجب أن يكون عالما بما يأمر به وما ينهى عنه.
(عَلَيْها مَلائِكَةٌ
غِلاظٌ شِدادٌ ، لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها ،
غلاظ أطباعهم ، قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله ، شداد عليهم ، تركيبهم
في غاية الشدة والصلابة والمنظر المزعج ، لا يرحمونهم إذا استرحموهم ، إنما خلقوا
للعذاب ، عددهم تسعة عشر ملكا هم زبانيتها كما جاء في قوله تعالى : (عَلَيْها
تِسْعَةَ
عَشَرَ) [المدثر ٧٤ / ٣٠]
يتميزون بالطاعة الكاملة لله ربهم ، فهم لا يخالفون أوامر الله تعالى ، ويؤدون ما
يؤمرون به في وقته المحدد له من غير تراخ ، فلا يؤخرونه عنه ولا يقدّمونه ، وهم
قادرون على الفعل ، ليس بهم عجز عنه.
وفائدة الإتيان
بالجملتين : (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أن الأولى في الماضي ، ولبيان الطواعية ، فإن عدم العصيان
يستلزم امتثال الأمر ، ولنفي الاستكبار عنهم ، كما قال تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأنبياء ٢١ / ١٩]
والثانية للمستقبل وفورية التنفيذ والامتثال ونفي التراخي والكسل عنهم ، كما قال
تعالى : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٩].
ثم وعظ المؤمنين
بما يقال للكافرين عند دخولهم النار ، فقال :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي يقال للكفرة عند إدخالهم النار يوم القيامة ، تأييسا
لهم وقطعا لأطماعهم : لا تعتذروا ، فإنه لا يقبل منكم العذر ، ولا تجزون إلا ما
كنتم تعملون في الدنيا ، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.
والمراد بهذا أن
الدنيا دار جهاد وعمل صالح ، والآخرة دار مقر وجزاء ، والدنيا مزرعة الآخرة ، فإن
زرع فيها أو غرس الزرع أو الغرس الصالح ، جنى طيبا ، وإن زرع أو غرس نباتا أو شجرا
رديئا ، حصد ما فعل.
وبما أن العذر أو
التوبة لا يفيدان في الآخرة ، أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة النصوح ، فقال تعالى
:
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، ارجعوا إلى الله تعالى ، وتوبوا إليه توبة خالصة صادقة
جازمة تمحو ما قبلها من السيئات : وهي
الندم بالقلب على
ما مضى من الذنب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع بالبدن ، والعزم على ألا يعود ،
لعل الله أن يمحو سيئات أعمالكم التي اقترفتموها ، ويدخلكم بساتين تجري من تحت
قصورها وأشجارها الأنهار ، حين لا يعذب ولا يذل ولا يفضح الله نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم ، ولا يعذب ولا يذل الذين آمنوا به واتبعوا شريعته ، بل
يكرمهم ويعزّهم.
وكلمة (عَسى رَبُّكُمْ) كما قال الزمخشري : إطماع من الله لعباده ، وفيه وجهان : أحدهما
ـ أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة لعسى ولعل ، ووقوع ذلك منهم
موقع القطع والبت ، فإنهم إذا أرادوا فعلا يقولون : عسى أن نفعل كذا. والثاني ـ أن
يجيء به تعليما للعباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء.
والخلاصة : أن (عَسى) من الله موجبة تفيد التحقق.
وقوله : (لا يُخْزِي) تعريض لمن أخزاهم من أهل النار : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
، فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران ٣ / ١٩٢].
قال العلماء :
التوبة النصوح : هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر ، ويندم على ما سلف منه في الماضي
، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل.
روى الإمام أحمد
وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «الندم توبة». وثبت في الصحيح : «الإسلام يجبّ ما
قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها».
