بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الذاريات

مكيّة ، وهي ستون آية.

تسميتها :

سميت (سورة الذاريات) لافتتاحها بالقسم بالذاريات ، وهي الرياح التي نذر والتراب وغيره ، أي تفرقه وتنقله من مكان إلى آخر. والقسم بها دليل على خطورتها ، وأنها من جند الله تعالى.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين :

١ ـ ختمت سورة ق بذكر البعث والجزاء والجنة والنار في قوله تعالى : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) وافتتحت هذه السورة بالقسم بالرياح والسحب والسفن والملائكة على أن ما وعد به الناس من ذلك صادق ، وأن الجزاء واقع.

٢ ـ ذكر في سورة ق إجمالا إهلاك الأمم المكذبة ، كقوم نوح ، وعاد وثمود ، ولوط وشعيب ، وتبّع ، وفي هذه السورة تفصيل ذلك في قصص إبراهيم ولوط وموسى وهود وصالح ونوح عليهم‌السلام.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر السور المكية إثبات أصول العقيدة والإيمان وهي


التوحيد والرسالة والبعث ، ونفي أضدادها وهي الشرك ، وتكذيب النبوة ، وإنكار المعاد.

وقد افتتحت ببيان دلائل البعث ووقوع المعاد من عجائب الكون ، بالقسم على حدوثه حتما بأربعة أمور هي الرياح المحركة للأشياء ، والسحب التي تحمل الأمطار ، والسفن الجارية بسهولة في البحار والأنهار الكبرى ، والملائكة التي تقسّم المقدرات الربانية ، وتدبّر أمر الخلق.

ثم ذكرت السورة أحوال كفار مكة وغيرهم الذين كذبوا بالقرآن وبالآخرة وما يلقونه من العذاب الشديد في نار جهنم ، كما ذكرت أحوال المؤمنين المتقين وما أعد لهم من جنات ونعيم في اليوم الآخر ، ليدرك العاقل الفرق بينهما ، ويقترن الترهيب بالترغيب للعظة والعبرة.

وتأكيدا لتلك الغاية أشارت الآيات إلى أدلة القدرة الإلهية والوحدانية في الأرض والسماء والأنفس وضمان الأرزاق للعباد ، وأوردت أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها ، فكان مصيرهم الدمار والهلاك ، وهم قوم إبراهيم ولوط وموسى ، وعاد وثمود ، وقوم نوح. وكان في الحديث عن قصص هؤلاء الرسل مع أقوامهم تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من أذى قومه.

ثم عادت إلى التذكير ببناء السماء وفرش الأرض وإيجاد الزوجين لبقاء النوع الإنساني والحيواني ، وأعقبت ذلك بالتزهيد في الدنيا ، والفرار إلى الله من مخاطرها ، والنهي عن الشرك بالله ، والإخبار عن تكذيب الرسل باستمرار ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن قومه ، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.

وختمت السورة ببيان الهدف من خلق الجن والإنس وهو معرفة الله تعالى وعبادته والإخلاص له ، وأخبرت بكفالة الرزق لكل مخلوق ، وأوعدت الكفار والمشركين الظالمي أنفسهم بعذاب شديد يوم القيامة ، وهددتهم بعذاب في الدنيا مماثل لعذاب أمثالهم ونظرائهم من المكذبين السابقين.


القسم على وقوع البعث

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

الاعراب :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) الواو : واو القسم ، (وَالذَّارِياتِ) صفة لموصوف محذوف تقديره : ورب الرياح الذاريات ، فحذف الموصوف ، وجواب القسم : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ). (فَالْحامِلاتِ وِقْراً وِقْراً) مفعول الحاملات.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً يُسْراً) صفة لمصدر محذوف ، تقديره : جريا يسرا ، فحذف الموصوف ، وأقام الصفة مقامه ، أو مصدر في موضع الحال ، أي ميسرة.

(إِنَّما تُوعَدُونَ) ما : مصدرية أو موصولة ، وهو جواب القسم.

(أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) مبتدأ وخبر.

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يَوْمَ) في موضع رفع على البدل من (يَوْمَ) الأول ، إلا أنه بني ، لأنه أضيف إلى غير متمكن.

البلاغة :

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) في قوله : (قُتِلَ) استعارة تبعية ، حيث استعار القتل للدعاء عليهم باللعن ، لأن الملعون يشبه المقتول في الهلاك.


المفردات اللغوية :

(وَالذَّارِياتِ) الرياح تذرو التراب وغيره. (فَالْحامِلاتِ) السحب تحمل الأمطار.

(وِقْراً) ثقلا. (فَالْجارِياتِ) السفن التي تجري على سطح الماء. (يُسْراً) بسهولة أو جريا سهلا. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الملائكة التي تقسّم أمور العباد والأمطار والأرزاق وغيرها.

(إِنَّما تُوعَدُونَ) أي إن وعدكم بالبعث وغيره. (لَصادِقٌ) لوعد صادق. (وَإِنَّ الدِّينَ) الجزاء بعد الحساب. (لَواقِعٌ) لحاصل لا محالة. استدل تعالى باقتداره على هذه الأشياء على اقتداره على البعث الموعود.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) ذات الطرق جمع حبيكة ، إما الطرق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو الطرق المعقولة التي يتوصل بها إلى المعارف. (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) إنكم يا أهل مكة في شأن القرآن الكريم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول متناقض مضطرب ، فتقولون تارة : سحر وساحر ، وتارة : شعر وشاعر ، وتارة : كهانة وكاهن ، وتقولون أحيانا : الله خالق السموات والأرض ، ثم تقولون بعبادة الأوثان معه ، وفي شأن الحشر : تارة تقولون : لا حشر ولا بعث ، وأخرى تقولون : الأصنام شفعاؤنا يوم القيامة عند الله.

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يصرف عن الرسول أو القرآن أو الإيمان من صرف عن الهداية في علم الله تعالى ، إذ لا صرف أشد منه.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف. (فِي غَمْرَةٍ) جهل يغمرهم. (ساهُونَ) غافلون عما أمروا به. (يَسْئَلُونَ) النبي سؤال استهزاء. (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) متى مجيء يوم الجزاء؟ وجوابهم محذوف ، أي يجيء. (يُفْتَنُونَ) يحرقون ، يقال : فتنت الذهب : أحرقته وأذبته ليعرف غشه ، فاستعمل في الإحراق والتعذيب. (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي يقال لهم : ذوقوا تعذيبكم. (هذَا) التعذيب. (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) وقوعه في الدنيا استهزاء.

التفسير والبيان :

لما بيّن الله تعالى في آخر سورة ق المتقدمة أن المشركين مصرّون على إنكار الحشر بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم ، لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان ، فافتتحت هذه السورة بذلك :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ،


إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أقسم الله سبحانه هنا لإثبات الحشر بالمتحركات ، لأن الحشر فيه جمع وموج وتفريق ، وهو بالحركة أليق ، فأقسم بالرياح التي تذرو وتفرّق التراب وكل ما شأنه أن يتطاير متجاوزة قانون الجاذبية الأرضية ، وبالسحب التي تحمل الماء بكميات ثقيلة ، وبالسفن التي تجري فوق وجه الماء ، وبالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار بين العباد ، وكل ملك مخصص بأمر ، فجبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء ، وميكائيل الموكل بالرزق والرحمة ، وإسرافيل صاحب الصّور ، وعزرائيل لقبض الأرواح.

أقسم سبحانه بتلك المظاهر الكونية المرئية وغير المرئية العجيبة التأثير على أن ما وعد به الناس من الحشر إلى الله تعالى ، ووقوع المعاد ، لصادق غير كاذب ، وأن الجزاء من الثواب والعقاب لكائن حاصل لا محالة.

وكان هذا القسم تأكيدا لإخباره بوقوع الحشر ويسره وسهولته في السورة السابقة (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) وفيه إشارة إلى إنكار مشركي مكة وأمثالهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان عليه.

والحكمة من القسم هنا وفي غير ذلك من السور أن العرب كانت تعتقد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوي الحجة ، غالب في المجادلة والبرهان ، فأقسم الله لهم بكل شريف ليعلموا صدقه ، ويؤكد حجته ، كما أنهم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها ، فحلف الله لهم للتصديق والثقة التامة ، وهم يعلمون أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحلف كاذبا ، ولم يصب بسوء بعد أيمانه ، بل ازداد رفعة وثباتا ، مما يدل على كونه صادقا فيما يقول.

ثم إن هذه الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل على كامل قدرته على البعث وغيرها ، فمن أوجد هذه الأشياء وصرّفها كيفما يشاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق مرة أخرى يوم القيامة.


(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي والسماء ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء ، فكل شيء أحكمته وأحسنت عمله ، فقد حبكته واحتبكته ، أو ذات الشدة مثل قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) [الطارق ٨٦ / ١١] أو ذات الطرائق والممرات المحكمة وهي ممرات الكواكب ، والبناء المتقن ، مثل قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج ٨٥ / ١].

والخلاصة : والسماء ذات البنيان المتقن والجمال والحسن والطرائق المحكمة إنكم يا كفار قريش لفي قول مضطرب متناقض غير متلائم في أمر القرآن والرسول ، فمرة تقولون في القرآن : شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين ، وحينا تقولون في الرسول : شاعر وساحر وكاهن ومجنون ، وإنما يصرف عن هذا القرآن والإيمان به من كذّب به ، ويروج على من هو ضال في نفسه ، جاهل غمر لا فهم له ، لأنه قول باطل ، يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول متناقض ، إذ الشاعر أو الساحر أو الكاهن يحتاج إلى عقل وذكاء وفطنة ، أما المجنون فلا عقل عنده.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) لعن وقبح الكذابون أصحاب القول المختلف المرتابون في وعد الله ووعيده ، الذين هم في جهل يغمرهم ، غافلون في الكفر والشك عما أمروا به وعما هم قادمون عليه.

وهذا في الأصل دعاء عليهم بالقتل والهلاك ، كقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس ٨٠ / ١٧] ثم جرى مجرى : لعن وقبح.

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يسألك المشركون تكذيبا وعنادا واستهزاء ، قائلين : متى يوم الجزاء؟ فقل لهم : إنه يوم يعذب الكفار ويحرقون في نار جهنم ، يقال : فتنت الذهب : إذا أحرقته لتختبره.


ويقال لهم من الخزنة :

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ، هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي يقال لهم : ذوقوا عذابكم أو حريقكم ، هذا العذاب الذي كنتم تتعجلون به أو تطلبون تعجيله استهزاء منكم ، وظنا أنه غير كائن.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي :

١ ـ تعظيم المقسم به وهو الرياح الشديدة التأثير التي لا تخضع لقانون الجاذبية ، والسحب المحملة بأحمال ثقيلة وهي الأمطار سبب الرزق والخيرات ، والسفن الجارية فوق سطح الماء ، والملائكة التي تقسّم الأمطار وأرزاق العباد وأمورهم. ولله أن يقسم على ما يشاء ، في أي وقت يشاء ، ولكل أمر يشاء.

ويلاحظ أن جميع السور التي بدئت بغير الحروف ، كهذه السورة ، كان المقسم عليه أحد أصول الاعتقاد : التوحيد ، والرسالة ، والبعث ، فسورة الصافات أقسم فيها على التوحيد ، فقال : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) (٤) وفي سورة النجم والضحى أقسم على صدق الرسول ، حيث قال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢) (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (١ ـ ٣) وبقية السور كان المقسم عليه هو البعث والجزاء.

كما يلاحظ أيضا أن الله تعالى أقسم بمجموع المؤنث السالم في سور خمس ، ففي سورة والصافات لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات ، وفي السور الأربعة الباقية أقسم بالمتحركات لإثبات الحشر ، فقال : (وَالذَّارِياتِ وَالْمُرْسَلاتِ وَالنَّازِعاتِ وَالْعادِياتِ) لأن الحشر فيه جمع وتفريق ، وذلك بالحركة أليق ، كما تقدم.


٢ ـ إن المقسم عليه هو صدق وعد الله بالحشر والبعث والمعاد ، ووقوع الجزاء والحساب والثواب والعقاب.

٣ ـ أقسم الله تعالى مرة ثانية في مطلع هذه السورة بالسماء ذات البنيان المتقن والجمال البديع ، والاستواء ، والطرائق المحكمة على أن المشركين في قول متخالف متناقض في شأن الله عزوجل ، حيث قلتم : إنه خالق السموات والأرض ، وتعبدون معه الأصنام ، وفي شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قلتم تارة : إنه مجنون ، وتارة أخرى : إنه ساحر ، والساحر لا يكون إلا عاقلا ، وفي أمر الحشر قلتم : لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا ، وزعمتم أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة ، ونحو ذلك من الأقوال المتناقضة.

٣ ـ يصرف عن الإيمان بالقرآن والرسول من صرف عنه في سابق علم الله تعالى ، وقضائه السابق ، لعلمه بأنه ضال في نفسه.

٤ ـ لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف المتناقض ، المرتابون في وعد الله ووعيده ، الذين يقولون : لسنا نبعث ، ويتخرصون بما لا يعلمون ، فيقولون : إن محمدا مجنون كذّاب ساحر شاعر ، علما بأنهم في جهل ، غافلون عما أمروا به. وهذا دعاء عليهم ، لأن من لعنه الله ، فهو بمنزلة المقتول الهالك.

٥ ـ كان مشركو مكة وغيرهم من العرب متجبرين معاندين مصرين على كفرهم ، مما جعلهم يسألون استهزاء وشكا في القيامة وعنادا : متى يوم الحساب؟

فأجابهم ربهم بأنه اليوم الذي يحرقون فيه في نار جهنم ، ثم وبخهم الله وتهكم بهم قائلا لهم أو تقول الخزنة لهم : ذوقوا عذابكم وجزاء تكذيبكم ، ذلك العذاب الذي كنتم تستعجلون به في الدنيا ، وتسألون عنه استهزاء وكفرا به.


جزاء المتقين وأوصافهم

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

الاعراب :

(آخِذِينَ) حال من الضمير في حبر (إِنَ).

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ قَلِيلاً) إما صفة مصدر محذوف ، أي يهجعون هجوعا قليلا ، أو صفة لظرف محذوف ، أي كانوا يهجعون وقتا قليلا ، و (ما) زائدة ، ويجوز أن تكون (ما) مع ما بعدها مصدرا في موضع رفع على البدل من ضمير. كان و (قَلِيلاً) خبر كان ، وتقديره : كان هجوعهم من الليل قليلا. وقال السيوطي : يهجعون: خبر كان ، و (قَلِيلاً) ظرف.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ) مبتدأ ، (وَفِي الْأَرْضِ) خبره. ولا يجوز أن يتعلق (فِي أَنْفُسِكُمْ) بقوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) على تقدير : أفلا تبصرون في أنفسكم ، لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما في حيّز الاستفهام على حرف الاستفهام.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ مِثْلَ) حال من الضمير في (حَقٌ) و (ما) زائدة ، ويقرأ بالرفع على أنه صفة (حَقٌ) لأنه نكرة : لأنه لا يكتسي التعريف بالإضافة إلى المعرفة وهي (أَنَّكُمْ) لأن وجوه التماثل بين الشيئين كثيرة غير محصورة.

البلاغة :

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) مجاز مرسل ، أطلق الرزق ، وأراد المطر ، لأنه سبب الأقوات. (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) فيه تأكيد الخبر بالقسم وإنّ واللام ، وهذا النوع من التأكيد الإنكاري ، لأن المخاطب منكر لذلك.


المفردات اللغوية :

(فِي جَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ) ينابيع تجري فيها (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قابلين لما أعطاهم ، راضين به ، وهو ما أعطاهم ربهم من الثواب ، والمعنى : أن كل ما آتاهم ربهم حسن مرضي ، متلقّى بالقبول (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي إنهم قبل دخولهم الجنة قد أحسنوا أعمالهم في الدنيا ، وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك.

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي ينامون في زمن يسير من الليل ، ويصلون أكثره ، والهجوع : النوم ، والهجعة : النومة الخفيفة. (وَبِالْأَسْحارِ) أواخر الليل ، جمع سحر : وهو الجزء الأخير من الليل قبيل الفجر. (يَسْتَغْفِرُونَ) يقولون : اللهم اغفر لنا ، أي إنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا ، أخذوا في الاستغفار.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) نصيب يوجبونه على أنفسهم ، تقربا إلى الله ، وإشفاقا على الناس. (لِلسَّائِلِ) المستعطي المستجدي. (وَالْمَحْرُومِ) الذي حرم من المال ، والمراد به المتعفف الذي يظن كونه غنيا ، فيحرم الصدقة.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) أي في كرة الأرض من الجبال والبحار والأشجار والثمار والمعادن والنبات والإنس والجن والحيوان وغير ذلك دلائل على قدرة الله تعالى ووحدانيته. (لِلْمُوقِنِينَ) الموحّدين الذين أيقنوا بالله ، وسلكوا الطريق الموصل إلى رضوان الله. (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي في تركيب أنفسكم وخلقكم من العجائب آيات أيضا. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تنظرون نظرة متأمل معتبر ، يستدل بذلك على الصانع وقدرته. (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي في السحاب أسباب الرزق وهو المطر الذي ينشأ عنه النبات الذي هو رزق مسبب عن المطر. (وَما تُوعَدُونَ) أي والذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب. (إِنَّهُ لَحَقٌ) أي ما توعدون حق ثابت. (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم ، فكما أنه لا شك في أنكم تنطقون ، لا شك في تحقق ذلك.

سبب نزول الآية (١٩):

(وَفِي أَمْوالِهِمْ ...) : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية ، فأصابوا وغنموا ، فجاء قوم بعد ما فرغوا ـ لم يشهدوا الغنيمة ـ ، فنزلت : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). قال ابن كثير : وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية ، وليس كذلك ، بل هي مكية


شاملة لما بعدها (١). قال ابن عباس : إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما ، أو يقري به ضيفا ، أو يحمل به كلّا ، أو يغني محروما. وقال ابن العربي : لأن السورة مكية ، وفرضت الزكاة بالمدينة.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى حال الفجار الأشقياء الذين كذبوا بالبعث ، وأنكروا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبدوا مع الله إلها آخر من وثن أو صنم ، أراد تعالى أن يبين حال المؤمنين الأتقياء وأوصافهم وجزاءهم في الآخرة.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين اتقوا ربهم ، وتجنبوا ما يعرضهم لعذاب الله ، من التزام أوامره واجتناب نواهيه ، هم يوم المعاد في بساتين فيها عيون جارية ، قابلين قبول رضا لكل ما أعطاهم ربهم ، راضين به ، فرحين بعطائه وفضله ، بخلاف ما يتعرض له أولئك الأشقياء من العذاب والنكال والحريق والأغلاق. فقوله: (آخِذِينَ) كما ذكر الزمخشري : قابلين قبول راض ، كما قال تعالى : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة ٩ / ١٠٤] أي يقبلها. وقيل : الأخذ بمعنى التملك ، يقال : بكم أخذت هذا؟ كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. وعلى كل : الأخذ في هذا المقام إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية ، لما أسلفوا من حسن العبادة ، ووفور الطاعة ، ولهذا علله بقوله :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي ، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة ، يراقبون الله فيها ، كما قال تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٢٤].

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٣٥


ثم أبان الله تعالى وجوه إحسانهم في العمل ، فقال :

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل ، ويصلون أكثره ، فتكون (ما) زائدة وهو القول المشهور ، و (قَلِيلاً) ظرف ، ويجوز أن تجعل (ما) صفة للمصدر ، أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. وأنكر الزمخشري كون (ما) نافية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه ، وقال : لا يجوز أن تكون نافية ، لأن ما بعد (ما) لا يعمل فيما قبلها ، تقول : زيدا لم أضرب (١).

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي يقولون في الجزء الأخير من الليل : اللهم اغفر لنا وارحمنا. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، وكأنهم باتوا في معصية ، وهذا سيرة الكريم ، يأتي بأبلغ وجوه الكرم ، ثم يستقله ويعتذر ، واللئيم بالعكس ، يأتي بأقل شيء ، ثم يمنّ به ، ويستكثر. قال الحسن : مدّوا الصلاة إلى الأسحار ، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار.

ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي‌الله‌عنهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، حتى يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : هل من تائب ، فأتوب عليه؟ هل من مستغفر ، فأغفر له؟ هل من سائل ، فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر».

وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف ١٢ / ٩٨] : أخرهم إلى وقت السحر.

وبعد أن وصفهم تعالى بكثرة الصلاة التي هي عبادة بدنية ، وصفهم بأداء العبادة المالية ، فقال :

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١٦٨


(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي وجعلوا في أموالهم جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين على سبيل البرّ والصلة ، والسائل : هو الفقير الذي يبتدئ بالسؤال ، والمحروم : هو الذي يتعفف عن السؤال ، فيحسبه الناس غنيا ، فلا يتصدّقون عليه.

أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) في صحيحيهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس المسكين بالطواف الذي تردّه اللّقمة واللقمتان ، والتّمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له ، فيتصدق عليه» وفي لفظ آخر أخرجه ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان ، والأكلة والأكلتان ، قيل : فمن المسكين؟ قال : الذي ليس له ما يغنيه ، ولا يعلم مكانه ، فيتصدق عليه ، فذلك المحروم».

وللسائل حق ، أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن الحسين بن علي رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للسائل حق ، وإن جاء على فرس».

والمشهور في الحق : أنه هو القدر الذي علم شرعا ، وهو الزكاة ، وهذا ما رجحه ابن العربي والجصاص الرازي وغيرهما أخذا بقول ابن عباس : نسخت الزكاة كل صدقة. وقال محمد بن سيرين وقتادة : الحق هنا : الزكاة المفروضة. قال القرطبي : والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة ، لقوله تعالى في سورة المعارج : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [٢٤ ـ ٢٥] والحق المعلوم : هو الزكاة التي بيّن الشرع قدرها وجنسها ووقتها ، فأما غيرها لمن يقول به ، فليس بمعلوم ، لأنه غير مقدّر ولا مجنّس ولا موقّت (١).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٤١٢ ، أحكام القرآن لابن العربي : ٤ / ١٧١٨ ، تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٠٥ ، تفسير القرطبي : ١٧ / ٣٨


ويؤيد ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أدّيت زكاة مالك ، فقد قضيت ما عليك فيه». وروى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أديت زكاة مالك ، فقد قضيت الحق الذي يجب عليك» قال الجصاص (١) : فهذه الأخبار يحتج بها من تأول حقا معلوما على الزكاة ، وأنه لا حق على صاحب المال وغيرها.

وقال منذر بن سعيد : هذا الحق : هو الزكاة المفروضة.

وبالرغم من أن هذا صحيح ، وأنه قول الجمهور ، فإن السورة مكية ، وفرض الزكاة بالمدينة ، وإذا فسر الحق بأنه الزكاة لم يكن صفة مدح ، لأن كل مسلم كذلك يؤدي زكاة ماله ، فالظاهر أن المراد بالآية هنا صدقات التطوع غير الزكاة ، وهي أي الصدقات التي تعطى على سبيل البر والصلة ، عن ابن عمر : أن رجلا سأله عن هذا الحق ، فقال : الزكاة ، وسوى ذلك حقوق ، فعمم.

واحتج من أوجب في المال حقا سوى الزكاة بما روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة؟ فتلا : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ...) الآية [البقرة ٢ / ١٧٧] فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) (٢).

ثم أكد الله تعالى وقوع الحشر والدلالة على قدرته بالأدلة الأرضية ، فقال : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار وأنهار وبحار وأصناف نبات وحيوان وناس مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى وتفاوت المعقول والفهوم وما في تركيب أجسادهم

__________________

(١) الجصاص ، المرجع السابق : ص ٤١١

(٢) الجصاص ، المرجع والمكان السابق.


من عجائب الصنع ، دلائل واضحة وعلامات ظاهرة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة ، للموقنين بالله ، لأنهم الذين يعترفون بذلك ، ويتدبرون فيه ، فينتفعون به.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله ، وصدق ما جاءت به الرسل ، أفلا تنظرون نظرة متأمل معتبر ناظر بعين البصيرة ، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق ، المتفرد بالألوهية ، فليست نفوسكم مخلوقة بالصدفة ولا بالطبيعة ، وإنما خالقها الله القادر على كل شيء ، وعلى البعث وإعادة الحياة.

ففي النفس والدماغ ذي الملايين من الخلايا ، وحواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق ، ودورة الدم ، وأجهزة التنفس والهضم والبول ، كل ذلك أدلة مقنعة لمن يعقلها ، ولا يعقلها حقيقة إلا المؤمنون المتقون الله ، أما غيرهم فيفسرها على أنها حقائق طبيعية مادية فقط.

ثم ذكر الله تعالى ضمانه الرزق للأنفس والعباد كلهم فقال :

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي ، وفي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها ، وفيها ما توعدون من خير أو شر ، وجنة ونار ، وثواب وعقاب ، ففي السماء التي هي السحاب المطر ، وفي السماء أسباب الرزق من الشمس والقمر والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول ، التي يكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء الأمطار ، وتسوقها الرياح ، وتغذيها الشمس بحرارتها ، ويمنحها نور القمر قوة ونموا ونضجا.

ثم أقسم الله تعالى بذاته المقدسة على أحقية البعث وضمان الرزق ، فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي فورب العزة والجلال ، إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات ، وما وعدتكم به من أمر القيامة


والبعث والجزاء ، وتيسير الرزق وضمانه ، حق لا مرية فيه ، كائن لا محالة ، فلا تشكّوا فيه ، كما لا تشكّوا في نطقكم حين تنطقون ، فهو كمثل نطقكم ، فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا ، كما تقول : إنه لحق ، كما أنك تتكلم وترى وتسمع. وكان معاذ رضي‌الله‌عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه : إن هذا لحق كما أنك هاهنا.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي عدي عن الحسن البصري أنه قال : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم ، ثم لم يصدقوا».

قال الأصمعي : أقبلت خارجا من البصرة ، فطلع أعرابي على قعود ، فقال : من الرجل؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل عليّ ، فتلوت (وَالذَّارِياتِ) فلما بلغت قوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) فقال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ، ووزعها على الناس ، وعمد إلى سيفه وقوسه ، فكسرهما وولّى. فلما حججت مع الرشيد ، طفقت أطوف ، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر ، فسلّم علي ، واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح ، وقال : وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : فهل غير هذا؟ فقرأت: (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) فصاح ، فقال : يا سبحان الله ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! لم يصدقوه بقوله ، حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثا ، وخرجت معها نفسه (١).

وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمع

__________________

(١) أسنده الثعلبي ، راجع غرائب القرآن : ٢٧ / ١٠ ـ ١١ ، تفسير القرطبي : ١٧ / ٤٢


قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود ١١ / ٦] فرجع ولم يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن مآل المتقين في بساتين فيها عيون جارية ، على نهاية ما يتنزه به ، قابلين قبول رضا ، قريرة أعينهم بما أعطاهم ربهم من الثواب وأنواع الكرامات. وهذا في مقابل مآل الكفار في نار جهنم في الآيات السابقة.

٢ ـ أوصاف المتقين المذكورة في هذه الآيات تنحصر في هذه الآيات تنحصر في هذه إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا ، ومظاهر إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا ، ومظاهر إحسانهم ثلاثة أشياء : تهجدهم بالليل بعد نومهم زمنا قليلا ، واستغفارهم من ذنوبهم بالأسحار (أواخر الليل قبيل الفجر) وأداء حقوق أموالهم من الزكاة المفروضة وصدقات التطوع على سبيل البر والصلة. وإنما أضاف المال إليهم ، وفي مواضع أخرى قال : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [يس ٣٦ / ٢٧] لأن هذه الآية للحث على الإنفاق ، وأما الآية التي في هذه السورة فهي مدح على ما فعلوا ، مما يدل على أنهم في غير حاجة إلى التذكير بالحرص المانع من النفقة.

٣ ـ من أدلة قدرة الله على البعث والنشور : خلق الأرض والسماء والأنفس ، ففي الأرض علامات على با هر قدرته ، منها عود النبات بعد أن صار هشيما ، ومنها أنه قدّر الأقوات فيها قواما للحيوانات ، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة ، ولا ينتفع بتلك العلامات ولا يتدبر بها إلا الموقنون ، وهم العارفون ربهم الموحّدون إلههم ، المصدّقون بنبوة نبيهم.


وفي الأنفس البشرية آيات أيضا للمتأملين المؤمنين الموقنين ، من تركيب الجسم العجيب ، وتلازم الروح والجسد ، والعقل والفؤاد ، والقوى والإرادات ، لذا عقبه تعالى بقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرة الله تعالى. وهذا إشارة إلى دليل الأنفس ، وهو كقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت ٤١ / ٥٣].

وفي السماء أسباب الرزق من مطر وثلج ينبت به الزرع ، ويحيا به الخلق ، وفيها تقدير ما يوعد به البشر من خير وشر ، وجنة ونار ، وثواب وعقاب. وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن ، فذكر الأرض وهي المكان ، ثم عمرها وآنسها بالإنسان ، ثم ذكر ما به بقاؤه وهو الرزق.

٤ ـ أكد رب العزة ما أخبر به من البعث ، وما خلق في السماء من الرزق ، وما قدّر من أقوات الحيوانات والنفوس البشرية ، فأقسم عليه بأنه لحق ، ثم أكده بقوله : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم ، أي إن ذلك ثابت حسّا ، كما يدرك الإنسان يسر نطقه وكلامه. وخص النطق من بين سائر الحواس : لأن ما سواه من الحواس يحدث فيه اللبس والتشبيه.

وهذا قسم ثالث : فبعد أن أقسم تعالى بالأمور الأرضية وهي الرياح ، ثم أقسم بالسماء في قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) أقسم هنا بالذات العلية ، وهذا ترتيب منطقي سليم ، يقسم المتكلم أولا بالأدنى ، فإن لم يصدق به ، يرتقي إلى الأعلى.


قصة ضيف إبراهيم ومهمتهم في إهلاك قوم لوط

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

الاعراب :

(فَقالُوا : سَلاماً قالَ : سَلامٌ سَلاماً) : منصوب على المصدر أو بوقوع الفعل عليه. و (سَلامٌ) : إما مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره : سلام عليكم ، وجاز الابتداء ، لأنه في معنى الدعاء أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : أمري سلام عليكم. و (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) خبر مبتدأ ، أي هؤلاء.

(فِي صَرَّةٍ) متعلق بمحذوف حال ، أي كائنة.

(وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) لم يقل : عقيمة ، لأن (عَقِيمٌ) فعيل بمعنى مفعول ، وهذه الصيغة لا تثبت فيها الهاء ، تقول : عين كحيل ، وكف خضيب ، ولحية دهين ، أي عين مكحولة ، وكف مخضوبة ، ولحية مدهونة ، وذلك للتفرقة بين فعيلة بمعنى مفعولة ، وفعيلة بمعنى فاعلة ، نحو : شريفة وظريفة ولطيفة ، وعقيم بمعنى معقومة ، لا بمعنى فاعلة ، فلم تثبت فيها الهاء.


(قالُوا : كَذلِكَ قالَ : رَبُّكِ) الكاف في (كَذلِكَ) صفة مصدر محذوف ، تقديره : قال ربك قولا كذلك ، أي مثل ذلك.

البلاغة :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) أسلوب التشويق والتفخيم ، لتفخيم شأن الحديث.

(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) إيجاز بالحذف ، أي أنتم قوم منكرون ، وأنا عجوز عقيم.

المفردات اللغوية :

(هَلْ أَتاكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) ضيوف ، وضيف في الأصل ، مصدر ، ولذلك يطلق على الواحد والجماعة ، كالزّور والصوم ، وكانوا اثني عشر ملكا ، أو تسعة عاشرهم جبريل ، أو ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وسماهم ضيفا ، لأنهم كانوا في صورة الضيف. (الْمُكْرَمِينَ) لأنهم في أنفسهم مكرمون ، كما قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٦] أو لأن إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجل لهم القرى. (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) ظرف لحديث ضيف ، أو للضيف أو المكرمين. (فَقالُوا : سَلاماً) قالوا هذا اللفظ أو نسلم عليكم سلاما. (قالَ : سَلامٌ) أي عليكم سلام ، عدل به إلى الرفع بالابتداء ، لقصد الثبات حتى تكن تحيته أحسن من تحيتهم. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي أنتم قوم غير معروفين ، قال ذلك في نفسه ، أو صرح به للتعرف عنهم أو بهم.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) ذهب إليهم في خفية من ضيفه ، أو مال إليهم سرا ، قال الزمخشري : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يباده بالقرى من غير أن يشعر به الضيف ، حذرا من أن يكفه ويعذره. (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) ممتلئ شحما ولحما لأنه كان عامة ماله البقر ، وفي سورة هود : (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٦٩) أي مشوي.

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) وضعه بين أيديهم. (قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ) منه؟ أي عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا. (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أضمر في نفسه منهم خوفا ، لما رأى إعراضهم عن طعامه ، لظنه أنهم جاءوه لشرّ. (قالُوا : لا تَخَفْ) إنا رسل الله. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي ذي عليم كثير ، هو إسحاق عليه‌السلام ، كما ذكر في هود.

(امْرَأَتُهُ) هي سارّة رضي‌الله‌عنها لما سمعت بشارتهم له ، وكانت في زاوية تنظر إليهم. (فِي صَرَّةٍ) في صيحة ، أي جاءت صائحة. (فَصَكَّتْ وَجْهَها) لطمته بأطراف أصابعها عجبا


وحياء ، بأن ضربت بيدها على جبهتها. (وَقالَتْ : عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي أنا عجوز كبيرة السن ، عاقر لم ألد قط ، فكيف ألد؟ وكان عمرها تسعا وتسعين سنة (٩٩) وعمر إبراهيم مائة أو مائة وعشرين.

(قالُوا : كَذلِكَ) أي مثل ذلك الذي بشرنا به. (قالَ رَبُّكِ) هو قول الله ، وإنما نخبرك به عنه. (الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ذو الحكمة في صنعه ، والعلم الواسع بخلقه. (فَما خَطْبُكُمْ) ما شأنكم الخطير ، قال ذلك لما علم أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه.

(إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) كافرين ، هم قوم لوط. (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) مطبوخة بالنار وهو السجيل : الطين المتحجر. (مُسَوَّمَةً) معلمة من السّومة : وهي العلامة. (لِلْمُسْرِفِينَ) المجاوزين الحدّ في الفجور ، بإتيانهم الذكور ، مع كفرهم.

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) في قرى قوم لوط ، وأضمرت ولم تذكر سابقا ، لكونها معلومة. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ممن آمن بلوط ، بقصد إهلاك الكافرين. (غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي غير أهل بيت من المسلمين ، وهم لوط وابنتاه وأتباعه إلا امرأته ، أي مصدقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات. واستدل به على اتحاد الإسلام والإيمان ، لكنه ـ كما قال البيضاوي ـ استدلال ضعيف ، لأن المراد اجتماع الصفتين فيهم ، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهومهما. (وَتَرَكْنا فِيها) بعد إهلاك الكافرين. (آيَةً) علامة دالة على ما أصابهم من الهلاك. (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) لمن خافوا عذاب الله المؤلم ، فلا يفعلون مثل فعلهم.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى إنكار مشركي مكة للبعث والنشور ، سلّى قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم‌السلام كان مثله ، فقد أوذوا من أقوامهم ، وأعرض هؤلاء عن دعوة رسلهم. وبدأ تعالى بقصة إبراهيم بعد إيرادها في سورة هود والحجر ، لكونه شيخ المرسلين ، وكون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته ، وإنذارا لقومه بما جرى من الضيف ، وبيانا لإنزال الحجارة على المذنبين المضلين ، حتى يتعظ أو يعتبر كفار قريش وأمثالهم إلى يوم القيامة. ثم سألهم إبراهيم عن شأنهم وسبب مجيئهم ، فأخبروه بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لهم.


التفسير والبيان :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ، فَقالُوا : سَلاماً ، قالَ : سَلامٌ ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي هل بلغك خبر قصة إبراهيم عليه‌السلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند الله سبحانه الذين جاؤوا إليه في صورة بني آدم ، وهم في طريقهم إلى قوم لوط ، فدخلوا عليه وسلموا بقولهم : سلاما ، أي نسلم عليك سلاما ، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات ، فقال : سلام عليكم ، إنكم قوم لا أعرفكم من قبل ، فمن أنتم؟ وقيل : إنه قال دلك في نفسه ، ولم يخاطبهم به ، لأن هؤلاء الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة.

ابتدأ الله تعالى بالاستفهام التقريري تفخيما لشأن الحديث ، ولفتا للنظر والانتباه ، مع تهديد العرب ووعيدهم ووعظهم ، وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يجري عليه من قومه ، وأطلق عليهم صفة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه‌السلام ، والضيافة سنة ، وذهب أحمد وجماعة إلى وجوب الضيافة للنزيل ، وحيّوه بصيغة (سَلاماً) التي هي دعاء ، فردّ عليهم الخليل مختارا الأفضل من التسليم ، فقال : (سَلامٌ) لأن الرفع أقوى وأثبت من النصب ، لدلالته على الثبات والدوام. والظاهر الذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لم يقل لهم : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ولم يخاطبهم بذلك ، بل أسرّها في نفسه ، فقال : هؤلاء قوم منكرون ، أو قال ذلك لمن معه من أتباعه وخدمه وجلسائه ، لأن التصريح بمثل هذا فيه إيحاش للضيف وعدم إيناس.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ، قالَ : أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي عدل أو ذهب إلى أهله خفية من ضيوفه في سرعة ، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا ، كما في سورة هود : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)


(٦٩) أي مشوي على الرّضف (الحجارة المحماة). وبعد أن أدناه منهم ووضعه بين أيديهم دعاهم بتلطف وأدب ، وعرض حسن قائلا مستحثا : (أَلا تَأْكُلُونَ)؟

وقد انتظمت الآية آداب الضيافة ، فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة ، دون سابق عرض ، لأن إبراهيم عليه‌السلام كان جوادا كريما ، وأتى بأفضل ماله ، وهو عجل فتيّ سمين مشوي ، لأن جلّ ماله كان البقر ، ووضعه بين أيديهم ، ودعاهم على سبيل التلطف في العرض قائلا : ألا تأكلون؟

فأعرضوا ، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون :

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فلما أعرضوا عن الطعام ولم يأكلوا ، أحسّ في نفسه خوفا منهم ، على عادة الناس أن الامتناع عن الطعام لشرّ مبيت ، وأن من أكل من طعام إنسان ، صار آمنا منه ، فظن إبراهيم عليه‌السلام أنهم جاؤوا للشر ، ولم يأتوا للخير ، كما في سورة هود : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) (٧٠).

(قالُوا : لا تَخَفْ ، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي قالت الملائكة لإبراهيم : إننا ملائكة رسل من الله تعالى ، كما في آية أخرى : (قالُوا : لا تَخَفْ ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [هود ١١ / ٧٠].

وبشروه (١) بغلام يولد له ، كثير العلم بعد البلوغ ، وهو إسحاق عليه‌السلام ، كما قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود ١١ / ٧١] وتضمنت البشارة شيئين مفرحين ، هما كونه غلاما ذكرا ، وكونه عالما ، والعلم أكمل الصفات.

__________________

(١) وفي سورة الصافات : وَبَشَّرْناهُ أي بواسطة الملائكة.


(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ، فَصَكَّتْ وَجْهَها ، وَقالَتْ : عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي فلما سمعت امرأته سارّة بشارتهم ، وكانت في ناحية من البيت تسمع كلامهم ، أقدمت صائحة صارخة ، وضربت بيدها على وجهها ، كما هي عادة النساء عند التعجب ، وقالت : كيف ألد ، وأنا كبيرة السن ، وعقيم لا تلد ، حتى في عهد شبابها ، كما جاء في آية أخرى : (قالَتْ : يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) [هود ١١ / ٧٢].

(قالُوا : كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ : إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي كما قلنا لك وأخبرناك قال ربّك ، فلا تشكّي في ذلك ، ولا تعجبي منه ، فنحن رسل الله ، والله على كل شيء قدير ، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله ، العليم بما تستحقونه من الكرامة وبكل شيء في الكون ، كما جاء في آية أخرى : (قالُوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ، رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود ١١ / ٧٢].

وهذه المفاوضة لم تكن مع سارّة فقط ، بل كانت مع إبراهيم أيضا ، حسبما تقدم في سورة الحجر (٥٣ ـ ٥٤) وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك ، كما أنه لم يذكر هناك اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود (٧٢).

ويكون استبعادها الولد لسببين : كبر السن ، والعقم ، فكأنها قالت : يا ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة ، ظنا منها أن ذلك منهم ، مثلما يصدر من الضيف من مجاملات الأدعية ، كقوله : الله يعطيك مالا ويرزقك ولدا ، فقالوا : هذا منا ليس بدعاء ، وإنما ذلك قول الله تعالى : (قالُوا : كَذلِكَ ، قالَ رَبُّكِ) ثم دفعوا استبعادها بقولهم : (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (١).

والسبب في اختلاف تذييل الآيتين حيث قال هنا : (الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) وفي هود قال: (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) : أنهم في سورة هود نبهوها إلى القيام بشكر نعم الله ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢١٥


فناسب قولهم : (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) لأن الحميد : هو الذي يستحق الحمد والشكر لصدور الأفعال الحسنة منه ، والمجيد : الممجد الذي يستحق الحمد بنفسه وبمجده. وأما هنا فأرادوا التنبيه إلى الحكمة العامة من الولادة في الكبر وبعد العقم طوال الحياة. وهي الدلالة على حكمته وعلمه ، فهو حكيم في فعله يضع الأمور في نصابها ، عليم بشؤون خلقه (١).

وبعد بشارة الملائكة إبراهيم عليه‌السلام بالغلام ، سألهم عن شأنهم وسبب مجيئهم :

(قالَ : فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي فما شأنكم الخطير ، وفيم جئتم ، وما قصتكم المثيرة ، وما سبب إرسالكم من جهة الله؟ فأجابوه :

(قالُوا : إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي قالت الملائكة رسل العذاب ورسل البشرى : إنا بعثنا إلى قوم لوط الذين أجرموا بالكفر وارتكاب الفواحش ، لنرجمهم بحجارة من طين متحجر ، مطبوخ بالنار ، كالآجرّ ، معلمة بعلامات تعرف بها ، مخصصة عند الله لهلاك المتمادين في الضلالة ، المجاوزين الحد في الفجور.

ثم أخبر الله تعالى عن أن هذا العذاب ليس عشوائيا يصيب الصالح والطالح ، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين ، فقال :

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي لما أردنا إهلاك قوم لوط ، أخرجنا من كان في تلك القرى من قومه المؤمنين به ، تنجية لهم من العذاب ، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم وجهه لله ، وانقاد لأوامره ، واجتنب نواهيه ، وهو بيت لوط بن هاران ـ أخي إبراهيم ـ بن تارح ، أي كان لوط ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، آمن

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.


بعمّه ، وتبعه في رحلاته إلى مصر ، ثم تركه عن تراض ، ونزل إلى سدوم في الأردن.

وكان أولئك المؤمنون هم لوط وأهل بيته إلا امرأته ، قال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر.

ونحو الآية : (قالَ : إِنَّ فِيها لُوطاً ، قالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٣٢].

وقد احتج بهذه الآية المعتزلة الذين لا يفرقون بين مسمى الإيمان والإسلام ، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. قال ابن كثير : وهذا الاستدلال ضعيف ، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ومسلمين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس ، فاتفق الاسمان هاهنا ، لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك في كل حال.

والدليل على التفرقة بين الإسلام والإيمان الآية السابقة : (قالَتِ الْأَعْرابُ : آمَنَّا ، قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات ٤٩ / ١٤] وحديث الصحيحين عن عمر رضي‌الله‌عنه : «أن جبريل سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، قال : صدقت ، فأخبرني عن الإيمان ، قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ، قال : صدقت».

ثم أورد الله تعالى العبرة من قصة قوم لوط ، فقال :

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي وأبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من يخاف عذاب الله ويخشاه وهم المؤمنون ، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم ، فإنها ظاهرة مبيّنة ، جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال


وحجارة السجيل ، وقلبنا ديارهم عاليها سافلها ، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة ، وهي بحيرة طبرية. ونظير الآية : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٣٥].

وهذا دليل على أنه إذا غلب الشر والكفر والفسق ، كان الدمار والهلاك.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي فيما تضمنته من قصتين : قصة البشارة بإسحاق ، والإخبار بإهلاك قوم لوط ، فمن القصة الأولى يستفاد ما يلي :

١ ـ ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه‌السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته ، كما فعل بقوم لوط.

٢ ـ وصف الله سبحانه الملائكة بكونهم ضيوفا ، ولم يكونوا كذلك ، إكراما لإبراهيم عليه‌السلام في حسابه وظنه ، فلم يكذبه الله تعالى في ذلك.

وهم أيضا عباد مكرمون عند الله عزوجل ، وعند إبراهيم عليه‌السلام ، إذ خدمهم بنفسه وزوجته ، وعجّل لهم القرى ، ورفع مجالسهم ، كما في بعض الآثار.

٣ ـ السنة التحية لكل قادم على غيره ، وهي السلام ، فقال الملائكة : نسلم عليك سلاما ، والمراد من السلام هو التحية وهو المشهور ، فأجابهم إبراهيم عليه‌السلام بأحسن من تحيتهم ، فقال : سلام عليكم ، أي سلام دائم ثابت لا يزول ، لقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء ٤ / ٨٦].

٤ ـ أنكرهم إبراهيم عليه‌السلام للسلام الذي هو علم الإسلام والذي لم يكن شائعا في قومه الكفرة ، ولأنهم عليهم‌السلام غرباء غير معروفين ، ولأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس ، ولإمساكهم عن الكلام.


٥ ـ بادر إبراهيم عليه‌السلام إلى إكرامهم ، لما اشتهر عنه من الكرم ، ولأن الضيافة من آداب الدين ، وكان في إعداده الطعام لهم في غاية الأدب والتكريم والسمو ، يقال : إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه ، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام.

واختار الأجود ، فقدّم إليهم الطعام الدسم وهو عجل سمين مشوي على الحجارة المحماة ، وعرض عليهم الأكل بتلطف وعرض حسن دون أمر ، فقال : (أَلا تَأْكُلُونَ) ولم يقل : كلوا. وأظهر السرور بأكلهم ، وكان غير مسرور بتركهم الطعام ، كما يوجد من بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاما كثيرا ، ثم يترقبون إمساك الضيف عن الأكل.

٦ ـ أحسّ إبراهيم منهم الخوف في نفسه ، على عادة الناس أن من يمتنع من مؤاكلة المضيف يضمر شرا مبيتا ، فطمأنوه وقالوا له : لا تخف ، وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله ، وبشروه بولد يولد له من زوجته سارّة.

٧ ـ لما سمعت زوجته بالبشارة ، تعجبت وصاحت كما جرت عادة النساء ، حيث يسمعن شيئا من أحوالهن ، يصحن عند الاستحياء أو التعجب ، وكان تعجبها لأمرين : كبر السن والعقم.

٨ ـ أجابها الملائكة بأن ما قالوه وأخبروا به هو قول الله وحكمه ، فلا يصح أن تشك فيه ، وكان بين البشارة والولادة سنة ، وكانت سارّة لم تلد قبل ذلك ، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة ، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة ، والله حكيم فيما يفعله ، عليم بمصالح خلقه.

وأما القصة الثانية ففيها ما يأتي :

١ ـ أدرك أبو الأنبياء إبراهيم أن وراء وفد الملائكة الجماعي شيئا خطيرا ،


فبعد أن علم وتيقن أنهم ملائكة أرسلوا لأمر خطير ، قال لهم : فما شأنكم وقصتكم أيها الملائكة المرسلون سوى البشارة؟

وإنما عرف كونهم مرسلين لقولهم هنا : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) فهذا يدل على كونهم منزلين من عند الله ، حيث حكوا قول الله.

٢ ـ أجابوه بأنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين هم قوم لوط ، لرجمهم بحجارة معروفة بأنها حجارة العذاب ، قيل : على كل حجر اسم من يهلك به. وإنما قال : (مِنْ طِينٍ) لإفادة أن الحجارة من طين متحجر وهو السجّيل ، ولدفع توهم كونها بردا ، فإن بعض الناس يسمي البرد حجارة.

٣ ـ كانت الحاجة إلى قوم من الملائكة ، مع أن الواحد منهم يقلب المدائن بريشة من جناحه ، إظهارا لقدرة الله وتعظيمه وشدة سلطانه وغلبة جنده.

٤ ـ جرت سنة الله تعالى في إنزال الهلاك والدمار العام بإنجاء المؤمنين وتمييزهم ، فلما أراد إهلاك قوم لوط أمر نبيه لوطا بأن يخرج هو مع المؤمنين من أهل بيته إلا امرأته ، لئلا يهلك المؤمنون ، وذلك قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) [هود ١١ / ٨١].

٥ ـ دلّ قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) على فائدتين (١) :

إحداهما ـ بيان القدرة والاختيار ، لتمييز الله المجرم عن المحسن.

الثانية ـ بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء ، فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك ، فلما خرج من القرية آل لوط المؤمنون ، نزل العذاب بالباقين.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢١٨


٦ ـ دل قوله تعالى : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) على أن الكفر إذا غلب ، والفسق إذا عمّ وفشا ، لا تنفع معه عبادة المؤمنين. أما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة ، وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون ، فلا عذاب.

٧ ـ المؤمنون والمسلمون من آل لوط سواء ، لكن في الحقيقة : الإيمان : تصديق القلب ، والإسلام : هو الانقياد بالظاهر لأحكام الله ، فكل مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمنا ، فسمّاهم تعالى في الآية الأولى مؤمنين ، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. قال الرازي مؤيدا التفرقة بين الإيمان والإسلام : والحق أن المسلم أعم من المؤمن ، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه ، فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما ، فكأنه تعالى قال : أخرجنا المؤمنين ، فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين ، ويلزم من هذا ألا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.

٨ ـ إن في تعذيب قوم لوط على الكفر وفاحشة اللواط عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم ، غير أن المنتفعين بالعظة والعبرة هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه ، والمنتفع بها هو الخائف. وقد عبر عن ذلك في آية أخرى بأبلغ وجه حيث قال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٣٥] فقد وصف الآية بالظهور ، وقال : (مِنْها) لا (فيها) المفيدة للتبعيض ، فكأنه تعالى قال : من نفسها لكم آية باقية ، وذكر أن المنتفع هو العاقل ، والعاقل أعم من الخائف ، فكانت الآية في العنكبوت أظهر ، لأن القصد هناك تخويف القوم ، وهاهنا تسلية القوم ، ويؤكده أنه قال هناك : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) من غير بيان واف بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم ، وقال هنا : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).


قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

الإعراب :

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ ..) معطوف على قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) وتقديره : وفي موسى آيات. (وَهُوَ مُلِيمٌ) الجملة حال من ضمير (فَأَخَذْناهُ).

وكذلك التقدير في قوله تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا ..).

وكذلك التقدير في قوله تعالى : (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ ..).

وكذلك التقدير في قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ ..) عند من قرأ بالجر ، ومن قرأ بالنصب فهو منصوب بفعل مقدر ، تقديره : أهلكنا قوم نوح ، أو اذكر قوم نوح.

البلاغة :

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) استعارة ، استعار الركن للجنود والجموع ، لأنه يتقوى بهم ، ويعتمد عليهم كما يعتمد على الركن في البناء.

(وَهُوَ مُلِيمٌ) مجاز عقلي ، أطلق اسم الفاعل على اسم المفعول ، أي ملام على طغيانه.

(الرِّيحَ الْعَقِيمَ) استعارة تبعية في قوله : (الْعَقِيمَ) شبه استئصالهم بعقم النساء ، ثم أطلق المشبه به على المشبه ، واشتق منه العقيم بطريق الاستعارة.


المفردات اللغوية :

(وَفِي مُوسى) معطوف على قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ) قال الزمخشري وابن عطية : وهذا بعيد جدا ينزّه القرآن عن مثله. والأصح العطف على قوله : (وَتَرَكْنا فِيها) والمعنى : وجعلنا في قصة موسى آية. (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي مصحوبا متلبسا بسلطان مبين ، أي بحجة واضحة هي معجزاته ، كاليد والعصا. (فَتَوَلَّى) أعرض عن الإيمان. (بِرُكْنِهِ) أي كقوله : نأى بجانبه ، أو فتولى عن الإيمان مع جنوده وأتباعه ، لأنهم له كالركن ، والأصل في الركن : ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به ، والمراد هنا : جنوده وأعوانه ، كما في آية : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود ١١ / ٨٠].

(وَقالَ) لموسى. (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي هو ساحر أو مجنون ، كأنه نسب الخوارق إلى الجنّ. (فَنَبَذْناهُمْ) طرحناهم. (فِي الْيَمِ) في البحر .. (وَهُوَ مُلِيمٌ) آت بما يلام عليه من الكفر والعناد وتكذيب الرسل ودعوى الربوبية.

(وَفِي عادٍ) أي وفي إهلاك عاد آية. (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) حين أرسلنا عليهم الريح العقيم ، سماها عقيما ، لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم ، أو لأنها لا خير ولا منفعة فيها ، فلا تحمل المطر ولا تلقح الشجر ، وهي الدّبور أو الجنوب أو النكباء. (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي ما تترك شيئا مرّت عليه. (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) كالرماد ، أو كالشيء البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك ، مأخوذ من الرم : وهو البلى والتفتت.

(وَفِي ثَمُودَ) أي وفي إهلاك ثمود آية. (إِذْ قِيلَ لَهُمْ) بعد عقر الناقة. (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) إلى انقضاء آجالكم. (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) استكبروا عن امتثال أمره. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي العذاب بعد الثلاثة أيام ، كما في آية : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود ١١ / ٦٥] والصاعقة : نار نازلة بسبب احتكاكات كهربية ، وهي الصيحة المهلكة التي صعقتهم. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها ، فإنها جاءتهم معاينة بالنهار.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب ، وهو كقوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [هود ١١ / ٦٧]. (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ممتنعين من العذاب وعلى من أهلكهم.

(وَقَوْمَ نُوحٍ) أي وأهلكنا قوم نوح ، ومن قرأ بالجر فهو عطف على ثمود ، أي وفي إهلاكهم آية. (مِنْ قَبْلُ) قبل إهلاك هؤلاء المذكورين. (فاسِقِينَ) خارجين من طاعة الله ، متجاوزين حدوده.


المناسبة :

بعد بيان العظة والعبرة في قصتي إبراهيم ولوط عليهما‌السلام ، من أجل الإيمان بقدرة الله ، عطف تعالى على ذلك قصص أقوام آخرين ، عذبوا على تكذيب الرسل بعذاب الاستئصال ، وهم فرعون موسى وأتباعه ، وعاد وثمود ، وقوم نوح ، وقد تبين في تعذيبهم نهاية الطغاة والمكذبين والكفار الظالمين ، ليثوب الناس إلى رشدهم ، ويؤمنوا بالله وبالبعث ، ويكفّوا عن تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفر برسالته.

التفسير والبيان :

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي وتركنا في قصة موسى عليه‌السلام آية وعبرة ، حين أرسلناه إلى الطاغية فرعون الجبار بشيرا ونذيرا بحجة ظاهرة واضحة هي المعجزات كالعصا واليد وما معها من الآيات.

فأعرض استكبارا وعنادا ونأى عن آياتنا بجانبه ، واعتز بجنده وجموعه وقوته ، وقال محقرا شأن موسى : هو إما ساحر أو مجنون ، إذ لم يستطع تفسير ما رآه من الخوارق ، إلا بنسبته إلى السحر أو الجنون ، كما في آية أخرى : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء ٢٦ / ٣٤] وآية : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء ٢٦ / ٢٧].

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ ، فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ ، وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فأخذناه مع جنوده أخذ عزيز مقتدر ، فألقيناهم في البحر ، وفرعون آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان وادعاء الربوبية والعناد والفجور.

وهذا دليل آخر على عظمة القدرة الإلهية على إذلال الجبابرة ، جزاء عتوهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق.


ثم ذكر الله تعالى قصة عاد ، فقال :

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي وتركنا أيضا في قصة عاد آية وعبرة ، حين أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية ، لا خير فيها ولا بركة ، لا تلقح شجرا ، ولا تحمل مطرا ، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب ، فلا تترك شيئا مرّت عليه من الأنفس البشرية والأنعام والأموال إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.

ثم أبان الله تعالى قصة ثمود ، فقال :

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ : تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي وتركنا في قصة ثمود آية ، حين قلنا لهم : عيشوا متمتعين في الدنيا إلى وقت الهلاك ، كما قال تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود ١١ / ٦٥].

فتكبروا عن امتثال أمر الله ، فنزلت بهم صاعقة من السماء أهلكتهم ، والصاعقة : هي كل عذاب مهلك ، وهم يرونها عيانا بالنهار ، أو هم ينتظرون ما وعدوه من العذاب ، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام ، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار ، جزاء وفاقا لما اقترفوا من آثام ومعاص.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ ، وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي لم يقدروا على القيام والهرب من تلك الصرعة ، بل أصبحوا في دارهم هلكى جاثمين ، ولم يكونوا ممتنعين من عذاب الله ، ولم يجدوا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.

ثم أعقبه بقصة قوم نوح ، فقال :

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي وأهلكنا بالطوفان قوم نوح من قبل هؤلاء ، لتقدم زمنهم على زمن فرعون وعاد وثمود ، لأنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله ، متجاوزين حدوده.


فقه الحياة أو الأحكام :

هذه نهاية الطغاة الظالمين وعاقبة الكفار المكذبين ، أخبر بها تعالى للعظة والعبرة ، وهي تذكّر بحال أربعة أقوام.

ـ فإن الله تعالى أرسل موسى عليه‌السلام مؤيدا بالدليل الباهر والحجة القاطعة والمعجزات كالعصا واليد ، إلى فرعون الطاغية الجبار ، فأعرض عن الإيمان بجنوده وجموعه ، وكذبوا برسالته ، ووصف فرعون موسى بأنه ساحر يأتي الجن بسحره أو يقرب منهم ، والجن يقربونه ويقصدونه إن لم يقصدهم ، فيصير كالمجنون ، فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن ، غير أن الساحر يأتيهم باختياره ، والمجنون يأتونه من غير اختياره.

فكان عاقبتهم الإغراق في البحر لكفرهم وتوليهم عن الإيمان ، وإتيان فرعون بما يلام عليه من ادعاء الربوبية والطغيان والعناد.

ـ كذلك أرسل الله هودا عليه‌السلام إلى قبيلة عاد ، فكذبوه واستكبروا عن دعوته ، وعكفوا على عبادة الأصنام ، فاستأصلهم الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية ، لا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة ، وهي كما قال مقاتل : الدّبور ، كما في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» وقيل : هي الجنوب ، لما روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الريح العقيم : الجنوب» وقال ابن عباس : هي النكباء.

وكان تأثير تلك الريح شديدا مرعبا ، فلم تمر بشيء من الأنفس والأموال والديار إلا جعلته كالشيء الهشيم ، أو كالشيء الهالك البالي ، كما قال تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف ٤٦ / ٢٥].

ـ وأرسل الله أيضا نبيه صالحا عليه‌السلام إلى قبيلة ثمود الذين متعهم الله تعالى بالخيرات في الدنيا ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، فخالفوا أمر


الله ، واستكبروا عن الامتثال به ، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون إليها نهارا ، وهي كل عذاب مهلك ، وهي نار من السماء ، أو صيحة منها ، أي صوت شديد ، فهلكوا ، ولم يتمكنوا من النهوض فضلا عن الهرب والفرار ، وما كان لهم ناصر ينصرهم ويمنعهم من العذاب حين أهلكوا.

ـ وقبل هؤلاء أرسل الله نوحا عليه‌السلام إلى قومه ، فأمرهم بترك عبادة الأصنام ، والاتجاه إلى عبادة الله الواحد الأحد ، فأبوا وعاندوا واستمروا على كفرهم ، فأهلكهم الله بالطوفان ، جزاء على كفرهم وبغيهم ووثنيتهم.

وأنواع العذاب في إهلاك الأقوام السابقة تدل على أن الله قادر على أن يعذب ويحقق الفناء بما به البقاء والوجود أو عناصر الحياة الأربعة : وهي التراب والماء والهواء والنار ، فعذب قوم لوط بالتراب ، وعذب قوم نوح وقوم فرعون بالماء ، وعذب عادا بالهواء ، وثمود بالنار.

إثبات وحدانية الله وعظيم قدرته

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١))

الاعراب :

(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) نعم : فعل ماض للمدح ، و (الْماهِدُونَ) فاعل ، والمخصوص بالمدح محذوف ، تقديره : فنعم الماهدون نحن ، فحذف المقصود بالمدح.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) متعلق بقوله بعده : (خَلَقْنا).


البلاغة :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) سجع رصين غير متكلف يزيد في جمال الأسلوب ، وبين السماء والأرض طباق.

المفردات اللغوية :

(بِأَيْدٍ) بقوة ، مثل الآد. (لَمُوسِعُونَ) لقادرون على خلقها وخلق غيرها ، من الوسع : بمعنى الطاقة ، والموسع : القادر على الإنفاق ، يقال : آد الرجل يئيد : قوي ، وأوسع الرجل : صار ذا سعة وقوة. (فَرَشْناها) مهدناها وبسطناها كالفراش لتستقروا عليها ، يقال : مهد الفراش : إذا بسطه ووطّأه ، وتمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها. (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي نحن.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل جنس من الأجناس. (زَوْجَيْنِ) صنفين ونوعين : ذكر وأنثى ، وسماء وأرض ، وشمس وقمر ، وسهل وجبل ، وصيف وشتاء ، وحلو وحامض ، ونور وظلمة. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تتذكرون ، فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات ، أما الواجب بالذات خالق الأزواج فهو فرد واحد لا يقبل التعدد والانقسام.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) فروا من عقابه إلى ثوابه ورضاه بالإقرار بالتوحيد وملازمة الطاعة وتجنب المعصية. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إني من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى بيّن الإنذار والتخويف. (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إفراد وتوحيد لمن يفرّ إليه ويلجأ لجنابة ، أي وقل لهم : لا تجعلوا .. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تكرير الجملة للتأكيد.

المناسبة :

بعد إثبات وقوع البعث أو الحشر والمعاد لا محالة ، أقام الله تعالى الأدلة على الوحدانية وعظيم القدرة ، من خلق السماء محكمة البنيان ، والأرض ممهدة كالفراش للاستقرار عليها ، وخلق الجنسين كالذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوان ، والصنفين المتضادين من بقية الأشياء ، عدّد الحسن البصري أشياء كالسماء والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، والموت والحياة ، وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثيل له.


التفسير والبيان :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي ولقد بنينا السماء بقوة وقدرة ، وإنا لذوو قدرة وسعة على خلقها وخلق غيرها ، فنحن قادرون ، لا نعجز عن ذلك ، ولا يمسنا تعب ولا نصب. وفي لفظ البناء إشارة إلى كونها محكمة البنيان. وقوله : (بِأَيْدٍ) تأكيد لذلك ، وقوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) مزيد تأكيد.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي والأرض مهدناها وبسطناها كالفراش لتصلح للعيش والاستقرار عليها ، فنعم الماهدون نحن الذين جعلناها مهدا لأهلها ، ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها ، برها وبحرها وجوها ، فعلى سطحها يعيش الإنسان والحيوان ، وفي جوفها الثروة المعدنية الجامدة والسائلة كالنفط ، وفي برها مختلف النباتات والأزهار والأشجار ، وفي بحرها آلاف الأنواع من الأسماك ، واللآلئ والمرجان وتسير فيها السفن ، وفي جوها الطير والهواء والسحب الزاخرة بالمطر ، وتحليق الطائرات وغيرها.

وإنما أطلق الفرش على الأرض ، ولم يطلق البناء ، لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى. وقوله : (بَنَيْناها) أدل على الاستقلال وعدم الشريك في التصرف.

والآية تشير إلى أن دحو الأرض وبسطها كان بعد خلق السماء ، لأن بناء البيت يكون أولا قبل الفرش ، وهذا هو المعروف الآن علميا. قال الرازي : في الآية دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٢٧


(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي وأوجدنا من جميع المخلوقات صنفين أو نوعين ضدين أو متقابلين : ذكر وأنثى ، وحلو ومرّ ، وسماء وأرض ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، وبر وبحر ، وضياء وظلام ، وإيمان وكفر ، وموت وحياة ، وخير وشر ، وشقاء وسعادة ، وجنة ونار ، حتى الحيوانات والنباتات ، لذا قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي خلقنا ذلك على هذا النحو لتعلموا وتتذكروا أن الخالق واحد لا شريك له ، وتستدلوا بذلك على التوحيد.

ثم رتب على دليل الوحدانية والقدرة أمرين : اللجوء إلى الله وتجنب الشرك إتماما للتوحيد ، فقال :

ـ (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي الجؤوا إلى الله ، واعتمدوا عليه في أموركم كلها ، وتوبوا من ذنوبكم ، وأطيعوا أوامره ، فإني لكم منذر بيّن الإنذار ، ومخوّف من عذابه وعقابه. وهذا أمر بالإقبال على الله ، والإعراض عما سواه. وقوله : (فَفِرُّوا) ينبئ عن سرعة الإهلاك ، كأنه يقول : الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع ، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا.

ـ (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي لا تشركوا بالله شيئا آخر سواه ، فإن الإله المعبود بحق هو الذي لا تصلح العبادة لغيره ، ثم كرر التذكير بمهمة الإنذار البيّنة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتأكيد.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إثبات وحدانية الله وقدرته بآيات الكون الكبرى ، من خلق السماء التي تدل بكواكبها ونجومها وشمسها وقمرها وتوابعهما على أن الإله الصانع قادر على الكمال ، وكذا خلق الأرض الممهدة المبسوطة الممدودة كالفراش بما فيها من خيرات


ظاهرة وباطنة ، وأيضا خلق الصنفين والنوعين المختلفين من ذكر وأنثى ، وحلو وحامض ونحو ذلك ، وسماء وأرض ، وشمس وقمر ، وليل ونهار ، ونور وظلام ، وسهل وجبل ، وجنّ وإنس ، وخير وشر ، وبكرة وعشيّ ، والأشياء المختلفة الطعوم والروائح والأصوات.

فهذا كله دليل على قدرة الله ، ومن قدر على هذا قدر على الإعادة ، وهو إشارة إلى أن ما سوى الله تعالى مركب من أجزاء ، وهو دليل على الانتقال من المركب إلى البسيط ، ومن الممكن إلى الواجب ، ومن المصنوع إلى الصانع ، فإن خالق الأزواج فرد وإلا لكان ممكنا ، فيكون مخلوقا ، ولا يكون خالقا ، فلا يقدّر في صفته حركة ولا سكون ، ولا ضياء ولا ظلام ، ولا قعود ولا قيام ، ولا ابتداء ولا انتهاء ، إذ ليس كمثله شيء.