ثم ذكر الله تعالى
أثر الإيمان ، فقال :
(نُورُهُمْ يَسْعى
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ، يَقُولُونَ : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا
نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن نور المؤمنين يضيء لهم طريقهم ، ويسعى
أمامهم وعن
أيمانهم حال مشيهم على الصراط ، كما جاء في سورة الحديد : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ
بِهِ ..) [٢٨] ، ويدعو المؤمنون حين يطفئ الله نور المنافقين يوم
القيامة ، قائلين تقربا إلى الله : (رَبَّنا أَتْمِمْ
لَنا نُورَنا) ، أي أبقه لنا ، فلا ينطفئ حتى نتجاوز الصراط ، واستر
ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا ، ولا تفضحنا بالعقاب عليها حين الحساب ، فإنك على كل
شيء قدير ، ومنه إتمام نورنا ، وغفران ذنوبنا ، وتحقيق رجائنا وآمالنا ، فأجب
دعاءنا.
ثم أمر الله نبيه صلىاللهعليهوسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة ، فقال :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ،
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي يا أيها الرسول النبي قاتل الكفار بالسيف ، والمنافقين
بالحجة والبرهان وإقامة الحدود عليهم إذا ارتكبوها ، وشدّد عليهم في الدعوة إلى
الإسلام في الدنيا ، واستعمل العنف والقسوة والشدة مع الفريقين ، فيما تجاهدهما به
من القتال والمحاجة والوعيد ، لذا أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بطرد بعض المنافقين من الجامع قائلا : اخرج يا فلان ، اخرج
يا فلان. وهذا عذابهم في الدنيا.
وسيكون مقر
الفريقين ومسكنه في الآخرة جهنم ، وبئس المرجع والمثوى والمقيل.
فقه الحياة أو
الأحكام :
أرشدت الآيات
الكريمات إلى ما يلي :
١ ـ أمر الله ـ والأمر
للوجوب ـ بأن يقي المؤمنون أنفسهم النار بأفعالهم ، وأهليهم بالنصح والوعظ
والإرشاد. وهذا يتطلب الالتزام التام بأحكام الشرع أمرا ونهيا ، وترك المعاصي وفعل
الطاعات ، ومتابعة القيام بالأعمال الصالحة ، وحث الزوجة والأولاد على أداء
الفرائض واجتناب النواهي ، ومراقبتهم المستمرة في ذلك.
٢ ـ إن عذاب
المخالفين من الكفار والعصاة عذاب شديد في نار جهنم التي تتقد بالناس والحجارة ،
ويقوم بأمرها ملائكة تسعة عشر هم الملائكة الزبانية غلاظ القلوب ، لا يرحمون إذا
استرحموا ، خلقوا من الغضب ، وحبّب إليهم عذاب الخلق ، كما حبّب لبني آدم أكل
الطعام والشراب ، شداد الأبدان والأفعال ، غلاظ الأقوال ، لا يخالفون أمر الله
بزيادة أو نقصان ، ويفعلون ما يؤمرون به في وقته ، فلا يؤخرونه ولا يقدّمونه.
٣ ـ لا تقبل
التوبة من أحد من الكفار يوم القيامة ، ولا يقبل منهم العذر ، وسيجزون بأعمالهم
التي عملوها في الدنيا ، وكون عذرهم لا ينفع ، والنهي عن الاعتذار لتحقيق اليأس ،
كما قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [الروم ٣٠ / ٥٧].
٤ ـ أمر الله
بالتوبة ، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان. والتوبة المطلوبة هي
التوبة البالغة في النصح والصدق ، وهي كما ذكر النووي التي تستجمع ثلاثة أمور :
الإقلاع عن المعصية ، والندم على فعلها ، والعزم على ألا يعود إلى مثلها أبدا.
وقال العلماء :
الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو ، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين ، فإن كان
حقا لله كترك صلاة ، فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها ،
وهكذا إن ترك صوما أو فرط في الزكاة. وإن كان ذلك ما يوجب القصاص أو الحد الذي فيه
حق لآدمي كالقذف ، وطلب منه ، مكّن نفسه من العقوبة ، إلا إذا عفي عنه ، فيكفيه
الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. أما إن كان الحد من الحدود الخالصة لله
كالزنى والشرب ، فيسقط عنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح ، وقد نص الله
تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم ، ولا يسقط عنهم إذا
تابوا بعد القدرة عليهم.
فإن كان الذنب من
مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه ـ عينا كان أو
غيره ـ إن كان قادرا عليه ، فإن لم يكن قادرا ، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل
وقت وأسرعه.
وإن كان أضرّ بواحد
من المسلمين ، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له ، فإذا
عفا عنه ، فقد سقط الذنب عنه.
وإن أساء إلى رجل
بأن فزّعه بغير حق ، أو غمه ، أو لطمه ، أو صفعه بغير حق ، أو ضربه بسوط فآلمه ،
ثم استعفى منه ، حتى طابت نفسه ، فعفا عنه ، سقط عنه ذلك .
٥ ـ يقبل الله
التوبة النصوح من التائب ، ويكفر عنه سيئاته ، ويدخله الجنان ، لقوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ ..) وعسى من الله واجبة ، وقوله صلىاللهعليهوسلم فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن ابن عباس
، وهو ضعيف : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
٦ ـ إن للإيمان
نورا يمشي بصاحبه على الصراط ، ويسعى به إلى النجاة ، ويدعو المؤمنون في الآخرة
حين يطفئ الله نور المنافقين بقولهم في الآخرة : (رَبَّنا أَتْمِمْ
لَنا نُورَنا ، وَاغْفِرْ لَنا ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وطلب المغفرة لا يعني أن الذنب لازم لكل إنسان ، وإنما
التقصير لازم لكل مؤمن.
٧ ـ أمر الله نبيه
أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله ، ويجاهد المنافقين
بالغلظة وإقامة الحجة ، وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة ، وأنهم لا نور لهم يجوزون
به الصراط مع المؤمنين ، علما بأن مأوى الصنفين جهنم ، وبئس المرجع.
__________________
أمثلة من النساء المؤمنات والكافرات
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ
مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ
بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها
وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))
الإعراب :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ مَثَلاً) و (امْرَأَتَ نُوحٍ) مفعولا (ضَرَبَ) ، وقيل : (امْرَأَتَ نُوحٍ) بدل من (مثل) على تقدير حذف مضاف ، تقديره : مثل امرأة نوح
، ثم حذف (مَثَلاً) الثاني لدلالة الأول عليه.
وكذلك القول في
قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ). (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرانَ) منصوب بالعطف على (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ).
البلاغة :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) و (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ
آمَنُوا) مقابلة بين المثلين ، لتكون النساء في الإخلاص كالمؤمنتين
، لا كالكافرتين الخائنتين.
(وَكانَتْ مِنَ
الْقانِتِينَ) فيه تغليب الذكور على الإناث.
(الدَّاخِلِينَ
الظَّالِمِينَ الْقانِتِينَ) سجع مرصّع.
المفردات اللغوية
:
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي أورد حالة غريبة لمعرفة حال أخرى مشابهة لها في
الغرابة. (كانَتا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ) أي في عصمتهما. (فَخانَتاهُما) بالنفاق في أمر الدين ، إذ كفرتا ، وكانت امرأة نوح واسمها
واغلة أو واعلة تقول لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط واسمها أو واهلة تدل قومه على
أضيافه ، بإيقاد النار ليلا ، وبالتدخين نهارا. (فَلَمْ يُغْنِيا
عَنْهُما) لم يفيداهما أي نوح ولوط. (مِنَ اللهِ) من عذابه. (ادْخُلَا النَّارَ
مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي قيل لهما : ادخلا النار مع كفار قوم نوح وقوم لوط. وهذا
تمثيل حالهم في إيقاع العقاب بهم بكفرهم دون مجاملة أو محاباة للنبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بنسب أو غيره.