٢ ـ إن الإله المتصف بالوحدانية والقدرة الباهرة يجب في حقه أمران أساسيان : اللجوء إليه وحده ، والتوبة إليه من الذنوب ، والفرار من معاصيه إلى طاعته ، واجتناب الشرك أو عبادة شيء آخر معه. قال سهل بن عبد الله : فرّوا مما سوى الله إلى الله.

٣ ـ إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وبعد مماته بما تركه من بيان وسنة دائم الإنذار ، بيّن التخويف ، ينذر الناس من عقاب الله على الكفر والمعصية.


تهديد المشركين بالعذاب لتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

الاعراب :

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف في (كَذلِكَ) في موضع رفع ، لأنها خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر كذلك.

(ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْمَتِينُ) بالرفع : صفة ل (ذُو) وقرئ بالجر على أنه صفة للقوة ، وذكّر ، لأنه تأنيث غير حقيقي ، ولأن فعيل يصلح صفة للمذكر والمؤنث ، والرفع أشهر في القراءة ، وأقوى في القياس.

البلاغة :

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) إطناب بتكرار فعل (أُرِيدُ) للمبالغة والتأكيد.

(ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) تشبيه مرسل مجمل ، لأنه حذف منه وجه الشبه ، أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أسلافهم المكذبين في الشدة والألم.

المفردات اللغوية :

(كَذلِكَ) أي الأمر مثل ذلك ، والإشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسميتهم إياه ساحرا


أو مجنونا. (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) الآية كالتفسير له ، أي مثل تكذيبهم لك بقولهم : إنك ساحر أو مجنون تكذيب الأمم قبلهم رسلهم بقولهم ذلك.

(أَتَواصَوْا بِهِ) أي هل أوصى أولهم آخرهم؟ استفهام بمعنى النفي على سبيل التعجب ، أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول ، حتى قالوه كلهم. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول طغيانهم. (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أعرض عنهم وعن مجادلتهم بعد الإصرار والعناد. (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لست ملوما على الإعراض عنهم ، لأنك بلّغتهم الرسالة وبذلت الجهد في التذكير. (وَذَكِّرْ) داوم على التذكير والموعظة بالقرآن. (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) : من علم الله تعالى أنه يؤمن ، فإن التذكير يزيده بصيرة.

(إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) إلا لنأمرهم بالعبادة ويعبدوا الله بالفعل لا لاحتياجي إليهم ، فإن أعرض أو قصر بعضهم أو أكثرهم فعليه تبعة فعله. (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ..) لا أريد منهم الاستعانة بهم على تحصيل أرزاقهم ومعايشهم لأنفسهم أو غيرهم وهو أولى. (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أن يطعموا أنفسهم أو غيرهم. والمراد بيان أن شأن الله مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم ، فإنهم يملكونهم للاستخدام في حوائجهم (الرَّزَّاقُ) الذي يرزق كل محتاج ، وفيه إيماء باستغنائه عن الرزق. (الْمَتِينُ) الشديد القوة.

(ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم. (ذَنُوباً) نصيبا من العذاب ، وأصل الذنوب في اللغة : الدّلو العظيمة المملوءة ماء. (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) مثل نصيب نظائرهم من الأمم السالفة ، الهالكين قبلهم. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) بالعذاب إن أخّرتهم إلى يوم القيامة ، وهو جواب لقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك ٦٧ / ٢٥]. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي هلاك لهم وشدة عذاب. (مِنْ يَوْمِهِمُ) في يومهم وهو يوم القيامة.

سبب النزول

نزول الآيتين (٥٤ ، ٥٥):

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ .. وَذَكِّرْ ..) : أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي قال : لما نزلت : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة ، إذ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى عنهم ، فنزلت : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فطابت أنفسنا.


وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أنه لما نزلت : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) الآية ، اشتد على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر ، فأنزل الله تعالى : (وَذَكِّرْ ، فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).

المناسبة :

بعد بيان الأدلة على الحشر ، وعلى إثبات الوحدانية وعظيم القدرة الإلهية ، وتذكير المشركين بإهلاك الأمم المكذبة السالفة ، بيّن الله تعالى أن كل رسول كذّب ، وكأن التكذيب بين الأمم شيء متواصى به من الجميع ، والواقع أنهم قوم طغاة تجاوزوا حدود الله ، لذا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم ، علما بأنهم خلقوا لعبادة الله ، لا لتحصيل المعايش والأرزاق ، ثم ختمت السورة بتهديد مشركي مكة بعذاب مماثل العذاب من قبلهم من الأمم ، والعذاب واقع بهم ، لا شك فيه ، ولا مردّ له.

التفسير والبيان :

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي كما كذبك قومك من العرب ، ووصفوك بالسحر أو الجنون ، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها ، فهذا شأن الأمم في القديم ، ولست أنت وحدك الذي كذّب. وهذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إعراض قومه ، وحمله على الصبر وتحمل الأذى.

(أَتَواصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) هذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار بمعنى النفي ، فهو تعجيب من حالهم يراد به : كأنما أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب ، وتواطؤوا عليه ، أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة؟ والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم ، لكن هم قوم طغاة ، جمعهم الطغيان : وهو مجاوزة الحد في الكفر ، فقال متأخروهم كما قال متقدموهم.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي أعرض عنهم أيها الرسول ، وكفّ عن


جدالهم ، فقد فعلت ما أمرك الله به ، وبلّغت رسالته ، وما أنت بملوم عند الله بعد هذا ، لأنك قد أدّيت ما عليك ، وما على الرسول إلا البلاغ ، وعلى الله الحساب.

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولكن تابع التذكير ، وعظ بالقرآن من آمن به من قومك ، فإن التذكير ينفعهم ، أو إنما تنتفع بالذكرى القلوب المؤمنة المستعدة للهداية. والمراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم الهدى ، لا يوجب ترك البعض الآخر.

ثم بيّن الله تعالى الغاية من خلق الثقلين : وهي العبادة ، مع أن المشركين كذبوا الرسول ، وتركوا عبادة الخالق ، فقال :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ما خلقت الثقلين : الإنس والجن إلا للعبادة ، ولمعرفتي ، لا لاحتياجي إليهم كما قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة ٩ / ٣١] وكما ورد : «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فبي عرفوني» (١). والعبادة في اللغة : الذل والخضوع والانقياد. وقال أهل السنة : إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك ، فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة.

وقال مجاهد : المعنى إلا لآمرهم بعبادتي وأنهاهم. وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر ، فإن خلقهم للعبادة يستدعي دوام التذكير بها. وحكمة تقديم الجن على الإنس أن عبادتهم سرية لا يدخلها الرياء كعبادة الإنس.

ثم ذكر الله تعالى سمو الغاية من الخلق ، فقال :

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي ، ولا دفع ضرر عني ، كما

__________________

(١) قال ابن تيمية : إنه ليس من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف.


تريده السادة عادة من عبيدهم ، فإن الله هو الغني المعطي ، الرزاق المعطي ، الذي يرزق مخلوقاته ، ويقوم بما يصلحهم ، وهو ذو القدرة والقوة ، والشديد القوة ، فلم يخلقهم لنفع ينفعونه به ، فعليهم أن يؤدوا ما خلقوا له من العبادة. وما في قوله : (ما أُرِيدُ ..) للنفي في الحال ، ولا : للنفي في الاستقبال ، ونفي الحال وهو الدنيا أولى من نفي الاستقبال وهو في أمر الآخرة.

والخلاصة : أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذّبه أشد العذاب ، وهو غير محتاج إليهم ، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم.

روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تعالى : «يا ابن آدم ، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ، ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك».

وورد في بعض الكتب الإلهية : يقول الله تعالى : «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب ، فاطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء».

ثم هدد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم بقوله :

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ ، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فإن للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول نصيبا من العذاب ، مثل نصيب أمثالهم الكفار من الأمم السابقة ، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم ، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه ، وواقع لا محالة ، كما قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ ، فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل ١٦ / ١].

وهذا جواب قولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك ٦٧ / ٢٥] وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود ١١ / ٣٢].


(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فهلاك وشدة عذاب للكافرين في يوم القيامة الذي يوعدون به ، وقيل : اليوم يوم بدر.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن تكذيب الرسل شأن الأمم قديمها وحديثها ، فكما كذب محمدا قومه ، وقالوا : ساحر أو مجنون ، كذّب من قبلهم رسلهم ، وقالوا مثل قولهم ، وكأن أولهم أوصى آخرهم بالتكذيب ، والتواطؤ عليه ، والواقع ليس كذلك ، فلم يوص بعضهم بعضا ، بل جمعهم الطغيان ، وهو مجاوزة الحد في الكفر.

والغرض من الخبر تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته.

٢ ـ أمر الله نبيه بالإعراض عن جدال قومه ، وطمأنه ربه بأنه غير ملوم. ولا مقصر ، فقد بلّغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد. وهذه تسلية أخرى ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من كرم أخلاقه وشدة حساسيته ينسب نفسه إلى تقصير في التبليغ ، فيجتهد في الإنذار والتبليغ.

٣ ـ لكن التولي عن القوم ليس مطلقا ، لذا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمتابعة التذكير ، فإنه ينفع المؤمنين ، وهم من علم الله سابقا أنهم يؤمنون.

٤ ـ وغاية التذكير : توجيه الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له ، فلم يخلق الله الخلق إلا للعبادة ، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة ، فيكون التذكير بها ضروريا ، والاعلام بأن كل ما عداها تضييع للزمان ، وفائدة العبادة : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله.

ثم إن مهمة الأنبياء منحصرة في أمرين : عبادة الله ، وهداية الخلق. وهناك غرض ثالث آخر من ذكر هذه الآية : وهو بيان سوء صنيع الكفار ، حيث تركوا


عبادة الله ، مع أن خلقهم ما كان إلا للعبادة.

وقال مجاهد وغيره «إلا ليعبدون» أي إلا للعبادة ، وهذا كما قال الثعلبي قول حسن ، لأنه لو لم يخلقهم ، لما عرف وجود الله وتوحيده ، ودليل هذا التأويل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف ٤٣ / ٨٧]. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ : خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف ٤٣ / ٩]. وهذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك.

٥ ـ لم يكن خلق الناس للعبادة لحاجة من الخالق ، فالله عزوجل غني عن عبادة العباد ، ولم يكن خلقهم للتسخير للخدمة في توفير الطعام والشراب أو حفظه ، كما يفعل السادة مع العبيد ، وهو سبحانه الرزاق الذي يرزق غيره ، وهو القدير الشديد القوي ، الذي لا يتقوى بأحد.

وقوله : (هُوَ الرَّزَّاقُ) تعليل لعدم طلب الرزق ، وقوله : (ذُو الْقُوَّةِ) تعليل لعدم طلب العمل ، لأن من يطلب رزقا ، يكون فقيرا محتاجا ، ومن يطلب عملا من غيره ، يكون عاجزا لا قوة له.

٦ ـ إن للذين ظلموا أنفسهم وهم كفار مكة وأمثالهم نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة ، فلا داعي لاستعجالهم نزول العذاب بهم ، فإنه آتيهم لا محالة.

وهذا تهديد للكفار الذين وصفهم الله بأنهم ظلمة ، لأن من وضع نفسه في موضع عبادة غير الله ، يكون قد وضع الشيء في غير موضعه ، فيكون ظالما. وإذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة ، فإن الذين ظلموا بعبادة غير الله ، لهم هلاك مثل هلاك من تقدم.

ومناسبة الذّنوب التي هي في الأصل : الدلو العظيمة : هي كأنه تعالى قال : نصبّ من فوق رؤوسهم ذنوبا كذنوب صبّ فوق رؤوس أولئك.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الطور

مكيّة ، وهي تسع وأربعون آية.

تسميتها :

سميت سورة (الطور) لافتتاحها بقسم الله تعالى بجبل الطور الذي يكون فيه أشجار ، كالذي كلّم الله عليه موسى ، وأرسل منه عيسى ، فنال بذلك شرفا عظيما على سائر الجبال.

مناسبتها لما قبلها :

تتجلى للمتأمل مناسبة هذه السورة لسورة الذاريات قبلها من وجوه :

١ ـ تشابه الموضوع : فإن كلتا السورتين مكية ، تضمنت الكلام عن التوحيد والبعث وأحوال الآخرة ، والرسالة النبوية ، وتفنيد معتقدات المشركين الفاسدة.

٢ ـ تماثل الابتداء والانتهاء : ففي مطلع كل منهما وصف حال المتقين في الآخرة : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الذاريات ٥١ / ١٥]. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) [الطور ٥٢ / ١٧] وفي ختام كل منهما صفة حال الكفار : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [الذاريات ٥١ / ٦٠]. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور ٥٢ / ٤٢].

٣ ـ اتحاد القسم بآية كونية : ففي الذاريات أقسم الله بالرياح الذاريات


النافعة في المعاش ، وفي الطور أقسم الله بالجبل الذي حظي بالنور الإلهي بتكليم موسى عليه‌السلام وإنزال التوراة عليه لنفع الناس في المعاش والمعاد.

٤ ـ تطابق الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن الكافرين ومتابعة تذكير المؤمنين : ففي الذاريات : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) [٥٤] (وَذَكِّرْ ..) [٥٥] وفي الطور : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ ..) [٢٩] : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ ..)

[٤٥].

ما اشتملت عليه السورة :

لما ختم الله تعالى السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود ، أقسم على ذلك بالطور ، وهو الجبل الذي ذكر مرارا في قصة موسى عليه‌السلام ، والكتاب المسطور : التوراة ونحوها أو اللوح المحفوظ ، والبيت المعمور : الكعبة المشرفة ، والسقف المرفوع : السماء ، والبحر المسجور : المملوء أو الموقد. فهو قسم بآيات كونية علوية وسفلية على أن العذاب آت لا ريب فيه.

ثم وصف الله تعالى عذاب النار الذي يزجّ به المكذبون ، وما يلقونه من الذل والإهانة ، وأردفه بوصف نعيم المتقين أهل الجنة ، وما يتمتعون به من أنواع الملذات في الملبس والمسكن والمطعم والمشرب والزواج بالحور العين.

وأعقب هذا الوصف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمتابعة التذكير ، وتبليغ الرسالة ، وإنذار الكفرة ، والإعراض عن سفاهة المشركين وافترائهم حين يقولون عنه : إنه شاعر ، أو كاهن ، أو مجنون ، أو مفتر على الله ، ثم أنكر تعالى عليهم مزاعمهم الباطلة هذه ، وأثبت بالأدلة الدامغة صدق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقام البراهين والحجج القاطعة على الألوهية الحقة والوحدانية ، ونعى على المشركين قولهم : الملائكة بنات الله ، ووبخهم وتهكم بهم في عنادهم ومكابرتهم وبلوغهم حد إنكار المحسوسات المشاهدة لهم. وختمت السورة بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترك الكفار في ضلالهم حتى


الهلاك ، وبالصبر في تبليغ رسالته وبالتسبيح والتحميد ليل نهار ، والإخبار بأن الله حارسه وعاصمه وحافظه ، وبأن للظالمين عذابين : في الدنيا والآخرة.

فضلها :

أخرج البخاري وغيره عن أم سلمة : «أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور».

وعن جبير بن مطعم : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكلّمه في الأسارى ، فألفيته في صلاة الفجر ، يقرأ سورة والطور ، فلما بلغ : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب». فلما انتهى إلى هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ، أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، بَلْ لا يُوقِنُونَ) كاد قلبي أن يطير.

وقوع القيامة وإثبات العذاب في اليوم الموعود

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))


الاعراب :

(وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) الواو الأولى واو القسم ، والثانية واو العطف ، وجواب القسم : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ).

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) العامل في الظرف هو (لَواقِعٌ) أي يقع في ذلك اليوم ، ولا يجوز أن يعمل فيه. (دافِعٍ) لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النافي.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ويل : مبتدأ مرفوع ، وخبره (لِلْمُكَذِّبِينَ). وجاز الابتداء بكلمة (فَوَيْلٌ) النكرة ، لأن في الكلام معنى الدعاء ، كقولهم : سلام عليكم. والفاء في (فَوَيْلٌ) جواب الجملة المتقدمة ، لأن الكلام متضمن معنى الشرط ، أي إذا كان الأمر كذلك فويل .. (يَوْمَ يُدَعُّونَ .. يَوْمَ) بدل من قوله : (يَوْمَئِذٍ).

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذا) في موضع رفع مبتدأ ، وسحر : خبر مقدم وتقديم الخبر لأنه مقصود بالإنكار والتوبيخ. وأم هنا : منقطعة لا متصلة ، لمجيء جملة اسمية تامة بعدها ، فلو لم يكن بعدها جملة تامة لكانت متصلة. والمتصلة بمعنى (أي) والمنقطعة بمعنى (بل والهمزة) وتقديره : أفسحر هذا ، بل أنتم لا تبصرون. و (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) مبتدأ ، خبره محذوف ، أي سواء عليكم الجزع والصبر.

البلاغة :

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) جناس اشتقاق ، وكذا قوله : (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً). (أَفَسِحْرٌ هذا؟) الاستفهام للتوبيخ والتقريع. (اصْلَوْها ، فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا اصْلَوْها) للإهانة والتوبيخ. وبين قوله : (فَاصْبِرُوا) وقوله : (أَوْ لا تَصْبِرُوا) طباق السلب. (وَالطُّورِ ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ..) الآيات فيها سجع لطيف ، وكذا في قوله (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ).

المفردات اللغوية :

(وَالطُّورِ) هو الجبل المشجر الذي كلم الله عليه موسى ، وأرسل منه عيسى ، وغير المشجر لا يقال له : طور ، وإنما يسمى جبلا. وموقع الطور في صحراء سيناء ببلاد مدين ، وهو طور سينين. والطور بالسريانية : الجبل. (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي مكتوب ، تم فيه ترتيب الحروف المكتوبة على وجه منتظم ، والسطر : ترتيب الحروف المكتوبة ، والمراد به: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ من الكتب السماوية ، كالتوراة وألواح موسى والزبور والإنجيل والقرآن.

(رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرّق : جلد رقيق يكتب فيه ، وقد أستعير هنا لما كتب فيه الكتاب،


والمنشور : المبسوط المفتوح ، وتنكيرهما للتعظيم والإشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس. (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الكعبة المعمورة بالحجاج والزوار والمجاورين. (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) هو السماء. (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) البحر المملوء ماء ، وهو المحيط ، أو الموقد المحمى المملوء نارا ، من قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير ٨١ / ٦] من سجّر النار : أوقدها ، روي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا تسجر بها جهنم.

(لَواقِعٌ) لنازل بالمستحقين. (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) يدفعه أو يمنعه عن المستحقين. والمراد بهذه الأمور المقسم بها على وقوع عذاب الله يوم القيامة أنها تدل على كمال قدرة الله وحكمته ، وصدق أخباره ، وضبط أعمال العباد للمجازاة.

(تَمُورُ) تتحرك وتضطرب وتدور وترتجّ في مكانها. (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي تسير عن وجه الأرض ، فتصير هباء منثورا ، وذلك في يوم القيامة الذي يقع فيه العذاب. (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي إذا وقع ذلك فويل لهم ، أي شدة عذاب. (فِي خَوْضٍ) باطل. (يَلْعَبُونَ) يتشاغلون بكفرهم.

(يُدَعُّونَ) يدفعون دفعا شديدا بعنف. (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي فيقال لهم ذلك. (أَفَسِحْرٌ هذا؟) أي أسحر هذا العذاب الذي ترون ، كما كنتم تقولون في الوحي : هذا سحر. (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) بل أنتم لا تبصرون هذا أيضا ، كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدل عليه ، وهو تقريع وتهكم. (اصْلَوْها) ادخلوها وقاسوا شدائدها. (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه وهو الجزع ، فإنه لا محيص لكم عنها. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي الأمران : الصبر والجزع سواء ، لأن صبركم لا ينفعكم. (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للاستواء ، لأنه لما كان الجزاء واجب الوقوع ، كان الصبر وعدمه سببين في عدم النفع.

التفسير والبيان :

يقسم الله تعالى بمخلوقاته الدالة على كمال قدرته في إيقاع العذاب بأعدائه دون أن يكون هناك دافع له عنهم ، فيقول :

(وَالطُّورِ ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أقسم الله سبحانه بجبل طور سيناء الذي فيه أشجار ، تشريفا له وتكريما ، لما حدث فيه من حادث عظيم وهو تكليم الله موسى فيه ، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بحروف منتظمة ، في جلد رقيق مبسوط. وكانت الجواد أكثر ما يكتب فيها قبل اختراع الورق.


فقوله : (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) يشمل الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا ، كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن. وقيل : هو اللوح المحفوظ. وقرن الكتاب بالطور ، لإنزاله على موسى وهو فيه ، وقوله : (مَنْشُورٍ) إشارة إلى الوضوح.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي والكعبة المشرفة التي تعمر بالحجاج والزوار والمجاورين الذين يقصدونها للعبادة والدعاء والتبرك بها. والسماء العالية التي هي كالسقف للأرض وما حوتها من شموس وأقمار وكواكب ثابتة وسيّارة وعوالم لا يحصيها إلا الله تعالى.

والبحر المملوء ماء ، المحبوس عن الأرض اليابسة ، والموقد نارا كالتنّور المحمى الذي يتفجر بالنار الملتهبة يوم القيامة ، كما قال تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير ٨١ / ٦] روي : أن البحار تسجر يوم القيامة ، فتكون نارا. ومن المعروف أن النفط يستخرج من قاع البحار كالأرض اليابسة ، وتتصاعد منه بين الحين والآخر الزلازل والبراكين.

وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم شأن الكعبة ، وأماكن شعائر الإسلام ، وعظمة قدر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ناجى ربه فيه قائلا : «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك». كما أن يونس عليه‌السلام كلّم ربه في البحر قائلا : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧].

وتنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء لتعظيمه وشهرة معرفته ، حتى إنه ما احتاج إلى تعريف ، أما بقية الأشياء فاحتاجت إلى التعريف.

ثم ذكر الله تعالى جواب القسم قائلا :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) هذا هو المقسم عليه أو جواب القسم ، أي أقسم بتلك المخلوقات العظيمة على أن عذاب الآخرة لواقع كائن لا محالة


لمن يستحقه من الكافرين والعصاة الذين كذبوا الرسل ، ليس له دافع يدفعه ويردّه عن أهل النار. وقوله : (لَواقِعٌ) فيه إشارة إلى الشدة. وقوله : (عَذابَ رَبِّكَ) ليأمن النبي وكل مؤمن حين يسمع لفظ الرب ، فإن اسم الله منبئ عن العظمة والهيبة ، واسم الرب ينبئ عن اللطف.

ثم بيّن الله تعالى ما يصاحب وقوع العذاب يوم القيامة ، فقال :

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي إن العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا ويموج بعضها في بعض موجا ، وتتحرك في مكانها ، وتزول الجبال من مواضعها كسير السحاب ، وتصير هباء منبثا ، وتنسف نسفا.

والحكمة في مور السماء وسير الجبال : الاعلام بألا عودة إلى الدنيا ، لخرابها وعمارة الآخرة ، لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها ، فإن لم يؤمل العود إليها ، لم يبق فيها نفع.

ثم ذكر الله تعالى من يقع عليه العذاب وينزل عليه يوم القيامة ، فقال :

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي ويل ـ وهي كلمة تقال للهالك ـ لأولئك الذين كذبوا الرسل ، ذلك اليوم ، من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم ، فمن لا يكذّب لا يعذّب بنحو دائم ، والمكذبون الذين كانوا في الدنيا في تردد وخوض في الباطل ، واندفاع فيه ، لا يذكرون حسابا ، ولا يخافون عقابا ، ويتخذون دينهم هزوا ولعبا ، ويخوضون في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب والاستهزاء. والفاء في قوله : (فَوَيْلٌ) لاتصال المعنى وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان. أما أهل الكبائر فلا يستمر تعذيبهم ولا يخلّدون في النار ، لأنهم لا يكذّبون الرسل.

وأسلوب إلقاء المكذبين في النار هو ما ذكره تعالى بقوله :


(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا شديدا.

ويقال لهم تقريعا وتوبيخا :

١ ـ (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي تقول الزبانية لهم تقريعا وتوبيخا : هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا. والتكذيب بها تكذيب للرسول الذي أخبر بها من طريق الوحي.

٢ ـ (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟) أي أهذا الذي ترون وتشاهدون سحر كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ولكتبه المنزلة؟ بل إنه لحق ولكنكم أنتم عمي عن هذا ، كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا ، أي لا شك في المرئي ، ولا عمى في البصر ، فالذي ترونه حق.

٣ ـ (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إذا لم يمكنكم إنكار ما ترون من نار جهنم ، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر ، ولم يكن في أبصاركم خلل ، فالآن ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته ، وقاسوا حرها وشدتها ، ثم يستوي الأمران : الصبر على العذاب وعدم الصبر وهو الجزع ، فلا ينفعكم شيء ، وافعلوا ما شئتم ، فالأمران سواء في عدم النفع ، وإنما الجزاء بالعمل خيرا أو شرا ، وبما أن العذاب واقع حتما ، كان الصبر وعدمه سواء ، فسواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا ، لا محيد لكم عنها ، ولا خلاص لكم منها ، ولا يظلم الله أحدا ، بل يجازي كلا بعمله.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بأشياء خمسة : هي الطور والكتب المنزلة ، والبيت


المعمور ، والسقف المرفوع والبحر المسجور ، تشريفا لها وتكريما. والحكمة في اختيار الأماكن الثلاثة : وهي الطور ، والبيت المعمور ، والبحر المسجور هي كونها أماكن ثلاثة أنبياء ، انفردوا فيها للخلوة بربهم ، والخلاص من الخلق ، ومناجاة الله وخطابه. أما الطور فانتقل إليه موسى عليه‌السلام ، وخاطب ربه ، فقال : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف ٧ / ١٥٥] وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف ٧ / ١٤٣].

وناجى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه في البيت المعمور (الكعبة) فقال ـ كما تقدم ـ : «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك».

ودعا يونس عليه‌السلام ربه في أعماق البحر ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧].

فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب ، فحلف الله تعالى بها ، ثم قرن بها الكتاب ، لأن الله تعالى كلّم موسى عليه‌السلام في الطور ، وأنزل عليه التوراة (١) ، وبقية الكتب مثل التوراة للهداية والنور.

٢ ـ كان المقسم عليه هو وقوع عذاب اليوم الموعود لا محالة ، بلا أدنى شك ، واستحالة قدرة أحد أن يدفعه عن المعذّبين المكذبين بالرسل.

٣ ـ يقع العذاب بالمكذبين يوم القيامة ، وهو اليوم الذي تمور فيه السماء ، أي ترتج بما فيها وتضطرب في مكانها ، وتسير الجبال عن أماكنها حتى تستوي بالأرض ، إعلاما بألا عودة إلى الدنيا.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠


٤ ـ الويل : كلمة عذاب أو واد في جهنم ، وتقال للهالك ، والويل لكل من كذب الرسل الذين هم في تردد في الباطل ، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب.

٥ ـ يدفع أهل النار إليها يوم القيامة دفعا عنيفا شديدا ، قال المفسرون : إن خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم ، وزجّا في أقفيتهم.

٦ ـ وإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة للتوبيخ والتقريع والتهكم :

أ ـ هذه النار التي كذبتم بها في الدنيا.

ب ـ أفسحر هذا الذي ترون الآن بأعينكم ، كما كنتم تقولون عن الوحي : إنه سحر؟ بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون؟

ج ـ ذوقوا حر جهنم بالدخول فيها ، وسواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن ، فلا ينفعكم شيء ، وإنما الجزاء بالعمل. وقد أخبر الله عنهم أنهم يقولون : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم ١٤ / ٢١].

جزاء المتقين ونعم الله عليهم يوم القيامة

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣)


وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

الاعراب :

(فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ) ما : مصدرية. (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً هَنِيئاً) منصوب على الحال من ضمير (كُلُوا) أو ضمير (اشْرَبُوا). وقوله : (بِما كُنْتُمْ ..) الباء : سببية ، أي بعملكم.

(مُتَّكِئِينَ) حال من الضمير المستكن في قوله : (جَنَّاتٍ).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا .. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الَّذِينَ) في محل رفع مبتدأ ، وخبره : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

(كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) في موضع نصب على الحال.

(إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ إِنَّهُ) بالكسر : على الابتداء ، وبالفتح : على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : لأنه.

البلاغة :

(كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) تشبيه مرسل ، مجمل ، حذف منه وجه الشبه ، فصار مجملا.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) أي إن العاملين بالأوامر الإلهية ، المبتعدين عن المحظورات الشرعية هم في بساتين خضراء نضرة تجري العيون والينابيع والأنهار من تحتهم ، ويغمرهم نعم كثيرة من الله تعالى. (فاكِهِينَ) متلذذين مستمتعين مسرورين وقرئ «فكهين» أي طيبة نفوسهم. (آتاهُمْ) أعطاهم. (وَوَقاهُمْ) حفظهم وحماهم ، وهو معطوف على (آتاهُمْ) أي بإتيانهم ووقايتهم.


(كُلُوا وَاشْرَبُوا ..) أي ويقال لهم ذلك. (هَنِيئاً) أي أكلا وشربا هنيئا ، أو طعاما وشرابا هنيئا : وهو ما لا تنغيص فيه ولا نكد ، أو ما لا مشقة فيه ولا يؤدي إلى سقم أو عناء وتخمة. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب عملكم. (سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي متصلة ببعضها حتى تصير صفا واحدا. (وَزَوَّجْناهُمْ) قرناهم ، معطوف على (جَنَّاتٍ). (بِحُورٍ عِينٍ) حور : جمع حوراء : وهي المرأة البيضاء ، والعين : جمع عيناء ، وهي المرأة العظيمة الواسعة العين ، أي نساء بيض عظام الأعين حسانهن ، وحور العين : اسوداد المقلة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) معطوف على (بِحُورٍ) أي قرناهم بأزواج ورفقاء مؤمنين كقوله تعالى : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر ١٥ / ٤٧] ، ويصح جعله مبتدأ ، وخبره: (أَلْحَقْنا بِهِمْ). (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) اعتراض للتعليل ، والذرية : لفظ يقع على الواحد والكثير ، وقرئ : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان ، والذرية : تشمل الصغار والكبار ، وقوله : (بِإِيمانٍ) حال من ضمير : واتبعتهم ، وتنكيره للتعظيم ، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق : المتابعة في أصل الإيمان. (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) في دخول الجنة ، أو الدرجة ، وإن لم يعملوا بعملهم ، تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم ، ولما روي مرفوعا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما يرويه ابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس : «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه لتقرّ بهم عينه» ثم تلا هذه الآية.

(وَما أَلَتْناهُمْ) وما نقصناهم بهذا الإلحاق. (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي فيزاد في عمل الأولاد بالتفضل عليهم ، وهو اللائق بكمال لطف الله. (بِما كَسَبَ) من خير أو شر. (رَهِينٌ) مرهون بعمله عند الله ، فيؤاخذ بالشر ، ويجازى بالخير ، والعمل الصالح يكفّه ، والعمل الصالح يهلكه. (وَأَمْدَدْناهُمْ) زدناهم وقتا بعد وقت. (مِمَّا يَشْتَهُونَ) من أنواع النعم ، وإن لم يصرحوا بطلبه.

(يَتَنازَعُونَ فِيها) يتجاذبون في الجنة ملاعبة وسرورا ، أو يتعاطون بينهم. (كَأْساً) خمرا ، فهي إناء الخمر ما دام مملوءا فإن كان فارغا لم يسم كأسا ، وسماها باسم محلها ، ولذلك أنت الضمير في قوله : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يتكلمون بسبب شربها بلغو الحديث (وهو ما لا خير فيه) ، ولا يفعلون ما يأثم به فاعله من فحش الكلام وغيره مما يغضب الله ، كما هو عادة الشاربين في الدنيا ، وذلك مثل قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات ٣٧ / ٤٧].

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) للخدمة بالكأس وغيرها. (غِلْمانٌ لَهُمْ) مماليك مخصوصون بهم. (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي كأن الغلمان حسنا ولطافة لؤلؤ مصون في الصدف ، لأن فيها أحسن منها في غيرها ، وذلك من صفائهم وبياضهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن جرير وعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة : «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».


(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله ، استمتاعا وتلذذا واعترافا بالنعمة. (قالُوا : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي كنا في الدنيا خائفين من عذاب الله ، وهذا القول إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة. (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة والرحمة. (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) حمانا من عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم ، وقرئ : (وَوَقانا) بالتشديد.

وقالوا أيضا إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا. (نَدْعُوهُ) نعبده موحدين ، أو نسأله الوقاية. (إِنَّهُ) بالكسر : استئناف ، وإن كان تعليلا معنى ، وقرئ بالفتح : أنه تعليلا لفظا. (الْبَرُّ) المحسن ، الصادق في وعده. (الرَّحِيمُ) الكثير الرحمة.

المناسبة :

بعد بيان وقوع البعث والعذاب بالكافرين حتما وما يلاقونه من الشدائد والإهانات ، ذكر الله تعالى حال المؤمن وجزاءه المتميز ، أي أنه ذكر ما يتلقاه المؤمن في الآخرة بعد بيان حال الكافر ، ثم ذكر الثواب عقب العقاب ، جريا على الموازنة وعادة القرآن في إيراد الأضداد ، والجمع بين الترغيب بالترهيب ، حتى يتأمل الإنسان في المصير ، فيرغب في الرحمة ، ويرهب النقمة والعقاب.

ومما يزيد في الترغيب : أنه تعالى لم يقصر النعمة على المستحق ، وإنما أفاضها أيضا على الذرية والأولاد ، فلم يكتف بتعداد صنوف اللذات النفسية في الملبس والمسكن والمأكل والمشرب والزواج ، وإنما زاد في الفضل والإكرام ، فألحق بالأصول الذرية المؤمنة في المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الجنان. وأبعد اليأس والملل والوحشة عن أهل الجنة ، وأحل محلها المتعة المتجددة والأنس ، بتجاذب الكؤوس فرحا ولعبا ، والتنذر بأطيب الأحاديث ، والتحدث بأحوال الدنيا ومقارنتها بأحوال الآخرة ، ونحو ذلك.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا باتباع أوامره واجتناب نواهيه يكونون


في بساتين نضرة ، ويتنعمون فيها بنعيم دائم ، بضد ما أولئك الكفار فيه من العذاب والنكال ، وهم يتفكهون بفواكه الجنة تفكها فيه غاية الطيبة واللذة والسرور ، بما أعطاهم الله من النعيم ، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والفرش والأزواج وغير ذلك ، وحماهم الله من عذاب النار ، ونجاهم من لظى السعير ، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها ، مع دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

وقوله : (فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) يفيد أنهم يتنعمون في الجنان تنعما فعليا ، لا كمجرد الناطور الذي يحرس البستان. وقوله : (فاكِهِينَ) للدلالة على أن التنعم في النفس والقلب أيضا ، فقد يكون التنعم ظاهريا ، والقلب مشغول ، كحال كثير من أغنياء الدنيا.

وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة :

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تهنئهم الملائكة وتقول لهم : كلوا من طيبات الرزق ، واشربوا مما لذ وصفا وطاب ، لا تجدون في الأكل والشرب تنغيصا ولا نكدا ولا كدرا ، وهذا معنى الهنيء ، وذلك بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا ، فهذا بذاك تفضلا وإحسانا.

ونظير الآية : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٢٤]. قيل للربيع بن خيثم ، وقد صلى طوال الليل : أتعبت نفسك ، فقال : راحتها طلبت.

ثم ذكر الله تعالى تمتعهم بالفرش والبسط والأزواج ، فقال :

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي والحال أنهم يجلسون ويستندون على أسرّة مصفوفة متصل بعضها ببعض ، حتى تصير صفا


واحدا ، وهذا دليل الاطمئنان والراحة وعدم التكلف وفراغ البال من الشواغل. وكذلك قرنّا كل واحد منهم بقرينات صالحات وزوجات حسان من نساء الجنة ، وهن الحوريات الشديدات بياض العين ، والشديدات سوادها ، والواسعات الأعين. ويلاحظ أن كلمتي الحور والعين جمع للمذكر والمؤنث ، أي أحور حوراء وأعين عيناء.

روى ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ، ما يتحول عنه ولا يملّه ، يأتيه ما اشتهت نفسه ، ولذّت عينه».

ويلاحظ أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباب التنعيم الأربعة على الترتيب ، فذكر أولا المسكن وهو الجنات ، ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ، ثم الأزواج. وذكر في كل نوع ما يدل على الكمال فيه ، وهو قوله (فاكِهِينَ) في الجنات ، لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور ، وقوله : (هَنِيئاً) إشارة إلى خلو المأكول والمشروب عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا كالتخمة والمرض والغصة والانقطاع. وقوله : في السرر : (مُتَّكِئِينَ) للدلالة على عدم التكلف ، والهيئة دليل خير. وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنجاز لما وعدهم به ربهم في الدنيا ، من غير من ، وإنما كان المنّ في الدنيا بالهداية للإيمان والتوفيق للعمل الصالح ، كما قال تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات ٤٩ / ١٧].

وقوله : (مَصْفُوفَةٍ) إشارة إلى أنها مخصصة لكل واحد ، لا اشتراك فيها. وقوله : (وَزَوَّجْناهُمْ) دليل على أن المزوج بأمانة هو الله تعالى ، وأن المنفعة في التزويج لهم وأنه لم يقتصر على الزوجات ، بل وصفهن بالحسن ، واختار أحسن الحسن وهو جمال العيون (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٤٩


ويلاحظ أيضا الفرق بين جزاء الكفار حيث قال تعالى في حقهم : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وبين جزاء المتقين حيث قال في حقهم : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فجزاء الكفار منحصر بكلمة (إِنَّما) للحصر ، أي لا تجزون إلا ذلك ، وأما المؤمنون فيضاعف ما عملوا ويزيدهم من فضله ، ويجازى الكفار عين أعمالهم بقوله : (بِما كُنْتُمْ) إشارة إلى المبالغة في المماثلة ، وقال في حق المؤمنين : (بِما كُنْتُمْ) كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملهم الصالح ، وذكر الله تعالى الجزاء في حق الكفار ، وهو ينبئ عن الانقطاع ، ولم يذكره في حق المؤمنين مما يدل على الدوام وعدم الانقطاع (١).

ثم أخبر الله تعالى عن مزيد فضله وكرمه ولطفه بخلقه وإحسانه بإلحاق الذرية بالآباء في المنزلة ، وإن لم يبلغوا عملهم ، لتقرّ عين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي إن المؤمنين الذين تتبعهم ذريتهم في الإيمان أو بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ، يلحقهم الله بآبائهم في المنزلة فضلا منه وكرما ، والمعنى : أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر عينه ، وتطيب نفسه ، بشرط كونهم مؤمنين. ومن باب أولى يلحق الآباء بالأبناء إن كان هؤلاء أحسن حالا من آبائهم ، فيرفع ناقص العمل إلى منزلة كامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته ، للتساوي بينه وبين ذاك. قال ابن عباس : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقرّ بهم عينه ، ثم قرأ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢) وتنكير لفظة (بِإِيمانٍ) للدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٤٩

(٢) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، ورواه البزار عن ابن عباس مرفوعا ، ورواه الثوري عن ابن عباس موقوفا.


ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم (١).

وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل الرجل الجنة ، سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك ، فيقول : يا ربّ ، قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به». وقرأ ابن عباس : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) الآية.

وهذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء ، وفضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء ، أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة ، فيقول : يا ربّ أنى لي هذه؟ فيقول : باستغفار ولدك لك» وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له».

(وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا.

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي كل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله ، فلا يتحمل أحد ذنب آخر سواء كان أبا أو ابنا ، كما أن الرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين ، فإن كان العمل صالحا فكّه ونجاه ، لأن الله يقبله ، وإن كان صالحا أهلكه.

ونظير الآية كثير في القرآن ، مثل : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر ٧٤ / ٣٨ ـ ٣٩] أي كل نفس مرهونة بعملها ، لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين بعملهم الطيب.

__________________

(١) تفسير الكشاف : ٣ / ١٧٣


ثم عدد الله تعالى أصناف النعم على المتقين ، فقال :

١ ـ (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وزدناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة ، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم ، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به.

٢ ـ (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي يتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة ، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة ، لشدة فرحهم ، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو والإثم ، فلا يتكلمون بكلام لاغ ، أي هذيان ، ولا قول فيه إثم أي فحش ، كما يتكلم شاربو الخمر في الدنيا ، قال ابن قتيبة : لا تذهب بعقولهم ، فيلغوا ، كما يكون من خمر الدنيا ، ولا يكون منهم ما يؤثمهم.

وقد أخبر الله تعالى عن حسن منظر خمر الآخرة وطيب طعمها ومذاقها ، فقال : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات ٣٧ / ٤٦ ـ ٤٧] وقال : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة ٥٦ / ١٩].

٣ ـ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ ، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي ويدور عليهم للخدمة بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم ، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور ، مصون في الصدف ، لم تمسّه الأيدي.

ونحو الآية : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة ٥٦ / ١٧ ـ ١٨].

روى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : «بلغني أنه قيل : يا رسول الله ، هذا الخادم مثل اللؤلؤ ، فكيف بالمخدوم؟ فقال : والذي نفسي


بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي ذلك أيضا عن الحسن.

٤ ـ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبلوا يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا ، وما كان فيها من متاعب ومخاوف. ونكد وكدر.

ثم ذكر الله تعالى أجوبتهم التي تومئ إلى علة الوصول إلى الجنان ، فقال :

ـ (قالُوا : إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا ، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي أجابوا قائلين : إنا كنا في الدار الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله وعقابه ، فتفضل الله علينا بالمغفرة والرحمة ووفقنا إلى العمل الصالح ، وأجارنا مما نخاف من عذاب النار. وسموم جهنم : ما يوجد من حرّها.

ـ (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي إنا كنا في الدنيا نوحد الله ونعبده ، ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة ، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا ، إنه سبحانه الكثير الإحسان والكرم ، الكثير الرحمة والفضل لعباده.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن جزاء المتقين دخول الجنان ، والتمتع بأنواع النعيم المختلفة ، فهم ذوو فاكهة كثيرة ، طيبو النفس ، مزّاحون ، ناجون من عذاب النار ، يقال لهم : كلوا واشربوا هنيئا ، والهنيء : ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر.

وهم متكئون على سرر موصولة بعضها ببعض حتى تصير صفا واحدا ، ويتزوجون بما شاؤوا من الحور العين ، أي بنساء بيض نجل العيون حسانها.


٢ ـ يلحق الله الذرية الصغار والكبار بالآباء ، والآباء بالذرية ، في المنزلة والدرجة في الجنة تكريما من الله وتفضلا وإحسانا لتقر أعين الآباء بهم ، ولا ينقص الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم ، ولا ينقص الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم ، وذلك بشرط الإيمان بين الأصول والفروع.

قال الزمخشري : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم (١).

وقال الرازي في الآية : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ..) : تدل على أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة ، ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولهم بأولادهم ، بل يجمع بينهم (٢).

٣ ـ (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ، قال الزمخشري : عام في كل أحد ، مرهون عند الله بالكسب ، فإن كسب خيرا فك رقبته ، وإلا أربق بالرهن (٣).

٤ ـ زيادة من الله وفضله يمد المؤمنين بأنواع الفاكهة واللحوم المختلفة حسبما يشتهون ، غير الذي كان لهم ، ويتناول بعضهم من بعض كأسا وهو إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره ، وهم المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة.

ويطوف عليهم مماليك مخصوصون بالفواكه والتحف والطعام والشراب كما قال تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف ٤٣ / ٧١] (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الصافات ٣٧ / ٤٥]. وأولئك المماليك كأنهم في الحسن والبياض لؤلؤ مستور مصون في الصدف ، كما قال تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة ٥٦ / ١٧].

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١٧٣.

(٢) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٥٠

(٣) الكشاف : ٣ / ١٧٤


عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أدنى أهل الجنة منزلة منزلة من ينادي الخادم من خدمه ، فيجيبه ألف كلّهم : لبّيك لبّيك» (١).

٥ ـ يقبل أهل الجنة بعضهم على بعض. فيتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة ، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم ، وامتنان الله عليهم بالجنة والمغفرة ، وبالتوفيق والهداية ، والنجاة من عذاب نار جهنم ، نار السّموم ، والسموم : الريح الحارّة.

٦ ـ يجد أهل الجنة ثواب ما عملوا في الدنيا ، فإنهم كانوا في الدنيا يعبدون الله ويوحدونه ، ويدعونه بأن يمنّ عليهم بالمغفرة من تقصيرهم ، فيرون ثمرة ذلك في الآخرة ، فإن الله تعالى كثير البر والجود والإحسان ، اللطيف الصادق فيما وعد ، الكثير الرحمة.

متابعة التذكير والموعظة بالرغم من المكائد

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤))

الاعراب :

(بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ بِكاهِنٍ) خبر ما ، و (مَجْنُونٍ) معطوف عليه.

(أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ أَمْ) هنا : منقطعة بمعنى بل والهمزة ، وكذلك (أَمْ) في أوائل الآيات : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) إلى قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) (٣٢ ـ ٤٣) كلها

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٧ / ٣٤


منقطعة ، بمعنى (بل والهمزة) وهي خمسة عشر موضعا. و (بَلْ) للإضراب الانتقالي والهمزة للإنكار والتقريع والتوبيخ ، أي ما كان ينبغي أن يحصل ، أو بمعنى ما حصل هذا.

البلاغة :

(رَيْبَ الْمَنُونِ) استعارة تصريحية ، أستعير لفظ الريب (وهو الشك) لنوائب الدهر وحوادثه ، بتشبيه حوادث الدهر بالريب بجامع التقلب وعدم الاستمرار على حالة واحدة.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) أسلوب تهكمي للتهكم بعقولهم والسخرية منهم ، وأمر الأحلام بأقوالهم مجاز عن أدائها إليه.

المفردات اللغوية :

(فَذَكِّرْ) فاثبت على التذكير والموعظة ، ولا تكترث بقولهم ، ولا تتراجع لاتهامات باطلة كالقول بأنك كاهن أو مجنون. (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بحمد ربك وإنعامه عليك. (بِكاهِنٍ) الكاهن : هو المخبر عن الماضي بالظن ، والعرّاف : هو المخبر عن المستقبل ، بالاعتماد على الجن. (نَتَرَبَّصُ) ننتظر. (رَيْبَ الْمَنُونِ) أي حوادث الدهر ليهلك كغيره ، والريب في الأصل : الشك ، وأطلق على الحوادث ، والمنون : الدهر ، سمي بذلك ، لأنه يقطع الأجل ، وقيل : المنون : الموت.

(تَرَبَّصُوا) انتظروا هلاكي. (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي ، فعذبوا بالقتل يوم بدر. (أَحْلامُهُمْ) عقولهم ، جمع حلم : وهو العقل. (بِهذا) التناقض في القول ، فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر ، والمجنون عديم العقل ، والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق نابع من الخيال ، ولا يتأتى ذلك من المجنون. (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) بل هم مجاوزون الحد في العناد والمكابرة.

(تَقَوَّلَهُ) اختلق القرآن وافتراه من تلقاء نفسه. (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) بل يكفرون. فيرمون بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) مثل القرآن. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في زعمهم ، إذ فيهم كثير من الفصحاء ، فهذا رد لأقوالهم المذكورة بالتحدّي.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٠):

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) : أخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس : أن


قريشا لما اجتمعوا في دار النّدوة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال قائل : احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك ، كما هلك من قبله من الشعراء : زهير والنابغة والأعشى ، فإنما هو كأحدهم ، فأنزل الله في ذلك : (أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ).

المناسبة :

بعد قسم الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أحوال المعذبين والناجين ، أمر تعالى نبيه بالتذكير إنذارا للكافر ، وتبشيرا للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون باعتبارهما طريقين إلى الإخبار ببعض المغيّبات ، بالاعتماد على الجن. وكان شيبة بن ربيعة ممن ينسبه إلى الكهانة ، وعقبة بن أبي معيط ممن ينسبه إلى الجنون. ثم بيّن الله تعالى ما في هذا الاتهام من التناقض والاضطراب ، ثم أمره ربه بتهديدهم بمثل صنيعهم ، ثم تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل أقصر سورة من هذا الكلام المفترى ، وفيهم الفصحاء والبلغاء ، بل هم قوم طاغون متجاوزون الحد ، جاحدون كافرون لا يؤمنون بالوحي ، فقالوا بأهوائهم مثل تلك الأقاويل.

التفسير والبيان :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي إذا كان في الوجود قوم يخافون الله ، ويشفقون في أهليهم من عذاب الله كما تقدم في الآيات السابقة ، فوجب عليك أيها الرسول الإتيان بما أمرت به من التذكير ، فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبّطنك قولهم : كاهن أو مجنون ، فلست بحمد الله وإنعامه بكاهن كما يقول جهلة كفار قريش ، ولا مجنون ، والكاهن : هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي ، ويخبر عن الماضي بالأخبار الخفية ، وليس ما تقوله كهانة ، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله


بإبلاغه. والمجنون : هو الذي يتخبطه الشيطان من المس ، في عرف العرب. وممن قال : إنه كاهن كما تقدم : شيبة بن ربيعة ، وممن قال : إنه مجنون عقبة بن أبي معيط.

لا تبال بهذا ، فإنه قول باطل متناقض ، لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله ، ولست بما عرف عنك من رجاحة العقل أحد هذين.

ثم أنكر الله تعالى عليهم قولا آخر في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(أَمْ يَقُولُونَ : شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي بل يقولون : إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام ، فيموت كما مات غيره ، أو يهلك كما هلك من قبله ، فنستريح منه ومن شأنه وينقضي ما جاء به من هذا الدين.

ثم هددهم الله وتهكم بهم قائلا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ـ (قُلْ : تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي قل لهم أيها الرسول : انتظروا موتي أو هلاكي ، فإني معكم من المنتظرين لعاقبة الأمر ، وقضاء الله فيكم ، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة ، وأنا واثق من نصر الله تعالى.

ـ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي أأنزل عليهم ذكر أم أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض؟ وهي دعوى أن القرآن سحر أو كهانة أو شعر ، وقولهم في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كاهن وشاعر مع قولهم : مجنون ، فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون ، فالأول ينطق بالحكمة ، والثاني يذكر الخرافات ، والثالث زائل العقل ، وكانت عظماء قريش توصف بأنهم أهل الأحلام والنهى والعقول ، فتهكم الله بعقولهم التي لا تميز بين الحق والباطل.


أم إنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد في العناد والعصيان والضلال عن الحق ، واغتروا وقالوا ما لا دليل عليه سمعا ، ولا مقتضى له عقلا.

وعلى هذا تكون (أَمْ) متصلة ، كما ذكر الرازي ، وذكر غيره (١) أن أم في الموضعين منقطعة ، أي بل أتأمرهم عقولهم ، بل أطغوا وجاوزوا الحد؟ أي لكن عقولهم تأمرهم بهذه الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور ، وهم قوم طاغون ضلّال معاندون.

(أَمْ يَقُولُونَ : تَقَوَّلَهُ ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أتقولون : كاهن ، أم تقولون : شاعر ، أم تقوله أي اختلقه وافتراه من عند نفسه ، يعنون القرآن. فرد الله تعالى عليهم : بل إن كفرهم وكونهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون بما جاء به رسوله هو الذي يحملهم على هذه الأقوال المتناقضة ، والمطاعن المفتراة الكاذبة.

ثم رد عليهم ردا آخر فيه تحدّ لهم ، فقال :

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي إن صدقوا في قولهم : إن محمدا تقوله وافتراه من عند نفسه ، فليأتوا (٢) بمثل هذا القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه ، مع أنه كلام عربي ، وهم أساطين البيان ، وفرسان البلاغة والفصاحة ، والممارسون لجميع أساليب العربية من نظم ونثر.

والحقيقة أنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ، ما جاؤوا بمثله ، ولا بعشر سور من مثله ، ولا بسورة من مثله.

__________________

(١) قال أبو حيان في (البحر المحيط : ٨ / ١٥١) : والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة ، وقد تقدم في الإعراب أن أم كلها في الآيات منقطعة بمعنى (بل والهمزة) وهو رأي ابن الأنباري وغيره من النحاة.

(٢) الفاء للتعقيب ، أي إذا كان الأمر كذلك ، فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم ، ويبطل كلامه.


فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ أمر الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات على التذكير والوعظ لقومه بالقرآن ، دون مبالاة بمطاعن كفار قريش ، فليس هو بالكاهن ولا بالشاعر ولا بالمجنون ، وإنما هو صادق النبوة ، وقد عرف بين قومه أنفسهم برجاحة العقل ، وأصالة الرأي.

٢ ـ لقد انتظر الكفار المعاندون سوءا أو هلاكا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخلصا منه ومن دينه ، فعجل الله لهم الهلاك في معركة بدر وغيرها. قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر ، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء ، وأن أباه مات شابا ، فربما يموت كما مات أبوه.

٣ ـ وفي حال حياتهم أورد القرآن عدة تقريعات وتوبيخات لهم بأسلوب التهكم :

أولها ـ أنه لا عقل لهم بنحو سليم ، إذ لو كان لهم عقل سليم لميزوا بين الحق والباطل ، والمعجز وغيره ، ولما أوقعوا أنفسهم في تناقضات حين وصفوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوصاف متناقضة ، فقالوا : إنه كاهن ، شاعر ، مجنون. والجنون لا يتفق مع الكهانة ونظم الشعر اللذين يتطلبان حذاقة وذكاء وإبداعا وقوة خيال.

ثانيها ـ أنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد بغير عقول.

ثالثها ـ زعمهم أن محمدا تقوّل القرآن ، أي اختلقه وافتراه من تلقاء نفسه ، والتقول يراد به الكذب.

رابعها ـ أنهم لم يؤمنوا بالله ورسوله جحودا وعنادا واستكبارا ، وقد صح عندهم إعجاز القرآن ، وإلا (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي بقرآن يشبهه من تلقاء


أنفسهم (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتراه.

فإن كان شاعرا ففيكم الشعراء البلغاء ، والكهنة الأذكياء ، ومن يرتجل الخطب والقصائد ويقص القصص ، فليأتوا بمثل ما أتى به.

إثبات الخالق وتوحيده بالأنفس والآفاق

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))

البلاغة :

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم.

المفردات اللغوية :

(مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) من غير خالق ، فلذلك لا يعبدونه. (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) الذين خلقوا أنفسهم؟ وبما أنه لا يعقل مخلوق بغير خالق ، ولا معدوم يخلق ، فلا بد لهم من خالق هو الله الواحد ، فلم لا يوحدونه ويؤمنون برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه الكريم؟!

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهم لا يستطيعون ذلك ، فلا يقدر على خلقهما إلا الله الخالق القادر ، فلم لا يعبدونه؟! (بَلْ لا يُوقِنُونَ) به ، وإلا لآمنوا بنبيه ، ولو أيقنوا بأن الخالق هو الله لما أعرضوا عن عبادته.


(خَزائِنُ رَبِّكَ) خزائن رزقه ، حتى يرزقوا النبوة والرزق وغيرهما ، فيخصوا من شاؤوا بما شاؤوا. (الْمُصَيْطِرُونَ) القاهرون الغالبون على الأشياء المسلطون عليها يدبرونها كيف شاؤوا ، من سيطر على كذا : إذا تسلط عليه وأقام عليه ، مثل بيطر وبيقر. (سُلَّمٌ) مرتقى إلى السماء ، والسلم : كل ما يتوصل به إلى غيره من الأماكن العالية. (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) يستمعون عليه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن ، وينازعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزعمهم إن ادعوا ذلك. (بِسُلْطانٍ) بحجة قوية. (مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تصدّق استماعه.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ) بزعمكم. (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) الذكور ، فيه تسفيه آرائهم وإشعارهم بأن من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء ، فضلا عن الاطلاع على الغيوب. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أم تطلب منهم أجرة على تبليغ الرسالة. (مَغْرَمٍ) من التزام غرامة أو غرم : وهو التزام الإنسان ما ليس عليه. (مُثْقَلُونَ) محملون الثقل ، فلذلك زهدوا في اتباعك ولم يسلموا.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي علم الغيب. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ذلك ويحكمون بناء عليه. (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) تدبير مكيدة وشر ، وهو كيدهم في دار الندوة. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل العموم والخصوص ، فيشمل جميع الكفار ، أو كفار قريش ، فيكون ذلك تسجيلا للكفر عليهم. (الْمَكِيدُونَ) المغلوبون المهلكون ، الذين يحيق بهم الكيد ، أو يعود وبال كيدهم عليهم ، وهو قتلهم يوم بدر. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يعينهم ويحرسهم من عذابه. (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها لله ، وهو اسم علم للتسبيح. (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو شركة ما يشركون به وعن الذين يشركون.

المناسبة :

بعد أن رد الله تعالى على ما زعم كفار قريش من أن محمدا كاهن أو شاعر أو مجنون ، ذكر الدليل من الأنفس والآفاق على صدقه ، وإبطال تكذيبهم لرسالته ، وإنكارهم للخالق ، وإثبات التوحيد بخلقهم وخلق السموات والأرض ، علما بأن إثبات الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.

ثم طمأن الله نبيه بأن كيدهم له لا يضره شيئا ، وأن الله ناصره ، ومظهر دينه ، ولو كره الكافرون.


التفسير والبيان :

هذه الآيات لإثبات الربوبية وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى :

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) هذا رد على إنكار الخالق الواحد ، فهل وجدوا من غير موجد ، أم هم أوجدوا أنفسهم؟ وإذا كان الأمران منتفيين بشهادة العقل والحس والواقع وبإقرارهم ، فالله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، بَلْ لا يُوقِنُونَ) وهل خلقوا السموات والأرض وما فيهما من العجائب والغرائب وأسباب الحياة والمعيشة؟ إنهم في الواقع لا يستطيعون ادعاء ذلك ، والحقيقة أن عدم إيقانهم من قولهم بأن الله هو الخالق هو الذي حملهم على التكذيب وإنكار رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو أيقنوا حقا بأن الله هو الخالق ما أعرضوا عن عبادته.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي هل هم يملكون خزائن الله من النبوة والرزق وغيرهما ، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا ، أم هم المسلطون على المخلوقات يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع أن الأمر ليس كذلك ، بل الله عزوجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ، فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بل أيقولون : إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء يصعدون به ، أي مرقاة إلى الملأ الأعلى ، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم ، ويطلعون على علم الغيب؟ فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة ، كما أتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبرهان الدال على صدقه. الواقع ليس لهم سبيل إلى ذلك ، فليس لهم دليل ولا حجة على ما يقولون.


وبعد الرد على إنكار الألوهية ، رد الله تعالى على من قال : الملائكة بنات الله ، فقال :

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي بل أتجعلون لله البنات ، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، فمن كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء ، ولا يستبعد منه إنكار البعث ، وجحد التوحيد.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغك الرسالة ، فهم من التزام غرامة تطلبها منهم محمّلون غرما ثقيلا ، فلا يسلمون ولا يجيبون دعوتك؟ الواقع لست تسألهم على ذلك شيئا ، ولا تطلب منهم أدنى شيء يشق عليهم ويثقلهم. وهذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرا ما.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب ، وهو ما في اللوح المحفوظ ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب؟ ليس الأمر كذلك ، فإنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله. قال قتادة : لما قالوا : نتربص به ريب المنون ، قال الله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) حتى علموا متى يموت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو إلى ما يؤول إليه أمره.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي إن كنتم تعلمون الغيب فأنتم كاذبون ، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه ، فأنتم غالطون ، فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم ، فإن كنتم تريدون تدبيرا أو مكرا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإهلاكه ، فالكافرون هم الممكور بهم ، المجزيون بكيدهم. ولام (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) لهؤلاء الكفار أو للجنس ، فيشملهم وغيرهم. وتنكير الكيد إشارة إلى وقوع العذاب بغتة من حيث لا يشعرون. وصرح بقوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) للدلالة على كون الكافر مكيدا في مقابلة كفره ، لا في مقابلة إرادته الكيد.


(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي بل ألهم إله غير الله يحرسهم من عذاب الله؟ تنزه الله عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدونه سواه. وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله ، وتنزيه الله نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن إثبات وجود الله ووحدانيته وقدرته على الحشر هو خلق الأنفس والآفاق ، أي خلق الإنسان والحيوان والنبات من غير سابق وجود ، وخلق السموات والأرض بعد العدم ، فالخلق دليل على وجود الله تعالى ، وهو الدليل الأعظم الذي ذكره القرآن الكريم ، كما قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل ١٦ / ١٧].

والانفراد بالخلق دليل على وحدانية الخالق ، لأن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. والخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.

وإذا أقر الكفار بأن ثمّ خالقا ، فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام ، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث.

وهم يقرون بأنه لا يعقل وجودهم من غير رب خلقهم وقدّرهم ، كما يقرون إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض بأنه هو الله ، فلم لا يوقنون بالحق ، كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥].

٢ ـ أنكر القرآن على الكفار اعتراضهم على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه هل عندهم خزائن الرحمة والغيب والرزق حتى يختاروا للنبوة من أرادوه ، أو أنهم المصيطرون على العالم الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم؟


٣ ـ ثم أنكر القرآن على الكفار قدرتهم على شيء من علم الغيب ، ومضمون ذلك : أيدّعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا يستمعون الأخبار ، ويصلون به إلى علم الغيب ، كما يصل إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوحي ، فإذا صح ذلك فليأت مستمعهم على صحة ادعائه بحجة بيّنة أن هذا الذي هم عليه حق. وهذا تتميم للدليل السابق لإثبات النبوة.

٤ ـ سفّه القرآن أحلام كفار قريش وأمثالهم وقرّعهم ووبخهم في قولهم : الملائكة بنات الله ، وهذا إشارة إلى نفي الشرك. فهل يعقل أن يكون لله البنات ، وللبشر البنون؟ ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث.

٥ ـ ثم أكد الحق سبحانه صدق نبوة عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل أنه لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة ، فهم من المغرم الذي يطالبهم به مجهدون لما كلفهم به. ثم أضاف دليلا آخر وهو أنه ليس عندهم علم بالغيب يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيب.

٦ ـ أخبر الله تعالى بأنه عاصم نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السوء والشر ومكائد أعدائه ، فإنهم إن أرادوا به شرا ومكيدة ومكرا كما دبروا في دار الندوة ، فإنهم المهزومون المغلوبون الممكور بهم الذين يعود عليهم وبال الكيد : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر ٣٥ / ٤٣] وذلك أنهم قتلوا ببدر ، وأظهر الله دين الإسلام.

٧ ـ أعاد الله تعالى إثبات التوحيد ونفي الشرك ، فقال موبخا : هل لهم إله غير الله يخلق ويرزق ويمنع ، تنزّه الله وتعالى وتقدس عن نسبة الشرك له أو أن يكون له شريك ، فإن الشريك دليل العجز ، والإله الحق يتميز بالقدرة المطلقة التي تشمل الكون كله وما فيه من مخلوقات حتى تصح الدينونة والخضوع والانقياد والعبادة له دون غيره.


وهذا تصريح بالمقصود الكلي من الآيات ، لذا وبخهم على إشراكهم ، ونزه نفسه عن ذلك بقوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن إشراكهم وعن الذين يشركون.

الإعراض عن الكفار لمكابرتهم في المحسوسات

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

الاعراب :

(كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً ساقِطاً) إما مفعول به ثان ، أو حال.

(يَوْمَهُمُ) مفعول (يُلاقُوا). و (يَوْمَ لا يُغْنِي) منصوب على البدل من (يَوْمَهُمُ) وليس بمنصوب على الظرف.

(وَإِدْبارَ النُّجُومِ) إدبار بكسر الهمزة : مصدر أدبر يدبر إدبارا ، وتقديره : وسبّحه وقت إدبار النجوم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ بفتح الهمزة ، على أنه جمع دبر : وهو منصوب لأنه ظرف زمان.

البلاغة :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) أسلوب الفرض والتقدير ، أي لو رأوا ذلك لقالوا ما قالوا.

(بِأَعْيُنِنا) مجاز عن الحفظ.


المفردات اللغوية :

(كِسْفاً) قطعة. (يَقُولُوا) من فرط طغيانهم وعنادهم. (سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي هذا سحاب تراكم بعضه على بعض ، نرتوي به ، ثم لا يؤمنون. والآية جواب قولهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٧].

(فَذَرْهُمْ) اتركهم وأعرض عنهم. (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) يموتون أو يقتلون. (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي لا يفيد شيئا من الإغناء في ردّ العذاب. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله تعالى في الآخرة. (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بكفرهم ، وهو يحتمل العموم والخصوص فإن كان العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم ، وإن كان العذاب هو عذاب يوم بدر فالذين ظلموا هم أهل مكة. (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي دون عذاب الآخرة ، أي في الدنيا قبل موتهم ، كعذاب الجوع والقحط سبع سنين ، والقتل يوم بدر ، أو عذاب القبر.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم وتبليغ الرسالة ، ولا يضق صدرك بعنائهم وإعراضهم وجدالهم. (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا ، نراك ونحفظك ونكلؤك ، وجمع مبالغة بكثرة أسباب الحفظ. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قارنا التسبيح بالتحميد ، فقل : سبحان الله وبحمده (حِينَ تَقُومُ) من منامك أو من مجلسك أو إلى الصلاة ، أي من أي مكان قمت. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) نزهه بقولك : سبحان الله ، وخصه بالليل وقدمه على الفعل ، لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء. (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي عقب غروبها سبحه أيضا ، أي إذا أدبرت النجوم من آخر الليل.

المناسبة :

بعد تفنيد مزاعم المشركين في الحشر والمعاد ، والألوهية والوحدانية ، والنبوة والشرك ، وإثبات المعاد والتوحيد وصدق النبوة ونفي الشرك ، أجاب الله تعالى عن بعض مقترحاتهم بإسقاط قطعة من السماء تعذيبا لهم ، وبين مدى مكابرتهم في إنكار المحسوسات ، فضلا عن المعقولات ، ثم أمر نبيه بالإعراض عنهم ، والصبر على مساوئهم ومكائدهم ، فإن الله ناصرك عليهم وحافظك ، وأخبره بأن العذاب واقع بهم في الدنيا قبل الآخرة ، وقوّى معنوية نبيه بالاعتصام بالله ، والإقبال على طاعته ، وذكره صباحا ومساء ، نهارا وليلا حين يقوم من منامه أو من مجلسه أو بعد غياب النجوم ، وإصباح الصباح.


التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن عناد المشركين ومكابرتهم للمحسوس ، فيقول :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا : سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي إن ير هؤلاء المشركون قطعة من نار السماء ساقطة عليهم لتعذيبهم ، لما صدقوا ولما أيقنوا ، ولما انتهوا عن كفرهم ، بل يقولون : هذا سحاب متراكم ملقى بعضه على بعض ، نرتوي به. وهذه غاية المكابرة ، لأنهم ينكرون ما تبصره الأعين وتشاهده النفوس.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر ١٥ / ١٤ ـ ١٥].