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) شبه حالهم في عدم التأثر ببيئة الكفر وعمالقة الكافرين وأن
صلة الكفر لم تضرهم بحال آسية امرأة فرعون ، واسمها آسية بنت مزاحم ، وهي عمة موسى
آمنت به ، فعذبها فرعون عذابا شديدا لصدها عن الإيمان. (إِذْ قالَتْ) في حال التعذيب : (رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) قريبا من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين. (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) خلصني من طغيان فرعون وتعذيبه وعمله الشنيع. (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) هم أقباط مصر الوثنيون التابعون لفرعون في الظلم.
(أَحْصَنَتْ فَرْجَها) حفظته وصانته من الرجال ، والمراد به كونها عفيفة. (فَنَفَخْنا فِيهِ) في الفرج. (مِنْ رُوحِنا) أي من روح خلقناه بلا توسط أب ، قال الزمخشري : ومن بدع
التفاسير : أن الفرج جيب الدّرع (القميص). ومعنى (أحصنته) منعته جبريل ، وأنه جمع
في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها ، تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهن. (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها
وَكُتُبِهِ) آمنت بشرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله. (مِنَ الْقانِتِينَ) من عداد الطائعين المواظبين على الطاعة.
المناسبة :
بعد الحض على التوبة
النصوح والإيمان والإخلاص وجهاد الأعداء ، ضرب الله مثلين رائعين فذّين لأهل الكفر
وأهل الإيمان ، لبيان حال الكافرين بطريق التمثيل أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم
للمؤمنين معاقبة أمثالهم من غير مراعاة نسب أو زوجية أو قرابة أو محاباة ، فتعاقب
امرأة نوح وامرأة لوط اللتان كانتا في بيت النبوة ، ولكنهما كفرتا بالله وبالنبي ،
فلم تفدهما الرابطة الزوجية من عذاب الله شيئا.
وجاء المثل الثاني
الأروع للمؤمنين والمؤمنات للإشارة إلى أن من واجبهم أن يكونوا في الإخلاص وصدق
العزيمة وقوة اليقين كهاتين المؤمنتين : آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ، لا
الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما ، لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئا.
التفسير والبيان :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كانَتا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ ، فَخانَتاهُما ، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما
مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَقِيلَ : ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي جعل الله مثلا لحال الكفار في مخالطتهم المسلمين
ومعاشرتهم لهم أنه لا يغني أحد عن أحد ، وأن ذلك لا يجدي عنهم شيئا ، ولا ينفعهم
عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم ، فمجرد الخلطة أو النسب أو الزوجية
لا فائدة فيها ما دام الشخص كافرا.
وذلك المثل أن
امرأة نوح وامرأة لوط عليهماالسلام ، كانتا في عصمة نكاح نبيين رسولين ، وفي صحبتهما ليلا
ونهارا ، يؤاكلانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط ، لكنهما خانتاهما في
الإيمان والدين ، فلم تؤمنا بهما ، ولا صدّقاهما في الرسالة ، فلم ينفعهما نوح
ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع ، ولا دفعا عنهما من عذاب الله ، ولا
دفعا عنهما محذورا ، مع كرامتهما على الله ، وحاق بهما سوء العذاب والعقاب.
قيل : كانت امرأة
نوح تقول للناس : إنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه ليفجروا بهم.
وقيل للمرأتين في
الآخرة عند دخول النار : ادخلا النار مع الداخلين فيها من أهل الكفر والمعاصي ،
جزاء كفرهما وسيئاتهما.
وهذا تعريض بأمي
المؤمنين ، وهما حفصة وعائشة ، لما فرط منهما ، وتحذير وتخويف لهما ولغيرهما بأنه
لا يفيدهن شيئا زواجهن بالنبي صلىاللهعليهوسلم إن عصين الله تعالى. قال يحي بن سلام : هذا يحذر به عائشة
وحفصة من المخالفة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حين تظاهرتا عليه ، ببيان أنهما ، وإن كانت تحت عصمة خير
خلق الله تعالى ، وخاتم رسله ، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا. وقد عصمها
الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة.
ثم ضرب الله مثلا
آخر للمؤمنين بامرأتين أخريين يرشد إلى عكس المثل السابق أنهم لا تضرهم مخالطة
الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم ، فقال عن المرأة الأولى :
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ : رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ،
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجعل الله مثلا آخر للمؤمنين حال امرأة فرعون آسية بنت
مزاحم وعمة موسى عليهالسلام ، آمنت بموسى حين سمعت قصة إلقائه عصاه ، فعذبها فرعون
عذابا شديدا بسبب الإيمان ، فلم تتراجع عن إيمانها ، مما يدل على أن صولة الكفر لا
تضر المؤمنين ، كما لم تضر امرأة فرعون ، وقد كانت تحت أكفر الكافرين ، وصارت
بإيمانها بالله في جنات النعيم.
وذلك حين قالت :
يا رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك في أعلى درجات المقرّبين منك ، ونجني من ذات
فرعون ومما يصدر عنه من أعمال الشر ، وخلصني من القوم الظالمين هم كفار القبط.
قال قتادة : كان
فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم ، فو الله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها ،
ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل ، لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه.
وقال ابن جرير :
كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس ، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ،
وكانت ترى بيتها في الجنة.
والآية دليل على
صدق إيمان امرأة فرعون بالله وبالبعث ، وبالجنة والنار ، وبأن العمل الصالح طريق
الجنة ، والعمل السيء سبب النار. وهي دليل آخر على أن الاستعاذة بالله من الأشرار
دأب الصالحين.
وقال عن المرأة
الثانية :
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ،
وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران أم عيسى عليهماالسلام ، جمع الله لها بين كرامة الدنيا والآخرة ، واصطفاها على
نساء العالمين في عصرها ، مع كونها بين قوم عصاة ، صانت فرجها عن الرجال والفواحش
، فهي مثال العفة والطهر ، فأمر الله جبريل أن ينفخ في فرجها ، وقال بعض المفسرين
وهو من بدعهم : في جيب الدرع (القميص) فحملت بعيسى ، وصدّقت بشرائع الله التي
شرعها لعباده ، وبصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره ، وبكتبه الكتب الأربعة الكبرى
المنزلة على الأنبياء ، وما خاطبها به الملك ، وهو قول جبريل لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [مريم ١٩ / ١٩] ،
وما أخبرها به من البشارة بعيسى وكونه من المقرّبين كما في سورتي آل عمران (الآيات
٤٢ ـ ٤٨) ومريم (الآيات ١٦ ـ ٣٦) وكانت من القوم المطيعين لربهم ، كان أهلها أهل
بيت صلاح وطاعة ، ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربهم.
روى أحمد عن ابن
عباس قال : «خطّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأرض أربعة خطوط ، وقال : أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله
ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت
محمد ، ومريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
وثبت في الصحيحين
عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية
امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء
كفضل الثريد على سائر الطعام».
فقه الحياة أو
الأحكام :
دلت الآيات على ما
يأتي :
١ ـ دل المثل
الأول للكافرين على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرّق بينهما
الدّين. فقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين ، فلم يفدهما شيئا من عذاب الله
نوح ولا لوط مع كرامتهما على الله تعالى ، كانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون
، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وكانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. قال ابن
عباس : ما بغت امرأة نبي قط.
وهذا المثل تعريض
لحفصة وعائشة أنهما إن صدرت منهما معصية ، لن يفيدهما كونهما من زوجات النبي صلىاللهعليهوسلم لدفع العذاب. ويقال : إن كفار مكة استهزءوا وقالوا : إن
محمدا صلىاللهعليهوسلم يشفع لنا ، فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفّار مكة ،
وإن كانوا أقرباء ، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته ، وشفاعة لوط لامرأته ، مع
قربهما لهما لكفرهما.