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي إذا كان هذا شأنهم وتبين أنهم لا يرجعون عن كفرهم ، فدعهم يا محمد ولا تأبه بهم حتى يلقوا أو يأتي يوم مجازاتهم بأعمالهم السيئة الذي يحدث فيهم هلاكهم السريع ، وهو يوم موتهم أو قتلهم وهو يوم بدر ، وهو الظاهر في الآية كما قال البقاعي ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم النفخة الأولى يوم القيامة ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق ، وهو قول الجمهور ، كما ذكر أبو حيان.

وإسقاط كلمة الإشارة قبل كلمة (سَحابٌ) أي هذا سحاب لوضوح الأمر وظهور العناد ، كما أن كلمة (يَقُولُوا) تدل على العناد.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ذلك اليوم يوم لا ينفعهم فيه مكرهم ولا كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا ، ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع ولا ينصرهم ناصر ، بل هو واقع بهم لا محالة.


والكيد : هو فعل يسوء من نزل به ، وإن حسن ممن صدر منه. وإنما قال تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي ...) للرد على ما كانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وإن للظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي وكيد النبي وعبادة الأوثان عذابا في الدار الدنيا وهو قتلهم يوم بدر ، أو هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا ، وذهاب الأموال والأولاد ، والقحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر الذي حدث في السنة الثانية من الهجرة ، غير أن أكثرهم لا يعلمون ما سينزل بهم من عذاب الله وبأسه وبلاياه ، لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد ، ولو كشف عنهم العذاب لعادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه. والمراد بالأكثر الكل على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر ، أو هم في أكثر أحوالهم لم يعلموا.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة ٣٢ / ٢١]. وجاء في الحديث لبيان عودة الكفار بعد جلاء العذاب إلى كفرهم : «إن المنافق إذا مرض وعوفي ، مثله في ذلك كمثل البعير ، لا يدري فيما عقلوه ، ولا فيما أرسلوه».

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي إلى أن يحكم الله أو لقضاء الله ، والمعنى : واصبر أيها الرسول على أذى هؤلاء القوم ، ولا تبال بهم ، إلى أن يقع بهم العذاب الذي وعدناهم به ، فإنك بمرأى ومنظر منا ، وفي حفظنا وحمايتنا وتحت كلاءتنا ، والله يعصمك من الناس ، ونزّه ربك عما لا يليق به لإنعامه عليك تنزيها مصحوبا بالحمد ، حين تقوم من مجلسك ، أي من كل مجلس جلسته ، فتقول : (سبحان الله وبحمده) أو (سبحانك اللهم وبحمدك) أو حين تقوم إلى الصلاة ، كما قال الضحاك : «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك».


روى مسلم في صحيحة عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة ، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول ذلك.

وقال أبو الجوزاء : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي من نومك من فراشك ، واختاره ابن جرير ، ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تعارّ من الليل (١) ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : رب اغفر لي ـ أو قال : ثم دعا ـ استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ، ثم صلى قبلت صلاته».

ويتأيد الرأي الأول في كون التسبيح والتحميد بعد كل مجلس بما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم في المستدرك وابن مردويه وابن أبي شيبة عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس : «سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك».

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي وإذا قمت من نومك فسبّحه واذكره واعبده في بعض الليل ، وفي آخر الليل حين أفول النجوم ، لأن العبادة حينئذ أشق على النفس وأبعد عن الرياء. وقال مقاتل : أي صلّ المغرب والعشاء ، وقيل : ركعتي الفجر. قال الرازي : والظاهر أن المراد من (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وقت الصبح حيث يدبر النجم ، ويخفى ، ويذهب ضياؤه بضوء الشمس. وحينئذ يكون قوله : (حِينَ تَقُومُ) المراد به النهار ، وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ) ما عدا وقت النوم.

__________________

(١) تعارّ الرجل من الليل : إذا هب من نومه مع صوت


ونظير الآية : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسرار ١٧ / ٧٩] وهذا يتفق مع الحديث الصحيح : «خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال : هل علي غيرها؟ قال : لا إلا أن تطوّع».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ شأن الكفار وديدنهم العناد ومكابرة المحسوسات ، حتى إنهم لو رأوا بأعينهم أمارات العذاب النازل عليهم من السماء كالشهب والصواعق ، لما أيقنوا وظلوا على كفرهم ، وزعموا أنه سحاب محفّل بالمطر متراكم بعضه على بعض ، وليس صواعق. وهذا جواب قولهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٧] وقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء ١٧ / ٩٢].

٢ ـ هددهم الله تعالى بالهلاك السريع وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتركهم والإعراض عنهم حتى يوم بدر ، أو يوم يموتون أو يوم النفخة الأولى في يوم القيامة حيث يأتيهم فيه من العذاب ما تشيب منه الرؤوس وتزول به العقول. وليس قوله : (فَذَرْهُمْ) للتخلي عن دعوتهم إلى الإسلام ، والقول بأن ذلك منسوخ بآية القتال ضعيف كما ذكر الرازي ، وإنما المراد التهديد.

٣ ـ في ذلك اليوم الذي يلاقونه لا ينفعهم فيه شيء من مكرهم وما كادوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا ، وما تآمروا به عليه ، ولا يجدون فيه ناصرا ينصرهم من الله ، أو مانع يمنعهم من عذاب الله. وقوله : (يَوْمَ لا يُغْنِي) فيه تمييز يوم الكفار والفجار عن يوم المؤمنين حيث قال تعالى فيه : (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة ٥ / ١١٩].


٤ ـ للكفار عذابان : عذاب جهنم في الآخرة ، وهو الأدهى والأمر ، لأنه عذاب خالد دائم ، وعذاب في الدنيا قبل موتهم وهو أخف من عذاب الآخرة بالتعرض لمصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد ، والجوع والجهد والقحط سبع سنين ، وقد عذب به أهل مكة ، والقتل في المعارك كمعركة يوم بدر الذي قتل فيه زعماء قريش ، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون أن العذاب نازل بهم ، ولا ما يصيرون إليه في الآخرة أو الدنيا.

٥ ـ الصبر مفتاح الفرج ، لذا أمر الله نبيه وكل مؤمن بالصبر على قضاء ربه فيما حمّله من رسالته ، وأعلمه بأنه بمرأى ومنظر من الله يراه ويسمع ما يقول ويفعل ، والله حافظه وحارسه وراعيه.

٦ ـ إن الإقبال على طاعة الله والاعتصام بقوته وقدرته وتفويض الأمور إليه يقوي النفس البشرية ، وينفخ فيها روح الجدّ والعزيمة والإقدام والجرأة على أداء رسالة الحياة ، لذا أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل مؤمن بتسبيح الله وحمده كل وقت وعقب كل مجلس ، وبالصلاة ، والتهجد ليلا. وقد سبق إيراد الآيات والأحاديث الآمرة والمرغبة بكل ما ذكر ، ومنها حديث الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جلس في مجلس ، فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : «كنا نعدّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم : رب اغفر لي وتب علي ، إنك أنت التواب الغفور» (١).

وفي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل : «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت قيّوم السموات والأرض

__________________

(١) قال الترمذي عن كل من الحديثين : حديث حسن صحيح غريب.


ومن فيهن ، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ، أنت الحقّ ، ووعدك الحق ، وقولك الحقّ ، ولقاؤك الحق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة حق ، والنبيون حقّ ، ومحمد حق ، اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت ، وأسررت وأعلنت ، أنت المقدّم وأنت المؤخّر ، لا إله إلا أنت ، ولا إله غيرك».

وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل ، مسح النوم عن وجهه ، ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة [آل عمران] أي من قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٩٠) إلى آخر السورة.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النجم

مكيّة ، وهي اثنتان وستون آية.

تسميتها :

سميت سورة النجم ، لأن الله تعالى افتتحها بالقسم بالنجم ، وأل للجنس ، أي بنجوم السماء وقت سقوطها وغربها ، لأن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري ، لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات ، والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر ، لأن الناظر إليه يستدل بغروبه على الجهة.

مناسبتها لما قبلها :

ترتبط هذه السورة بما قبلها بوجوه أربعة :

١ ـ إن سورة الطور ختمت بقوله : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وافتتحت هذه السورة بقوله: (وَالنَّجْمِ).

٢ ـ في سورة الطور ذكر تقوّل القرآن وافتراؤه ، وهذه السورة بدئت بذلك وردت عليه.

٣ ـ ذكر في الطور ذرية المؤمنين ، وأنهم تبع لآبائهم ، وفي هذه السورة ذكرت ذرية اليهود في آية : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) (٣٢).


٤ ـ في حق الآباء المؤمنين قال تعالى في الطور : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٢١) أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين ، مع نفعهم بعمل آبائهم ، وقال في النجم في حق الكفار أو أبناء الكفار الكبار : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩).

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السورة المكية المعنية بأصول العقيدة ، وهو إثبات الرسالة وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلقي القرآن بالوحي عن الله ، والتوحيد والكلام على الأصنام وبيان عدم جدواها ، والتحدث عن قدرة الله عزوجل ، وعن البعث والنشور.

افتتحت السورة بإثبات ظاهرة الوحي بوساطة جبريل عليه‌السلام ، والكلام عن (المعراج) وقرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربه ، ورؤيته عجائب ملكوت الله تعالى ، ومشاهدته جبريل على صورته الحقيقية الملكية مرتين.

ثم قرّعت المشركين على عبادة الأوثان والأصنام ، ووصفتها بأنها عبادة باطلة لآلهة مزعومة لا وجود لها ، ووبختهم أيضا على جعل الملائكة إناثا ، وتسميتهم إياها : بنات الله ، وبيان أن الملائكة لا تملك الشفاعة إلا بإذن الله تعالى.

ثم وصفت الجزاء العادل يوم القيامة ، حيث يجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وذكرت أوصاف المحسنين ، ونددت بإعراض الكافرين عن الإسلام ، وأعلمت الناس جميعا أن المسؤولية فردية شخصية ، فيسأل كل إنسان عن سعيه وعمله ، ولا تتحمل نفس إثم أو وزر نفس أخرى ، ولا تقبل تزكية المرء نفسه.


وأبانت السورة إحاطة علم الله بما في السموات والأرض ومظاهر قدرة الله تعالى في الإحياء والإماتة ، والإغناء والإفقار ، وخلق الإنسان من النطفة ، والبعث والحشر والنشر.

وهددت المشركين الذين أنكروا الوحدانية والرسالة والبعث بالإهلاك كإهلاك أقوام أخرى أشداء ، كعاد وثمود وقوم نوح ولوط.

وختمت بالتعجب من استهزاء المشركين بالقرآن وإعراضهم عنه ، وأمر المؤمنين بالعبادة الخالصة لله تعالى.

فضلها :

أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن سورة النجم أول سورة أعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقراءتها ، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون.

وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود أيضا قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة : (وَالنَّجْمِ) فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب ، فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا» وهو أمية بن خلف.

وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب ، فإنه رفع حفنة من تراب ، وقال : يكفي هذا. فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك.


إثبات النبوة وظاهرة الوحي

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

الاعراب :

(إِذا هَوى) ظرف لفعل «أقسم» المقدر ، والمراد ب (إِذا) هنا مطلق زمان.

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) جملة في جواب سؤال مقدر نشأ بعد قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى).

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) الواو في (وَهُوَ) : واو الحال ، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر : في موضع نصب على الحال من ضمير (فَاسْتَوى) أي استوى عاليا ، يعني جبريل.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) كذب بالتخفيف ، فتكون (ما) في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : ما كذب الفؤاد فيما رأى. و (ما) : إما بمعنى الذي ، و (رَأى) الصلة ، والهاء المحذوفة العائد ، أي رآه ، فحذف الهاء تخفيفا ، وإما مصدرية. وقرئ (كَذَبَ) بالتشديد ، فتكون (ما) مفعولا به ، من غير تقدير حذف حرف جر ، لأنه متعد بنفسه.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى نَزْلَةً) : منصوب على المصدر في موضع الحال ، كأنه قال : رآه نازلا نزلة أخرى ، وذهب الفرّاء إلى أنه منصوب على الظرف ، إذ معناه : مرة أخرى.


البلاغة :

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) إبهام الموحى به للتعظيم والتهويل ، ومثله : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم ٥٣ / ١٦] وكذلك (فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم ٥٣ / ٥٤].

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى .. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) بين هوى والهوى جناس ، فالأول بمعنى خرّ وسقط ، والثاني بمعنى هوى النفس.

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) جملة يوحى لدفع المجاز وتأكيد الإيحاء.

المفردات اللغوية :

(وَالنَّجْمِ) جنس النجوم ، أو الثريا ، فإنه غلب فيه إذا غرب أو انتثر يوم القيامة ، والواو للقسم. (هَوى) غرب وسقط. (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) ما عدل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق الهداية المستقيم. (وَما غَوى) ما وقع في الغي : وهو الجهل مع الاعتقاد الفاسد ، وهو الجهل المركب ، والمراد : ما اعتقد باطلا قط ، والخطاب في هذا لقريش. والمراد : نفي ما ينسبون إليه.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ما يتكلم بالقرآن عن الهوى أي بالباطل. (إِنْ هُوَ) أي ما القرآن أو الذي ينطق به. (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وحي يوحيه الله إليه. (عَلَّمَهُ) إياه ملك. (شَدِيدُ الْقُوى) صاحب القوى الشديد ، وهو جبريل عليه‌السلام. (ذُو مِرَّةٍ) ذو قوة وحصافة في عقله ورأيه. (فَاسْتَوى) فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها ، ورآه عليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين : مرة في السماء ، ومرة في الأرض عند غار حراء في بدء النبوة.

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أفق السماء وهو الجهة العليا بالنسبة للناظر ، والضمير لجبريل. (ثُمَّ دَنا) قرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَتَدَلَّى) زاد في القرب ونزل وتعلق به ، وهو تمثيل لعروجه بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي فكان جبريل على مقدار قوسين أو أقرب من ذلك ، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس والسّية : وهي ما عطف من طرفيها ، ولكل قوس قابان : طرفان. والخلاصة : فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين. والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحي إليه ، بنفي البعد الموقع في اللبس والغموض.

(فَأَوْحى) الله تعالى. (إِلى عَبْدِهِ) جبريل. (ما أَوْحى) جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يذكر الموحى به تفخيما لشأنه ، أو فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما أنكر فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أفتجادلونه وتغلبونه وتكذبونه على ما يراه معاينة ، من المراء :


وهو الجدال بالباطل. (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) رأى محمد جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى. (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) أعلى مكان في السماء ، ينتهي إليها علم الخلائق وأعمالهم ، شبّهت بالسدرة : وهي شجرة النبق ، لأنهم يجتمعون في ظلها. (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين المتقين. (إِذْ) حين. (يَغْشَى) يغطي ويستر. (ما يَغْشى) تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يحيط بها وصف ولا عدد. (ما زاغَ الْبَصَرُ) ما مال بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما رآه. (وَما طَغى) وما تجاوز ما أمر به تلك الليلة. (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي رأى في تلك الليلة ـ ليلة المعراج ـ بعض آيات ربه العظمى ، وعجائب الملكوت ، كرؤية جبريل حينما سدّ أفق السماء بما له من ست مائة جناح.

التفسير والبيان :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) أي أقسم بالنجم أي بالنجوم عند ما تميل للغروب ، إذ بالميل إلى الأفق تعرف الجهات ، ما عدل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق الهداية والحق ، وما صار غاويا متكلما بالباطل ، وقيل : النجم : الثريا إذا سقطت مع الفجر. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي وغيره قال : الخالق يقسم بما شاء من خلقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق.

وقد عرض الرازي مقارنة في المقسم به والمقسم عليه بين هذه السورة والسور المتقدمة ، فذكر أن السور التي تقدمت وهي والصافات والذاريات والطور وهذه السورة كان القسم فيها بالأسماء دون الحروف ، أقسم الله في الأولى لإثبات الوحدانية : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ). وفي الثانية لإثبات الحشر والجزاء : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ). وفي الثالثة لإثبات دوام العذاب بعد وقوعه يوم القيامة : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ). وفي هذه السورة لإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاكتملت الأصول الثلاثة : الوحدانية ، والحشر ، والنبوة (١).

ويلاحظ أن القسم على الوحدانية والنبوة قليل في القرآن ، والقسم على إثبات البعث كثير ، كما في سورة الذاريات ، والطور ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٢٧٧


(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) ، وغير ذلك ، لأن دلائل الوحدانية كثيرة ، وكلها عقلية كما قيل :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

ودلائل النبوة والرسالة أيضا كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة ، أما البعث فإمكانه يثبت بالعقل ، وأما وقوعه فلا يثبت إلا بالأدلة السمعية أو النقلية وهي القرآن والحديث ، لذا أكثر الله تعالى في القرآن بالقسم عليه ليؤمن به الناس.

ونظير الآية : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الواقعة ٥٦ / ٧٥ ـ ٨٠].

والحكمة في القسم بالنجوم أنه عالم رهيب ، سواء في السرعة أو في الحجم ، أو في النوع ، فسرعة نور الكواكب ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية ، أي أن النور يجري حول الأرض في سبع ثانية مرة واحدة ، والشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاث مائة ألف مرة ، وهي وا؟ حد من ثلاثين ألف مليون شمس ، والنظام الشمسي والكواكب السيارة الإحدى عشرة جزء من عالم المجرّة ، والمجرّة ذات نجوم بنحو ٣٠ ألف مليون نجم ، منها ما هو أكبر من الشمس ، والمجرة عادة تشبه قرصا مفرطحا ، ويبلغ قطر المجرّة التي تنتمي إليها ١٠٠ ألف سنة ضوئية (١) ، وإن

__________________

(١) السنة الضوئية تساوي ٦ ملايين ميل. وقد أشار تقرير حول أعمال الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لعلم الفلك في مدينة (أوستن) ـ (ولاية تكساس) إلى أن علماء الفلك الأمريكيين رصدوا مجرتين هما الأقدم والأبعد عن الأرض بين كل تلك التي رصدت إلى اليوم. وأوضح التقرير أن هاتين المجرتين تقعان على بعد ١٧ مليار سنة ضوئية عن الأرض ، وأنهما تكونتا إبان الانفجار الكبير (بيج بانج) الذي يقال : إنه أسفر عن نشوء الكون ، والمجرتان على حد ما جاء في التقرير هما أبعد وأقدم من إشعاعات (كازار) التي تشبه النجوم ، وتبعث إشعاعا كهربائيا ومغناطيسيا قويا.


التحام قوة الجاذبية بين المجرّات بالكميات الهائلة من الغازات والمواد الموجودة فيها يحوّل ما يعرف بالفجوات السوداء في وسط هذه المجرّات الفضائية إلى شهب مشتعلة ، تحدث نادرا في ظروف مئات الملايين من السنين. والشهب أشبه بالنجوم إلا أنها تصدر إشعاعات مغناطيسية تفوق في طاقتها ما يصدر عن النجوم العادية المعروفة بالإشعاعات ، وبعد الشهب عن الأرض بمسافة عشرة آلاف مليون سنة ضوئية.

وقد أوضحت سابقا أن الشمس على مدار السنة تتنقل في اثني عشر برجا ، وتوجد في كل برج لمدة شهر حيث تتم دورتها السنوية في اثني عشر شهرا (٣٦٥ يوما وست ساعات وتسع دقائق وعشر ثوان). ويطلق على هذه السنة : السنة النجمية التي تبدأ في ٢١ آذار (مارس). وللقمر بروج أيضا تسمى منازل القمر ، يقيم فيها كل يوم في منزل جديد ، ويستمر بالتنقل على مدار الشهر ما بين ٢٩ أو ٣٠ منزلا ، يسمى المنزل الأخير محاقا ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس ١٠ / ٥] وتدل آية (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر ٤٠ / ٥٧] على أن الإعجاز القرآني في الفلك أكبر من الإعجاز القرآني في الطب والإنسان ، وقد طلب الله منا أن نمعن النظر في آياته الكونية ، ونكتشف ظواهر الكون (١).

__________________

(١) في يوم الأربعاء الموافق ١٢ نيسان (أبريل) لعام ١٩٦١ قامت أول مركبة فضائية تحمل بشرا وتدور حول كوكب الأرض ، بقيادة رائد الفضاء جاجارين من الاتحاد السوفييتي ، وكان أول سؤال وجهه إليه الصحفيون الروس هو : هل وجدت الله؟ فأجاب بمنطق الإلحاد المطلق المعروف بأنه لم يجد الله. ثم تلاه رائد فضاء سوفييتي آخر اسمه (تيتوف) استمر في الفضاء لمدة أطول من رفيقه (جاجارين) فلما عاد إلى الأرض ، سئل : هل وجدت الله؟ فأجاب : «نعم ، لقد وجدت عظمة الخالق ، وفي عمله الجبار بالسيطرة على قوانين الجاذبية بين الأرض والقمر والشمس».


لهذه الأهمية للنجوم أقسم الله بها على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بضال تائه عن الحق ، ولا غاو يعدل عن الحق ، وسبب رشده وعدم ضلاله وغوايته ما قال تعالى :

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي ما يقول قولا عن هوى وغرض ، وما ينطق بالقرآن عن هواه الشخصي ، إنما ينطق بوحي من الله أوحاه إليه ، ويبلّغ ما أمر به كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش ، فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله بشر يتكلم في الغضب ، فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اكتب ، فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق».

وأخرج الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أخبرتكم أنه من عند الله ، فهو الذي لا شك فيه».

وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا أقول إلا حقا ، قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال : إني لا أقول إلا حقا».

ثم أخبر الله تعالى عن معلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جبريل عليه‌السلام : فقال :

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أي علّم القرآن النبيّ جبريل الذي هو شديد قواه العلمية والعملية ، وهو ذو قوة وشدة في الخلق ، وذو حصافة في العقل ، ومتانة في الرأي ، وقد استقام جبريل على


صورته التي خلقه الله عليها ، حين أحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤيته كذلك ، فظهر له في الأفق الأعلى أي في الجهة العليا من السماء ، وهو أفق الشمس ، فسدّ الأفق عند ما جاء بالوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول ما جاءه بالوحي.

ونظير الآيات عن جبريل قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير ٨١ / ١٩ ـ ٢٣].

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي استوى واعتدل جبريل بالأفق الأعلى أولا ، ثم قرب من الأرض ، وازداد في القرب والنزول ، حتى نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسافة مقدار قوسين أو أقل من قوسين ، فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحاه من القرآن في تلك النزلة ، من شؤون الدين. وقيل : فأوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبده ما أوحى ، وفيه تفخيم لشأن الوحي.

وهذا كان ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض ، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال تعالى بعده : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى). روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود ، قال في هذه الآية : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت جبريل له ست مائة جناح».

وقال عن رؤية جبريل حقيقة لا تخيلا :

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أي ما أنكر فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه من صورة جبريل ، وإنما كان فؤاده صادقا ، فتكون عينه أصدق ، فكيف تجادلونه وتكذبونه فيما رآه بعينه رؤية مشاهدة محسوسة من صورة جبريل عليه‌السلام؟! والأشهر أن لام (الْفُؤادُ) للعهد ، وهو فؤاد


محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يقل فؤاده لما رآه : لم أعرفك ، وصدّق فؤاده ما عاينه ، ولم يشك في ذلك ، ولم يقل : إنه جن أو شيطان.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي لقد رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل نازلا مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها ، وذلك ليلة الإسراء ، عند سدرة المنتهى التي هي في رأي الأكثرين وهو المشهور : شجرة في السماء السابعة ، وجاء في الصحيح أنها في السماء السادسة ، وإليها ينتهي علم الخلائق ، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها ، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين. والصحيح كما تقدم في سورة الإسراء : أن المعراج كان بالروح والجسد ، وليس بالروح فقط كما يرى بعضهم ، وإلا لما كان المعراج معجزة.

فتكون رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام على صورته الحقيقية مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ، وأما في غير هاتين المرتين ، فكان يراه في صورة إنسان ، لأن عليه أيسر وأهون وأكثر أنسا.

وعلى هذا يكون ضمير (رَآهُ) ليس راجعا إلى الله تعالى ، بل إلى جبريل عليه‌السلام ، فالآية تنفي أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا ، ويؤكده قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام ٦ / ١٠٣] وقوله سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى ٤٢ / ٥١].

وقال بعضهم : الضمائر في (دَنا) ، و (فَتَدَلَّى) و (كان) و (أوحى) وكذا في (رَآهُ) : لله عزوجل ، ويشهد لهذا ما أخرجه البخاري عن أنس : «ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله ، حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة ، فتدلى ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة». والراجح هو الرأي الأول بدليل ما أخرجه مسلم عن أبي ذر أنه


سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، هل رأيت ربك؟ فقال : «رأيت نورا» (١)

وأما سدرة المنتهى فنؤمن بها كما جاء في ظاهر القرآن ، دون تعيين مكانها وأوصافها إلا بما جاء في الحديث الصحيح ، روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال : «لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السابعة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ، فيقبض منها ..».

ورواية مسلم في صحيحة عن ابن مسعود : «.. وهي في السماء السادسة». وفي رواية أخرى لمسلم عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما رفعت إلى سدرة المنتهى ، في السماء السابعة ، نبقها مثل قلال هجر ، وورقها مثل آذان الفيلة ..» والنّبق : ثمر السّدر ، الواحدة : نبقة (٢).

وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي‌الله‌عنهما قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ـ وقد ذكر له سدرة المنتهى ـ قال : «يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة ، أو يستظل بظلها مائة راكب (٣) ، فيها فراش (٤) الذهب ، كأن ثمرها القلال».

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) أي تلك السدرة التي يحيط بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط ، مما لا يحصره وصف ولا عدد. وهذا في رأي الأكثرين يشعر بالتعظيم والتكثير.

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٧ / ٥٢ وما بعدها.

(٢) ويقال : نبق بفتح النون وسكون الباء ، وهي لغة المصريين ، وكسر الباء أفصح.

(٣) شك من الراوي.

(٤) الفراش : دويبة ذات جناحين ، تتهافت في ضوء السراج ، واحدتها فراشة.


(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي ما مال بصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما رآه ، وما تجاوز ما رأى ، فرؤية جبريل وغيره من مظاهر ملكوت الله رؤية عين ، وليست من خدع البصر ، وهذا يؤكد أن المعراج كان بالروح والجسد.

لقد رأى في ليلة المعراج من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف ، وهو جبرائيل على صورته ، وسائر عجائب الملكوت. وهذا كقوله تعالى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) [الإسراء ١٧ / ١] دون تحديد المرئي للإشارة إلى تعظيمه وتفخيمه وأهميته. روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أنه قال في الآية : رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق (١). وعن ابن زيد : أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لله تعالى أن يقسم بما شاء ، على ما شاء ، في أي وقت يشاء ، وقد أقسم بالنجوم (على أن اللام للجنس) أو بالثريا (على أن اللام لتعريف العهد) والعرب تسمي الثّريا نجما ، وإن كانت في العدد نجوما. وأقسم به وقت هويّه وغروبه لأنه الوقت الذي يستفاد منه لمعرفة الجهات ، أما إذا كان في وسط السماء ، فيكون بعيدا عن الأرض ، لا يهتدي به الساري ، فإذا مال إلى الغروب تبين جانب المغرب من المشرق ، والجنوب من الشمال.

٢ ـ المقسم عليه الشهادة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال ، والضال : الذي يسير على غير هدى بغير علم ، والغاوي : هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره ، والضلال في مقابلة الهدى ، والغي في مقابلة الرشد. وبه نزّه

__________________

(١) قال ابن عباس أيضا : رأي رفرفا أخضر سدّ أفق السماء.


الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كاليهود والنصارى.

٣ ـ القرآن الكريم ليس كلاما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو وحي صادر من الله عزوجل.

٤ ـ قد يحتج بقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) من لا يجوّز لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاجتهاد في الحوادث ، وهذا خطأ ، لأن المراد بالآية إثبات كون القرآن وحيا من عند الله ، والقرآن ذاته أمره بالاجتهاد ، وقد اجتهد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحروب فيما لم يحرمه الله ، وأذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك ، فعاتبه ربه بقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة ٩ / ٤٣].

٥ ـ كان الوحي من الله تعالى على قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوساطة جبريل ، لقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) وهو جبريل في قول سائر المفسرين ، سوى الحسن ، فإنه قال : هو الله عزوجل.

وقد وصف الله جبريل بأنه ذو قوة فائقة علما وعملا وحصافة في العقل ومتانة في الرأي.

٦ ـ رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام على صورته الحقيقية مرتين : مرة بدأت في أفق السماء ، حينما استوى واستقام كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي العلوي ، فسد المشرق لعظمته.

ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى ، من الأرض ، فنزل بالوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي. وهذه هي المرة الأولى للرؤية ، والنبي على الأرض. وكان جبريل قريبا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقدار مسافة قوسين عربيتين أو أقل من ذلك.

٧ ـ لقد أوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبده ورسوله ما أوحى ، ولم يبين الموحى به تفخيما لشأن الوحي ، أو أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،


أو أوحى جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحاه الله إليه وكلمه به. وعلى كل حال مصدر الوحي الأصلي هو الله تعالى ، وجبريل واسطة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموحى إليه. والوحي : إلقاء الشيء بسرعة.

٨ ـ لم يكذب قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج ما رآه من جبريل على صورته الحقيقية وآيات الله الإلهية العجيبة ، وهي رؤية حقيقية بالبصر ، وقيل : إنه رأى ما رآه بقلبه.

٩ ـ أنكر الله على كفار قريش ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج ، فقال : كيف تجادلونه وتوردون شكوكم عليه ، مع أنه رأى ما رأى عين اليقين؟!

١٠ ـ لقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى (وهي شجرة النّبق ، وهي في السماء السادسة ، أو في السماء السابعة ، التي لا يحيط بها وصف) عند جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح الملائكة والشهداء والمتقين ، وينتهي إليها علم الأنبياء ، ويعزب علمهم عما وراءها ، كما قال ابن عباس.

قال ابن مسعود فيما ذكره المهدوي ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت جبريل بالأفق الأعلى ، له ست مائة جناح ، يتناثر من ريشه الدر والياقوت».

والذي يغشى السدرة مبهم للتفخيم والتعظيم ، مثل أنوار الله تعالى ، والملائكة ، والخلائق الدالة على عظمة الله تعالى.

١١ ـ لم يعدل بصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمينا ولا شمالا عما رأى بعينه يقينا ، ولا تجاوز الحد الذي رأى.

١٢ ـ لقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات ، قال الرازي معقبا على قول من قال : إنه رأى جبريل عليه‌السلام في صورته : الظاهر أن هذه الآيات غير تلك.


منع الإشراك وبيان عدم فائدة الأصنام

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

الاعراب :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى اللَّاتَ وَالْعُزَّى) : المفعول الأول ، والمفعول الثاني : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى).

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ضِيزى) : أصلها ضوزى بوزى فعلى فقلب إلى (فعلى) وإنما كان أصلها (فعلى) لأن (فعلى) ليست من أبنية الصفات ، وفعلى من أبنيتها ، نحو حبلى ، ونظير (قِسْمَةٌ ضِيزى) : «مشية حيكى» فقلبت الضمة كسرة لتصح الياء.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ .. كَمْ) : خبرية ، في موضع رفع بالابتداء ، و (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) : خبره ، وجمع ضمير (كَمْ) عملا بالمعنى ، لأن المراد بها الجمع. وقوله : (لِمَنْ يَشاءُ) أي يشاء شفاعته ، فحذف المضاف الذي هو المصدر ، فصار : لمن يشاؤه ، ثم حذف الهاء العائدة إلى (من) فصار يشاء.

البلاغة :

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) استفهام توبيخي مع احتقار عقولهم.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) مراعاة الفواصل وتوافق رؤوس الآيات الذي له وقع على السمع ، ويسمى بالسجع.

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) بينهما طباق.


المفردات اللغوية :

(اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ) أصنام العرب التي كانوا يعبدونها ، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة ، سمي به ، لأنه صورة رجل كان يلتّ السويق بالسمن ويطعم الحاج. والعزّى كانت لغطفان ، وهي شجرة ببطن نخلة ، بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح خالد بن الوليد ليقطعها ، فجعل يضربها بفأسه ويقول :

يا عز ، كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

ومناة : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وكانت دماء النسائك تمنى عندها ، أي تراق.

(الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) صفتان لتأكيد الذم ، والأخرى : المتأخرة الوضيعة القدر ، من التأخر في الرتبة ، كما في قوله تعالى : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف ٧ / ٣٨] أي قال أدنياؤهم أو وضعاؤهم لأشرافهم.

(قِسْمَةٌ ضِيزى) قسمة جائرة ، من ضاز يضيز ضيزا ، أي جار وظلم جورا. (إِنْ هِيَ) الأصنام المذكورة. (سَمَّيْتُمُوها) سميتم بها ، أي إن إطلاق اسم الآلهة عليها مجرد تسميات لا مضمون لها ، فليس فيها شيء من معنى الألوهية. (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ما أنزل الله بعبادتها من حجة وبرهان. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ما يتبعون في عبادتها إلا مجرد الظن غير القائم على الدليل ، وإلا توهم أن ما هم عليه حق ، فالمراد بالظن هنا التوهم. (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) ما تشتهيه أنفسهم مما زين لهم الشيطان أنها تشفع لهم عند الله تعالى. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) البرهان القاطع وهو الرسول والكتاب ، فتركوه.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ) منقطعة ، والهمزة فيها للإنكار ، والمعنى بل ألكل إنسان منهم ما تمنى من أن الأصنام تشفع لهم؟ أي ليس له كل ما يتمناه ، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة المزعومة. (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ) أي وكثير من الملائكة. (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) لا تنفع شفاعتهم شيئا. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) لهم في الشفاعة. (لِمَنْ يَشاءُ) من عباده. (وَيَرْضى) عنه ويراه أهلا كذلك ، لقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ٢١ / ٢٨] وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟) [البقرة ٢ / ٢٥٥].

المناسبة :

بعد أن قرر الله تعالى الرسالة وصدق النبوة ، ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ، ومنع الإشراك ، وبيان عدم جدوى الأصنام في الشفاعة عند الله تعالى بأسلوب فيه إنكار وتهكم وتوبيخ وإهدار لحرمة العقل الذي يدين


لغير الخالق الرازق ، ويعبد أحجارا أو أشجارا أو معادن صماء لا تنفع ولا تضر.

التفسير والبيان :

يقرع الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان ، واتخاذهم لها البيوت ، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن إبراهيم عليه‌السلام ، فيقول :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أنظرتم إلى اللات : صنم ثقيف ، والعزى : شجرة غطفان بين مكة والطائف ، تعظمها قريش ، ومناة : صخرة لهذيل وخزاعة ، وللأوس والخزرج بين مكة والمدينة ، ثالثة الصنمين والمتأخرة الوضيعة القدر ، قال ذلك عنها للتحقير والذم؟ إنها أحجار صماء أو أشجار تستنبت ، فكيف تشركونها بالله ، وهي مصنوعة لكم أو مخلوقة غير خالقة؟! والله عزوجل الذي تعرفون عظمته في الكون ، أليس هو الأجدر والأحق بالعبادة؟!

وهذا تقريع شديد ، وذم وتوبيخ ، لوضع الشيء في غير محله ، فكانت ثقيف ومن تابعها يفتخرون باللات التي كانت صخرة بيضاء منقوش عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة ، وحوله فناء معظم عند أهل الطائفة ، وهي في الأصل صورة رجل كان يلت السويق للحجيج في الجاهلية ، فلما مات عكفوا على قبره ، فعبدوه.

وكانت العزّى شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف ، لغطفان ، وكانت قريش يعظمونها ، كما قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم».

وكانت مناة بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ، ويهلون منها للحج إلى الكعبة ، وتذبح عندها القرابين. وكانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر ، تعظمها العرب كتعظيم


الكعبة غير هذه الثلاثة التي نصت عليها الآية ، وإنما أفردت هذه بالذكر ، لأنها أشهر من غيرها.

وبعد بيان سخف عقولهم بعبادة الأصنام ، وبخهم الله تعالى على شرك من نوع آخر وهو جعل الملائكة بنات الله ، فقال :

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي أتجعلون لله ولدا ، ثم تجعلون ولده أنثى ، وتختارون لأنفسكم الذكور؟ فلو اقتسمتم فيما بينكم هذه القسمة ، لكانت قسمة خارجة عن الصواب ، جائرة عن الحق. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها؟! ونظير الآية : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟) [الطور ٥٢ / ٣٩].

ثم أنكر الله تعالى عليهم ما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر بعبادة الأصنام ، وتسميتها آلهة ، فقال :

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي ما تسمية هذه الأصنام آلهة ، مع أنها لا تبصر ولا تسمع ، ولا تعقل ولا تفهم ، ولا تضر ولا تنفع إلا مجرد أسماء سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم ، وليس لها مسميات حقيقية ، اتخذتم ذلك أنتم وآباؤكم ، قلّد الآخر فيها الأول ، وتبع في ذلك الأبناء الآباء ، ولم ينزل الله بها من حجة ولا برهان تحتجون به على أنها آلهة ، كما قال تعالى في آية أخرى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [يوسف ١٢ / ٤٠].

ثم بيّن الله تعالى منشأ عبادتها ، فقال :

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي ما يتبعون في تسمية الأصنام آلهة إلا مجرد وهم أو ظن لا يغني من الحق شيئا ، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتميل إليه وتشتهيه ، من غير التفات


إلى ما هو الحق الذي يجب اتباعه ، مع أنه قد أتاهم من الله البيان الواضح الظاهر بأنها ليست آلهة ، وهو هذا القرآن الذي هو الحجة والبرهان من عند الله ، على لسان رسوله الذي بعثه الله إليهم ، فأعرضوا عنه ، ولم يتبعوا ما جاءهم به ، ولا انقادوا له.

ثم أوضح الله تعالى أن القضية ليست بالتمنيات والأماني ، وأن هذه الأصنام لا تفيدهم في شفاعة عند الله ولا في غيرها ، فقال :

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى ، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي بل أيمكن (١) أن يكون للإنسان ما يتمنى؟ ليس كل من تمنى خيرا حصل له ، وليس لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم ، فسلطان الدنيا والآخرة وملكهما والتصرف فيهما لله عزوجل ، وليس للأصنام معه أمر في الدنيا ولا في الآخرة (٢) : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) [النساء ٤ / ١٢٣]. وروى أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى ، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته».

ثم بيّن الله طريق قبول الشفاعة ، فقال :

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) أي وكثير من الملائكة الكرام في السموات ، مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع لأحد إلا لمن أذن الله أن يشفع له ، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة العقل والفهم؟! أي إن الملائكة لا تشفع إلا بعد الإذن لها بالشفاعة ، وإلا لمن يشاء الله أن يشفعوا له ، لكونه من أهل التوحيد ، وليس للمشركين في ذلك حظ. قال

__________________

(١) أم المنقطعة كما تقدم : بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام التي تفيد الإنكار.

(٢) جملة فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى مسوقة لتقرير جهلهم واتباعهم الظن.


ابن كثير : فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله ، وهو تعالى لم يشرع عبادتها ، ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله ، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه (١)؟. وهذا توبيخ لعبدة الملائكة والأصنام.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ حاجّ الله المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل ، فإن تلك الأصنام التي يعبدونها كاللات والعزى ومناة لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنفع ولا تضر ، فكيف تجوز عبادتها؟ علما بأن العبادة في رأي المشركين للمنفعة ، وهذه عديمة النفع ، فهل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية ، فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء؟ وقد عرفتم جلال الله وعظمته ، فهو الأحق بالعبادة.

٢ ـ قرّع الله المشركين ووبخهم أيضا ورد عليهم قولهم : الملائكة بنات الله ، والأصنام بنات الله ، وبين لهم أنه لا يعقل جعل البنات الإناث لله ، ويختارون هم الذكور ، فهذه القسمة قسمة جائرة عن العدل ، خارجة عن الصواب ، مائلة عن الحق.

٣ ـ ما هذه الأوثان إلا أسماء وضعتموها ونحتموها وسميتموها آلهة ، وقد قلدتم آباءكم في ذلك ، وما أنزل الله بها من حجة ولا برهان ، وما تتبعون في ذلك إلا الظن أو الوهم وأهواء النفس وما تميل إليه ، بالرغم من أنه جاءكم البيان الشافي من جهة الرسول أنها ليست بآلهة ، فهم اختاروا العمل بالظن مع قدرتهم على العمل باليقين الذي نزل به الوحي.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٥٥


٤ ـ الواقع أنه ليس للمشركين في عبادة الأصنام إلا مجرد التمنيات والأماني المعسولة المبنية على وهم لا واقع له ، فلن تتمكن من الشفاعة لهم كما يحلمون فقد تمنوا الشفاعة عند من ليس لهم شفاعة ، وإن الملك والتصرف والسلطان في الدنيا والآخرة لله عزوجل ، فهو يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، لا ما تمنى أحد.

٥ ـ وبّخ الله تعالى من عبد الملائكة والأصنام ، وزعم أن ذلك يقرّبه إلى الله تعالى ، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له.

توبيخ المشركين لتسميتهم الملائكة بنات الله

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

الإعراب :

(هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أَعْلَمُ) : إما على أصلها في التفضيل في العلم ، أي هو أعلم من كل أحد بهذين الصنفين ، وإما أنها بمعنى (عالم). ومثله : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فيها الوجهان.

البلاغة :

بين (ضَلَ) و (اهْتَدى) طباق.


المفردات اللغوية :

(لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) يسمون كل واحد منهم. (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) حيث قالوا : هم بنات الله. (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) بهذا القول من دليل يقيني. (إِنْ يَتَّبِعُونَ) ما يتبعون فيه. (إِلَّا الظَّنَ) مجرد التوهم. (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي إن الظن لا يفيد في مجال الحق : الذي هو حقيقة الشيء ، فإن ألحق لا يدرك إلا بالعلم ، أي اليقين ، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية أو اليقينيات وإنما العبرة به في العمليات والوسائل المؤدية إليها.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أعرض عمن تولى عن القرآن وعن تذكيرنا وانهمك في الدنيا. (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي طلب الدنيا وأمرها نهاية علمهم ، فلا يتجاوزه علمهم لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة ، والجملة اعتراضية مقررة لقصر همهم على الدنيا. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ..) تعليل للأمر بالإعراض ، أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب ، فلا تتعب نفسك في دعوتهم ، إذ ما عليك إلا البلاغ ، وقد بلغت ، والله عالم بالفريقين فيجازيهما.

المناسبة :

بعد أن وبخ الحق سبحانه المشركين على عبادتهم الأصنام والأوثان ، وأبان عدم جدوى تلك العبادة في مجال الشفاعة وغيرها ، وبخهم مرة أخرى وقرّعهم على قولهم : الملائكة بنات الله ، وأوضح أنها دعوى لا تستند إلى دليل مقبول ، وأن عقولهم قاصرة ، وأنهم لا يهتمون إلا بالدنيا وحطامها ، وأن الله سيجازيهم على مزاعمهم ومعتقداتهم الفاسدة.

التفسير والبيان :

أنكر الله تعالى على المشركين تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى ، وقولهم : إنهم بنات الله ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) أي إن هؤلاء المشركين الكافرين الذين لا يصدقون بوجود الآخرة والحساب والعقاب يزعمون أن الملائكة إناث ، وأنهم بنات الله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. والمراد أنهم يسمون كل واحد من الملائكة أنثى ، لأنهم إذا جعلوا الكل بنات ، فقد


جعلوا كل واحدة بنتا. كما جاء في آية أخرى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ، وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف ٤٣ / ١٩].

(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي وليس لهم بذلك علم صحيح بصدق ما قالوه ، ولا معرفة ولا برهان ، فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم ، ولا أخبرهم به مخبر مقبول الخبر ، بل قالوا ذلك جهلا وضلالة وجرأة ، وكذبا وزورا وافتراء وكفرا شنيعا.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي ما يتبعون في زعمهم إلا التوهم أو الظن الذي لا أساس له من الصحة ، وإن مثل هذا الظن لا يجدي شيئا ، ولا يقوم أبدا مقام الحق. جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث».

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فأعرض أيها الرسول عمن أعرض عن القرآن أو تذكير الله ، ولم يكن همّه إلا الدنيا ، وترك النظر إلى الآخرة ، أي فاترك مجادلتهم والاهتمام بشأنهم ، فقد بلّغت ما أمرت به ، وليس عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) يشير إلى إنكارهم الحشر ، كما قالوا : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام ٦ / ٢٩] وقال تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة ٩ / ٣٨].

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي إن أمر الدنيا وطلبها هو منتهى ما وصلوا إليه من العلم ، فلا يلتفتون إلى ما سواه من أمر الدين. روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور : «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا».


والعلة أو سبب الأمر بالإعراض عنهم ما قال تعالى :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي أعرض عن هؤلاء ، لأن الله هو الخالق لجميع المخلوقات ، وهو عالم بمن ضل عن سبيله ، سبيل الحق والهدى ، وعالم بمن اهتدى إلى الدين الحق ، وسيجازي كل فريق أو أحد على عمله.

وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله ، وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ، ولازموا الباطل دون الحق ، إذ كان من خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحرص على إيمانهم. وفي ذلك أيضا وعيد للكفار ، ووعد للمؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت الآيات ما يأتي :

١ ـ وصف الله الكفار الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام بنات الله بأنهم كافرون بالبعث والحشر أو بالآخرة على الوجه الحق الذي جاءت به الرسل.

٢ ـ وبخ الله المشركين الذين يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله سبحانه وتعالى.

٣ ـ ليس لهم بما وصفوا به الملائكة هذا الوصف علم صحيح ، فإنهم لم يشاهدوا خلق الله الملائكة ، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يروه في كتاب ، وإنما يتبعون التوهم في أن الملائكة إناث ، وإن التوهم أو الظن الذي لا يقوم على أساس علمي صحيح لا يفيد شيئا في مجال التعرف على الحقيقة.

٤ ـ إذا كان هذا شأن هؤلاء الكفار المعاندين الذين لا همّ لهم إلا الدنيا فاترك أيها الرسول مجادلتهم ، فقد بلغت الرسالة ، وأتيت بما كان عليك. قال


الرازي ـ وما أصوب ما قال ـ : وأكثر المفسرين يقولون بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ) منسوخ بآية القتال ، وهو باطل ، فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال ، فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم لما لم ينفع قال له ربه : فأعرض عنهم ، ولا تقابلهم بالدليل والبرهان ، فإنهم لا يتبعون إلا الظن ، ولا يتبعون الحق ، وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة ، فكيف يكون منسوخا (١)؟!

٥ ـ شأن الكفار غالبا الاهتمام بالدنيا فقط ، وجهل أمر الدين والآخرة ، فهم قوم ماديون ، كما نشاهد اليوم ، لذا أخبر الله تعالى عنهم بأن طلب الدنيا هو قدر عقولهم ، ونهاية علمهم ، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الدهر ٧٦ / ٢٧].

٦ ـ ختمت الآيات بالوعيد والتهديد ، فالله تعالى أعلم بالضالين ، وأعلم بالمهتدين ، فلا داعي للمعاناة ، وسيجازي كلّا بأعمالهم خيرها وشرها.

جزاء المسيئين والمحسنين وأوصاف المحسنين

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٣١١


الإعراب :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ .. لِيَجْزِيَ ..) لام (لِيَجْزِيَ) إما لام (كي) والتقدير : واستقر لله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ، أو تكون لام القسم.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الَّذِينَ) : في موضع نصب على البدل من (الَّذِينَ) في قوله تعالى : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).

(إِلَّا اللَّمَمَ اللَّمَمَ) : استثناء منقطع : وهو صغائر الذنوب.

البلاغة :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) بينهما ما يسمى بالمقابلة ، وتكرار لفظ (لِيَجْزِيَ) من قبيل الإطناب.

المفردات اللغوية :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو الخالق والمالك والمتصرف. (بِما عَمِلُوا) بعقاب ما عملوا من السوء كالشرك وغيره. (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) الذين أحسنوا بالتوحيد والطاعة يجزيهم بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.

(كَبائِرَ الْإِثْمِ) ما يكبر عقابه من الذنوب ، وهو كل ذنب توعد الله عليه صاحبه بالعذاب الشديد كالشرك وعقوق الوالدين. (وَالْفَواحِشَ) ما فحش من الكبائر خصوصا ، وهو الذنب الذي عاقب الله عليه بالحد كالقتل العمد والزنى والقذف وشرب الخمر وسائر المسكرات. (إِلَّا اللَّمَمَ) استثناء منقطع ، أي لكن اللمم إذا اجتنب الكبائر تغفر ، مثل النظرة إلى المحرّمات والقبلة واللمسة. (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) كثير الغفران للذنوب ، قابل التوبة منها ، فله أن يغفر ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، قال البيضاوي : ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين ، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) عالم بأحوالكم. (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) خلق أباكم آدم من التراب. (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي حينما صوّركم في الأرحام ، والأجنّة : جمع جنين : وهو الولد ما دام في بطن أمه ، سمي بذلك لاجتنانه أي استتاره.

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) لا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير ، ولا تمدحوها على سبيل الإعجاب ، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي عالم يعلم التقي وغيره قبل الخلق.


سبب نزول الآية (٣٢):

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ .. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ ..) : أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم : عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال : كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير : هو صدّيق ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «كذبت اليهود ، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد» ، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بما في السموات والأرض ، وأنه يجازي عباده بعدله ، فيثيب المحسن بالجنة ، ويعاقب المسيء بالنار ، ذكر أنه قادر على ذلك ، فهو مالك العالم العلوي والسفلي يتصرف فيهما بما شاء ، وهو يجازي على وفق علمه المحيط بكل شيء ، ثم ذكر أوصاف المحسنين ، وأخبر أنه جواد كريم واسع المغفرة لمن يشاء من عباده.

التفسير والبيان :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، لِيَجْزِيَ (١) الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي إن الله تعالى مالك السموات والأرض ، وأنه الغني عما سواه ، الحاكم في خلقه بالعدل ، وقد خلق الخلق بالحق ، وجعل عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي كلّا بعمله ، بحسب علمه المحيط بكل شيء ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فإن كان العمل خيرا ، كان الجزاء خيرا ، وإن كان شرا كان الجزاء شرا. فتكون لام (لِيَجْزِيَ) لام العاقبة.

__________________

(١) قال الواحدي : اللام للعاقبة أو الصيرورة ، كما في قوله تعالى : لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص ٢٨ / ٨] أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدوا.


قال ابن الجوزي في تفسيره : والآية إخبار عن قدرته وسعة ملكه ، وهو كلام معترض بين الآية الأولى ، وبين قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) لأنه إذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن ، جازى كلّا بما يستحقه ، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.

ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين المحسنين ، فقال :

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم ، وعن الفواحش كالزنى ، والكبائر : كل ذنب توعد الله عليه بالنار ، والفواحش : ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا وشرعا من الكبائر ، مما كان فيه الحد. ولكن لا يقع منهم إلا اللمم أي صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال كالنظرة الحرام والقبلة. أخرج أحمد والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين النظر ، وزنى اللسان النطق ، والنفس تمنّى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».

فإن اقترفوا اللمم تابوا ولم يعودوا إلى مثله.

ونحو الآية قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النساء ٤ / ٣١].

وقد ورد في الصحيحين عن علي رضي‌الله‌عنه تحديد الكبائر بسبع : «اجتنبوا السبع الموبقات : الإشراك بالله تعالى ، والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقد أوصلها الحافظ الذهبي في كتابه (الكبائر) إلى سبعين. وروى الطبراني عن ابن عباس أن رجلا قال له : الكبائر سبع ،


فقال : هي إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.

ثم فتح الله تعالى باب الأمل ومنع اليأس بقوله :

(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي إن رحمة الله وسعت كل شيء ، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها ، كما قال تعالى : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر ٣٩ / ٥٣].

ثم أكد الله تعالى علمه بالأشياء كلها ، فقال :

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي إن الله بصير بكم ، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر منكم ، حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب ، واستخرج ذريته من صلبه ، وحين صوركم أجنة في أرحام أمهاتكم ، وتعهدكم بالنمو والتكوين في أطوار مختلفة. والجنين : هو الولد ما دام في البطن ، وفائدة قوله : (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) التنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد.

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي لا تمدحوا أنفسكم ، ولا تبرّئوها عن الآثام ، ولا تثنوا عليها بإعجاب أو رياء ، ولا تدّعوا الطهارة عن المعاصي ، بل احمدوا الله على الطاعة ، واحذروا المعصية ، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي.

ونظير الآية قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ، بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء ٤ / ٤٩].


وروى مسلم في صحيحة عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : «سمّيت ابنتي (برّة) فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن هذا الاسم ، فقال : لا تزكوا أنفسكم ، إن الله أعلم بأهل البر منكم ، فقالوا : بم نسميها؟ قال : سموها زينب».

وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مرارا ـ إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسب فلانا ، والله حسيبه ، ولا أزكّي على الله أحدا ، أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك».

وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن همّام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان ، فأثنى عليه في وجهه ، فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ، ويقول : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا ، وهذا دليل القدرة الإلهية ، وسعة الملك الإلهي ، وهذا معترض في الكلام.

٢ ـ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى ، فيجازي كلّا بما يستحقه. وإذا كانت اللام للعاقبة فالمعنى : ولله ما في السموات وما في الأرض ، لتكون عاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم محسن ومسيء ، فللمحسن المثوبة أو العاقبة الحسنى وهي الجنة ، وللمسيء السوأى وهي جهنم.

٣ ـ إن نعت المحسنين أنهم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك ، لأنه أكبر الآثام ، ونحوه من الكبائر المذكورة آنفا وهي كل ما أوعد الله عليه بالنار ،


ويبتعدون عن الفواحش المتناهية في القبح ، كالزنى ، وهي كل ذنب فيه الحدّ.

لكن اللمم ، وهي كما ذكر القرطبي : الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه ، فإن أمرها سهل مغفور ، يتوب الله فيها على من تاب وأناب. وقال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق : إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العينين النظر ، وزنى اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه» وقد أعدت الحديث بهذا اللفظ ، لأنه أوضح ، والمعنى : أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحدّ في الدنيا والعقوبة في الآخرة ، هو في الفرج ، وغيره له حظّ من الإثم.

٤ ـ إن الله عزوجل واسع المغفرة من الصغائر والكبائر لمن تاب من ذنبه واستغفر ، أما من لم تصل إليهم المغفرة فهم الذين أصروا على الإساءة ، وماتوا من غير توبة ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨] وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) [التوبة ٩ / ٨٤].

٥ ـ أكد الله تعالى لعباده علمه بجميع أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم ، فذكر أنه أعلم بهم من أنفسهم وقت الإفشاء حين خلق أباهم آدم من الطين ، وتسلسلوا في بطون الأمهات ، معتمدين في تكوين نشأتهم على الغذاء الذي يعتمد على التراب والماء ، فكل أحد أصله من التراب ، فإنه يصير غذاء ، ثم يصير نطفة. وفي هذا تقرير لكونه عالما بمن ضل.

٦ ـ نهى الله تعالى الإنسان عن تزكية نفسه ومدحها والثناء عليها ، فإنه أبعد


من الرياء ، وأقرب إلى الخشوع ، ولأن الله عالم بمن أخلص العمل ، واتقى عقوبة الله. قال ابن عباس : ما من أحد من هذه الأمة أزكّيه غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

توبيخ بعض كبار المشركين الأغنياء لإعراضه عن اتباع الحق

وتذكيره بما في صحف إبراهيم وموسى

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤))

الإعراب :

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) حذف مفعولي (يَرى) وتقديره : فهو يراه حاضرا. (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ .. أَمْ) هنا : إما منقطعة بمعنى (بل والهمزة) أو متصلة بمعنى (أي) لأنها معادلة للهمزة في قوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ).

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ .. أَلَّا تَزِرُ) في موضع جر على البدل من : (ما) في قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ ..) أو في موضع رفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره : ذلك ألا تزر ، وتقديره : أنه لا تزر. وكذلك قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ ..) فتكون (أَنْ) مخففة من الثقيلة.


(سَوْفَ يُرى) نائب الفاعل ضمير مستتر فيه ، ومن قرأ بالفتح (يرى) كان التقدير فيه : سوف يراه ، فحذف الهاء ، كما يقال : إن زيدا ضربت ، أي ضربته.

(ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) الهاء في (يُجْزاهُ) في موضع نصب مفعول به ، و (الْجَزاءَ الْأَوْفى) منصوب على المصدر.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أراد : أنه إلى ربك ، وهو معطوف على (أَلَّا تَزِرُ) وكل ما بعده من قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) إلى قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [الآيات ٤٣ ـ ٥٠] معطوف على (أَلَّا تَزِرُ).

(وَثَمُودَ فَما أَبْقى ثَمُودَ) منصوب بفعل دال عليه. (فَما أَبْقى) تقديره : وأهلك ثمودا ، فما أبقى. وإنما لم يجز نصبه ب (أَبْقى) لأن ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله. قرأ عاصم وحمزة (ثَمُودَ) بلا تنوين ، والوقوف بغير ألف ، والباقون بالتنوين ويقفون بالألف.

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى الْمُؤْتَفِكَةَ) مفعول به منصوب ل (أَهْوى).

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي ما غشاه إياها ، فحذف مفعولي (غَشَّى) والأول ضمير (ما) والثاني ضمير (الْمُؤْتَفِكَةَ).

البلاغة :

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) الإبهام للتعظيم والتهويل.

بين (أَضْحَكَ وَأَبْكى) وبين (أَماتَ وَأَحْيا) وبين (أَغْنى وَأَقْنى) ما يسمى بالطباق.

بين (أَغْنى وَأَقْنى) جناس ناقص لتغير بعض الحروف.

المفردات اللغوية :

(تَوَلَّى) أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه. (وَأَعْطى قَلِيلاً) من المال. (وَأَكْدى) قطع العطاء ولم يتممه ، يقال : حفر فأكدى ، أي بلغ كدية أي أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر من مواصلة العمل وإتمامه. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) يعلم أن غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة ، وهو الوليد بن المغيرة أو غيره كما سيأتي. وجملة (أَعِنْدَهُ عِلْمُ ..) المفعول الثاني لرأيت بمعنى : أخبرني.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) أي بل لم يخبر. (صُحُفِ مُوسى) أسفار التوراة ، وإنما قدم تعالى ذكر صحف موسى ، لأنها أقرب وأشهر وأكثر. (وَإِبْراهِيمَ) أي وصحف إبراهيم : وهي ما نزل عليه من


الشرائع. (وَفَّى) أتم ما أمر به ، وذلك مثل قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة ٢ / ١٢٤]. (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس حمل أي ذنب غيرها. (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي وأنه ليس لإنسان إلا ما سعى من خير ، فليس له من سعي غيره للخير شيء. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) يبصر في الآخرة ، ويراه أهل القيامة تشريفا للمحسن ، وتوبيخا للمسيء.

(يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأكمل أو الأوفر. (الْمُنْتَهى) المرجع والمصير والنهاية بعد الموت يوم القيامة. (أَضْحَكَ) أي من شاء أفرحه. (وَأَبْكى) ومن شاء أحزنه. (أَماتَ) في الدنيا. (وَأَحْيا) للبعث. (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) الصنفين. (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) من مني إذا تدفق وصب في الرحم ، فقوله : تمنى أي تصبّ في الرحم. (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) الخلقة الأخرى للبعث بعد الخلقة الأولى ، بإعادة الأرواح في الأجساد حين البعث.

(أَغْنى وَأَقْنى) أعطى المال من شاء ، وأفقر من شاء. (رَبُّ الشِّعْرى) الكوكب المضيء خلف الجوزاء ، يسمى العبور ، كانت طائفة من العرب تعبده في الجاهلية. (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) القدماء وهم قوم هود : وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح ، وعاد الأخرى : من ولد عاد الأولى ، وهم ثمود قوم صالح كما قال المبرد. (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) ثمود : قوم صالح ، فما أبقى أحدا منهم ، (وَثَمُودَ) بلا صرف : اسم للقبيلة ، وهو معطوف على (عاداً) وبالصرف : اسم للأب. (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي قبل عاد وثمود أهلكناهم. (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من عاد وثمود ، لأنهم مع عدم إيمانهم بنوح عليه‌السلام على مدى ألف سنة إلا خمسين عاما كانوا يؤذونه ويضربونه. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) قرى قوم لوط ، سميت بذلك ، لأنها ائتفكت بأهلها ، أي انقلبت بهم ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق. (أَهْوى) أسقطها وقلبها في الأرض بعد أن رفعها إلى السماء ، بأمر جبريل بذلك. (فَغَشَّاها) غطّاها بالحجارة وغيرها : (ما غَشَّى) ما غطّى ، أبهم ذلك تهويلا وتعميما لما أصابهم.

سبب النزول :

سبب نزول الآيات (٣٣ ـ ٤١):

قال مجاهد وابن زيد فيما أخرجه الواحدي وابن جرير : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دينه ، فعيّره بعض المشركين ، وقال : لم تركت دين الأشياخ وضللتهم ، وزعمت أنهم في النار؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ، ورجع إلى شركه ، أن يتحمل


عنه عذاب الله سبحانه وتعالى ، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل ومنعه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال السدّي : نزلت في العاص بن وائل السهمي كان ربما يوافق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الأمور.

وقال محمد بن كعب القرظيّ : نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق ، فذلك قوله تعالى : (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى).

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في غزوة ، فجاء رجل يريد أن يحمل ـ أي يركب ـ ، فلم يجد ما يخرج عليه ، فلقي صديقا له ، فقال : أعطني شيئا ، فقال : أعطيك بكري هذا على أن تتحمل ذنوبي ، فقال له : نعم ، فأنزل الله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) الآيات.

سبب نزول الآية (٤٣):

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) : أخرج الواحدي عن عائشة قالت : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوم يضحكون ، فقال : لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ، فنزل عليه جبريل عليه‌السلام بقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) فرجع إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل عليه‌السلام ، فقال : ائت هؤلاء ، وقل لهم : إن الله عزوجل يقول : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى).

المناسبة :

بعد أن بيّن الله سبحانه سعة علمه وقدرته الفائقة على إيقاع الجزاء يوم القيامة بأهل الإساءة والإحسان ، وبيّن جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر على سبيل التعجيب والتقريع نبأ واحد معين منهم بسوء فعله ، أعرض عن الايمان


والدخول في الإسلام ، بالرغم من سماع ما أنزل ، وظن أن غيره يتحمل عنه أوزاره ، مع أن جميع الشرائع كشريعة إبراهيم وموسى تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية أو الفردية ، وأن لا تتحمل نفس آثمة وزر أو ذنب نفس أخرى ، وأن ليس لكل إنسان إلا سعيه بالخير.

التفسير والبيان :

ذمّ الله تعالى ووبخ كل من تولى عن طاعة الله ، فقال :

(أَفَرَأَيْتَ (١) الَّذِي تَوَلَّى ، وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى ، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) أي أعلمت وأخبرت شأن الذي تولى عن الخير ، وأعرض عن اتباع الحق ، وأعطى قليلا من المال ، ثم أحجم عن العطاء في سبيل أن يتحمل عنه غيره وزره ، أو كما قال ابن عباس : أطاع قليلا ثم قطعه ، أفعند هذا الكافر الذي آثر الكفر على الإيمان علم ما غاب عنه من أمر العذاب ، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه أوزاره يوم القيامة؟ ليس الأمر كما يظن.

وهذا كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة ٧٥ / ٣١ ـ ٣٢] ثم ذكّره تعالى بما أجمعت عليه الشرائع من أن المسؤولية شخصية ، فقال : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي. بل أنّه لم يخبر بما جاء في أسفار التوراة ، وصحف إبراهيم الذي تمم وأكمل ما أمر به ، وأدى الرسالة على الوجه الأكمل ، كما جاء في آية أخرى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ، قالَ : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة ٢ / ١٢٤] فإنه قام بجميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، وبلّغ الرسالة على التمام والكمال ، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله.

__________________

(١) أَفَرَأَيْتَ : معناها المراد : أخبرني ، ومفعولها الأول : الَّذِي ، والثاني : جملة الاستفهام.


واكتفى بذكر صحف إبراهيم وموسى ، لأن المشركين يدّعون أنهم على ملة إبراهيم ، وأهل الكتاب يتمسكون بالتوراة ، وإنما قدم هنا صحف موسى خلافا للترتيب الزمني ، ولما جاء في سورة الأعلى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [١٨ ـ ١٩] ، لأن صحف إبراهيم كانت بعيدة ، وكانت المواعظ فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى التي هي أقرب وأشهر وأكثر.

ثم أوضح الله تعالى ما تقرر في صحف موسى وإبراهيم ، فقال :

١ ـ (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها ، فكل نفس ارتكبت جرما من كفر أو أي ذنب ، فعليها وحدها وزرها ، لا يحمله عنها أحد ، وهذا مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية أو لا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره ، كما جاء في آيات أخرى منها : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر ٣٥ / ١٨].

٢ ـ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله ، فلا يستحق أجرا عن عمل لم يعمله ، وهذا المبدأ وهو ألا يثاب أو يكافأ امرؤ إلا بعمله يقابل المبدأ السابق ، فكما لا يتحمل أحد مسئولية أو وزر غيره ، كذلك ليس له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. والمراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة وكل عمل ، فالخير مثاب عليه ، والشر معاقب به. وعبر بصيغة الماضي في قوله : (إِلَّا ما سَعى) لزيادة الحث على العمل الصالح.

ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه‌الله أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم. والمعتمد في المذاهب الأربعة أن ثواب القراءة يصل إلى الأموات ، لأنه هبة ودعاء بالقرآن الذي تتنزل الرحمات عند تلاوته ، وقد ثبت في السنة النبوية وصول الدعاء والصدقة للميت ، وذلك مجمع عليه ، روى مسلم في صحيحة والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن


ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له». قال القرطبي : وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول ، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره (١).

٣ ـ (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي إن عمله محفوظ يجده في ميزانه لا يضيع منه شيء ، وسيعرض عليه وعلى أهل المحشر يوم القيامة إشادة به ولو ما للمقصرين ، كما قال تعالى : (وَقُلِ : اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة ٩ / ١٠٥] أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٤ ـ (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي يجزى الإنسان سعيه ، ويجازى عليه جزاء كاملا غير منقوص ، فيجازى بالسيئة مثلها ، وبالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.

٥ ـ (وَأَنَ (٢) إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي أن المرجع والمصير يوم القيامة إلى الله سبحانه ، لا إلى غيره ، فيجازي الخلائق بأعمالهم على الصغير والكبير ، وهذا ترهيب وتهديد للمسيء ، وترغيب وحث للمحسن ، يستدعي التأمل في عودة العباد إلى الله يوم المعاد ، وتعرضهم للجزاء على أعمالهم ، كما جاء في آيات أخرى مثل : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس ٣٦ / ٨٣]. وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : يا بني أود ، إني رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله ، إلى الجنة أو إلى النار.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١١٤

(٢) أَنْ هذه : تحتمل الفتح والكسر.