ويقال في الآخرة
لامرأتي نوح ولوط : (ادْخُلَا النَّارَ
مَعَ الدَّاخِلِينَ) كما يقال لكفار مكة وغيرهم.
٢ ـ ودل المثل
الثاني للمؤمنين على أن الاختلاط بالكفار لا يضر ، ما دام الاعتصام بالله والإيمان
هو السمة المهيمنة على المؤمن. وهو مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة عن المخالفة
حين تظاهرتا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وكان المثل بامرأة
فرعون ومريم ابنة عمران ، ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدّين ، وحثا
للمؤمنين على الصبر في الشدة ، كصبر آسية على أذى فرعون ، وكانت آسية آمنت بموسى ،
وصبر السيدة مريم البتول على أذى اليهود واتهامها بالفاحشة ، فصبر المؤمن والمؤمنة
على الأذى ينجي من القوم الظالمين ، والتقرب إلى الله يكون بالطاعات ، لا بالوسيلة
والشفاعات.
فعلى الرغم من
تعذيب فرعون لزوجته آسية دعت قائلة : (رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ،
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
ومريم العذراء أم
عيسى عليهماالسلام ضرب الله بها مثلا لصبرها على أذى اليهود الذين اتهموها
بالفاحشة ، مع أنها كانت عفيفة طاهرة صانت نفسها عن الفواحش ، ولكن الله أرسل لها
جبريل ، فنفخ في فرجها روحا من أرواحه وهي روح عيسى ، فحملت به ثم ولدته من غير أب
، وصدقت بشرائع الله وكتبه ورسالاته وبما أخبرها به جبريل : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) الآية [مريم ١٩ / ١٩] وكانت من المطيعين.
روى قتادة عن أنس
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ،
وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم».
قال الرازي : أما
ضرب المثل بامرأة نوح المسماة بواعلة ، وامرأة لوط المسماة بواهلة ، فمشتمل على
فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى ، منها : التنبيه للرجال والنساء
على الثواب العظيم والعذاب الأليم.
ومنها : العلم بأن
صلاح الغير لا ينفع المفسد ، وفساد الغير لا يضر المصلح.
ومنها : أن الرجل
، وإن كان في غاية الصلاح ، فلا يأمن المرأة ، ولا يأمن نفسه ، كالصادر من امرأتي
نوح ولوط.
ومنها : العلم بأن
إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة ، كما أفاد مريم بنت عمران ، وكما أخبر
الله تعالى ، فقال : (إِنَّ اللهَ
اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ) [آل عمران ٣ / ٤٢].
ومنها : التنبيه
على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب ، وإلى
الثواب بغير حساب ، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب ، وإليه المرجع
والمآب .