٦ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه ، وأبكى من شاء بأن غمّه ، وخلق في عباده الضحك والبكاء والفرح والحزن وسببهما ، وهما مختلفان ، والمراد أن الله خلق ما يسر من الأعمال الصالحة ، وما يسوء ويحزن من الأعمال السيئة. وهذا دليل القدرة الإلهية. وإنما خص بالذكر هذان الوصفان ، لأنهما أمران لا يعللان ، فلا يقدر أحد تعليل خاصية الضحك والبكاء في الإنسان دون الحيوان.

٧ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي وأنه تعالى خلق الموت والحياة ، كما في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك ٦٧ / ٢] فهو سبحانه قادر على الإماتة وعلى الإحياء والإعادة.

٨ ـ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي والله هو الذي خلق الصنفين : الذكر والأنثى من كل إنسان أو حيوان ، من مني أو ماء قليل يصب في الرحم ، ويتدفق فيه ، ثم ينفخ الله الروح في النطفة ، فتصير بنية إنسانية ، أو حيوانية ، وهذا من جملة المتضادات التي ترد على النطفة ، فبعضها يخلق ذكرا ، وبعضها يخلق أنثى.

٩ ـ (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي إعادة الأرواح إلى الأجساد عند البعث ، فكما خلق الله الإنسان من البداءة ، هو قادر على الإعادة ، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. فهذا إشارة إلى الحشر.

١٠ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي وأنه وحده الذي أغنى من يشاء من عباده ، وأفقر من يشاء منهم ، حسبما يرى من الحكمة والمصلحة للخلائق ، فالإغناء والإفقار أو الإعطاء من المال والمنع منه ، كلاهما بيد الله تعالى وفي سلطانه وتصرفه.

١١ ـ (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) أي وأنه تعالى رب هذا النجم الوقاد المضيء


الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر ، ويقال له : مرزم الجوزاء أو العبور ، كانت خزاعة وحمير تعبده. وفي النجوم شعريان : إحداهما يمانية والأخرى شامية ، والظاهر ـ كما قال الرازي ـ أن المراد اليمانية ، لأنهم كانوا يعبدونها ، لذا خصت بالذكر. وأول من سن عبادتها أبو كبشة من أشراف العرب ، وكانت قريش تطلق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ابن أبي كبشة» تشبيها له به ، لمخالفته دينهم ، كما خالفهم أبو كبشة ، وكان من أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة أمه. قال أبو سفيان يوم فتح مكة حين شاهد عساكر المسلمين تمرّ عليه : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، وقال مشركو قريش : ما لقينا من ابن أبي كبشة!!

١٢ ـ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) أي وأنه تعالى أفنى قوم هود عليه‌السلام ، وهم عاد القدماء ، وهي أول أمة أهلكت بعد نوح ، ويقال لهم : عاد بن إرم بن سام بن نوح ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) [الفجر ٨٩ / ٦ ـ ٨] وكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على رسول الله ورسوله ، فأهلكهم الله (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة ٦٩ / ٦ ـ ٧]. قال المبرد : وعاد الأخرى : هي ثمود قوم صالح.

١٣ ـ (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي وأهلك ثمودا كما أهلك عادا ، ودمرهم وأخذهم بذنوبهم فما أبقى أحدا من الفريقين ، كما قال تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة ٦٩ / ٨].

١٤ ـ (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء الفريقين : عاد وثمود ، إنهم كانوا أظلم من عاد وثمود ، وأطغى منهم ، وأشد تمردا وتجاوزا للحد من الذين أتوا من بعدهم ، لأنهم بدؤوا بالظلم ، والبادئ أظلم : «ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» (١) وأما

__________________

(١) حديث صحيح رواه مسلم عن أبي عمر وجرير بن عبد الله.


كونهم أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ أمدا طويلا ، وعتوا على الله بالمعاصي ، مع طول مدة دعوة نوح لهم ، وأصروا على الكفر واستكبروا استكبارا ، مما ألجأه إلى الدعاء عليهم بقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦].

١٥ ـ (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ، فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي وأسقط وقلب مدائن قوم لوط ، بجعل عاليها سافلها ، أهواها جبريل بعد أن رفعها ، ثم أمطر الله عليهم حجارة من سجيل منضود ، فغطّاها ما غطّاها من الحجارة والعذاب على اختلاف أنواعه ، كما قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٧٣]. وسميت المؤتفكة ، لأنها ائتفكت أي انقلبت بهم ، وصار عاليها سافلها.

وهذا الأسلوب من الإبهام فيه تهويل وتفخيم للأمر الذي غشاها ، وتعميم للذي أصابهم. قال قتادة : كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان (أي ١٦٠٠٠ ألفا) فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقطران كفم الأتون.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ خصص الله سبحانه واحدا من المشركين عينه بسوء فعله للعبرة والعظة واستهجان ما فعل من معاوضة غيره في الدنيا بمال قليل ، أعطى اليسير منه ، ثم منع الباقي ، على أن يتحمل عنه آثامه يوم القيامة.

٢ ـ إن نقطة الضعف الأساسية عند هذا ، عدا سذاجة عقله الجاهلي البدائي ، هو جهله بالغيب ، لذا أنكر الله تعالى عليه مبيّنا : أعنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟!


٣ ـ ذكّره الله تعالى بما جاء في صحف إبراهيم وموسى من مبادئ عشرة هي :

الأول ـ المسؤولية الفردية أو ألا يسأل أحد عن ذنب غيره ، وهو مبدأ : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

الثاني ـ كل إنسان وعمله ، وكل امرئ وعطاؤه ، ولا ثواب إلا بالعمل والنية الصالحة.

الثالث ـ العمل ذو أثر دائم ، محفوظ في ميزان العامل ، لا يضيع منه شيء ، خيرا كان أو شرا.

الرابع ـ يجازى كل إنسان على عمله وسعيه جزاء أوفر ، السيئة بمثلها ، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.

الخامس ـ إن مصير أو مردّ جميع الخلائق إلى الله عزوجل ، فيعاقب المسيء ، ويثيب المحسن.

السادس ـ خلق الله تعالى الضحك والبكاء ، والسرور والحزن ، وإن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان.

السابع ـ إن الله تعالى خلق الموت والحياة وأسبابهما.

الثامن ـ خلق الله سبحانه الصنفين المتضادين : الذكر والأنثى من شيء واحد هو النطفة : وهي الماء القليل.

التاسع : الله تعالى هو القادر على إعادة الأرواح إلى الأجساد للبعث ، وهذا هو الحشر.


العاشر ـ أوجد الله تعالى التفاوت في الأرزاق بين الناس ، فأغنى من شاء وأفقر من شاء.

والمبادئ الخمسة الأخيرة دالة على قدرة الله عزوجل ، وقد أكّدها تعالى بإيراد أمثلة أو نماذج خمسة أخرى دالة على القدرة وهي :

الأول ـ الله سبحانه هو رب الشّعرى : وهو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر ، وهما الشعريان : العبور التي في الجوزاء ، والشّعرى الغميصاء التي في الذراع ، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى ، وإن كان ربا لغيره من سائر النجوم ، لأن العرب كانت تعبده وهم حمير وخزاعة.

الثاني ـ أهلك الله تعالى قوم عاد العتاة الأشداء الجبارين بريح صرصر عاتية.

الثالث ـ أهلك الله عزوجل أيضا ثمود قوم صالح بالصيحة لتمردهم وبغيهم.

الرابع ـ أهلك الله سبحانه قوم نوح من قبل عاد وثمود ، الذين كانوا أظلم وأطغى ، لطول مدة نوح فيهم ، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه ، فينطلق إلى نوح عليه‌السلام ، فيقول : احذر هذا ، فإنه كذّاب ، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا ، وقال لي مثل ما قلت لك ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه.

الخامس ـ دمّر الله مدائن قوم لوط عليه‌السلام ، ائتفكت بهم ، أي انقلبت وصار عاليها سافلها ، وألبسها ما ألبسها من الحجارة ، قال الله تعالى : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر ١٥ / ٧٤].


الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول والتحذير من أهوال القيامة

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

الإعراب :

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ كاشِفَةٌ) : إما أن الهاء فيه للمبالغة ، كعلامة ونسّابة ، أو تكون كاشفة بمعنى كشف ، كخائنة بمعنى خيانة.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) قرئ بإدغام الثاء في التاء لقربهما في المخرج ، وأنهما مهموسان من حروف طرف اللسان ، وأدغمت الثاء في التاء ، لأنها أزيد صوتا ، والأنقص صوتا يدغم فيما هو أزيد صوتا.

البلاغة :

(تَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) بينهما طباق.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) جناس الاشتقاق.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) مراعاة الفواصل أو ما يسمى بالسجع.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) عطف العام على الخاص.

المفردات اللغوية :

(آلاءِ) نعم ، جمع إلى (بالفتح والكسر) وإلي. (تَتَمارى) تتشكك وتمتري ومعنى الآية : بأي أنعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإنسان؟ والخطاب للإنسان ، فالخطاب عام ، وهو ابتداء كلام ، كأنه يقول : بأي النعم أيها السامع تشكّ أو تجادل؟


(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة ، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين ، أي إنه رسول كالرسل قبله ، أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) قربت القيامة أو دنت الساعة ، كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر ٥٤ / ١]. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي ليس لها نفس من غير الله قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله ، أي لا يكشفها ويظهرها إلا هو ، كقوله تعالى : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف ٧ / ١٨٧] إذ لا يطلع عليها سواه ، فقوله : (كاشِفَةٌ) أي نفس تكشف وقت وقوعها وتبيّنه ، لأنها من المغيبات. والتاء للتأنيث ، لتأنيث الموصوف المحذوف ، أي نفس قادرة على كشفها إذا وقعت ، لكنه سبحانه لا يكشفها. (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) القرآن. (تَعْجَبُونَ) إنكارا وتكذيبا. (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء.

(وَلا تَبْكُونَ) حزنا على ما فرطتم ، وعند سماع وعد الله ووعيده. (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) لاهون وغافلون ومعرضون عما يطلب منكم. (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) الذي خلقكم ، أي إذا اعترفتم لله بالعبودية ، فاخضعوا له. (وَاعْبُدُوا) اعبدوه دون الآلهة المزعومة كالأصنام ، وأقيموا وظائف العبادة.

المناسبة :

لمّا عدّ الله تعالى نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه ، ثم ذكر أمثلة على قدرته بإهلاك من كفر بتلك النعم ، وأن الإحياء والإماتة بيد الله ، وبّخ الإنسان على جحد شيء من نعم الله ، فيصيبه مثل ما أصاب الشاكّين المتمارين المجادلين بالباطل. ثم ذكّره بإنذار القرآن والرسول. وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة ، ختم السورة ببيان اقتراب الحشر : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) وحذّر من إنكار القرآن وتكذيبه ، ومن التفريط بما جاء فيه ، والغفلة والإعراض عن مواعظه وحكمه ، ودعا إلى الانقياد التام لله عزوجل ، وعبادته وحده لا شريك له بإتقان وإخلاص.

التفسير والبيان :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب


تتشكك وتمتري؟ مثل قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن ٥٥ / ١٣]. وهذا ابتداء كلام والخطاب عام لكل إنسان. والمراد بالنعم ما عدده سابقا من الخلق والإغناء وخلق السماء والأرض وما فيهما من نعم مخلوقة للإنسان.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي هذا القرآن أو الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذير محذوف محذّر من جملة النذر المتقدمة ، فالقرآن منذر كالكتب السماوية السابقة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول إليكم كالرسل المتقدمين قبله ، فإنه أنذركم كما أنذروا أقوامهم ، كما قال تعالى : (قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ٤٦ / ٩] وقال سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ ٣٤ / ٤٦] وفي الحديث الثابت : «أنا النذير العريان» (١) أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا ، وبادر إلى إنذار قومه ، وجاءهم عريانا مسرعا.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت ودنت الساعة الموصوفة بالقرب في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر ٥٤ / ١] وقوله : (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة ٥٦ / ١] وقوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء ٢١ / ١] وقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى ٤٢ / ١٧] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم ، وأنها تكاد تقوم ، فالآية إشارة إلى القيامة لإثبات الأصول الثلاثة على الترتيب : الأصل الأول وهو الله ووحدانيته بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) ، ثم الرسول والرسالة بقوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ) ثم الحشر والقيامة بقوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ). وجاء في الحديث الذي رواه أحمد عن سهل بن سعد : «مثلي ومثل الساعة كهاتين» وفرّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام. وروى أحمد أيضا والشيخان عن سهل بن سعد قال : سمعت

__________________

(١) شبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه بهذا الرجل ، قال ابن السّكيت : هو رجل من خثعم حمل عليه يوم ذي الخلصة عوف بن عامر ، فقطع يده ويد امرأته (النهاية لابن الأثير : ٣ / ٢٢٥).


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه : السبابة والوسطى.

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي ليس هناك على الإطلاق نفس قادرة على كشفها وإظهارها والاعلام بها إلا الله تعالى ، لأنها من أخفى المغيبات ، فاستعدوا لها قبل مجيئها بغتة وأنتم لا تشعرون ، فهو كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان ٣١ / ٣٤] وقوله سبحانه : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف ٧ / ١٨٧].

أو : ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا غشيت الخلق بشدائدها وأهوالها غير الله ، والأولى أن يقال : ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها ، كما ذكر القرطبي.

ثم أنكر الله على المشركين وأمثالهم ووبخهم لإنكار القرآن وتكذيبه ، فقال :

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي كيف تعجبون من أن يكون القرآن صحيحا ، تكذيبا منكم ، وتضحكون منه استهزاء ، وتسخرون من آياته ، مع كونه غير محل لذاك ، ولا تبكون كما يفعل الموقنون ، وأنتم لاهون عنه ، غافلون معرضون ، أو مستكبرون عنه؟! فهذا استفهام توبيخ.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي اسجدوا أيها المؤمنون شكرا على الهداية واخضعوا له ، واشتغلوا بالعبادة ، وأخلصوا ووحدوا ، فإنه تعالى المستحق لذلك منكم.

وقد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية ، وسجد معه المسلمون والكفار ، أخرج البخاري عن ابن عباس قال : سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة سورة


النجم ، فسجد وسجد من عنده ، فرفعت رأسي ، فأبيت أن أسجد ـ ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب ـ فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ يستنكر الحق سبحانه على الإنسان المكذّب في أي زمان كان تشككه ومماراته وجداله في آلاء الله ونعمه العديدة ، بعد أن أبان القرآن الكريم بعضا منها كالخلق والرزق والإغناء والصحة وتسخير الكون كله لمصالح الإنسان ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة ٢ / ٢٩].

٢ ـ إن القرآن العظيم نذير بما أنذرت به الكتب الأولى ، وكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله ، فإن أطاعه الناس أفلحوا ونجوا. وهذا مطابق أيضا لما في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما.

٣ ـ لقد قربت الساعة ودنت القيامة : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) يعني القيامة ، سماها آزفة لدنّوها من الناس ، وقربها منهم ، ليستعدوا لها ، لأن كل ما هو آت قريب.

وليس للآزفة أو القيامة من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها.

٤ ـ وبّخ الله المشركين تعجبهم تكذيبا بالقرآن ، وضحكهم استهزاء بآياته ، وعدم بكائهم انزجارا وخوفا من الوعيد ، ولهوهم وإعراضهم عن كتاب الله تعالى.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسّما ، وقال أبو هريرة فيما ذكره القرطبي : لما نزلت : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) قال


أهل الصّفّة : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكاءهم ، بكى معهم ، فبكينا لبكائه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يلج النار من بكى من خشية الله ، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية الله ، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم ، إنه هو الغفور الرحيم».

وقال أبو حازم : نزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده رجل يبكي ، فقال له : من هذا؟ قال : هذا فلان ، فقال جبريل : إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء ، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم.

٥ ـ أمر الله بالسجود له والخضوع لجلاله وعظمته شكرا على الهداية ، وبالاشتغال بالعبادة. قال ابن مسعود ، وبه أخذ أبو حنيفة والشافعي : المراد بقوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) سجود تلاوة القرآن. وقد تقدم أول السورة وفي تفسيرها من حديث ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقال ابن عمر : المراد سجود الفرض في الصلاة ، أي إنه كان لا يراها من عزائم السجود ، وبه قال مالك ، قال القرطبي : والأول أصح.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القمر

مكيّة ، وهي خمس وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة القمر ، لافتتاحها بالخبر عن انشقاق القمر ، معجزة لنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مناسبتها لما قبلها :

تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث هي :

١ ـ اتفاق خاتمة السورة السابقة وفاتحة هذه السورة حول إعلان قرب القيامة ، فقال تعالى في سورة (النجم) : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧) وقال في هذه السورة : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب ، وهو قوله : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). جاء في الصحيحين عن أنس : «أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، فانشق القمر مرتين».

٢ ـ تناسب التسمية وحسن التناسق ، لما بين النجم والقمر من تقارب ، كما في توالي سورة الشمس ، والليل ، والضحى ، ومن قبلها سورة الفجر.

٣ ـ فصلت هذه السورة أحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم بسبب تكذيب رسلهم في السورة المتقدمة في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ، وَثَمُودَ فَما


أَبْقى ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) (٥٠ ـ ٥٣). وهذا يشابه الأعراف بعد الأنعام ، والشعراء بعد الفرقان ، والصافات بعد يس.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر السور المكية لتقرير أصول العقيدة الإسلامية ، بدءا من إنزال القرآن بالوحي وتهديد المكذبين بآياته ، وانتهاء بالجزاء الحتمي يوم القيامة ومشاهد عذاب الكفار ، وأنواع ثواب المتقين وتكريمهم.

أخبرت السورة أولا بقرب وقت القيامة ودليل ذلك وهو انشقاق القمر الذي هو أحد المعجزات الكبرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وموقف المشركين من تلك المعجزة ووصفها بأنها سحر مفترى ، وغفلتهم عما في القرآن من الزواجر.

وتلا ذلك أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم ، وإنذارهم بحشرهم أذلة مسرعين كالجراد المنتشر ، بعبارات تهز المشاعر ، وتثير المخاوف ، وتملأ النفس رعبا وفزعا من أهوال القيامة.

ثم أنذرت كفار مكة بعذاب مشابه لعذاب الأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون جزاء على تكذيبهم الرسل ، وأفردت كل قصة عن الأخرى ، وعقبتها بعبارة مخيفة تدعو للعجب وهي : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟!) وقرنها بقوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

ثم وبخت مشركي قريش على غفلتهم عن هذه النذر ، وحذرتهم مصرعا مماثلا لمصارع أولئك الأقوام ، وهو القتل والهزيمة في الدنيا ، وعذاب الآخرة الأدهى والأمرّ ، الذي يصاحبه الذل والمهانة بالسحب على وجوههم في النار ، فهم في ضلال وسعر.


وختمت السورة ببيان ظاهرة التوازن في خلق الأشياء ، وسرعة نفاذ أمر الله ومشيئته كلمح البصر ، وضرورة العظمة والتذكر بهلاك الطغاة ، ورصد جميع أعمال البشر في سجلات محفوظة ، وتبشير المتقين بالجنات والكرامات عند ربهم المليك المقتدر.

والخلاصة : أن السورة حافلة بالوعد والوعيد ، والعظات والعبر بأخبار الماضين ، وتهديد الكفار بعقاب مماثل ، وإكرام المتقين في جنات ونعيم.

فضل السورة :

تقدم في فضل سورة ق إيراد حديث أبي واقد الليثي فيما يرويه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر» وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار كالجمع والعيد ، لاشتمالها على ذكر الوعد والوعيد ، وبدء الخلق وإعادته ، والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة.

انشقاق القمر وموقف المشركين منه

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))


الإعراب :

(ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أصله «مزتجر» بوزن مفتعل من الزجر ، وإنما أبدلت التاء دالا ، لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة ، فأبدلوا من التاء دالا ، لتوافق الزاي في الجهر. وهو اسم مصدر أو اسم مكان. و (ما) اسم موصول أو نكرة موصوفة. والجار والمجرور : (مِنَ الْأَنْباءِ) متعلق بمحذوف حال مقدم من (ما). (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) : (حِكْمَةٌ) : إما بدل مرفوع من (ما) في قوله تعالى : (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) و (ما) : مرفوعة فاعل : «جاء» ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي حكمة بالغة. و (فَما) في قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) : إما استفهامية استفهام إنكاري ، في موضع نصب ب (تُغْنِ) أي ، أيّ شيء تغني النذر ، أو نافية على تقدير حذف مفعول (تُغْنِ) وتقديره : فما تغني النذر سيئا. وحذفت ياء «تغني» وواو «يدعو» اتباعا لخط المصحف ، لأنه كتب على لفظ الوصل ، لا على لفظ الوقف. (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ناصب يوم : يخرجون الآتي بعده.

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ خُشَّعاً) : حال منصوب من ضمير (عَنْهُمْ) في قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وكذلك قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ) حال منصوب من ضمير (عَنْهُمْ).

البلاغة :

(يَدْعُ الدَّاعِ) بينهما جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قربت القيامة ودنت. (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) روى الشيخان أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، فانشق القمر ، أي انفلق فلقتين على أبي قبيس وقعيقعان. (وَإِنْ يَرَوْا) أي كفار قريش. (آيَةً) معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم دالة على نبوته. (وَيَقُولُوا : سِحْرٌ) أي هذا سحر. (مُسْتَمِرٌّ) محكم قوي ، من المرّة وهي القوة ، أو دائم مطرد. (وَكَذَّبُوا) النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ما زيّن لهم الشيطان من الوساوس ورد الحق بعد ظهوره. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي وكل أمر من الخير والشر منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا ، وشقاوة أو سعادة في الآخرة ، وبعبارة أخرى : كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها ، وقرئ بفتح القاف. (مُسْتَقِرٌّ) أي ذو استقرار ، أو له زمان استقرار أو موضع استقرار ، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان.

(الْأَنْباءِ) أخبار الأمم الماضية وما أصابهم من عذاب أو إهلاك لتكذيبهم الرسل. (مُزْدَجَرٌ) ما يزجرهم ويكفيهم ، يقال : زجرته وازدجرته : نهيته بغلظة ، أو كففته فانكف.


(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) تامة ، واصلة غاية الإحكام والإبداع ، لا خلل فيها. (تُغْنِ) تفيد وتنفع. (النُّذُرُ) المنذرون ، جمع نذير بمعنى منذر ، أو الأمور المنذرة لهم ، جمع المنذر منه ، أو مصدر بمعنى الإنذار.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أعرض عنهم ولا تجادلهم ، لعلمك أن الإنذار لا ينفع ولا يغني فيهم. (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) يوم ينادي إسرافيل. (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) إلى شيء شديد الهول تنكره النفوس إذ لا عهد لها مثله. (خُشَّعاً) أذلة ، جمع خاشع ، أي ذليل ، ويقرأ خشعا بضم الخاء وفتح الشين ، أي مشددة. (الْأَجْداثِ) القبور جمع جدث. (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة ، والجراد : حيوان طائر معروف يأكل النبات ، والمنتشر : الكثير. (مُهْطِعِينَ) مسرعين ، مادّين أعناقهم ، منقادين. (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) يوم صعب شديد على الكافرين ، كما في قوله تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر ٧٤ / ٩ ـ ١٠].

سبب النزول :

نزول الآية (١ ـ ٢):

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ...) : أخرج الشيخان والحاكم ـ واللفظ له ـ عن ابن مسعود قال : رأيت القمر منشقا شقين بمكة ، قبل مخرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : سحر القمر ، فنزلت : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

وأخرج الترمذي عن أنس قال : سأل أهل مكة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، فانشق القمر بمكة ، مرتين ، فنزلت : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إلى قوله : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).

وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال : انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة ، سحركم ، فاسألوا السّفّار ، فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأينا ، فأنزل الله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).


التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن اقتراب القيامة وانتهاء الدنيا ، فيقول :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي قربت القيامة ودنت ، واقترب موعد انقضاء الدنيا ، أي قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة ، كما قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل ١٦ / ١] وقال سبحانه : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١]. وروى أبو بكر البزّار عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب أصحابه ، وقد كادت الشمس أن تغرب ، فلم يبق منها إلا سفّ يسير ، فقال : «والذي نفسي بيده ، ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ، فيما مضى منه ، وما نرى من الشمس إلا يسيرا».

ويعضده ما أخرجه أحمد والشيخان عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه : السبابة والوسطى. وقيل : المراد تحقق وقوع الساعة.

ثم أخبر الله تعالى عن انشقاق القمر معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وقد انشق القمر معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها. قال ابن كثير : قد كان هذا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة ، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات (١). وقرب القيامة بالرغم من مضي أكثر من أربعة عشر قرنا باعتبار أن كل ما هو آت قريب.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس أن أهل مكة سألوا

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٦١


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين ، حتى رأوا حراء (جبل مشهور بمكة) بينهما.

وأخرجا أيضا عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقتين : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشهدوا».

وقيل : المراد الإخبار عن أنه سينشق القمر.

ثم أخبر الله تعالى عن موقف الكفار وعنادهم أمام هذه المعجزة ، فقال :

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ، وَيَقُولُوا : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي وإن ير المشركون علامة على النبوة ودليلا على صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها ، ويولوا مكذبين بها قائلين : هذا سحر قوي شديد يعلو كل سحر ، مأخوذ من قولهم : استمرّ الشيء : إذا قوي واستحكم ، وقيل : مستمر ، أي دائم مطرد.

وهذا ردّ على المشركين الذين طالبوا بآية ، قال المفسرون : لما انشق القمر ، قال المشركون : سحرنا محمد ، فقال الله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) يعني انشقاق القمر. ثم أكد تعالى موقفهم هذا بقوله :

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أملته عليه أهواؤهم وآراؤهم في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر أو كاهن ، بسبب جهلهم وسخافة عقولهم. ثم هددهم تعالى وأخبرهم بأن كل أمر منته إلى غاية مماثلة له ، فالخير يستقر بأهل الخير ، والشر يستقر بأهل الشرّ ، فقوله : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) استئناف للرد على الكفار في تكذيبهم ، ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك ، لأن كل أمر له غاية حتما ، وسينتهي أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غاية يظهر فيها أنه على حق ، وهم على باطل.

وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبشير له بأن النصر سيكون حليفه في الدنيا ، وأن له ولأتباعه الدرجة العالية والجنة في الآخرة.


ثم وبخهم الله على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم ، فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ولقد جاء كفار مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها ، وما حل بهم من العقاب والنكال في هذا القرآن ما فيه كفاية لكفهم عن السوء ، وزجر وردع ووعظ عما هم فيه من الشرك والوثنية والعصيان والتمادي في التكذيب.

ووصف الله تعالى تلك الأنباء بقوله :

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ، فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أي إن هذه الأنباء في القرآن وما تضمنته من عبرة وعظة وهداية حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان ، ليس فيها نقص ولا خلل ، ولا تفيد النذر أو الإنذارات شيئا للمعاندين ، فإن عنادهم يصرفهم عن الحق ، فتكون «ما» نافية ، ويصح أن تكون استفهاما إنكاريا ، بمعنى أي غناء أو شيء تغني النذر أي الإنذارات لهؤلاء الكفار الطغاة؟ فإنك أيها النّبي أتيت بما عليك من الإخبار بالنبوة مقرونة بالآية الباهرة ، وأنذرتهم بأحوال الأقدمين ، فلم يفدهم شيئا.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس ١٠ / ١٠١].

ثم أمر الله نبيه بالإعراض عن مجادلتهم بعدئذ ، فقال :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي أعرض عنهم يا محمد ، ولا تتعب نفسك بدعوتهم ، حيث لم يؤثر فيهم الإنذار ، وانتظرهم واذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يدعو فيه إسرافيل إلى شيء فظيع تنكره نفوسهم ، استعظاما له ، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا ، وهو موقف الحساب الرهيب وما فيه من البلاء والأهوال.


(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي يوم يكون أولئك الكفار في ذلك اليوم ذليلة أبصارهم من الذل والهوان ، يخرجون من القبور على هذه الحال من الذل ، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وانتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر منبثّ في الآفاق ، مختلط بعضه ببعض.

وهذا كقوله تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة ١٠١ / ٤].

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ، يَقُولُ الْكافِرُونَ : هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي مسرعين إلى الداعي ، وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر ، يقول الكفار : هذا يوم صعب شديد الهول على الكفار ، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين.

ونظير الآية : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر ٧٤ / ٩ ـ ١٠]. وهذا يدل بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ اقتراب موعد يوم القيامة ، فكل آت قريب ، وإن مرور عشرات القرون بعد نزول هذه الآية وأمثالها لا يعد شيئا في حساب عمر الدنيا الذي قدّر بخمسة مليارات سنة.

٢ ـ حدوث انشقاق القمر بمكة في عهد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة له ، قال القرطبي : وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة ، وهو ظاهر التنزيل ، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها ، لأنها كانت آية ليلية ، وأنها كانت


باستدعاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله تعالى عند التحدي (١).

وقال الرازي : وأما المؤرخون فتركوه ، لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم ، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر ، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر ، فتركوا حكايته في تواريخهم ، والقرآن أدل دليل ، وأقوى مثبت له ، وإمكانه لا يشك فيه ، وقد أخبر عنه الصادق ، فيجب اعتقاد وقوعه (٢).

والقائلون بأن الأخبار الواردة بشأن انشقاق القمر أخبار آحاد غير متواترة يرون أن منكر ذلك لا يكفر ، لعدم التواتر في السنة ، وكون الآية ليست نصا في ذلك.

٣ ـ دلّ قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) على أن المشركين رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين ، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر فرقتين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي المشركين : «يا فلان ، يا فلان اشهدوا». ويؤيده حديث ابن مسعود المتقدم في سبب النزول.

٤ ـ لم يجد المشركون طريقا لتكذيب آية الانشقاق إلا بأن يصفوه بأنه سحر محكم قوي شديد ، من المرّة وهي القوة ، أو دائم نافذ مطرد ، أو ذاهب ، من قولهم : مرّ الشيء واستمر : إذا ذهب.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٢٦

(٢) تفسير الرازي : ٢٩ / ٢٨


٥ ـ لقد كذبوا نبيهم واتبعوا ضلالاتهم واختياراتهم وآراءهم الباطلة في أن انشقاق القمر خسوف عرضي للقمر.

٦ ـ هددهم الله تعالى بأن كل أمر مستقر ، أي يستقر بكل عامل عمله ، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة ، والشرّ مستقرّ بأهله في النار ، وكل أمر صائر إلى غاية ، وأن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيصير إلى حدّ يعرف منه حقيقته ، وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان.

٧ ـ لقد أعذر من أنذر ، وجاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه ، وأخبرهم الرسول باقتراب القيامة ، وأقام الدليل على صدقه ، ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة.

٨ ـ الأنباء التي في القرآن الكريم أو القرآن نفسه حكمة بالغة النهاية في الكمال والبيان.

٩ ـ إذا كذّب الكفار وخالفوا وعاندوا وأصروا على كفرهم ، فليست تغني عنهم النذر ، فتكون «ما» نافية في قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ). ويجوز أن تكون استفهاما بمعنى التوبيخ ، أي فأي شيء تغني النذر عنهم ، وهم معرضون عنها؟! والنذر بمعنى الإنذار ، أو جمع نذير.

١٠ ـ إذا كان هذا شأن الكفار ، فأعرض يا محمد عن مجادلتهم ومحاجتهم ، ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم ، واذكر يوم يدع الداعي : إسرافيل إلى شيء فظيع عظيم شديد تنكره نفوسهم لشدة أهواله ، وهو موقف الحساب ويوم القيامة.

١١ ـ في يوم القيامة يخرج الكفار من قبورهم ذليلة أبصارهم ، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وتموجهم جراد منتشر مبثوث في كل مكان. وقال تعالى في آية أخرى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة ١٠١ / ٤]. قال القرطبي : فهما صفتان في وقتين مختلفين :


أحدهما ـ عند الخروج من القبور ، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، فيدخل بعضهم في بعض ، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض ، لا جهة يقصدها.

الثاني ـ فاذا سمعوا المنادي قصدوه ، فصاروا كالجراد المنتشر ، لأن الجراد له جهة يقصدها.

وهم في سيرهم مهطعون ، أي مسرعون ، ويقولون : إن يوم القيامة يوم صعب عسر ، لما ينالهم فيه من الشدة.

إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل

ـ ١ ـ

قصة قوم نوح عليه‌السلام

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

الإعراب :

(فَالْتَقَى الْماءُ) أراد بالماء الجنس ، ولو لم يرد ذلك لقال : الماءان : ماء السماء ، وماء الأرض. والأصل في الماء : موه ، لقولهم في تكسيره : أمواه ، وفي تصغيره : مويه ، لأن التصغير


والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وأبدلت من الهاء همزة ، فصار : «ماء».

(جَزاءً) منصوب بفعل مقدر ، أي أغرقوا انتصارا ، أو عقابا.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أصل (مُدَّكِرٍ) مذتكر بوزن مفتعل ، من الذكر ، إلا أن الذال مجهورة والتاء مهموسة ، فأبدلوا من التاء حرفا من مخرجها يوافق الذال في الجهر ، وهي الدال ، وأدغمت الذال في الدال لتقاربها ، فصار مدكر. ويجوز أن تدغم الدال في الذال ، فيقال : مذّكر ، وقد قرئ به.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ فَكَيْفَ) : إما خبر (كانَ) إن كانت ناقصة ، و (عَذابِي) : وهو مصدر بمعنى الإنذار ، أو جمع نذير ، كرغيف ورغف.

البلاغة :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) استعارة تمثيلية ، شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء. (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) كناية عن السفينة التي تتركب من الأخشاب والمسامير.

المفردات اللغوية :

(كَذَّبَتْ) بالرسل. (قَبْلَهُمْ) قبل قومك قريش. (قَوْمُ نُوحٍ) تأنيث الفعل المعنى (قَوْمُ). (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا ، وهو تفصيل بعد إجمال. (وَازْدُجِرَ) أي زجر عن التبليغ بأنواع الأذى من السبّ وغيره.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي) أي بأني. (مَغْلُوبٌ) غلبني قومي. (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم ، وذلك بعد يأسه منهم ، فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه ، حتى يخرّ مغشيا عليه ، فيفيق ، ويقول : اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون.

(مُنْهَمِرٍ) منصب ، كثير. (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون ، وأصله : فجرنا عيون الأرض ، أي جعلناها تنبع ، فغيّر للمبالغة. (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السماء وماء الأرض. (عَلى أَمْرٍ) على حال (قَدْ قُدِرَ) قضي به في الأزل ، وهو هلاكهم غرقا. (وَحَمَلْناهُ) حملنا نوحا. (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) حملناه على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير ، والدسر : جمع دسار مثل كتب وكتاب ، والمراد أن السفينة ذات دفع شديد. (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا ، والمراد بحراستنا وحفظنا. (جَزاءً) أي أغرقوا عقابا. (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) جحد به ، وهو نوح عليه‌السلام ، أي أغرقوا عقابا لهم ، وقرئ : (كُفِرَ) أي جزاء للكافرين.


(وَلَقَدْ تَرَكْناها) أبقينا السفينة أو الفعلة. (آيَةً) علامة ودليلا لمن يعتبر بها. (مُدَّكِرٍ) أي متذكر معتبر ومتعظ. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي إنذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله ، وهو استفهام تعظيم ووعيد ، وتقرير ، والمعنى : حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذاب الله تعالى بالمكذبين لنوح موقعه. (يَسَّرْنَا) سهلنا. (لِلذِّكْرِ) للعظة والاعتبار. (مُدَّكِرٍ) متعظ بمواعظه.

المناسبة :

بعد أن أجمل الله تعالى الزجر بأخبار الأمم الماضية المكذبة رسلها ، أعاد بعض الأنباء وفصلها ، وهي قصص أربع : قصة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط لهدفين : بيان أن حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كحال الرسل المتقدمين مع أقوامهم ، ووعيد المشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا ، وَقالُوا : مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) أي كذبت قبل قومك يا محمد بالرسل قوم نوح ، فإنهم كذبوا عبدنا نوحا عليه‌السلام ، واتهموه بالجنون ، وانتهروه وزجروه وتواعدوه عن تبليغ الدعوة بمختلف أنواع الإيذاء والسبّ والتخويف ، قائلين : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١١٦].

وفائدة قوله : (فَكَذَّبُوا (١) عَبْدَنا) بعد قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) هي التخصيص بعد التعميم ، أي كذبت الرسل أجمعين ، فلذلك كذبوا نوحا. وقوله : (عَبْدَنا) تشريف وتنبيه على أنه هو الذي حقق المقصود من الخلق وقتئذ ، ولم يكن على وجه الأرض حينئذ عابد لله سواه ، فكذبوه.

__________________

(١) الفاء : فاء تفصيل وتفريع.


(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي فدعا نوح الله ربّه قائلا : إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء ، فانتصر أنت لدينك ، وانتقم لي منهم بعقاب من عندك.

وقد طلب النصرة عليهم ، بعد أن علم تمردهم وعتوهم وإصرارهم على الضلال. فأجاب الله دعاءه قائلا :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ (١) مُنْهَمِرٍ) أي صببنا عليهم ماء غزيرا كثيرا متدفقا. وهذا التعبير مجاز عن كثرة انصباب الماء من السماء ، كما يقال في المطر الوابل : جرت ميازيب السماء ، وفتحت أبواب القرب.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي وجعلنا الأرض كلها عيونا متفجرة وينابيع متدفقة ، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم ، أي على أمر مقدر عليهم من الأزل ، لما علم الله من حالهم.

وهذا دليل على عقابهم والانتقام منهم ، ثم ذكر تعالى كيفية إنجاء نوح ، فقال :

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي وحملنا نوحا على سفينة (ذاتِ أَلْواحٍ) : وهي الأخشاب العريضة ، (وَدُسُرٍ) : وهي المسامير التي تشد بها الألواح. وهذا الإيجاز من فصيح الكلام وبديعه.

ونظير الآية قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت ٢٩ / ١٥].

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي تسير بمنظر ومرأى منا وحفظ وحراسة لها ، جزاء لهم على كفرهم بالله ، وانتصارا لنوح عليه‌السلام ، لأنه نعمة من الله ، وتكذيبه كفران أو جحود لتلك النعمة.

__________________

(١) الباء للآلة نحو فتحت الباب بالمفتاح ، يفتح الله لك بخير.


وهذا دليل على أن اتخاذ الأسباب لتحقيق النتائج أمر ضروري ، وهو أيضا محتاج إلى رعاية الله وعنايته وحفظه.

ثم ذكر الله تعالى أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم ، فقال :

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي لقد أبقينا السفينة عبرة للمعتبرين ، أو لقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وعظة ، فهل من متعظ ومعتبر ، يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها.

قال قتادة : أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة ، وعقب عليه الحافظ ابن كثير قائلا : والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفينة ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) [يس ٣٦ / ٤١ ـ ٤٢] ، وقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١١ ـ ١٢] (١) ولهذا قال ها هنا :

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟!

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظر أيها السامع كيف كان عذابي لمن كفر بي ، وكذّب رسلي ، ولم يتعظ بما جاءت به نذري المرسلون ، وكيف انتصرت لهم ، وأخذت لهم بالثأر ، أو كيف كانت إنذاراتي؟ والاستفهام للتوبيخ والتخويف ، وإنما أفرد العذاب فلم يقل : أنواع عذابي ، وجمع النذر ، إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب ، لأن الإنذار إشفاق ورحمة.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي لقد سهلناه

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٦٤


للحفظ ، وسهلنا لفظه للنطق ، ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس ، فهل من متعظ بمواعظه ، ومعتبر بعبره؟! والأولى أن يقال : سهلناه للتذكر والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية.

وفي الآية الحث على درس القرآن ، والاستكثار من تلاوته ، والمسارعة في تعلّمه ، كما قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ ، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص ٣٨ / ٢٩] ، وقال سبحانه : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم ١٩ / ٩٧]. قال ابن عباس : لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عزوجل.

والحكمة في تكرير قوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ...) هي تجديد التنبيه على الادّكار والاتعاظ والتعرف على تعذيب الأمم السالفة ، للاعتبار بحالهم. وهكذا حكم التكرير في سورة الرحمن عند عدّ كل نعمة ، وفي سورة المرسلات عند عدّ كل آية ، لتكون مصوّرة للأذهان ، محفوظة في كل أوان. وهذه القصص نفسها كم كررت في القرآن بعبارات مختلفة أوجز وأطنب ، لأن التكرير يوجب التقرير في النفوس ، والتذكير ينبه الغافل على أن كل موضع مختص بمزيد فائدة لم يعرف من غيره (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كان نوح عليه‌السلام في وقته ومبدأ دعوته العابد الوحيد لله عزوجل ، وكان قومه أول المكذبين للرسل ، لذا شرفه الله تعالى بقوله : (عَبْدَنا) فالإضافة إلى الله تشريف منه ، واختيار لفظ العبد أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله : رسولنا.

__________________

(١) غرائب القرآن للنيسابوري : ٢٧ / ٥٢


٢ ـ وصفوه بأنه مجنون إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه ، حيث رأوا ما عجزوا عنه. وأخبر تعالى عنه : (وَازْدُجِرَ) دليل على الحجر عليه ومنعه من تبليغ دعوته بالسبّ والوعيد بالقتل. ويصح أن يكون ذلك حكاية قولهم ، وتقديره : قالوا : مجنون مزدجر ، ومعناه ازدجره الجن ، قال الرازي : والأول أصح.

٣ ـ لما زجروه وانزجر عن دعوتهم دعا ربّه : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي غلبوني بتمردهم فانتصر لي.

٤ ـ أجاب الله دعاءه ، وأمره باتخاذ السفينة ، ثم أغرقهم بالطوفان بماء كثير منصب متدفق من السحب ، وماء نابع من الأرض فالتقى الماءان : ماء السماء وماء الأرض على حال قدرها الله وقضى بها من الأزل ، لعلمه بتكذيبهم.

٥ ـ ونجى الله نوحا عليه‌السلام ومن آمن معه بحملهم على سفينة ذات ألواح شدت بمسامير ، وفي حفظ الله ورعايته وكلاءته ، وقد جعل الله ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه الذين جحدوا برسالته ، وعقابا للكافرين على كفرهم بالله تعالى.

٦ ـ لقد ترك الله هذه الغفلة أو السفينة عبرة ، فهل من متعظ خائف؟! قال قتادة : أبقاها ـ أي السفينة ـ الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة كانت بعدها ، فصارت رمادا.

٧ ـ عقب الله تعالى على القصة بأمرين : أولهما ـ فكيف كان العذاب والإنذار؟ تنبيها عاما للخلق. وثانيهما ـ لقد سهل الله القرآن الكريم للاتعاظ والادّكار ، أو للحفظ وأعان عليه من أراد حفظه. قال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن.


وهذا يدل على أن الله تعالى يسّر على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكّروا ما فيه ، فهل من قارئ يقرؤه ، ومتذكر متعظ يتذكّر به ويتعظ؟ وكرر ذلك في هذه السورة للتنبيه والإفهام ، كما تقدم.

ـ ٢ ـ

قصة عاد قوم هود عليه‌السلام

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

الإعراب :

(رِيحاً صَرْصَراً) صرصر : أصله صرّر ، إلا أنه اجتمعت ثلاث راءات ، فأبدلوا من الراء الثانية صادا ، كما قالوا : رقرقت ، وأصله رققت ، فاجتمع فيه ثلاث قافات ، فأبدلوا من القاف الوسطى راء ، هربا من الاستثقال.

(أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) إنما ذكر (مُنْقَعِرٍ) لأن النخل يذكر ويؤنث ، ولهذا قال في موضع آخر : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة ٦٩ / ٧]. والقاعدة : كل ما كان الفرق بين واحده وجمعه من أسماء الأجناس الهاء ، نحو النخل والشجر والسدر ، فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث.

البلاغة :

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) تشبيه مرسل مجمل ، حذف منه وجه الشبه.

المفردات اللغوية :

(كَذَّبَتْ عادٌ) نبيّهم هودا عليه‌السلام ، فعذبوه. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، أو إنذاري لمن بعدهم في تعذيبهم. (صَرْصَراً) شديدة الصوت والبرد. (نَحْسٍ) شؤم. (مُسْتَمِرٍّ) دائم شؤمه حتى أهلكهم. (تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم من أماكنهم ،


وتصرعهم على رؤوسهم ، فتدق رقابهم. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أصول نخل مقتلع من مغارسه ، أو مؤخر الشيء ، وشبّهوا بالنخل لطولهم ، والمنقعر : المنقطع من أصله.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كرره للتهويل ، أو أنه ذكر مرتين في قصة عاد ، لأن الاستفهام الأول للبيان ، كما يقول المعلم لمن لا يعرف : كيف المسألة الفلانية؟ ليتنبه الطالب المسؤول للجواب الذي سيذكره المعلم ، والاستفهام الثاني للتوبيخ والتخويف. أما في قصة ثمود فاقتصر على الأول للاختصار ، وفي قصة نوح اقتصر على الثاني للاختصار أيضا ، ولعله ذكر الاستفهامين معا في قصة عاد لفرط عتوهم ، وقولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) [فصلت ٤١ / ١٥].

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي متعظ ، والمعنى كما تقدم : سهلناه للادّكار والاتعاظ بسبب المواعظ الشافية والبيانات الوافية ، وقيل : للحفظ. والأول أنسب بالمقام ، وإن روي أنه لم يكن شيء من كتب الله محفوظا على ظهر القلب سوى القرآن.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى تكذيب قوم نوح الذي بدأ به ، لأن تكذيبهم كان أبلغ وأشد ، حيث دعاهم قريبا من ألف سنة ، وأصروا على التكذيب ، أعقبه بقصة عاد قوم هود ، تأكيدا للعظة والعبرة ، وتبيانا للمشركين المكذبين في مكة وأمثالهم أن عاقبة المكذبين الهلاك والدمار ، دون تفاوت بين الأقوام. وإنما قال (عادٌ) ولم يقل (قوم هود) كما قال (قوم نوح) لأن التعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ عادٌ ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي كما صنع قوم نوح في تكذيبهم رسولهم ، كذبت قبيلة عاد قوم هود عليه‌السلام رسولهم ، فانظروا واسمعوا أيها المخاطبون من قريش وغيرهم كيف كان عذابي لهم ، وإنذاري إياهم.

وقوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) لفت للأنظار ، وتنبيه للأسماع لما سيذكر.


(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي إنا سلّطنا عليهم (١) ريحا شديدة البرد والصوت في يوم شؤم عليهم ، دائم الشؤم حتى أهلكهم ودمرهم ، لأنه اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي ، أما ذات اليوم بمجرده فلا يصح وصفه بالنحس أو الشؤم ، وإنما الأيام والليالي كلها سواء ، لذا كان التشاؤم بالعدد (١٣) غير صحيح شرعا ودينا.

ونظير الآية : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت ٤١ / ١٦] وقوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة ٦٩ / ٧] أي متتابعة.

(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي إن تلك الريح الصرصر كانت تقتلعهم من الأرض اقتلاع النخلة من أصلها ، قال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض ، فترمي بهم على رؤوسهم ، فتدقّ أعناقهم ، وتبين رؤوسهم من أجسادهم.

والمعنى أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا ، وهم جثث طوال عظام ، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها فلا فروع ، (مُنْقَعِرٍ) : منقلع عن مغارسه. وقد شبهوا في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح. وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس.

والآية تومئ إلى أن الريح كانت تقتلع رؤوسهم ، فتصبح الأجسام من غير رؤوس ولا هامات ، وتشير أيضا إلى عظمة أجسادهم وطول قاماتهم ، وإلى محاولتهم الثبات في الأرض والتشبث بها لمقاومة الريح ، كما تشير أيضا إلى يبسهم وجفافهم بالريح التي كانت تقتلهم ببردها المفرط ، فتجعلهم كأنهم أخشاب يابسة.

__________________

(١) هذه الجملة استئنافية ، لبيان ما أجمل أولا في قوله : فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ.


ثم أعاد الله تعالى ما يفيد تهويل العذاب ، فقال :

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا كيفية بطشي وعقابي وإنذاري.

ثم كرر التصريح بسهولة التعرف على ذلك بالقرآن ، فقال :

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي لقد سهلنا القرآن للادكار والاتعاظ ، بما أوردنا فيه من المواعظ الشافية ، وبينا ما فيه من الوعد والوعيد ، فهل من متعظ معتبر؟! وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنّا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه (١)؟

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كذبت قبيلة عاد قوم هود برسولهم هود عليه‌السلام ، فاستحقوا العقاب ، لذا بادر الله تعالى إلى التخويف والتهويل بقوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وقد وقعت كلمة (نُذُرِ) في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف ، وقرأها يعقوب مثبتة في الحالين : حال الوقف والوصل ، وقرأها ورش بالياء في الوصل لا غير.

٢ ـ كان عقابهم بإرسال ريح شديدة البرد ، شديدة الصوت ، في يوم كان مشؤوما عليهم ، قال ابن عباس : كان آخر أربعاء في الشهر ، أفنى صغيرهم وكبيرهم. والمراد أنه يوم نحس على الفجار والمفسدين ، كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القرآن نحسات على الكفار من قوم عاد ، لا على نبيهم والمؤمنين به منهم.

٣ ـ وصف الله الريح بأنها تقلعهم من مواضعهم ، قيل : قلعتهم من تحت

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١٨٤


أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها ، وقال مجاهد كما تقدم : كانت تقلعهم من الأرض ، فترمي بهم على رؤوسهم ، فتندقّ أعناقهم ، وتبين رؤوسهم عن أجسادهم.

وكانت الريح تنزع الناس ، فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر. والأعجاز : جمع عجز : وهو مؤخر الشيء ، وكانت أشخاص عاد موصوفين بطول القامة ، فشبّهوا بالنخل انكبت لوجوهها.

٤ ـ كانت العاقبة على قوم عاد سوءا وشرا مستطيرا ، يستدعي التفكير بكيفية عذاب الله وإنذاراته. وطريق فهم ذلك ميسر ، فإن القرآن بما اشتمل عليه من العظات والعبر سهل يسير الاعتبار والاتعاظ ، فهل من متعظ معتبر؟!

ـ ٣ ـ

قصة ثمود قوم صالح عليه‌السلام

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))


الإعراب :

(أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ بَشَراً) منصوب بتقدير فعل دل عليه (نَتَّبِعُهُ) تقديره : أنتبع بشرا منا واحدا؟

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فِتْنَةً) : إما مفعول لأجله ، أو مصدر ، منصوب على المصدرية. وقوله : (وَاصْطَبِرْ) أصله : اصتبر ، على وزن : افتعل من الصبر ، إلا أنهم أبدلوا من التاء طاء لتوافق الصاد في الإطباق.

(فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كَهَشِيمِ) : في موضع نصب ، لأنه خبر كان ، و (الْمُحْتَظِرِ) : بكسر الظاء وهو المشهور ، أي المتخذ الحظيرة ، وقرئ بفتحها (الْمُحْتَظِرِ) أي مكان الحظيرة.

البلاغة :

(بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) صيغة مبالغة على وزن فعال وفعل ، أي كثير الكذب ، عظيم البطر.

(فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) تشبيه مرسل مجمل.

المفردات اللغوية :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي بالرسل جمع نذير بمعنى منذر أو بالإنذارات والمواعظ ، فإنهم كذبوا بالأمور التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه‌السلام ، وتكذيبه تكذيب لجميع الرسل ، لاتفاقهم على أصول الدين. (أَبَشَراً مِنَّا) أي من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا. (واحِداً) منفردا لا تبع له ، والاستفهام بمعنى النفي ، المعنى : كيف نتبعه ونحن جماعة كثيرة ، وهو واحد منا ، وليس بحاكم ولا ملك؟ أي لا نتبعه. (إِنَّا إِذاً) أي إنا إن اتبعناه. (لَفِي ضَلالٍ) خطأ وبعد عن الصواب. (وَسُعُرٍ) جنون ، ومنه : ناقة مسعورة أي مجنونة.

(الذِّكْرُ) الوحي. (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي وفينا من هو أحق منه بذلك. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ) في أنه أوحي إليه. (أَشِرٌ) متكبر بطر ، حمله بطره على الترفع علينا بادّعائه. (سَيَعْلَمُونَ غَداً) أي عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) هو أو هم ، أي الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق ، وطلب الباطل.

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) مخرجوها وباعثوها. (فِتْنَةً لَهُمْ) اختبارا أو امتحانا لهم. (فَارْتَقِبْهُمْ) فانتظرهم يا صالح وتبصر ما يصنعون. (وَاصْطَبِرْ) اصبر على أذاهم. (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم بينهم وبين الناقة ، يوم لهم ويوم لها. (كُلُّ شِرْبٍ) نصيب من الماء. (مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه في نوبته.


(صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف أحيمر ثمود. (فَتَعاطى) اجترأ على تعاطي قتلها غير مبال بما يفعل ، والتعاطي : تناول الشيء بتكلف. (فَعَقَرَ) ضرب قوائم الناقة بالسيف ، فقتلها موافقة لهم. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) أي كيف كان عقابي وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، المعنى : أن العذاب وقع موقعه.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) هي صيحة جبريل عليه‌السلام ، والجملة بيان للعذاب المشار إليه في الجملة السابقة. (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي مثل المتهشم اليابس ، المتكسر من الشجر ، الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء ، أي كهشيم الحظيرة. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) سهلنا القرآن للاتعاظ به. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ.

المناسبة :

هذه قصة ثالثة أو أنموذج من تكذيب الأمم الخالية رسلها ، فإن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم ، فكذبوا نوحا وهودا وصالحا عليهم‌السلام فيما يدعيه من الوحي عن ربه ، وكل من كذب رسولا كذب جميع الرسل لاتحادهم في أصول الاعتقاد والدين. وكانت معجزة صالح عليه‌السلام ناقة فريدة تشرب ماء نهير كله يوما ، وتدر لبنا يكفي جميع القبيلة ، بل يفيض عنهم ، فقتلوها ، فعاقبهم الله بعذاب الصيحة : صيحة جبريل عليه‌السلام ، فبادوا عن آخرهم.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) كذبت قبيلة ثمود قوم صالح برسل الله الكرام ، بتكذيبهم لرسولهم ، وهو صالح ، ومن كذب واحدا من الأنبياء ، فقد كذب سائرهم ، لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع وأصولها العامة ، كتوحيد الله تعالى ، وعبادته ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويلاحظ أنه في قصة نوح وقصة عاد قال : (كَذَّبَتْ) ولم يقل بالنذر ، وفي هذه القصة وقصة قوم لوط قال : (بِالنُّذُرِ) والأمر سواء ، لأن عادتهم التكذيب.

ثم أبان الله تعالى مظاهر تكذيبهم ، فقال :


١ ـ (فَقالُوا : أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إنهم قالوا فيما بينهم : كيف نتّبع بشرا من جنسنا ، منفردا وحده ، لا تبع له ، ولا متابع له على ما يدعو إليه ، لقد خبنا وخسرنا إن أطعنا واحدا منا ، وإنا إذا اتبعناه نكون في خطأ واضح وبعد عن الحق والصواب ، واتصفنا بالجنون أو أصابنا العذاب والعناء والشدة.

٢ ـ (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي كيف خصّ من بيننا بالوحي والنبوة ، وفينا من هو أحق بذلك منه ، بل هو متجاوز في حد الكذب فيما يدعيه من نزول الوحي الإلهي عليه ، ومتكبر بطر ، حمله تكبره على الترفع علينا بادعائه الوحي.

فوجّه الله تعالى إليهم تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا بقوله :

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أي سيعرفون عما قريب في المستقبل وقت نزول العذاب بهم في الدنيا ، أو يوم القيامة ، وسيتبين لهم من هو المفتري الكذب ، الأبلغ في الشرارة ، أصالح في تبليغ رسالة ربه ، أم هم في تكذيبهم إياه؟ والمراد أنهم هم الكذابون البطرون المتكبرون.

ثم وصف الله تعالى جرمهم مخاطبا صالحا فقال :

ـ (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي إنا مخرجو الناقة العظيمة العشراء من صخرة صماء ، كما سألوا ، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه‌السلام فيما جاءهم به ، ولتكون امتحانا واختبارا لهم ، فانتظر ما يؤول إليه أمرهم وما يصنعون واصبر عليهم وعلى ما يصيبك من الأذى منهم ، فإن العاقبة لك والنصر في الدنيا والآخرة.

ـ (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي وأخبرهم أن ماء البئر أو النهير مقسوم بينهم وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، وكل حظ أو نصيب


من الماء يحضره صاحبه ، ليأخذه في نوبته ، فتشرب الناقة في يوم ، ويشربون هم في يوم آخر ، أو كل شرب محتضر فيه ، يوم لها ويوم لهم ، قال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون ، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. وقال أيضا : إذا غابت حضروا الماء ، وإذا جاءت حضروا اللبن.

ونحو الآية : (قالَ : هذِهِ ناقَةٌ ، لَها شِرْبٌ ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٥٥].

ـ (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ ، فَتَعاطى فَعَقَرَ) أي ولكن ثمود ملّوا هذه القسمة ، وبادروا إلى التخلص من هذا الوضع كفرا وعنادا ، فنادوا نداء المستغيث قدار بن سالف ، وكان أشقى قومه ، وأشجع وأهجم على الأمور ، وحرضوه على عقر الناقة ، فاجترأ على الأمر العظيم ، وتعاطى أسباب العقر ، فأهوى بسيفه على قوائم الناقة ، فكسر عرقوبها ، ثم نحرها.

ـ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فعاقبتهم ، فانظر كيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي الذي ينذرهم ويخوفهم عذاب الله. ويلاحظ أن هذه الآية ذكرت في قصة ثمود قبل بيان العذاب للبيان ، وفي قصة نوح بعد بيان العذاب للتهويل والتعظيم ، وفي قصة عاد قبل بيان العذاب وبعد بيانه ، للجمع بين الأمرين.

ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً ، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي إنا أرسلنا عليهم صيحة جبريل ، فصاح بهم ، فبادوا عن آخرهم ، لم تبق منهم باقية ، وجمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات ، وصاروا كالعشب أو فتات الشجر اليابس الذي جمعه الراعي المحتظر في الحظيرة إذا داسته الغنم بعد سقوطه.

والهشيم : الشجر اليابس المتهشم ، أي المتكسر ، والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ليحفظ الغنم من الذئاب. ووجه التشبيه : أن ما يحتظر به ييبس بطول


الزمان وتطؤه البهائم فيتكسر ، وأنهم صاروا موتى جاثمين ، ملقى بعضهم فوق بعض ، كالحطب الذي يكسر في الطرق والشوارع.

ـ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي ولقد سهلنا القرآن للتذكر والاتعاظ ، والاعتبار بالأحداث والوقائع ، فهل من متعظ؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ كذبت قبيلة ثمود كغيرها الرسل ونبيهم ، وكذبوا بالآيات التي جاء بها ، وأنكروا أن ينبأ بشر كائن منهم منفرد لا أتباع له ، وزعموا أنهم إن اتبعوه كانوا في خطأ وذهاب عن الصواب ، وجنون وعناء.

٢ ـ وقالوا على طريق الاستفهام المراد به الإنكار : كيف خصص بالرسالة من بين آل ثمود ، وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا؟ بل هو كذاب فيما يدّعيه ، وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق.

٣ ـ هددهم الله بأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا ، والعذاب يوم القيامة. وقوله : (سَيَعْلَمُونَ غَداً ..) على التقريب ، على عادة الناس في قولهم للعواقب : إن مع اليوم غدا. وهذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أو أنه تهديد بالتعذيب يوم القيامة. وسيتبين لهم من هو الكذاب الأشر ، أهو صالح عليه‌السلام أم هو؟

٤ ـ أخرج الله لهم ناقة عظيمة من الهضبة التي سألوها ، روي أن صالحا صلى ركعتين ، ودعا ، فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها ، فخرجت ناقة عشراء. وكان ذلك ابتلاء واختبارا لهم. ومعنى قوله : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) :


إنا نرسل ، وهو بمعنى المستقبل في ذلك الزمان الذي تم فيه الإرسال. وكون الناقة فتنة : أن أوضاعها الغريبة اختبار.

٥ ـ أمر الله تعالى نبيه صالحا عليه‌السلام بأوامر ثلاثة : انتظر ما يصنعون ، واصبر على أذاهم ، وأخبرهم أن الماء مقسوم بين آل ثمود وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم. قال ابن عباس : كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء ، وتسقيهم لبنا ، وكانوا في نعيم ، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كلّه ، فلم تبق لهم شيئا. أي أنهم يوم شربها أو وردها الماء يحتلبون منها ما شاؤوا.

٦ ـ ملّوا هذه القسمة ، فحرضوا صاحبهم قدار بن سالف أشقى ثمود على عقرها ، فعقرها ، بأن رماها بسهم ، ثم ضرب قوائمها بالسيف ، ثم نحرها.

٧ ـ عاقبهم الله جزاء تكذيبهم وكفرهم برسولهم صالح ، واعتدائهم على الناقة ، فأرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل عليه‌السلام ، فلما سمعوا الصيحة ماتوا ، وبادوا عن آخرهم ، ولم يبق منهم أحد ، وأصبحوا كهشيم المحتظر ، قال ابن عباس : المحتظر : هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك ، فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. وعنه : كحشيش تأكله الغنم ، أو كالعظام النخرة المحترقة. وقوله : (فَكانُوا) فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال.

٨ ـ المتأمل ينظر بما آل إليه هؤلاء القوم من إبادة وعذاب أصبحوا مثلا وعبرة للتاريخ.

٩ ـ يسهل على كل إنسان إدراك هذه الحقيقة من القرآن الذي أخبر عن هذه المحنة الأليمة ، فهو كتاب سهل المأخذ ، يسر الله به فهم المواعظ والعبر ، فهل من متعظ معتبر؟! والتكرار للتذكار والتأكيد.


ـ ٤ ـ

قصة قوم لوط عليه‌السلام

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))

الإعراب :

(إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا آلَ لُوطٍ) : منصوب على الاستثناء ، و (بِسَحَرٍ) في موضع نصب ، لأنه متعلق ب (نَجَّيْناهُمْ) وصرفه أي نونه ، لأنه أراد به سحرا من الأسحار. ولو أراد به التعريف لكان ممنوعا من الصرف ، أي التنوين للتعريف والعدل عن لام التعريف. و (نِعْمَةً) : مفعول لأجله.

المفردات اللغوية :

(بِالنُّذُرِ) بالرسل والأمور المنذرة على لسانهم ، وتكذيب نبي واحد كتكذيب جميع الأنبياء ، لاتفاقهم على أصول الشرائع كما تقدم. (حاصِباً) ريحا تحصبهم بالحجارة ، أي ترميهم بالحصباء : وهي صغار الحجارة ، الواحد دون ملء الكف. (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أهله وابنتاه معه. (بِسَحَرٍ) أي بسحر من الأسحار ، من يوم غير معين ، والسحر : السدس الأخير من الليل قبيل طلوع الفجر. (نِعْمَةً) مصدر ، أي إنعاما. (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمنا ، وكان مؤمنا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مطيعا الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) أي خوّفهم لوط عليه‌السلام. (بَطْشَتَنا) أخذتنا بالعذاب. (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي شكّوا في الإنذارات وكذبوا بها. (راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) قصدوا الفجور بضيوفه ، وطلبوا منه تمكينهم منهم وأن يسلمهم أضيافة الذين كانوا ملائكة. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أعميناهم ، أو


جعلنا أعينهم مطموسة لا شق لها ، وأزلنا أثرها. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا إنذاري وتخويفي ، أي ثمرته وفائدته.

(بُكْرَةً) أول النهار. (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) دائم يستقر بهم إلى أن يهلكوا ، أو يتصل بعذاب الآخرة. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال البيضاوي : كرر ذلك في كل قصة إشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب ، واستماع كل قصة مستدع للادّكار والاتعاظ ، واستئنافا للتنبيه والإيقاظ ، لئلا يغلبهم السهو والغفلة ، وهكذا تكرير قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) و (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ونحوهما.

وإنما لم يقل هنا (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) كما قال في القصص الثلاث الأخرى ، لأن التكرار ثلاث مرات بالغ كاف ، ويحصل التأكيد بالثلاث.

المناسبة :

هذه قصة رابعة هي قصة قوم لوط ، ذكرها الله تعالى لبيان السبب وهو تكذيب الرسل وارتكاب الفواحش ، وبيان العقاب الشديد وهو التدمير والإهلاك ، ليعتبر كل الناس ، ويعلموا أنه ما من هلاك إلا بعد إنذار بالعذاب على لسان رسول ، ثم تكذيبه.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) هذا حال قوم آخرين ، وهم قوم لوط الذين كذبوا رسولهم وخالفوه ، وكذبوا بالآيات التي أنذرهم بها ، واقترفوا الفاحشة.

ثم بيّن الله تعالى عذابهم وإهلاكهم ، فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي إننا أرسلنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى والحجارة ، فأهلكتهم ودمرتهم إلا لوطا عليه‌السلام ومن آمن به واتبعه ، فإنا أنجيناهم من الهلاك في آخر الليل أو في قطعة من الليل وهو السدس الأخير ، نجوا مما أصاب قومهم.


هذا ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ، ولا رجل واحد ، حتى ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها ، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء.

وكان سبب نجاتهم شكرانهم النعمة ، فقال تعالى :

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا ، كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي لقد أنجيناهم إنعاما منا عليهم ، وتكريما لهم ، ومثل ذلك الجزاء الحسن ، نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها ، بأن آمن وأطاع أمرنا ، واجتنب نهينا.

ثم بين الله تعالى عدله في العقاب وهو مجيئه بعد إنذار ، فقال :

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا ، فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي ولقد أنذرهم نبيهم بطشة الله بهم ، وهي عذابه الشديد ، وعقوبته البالغة ، قبل حلوله بهم ، إن لم يؤمنوا ، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه ، بل شكوا في الإنذار ولم يصدقوه ، وكذبوه.

ثم ذكر الله تعالى جرما آخر لهم عدا الكفر والتكذيب ، فقال :

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي لقد أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الضيوف الملائكة الذين جاؤوا في صورة شباب مرد حسان ، ليفجروا بهم ، كما هو دأبهم ، إذ قد بعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها ، فأعلمتهم بأضياف لوط ، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان ، فأغلق لوط دونهم الباب ، فجعلوا يحاولون كسر الباب عشية الليل ، ولوط عليه‌السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ، وأرشدهم إلى نسائهم الذين هم بمثابة بناته ، وهو لهم كالأب.

فلما اشتد الخلاف ، وأبوا إلا الدخول ، طمس الله أبصارهم ، فأصبحوا لا يرون شيئا ، فرجعوا على أدبارهم ، يتحسسون بالحيطان ، ويتوعدون لوطا عليه‌السلام ، إلى الصباح.


وقلنا لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا ألم عذابي وتبعة إنذاراتي.

ثم ذكر تعالى نوع العذاب العام الذي أصابهم ووقته ، فقال :

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي لقد أتاهم صباحا عذاب مستقرّ بهم ، نازل عليهم ، لا يفارقهم ولا ينفك أو يحيد عنهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [هود ١١ / ٨١] والعذاب المستقر : الثابت الذي لا محيد عنه أو الذي استقر عليهم إلى الاستئصال الكلي.

ثم أوضح تعالى العبرة وحكى ما قيل لهم ، فقال :

ـ (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فذوقوا جزاء أفعالكم ومقتضى إنذاركم السابق.

ـ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي ولقد سهلنا آيات القرآن للاتعاظ والتذكر ، فهل من متعظ معتبر. وهذه الجملة الواردة عقب القصص الأربع للتأكيد والتنبيه والاتعاظ والزجر ، كما تقدم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لما كذب قوم لوط نبيهم ، أرسل الله عليهم ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى ، فلا عقاب دون جريمة ، ولا عذاب قبل إنذار.

٢ ـ نجّى الله تعالى نبيه لوطا عليه‌السلام ومن تبعه على دينه ، ولم يكن إلا بنتاه ، وتمت النجاة في وقت السحر آخر الليل ، إنعاما من الله على لوط وبنتيه ، ومثل ذلك الجزاء يجازي الله كل من آمن بالله وأطاعه ، أي أن ذلك الإنجاء كان فضلا من الله ونعمة ، كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا. وفيه فائدة وهي الدلالة


على الثواب في الدار الآخرة ، كما تحققت النجاة في الدنيا ، أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب.

٣ ـ لا عقاب أيضا إلا بعد إنذار ، فلقد أنذر لوط عليه‌السلام قومه ، وخوّفهم عقوبة ربهم ، وأخذه إياهم بالعذاب الدنيوي والأخروي ، فشكّوا فيما أنذرهم به الرسول ، ولم يصدقوه. وفي هذا تبرئة لوط عليه‌السلام وبيان أنه أتى بما عليه.

٤ ـ اقترن مع كفرهم جريمة كبري أخرى هي اقترافهم الفواحش ، بل إنهم أرادوا من لوط عليه‌السلام تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف ، طلبا للفاحشة.

٥ ـ لما أصرّوا على الاعتداء على الملائكة ، واقتحام منزل لوط عليه‌السلام ، أعماهم الله مع صحة أبصارهم ، فلم يروهم. ويروى أن جبريل عليه‌السلام ضربهم بجناحه فعموا. قال الضحاك : طمس الله على أبصارهم ، فلم يروا الرسل ، فقالوا : لقد رأيناهم حين دخلوا البيت ، فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم.

٦ ـ قال الله لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا عذابي الذي أنذركم به لوط ، والمراد بذوق العذاب مجازاة الفعل وموجبه.

٧ ـ لقد صبّحهم أول النهار ، وقت الصبح عذاب دائم عام ، استقر فيهم ، حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وفائدة قوله : (بُكْرَةً) تبيين حدوث العذاب في أول النهار ، لأن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار ، فإذا قال : (بُكْرَةً) أفاد أنه كان أول جزء منه.

٨ ـ كرر الله تعالى للتأكيد ما قالته الملائكة لهم : ذوقوا العذاب الذي نزل بكم من طمس الأعين ، غير العذاب الذي أهلكوا به ، لأن العذاب كان مرتين : أحدهما ـ خاص بالمراودين ، والآخر عام.


٩ ـ إن الهدف من القصة هو العبرة والعظة ، والقرآن الكريم سهّله الله للاتعاظ والاعتبار ، ولكن ما أكثر المواعظ والعبر ، وأقل الاعتبار. وقد كرر تعالى بيان ذلك للتنبيه والتأكيد.

ـ ٥ ـ

قصة آل فرعون

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

المفردات اللغوية :

(آلَ فِرْعَوْنَ) قومه معه ، واكتفى بذكرهم دونه للعلم بأنه القائد وأنه أولى بذلك. (النُّذُرُ) الإنذارات على لسان موسى وهارون ، فلم يؤمنوا. (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) أي بل كذبوا بالآيات التسع التي أوتيها موسى عليه‌السلام. (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب. (أَخْذَ عَزِيزٍ) قوي لا يغالب ولا يغلب. (مُقْتَدِرٍ) قادر لا يعجزه شيء.

التفسير والبيان :

هذه قصة خامسة بإيجاز ، أخبر الله بها عن تكذيب فرعون وقومه بالرسل ، فقال :

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) أي والله لقد جاءت الإنذارات والبشائر فرعون وقومه من طريق موسى وهارون ، الإنذار بالعذاب إن كفروا ، والبشارة بالجنة إن آمنوا. والفرق بين الآل والقوم : أن القوم أعم من الآل ، فالقوم : كل من يقوم الرئيس بأمرهم ويأتمرون بأمره ، والآل : كل من يؤول إلى الرئيس خيرهم وشرهم ، أو يؤول إليهم خيره وشره.


(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها ، فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) أي إننا أيدنا موسى وهارون بمعجزات عظيمة وآيات متعددة ، منها الآيات التسع كالعصا واليد ، فكذبوا بها كلها ، فأخذهم الله بالعذاب الشديد أخذ قوي غالب في انتقامه ، قادر على إهلاكهم قاهر لا يعجزه شيء ، أي أبادهم الله ولم يبق منهم أحدا ، وعاقبهم بتكذيبهم وبكفرهم بالله.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا خبر موجز عن فرعون وقومه : القبط ، يتضمن بيان الجريمة والعقاب ، فإن الله أرسل لهم موسى وهارون بالإنذارات والبشائر ، فكذبوا بجميع الآيات أو المعجزات الدالة على توحيد الله ونبوة الأنبياء ، وهي تسع : العصا ، واليد ، والسّنون ، والطمسة ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، فعاقبهم الله بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسل الله ، وكان العقاب شديدا لصدوره من إله غالب في انتقامه ، قادر على ما أراد.

ويلاحظ أن القصص الخمس المذكورة في هذه السورة : قصة قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وآل فرعون مشتركة في السبب أو الجريمة ، وفي الجزاء أو العقاب ، والسبب أو الجريمة يكاد يكون واحدا وهو الكفر بالله وتكذيب الرسل ، مع معاص أخرى ، والعقوبة وإن اختلفت بين طوفان ، وريح صرصر عاتية ، وصيحة جبريل ، وريح حاصب ، وإغراق ، فنتيجتها واحدة وهي الإبادة والاستئصال التام ، وتلك عبرة وعظة لكفار قريش وأمثالهم.


توبيخ المشركين من كفار قريش وبيان جزاء المجرمين والمتقين

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

الإعراب :

(أَمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ نَحْنُ) : مبتدأ ، (جَمِيعٌ) : خبره ، و (مُنْتَصِرٌ) : خبر لمحذوف تقديره : أمرنا أو جمعنا.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ كُلَ) : بالنصب بتقدير (خلقنا) وذلك يدل على العموم واشتمال الخلق على جميع الأشياء ، ولا يجوز أن يكون (خلقنا) صفة (شَيْءٍ) لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف. وتقرأ (كُلَ) بالرفع على الابتداء ، و (خَلَقْناهُ) : خبره ، لكن لا يكون (كُلَ) حينئذ متمحضا للعموم ، لأن المعنى : إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر ، فيحتمل أن يكون هاهنا ما ليس بمخلوق من الأشياء ، بخلاف حالة النصب ، فإنه لا يحتمل إلا العموم. و (بِقَدَرٍ) : حال من (كُلَ) ، أي مقدرا.

البلاغة :

(أَكُفَّارُكُمْ أَمْ يَقُولُونَ) الاستفهام إنكاري يقصد به النفي.

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) إطناب بتكرار لفظ الساعة لزيادة التخويف.


(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

(ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) المس مجاز مرسل عن الألم ، وعلاقته السببية ، فإن مسها سبب للألم ، ويراد بالذوق الإحساس.

(صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) بينهما طباق.

في أواخر الآيات كلها سجع غير متكلف له وقع وجرس وجمال في اللفظ.

المفردات اللغوية :

(أَكُفَّارُكُمْ) يا قريش. (مِنْ أُولئِكُمْ) المذكورين في القصص السابقة من قوم نوح إلى آل فرعون. (بَراءَةٌ) وثيقة مكتوبة بالنجاة من العذاب. (الزُّبُرِ) الكتب السماوية ، جمع زبور ، المعنى : أم أنزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم ، فهو في أمان من العذاب. والاستفهام في الموضعين بمعنى النفي ، أي ليس الأمر كما تزعمون أو تتصورون.

(أَمْ يَقُولُونَ) كفار قريش. (نَحْنُ جَمِيعٌ) جمع. (مُنْتَصِرٌ) على محمد ، قال أبو جهل يوم بدر : إنا جمع منتصر ، فنزلت الآية : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) يرجعون إلى الأدبار هاربين ، فقد هزموا ببدر ، ونصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وهو من دلائل النبوة. (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) بالعذاب الأصلي. (وَالسَّاعَةُ) أي وعذاب الساعة. (أَدْهى) أعظم وأشد بلية وداهية ، والداهية : أمر فظيع لا يهتدى لعلاجه. (وَأَمَرُّ) أشد مرارة ومذاقا من عذاب الدنيا ، والمراد : أصعب على النفس وأكثر شدة وهولا.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الكفار والمشركين. (فِي ضَلالٍ) خطأ وبعد عن الحق. (وَسُعُرٍ) نيران مستعرة في الآخرة. (يُسْحَبُونَ) يجرّون على وجوههم. (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يقال لهم : ذوقوا حر النار وألمها ، فإن مسّها أي إصابتها سبب للتألم بها ، و (سَقَرَ) اسم جهنم ، ولذلك كان ممنوعا من الصرف. (بِقَدَرٍ) أي مقدّرا بمقدار معلوم مكتوب في اللوح قبل وقوعه.

(أَمْرُنا) شأننا ، أو أمرنا بإيجاد الشيء الذي نريده. (إِلَّا واحِدَةٌ) أي كلمة واحدة ، وهي قول (كن) فيوجد ، أو فعلة واحدة ، وهو الإيجاد بلا معاناة. (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي في اليسر والسرعة. (أَشْياعَكُمْ) أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ ، والاستفهام بمعنى الأمر ، أي اذكروا واتعظوا. (فِي الزُّبُرِ) مكتوب في سجل أو كتب الحفظة. (مُسْتَطَرٌ) مسطور أو مكتوب في اللوح المحفوظ.

(فِي جَنَّاتٍ) بساتين. (وَنَهَرٍ) أنهار ، المراد به الجنس. وقرئ بضم النون وسكون الهاء كأسد وأسد. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في مكان مرضي ، أو في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ، والمراد


به أيضا الجنس ، وقرئ : مقاعد أي في مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم ، بخلاف مجالس الدنيا ، قل أن تسلم من ذلك. (عِنْدَ مَلِيكٍ) أي مقربين عند الله تعالى ، و (مَلِيكٍ) صيغة مبالغة ، أي عزيز الملك وواسع السلطان. (مُقْتَدِرٍ) قادر لا يعجزه شيء ، وهو الله تعالى. والعندية ليست عندية مكان ، وإنما إشارة إلى الرتبة والقربة من فضل الله تعالى.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٥):

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ..) : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا يوم بدر : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) ، فنزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

نزول الآية (٤٧):

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ..) : أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إلى قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).

وروى ابن حبان عن أبي أمامة الباهلي قال : أشهد بالله لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن هذه الآية نزلت في القدرية (١) : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).

وذكر أبو بكر بن الحارث عن أبي زرارة الأنصاري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ..) ثم قال : أنزلت هذه الآية في أناس من آخر هذه الأمة يكذبون بقدر الله تعالى.

__________________

(١) القدرية : هم الذين يقولون : إن الإنسان يخلق أفعال نفسه.


المناسبة :

بعد بيان إهلاك بعض الأمم السابقة وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط بسبب تكذيبهم الرسل ، خاطب الله أهل مكة موبخا لهم بطريق الاستفهام الإنكاري ، ليبين لهم أن ما أصاب غيرهم من العذاب والهوان سيصيبهم ، لأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله ، إن استمروا على كفرهم ، وأصروا على ضلالهم ، وأنهم أيضا سيهزمون في الدنيا ، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد وأدهى.

ثم أبان الله تعالى نوع عذاب المجرمين أي المشركين في الآخرة ، وأن كل شيء مخلوق لله سبحانه ، وأن أمره تعالى سريع النفاذ بكلمة (كن) التكوينية ، وختم السورة بذكر ثواب المتقين الأبرار.

التفسير والبيان :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي أكفاركم يا مشركي قريش خير من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل ، وكفرهم بالكتب السماوية ، أم معكم من الله براءة فيما أنزل من الكتب ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟!

والمعنى : ليس كفاركم يا أهل مكة ، أو يا معشر العرب ، خيرا من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم ، فلستم بأفضل منهم ، حتى تكونوا بمأمن مما أصابهم من العذاب عند تكذيبهم لرسلهم ، وليست لكم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء.

وهذا تهديد وتوبيخ لمن أصرّ على الكفر من مشركي العرب ، فالمراد بعض العرب لا كلهم ، فليس كفارهم خيرا ممن سبقهم ، وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط ، بل هم مثلهم أو شر منهم.


(أَمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي بل هم يقولون : نحن جماعة أو جمع كثير والعدد ، شديد والقوة ، ولنا النصر على الفئة القليلة المستضعفة من أعدائنا ، فهم يعتقدون ويثقون أنهم يتناصرون مع بعضهم بعضا ، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء. والاستفهام : إنكاري ، وإفراد المنتصر مع أن (نَحْنُ) ضمير الجمع ، لأن المراد بالجميع كالجنس ، لفظه لفظ واحد ، ومعناه جمع فيه الكثرة.

فرد الله تعالى عليهم بقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون ، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة ، فقد هزمهم الله يوم بدر ، وولوا الأدبار ، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق جمع أو شمل كفار مكة أو كفار العرب على العموم ويغلبون ، ويولون الأدبار هاربين منهزمين. وكان هذا دليلا من دلائل النبوة ، فقد هزمهم الله يوم بدر ، وولوا الأدبار ، وقتل رؤساء الكفر وأساطين الشرك.

عن أبي جهل : أنه ضرب فرسه يوم بدر ، فتقدم في الصف ، فقال : نحن ننصر اليوم من محمد وأصحابه ، فنزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي الأدبار.

وأخرج البخاري والنسائي عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وهو في قبّة له يوم بدر : «أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي‌الله‌عنه بيده ، وقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربّك ، فخرج وهو يثب في الدرع ، وهو يقول : «سيهزم الجمع ، ويولون الدبر ، بل الساعة موعدهم ، والساعة أدهى وأمرّ».


وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال عمر : أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في الدرع ، وهو يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فعرفت تأويلها يومئذ.

ثم بيّن الله تعالى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم ، بل الأمر أعظم منه ، فإن الساعة موعدهم ، وسيلقون في الآخرة عذابا أشد إن بقوا مصرين على الكفر ، فقال :

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي بل إن القيامة موعد عذابهم الأخروي ، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب ، وإنما هو مقدمة من مقدماته ، وعذاب القيامة أعظم وأنكى ، وأشد مرارة من عذاب الدنيا ، كما أنه عذاب دائم خالد.

قال الرازي : هذا قول أكثر المفسرين ، والظاهر أن الإنذار بالساعة لكل من تقدم ، كأنه قال : أهلكنا الذين كفروا من قبلك ، وأصرّوا ، وقوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا بخير منهم ، فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا ، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة ، فإتمام المجازاة بالأليم الدائم (١).

ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الأخروي ، فقال :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إن المشركين بالله الذين كذبوا رسله وكل كافر ومبتدع كافر ببدعته من سائر الفرق في حيرة وتخبط في الدنيا وبعد عن الحق والصراط المستقيم ، وفي نيران مستعرة في جهنم يوم القيامة.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٩ / ٦٨


وجاء إطلاق المجرمين على (المشركين) في قوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن ٥٥ / ٤١].

وأكثر المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نازلة في القدرية ، روى الواحدي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله : (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

وعن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مجوس هذه الأمة : القدرية» (٢) وهم المجرمون الذين سماهم الله في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) عن الحق في الدنيا (وَسُعُرٍ) وهو نيران في الآخرة.

وبيّن الإمام الرازي رحمه‌الله معنى القدرية الذين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت الآية فيهم ، فذكر أن كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه ، فالجبري يقول : القدري من يقول : الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره ، فهم قدرية ، لأنهم ينكرون القدر. والمعتزلي يقول : القدري : هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق : الله قدرني ، فهو قدري لإثباته القدر ، وهما جميعا يقولان لأهل السنة الذين يعترفون بخلق الله ، وليس من العبد : إنه قدري.

والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية : هو الذي ينكر القدر ، وينكر قدرة الله تعالى ، ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها ، ويدل عليه قوله : جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر ، فإن مذهبهم ذلك. وأما المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مجوس هذه الأمة هم القدرية» فهم القدرية

__________________

(١) رواه مسلم والترمذي وابن ماجه.

(٢) رواه ابن ماجه عن جابر بلفظ «إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى ..» وهو ضعيف.


في زمانه ، وهم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث ، فلا يدخل فيهم المعتزلة ، ونسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة (١).

(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي إن المجرمين الكفار يعذبون في النار ، ويجرّون فيها على وجوههم للإهانة والإذلال ، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا : ذوقوا وقاسوا حرّ النار وآلامها وشدة عذابها.

ثم أبان الله تعالى أن كل ما يحدث في الكون ، ومنه أفعال العباد كلهم ، هو مخلوق لله ، فقال :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي إن كل شيء من الأشياء ، وكل فعل من الأفعال في هذا الكون أو هذه الحياة خيرا كان أو شرا ، مخلوق لله تعالى ، مقدر محكم مرتّب على حسب ما اقتضته الحكمة ، وعلى وفق ما هو مقدر مكتوب في اللوح ، معلوم لله ثابت في سابق علم الله الأزلي ، قبل وجوده أو كونه ، يعلم حاله وزمانه. والقدر : التقدير.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٢] وقوله سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى ٨٧ / ١ ـ ٣] أي قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه.

وقد استدل أهل السنة بهذه الآية الكريمة على إثبات قدر الله السابق لخلقه : وهو علمه الأشياء قبل كونها ، وكتابته (أي تسجيله) لها قبل حدوثها.

أخرج الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل شيء بقدر ، حتى العجز والكسل». وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ومسلم أيضا عن أبي هريرة : «استعن بالله ، ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٩ / ٦٩ ـ ٧٠


قدّر الله ، وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، فإن : لو تفتح عمل الشيطان».

وأخرج أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا غلام ، إني أعلّمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفّت الصحف».

ومن المعلوم أن الكتابة لا تغني الجبر والفرض على العباد ، والعلم السابق بالأشياء لا يدل على الإلزام ، وإنما يدل على أن جميع ما في الكون معلوم سابقا لله تعالى.

ثم أوضح الله تعالى نفاذ مشيئته في خلقه ، ونفاذ قدره فيهم ، فقال :

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي إن أمرنا بإيجاد الأشياء إنما يكون مرة واحدة ، لا حاجة فيه إلى تأكيد ثان ، فيكون الذي نأمر به بكلمة واحدة حاصلا موجودا كلمح البصر في سرعته ، لا يتأخر طرفة عين. ولمح البصر : إغماض البصر ، ثم فتحه. وهذا تمثيل وتقريب لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الأشياء ، فهو كلمح البصر أو أقرب ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

ثم أعاد تعالى التنبيه للحق والاتعاظ بهلاك السابقين ، فقال :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي وتالله لقد أهلكنا أمثالكم وأشباهكم في الكفر يا معشر قريش ، من الأمم السابقة المكذبين بالرسل ، فهل


من متعظ بما أخزى الله أولئك ، وقدر لهم من العذاب ، وهل من يتذكر ويتعظ بالمواعظ ، ويعلم أن ذلك حق ، فيخاف العقوبة التي حلت بالأمم السابقة؟

وهذا كما قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) [سبأ ٣٤ / ٥٤].

وأتبع ذلك الإخبار عن إحصاء جميع أعمالهم ورقابة الله عليهم ، فقال :

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي إن جميع ما فعلته وتفعله الأمم والشعوب والأفراد من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ ، وفي كتب (أو سجلات) الملائكة الحفظة ، وما من شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم إلا وهو مسطور في اللوح المحفوظ ، وفي دواوين الملائكة وصحائفهم ، صغيرة وكبيرة ، وجليلة وحقيرة ، كما قال تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق ٥٠ / ١٨].

أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «يا عائشة ، إياك ومحقّرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا».

ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء المؤمنين المتقين لمقارنته بجزاء الكافرين ، ومقابلة الثواب بالعقاب وبالعكس ، فقال :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي إن المتقين ، بعكس ما يكون الأشقياء فيه من النار والسحب على الوجوه فيها ، مع التوبيخ والتقريع والتهديد ، هم في بساتين غنّاء مختلفة ، وجنان متنوعة ، وأنهار متدفقة بمختلف أنواع الأشربة من ماء وعسل ولبن وخمر غير مسكرة ، وفي الجنة دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه ، وفي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ، وفي منزلة وكرامة عند ربهم القادر على ما يشاء ، والذي لا يعجزه شيء ، فهو


الملك العظيم ، الخالق للأشياء كلها ومقدّرها ، والمقتدر على ما يشاء ، مما يطلبون ويريدون.

أخرج أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو ، يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المقسطون عند الله على منابر من نور ، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كل من ارتكب جرما وعوقب بعقاب معين ، فإن ذلك العقاب مستحق لأمثال أولئك المجرمين ، فليس كفار العرب أو قريش خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم ، وليس لهم صك براءة أو وثيقة بالسلامة من العقوبة في الكتب المنزلة على الأنبياء.

٢ ـ زعم كفار قريش أنهم منتصرون على المؤمنين بسبب كثرة عددهم وقوتهم ، وضعف المسلمين وقلتهم ، غير أن موازين القوى البشرية تختل في ميزان القدرة والحكمة والتوفيق الإلهي : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٤٩].

لذا قال تعالى هنا : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيهزم جمع كفار مكة ، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وهذا من دلائل صدق النبوة ، قال ابن عباس : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية ، بل والسورة كلها مكية كما تقدم. أخرج البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي‌الله‌عنها قالت : لقد أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وإني لجارية ألعب : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وقد تقدم حديث ابن عباس وقصة أبي بكر يوم بدر.


٣ ـ إن تعذيب الكفار لا يقتصر على الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة والذل والهوان ، وإنما لهم عذاب آخر في الآخرة أشد وأعظم ، وأدهى وأمرّ ، وأدوم وأخلد ..

٤ ـ إن الكفار والمشركين في حيدة عن الحق واحتراق في نار جهنم ، ويجرّون على وجوههم في النار بقصد الإذلال والإهانة.

٥ ـ الله تعالى خالق كل شيء وخالق أفعال العباد كلها دون جبر ولا إكراه عليها : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٩٦] وقوله تعالى هنا : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فالله قادر ، غير أنه لم يجبر أحدا على ما يفعله بل تركه لاختياره وحريته.

ويعد المشركون قدرية لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب ، وطائفة القدرية من المسلمين يوصفون بهذا الوصف لقولهم : لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة ، كالصلاة والزنا ، وإنما العبد يخلق أفعال نفسه.

قال القرطبي : والذي عليه أهل السنة : أن الله سبحانه قدّر الأشياء ، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه ، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه ، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى بقدرته وتوفيقه وإلهامه ، سبحانه لا إله إلا هو ، ولا خالق غيره ، كما نص عليه القرآن والسنة ، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا ، والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذرّ رضي‌الله‌عنه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا ، فنزلت هذه الآيات إلى قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فقالوا : يا محمد يكتب علينا الذنب


ويعذبنا؟ فقال : «أنتم خصماء الله يوم القيامة» (١).

٦ ـ إن نفاذ أمر الله في خلقه سريع أسرع من لمح البصر ، وما هي إلا كلمة واحدة ، وهو قوله للأمر : «كن».

٧ ـ كرر الله تعالى تحذيره وتوبيخه للمشركين ، ونبّههم إلى أنه أهلك أشباههم في الكفر من الأمم الخالية ، فهل من يتذكر؟!

٨ ـ جميع ما فعلته الأمم قبل المشركين وجميع ما تفعله بعدهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم في اللوح المحفوظ أو في كتب الحفظة ، وكل ذنب صغير أو كبير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به ، ومكتوب إذا فعله ، ومكتوب على الكفار إهلاكهم العاجل في الدنيا ، وعذابهم الآجل المعد لهم في الآخرة على ما فعلوه ، ومكتوب ما يفعله غيرهم.

٩ ـ وصف الله المؤمنين بعد وصف الكفار للمقارنة والموازنة والترغيب والترهيب ، فالمؤمنون الأتقياء في جنان الخلد التي تجري أنهار الماء والخمر والعسل واللبن من تحت قصورهم ، وهم في كرامة ومنزلة عند ربهم المالك القادر على ما يشاء ، في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم ، وهو الجنة.

والعندية هنا كما تقدم : عندية القربة والزلفى والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٤٨


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الرّحمن جلّ ذكره

مكيّة أو : مدنيّة ، وهي ثمان وسبعون آية.

مكيتها :

سورة الرحمن : في رأي ابن مسعود ومقاتل : مدنية كلها ، وقد كتب في بعض المصاحف أنها مدنية ، والأصح كما ذكر القرطبي وابن كثير والجمهور أنها مكية كلها ، وهو قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس : إلا آية منها هي قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. وهي ثمان وسبعون (٧٨) آية. وعدها بعضهم (٧٦) آية.

ودليل الجمهور والرأي الأصح : ما روى عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن مسعود ، وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قطّ ، فمن رجل يسمعوه؟ فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : إنا نخشى عليك ، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ، ثم قام عند المقام ، فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثم تمادى رافعا بها صوته ، وقريش في أنديتها ، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أمّ عبد؟ قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه ، حتى أثّروا في وجهه. وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام يصلّي الصبح بنخلة ، فقرأ سورة (الرحمن) ومرّ النفر من الجن ، فآمنوا به.


وفي الترمذي عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ، فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلى آخرها ، فسكتوا ، فقال : «لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا : لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب ، فلك الحمد» (١). وفي هذا دليل على أنها مكية.

تسميتها :

سميت سورة الرحمن ، لافتتاحها باسم من أسماء الله الحسنى وهو (الرحمن) وهو اسم مبالغة من الرحمة ، وهو أشد مبالغة من (الرحيم) وهو المنعم بجلائل النّعم ولجميع الخلق ، أما الرحيم : فهو المنعم بدقائق النعم ، والخاص بالمؤمنين. قال الإمام الطبري : الرحمن : لجميع الخلق ، والرحيم : بالمؤمنين.

وتسمى أيضا في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا(عروس القرآن). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل شيء عروس ، وعروس القرآن : سورة الرحمن».

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه :

١ ـ هذه السورة بأسرها شرح وتفصيل لآخر السورة التي قبلها ، ففي سورة القمر بيان إجمالي لأوصاف مرارة الساعة وأهوال النار وعذاب المجرمين ، وثواب المتقين ووصف الجنة وأهلها ، وفي هذه السورة تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال وعلى النحو المذكور من وصف القيامة والنار والجنة.

٢ ـ ذكر الله تعالى في السورة السابقة أنواع النقم التي حلت بالأمم السابقة

__________________

(١) قال الترمذي : هذا حديث غريب.


قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، وهنا ذكر أنواع الآلاء والنعم الدينية والدنيوية في الأنفس والآفاق على الناس جميعا. وافتتح السورة السابقة بما يدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر ، وافتتح هذه السورة بما يدل على الرحمة والرحموت وهو إنزال القرآن.

٣ ـ ختمت السورة السابقة ببيان صفتين لله عزوجل يدلان على الهيبة والرهبة والعظمة وهما (المليك المقتدر) أي ملك عظيم الملك ، قادر عظيم القدرة ، وابتدئت هذه السورة بصفة أخرى بجوار ذلك وهي صفة (الرحمن) وبيان مظاهر رحمته وفضله ونعمه على الإنسان وفي الكون كله سمائه وأرضه ، فهو سبحانه عزيز شديد مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار ، رحمن منعم غافر للأبرار.

ما اشتملت عليه السورة :

سورة الرحمن كسائر السور المكية المتميزة بقصر آياتها ، وشدة تأثيرها ووقعها ، ومزيد رهبتها ، والمتعلقة بأصول الاعتقاد وهي التوحيد وأدلة القدرة الإلهية ، والنبوة والوحي ، والقيامة وما فيها من جنة ونار ، وآلاء ونعم ، وشدائد وأهوال.

عدّد الله تعالى في مطلع السورة آلاءه ونعمه العظمى ، وأولها نعمة الدين والوحي ، وإنزال القرآن وتعليمه عباده به ، فهو النعمة الكبرى ، وسنام الكتب السماوية ومصداقها. ثم أتبعه ببيان خلق الإنسان ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، والإفادة من الوحي وكتاب الله ، ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان : وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.

ثم أحصى الله تعالى أصول النعم الظاهرة الكبرى في الكون من الشمس والقمر ، والنجم (النبات) والشجر ، والسماء القائمة على التوازن الدقيق ،


والأرض ذات الفواكه والثمار والأشجار ، والزروع والرياحين ، مع الإشارة إلى خلق عالم آخر غير مادي ولا ملموس وهو الجنّ.

وأضاف إلى ذلك آية على قدرته الباهرة بالفصل بين البحر المالح والعذب ، وإخراج اللؤلؤ والمرجان من الماء المالح ، كإخراج الحب والعصف والريحان من التراب ، وتسيير السفن في أعالي البحار.

ثم يطوى عالم الكون البديع بالفناء الحتمي ، ولا يبقى سوى الحي القيوم ذي الجلال والإكرام ، ويبدأ بعدئذ عالم القيامة وما فيه من أهوال جسام ، ومصير عصيب للمجرمين ، وزجّ في نيران الجحيم.

ويقابل ذلك المشهد المؤلم مشهد النعيم في جنان الخلد لأهل الإيمان واليمين ، والخوف من مقام الله ، وفي تلك الجنان أنواع الأغصان ، والعيون والأنهار ، والفواكه ، والفرش الحريرية الوثيرة والأرائك الخضر ، والحور والولدان ، والخيرات الحسان.

وناسب كل ذلك ختم السورة بتمجيد الله عزوجل ، والثناء عليه ، على ما تفضل به وأنعم على عباده : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

أعظم النعم الإلهية الدنيوية والأخروية

ـ ١ ـ

نعمة القرآن والأشياء الكونية والأرضية

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ


بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

الإعراب :

(الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ .. الرَّحْمنُ) : مبتدأ ، وجملة (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) وما بعدها : أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف ، لأنها بقصد التعداد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزّك بعد ذلّ ، كثّرك بعد قلة ، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ، فما تنكر من إحسانه؟

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ الشَّمْسُ) : مبتدأ ، (وَالْقَمَرُ) : عطف عليه ، وخبره:إما قوله (بِحُسْبانٍ) وإما محذوف تقديره : يجريان بحسبان.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها .. السَّماءَ) منصوبة بتقدير فعل ، أي ورفع السماء ، وتقرأ بالرفع على الابتداء ، كقولهم : زيد لقيته ، وعمرو كلّمته. (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أن : إما ناصبة مع تقدير حذف حرف الجر ، أي لئلا تطغوا ، وإما مفسرة بمعنى «أي» فتكون «لا» الناهية ، و (تَطْغَوْا) على الأول منصوب بأن ، وعلى الثاني مجزوم ب «لا».

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ الْحَبُ) : بالرفع معطوف على المرفوع قبله ، ويقرأ بالنصب بفعل مقدر ، أي وخلق ، (وَالرَّيْحانُ) : بالرفع معطوف ، وبالنصب معطوف على (الْحَبُ) إذا نصب ، وبالجر بالعطف على (الْعَصْفِ).

البلاغة :

(الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) سجع مرصع غير متكلف.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها) و (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

المفردات اللغوية :

(الرَّحْمنُ) هو الله تعالى المنعم بجلائل النعم الدنيوية والأخروية ، وهو اسم من أسماء الله الحسنى. (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قدم ذلك لأن أصل النعم الدينية وأجلها هو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، فإنه أساس الدين ، ومنشأ الشرع ، وأعظم الوحي ، وأجلّ الكتب والمهيمن عليها والمصدّق


لها. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) الجنس الإنساني. (الْبَيانَ) التعبير عما في النفس ، وإفهام الغير لما يدركه من تلقي الوحي ، وتعرف الحق ، وتعلم الشرع.

(بِحُسْبانٍ) يجريان بحساب دقيق منظم ، مقدر في بروجهما ومنازلهما. (وَالنَّجْمُ) النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض ، ولا ساق له كالحنطة والمقاثي. (وَالشَّجَرُ) الذي له ساق كالنخل وأشجار الفاكهة. (يَسْجُدانِ) ينقادان أو يخضعان لله فيما يريد بهما طبعا ، كما ينقاد الساجد من المكلفين اختيارا أو طوعا. (رَفَعَها) خلقها مرفوعة المحل والرتبة. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أثبت العدل والنظام والتوازن في الأشياء الكونية كلها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بالعدل قامت السموات والأرض». (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي لئلا تجوروا فيما يوزن به ، ولا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنصاف.

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي قوّموا الوزن بالعدل. (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) تنقصوا الموزون ، والتكرار مبالغة في التوصية به ، وزيادة الحث على استعماله ، وقرئ : «ولا تخسروا» بفتح التاء ، وضم السين وكسرها وفتحها. (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي أثبتها وبسطها للخلق من الإنس والجن وغيرهم.

(فِيها فاكِهَةٌ) أنواع ما يتفكه به. (الْأَكْمامِ) أوعية الطلع والثمر ، جمع كم : بالكسر. (وَالْحَبُ) كالحنطة والشعير والذرة وسائر ما يتغذى به. (ذُو الْعَصْفِ) ورق الزرع الجاف ، وهو التبن. (وَالرَّيْحانُ) الورق المشموم الطيب الرائحة من النبات. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجن تكذبان؟ والاستفهام للتقرير ، ذكرت في السورة إحدى وثلاثين مرة ، فكلما ذكر تعالى نعمة وبخ على التكذيب بها ، كما يقول الرجل لغيره معاتبا ومذكرا ومؤنبا : ألم أحسن إليك بكذا بالمال ، ألم أحسن إليك بأن أنقذتك من كذا وكذا؟ ويكون التكرار لاختلاف ما يقرر به ، وهذا شيء كثير مألوف في كلام العرب ، كقول مهلهل يرثي كليبا :

على أنّ ليس عدلا (١) من كليب

إذا ما ضيم جيران المجير

على أن ليس عدلا من كليب

إذا رجف العضاة من الدّبور (٢)

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خرجت مخبأة الخدور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما أعلنت نجوى الأمور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خيف المخوف من الثغور

على أن ليس عدلا من كليب

غداة تأثل الأمر الكبير

__________________

(١) عدلا : أي مثلا ونظيرا.

(٢) العضاة : كل شجر يعظم وله شوك ، والدّبور : الريح التي تقابل الصّبا.


على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما خار جاش (١) المستجير

وأنشد قصائد أخرى على هذا النمط.

التفسير والبيان :

(الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي إن الله الواسع الرحمة لخلقه في الدنيا والآخرة أنزل على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن لتعليم أمته وجعله حجة على الناس قاطبة ، ويسّر حفظه وفهمه على من رحمه. وهذا جواب لأهل مكة القائلين : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل ١٦ / ١٠٣] ولما كانت هذه السورة لتعداد نعم الله التي أنعم بها على عباده ، قدّم بيان أجل النعم قدرا ، وأكثرها نفعا وهي نعمة تعليم القرآن عباده ، فإنها مدار سعادة الدارين. ثم امتن بنعمة خلق الإنسان أداة إعمار الكون ، فقال :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي أوجد جنس الإنسان ، وعلّمه النطق والتعبير عما في نفسه ، ليتخاطب مع غيره ، ويتفاهم مع أبناء مجتمعة ، فيتحقق التعاون والتآلف والأنس ، وبذلك اكتملت عناصر التعليم : الكتاب والمعلم وهما القرآن والنّبي ، والمتعلم وهو الإنسان ، وطريق التعلم وكيفيته وهو البيان.

ثم ذكر الله تعالى أمورا علوية هي مجال التعلم ، فقال :

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي إن الشمس المشرقة المضيئة للنهار ، والقمر نور الليل يجريان بحساب دقيق منظم مقدر معلوم في بروج ومنازل معلومة ، لا يعدوانها ، ويدلان بذلك على اختلاف الفصول وعدد الشهور والسنين ، ومواسم الزراعة ، وآجال المعاملات وأعمار الناس ، ويحققان الفوائد الكثيرة للإنسان والنبات والحيوان ، ويتعاقبان بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب ، كما

__________________

(١) مخفف جأش وهو العزيمة ، وقد تطلق على النفس مجازا.


قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام ٦ / ٩٦].

ثم أورد الله تعالى بعض عوالم الأرض السفلى ، فقال :

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) أي أن النبات الذي لا ساق له ، والشّجر الذي له ساق ينقادان طبعا لله تعالى فيما أراد ، كما ينقاد الساجدون من المكلفين اختيارا ، فإن ظهورهما من الأرض في وقت معين ولأجل محدد ، وجعلهما غذاء للإنسان ، ومتعة له شكلا ولونا ومقدارا وطعما ورائحة ، انقياد لقدرة الله تعالى.

ثم نبّه الله تعالى إلى ظاهرة التوازن بين الأشياء ، وضرورة التعادل في المبادلات ، فقال: (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي جعل السماء مرفوعة المحل والرتبة فوق الأرض ، وأقام التوازن في العالمين العلوي والسفلي الأرضي ، وأثبت في الأرض العدل الذي أمر به ، لئلا تتجاوزوا العدل والإنصاف في آلة الوزن أثناء مبادلة الأشياء ، كما قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد ٥٧ / ٢٥] فهذا نهي عن الطغيان في الوزن.

وأكّد على التزام العدل أو التعادل ، فقال :

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي قوّموا وزنكم بالعدل ، ولا تنقصوه ولا تبخسوه شيئا ، بل زنوا بالحق والقسط ، كما قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٢].

وهذا التكرير لتأكيد الأمر بالعدل ، ويلاحظ أنه سبحانه أمر أولا


بالتسوية ، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحدّ بالزيادة ، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس.

ثم ذكر نعمته في الأرض مقابل السماء ، فقال :

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي إنه تعالى كما رفع السماء ، وضع الأرض ومهدها وبسطها لينتفع بها ، وأرساها بالجبال الراسخات الراسيات ليستقر الأنام على وجهها ، وهم الخلائق المختلفة الأنواع والألوان والأجناس والألسنة في سائر الأقطار ، ثم أبان تعالى طرق معايش الناس فيها ، فقال :

(فِيها فاكِهَةٌ ، وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) أي إن في الأرض كل ما يتفكه به من أنواع الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح ، وأشجار النخيل ذات أوعية الطلع الذي يتحول بعدئذ إلى تمر ، وجميع ما يقتات من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة ونحوها ، ذات العصف وهو بقل الزرع : وهو أول ما ينبت منه ، أو هو التبن ، وكل مشموم من النبات ذي الورق الذي تطيب رائحته. وتنكير كلمة الفاكهة وتعريف النخل ، لأن الفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص ، أما ثمر النخيل فهو قوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان وعند جميع الأشخاص.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي النعم المتقدمة تكذبان يا معشر الجن والإنس. فالخطاب مع الثقلين : الإنس والجن. وقد عرفنا أن هذه الآية كررت في السورة إحدى وثلاثين مرة بعد كل خصلة من النعم ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ، لتأكيد التذكير بالنعم ، ولتقريرهم بها ، وللتنبيه على أهميتها ، والنعم محصورة في دفع المكروه وتحصيل المقصود. وقوله : (رَبِّكُما) لبيان أن مصدر هذه النعم من الله المربي الذي يتعهد عباده بالتربية والتنمية ، فيكون هو الجدير بالحمد والشكر على ما أنعم.


فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات الكريمات على ما يأتي :

١ ـ عدد الله تعالى في سورة الرحمن نعمه العظمى الدينية والدنيوية والأخروية ، وذكر بعد كل نعمة : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) للتذكير بالنعمة والتنبيه عليها ، مع إشاعة جو الرهبة والتخويف ، والتوبيخ لمن أنكرها.

روي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتل علي مما أنزل عليك ، فقرأ عليه سورة الرحمن فقال : أعدها ، فأعادها ثلاثة ، فقال : والله إن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، وأسفله لمغدق ، وأعلاه مثمر ، وما يقول هذا بشر ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

٢ ـ النعمة الأولى وهي أعظم النعم وأجلها : نعمة إنزال القرآن الذي بدّل حياة البشرية ، وسيظل صوت الحق الأبلج إلى يوم القيامة.

٣ ـ النعمة الثانية والثالثة خلق جنس الإنسان لإعمار الكون ، وتعليمه البيان أي الكلام والنطق والفهم ، وهو مما فضّل به الإنسان على سائر الحيوان.

٤ ـ النعمة الرابعة والخامسة : خلق الشمس والقمر اللذين يجريان بحساب معلوم دقيق في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها ، وبهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار.

٥ ـ النعمة السادسة : خلق النبات الشامل للنجم : وهو ما لا ساق له ، والشجر الذي له ساق ، وجعل ذلك منقادا لإرادة الله تعالى ، وتوجيهه لنفع الإنسان.

٦ ـ النعمة السابعة والثامنة : جعل السماء مرفوعة المحل والرتبة عن الأرض ، ووضع العدل الذي أمر الله به في الأرض ، وأقام التوازن في عالم السماء والأرض.


٧ ـ النعمة التاسعة : خلق آلة الميزان لإقامة العدل في المعاملات ، ومنع المنازعات وكفالة استقرار الناس وإبقاء ظاهرة الودّ والصفاء والوئام بينهم.

لذا نهى الله تعالى عن الطغيان في الوزن وهو تجاوز الحد أو الزيادة بعد الأمر بالتسوية والتعادل ، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس في الوزن والكيل ، كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين ٨٣ / ١ ـ ٣] ، وقال سبحانه : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود ١١ / ٨٤].

قال قتادة في هذه الآية : اعدل يا ابن آدم ، كما تحبّ أن يعدل لك ، وأوف كما تحبّ أن يوفّى لك ، فإن العدل صلاح الناس.

٨ ـ النعمة العاشرة : خلق الأرض ممهدة مبسوطة للناس.

٩ ـ النعمة الحادية عشرة : اشتمال الأرض على متعة الحياة وأقوات الإنسان والحيوان ، وهو كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار ، وإنبات النخيل مصدر التمور ، وإخراج الحبّ كالحنطة والشعير ونحوهما ، والعصف : وهو التبن ، أو ورق الشجر والزرع ، والرياحين.

١٠ ـ بعد إيراد هذه النعم ، خاطب الله تعالى ـ كما تقدم ـ الجنّ والإنسان بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لتقرير النعمة وتأكيد التذكير بها. وقد تقدم

حديث الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : قرأ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : «ما لي أراكم سكوتا؟! للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا ، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب ، فلك الحمد».


ـ ٢ ـ

توضيح أحوال بعض النعم

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

الإعراب :

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) مرفوع إما بدل من ضمير (خَلَقَ) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو ربّ المشرقين.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أي يخرج من أحدهما ، لأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرج من العذب ، وإنما يخرج من الملح ، فحذف المضاف وهو «أحد» وأقام المضاف إليه مقامه ، كقوله تعالى : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] أي من إحدى القريتين ، فحذف المضاف.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الكاف في موضع نصب على الحال من ضمير في (الْمُنْشَآتُ).

البلاغة :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) ، (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) بينهما مقابلة.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) تشبيه مرسل مجمل ، أي كالجبال في العظم والضخامة والثبات فوق الشيء.


المفردات اللغوية :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أصل الإنسان وهو آدم (صَلْصالٍ) طين يابس له صلصلة أي صوت ، إذا نقر (كَالْفَخَّارِ) وهو الخزف : وهو ما طبخ من طين أو الطين المطبوخ حتى يتحجر. (وَخَلَقَ الْجَانَ) أصل الجن وهو إبليس (مارِجٍ) لهب خالص لا دخان فيه (مِنْ نارٍ) بيان لمارج : فإنه في الأصل الشيء المضطرب.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي مشرقي الشتاء والصيف ، ومغربهما. (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسلها وأجراهما ، يقال : مرجت الدابة في المرعى ، أي أرسلتها فيه ، والبحران : العذب والملح. (يَلْتَقِيانِ) يتجاوران في المصب دون فصل مرئي بينهما. (بَرْزَخٌ) حاجز من قدرة الله تعالى. (لا يَبْغِيانِ) لا يبغي أحدهما على الآخر ، فيختلط به أو يمتزج.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا) أي يخرج من أحدهما وهو الملح (اللُّؤْلُؤُ) صغار الدرّ المخلوق في الأصداف. (وَالْمَرْجانُ) كبار الدرّ أو الخرز الأحمر. (الْجَوارِ) السفن ، جمع جارية.

(الْمُنْشَآتُ) المصنوعات المحدثات ، أو الرافعات أشرعتها. (كَالْأَعْلامِ) كالجبال عظما وارتفاعا ، جمع علم : وهو الجبل العالي الطويل.

المناسبة :

بعد تعداد أصول النعم على بني الإنسان وخلق العالم الكبير من السماء والأرض ، أراد الله تعالى إيضاح أحوال بعضها ، وهي أصل خلق الإنسان والجانّ وهو العالم الصغير ، وبيان مشرق الشمس ومغربها وسلطانه عليهما ، وعلى البحار وما فيها من لآلئ ومرجان ، وما يسير على سطحها من مراكب عظيمة كالجبال ، مما يدلّ على وحدانية الله وقدرته.

التفسير والبيان :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) أي خلق الله تعالى أصل الإنسان من طين يابس يسمع له صلصلة ، أي صوت إذا نقر ، يشبه الفخار ، أي الخزف : وهو الطين المطبوخ بالنار ، للدلالة على صلابة الإنسان وتماسك أجزائه.


وقد تنوعت عبارات القرآن في بيان هذا ، باعتبار مراتب الخلق : (مِنْ تُرابٍ) ، (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي طين متغير ، أو (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي لاصق باليد ، من صلصال ، فهذا إشارة إلى أن آدم عليه‌السلام خلق أولا من التراب ، ثم صار طينا ، ثم حمأ مسنونا ، ثم لازبا ، ثم كالفخار ، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك ، ومن ذلك.

(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي وأوجد الجنّ من طرف النار ، وهو المارج ، أي الشعلة الصاعدة ذات اللهب الشديد ، التي لا لهب فيها ، المختلط الألوان المضطرب ، كالأصفر ، والأحمر ، والأخضر وغيرها. أخرج الإمام أحمد ومسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجانّ من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله يا معشر الثقلين : الإنس والجن تكذبان أو تنكران مما هو واقع ملموس؟!

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي ربّ مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ، وربّ مغربي الشمس في الصيف والشتاء ، وبهما تتكون الفصول الأربعة ، وتختلف أحوال المناخ من برد وحرّ واعتدال ، وغير ذلك من المنافع العظيمة للإنسان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله هذه تكذبان أو تنكران؟ وأما قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج ٧٠ / ٤٠] فذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس. وقوله سبحانه في آية أخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل ٧٣ / ٩] ، فالمراد منه جنس المشارق والمغارب.

ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس


قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فالشمس تشرق صيفا من مدار السرطان في نصف الكرة الشمالي ، ومن مدار الجدي في الجنوب صيفا ، حيث يكون الشتاء في الشمال ، فلو ثبتت الشمس في شروق وغروب واحد لتعطلت المواسم والزراعة في الصيف والشتاء.

وبعد بيان نعم الله في البر ، ذكر نعمه في البحر ، فقال :

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي أرسل البحرين ملحا وعذبا متلاقيين ، لا فصل بينهما في مرأى العين ، ومع ذلك فبينهما حاجز يحجز بينهما ، لا يبغي أحدهما على الآخر ، بالامتزاج والاختلاط ، وإنما يظلان منفصلين ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ : هذا عَذْبٌ فُراتٌ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٥٣].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعمة أو المنفعة تكذبان أيها الإنسان والجن؟ فالعذب للشرب وسقي النبات والحيوان ، والملح لتطهير تجمع الماء من الجراثيم ، وإصلاح طبقة الهواء ، وإخراج اللؤلؤ والمرجان ، كما قال تعالى :

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أي يخرج من أحدهما ـ على حذف مضاف ـ وهو الملح (اللُّؤْلُؤُ) : وهو الدّر الذي يتكون في الصدف ، (وَالْمَرْجانُ) : الخرز الأحمر المعروف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فبأي نعم الله الظاهرة لكم تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه ، ولا يقدر على إنكاره.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي والله الذي خلق وألهم صنع


السفن الجارية في البحر التي رفع بعض خشبها على بعض وركّب ، ورفعت سواريها وأشرعتها في الهواء كالجبال الشاهقة ، فهي تنتقل في البحار بالركاب والحمولات والبضائع والأقوات والأرزاق والآلات من بلد إلى آخر ، ومن قطر إلى قطر ، حتى بلغت حمولة بعض ناقلات النفط خمس مائة ألف طن ، بالإضافة لحاملات الطائرات والبوارج الحربية المدمرة ، والغواصات الذرية الرهيبة. ولو شاء تعالى لجعل البحر ساكنا ولما تمكنت السفن أن تطفو فوق الماء. فقوله : (الْمُنْشَآتُ) إما المرفوعات ، وإما المحدثات الموجودات. وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال ، وإن كانت المنشآت تطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة. وإنما قال : (وَلَهُ الْجَوارِ) خاصة ، مع أن له السموات وما فيها والأرض وما عليها ، لأن أموال الناس وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى ، حيث لا تصرف لأحد في الفلك.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجنّ؟ لقد خلقت هذه النعمة العديدة لكم ، أيمكنكم إنكار صناعة السفن الضخمة ، أو كيفية إجرائها في البحر ، أو دورها في تقريب المسافات والاتصال بين أجزاء العالم المتباعدة ، ونقل تجاراته وصناعاته ، للاستفادة منها في أقاليم أخرى.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ إن أصل خلق الإنسان من تراب ، ثم طين ، فحمأ مسنون ، ثم لازب ، ومرد غذائه إلى التراب والماء ، ومصيره في النهاية إلى الأرض التي خلق منها ، ثم يخرج منها يوم البعث والمعاد.

٢ ـ وإن خلق أصل الجن من لهب النار ، أو من الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد ، المختلط بعضه ببعض : أحمر وأصفر وأخضر.


٣ ـ الله سبحانه ربّ المشرق والمغرب ، وربّ المشرقين والمغربين في الصيف والشتاء ، وربّ المشارق والمغارب ، أي مطالع الشمس ومغاربها في كل يوم.

٤ ـ أرسل الله في البحار والمحيطات الكبرى البحرين : الملح والعذب ، وجعل بينهما حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر ، وتلك آية كبري على قدرة الله وعظمته.

٥ ـ أخرج الله للناس ومنافعهم من البحار المالحة اللؤلؤ والمرجان ، كما أخرج من التراب الحبّ والعصف والريحان. وإنما قال : (مِنْهُمَا) وإنما يخرج ذلك من الملح لا العذب ، لأن العرب تجمع الجنسين ، ثم تخبر عن أحدهما ، كقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام ٦ / ١٣٠] ، وإنما الرسل من الإنس دون الجن ، كما قال الكلبي وغيره. وقال الزجاج : قد ذكرهما الله ، فإذا خرج من أحدهما شيء ، فقد خرج منهما ، وهو كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح ٧١ / ١٥ ـ ١٦] والقمر في سماء الدنيا ، ولكن أجمل ذكر السبع ، فكأن ما في إحداهنّ فيهنّ.

وقال أبو علي الفارسي كما تقدم : هذا من باب حذف المضاف ، أي من أحدهما ، كقوله تعالى : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] ، أي من إحدى القريتين.

٦ ـ لا يملك الفلك في البحر في الحقيقة أحد سوى الله ، إذ لا تصرف لأحد فيها ، لذا امتن الله تعالى على الناس في تسيير السفن في البحار ، وأموال وأرواح ركابها في قبضة قدرة الله تعالى فوق الماء ، كما هو الحال في إقلاع الطائرات في أعالي الفضاء فوق الهواء.

والسفن في البحر كالجبال في البر ، والطائرات في الجو كالطيور والشهب ،


ومن المعلوم أن الطائرات في الفضاء كالسفن في البحار تحمل مئات الأطنان.

٧ ـ أردف الله تعالى بعد كل نعمة قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) للتقرير بالنعم المختلفة المتعددة ، والتوبيخ على التكذيب بها ، كما تقدم بيانه ، ومجمل المذكور هنا وما قبله : هل يستطيع أحد إنكار بدء خلق الإنسان والجن ، وسلطان الله تعالى على المشرق والمغرب والشمس والقمر ، والنجم والشجر ، والزرع والحب ، والأنهار والبحار ، والدر والمرجان ، وخلق مواد السفن ، والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر ، بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى. والإنسان وإن كان هو الصانع في الظاهر ، ولكن صنعه بإلهام الله وتوفيقه وهدايته وإرشاده.

فناء النعم والكون كله وبقاء الله تعالى

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))

البلاغة :

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) مجاز مرسل ، أي ذاته المقدسة ، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.

المفردات اللغوية :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها) من على الأرض من إنسان وحيوان وموجودات ومصنوعات و (مَنْ) لتغليب العقلاء ، أو المراد : من الثقلين : الإنس والجن ، فالضمير على الصحيح يعود إلى الأرض.

(فانٍ) هالك. (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أي ذاته. (ذُو الْجَلالِ) العظمة. (وَالْإِكْرامِ) الإفضال العام بأنعمه على المؤمنين. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما ذكرنا قبل ، ومن الإخبار بالفناء الذي يعقبه البقاء والحياة الأبدية.


(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يطلبون منه صراحة أو بلسان الحال كل ما يحتاجون إليه من الحدوث والبقاء للذوات ، والسعادة والرزق في الأحوال. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كل وقت هو في أمر من الأمور ، يحدث أشخاصا ، ويجدّد أحوالا على ما سبق به قضاؤه في الأزل ، من إحياء وإماتة ، وإعزاز وإذلال ، وإغناء وإعدام ، وإجابة داع وإعطاء سائل ، وغير ذلك.

المناسبة :

بعد تعداد النعم الدينية والدنيوية والأخروية ، والاستدلال على قدرة الله وتوحيده في الأنفس والآفاق ، نعى الحق سبحانه وتعالى الكون بأجمعه ، وأخبر بأن جميع النعم الدنيوية والكائنات فانية ، ولا يبقى إلا ذات الله تعالى.

التفسير والبيان :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي جميع من على الأرض من الناس والحيوانات ، وكذلك أهل السموات إلا من شاء الله ، سيفنون ويموتون ، وتنتهي حياتهم جميعا ، ولا يبقى إلا ذات الله سبحانه ذو العظمة والكبرياء ، والإفضال والإكرام الذي يكرم به المخلصين من عباده ، وهذه الصفة (صفة الجلال والإكرام) من عظيم صفات الله ، وأعظم النعمة مجيء وقت الجزاء عقب ذلك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي عن أنس : «ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموا ذلك في الدعاء ، ومرّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل ، وهو يصلي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : «قد استجيب لك».

وفي الدعاء المأثور : يا حيّ يا قيّوم ، يا بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك.

ونظير الآية : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص ٢٨ / ٨٨] قال ابن كثير : وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية


الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام ، أي هو أهل أن يجلّ فلا يعصى ، وأن يطاع فلا يخالف ، كقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف ١٨ / ٢٨] وكقوله إخبارا عن المتصدقين : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الدهر ٧٦ / ٩]. وقال ابن عباس : ذو الجلال والإكرام : ذو العظمة والكبرياء (١).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن ، فالناس والمخلوقات جميعا يتساوون كلهم في الوفاة ، ثم يصيرون إلى الدار الآخرة ، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل ، والفناء طريق للبقاء ، والحياة الأبدية ، فكان في الفناء نعمة التساوي في الموت ، ونعمة تعاقب الأجيال ، ونعمة العدل المطلق ، ونعمة الانتقال من الدار الفانية إلى الدار الخالدة الباقية دار الجزاء والثواب ، ذات النعيم المادي والروحي الشامل ، فكيف يكون منكم التكذيب بهذه النعم العظيمة؟!

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) أي يطلب منه جميع أهل السماء والأرض كل ما يحتاجون إليه ، فيسأله أهل السموات المغفرة ، ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعا (المغفرة والرزق) وتسأل لهم الملائكة أيضا الرزق والمغفرة ، فلا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض ، والمادة تحتاج إلى ما يناسبها ، والنبات يحتاج إلى ما يبقيه ، والإنسان بحاجة إلى مقومات الحياة المادية والمعنوية ، والحيوان مفتقر إلى عناصر البقاء.

وهذا إخبار عن غناه تعالى عما سواه ، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات ، وأنهم يسألونه بلسان الحال والمقال ، وأنه سبحانه كل يوم ووقت في شأن ، ومن شأنه أنه يحيي ويميت ، ويرزق ، ويغني ويفقر ، ويعزّ ويذلّ ، ويمرض

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ٢٧٣


ويشفي ، ويعطي ويمنع ، ويغفر ويعاقب ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

أخرج ابن جرير والطبراني وابن عساكر عن عبد الله بن منيب الأزدي قال : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فقلنا : يا رسول الله ، وما ذاك الشأن؟ قال : «أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي نعم الله تكذبان؟ فإن اختلاف شؤونه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها ، ولا يتيسر لمكذّب تكذيبها.

فقه الحياة أو الأحكام :

أفادت الآيات ما يأتي :

١ ـ الفناء أمر حتمي لجميع الخلائق في السموات والأرض يوم القيامة ، والبقاء بعدئذ لله ذي العزة والجبروت ، والعظمة والكبرياء ، والتكريم عن كل شيء لا يليق به من الشرك وغيره ، والإكرام لعباده المخلصين.

قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ..) قالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، فنزلت : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فأيقنت الملائكة بالهلاك.

٢ ـ يطلب أهل السموات والأرض جميع ما يحتاجون إليه ، فيسأل أهل السموات المغفرة ، ويسأله أهل الأرض المغفرة والرزق ، والله كل يوم في أمر أو شأن ، ومن شأنه أن يحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويرزق ويمنع. روى البخاري في تاريخه وابن ماجه وابن حبان عن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، «من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين».


٣ ـ لا مجال للتكذيب بشيء من نعم الله في التسوية بين الخلق في الموت والفناء ، والانتقال إلى دار الجزاء والثواب ، وإجابة دعائهم وتحقيق الخير والرزق والمغفرة لهم في الدنيا والآخرة.

الجزاء والثواب على الأعمال في الآخرة

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))

الإعراب :

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ نُحاسٌ) بالرفع : معطوف على قوله (شُواظٌ) وقرئ بالجر ، ولا يجوز عطفه على (نارٍ) لأن الشواظ لا يكون من النحاس ، لأن النحاس هاهنا بمعنى الدخان ، وإنما هو محمول على تقدير : شواظ من نار ، وشيء من نحاس ، فحذف الموصوف لدلالة ما قبله عليه.

البلاغة :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) استعارة تمثيلية ، شبه محاسبة الخلائق وجزاءهم يوم القيامة بالتفرغ للأمر ، والله تعالى لا يشغله عن شأن ، وإنما ذلك على سبيل المثال ، إذ شبه تعالى ذاته في المجازاة بحال من فرغ للأمر.

(إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا .. فَانْفُذُوا) الأمر هنا للتعجيز ، فقوله (فَانْفُذُوا) أمر تعجيزي.


المفردات اللغوية :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ) سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة ، أو سنقصدكم بالفعل وفيه تهديد. (الثَّقَلانِ) الإنس والجن. (أَنْ تَنْفُذُوا) إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ، هاربين من الله ، فارّين من قضائه. (أَقْطارِ) جوانب جمع قطر. (فَانْفُذُوا) فاخرجوا ، وهو أمر تعجيز. (لا تَنْفُذُونَ) لا تقدرون على النفوذ. (إِلَّا بِسُلْطانٍ) بقوة وقهر. (شُواظٌ) لهب خالص لا دخان فيه. (وَنُحاسٌ) ودخان لا لهب. فيه. (فَلا تَنْتَصِرانِ) لا تمتنعان من ذلك العذاب ، بل تساقون إلى المحشر.

المناسبة :

بعد بيان النعم التي أنعم الله بها على الإنسان من تعليم العلم وخلقه وخلق السماء والأرض وما أودع فيهما ، والإخبار عن فنائها يوم القيامة ، أخبر الله تعالى عن مجازاة الناس وحسابهم يوم القيامة ، فيجازى كل عامل بما عمل ، ويثاب على ما قدم من عمل صالح ، ولا مناص ولا مهرب من العقاب ، ولا من الامتناع منه.

التفسير والبيان :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم على أعمالكم ، أيها الثقلان : الإنس والجن. وسموا الثّقلين ، لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا. وهذا وعيد شديد من الله سبحانه للعباد ، علما بأن الله لا يشغله شيء عن شيء.

جاء في الصحيح تفسير الثقلين بما ذكر : «يسمعه كل شيء إلا الثقلين» وفي رواية : «إلا الإنس والجن» وفي حديث الصور : «الثقلان : الإنس والجن».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الثقلين؟ فإن من نعمه إنصاف الخلائق ، بإثابة المحسنين ، ومعاقبة المجرمين ، فلا يظلم أحد شيئا.


ولا إفلات من هذا الجزاء ، فقال تعالى :

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، فَانْفُذُوا ، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي أيها الإنس والجن ، إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره ، وأمره وسلطانه ، فاخرجوا منها ، وخلصوا أنفسكم ، لا تقدرون على التخلص والنفوذ من حكمه إلا بقوة وقهر ، ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة ، فلا يمكنكم الهرب. والمعشر : الجماعة العظيمة ، والأدق أن المعشر : العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فيه.

ونظير الآية : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ، جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ، هُمْ فِيها خالِدُونَ) [يونس ١٠ / ٢٧].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان؟ ومن ذلك تقديم التنبيه والتحذير ، فذلك يرغّب المحسن ، ويرهب المسيء ، والله قادر على عقاب الجميع ، فلا يفلت أحد ، كما أنه تعالى يعفو مع كمال القدرة ، وتلك نعمة أخرى. وإنما جمع (اسْتَطَعْتُمْ) فهو لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ ، وَنُحاسٌ ، فَلا تَنْتَصِرانِ) أي لو خرجتم يسلّط عليكم أيها الإنس والجن سيل من النار أو لهب خالص لا دخان معه من النار ، ودخان مع النار ، أو يصب على رؤوسكم نحاس مذاب ، فلا تقدرون على الامتناع من عذاب الله. فالنحاس : إما الدخان الذي لا لهب له ، أو النحاس المذاب الذي يصب على الرؤوس. وإنما ثنى ضمير (عَلَيْكُما) فهو لبيان الإرسال على النوعين ، لا على كل واحد منهما ، ولا على جميع الإنس والجن. وكذلك


تثنية (فَلا تَنْتَصِرانِ) أراد به النوعين أي لا ينصر بعضكم بعضا أيها الجن والإنس.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن ، فإن التهديد لطف ، والتمييز بين المطيع والعاصي ، بإثابة الأول ، والانتقام من الثاني من نعم الله سبحانه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لا بد من الحساب والجزاء على أعمال الناس والجن يوم القيامة ، وسيتم القصد بالفعل للمجازاة أو المحاسبة. وهذا وعيد وتهديد من الله لعباده ، ليحذروا يوم الحساب ، ويرهبوا يوم الجزاء.

٢ ـ الحساب دليل واضح على أن الجن مخاطبون بالتكاليف الشرعية كالإنس تماما ، فهم مكلفون مأمورون منهيون ، مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم ، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.

٣ ـ لا مفرّ ولا مهرب ولا مناص من الجزاء والحساب على أعمال الإنس والجن ، ولا يملكون إطلاقا التخلص والهروب من العذاب إلا بسلطان من الله يجيرهم ، وإلا فلا مجير لهم.

والسبب في تقديم الجن على الإنس في هذه الآية : أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن. أما الإتيان بمثل القرآن فهو بالإنس أليق إن أمكن ، لذا قدم الإنس على الجن في ذلك ، في قوله تعالى : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء ١٧ / ٨٨].


٤ ـ لو خرجتم أيها الإنس والجن من ناحية ما ، أرسل عليكم شواظ من نار (لهب خالص) ودخان أو نحاس مذاب يصب على رؤوسكم ، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ أو الخروج ، ولا ينصر بعضكم بعضا يا معشر الجن والإنس.

٥ ـ كيف يصح لأحد من الإنس والجن إنكار أو تكذيب شيء من هذه النعم؟ فإن الحساب حق والجزاء حق ، يستهدف كل منهما إحقاق الحق التام ، وإرسال العدل المطلق ، والتخويف والتحذير أو الترهيب يحقق الزجر والامتناع من المخالفة والعصيان ، والإذعان التام والإقرار بعظمة سلطان الله ، وملكه وقدرته.

تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

الإعراب :

(فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) الجار والمجرور في محل رفع نائب فاعل ، وليس في (فَيُؤْخَذُ) ضمير يعود على المجرمين وإنما يقدر ضمير في رأي البصريين ، أي يؤخذ منهم أو يؤخذ بنواصيهم وأقدامهم. ويرى الكوفيون أن الألف واللام يقومان مقام الضمير ، مثل : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي أبوابها ، وكقولهم : زيد أما المال فكثير ، أي ماله. ويأتي البصريون ذلك ، ويقدرون : مفتحة لهم الأبواب منها ، وزيد أما المال فكثير له.


البلاغة :

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً ..) تشبيه بليغ ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه ، أي كالوردة في الحمرة.

المفردات اللغوية :

(انْشَقَّتِ) تصدعت. (وَرْدَةً) حمراء ، أي كالوردة في الحمرة. (كَالدِّهانِ) مذابة كالدهن ، أو كالأديم (الجلد) الأحمر ، على خلاف ما هي عليه الآن ، وجواب (فَإِذَا) محذوف تقديره : فما أعظم الهول. (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أي الناس والجن ، وعدم المسؤولية حينما يخرجون من قبورهم ، ويحشرون إلى الموقف. وأما قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر ١٥ / ٩٢] ونحوه فهو حين الحساب في موقف الحشر.

(بِسِيماهُمْ) علامتهم. (بِالنَّواصِي) جمع ناصية : وهي مقدّم الرأس. (وَالْأَقْدامِ) جمع قدم : وهي القدم المعروفة ، ويؤخذ بهما مجموعا بينهما. (يَطُوفُونَ) يسعون. (بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يترددون بين النار التي يحرقون بها ، وبين ماء حارّ شديد الحرارة ، يسقونه إذا استغاثوا من حرّ النار.