تم هذا الجزء والحمد لله
__________________
فهرس
الجزء الثامن
والعشرين
سورة المجادلة..................................................................... ٥
مدنيتها
وتسميتها ومناسبة السورة لما قبلها............................................ ٥
ما
اشتملت عليه السورة........................................................... ٦
الظهار
وكفارته................................................................... ٨
وعيد
الذين يعادون الله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم......................................... ٢٥
عقاب
المتناجين بالسوء وآداب المناجاة في القرآن.................................... ٣٠
أدب
المجالسة في الإسلام........................................................ ٣٧
الصدقة
قبل مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم.................................................. ٤٤
حال
المنافقين الذين يوالون غير المؤمنين............................................ ٤٩
جزاء
المعادين لله تعالى والرسول صلىاللهعليهوسلم والوعد بنصر المؤمنين وتحريم...................... ٥٥
موالاة الأعداء............................................................... ٥٥
سورة
الحشر.................................................................... ٦٢
تسميتها
ومناسبتها لما قبلها....................................................... ٦٢
ما
اشتملت عليه السورة......................................................... ٦٣
سبب
نزول السورة.............................................................. ٦٤
فضل
السورة................................................................... ٦٥
إجلاء
يهود بني النضير.......................................................... ٦٦
حكم
الفيء................................................................... ٧٥
تواطؤ
المنافقين واليهود وجزاؤهم................................................... ٩٣
الأمر
بالتقوى والعمل للآخرة................................................... ١٠١
مكانة
القرآن وعظمة منزّله ذي الأسماء الحسنى.................................... ١٠٦
سورة
الممتحنة................................................................ ١١٥
تسميتها
ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١١٥
ما
اشتملت عليه السورة........................................................ ١١٦
النهي
عن موالاة الكفار........................................................ ١١٧
التأسي
بإبراهيم عليهالسلام والذين آمنوا معه........................................... ١٢٥
علاقة
المسلمين بغيرهم........................................................ ١٣٣
حكم
المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام................................... ١٣٣
مبايعة
النبي صلىاللهعليهوسلم المهاجرات (بيعة النساء)......................................... ١٥٠
سورة
الصف................................................................. ١٥٧
تسميتها
ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١٥٨
ما
اشتملت عليه السورة........................................................ ١٥٨
الدعوة
إلى القتال في سبيل الله صفا واحدا........................................ ١٥٩
التذكير
بقصة موسى وعيسى عليهماالسلام مع بني إسرائيل............................... ١٦٥
التجارة
الرابحة................................................................ ١٧٣
سورة
الجمعة.................................................................. ١٨١
تسميتها
ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١٨١
ما
اشتملت عليه السورة........................................................ ١٨٢
فضلها....................................................................... ١٨٢
خصائص
النبي صلىاللهعليهوسلم بالنسبة للعرب والناس كافة.................................. ١٨٣
حال
اليهود مع التوراة وتمني الموت............................................... ١٨٨
فرضية
صلاة الجمعة وإباحة العمل بعدها......................................... ١٩٤
سورة
المنافقون................................................................ ٢١٢
تسميتها
ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ٢١٢
أقبح أوصاف المنافقين في ميزان الشرع........................................... ٢١٣
أدلة
إثبات كذب المنافقين ونفاقهم.............................................. ٢٢٠
تحذير
المؤمنين من أخلاق المنافقين وأمرهم بالإنفاق في سبيل الخير................... ٢٢٨
سورة
التغابن.................................................................. ٢٣٢
تسميتها
ومناسبتها لما قبلها..................................................... ٢٣٢
ما
اشتملت عليه السورة........................................................ ٢٣٣
مظاهر
قدرة الله تعالى.......................................................... ٢٣٤
إنكار
المشركين الألوهية والنبوة والبعث........................................... ٢٣٨
المطالبة
الإيمان والتحذير من أهوال القيامة........................................ ٢٤٢
كل
شيء بقضاء وقدر........................................................ ٢٤٢
التحذير
من فتنة الأزواج والأولاد والأموال والأمر بالتقوى والإنفاق................... ٢٥١
سورة
الطلاق................................................................. ٢٦١
تسميتها
ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة............................... ٢٦١
أحكام
الطلاق والعدة وثمرة التقوى والتوكل........................................ ٢٦٣
عدة
اليائسة والصغيرة.......................................................... ٢٧٨
السكنى
والنفقة للمعتدة وأجر الرضاع............................................ ٢٨٣
وعيد
المخالفين ووعد الطائعين والتذكير بقدرة الله.................................. ٢٩٣
سورة
التحريم................................................................. ٣٠٠
تسميتها
ومناسبتها لما قبلها..................................................... ٣٠٠
ما
اشتملت عليه السورة........................................................ ٣٠١
بعض
أحوال نساء النبي صلىاللهعليهوسلم................................................... ٣٠٢
الوقاية
من النار والتوبة النصوح وجهاد الكفار..................................... ٣١٤
أمثلة
من النساء المؤمنات والكافرات............................................. ٣٢٣
|