المناسبة :

هذه الآيات حلقة أخرى تتعلق بأحوال الآخرة والجزاء ، فبعد أن ذكر الله تعالى رهبة الحساب وحتميته واستحالة التخلص منه أو الهرب من إيقاعه ، ذكر تعالى ما يطرأ على العالم من تغير وتبدل واختلال النظام ، حيث تتصدع السماء وتذوب كالدهن أو الزيت ، ويتميز المجرمون عن غيرهم بعلامات خاصة ، فلا حاجة لسؤالهم حينئذ ، ثم يزجّ بهم في جهنم ، بأخذهم بنواصيهم وأقدامهم ، ويطاف بهم بين النار التي يحترقون بها ، وبين الماء المغلي البالغ نهاية الشدة في الحرارة ، ويقال لهم توبيخا وتقريعا : هذه جهنم التي كذبتم بها.

التفسير والبيان :

عقب الله بقوله : (فَإِذَا) لأن الفاء للتعقيب ، بعد قوله :


(فَلا تَنْتَصِرانِ) أي في وقت إرسال الشواظ عليكما ، والمعنى : فإذا انشقت السماء وذابت ، وصارت الأرض والجو والسماء كلها نارا ، فكيف تنتصران؟

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) أي فإذا جاء يوم القيامة ، انصدعت السماء ، وتبددت وصارت كوردة حمراء ، وذابت مثل الدهن ، أو تلونت كالجلد الأحمر ، والمراد أنها تذوب كما يذوب الزيت ، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها ، فتارة حمراء ، أو صفراء ، أو زرقاء ، أو خضراء ، وذلك من شدة الأمر ، وهول يوم القيامة.

ونظائر الآية كثير ، مثل : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق ٨٤ / ١] ، (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ١] ، (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٦] ، (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٥].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ فإن الخبر بذلك فيه رهبة ورعب يزجر السامع عن الشرّ ، وبأي نعم الله تكذبان مما يكون بعد ذلك؟

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أي يوم تنشق السماء ، لا يسأل أحد من الإنس ولا من الجنّ عن ذنبه ، لأنهم يعرفون بسيماهم عند خروجهم من قبورهم ، ولأن الله سبحانه قد أحصى الأعمال ، وحفظها على العباد. وقال مجاهد في هذه الآية : لا تسأل الملائكة عن المجرمين ، بل يعرفون بسيماهم.

وهذا كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات ٧٧ / ٣٥ ـ ٣٦] ، ثم يسألون بعدئذ في حال أخرى يوم يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم في موقف الحساب ، كما قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا


كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر ١٥ / ٩٢] ، وقال سبحانه : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٢٤].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي نعم الله تكذبان؟ مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم ، ومن هذا التخويف والإنذار المسبق ، ليرتدع الناس عن الذنوب ، ويثوبوا إلى رشدهم.

ثم أبان الله تعالى سبب عدم السؤال ، فقال :

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يعرف الكفار والفجار يوم خروجهم من القبور بعلاماتهم ، وهي كونهم سود الوجوه ، زرق العيون ، يعلوهم الحزن والكآبة ، فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم مجموعا بينهما ، فتجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي ، وتلقيهم الملائكة في النار. والناصية : مقدّم شعر الرأس. وإفراد (فَيُؤْخَذُ) مع أن المجرمين جمع ، وهم المأخوذون ، لأن (فَيُؤْخَذُ) متعلق بقوله تعالى : (بِالنَّواصِي) كما يقال : ذهب بزيد.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي النعم تتجرأان على تكذيبها ، فقد أنذرتم وحذرتم مسبقا ، وعرفتم المصير المنتظر في عالم الآخرة؟

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ها هنا إضمار ، أي يقال لهم عند ذلك توبيخا وتأنيبا : هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها التي كنتم تكذبون بوجودها ، وتنكرون حدوثها ، ها هي حاضرة أمامكم ترونها عيانا.

وهم تارة يعذبون في الجحيم للاحتراق ، وتارة يسقون من الحميم : وهو الشراب أو الماء المغلي الشديد الحرارة ، الذي هو كالنحاس المذاب ، يقطع الأمعاء والأحشاء ، كقوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي


الْحَمِيمِ ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر ٤٠ / ٧١ ـ ٧٢] ، وقوله سبحانه : (...فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ..) [الحج ٢٢ / ١٩ ـ ٢١].

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي بأي النعم تكذبان بعد هذا البيان والإنذار والاعلام المسبق؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن انشقاق أو تصدع السماء يحدث عقب إرسال الشواظ من النار ، وإذا انصدعت السماء صارت في حمرة الورد وذوبان الدهن كالجلد الأحمر الصرف ، فالتشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان ، والتشبيه بالوردة في اللون.

٢ ـ إن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم ، فيسأل الإنس والجن في وقت ولا يسألون في وقت آخر ، فلا يسألون وقت خروجهم من القبور ، وإذا استقروا في النار ، ويسألون في موقف الحساب قبل الصيرورة إلى الجنة أو إلى النار. والمراد من السؤال على المشهور : أنهم لا يقال لهم : من المذنب منكم؟

٣ ـ يتميز الكفار المجرمون والفجار عن المؤمنين بعلامات بارزة ، فهم سود الوجوه ، زرق العيون ، تعلوهم الكآبة والحزن كما تقدم ، وتأخذ الملائكة بنواصيهم (أي بشعور مقدم رؤوسهم) وأقدامهم ، فيقذفونهم في النار.

٤ ـ يقال للمجرمين تقريعا وتوبيخا ، وتصغيرا وتحقيرا : هذه النار التي أخبرتم بها ، فكذبتم ، ويعذبون مرة في الحميم (الشراب الشديد الحرارة جدا) ومرة في الجحيم (النار).

٥ ـ امتن الله على عباده بقوله بعد كل نعمة : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)


لأن معاقبة العصاة المجرمين ، وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه ، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك.

أنواع نعم الله على المتقين في الآخرة

ـ ١ ـ

وصف الجنات

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))

الإعراب :

(ذَواتا أَفْنانٍ ذَواتا) تثنية (ذات) التي أصلها (ذوية) فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فصارت (ذوات) إلا أنه حذفت الواو من الواحد للفرق بين الواحد والجمع. ودل عود الواو في التثنية على أصلها في الواحد.

(مُتَّكِئِينَ) حال منصوب من المجرور باللام في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أي ثبت لهم جنتان في هذه الحال ، أو عامله محذوف أي يتنعمون.


(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) : في موضع نصب على الحال من (قاصِراتُ الطَّرْفِ) وتقديره : فيهن قاصرات الطرف مشبهات الياقوت والمرجان.

البلاغة :

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) جناس ناقص أو جناس الاشتقاق ، لتغير الشكل والحروف. (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) إيجاز بحذف الموصوف وإبقاء الصفة ، أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن.

المفردات اللغوية :

(لِمَنْ خافَ) لكل من خاف ، بأن كفّ عن المعاصي واتبع الطاعات ، والأصل في الخوف : توقع مكروه في المستقبل ، وهو ضد الأمن. (مَقامَ رَبِّهِ) قيامه بين يدي ربه للحساب ، فترك معصيته ، أي خاف الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب ، أو قيامه على أحواله واطلاعه عليه. (جَنَّتانِ) روحانية وجسمانية. (أَفْنانٍ) أغصان جمع فنن كطلل ، أو أنواع من الأشجار والثمار ، جمع فنّ. (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل ، قيل : إحداهما التسنيم ، والأخرى السلسبيل.

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) من كل نوع من أنواع الفاكهة. (زَوْجانِ) صنفان أو نوعان : رطب ويابس. (فُرُشٍ) جمع فراش للنوم والراحة. (بَطائِنُها) جمع بطانة وهي القماش الرقيق الداخلي. (إِسْتَبْرَقٍ) ما غلظ من الديباج وخشن ، أي الحرير الثخين ، والظهائر : من السندس. (وَجَنَى) ثمر. (دانٍ) قريب التناول ، يناله القائم والقاعد والمضطجع.

(فِيهِنَ) أي في الجنتين وما اشتملتا عليه من الفرش والقصور والعلالي والحور ونحوها أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر). (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن المتكئين من الإنس والجن ، لا ينظرن إلى غيرهم ، وهن من الحور أو من نساء الدنيا. (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) لم يمسسهن أو لم يفتضهن ، وفيه دليل على أن الجن يطمثون. (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) لا من الإنس ولا من الجن.

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ) في صفاء الياقوت أو في حمرة الوجه ، والياقوت : الحجر الأملس الصافي المعروف. (والمرجان) هو الخرز الأحمر ، أو صغار اللؤلؤ والدر في بياض البشرة وصفائها ، وتخصيص الصغار لأنهن أنصع بياضا من الكبار. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل. (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الثواب ، وهو الجنة.


سبب النزول :

نزول الآية (٤٦):

(وَلِمَنْ خافَ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق ، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب العظمة عن عطاء : أن أبا بكر الصديق ذكر ذات يوم القيامة والموازين والجنة والنار ، فقال : وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر ، تأتي علي بهيمة تأكلني ، وأني لم أخلق ، فنزلت : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ).

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى ما يلقاه المجرمون : المشركون وأمثالهم من الكفار والفجار العصاة من ألوان العذاب الأخروي ، ذكر هنا ما أعدّه الله عزوجل للمؤمنين المتقين الذين يخافون ربهم في السر والعلن من أنواع النعيم الروحي والمادي في الجنة ، من قصور ، ورياض غنّاء ، وبساتين خضراء ، وأنهار جارية ، وفواكه متنوعة ، وفرش حريرية ، ونساء حسان كالياقوت صفاء ، واللؤلؤ أو الدر بياضا ، بسبب ما قدموا من صالح الأعمال. والخلاصة : أنه لما ذكر أحوال أهل النار ، ذكر ما أعدّ للأبرار.

التفسير والبيان :

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ولمن خشي الله وراقبه ، فهاب الموقف الذي يقف فيه العباد بين يدي الله للحساب ، وحسب الحساب لإشراف الله تعالى على أحواله ، واطلاعه على أفعاله وأقواله جنتان : روحية وجسمانية ، أما الروحية فهي رضا الله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة ٩ / ٧٢] وأما الجسمانية فهي متع مادية كمتاع الدنيا وأسمى ، بسبب أعماله


الصالحة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثقلان ، فإن نعيم الجنان لا مثيل له ، فضلا عن الخلود والدوام فيه ، ولا مانع أن يعطي الله جنتين وجنانا عديدة.

والصحيح ـ كما قال ابن عباس وغيره ـ أن هذه الآية عامة في الإنس والجن ، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا.

أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي موسى الأشعري قال : «جنان الفردوس أربع جنات : جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء ، على وجهه ، في جنة عدن».

وأخرج ابن جرير والنسائي عن أبي الدرداء : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ يوما هذه الآية : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق؟ فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق؟ فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال : «وإن رغم أنف أبي الدرداء».

ثم وصف هاتين الجنتين ، فقال : (ذَواتا أَفْنانٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ذواتا أغصان نضرة حسنة ، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة ، أو ذواتا أنواع من الأشجار والثمار ، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس ، فإن هذا الجمال وهذه النعمة لمما يحرص عليها العقلاء.

(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية ، فهما عينان تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان ، فتثمر من جميع الألوان. قال الحسن البصري : إحداهما يقال لها : تسنيم ، والأخرى السلسبيل. فبأي نعم الله يحدث التكذيب؟ فتلك حقيقة قطعية ، ونعمة عظيمة.


(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في الجنتين من كل نوع يتفكه به ومن جميع أنواع الثمار صنفان ونوعان ، يستلذ بكل نوع منهما ، أحدهما رطب والآخر يابس ، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب خلافا لثمار الدنيا ، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فبأي شيء من هذه النعم تكذبان يا إنس ويا جن؟ قال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ، يعني أن بين ذلك بونا عظيما ، وفرقا واضحا.

وبعد ذكر الطعام ذكر الفراش ، فقال :

(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي إن أهل الجنة يضطجعون ويجلسون ويتنعمون على فرش بطائنها (وهي التي تحت الظهائر) من إستبرق (وهو ما غلظ من الديباج ، أو الديباج الثخين) قال ابن مسعود وأبو هريرة : هذه البطائن ، فكيف لو رأيتم الظواهر؟ وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق ، فما الظواهر؟ قال : هذا مما قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة ٣٢ / ١٧]. وقال ابن عباس : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم ، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله.

وثمر الجنتين قريب التناول منهم متى شاؤوا وعلى أي صفة كانوا ، كما قال تعالى : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ٢٣] وقال سبحانه : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان ٧٦ / ١٤] أي لا تمتنع ممن تناولها ، بل تميل إليه من أغصانها. فبأي شيء من هذه النعم يحصل التكذيب والإنكار؟! ثم ذكر تعالى أوصاف الحور والنساء ، فقال :

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما


تُكَذِّبانِ) أي هناك نساء في الجنتين المذكورتين وما فيهما من أنهار وعيون وفرش وغيرها ، أو في هذه الآلاء (النعم) المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى (الثمر) أو في الجنان ، لأن ذكر الجنتين يدل عليه ، ولأنهما يشتملان على أماكن ومجالس ومتنزهات ، وهن نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم لم يمسسهن ولم يفتضهن ولم يجامعهن قبلهم أحد من الإنس والجن ، لأنهن خلقن في الجنة ، فبأي النعم تكذبان أيها الثقلان؟! والطمث : الافتضاض. ثم نعت (وصف) النساء بقوله :

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي كأن تلك النسوة الياقوت صفاء ، وصغار اللؤلؤ بياضا ، فبأي نعمة تكذبان؟

والياقوت : هو الحجر الصافي الكريم المعروف ، والمرجان : حجر يؤخذ من البحر ، وهو الأحمر المعروف. قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : في صفاء الياقوت وبياض المرجان. فجعلوا المرجان هنا اللؤلؤ.

أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب درّي في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان ، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم ، وما في الجنة أغرب».

ثم بيّن الله تعالى سبب هذا الثواب فقال :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ما جزاء من أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة ، فهاتان الجنتان لأهل الإيمان وصالح الأعمال ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦].


أخرج البغوي والبيهقي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس بن مالك قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) وقال : هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : يقول : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة».

وبما أن الذي ذكر هنا نعم عظيمة لا يقابلها عمل ، بل مجرد تفضل وامتنان ، قال تعالى بعد ذلك : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ لكل من خاف المقام بين يدي ربه للحساب ، فترك المعصية ، أو خاف إشراف ربه واطلاعه عليه جنتان ، أي لكل خائف جنتان على حدة ، ذكر المهدوي والثعلبي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الجنتان : بستانان في عرض الجنة ، كل بستان مسيرة مائة عام ، في وسط كل بستان دار من نور ، وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة ، قرارها ثابت ، وشجرها ثابت».

٢ ـ تلك الجنتان : ذواتا ألوان من الفاكهة والأغصان والأشجار والثمار ، وفي كل واحدة منهما عين جارية ، تجريان بالماء الزلال ، إحدى العينين : التسنيم ، والأخرى السلسبيل ، كما تقدم من قول الحسن.

وفيهما أيضا من كل ما يتفكه به صنفان أو نوعان ، وكلاهما حلو يستلذ به ، قال ابن عباس : ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وثمر الجنة (الجنى) قريب التناول لكل إنسان ، خلافا لجنة دار الدنيا.

٣ ـ أهل الجنة يضطجعون ويجلسون على فرش بطائنها (جمع بطانة : وهي


التي تحت الظهارة) من إستبرق (ما غلظ من الديباج وخشن) وإذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا ، فما ظنك بالظهارة؟ كما قال ابن مسعود وأبو هريرة ، وهذا يدل على نهاية شرفها ، وتمتع أهلها بالثواب والنعيم العظيم. والظاهر أن لكل واحد فرشا كثيرة ، لا أن لكل واحد فراشا واحدا. والاتكاء يدل على صحة الجسم وفراغ القلب والشعور بالمتعة والسرور البالغ.

٤ ـ في الجنات وما فيها من ألوان النعمة نساء قاصرات الأبصار على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم ، بكارى ، لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد.

٥ ـ في قوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) دليل على أن الجن تغشى كالإنس ، وتدخل الجنة ، ويكون لهم فيها جنيّات ، ودليل على أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان ، والطمث : الافتضاض أو الجماع ، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزّهن. قال ضمرة : للمؤمنين من الجن أزواج من الحور العين ، فالإنسيات للإنس ، والجنيات للجن.

٦ ـ من أوصاف تلك النساء : أنهن في صفاء الياقوت وبياض المرجان. روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلّة ، حتى يرى مخّها» وذلك بأن الله تعالى يقول : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ). والياقوت كما تقدم : حجر أملس شديد الصفاء. والمرجان : صغار الدر أو اللؤلؤ.

٧ ـ ترتيب النعم في غاية الحسن ، فإن الله تعالى ذكر أولا المسكن وهو الجنة ، ثم بيّن ما يتنزه به من البساتين ، فقال : (ذَواتا أَفْنانٍ ، ... فِيهِما عَيْنانِ ...) ثم ذكر ما يتناول من المأكول ، فقال : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه من الحوريات.


٨ ـ أردف الله تعالى كل نعمة بتوبيخ من ينكرها أو يكذب بها ، ومنها نعم تقابل بعمل ، ونعم هي مجرد فضل وامتنان دون مقابلة عمل.

٩ ـ هذه النعم في الغالب جزاء أو ثواب العمل الصالح في الدنيا ، وهل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة؟ وآية (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ ..) فيها دلالات واضحة ثلاث : هي ما يأتي :

الأولى ـ رفع التكليف عن العوام والخواص في الآخرة ، وأما الحمد والشكر فهو لذة زائدة على كل لذة سواها.

الثانية ـ إن العبد محكّم في أحوال نعيم الآخرة ، كما قال تعالى : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) [يس ٣٦ / ٥٧].

الثالثة ـ كل ما يتخيله الإنسان من أنواع الإحسان الإلهي ، فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به ، لأن عطاء الكريم لا يحد ولا يوصف ، فالذي يعطي الله فوق ما يرجو العبد ، وذلك على وفق كرمه وإفضاله.

ـ ٢ ـ

وصف آخر للجنات

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥)


مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

الإعراب :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي ولهم من دونهما جنتان ، فحذف «لهم» لدلالة الكلام عليه تخفيفا.

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ خَيْراتٌ) : أصله : خيرات بالتشديد ، وقد قرئ به على الأصل ، إلا أنه خفف كتخفيف شيد وهين وميت.

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) حال ، و (رَفْرَفٍ) وهي الوسائد : إما اسم جمع ، كقوم ورهط ، ولهذا وصف ب (خُضْرٍ) وهو جمع أخضر ، كقولك : قوم كرام ، ورهط لئام. أو مع «رفرفة» مثل عبقري جمع عبقرية. و (عَبْقَرِيٍ) : منسوب إلى عبقر : وهو اسم موضع ينسج به الوشي الحسن ، وجمع عبقر : عباقر ، ومن قرأ «عباقريّ» فلا يصح أن ينسب إليه وهو جمع ، لأن النسب إلى الجمع يوجب ردّه إلى الواحد ، إلا أن يسمع بالجمع ، فيجوز أن ينسب إليه على لفظه كمعافريّ وأنماريّ ، ولا يعلم أن عباقر : اسم لموضع مخصوص بعينه.

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) يقرأ «ذو الجلال» وصف للاسم ، ويقرأ بالجر على أنه وصف ل (رَبِّكَ).

المفردات اللغوية :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي ومن دون الجنتين المذكورتين الموعودتين للخائفين المقرّبين ، أي ورائهما جنتان أقل منهما. (مُدْهامَّتانِ) شديدتا الخضرة من كثرة الري والعناية ، كأنهما سوداوان ، والدهمة في اللغة : السواد. (نَضَّاخَتانِ) فوارتان بالماء. (فِيهِما فاكِهَةٌ ، وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما ، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء ، وثمرة الرمان فاكهة ودواء ، كما قال البيضاوي : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) في الجنتين وما فيهما أو في الجنان نساء خيّرات الأخلاق ، حسان الوجوه ، وخيرات مخففة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هينون لينون». (حُورٌ) جمع حوراء : بيضاء ، شديدة سواد العين وبياضها. (مَقْصُوراتٌ) مخدّرات مستورات. (فِي الْخِيامِ) جمع خيمة : وهي التي تنصب على أعواد أربعة وتسقف بنبات الأرض ، وأما الخباء : فهو ما يتخذ من شعر أو وبر. وخيام الجنة شبيهة بالخدور ، مصنوعة من الدّر. (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) لم يفتضهن أو يجامعهن.


(رَفْرَفٍ) وسائد ، جمع رفرفة. (وَعَبْقَرِيٍ) طنافس منقوشة عجيبة الوشي نادرة. (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) تقدس وتنزه اسم الله الذي يطلق على ذاته. (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي ذي العظمة والكبرياء ، أو ذي العظمة والتكريم عن كل ما لا يليق به ، أو الإفضال والإنعام على عباده.

المناسبة :

ذكر الله تعالى في الآيات السابقة بعض أوصاف الجنة التي هي ثواب المتقين الخائفين ربهم ، ثم أردفه بأوصاف أخرى للجنة ، مبينا أولا أن ثواب الخائفين جنتان ، وثواب آخر مثله وهو جنتان أخريان.

التفسير والبيان :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ، مُدْهامَّتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهناك جنتان أخريان للخائفين ، أو هناك جنتان أخريان ، دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة ، لمن دون أصحاب الجنتين السابقتين من أهل الجنة ، تقدم في الحديث : جنتان من ذهب آنيتهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، فالأوليان للمقرّبين ، والأخريان لأصحاب اليمين. وفي الجنتين السابقتين أشجار وفواكه وغير ذلك ، وكذا هاتان الجنتان خضراوان ، فهما من شدة خضرتهما سوداوان في رأي العين ، من شدة الري المائي. وقد فسر ابن عباس وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما من الصحابة والتابعين قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) بأنهما خضراوان ، وذلك مروي في حديث عن أبي أيوب أخرجه الطبراني وابن مردويه.

فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟ فالجنتان في غاية المتعة والنضرة والخضرة ، ولكنهما دون الجنتين المتقدمتين في الرتبة والفضيلة ، فهناك جنتان ذواتا أفنان ، أي أغصان وأشجار وفواكه ، وهنا جنتان خضراوان.

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في الجنتين عينان


فيّاضتان فوّارتان بالماء العذب ، فهناك جنتان تجريان ، وهنا جنتان فوّارتان ، والجري أقوى من النضخ ، قال البراء بن عازب : العينان اللتان تجريان خير من النضاختين. فبأي نعم الله هذه تكذبان أيها الإنس والجن؟

(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في هاتين الجنتين فاكهة كثيرة متنوعة ، ومنها ثمر النخيل والرمان ، وإفرادهما بالذكر من بين سائر الفواكه ليس من عطف الخاص على العام كما ذكر البخاري وغيره ، وإنما لمزيد حسنهما ، وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه ، ولشرفهما على غيرهما ، لدوامهما وكونهما غذاء ودواء ، ولوجودهما في الخريف والشتاء.

وقد قال هناك : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) وقال هنا : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع ، من قوله : (فاكِهَةٌ) فهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم.

فبأي نعم الله تكذبان يا إنس ويا جن ، فإن هذه النعم تستحق الحمد والشكر.

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في هاتين الجنتين نساء حسان الخلق والخلق ، أو هن ذوات فضل ، خيّرات فاضلات الأخلاق ، حسان الوجوه ، فالخيّرات جمع خيّرة ، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق ، الحسنة الوجه ، وهو قول الجمهور ، بدليل ما روى الحسن عن أم سلمة قالت : «قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، أخبرني عن قوله تعالى : (خَيْراتٌ حِسانٌ)؟ قال : خيّرات الأخلاق ، حسان الوجوه» وفي حديث آخر أن الحور العين يغنين : نحن الخيرات الحسان ، خلقنا لأزواج كرام.

وقال قتادة : المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة.


(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي إن هؤلاء النساء الخيرات حور شديدات البياض ، وفي عيونهن حور ، أي واسعات الأعين ، مع صفاء البياض ، مخدرات محجبات مستورات في خيام الجنة المكونة من الدرّ المجوفة ، فلسن مترددات في الشوارع والطرقات. وقد وصفت نساء الجنتين هناك بأنهن (قاصِراتُ الطَّرْفِ) فهن أعلى منزلة من هؤلاء المذكورات في هذه الآية : (مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) لأنه لا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت ، وإن كان الجميع مخدرات. والعرب يمدحون ويؤثرون النساء الملازمات للبيوت ، لتوافر الصون ، فبأي نعم الله هذه ونحوها تكذبان؟!

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي لم يمسّهن ولم يجامعهن قبل ذلك أحد من الإنس والجن ، توفيرا للمتقين الخائفين ربّهم ، فبأي نعم الله تكذبان؟! وقد زاد في وصف نساء الجنتين السابقتين بقوله : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهم في الجنة متكئون مستندون على وسائد خضراء ، وبسط منقوشة بديعة فاخرة متقنة الصنع ، فبأي نعم الله تكذبان أيها الإنس والجن؟! وقد وصف الله مرافق الجنتين الأوليين بما هو أرفع وأولى من هذه الصفة ، فإنه تعالى قال هناك : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ).

وختمت الصفات المتقدمة بقوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى مراتب العبادة.

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تقدس وتنزه الله صاحب العزة والعظمة والتكريم على ما أنعم به على عباده المخلصين ، فهو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى.


ويلاحظ أنه قال سابقا بعد ذكر نعم الدنيا : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) للإشارة إلى فناء كل شيء من الممكنات ، وقال بعد ذكر نعم الآخرة : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) للإشارة إلى بقاء أهل الجنة ذاكرين اسم الله متلذذين به.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ هناك أربع جنان ذات منازل مختلفة لمن خاف مقام ربّه ، فجنتان للمقربين ، ودونهما في المكان والفضل جنتان لأصحاب اليمين ، كما قال ابن زيد ، وقال ابن جريج : هي أربع : جنتان منها للسابقين المقرّبين : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) و (عَيْنانِ تَجْرِيانِ) وجنتان لأصحاب اليمين (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) و (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ). وقد ذكرت ما رواه أبو موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من فضة ، أبنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما».

٢ ـ لما وصف الله الجنتين لكل فريق أشار إلى الفرق بينهما :

أولا ـ فقال في الأوليين : (ذَواتا أَفْنانٍ) أي ذواتا ألوان من الفاكهة ، وقال في الأخريين : (مُدْهامَّتانِ) مخضرتان في غاية الخضرة من الري.

ثانيا ـ وقال في الأوليين : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) وفي الأخريين : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي فوّارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين ، لأن النضخ دون الجري.

ثالثا ـ وقال في الأوليين : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) فعمّ ولم يخص ، وفي الأخريين : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولم يقل : من كل فاكهة.

قال بعض العلماء : ليس الرمان والنخل من الفاكهة ، لأن الشيء لا يعطف


على نفسه ، إنما يعطف على غيره ، وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور : هما من الفاكهة ، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة ، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة ٢ / ٢٣٨] ، وقوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة ٢ / ٩٨].

وبناء على الرأي الأول قال أبو حنيفة : من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رمّانا أو رطبا ، لم يحنث. وخالفه صاحبه والجمهور.

رابعا ـ وقال في الأوليين : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ...) وفي الأخريين : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) يعني النساء ، الواحدة خيرة ، على معنى ذوات خير ، وقرئ «خيّرات» والتي قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت ، كما تقدم. ووصفت الأوليان بقوله : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ).

ويلاحظ أنه سبحانه قال في الموضعين عند ذكر الحور : (فِيهِنَ) وفي سائر المواضع : (فِيهِما) والسرّ في ذلك الإشارة إلى أن لكل حورية مسكنا على حدة ، متباعدا عن مسكن الأخرى ، متسعا يليق بالحال ، وهذا ألذ وأمتع وأهنا للرجل الواحد عند تعدد النساء ، فيحصل هناك متنزهات كثيرة ، كل منها جنة ، وكأن في ضمير الجمع إشارة لذلك. أما العيون والفواكه فلا حاجة فيها لهذا الاستقلال ، فاكتفى فيها بعود الضمير إلى الجنتين فقط.

وهل الحور أكثر حسنا وأبهر جمالا من الآدميات؟ قيل : الحور ، لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه على الميت في الجنازة : «وأبدله زوجا خيرا من زوجه».

وقيل : الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف ، لحديث روي مرفوعا(١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٨٧ وما بعدها.


والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا ، وإنما هنّ مخلوقات في الجنة ، لأن الله تعالى قال : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.

خامسا ـ وقال في الأوليين : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ..) وفي الأخريين : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) ويلاحظ أن الوصف الأول أرفع وأفخم.

٣ ـ كرر الله تعالى في هذه السورة قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إحدى وثلاثين مرة : ثمانية منها ذكرها عقيب تعداد عجائب خلقه ، وذكر المبدأ والمعاد ، ثم سبعة منها عقيب ذكر النار وأهوالها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة أورد ثمانية في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة ، وثمانية بعدها عقيب وصف الجنات التي هي دونهما ، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها ، استحق كلتا الثمانيتين من الله ، ووقاه السبعة السابقة.

٤ ـ نزّه الله تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله ، وختم السورة به ، والاسم (اسم الجلالة) مقحم على المشهور للتبرك والتعظيم كالوجه في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ، وهذا لتعليم العباد بأن كل ما ذكر من آلاء ونعم من فضله ورحمته ، وأن من عدله تعذيب العاصين ، وإثابة الطائعين ، فإنه افتتح السورة باسم (الرَّحْمنُ) فوصف خلق الإنسان والجن ، وخلق السموات والأرض وصنعه ، وأنه كل يوم هو في شأن ، ووصف تدبيره فيهم ، ثم قال في آخر السورة : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة ، كأنه يعلم عباده أن هذا كله خرج لكم من رحمتي ، فمن رحمتي خلقكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار ، فهذا كله من اسم الرحمن.


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الواقعة

مكيّة ، وهي ست وتسعون آية.

تسميتها :

سميت سورة الواقعة ، لافتتاحها بقوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي إذا قامت القيامة التي لا بدّ من وقوعها.

مناسبتها لما قبلها :

تتصل هذه السورة بسورة الرحمن ، وتتآخى معها من وجوه :

١ ـ في كل من السورتين وصف القيامة والجنة والنار.

٢ ـ ذكر تعالى في سورة الرحمن أحوال المجرمين وأحوال المتقين في الآخرة وبيّن أوصاف عذاب الأولين في النار ، وأوصاف نعيم الآخرين في الجنان ، وفي هذه السورة أيضا ذكر أحوال يوم القيامة وأهوالها وانقسام الناس إلى ثلاث طوائف : هم أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقون ، فتلك السورة لإظهار الرحمة ، وهذه السورة لإظهار الرهبة ، على عكس تلك السورة مع ما قبلها.

٣ ـ ذكر تعالى في سورة الرحمن انشقاق السماء (تصدعها) وذكر هنا رجّ الأرض ، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما في الموضوع سورة واحدة ، ولكن مع عكس الترتيب ، فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك ، وفي آخر هذه ما في أول تلك.


فافتتح سورة الرحمن بذكر القرآن ثم الشمس والقمر ، ثم النبات ، ثم خلق الإنسان والجان من نار ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة النار ، ثم صفة الجنة ، وابتدئت هذه السورة بوصف القيامة وأهوالها ، ثم صفة الجنة ، ثم صفة النار ، ثم خلق الإنسان ، ثم النبات ، ثم الماء ، ثم النار ، ثم النجوم التي لم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر ، ثم القرآن ، فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك.

ما اشتملت عليه السورة :

ابتدأت السورة بالحديث عن اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة ، ثم صنفت الناس عند الحساب أقساما ثلاثة : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقين ، وأخبرت عن مآل كل فريق وما أعده الله لهم من الجزاء العادل يوم القيامة.

وأوضحت أن الأولين والآخرين من الخلائق مجتمعون في هذا اليوم.

ثم أقامت الأدلة على وجود الله الخالق ووحدانيته وكمال قدرته ، وإثبات البعث والنشور والحساب ، من خلق الإنسان ، وإخراج النبات ، وإنزال الماء ، وخلق قوة الإحراق في النار.

ثم أقسم الله عزوجل بمنازل النجوم على صدق تنزيل القرآن من ربّ العالمين ، وأنه كان في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون ، وندد بالتشكيك في صحته وصدقه.

ولفت الله تعالى النظر إلى ما يلقاه الإنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال. وختمت السورة ببيان عاقبة الطوائف الثلاث وما يجدونه من جزاء ، وهم المقرّبون الأبرار ، السابقون إلى خيرات الجنان ، وأهل اليمين السعداء ، والمكذّبون الضالون أهل الشقاوة ، وأن هذا الجزاء حق ثابت متيقن لا شك فيه.


وكل ذلك يستدعي الإقرار بوجود الخالق وتنزيهه عما لا يليق به من الشرك ونحوه ، وتوبيخ المكذبين على إنكار وجود الله تعالى وتوحيده.

فضلها :

وردت أحاديث في فضل هذه السورة منها :

١ ـ أخرج الحافظ أبو يعلى وابن عساكر عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا» وفي رواية : «في كل ليلة».

٢ ـ أخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة الواقعة سورة الغنى ، فاقرؤوها ، وعلّموها أولادكم» وأخرج الديلمي عنه مرفوعا : «علّموا نساءكم سورة الواقعة ، فإنها سورة الغنى».

٣ ـ أخرج الإمام أحمد عن جابر بن سمرة يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم ، ولكنه كان يخفف ، كانت صلاته أخف من صلاتكم ، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.

٤ ـ أخرج الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، قد شبت قال : «شيّبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، و (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) ، و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)» وقال : حسن غريب.

٥ ـ أخرج الثعلبي وابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود عن أبي ظبية قال : مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه ، فعاده عثمان بن عفان ، فقال : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربي ، قال : ألا آمر لك بطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال : ألا آمر لك بعطاء؟ قال : لا حاجة لي فيه ، قال : يكون لبناتك من بعدك ، قال : أتخشى على بناتي


الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة ، إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا».

قيام القيامة وأصناف الناس

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

الإعراب :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إِذا) : في موضع نصب إما ب (وَقَعَتِ) لأن (إِذا) فيها معنى الشرط ، فجاز أن يعمل فيها الفعل الذي بعدها ، وإما أن العامل فيه : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي وقوع الواقعة وقت رج الأرض ، وإما العامل : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي ليس لوقعتها كذب ، و (كاذِبَةٌ) بمعنى كذب ، كالعاقبة والعافية ، وإما العامل فعل مقدر ، أي اذكر.

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهي خافضة رافعة ، وهي جواب (إِذا) ويقرأ بالنصب على الحال من الواقعة ، أي وقعت الواقعة في حالة الخفض والرفع.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) بدل من قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ).

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) قيل : هو جواب (إِذا) وهو مبتدأ. و (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : مبتدأ وخبر ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول ، والعائد فيها محذوف : أي : «ما هم».

وكذلك قوله : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) والاستفهام في هذين الموضعين معناه التعجب والتعظيم.

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ السَّابِقُونَ) الأول : مبتدأ ، والثاني : صفة،


و (أُولئِكَ) مبتدأ ثان ، و (الْمُقَرَّبُونَ) خبره. والأحسن أن يقال : (السَّابِقُونَ) مبتدأ ، والثاني : خبر ، وجملة (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) استئناف بياني.

البلاغة :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) جناس اشتقاق.

(الْمَيْمَنَةِ) .. و (الْمَشْئَمَةِ) بينهما طباق ، وكذا بين (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) وإسناد الخفض والرفع إلى القيامة مجاز عقلي ، لأن الخافض الرافع على الحقيقة هو الله وحده ، ونسب إلى القيامة مجازا ، مثل «نهاره صائم».

المفردات اللغوية :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) إذا حدثت القيامة ، سماها واقعة لتحقق وقوعها. (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) لوقوعها. (كاذِبَةٌ) كذب ، أو نفس كاذبة ، بأن تنفيها حين تقع كما تكذب الآن في الدنيا. (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض قوما وترفع آخرين ، بدخولهم النار ودخولهم الجنة ، وهو تقرير لعظمتها ، فإن الوقائع العظام تميز بين الناس.

(رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) زلزلت وحركت تحريكا شديدا يؤدي إلى سقوط البناء والجبال (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) فتتت وصارت كالسويق الملتوت ، يقال : بسّ فلان السويق ، أي لته (هَباءً) غبارا. (مُنْبَثًّا) متفرقا منتشرا.

(وَكُنْتُمْ) في القيامة. (أَزْواجاً) أصنافا ، وكل ما يذكر مع صنف آخر : زوج ، وكل قرينين ذكر وأنثى : زوج. (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أهل اليمين ، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة ، فهم أصحاب المنزلة السنية. (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أهل الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) تحقير لشأنهم بدخول النار ، فهم أصحاب المنزلة الدنية.

(وَالسَّابِقُونَ) هم الذين سبقوا إلى الخير في الدنيا ، وهم الأنبياء. (السَّابِقُونَ) تأكيد ، لتعظيم شأنهم ، لأنهم سبقوا إلى الإيمان والطاعة من غير توان. (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الذين قرّبت درجاتهم ، وأعليت مراتبهم في الجنة ، فهم أهل الحظوة والكرامة عند ربهم.

التفسير والبيان :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي إذا قامت القيامة ، ليس


لوقوعها صارف ولا دافع ، ولا بد أن تكون ، ولا يكون عند وقوعها تكذيب أصلا ، ولا توجد نفس كاذبة منكرة لها كما كان الحال في الدنيا. والواقعة : اسم للقيامة كالآزفة والحاقة وغيرها ، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها ، كما جاء في آية أخرى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الحاقة ٦٩ / ١٥]. وقوله : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة.

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين ، فتجعلهم في الجحيم ، وهم الكفرة والفسقة ، وترفع أقواما كانوا في الدنيا مغمورين ، فتجعلهم في الجنة ، وهم أهل الإيمان ، لأن شأن الوقائع العظيمة إحداث تغيرات في موازين المجتمع ، فترفع وتخفض.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي إذا زلزلت وحركت الأرض تحريكا شديدا ، فتهتز وترتج وتضطرب ، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال. وهذا كقوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزال ٩٩ / ١] وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج ٢٢ / ١].

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتتت الجبال فتا ، وصارت كما قال تعالى : (كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل ٧٣ / ١٤].

(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي صارت غبارا متفرقا منتشرا ، كالهباء الذي يطير من النار ، أو الذي ذرته الريح وبثته.

وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة ، وذهابها وتسييرها ، وصيرورتها كالعهن المنفوش ، بسبب نسفها من ربك.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي وأصبحتم يوم القيامة منقسمين إلى ثلاثة أصناف : أهل اليمين أصحاب الجنة ، وأهل اليسار أهل النار ، والسابقون بين يدي الله عزوجل المقربون : وهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء.


ثم أوضح هذه الأصناف بقوله :

١ ـ (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي وأصحاب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، ويؤخذون إلى الجنة ، فما أحسن حالهم وصفتهم وأكمل سعادتهم!! وقوله : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم. والفاء : تدل على التفسير ، وبيان مورد التقسيم. وابتدأ بأهل اليمين ثم بأهل الشمال للترغيب بالثواب والترهيب بالعقاب ، بعد التخويف من الواقعة.

٢ ـ (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي وأصحاب الشمال الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم ، ويساقون إلى النار ، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!!

أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) ، (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) فقبض بيده قبضتين ، فقال : «هذه للجنة ولا أبالي ، وهذه للنار ولا أبالي».

٣ ـ (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة وأعمال البر ، وهم الأنبياء والرسل عليهم‌السلام والشهداء والصدّيقون والقضاة العدول ، هم السابقون إلى رحمة الله ، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته ، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم. والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) لعلو درجتهم ، ورفعة مكانتهم.

أخرج الإمام أحمد عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم».


فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وقوع القيامة أمر حتمي وحق ثابت لا ريب فيه ، لا يستطيع أحد تكذيبه عند حدوثه كما كان يحصل في الدنيا ، ولا يملك أحد أن يرده أو يدفعه.

٢ ـ القيامة ترفع أقواما وهم أولياء الله إلى الجنة ، وتخفض آخرين وهم أعداء الله إلى النار ، لأن الوقائع الجسام تؤدي إلى التغيير الاجتماعي في تركيب المجتمع ، فيعزّ قوم ، ويذل آخرون.

٣ ـ إذا وقعت الساعة ، زلزلت الأرض وحركت واضطربت ، ودمرت من عليها وما فوقها من المباني والقصور والجبال ، وتفتّتت الجبال ، وأصبحت غبارا منتشرا متفرقا ، وزالت من أماكنها.

٤ ـ يكون الناس يوم القيامة أصنافا ثلاثة : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقون ، والأولون أصحاب الميمنة : هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ويعطون كتبهم بأيمانهم ، وأصحاب المشأمة : هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ويعطون كتبهم بشمائلهم ، والسابقون : الأنبياء والمرسلون والمجاهدون والحكام العدول الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة والقضاء بالحق ، وهم المقربون بين يدي الله تعالى.

وقسمة الخلق إلى ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة ، فلم يجعل الله سبحانه قسما رابعا وهم المتخلفون المؤخرون عن أصحاب الشمال ، لشدة الغضب عليهم ، في مقابل المقربين.

وهذه القسمة كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر ٣٥ / ٣٢] ولم يقل : منهم متخلف عن الكل.


أنواع نعيم السابقين

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

الإعراب :

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ ثُلَّةٌ) : إما مبتدأ مؤخر ، وخبره : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) المتقدم عليه ، أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم ثلة. و (قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) : معطوف عليه ، و (عَلى سُرُرٍ) : بر ثان ، و (مُتَّكِئِينَ) و (مُتَقابِلِينَ) حال من ضميره (عَلى سُرُرٍ).

(وَحُورٌ عِينٌ ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ حُورٌ) : على تقدير: ولهم حور ، جمع أحور وحوراء ، ويقرأ بالنصب على تقدير : ويعطى حورا ، وبالجر بالعطف على ما قبله : (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ). و (عِينٌ) : جمع أعين وعيناء ، وكان قياسا أن يجمع على فعل بضم الفاء ، إلا أنها كسرت ، لأن العين ياء. و (جَزاءً) : إما مصدر مؤكد لما قبله ، أو مفعول لأجله.

(إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً قِيلاً) : منصوب على الاستثناء المنقطع ، أو منصوب ب (يَسْمَعُونَ). و (سَلاماً) منصوب بالقول ، أو مصدر ، أي يتداعون فيها ، وسلمك الله سلاما ، أو وصف ل (قيل).

البلاغة :

(الْأَوَّلِينَ) و (الْآخِرِينَ) بينهما طباق.

(وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) تشبيه مرسل مجمل ، حذف منه وجه الشبه ، أي كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفائه.


(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) تأكيد المدح بما يشبه الذم ، لأن السلام ليس من جنس اللغو والتأثيم ، ثم أثنى عليهم بإفشاء السلام.

المفردات اللغوية :

(ثُلَّةٌ) جماعة كثيرة أو قليلة. (مِنَ الْأَوَّلِينَ) من الأمم الماضية. (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يخالف ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» (١) لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة ، وتابعو هذه الأمة أكثر من تابعيهم ، ولا يرده قوله تعالى في أصحاب اليمين : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما.

(مَوْضُونَةٍ) منسوجة بإحكام ، أو بقضبان الذهب والجواهر. (وِلْدانٌ) صبيان جمع ولد. (مُخَلَّدُونَ) باقون على صفتهم أبدا ، لا يهرمون كأولاد الدنيا. (بِأَكْوابٍ) آنية لا عرى لها ولا خراطيم ، جمع كوب. (وَأَبارِيقَ) أوان لها عرى وخراطيم ، جمع إبريق. (وَكَأْسٍ) إناء شرب الخمر. (مِنْ مَعِينٍ) أي من خمر جارية من منبع لا ينقطع أبدا.

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) لا يحصل لهم منها صداع كما يحدث ذلك من خمر الدنيا.

(وَلا يُنْزِفُونَ) ولا تذهب عقولهم بالسكر منها ، بخلاف خمر الدنيا ، ويقرأ بفتح الزاي وكسرها ، من نزف الشارب وأنزف : إذا ذهب عقله ، ويقال للسكران : نزيف ومنزوف. (يَتَخَيَّرُونَ) يختارون ويرضون.

(وَحُورٌ عِينٌ) أي ولهم حور أي نساء شديدات سواد العيون وبياضها ، جمع حوراء وأحور ، و (عِينٌ) ضخام الأعين واسعات ، حسان ، جمع أعين وعيناء. (الْمَكْنُونِ) المصون أو المستور الذي لم تمسه الأيدي ، فهو مصون عما يضرّ به في الصفاء والنقاء. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم. (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنة. (لَغْواً) فاحشا أو ساقطا من القول. (وَلا تَأْثِيماً) ما يؤثم. (إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) أي لكن قولا : سلاما سلاما أي يقولون : سلّمك الله سلاما. وتكرار (سَلاماً) للدلالة على فشّو السلام بينهم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٣ و٣٩):

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ..) : أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة قال : لما نزلت : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٧ / ١٣٤


الْآخِرِينَ)شق ذلك على المسلمين ، فنزلت : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند فيه نظر ، من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال : «لما نزلت (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) وذكر فيها (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) بكى عمر ، وقال : يا رسول الله ، آمنا بك ، وصدقناك ، ومع هذا كله ، من ينجو منا قليل ، فأنزل الله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر ، فقال : يا عمر بن الخطاب ، قد أنزل الله فيما قلت ، فجعل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ، فقال عمر : رضينا عن ربنا وتصديق نبينا».

والخلاصة : أن كلتا الروايتين مشكوك فيهما.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى الصنف الثالث من الناس يوم القيامة ، وهم السابقون ، ذكر ما يتمتعون به من أنواع النعيم في الفرش والخدم والطعام والشراب والنساء والأحاديث الخالية من اللغو والفحش والإثم ، مع إفشاء السلام بينهم.

التفسير والبيان :

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي إن السابقين السابقين المقربين هم جماعة كثيرة لا يحصر عددهم ، من الأمم السابقة ، من لدن آدم إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقليل من هذه الأمة ، وسموا قليلا بالنسبة إلى من كان قبلهم وهم كثيرون ، لكثرة الأنبياء فيهم ، وكثرة من أجابهم.

والدليل على أن (القليل) من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة : «نحن الآخرون ، السابقون يوم القيامة»


ويستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد وأبو محمد بن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال : «لما نزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) شق ذلك على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث أهل الجنة ، بل أنتم نصف أهل الجنة ، أو شطر أهل الجنة ، وتقاسمونهم النصف الثاني».

أما أصحاب اليمين كما يأتي وهم أهل الجنة ، فإنهم كثيرون من هذه الأمة ، لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا ، فإنهم ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين ، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم ، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة ، ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكوّن نصف أهل الجنة ، كما في الحديث المتقدم.

والخلاصة : إن مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها ، وإن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا ، وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم. وإن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم ، فما على سابقي هذه الأمة بأس إذا كثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم‌السلام (١).

ثم وصف الله تعالى حال المقربين ، فقال :

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) أي هم في الجنة حالة كونهم على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب ، مشبكة بالدرّ والياقوت والزبرجد ، مستقرّين على السرر ، متكئين عليها متقابلين مواجهة ، لا ينظر بعضهم قفا بعض ، فهم في بسط وسرور ، وصفاء وحبور ، لا يملّون ولا يكلون ، ولا يتخاصمون ولا يتشاحنون ، وهم مخدومون كما قال تعالى:

__________________

(١) تفسير الآلوسي : ٢٧ / ١٣٤


(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يدور عليهم للخدمة غلمان أو صبيان أو خدم لهم ، مخلّدون على صفة واحدة ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ولا يبعد أن يكونوا كالحور العين مخلوقين في الجنة ، للقيام بهذه الخدمة.

(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي يطوفون عليهم بأقداح مستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرى ولا خراطيم ، وأباريق ذات عرى وخراطيم ، وكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون ، ولا تعصر عصرا كخمر الدنيا ، فهي صافية نقية ، لا تتصدع رؤوسهم من شربها ، ولا يسكرون منها ، فتذهب عقولهم.

قال ابن عباس : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، فذكر الله تعالى خمر الجنة ، ونزهها عن هذه الخصال.

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ويطوفون عليهم مما يختارونه من ثمار الفاكهة ، وأنواع لحوم الطيور التي يتمنونها وتشتهيها نفوسهم ، مما لذّ وطاب ، علما بأن لحم الطير أفضل من غيره من اللحوم وألذ. والحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم : أنها ألطف ، وأسرع انحدارا ، وأيسر هضما ، وأصح طبا ، وأكثر تحريكا لشهوة الأكل وتهيئة النفس للطعام.

(وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي ولهم نساء حور بيض ، مع شدة سواد سواد العين ، وشدة بياض بياضها ، وواسعات الأعين حسانها ، مثل أنواع اللآلي والدرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة ، وبياضا وحسن ألوان ، كما في آية أخرى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات ٣٧ / ٤٩]. والكاف في قوله : (كَأَمْثالِ) للمبالغة في التشبيه.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يفعل بهم ذلك كله ، للجزاء على أعمالهم ، أو مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.


(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) أي لا يسمعون في الجنة كلاما لاغيا ، أي عبثا خاليا من المعنى ، أو مشتملا على معنى ساقط أو حقير أو مناف للمروءة ، ولا كلاما فيه قبح من شتم أو مأثم ، ولكن يسمعون أطيب الكلام ، وأكرم السلام أو التسليم منهم بعضهم على بعض ، كما قال سبحانه : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [إبراهيم ١٤ / ٢٣]. والمراد أن هذا النعيم ليس مصحوبا بألم كنعيم الدنيا ، وإنما هو خال من الكدر والهم ، واللغو ، والقبح. والحكمة في تأخير ذكر ذلك عن الجزاء ، مع أنه من النعم العظيمة : أنه من أتم النعم ، فجعله من باب الزيادة والتمييز ، لأنه نعمة اجتماعية تدل على نظافة الوسط الاجتماعي ، بعد ذكر النعم الشخصية.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن فئة السابقين المقربين تشتمل على جماعة من الأمم الماضية ، وقليل ممن آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الأنبياء المتقدمين كثيرون ، فكثر السابقون إلى الإيمان منهم ، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.

والأصح أن هذه الآية : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) محكمة غير منسوخة ، لأنها خبر ، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين ، والنسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا غير جائز في الأرجح ، فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة ، لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه.

قال الحسن البصري : سابقو من مضى أكثر من سابقينا ، فلذلك قال : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقال في أصحاب اليمين ، وهم سوى السابقين : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم : «إني لأرجو


أن تكون أمتي شطر أهل الجنة» ثم تلا قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

٢ ـ للسابقين في الجنة ألوان من النعيم في المجلس والطعام والشراب والزواج والكلام ، فمجالسهم على سرر منسوجة بقضبان الذهب ، مشبكة بالدر والياقوت ، ويخدمهم غلمان خدم لهم لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون. وأداة الشراب آنية براقة صافية لا عرى لها ولا خراطيم ، وأباريق لها عرى وخراطيم ، وكؤوس من ماء أو خمر ، والمراد هنا : الخمر الجارية من العيون ، ولا تنصدع رؤوسهم من شربها ، فهي لذيذة لا تؤذي ، بخلاف شراب الدنيا ، ولا يسكرون فتذهب عقولهم.

وطعامهم مما لذّ وطاب من لحوم الطيور ، ويتخيرون ما شاؤوا من الفواكه لكثرتها.

ويتزوجون بنساء حور بارعات الجمال ، عيونهن شديدات السواد والبياض ، واسعات حسان ، مثل اللؤلؤ والدر صفاء وتلألؤا ، متناسقات أجسادهن في الحسن من جميع الجوانب.

وكلامهم أطيب الكلام ، ليس فيه باطل ولا كذب ولا لغو هراء ساقط ، ولا موقع في الإثم ، لا يؤثّم بعضهم بعضا ، ولا يسمعون شتما ولا مأثما ، وإنما يتبادلون التحيات والسلامات من بعضهم بعضا.

٣ ـ أتحفهم الله بهذه النعم الجزيلة جزاء حسنا على أعمالهم الصالحة ، وما قدموا في دنياهم من خيّر الأفعال ، وأحسن الأقوال. وقوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يدل على أن العمل عملهم ، وحاصل بفعلهم.


أنواع نعيم أصحاب اليمين

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

الإعراب :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) هنّ : يعود على «الحور» المذكورات في نعيم السابقين ، أو على أصحاب اليمين ، أو على (فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) واختار ابن الأنباري أن يكون الضمير غير عائد إلى مذكور على ما جرت به عادتهم إذا فهم المعنى ، كقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن ٥٥ / ٢٦] وأراد به الأرض ، ولم يسبق ذكرها ، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر ٩٧ / ١] وأراد به القرآن ، وإن لم يجر له ذكر ، لأن هذا أول السورة ، ولم يتقدم للقرآن ذكر فيه ، وكقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص ٣٨ / ٣٢] أراد به الشمس ، وإن لم يجر لها ذكر ، فكذلك ها هنا أريد بالضمير «الحور» في هذه القصة ، وإن لم يجر لهن ذكر ، لما عرف المعنى. (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ، عُرُباً أَتْراباً ، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ أَبْكاراً) جمع بكر ، و (عُرُباً) جمع عروب ، لأن فعولا يجمع على فعل ، كرسول ورسل ، ويجوز «عربا» بضم العين وسكون الراء. و (أَتْراباً) جمع ترب ، يقال : هي تربه ولدته وقرنه ، أي على سنّه. و (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) : إما صله لما قبله أو خبر لقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ).

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلة.

البلاغة :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) كرره بطريق الاستفهام للتفخيم والتعظيم.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ..) بعد قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ..) تفنن في العبارة ، كما في (أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) و (أَصْحابُ الشِّمالِ).


(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) سجع لطيف غير متكلف ، أو ما يسمى توافق الفواصل في الحرف الأخير ، مما يزيد في تأثير الكلام وجماله.

المفردات اللغوية :

(سِدْرٍ) شجر النبق : وهو شجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه ، إلا أن له شوكا. (مَخْضُودٍ) لا شوك فيه ، مقطوع الشوك ، من خضد شوكة ، أي قطع. (وَطَلْحٍ) شجر الموز. (مَنْضُودٍ) متراكب الثمر ، نضّد حمله من أسفله إلى أعلاه ، فليست له سوق بارزة ، بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام جميل. (مَمْدُودٍ) دائم باق ، لا يزول ، منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت. (مَسْكُوبٍ) جار دائم لا ينقطع ، مصبوب يسكب لهم.

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) كثيرة الأجناس والكميات. (لا مَقْطُوعَةٍ) لا تنقطع في وقت. (وَلا مَمْنُوعَةٍ) ولا تمتنع عن متناولها بوجه كثمن أو غيره ، فهي مباحة سهلة التناول. (وَفُرُشٍ) جمع فراش كسرج وسراج. (مَرْفُوعَةٍ) عالية منضدة مرفوعة على السرر. (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) خلقناهن خلقا جديدا من غير ولادة ، وهن الحور العين. (أَبْكاراً) عذارى ، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى. (عُرُباً) جمع عروب ، وقرئ «عربا» متحبّبات إلى أزواجهن عشقا له. (أَتْراباً) مستويات السن ، جمع ترب.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٧):

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ..) : أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا : لما سأل أهل الطائف الوادي يحمى لهم ، وفيه عسل ، ففعل ، وهو واد معجب ، فسمعوا الناس يقولون : في الجنة كذا وكذا ، قالوا : يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي ، فأنزل الله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) الآيات.

نزول الآية (٢٩):

(وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) : أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال : كانوا


يعجبون بوجّ ـ واد مخصب في الطائف ـ وظلاله وطلحة وسدره ، فأنزل الله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى حال السابقين وأوصاف نعيمهم ، شرع في بيان حال أصحاب اليمين من الأصناف الثلاثة في الآخرة ، وعدد أوصاف نعمهم من فواكه وظلال ومياه وفرش ونساء حسان عذارى في سن واحدة.

التفسير والبيان :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) هذا عطف على السابقين المقربين ، وهم أصحاب اليمين الأبرار الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ، منزلتهم دون المقربين ، فهم أقل درجة في النعيم من السابقين ، لأنهم كانوا في الدنيا أضعف إيمانا ، وأقل إخلاصا وعملا ، فأشجارهم وفواكههم وما يؤتون به من النعيم لا يبلغ درجة ما يناله أصحاب السبق.

ومع ذلك ، فهم في درجة عالية ومنزلة رفيعة ، لذا جاء الكلام في مدحهم على نحو هذا الأسلوب العربي لإفادة المبالغة في المدح ، كما يقال : فلان ما فلان؟ والمعنى : وأما أصحاب اليمين السعداء ، فما أدراك ما هم ، وأي شيء هم ، وما حالهم ، وكيف مآلهم؟! وهذا يلفت النظر ويثير الانتباه للتعرف على مصيرهم. لذا جاء التفصيل لبيان ما أبهم من حالهم ، فقال تعالى :

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي هم يتمتعون في جنات ذات شجر مورق كثير الورق ، مقطوع الشوك ، وشجر موز منضد متراكب الثمر بعضه فوق بعض ،


وظل دائم باق لا يزول ، وماء منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاؤوا ، لا تعب فيه ، وفاكهة متنوعة وكثيرة ، لا تنقطع أبدا في وقت من الأوقات ، كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات ، ولا تمتنع على من أرادها في أي وقت ، على أي صفة ، بل هي معدّة لمن أرادها. أما فاكهة السابقين فإنهم يتخيرونها تخيرا.

ويلاحظ أنه قدم الشجر المورق على الشجر المثمر ، على طريقة الارتقاء من نعمة إلى نعمة فوقها ، والفواكه أتم نعمة ، وذكر الأشجار المورقة بأنفسها وذكر أشجار الفاكهة بثمارها ، لأن حسن الأوراق عند كونها على الشجر ، وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة ، سواء كانت عليها أو مقطوعة.

ووصف الفاكهة بالكثرة لا بالطيب واللذة ، لأن طيبها معروف بالطبيعة ، والمقصود بيان الكثرة والتنوع لإفادة التنعم الواسع ، ووصفها بقوله : (لا مَقْطُوعَةٍ) للدلالة على أنها ليست كفواكه الدنيا ، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان ، وفي كثير من المواضع والأماكن ، كما أنه وصفها بكونها غير ممنوعة بثمن أو عوض أو غيره ، خلافا لفاكهة الدنيا التي تمنع عن البعض ، وقدم كونها غير مقطوعة على المنع ، لأن القطع للموجود ، والمنع بعد الوجود ، لأنها توجد أولا ، ثم تمنع.

ثم ذكر الله تعالى وسائل التمتع في المجالس ، فقال :

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي وأهل اليمين يجلسون وينامون على فرش مرفوعة على الأسرّة ، ورفيعة القدر والثمن. والفرش جمع فراش : وهو ما يفترش للجلوس عليه والنوم. وقيل : الفرش مجاز عن النساء ، والمعنى : ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن.

ثم ذكر تمتعهم بالنساء ، فقال :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ، عُرُباً أَتْراباً ، لِأَصْحابِ الْيَمِينِ)


أي خلقنا الحور العين خلقا جديدا من غير توالد ، وجعلناهن بكارى عذارى لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان ، وكلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا من غير وجع ، كما في حديث رواه الطبراني (١) ، ومتحببات إلى أزواجهن ، وأنشأهن الله لأجل أصحاب اليمين الأبرار الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وكرر ذكر (أَصْحابُ الْيَمِينِ) للتأكيد. والإنشاء : هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ، وذلك مخصوص بالحور اللاتي لسن من نسل آدم عليه‌السلام.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي إن أصحاب اليمين جماعة من الأولين ، وهم مؤمنو الأمم الماضية ، وجماعة من الآخرين ، وهم المؤمنون بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيام الساعة.

ولا تنافي بين قوله : (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقوله قبل : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لأن قوله : (مِنَ الْآخِرِينَ) هو من السابقين ، وقوله : (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) هو في أصحاب اليمين (٢). وإنما لم يذكر هنا كون الجزاء مقابل العمل ، كما فعل في حق السابقين ، لأن عمل أصحاب اليمين أقل من عمل السابقين ، فلم يحتج للتنويه به ، وإشارة إلى أن الله غمر أهل اليمين بالفضل والرحمة والإحسان.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أشاد الله تعالى بأهل اليمين وخصالهم ومنازلهم ، ومدحهم مدحا عظيما.

__________________

(١) روى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا».

(٢) البحر المحيط : ٨ / ٢٠٧


٢ ـ ذكر الله تعالى أنواع نعيم أهل اليمين في البيئة والطعام والشراب والمجلس والزواج ، فهم في ظل ناعم من شجر كثير الورق كشجر السدر أي النبق ، ولكن قد خضد شوكة ، أي قطع ، وذلك الظل ممدود ، أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس.

وهم يستمتعون بأشجار الموز وأنواع الفواكه الكثيرة الطازجة التي لم تقطع عن الشجر ، ولا تنقطع في وقت من الأوقات ، كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء ، ولا تمنع ولا تحظر عن أحد كثمار الدنيا.

ويجلسون وينامون على فرش مرفوعة على السرر.

ولهم نساء حوريات رائعات الجمال خلقهن الله خلقا جديدا ، وأبدعهن إبداعا فريدا لم يسبق ، وجعلهن أبكارا عواشق لأزواجهن ، متحببات إليهم ، مستويات أو متماثلات متشابهات في السن والأخلاق ، لا تباغض بينهن ولا تحاسد ، وهن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن.

٣ ـ أصحاب اليمين في الجنة هم جماعة عظيمة من الأمم السابقة ، وجماعة أخرى من الأمم اللاحقة. قال الواحدي : أصحاب الجنة نصفان : نصف من الأمم الماضية ، ونصف من هذه الأمة.


أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

الإعراب :

(لَمَبْعُوثُونَ) أتى باللام المؤكدة مع أنها لا تذكر في النفي ، لأن الصيغة ليست تصريحا بالنفي.

(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ شُرْبَ) بضم الشين : اسم ، وهو منصوب على المصدر ، وتقديره : فشاربون شربا مثل شرب الهيم ، فحذف المصدر وصلته ، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقام المصدر. وقرئ بالفتح ، فهو مصدر. و (الْهِيمِ) الإبل التي لا تروى من الماء ، لما بها من داء وهو الهيام ، وهو جمع أهيم وهيماء. وكان الأصل فيه أن يجمع على فعل بضم الفاء ، إلا أنها كسرت لمكان الياء ، كما تقدم في (عين) جمع (عيناء).

البلاغة :

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) توافق الفواصل في الحرف الأخير ، لزيادة جرس الكلام وجماله.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) التفات من الخطاب إلى الغيبة ، تحقيرا لشأنهم ، بعد قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) فالأصل أن يقول : هذا نزلكم.


(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) فيه تهكم واستهزاء أيضا ، أي هذا العذاب ضيافتهم يوم القيامة ، لأن النزل هو أول ما يقدم للضيف من الكرامة.

المفردات اللغوية :

(سَمُومٍ) ريح شديدة الحرارة تنفذ في المسام. (وَحَمِيمٍ) ماء شديد الحرارة. (يَحْمُومٍ) دخان أسود شديد السواد. (لا بارِدٍ) لا هو بارد كغيره من الظلال. (وَلا كَرِيمٍ) ولا هو نافع يدفع أذى الحر لمن يأوي إليه. (قَبْلَ ذلِكَ) في الدنيا. (مُتْرَفِينَ) منعمين منهمكين في الشهوات. (يُصِرُّونَ) يقيمون. (الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الذنب العظيم وهو الشرك والوثنية.

(.. أَإِذا مِتْنا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا. (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام ، والاستفهام هنا وما قبله للاستبعاد ، وفيه دلالة على أن ذلك أشد إنكارا في حقهم لتقادم زمانهم ، ويقرأ بسكون الواو (أو) عطفا بأو ، والمعطوف عليه محل (إِنَ) واسمها (لَمَجْمُوعُونَ) وقرئ : لمجمعون. (مِيقاتِ) وقت ، أي ما وقت به الشيء. (يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يوم القيامة ، وسمي بذلك ، لأنه وقتت به الدنيا.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) بالبعث ، والخطاب لأهل مكة وأمثالهم. (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ) الأولى للابتداء ، والثانية للبيان ، والزقوم : شجر في غاية المرارة ينبت في أصل الجحيم. (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مالئون من الشجر البطون لشدة الجوع. (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) على الزقوم المأكول ، لغلبة العطش ، وتأنيث ضمير (مِنْهَا) وتذكيره في (عَلَيْهِ) الأول لمراعاة المعنى ، والثاني لمراعاة اللفظ. (الْهِيمِ) الإبل العطاش ، جمع أهيم وهيمان للذكر ، وهيمى للأنثى ، كعطشان وعطشى ، وهي المصابة بداء الهيام : وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل ، فتشرب حتى تموت أو تمرض. (نُزُلُهُمْ) النزل : ما يعد للضيف أول نزوله تكرمة له. (يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء والقيامة.

المناسبة :

بعد بيان أحوال فريقين من الأصناف الثلاثة يوم القيامة ، وهما السابقون وأصحاب اليمين ، بيّن الله تعالى عطفا عليهم حال أصحاب الشمال وما يلقونه في نار جهنم من أنواع العذاب والنكال ، مع بيان سبب ذلك ، وهو انهماكهم في الشهوات في الدنيا ، وشركهم ، وإنكارهم يوم البعث.


التفسير والبيان :

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي وأصحاب الشمال أي شيء هم فيه ، وأي وصف لهم حال تعذيبهم في الآخرة؟!

وهذا الحال والوصف ما قاله تعالى :

(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي هم في ريح حارة من حر النار ، وماء شديد الحرارة ، وظل من دخان جهنم شديد السواد ، ليس باردا كغيره من الظلال التي تكون عادة باردة ، ولا حسن المنظر ولا نافعا. وكل ما لا خير فيه فهو ليس بكريم. والمشهور أن السموم : ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل غالبا ، قال الرازي : والأولى أن يقال : هي هواء متعفن ، يتحرك من جانب إلى جانب ، فإذا استنشق الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة ويقتله.

وذكر السموم والحميم ، وترك ذكر النار وأهوالها ، إشارة بالأدنى إلى الأعلى ، فإذا كان هواؤهم الذي يستنشقونه سموما ، وماؤهم الذي يستغيثون به حميما ، مع أن الهواء والماء أبرد الأشياء في الدنيا ، فما ظنك بنارهم التي هي في الدنيا أحرّ شيء! وكأنه تعالى يقول : إذا كان أبرد الأشياء لديهم أحرها ، فكيف حالهم مع أحرّها؟! ونظير الآية قوله تعالى : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات ٧٧ / ٢٩ ـ ٣٣].

وسبب عذابهم ما قال تعالى :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ، وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ، وَكانُوا


يَقُولُونَ : أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ، أَإِنَّا (١) لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي إنهم كانوا في الدار الدنيا منعمين بما لا يحل لهم ، منهمكين في الشهوات ، مقبلين على لذات أنفسهم ، لا يأبهون بما جاءت به الرسل ، وكانوا في إصرار دائم على الذنب العظيم لا يتوبون عنه ، وهو الشرك ، أو الكفر بالله ، واتخاذ الأوثان والأنداد أربابا من دون الله ، وكانوا ينكرون ويستبعدون البعث بعد الموت ، قائلين : كيف نبعث إذا متنا وصرنا أجسادا بالية وعظاما نخرة؟ بل كيف يبعث آباؤنا وأجدادنا الأولون لتقادم الزمن الطويل عليهم وتقدم موتهم؟ فهم أشد إنكارا واستبعادا لبعث أصولهم الأوائل. ويلاحظ أنهم حكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار.

ويلاحظ أنه تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة ، لذا لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم ، وعند إيقاع العقاب يذكر أعمال المسيئين ، لأن الثواب فضل ، والعقاب عدل ، والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم ، وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب ، يظن أن هناك ظلما ، فقال تعالى : هم فيها بسبب ترفعهم.

فأجابهم الله تعالى على أسباب إنكارهم البعث وهي الحياة بعد الموت ، وتحول الأجساد إلى تراب ، وطول العهد على موت الآباء ، فقال :

(قُلْ : إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي قل لهم أيها الرسول : إن الأولين من الأمم الذين تستبعدون بعثهم ، والآخرين منهم الذين أنتم ومن سيأتي في المستقبل من جملتهم ، سيجمعون بعد البعث إلى ساحات القيامة في يوم محدود ، معلوم الأجل ، لا يتأخر ولا يتقدم ، ولا يزيد ولا ينقص ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)

__________________

(١) الهمزة في أَإِذا وأَ إِنَّا للإنكار والتعجب كما تقدم ، وتكريرها لتأكيد الإنكار.


[النازعات ٧٩ / ١٣ ـ ١٤]. وقال سبحانه : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٣ ـ ١٠٥]. وقوله : (قُلْ) إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور. وأما عدم تعيين يوم القيامة فلئلا يتكل الناس.

ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر العذاب في المأكل والمشرب ، فقال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ، لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي إنكم معشر الضالين عن الحق ، الذين أنكرتم وجود الله ووحدانيته ، وكذبتم رسله ، وأنكرتم البعث والجزاء يوم القيامة : إنكم ستأكلون في الآخرة من شجر الزقوم الذي هو شجر كريه المنظر ، كريه الطعم ، حتى تملؤوا بطونكم ، لشدة الجوع ، ثم إنكم سوف تشربون على الزقوم عقب أكله من الماء الحار ، لشدة العطش ، ويكون شربكم منه شرب الإبل العطاش الظماء ، التي لا تروى لداء يصيبها ، أي لا يكون شربكم من الحميم شربا معتادا ، بل مثل شرب الهيم التي تعطش ولا تروى أبدا بشرب الماء حتى تموت ، قال ابن عباس وجماعة من التابعين : (الْهِيمِ) الإبل العطاش الظماء. وقال السدي : الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت ، فكذلك أهل جهنم ، لا يروون من الحميم أبدا. وعن خالد بن معدان : أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة ، من غير أن يتنفس ثلاثا.

ثم أبان الله تعالى أن هذا عذابهم ، فقال :

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الذي وصفنا من المأكول والمشروب ، من شجر الزقوم ، وشراب الحميم هو على سبيل السخرية والاستهزاء ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم ، وهو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة. وفي رأي الرازي : أن هذا ليس كل العذاب ، بل هذا أول ما يلقونه وهو بعض منه.


والنزل : ما يعد للضيف ، ويكون أول ما يأكله ، كما قال تعالى في حق المؤمنين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف ١٨ / ١٠٧] أي ضيافة وكرامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن أصحاب الشمال هم الذين يأخذون كتبهم بشمائلهم ، عظّم الله تعالى بلاءهم وعذابهم ، وأثار فينا العجب من حالهم وشأنهم.

٢ ـ إنهم يعذبون في ريح حارة تدخل مسام البدن ، ويشربون من ماء حار قد انتهى حرّه ، لشدة العطش ، فإذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم ، فيجدونه حميما حارا في نهاية الحرارة ، وإذا فزعوا من السّموم إلى الظل ، كما يفزع أهل الدنيا ، فيجدونه ظلا من يحموم ، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد.

فهو ليس باردا ، بل حار ، لأنه من دخان شفير جهنم ، ولا حسن المنظر ولا عذب ، ولا نافع ولا خير فيه ، فهو ليس بكريم.

٣ ـ إن أعمالهم الموجبة لهذا العقاب أو سبب استحقاقهم هذه العقوبة : أنهم كانوا في الدنيا مترفين منعّمين بالحرام ، متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص ، وكانوا يقيمون على الذنب الكبير ويلازمونه ولا يتوبون منه وهو الشرك ، وقيل : اليمين الغموس ، لأنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون ، وكانوا يقسمون ألا بعث وأن الأصنام أنداد لله ، فذلك حنثهم ، وكانوا يقولون استبعادا منهم لأمر البعث ، وتكذيبا له ، لا حياة بعد الموت ، ولا يمكن إعادة الحياة للأجساد التي بليت والعظام التي نخرت ، وبعث آبائنا أبعد ، فإنا إذا كنا ترابا بعد موتنا ، والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات ، فكيف يمكن البعث؟!


٤ ـ ومن ألوان عذاب هؤلاء الضالين عن الهدى ، المكذبين بالبعث أكلهم من شجر الزقوم : وهو شجر كريه المنظر ، كريه الطعم ، حتى يملئوا بطونهم منه ، ثم شربهم على الزقوم من الحميم : وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه ، وهو صديد أهل النار ، وليس شربهم كالمعتاد ، وإنما يشربون شرب الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها.

والمراد : أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم ، ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحميم كالإبل الهيم.

٥ ـ هذا رزقهم الذي يعدّ لهم يوم الجزاء (يَوْمَ الدِّينِ) في جهنم ، كالنزل الذي يعدّ للأضياف تكرمة لهم ، وفي هذا الوصف تهكم ، كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة ٩ / ٣٤].

أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))


الإعراب :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَأَنْتُمْ ... نَحْنُ الْخالِقُونَ) في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية ، ومستأنفة على أنها بصرية.

ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا ، أو مهلكون ، لهلاك رزقنا ، من الغرم : وهو الهلاك. المفعول الثاني.

(فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أصله : ظللتم ، يقرأ بفتح الظاء وكسرها ، فمن قرأ بالفتح حذف اللام الأولى بحركتها تخفيفا ، ومن قرأ بالكسر نقل حركة اللام الأولى إلى الظاء ، وحذفها ، وهما لغتان.

المفردات اللغوية :

(فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) بالخلق متيقنين ، تقيمون الدليل على التصديق بالأعمال الدالة عليه ، أو فلو لا تصدقون وتقرون بالبعث والإعادة ، كما أقررتم بالنشأة الأولى ، وهي خلقهم ، فإن من قدر على الإبداء قادر على الإعادة. (ما تُمْنُونَ) ما تقذفونه أو تصبونه من المني في الأرحام. (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) تجعلون المني بشرا سويا تام الخلق. (قَدَّرْنا) قضينا وأقّتنا موت كل واحد بوقت معين. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) لا يسبقنا أحد ، فيهرب من الموت ، أو لا يغلبنا أحد ، فلسنا بعاجزين.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) نخلق أشباهكم وقوله : (عَلى) إما متعلق بقوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا) أي نحن قادرون ، قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم ، أي بموت طائفة ، ونبدلها بطائفة قرنا بعد قرن ، وهذا قول الطبري. وإما متعلق بمسبوقين ، أي لا نسبق على أن نبدل أمثالكم جمع مثل ، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الصفات ، أي نحن قادرون على أن نعدمكم أو نميتكم ، وننشئ أمثالكم ، وعلى تغيير أوصافكم ، مما لا يحيط به فكركم (١).

(وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) نخلقكم خلقا آخر لا تعلمونه وأطوارا لا تعهدونها ، أو نخلق صفات لا تعلمونها.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ، فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي علمتم الخلقة الأولى ، فهلا تتذكرون أن من قدر عليها ، قدر على النشأة الأخرى ، لسبق المثال ، وفيه دليل على صحة القياس.

(تَحْرُثُونَ) تثيرون الأرض وتلقون البذور فيها. (تَزْرَعُونَهُ) تنبتونه ، من الزرع : الإنبات. (الزَّارِعُونَ) المنبتون. (حُطاماً) هشيما هالكا متكسرا. (فَظَلْتُمْ) أصله ظللتم ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢١١


أي أقمتم نهارا. (تَفَكَّهُونَ) تتعجبون من سوء حاله ، وتندمون على اجتهادكم فيه. (لَمُغْرَمُونَ) ملزمون غرامة أو نفقة ما أنفقنا ، أو مهلكون ، لهلاك رزقنا ، من الغرم : وهو الهلاك. (مَحْرُومُونَ) ممنوعون رزقنا ، أو محدودون غير مجدودين (غير محظوظين).

(الْمُزْنِ) السحاب ، جمع مزنة. (الْمُنْزِلُونَ) بقدرتنا. (أُجاجاً) ملحا لا يمكن شربه. (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) فهلا تشكرون أمثال هذه النعم الضرورية. (تُورُونَ) تقدحون ، أو تخرجونها نارا. (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) الشجرة التي منها الزناد ، كالمرخ والعفار والكلخ التي تقدح نارا بالتماس. (جَعَلْناها) جعلنا نار الزناد. (تَذْكِرَةً) أنموذجا لنار جهنم ، أو تبصرة في أمر البعث ، أو تذكيرا. (وَمَتاعاً) منفعة. (لِلْمُقْوِينَ) للمسافرين ، مأخوذ من أقوى القوم : الذين ينزلون القواء ، أي القفر والمفاوز التي لا نبات فيها ولا ماء. (فَسَبِّحْ) نزّه. (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه الله تعالى ، وقل : سبحان الله العظيم ، وأحدث التسبيح بذكر اسمه ، أو بذكره ، فإن إطلاق اسم الشيء : ذكره ، و (الْعَظِيمِ) : صفة للاسم أو الرب.

المناسبة :

بعد بيان حال الأصناف الثلاثة من المخلوقات يوم القيامة ، ومآل كل صنف ، ردّ الله تعالى على المكذبين من أهل الزيغ والإلحاد ، فأقام الأدلة على الألوهية بالخلق والرزق والإمداد بالنعم الدائمة ، وقرر المعاد ، وأثبت البعث والجزاء.

التفسير والبيان :

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي نحن ابتدأنا خلقكم أول مرة ، بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، وأنتم تعلمون ذلك ، فهلا تصدقون بالبعث ، كما تقرّون بالخلق ، فإن من قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟

وهذا تقرير للمعاد وإثبات له بطريق القياس ، ثم أقام أدلة أخرى على ذلك فقال :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أي أخبروني عما تقذفون من المني أو النطف في أرحام النساء ، أأنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه


فيها وتجعلونه بشرا سويا تام الخلق ، أم الله الخالق لذلك ، المقدر المصور له؟!

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نحن قسمنا الموت بينكم ووقتناه لكل فرد منكم ، فمنكم من يموت كبيرا ، ومنكم من يموت صغيرا ، ولكن الكل سواء فيه ، وما نحن بمغلوبين ، بل نحن قادرون على أن نأتي بدلكم بخلق مثلكم بعد إهلاككم ، وعلى تغيير صفاتكم التي أنتم عليها ، وإنشاء صفات وأحوال أخرى لا تعلمونها. والمراد أننا قهرناكم بالموت ، ونقدر على الإتيان بأجيال أخرى أمثالكم ومن جنسكم ، لتستمر الحياة البشرية ، ونقدر أيضا على التجديد في الصفات والأحوال ، وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم.

وهذا دليل على كذب المكذبين بالبعث ، وصدق الرسل في الحشر ، لأن قوله : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) إلزام بالإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى ، ولما كان قادرا على الخلق أولا ، كان قادرا على الخلق ثانيا.

ثم أورد الله تعالى دليلا آخر على إمكان البعث مقرر لما سبق ، فقال :

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ، فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، فخلقكم على مراحل وأطوار من نطفة ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم من هيكل عظمي ، ثم كساكم باللحم ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فهلا تتذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة ، وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن الذي قدر على الأولى قادر على الأخرى ، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧] ، وقال سبحانه : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٦٧] ، وقال عزوجل : (قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)


[يس ٣٦ / ٧٩] ، وقال عزّ اسمه : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً! أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) [القيامة ٧٥ / ٣٦ ـ ٤٠].

وهذا دليل الحشر وتقرير النشأة الثانية ، بالتذكير بالنشأة الأولى ، ليكون تذكيرا بعد تذكير.

ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على قدرته ، مع الاستدلال على كمال عنايته ورحمته ببريته ، فقال :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي أخبروني عما تحرثون أو تقلبون من أرضكم ، فتطرحون فيه البذر ، والحرث : شق الأرض وإلقاء البذر فيها ، أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا بحيث يكون نباتا كاملا يكون فيه السنبل والحب ، بل نحن الذي ننبته في الأرض ونصيره زرعا تاما؟ كان حجر المنذري إذا قرأ : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول : بل أنت يا ربّ.

وهذا دليل الرزق الذي بالبقاء بعد ذكر دليل الخلق الذي به الابتداء ، وفيه أمور ثلاثة : المأكول المذكور هنا أولا ، لأنه هو الغذاء ، ثم ذكر المشروب ، لأن به الاستمراء ، ثم النار التي بها الإصلاح.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ، فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم ، ولو نشاء لأيبسناه ، وجعلناه متحطما متكسرا لا ينتفع به قبل استوائه واستحصاده ، ولا يحصل منه حب ولا شيء آخر يطلب من الحرث ، فصرتم تعجبون من سوء حاله وما نزل به ، قائلين : إننا لخاسرون مغرمون ، والمغرم : الذي ذهب ماله بغير عوض ، أو إننا لهالكون هلاك أرزقنا ، بل إننا حرمنا رزقنا بهلاك


زرعنا ، لسوء حظنا ، والمحروم : الممنوع من الرزق ، وهو ضدّ المرزوق.

ثم ذكر الله تعالى من دليل الرزق بعد المأكول وهو المشروب ، فقال :

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟) أي أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش ، أأنتم أنزلتموه من السحاب ، أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا ، فكيف لا تقرّون بالتوحيد ، وتصدقون بالبعث؟

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ، فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي لا عمل لكم في إنزال الماء أصلا ، فهو محض النعمة ، ولو نريد لجعلناه ملحا لا يصلح لشرب ولا زرع ، فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذبا زلالا ، تشربون منه وتنتفعون به ، كما قال تعالى : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل ١٦ / ١٠ ـ ١١].

روى ابن أبي حاتم عن أبي جعفر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا شرب الماء ، قال : «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا».

ثم ذكر النار أداة الإصلاح ، فقال :

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي أفرأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد ، أأنتم أنشأتم شجرتها التي كانوا يقدحون منها النار ، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟ وكان للعرب شجرتان يقدحون بهما النار وهما المرخ والعفار ، بأن يؤخذ منهما غصنان أخضران ، ويحك أحدهما بالآخر ، فيتناثر من بينهما شرر النار.


(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي نحن جعلنا هذه النار تذكركم حر نار جهنم الكبرى ، ليتعظ بها المؤمن ، ونفعا للمسافرين وأهل البادية النازلين في الأراضي المقفرة.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية فقال : «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».

وخصص المقوون ، أي المسافرون بالذكر ، لشدة حاجتهم إلى النار ، وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم ، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلمون شركاء في ثلاثة : النار ، والكلأ ، والماء».

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه ربّك العظيم الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة ، فخلق الماء الزلال العذب البارد ، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار والمحيطات ، وخلق النار المحرقة ، وجعل ذلك مصلحة للعباد ومنفعة لهم في معاشهم ، وزجرا لهم في المعاد. وفائدة هذا أنه تعالى لما ذكر حال المكذبين بالحشر والوحدانية ، وذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق ، ولم يفدهم الإيمان ، أمر الله نبيّه بأن يعنى بوظيفته وهي إكمال نفسه ، بعلمه بربّه ، وعمله لربّه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أثبت الله تعالى قدرته على البعث والحشر والنشر بدليلين هنا : دليل الخلق ، ودليل الرزق.

أما دليل ابتداء الخلق : فيشمل خلق الذوات وخلق الصفات ، أما خلق الذوات فهو النشأة الأولى بالخلق من النطفة ، ثم من العلقة ، ثم من المضغة ، دون أن نكون شيئا ، من طريق التزاوج بين الذكر والأنثى ، والتقاء نطفتي الرجل


والمرأة ، ثم القرار في الأرحام ، والمرور بأطوار الخلق إلى أن يكتمل الإنسان بشرا سويا تام الخلق. وإذا أقرّ الناس بأن الله هو خالقهم لا غيرهم ، فعليهم الإقرار والاعتراف بالبعث.

والله سبحانه هو الذي يقدر على الإماتة ، والذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق ، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث.

والله عزوجل قادر على خلق الأجيال ، جيلا بعد جيل ، وتجديد صفات المخلوقات وأحوالهم ، وصورهم وهيئاتهم ، والقادر على ذلك قادر على الإعادة.

جاء في الخبر : «عجبا كل العجب للمكذّب بالنشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى ، وعجبا للمصدّق بالنشأة الأخرى ، وهو لا يسعى لدار القرار» (١).

وأما دليل الرزق فيشمل المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول. فذكر تعالى المأكول أولا لأنه الغذاء ، بطريق الاستفهام المراد به الطلب ، وهو أخبروني عما تحرثونه من أرضكم ، فتطرحون فيها البذر ، أأنتم تنبتونه وتحصّلونه زرعا ، فيكون فيه السنبل والحبّ ، أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشقّ الأرض ، فإذا أقررتم بأن إخراج السّنبل من الحبّ ليس إليكم ، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ وأضاف الحرث إلى العباد ، والزرع إليه تعالى ، لأن الحرث فعلهم وباختيارهم ، والزرع من فعل الله تعالى ، وإنباته باختياره ، لا باختيارهم.

أخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان ـ وضعفه ـ وابن حبان عن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يقولن أحدكم : زرعت ، وليقل : حرثت ، فإن الزارع هو الله» قال أبو هريرة : ألم

__________________

(١) تفسير الألوسي : ٢٧ / ١٤٨


تسمعوا قول الله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟). وهذا نهي إرشاد وأدب ، لا نهي حظر وإيجاب.

والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) الآية ، ثم يقول : بل الله الزارع والمنبت والمبلغ ، اللهم صل على محمد ، وارزقنا ثمره ، وجنّبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، ولآلائك من الذاكرين ، وبارك لنا فيه يا ربّ العالمين. ويقال : إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات : الدود والجراد وغير ذلك.

والله سبحانه قادر أن يجعل الزرع متكسرا هشيما هالكا لا ينتفع به في مطعم ولا زرع ، وفي هذا تنبيه على أمرين : أحدهما ـ ما أولاهم به من النّعم في زرعهم ، إذ لم يجعله حطاما ليشكروه ، الثاني ـ ليعتبروا بذلك في أنفسهم ، فكما أنه يجعل الزرع حطاما إذا شاء ، كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا وينزجروا.

وإذا جعله الله حطاما لم يجد الإنسان سبيلا آخر للتعويض ، فيعجب من ذهاب الزرع ، ويندم مما حلّ به ، ويقول : إنني لخاسر مغرم ، أو لمعذب هالك ، محروم مما طلبت من الريع والربح.

ثم ذكر الله تعالى المشروب الذي لا بدّ منه للحياة ، والتابع للمطعوم ، فهو نعمة عظمي ، والله هو الذي أنزله من السحاب ، لإحياء النفوس ، وإرواء العطش ، وإذا عرف أن الله أنزله ، فلم لا يشكره العباد بإخلاص العبادة له ، ولم ينكرون قدرته على الإعادة؟

والله قادر على أن يجعله ملحا شديد الملوحة ، لا ينتفع به في شرب ولا زرع ولا غيرهما ، فهلا أيها البشر تشكرون الله الذي صنع ذلك لكم! فهذا دليل آخر على قدرة الله ، ونعمة أخرى.


ثم ذكر الله تعالى النار التي بها الإصلاح ، فهي أيضا نعمة ، والله هو الذي أنشأ شجرتها التي يكون منها الزناد وهي المرخ والعفار ، وإذا عرف أن الله هو المخترع الخالق ، وعرفت قدرته على خلق الأشياء ، فليشكروه ولا ينكروا قدرته على البعث.

ونار الدنيا أيضا موعظة للنار الكبرى ، وسبب منفعة وتمتع للمسافرين وكل الناس ، فلا يستغني عنها أحد في مرافق الحياة والمعايش ، فيها الخبز والطبخ والإنارة والطاقة المولدة لمحركات الآلات الحديثة في البر والجو والبحر ، وهذا تذكير بالإنعام الإلهي على الناس.

وما عليك أيها الإنسان بعد إيراد هذه الأدلة والتذكير بهذه النعم إلا أن تنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد ، والعجز عن البعث.

ويلاحظ حسن الترتيب في بيان هذه الأدلة ، حيث بدأ تعالى بذكر خلق الإنسان ، لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم ، ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معاشهم وهو الحبّ ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين ، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز. وذكر عقيب كل واحد ما يمكن أن يأتي عليه ويفسده ، فقال في الأولى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وفي الثانية : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) وفي الثالثة : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ولم يقل في الرابعة وهي النار ما يفسدها ، بل قال : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) تتعظون بها ، ولا تنسون نار جهنم ، كما أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، لكل جزء منها حرها».


إثبات النبوة وصدق القرآن وتوبيخ المشركين على اعتقادهم

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

الإعراب :

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ .. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) في الجمل تقديم وتأخير من وجهين : أحدهما ـ أنه فصل بين القسم والمقسم عليه بقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فقدمه على المقسم عليه وتقديره : «أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم ..» إلخ. الثاني ـ أنه فصل بين الصفة والموصوف بقوله (لَوْ تَعْلَمُونَ) وتقديره : وإنه لقسم عظيم لو تعلمون ، فقدمه على الصفة.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا) نافية غير ناهية ، و (يَمَسُّهُ) فعل مضارع مرفوع ، ويكون المراد بقوله : (الْمُطَهَّرُونَ) الملائكة.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) تقديره : فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم ، ولولا : بمعنى «هلا». (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) أما : حرف تفصيل وشرط ، بمنزلة


(مهما) وجوابه : (فَرَوْحٌ) وتقديره : فله روح ، وروح : مبتدأ ، وله خبره ، والتقدير : مهما يكن من شيء فروح وريحان إن كان من المقربين ، فحذف الشرط الذي هو (يكن من شيء) وأقيم (أما) مقامه.

وهكذا الكلام على قوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ) وقوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ).

البلاغة :

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ـ لَوْ تَعْلَمُونَ ـ عَظِيمٌ) جملة اعتراضية بين القسم والمقسم عليه لتأكيد القسم ، وقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) جملة اعتراضية بين الصفة والموصوف لبيان أهمية القسم.

المفردات اللغوية :

(فَلا أُقْسِمُ) هذا قسم في كلام العرب ، و «لا» مزيدة للتأكيد ، كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد ٥٧ / ٢٩]. واستعمال هذه الصيغة للدلالة على أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ، أو المراد : فأقسم (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) مساقط الكواكب ومغاربها ، وتخصيص المغارب ، للدلالة على وجود مؤثر ، لا يزول تأثيره. (وَإِنَّهُ) أي القسم بها. (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة ، وكمال الحكمة ، وفرط الرحمة ، ومن مقتضيات رحمته ألا يترك عباده سدى. (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) إن المتلو عليكم لقرآن كثير النفع ، لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد. (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) في مكتوب مصون عن التغيير والتبديل ، وهو المصحف ، أو اللوح المحفوظ. (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا) النافية ، و (الْمُطَهَّرُونَ) الملائكة ، أي لا يقربه ولا يطلع عليه إلا المنزهون من الحظوظ النفسية ، وهم الملائكة. أو هو خبر بمعنى النهي ، أي لا يمس القرآن إلا المطهّرون من الأحداث ، فيكون نفيا بمعنى نهي. وقرئ : «المتطهرون». و «المطّهرون» بالإدغام ، و «المطهرون» من أطهره ، و «المطّهرون» ، أي أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام. (تَنْزِيلٌ) صفة رابعة للقرآن ، أي منزّل من رب العالمين ، أو وصف بالمصدر ، لأنه نزّل مقسطا منجما من بين سائر كتب الله تعالى ، فكأنه في نفسه تنزيل ، لذا سمي به ، ويقال : جاء في التنزيل كذا ، ونطق به التنزيل ، أو هو تنزيل ، على حذف المبتدأ ، وقرئ : تنزيلا أي نزل تنزيلا.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) القرآن. (مُدْهِنُونَ) متهاونون ، كمن يدهن في الأمر ، أي يلين جانبه ، ولا يتصلب فيه ، تهاونا به ، ومنه يقال : المداهنة : الملاينة والمداراة. وهذا استعمال للفظ


في الشيء المعنوي على سبيل المجاز ، الذي صار لشهرته حقيقة عرفية. وأصله الادهان : أي جعل الأديم (الجلد) مدهونا بمادة زيتية ليلين لينا حسيا. (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي شكر رزقكم ، وهو المطر. (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بمانحه وساقيه حيث تنسبون المطر إلى الأنواء ، وتقولون : مطرنا بنوء كذا. والنوء : سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر ، وطلوع رقيبه من المشرق ، يقابله من ساعته ، في كل ثلاثة عشر يوما ، ما خلا الجبهة ، فإن لها أربعة عشر يوما ، وكانت العرب تضيف الأمطار والرّياح والحرّ والبرد إلى الساقط منها ، وقيل : إلى الطالع منها ، لأنه في سلطانه ، وجمعه : أنواء.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي فلا إذا وصلت الروح وقت النزع الحلقوم ، أي أعلى مجرى الطعام. (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) وأنتم يا من يكون حول المحتضر تنظرون إليه ، والواو للحال. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي ونحن أعلم بحال المحتضر منكم ، ولكن لا تعلمون ذلك ، أو لا تدركون كنه ما يجري عليه ، عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى أسباب الاطلاع. (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي فهلا إن كنتم غير مجزيين يوم القيامة ، أي غير مبعوثين بزعمكم. (تَرْجِعُونَها) تردون الروح إلى الجسد ، بعد بلوغ الحلقوم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما زعمتم. والمعنى : هلا ترجعون الروح إلى مقرّها إن نفيتم البعث ، صادقين في نفيه ، بأن تزيلوا الموت الذي يعقبه البعث. ولولا الثانية تأكيد للأولى. وإذا ظرف لفعل : (تَرْجِعُونَها).

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي إن كان المتوفى من السابقين. (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) فله استراحة ، ورزق حسن طيب ، وجنة ذات تنعم. (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وإن كان من أهل اليمين ، فسلام من العذاب وتحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، من جهة أنه منهم.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) أي من أصحاب الشمال الذين كذبوا بالله ورسله وضلوا عن الهدى ، وإنما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها ، وإشعار بسبب وعيدهم. (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي فالنزل المعدّ لك أول قدومك : ماء شديد الحرارة ، والاصطلاء بنار الجحيم وإذاقة حرها. (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا المذكور في السورة لهو حق الخبر اليقين ، أي الحق الثابت الذي لا شك فيه. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فنزهه بذكر اسمه عما لا يليق بعظمة شأنه.


سبب النزول :

نزول الآية (٧٥):

(فَلا أُقْسِمُ ..) : أخرج مسلم عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة وضعها الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا ، فنزلت هذه الآيات : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) حتى بلغ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حزرة قال : نزلت هذه الآيات في رجل من الأنصار في غزوة تبوك نزلوا الحجر (١) ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا يحملوا من مائها شيئا ، ثم ارتحل ونزل منزلا آخر ، وليس معهم ماء ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام ، فصلى ركعتين ، ثم دعا ، فأرسل الله سحابة ، فأمطرت عليهم حتى استقوا منها ، فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه يتهم بالنفاق : ويحك أما ترى ما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمطر الله علينا السماء ، فقال : إنما مطرنا بنوء كذا وكذا.

وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال : ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين ، يقول : الكوكب ، وبالكوكب».

المناسبة :

بعد بيان أدلة إثبات الألوهية والبعث والجزاء ، أقام الله تعالى الأدلة على النبوة وصدق القرآن العظيم ، وأقسم بمواقع النجوم تعظيما لشأن القرآن أنه تنزيل من رب العالمين ، ثم وبخ المشركين على اعتقادهم الباطل بجحود الله وتكذيب

__________________

(١) الحجر : ديار ثمود ، واد بين المدينة والشام.


رسوله ، وإنكار المعاد ، ثم أعاد الكلام على أحوال الأصناف الثلاثة الذين بدئت بهم السورة : السابقين المقربين ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، وما يلقاه كل صنف من الجزاء يوم القيامة ، ثم أخبر الله نبيه بأن هذا الخبر هو الحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب ، وأمره أن ينزه ربه عن كل نقص وغيره مما لا يليق به.

التفسير والبيان :

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي أقسم بمساقط النجوم وهي مغاربها ، ولله في رأي الجمهور أن يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته. وإنما خص القسم بمساقط النجوم ، لما في غروبها من زوال أثرها ، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يزول تأثيره ، لذا استدل إبراهيم عليه‌السلام بالأفول على وجود الإله ، وكذلك لا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة.

وجاء القسم على هذا النحو : (فَلا أُقْسِمُ) بالنفي مريدا : (أُقْسِمُ) ، لأن العرب تزيد (لا) قبل فعل (أُقْسِمُ) كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه ، فيفيد التأكيد ، والمراد أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما ، فضلا عن هذا القسم العظيم. وورد القسم على مثال ذلك كثيرا في القرآن الكريم ، مثل : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) [الانشقاق ٨٤ / ١٦] و (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [التكوير ٨١ / ١٥] و (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة ٧٥ / ١] و (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) [الحاقة ٦٩ / ٣٨] و (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج ٧٠ / ٤٠] و (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد ٩٠ / ١] و (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة ٧٥ / ٢].

ويرى بعض المفسرين أن (لا) ليست زائدة لا معنى لها ، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي ، كقول عائشة رضي‌الله‌عنها : «لا والله ما مسّت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قط».


وجاء القسم في القرآن على أنواع : إما قسم الله بنفسه أو بذاته مثل : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ لَحَقٌ) [الذاريات ٥١ / ٢٣] و (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء ٢١ / ٥٧]. وإما قسم من الله بأشياء من خلقه ، دلالة على عظمة مبدعها ، كالصافات ، والطور ، والذاريات ، والنجم ومواقع النجوم ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، ويوم القيامة ، والفجر والبلد والتين والزيتون.

وقد يكون القسم بالقرآن : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس ٣٦ / ١ ـ ٢]. (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص ٨٨ / ١]. (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق ٤٥ / ١]. (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [الزخرف ٤٣ / ١ ـ ٢] [والدخان ٩٠ / ١ ـ ٢] في الزخرف والدخان.

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ـ لَوْ تَعْلَمُونَ ـ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك. والضمير يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام المتقدم.

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) هذا هو المقسم عليه ، أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم ، كثير المنافع والفوائد ، لما فيه من الهدى والعلم والحكمة والإرشاد إلى سعادة الدنيا والآخرة. وهذه الصفة الأولى للقرآن.

والمناسبة واضحة بين المقسم به وهو النجوم ، وبين المقسم عليه وهو القرآن ، لأن النجوم تضيء الظلمات ، وآيات القرآن تنير الطريق ، وتبدد ظلمات الجهل والضلالة ، والأولى ظلمات حسية ، والثانية ظلمات معنوية.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذه ثلاث صفات أخرى للقرآن العظيم : وهي أنه في اللوح المحفوظ مصون مستور لا يطلع عليه إلا الملائكة المقربون ، وهم الكروبيون ، ولا يمسه في السماء إلا الملائكة الأطهار ، ولا يمسه في الدنيا إلا المطهرون من الحدثين : الأصغر


والأكبر ، أي الحدث والجنابة ، وهو منزل من الله تعالى ، فليس بسحر ولا كهانة ولا شعر ولا قول بشر ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه حق نافع.

ويدل فحوى الآية على أنه لا يمس القرآن كافر ولا جنب ولا محدث ، روى مالك في موطئه وابن حبان في صحيحة : أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا طاهر. وروى أبو داود في المراسيل وأصحاب السنن من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عبد أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولا يمس القرآن إلا طاهر» وأسنده الدار قطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص ، لكن في إسناد كل منهما نظر.

وعدم مس المحدث للمصحف أمر يكاد يجمع عليه العلماء ، وأجاز بعض الفقهاء وهم المالكية مس المحدث له لضرورة التعلم والتعليم. لكن رجح العلماء أن المراد من الكتاب : الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس ٨٠ / ١٣ ـ ١٦] لأن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزل به الشياطين ، ولأن السورة مكية ، وأغلب عناية القرآن المكي في أصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة ، وأما الأحكام الفرعية ففي القرآن المدني ، ولأن قوله (مَكْنُونٍ) معناه مصون مستور عن الأعين لا تناله أيدي البشر ، ولو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا فائدة كبيرة.

ثم وبخ الله تعالى المتهاونين بشأن القرآن ، فقال :

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي أبهذا القرآن الموصوف بالأوصاف الأربعة السابقة متهاونون ، تمالئون الكفار على الكفر ، وتركنوا إليهم؟ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون شكر رزقكم من السماء وهو


المطر ، أو من الأرض وهو الزرع أنكم تكذبون بنعمة الله وبالبعث وبما دل عليه القرآن ، فتضعون التكذيب موضع الشكر؟ ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر!!

ثم وبخ الله تعالى المشركين على ما يعتقدون ، فقال :

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ، وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي فهلا إذا وصلت الروح أو النفس الحلق حين الاحتضار ، وأنتم ترون المحتضر قد قارب فراق الحياة ، تنظرون إليه وما يكابده من سكرات الموت ، ونحن بالعلم والقدرة والرؤية وبملائكتنا أقرب إليه منكم ، ولكن لا تبصرون ملائكة الموت الذين يتولون قبضه. وجواب (فَلَوْ لا) سيأتي بعد وهو (تَرْجِعُونَها).

ثم أكّد الله تعالى الحث والتحضيض ، فقال :

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ، تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين ولا مبعوثين ، تمنعون موته ، وترجعون الروح التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه ، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم لن تبعثوا وأنكم غير مربوبين ولا مملوكين للخالق؟

والمعنى المراد : أنه إذا لم يكن لكم خالق ، وأنتم الخالقون ، فلم لا ترجعون الأرواح إلى أجسادها حين بلوغها الحلقوم؟! وإن صدقتم ألا بعث ، فردوا روح المحتضر إلى جسده ، ليرتفع عنه الموت ، فينتفي البعث؟ أي إن تحقق الشرطان أو الوصفان منكم : إن كنتم غير مدينين ، وإن كنتم صادقين فردوا روح الميت إليه.

ونظير الآية قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ، وَقِيلَ : مَنْ راقٍ؟


وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة ٧٥ / ٢٦ ـ ٢٩].

ثم بيّن الله تعالى مصائر هؤلاء الناس عند احتضارهم وبعد وفاتهم ، وجعلهم أقساما ثلاثة فقال :

١ ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ ، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي إن كان المحتضر أو المتوفى من فئة السابقين المقربين : وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات ، وبعض المباحات ، وهم الصنف الأول في مطلع السورة ، فلهم راحة ، واستراحة وطمأنينة من أحوال الدنيا ، ورزق واسع ونعيم في الجنة ، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت. والروح : الاستراحة ، وهو يعم الروح والبدن ، والريحان : الرزق ، وهو للبدن ، وجنة النعيم للروح ، يتنعم بلقاء المليك المقتدر. يروى : أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه. فاللهم اجعلنا من هؤلاء يا ذا الجلال والإكرام.

٢ ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وأما إن كان المحتضر أو المتوفى من أهل اليمين : وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ، فتبشرهم الملائكة بذلك ، وتقول لهم : سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، لا بأس عليك أنت إلى سلامة ، أنت من أصحاب اليمين ، وذلك لأنك ستكون معهم ، فيستقبلونك بالسلام.

وذلك كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت ٤١ / ٣٠ ـ ٣٢].


٣ ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وإن كان المتوفى أو المحتضر من المكذبين بالحق والبعث ، الضالين عن الهدى ، وهم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم ، فله ضيافة أو نزل يعد له من حميم : وهو الماء الشديد الحرارة ، بعد أن يأكل من الزقوم ، كما تقدم بيانه ، ثم استقرار ، وزج له في النار التي تغمره من جميع جهاته.

ثم حسم الله تعالى الأمر وأبان مدى صحة الخبر ، فقال :

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي ن هذا الخبر والمذكور في هذه السورة من أمر البعث وغيره لهو محض اليقين وخالصة ، والحق الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب ، ولا محيد لأحد عنه.

ثم أمر الله نبيه بما يكمل نفسه ، فقال :

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه الله عما لا يليق بشأنه ، لما علمت من أخبار علمه وقدرته. والباء في قوله : (بِاسْمِ) زائدة ، أي سبّح اسم ربك ، والاسم : المسمى.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال : «اجعلوها في ركوعكم»

ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم».

والفرق بين العظيم والأعلى : أن العظيم يدل على القرب ، والأعلى يدل على البعد ، فهو سبحانه قريب من كل ممكن ، وقريب من الكل ، وهو أعلى من أن يحيط به إدراكنا ، وفي غاية البعد عن كل شيء.

أخرج الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :


«كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بمساقط النجوم ومغاربها ، وهو قسم عظيم لو يعلم الناس ، على أن القرآن قرآن كريم ، كثير النفع ، ليس بسحر ولا كهانة ، وليس بمفترى ، بل هو قرآن كريم محمود ، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كريم على المؤمنين ، لأنه كلام ربهم ، وشفاء صدروهم ، كريم على أهل السماء ، لأنه تنزيل ربهم ووحيه.

قال القشيري عن صيغة القسم : (فَلا أُقْسِمُ ...) : هو قسم ، ولله تعالى أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.

٢ ـ وصف الله تعالى القرآن في هذه الآيات بأربع صفات : هي أنه كريم ، أي كثير الخير والنفع والفائدة ، وفي كتاب مكنون ، أي في اللوح المحفوظ ، مصون عند الله تعالى ، ومحفوظ عن الباطل والتغيير والتبديل ، ولا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب ، وهم الملائكة ، ومنزل من رب العالمين. والأصح أن المراد من الكتاب المكنون : اللوح المحفوظ. والضمير في (لا يَمَسُّهُ) للكتاب.

أما مس المصحف على غير وضوء ، فالجمهور ومنهم أئمة المذاهب الأربعة على المنع من مسّه ، لحديث عمرو بن حزم المتقدم : «لا يمس القرآن إلا طاهر» وأجاز المالكية مسّ القرآن للمحدث لضرورة التعلم والتعليم.

وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي الظاهري : أنه لا بأس بحمل القرآن


ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا ، إلا أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله ، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر ، ورد عليهم بأنه موضع ضرورة ، فلا حجة فيه. فيكون المنع من مس المصحف للمحدث ثابتا بالسنة ، وليس مأخوذا من صريح الآية.

٣ ـ بعد إثبات النبوة وصدق الوحي والقرآن الكريم وبّخ الله تعالى المتهاونين بالقرآن المكذبين به ، وهذا قلب للأوضاع ، فإن الجاحدين جعلوا شكر الرزق من الله والإنعام هو التكذيب ، فوضعوا الكذب مكان الشكر ، كقوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال ٨ / ٣٥] أي لم يكونوا يصلّون ، ولكنهم كانوا يصفّرون ويصفّقون مكان الصلاة.

قال القرطبي : وفي هذا بيان أن ما أصاب العباد من خير ، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروها ، تعبّدا له وتذللا (١).

٤ ـ تحدى الله منكري البعث بأنهم إن كانوا صادقين في زعمهم ألا بعث ، وأنهم غير مجزيين ولا محاسبين ولا مبعوثين يوم المعاد ، فليمنعوا الموت عن الإنسان حين الاحتضار ، وليردوا الروح إليه إذا بلغت الحلقوم ، وإذا انتفى الموت انتفى البعث ، والحق أنهم عاجزون عن ذلك ، لا يقدرون على شيء من هذا ، وهم ينظرون إلى المحتضر محزونين آيسين ، والله سبحانه أقرب إلى المحتضر بالقدرة والعلم والرؤية ، ولكن الحاضرين حوله لا يدركون ذلك ، ولا يرون الملائكة الرسل الذين يتولون قبض الروح.

٥ ـ الناس عند الاحتضار ثم الوفاة أصناف ثلاثة : المقربون السابقون ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٢٨


وأهل اليمين ، وأهل الشمال. أما المقربون فلهم الرحمة والاستراحة ، والرزق الواسع ، والتنعم المطلق في الجنة ، ورؤية الله عزوجل ، فلا يحجبون عنه.

وأما أصحاب اليمين ، فإنهم يسلمون من عذاب الله ، ويسلم الله عليهم ، وتسلّم الملائكة أيضا عليهم قائلين لهم : سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين. قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام. وكذلك يسلم عليهم منكر ونكير عند المساءلة في القبر ، وتسلم عليهم الملائكة عند البعث في القيامة ، قبل الوصول إليها.

فالملائكة تسلم على صاحب اليمين في المواطن الثلاثة ، ويكون ذلك إكراما بعد إكرام (١).

وأما أصحاب الشمال المكذبون بالبعث ، الضالون عن الهدى وطريق الحق ، فلهم رزق من حميم : ماء تناهي حره ، وإدخال في النار.

٦ ـ إن جميع هذا المذكور في هذه السورة محض اليقين وخالصة ، وهو الحق الثابت الذي لا شك فيه ، ولا محيد عنه. قال قتادة في هذه الآية : إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن ، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة ، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين.

٧ ـ أمر الله نبيه والمؤمنين من بعده بأن ينزه الله تعالى عن السوء وعن كل ما لا يليق به ، ما دام الحق قد ظهر ، واستبان اليقين ، وبطل زيف الكفار والمشركين.

__________________

(١) المرجع السابق : ص ٢٣٤


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحديد

مكيّة ، وهي تسع وعشرون آية.

مدنيتها :

هي كما ذكر القرطبي مدنية في قول الجميع ، وهو الظاهر ، وقيل : إنها مكية وهو رأي مرجوح.

تسميتها :

سميت سورة الحديد ، للإشارة في الآية (٢٥) منها إلى منافع الحديد ، واعتماد مظاهر المدنية والعمران والحضارة عليه ، سواء في السلم والحرب.

مناسبتها لما قبلها :

وجه اتصال هذه السورة بالواقعة من ناحيتين.

١ ـ ختمت سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح ، وبدئت هذه بذكر التسبيح من كل ما في السموات والأرض.

٢ ـ إن سورة الحديد واقعة موقع العلة للأمر بالتسبيح في الواقعة ، فكأنه قيل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لأنه سبح له ما في السموات والأرض ، فالله أمر بالتسبيح ، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله ، والتزمه كل ما في السموات والأرض.


ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقيدة والإيمان ، والجهاد والإنفاق في سبيل الله ، والترفع عن مفاتن الدنيا ، وبيان أصول الحكم الإسلامي ، وكشف مخازي المنافقين ، وشرائع الأنبياء في الحياة الخاصة والعامة.

ابتدأت بالحديث عن صفات الله وأسمائه الحسنى ، وظهور آثار عظمته في خلق الكون. ثم دعت المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ، وإعزاز الإسلام ، ورفع مجده وشأنه.

وقارنت أثر هذه الدعوة إلى البذل والجهاد بين المؤمنين المجاهدين الذين يتميزون بأنوارهم في الآخرة ، وبين المنافقين الذين يبخلون ويجبنون ، ويتخبطون في ظلمات الجهل والكفر.

ثم أبانت السورة حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة ، فالدنيا دار الفناء واللهو واللعب ، والآخرة دار الخلود والبقاء والسعادة والراحة الكبرى ، وفي ذلك تحذير من الاغترار بالدنيا ، وترغيب في الآخرة والعمل من أجلها. ونصحت المؤمنين بالصبر على المصائب ، وذمت أهل الاختيال والكبر والبخلاء ، وحضّت على العدل وعمارة الكون ، وأبانت الغاية من بعثة الرسل الكرام ، وأمرت بتقوى الله ، واتّباع هدي الرسل والأنبياء.

وختمت السورة بالاعتبار بالأمم السابقة ، وبقصص نوح وإبراهيم وأحفادهم الرسل ، وبقصة عيسى بن مريم ، وموقف أتباعه من دعوته ، وأوضحت ثواب المتقين ، ومضاعفة أجر المؤمنين برسلهم ، وأبانت أن الرسالة اصطفاء من الله ، وفضل يختص به من يشاء من عباده.


فضلها :

أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عرباض بن سارية أنه حدّث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد ، وقال : «إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وهي قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

التسبيح لله في جميع الأوقات وأسبابه

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

الإعراب :

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ مَعَكُمْ) ظرف متعلق بفعل مقدر ، تقديره : وهو شاهد معكم.

البلاغة :

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) بينهما طباق ، وكذا بين (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وبين (الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ). (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) و (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) بينهما مقابلة. (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) فيه رد العجز على الصدر.


المفردات اللغوية :

(سَبَّحَ لِلَّهِ) أي نزهه كل شيء من كل نقص وعما لا يليق به من صفات الحوادث كالشريك والولد ، وإنما عدّي باللام وهو معدّى بنفسه ، مثل نصحت له ونصحته ، إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه. وذكر في القرآن : (سَبَّحَ) كما في آخر السورة السابقة الواقعة وأول الأعلى للأمر بالتسبيح ، وذكر هنا وفي الحشر والصف بلفظ الماضي ، وفي الجمعة والتغابن بلفظ المضارع ، إشعارا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته ، وكله يدل على الديمومة والاستمرار ، وأن ذلك ديدن من في السموات والأرض ، وجاء بلفظ المصدر (سُبْحانَ) أول الإسراء ، إشعارا بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال.

(ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جيء ب (ما) وليس «من» تغليبا للأكثر من غير العقلاء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) القوي في ملكه فلا ينازعه فيه شيء ، الحكيم في صنعه ، والجملة حال يشعر بما يدل على أنه الأهل للتسبيح مع استغنائه. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي إن سبب التسبيح كونه تعالى مالكا السموات والأرض ، وله تمام التصرف في الملك ، وهو إيجاد ما شاء ، وإعدام ما شاء بقدرته على الإحياء والإماتة. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قادر تام القدرة على كل شيء من الإحياء والإماتة وغيرهما.

(هُوَ الْأَوَّلُ) السابق على سائر الموجودات ، والموجود قبل كل شيء بلا بداية ، لأنه موجد الأشياء ومحدثها. (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فناء الموجودات ، والموجود بعد كل شيء بلا نهاية. (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) الظاهر وجوده لكثرة دلائله ، والباطن : حقيقة ذاته ، فلا تحيط به العقول والحواس ، وخفيت عنه ذاته ، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله ، وباطن بذاته. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ستة أطوار. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الكرسي استواء يليق به. (يَلِجُ) يدخل. (فِي الْأَرْضِ) من كنوز ومعادن وبذور ومطر وأموات. (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالنبات والمعادن لمنفعة الناس. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالمطر والرحمة والملائكة والعذاب وغير ذلك. (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالأبخرة والأعمال والدعوات. (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي بعلمه وقدرته ، لا يفارقكم بحال ، فليس المراد المعية بالذات. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم عليه ، وتقديم الخلق في الآية على العلم ، لأنه دليل عليه.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الموجودات جميعها. (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقص ، فيزيد الليل وينقص النهار تارة ، وعلى العكس تارة أخرى. (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما فيها من الأسرار والمكنونات ، والنوايا والخفايا والمعتقدات.


التفسير والبيان :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي نزّه الله تعالى عن كل نقص وعما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض من الجماد والنبات والإنسان والحيوان ، تعظيما له وإقرارا بربوبيته ، سواء بلسان المقال ، كتسبيح الملائكة والإنس والجن ، أو بلسان الحال ، كتسبيح غيرهم ، فإن كل موجود يدل على الصانع ، كما قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء ١٧ / ٤٤] فتسبيح العقلاء : تنزيه وتقديس وعبادة ، وتسبيح غيرهم إقرار واعتراف بالصانع.

والله هو القوي القادر الغالب الذي خضع له كل شيء ، ولا ينازعه أحد في ملكه ، الحكيم في تدبيره وأمره وخلقه وشرعه ، يتصرف على وفق الحكمة والصواب. وهذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها ، تدل على أنه تعالى مبدأ التسبيح مع الاستغناء عنه.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لله تعالى الملك المطلق للسموات والأرض ، يتصرف فيهما وحده ، وله السلطان التام ، وهو نافذ الأمر ، فلا ينفذ غير تصرفه ، وهو المالك المتصرف في خلقه ، فيحيي من يشاء ، ويميت من يشاء ، ويعطي من يشاء ما يشاء ، وهو تام القدرة ، لا يعجزه شيء ، كائنا ما كان ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي الله هو الأول قبل كل شيء ، قيل ، وهو غير حديث : «كنت كنزا مخفيا ، فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فبي عرفوني» وهو الآخر الباقي بعد كل شيء ، بعد فناء خلقه ، كما قال سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ٢٨ / ٨٨].


وهو الظاهر العالي فوق كل شيء ، الغالب على كل شيء ، والباطن العالم بما بطن ، ولا تعرف العقول ذاته على حقيقتها ، ولا تدركه الحواس ، وهو ذو علم تام بكل شيء ، لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات.

روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ، فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر».

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي الله الذي أوجد وأبدع السموات والأرض في أيام ستة الله أعلم بمقدارها ، وفي ستة أطوار مختلفة ، وهو القادر على خلقها في لحظة ، ولكن هذا العدد لتعليم العباد التأني والتثبت في الأمور ، ثم استوى على العرش أي الكرسي استواء يليق به ، على نحو يريده ، مما لا يعلم به إلا هو ، وهذا رأي السلف ، وهو الأولى احتياطا ، ورأي الخلف تأويل الاستواء على العرش بتدبير الأمر وتفصيل الآيات والاستيلاء على مقاليد السلطة.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) أي يعلم كل شيء ، يدخل في الأرض من مطر وأموات وغير ذلك ، ويخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن وغيرها ، وما ينزل من السماء من مطر وملائكة وغير ذلك ، وما يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال العباد الصالحة والسيئة ، والدعوات ، والأبخرة المتصاعدة ونحو ذلك ، جاء في الحديث الصحيح : «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل».

ونظير الآية : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام ٦ / ٥٩].


(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي والله سبحانه مع عباده بقدرته وسلطانه وعلمه ، أينما كانوا في البر والبحر والجو ، والله رقيب عليهم بصير بأعمالهم ، لا يخفى عليه شيء منها.

قال أبو حيان : وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات ، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها ، مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها (١).

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي هو المالك للدنيا والآخرة. كما قال تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) [الليل ٩٢ / ١٣] فلا راد لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، وهو المحمود على ذلك كما قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) [القصص ٢٨ / ٧٠] ومرجع جميع الأمور إلى الله وحده لا إلى غيره يوم القيامة ، فيحكم في خلقه بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور ، ولا يظلم مثقال ذرة.

وقوله : (لَهُ مُلْكُ ..) هذا التكرير للتأكيد ، أو أنه وما بعده ليس بتكرار ، لأن الكلام الأول في الدنيا لقوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) والثاني في العقبى والآخرة لقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إن الله سبحانه هو المتصرف في الخلق ، يقلّب الليل والنهار ، ويقدرهما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطول الليل ، ويقصر النهار ، وتارة بالعكس ، وتارة يتركهما معتدلين ، وتتوالى الفصول الأربعة بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه ، وهو يعلم السرائر وضمائر الصدور ومكنوناتها ، وإن خفيت ، لا يخفى عليه من ذلك خافية ، سواء الظاهر والباطن.

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٢١٧


وهذا حث على التأمل في ملكوت الله ، وشكر على ما أنعم ، وتنزيه على كل ما لا يليق به. والخلاصة : أن هذه الآيات إخبار بتسبيح كل شيء الله ، وبيان موجبات التسبيح.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ مجّد الله ونزّهه عن السوء في الذات والصفات والأسماء والأفعال كلّ شيء في الأرض والسماء ، سواء بالنطق والمقال الصريح ، أم بلسان الحال والدلالة وظهور آثار الصنعة : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

٢ ـ إن موجبات التسبيح كون الله العزيز الغالب في ملكه ، الحكيم في صنعه ، المالك المتصرف في السموات والأرض ، المستغني في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه ، ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم ، والنافذ الأمر ، المالك القادر القاهر ، الذي لا يعجزه شيء.

٣ ـ ومن موجباته أيضا أنه سبحانه الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، والظاهر الغالب الذي ليس فوقه شيء ، والباطن الذي ليس دونه شيء ، وهو تام العلم بما كان أو يكون ، فلا يخفى عليه شيء.

وهذا دليل على أنه تعالى قبل كل شيء ، ومتقدم على ما سواه تأثيرا وطبعا وشرفا ومكانا وزمانا ، أي أنه سبحانه قبل المكان وقبل الزمان. وهو إله لجميع الممكنات والكائنات ، وإله للعرش والسموات والأرضين ، وعالم بظواهرنا وبواطننا.

٤ ـ ومما يوجب تسبيحه أنه خالق السموات والأرض ومبدعهما ، صاحب


العرش الذي استوى عليه استواء يليق به ، العالم بما يدخل في الأرض من مطر وغيره ، وما يخرج منها من نبات وغيره ، وما ينزل من السماء من رزق ومطر وملائكة ، وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد ، وهو مع خلقه بقدرته وسلطانه وعلمه ، لا بذاته ، أينما كانوا ، ويبصر أعمالهم ويراها ، ولا يخفى عليه شيء منها.

٥ ـ ومن موجبات التسبيح أنه سبحانه المالك للدنيا والآخرة ، وترجع إليه أمور الخلائق في الآخرة. وهو يقلب الليل والنهار طولا وقصرا ، ويأتي بالفصول الأربعة ، ولا تخفى عليه الضمائر ، فهو إذن المعبود على الحقيقة ، فلا يجوز أن يعبد من سواه.

والخلاصة : أن هذه الآيات جامعة بين الدلالة على قدرة الله ، وبين إظهار نعمه ، والمقصود من إعادة بعض معانيها في رأي القائلين بالتكرار الحث على النظر والتأمل ، ثم الاشتغال بالشكر على تلك النعم.

بعض التكاليف الدينية

الحث على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الإنفاق

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ


أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

الإعراب :

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) في قراءة : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من معنى الفعل في (ما لَكُمْ) ، (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) : جملة اسمية في موضع نصب على الحال ، والواو : واو الحال ، وتقديره : ما لكم غير مؤمنين بالله تعالى ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الحال ، فهما حالان متداخلتان. وقرئ : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ ..) والمعنى : وأي عذر لكم في ترك الإيمان ، والرسول يدعوكم إليه ، وينبهكم عليه ، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى كُلًّا) : منصوب ب (وَعَدَ) و (الْحُسْنى) : منصوب مفعول ثان ل (وَعَدَ) وقرئ : وكل على أنه مبتدأ ، و (وَعَدَ) : خبره ، وقدر في (وَعَدَ) هاء ، أي وعده الله ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي أولئك كل وعد الله ، و (وَعَدَ) : صفة ل (كُلًّا).

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ .. يَوْمَ) : منصوب على الظرف ، والعامل فيه (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) و (يَسْعى نُورُهُمْ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال ، لأن (تَرَى) بصرية لا قلبية.

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) تقديره : دخول جنات ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، لأن البشارة إنما تكون بالأحداث ، لا بالجثث.

البلاغة :

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) فيه حذف بالإيجاز ، تقديره : ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لدلالة الكلام عليه بعدئذ ، ولوضوحه.


(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) استعارة ، حيث استعار (الظُّلُماتِ) للكفر والضلالة ، و (النُّورِ) للإيمان والهداية.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) استعارة تمثيلية ، مثل حال المنفق بإخلاص بمن يقرض ربه قرضا واجب الوفاء.

المفردات اللغوية :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) صدقوا بوحدانية الله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وداوموا على الإيمان بهما. (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أنفقوا في سبيل الله من الأموال التي جعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فهي في الحقيقة له ، لا لكم ، وسيخلفكم بدلا عنها ، وفيه حث على الإنفاق وتهوين له على النفس. (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) هذا وعد فيه عدة مبالغات هي جعل الجملة اسمية ، وإعادة ذكر الإيمان والإنفاق ، وبناء الحكم على الضمير ، وتنكير كلمة الأجر ، ووصفه بالكبر.

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) خطاب للكفار ، أي لا مانع لكم من الإيمان. (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) أخذه الله عليكم في عالم الذر حين أشهدكم على أنفسكم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، وكذلك بعد وجودكم ، إذ أقام الأدلة على وجوده وتوحيده في الأنفس والآفاق ، ومكنكم من النظر بالعقل والتفكير. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مريدين الإيمان به ، فبادروا إليه.

(آياتٍ بَيِّناتٍ) هي آيات القرآن. (لِيُخْرِجَكُمْ) الله تعالى ، أو عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ) في إخراجكم من الكفر إلى الإيمان. (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث نبّهكم بالرسل والآيات ، ولم يقتصر على الحج العقلية.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وما لكم بعد إيمانكم ألا تنفقوا في سبيل الجهاد وفيما يكون قربة إليه. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أنه يرث كل شيء فيهما ، ولا يبقى لأحد مال ، وإذا كان الأمر كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى ، وهو الثواب ، كان أولى. (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا تساوي بين المنفق قبل فتح مكة وقاتل الأعداء ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لوجود السبق في الإيمان ، وقوة اليقين ، وتحرّي المصالح العامة للمسلمين. وذكر القتال للاستطراد. والمراد بالفتح فتح مكة الذي أعز الله به الإسلام ، وكثر أهله ، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق والمقاتلة. (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي وكلّا من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى ، وهي الجنة. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بأعمالكم الظاهرة والباطنة ، فمجازيكم على حسبها.


(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ ...؟) أي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه ، فإنه كمن يقرضه. (قَرْضاً حَسَناً) خالصا لله. (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) يعطي أجره أضعافا. (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) مقترن بالرضا والقبول. (يَسْعى نُورُهُمْ) ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة. (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أمامهم. (وَبِأَيْمانِهِمْ) كتبهم ، لأنهم يؤتون صحائف أعمالهم من الأمام واليمين. (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي تتلقاهم الملائكة تبشرهم بدخول الجنات ، وبشراكم أي ما تبشرون به.

سبب النزول :

نزول الآية (٧):

(آمِنُوا بِاللهِ) : نزلت في غزوة العسرة ، وهي غزوة تبوك.

نزول الآية (١٠):

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ ..) : ذكر الواحدي عن الكلبي : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه.

وذكر أيضا عن ابن عمر قال : بينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ، وعنده أبو بكر الصديق ، وعليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال ، إذ نزل عليه جبريل عليه‌السلام ، فأقرأه من الله السلام ، وقال : يا محمد ، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها على صدره بخلال؟ فقال : يا جبريل ، أنفق ماله قبل الفتح عليّ ، قال : فأقرئه من الله سبحانه وتعالى السلام ، وقل له : يقول لك ربك : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي بكر فقال : يا أبا بكر ، هذا جبريل يقرئك من الله سبحانه السلام ، ويقول لك ربك : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فبكى أبو بكر ، وقال : على ربي أغضب ، أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض (١).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٣٠ وما بعدها ، تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٤٠


المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أدلة إثبات وحدانيته وعلمه وقدرته ، بمشاهد في السموات والأرض والأنفس ، أتبعها ببعض التكاليف الدينية ، فأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وباستدامته والإخلاص فيه ، ثم طلب من المؤمنين الإنفاق في سبيل الله ، وأخبر بمضاعفة الأجر عليه ، وأبان أن آياته تخرج من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وفضّل السابقين الأولين إلى الإسلام الذين أسلموا وأنفقوا قبل فتح مكة ، ثم أكد الحث على الإنفاق مرة أخرى.

التفسير والبيان :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي صدّقوا بالتوحيد وبصحة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجه الأكمل ، وداوموا واثبتوا على ذلك ، وأنفقوا من مال الله الذي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، فإن المال مال الله ، والعباد خلفاء الله في أمواله ، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه.

ثم رغب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ، مبينا أن الذين جمعوا بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين الإنفاق في سبيل الله ، لهم ثواب كثير الخير والنفع وهو الجنة.

أخرج أحمد عن عبد الله بن الشّخّير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «ألهاكم التّكاثر ، يقول ابن آدم ، مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت» ورواه مسلم أيضا وزاد : «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».

ثم وبخهم الله تعالى على ترك الإيمان ، فقال :


(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟) أي ، وأيّ شيء يمنعكم عن الإيمان ، والرسول معكم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ، بتلاوة القرآن المشتمل على الدلائل الواضحة ، وقد أخذ الله ميثاقكم بأن تؤمنوا في عالم الذر حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم ، وبما أقام لكم في الكون والآفاق والأنفس من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان ، وكذا ما ترشد إليه العقول السليمة ، إن كنتم مريدين الإيمان ، فبادروا إليه. فهذا توبيخ على ترك الإيمان بشرطين : أحدهما ـ أن يدعو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثاني ـ أنه أخذ الميثاق عليهم.

أخرج البخاري في صحيحة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لأصحابه : «أي المؤمنين أعجب إليكم أيمانا؟ قالوا : الملائكة ، قال : وما لهم لا يؤمنون ، وهم عند ربهم؟ قالوا : فالأنبياء ، قال : وما لهم لا يؤمنون ، والوحي ينزل عليهم ، قالوا : فنحن ، قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها».

ثم أوضح الله تعالى الغاية من إنزال القرآن لقطع عذرهم ، فقال :

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن الله أراد بإنزال الآيات البينات الواضحات التي هي القرآن وغيره من المعجزات أن يخرجكم من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة ، إلى نور الهدى واليقين والإيمان ، وإن الله لكثير الرأفة والرحمة بعباده ، حيث أنزل الكتب ، وبعث الرسل ، لهدايتهم ، وأزال الموانع والشّبه ، وأزاح العلل.

وبعد أن أمرهم بالإيمان والإنفاق ، وحثهم عليهما ، ووبخهم على ترك الإيمان ، وبخهم على ترك الإنفاق ، فقال :


(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ، أيّ عذر لكم وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في طاعة الله ومرضاته والجهاد من أجله ، فأنفقوا ولا تخشوا فقرا ، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض ، وهو متصرف فيهما وعنده خزائنهما ، وكل الأموال صائرة إلى الله سبحانه ، إن لم تنفقوها في حياتكم ، كرجوع الميراث إلى الوارث ، ولا يبقى لكم منه شيء ، فالمال مال الله ، والله يقول : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ ٣٤ / ٣٩] ويقول : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ، وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل ١٦ / ٩٦]. وهكذا أمر الله أولا بالإيمان والإنفاق ، ثم أكد إيجاب الإيمان ، ثم أكد في هذه الآية إيجاب الإنفاق.

وبعد أن بيّن الله تعالى أن الإنفاق فضيلة ، بيّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة ، وأن للمنفقين درجات بحسب أحوالهم ، فقال :

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أي لا تساوي بين من أنفق في سبيل الله قبل فتح مكة وقاتل ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، أولئك الأولون أعظم درجة من الآخرين ، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر ، وهم أقل وأضعف ، ولا يجدون من المال إلا قليلا ، أما بعد الفتح فقد كثر المسلمون ، وزاد الخير.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وكل واحد من الفريقين وعده الله المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، مع تفاوت الدرجات ، والله عليم بأعمالكم وأحوالكم الظاهرة والباطنة ، فيجازيكم بذلك ، إذ لا يخفى عليه شيء مما أنتم عليه.

أخرج الإمام أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام


سبقتمونا بها ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده ، لو أنفقتم مثل أحد ، أو مثل الجبال ذهبا ، ما بلغتم أعمالهم» (١).

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبّوا أصحابي ، فوالذي نفس محمد بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما أدرك مدّ أحدهم ، ولا نصيفه».

ثم بيّن الله تعالى ثمرة الإنفاق ، فقال :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ، محتسبا أجره عند ربه ، فإنه كمن يقرضه قرضا حسنا ، أي بلا منّ ولا أذى ، طيبة به نفسه ، فإن الله يضاعف له ذلك القرض ، فيجعل له الحسنة بعشرة أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، على اختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان ، وله بعد ذلك ثواب كثير الخير والنفع وجزاء كريم جميل ، وهو الجنة.

روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرني يدك يا رسول الله ، فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ـ بستاني ـ وله حائط فيه ست مائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، فجاء أبو الدحداح ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي ، فقد أقرضته ربي عزوجل.

وفي رواية : أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح ، ونقلت منه متاعها

__________________

(١) ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحديبية وفتح مكة.


وصبيانها ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كم من عذق (١) رداح في الجنة لأبي الدّحداح».

ثم أخبر الله تعالى عن حال المؤمنين المتصدقين يوم القيامة ، فقال :

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي وله أجر كريم ، أو اذكر تعظيما لذلك اليوم (٢) حين تنظر المؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا يسعى الضياء الذي يرونه على الصراط يوم القيامة أمامهم ، وتكون كتبهم بأيمانهم ، أي تكون أعمالهم الصالحة سببا لنجاتهم ، وهدايتهم إلى الجنة ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) [الانشقاق ٨٤ / ٨ ـ ٩]. وإنما قال : (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن ذلك أمارة النجاة.

والناس كما قال ابن مسعود في هذه الآية على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه ، يتّقد مرة ، ويطفأ مرة (٣). وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ، فدون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه».

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ويقال لهم من قبل الملائكة : لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا ، تكريما وجزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال ،

__________________

(١) العذق : النخلة بحملها ، والرداح : المثمر.

(٢) يوم : ظرف لقوله : وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أو منصوب ب «اذكر» ، تعظيما لذلك اليوم.

(٣) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.


ذلك النور والبشرى هو النجاح العظيم الذي لا مثيل له ، حتى كأنه لا فوز غيره ، ولا اعتداد بما سواه. ونظير الآية : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد ١٣ / ٢٤].

والخلاصة : أن الإيمان والإنفاق سبب لثلاثة أمور : النجاة يوم الحساب ، وتبشير الملائكة بالجنة ، والخلود في جنات النعيم. وقد دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال القيامة ، لأنه تعالى بيّن أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ وجوب الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي التصديق بأن الله واحد لا شريك له ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا يقتضي الاشتغال بطاعة الله تعالى.

٢ ـ وجوب الإنفاق في سبيل الله ، والمراد بذلك الزكاة المفروضة ، وقيل : المراد غيرها من وجوه الطاعات والقربات. وهذا يعني الأمر بترك الدنيا والإعراض عنها وإنفاقها في سبيل الله تعالى.

٣ ـ دل قوله : (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) على أن أصل الملك لله سبحانه وأن العبد ليس له في ماله إلا التصرف الذي يرضي الله ، فيثيبه على ذلك بالجنة. فمن أنفق من ماله في حقوق الله ، وهان عليه الإنفاق منه ، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه ، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم.

وهذا دليل على أن الأموال ليست بأموال الناس في الحقيقة ، وما هم إلا


بمنزلة النواب والوكلاء ، فليغتنم المؤمن الفرصة في الأموال بإقامة الحق قبل أن تزال عنه إلى من بعده.

٤ ـ للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، والذين أنفقوا في سبيل الّه أجر كبير وهو الجنة.

٥ ـ وبّخ الله على ترك الإيمان بالله تعالى ، فأي عذر للناس في ألا يؤمنوا وقد أزيلت الموانع وأزيحت العلل؟ مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو بالبرهان الصحيح والدليل المقنع إلى الإيمان بالله ، والله سبحانه أخذ الميثاق الأول على الناس حينما كانوا في ظهر آدم بأن الله ربهم ، لا إله لهم سواه ، ومن ميثاقهم أيضا ما أودع الله لهم من العقول والأفكار ، وأقام الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا كنتم أيها الناس مؤمنين بالحج والدلائل ، فبادروا إلى الإيمان.

٦ ـ أيّد الله نبيه بما يدل على صدقه وبما يؤدي إلى إنجاح دعوته بالقرآن والمعجزات ، فيلزم الناس بعدئذ الإيمان ، لأن آيات القرآن البينات تخرج من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الإيمان ، وإن الله بالناس لرؤوف رحيم إذ أنزل لهم الكتب وبعث الرسل وأزال الموانع والعلل التي تمنع من الإيمان.

٧ ـ وبخ الله تعالى أيضا على عدم الإنفاق في سبيل الله تعالى ، وفيما يقرب من الله سبحانه ، فالناس جميعا يموتون ، ويخلفون أموالهم ، وهي صائرة إلى الله تعالى ، كرجوع الميراث إلى المستحق له.

وهكذا أمرت الآيات بالإيمان وبالإنفاق ، ثم أكدت وجوب الإيمان وإيجاب الإنفاق ، فهو ترتيب حسن بارع ، انتقل فيه البيان من الأمر المفيد للوجوب إلى ذكر الرادع أو المؤيد ، والتهديد على التقصير أو الإهمال.


٨ ـ يكون ثواب الإنفاق أعظم إذا كانت الحاجة إليه أشد بسبب الأزمات والظروف الضيقة ، لذا نفى الله سبحانه المساواة بين من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل الأعداء ، وبين من أنفق من بعد الفتح وقاتل ، كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر ٥٩ / ٢٠] لأن المال كان أقل ، والحاجة إلى النفقة أشد ، والمسلمين قلة ، أما بعد الفتح فكثر الخير ، وقلّت الحاجة إلى الإنفاق ، وكثر المسلمون.

روى أشهب عن مالك قال : ينبغي أن يقدّم أهل الفضل والعزم ، وقد قال الله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ). وقال الكلبي كما تقدم : نزلت في أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، ففيهما دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي‌الله‌عنه وتقديمه ، لأنه أول من أسلم. قال ابن مسعود : أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتقدم والتأخر يكون في أحكام الدنيا والدين ، فقد قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننزل الناس منازلهم ، وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه فيما رواه الشيخان والترمذي وأ بن ماجه عن عائشة : «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» وقال فيما رواه أحمد عن أنس : «يؤمّ القوم أقرؤهم للقرآن» وقال فيما رواه الجماعة عن مالك بن الحويرث : «وليؤمّكما أكبركما» وقال مالك : إن للسن حقا ، وراعاه الشافعي وأبو حنيفة ، وهو أحق بالمراعاة ، لأنه إذا اجتمع العلم والسن في خيّرين قدّم العلم. وأما أحكام الدنيا فهي مرتّبة على أحكام الدّين ، فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا.

وفي الحديث الثابت الذي رواه الترمذي عن أنس : «ما أكرم شاب شيخا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه». وروى الترمذي أيضا عن أنس : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا» وفي رواية لأحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمرو : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف شرف كبيرنا»


وفي رواية أخرى لأحمد والحاكم عن عبادة بن الصامت : «ليس منا من لم يجلّ كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه».

٩ ـ وعد الله تعالى كلّا من المتقدمين المتناهين السابقين ، والمتأخرين اللاحقين الجنة ، مع تفاوت الدرجات.

١٠ ـ ندب القرآن مرة أخرى في هذه الآيات إلى الإنفاق في سبيل الله ، وأبان أن ثواب الصدقة التي يحتسب فيها المتصدق من قلبه بلا منّ ولا أذى مضاعف ما بين السبع إلى سبع مائة ، إلى ما شاء الله من الأضعاف ، بحسب الأحوال والأشخاص ، ويكون للمنفق جزاء جميل ، ورزق باهر ، وهو الجنة يوم القيامة.

١١ ـ إن هذا الأجر الكريم والجزاء الجميل يكون للمؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا في سبيل الله ، ويكون إيمانهم وعملهم الصالح سببا للنجاة واجتياز الصراط ، وهو الضياء الذي يمرون فيه ، ويكون أمامهم ، وتكون كتب أعمالهم بأيمانهم ، وتبشرهم الملائكة بدخول الجنة خالدين فيها أبدا ، ولا تنالهم أهوال القيامة ، ويدخلون الجنة ، وذلك هو الفوز الأكبر.

حال المنافقين يوم القيامة

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ


وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

الإعراب :

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يَوْمَ) : ظرف ، وعامله (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أو بدل من (يَوْمَ) الأول.

(ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) وراء هنا : اسم ل (ارْجِعُوا) وليس بظرف ل (ارْجِعُوا) قبله ، فلا يكون ظرفا للرجوع لقلة الفائدة فيه ، لأن لفظ الرجوع يغني عنه ، ويقوم مقامه.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) الباء : زائدة ، وسور : في موضع رفع ، لأنه نائب فاعل.

(مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ مَوْلاكُمْ) : إما مصدر مضاف إلى المفعول ، ومعناه : تليكم وتمسكم ، أو معناه : أولى بكم ، وأنكر بعضهم هذا الوجه ، وقال : إنه لا يعرف المولى بمعنى الأولى.

البلاغة :

(مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) أسلوب تهكمي ، أي لا ولي لكم ولا ناصر إلا نار جهنم.

(باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

(بِسُورٍ لَهُ بابٌ ... وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) سجع مرصع غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(انْظُرُونا) انتظرونا أو أبصرونا ، لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف ، وقرئ: «أنظرونا» ، أي أمهلونا أو انتظرونا. (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) نستضيء بنوركم ، من الاقتباس : طلب القبس ، أي الجذوة من النار ، والمراد هنا نأخذ القبس والإضاءة. (قِيلَ) لهم ، استهزاء بهم. (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إلى الدنيا. (فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي إلى حيث شئتم ، فاطلبوا نورا آخر ، فإنه لا سبيل لكم إلى هذا ، وهذا تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو من الملائكة. (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) ضرب بحائط أو حاجز بين المؤمنين والمنافقين ، قيل : هو سور الأعراف. (لَهُ بابٌ) يدخل فيه المؤمنون. (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) باطن السور أو الباب من جهة المؤمنين لأنه يلي الجنة. (وَظاهِرُهُ) من جهة المنافقين ، لأنه يلي النار. (مِنْ قِبَلِهِ) من جهته.


(أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي ألسنا على دينكم وعلى الطاعة؟ أي في الظاهر. (بَلى) أي كنتم معنا. (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) بالنفاق وأهلكتموها بالمعاصي. (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر. (وَارْتَبْتُمْ) شككتم في دين الإسلام وفي أمر البعث. (الْأَمانِيُ) الآمال والأطماع كامتداد العمر وانتكاس الإسلام. (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) الموت. (الْغَرُورُ) الشيطان. (فِدْيَةٌ) فداء يفتدي به ، وهو ما يبذل من المال لحفظ النفس من الهلاك. (مَأْواكُمُ النَّارُ) منزلكم الذي تأوون إليه. (مَوْلاكُمْ) التي تليكم أو أولى بكم. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة ، وأن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة ، فهو أمارة النجاة ، بيّن حال المنافقين في ذلك اليوم ، وأنهم يلتمسون عون المؤمنين لهم ، فيجابون بالخيبة واليأس ، وألا أمل لهم في النجاة ، وأن النار هي مأواهم وأولى بهم ، وذلك يدل على أنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمانا حقا ، وعمل بما أمر الله به ، وترك ما عنه زجر.

التفسير والبيان :

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي في ذلك اليوم يوم القيامة يقول المنافقون والمنافقات للمؤمنين الذين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم : أيها المؤمنون الناجون انتظرونا لعلنا نستضيء بنوركم ، ونخرج من هذا الظلام الحالك ، والعذاب الأليم المنتظر.

قال جمع من العلماء : الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات ، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار ، والمنافقون يطلبونها منهم قائلين : (انْظُرُونا) لأنهم إذا نظروا إليهم ، والنور قدامهم ، استضاؤوا بتلألؤ تلك الأنوار.

فيجابون بما يخيب آمالهم ، كما قال تعالى :


(قِيلَ : ارْجِعُوا وَراءَكُمْ ، فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي تقول لهم الملائكة أو المؤمنون : ارجعوا إلى الدنيا ، فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة. وفي هذا تهكم بهم واستهزاء بطلبهم ، كما كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا ، حين كانوا يقولون : آمنا ، وما هم بمؤمنين.

ثم يحسم الله الموقف وهذه المحاورة بقوله :

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ ، لَهُ بابٌ ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي فضرب بين المؤمنين وبين المنافقين حاجز ، باطن ذلك السور ، وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة ، فيه الرحمة ، وهي نعم الجنة ، والجانب الذي يلي أهل النار ، من جهته عذاب جهنم.

ثم يذكر الله تعالى حال المنافقين واستغاثاتهم ، فيقول :

(يُنادُونَهُمْ : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا : بَلى ، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ ، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ ، حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ ، وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي ينادي المنافقون المؤمنين قائلين لهم : ألم نكن معكم في الدار الدنيا ، نوافقكم في أعمالكم ، نشهد معكم الجمعات ، ونصلّي معكم الجماعات في المساجد ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم معارك الجهاد ، ونؤدي معكم سائر الواجبات ، ونعمل بأعمال الإسلام كلها؟

فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى قد كنتم معنا في الظاهر ، ولكنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق وإبطان الكفر ، وأهلكتموها باللذات والمعاصي والشهوات ، وأخرتم التوبة ، وتربصتم الدوائر وحوادث الدهر بالمؤمنين ، وبالحق وأهله ، وشككتم في أمر الدين والبعث بعد الموت ، ولم تصدّقوا ما نزل به القرآن ، ولا آمنتم بالمعجزات الظاهرة.


وغرتكم الأماني الباطلة حيث قلتم : سيغفر لنا ، وغرتكم الدنيا وطول الأمل ، حتى جاءكم الموت ، وغرّكم أو خدعكم الشيطان ، حتى قال لكم : إن الله غفور رحيم لا يعذبكم.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، مَأْواكُمُ النَّارُ ، هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ففي هذا اليوم لا تقبل منكم فدية تفدون بها أنفسكم من النار أو العذاب ، أيها المنافقون ، كما قال تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة ٢ / ١٢٣] ولا من الذين كفروا بالله ظاهرا وباطنا ، منزلكم الذي تأوون إليه النار ، هي أولى بكم من كل منزل ، وبئس المصير الذي تصيرون إليه ، وهو النار.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ يستنجد المنافقون (الذين أظهروا الإسلام في الدنيا وأبطنوا الكفر) بالمؤمنين الذين نجوا من العذاب ، طالبين منهم انتظارهم أو إمهالهم وتأخيرهم ليأخذوهم معهم ، والاستضاءة بنورهم. قال أبو أمامة : يعطى المؤمن النور ، ويترك الكافر والمنافق بلا نور.

٢ ـ تقول الملائكة أو المؤمنون لهم : ارجعوا إلى الموضع الذي أخذنا منه النور ، فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا ، فإنكم لا تقتبسون من نورنا.

٣ ـ لما رجعوا وانعزلوا في طلب النور ضرب حاجز بين الجنة والنار ، باطنه فيه الرحمة ، وهو ما يلي المؤمنين ، وظاهره فيه العذاب وهو ما يلي المنافقين.

٤ ـ ينادي المنافقون المؤمنين قائلين لهم : ألم نكن معكم في الدنيا ، نصلي كما تصلون ، ونجاهد كما تجاهدون ، ونفعل مثلما تفعلون؟


فيجيبهم المؤمنون بقولهم : بلى ، قد كنتم معنا في الظاهر ، ولكنكم استعملتم أنفسكم في الفتنة ، وأهلكتموها بالنفاق والمعاصي والشهوات واللذات ، وتربصتم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموت ، وبالمؤمنين الدوائر ، وغرتكم الأباطيل ، حتى حضركم الموت ، وخدعكم بالله الشيطان.

٥ ـ أيأسهم الله تعالى من النجاة ، وأخبرهم بأنه لا يقبل منهم يوم القيامة فدية يدفعون بها العذاب عن أنفسهم ، ومقامهم ومنزلهم النار ، هي أولى بهم من كل منزل ، وساءت مرجعا ومصيرا.

خشية الله وجزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

الإعراب :

(وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ ما) : اسم موصول بمعنى الذي في موضع جر بالعطف على قوله : (لِذِكْرِ اللهِ) ويجوز أيضا أن تكون مصدرية ، وتقديره : لذكر الله وتنزيل الحق و (وَلا يَكُونُوا) معطوف على (تَخْشَعَ).


(وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَأَقْرَضُوا) : إما معطوف على ما في صلة الألف واللام في قوله : (الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) على تقدير : إن الذين تصدقوا وأقرضوا ، وإما أن يكون : (وَأَقْرَضُوا اللهَ) اعتراضا بين اسم (إِنَ) وخبرها ، وهو (يُضاعَفُ لَهُمْ) وجاز هذا الاعتراض ، لأنه يؤكد المعنى الأول من التصدق.

(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مبتدأ ، وخبره : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ).

البلاغة :

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) استعارة تمثيلية ، استعار إحياء الأرض بالنبات لإحياء القلوب القاسية بالقرآن وتلاوته.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ يَأْنِ) ألم يأت وقته ، يقال : أنى الأمر أنيا وأناء وإناء : إذا جاء أناه ، أي وقته. (أَنْ تَخْشَعَ) تخشى وتخاف. (لِذِكْرِ اللهِ) وعظه وإرشاده. (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) هو القرآن. (أُوتُوا الْكِتابَ) هم اليهود والنصارى ، والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى الله عنهم بقوله : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الزمن ، أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) صلبت ولم تلن لذكر الله. (فاسِقُونَ) خارجون عن حدود دينهم ، مخالفون للأوامر والنواهي.

(اعْلَمُوا) خطاب للمؤمنين المذكورين في الآية السابقة. (أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يحييها بالماء والنبات بعد جدبها ، فكذلك يفعل بقلوبكم يردها إلى الخشوع ، وهذا تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أوضحنا لكم الآيات الدالة على قدرتنا بهذا البيان هنا وغيره ، وهي الحجج. (تَعْقِلُونَ) تتدبرون.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) أي الذين تصدقوا واللاتي تصدقن بأموالهم على المحتاجين من التصدق : أدغمت التاء في الصاد ، وفي قراءة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق : الإيمان. (وَأَقْرَضُوا اللهَ) راجع إلى الذكور والإناث معا بطريق التغليب. (قَرْضاً حَسَناً) صدقة مقرونة بالإخلاص ابتغاء مرضاة الله ، بلا من ولا أذى ولا إرادة جزاء من المحتاج المعطى. (يُضاعَفُ لَهُمْ) يضاعف الله لهم ثواب عملهم ، وفي قراءة يضعّف بالتشديد ، أي قرضهم. (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) ثواب جميل ورزق باهر.

(أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) المبالغون في التصديق ، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين وهم الذين كثر صدقهم وصار سجية لهم. (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هم الذين قتلوا في سبيل الله ، جمع


شهيد ، سمي بذلك ، لأن الملائكة تشهد له بالجنة ، أو القائمون بالشهادة لله أو لهم أو على الأمم يوم القيامة ، والمراد بهم الأنبياء ، لقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء ٤ / ٤١].

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) جحدوا وجود الله ووحدانيته. (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) النار ، قال البيضاوي : فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار ، من حيث إن التركيب يشعر بالاختصاص ، والصحبة تدل على الملازمة.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(أَلَمْ يَأْنِ ..) : أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن أبي رواد : أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك ، فنزلت : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخذوا في شيء من المزاح ، فأنزل الله : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية.

وأخرج أيضا عن السّدّي عن القاسم قال : ملّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملّة ، فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ثم ملّوا ملّة ، فقالوا حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية.

وأخرج ابن المبارك في الزهد عن الأعمش قال : لما قدم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فأصابوا من العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه ، فنزلت : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية. وروي مثل هذا عن ابن مسعود ، وقال : ما كان بين


إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين (١). وقال ابن عباس : إنه عاتبنا على رأس ثلاث عشرة سنة.

المناسبة :

بعد بيان حال المؤمنين وحال المنافقين يوم القيامة ، أتبعه بندب المؤمنين الذين فترت عزائمهم إلى الخشوع وخشية القلب ولينه بسماع مواعظ القرآن وإرشاداته ، وحذرهم من مماثلة أهل الكتاب الذين قست قلوبهم لطول العهد بينهم وبين أنبيائهم ، فأهملوا أوامر الدين ونواهيه ، ثم ذكر الفرق بين جزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين.

التفسير والبيان :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) أي ألم يحن الوقت لأن تلين قلوب المؤمنين وترقّ عند سماع تذكير الله ووعظه وقرآنه ، فتفهمه وتنقاد له وتسمع أوامره وتطيعه وتجتنب نواهيه؟

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن ، فقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية. والظاهر أن هذا القول أصح من غيره ، لأن السورة مدنية.

ثم نهاهم عن مماثلة أهل الكتاب ، فقال :

(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي ولا يتشبهوا بحملة الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن ، حين طالب

__________________

(١) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه والبزار.


عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم ، فقست قلوبهم بذلك السبب ، حتى صاروا لا يتأثرون بالموعظة ولا بالوعد والوعيد ، وبدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، ونبذوه وراء ظهورهم ، واتبعوا الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة ، وقلّدوا أحبارهم ورهبانهم في دين الله من غير دليل ولا برهان ، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وأوامره ونواهيه ، فصارت أعمالهم باطلة ، وقلوبهم فاسدة ، كما قال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة ٥ / ١٣] ولهذا نهى الله المؤمنين عن التشبّه بهم.

ثم ضرب الله تعالى المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن ، فقال :

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي كما أن الله يحيي الأرض بالنبات والغيث بعد جدبها قادر على أن يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدي الحيارى بعد ضلالها ، ببراهين القرآن ودلائله ، قد أوضحنا لكم الآيات والحجج ، كي تتدبروها ، وتعقلوا ما فيها من المواعظ ، وتعملوا بموجب ذلك.

ثم أبان الله تعالى ثواب المتصدقين والمتصدقات على البائسين ، فقال :

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ ، وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم على ذوي الحاجة والفقر والبؤس والمسكنة ، ودفعوا المال بنية خالصة ابتغاء رضوان الله ، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورا ، يقابل لهم الحسنة بعشرة أمثالها ، ويضاعفها إلى سبع مائة ضعف إلى أكثر من ذلك ، ولهم فوق ذلك ثواب جزيل حسن ، ومرجع صالح ، ومآب كريم معزّز.


ثم وصف الله جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين ، فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي إن الذين أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسله ، هم في منزلة الصدّيقين ، قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله ، فهو صدّيق ، والذين استشهدوا في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ودينه ، ورفع راية الحق وأهله ، لهم الثواب العظيم عند ربهم ، والنور الموعود به الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. وهذا إشارة إلى صنفين من أصناف المؤمنين المخلصين الأربعة ، وهم الأنبياء ، والصّدّيقون ، والشهداء ، والصالحون ، المذكورون في قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ، فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء ٤ / ٦٩]. ومن الشهداء ما ثبت في الحديث الذي أخرجه أحمد : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما تعدّون الشهيد فيكم؟ قالوا : المقتول في سبيل الله ، فقال : إن شهداء أمتي إذن لقليل ، المقتول ، شهيد ، والمبطون شهيد ، والمطعون شهيد» الحديث. وهؤلاء هم شهداء الآخرة الذين لهم ثواب خاص.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين أنكروا وجود الله ، وجحدوا وحدانيته ، وكذبوا آياته وبراهينه الدالة على ألوهيته الحقّة ، وصدق رسله ، أولئك لا غيرهم هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا. وهذا بيان حال الأشقياء بعد بيان حال السعداء.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن خشية الله والخشوع لأوامره وأحكامه من صفات أهل الإيمان ، وإن الإعراض عن آيات الله ومواعظه وشرائعه من خصال الفاسقين ، وهم اليهود


والنصارى الذين بدلوا كلام الله ، واتبعوا آراءهم وأهواءهم ، وتركوا الدين الحق ، ولم تكن قلوبهم لسماع تذكير الله ووعظه.

وهذا نهي صريح للمؤمنين عن مشابهة أهل الكتاب الذين قطعوا الصلة الحقيقية بينهم وبين هدي الله فيما نزل من التوراة والإنجيل والذي لا يخالف ما نزل في القرآن. ولو بقي هذان الكتابان على حالهما ولم يندثرا لظهر التطابق التام بينهما وبين القرآن في أصول الدين والاعتقاد وأصول الشرائع.

٢ ـ إن سماع مواعظ الله وآياته يحيي القلوب الميتة ، ويلين النفوس القاسية ، كما أن الله يحيي الأرض الجدبة الهامدة ، ويلينها بالغيث ، ويجعل فيها الحركة والحيوية والحياة البهيجة.

٣ ـ إن الذين أنفقوا شيئا من أموالهم ، وتصدقوا به على الفقراء والبائسين بإخلاص ابتغاء رضاء الله ، يضاعف لهم ثواب أعمالهم ، ولهم الجنة.

٤ ـ المؤمنون بالله ورسله هم الصدّيقون الكاملون في الصدق ، إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة ، والصديقون يتلون الأنبياء ، والشهداء يتلون الصديقين ، والصالحون يتلون الشهداء ، وهؤلاء جميعا لهم الأجر العظيم. عند ربهم ، وهم الناجون يوم الحساب ، والخالدون في النعيم.

٥ ـ الكافرون بالله ورسله ، المكذبون بالرسل والمعجزات ، هم أصحاب النار المخلّدون فيها المعذبون فيها ، فلا أجر لهم ولا نور ، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة ، لأنهم جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات.


حال الدنيا والحث على عمل الآخرة

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

الإعراب :

(كَمَثَلِ غَيْثٍ ..) الكاف في موضع رفع ، إما وصف لقوله (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) وإما خبر بعد خبر وهي (الْحَياةُ) في قوله تعالى : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ).

(عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ ... كَعَرْضِ) جار ومجرور في موضع رفع ، لأنه خبر المبتدأ الذي هو (عَرْضُها) والجملة في موضع جر ، لأنها صفة ل (جَنَّةٍ).

البلاغة :

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) تشبيه تمثيلي ، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.

(إِلى مَغْفِرَةٍ) مجاز مرسل علاقته المسببية ، أي إلى سبب مغفرة.

المفردات اللغوية :

(لَعِبٌ) ما لا فائدة فيه. (وَلَهْوٌ) ما يشغل الإنسان عما يعنيه. (وَزِينَةٌ) تزيين أو ما يتزين به ، كالمناصب العالية والمراكب البهية والمنازل الرفيعة والملابس الفاخرة. (وَتَفاخُرٌ) بالألقاب والأمجاد والأنساب. (وَتَكاثُرٌ) مباهاة بكثرة الأموال والأولاد. (كَمَثَلِ) أي أن الدنيا


في إعجابها لكم واضمحلالها كمثل (غَيْثٍ) مطر. (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أعجب الزراع نباته الناشئ عنه. (ثُمَّ يَهِيجُ) ييبس بعد أن كان أخضر. (حُطاماً) هشيما متكسرا من الجفاف أو اليبس. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) لمن آثر عليها الدنيا. (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لمن آثر الآخرة ، وهذا تنفير عن الانهماك في الدنيا ، وحث على العمل للآخرة. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي وما التمتع في الدنيا. (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) متاع الخديعة لمن أقبل عليها ونسي الآخرة.

(سابِقُوا) سارعوا مسارعة السابقين في مضمار السباق. (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى موجبات المغفرة. (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي عرضها كعرضهما ، وإذا كان العرض كذلك ، فما ظنك بالطول؟ (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فيه دليل على أن الجنة مخلوقة ، وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ذلك الموعود به من الجنة والمغفرة يتفضل الله به على من يشاء من عباده من غير إيجاب ولا إلزام. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) والله واسع الفضل ، لا يبعد منه التفضل بذلك.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أحوال الفريقين : المؤمنين والكافرين في الآخرة ، أردفه بما يدل على تحقير أمور الدنيا ، وكمال حال الآخرة ، فإن الدنيا قليلة النفع سريعة الزوال ، والآخرة تامة الفائدة ، خالدة باقية ، ولا شك أن الأدوم الأخلد مفضل على المؤقت ، لذا أعقبه بالحث على ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه والفوز بالنعيم الأبدي.

التفسير والبيان :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي اعلموا أيها الناس جميعا أن الحياة الدنيا مجرد لعب لا جدّ ، ولهو يتلهى به ثم يذهب ، وزينة يتزيّن بها مؤقتا ، ومفخرة يفتخر بها بعضكم على بعض بكثرة الأموال وعدد الأولاد.

كما قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ


الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ، ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران ٣ / ١٤].

وهذا يدل على حقارة الدنيا ، ثم شبهها في سرعة زوالها ، مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث وربّاه إلى أن يتكامل نشوؤه ثم يزول ، فقال :

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا ، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي أن الدنيا مثل مطر ، أعجب الزراع النبات الحاصل به ، ثم يجف وييبس بعد خضرته ، ثم يكون فتاتا هشيما متكسرا متحطما بعد يبسه ، تعصف به الرياح. والكفار هنا : الزّراع ، لأنهم يكفرون البذر في الأرض ، أي يغطونه بالتراب.

ونظير الآية : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ، أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً ، فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس ١٠ / ٢٤].

ثم حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير استعدادا للآخرة ، فقال : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وليس في الآخرة الآتية إلا أمران : إما عذاب شديد لأعداء الله ، وإما مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته ، وما الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يتمتع به ، وخديعة لم يغتر بها ، ولم يعمل لآخرته ، حتى أعجبته واعتقد أنه لا دار سواها ، ولا معاد وراءها ، مع أنها حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور ، إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه ، فنعم المتاع ونعم


الوسيلة. وهذا دليل على أن من استعان على الآخرة بطلب الدنيا ، فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منه.

روى ابن جرير ، وجاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» اقرؤوا : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) والزيادة الأخيرة في رواية ابن جرير فقط.

وأخرج البخاري وأحمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك» وهذا يدل على اقتراب الخير والشر من الإنسان.

ولما ذكر الله تعالى ما في الآخرة من المغفرة أمر بالمسابقة إليها :

أي إنه سبحانه حث على المبادرة إلى الخيرات ، والمسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة ، من فعل الطاعات ، وترك المحرمات التي تكفّر الذنوب والزلّات ، وتحصّل الثواب والدرجات ، فقال :

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي بادروا أو سارعوا مسارعة المتسابقين بالأعمال الصالحة إلى ما يوجب المغفرة لكم من ربكم ، وسارعوا إلى التوبة الماحية للذنوب والمعاصي ، وإلى ما يوصّل إلى جنة عرضها مثل عرض السماء والأرض معا ، وإذا كان هذا قدر عرضها ، فما ظنك بطولها؟!

تلك الجنة التي هيئت وخلقت للذين صدقوا بالله وبرسله ، وعمل بما فرض الله عليه ، واجتنب نهيه.

ثم بيّن الله تعالى أن المغفرة والجنة فضل منه ورحمة ، لا إيجاب وإلزام ،


فقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن هذا الجزاء الموعود به وهو الجنة والمغفرة مجرد فضل من الله ورحمة منه ، وليس واجبا عليه.

جاء في الحديث الصحيح : «أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور ، بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، قال : وما ذاك؟ قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، قال : أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم ، تسبّحون وتكبّرون وتحمّدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، قال : فرجعوا ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ، ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)».

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ إن المقصود الأصلي من الآية الأولى تحقير حال الدنيا ، وتعظيم حال الآخرة ، لذا وصف الله تعالى الدنيا بخمس صفات : أنها لعب وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدا ، ثم تنقضي متاعبهم من غير فائدة ، وأنها لهو وهو فعل الشبان ، ولا يبقى غالبا بعده إلا الحسرة ، وأنها زينة وهذا دأب النساء وهو تكميل الناقص ، وتفاخر بين أهلها بالصفات الفانية الزائلة ، وهو إما التفاخر بالنسب ، أو التفاخر بالقدرة المادية والقوة الجسدية والأتباع والمنصب ، وكلها ذاهبة ، وأنها تكاثر في الأموال والأولاد.

ثم شبهها في سرعة انقضائها وزوال جمالها بالزرع الذي يعجب الناظرين إليه ، لحضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن. وقد ذكر هذا المثل في سورتي يونس (٢٤) والكهف (٤٥).


ثم ذكر حال الآخرة ، فالناس فيها إما إلى عذاب شديد دائم لأعداء الله ، وإما إلى مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته ، وهو أعظم درجات الثواب.

ثم ختم الآية تأكيدا لما سبق بأن الحياة الدنيا مجرد متاع يغرّ ويخدع من أقبل عليها ، وهم الكفار ، أما المؤمنون فالدنيا لهم متاع بلاغ إلى الجنة.

٢ ـ إذا كان هذا شأن الدنيا وحال الآخرة ، فما على الناس إلا العمل للآخرة ، لذا أمر الله بالمسارعة بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لهم من ربهم ، وتبوئهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، والجنة كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض ، وقد خلقت وهيئت للذين صدّقوا بوجود الله ووحدانيته وبرسله.

وفي هذا تقوية للرجاء ، ودليل على أن الجنة مخلوقة جاهزة. لكن لا تنال الجنة ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله ، والله صاحب الفضل الواسع الكثير. والمراد بهذه الجملة : التنبيه على عظم حال الجنة ، لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيما.

تعلق المصائب بالقضاء والقدر وجناية البخلاء على أنفسهم

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))


الإعراب :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فِي الْأَرْضِ) موضعه إما الجر على أنه صفة لمصيبة على اللفظ ، أي كائنة في الأرض ، وإما الرفع صفة لمصيبة على الموضع ، وموضعها الرفع ، لأن (مِنْ) زائدة ، وفي الصفة ضمير يعود على الموصوف ، وإما النصب على أنه متعلق ب (أَصابَ) أو ب (مُصِيبَةٍ) فلا يكون إذن فيه ضمير.

و (إِلَّا فِي كِتابٍ) في موضع نصب على الحال ، أي إلا مكتوبا ، وهاء (نَبْرَأَها) تعود على النفس أو على الأرض أو على المصيبة.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا .. تَأْسَوْا) منصوب ب (كي) لا بتقدير (أن) بعدها ، لأن اللام هنا حرف جر ، وقد دخلت على (كي) فلا يجوز أن تكون (كي) حينئذ حرف جر ، لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بدل من كل مختال ، أو مبتدأ ، خبره محذوف دل عليه ما بعده : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لأن معناه : ومن يعرض عن الإنفاق ، فإن الله غني عنه ، وعن إنفاقه. وضمير (هُوَ) ضمير فصل.

المفردات اللغوية :

(مُصِيبَةٍ) هي في اللغة : كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، وخصت في العرف بالشر ، كالجدب والعاهة في الأرض ، والمرض والآفة وفقد الولد في الأنفس. (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي اللوح المحفوظ. (نَبْرَأَها) نخلقها. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إن إثباته في كتاب على الله سهل ، لاستغنائه فيه عن العدّ والمدة. (تَأْسَوْا) تحزنوا. (عَلى ما فاتَكُمْ) من نعيم الدينا. (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) فرح بطر ، بل فرح شكر على النعمة ، بما أعطاكم الله منها ، فإن من علم أن الكل مقدّر ، هان عليه الأمر. (وَاللهُ لا يُحِبُ) أي يعاقب. (كُلَّ مُخْتالٍ) متكبر بما أوتي. (فَخُورٍ) متباه أو مباه على الناس بماله أو جاهه.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بما يجب عليهم. (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي بالبخل به ، لهم وعيد شديد. (وَمَنْ يَتَوَلَ) عما يجب عليه. (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن غيره (الْحَمِيدُ) المحمود في ذاته ، لا يضره الإعراض عن شكره ، ولا ينتفع بالتقرب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق.


المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن كل ما في الآخرة من مغفرة وجنة من فضله ورحمته ، أراد أن يبين أن كل ما في الدنيا من مصائب وأحداث بقضائه وقدره ، لتهوين أمر المصيبة على المؤمنين.

ثم حذر الله تعالى من الحزن على ما فات من نعيم الدنيا ، والبطر والاختيال والمباهاة عند مجيء النعمة ، ثم أخبر أنه يعاقب المختالين الفخورين الذين يبخلون بما يجب عليهم شرعا ، بل ويأمرون الناس بالبخل ، وهؤلاء لا يجنون إلا على أنفسهم.

التفسير والبيان :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي لا توجد مصيبة من هذه المصائب في الدنيا إلا وهي مكتوبة عند الله ، فهي بقضاء وقدر ، سواء أكانت مصيبة في الأرض مثل القحط والجدب أو قلة النبات ، وفساد الزرع ، ونقص الثمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوع ، أم في الأنفس كالأمراض ، والفقر وضيق المعاش ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود ، فذلك كله مسطّر في اللوح المحفوظ ، من قبل إيجاد هذه الخليقة.

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) الأحسن عود الضمير على الخليقة والبرية أو النسمة ، لدلالة الكلام عليها ، كما قال ابن جرير.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إن إثباتها في الكتاب ، مع كثرتها ، وعلمه بالأشياء قبل وجودها ، سهل يسير على الله ، غير عسير ، لأن الله هو الخالق ، وهو أعلم بما خلق ، يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون. ورد في الخبر : (من عرف سر الله في القدر ، هانت عليه المصائب). وقد استدل العلماء بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها.


فالأشياء والأحداث والمصائب تنسب إلى الله الموجد لها ، لا إلى أحد من البشر في الحقيقة ، وأما ما يقال من التشاؤم (الطيرة) في المرأة والدابة والدار ، فذلك بحسب عرف الناس وتصوراتهم ومقالاتهم ، لا في واقع الأمر ، كذلك السحر والعين والقتل كل ذلك يحدث بتأثير الله ، فهو المؤثر والفعال الحقيقي ، وأما فعل الناس فهو مجرد أمر أو سبب في الظاهر ، فينسب إليه الشيء الحادث ظاهرا ، لا حقيقة. وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لقصرها على أحوال الدنيا ، لذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم الدين» ولم يقل : إلى الأبد.

أخرج الإمام أحمد ، والحاكم وصححه عن أبي حسان : أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا : «إن أبا هريرة يحدّث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ، فقالت : والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هكذا كان يقول ، ولكن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ، ثم قرأت : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) الآية.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي أخبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم في الدنيا ، ولا تفرحوا فرح بطر بما هو آت ، فلا تأسوا على ما فاتكم ، لأنه لو قدر شيء لكان ، ولا تفرحوا بما جاءكم أو أعطاكم ، أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم ، فإن ذلك من قدر الله ورزقه لكم ، لذا قال تعالى :

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن الله يعاقب كل مختال في نفسه ، أي متكبر ، فخور على غيره ، أي مباه بماله أو جاهه.

وبه يتبين أن الحزن المذموم : هو الذي لا صبر لدى صاحبه ، ولا رضا


بقضاء الله وقدره ، والفرح الممنوع : هو البطر الذي يحمل صاحبه على الطغيان ، ويلهيه عن الشكر. قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح ، ولكن اجعلوا الفرح شكرا ، والحزن صبرا.

ولا يصح النهي عن شيء من طبائع البشر كالفرح والحزن والغضب ، وإنما النهي وارد على مقدمات الغضب وتعاطي أسبابه ، أو على توابع الفرح والحزن وهو بطر النعمة وكفرانها ، والسخط على القدر ، والجزع.

وبما أن المختال الفخور يكون غالبا بخيلا ، لأنه لا يرى لغيره حقا عليه ، ذكر تعالى صفة البخل عندهم ، فقال :

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي إن المختالين الفخورين هم الذين يبخلون عادة بأموالهم ، فلا يؤدون حق الله فيها ، ولا يواسون بائسا فقيرا ، ولا معدما عاجزا ، بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال ، ويحسّنون للناس أن يبخلوا بما يملكون ، حتى يجعلوا لهم أشباها وأمثالا. ولكن من يعرض عن الإنفاق وعن أمر الله وطاعته ، فإن الله غني عنه ، محمود الذات في السماء والأرض عند خلقه ، لا يضره ذلك ، ولا يضرن البخيل إلا نفسه ، كما قال موسى عليه‌السلام لقوم فيما حكى القرآن : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كل ما في الكون بأمر الله تعالى ، وكل المصائب معلومة لله تعالى ، مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل إيجاد الخليقة ، وحفظ ذلك وعلمه هيّن يسير على الله تعالى.


٢ ـ إذا كان الكل مكتوبا مقدرا لا مرد له ، هانت المصائب على الناس ، وكان عليهم امتثال الأمر ، فلا يحزنوا على ما فاتهم من الرزق ، ولا يفرحوا بما أوتوا من الدنيا. روى عكرمة عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا ، وغنيمته شكرا (١). والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما المرء إلى ما لا يجوز. وقد تقدم أن الفرح المذموم : هو الموجب للبطر والاختيال ، أي التكبر. وأن الحزن الممنوع : هو الذي يخرج صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين.

٣ ـ إن الله يبغض كل متكبر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس ولا يرضى عنه ، ويعاقبه.

٤ ـ إن الله لا يحب المختالين الذين يبخلون أو يضنون بالمال عما أوجب الله عليهم من الإنفاق في سبيله ، والصدقة به على الفقراء والمساكين ، ويأمرون الناس بالبخل مثلهم.

٥ ـ من يعرض عن الإنفاق وعن طاعة الله والإيمان بما قدر وقضى فإن الله غني عنه وعن إنفاقه ، والله سبحانه هو الغني المطلق الغنى الذي يرزق عباده ، والمحمود في ذاته في السماء والأرض ، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر ٣٥ / ١٥] ولا يضره الإعراض عن شكره ، بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله.

__________________

(١) أخرجه الحاكم وصححه وغيره.


الغاية من بعثة الرسل

ـ ١ ـ

دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))

الإعراب :

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) جملة مركبة من مبتدأ وخبر ، في موضع نصب على الحال من (الْحَدِيدَ).

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ وَلِيَعْلَمَ) معطوف على (لِيَقُومَ النَّاسُ وَرُسُلَهُ) منصوب بالعطف على هاء (يَنْصُرُهُ) وتقديره : وينصر رسله ، مثل : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الحشر ٥٩ / ٨]. ولا يجوز نصبه ب (لِيَعْلَمَ) لأنه يصير فصلا بين الصلة والموصول أي بين (يَنْصُرُهُ) وقوله : (بِالْغَيْبِ) وذلك لا يجوز. و (بِالْغَيْبِ) حال من هاء. (يَنْصُرُهُ) أي غائبا عنهم في الدنيا.

البلاغة :

(أَرْسَلْنا رُسُلَنا) جناس ناقص لتغير الشكل وبعض الحروف. (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) سجع مرصع محبب إلى النفس.

المفردات اللغوية :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أرسلنا الأنبياء إلى الأمم (بِالْبَيِّناتِ) الحجج والمعجزات. (الْكِتابَ) أراد به الجنس ، أي كتب الشرائع. (وَالْمِيزانَ) العدل. (بِالْقِسْطِ) الحق.


(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) خلقناه وأخرجناه من المعادن. (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي تتخذ منه آلات الحرب والصناعات الثقيلة والمباني الضخمة ونحو ذلك ، والبأس : القوة. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) يدخل في صناعات كثيرة مفيدة للناس. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) علم مشاهدة وظهور في الواقع الحاصل. (مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) من ينصر دينه وينصر رسله باستخدام الأسلحة وآلات الحرب من الحديد وغيره في مجاهدة الكفار الأعداء. (بِالْغَيْبِ) غائبا عنهم في الدنيا ، قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على إهلاك من أراد إهلاكه. (عَزِيزٌ) لا حاجة له إلى نصرة عباده ، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وينالوا ثواب الامتثال فيه.

المناسبة :

بعد بيان حال الدنيا وحال الآخرة ، أراد الله تعالى أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات والحجج القاطعات ، ويرشد إلى مقومات الرسالات والشرائع الإلهية لتنظيم حياة المجتمعات ، وإعزاز دين الله ونصرة رسله.

وأما وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد في الآية ، فإن العلماء ذكروا وجوها سبعة أظهرها : أن الدين إما اعتقادات أو معاملات أو أصول وفروع ، والاعتقادات أو الأصول لا تتم إلا بالكتاب السماوي ، لا سيما إذا كان معجزا ، والمعاملات أو الفروع لا تصلح ولا تنتظم إلا بالميزان وهو العدل ، ولا بد من مؤيد يحمي نظم الشرائع ، وذلك المؤيد هو الحديد لتأديب من ترك الأصلين أو الطريقين ، وهما الاعتقاد ونظام التعامل (١).

وهذا إشارة إلى أن الكتاب يمثل سلطة التشريع ، والعدل يمثل سلطة القضاء ، وإنزال الحديد يمثل السلطة التنفيذية.

التفسير والبيان :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي تالله لقد أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء بالوحي ، والأنبياء إلى أممهم

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٩ / ٢٤٠ وما بعدها ، غرائب القرآن للنيسابوري : ٢٧ / ١٠١ وما بعدها.


لتبليغ الوحي ، بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة والحجج والبراهين القاطعة ، وأنزلنا معهم الكتاب أي جنسه الشامل لكل كتاب سماوي كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، وأنزلنا معهم الميزان ، أي العدل في الأحكام ، أي أمرناهم به ، ليتبع الناس ما أمروا به من الحق والعدل ، وتقوم حياتهم عليه ، فيتعاملوا بينهم بالإنصاف في جميع أمورهم الدينية والدنيوية ، فهم الحراس على تنفيذ الأحكام واحترام الشرائع واتباع الرسل.

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي وخلقنا الحديد مع المعادن ، وعلّمنا الناس صنعته ، وجعلناه رادعا لمن أبي الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ففيه قوة رادعة ، وفيه منافع للناس ينتفعون به في كثير من حاجاتهم ومعايشهم ، كأدوات الطعام ومرافق المنازل وإقامة المباني والعمارات ، ومرافق الحياة الاقتصادية وآلات الزراعة ، وأدوات الصناعة السلمية والحربية ، الخفيفة والثقيلة من آلات وأسلحة وفطارات وبواخر وطائرات وسيارات وغيرها. فكلمة الحديد إشارة إلى القوة الرادعة لتنفيذ أحكام الشريعة بين المسلمين ومن يتعايش معهم في داخل الدولة ، ولجهاد الأعداء الدين يعتدون على حرمات الدين وبلاد الإسلام ويعرقلون انتشاره في العالم.

لهذا أقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية لإصلاح العقيدة والأخلاق وجدال المشركين وإيضاح أصل التوحيد وإثبات النبوة بالمعجزات الباهرات ، فلما قامت الحجة على الناس المخالفين ، شرع الله الهجرة ، وأذن بالقتال دفاعا عن استقرار العقيدة وكرامة المسلمين وعزتهم ، وكفالة احترام تعاليم القرآن. روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبّه بقوم فهو منهم».


(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إنما فعل الله ذلك ليعلم علم مشاهدة ووجود من ينصر دينه وينصر رسله بإخلاص ونية صالحة ، باستعمال الحديد ، في أسلحة الجهاد ومقاومة الأعداء ، إن الله قوي قادر عزيز قاهر غالب ، يستطيع دفع عدوان الظالمين ، وينصر رسله والمؤمنين من غير حاجة إليهم ، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وبثوابه ، ويحققوا لأنفسهم العزة والمنعة والهيبة في قلوب الناس ، فإن حماية القيم والمبادئ تحتاج دائما إلى حماة أشداء ، ذوي بأس وإباء.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم في الإسلام ، فهو مجتمع يحكم بشريعة سماوية ، على منهج الحق والعدل والمساواة ، وفي ظل من القوة الحامية لمبادئ التشريع الرادعة الزاجرة كل من يتجرأ على انتهاكها أو النيل من قدسيتها ، أو محاولة القضاء عليها ، أو عرقلة مسيرة الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.

أساس هذه الشريعة : المعجزات البيّنة والشرائع الظاهرة التي تضمنتها الكتب السماوية ، واحتواها وصاغها خاتم هذه الكتب وهو القرآن العظيم دستور الحياة البشرية.

ومنهج الحكم في شريعة الله تعالى هو التزام الحق والعدل في المعاملات فبالعدل قامت السموات والأرض ، وهو المعبر عنه بالميزان ، الذي دل عليه قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن ٥٥ / ٧ ـ ٩].

والحديد رمز القوة الرادعة لكفالة احترام الأحكام في دار الإسلام ، ولتأديب المعتدين والمعادين لشرع الله ودينه وحرمات أهله ودياره. روى عمر رضي الله


عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما أخرجه في الفردوس عن ابن عمر : «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد والنار والماء والملح».

وفي الحديد أيضا منافع كثيرة للناس في شؤون معايشهم وتحقيق حاجياتهم في المنازل والمصانع والمعامل والمباني والأسلحة وآلات الزراعة ووسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية.

وقد أنزل الله الحديد وخلقه للناس ليعلم علم مشاهدة حسية من ينصر شرعه ودينه وينصر رسله ، وهم غائبون عنه لم يروه ، إن الله قوي على الأمور في أخذه ، منيع غالب لا يمانع ، والنصر الصحيح : هو ما كان عن إخلاص بالقلب ، وهو المراد (بِالْغَيْبِ).

ـ ٢ ـ

وحدة الشرائع في أصولها وصلة الإسلام بما قبله

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ


مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

الإعراب :

(... وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها .. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ رَهْبانِيَّةً) منصوبة بفعل مقدر ، أي ابتدعوا رهبانية ابتدعوها. و (ابْتِغاءَ) مستثنى ب إلا من غير الجنس ، أو بدل من الضمير المنصوب في (كَتَبْناها).

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ .. لِئَلَّا) بكسر اللام على القراءة المشهورة ، وقرئ بفتحها وهي لغة لبعض العرب ، ولا : إما زائدة ، وهو الظاهر ، أو غير زائدة بمعنى : لئلا يعلم أهل الكتاب أن يفعل بكم هذه الأشياء من إيتاء الرحمة والمغفرة وجعل النور ، ليبين جهل أهل الكتاب ، وأن ما يؤتيكم الله من فضله لا يقدرون على إزالته وتغييره. وبعبارة أخرى : لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله ، ولا ينالونه.

المفردات اللغوية :

(وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) جعلنا النبوة في ذرية نوح وإبراهيم ، والكتاب الأربعة : التوراة والزبور والإنجيل والفرقان. (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) من الذرية أو من المرسل إليهم.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الطريق المستقيم.

(قَفَّيْنا) اتبعنا أو جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان ، يقال : قفّى أثره ، وقفّى على أثره : أتبعه. (الْإِنْجِيلَ) الكتاب الذي أنزل الله على عيسى عليه‌السلام. (رَأْفَةً) هي دفع الشر باللطف واللين. (وَرَحْمَةً) جلب الخير والمودة بالحسنى. (وَرَهْبانِيَّةً) أو هبنة : هي الانقطاع للعبادة عن الناس ، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها ، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب والزواج. (ابْتَدَعُوها) استحدثوها وليست في دينهم. (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) ما فرضناها عليهم ، أو ما أمرناهم بها. (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع ، أي لكنهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله. (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي لم يرعها الجميع ، فتركها كثير منهم ، وكفروا بدين عيسى ، ودخلوا في دين ملكهم. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح والمحافظة على حقوقه. (مِنْهُمْ) من أتباعه. (فاسِقُونَ) خارجون عن حال الاتباع.


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالرسل المتقدمة. (اتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم عنه. (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (كِفْلَيْنِ) نصيبين ، الكفل : الحظ والنصيب. (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم بالنبيين. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) أي نورا تمشون به على الصراط ، يكون أساس النجاة ، وهو المذكور في قوله تعالى المتقدم في السورة : (يَسْعى نُورُهُمْ). (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الكفر والمعاصي. (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم ، ولا : زائدة ، ويؤيده أنه قرئ : (ليعلم ، ولكي يعلم ، ولأن يعلم). وأهل الكتاب هنا : اليهود وأصحاب التوراة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَلَّا يَقْدِرُونَ) أن : مخففة من الثقيلة ، أي أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله ، ولا يتمكنون من نيله ، ولا يستطيعون التصرف في أعظم فضله وهو النبوة ، فيخصونها بمن أرادوا. (يُؤْتِيهِ) يعطيه.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٨):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : لما نزلت : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) الآية [القصص ٢٨ / ٥٤] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : لنا أجران ، ولكم أجر ، فاشتد ذلك على الصحابة ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) الآية ، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب ، وزادهم النور.

نزول الآية (٢٩):

(لِئَلَّا يَعْلَمَ ..) : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : بلغنا أنه لما نزلت :(يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) حسد أهل الكتاب المسلمين عليها ، فأنزل الله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية.

وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منا نبي ، فيقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا ، فأنزل الله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ ..) الآية ، يعني بالفضل النبوة.


المناسبة :

بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات ، وأمر الخلق بنصرتهم ، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم ، ووحدة النبوة تقتضي وحدة التشريع ، ووحدة الكتاب ، أي الكتب السماوية الأربعة ، فما جاء أحد بعد نوح وإبراهيم بالنبوة إلا من سلالتهما وعلى منهجهما ، وتلك نعمة شرف الله بها نوحا وإبراهيم عليهما‌السلام.

ثم أوضح الله تعالى أن الأجر والثواب واحد لكل من آمن بالرسل المتقدمة ، وأكمل إيمانه بخاتم الرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن النبوة فضل من الله ورحمة ، لا تختص بقوم دون قوم ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته ، ولا يصح قول اليهود : إن الرسالة فينا دون غيرنا ، ونحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن شعب الله المختار.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي تالله لقد بعثنا نوحا أب البشر الثاني إلى قومه وإبراهيم خليل الرحمن أبا الأنبياء وأبا العرب إلى قوم آخرين ، وجعلنا الرسالة والنبوة في ذريتهما ، فكل الأنبياء من سلالتهما ، فلم يرسل الله بعدهما رسولا ولا نبيا إلا من ذريتهما ، وكذلك جعلنا الكتب المنزلة فيهما ، فلم ينزل الله كتابا ولا أوحى إلى بشر وحيا إلا من سلالتهما.

(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي كان مصير الذرية الانقسام إلى فريقين ، فمنهم جماعة مهتدون إلى الحق وإلى الصراط المستقيم ، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وطاعته ، وتلك سنة الله مع الأنبياء جميعا.

وهذا دليل على أن الانحراف والخروج عن جادة الحق كان بعد التمكن من معرفته والوصول إليه وقيام الحجة عليهم.


(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم بعثنا بعدهم رسلا تترى ، رسولا بعد رسول ، وبعضهم بعد بعض ، مع مرور العصور ، وذلك إلى أن انتهى الأمر إلى أيام عيسى عليه‌السلام ، فخصه بالذكر لشهرته في عصر التنزيل ، فقال :

(وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي وأتبعنا سلسلة الرسل بعيسى عليه‌السلام ، وأعطيناه الإنجيل : وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه ، متضمنا أصول شرعه ، ومكملا لما في التوراة ، وموضحا حقيقة الشريعة وحكمتها ، ومخففا بعض أحكامها القاسية التي شرعت تغليظا على بني إسرائيل لظلمهم وفحشهم ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء ٤ / ١٦٠].

ثم ذكر الله تعالى بعض صفات أتباع عيسى ، فقال :

(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ، ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ ، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي وجعلنا في قلوب أتباعه وهم الحواريون وأنصارهم رقة في الطبع ورحمة بالخلق ، خلافا لليهود القساة ، وابتدعوا الرهبانية من جهة أنفسهم ، ولم يشرعها الله لهم ، ولم يأمرهم بها ، بل ساروا عليها غلوا في العبادة ، وحمّلوا أنفسهم المشقات في الامتناع عن المطعم والمشرب والزواج ، وانعزلوا عن الناس وانقطعوا إلى العبادة في الكهوف والصوامع ، ولبسوا الملابس الخشنة ، تقربا إلى الله تعالى.

ولكنهم ابتدعوا الرهبانية بقصد مرضاة الله ، غير أنهم لم يراعوها حق الرعاية ، ولم يحافظوا على أصولها ، بل ضيّعوها ، واستعملها كثير منهم في الفساد.

وهذا ـ كما قال ابن كثير ـ ذمّ لهم من وجهين :

أحدهما ـ الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله تعالى.


والثاني ـ أنهم لم يقوموا بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عزوجل.

روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن مسعود ، قلت : لبّيك يا رسول الله ، قال : هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منهم إلا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة ، فقتلت ، فصبرت ، ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة ، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطعت بالمناشير ، وحرقت بالنيران ، فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ، ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال ، فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكر الله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) (١).

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان ، وكثير من هؤلاء المترهبين فاسقون خارجون عن حدود الله وطاعته ، يأكلون أموال الناس بالباطل ، وسلوكهم منحرف.

روى الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «لا تشدّدوا على أنفسكم ، فيشدّد عليكم ، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم ، فشدّد عليه ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، (رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ)».

__________________

(١) ورواه ابن جرير بلفظ آخر.


وروى الإمام أحمد عن إياس بن مالك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عزوجل».

ثم ذكر الله تعالى ثواب المؤمنين بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يا أيها الذين صدقوا بوجود الله تعالى ووحدانيته وصدقوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مؤمني أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، خافوا الله تعالى ، بترك ما نهاكم عنه ، وأداء ما أمركم به ، وآمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعطكم الله نصيبين أو ضعفين من رحمته ، بسبب إيمانكم برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل ، ويزيدكم على ذلك أنه يجعل لكم نورا تمشون به على الصراط ، تهتدون به في الآخرة ، وهدى تبصرون به العمى والجهالة في الدنيا ، ويغفر لكم ما سلف من ذنوبكم ، والله بليغ المغفرة والرحمة.

فهذا وعد للمؤمنين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الإيمان بجميع الأنبياء قبله يتضمن ثلاثة أمور : مضاعفة الثواب ، وجعل النور لهم على الصراط للنجاة ، ومغفرة الذنوب والسيئات.

أخرج الشيخان صاحبا الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وآمن بي ، فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، فله أجران ، ورجل أدّب أمته ، فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها ، فله أجران».

ثم رد الله على اليهود الذين زعموا اختصاص النبوة فيهم ، فقال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ (١) أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ،

__________________

(١) أي ليعلم كما تقدم ، وقرأها ابن مسعود وغيره : لكي يعلم ، قال ابن جرير : لأن العرب تجعل ـ


يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي اتقوا الله وآمنوا يؤتكم الأمور الثلاثة المتقدمة ، ليعلم ويتحقق الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب على رد ما أعطاه الله ، ولا إعطاء ما منع الله ، فإنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يقدرون أن يمنعوا ذلك الفضل الذي تفضل به على المستحقين له ، كالنبوة والرسالة وغيرهما ، وأن الفضل ومنه النبوة والعلم والتقوى بيد الله ، يعطيه من يشاء ، كما آتى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأمته منه نصيبا أوفر من دين الإسلام ، والله واسع الفضل ، كثير العطاء والخير لمن يشاء من عباده.

والخلاصة : أن إيمان أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل وبموسى وعيسى لا يكفي ، ولا ينفع شيئا ، ما لم يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خاتم الأنبياء والمرسلين.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات تفصيل ما أجمل في الآيات السابقة من إرسال الرسل بالكتب ، وقد دلت على ما يأتي :

١ ـ أخبر الله أنه أرسل نوحا وإبراهيم ، وجعل النبوة في نسلهما ، فجعل بعض ذريتهما الأنبياء ، وأوحى إليهم الكتب المنزّلة من السماء : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.

٢ ـ بعض تلك الذرية آمن وائتم بإبراهيم ونوح واهتدى ، وكثير منهم كافرون خارجون عن طاعة الله تعالى.

__________________

ـ (لا) صلة زائدة مؤكدة في كل كلام ، دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح ، فالسابق كقوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف ٧ / ١٢]. (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ بالله) [الأنعام ٦ / ١٠٩]. (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٥].


٣ ـ أتبع الله سبحانه على آثار تلك الذرية رسلا كثيرين كموسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم ، وعيسى ابن مريم ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه ، وآتاه الله الإنجيل ، وهو الكتاب المنزل عليه.

٤ ـ جعل الله تعالى في قلوب الذين اتبعوا عيسى على دينه ، وهم الحواريون وأتباعهم ، رأفة ورحمة ، أي مودّة ، فكان يوادّ بعضهم بعضا ، والرأفة : اللين ، والرحمة : الشفقة.

وهذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس ، وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم ، وحرّفوا الكلمة عن مواضعه. قال مقاتل : المراد من الرأفة والرحمة : أنهم كانوا متوادّين بعضهم مع بعض ، كما وصف الله أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في قوله : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

واستدل أهل السنة بقوله : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ...) على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، وكسب للعبد ، لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى ، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية.

٥ ـ لقد ابتدع أتباع عيسى الرهبانية (الفعلة المنسوبة إلى الرهبان) من قبل أنفسهم ، ولم يفرضها الله عليهم ولا أمرهم بها ، لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، فما قاموا بها حق القيام ، وتسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة مع الناس ، وأكل أموالهم ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٤].

والمراد من الرهبانية كما ذكر الرازي وغيره : ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة ، ومتحملين كلفا زائدة على العبادات


التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن ، والاعتزال عن النساء ، والتعبد في المغاور والكهوف.

عن ابن عباس : أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام غيّر الملوك التوراة والإنجيل ، فساح قوم في الأرض ، ولبسوا الصوف.

٦ ـ آتى الله الذين آمنوا من أتباع عيسى والذين ابتدعوا الرهبانية أولا ورعوها أجرهم المستحق لهم ، وكان كثير من المتأخرين بعدئذ فاسقين خارجين عن حدود الله وطاعته ، كافرين بما جاء به عيسى وموسى عليهما‌السلام ، ولما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يبق منهم إلا قليل ، جاؤوا من الكهوف والصوامع والمغاور ، فآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٧ ـ هذه الآية : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) دالة على أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده ، فيدخل في الآية.

وفيها أيضا دليل على أن العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت مندوب إليه عند فساد الزمان وتغيّر الأصدقاء والإخوان.

٨ ـ أمر الله تعالى صراحة مؤمني أهل الكتاب (الذين آمنوا بموسى وعيسى) أن يتقوا الله حق تقاته باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، وأن يؤمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن فعلوا كان لهم مثلان من الأجر على إيمانهم بعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مثل قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص ٢٨ / ٥٤].

ويجعل الله لهم أيضا نورا ، أي بيانا وهدى إلى الحق في الدنيا ، وضياء يمشون به على الصراط ، وفي القيامة إلى الجنة ، ويغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم. وهذا وعد من الله منجز في أمور ثلاثة كما تقدم : مضاعفة الثواب ، وجعل النور ، وغفران الاثام.


٩ ـ رد الله تعالى بقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ ..) بما يأتي على بني إسرائيل الذين كانوا يقولون : الوحي والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلا لنا ، والله تعالى خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جمع العالمين.

إن النبوة ليست مختصة بهم ، وغير حاصلة إلا في قومهم ، فهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر النبوة والرسالة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده ، ولا اعتراض عليه في ذلك.

وهذا المفهوم على القول المشهور عند أكثر المفسرين بأن (لا) في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) صلة زائدة مؤكدة ، أي ليعلم أهل الكتاب أنهم عاجزون عن منح أحد شيئا من فضل الله تعالى.

وعلى قول أبي مسلم الأصفهاني وجمع آخرين : أن هذه الكلمة ليست بزائدة ، يكون المفهوم والمستفاد من الآية : لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، وأنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه (١) ، وليعلموا أن الفضل بيد الله ، ويكون تقدير الآية : إنا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوام معينين ، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله ، فيكون في هذا القول تقدير محذوف وهو : وليعتقدوا أن الفضل بيد الله. وأما القول الأول فاحتاج إلى حذف شيء موجود ، ومن المعلوم أن الإضمار أولى من الحذف(٢).

__________________

(١) لأن نفي النفي إثبات ، كما تقول : لا تصدّق فلانا أنه ما قال كذا ، أي قال.

(٢) تفسير الرازي ، ٢٩ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨


١٠ ـ دل قوله : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ..) على أن الفضل الإلهي في ملك الله وتصرفه ، يؤتيه من يشاء ، لأنه قادر مختار يفعل ما يريد ، ودل قوله : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على أنه لا بد وأن يكون إحسانه عظيما ، والمراد تعظيم حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نبوته وشرعه وكتابه ، وأمر أهل الكتاب بالمبادرة إلى الإيمان برسالته خاتمة الشرائع الإلهية.


فهرس

الجزء السابع والعشرين

سورة الذاريات................................................................... ٥

تسميتها ومناسبتها لما قبلها وما اشتملت عليه السورة.................................. ٥

القسم على وقوع البعث.......................................................... ٧

جزاء المتقين وأوصافهم........................................................... ١٣

قصة ضيف إبراهيم ومهمتهم في إهلاك قوم لوط................................... ٢٣

قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم.................................................. ٣٥

إثبات وحدانية الله وعظيم قدرته.................................................. ٤٠

تهديد المشركين بالعذاب لتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم........................................ ٤٥

سورة الطور.................................................................... ٥٢

تسميتها ومناسبتها لما قبلها....................................................... ٥٢

ما اشتملت عليه السورة......................................................... ٥٣

وقوع القيامة وإثبات العذاب في اليوم الموعود....................................... ٥٤

جزاء المتقين ونعم الله عليهم يوم القيامة............................................ ٦١

متابعة التذكير والموعظة بالرغم من المكائد.......................................... ٧٢

إثبات الخالق وتوحيده بالأنفس والآفاق............................................ ٧٨

الإعراض عن الكفار لمكابرتهم في المحسوسات....................................... ٨٤

سورة النجم.................................................................... ٩٢


تسميتها ومناسبتها لما قبلها....................................................... ٩٢

ما اشتملت عليه السورة......................................................... ٩٣

فضلها........................................................................ ٩٤

إثبات النبوة وظاهرة الوحي....................................................... ٩٥

منع الإشراك وبيان عدم فائدة الأصنام........................................... ١٠٧

توبيخ المشركين لتسميتهم الملائكة بنات الله....................................... ١١٣

جزاء المسيئين والمحسنين وأوصاف المحسنين........................................ ١١٧

توبيخ بعض كبار المشركين الأغنياء لإعراضه عن اتباع الحق وتذكيره بما في صحف إبراهيم وموسى    ١٢٤

الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول والتحذير من أهوال القيامة......................... ١٣٦

سورة القمر................................................................... ١٤٢

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١٤٢

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ١٤٣

انشقاق القمر وموقف المشركين منه............................................. ١٤٤

إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل........................................ ١٥٣

١ ـ قصة قوم نوح عليه‌السلام..................................................... ١٥٣

٢ ـ قصة عاد قوم هود عليه‌السلام................................................. ١٦٠

٣ ـ قصة ثمود قوم صالح عليه‌السلام................................................ ١٦٤

٤ ـ قصة قوم لوط عليه‌السلام..................................................... ١٧١

٥ ـ قصة آل فرعون......................................................... ١٧٦

توبيخ المشركين من كفار قريش وبيان جزاء المجرمين والمتقين.......................... ١٧٨

سورة الرّحمن.................................................................. ١٩١

مكيتها...................................................................... ١٩١


تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ١٩٢

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ١٩٣

أعظم النعم الإلهية الدنيوية والأخروية............................................ ١٩٤

١ ـ نعمة القرآن والأشياء الكونية والأرضية..................................... ١٩٤

٢ ـ توضيح أحوال بعض النعم............................................... ٢٠٢

فناء النعم والكون كله وبقاء الله تعالى........................................... ٢٠٨

الجزاء والثواب على الأعمال في الآخرة........................................... ٢١٢

تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة........................................ ٢١٦

أنواع نعم الله على المتقين في الآخرة.............................................. ٢٢١

١ ـ وصف الجنات.......................................................... ٢٢١

٢ ـ وصف آخر للجنات.................................................... ٢٢٩

سورة الواقعة.................................................................. ٢٣٧

تسميتها ومناسبتها لما قبلها..................................................... ٢٣٧

ما اشتملت عليه السورة........................................................ ٢٣٨

فضلها....................................................................... ٢٣٩

قيام القيامة وأصناف الناس..................................................... ٢٤٠

أنواع نعيم السابقين........................................................... ٢٤٥

أنواع نعيم أصحاب اليمين..................................................... ٢٥٢

أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة............................................. ٢٥٨

أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء.................................... ٢٦٤

إثبات النبوة وصدق القرآن وتوبيخ المشركين على اعتقادهم......................... ٢٧٤

سورة الحديد.................................................................. ٢٨٧

مدنيتها وتسميتها مناسبتها لم قبلها.............................................. ٢٨٧


ما اشتملت عليه السورة........................................................ ٢٨٨

فضلها....................................................................... ٢٨٩

التسبيح لله في جميع الأوقات وأسبابه............................................ ٢٨٩

بعض التكاليف الدينية الحث على الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الإنفاق....... ٢٩٥

حال المنافقين يوم القيامة....................................................... ٣٠٧

خشية الله وجزاء المتصدقين والمؤمنين وجزاء الكافرين................................ ٣١٢

حال الدنيا والحث على عمل الآخرة............................................. ٣١٩

تعلق المصائب بالقضاء والقدر وجناية البخلاء على أنفسهم......................... ٣٢٤

الغاية من بعثة الرسل.......................................................... ٣٣٠

١ ـ دستور المجتمع الإسلامي ونظام الحكم..................................... ٣٣٠

٢ ـ وحدة الشرائع في أصولها وصلة الإسلام بما قبله.............................. ٣٣٠

التفسير المنير - ٢٧

المؤلف:
الصفحات: 349